مجلد 9. جامع البيان في تأويل القرآن
المؤلف : محمد بن جرير بن يزيد بن كثير بن غالب الآملي، أبو جعفر الطبري،
[ 224 - 310 هـ ]
إِنْ تُبْدُوا شَيْئًا أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (54)
يجامعها ، ذكر نحوه.
وقوله(إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللهِ عَظِيمًا) يقول : إن أذاكم رسول الله
صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم ونكاحكم أزواجه من بعده عند الله عظيم من الإثم.
القول في تأويل قوله تعالى : { إِنْ تُبْدُوا شَيْئًا أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ
اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (54) }
يقول تعالى ذكره : إن تظهروا بألسنتكم شيئًا أيها الناس من مراقبة النساء ، أو غير
ذلك مما نهاكم عنه أو أذى لرسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم بقول :
لأتزوجن زوجته بعد وفاته ، (أَوْ تُخْفُوهُ) يقول : أو تخفوا ذلك في أنفسكم ،
(فَإِنَّ اللهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا) يقول : فإن الله بكل ذلك وبغيره من
أموركم وأمور غيركم ، عليم لا يخفى عليه شيء ، وهو يجازيكم على جميع ذلك.
(20/317)
لَا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي آَبَائِهِنَّ وَلَا أَبْنَائِهِنَّ وَلَا إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاءِ إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاءِ أَخَوَاتِهِنَّ وَلَا نِسَائِهِنَّ وَلَا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ وَاتَّقِينَ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا (55)
القول في تأويل قوله تعالى : { لا
جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبَائِهِنَّ وَلا أَبْنَائِهِنَّ وَلا إِخْوَانِهِنَّ
وَلا أَبْنَاءِ إِخْوَانِهِنَّ وَلا أَبْنَاءِ أَخَوَاتِهِنَّ وَلا نِسَائِهِنَّ
وَلا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ وَاتَّقِينَ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى
كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا (55) }
يقول تعالى ذكره : لا حرج على أزواج رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم في
آبائهن ولا إثم.
ثم اختلف أهل التأويل في المعنى الذي وضع عنهن الجناح في هؤلاء ؛ فقال بعضهم : وضع
عنهن الجناح في وضع جلابيبهن عندهم .
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا حكام ، عن عنبسة ، عن ابن أَبي ليلى ، عن
(20/317)
عبد الكريم ، عن مجاهد في قوله(لا
جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبَائِهِنَّ ...) الآية كلها ، قال : أن تضع الجلباب.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أَبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال
: ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أَبي نجيح ، عن مجاهد في قوله(لا
جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبَائِهِنَّ) ومن ذكر معه أن يروهن.
وقال آخرون : وضع عنهن الجناح فيهن في ترك الاحتجاب.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد عن قتادة في قوله(لا جُنَاحَ
عَلَيْهِنَّ ...) إلى(شَهِيدًا) : فرخص لهؤلاء أن لا يحتجبن منهم.
وأولى القولين في ذلك بالصواب قول من قال : ذلك وضع الجناح عنهن في هؤلاء المسلمين
أن لا يحتجبن منهم ؛ وذلك أن هذه الآية عقيب آية الحجاب ، وبعد قول الله : (
وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ) فلا
يكون قوله(لا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبَائِهِنَّ) استثناء من جملة الذين أمروا
بسؤالهن المتاع من وراء الحجاب إذا سألوهن ذلك أولى وأشبه من أن يكون خبر مبتدأ عن
غير ذلك المعنى.
فتأويل الكلام إذن : لا إثم على نساء النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم وأمهات
المؤمنين في إذنهن لآبائهن وترك الحجاب منهن ، ولا لأبنائهن ولا لإخوانهن ولا
لأبناء إخوانهن . وعنى بإخوانهن وأبناء إخوانهن إخوتهن وأبناء إخوتهن. وخرج معهم
جمع ذلك مخرج جمع فتى إذا جمع فتيان ، فكذلك جمع أخ إذا جمع إخوان. وأما إذا جمع
إخوة ، فذلك نظير جمع فتى إذا جمع فتية ، ولا أبناء إخوانهن ، ولم يذكر في ذلك العم
على ما قال الشعبي حذرًا من أن يصفهن لأبنائه.
حدثنا محمد بن المثنى ، قال : ثنا حجاج بن المنهال ، قال : ثنا حماد ، عن
(20/318)
داود ، عن الشعبي وعكرمة في قوله : (
لا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبَائِهِنَّ وَلا أَبْنَائِهِنَّ وَلا إِخْوَانِهِنَّ
وَلا أَبْنَاءِ إِخْوَانِهِنَّ وَلا أَبْنَاءِ أَخَوَاتِهِنَّ وَلا نِسَائِهِنَّ
وَلا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ ) قلت : ما شأن العم والخال لم يذكرا ؟ قال :
لأنهما ينعتانها لأبنائهما ، وكرها أن تضع خمارها عند خالها وعمها.
حدثنا ابن المثنى ، ، قال : ثنا أَبو الوليد ، قال : ثنا حماد ، عن داود ، عن
عكرمة والشعبي نحوه ، غير أنه لم يذكر ينعتانها.
وقوله(وَلا نِسَائِهِنَّ) يقول : ولا جناح عليهن أيضا في أن لا يحتجبن من نساء
المؤمنين.
كما حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله(وَلا
نِسَائِهِنَّ) قال : نساء المؤمنات الحرائر ليس عليهن جناح أن يرين تلك الزينة ،
قال : وإنما هذا كله في الزينة ، قال : ولا يجوز للمرأة أن تنظر إلى شيء من عورة
المرأة. قال : ولو نظر الرجل إلى فخذ الرجل لم أر به بأسًا ، قال : (وَلا مَا
مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ) فليس ينبغي لها أن تكشف قرطها للرجل ، قال : وأما الكحل
والخاتم والخضاب فلا بأس به ، قال : والزوج له فضل والآباء من وراء الرجل لهم فضل
، قال : والآخرون يتفاضلون ، قال : وهذا كله يجمعه ما ظهر من الزينة ، قال : وكان
أزواج النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم لا يحتجبن من المماليك. وقوله(وَلا مَا
مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ) من الرجال والنساء ، وقال آخرون : من النساء. وقوله :
(وَاتَّقِينَ اللَّهَ) يقول : وخفن الله أيها النساء أن تتعدين ما حد الله لكن ،
فتبدين من زينتكن ما ليس لكن أن تبدينه ، أو تتركن الحجاب الذي أمركن الله بلزومه
، إلا فيما أباح لكن تركه ، والْزمْنَ طاعته( إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ
شَيْءٍ شَهِيدًا ) يقول تعالى ذكره : إن الله شاهد على ما تفعلنه من احتجابكن ،
وترككن الحجاب لمن أبحت لكن ترك ذلك له ، وغير ذلك من أموركن ، يقول : فاتقين الله
في أنفسكن لا تلقين الله ، وهو شاهد عليكم ، بمعصيته ، وخلاف أمره ونهيه ، فتهلكن
، فإنه شاهد على كل شيء.
القول في
(20/319)
إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (56)
تأويل قوله تعالى : { إِنَّ اللَّهَ
وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (56) }
يقول تعالى ذكره : إن الله وملائكته يبرّكون على النبي محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ
وَسَلَّم.
كما حدثني علي ، قال : ثنا أَبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس ،
قوله( إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَاأَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ ) يقول : يباركون على النبي. وقد يحتمل أن
يقال : إن معنى ذلك : أن الله يرحم النبي ، وتدعو له ملائكته ويستغفرون ، وذلك أن
الصلاة في كلام العرب من غير الله إنما هو دعاء . وقد بينا ذلك فيما مضى من كتابنا
هذا بشواهده ، فأغنى ذلك عن إعادته.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ) يقول تعالى ذكره : يا أيها
الذين آمنوا ادعوا لنبي الله محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم(وَسَلِّمُوا
تَسْلِيمًا) يقول : وحيوه تحية الإسلام .
وبنحو الذي قلنا في ذلك جاءت الآثار عن رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا هارون ، عن عنبسة ، عن عثمان بن موهب ، عن موسى بن
طلحة ، عن أبيه ، قال : أتى رجل النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم ، فقال :
سمعت الله يقول(إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ ...)
الآية ، فكيف الصلاة عليك ؟ فقال : " قلِ : اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّد
وَعَلى آلِ مُحَمَّد ، كَمَا صَلَّيتَ عَلَى إبْرَاهيمَ إنَّكَ حَميدٌ مَجيدٌ ،
وَبَارك عَلَى مُحَمَّد وَعَلى آلِ مُحَمد ، كَمَا بَارَكتَ عَلَى إبْرَاهيمَ إنكَ
حَمِيد مَجِيدٌ " .
حدثني جعفر بن محمد الكوفي ، قال : ثنا يعلى بن الأجلح ، عن
(20/320)
الحكم بن عتيبة ، عن عبد الرحمن بن أبي
ليلى ، عن كعب بن عجرة ، قال : لما نزلت( إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ
عَلَى النَّبِيِّ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا
تَسْلِيمًا ) قمت إليه ، فقلت : السلام عليك قد عرفناه ، فكيف الصلاة عليك يا رسول
الله ؟ قال : " قل اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم
وآل إبراهيم ، إنك حميد مجيد ، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم
وآل إبراهيم ، إنك حميد مجيد " .
حدثنا أَبو كريب ، قال : ثنا مالك بن إسماعيل ، قال : ثنا أَبو إسرائيل ، عن يونس
بن خباب ، قال : خطبنا بفارس فقال : (إِنَّ الَّلهَ وَمَلائِكَتَه ...) الآية ،
فقال : أنبأني من سمع ابن عباس يقول : هكذا أنزل ، فقلنا : أو قالوا : يا رسول
الله قد علمنا السلام عليك ، فكيف الصلاة عليك ؟ فقال : " اللهم صلِّ على
محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وآل إبراهيم ، إنك حميد مجيد ، وبارك على
محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم إنك حميد مجيد " .
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا جرير ، عن مغيرة ، عن زياد ، عن إبراهيم في قوله :
(إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ ...) الآية ، قالوا : يا رسول الله هذا السلام قد
عرفناه ، فكيف الصلاة عليك ؟ فقال : قولوا " اللهم صلِّ على محمد عبدك ورسولك
وأهل بيته كما صليت على إبراهيم إنك حميد مجيد " .
حدثني يعقوب الدورقي ، قال : ثنا ابن علية ، قال : ثنا أيوب ، عن محمد بن سيرين ،
عن عبد الرحمن بن بشر بن مسعود الأنصاري ، قال : لما نزلت( إِنَّ اللَّهَ
وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ) قالوا : يا رسول الله هذا السلام قد
عرفناه ، فكيف الصلاة وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر ؟ قال : "
قولوا : اللهم صلِّ على محمد كما صليت على آل إبراهيم ، اللهم بارك على محمد كما
باركت على آل إبراهيم " .
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله( إِنَّ
(20/321)
إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا (57) وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (58)
اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ
عَلَى النَّبِيِّ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا
تَسْلِيمًا ) قال : لما نزلت هذه الآية قالوا : يا رسول الله ، قد علمنا السلام
عليك ، فكيف الصلاة عليك ؟ قال : " قولوا : اللهم صلِّ على محمد كما صليت على
إبراهيم ، وبارك على محمد كما باركت على إبراهيم " . وقال الحسن : اللهم اجعل
صلواتك وبركاتك على آل محمد ، كما جعلتها على إبراهيم ، إنك حميد مجيد " .
القول في تأويل قوله تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ
لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا
مُهِينًا (57) وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ
مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (58) }
يقول تعالى ذكره : (إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ) إن الذين يؤذون ربهم
بمعصيتهم إياه ، وركوبهم ما حرم عليهم ، وقد قيل : إنه عنى بذلك أصحاب التصاوير ؛
وذلك أنهم يرومون تكوين خلق مثل خلق الله.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد القرشي ، قال : ثنا يحيى بن سعيد ، عن سلمة بن الحجاج ، عن
عكرمة قال : الذين يؤذون الله ورسوله هم أصحاب التصاوير.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة في قوله( إِنَّ الَّذِينَ
يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ
وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا ) قال : يا سبحان الله ما زال أناس من جهلة
بني آدم حتى تعاطوا أذى ربهم ، وأما أذاهم رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ
وَسَلَّم فهو طعنهم عليه في نكاحه صفية بنت حيي فيما ذكر.
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ،
(20/322)
عن أبيه ، عن ابن عباس في قوله( إِنَّ
الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا
وَالآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا ) قال : نزلت في الذين طعنوا على
النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم حين اتخذ صفية بنت حيي بن أخطب.
وقوله(لَعَنَهُمُ الله فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ) يقول تعالى ذكره : أبعدهم الله
من رحمته في الدنيا والآخرة وأعد لهم في الآخرة عذابًا يهينهم فيه بالخلود فيه.
وقوله(وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ) كان مجاهد يوجه معنى قوله(يُؤْذُونَ)
إلى يقفون.
ذكر الرواية عنه :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أَبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال
: ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أَبي نجيح ، عن مجاهد(وَالَّذِينَ
يُؤْذُونَ) قال : يقفون.
فمعنى الكلام على ما قال مجاهد : والذين يقفون المؤمنين والمؤمنات. ويعيبونهم طلبا
لشينهم(بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا) يقول : بغير ما عملوا.
كما حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أَبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ،
قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أَبي نجيح ، عن مجاهد في
قوله(بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا) قال : عملوا.
حدثنا نصر بن علي ، قال : ثنا عثام بن علي ، عن الأعمش ، عن مجاهد ، قال : قرأ ابن
عمر : ( وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا
اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا ) قال : فكيف إذا
أوذي بالمعروف ، فذلك يضاعف له العذاب.
حدثنا أَبو كريب ، قال : ثنا عثام بن علي ، عن الأعمش ، عن ثور ، عن ابن عمر(
وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا
) قال : كيف بالذي يأتي إليهم المعروف.
(20/323)
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (59)
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال :
ثنا سعيد ، عن قتادة( وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ
بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا )
فإياكم وأذى المؤمن ، فإن الله يحوطه ، ويغضب له.
وقوله(فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا) يقول : فقد احتملوا زورا
وكذبًا وفرية شنيعة ، وبهتان : أفحش الكذب ، (وَإِثْمًا مُبِينًا) يقول : وإثما
يبين لسامعه أنه إثم وزور.
القول في تأويل قوله تعالى : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأزْوَاجِكَ
وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ
ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا
رَحِيمًا (59) }
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم : يا أيها النبي قل لأزواجك
وبناتك ونساء المؤمنين : لا يتشبهن بالإماء في لباسهن إذا هن خرجن من بيوتهن
لحاجتهن ، فكشفن شعورهن ووجوههن. ولكن ليدنين عليهن من جلابيبهنّ ؛ لئلا يعرض لهن
فاسق ، إذا علم أنهن حرائر ، بأذى من قول.
ثم اختلف أهل التأويل في صفة الإدناء الذي أمرهن الله به فقال بعضهم : هو أن يغطين
وجوههن ورءوسهن فلا يبدين منهن إلا عينا واحدة.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : ثنا أَبو صالح قال ثني معاوية عن علي عن ابن عباس ، قوله(
يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ
يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ) أمر الله نساء المؤمنين إذا خرجن من
بيوتهن في حاجة أن يغطين وجوههن من فوق رءوسهن بالجلابيب ويبدين عينا واحدة.
حدثني يعقوب قال ثنا ابن علية عن ابن عون عن محمد عن عبيدة في قوله( يَاأَيُّهَا
النَّبِيُّ قُلْ لأزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ
عَلَيْهِنَّ مِنْ
(20/324)
جَلابِيبِهِنَّ ) فلبسها عندنا ابن عون
قال : ولبسها عندنا محمد قال محمد : ولبسها عندي عبيدة قال ابن عون بردائه فتقنع
به ، فغطى أنفه وعينه اليسرى وأخرج عينه اليمنى ، وأدنى رداءه من فوق حتى جعله قريبا
من حاجبه أو على الحاجب.
حدثني يعقوب قال ثنا هشيم قال أخبرنا هشام عن ابن سيرين قال : سألت عبيدة عن قوله(
قُلْ لأزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ
مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ) قال : فقال بثوبه ، فغطى رأسه ووجهه ، وأبرز ثوبه عن إحدى
عينيه.
وقال آخرون : بل أمرن أن يشددن جلابيبهن على جباههن.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد قال ثني أَبي قال ثني عمي قال : ثني أَبي عن أبيه عن ابن عباس ،
قوله( يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ
الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ...) إلى قوله(وَكَانَ
اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا) قال : كانت الحرة تلبس لباس الأمة فأمر الله نساء
المؤمنين أن يدنين عليهن من جلابيبهن. وإدناء الجلباب : أن تقنع وتشد على جبينها.
حدثنا بشر قال ثنا يزيد قال ثنا سعيد عن قتادة قوله( يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ
لأزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ ) أخذ الله عليهن إذا خرجن أن
يقنعن على الحواجب(ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَينَ) وقد كانت
المملوكة إذا مرت تناولوها بالإيذاء ، فنهى الله الحرائر أن يتشبهن بالإماء.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أَبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال
: ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أَبي نجيح ، عن مجاهد
قوله(يُدْنِينَ عَلَيهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ) يتجلببن فيعلم أنهن حرائر فلا
يعرض لهن فاسق بأذى من قول ولا ريبة.
حدثنا ابن حميد قال ثنا حكام عن عنبسة عمَّن حدثه عن أَبي صالح ، قال :
(20/325)
لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا (60) مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا (61)
قدم النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ
وَسَلَّم المدينة على غير منزل ، فكان نساء النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم
وغيرهن إذا كان الليل خرجن يقضين حوائجهن. وكان رجال يجلسون على الطريق للغزل.
فأنزل الله( يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ
الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ) يقنعن بالجلباب حتى
تعرف الأمة من الحرة.
وقوله( ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ ) يقول تعالى ذكره :
إدناؤهن جلابيبهن إذا أدنينها عليهن أقرب وأحرى أن يعرفن ممن مررن به ، ويعلموا
أنهن لسن بإماء فيتنكبوا عن أذاهن بقول مكروه ، أو تعرض بريبة(وَكَانَ اللَّهُ
غَفُورًا) لما سلف منهن من تركهن إدناءهن الجلابيب عليهن(رَحِيمًا) بهن أن يعاقبهن
بعد توبتهن بإدناء الجلابيب عليهن.
القول في تأويل قوله تعالى : { لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ
فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ
ثُمَّ لا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلا قَلِيلا (60) مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا
ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلا (61) }
يقول تعالى ذكره : لئن لم ينته أهل النفاق الذين يستسرون بالكفر ويظهرون
الإيمان(وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) يعني : ريبة من شهوة الزنا وحب
الفجور.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو بن علي قال : ثنا أَبو عبد الصمد قال ثنا مالك بن دينار عن
عكرمة في قوله( لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ
مَرَضٌ ) قال :
(20/326)
هم الزناة.
حدثنا ابن بشار قال ثنا عبد الأعلى قال ثنا سعيد عن قتادة(وَالَّذِينَ فِي
قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) قال : شهوة الزنا.
قال ثنا عبد الرحمن بن مهدي قال ثنا أَبو صالح التمار قال : سمعت عكرمة في
قوله(فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) قال : شهوة الزنا.
حدثنا ابن حميد قال ثنا حكام عن عنبسة عمن حدثه عن أَبي صالح(وَالَّذِينَ فِي
قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) قال : الزناة.
حدثني يونس قال أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد في قوله( لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ
الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ...) الآية ، قال : هؤلاء صنف
من المنافقين(وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) أصحاب الزنا ، قال : أهل الزنا
من أهل النفاق الذين يطلبون النساء فيبتغون الزنا. وقرأ : ( فَلا تَخْضَعْنَ
بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ ) قال : والمنافقون أصناف
عشرة في براءة ، قال : فالذين في قلوبهم مرض صنف منهم مرض من أمر النساء.
وقوله(وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ) يقول : وأهل الإرجاف في المدينة بالكذب
والباطل.
وكان إرجافهم فيما ذكر كالذي حدثني بشر قال ثنا يزيد قال ثنا سعيد عن قتادة قوله(
لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ
وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ ...) الآية ، الإرجاف : الكذب الذي كان نافقه
أهل النفاق ، وكانوا يقولون : أتاكم عدد وعدة. وذكر لنا أن المنافقين أرادوا أن
يظهروا ما في قلوبهم من النفاق ، فأوعدهم الله بهذه الآية قوله : ( لَئِنْ لَمْ
يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ...) الآية ، فلما
أوعدهم الله بهذه الآية كتموا ذلك وأسروه.
حدثني يونس قال أخبرنا ابن وهب قال قال ابن زيد في قوله
(20/327)
( وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ )
هم أهل النفاق أيضًا الذين يرجفون برسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم
وبالمؤمنين. وقوله(لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ) يقول : لنسلطنك عليهم ولنحرشنك بهم.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني علي قال ثنا أَبو صالح قال ثني معاوية عن علي عن ابن عباس
قوله(لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ) يقول : لنسلطنك عليهم.
حدثنا بشر قال ثنا يزيد قال ثنا سعيد عن قتادة(لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ) : أي
لنحملنك عليهم لنحرشنك بهم.
قوله(ثُمَّ لا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلا قَلِيلا) يقول : ثم لننفينهم عن مدينتك
فلا يسكنون معك فيها إلا قليلا من المدة والأجل ، حتى تنفيهم عنها فنخرجهم منها.
كما حدثنا بشر قال ثنا يزيد قال ثنا سعيد عن قتادة(ثُمَّ لا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا
إِلا قَلِيلا) أي بالمدينة.
وقوله( مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلا ) يقول
تعالى ذكره : مطرودين منفيين(أَيْنَمَا ثُقِفُوا) يقول : حيثما لقوا من الأرض
أخذوا وقتلوا لكفرهم بالله تقتيلا.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر قال ثنا يزيد قال ثنا سعيد عن قتادة(مَلْعُونِينَ) على كل حال(أَيْنَمَا
ثُقِفُوا أُخِذُوا وقتلوا تَقْتِيلا) إذا هم أظهروا النفاق. ونصب قوله :
(مَلْعُونِينَ) على الشتم ، وقد يجوز أن يكون القليل من صفة الملعونين ، فيكون
(20/328)
سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا (62)
قوله(مَلْعُونِينَ) مردودا على القليل
؛ فيكون معناه : ثم لا يجاورونك فيها إلا أقلاء ملعونين يقتلون حيث أصيبوا.
القول في تأويل قوله تعالى : { سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ
وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلا (62) }
يقول تعالى ذكره : ( سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ ) هؤلاء
المنافقين الذين في مدينة رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم معه من ضرباء
هؤلاء المنافقين ، إذا هم أظهروا نفاقهم أن يقتلهم تقتيلا ويلعنهم لعنًا كثيرًا.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر قال ثنا يزيد قال ثنا سعيد عن قتادة قوله( سُنَّةَ اللَّهِ فِي
الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ ...) الآية ، يقول : هكذا سنة الله فيهم إذا أظهروا
النفاق.
وقوله(وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلا) يقول تعالى ذكره لنبيه محمد
صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم : ولن تجد يا محمد لسنة الله التي سنها في خلقه
تغييرًا ، فأيقن أنه غير مغير في هؤلاء المنافقين سنته.
(20/329)
يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا (63)
القول في تأويل قوله تعالى : {
يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَمَا
يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا (63) }
يقول تعالى ذكره : (يَسْأَلُكَ النَّاسُ) يا محمد(عَنِ السَّاعَةِ) متى هي قائمة ؟
قل لهم : إنما علم الساعة(عِنْدَ الله) لا يعلم وقت قيامها غيره( وَمَا
(20/329)
إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا (64) خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (65) يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا (66) وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا (67) رَبَّنَا آَتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا (68)
يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ
قَرِيبًا ) يقول : وما أشعرك يا محمد لعل قيام الساعة يكون منك قريبًا. قد قرب وقت
قيامها ، ودنا حين مجيئها.
القول في تأويل قوله تعالى : { إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ
لَهُمْ سَعِيرًا (64) خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا
نَصِيرًا (65) }
يقول تعالى ذكره : إن الله أبعد الكافرين به من كل خير ، وأقصاهم عنه(وَأَعَدَّ
لَهُمْ سَعِيرًا) يقول : وأعد لهم في الآخرة نارًا تتقد وتتسعر
ليصليهموها(خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا) يقول : ماكثين في السعير أبدًا إلى غير
نهاية(لا يَجِدُونَ وَلِيًّا) يتولاهم ، فيستنقذهم من السعير التي أصلاهموها
الله(وَلا نَصِيرًا) ينصرهم ، فينجيهم من عقاب الله إياهم.
القول في تأويل قوله تعالى : { يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ
يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَ (66) }
يقول تعالى ذكره : لا يجد هؤلاء الكافرون وليًّا ولا نصيرًا في يوم تقلب وجوههم في
النار حالا بعد حال(يَقُولُونَ) وتلك حالهم في النار(يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا
اللَّهَ) في الدنيا وأطعنا رسوله فيما جاءنا به عنه من أمره ونهيه ، فكنا مع أهل
الجنة في الجنة ، يا لها حسرة وندامة ، ما أعظمها وأجلها.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا
وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَ (67) رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ
الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا (68) }
(20/330)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آَذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا (69)
يقول تعالى ذكره : وقال الكافرون يوم
القيامة في جهنم : ربنا إنا أطعنا أئمتنا في الضلالة وكبراءنا في
الشرك(فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَ) يقول : فأزالونا عن محجة الحق وطريق الهدى
والإيمان بك والإقرار بوحدانيتك وإخلاص طاعتك في الدنيا(رَبَّنَا آتِهِمْ
ضِعْفَينِ مِنَ الْعَذَابِ) يقول : عذبهم من العذاب مثلي عذابنا الذي
تعذبنا(وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا) يقول : واخزهم خزيًا كبيرًا.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر قال ثنا يزيد قال ثنا سعيد عن قتادة قوله( رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا
سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا ) أي : رءوسنا في الشر والشرك.
حدثني يونس قال أخبرنا ابن وهب قال قال ابن زيد في قوله(إِنَّا أَطَعْنَا
سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا) قال : هم رءوس الأمم الذين أضلوهم ، قال : سادتنا
وكبراءنا واحد. وقرأت عامة قراء الأمصار(سَادَتَنا) وروي عن الحسن
البصري(سَادَاتِنا) على الجمع ، والتوحيد في ذلك هي القراءة عندنا ؛ لإجماع الحجة
من القراء عليه.
واختلفوا في قراءة قوله(لَعْنًا كَبِيرًا) فقرأت ذلك عامة قراء الأمصار
بالثاء(كَثِيرًا) من الكثرة ، سوى عاصم فإنه قرأه(لَعْنًا كَبِيرًا) من الكبر.
والقراءة في ذلك عندنا بالثاء لإجماع الحجة من القراء عليها.
القول في تأويل قوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا
كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ
اللَّهِ وَجِيهًا (69) }
يقول تعالى ذكره لأصحاب نبي الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم : يا أيها الذين
(20/331)
آمنوا بالله ورسوله لا تؤذوا رسول الله
بقول يكرهه منكم ، ولا بفعل لا يحبه منكم ، ولا تكونوا أمثال الذين آذوا موسى نبي
الله فرموه بعيب كذبًا وباطلا(فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا) فيه من الكذب
والزور بما أظهر من البرهان على كذبهم(وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا) يقول :
وكان موسى عند الله مشفعًا فيما يسأل ذا وجه ومنزلة عنده بطاعته إياه.
ثم اختلف أهل التأويل في الأذى الذي أوذي به موسى الذي ذكره الله في هذا الموضع ؛
فقال بعضهم : رموه بأنه آدر ، وروَى بذلك عن رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ
وَسَلَّم خبرا.
* ذكر الرواية التي رويت عنه ، ومن قال ذلك :
حدثني أَبو السائب قال ثنا أَبو معاوية عن الأعمش عن المنهال عن سعيد بن جبير وعبد
الله بن الحارث عن ابن عباس في قوله( لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى )
قال : قال له قومه : إنك آدر ، قال : فخرج ذات يوم يغتسل فوضع ثيابه على صخرة
فخرجت الصخرة تشتد بثيابه وخرج يتبعها عريانًا حتى انتهت به إلى مجالس بني إسرائيل
، قال : فرأوه ليس بآدر ، قال : فذلك قوله(فَبَرَّأَهُ الله مِمَّا قَالُوا) .
حدثني يحيى بن داود الواسطي قال ثنا إسحاق بن يوسف الأزرق عن سفيان عن جابر عن
عكرمة عن أَبي هريرة عن النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم : ( لا تَكُونُوا
كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى ) قال : قالوا هو آدر قال : فذهب موسى يغتسل ، فوضع
ثيابه على حجر فمر الحجر بثيابه فتبع موسى قفاه ، فقال : ثيابي حجر. فمر بمجلس بني
إسرائيل ، فرأوه ؛ فبرأه الله مما قالوا(وَكَانَ عِنْدَ الله وَجِيهًا) .
حدثني محمد بن سعد قال : ثني أَبي قال ثني عمي قال ثني أَبي عن أبيه عن ابن عباس(
يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى ...)
إلى(وَجِيهًا) قال : كان أذاهم موسى أنهم قالوا والله ما يمنع موسى أن يضع ثيابه
(20/332)
عندنا إلا أنه آدر ، فآذى ذلك موسى ،
فبينما هو ذات يوم يغتسل وثوبه على صخرة ، فلما قضى موسى غسله وذهب إلى ثوبه
ليأخذه انطلقت الصخرة تسعى بثوبه وأنطلق يسعى في أثرها حتى مرت على مجلس بني
إسرائيل وهو يطلبها ، فلما رأوا موسى صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم متجردا لا ثوب
عليه قالوا : ولله ما نرى بموسى بأسًا ، وإنه لبريء مما كنا نقول له فقال
الله(فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا) .
حدثني يونس قال أخبرنا ابن وهب قال قال ابن زيد في قوله( يَاأَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى ...) الآية قال : كان موسى رجلا
شديد المحافظة على فرجه وثيابه ، قال : فكانوا يقولون : ما يحمله على ذلك إلا عيب
في فرجه يكره أن يرى ، فقام يوما يغتسل في الصحراء فوضع ثيابه على صخرة ، فاشتدت
بثيابه ، قال : وجاء يطلبها عريانًا حتى اطلع عليهم عريانًا ، فرأوه بريئًا مما
قالوا ، وكان عند الله وجيهًا ، قال : والوجيه في كلام العرب : المحب المقبول.
وقال آخرون : بل وصفوه بأنه أبرص.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد قال ثنا يعقوب عن جعفر عن سعيد قال : قال بنو إسرائيل إن موسى آدر
، وقالت طائفة : هو أبرص ، من شدة تستره ، وكان يأتي كل يوم عينًا ، فيغتسل ويضع
ثيابه على صخرة عندها ، فعدت الصخرة بثيابه حتى انتهت إلى مجلس بني إسرائيل ، وجاء
موسى يطلبها فلما رأوه عريانًا ليس به شيء مما قالوا لبس ثيابه ثم أقبل على الصخرة
يضربها بعصاه ، فأثرت العصا في الصخرة.
حدثنا بحر بن حبيب بن عربي قال ثنا روح بن عبادة قال ثنا عوف عن محمد عن أَبي
هريرة في هذه الآية( لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ
مِمَّا
(20/333)
قَالُوا ...) الآية قال رسول الله
صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم : " إن موسى كان رجلا حييًّا سِتِّيرًا لا
يكاد يرى من جلده شيء استحياء منه فآذاه من آذاه من بنو إسرائيل ، وقالوا : ما
تستر هذا التستر إلا من عيب في جلده ؛ إما برص ، وإما أدرة ، وإما آفة ، وإن الله
أراد أن يبرئه مما قالوا ، وإن موسى خلا يومًا وحده فوضع ثيابه على حجر ثم اغتسل
فلما فرغ من غسله ، أقبل على ثوبه ليأخذه وإن الحجر عدا بثوبه ، فأخذ موسى عصًا
وطلب الحجر ، وجعل يقول : ثوبي حجر ، حتى انتهى إلى ملأ من بني إسرائيل ، فرأوه
عريانًا كأحسن الناس خلقًا وبرأه الله مما قالوا ، وإن الحجر قام فأخذ ثوبه ولبسه
فطفق بالحجر ضربًا بذلك ، فوالله إن في الحجر لندبًا من أثر ضربه ثلاثًا أو أربعًا
أو خمسًا " .
حدثنا ابن بشار قال ثنا ابن أَبي عدي عن عوف عن الحسن قال : بلغني أن رسول الله
صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم قال : " كان موسى رجلا حييًّا ستيرا " ثم
ذكر نحوًا منه.
حدثنا بشر قال ثنا يزيد قال ثنا سعيد عن قتادة قال حدث الحسن عن أَبي هريرة أن
رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم قال : " إن بني إسرائيل كانوا
يغتسلون وهم عراة وكان نبي الله موسى حييًّا ؛ فكان يتستر إذا اغتسل ، فطعنوا فيه
بعورة قال : فبينا نبي الله يغتسل يومًا إذ وضع ثيابه على صخرة فانطلقت الصخرة
واتبعها نبي الله ضربًا بعصاه : ثوبي يا حجر ثوبي يا حجر ، حتى انتهت إلى ملإ من
بني إسرائيل ، أو تَوَسَّطَهُم ، فقامت فأخذ نبي الله ثيابه ، فنظروا إلى أحسن
الناس خلْقًا وأعدله مروءة فقال الملأ قاتل الله أفَّاكي بني إسرائيل ، فكانت
براءته التي برأه الله منها " .
وقال آخرون : بل كان أذاهم إيَّاه ادعاءهم عليه قتل هارون أخيه.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني علي بن مسلم الطوسي قال ثنا عباد قال ثنا سفيان بن حبيب عن
(20/334)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا (71)
الحكم عن سعيد بن جبير عن ابن عباس عن
علي بن أبي طالب رضي الله عنه في قول الله(لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى
...) الآية ، قال : صعد موسى وهارون الجبل ، فمات هارون فقالت بنو إسرائيل : أنت
قتلته وكان أشد حبًّا لنا منك وألين لنا منك ، فآذوه بذلك ، فأمر الله الملائكة
فحملته حتى مروا به على بني إسرائيل ، وتكلمت الملائكة بموته ، حتى عرف بنو
إسرائيل أنه قد مات ، فبرأه الله من ذلك فانطلقوا به فدفنوه ، فلم يطلع على قبره
أحد من خلق الله إلا الرخم ؛ فجعله الله أصم أبكم.
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال : إن بني إسرائيل آذوا نبي الله ببعض ما كان
يكره أن يؤذى به ، فبرأه الله مما آذوه به. وجائز أن يكون ذلك كان قيلهم : إنه
أبرص. وجائز أن يكون كان ادعاءهم عليه قتل أخيه هارون. وجائز أن يكون كل ذلك ؛
لأنه قد ذكر كل ذلك أنهم قد آذوه به ، ولا قول في ذلك أولى بالحق مما قال الله
إنهم آذوا موسى ، فبرأه الله مما قالوا.
القول في تأويل قوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ
وَقُولُوا قَوْلا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ
ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا
(71) }
يقول تعالى ذكره : يا أيها الذين صدقوا الله ورسوله اتقوا الله أن تعصوه ،
فتستحقوا بذلك عقوبته.
وقوله(وَقُولُوا قَوْلا سَدِيدًا) يقول : قولوا في رسول الله والمؤمنين قولا
قاصدًا غير جائز ، حقًّا غير باطل.
كما حدثني الحارث قال ثنا الحسن قال ثنا ورقاء عن ابن أَبي نجيح عن
مجاهد(وَقُولُوا قَوْلا سَدِيدًا) يقول : سدادًا.
حدثنا ابن حميد قال ثنا عنبسة عن الكلبي(وَقُولُوا قَوْلا سَدِيدًا) قال :
(20/335)
إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا (72)
صدقا.
حدثنا بشر قال ثنا يزيد قال ثنا سعيد عن قتادة قوله( اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا
قَوْلا سَدِيدًا ) أي : عدلا قال قتادة : يعني به في منطقه وفي عمله كله ، والسديد
الصدق.
حدثني سعد بن عبد الله بن عبد الحكم قال ثنا حفص بن عمر عن الحكم بن أبان عن عكرمة
في قول الله(وَقُولُوا قَوْلا سَدِيدًا) قولوا : لا إله إلا الله.
وقوله(يُصْلِحُ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ) يقول تعالى ذكره للمؤمنين : اتقوا الله وقولوا
السداد من القول يوفقكم لصالح الأعمال ، فيصلح أعمالكم(وَيَغْفِرْ لَكُمْ
ذُنُوبَكُمْ) يقول : ويعف لكم عن ذنوبكم ، فلا يعاقبكم عليها(وَمَنْ يُطِعْ
اللَّهَ وَرَسُولَهُ) فيعمل بما أمره به وينتهي عما نهاه ويقل السديد(فَقَدْ فَازَ
فَوْزًا عَظِيمًا) يقول فقد ظفر بالكرامة العظمى من الله.
القول في تأويل قوله تعالى : { إِنَّا عَرَضْنَا الأمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ
وَالأرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا
وَحَمَلَهَا الإنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولا (72) }
اختلف أهل التأويل في معنى ذلك فقال بعضهم : معناه : إن الله عرض طاعته وفرائضه
على السموات والأرض والجبال على أنها إن أحسنت أثيبت وجوزيت ، وإن ضيعت عوقبت ،
فأبت حملها شفقًا منها أن لا تقوم بالواجب عليها ، وحملها آدم(إِنَّهُ كَانَ
ظَلُومًا) لنفسه(َجُهولا) بالذي فيه الحظ له.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : ثنا هشيم عن أَبي بشر عن سعيد بن جبير في قوله(
إِنَّا عَرَضْنَا الأمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَالْجِبَالِ
فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا ) قال : الأمانة : الفرائض
التي افترضها الله على العباد.
(20/336)
قال : ثنا هشيم عن العوام عن الضحاك بن
مزاحم عن ابن عباس في قوله( إِنَّا عَرَضْنَا الأمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ
وَالأرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا ) قال : الأمانة الفرائض
التي افترضها الله على عباده.
قال : ثنا هشيم قال أخبرنا العوام بن حوشب وجويبر (1) كلاهما عن الضحاك عن ابن
عباس في قوله(إِنَّا عَرَضْنَا الأمَانَةَ ...) إلى قوله : (جَهُولا) قال :
الأمانة الفرائض. قال جويبر في حديثه : فلما عرضت على آدم قال : أي رب وما الأمانة
؟ قال : قيل : إن أديتها جزيت ، وإن ضيعتها عوقبت ، قال : أي رب حملتها بما فيها ،
قال : فما مكث في الجنة إلا قدر ما بين العصر إلى غروب الشمس حتى عمل بالمعصية ،
فأخرج منها.
حدثنا ابن بشار قال ثنا محمد بن جعفر قال ثنا شعبة عن أَبي بشر عن سعيد عن ابن
عباس أنه قال في هذه الآية(إِنَّا عَرَضْنَا الأمَانَةَ) قال : عرضت على آدم ،
فقال : خذها بما فيها فإن أطعت غفرت لك وإن عصيت عذبتك ، قال : قد قبلت ، فما كان
إلا قدر ما بين العصر إلى الليل من ذلك اليوم حتى أصاب الخطيئة.
حدثني علي قال : ثنا أَبو صالح قال : ثني معاوية عن علي عن ابن عباس قوله : (
إِنَّا عَرَضْنَا الأمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَالْجِبَالِ ) إن
أدوها أثابهم وإن ضيعوها عذبهم ، فكرهوا ذلك ، وأشفقوا من غير معصية ، ولكن تعظيما
لدين الله أن لا يقوموا بها ، ثم عرضها على آدم فقبلها بما فيها ، وهو قوله : (
وَحَمَلَهَا الإنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولا ) غرًّا بأمر الله.
حدثني محمد بن سعد قال : ثني أَبى قال : ثني عمي قال : ثني أَبي عن أبيه عن ابن
عباس قوله(إِنَّا عَرَضْنَا الأمَانَةَ) : الطاعة عرضها عليها قبل أن يعرضها على
آدم ، فلم تطقها ، فقال لآدم : يا آدم إني قد عرضت الأمانة على السموات
__________
(1) في الأصل : وجبير. وسيأتي في الحديث نفسه أنه جويبر.
(20/337)
والأرض والجبال ، فلم تطقها ، فهل أنت
آخذها بما فيها ؟ فقال : يا رب : وما فيها ؟ قال : إن أحسنت جزيت وإن أسأت عوقبت ،
فأخذها آدم فتحملها فذلك قوله( وَحَمَلَهَا الإنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا
جَهُولا ) .
حدثنا ابن بشار قال : ثنا أَبو أحمد الزبيري قال : ثنا سفيان عن رجل عن الضحاك بن
مزاحم في قوله( إِنَّا عَرَضْنَا الأمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ
وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا
الإنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولا ) قال : آدم قيل له خذها بحقها قال وما
حقها ؟ قيل : إن أحسنت جزيت وإن أسأت عوقبت ، فما لبث ما بين الظهر والعصر حتى
أخرج منها.
حُدثت عن الحسين قال سمعت أبا معاذ يقول أخبرنا عبيد قال سمعت الضحاك يقول في قوله
: ( إِنَّا عَرَضْنَا الأمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَالْجِبَالِ )
فلم يطقن حملها فهل أنت يا آدم آخذها بما فيها ؟ قال آدم وما فيها يا رب ؟ قال :
إن أحسنت جزيت وإن أسأت عوقبت فقال : تحملتها ، فقال الله تبارك وتعالى : قد
حملتكها ، فما مكث آدم إلا مقدار ما بين الأولى إلى العصر حتى أخرجه إبليس لعنه
الله من الجنة ، والأمانة الطاعة.
حدثني سعيد بن عمرو السكوني قال ثنا بقية قال ثني عيسى بن إبراهيم عن موسى بن أبي
حبيب عن الحكم بن عمرو وكان من أصحاب النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم قال :
قال النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم : " إِنَّ الأمَانَةَ وَالْوَفَاءَ
نزلا عَلَى ابنِ آدَمَ مَعَ الأنْبِيَاءِ ، فَأُرْسِلُوا بِهِ ؛ فَمِنهُمْ رَسُولَ
اللهِ وَمِنْهُمْ نَبِي وَمِنْهُمْ نَبِي رَسُولٌ ، نزل القرآن وهو كلام الله
ونزلت العربية والعجمية ، فعلموا أمر القرآن وعلموا أمر السنن بألسنتهم ، ولم يدع
الله شيئًا من أمره مما يأتون ومما يجتنبون وهي الحجج عليهم إلا بينة لهم ، فليس
أهل لسان إلا وهم يعرفون الحسن من القبيح. ثم الأمانة أول شيء يرفع ، ويبقى أثرها
في جذور قلوب الناس ، ثم يرفع الوفاء والعهد والذمم ، وتبقى الكتب ؛ فعالم يعمل
وجاهل يعرفها وينكرها حتى وصل إليَّ وإلى أمتي فلا يهلك على الله إلا هالك ، ولا
يغفله إلا تارك ، والحذر
(20/338)
أيها الناس ، وإياكم والوسواس الخناس ،
وإنما يبلوكم أيكم أحسن عملا " .
حدثني محمد بن خلف العسقلاني قال ثنا عبد الله بن عبد المجيد الحنفي قال ثنا
العوام العطار قال ثنا قتادة وأبان بن أبي عياش عن خليد العصري عن أَبي الدرداء
قال : قال رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم : " خمس من جاء بهن يوم
القيامة مع إيمان دخل الجنة : من حافظ على الصلوات الخمس ؛ على وضوئهن وركوعهن
وسجودهن ومواقيتهن ، وأعطى الزكاة من ماله طيب النفس بها " وكان يقول : وايم
الله لا يفعل ذلك إلا مؤمن ، وصام رمضان ، وحج البيت إن استطاع إلى ذلك سبيلا وأدى
الأمانة ، قالوا : يا أبا الدرداء وما الأمانة ؟ قال : الغسل من الجنابة فإن الله
لم يأمن ابن آدم على شيء من دينه غيره.
حدثنا ابن بشار قال : ثنا عبد الرحمن قال : ثنا سفيان عن الأعمش عن أَبي الضحى عن
مسروق عن أُبي بن كعب ، قال : من الأمانة أن المرأة اؤتمنت على فرجها.
حدثني يونس قال : ثنا ابن وهب قال : قال ابن زيد في قول الله( إِنَّا عَرَضْنَا
الأمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ
يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا ) قال : إن الله عرض عليهن الأمانة أن يفترض
عليهن الدين ، ويجعل لهن ثوابًا وعقابًا ، ويستأمنهن على الدين ، فقلن : لا نحن
مسخرات لأمرك ، لا نريد ثوابًا ولا عقابًا ، قال رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ
وَسَلَّم : " وعرضها الله على آدم ، فقال : بين أذني وعاتقي " . قال ابن
زيد فقال الله له : أما إذ تحملت هذا فسأعينك ، أجعل لبصرك حجابًا إذا خشيت أن
تنظر إلى ما لا يحل لك ، فأرْخ عليه حجابه ، وأجعل للسانك بابًا وغلقًا ، فإذا
خشيت فأغلق ، وأجعل لفرجك لباسًا ، فلا تكشفه إلا على ما أحللت لك.
حدثنا بشر قال : ثنا يزيد قال : ثنا سعيد عن قتادة قوله( إِنَّا عَرَضْنَا
الأمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَالْجِبَالِ ) يعني به : الدين
والفرائض والحدود( فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا ) قيل لهن
: احملنها تؤدين حقها ؟ فقلن : لا
(20/339)
نطيق ذلك( وَحَمَلَهَا الإنْسَانُ
إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولا ) قيل له : أتحملها ؟ قال : نعم ، قيل : أتؤدي
حقها ؟ قال : نعم ، قال الله : إنه كان ظلومًا جهولا عن حقها.
وقال آخرون : بل عنى بالأمانة في هذا الموضع : أمانات الناس.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا تميم بن المنتصر قال : ثنا إسحاق عن شريك عن الأعمش عن عبد الله بن السائب
عن زاذان عن عبد الله بن مسعود عن النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم أنه قال :
" القتل في سبيل الله يكفر الذنوب كلها ، أو قال : يكفر كل شيء إلا الأمانة ؛
يؤتى بصاحب الأمانة فيقال له : أد أمانتك ، فيقول : أي رب وقد ذهبت الدنيا ،
ثلاثًا. فيقال : اذهبوا به إلى الهاوية ، فيذهب به إليها ، فيهوي فيها حتى ينتهي
إلى قعرها ، فيجدها هناك كهيئتها ، فيحملها فيضعها على عاتقه فيصعد بها إلى شفير جهنم
، حتى إذا رأى أنه قد خرج زلت ، فهوى في أثرها أبد الآبدين " . قالوا :
والأمانة في الصلاة والأمانة في الصوم والأمانة في الحديث ، وأشد ذلك الودائع ،
فلقيت البراء فقلت : ألا تسمع إلى ما يقول أخوك عبد الله ؟ فقال : صدق.
قال شريك وثني عياش العامري عن زاذان عن عبد الله بن مسعود عن النبي صَلَّى الله
عَلَيْهِ وَسَلَّم بنحوه ، لم يذكر الأمانة في الصلاة وفي كل شيء.
حدثني يونس قال أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد : أخبرني عمرو بن الحارث عن ابن
أَبي هلال عن أَبي حازم قال : إن الله عرض الأمانة على سماء الدنيا فأبت ثم التي
تليها حتى فرغ منها ، ثم الأرضين ثم الجبال ، ثم عرضها على آدم فقال : نعم بين
أذني وعاتقي. فثلاث آمرك بهن فإنهن لك عون : إني جعلت لك لسانًا بين لحيين فكفه عن
كل شيء نهيتك عنه ، وجعلت لك فرجًا وواريته
(20/340)
فلا تكشفه إلى ما حرمت عليك (1) .
وقال آخرون : بل ذلك إنما عنى به ائتمان آدم ابنه قابيل على أهله وولده ، وخيانة
قابيل أباه في قتله أخاه.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني موسى بن هارون قال : ثنا عمرو بن حماد قال : ثنا أسباط عن السدي في خبر ذكره
عن أَبي مالك وعن أَبي صالح عن ابن عباس وعن مرة الهمداني عن ابن مسعود وعن ناس من
أصحاب النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم قال : كان لا يولد لآدم مولود إلا ولد
معه جارية ، فكان يزوج غلام هذا البطن جارية هذا البطن الآخر ، ويزوج جارية هذا
البطن غلام هذا البطن الآخر ، حتى ولد له اثنان ، يقال لهما : قابيل وهابيل ، وكان
قابيل صاحب زرع وكان هابيل صاحب ضرع ، وكان قابيل أكبرهما وكان له أخت أحسن من أخت
هابيل ، وإن هابيل طلب أن ينكح أخت قابيل ، فأبى عليه وقال : هي أختي ولدت معي وهي
أحسن من أختك وأنا أحق أن أتزوجها فأمره أبوه أن يزوجها هابيل فأبى ، وإنهما قربا
قربانًا إلى الله أيهما أحق بالجارية ، وكان آدم يومئذ قد غاب عنهما ، أي بمكة
ينظر إليها ، قال الله لآدم : يا آدم هل تعلم أن لي بيتًا في الأرض ؟ قال : اللهم
لا قال : إن لي بيتا بمكة فأته ، فقال آدم للسماء : احفظي ولدي بالأمانة فأبت ،
وقال للأرض فأبت ، فقال للجبال فأبت ، فقال لقابيل فقال : نعم ، تذهب وترجع وتجد
أهلك كما يسرك ، فلما انطلق آدم وقربا قربانًا وكان قابيل يفخر عليه فيقول : أنا
أحق بها منك ؛ هي أختي ، وأنا أكبر منك ، وأنا وصي والدي ، فلما قربا ، قرب هابيل
جَذَعَة سمينة وقرب هابيل حزمة سنبل ، فوجد فيها سنبلة عظيمة ففركها فأكلها ،
فنزلت النار فأكلت قربان هابيل وتركت قربان
__________
(1) ترك الثالثة والذي في الدر : إني جعلت لك بصرا ، وجعلت لك شفرتين ، فعضمها عن
كل شيء نهيتك عنه ، وجعلت لك لسانك ... إلخ .
(20/341)
قابيل ، فغضب وقال : لأقتلنك حتى لا
تنكح أختي فقال هابيل( إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ لَئِنْ
بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ
لأقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ ...) إلى قوله(
فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ ) فطلبه ليقتله فراغ الغلام منه في رءوس
الجبال ، وأتاه يوما من الأيام وهو يرعى غنمه في جبل وهو نائم ، فرفع صخرة فشدخ
بها رأسه فمات ، وتركه بالعراء ولا يعلم كيف يدفن ؛ فبعث الله غرابين أخوين
فاقتتلا فقتل أحدهما صاحبه فحفر له ثم حثا عليه فلما رآه قال : ( يَاوَيْلَتَا
أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْأَةَ أَخِي )
فهو قول الله تبارك وتعالى( فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الأرْضِ
لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ ) فرجع آدم فوجد ابنه قد قتل أخاه
فذلك حين يقول( إِنَّا عَرَضْنَا الأمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ
وَالْجِبَالِ ...) إلى آخر الآية.
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب ما قاله الذين قالوا : إنه عُنِي بالأمانة في هذا
الموضع : جميع معاني الأمانات في الدين وأمانات الناس وذلك أن الله لم يخص
بقوله(عَرَضْنَا الأمَانَةَ) بعض معاني الأمانات لما وصفنا.
وبنحو قولنا قال أهل التأويل في معنى قول الله(إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولا) .
* ذكر من قال ذلك :
حدثني موسى قال ثنا عمرو قال ثنا أسباط عن السدي(إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولا)
يعني قابيل حين حمل أمانة آدم لم يحفظ له أهله.
حدثنا ابن بشار قال ثنا أَبو أحمد الزبيري قال ثنا سفيان عن رجل عن الضحاك في
قوله(وَحَملَهَا الإنْسَانُ) قال آدم(إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولا) قال :
ظلومًا لنفسه جهولا فيما احتمل فيما بينه وبين ربه.
حدثنا علي قال ثنا أَبو صالح قال ثني معاوية ، عن علي عن ابن عباس(إِنَّهُ كَانَ
(20/342)
لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (73)
ظَلُومًا جَهُولا) غر بأمر الله.
حدثنا بشر قال ثنا يزيد قال ثنا سعيد عن قتادة(إِنَّه كَانَ ظَلُومًا جَهُولا) قال
: ظلومًا لها يعني الأمانة جهولا عن حقها.
القول في تأويل قوله تعالى : { لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ
وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى
الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (73) }
يقول تعالى ذكره : وحمل الإنسان الأمانة كيما يعذب الله المنافقين فيها الذين
يظهرون أنهم يؤدون فرائض الله مؤمنين بها وهم مستسرون الكفر بها والمنافقات
والمشركين بالله في عبادتهم إياه الآلهة والأوثان( وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ
اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ) يرجع بهم إلى طاعته وأداء
الأمانات التي ألزمهم إياها حتى يؤدوها(وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا) لذنوب المؤمنين
والمؤمنات بستره عليها وتركه عقابهم عليها(رَحِيمًا) أن يعذبهم عليها بعد توبتهم
منها.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا سوار بن عبد الله العنبري قال : ثني أَبي قال ثنا أَبو الأشهب عن الحسن أنه
كان يقرأ هذه الآية( إِنَّا عَرَضْنَا الأمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ
وَالْجِبَالِ ...) حتى ينتهي( لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ
وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ ) فيقول : اللذان خاناها
اللذان ظلماها : المنافق والمشرك.
حدثنا بشر قال ثنا يزيد قال ثنا سعيد عن قتادة( لِيُعَذِّبَ اللَّهُ
الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ ) هذان
اللذان خاناها( وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ) هذان
اللذان أدَّياها(وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا) .
آخر سورة الأحزاب ، ولله الحمد والمنة.
(20/343)
تفسير سورة سبأ
(20/344)
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآَخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (1)
بسم الله الرحمن الرحيم
القول في تأويل قوله تعالى : { الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي
السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الآخِرَةِ وَهُوَ
الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (1) }
يقول تعالى ذكره : الشكر الكامل والحمد التام كله للمعبود الذي هو مالك جميع ما في
السماوات السبع وما في الأرضين السبع دون كل ما يعبدونه ، ودون كل شيء سواه لا
مالك لشيء من ذلك غيره ، فالمعنى الذي هو مالك جميعه(وَلَهُ الْحَمْدُ فِي
الآخِرَةِ) يقول : وله الشكر الكامل في الآخرة كالذي هو له ذلك في الدنيا العاجلة
؛ لأن منه النعم كلها على كل من في السماوات والأرض في الدنيا ، ومنه يكون ذلك في
الآخرة فالحمد لله خالصا دون ما سواه في عاجل الدنيا وآجل الآخرة لأن النعم كلها
من قبله لا يشركه فيها أحد من دونه وهو الحكيم في تدبيره خلقه وصرفه إياهم في
تقديره ، خبير بهم وبما يصلحهم ، وبما عملوا وما هم عاملون ، محيط بجميع ذلك.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر قال ثنا يزيد قال ثنا سعيد عن قتادة(وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ) حكيم
في أمره ، خبير بخلقه.
القول في
(20/346)
يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ (2)
تأويل قوله تعالى : { يَعْلَمُ مَا
يَلِجُ فِي الأرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا
يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ (2) }
يقول تعالى ذكره : يعلم ما يدخل الأرض وما يغيب فيها من شيء. من قولهم : ولجت في
كذا : إذا دخلت فيه ، كما قال الشاعر :
رأيتُ القوافي يَتَّلجنَ مَوَالِجًا... تَضَايَقُ عَنها أن تَوَلَّجها الإبَرْ (1)
يعني بقوله(يتَّلجن موالجا) : يدخلن مداخل(وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا) يقول : وما
يخرج من الأرض( وَمَا يَنزلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا ) يعني : وما
يصعد في السماء ، وذلك خبر من الله أنه العالم الذي لا يخفى عليه شيء في السماوات
والأرض ، مما ظهر فيها وما بطن ، وهو الرحيم الغفور ، وهو الرحيم بأهل التوبة من
عباده أن يعذبهم بعد توبتهم ، الغفور لذنوبهم إذا تابوا منها.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا
السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ الْغَيْبِ لا يَعْزُبُ
عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِنْ
ذَلِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلا فِي كِتَابٍ
__________
(1) البيت في الشعر المنسوب إلى طرفة بن العبد البكري ، وليس في ديوانه الذي فيه
أشعار الشعراء الستة (انظره في العقد الثمين ، في دواوين الشعراء الجاهليين لألورد
الألماني ، طبع غريفز) ولد سنة 1869 (وورد في) اللسان : ولج (غير منسوب. كما ورد
في فرائد القلائد ، في مختصر شرح الشواهد للعيني 391) قال : فإن القوافي ... إلخ.
قاله طرفه بن العبد. والقوافي جمع قافية ، وأراد به هنا : القصيدة ، لاشتمال
القافية عليها. والشواهد في (يتلجن) أصله (يوتلجن) ؛ لأنه من ولج : إذا دخل.
فأبدلت الواو تاء ، وأدغمت التاء في التاء. والموالج جمع مولج ، وهو موضع الولوج.
الإبر : جمع إبرة : الخياط. ا هـ. قلت : يريد طرفة أن قصائد الهجاء تبلغ من
التأثير في نفس المهجو مواضع بعيدة ، لا تنالها أسنة الإبر إذا طعن بها المهجو وهو
شبيه بقول الآخر : والقول ينفذ ما لا ينفذ الإبر.
(20/348)
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ الْغَيْبِ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (3)
مُبِينٍ (3) }
يقول تعالى ذكره : ويستعجلك يا محمد الذين جحدوا قدرة الله على إعادة خلقه بعد
فنائهم بهيئتهم التي كانوا بها من قبل فنائهم من قومك بقيام الساعة ؛ استهزاء
بوعدك إياهم وتكذيبا لخبرك ، قل لهم : بلى تأتيكم وربي ، قسمًا به لتأتينكم الساعة
، ثم عاد جل جلاله بعد ذكره الساعة على نفسه ، وتمجيدها فقال(عَالِمِ الْغَيْبِ).
واختلفت القراء في قراءة ذلك ؛ فقرأته عامة قراء المدينة(عَالِمُ الْغَيْبِ) على
مثال فاعل ، بالرفع على الاستئناف ؛ إذ دخل بين قوله(وَرَبِّي) وبين قوله(عَالِمِ
الْغَيْبِ) كلام حائل بينه وبينه ، وقرأ ذلك بعض قراء الكوفة والبصرة ، (عَالِمِ)
على مثال فاعل غير أنهم خفضوا عالم ردًّا منهم له على قوله(وَرَبِّي) إذ كان من
صفته. وقرأ ذلك بقية عامة قراء الكوفة(عَلام الْغَيْبِ) على مثال فعَّال ، وبالخفض
ردًّا لإعرابه على إعراب قوله(وربي) إذ كان من نعته.
والصواب من القول في ذلك عندنا أن كلَّ هذه القراءات الثلاث قراءات مشهورات في
قراء الأمصار متقاربات المعاني ، فبأيتهن قرأ القارىء فمصيب ، غير أن أعجب
القراءات في ذلك إليَّ أن أقرأ بها(عَلام الْغَيْبِ) على القراءة التي ذكرتها عن
عامة قراء أهل الكوفة ، فأما اختيار علام على عالم فلأنها أبلغ في المدح. وأما
الخفض فيها فلأنها من نعت الرب ، وهو في موضع جر ، وعنى بقوله(عَلام الْغَيْبِ)
علام ما يغيب عن أبصار الخلق فلا يراه أحد ، إما ما لم يكونه مما سيكونه أو ما قد
كونه فلم يطلع عليه أحدًا غيره ، وإنما وصف جل ثناؤه في هذا الموضع نفسه بعلمه
الغيب إعلامًا منه خلقه أن الساعة لا يعلم وقت مجيئها أحد سواه ، وإن كانت جائية
فقال لنبيه محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم : قل للذين كفروا بربهم : بلى
وربِّكم لتأتينكم الساعة ، ولكنه لا يعلم وقت مجيئها أحد سوى علام الغيوب ، الذي
لا يعزب عنه مثقال ذرة.
(20/349)
لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (4)
يعني جل ثناؤه بقوله(لا يَعْزُبُ
عَنْهُ) لا يغيب عنه ولكنه ظاهر له.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا علي قال ثنا أَبو صالح قال ثني معاوية عن علي عن ابن عباس في قوله(لا
يَعْزُبُ عَنْهُ) يقول : لا يغيب عنه.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أَبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال
: ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أَبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله :
(لا يَعْزُبُ عَنْهُ) قال : لا يغيب.
حدثنا بشر قال ثنا يزيد قال ثنا سعيد عن قتادة(لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ
ذَرَّةٍ) أي : لا يغيب عنه.
وقد بيَّنَّا ذلك بشواهده فيما مضى بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع.
وقوله(مِثْقَالُ ذَرَّةٍ) يعني : زنة ذرة في السماوات ولا في الأرض يقول تعالى
ذكره : لا يغيب عنه شيء من زنة ذرة فما فوقها فما دونها ، أين كان في السماوات ولا
في الأرض(وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ) يقول : ولا يعزب عنه أصغر من مثقال ذرة(وَلا
أَكْبَرُ) منه(إِلا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ) يقول : هو مثبت في كتاب يبين للناظر فيه
أن الله تعالى ذكره قد أثبته وأحصاه وعلمه فلم يعزب عن علمه.
القول في تأويل قوله تعالى : { لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا
الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (4) }
يقول تعالى ذكره : أثبت ذلك في الكتاب المبين كي يثيب الذين آمنوا بالله ورسوله
وعملوا بما أمرهم الله ورسوله به وانتهوا عما نهاهم عنه على طاعتهم
(20/350)
وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آَيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (5)
ربهم(أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ)
يقول جل ثناؤه : لهؤلاء الذين آمنوا وعملوا الصالحات مغفرة من ربهم
لذنوبهم(وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) يقول : وعيش هنيء يوم القيامة في الجنة.
كما حدثنا بشر قال ثنا يزيد قال ثنا سعيد عن قتادة(أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ)
لذنوبهم(وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) في الجنة.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ
أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (5) }
يقول تعالى ذكره : أثبت ذلك في الكتاب ليجزي المؤمنين ما وصف وليجزي الذين سعوا في
آياتنا معاجزين ، يقول : وكي يثيب الذين عملوا في إبطال أدلتنا وحججنا معاونين (1)
يحسبون أنهم يسبقوننا بأنفسهم فلا نقدر عليهم(أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ) يقول :
هؤلاء لهم عذاب من شديد العذاب الأليم ، ويعني بالأليم : الموجع.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر قال ثنا يزيد قال ثنا سعيد عن قتادة قوله( وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي
آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ ) أي : لا يعجزون( أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ
أَلِيمٌ ) قال : الرجز : سوء العذاب ، الأليم الموجع.
حدثني يونس قال أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد في قول الله
__________
(1) (في اللسان : عجز) : معاجزين : أي : يعاجزون الأنبياء وأولياء الله ، أي
يقاتلونهم ويمانعونهم ، ليصيروهم إلى المعجز عن أمر الله. ويقال : فلان يعاجز عن
الحق إلى الباطل ، أي يميل إليه ويلجأ.
(20/351)
وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (6)
( وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا
مُعَاجِزِينَ ) قال : جاهدين ليهبطوها أو يبطلوها ، قال : وهم المشركون ، وقرأ( لا
تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ ).
القول في تأويل قوله تعالى : { وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي
أُنزلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ
الْحَمِيدِ (6) }
يقول تعالى ذكره : أثبت ذلك في كتاب مبين ليجزي الذين آمنوا والذين سعوا في آياتنا
ما قد بين لهم ، وليرى الذين أوتوا العلم ، فيرى في موضع نصب عطفًا به على قوله :
يجزي في قوله(لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا) وعنى بالذين أوتوا العلم مسلمة أهل
الكتاب كعبد الله بن سلام ، ونظرائه الذين قد قرءوا كتب الله التي أنزلت قبل
الفرقان ، فقال تعالى ذكره : وليرى هؤلاء الذين أوتوا العلم بكتاب الله الذي هو
التوراة الكتاب الذي أنزل إليك يا محمد من ربك هو الحق.
وقيل : عنى بالذين أوتوا العلم : أصحاب رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر قال : ثنا يزيد قال : ثنا سعيد عن قتادة( وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا
الْعِلْمَ الَّذِي أُنزلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ ) قال : أصحاب
محمد.
وقوله( وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ ) يقول : ويرشد من اتبعه
وعمل بما فيه إلى سبيل الله العزيز في انتقامه من أعدائه الحميد عند خلقه ،
فأياديه عندهم ونعمه لديهم. وإنما يعني أن الكتاب الذي أنزل على محمد يهدي إلى
الإسلام.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ
(20/352)
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ (7)
نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ
إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ (7) }
يقول تعالى ذكره : وقال الذين كفروا بالله وبرسوله محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ
وَسَلَّم متعجبين من وعده إياهم البعث بعد الممات بعضهم لبعض(هَلْ نَدُلُّكُمْ)
أيها الناس( عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ
إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ ) يقول : يخبركم أنكم بعد تقطعكم في الأرض بلاء
(1) وبعد مصيركم في التراب رفاتًا ، عائدون كهيئتكم قبل الممات خلقًا جديدًا.
كما حدثنا بشر قال ثنا يزيد قال ثنا سعيد عن قتادة( وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا
هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ )
قال ذلك مشركو قريش والمشركون من الناس( يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ
مُمَزَّقٍ ) إذا أكلتكم الأرض وصرتم رفاتا وعظاما وقطعتكم السباع والطير( إِنَّكُمْ
لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ ) ستحيون وتبعثون.
حدثني يونس قال أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد في قوله(هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى
رَجُلٍ ...) إلى(خَلْقٍ جَدِيدٍ) قال : يقول : (إِذَا مُزِّقْتُمْ) وإذا بليتم
وكنتم عظاما وترابا ورفاتا ، ذلك(كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ)
قال : ينبئكم أنكم فكسر إن ولم يعمل ينبئكم فيها ولكن ابتدأ بها ابتداء ، لأن
النبأ خبر وقول ، فالكسر في إن لمعنى الحكاية في قوله(يُنَبِّئُكُمْ) دون لفظه ،
كأنه قيل : يقول لكم(إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ) .
__________
(1) بلاء : بفتح الباء ، ممدود : مصدر بلي ، بكسر اللام. تقول بلي الثوب بلى
وبلاء(اللسان).
(20/353)
أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَمْ بِهِ جِنَّةٌ بَلِ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ فِي الْعَذَابِ وَالضَّلَالِ الْبَعِيدِ (8)
القول في تأويل قوله تعالى : { أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَمْ بِهِ جِنَّةٌ بَلِ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ فِي الْعَذَابِ وَالضَّلالِ الْبَعِيدِ (8) }
(20/353)
يقول تعالى ذكره مخبرا عن قيل هؤلاء
الذين كفروا به وأنكروا البعث بعد الممات بعضهم لبعض معجبين من رسول الله صَلَّى
الله عَلَيْهِ وَسَلَّم في وعده إياهم ذلك : أفترى هذا الذي يعدنا أنا بعد أن نمزق
كل ممزق في خلق جديد على الله كذبا ، فتخلق عليه بذلك باطلا من القول وتخرص عليه
قول الزور(أَمْ بِهِ جِنَّةٌ) يقول : أم هو مجنون فيتكلم بما لا معنى له.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر قال : ثنا يزيد قال : ثنا سعيد عن قتادة قال : قالوا تكذيبا(أَفْتَرَى
عَلَى اللَّهِ كَذِبًا) قال : قالوا : إما أن يكون يكذب على الله(أَمْ ِبِه
جِنَّةٌ) وإما أن يكون مجنونًا(بَلِ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ ...) الآية.
حدثني يونس قال أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد : ثم قال بعضهم لبعض(أَفْتَرَى
عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَمْ بِهِ جِنَّةٌ) الرجل مجنون فيتكلم بما لا يعقل فقال
الله( الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ فِي الْعَذَابِ وَالضَّلالِ
الْبَعِيدِ ) .
وقوله( بَلِ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ فِي الْعَذَابِ وَالضَّلالِ
الْبَعِيدِ ) يقول تعالى ذكره : ما الأمر كما قال هؤلاء المشركون في محمد صَلَّى
الله عَلَيْهِ وَسَلَّم وظنوا به من أنه افترى على الله كذبا ، أو أن به جنة ، لكن
الذين لا يؤمنون بالآخرة من هؤلاء المشركين في عذاب الله في الآخرة وفي الذهاب
البعيد عن طريق الحق وقصد السبيل فهم من أجل ذلك يقولون فيه ما يقولون.
حدثني يونس بن عبد الأعلى قال أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد قال الله( بَلِ
الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ فِي الْعَذَابِ وَالضَّلالِ الْبَعِيدِ )
وأمره أن يحلف لهم ليعتبروا وقرأ(قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ
لَتُنَبَّؤُنَّ ...) الآية كلها وقرأ(قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ).
وقطعت الألف من قوله(أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ) في القطع والوصل ، ففتحت لأنها ألف
استفهام. فأما الألف التي بعدها التي
(20/354)
أَفَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (9)
هي ألف افتعل فإنها ذهبت لأنها خفيفة
زائدة تسقط في اتصال الكلام ، ونظيرها(سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ)
و(بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ) و(أَصْطَفَى الْبَنَاتِ) وما أشبه ذلك. وأما
ألف(آلآن) و(آلذَّكَرَينِ) فطولت هذه ، ولم تطول تلك لأن آلآن وآلذكرين كانت
مفتوحة فلو أسقطت لم يكن بين الاستفهام والخبر فرق فجعل التطويل فيها فرقا بين
الاستفهام والخبر ، وألف الاستفهام مفتوحة فكانتا مفترقتين بذلك فأغنى ذلك دلالة
على الفرق من التطويل.
القول في تأويل قوله تعالى : { أَفَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ
وَمَا خَلْفَهُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأرْضِ إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الأرْضَ
أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً
لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (9) }
يقول تعالى ذكره : أفلم ينظر هؤلاء المكذبون بالمعاد الجاحدون البعث بعد الممات
القائلون لرسولنا محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم(أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ
كَذِبًا أَمْ بِهِ جِنَّةٌ) إلى ما بين أيديهم وما خلفهم من السماء والأرض ،
فيعلموا أنهم حيث كانوا فإن أرضي وسمائي محيطة بهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن
أيمانهم وعن شمائلهم ؛ فيرتدعوا عن جهلهم وينزجروا عن تكذيبهم بآياتنا حذرًا أن
نأمر الأرض فتخسف بهم أو السماء فتسقط عليه قطعًا ، فإنا إن نشأ نفعل ذلك بهم
فعلنا.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر قال ثنا يزيد قال ثنا سعيد عن قتادة قوله( أَفَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا
(20/355)
وَلَقَدْ آَتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلًا يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ (10) أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (11)
بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ )
قال : ينظرون عن أيمانهم وعن شمائلهم كيف السماء قد أحاطت بهم(إِنْ نَشَأْ
نَخْسِفْ بِهِمُ الأرْضَ) كما خسفنا بمن كان قبلهم(أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ
كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ) أي : قطعًا من السماء.
وقوله( إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ ) يقول تعالى ذكره : إن في
إحاطة السماء والأرض بعباد الله لآية : يقول : لدلالة لكل عبد منيب : يقول لكل عبد
أناب إلى ربه بالتوبة ، ورجع إلى معرفة توحيده والإقرار بربوبيته والاعتراف
بوحدانيته والإذعان لطاعته على أن فاعل ذلك لا يمتنع عليه فعل شيء أراد فعله ولا
يتعذر عليه فعل شيء شاءه.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر قال ثنا سعيد عن قتادة( إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ
) والمنيب : المقبل التائب.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ مِنَّا فَضْلا يَا
جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ (10) أَنِ
اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا
تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (11) }
يقول تعالى ذكره : ولقد أعطينا داود منا فضلا وقلنا للجبال(أَوِّبِي مَعَهُ) :
سبحي معه إذا سبح. والتأويب عند العرب : الرجوع ومبيت الرجل في منزله وأهله ، ومنه
قول الشاعر :
يَوْمَانِ يَومُ مقاماتٍ وأنديةٍ... ويومُ سَيرٍ إلَى الأعْدَاءِ تَأْوِيبِ (1)
__________
(1) البيت لسلامة بن جندل. قاله أبو عبيدة في (مجاز القرآن ، مصورة الجامعة رقم
26059 ص 197 - ب) وانظره في المفضليات طبع القاهرة سنة 1926 والتأويب أن يبيت في
أهله. قال سلامة بن جندل : (يومان ... البيت). استشهد به (اللسان : أوب) ونسبه
لسلامة وقال : التأويب أن يسير النهار أجمع ، وينزل الليل. وقيل : هو تباري الركاب
في السير. قال : سلامة ... البيت. ثم قال التأويب في كلام العرب : سير النهار كله
إلى الليل. يقال : أوب القوم تأويبا : أي ساروا بالنهار. و (في اللسان : أوب) :
والتأويب : الرجوع. وقوله عز وجل : (يا جبال أوبي معه) ويقرأ : (أوبي معه) أي بضم
الهمزة. فمن قرأ أوبي معه (بفتح الهمزة ، وشد الواو المكسورة) فمعناه : يا جبال
سبحي معه ، ورجعة التسبح لأنه قال : سخرنا الجبال معه يسبحن. ومن قرأ (أوبي معه)
أي بضم الهمزة ، فمعناه : عودي معه في التسبيح كلما عاد فيه.
(20/356)
أي رجوع وقد كان بعضهم يقرؤه(أُوْبِي
مَعَهُ) من آب يئوب ، بمعنى تصرفي معه ، وتلك قراءة لا أستجيز القراءة بها لخلافها
قراءة الحجة.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني سليمان بن عبد الجبار قال ثني محمد بن الصلت قال ثنا أَبو كدينة ، وحدثنا
محمد بن سنان القزاز قال ثنا الحسن بن الحسن الأشقر قال ثنا أَبو كدينة عن عطاء عن
سعيد بن جبير عن ابن عباس(أَوِّبِي مَعَهُ) قال : سبحي معه.
حدثني محمد بن سعد قال ثني أَبي قال ثني عمي قال ثني أَبي عن أبيه عن ابن عباس
قوله(يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ) يقول : سبحي معه.
حدثنا أَبو عبد الرحمن العلائي قال ثنا مِسْعر عن أَبي حصين عن أَبي عبد
الرحمن(يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ) يقول : سبحي.
حدثنا ابن حميد قال ثنا حكام عن عنبسة عن أَبي إسحاق عن أَبي ميسرة(يَا جِبَالُ
أَوِّبِي مَعَهُ) قال : سبحي بلسان الحبشة.
حدثني يحيى بن طلحة اليربوعي قال : ثنا فضيل عن منصور عن مجاهد في قوله(يَا
جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ) قال : سبحي معه.
(20/357)
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أَبو
عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا
، عن ابن أَبي نجيح ، عن مجاهد قوله(يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ) قال : سبحي.
حدثنا بشر قال ثنا يزيد قال ثنا سعيد عن قتادة(يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ) أي :
سبحي معه إذا سبح.
حدثني يونس قال أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد في قوله(يَا جِبَالُ أَوِّبِي
مَعَهُ) قال : سبحي معه ، قال : والطيرُ أيضًا.
حُدثت عن الحسين قال سمعت أبا معاذ يقول أخبرنا عبيد قال سمعت الضحاك يقول في
قوله(يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ) قال : سبحي.
حدثنا عمرو بن عبد الحميد قال ثنا مروان بن معاوية عن جويبر عن الضحاك قوله(يَا
جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ) سبحي معه.
وقوله(وَالطَّيْرَ) وفي نصب الطير وجهان : أحدهما على ما قاله ابن زيد من أن الطير
نوديت كما نوديت الجبال فتكون منصوبة من أجل أنها معطوفة على مرفوع بما لا يحسن
إعادة رافعه عليه فيكون كالمصدر (1) عن جهته ، والآخر : فعل ضمير متروك استغني
بدلالة الكلام عليه ، فيكون معنى الكلام : فقلنا يا جبال أوبي معه وسخرنا له
الطير. وإن رفع ردا على ما في قوله : سبحي من ذكر الجبال كان جائزًا ، وقد يجوز
رفع الطير وهو معطوف على الجبال ، وإن لم يحسن نداؤها بالذي نوديت به الجبال ،
فيكون ذلك كما قال الشاعر :
ألا يا عمرُو والضحاكَ سِيرا... فقد جاوزتما خَمَرَ الطريقِ (2)
__________
(1) لعله كالمصروف عن جهته.
(2) البيت من شواهد الفراء في معاني القرآن (الورقة 261) قال في قوله تعالى : (يا
جبال أوبي معه والطير) : منصوبة على جهتين : إحداهما أن تنصبهما بالفعل ، بقوله :
(ولقد آتينا داود منا فضلا) وسخرنا له الطير ، فيكون مثل قوله : أطعمته طعاما وما
تريد ، وسقيته ماء. فيجوز ذلك. والوجه الآخر بالنداء ، لأنك إذا قلت : يا عمرو
والصلت أقبلا ، نصبت : الصلت بدعائهما ، فإذا فقدت كان كالمعدول عن جهته ، فنصب ،
وقد يجوز رفعه ، على أن يتبع ما قبله. ويجوز رفعه على أوبي أنت والطير. وأنشدني بعض
العرب النداء إذا نصب ، لفقده يا أيها : (ألا يا عمرو والضحاك) والخمر بالتحريك :
ما سترك من الشجر وغيرها ، فيجوز نصب الضحاك ورفعه. وقال الآخر : يا طلحة الكامل
وابن الكامل.
(20/358)
وقوله(وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ) ذكر
أن الحديد كان في يده كالطين المبلول يصرفه في يده كيف يشاء بغير إدخال نار ولا
ضرب بحديد.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر قال ثنا يزيد قال ثنا سعيد عن قتادة(وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ) سخر
الله له الحديد بغير نار.
حدثنا ابن بشار قال : ثنا ابن عثمة قال : ثنا سعيد بن بشير عن قتادة في
قوله(وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ) كان يسويها بيده ولا يدخلها نارًا ولا يضربها
بحديدة.
وقوله(أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ) يقول : وعهدنا إليه أن اعمل سابغات : وهي التوامُّ
الكوامل من الدروع.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر قال ثنا يزيد قال ثنا سعيد عن قتادة(أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ) دروع وكان
أول من صنعها داود ، إنما كان قبل ذلك صفائح.
حدثني يونس قال أخبرنا ابن وهب قال قال ابن زيد في قوله(أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ)
قال : السابغات دروع الحديد.
وقوله(وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ) اختلف أهل التأويل في السرد ؛ فقال بعضهم : السرد
هو مسمار حلق الدرع.
(20/359)
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر قال ثنا يزيد قال ثنا سعيد عن قتادة(وَقَدِّرْ فِي السرْدِ) قال : كان
يجعلها بغير نار ، ولا يقرعها بحديد ، ثم يسردها. والسرد : المسامير التي في
الحلق.
وقال آخرون : هو الحلق بعينها.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس قال أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد في قوله(وَقَدِّرْ فِي
السَّرْدِ) قال : السرد حلقه ، أي : قدر تلك الحلق ، قال : وقال الشاعر :
أجادَ المُسَدِّي سَرْدَهَا وَأَذَالَهَا (1)
قال : يقول وسعها وأجاد حلقها.
حدثنا محمد بن سعد قال ثني أَبي قال ثني عمي قال ثني أَبي عن أبيه عن ابن
عباس(وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ) يعني بالسرد : ثقب الدروع فيسد قتيرها. وقال بعض
أهل العلم بكلام العرب : يقال درع مسرودة إذا كانت مسمورة الحلق ، واستشهد لقيله
ذلك بقول الشاعر :
وَعَلَيهِمَا مَسْرُودَتَانِ قَضَاهُمَا... دَاودُ أَوْ صَنَعُ السَّوَابِغِ
تُبَّعُ (2)
__________
(1) البيت لكثير عزة بن عبد الرحمن الخزاعي (اللسان : ذيل) وصدره : على ابن أَبي
العاص دلاص حصينة ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
قال : وذيل فلان ثوبه تذييلا : إذا طوله. وملاء مذيل : طويل الذيل. ويقال : وأذال
فلان ثوبه إذا أطال ذيله ؛ قال كثير : على ابن أَبي العاص . . . . . ... . . . . .
. . . . . . وأذالها
وسردها : سمرها بالمسامير ، كما يأتي في الشواهد بعده. والمسدي : من التسديد وهي
أن يجعل الدرع مضاعفة ، لها سدى ولحمة. (على التشبيه بالثوب الذي له سدى ولحمة) أو
السدى : أسفل الثوب والدرع ، والتسديد منه توسع أسفلها حتى لا يعوق لابسه في السير
إذا كان ضيقا ، وهذا الشاهد في معنى الشاهد الذي بعده.
(2) البيت من شواهد أَبي عبيدة في (معاني القرآن 198 - أ) من مصورة الجامعة على
أنه يقال درع مسرودة : أي مسمورة الحلق. وقال الفراء في (معاني القرآن ، الورقة
261) : وقال عز وجل : (أن اعمل سابغات) : الدروع (وقدر في السرد) يقول : لا تجعل
مسمار الدروع دقيقا ، فيقلق ، ولا غليظا ، فيفصم الحلق. وفي (اللسان : قضى) :
والقضاء : بمعنى العمل ، ويكون بمعنى العمل ، ويكون بمعنى الصنع والتقدير قال أبو
ذؤيب : " وعليهما مسرودتان ... البيت " . قال ابن السيرافي : قضاهما فرغ
من عملها أو قلت : ومعنى البيت أنهما جاءا وعليهما درعان سابغتان أي طويلتان
محكمتا الصنع ، كأنهما من صنع داود عليه السلام ، أو من صنع تبع ملك اليمن العظيم
(20/360)
وقيل : إنما قال الله لداود(وَقَدِّرْ
فِي السَّرْدِ) لأنها كانت قبل صفائح.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا نصر بن علي قال ثنا أَبي قال ثنا خالد بن قيس عن قتادة(وَقَدِّرْ فِي
السَّرْدِ) قال : كانت صفائح فأمر أن يسردها حلقًا ، وعنى بقوله(وَقَدِّرْ فِي
السَّرْدِ) : وقدر المسامير في حلق الدروع حتى يكون بمقدار لا تغلظ المسمار ،
وتضيق الحلقة فتفصم الحلقة ، ولا توسع الحلقة وتصغر المسامير وتدقها فتسلس في
الحلقة.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو قال : ثنا أَبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال :
ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أَبي نجيح ، عن مجاهد في
قوله(وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ) قال : قدر المسامير والحلق ؛ لا تدق المسامير فتسلس
ولا تجلها ، قال محمد بن عمرو وقال الحارث : فتفصم.
حدثني علي بن سهل قال ثنا حجاج عن ابن جريج عن مجاهد في قوله(وَقَدِّرْ فِي
السَّرْدِ) قال : لا تصغر المسمار وتعظم الحلقة فتسلس ، ولا تعظم المسمار وتصغر
الحلقة فيفصم المسمار.
حدثني يعقوب قال ثنا ابن عيينة قال ثنا أَبي عن الحكم في قوله(وَقَدِّرْ
(20/361)
وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ (12)
فِي السَّرْدِ) قال : لا تغلظ المسمار
فيفصم الحلقة ولا تدقه فيقلق.
وقوله(وَاعْمَلُوا صَالِحًا) يقول تعالى ذكره : واعمل يا داود أنت وآلك بطاعة
الله(إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) يقول جل ثناؤه : إني بما تعمل أنت وأتباعك
ذو بصر لا يخفى عليَّ منه شيء ، وأنا مجازيك وإياهم على جميع ذلك.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ
وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ
يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا
نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ (12) }
اختلفت القراء في قراءة قوله(وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ) فقرأته عامة قراء
الأمصار(وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ) بنصب الريح ، بمعنى : ولقد آتينا داود منا فضلا
وسخرنا لسليمان الريحَ. وقرأ ذلك عاصم : (وَلِسُلَيْمِانَ الرِّيحُ) رفعًا بحرف
الصفة إذ لم يظهر الناصب.
والصواب من القراءة في ذلك عندنا النصب لإجماع الحجة من القراء عليه.
وقوله(غُدُوُّهَا شَهْرٌ) يقول تعالى ذكره : وسخرنا لسليمان الريح ، غدوها إلى
انتصاف النهار مسيرة شهر ، ورواحها من انتصاف النهار إلى الليل مسيرة شهر.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر قال ثنا يزيد قال ثنا سعيد عن قتادة قوله(وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ
غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ) قال : تغدو مسيرة شهر وتروح مسيرة شهر ،
قال : مسيرة شهرين في يوم.
(20/362)
حدثنا ابن حميد قال ثنا سلمة عن أَبي
إسحاق عن بعض أهل العلم عن وهب بن منبه(وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا
شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ) قال : ذكر لي أن منزلا بناحية دجلة مكتوب فيه كتاب
كتبه بعض صحابة سليمان ؛ إما من الجن وإما من الإنس : نحن نزلناه وما بنيناه ،
ومبنيًّا وجدناه ، غدونا من إصطخر فقِلناه ، ونحن رائحون منه إن شاء الله فبائتون
بالشام.
حدثنا يونس قال أخبرنا ابن وهب قال قال ابن زيد في قوله(وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ
غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ) قال : كان له مركب من خشب ، وكان فيه ألف
ركن ، في كل ركن ألف بيت تركب فيه الجن والإنس ، تحت كل ركن ألف شيطان ، يرفعون
ذلك المركب هم والعصار (1) فإذا ارتفع أتت الريح رخاء فسارت به وساروا معه ، يقيل
عند قوم بينه وبينهم شهر ، ويمسى عند قوم بينه وبينهم شهر ، ولا يدري القوم إلا
وقد أظلهم معه الجيوش والجنود.
حدثنا ابن بشار قال ثنا أَبو عامر قال ثنا قرة عن الحسن في قوله(غُدُوُّهَا شَهْرٌ
وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ) قال : كان يغدو فيقيل في إصطخر ، ثم يروح منها فيكون رواحها
بكابل.
حدثنا ابن بشار قال ثنا حماد قال ثنا قرة عن الحسن بمثله.
وقوله(وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ) يقول : وأذبنا له عين النحاس ،
وأجريناها له.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر قال ثنا يزيد قال ثنا سعيد عن قتادة(وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ)
__________
(1) في (اللسان : عصر) ، الإعصار والعصار (ككتاب) أن تهيج الريح فترفعه. والعصار :
الغبار الشديد.
(20/363)
يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ اعْمَلُوا آَلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ (13)
عين النحاس كانت بأرض اليمن ، وإنما
ينتفع اليوم بما أخرج الله لسليمان.
حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد في قوله(وَأَسَلْنَا لَهُ
عَيْنَ الْقِطْرِ) قال : الصِّفر سال كما يسيل الماء ، يعمل به كما كان يعمل
العجين في اللبن.
حدثني علي قال : ثنا أَبو صالح قال : ثني معاوية عن علي عن ابن عباس قوله(وَأَسَلْنَا
لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ) يقول : النحاس.
حدثني محمد بن سعد قال : ثني أَبي قال : ثني عمي قال : ثني أَبي عن أبيه عن ابن
عباس قوله(وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ) يعني : عين النحاس أسيلت.
وقوله(وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ) يقول
تعالى ذكره : ومن الجن من يطيعه ويأتمر بأمره وينتهى لنهيه ؛ فيعمل بين يديه ما
يأمره طاعة له بإذن ربه ، يقول : بأمر الله بذلك ، وتسخيره إياه له(وَمَنْ يَزِغْ
مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا) يقول : ومن يزل ويعدل من الجن عن أمرنا الذي أمرناه من
طاعة سليمان(نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ) في الآخرة ، وذلك عذاب نار جهنم
الموقدة.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر قال ثنا يزيد قال ثنا سعيد عن قتادة ، وقوله(وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ
عَنْ أَمْرِنَا) أي : يعدل منهم عن أمرنا عمَّا أمره به سليمان(نُذِقْهُ مِنْ
عَذَابِ السَّعِيرِ) .
القول في تأويل قوله تعالى : { يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ
وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ
شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ (13) }
(20/364)
يقول تعالى ذكره : يعمل الجن لسليمان
ما يشاء من محاريب وهي جمع محراب ، والمحراب : مقدم كل مسجد وبيت ومصلى ، ومنه قول
عدي بن زيد :
كدُمَي العاجِ في المحاريبِ أو كال... بيضِ في الرَّوضِ زَهرُهُ مُسْتَنِيرُ (1)
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو قال : ثنا أَبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال :
ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أَبي نجيح ، عن مجاهد قوله(مَا
يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ) قال : بنيان دون القصور.
حدثنا بشر قال ثنا يزيد قال ثنا سعيد عن قتادة(يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ
مَحَارِيبَ) وقصور ومساجد.
حدثني يونس قال أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد في قوله(يَعْمَلُونَ لَهُ مَا
يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ) قال : المحاريب : المساكن ، وقرأ قول الله( فَنَادَتْهُ
الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ ).
حدثني عمرو بن عبد الحميد الآملي قال ثنا مروان بن معاوية عن جويبر عن
الضحاك(يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ) قال : المحاريب : المساجد.
وقوله(وَتَمَاثِيلَ) يعني أنهم يعملون له تماثيل من نحاس وزجاج.
كما حدثني محمد بن عمرو قال : ثنا أَبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ،
قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أَبي نجيح ، عن
مجاهد(وَتَمَاثِيلَ) قال : من نحاس.
حدثنا بشر قال ثنا يزيد قال ثنا سعيد عن قتادة(وَتَمَاثِيلَ) قال : من
__________
(1) البيت لعدي بن زيد العبادي كما قال المؤلف ، وكما في شعراء النصرانية القسم
الرابع 455 وقد استشهد به المؤلف في (3 / 2464) من هذا التفسير ، على أن المحاريب
جمع محراب ، وهو مقدم موضع العبادة. فراجعه ثمة.
(20/365)
زجاج وشبهه.
حدثنا عمرو بن عبد الحميد قال ثنا مروان عن جويبر عن الضحاك في قول
الله(وَتَمَاثِيلَ) قال : الصور.
قوله(وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ) يقول : وينحتون له ما يشاء من جفان كالجواب ، وهي
جمع جابية والجابية : الحوض الذي يجبى فيه الماء ، كما قال الأعشى ميمون بن قيس :
تروحُ علَى نَادِي المُحَلَّقِ جَفْنَةٌ... كَجَابِيةِ الشَّيخِ العِرَاقِي
تَفْهَقُ (1)
وكما قال الآخر :
فَصَبَّحْتُ جَابِيَةً صُهَارِجا... كأنَّها جِلْدُ السَّمَاءِ خارِجا (2)
__________
(1) البيت لأعشى بني قيس بن ثعلبة (ديوانه طبعة القاهرة 225) وروايته : نَفَى
الذَّمَّ عَنْ آلِ المحلقِ جَفْنَةُ ... كَجابِيَةِ السِّيح العِرَاقيِّ تَفْهَقُ
وهي رواية مشهورة كالرواية التي أوردها المؤلف. يصف المحلق بالكرم وأن جفنته تروح
على ناديه مفعمة لحما وشحما ، وهي من كبير الجفان ، مثل جابية الماء التي يجمع
فيها الشيخ العراقي أيام يفيض النهر ، لينفق منه في أيام قلة الماء ، فهي جابية
كبيرة. وأما من رواه السيح ، بالسين والحاء والمهملتين ، فهو ما يفيض من الماء
ويسيح عن الزيادة بالنهر وقد ذكر في المبرد " الكتاب الكامل " هاتين
الروايتين (انظر طبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده 1 : 7) قال في تخريج رواية
الشيخ : كذا ينشده أهل البصرة. وتأويله عندهم أن العراقي إذا تمكن من الماء ، ملأ
جابيته ، لأنه حضري ، فلا يعرف مواقع الماء ولا محاله. قال أَبو العباسي : وسمعت
أعرابية تنشد : (وهي أم الهيثم الكلابية من ولد المحلق ، وهي رواية أهل الكوفة) :
" كجابية المسيح " ، تريد : النهر يجري على جانبيه ، فماؤها لا ينقطع ،
لأن النهر يمده. ا .هـ. وقال أبو عبيدة في مجاز القرآن : (الورقة : 198) (وجفان
كالجواب) : واحدها : جابية وهو الحوض الذي يجبى فيه الماء. وقال الفراء في معاني
القرآن الورقة 261 : (وجفان) : وهي القصاع الكبار. (كالجواب) الحياض التي للإبل. وفي
(اللسان : جبى) : الجابية الحوض الذي يجبى فيه الماء للإبل. والجابية : الحوض
الضخم وأورد البيت كرواية المؤلف ، ثم قال : خص العراقي ، لجهله بالمياه ، لأنه
حضري ، فإن وجدها ملأ جابية : وأعدها ، ولم يدر متى يجد المياه.
(2) هذان بيتان من مشطور الرجز. روى أولهما صاحب (اللسان : صهرج) عن الأزهري. قال
: وحوض صهارج : مطلي بالصاروخ : (النورة) والصهارج بالضم مثل الصهرج. وأنشد
الأزهري فصبحت جابية صحارجا وقد صهرجوا صهريجا. وفاعل صحبت ضمير يعود على ما قبله
، ولعله ذكر الإبل. والرجز غير منسوب. وقوله " كأنها جلد ... " البيت :
يشبه لون الجابية أو ماءها بلون السماء في الزرقة. وهذا البيت كالذي قبله شاهد على
أن معنى الجابية الحوض الكبير الذي يجمع فيه الماء ، وهو الصهارج والصهريج أيضا.
شبه جفنة المحلق بالحوض الكبير ، لكرمه.
(20/366)
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل
التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني علي قال ثنا أَبو صالح قال ثني معاوية عن علي عن ابن عباس قوله(وَجِفَانٍ
كَالْجَوَابِ) يقول : كالجوبة من الأرض.
حدثني محمد بن سعد قال ثني أَبي قال ثني عمي قال ثنى أَبي عن أبيه عن ابن عباس
قوله(وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ) يعني بالجواب : الحياض.
وحدثني يعقوب قال ثنا ابن علية عن أَبي رجاء عن الحسن(وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ) قال
: كالحياض.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أَبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال
: ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أَبي نجيح ، عن مجاهد
قوله(وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ) قال : حياض الإبل.
حدثنا بشر قال ثنا يزيد قال ثنا سعيد عن قتادة(وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ) قال : جفان
كجوبة الأرض من العظم ، والجوبة من الأرض : يستنقع فيها الماء.
حدثت عن الحسين بن الفرج ، قال سمعت أبا معاذ يقول أخبرنا عبيد قال سمعت الضحاك
يقول في قوله(وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ) كالحياض.
حدثنا عمرو قال ثنا مروان بن معاوية قال ثنا جويبر عن الضحاك(وَجِفَانٍ
كَالْجَوَابِ) قال : كحياض الإبل من العظم.
وقوله(وَقُدُورٍ رَاسيَاتٍ) يقول : وقدور ثابتات لا يحركن عن أماكنهن ، ولا تحول
لعظمهن.
(20/367)
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل
التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أَبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال
: ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أَبي نجيح ، عن مجاهد
قوله(وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ) قال : عظام.
حدثنا بشر قال ثنا يزيد قال ثنا سعيد عن قتادة(وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ) قال : عظام
ثابتات الأرض لا يزلن عن أمكنتهن.
حدثني يونس قال أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد في قوله(وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ)
قال : مثال الجبال من عِظمها ، يعمل فيها الطعام من الكبر والعظم ، لا تحرك ولا
تنقل ، كما قال للجبال : راسيات.
وقوله(اعْمَلُوا آلَ دَاودَ شُكْرًا) يقول تعالى ذكره : وقلنا لهم اعملوا بطاعة
الله يا آل داود شكرًا له على ما أنعم عليكم من النعم التي خصكم بها عن سائر خلقه
مع الشكر له على سائر نعمه التي عمكم بها مع سائر خلقه ، وتُرك ذكر : " وقلنا
لهم " اكتفاء بدلالة الكلام على ما ترك منه ، وأخرج قوله(شُكْرًا) مصدرا من
قوله(اعْمَلُوا آلَ دَاودَ) لأن معنى قوله(اعْمَلُوا) اشكروا ربكم بطاعتكم إياه ،
وأن العمل بالذي رضي الله ، لله شكر.
وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد قال : ثنا يحيى بن واضح ، قال ثنا موسى بن عبادة عن محمد بن كعب
قوله(اعْمَلُوا آلَ دَاودَ شُكْرًا) قال : الشكر تقوى الله والعمل بطاعته.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد : أخبرني
(20/368)
فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ (14)
حيوة عن زهرة بن معبد أنه سمع أبا عبد
الرحمن الحبلي (1) يقول : (اعْمَلُوا آلَ دَاودَ شُكْرًا) وأفضل الشكر الحمد.
قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد في قوله : (اعْمَلُوا آلَ دَاودَ شُكْرًا)
قال : أعطاكم وعلمكم وسخر لكم ما لم يسخر لغيركم ، وعلمكم منطق الطير ، اشكروا له
يا آل داود قال : الحمد طرف من الشكر.
وقوله(وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِي الشَّكُورُ) يقول تعالى ذكره : وقليل من عبادي
المخلصو توحيدي والمفردو طاعتي وشكري على نعمتي عليهم.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني علي قال ثنا أَبو صالح قال ثني معاوية عن علي عن ابن عباس قوله(وَقَلِيلٌ
مِنْ عِبَادِي الشَّكُورُ) يقول : قليل من عبادي الموحدون توحيدهم.
القول في تأويل قوله تعالى : { فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا
دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلا دَابَّةُ الأرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا
خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا
فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ (14) }
يقول تعالى ذكره : فلما أمضينا قضاءنا على سليمان بالموت فمات(مَا دَلَّهُمْ عَلَى
مَوْتِهِ) يقول : لم يدل الجن على موت سليمان(إِلا دَابَّةُ الأرْضِ) وهي الأرضة
وقعت في عصاه التي كان متكئًا عليها فأكلتها ، فذلك قول الله عز وجل(تَأْكُلُ
مِنْسَأَتَهُ).
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*
__________
(1) الحبلي : بسكون الباء وضمها : منسوب إلى بني الحبلى ، بطن من الأنصار ، ثقة ،
توفي سنة مائة. (عن التاج).
(20/369)
ذكر من قال ذلك :
حدثني ابن المثنى وعلي قالا ثنا أَبو صالح قال ثني معاوية عن علي عن ابن عباس
قوله( إِلا دَابَّةُ الأرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ ) يقول : الأرضة تأكل عصاه.
حدثنا محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ،
عن ابن عباس قوله(تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ) قال : عصاه.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثني أَبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال
: ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أَبي نجيح ، عن مجاهد قوله(إِلا
دَابَّةُ الأرْضِ) قال : الأرضة(تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ) قال : عصاه.
حدثني محمد بن عمارة قال ثنا عبد الله بن موسى قال أخبرنا إسرائيل عن أَبي يحيى عن
مجاهد(تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ) قال : عصاه.
حدثنا ابن بشار قال ثنا ابن عثمة قال ثنا سعيد بن بشير عن قتادة في قوله(تَأْكُلُ
مِنْسَأَتَهُ) أكلت عصاه حتى خرَّ.
حدثنا موسى بن هارون قال : ثنا عمرو ، قال : ثنا أسباط عن السدي المنسأة : العصا
بلسان الحبشة.
حدثنا يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد : المنسأة العصا.
واختلفت القراء في قراءة قوله(مِنْسَأَتَهُ) فقرأ ذلك عامة قراء أهل المدينة وبعض
أهل البصرة(مِنْسَاتَهُ) غير مهموزة ، وزعم من اعتل لقارىء ذلك كذلك من أهل البصرة
أن المنساة : العصا ، وأن أصلها من نسأت بها الغنم ، قال : وهي من الهمز الذي
تركته العرب ، كما تركوا همز النبي والبرية والخابية ، وأنشد لترك الهمز في ذلك
بيتا لبعض الشعراء :
(20/370)
إذا دَبَبْتَ على المِنساةِ من
هَرَمٍ... فقدْ تَبَاعَد عنكَ اللَّهوُ والغَزَلُ (1)
وذكر الفراء عن أَبي جعفر الرَّوَاسي أنه سأل عنها أبا عمرو فقال : (مِنْسَاتَهُ)
بغير همز.
وقرأ ذلك عامة قراء الكوفة(مِنْسَأَتَهُ) بالهمز ، وكأنهم وجهوا ذلك إلى أنها
مِفْعَلة من نسأت البعير : إذا زجرته ليزداد سيره ، كما يقال نسأت اللبن : إذا
صببت (2) عليه الماء وهو النسيء ، وكما يقال : نسأ الله في أجلك أي أدام (3) الله
في أيام حياتك.
قال أَبو جعفر : وهما قراءتان قد قرأ بكل واحدة منهما علماء من القراء بمعنى واحد
، فبأيتهما قرأ القارىء فمصيب ، وإن كنت أختار الهمز فيها لأنه الأصل.
وقوله(فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ) يقول عز وجل : فلما خر سليمان ساقطًا
بانكسار منسأته تبينت الجن(أنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ) الذي يدعون
علمه(مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ) المذل حولا كاملا بعد موت سليمان ،
وهم يحسبون أن سليمان حي.
__________
(1) البيت من شواهد أَبي عبيدة في (مجاز القرآن ، الورقة 198 - ب) والرواية فيه
" حبيت " في موضع " دببب " . وفي هامشه بخط الناسخ : (رواية :
دببب). قال أبو عبيدة : (تأكل منسأته) : وهي العصا : من نسأت بها الغنم. وهو من
المهموز الذي تركت العرب الهمزة من أسمائها ، ويهمزون الفعل منها ، كما تركوا همزة
النبي والبرية والخالية ، وهو من أنبأت ، ومن برأت ، وخبأت. قال : " إذا حببت
على المنساة ... " البيت. وبعضهم يهمزها فيقول : منسأة. ا . هـ. والبيت في
(اللسان : نسأ) وروايته : " إذا دببب ... " البيت. وقال قبل ذلك :
والمنسأة : العصا ؛ يهمز ، ولا يهمز. ينسأ بها. وأبدلوا إبدالا كليا ، فقالوا
منساة. وأصلها الهمز ، ولكنها بدل لازم حكاه سيبويه. وقد قرئ بهما جميعا. قال
الفراء في قوله عز وجل : (تأكل منسأته) وهي العصا العظيمة التي تكون مع الراعي.
أخذت من نسأت البعير إذا زجرته ليزداد سيره. كما يقال نسأت اللبن إذا صببت عليه
الماء. وهو النسئ.
(2) كذا في (معاني القرآن للفراء الورقة 261) وفي الأصل : صدرت بتحريف.
(3) لعله : أطال.
(20/371)
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل
التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا أحمد بن منصور قال ثنا موسى بن مسعود أَبو حذيفة قال ثنا إبراهيم بن طهمان
عن عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس عن النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ
وَسَلَّم قال : " كَانَ سُلَيمانُ نبيُّ اللهِ إذَا صَلَّى رأى شجرة نابتة
بين يديه فيقول لها ما اسمك ؟ فتقول كذا ، فيقول لأي شيء أنت ؟ فإن كانت تُغْرَسُ
غُرسَت ، وإن كان لدواءٍ كُتبتْ ، فبينما هو يصلي ذاتَ يَومٍ إذ رأى شجرةً بين
يديه ، فقال لها : ما اسمك ؟ قالت : الخروب ، قال : لأي شيء أنت ؟ قالت : لخراب
هذا البيت ، فقال سليمان : اللهم عمِّ على الجن موتي ؛ حتى يعلم الإنس أن الجن لا
يعلمون الغيب ، فنَحَتَها عصا فتوكَّأ عليها حولا ميتًا ، والجن تعمل ، فأكلتها
الأرضة ، فسقط ، فتبينت الإنس أن الجن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا حولا في
العذاب المهين " . قال : وكان ابن عباس يقرؤها كذلك ، قال : فشكرت الجن
للأرضة فكانت تأتيها بالماء.
حدثنا موسى بن هارون قال ثنا عمرو قال ثنا أسباط عن السدي في خبر ذكره عن أَبي
مالك وعن أَبي صالح عن ابن عباس وعن مرة الهمداني عن ابن مسعود وعن أناس من أصحاب
رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم قال : " كان سليمان يتجرد (1) في
بيت المقدس السنة والسنتين ، والشهر والشهرين ، وأقل من ذلك وأكثر ، يَدخل طعامه
(2) وشرابه ، فدخله في المرة التي مات فيها ، وذلك أنه لم يكن يوم يصبح فيه ، إلا
تنبت فيه شجرة ، فيسألها : ما اسمك ؟ فتقول الشجرة : اسمي كذا وكذا ، فيقول لها :
لأي شيء نبت ، فتقول : نبت لكذا وكذا. فيأمر بها فتقطع ؛ فإن كانت نبتت لغرس غرسها
، وإن كانت
__________
(1) في العرائس للثعلبي (طبعة الحلبي 326) قال ابن عباس وغيره : كان سليمان يحتجب
في بيت المقدس ... إلخ.
(2) في العرائس : يدخل فيه بطعامه ... إلخ.
(20/372)
نبتت لدواء قالت : نبت دواء لكذا وكذا
، فيجعلها كذلك ، حتى نبتت شجرة يقال لها الخروبة ، فسألها ما اسمك ؟ فقالت له :
أنا الخروبة ، فقال : لأي شيء نبتِّ ، قالت : لخراب هذا المسجد ، قال سليمان : ما
كان الله ليخربه وأنا حي ، أنت التي على وجهك هلاكي وخراب بيت المقدس ، فنزعها
وغرسها في حائط له ثم دخل المحراب ، فقام يصلي متكئًا على عصاه ، فمات ولا تعلم به
الشياطين في ذلك ، وهم يعملون له يخافون أن يخرج فيعاقبهم ، وكانت الشياطين تجتمع
حول المحراب ، وكان المحراب له كُوىً بين يديه وخلفه ، وكان الشيطان الذي يريد أن
يخلع يقول : ألست جلدًا إن دخلت ، فخرجت من الجانب الآخر ، فدخل شيطان من أولئك
فمر ، ولم يكن شيطان ينظر إلى سليمان في المحراب إلا احترق ، فمر ولم يسمع صوت
سليمان عليه السلام ، ثم رجع فلم يسمع ، ثم رجع فوقع في البيت فلم يحترق ، ونظر
إلى سليمان قد سقط فخرج فأخبر الناس أن سليمان قد مات ، ففتحوا عنه فأخرجوه ووجدوا
منسأته ، وهي العصا بلسان الحبشة قد أكلتها الأرضة ، ولم يعلموا منذ كم مات ،
فوضعوا الأرضة على العصا ، فأكلت منها يومًا وليلة ، ثم حسبوا على ذلك النحو ،
فوجدوه قد مات منذ سنة " . وهي في قراءة ابن مسعود : فمكثوا يدأبون له من بعد
موته حولا كاملا فأيقن الناس عند ذلك أن الجن كانوا يكذبونهم ، ولو أنهم علموا
الغيب لعلموا بموت سليمان ولم يلبثوا في العذاب سنة يعملون له ، وذلك قول الله(
مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلا دَابَّةُ الأرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ
فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا
لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ ) يقول : تبين أمرهم للناس أنهم كانوا
يكذبونهم ، ثم إن الشياطين قالوا للأرضة : لو كنت تأكلين الطعام أتيناك بأطيب
الطعام ، ولو كنت تشربين الشراب سقيناك أطيب الشراب ، ولكنا سننقل إليك الماء والطين
، فالذي يكون في جوف الخشب فهو ما تأتيها به الشياطين شكرًا لها.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قال : كانت الجن تخبر
الإنس أنهم كانوا يعلمون من الغيب أشياء ، وأنهم يعلمون ما في غد ،
(20/373)
فابتلوا بموت سليمان ، فمات فلبث سنة على
عصاه وهم لا يشعرون بموته ، وهم مسخرون تلك السنة يعملون دائبين( فَلَمَّا خَرَّ
تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي
الْعَذَابِ الْمُهِينِ ) ولقد لبثوا يدأبون ، ويعملون له حولا.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله( مَا دَلَّهُمْ
عَلَى مَوْتِهِ إِلا دَابَّةُ الأرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ ) قال : قال سليمان
لملك الموت : يا ملك الموت إذا أمرت بي فأعلمني ، قال : فأتاه فقال : يا سليمان قد
أمرت بك ، قد بقيت لك سويعة فدعا الشياطين فبنوا عليه صرحًا من قوارير ، ليس له
باب فقام يصلي واتكأ على عصاه ، قال : فدخل عليه ملك الموت فقبض روحه وهو متكىء
على عصاه ، ولم يصنع ذلك فرارًا من ملك الموت ، قال : والجن تعمل بين يديه وينظرون
إليه يحسبون أنه حي ، قال : فبعث الله دابة الأرض ، قال : دابة تأكل العيدان يقال
لها القادح ، فدخلت فيها فأكلتها ، حتى إذا أكلت جوف العصا ، ضعفت وثقل عليها فخر
ميتًا ، قال : فلما رأت الجن ذلك انفضوا وذهبوا ، قال : فذلك قوله( مَا دَلَّهُمْ
عَلَى مَوْتِهِ إِلا دَابَّةُ الأرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ ) قال : والمنسأة :
العصا.
حدثنا ابن حميد قال ثنا جرير عن عطاء قال : كان سليمان بن داود يصلي ، فمات وهو
قائم يصلي والجن يعملون لا يعلمون بموته ، حتى أكلت الأرضة عصاه فخر وأن في
قوله(أَنْ لَوْ كَانُوا) في موضع رفع بـ " تَبَيَّن " ، لأن معنى الكلام
: فلما خر تبين وانكشف ، أن لو كان الجن يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين.
وأما على التأويل الذي تأوله ابن عباس من أن معناه : تبينت الإنس الجن ، فإنه
ينبغي أن يكون في موضع نصب بتكريرها على الجن ، وكذلك يجب على هذه القراءة أن تكون
الجن منصوبة ، غير أني لا أعلم أحدًا من قراء الأمصار يقرأ ذلك بنصب الجن ، ولو
نصب كان في قوله(تَبَيَّنتِ) ضمير من ذكر الإنس.
(20/374)
لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آَيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ (15)
القول في تأويل قوله تعالى : { لَقَدْ
كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا
مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ (15)
}
يقول تعالى ذكره : لقد كان لولد سبأ في مسكنهم علامة بينة ، وحجة واضحة على أنه لا
رب لهم إلا الذي أنعم عليهم النعم التي كانوا فيها.
وسبأ عن رسول الله اسم أَبي اليمن.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا أَبو كريب قال ثنا وكيع عن أَبي حيان الكلبي عن يحيى بن هانىء عن عروة
المرادي عن رجل منهم يقال له : فروة بن مسيك قال : قلت يا رسول الله أخبرني عن سبأ
ما كان ؟ رجلا كان أو امرأة ، أو جبلا أو دواب ؟ فقال : " لا كان رجلا من
العرب وله عشرة أولاد ؛ فتيمن منهم ستة وتشاءم منهم أربعة ، فأما الذين تيمنوا
منهم فكندة وحمير والأزد والأشعريون ومذحج وأنمار الذين منها خثعم وبُجَيلة ، وأما
الذين تشاءموا ؛ فعاملة وجُذام ولخم وغسَّان " .
حدثنا أَبو كريب قال ثنا أَبو أسامة قال ثني الحسن بن الحكم قال ثنا أبو سَبْرة
النخَعي عن فروة بن مسيك القُطَيْعي قال : قال رجل يا رسول الله : أخبرني عن سبأ
ما هو ؟ أرض أو امرأة ؟ قال : ليس بأرض ولا امرأة ، ولكنه رجل ولَدَ عشرة من الولد
؛ فتيامن ستة وتشاءم أربعة ، فأما الذين تشاءموا فلخم وجُذام وعاملة وغسان ، وأما
الذين تيامنوا فكندة والأشعريون والأزد ومذحج وحمير وأنمار " ، فقال رجل : ما
أنمار ؟ قال : " الذين منهم خثعم وبجيلة " .
حدثنا أَبو كريب قال ثنا العَنْقزي قال أخبرنى أسباط بن نصر عن يحيى بن هانىء
المرادي عن أبيه أو عن عمه(أسباطٌ شك) قال : قدم فروة بن مسيك على رسول الله
صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم فقال : يا رسول الله أخبرني عن سبأ أجبلا كان أو
أرضًا ؟ فقال : " لم يكن جبلا ولا أرضًا ولكنه كان رجلا من العرب
(20/375)
ولد عشرة قبائل ثم ذكر نحوه ، إلا أنه
قال : " وأنمار الذين يقولون منهم بجيلة وخثعم " . فإن كان الأمر كما
روي عن رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم من أن سبأ رجل ، كان الإجراء فيه
وغير الإجراء معتدلين ، أما الإجراء فعلى أنه اسم رجل معروف ، وأما ترك الإجراء فعلى
أنه اسم قبيلة أو أرض. وقد قرأ بكل واحدة منهما علماء من القراء.
واختلفت القراء في قراءة قوله(فِي مسكنهم) فقرأته عامة قراء المدينة والبصرة وبعض
الكوفيين(فِي مِسِاكِنِهِمْ) على الجماع ، بمعنى منازل آل سبأ. وقرأ ذلك عامة قراء
الكوفيين(فِي مَسْكِنِهِمْ) على التوحيد ، وبكسر الكاف ، وهي لغة لأهل اليمن فيما
ذكر لي. وقرأ حمزة(مَسْكَنِهِمْ) على التوحيد وفتح الكاف.
والصواب من القول في ذلك عندنا : أن كل ذلك قراءات متقاربات المعنى ، فبأي ذلك قرأ
القارىء فمصيب.
وقوله(آيَةٌ) قد بينا معناها قبل.
وأما قوله(جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ) فإنه يعني : بستانان كانا بين جبلين
، عن يمين من أتاهما وشماله.
وكان من صنفهما فيما ذُكر لنا ما حدثنا محمد بن بشار قال ثنا سليمان قال ثنا أَبو
هلال قال سمعت قتادة في قوله( لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ
جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ ) قال : كانت جنتان بين جبلين فكانت المرأة
تخرج مكتلها على رأسها فتمشي بين جبلين ، فيمتلىء مكتلها ، وما مست بيدها ، فلما
طغوا بعث الله عليهم دابة ، يقال لها " جُرَذ " فنقبت عليهم فغرقتهم ،
فما بقي لهم إلا أَثْل ، وشيء من سدر قليل.
حدثنا يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله( لَقَدْ كَانَ
لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ ...) إلى
قوله( فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ ) قال : ولم يكن
يرى في قريتهم بعوضة
(20/376)
فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ (16) ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ (17)
قط ، ولا ذباب ولا برغوث ولا عقرب ولا
حية ، وإن كان الركب ليأتون وفي ثيابهم القُمَّل والدواب ، فما هم إلا أن ينظروا
إلى بيوتهم ، فتموت الدواب ، قال : وإن كان الإنسان ليدخل الجنتين ، فيمسك القفة
على رأسه فيخرج حين يخرج ، وقد امتلأت تلك القفة من أنواع الفاكهة ولم يتناول منها
شيئا بيده ، قال : والسّدُّ يسقيها.
ورفعت الجنتان في قوله(جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ) ترجمة عن الآية ، لأن
معنى الكلام : لقد كان لسبأ في مسكنهم آية هي جنتان عن أيمانهم وشمائلهم.
وقوله(كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ) الذي يرزقكم من هاتين الجنتين من زروعهما
وأثمارهما ، (وَاشْكُرُوا لَهُ) على ما أنعم به عليكم من رزقه ذلك ، وإلى هذا
منتهى الخبر ، ثم ابتدأ الخبر عن البلدة فقيل : هذه بلدة طيبة أي ليست بسبخة ،
ولكنها كما ذكرنا من صفتها عن عبد الرحمن بن زيد أن كانت كما وصفها به ابن زيد من
أنه لم يكن فيها شيء مؤذٍ ؛ الهمج والدبيب والهوام(وَرَبٌّ غَفُورٌ) يقول : ورب
غفور لذنوبكم إن أنتم أطعتموه.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة قوله(بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ
وَرَبٌّ غَفُورٌ) وربكم غفور لذنوبكم ، قوم أعطاهم الله نعمة ، وأمرهم بطاعته
ونهاهم عن معصيته.
القول في تأويل قوله تعالى : { فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ
الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ
وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ (16) ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا
وَهَلْ نُجَازِي إِلا الْكَفُورَ (17) }
(20/377)
يقول تعالى ذكره : فأعرضت سبأ عن طاعة
ربها وصدت عن اتباع ما دعتها إليه رسلها من أنه خالقها.
كما حدثنا ابن حميد قال : ثنا سلمة قال ثني محمد بن إسحاق عن وهب بن منبه اليماني
قال : لقد بعث الله إلى سبأ ثلاثة عشر نبيًّا فكذبوهم( فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ
سَيْلَ الْعَرِمِ ) يقول تعالى ذكره : فثقبنا عليهم حين أعرضوا عن تصديق رسلنا
سدهم الذي كان يحبس عنهم السيول.
والعرم المسناة التي تحبس الماء ، واحدها عرمة ، وإياه عنى الأعشى بقوله :
فَفِي ذَاكَ للْمُؤْتَسِي أُسْوَةٌ... وَمَأْرِبُ عَفَّى عليه العَرِمْ
رِجامٌ بَنَتْهُ لَهُمْ حِمْيَرٌ... إذا جَاءَ ماؤهُمُ لمْ يَرمْ (1)
وكان العرم فيما ذكر مما بنته بلقيس.
*
__________
(1) البيتان للأعشى بني قيس بن ثعلبة (ديوانه طبع القاهرة ص 43) من قصيدة يمدح بها
قيس بن معد يكرب ، من المتقارب. وفيه : " وقفى " في موضع " عفى
" و " رخام " بالخاء ، في موضع " رجام " بالجيم. وفي بعض
نسخ الديوان : " مواره " في موضع " ماؤه " . قال الفراء :
وقوله : (سيل العرم) كانت مسناة تحبس الماء ، على ثلاثة أبواب منها. فيسقون من ذلك
الماء من الباب الأول (الأعلى) ثم الثاني (الأوسط) ثم الآخر (الأسفل) ، فلا ينفذ
حتى يثوب الماء من السنة المقبلة. وكانوا أنعم قوم عيشا ، فلما أعرضوا وجحدوا
الرسل ، بثق الله عليهم تلك المسناة ، فغرقت أرضهم ، ودفن بيوتهم الرمل. والبيتان
من شواهد أبي عبيدة في مجاز القرآن ، وروايته : " قفى " في موضع "
عفى " وهو بمعناه. و " رخام " بالخاء في موضع رجام ، والرجام :
الصخور العظيمة ، جمع رجمة. توضع على القبر ونحوه. وفسر قوله " لم يرم "
: أي حبسه. والضمير راجع إلى الماء. وقال في قوله تعالى : (سيل العرم) : واحدها
عرمة ، وهي بناء مثل المشان ، يحبس بها الماء فيشرف به على الماء في وسط الأرض ،
ويترك فيه سبل للسفينة. فتلك العرمات. واحدها عرمة. ا هـ . وفي (اللسان : سني)
المسناة : العرم. وفي (اللسان : عرم) العرم يفتح الراء وكسرها ، وكذلك واحدها ،
وهو العرمة : والعرم سد يعترض به الوادي. والجمع عرم. وقيل العرم : وجمع لا واحد
له. وقال أبو حنيفة : العزم الأحباس تبنى في أوساط الأودية. ا . هـ . وهي ما نسميه
اليوم : خزانات أو قناطر.
(20/378)
ذكر من قال ذلك :
حدثنا أحمد بن إبراهيم الدورقي قال ثني وهب بن جرير قال ثنا أَبي قال سمعت المغيرة
بن حكيم قال : لما ملكت بلقيس ، جعل قومها يقتتلون على ماء واديهم ، قال فجعلت
تنهاهم فلا يطيعونها ، فتركت ملكها وانطلقت إلى قصر لها وتركتهم ، فلما كثر الشر
بينهم وندموا أتوها ، فأرادوها على أن ترجع إلى ملكها فأبت فقالوا : لترجعن أو
لنقتلنك ، فقالت : إنكم لا تطيعونني وليست لكم عقول ، ولا تطيعوني ، قالوا : فإنا
نطيعك ، وإنا لم نجد فينا خيرًا بعدك ، فجاءت فأمرت بواديهم ، فسد بالعرم.
قال أحمد قال وهب قال أبي : فسألت المغيرة بن حكيم عن العرم فقال : هو بكلام حمير
المسنَّاة فسدت ما بين الجبلين فحبست الماء من وراء السد ، وجعلت له أبوابًا بعضها
فوق بعض وبنت من دونه بركة ضخمة ، فجعلت فيها اثني عشر مخرجًا على عدة أنهارهم ،
فلما جاء المطر احتبس السيل من وراء السد فأمرت بالباب الأعلى ففتح فجرى ماؤه في
البركة ، وأمرت بالبعر فألقي فيها فجعل بعض البعر يخرج أسرع من بعض ، فلم تزل تضيق
تلك الأنهار ، وترسل البعر في الماء حتى خرج جميعًا معًا ، فكانت تقسمه بينهم على
ذلك ، حتى كان من شأنها وشأن سليمان ما كان.
حدثنا أحمد بن عمر البصري قال ثنا أَبو صالح بن زريق قال أخبرنا شريك عن أَبي
إسحاق عن أَبي ميسرة في قوله( فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ ) قال :
المسناة بلحن اليمن.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أَبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال
: ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أَبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله :
(سَيْلَ الْعَرِمِ) قال : شديد ، وقيل : إن العرم اسم وادٍ كان لهؤلاء القوم.
*
(20/379)
ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثنى أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ،
عن ابن عباس قوله( فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ ) قال : وادٍ كان
باليمن ، كان يسيل إلى مكة ، وكانوا يسقون وينتهي سيلهم إليه.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( فَأَرْسَلْنَا
عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ ) ذُكر لنا أن سيل العرم وادٍ كانت تجتمع إليه مسايل
من أودية شتى ، فعمدوا فسدوا ما بين الجبلين بالقير والحجارة وجعلوا عليه أبوابا ،
وكانوا يأخذون من مائه ما احتاجوا إليه ، ويسدون عنهم ما لم يعنوا به من مائه
شيئا.
حدثت عن الحسين قال سمعت أبا معاذ يقول أخبرنا عبيد قال سمعت الضحاك يقول في قوله(
فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ ) وادٍ يدعى العرم ، وكان إذا مطر سالت
أودية اليمن إلى العرم ، واجتمع إليه الماء فعمدت سبأ إلى العرم فسدوا ما بين
الجبلين ، فحجزوه بالصخر والقار ، فانسد زمانًا من الدهر ، لا يرجون الماء ، يقول
: لا يخافون.
وقال آخرون : العرم صفة للمسناة التي كانت لهم وليس باسم لها.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني علي قال ثنا أَبو صالح قال ثني معاوية عن علي عن ابن عباس قوله(سَيْلَ
الْعَرِمِ) يقول : الشديد ، وكان السبب الذي سبب الله لإرسال ذلك السيل عليهم فيما
ذُكر لي جُرذًا ابتعثه الله على سدهم ، فثقب فيه ثقبًا.
ثم اختلف أهل العلم في صفة ما حدث عن ذلك الثقب مما كان فيه خراب جنتيهم.
فقال بعضهم : كان صفة ذلك أن السيل لما وجد عملا في السد عمل فيه ، ثم فاض الماء
على جناتهم ؛ فغرقها وخرب أرضهم وديارهم.
*
(20/380)
ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد قال ثنا سلمة قال ثني محمد بن إسحاق عن وهب بن منبه اليماني قال :
كان لهم ، يعني لسبأ ، سد ، قد كانوا بنوه بنيانًا أبدًا ، وهو الذي كان يرد عنهم
السيل إذا جاء أن يغشى أموالهم ، وكان فيما يزعمون في علمهم من كهانتهم ، أنه إنما
يخرب عليهم سدهم ذلك فأرة ، فلم يتركوا فرجة بين حجرين إلا ربطوا عندها هرة ، فلما
جاء زمانه وما أراد الله بهم من التغريق ، أقبلت فيما يذكرون فأرة حمراء إلى هرة
من تلك الهرر فساورتها ، حتى استأخرت عنها أي الهرة ، فدخلت في الفرجة التي كانت
عندها ، فغلغلت في السد فحفرت فيه حتى وهنته للسيل وهم لا يدرون ، فلما جاء السيل
وجد خللا فدخل فيه حتى قلع السد وفاض على الأموال فاحتملها فلم يبق منها إلا ما ذكره
الله ، فلما تفرقوا نزلوا على كهانة عمران بن عامر.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة قال : لما ترك القوم أمر
الله بعث الله عليهم جُرذًا يسمى الخُلْد ، فثقبه من أسفله حتى غرق به جناتهم ،
وخرب به أرضهم عقوبة بأعمالهم.
حدثنا عن الحسين قال سمعت أبا معاذ يقول أخبرنا عبيد بن سليمان قال سمعت الضحاك
يقول : لما طغوا وبغوا ، يعني سبأ ، بعث الله عليهم جرذا فخرق عليهم السد فأغرقهم
الله.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد : بعث الله عليه جرذا
وسلطه على الذي كان يحبس الماء الذي يسقيها ، فأخرب في أفواه تلك الحجارة وكل شيء
منها من رصاص وغيره ، حتى تركها حجارة ، ثم بعث الله سيل العرم ، فاقتلع ذلك السد
وما كان يحبس ، واقتلع تلك الجنتين ، فذهب بهما ، وقرأ( فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ
سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ) قال : ذهب بتلك
القرى والجنتين.
وقال آخرون : كانت صفة ذلك أن الماء الذي كانوا يعمرون به جناتهم
(20/381)
سال إلى موضع غير الموضع الذي كانوا
ينتفعون به ، فبذلك خربت جناتهم.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ،
عن ابن عباس قال : بعث الله عليهم ، يعني على العرم ، دابة من الأرض فثقبت فيه
ثقبًا ، فسال ذلك الماء إلى موضع غير الموضع الذي كانوا ينتفعون به ، وأبدلهم الله
مكان جنتيهم جنتين ذواتي أُكُل خَمْط ، وذلك حين عصوا ، وبطروا المعيشة.
والقول الأول أشبه بما دل عليه ظاهر التنزيل ، وذلك أن الله تعالى ذكره أخبر أنه
أرسل عليهم سيل العرم ، ولا يكون إرسال ذلك عليهم إلا بإسالته عليهم ، أو على
جناتهم وأرضهم لا بصرفه عنهم.
وقوله( وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ )
يقول تعالى ذكره : وجعلنا لهم مكان بساتينهم من الفواكه والثمار بساتين من جنى ثمر
الأراك ، والأراك هو الخمط.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني علي قال ثنا أَبو صالح قال ثني معاوية عن علي عن ابن عباس قال : أبدلهم الله
مكان جنتيهم جنتين ذواتي أكل خمط ، والخمط : الأراك.
حدثني يعقوب ، قال : ثنا ابن علية عن أَبي رجاء قال سمعت الحسن يقول في
قوله(ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ) قال : أراه قال : الخمط : الأراك.
حدثني محمد بن عمارة قال ثني عبد الله بن موسى قال أخبرنا إسرائيل عن أَبي يحيى عن
مجاهد(أُكُلٍ خَمْطٍ) قال : الخمط : الأراك.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أَبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال
: ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أَبي نجيح ،
(20/382)
عن مجاهد(ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ) قال
: الأراك.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة(ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ)
والخمط : الأراك ، وأكله : بريره.
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك
يقول في قوله( وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ
خَمْطٍ ) قال : بدلهم الله بجنان الفواكه والأعناب ، إذ أصبحت جناتهم خمطًا وهو
الأراك.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله(
وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ) قال : أذهب تلك القرى والجنتين ،
وأبدلهم الذي أخبرك ذواتي أكل خمط ، قال : فالخمط : الأراك ، قال : جعل مكان العنب
أراكًا ، والفاكهة أثلا وشيئًا من سدر قليل.
واختلفت القراء في قراءة ذلك ، فقرأته عامة قراء الأمصار بتنوين " أكُلٍ
" غير أَبي عمرو ، فإنه يضيفها إلى الخمط بمعنى ذواتي ثمر خمط. وأما الذين لم
يضيفوا ذلك إلى الخمط وينونون الأكل ، فإنهم جعلوا الخمط هو الأكل ، فردوه عليه في
إعرابه. وبضم الألف والكاف من الأكل قرأت قراء الأمصار ، غير نافع ، فإنه كان يخفف
منها.
والصواب من القراءة في ذلك عندي قراءة من قرأه(ذَوَاتَيْ أُكُل) بضم الألف والكاف
لإجماع الحجة من القراء عليه ، وبتنوين أكل لاستفاضة القراءة بذلك في قراء الأمصار
، من غير أن أرى خطأ قراءة من قرأ ذلك بإضافته إلى الخمط ، وذلك في إضافته وترك
إضافته ، نظير قول العرب في بستان فلان أعنابُ كرمٍ وأعنابٌ كرم ، فتضيف أحيانًا
الأعناب إلى الكرم لأنها منه ، وتنون أحيانًا ، ثم تترجم بالكرم عنها ، إذ كانت
الأعناب ثمر الكرم.
وأما الأثل : فإنه يقال له : الطَّرفاء ، وقيل : شجر شبيه بالطرفاء غير أنه أعظم
منها ، وقيل : إنها السَّمُر.
*
(20/383)
ذكر من قال ذلك :
حدثني علي ، قال : ثنا صالح ، قال : ثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس(وَأَثْلٍ) قال
: الأثل : الطرفاء.
وقوله(وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ) يقول : ذواتي أكل خمط وأثل وشيء من سدر قليل.
وكان قتادة يقول في ذلك ما حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثني سعيد ، عن
قتادة( ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ ) قال : بينما
شجر القوم خير الشجر ، إذ صيره الله من شر الشجر بأعمالهم.
وقوله( ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا ) يقول تعالى ذكره : هذا الذي فعلنا
بهؤلاء القوم من سبأ من إرسالنا عليهم سيل العرم ، حتى هلكت أموالهم ، وخربت
جناتهم ، جزاءً منَّا على كفرهم بنا ، وتكذيبهم رسلنا ، و " ذَلِكَ " من
قوله(ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ) في موضع نصب بموقوع جزيناهم عليه ، ومعنى الكلام :
جزيناهم ذلك بما كفروا.
وقوله( وَهَلْ نُجَازِي إِلا الْكَفُورَ ) اختلفت القراء في قراءته ؛ فقرأته عامة
قراء المدينة والبصرة وبعض أهل الكوفة(وهل يُجازَى) بالياء وبفتح الزاي على وجه ما
لم يسمَّ فاعله(إلا الْكَفُورُ) رفعًا. وقرأ ذلك عامة قراء الكوفة(وهل نُجَازِي)
بالنون وبكسر الزاي(إلا الكَفُور) بالنصب.
والصواب من القول في ذلك أنهما قراءتان مشهورتان في قراء الأمصار ، متقاربتا
المعنى ، فبأيتهما قرأ القارىء فمصيب ، ومعنى الكلام : كذلك كافأناهم على كفرهم
بالله وهل يجازى إلا الكفور لنعمة الله.
فإن قال قائل : أوما يجزي الله أهل الإيمان به على أعمالهم الصالحة ، فيخص أهل
الكفر بالجزاء ؟ فيقال : وهل يجازى إلا الكفور ؟ قيل : إن المجازاة في هذا الموضع
المكافأة ، والله تعالى ذكره وعد أهل الإيمان به التفضل عليهم ،
(20/384)
وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آَمِنِينَ (18)
وأن يجعل لهم بالواحدة من أعمالهم الصالحة
عشر أمثالها إلى ما لا نهاية له من التضعيف ، ووعد المسيء من عباده أن يجعل
بالواحدة من سيئاته مثلها مكافأة له على جرمه ، والمكافأة لأهل الكبائر والكفر ،
والجزاء لأهل الإيمان مع التفضل ، فلذلك قال جل ثناؤه في هذا الموضع(وَهَلْ
يُجَازَى إِلا الْكَفُورُ) ؟ كأنه قال جل ثناؤه : لا يجازى : لا يكافأ على عمله
إلا الكفور ، إذا كانت المكافأة مثل المكافَأ عليه ، والله لا يغفر له من ذنوبه
شيئًا ، ولا يمحص شيء منها في الدنيا.
وأما المؤمن فإنه يتفضل عليه على ما وصفت.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن عمرو ، قال : ثنا أَبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال
: ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أَبي نجيح ، عن مجاهد(وَهَلْ
نُجَازِي) : نعاقب.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ
بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلا الْكَفُورَ ) إن الله تعالى إذا أراد بعبده
كرامة تقبل حسناته ، وإذا أراد بعبده هوانًا أمسك عليه ذنوبه حتى يُوَافَى به يوم
القيامة. قال : وذُكر لنا أن رجلا بينما هو في طريق من طريق المدينة ، إذ مرت به
امرأة ، فأتبعها بصره ، حتى أتى على حائط ، فشج وجهه ، فأتى نبي الله ووجهه يسيل
دمًا ، فقال : يا نبي الله فعلت كذا وكذا ، فقال له نبي الله : " إن الله إذا
أراد بعبد كرامة عجل له عقوبة ذنبه في الدنيا ، وإذا أراد الله بعبد هوانًا أمسك
عليه ذنبه حتى يُوافَى به يوم القيامة ، كأنه عَيرٌ أبتر " .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي
بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا
لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ (18) }
(20/385)
يقول تعالى ذكره مخبرًا عن نعمته التي
كان أنعمها على هؤلاء القوم الذين ظلموا أنفسهم : وجعلنا بين بلدهم وبين القرى
التى باركنا فيها وهي الشأم ، قرى ظاهرة.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أَبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال
: ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أَبى نجيح ، عن مجاهد قوله(
الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا ) قال : الشأم.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ
وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا ) يعني الشأم.
حدثني علي بن سهل قال : ثنا حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد( الْقُرَى الَّتِي
بَارَكْنَا فِيهَا ) قال : الشأم.
وقيل : عُنِي بالقرى التى بورك فيها بيت المقدس.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ،
عن ابن عباس( وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا
قُرًى ظَاهِرَةً ) قال : الأرض التي باركنا فيها : هي الأرض المقدسة.
وقوله(قُرًى ظَاهِرَةً) يعني : قرى متصلة ، وهي قرًى عرَبِيَّةٌ.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني يعقوب قال ثنا ابن علية ، عن أَبي رجاء ، قال : سمعت الحسن في قوله(
وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى
ظَاهِرَةً ) قال : قرًى
(20/386)
متواصلة ، قال : كان أحدهم يغدو فيقيل
في قرية ويروح فيأوي إلى قرية أخرى. قال : وكانت المرأة تضع زنبيلها على رأسها ،
ثم تمتهن بمغزلها ، فلا تأتى بيتها حتى يمتلىء من كل الثمار.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة(قُرًى ظَاهِرَةً) أي :
متواصلة.
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثنى أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثنى أبي ، عن أبيه ،
عن ابن عباس قوله(قُرًى ظَاهِرَةً) يعني : قرًى عربية بين المدينة والشام.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنى أَبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال
: ثنا الحسن ، قال : ثناء ورقاء جميعا ، عن ابن أَبي نجيح ، عن مجاهد قوله(قُرًى
ظَاهِرَةً) قال : السَّرَوَات.
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك
يقول في قوله(قُرًى ظَاهِرَةً) يعني : قرًى عربية وهي بين المدينة والشأم.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد ، في قوله( وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ
وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً ) قال : كان بين
قريتهم وقرى الشأم قرى ظاهرة ، قال : إن كانت المرأة لتخرج معها مغزلها ومكتلها
على رأسها ، تروح من قرية وتغدوها ، وتبيت في قرية لا تحمل زادًا ولا ماءً لما
بينها وبين الشأم.
وقوله(وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ) يقول تعالى ذكره : وجعلنا بين قراهم والقرى
التي باركنا فيها سيرًا مقدرًا من منزل إلى منزل وقرية إلى قرية ، لا ينزلون إلا
فى قرية ولا يغدون إلا من قرية.
وقوله(سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ) يقول : وقلنا لهم سيروا في
هذه
(20/387)
فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (19)
القرى ما بين قراكم والقرى التي باركنا
فيها لياليَ وأيَّامًا آمنين لا تخافون جوعًا ولا عطشًا ، ولا من أحد ظلمًا.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( سِيرُوا فِيهَا
لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ ) لا يخافون ظلمًا ولا جوعًا ، وإنما يغدون
فيقيلون ، ويروحون فيبيتون في قرية أهل جنة ونهر ، حتى لقد ذُكر لنا أن المرأة
كانت تضع مكتلها على رأسها ، وتمتهن بيدها ، فيمتلىء مكتلها من الثمر قبل أن ترجع
إلى أهلها من غير أن تخترف شيئًا ، وكان الرجل يسافر لا يحمل معه زادًا ولا سقاء
مما بُسِط للقوم.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله(وَأَيَّامًا
آمِنِينَ) قال : ليس فيها خوف.
القول في تأويل قوله تعالى : { فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا
وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ
مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (19) }
اختلف القراء في قراءة قوله : ( رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا ) فقرأته
عامة قراء المدينة والكوفة( رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا ) على وجه
الدعاء والمسألة بالألف. وقرأ ذلك بعض أهل مكة والبصرة(بَعِّدْ) بتشديد العين على
الدعاء أيضًا. وذكر عن المتقدمين أنه كان يقرؤه(رَبنَا بَاعَدَ بَيْنَ
أَسْفَارِنَا) على وجه الخبر من الله أن الله فعل بهم ذلك ، وحكي عن آخر أنه
قرأه(رَبَّنَا بَعَّدَ) على وجه الخبر أيضًا غير أن الرب منادى.
والصواب من القراءة في ذلك عندنا(رَبَّنَا بَاعِدْ) و(بَعِّدْ) لأنهما
(20/388)
القراءتان المعروفتان في قراءة الأمصار
، وما عداهما فغير معروف فيهم ، على أن التأويل من أهل التأويل أيضًا يحقق قراءة
من قرأه على وجه الدعاء والمسألة ، وذلك أيضًا مما يزيد القراءة الأخرى بعدًا من
الصواب.
فإذا كان هو الصواب من القراءة ، فتأويل الكلام : فقالوا : يا ربنا باعدْ بين
أسفارنا ؛ فاجعل بيننا وبين الشأم فلوات ومفاوز ، لنركب فيها الرواحل ، ونتزود
معنا فيها الأزواد ، وهذا من الدلالة على بطر القوم نعمة الله عليهم وإحسانه إليهم
، وجهلهم بمقدار العافية ، ولقد عجل لهم ربهم الإجابة ، كما عجل للقائلين( إِنْ
كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ
السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ) أعطاهم ما رغبوا إليه فيه وطلبوا من
المسألة.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني أَبو حصين عبد الله بن أحمد بن يونس ، قال ثنا عَبْثَر ، قال ثنا حصين عن
أَبي مالك في هذه الآية( فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا ) قال :
كانت لهم قرى متصلة باليمن ، كان بعضها ينظر إلى بعض ، فبطروا ذلك ، وقالوا : ربنا
باعد بين أسفارنا ، قال : فأرسل الله عليهم سيل العرم ، وجعل طعامهم أثلا وخمطًا
وشيئًا من سدر قليل.
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أَبي ، عن أبيه ،
عن ابن عباس قوله( فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا
أَنْفُسَهُمْ ) قال : فإنهم بطروا عيشهم ، وقالوا : لو كان جَنَى جناتنا أبعد مما
هي كان أجدر أن نشتهيه ، فمُزِّقوا بين الشأم وسبأ ، وبدلوا بجنتيهم جنتين ذواتي
أكل خمط ، وأثل وشيء من سدر قليل.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( فَقَالُوا رَبَّنَا
بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا ) بطر القوم نعمة الله وغمطوا كرامة الله ، قال الله(
وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ ) .
(20/389)
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ،
قال : قال ابن زيد ، في قوله( فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا )
حتى نبيت في الفلوات والصحاري(فَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ) .
وقوله(فَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ) وكان ظلمهم اياها عملَهم بما يسخط الله عليهم من
معاصيه مما يوجب لهم عقاب الله(فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ) يقول : صيرناهم أحاديث
للناس يضربون بهم المثل في السبِّ ، فيقال : تفرق القوم أيادي سَبَا ، وأيدي سبا
إذا تفرقوا وتقطعوا.
وقوله(وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ) يقول : وقطعناهم في البلاد كل مقطع.
كما حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( وَظَلَمُوا
أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ ) قال
قتادة : قال عامر الشعبي : أما غسان فقد لحقوا بالشأم ، وأما الأنصار فلحقوا بيثرب
، وأما خزاعة فلحقوا بتهامة ، وأما الأزد فلحقوا بعُمان.
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، قال : يزعمون أن عمران بن عامر
وهو عم القوم كان كاهنًا ، فرأى في كهانته أن قومه سيمزقون ويتباعدون ؛ فقال لهم :
إني قد علمت أنكم ستمزقون ، فمن كان منكم ذا هم بعيد وجمل شديد ومزاد جديد فليلحق
بكأس أو كرود ، قال : فكانت وادعة بن عمرو ، ومن كان منكم ذا هم مدنٍ وأمرد عن فليلحق
بأرض شنَّ فكانت عوف بن عمرو ، وهم الذين يقال لهم بارق ، ومن كان منكم يريد عيشًا
آينًا وحرمًا آمنًا فليلحق بالأرزين فكانت خزاعة ، ومن كان يريد الراسيات في الوحل
المطعمات في المحل فليلحق بيثرب ذات النخل فكانت الأوس والخزرج فهما هذان الحيان
من الأنصار ، ومن كان يريد خمرًا وخميرًا وذهبًا وحريرًا وملكًا وتأميرًا فليلحق
بكوسَى وبصرَى فكانت غسان بنو جفنة ملوك الشأم ومن كان منهم بالعراق ، قال ابن
إسحاق : قد سمعت بعض أهل العلم يقول : إنما قالت هذه المقالة طريفة امرأة عمران بن
عامر ، وكانت كاهنة ، فرأت في كهانتها ذلك ،
(20/390)
وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (20)
والله أعلم أي ذلك كان ، قال : فلما
تفرقوا ، نزلوا على كهانة عمران بن عامر.
وقوله( إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ ) يقول تعالى ذكره : إن
في تمزيقناهم كل ممزق لآيات ، يقول : لعظة وعبرة ودلالة على واجب حق الله على عبده
من الشكر على نعمه إذا أنعم عليه وحقه من الصبر على محنته إذا امتحنه ببلاء لكل
صبار شكور على نعمه.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( إِنَّ فِي ذَلِكَ
لآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ ) كان مطرف يقول : نعم العبد الصبارالشكور الذي
إذا أعطي شكر وإذا ابتلي صبر.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ
فَاتَّبَعُوهُ إِلا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (20) }
اختلفت القراء في قراءة قوله( وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ )
فقرأ ذلك عامة قراء الكوفيين(وَلَقَدْ صَدَّقَ) بتشديد الدال من صدق ، بمعنى أنه
قال ظنا منه( وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ ) وقال( فَبِعِزَّتِكَ
لأغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ ) ثم صدق ظنه
ذلك فيهم فحقق ذلك بهم ، وباتباعهم إياه. وقرأ ذلك عامة قراء المدينة والشأم
والبصرة(وَلَقَدْ صَدَقَ) بتخفيف الدال بمعنى : ولقد صدق عليهم ظنه.
والصواب من القول في ذلك عندي أنهما قراءتان معروفتان متقاربتا المعنى ، وذلك أن
إبليس قد صدق على كفرة بني آدم في ظنه ، وصدق عليهم ظنه الذي ظن حين قال : ( ثُمَّ
لآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ
وَعَنْ
(20/391)
وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآَخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (21) قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ (22)
شَمَائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ
أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ ) وحين قال(وَلأضِلَّنَّهُمْ وَلأمَنِّيَنَّهُمْ ...)
الآية ، قال ذلك عدو الله ظنًا منه أنه يفعل ذلك لا علمًا ، فصار ذلك حقًّا
باتباعهم إياه. فبأي القراءتين قرأ القارىء فمصيب. فإذا كان ذلك كذلك فتأويل
الكلام على قراءة من قرأ بتشديد الدال : ولقد ظن إبليس بهؤلاء الذين بدلناهم
بجنتيهم جنتين ذواتي أكل خمط عقوبة منَّا لهم ، ظنًّا غير يقين ، علم أنهم يتبعونه
ويطيعونه في معصية الله فصدق ظنه عليهم بإغوائه إياهم حتى أطاعوه وعصوا ربهم إلا
فريقًا من المؤمنين بالله فإنهم ثبتوا على طاعة الله ومعصية إبليس.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني أحمد بن يوسف قال : ثنا القاسم قال : ثنا حجاج عن هارون قالَ : أخبرني عمرو
بن مالك عن أَبي الجوزاء عن ابن عباس أنه قرأ( وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ
إِبْلِيسُ ظَنَّهُ ) مشددة ، وقال : ظن ظنًّا فصدَّق ظنه.
حدثنا ابن بشار قال : ثنا يحيى عن سفيان عن منصور عن مجاهد( وَلَقَدْ صَدَّقَ
عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ ) قال : ظن ظنًّا فاتبعوا ظنه.
قال : ثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة قوله( وَلَقَدْ
صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ ) قال الله : ما كان إلا ظنًّا ظنه ، والله
لا يصدق كاذبًا ولا يكذب صادقًا.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله( وَلَقَدْ
صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ ) قال : أرأيت هؤلاء الذين كَرَّمتهم عليَّ
وفضلتهم وشرفتهم لا تجد أكثرهم شاكرين ، وكان ذلك ظنًّا منه بغير علم ، فقال الله(
فَاتَّبَعُوهُ إِلا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ) .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلا
لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ
عَلَى كُلِّ شَيْءٍ
(20/392)
حَفِيظٌ (21) }
يقول تعالى ذكره : وما كان لإبليس على هؤلاء القوم الذين وصف صفتهم من حجة يضلهم بها
إلا بتسليطناه عليهم ؛ ليُعلم حزبُنا وأولياؤنا(مَنْ يُؤْمِنُ بِالآخِرَةِ) يقول :
من يصدق بالبعث والثواب والعقاب(مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ) فلا يوقن بالمعاد
، ولا يصدق بثواب ولا عقاب.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة قوله( وَمَا كَانَ لَهُ
عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطَانٍ ) قال : قال الحسن : والله ما ضربهم بعصا ولا سيف ولا
سوط ، إلا أمانيَّ وغرورًا دعاهم إليها.
قال : ثنا سعيد عن قتادة قوله( إِلا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالآخِرَةِ مِمَّنْ
هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ ) قال : وإنما كان بلاءً ليعلم الله المؤمن من الكافر.
وقيل : عُني بقوله( إِلا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالآخِرَةِ ) إلا لنعلم ذلك
موجودًا ظاهرًا ليستحق به الثواب أو العقاب.
وقوله( وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ ) يقول تعالى ذكره : وربك يا محمد
على أعمال هؤلاء الكفرة به ، وغير ذلك من الأشياء كلها(حَفِيظٌ) لا يعزب عنه علم
شيء منه ، وهو مجازٍ جميعهم يوم القيامة بما كسبوا في الدنيا من خير وشر.
القول في تأويل قوله تعالى : { قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ
لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأرْضِ وَمَا
لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ (22) }
(20/393)
يقول تعالى ذكره : فهذا فعلُنا بولينا
ومن أطاعنا ، داود وسليمان الذي فعلنا بهما من إنعامنا عليهما النعم التي لا كفاء
لها إذ شكرانا ، وذاك فعلنا بسبأ الذين فعلنا بهم ، إذ بطروا نعمتنا وكذبوا رسلنا
وكفروا أيادينا ، فقل يا محمد لهؤلاء المشركين بربهم من قومك الجاحدين نعمنا عندهم
: ادعوا أيها القوم الذين زعمتم أنهم لله شريك من دونه ، فسلوهم أن يفعلوا بكم بعض
أفعالنا بالذين وصفنا أمرهم من إنعام أو إياس ، فإن لم يقدروا على ذلك فاعلموا
أنكم مبطلون ؛ لأن الشركة في الربوبية لا تصلح ولا تجوز ، ثم وصف الذين يدعون من
دون الله فقال : إنهم لا يملكون مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض من خير ولا شر
ولا ضر ولا نفع ، فكيف يكون إلهًا من كان كذلك.
وقوله(وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ) يقول تعالى ذكره : ولا هم إذ لم يكونوا
يملكون مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض منفردين بملكه من دون الله يملكونه على
وجه الشركة ، لأن الأملاك في المملوكات لا تكون لمالكها إلا على أحد وجهين : إما
مقسومًا ، وإما مشاعًا ، يقول : وآلهتهم التي يدعون من دون الله لا يملكون وزن ذرة
في السماوات ولا في الأرض ، لا مشاعًا ولا مقسومًا ، فكيف يكون من كان هكذا شريكًا
لمن له ملك جميع ذلك.
وقوله(وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ) يقول : وما لله من الآلهة التي يدعون من
دونه معين على خلق شيء من ذلك ، ولا على حفظه ، إذ لم يكن لها ملك شيء منه مشاعًا
ولا مقسومًا ، فيقال : هو لك شريك من أجل أنه أعان وإن لم يكن له ملك شيء منه.
وبنحو الذي قلنا فى ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة قوله( قُلِ ادْعُوا
الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي
السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ ) يقول : ما
لله من شريك في السماء ولا في الأرض
(20/394)
(وَمَا لَهُ مِنْهُمْ) من الذين يدعون من دون الله(مِنْ ظَهِيرٍ) من عون بشيء.
(20/395)
وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (23)
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلا
تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ
عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ
الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (23) }
يقول تعالى ذكره : ولا تنفع شفاعة شافع كائنًا من كان الشافع لمن شفع له ، إلا أن
يشفع لمن أذن الله في الشفاعة ، يقول تعالى : فإذا كانت الشفاعات لا تنفع عند الله
أحدًا إلا لمن أذن الله في الشفاعة له ، والله لا يأذن لأحد من أوليائه في الشفاعة
لأحد من الكفرة به وأنتم أهل كفر به أيها المشركون ، فكيف تعبدون من تعبدونه من
دون الله زعمًا منكم أنكم تعبدونه ليقربكم إلى الله زلفى وليشفع لكم عند ربكم. فـ
" مَن " إذ كان هذا معنى الكلام التي في قوله(إِلا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ)
: المشفوع له.
واختلفت القراء في قراءة قوله(أُذِنَ لَهُ) فقرأ ذلك عامة القراء بضم الألف من(أُذِنَ
لَهُ) على وجه ما لم يسم فاعله ، وقرأه بعض الكوفيين(أَذِنَ لَهُ) على اختلاف
أيضًا عنه فيه ، بمعنى أذن الله له.
وقوله(حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ) يقول : حتى إذا جُلِىَ عن قلوبهم
وكشف عنها الفزع وذهب.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني علي قال : ثنا أَبو صالح قال : حدثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس
قوله(حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ) يعني : جُلِيَ.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أَبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ،
(20/395)
وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال
: ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أَبي نجيح ، عن مجاهد(حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ
قُلُوبِهِمْ) قال : كشف عنها الغطاء يوم القيامة.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة قال : إذا جلي عن قلوبهم.
واختلف أهل التأويل في الموصوفين بهذه الصفة من هم ؟ وما السبب الذي من أجله فزِّع
عن قلوبهم ؟ فقال بعضهم : الذي فزع عن قلوبهم الملائكة ، قالوا : وإنما يفزِّع عن
قلوبهم من غشية تصيبهم عند سماعهم الله بالوحي.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني يعقوب قال : ثنا ابن عُلية ، عن داود عن الشعبي قال : قال ابن مسعود في هذه الآية(حَتَّى
إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ) قال : إذا حدث أمر عند ذي العرش سمع مَن دونه من
الملائكة صوتًا كجر السلسلة على الصفا فيُغشى عليهم ، فإذا ذهب الفزع عن قلوبهم
تنادوا : (مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ) ؟ قال : فيقول : من شاء قال الحق وهو العلي
الكبير.
حدثنا ابن عبد الأعلى قال : ثنا المعتمر قال : سمعت داود ، عن عامر ، عن مسروق قال
: إذا حدث عند ذي العرش أمر سمعت الملائكة صوتًا كجر السلسلة على الصفا ، قال :
فيُغشى عليهم ، فإذا فزع عن قلوبهم قالوا : ماذا قال ربكم ؟ قال : فيقول من شاء
الله الحق وهو العلي الكبير.
حدثنا ابن المثنى قال : ثني عبد الأعلى قال : ثنا داود ، عن عامر ، عن ابن مسعود
أنه قال : إذا حدث أمر عند ذي العرش. ثم ذكر نحو معناه إلا أنه قال : فيُغشى عليهم
من الفزع ، حتى إذا ذهب ذلك عنهم تنادوا : ماذا قال ربكم ؟
حدثنا ابن حميد قال : ثنا جرير ، عن منصور ، عن إبراهيم ، عن عبد الله بن مسعود في
قوله(حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ) قال : إن الوحي إذا أُلقِي سمع أهل
السماوات صلصلة كصلصلة السلسلة على الصفوان ، قال : فيتنادون في
(20/396)
السماوات : ماذا قال ربكم ؟ قال :
فيتنادون الحق وهو العلي الكبير.
وبه عن منصور عن أَبي الضحى عن مسروق عن عبد الله ، مثله.
حدثنا ابن حميد قال : ثنا يعقوب عن جعفر عن سعيد ، قال : ينزل الأمر من عند رب
العزة إلى السماء الدنيا ؛ فيفزَع أهل السماء الدنيا ، حتى يستبين لهم الأمر الذي
نزل فيه ، فيقول بعضهم لبعض : ماذا قال ربكم ؟ فيقولون : قال الحق وهو العلي
الكبير ، فذلك قوله(حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ ...) الآية.
حدثنا أحمد بن عبدة الضَّبي قال : ثنا سفيان بن عيينة ، عن عمرو بن دينار عن عكرمة
قال : ثنا أَبو هريرة عن النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم قال : " إن
الله إذا قضى أمرًا في السماء ضربت الملائكة بأجنحتها جميعًا ، ولقوله صوت كصوت
السلسلة على الصفا الصفوان فذلك قوله( حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ
قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ )
.
حدثني يعقوب قال : ثنا ابن عُلية ، قال : ثنا أيوب عن هشام بن عروة قال : قال
الحارث بن هشام لرسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم : كيف يأتيك الوحي ؟ قال
: " يأتيني في صلصَلةٍ كصلصلة الجرس ، فَيَفصِمُ عني حين يَفْصِمُ وقد
وَعَيتُه ويأتي أحيَانًا في مِثْلِ صُورة الرجل ، فيكلِّمُني به كلامًا هو أهونُ
عليَّ " .
حدثني زكريا بن أبان المصري ، قال : ثنا نعيم قال : ثنا الوليد بن مسلم ، عن عبد
الرحمن بن يزيد بن جابر ، عن ابن أَبي زكريا ، عن جابر بن حَيْوَة ، عن النَّواس
بن سمعان قال : قال رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم : " إذا أراد الله
أن يُوحِيَ بالأمرِ تكلَّمَ بالوَحي ، أخذَتِ السماوات منه رَجفةٌ أو قال رِعْدَةٌ
شديدةٌ خوفَ أمرِ الله فإذا سمِعَ بذلك أهل السماوات صَعِقوا وخرُّوا لله سجَّدًا
فيكون أول من يرفع رأسَهُ جَبرائيل فيكلمُه الله من وحيه بما أراد ، ثم يمر
جبرائيل على الملائكة كلما مر بسماء سأله ملائكتها : ماذا قال ربنا يا جبرائيل ؟
فيقول
(20/397)
جبرائيل : قال الحقَّ وهو العلي الكبير
، قال : فيقولون كلهم مثل ما قال جبرائيل ، فينتهي جبرائيل بالوحي حيث أمره الله
" .
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ قال : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك
يقول في قوله(حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ ...) الآية ، قال : كان ابن
عباس يقول : إن الله لما أراد أن يوحي إلى محمد ، دعا جبريل ، فلما تكلم ربنا
بالوحي ، كان صوته كصوت الحديد على الصفا ، فلما سمع أهل السماوات صوت الحديد خروا
سُجَّدًا ، فلما أتى عليهم جبرائيل بالرسالة رفعوا رؤوسهم ، فقالوا : ( مَاذَا
قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ ) وهذا قول
الملائكة.
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ،
عن ابن عباس قوله(حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ ...) إلى(وَهُوَ
الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ) قال : لما أوحى الله تعالى ذكره إلى محمد صَلَّى الله
عَلَيْهِ وَسَلَّم دعا الرسول من الملائكة فبعث بالوحي ، سمعت الملائكة صوت الجبار
يتكلم بالوحي فلما كشف عن قلوبهم سألوا عما قال الله فقالوا الحق وعلموا أن الله
لا يقول إلا حقًّا وأنه منجز ما وعد ، قال ابن عباس : وصوت الوحي كصوت الحديد على
الصفا فلما سمعوه خروا سجدا ، فلما رفعوا رءوسهم( قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ
قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ ) ثم أمر الله نبيه أن يسأل الناس(قُلْ
مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاوَاتِ ...) إلى قوله(فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) .
حدثنا ابن بشار قال : ثنا أَبو عامر قال : ثنا قرة عن عبد الله بن القاسم في
قوله(حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ ...) الآية ، قال : الوحي ينزل من
السماء ، فإذا قضاه( قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ
الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ ) .
حدثنا ابن حميد قال : ثنا جرير عن مغيرة عن إبراهيم عن عبد الله في قوله(حَتَّى
إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ) قال : إن الوحي إذا قضى في زوايا السماء ، قال :
مثل وقع الفولاذ على الصخرة ، قال : فيشفقون لا يدرون ما حدث
(20/398)
فيفزعون ، فإذا مرت بهم الرسل( قَالُوا
مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ ) .
وقال آخرون ممن قال : الموصوفون بذلك الملائكة ، إنما يفزع عن قلوبهم فزعُهم من
قضاء الله الذي يقضيه حذرًا أن يكون ذلك قيام الساعة.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة قوله(حَتَّى إِذَا
فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ ...) الآية ، قال : يوحي
الله إلى جبرائيل فتفرَّق الملائكة ، أو تفزع مخافة أن يكون شيء من أمر الساعة ،
فإذا جُلِيَ عن قلوبهم وعلموا أنه ليس ذلك من أمر الساعة( قَالُوا مَاذَا قَالَ
رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ ).
وقال آخرون : بل ذلك من فعل ملائكة السماوات إذا مرت بها المعقِّبات فزعًا أن يكون
حدث أمر الساعة.
* ذكر من قال ذلك :
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك
يقول في قوله(حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ ...) الآية ، زعم ابن مسعود
أن الملائكة المعقبات الذين يختلفون إلى الأرض يكتبون أعمالهم ، إذا أرسلهم الرب
فانحدروا سمع لهم صوت شديد ، فيحسب الذين هم أسفل منهم من الملائكة أنه من أمر
الساعة ، فخروا سجدًا ، وهكذا كلما مروا عليهم يفعلون ذلك من خوف ربهم.
وقال آخرون : بل الموصوفون بذلك المشركون ، قالوا : وإنما يفزِّع الشيطان عن
قلوبهم ، قال : وإنما يقولون : ماذا قال ربكم عند نزول المنية بهم.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله(حَتَّى إِذَا
فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ) قال :
(20/399)
فزع الشيطان عن قلوبهم وفارقهم
وأمانيهم ، وما كان يضلهم( قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ
وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ ) قال : وهذا في بني آدم ، وهذا عند الموت أقروا به
حين لم ينفعهم الإقرار.
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب القول الذي ذكره الشعبي عن ابن مسعود لصحة الخبر
الذي ذكرناه عن ابن عباس عن رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم بتأييده. وإذ
كان ذلك كذلك ، فمعنى الكلام : لا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له أن يشفع عنده
، فإذا أذن الله لمن أذن له أن يشفع فزع لسماعه إذنه ، حتى إذا فزِّع عن قلوبهم
فجلِّيَ عنها ، وكشف الفزع عنهم قالوا : ماذا قال ربكم ؟ قالت الملائكة : الحق ،
(وَهُوَ الْعَلِيُّ) على كل شيء(الْكَبِيرُ) الذي لا شيء دونه. والعرب تستعمل
" فزِّع " في معنيين فتقول للشجاع الذي به تنزل الأمور التي يفزع منها :
هو مفزَّع ، وتقول للجبان الذي يفزَع من كل شيء : إنه لمفزَّع ، وكذلك تقول للرجل
الذي يقضي له الناس في الأمور بالغلبة على من نازله فيها : هو مغلِّب ، وإذا أريد
به هذا المعنى كان غالبًا ، وتقول للرجل أيضًا الذي هو مغلوب أبدًا : مغلَّب.
وقد اختلفت القراء في قراءة ذلك ؛ فقرأته عامة قراء الأمصار أجمعون(فُزِّعَ)
بالزاي والعين على التأويل الذي ذكرناه عن ابن مسعود ومن قال بقوله في ذلك ، وروي
عن الحسن أنه قرأ ذلك(حَتَّى إِذَا فُرِغَ عَنْ قُلُوبِهِمْ) بالراء والغين على
التأويل الذي ذكرناه عن ابن زيد. وقد يحتمل توجيه معنى قراءة الحسن ذلك كذلك ،
إلى(حَتَّى إِذَا فُرِغَ عَنْ قُلُوبِهِمْ) فصارت فارغة من الفزع الذي كان حل بها
، ذُكر عن مجاهد أنه قرأ ذلك(فُزِعَ) بمعنى : كشف الله الفزع عنها.
والصواب من القراءة في ذلك القراءة بالزاي والعين لإجماع الحجة من القراء وأهل
التأويل عليها ، ولصحة الخبر الذي ذكرناه عن رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ
وَسَلَّم بتأييدها ، والدلالة على صحتها.
(20/400)
قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (24)
القول في تأويل قوله تعالى : { قُلْ
مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ
إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (24) }
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم : قل يا محمد لهؤلاء
المشركين بربهم الأوثان والأصنام : من يرزقكم من السماوات والأرض بإنزاله الغيث
عليكم منها حياة لحروثكم ، وصلاحًا لمعايشكم ، وتسخيره الشمس والقمر والنجوم
لمنافعكم ، ومنافع أقواتكم ، والأرض بإخراجه منها أقواتكم وأقوات أنعامكم ، وترك
الخبر عن جواب القوم استغناء بدلالة الكلام عليه ، ثم ذكره ، وهو : فإن قالوا : لا
ندري ، فقل : الذي يرزقكم ذلك الله وإنَّا أو إياكم أيها القوم لعلى هدى أو في ضلال
مبين : يقول : قل لهم : إنا لعلى هدى أو في ضلال ، أو إنكم على ضلال أو هدى.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ
مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى
هُدًى أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ ) قال : قد قال ذلك أصحاب محمد للمشركين ، والله ما
أنا وأنتم على أمر واحد ، إن أحد الفريقين لمهتد.
وقد قال قوم : معنى ذلك : وإنا لعلى هدى وإنكم لفي ضلال مبين.
* ذكر من قال ذلك :
حثني إسحاق بن إبراهيم الشهيدي قال : ثنا عتاب بن بشير ، عن خصيف عن عكرمة وزياد
في قوله( وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ ) قال :
إنا لعلى هدى ، وإنكم لفي ضلال مبين.
(20/401)
واختلف أهل العربية في وجه دخول "
أو " في هذا الموضع ؛ فقال بعض نحويي البصرة : ليس ذلك لأنه شك ولكن هذا في
كلام العرب على أنه هو المهتدي ، قال : وقد يقول الرجل لعبده : أحدنا ضارب صاحبه.
ولا يكون فيه إشكال على السامع أن المولى هو الضارب.
وقال آخر منهم : معنى ذلك : إنا لعلى هدى ، وإنكم إياكم لفي ضلال مبين ، لأن العرب
تضع " أو " في موضع واو الموالاة ، قال جرير :
أثَعْلَبَةَ الفَوَارسِ أوْ رِياحا... عَدَلتَ بهم طُهَيَّةَ والخِشابا (1)
قال : يعني : ثعلبة ورياحا ، قال : وقد تكلم بهذا من لا يشك في دينه ، وقد علموا
أنهم على هدى ، وأولئك في ضلال ، فيقال : هذا وإن كان كلامًا واحدًا على جهة
الاستهزاء ، فقال : هذا لهم ، وقال :
فإن يَكُ حبُّهُمْ رُشْدًا أُصِبْهُ... ولسْتُ بِمُخْطِيءٍ إن كانَ غيَّا (2)
__________
(1) البيت لجرير. وهو من شواهد سيبويه (الكتاب 1 : 52 ، 489) وروايته في الموضع
الثاني " أو رياحا " . وفي الموضع الأول : " أم ريحا " . قال
: فأما إذا قلت أتضرب أو تحبس زيدا ، وهو بمنزلة أزيدا أو عمرا ضربت. قال الشاعر :
" أثعلبة ... البيت " . وإن قلت : أزيدا تضرب أو تقتل كان كقولك أتقتل
زيدا أو عمرا ضربت. قال : و " أم " في كل هذا : جيد. وإن قال : أتجلس أم
تذهب. فأم وأو فيه سواء.
والبيت : من شواهد أبي عبيدة في : (مجاز القرآن الورقة 99 - ب) قال في تفسير الآية
: (وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين) : لأن العرب تضع أو في موضع واو
الموالاة ، قال : أثعلبة الفوارس أو ... البيت. يعني ثعلبة ورياحا. وقال قد يتكلم
بهذا من يشك في دينه ، وقد علموا أنهم على هدى ، وأولئك على ضلال ، فقال هذا ، وإن
كان كلاما واحدا ، على وجه الاستهزاء يقال هذا له. وقال : إنْ يَكُنْ حُبُّهُمْ
رُشْدًا أُصِبْهُ ... وَلَسْتُ بِمُخْطِئٍ إنْ كانَ غَيًّا
قلت : وقد سمى ابن هشام في المعنى " أو " هذه : أو التي للإبهام.
(2) البيت لأبي الأسود الدؤلي ، قال صاحب الأغاني ترجمته : كان أَبو الأسود الدؤلي
نازلا في بني قشير ، وكانت بنو قشير عثمانية ، وكانت امرأته أمُّ عوف منهم ،
فكانوا يؤذونه ويسبونه وينالون من علي بن أبي طالب بحضرته ، ليغيظوه به ، ويرمونه
بالليل ، فقال في ذلك أبياتا يهجوهم ويمدح عليا وآل بيته. فقال له بنو قشير : شككت
يا أبا الأسود في صاحبك حيث تقول : (فإن يك حبهم رشدا أصبه) فقال : أما سمعتم قول
الله عز وجل : (وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين). أفترى الله جل وعز شكك
في نبيه. وقد روي أن معاوية قال هذه المقالة ، فأجابه بهذا الجواب. ا . هـ. وقال
الفراء في معاني القرآن (الورقتان 263 ، 264) في تفسير قوله تعالى : (وإنا أو
إياكم) ... الآية : قال المفسرون : معناه : وإنا لعلى هدى ، وأنتم في ضلال مبين.
معنى " أو " معنى الواو عندهم. كذلك هو المعنى. غير أن العربية على غير
ذلك. لا تكون " أو " بمنزلة الواو ، ولكنها تكون في الأمر المفوض (واو
الإباحة) كما تقول : إن شئت خذ درهما أو اثنين ، فله أن يأخذ واحدا أو اثنين ،
وليس له أن يأخذ ثلاثة ؛ في قول من لا يبصر بالعربية ، ويجعل أو بمنزلة الواو ،
ويجوز له أن يأخذ ثلاثة ، لأنه في قولهم بمنزلة قولك : خذ درهما واثنين.
فالمعنى في قوله : (إنا أو إياكم) إنا لضالون أو مهتدون ، وإنكم أيضا لضالون أو
مهتدون ، وهو يعلم أن رسوله المهتدي ، وأن غيره الضالون ... إلخ ما قاله.
(20/402)
قُلْ لَا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلَا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ (25) قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ (26)
وقال بعض نحويي الكوفة : معنى "
أو " ومعنى الواو في هذا الموضع في المعنى ، غير أن القرينة على غير ذلك ، لا
تكون " أو " بمنزلة الواو ولكنها تكون في الأمر المفوض ، كما تقول : إن
شئت فخذ دوهمًا أو اثنين ، فله أن يأخذ اثنين أو واحدًا ، وليس له أن يأخذ ثلاثة.
قال : وهو في قول من لا يبصر العربية ، ويجعل " أو " بمنزلة الواو ،
ويجوز له أن يأخذ ثلاثة ، لأنه في قولهم بمنزلة قولك : خذ درهمًا أو اثنين ، قال :
والمعنى في(إِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ) إنا لضالون أو مهتدون ، وإنكم أيضًا لضالون
وهو يعلم أن رسوله هو المهتدي وأن غيره الضال. قال : وأنت تقول في الكلام للرجل
يكذبك : والله إن أحدنا لكاذب ، وأنت تعنيه ، وكذبته تكذيبًا غير مكشوف ، وهو في
القرآن وكلام العرب كثير ، أن يوجه الكلام إلى أحسن مذاهبه إذا عرف ، كقول القائل
لمن قال : والله لقد قدم فلان ، وهو كاذب ، فيقول : قل : إن شاء الله ، أو قل :
فيما أظن ، فيكذبه بأحسن تصريح التكذيب. قال : ومن كلام العرب أن يقولوا : قاتله
الله ، ثم يستقبح فيقولون : قاتله الله ، وكاتعه الله. قال : ومن ذلك : ويحك وويسك
، إنما هي في معنى ويلك ، إلا أنها دونها. والصواب من القول في ذلك عندي أن ذلك
أمر من الله لنبيه بتكذيب من أمره بخطابه بهذا القول بأجمل التكذيب ، كما يقول
الرجل لصاحب يخاطبه ، وهو يريد تكذيبه في خبر له : أحدنا كاذب ، وقائل ذلك يعني
صاحبه لا نفسه ، فلهذا المعنى صير الكلام بـ " أو " .
القول في تأويل قوله تعالى : { قُلْ لا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلا
نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ (25) قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ
يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ (26) }
(20/403)
قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكَاءَ كَلَّا بَلْ هُوَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (27) وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (28)
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صَلَّى
الله عَلَيْهِ وَسَلَّم : قل لهؤلاء المشركين : أحد فريقينا على هدى والآخر على
ضلال ، لا تسألون أنتم عمَّا أجرمنا نحن من جرم ، ولا نسأل نحن عما تعملون أنتم من
عمل ، قل لهم : يجمع بيننا ربنا يوم القيامة عنده ثم يفتح بيننا بالحق. يقول : ثم
يقضي بيننا بالعدل ، فيتبين عند ذلك المهتدي منَّا من الضال(وَهُوَ الْفَتَّاحُ
الْعَلِيمُ) يقول : والله القاضي العليم بالقضاء بين خلقه ، لأنه لا تخفى عنه
خافيه ، ولا يحتاج إلى شهود تعرفه المحق من المبطل.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة قوله(قُلْ يَجْمَعُ
بَيْنَنَا رَبُّنَا) يوم القيامة(ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا) أي : يقضي بيننا.
حدثني علي قال : ثنا أَبو صالح قال : ثني معاوية عن علي عن ابن عباس قوله(وَهُوَ
الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ) يقول : القاضي.
القول في تأويل قوله تعالى : { قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ
شُرَكَاءَ كَلا بَلْ هُوَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (27) }
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم : قل يا محمد لهؤلاء
المشركين بالله الآلهة والأصنام : أروني أيها القوم الذين ألحقتموهم بالله
فصيرتموهم له شركاء في عبادتكم إياهم ماذا خلقوا من الأرض أم لهم شرك في
السماوات(كلا) يقول تعالى ذكره : كذبوا ليس الأمر كما وصفوا ، ولا كما جعلوا
وقالوا من أن لله شريكًا ، بل هو المعبود الذي لا شريك له ، ولا يصلح أن يكون له
شريك في ملكه ، العزيز في انتقامه ممن أشرك به من خلقه ، الحكيم في تدبيره خلقه.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا كَافَّةً لِلنَّاسِ
بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (28) }
يقول تعالى ذكره : وما أرسلناك يا محمد إلى هؤلاء المشركين بالله من قومك خاصة ،
ولكنا أرسلناك كافة للناس أجمعين ؛ العرب منهم والعجم ، والأحمر والأسود ، بشيرًا
من أطاعك ، ونذيرًا من كذبك( وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ ) أن
الله أرسلك كذلك إلى جميع البشر.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة قوله( وَمَا
أَرْسَلْنَاكَ إِلا كَافَّةً لِلنَّاسِ ) قال : أرسل الله محمدًا إلى العرب والعجم
، فأكرمُهُم على الله أطوعهم له.
ذُكر لنا نبي الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم قال : " أنَا سابِقُ العربِ
وصُهيبُ سابِقُ الرُّومِ وبِلالُ سابقُ الحبشةِ وسلْمَانُ سابقُ فارِسَ " .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ
(20/405)
وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (29) قُلْ لَكُمْ مِيعَادُ يَوْمٍ لَا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ سَاعَةً وَلَا تَسْتَقْدِمُونَ (30) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهَذَا الْقُرْآَنِ وَلَا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلَا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ (31)
إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (29) قُلْ
لَكُمْ مِيعَادُ يَوْمٍ لا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ سَاعَةً وَلا تَسْتَقْدِمُونَ
(30) }
يقول تعالى ذكره : ويقول هؤلاء المشركون بالله إذا سمعوا وعيد الله الكفار وما هو
فاعل بهم في معادهم مما أنزل الله في كتابه(مَتَى هَذَا الْوَعْدُ) جائيًا ، وفي
أي وقت هو كائن(إِنْ كُنْتُمْ) فيما تعدوننا من ذلك(صَادِقِينَ) أنه كائن ، قال
الله لنبيه : (قُلْ) لهم يا محمد(لَكُمْ) أيها القوم(مِيعَادُ يَوْمٍ) هو آتيكم(لا
تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ) إذا جاءكم(سَاعَةً) فتنظروا للتوبة والإنابة(وَلا
تَسْتَقْدِمُونَ) قبله بالعذاب لأن الله جعل لكم ذلك أجلا.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهَذَا
الْقُرْآنِ وَلا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ
مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ
يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلا أَنْتُمْ
لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ (31) }
يقول تعالى ذكره : (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا) من مشركي العرب(لَنْ نُؤْمِنَ
بِهَذَا الْقُرْآنِ) الذي جاءنا به محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم ولا
بالكتاب الذي جاء به غيره من بين يديه.
كما حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة قوله( لَنْ نُؤْمِنَ
بِهَذَا الْقُرْآنِ وَلا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ ) قال : قال المشركون : لن
نؤمن بهذا القرآن ولا بالذي بين يديه من الكتب والأنبياء.
وقوله( وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ) يتلاومون
، يحاور بعضهم بعضًا ؛ يقول المستضعفون ، كانوا في الدنيا ، للذين كانوا عليهم
فيها يستكبرون : لولا أنتم أيها الرؤساء والكبراء في الدنيا لكنا مؤمنين بالله
وآياته.
(20/406)
قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ (32) وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْدَادًا وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلَالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (33)
القول في تأويل قوله تعالى : { قَالَ
الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ
الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ (32) }
يقول تعالى ذكره : (قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا) في الدنيا ، فرأسوا في الضلالة
والكفر بالله(لِلَّذِينّ اسْتُضْعِفُوا) فيها فكانوا أتباعًا لأهل الضلالة منهم إذ
قالوا لهم(لَوْلا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ) : (أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ
الْهُدَى) ومنعناكم من اتباع الحق(بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ) من عند الله يبين
لكم(بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ) فمنعكم إيثاركم الكفر بالله على الإيمان من اتباع
الهدى ، والإيمان بالله ورسوله.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ
اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ
نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْدَادًا وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا
رَأَوُا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الأغْلالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ
يُجْزَوْنَ إِلا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (33) }
يقول تعالى ذكره : (وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا) من الكفرة بالله في الدنيا ،
فكانوا أتباعًا لرؤسائهم في الضلالة(لِلَّذِينّ اسْتَكْبَرُوا) فيها ، فكانوا لهم
رؤساء(بَلْ مَكْرُ) كم لنا بـ(اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ) صدنا عن الهدى( إِذْ
تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ ) أمثالا وأشباهًا في
العبادة والألوهة ، فأضيف إلى الليل والنهار. والمعنى ما ذكرنا من مكر المستكبرين
بالمستضعفين في الليل والنهار ، على اتساع العرب في الذي قد عُرِفَ معناها فيه من
منطقها ، من نقل صفة الشيء إلى غيره ، فتقول للرجل : يا فلان نهارك صائم وليلك
قائم ، وكما
(20/407)
قال الشاعر :
وَنِمْتِ ومَا لَيْلُ المَطِيِّ بنَائمِ (1)
وما أشبه ذلك مما قد مضى بيانا له في غير هذا الموضع من كتابنا هذا.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله( بَلْ مَكْرُ
اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ
لَهُ أَنْدَادًا ) يقول : بل مكركم بنا في الليل والنهار أيها العظماء الرؤساء حتى
أزلتمونا عن عبادة الله.
وقد ذُكر في تأويله عن سعيد بن جبير ما حدثنا أَبو كريب قال : ثنا ابن يمان عن
أشعث عن جعفر عن سعيد بن جبير( بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ ) قال : مرُّ
الليل والنهار.
وقوله( إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ ) يقول : حين تأمروننا أن
نكفر بالله.
وقوله(وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْدَادًا) يقول : شركاء.
كما حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة قوله
__________
(1) هذا عجز بيت لجرير بن عطية الخطفي الشاعر الإسلامي ، وصدره : لقد لمتنا يا أم
غيلان في السرى
(ديوانه طبعة الصاوي 554) واستشهد به المؤلف على أنك تقول يا فلان نهارك صائم
وليلك قائم ، فتسلم الصيام والقيام إلى الليل والنهار إسنادا مجازيا عقليا ،
والأصل فيه أن يسند الصيام والقيام للرجل لا للزمان ، وذلك من باب التوسع المجازي
، العلاقة هنا الزمانية ، والقرينة هنا عقلية. وذلك نظير قوله تعالى : (بل مكر
الليل والنهار). أصله : بل مكركم بنا في الليل والنهار ، ثم أسند الفعل إليهما.
قال الفراء في (معاني القرآن ، الورقة 274) : وقوله : (بل مكر الليل والنهار) :
المكر ليس لليل ولا النهار ، وإنما المعنى : بل مكركم بالليل والنهار. وقد يجوز أن
تضيف الفعل إلى الليل والنهار ، ويكونا كالفاعلين ؛ لأن العرب تقول : نهارك صائم ،
وليلك قائم ، ثم تضيف الفعل إلى الليل والنهار ، وهو المعنى للآدميين ، كما تقول :
نام ليلك. ا . هـ.
(20/408)
وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (34)
(وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْدَادًا) شركاء.
قوله( وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ ) يقول : وندموا على ما
فرطوا من طاعة الله في الدنيا حين عاينوا عذاب الله الذي أعده لهم.
كما حدثنا بشر ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة(وَأَسَرُّوا الندَامَةَ) بينهم( لَمَّا
رَأَوُا الْعَذَابَ ) .
قوله( وَجَعَلْنَا الأغْلالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا ) وغلت أيدي
الكافرين بالله في جهنم إلى أعناقهم في جوامع من نار جهنم ، جزاء بما كانوا بالله
في الدنيا يكفرون ، يقول جل ثناؤه : ما يفعل الله ذلك بهم إلا ثوابًا لأعمالهم
الخبيثة التي كانوا في الدنيا يعملونها ، ومكافأة لهم عليها.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلا
قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (34) }
يقول تعالى ذكره : وما بعثنا إلى أهل قرية نذيرًا ينذيرهم بأسنا أن ينزل بهم على
معصيتهم إيانا ، إلا قال كبراؤها ورؤساؤها في الضلالة كما قال قوم فرعون من
المشركين له : إنَّا بما أرسلتم به من النذارة ، وبعثتم به من توحيد الله ،
والبراءة من الآلهة والأنداد ، كافرون.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة قوله( وَمَا أَرْسَلْنَا
فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ
بِهِ كَافِرُونَ ) قال : هم رؤوسهم وقادتهم في الشر.
(20/409)
وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (35) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (36)
القول في تأويل قوله تعالى : {
وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالا وَأَوْلادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ
(35) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَلَكِنَّ
أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (36) }
يقول تعالى ذكره : وقال أهل الأستكبار على الله من كل قرية أرسلنا فيها نذيرًا
لأنبيائنا ورسلنا : نحن أكثر أموالا وأولادًا وما نحن في الآخرة بمعذبين لأن الله
لو لم يكن راضيًا ما نحن عليه من الملة والعمل لم يخولنا الأموال والأولاد ، ولم
يبسط لنا في الرزق ، وإنما أعطانا ما أعطانا من ذلك لرضاه أعمالنا ، وآثرنا بما
آثرنا على غيرنا لفضلنا ، وزلفة لنا عنده ، يقول الله لنبيه محمد صَلَّى الله
عَلَيْهِ وَسَلَّم : قل لهم يا محمد(إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ) من المعاش
والرياش في الدنيا(لِمَنْ يَشَاءُ) من خلقه(وَيَقْدِرُ) فيضيق على من يشاء لا
لمحبة فيمن يبسط له ذلك ولا خير فيه ولا زلفة له استحق بها منه ، ولا لبغض منه لمن
قدر عليه ذلك ولا مقت ، ولكنه يفعل ذلك محنة لعباده وابتلاء ، وأكثر الناس لا
يعلمون أن الله يفعل ذلك اختبارًا لعباده ولكنهم يظنون أن ذلك منه محبة لمن بسط له
ومقت لمن قدر عليه.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله( وَمَا
أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى ...)
الآية ، قال : قالوا : نحن أكثر أموالا وأولادًا ، فأخبرهم الله أنه ليست أموالكم
ولا أولادكم بالتي تقربكم عندنا زلفى(إِلا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا) ، قال :
وهذا قول المشركين لرسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم وأصحابه ، قالوا : لو
لم يكن الله عنا راضيًا لم يعطنا هذا ، كما قال قارون : لولا أن الله رضِيَ بي
وبحالي ما أعطاني
(20/410)
وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آَمِنُونَ (37)
هذا ، قال : (أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ
اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُون ...) إلى آخر الآية.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي
تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ
لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ (37) }
يقول جل ثناؤه : وما أموالكم التي تفتخرون بها أيها القوم على الناس ولا أولادكم
الذين تتكبرون بهم ، بالتي تقربكم منَّا قربة.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن عمرو ، قال : ثنا أَبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال
: ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أَبي نجيح ، عن مجاهد
قوله(عِنْدَنَا زُلْفَى) قال : قربى.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة قوله( وَمَا
أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى ) لا
يعتبر الناس بكثرة المال والولد ، وإن الكافر قد يعطى المال ، وربما حبس عن
المؤمن. وقال جل ثناؤه : ( وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي
تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى ) ولم يقل باللَّتين ، وقد ذكر الأموال والأولاد
، وهما نوعان مختلفان ، لأنه ذُكر من كل نوع منهما جمع يصلح فيه التي ، ولو قال
قائل : أراد بذلك أحد النوعين لم يبعد قوله ، وكان ذلك كقول الشاعر :
نحنُ بِمَا عِندَنا وأنتَ بما... عِندكَ رَاضٍ والرأيُ مختَلِفُ (1)
__________
(1) البيت لقيس بن الخطيم من قصيدة من المنسرح ، كما في معاهد التنصيص شرح شواهد
التلخيص. لعبد الرحيم العباسي وقد تقدم الكلام عليه في (10 : 122) مبسوطا. فراجعه
ثمة.
(20/411)
ولم يقل راضيان.
وقوله(إِلا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا) اختلف أهل التأويل في معنى ذلك ؛ فقال
بعضهم : معنى ذلك وما أموالكم ولا أولادكم بالتي تقربكم عندنا زلفى إلا من آمن
وعمل صالحًا فإنه تقربهم أموالهم وأولادهم بطاعتهم الله في ذلك وأدائهم فيه حقه
إلى الله زلفى دون أهل الكفر بالله.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قول الله(إِلا مَنْ
آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا) قال : لم تضرهم أموالهم ولا أولادهم في الدنيا للمؤمنين
، وقرأ(لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ) فالحسنى : الجنة ، والزيادة
: ما أعطاهم الله في الدنيا لم يحاسبهم به ، كما حاسب الآخرين ، فمن حمل على هذا
التأويل نصب بوقوع تقرب عليه ، وقد يحتمل أن يكون " من " في موضع رفع ،
فيكون كأنه قيل : وما هو إلا من آمن وعمل صالحًا.
وقوله(فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْف) يقول : فهؤلاء لهم من الله على
أعمالهم الصالحة الضعف من الثواب ، بالواحدة عشر.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله(فَأُولَئِكَ
لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا) قال : بأعمالهم الواحد عشر ، وفي سبيل
الله بالواحد سبعمائة.
وقوله(فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ) يقول : وهم في غرفات الجنات آمنون من عذاب الله.
(20/412)
وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آَيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ (38) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (39)
القول في تأويل قوله تعالى : {
وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ
مُحْضَرُونَ (38) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ
عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ
وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (39) }
يقول تعالى ذكره : والذين يعملون في آياتنا ، يعني : في حججنا وآي كتابنا ، يبتغون
إبطاله ويريدون إطفاء نوره معاونين ، يحسبون أنهم يفوتوننا بأنفسهم
ويعجزوننا(أُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ) يعني : في عذاب جهنم محضرون يوم
القيامة( قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ )
يقول تعالى ذكره : قل يا محمد إن ربي يبسط الرزق لمن يشاء من خلقه فيوسعه عليه
تكرمة له وغير تكرمة ، ويقدر على من يشاء منهم فيضيقه ويقتره إهانة له وغير إهانة
، بل محنة واختبارًا( وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ ) يقول :
وما أنفقتم أيها الناس من نفقة في طاعة الله ، فإن الله يخلفها عليكم.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن بشار قال : ثنا يحيى قال : ثنا سفيان عن المنهال بن عمرو ، عن سعيد بن
جبير( وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ ) قال : ما كان في غير
إسراف ولا تقتير.
وقوله(وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) يقول : وهو خير من قيل إنه يرزق ووصف به ،
وذلك أنه قد يوصف بذلك من دونه فيقال : فلان يرزق أهله وعياله.
(20/413)
وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ (40)
القول في تأويل قوله تعالى : { وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهَؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ (40) قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ
(20/413)
قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ (41) فَالْيَوْمَ لَا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (42)
وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ
كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ (41) }
يقول تعالى ذكره : ويوم نحشر هؤلاء الكفار بالله جميعًا ، ثم نقول للملائكة :
أهؤلاء كانوا يعبدونكم من دوننا ؟ فتتبرأ منهم الملائكة(قَالُوا سُبْحَانَكَ) ربنا
؛ تنزيهًا لك وتبرئة مما أضاف إليك هؤلاء من الشركاء والأنداد(أَنْتَ وَلِيُّنَا
مِنْ دُونِهِمْ) لا نتخذ وليًّا دونك(بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ).
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة قوله(وَيَوْمَ
نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهَؤُلاءِ إِيَّاكُمْ
كَانُوا يَعْبُدُونَ) استفهام كقوله لعيسى(أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي
وَأُمِّيَ إِلَهَينِ مِنْ دُونِ اللَّهِ).
وقوله(أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ) يقول : أكثرهم بالجن مصدقون ، يزعمون أنهم
بنات الله ، تعالى الله عمَّا يقولون علوًّا كبيرًا.
القول في تأويل قوله تعالى : { فَالْيَوْمَ لا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ
نَفْعًا وَلا ضَرًّا وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ
الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (42) }
يقول تعالى ذكره : فاليوم لا يملك بعضكم أيها الملائكة للذين كانوا في الدنيا
يعبدونكم نفعًا ينفعونكم به ، ولا ضرًّا ينالونكم به أو تنالونهم به(وَنَقُولُ
لِلَّذِينَ ظَلَمُوا) يقول : ونقول للذين عبدوا غير الله فوضعوا العبادة في غير
موضعها ، وجعلوها لغير من تنبغي أن تكون له(ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّتِي
كُنْتُمْ بِهَا) في الدنيا(تُكَذِّبُونَ) فقد وردتموها.
(20/414)
وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آَبَاؤُكُمْ وَقَالُوا مَا هَذَا إِلَّا إِفْكٌ مُفْتَرًى وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (43) وَمَا آَتَيْنَاهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ (44) وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَمَا بَلَغُوا مِعْشَارَ مَا آَتَيْنَاهُمْ فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (45)
القول في تأويل قوله تعالى : { وَإِذَا
تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلا رَجُلٌ يُرِيدُ
أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُكُمْ وَقَالُوا مَا هَذَا إِلا
إِفْكٌ مُفْتَرًى وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ إِنْ
هَذَا إِلا سِحْرٌ مُبِينٌ (43) }
يقول تعالى ذكره : وإذا تتلى على هؤلاء المشركين آيات كتابنا بيِّنات ، يقول :
واضحات أنهن حق من عندنا( قَالُوا مَا هَذَا إِلا رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ
عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُكُمْ ) يقول : قالوا عند ذلك : لا تتبعوا محمدًا ،
فما هو إلا رجل يريد أن يصدكم عما كان يعبد آباوكم من الأوثان ، ويغير دينكم ودين
آبائكم(وَقَالُوا مَا هَذَا إِلا إِفْكٌ مُفْتَرًى) يقول تعالى ذكره : وقال هؤلاء
المشركون : ما هذا الذي تتلو علينا يا محمد ، يعنون القرآن ، إلا إفك ، يقول : إلا
كذب مفترى : يقول : مختلق متخرص( وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا
جَاءَهُمْ إِنْ هَذَا إِلا سِحْرٌ مُبِينٌ ) يقول جل ثناؤه : وقال الكفار للحق ،
يعني محمدًا صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم ، لما جاءهم ، يعني : لما بعثه الله
نبيًّا : هذا سحر مبين ، يقول : ما هذا إلا سحر مبين ، يبين لمن رآه وتأمله أنه
سحر.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَمَا آتَيْنَاهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا
وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ (44) وَكَذَّبَ الَّذِينَ
مِنْ قَبْلِهِمْ وَمَا بَلَغُوا مِعْشَارَ مَا آتَيْنَاهُمْ فَكَذَّبُوا رُسُلِي
فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (45) }
يقول تعالى ذكره : وما أنزلنا على المشركين القائلين لمحمد صَلَّى الله عَلَيْهِ
وَسَلَّم لما جاءهم بآياتنا : هذا سحر مبين ، بما يقولون من ذلك كتبًا يدرسونها ،
يقول : يقرءونها.
(20/415)
كما حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال
: ثنا سعيد ، عن قتادة قوله(ومَا آتيْنَاهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا) أي :
يقرءونها(وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ) يقول : وما أرسلنا
إلى هؤلاء المشركين من قومك يا محمد فيما يقولون ويعملون قبلك من نبي ينذرهم بأسنا
عليه.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة(وَمَا أَرْسَلْنَا
إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ) ما أنزل الله على العرب كتابًا قبل القرآن ،
ولا بعث إليهم نبيًّا قبل محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم.
وقوله(وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) يقول : وكذب الذين من قبلهم من الأمم
رسلنا وتنزيلنا(وَمَا بَلَغُوا مِعْشَارَ مَا آتيْنَاهُمْ) يقول : ولم يبلغ قومك
يا محمد عشر ما أعطينا الذين من قبلهم من الأمم من القوة والأيدي والبطش ، وغير ذلك
من النعم.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني علي قال : ثنا أَبو صالح قال : ثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس
قوله(وَمَا بَلَغُوا مِعْشَارَ مَا آتيْنَاهُمْ) من القوة في الدنيا.
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ،
عن ابن عباس قوله(وَمَا بَلَغُوا مِعْشَارَ مَا آتيْنَاهُمْ) يقول : ما جاوزوا
معشار ما أنعمنا عليهم.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة قوله( وَكَذَّبَ
الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَمَا بَلَغُوا مِعْشَارَ مَا آتَيْنَاهُمْ ) يخبركم
أنه أعطى القوم ما لم يعطكم
(20/416)
قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ (46)
من القوة وغير ذلك.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله(وَمَا بَلَغُوا
مِعْشَارَ مَا آتيْنَاهُمْ) قال : ما بلغ هؤلاء ، أمة محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ
وَسَلَّم ، معشار ما آتينا الذين من قبلهم ، وما أعطيناهم من الدنيا ، وبسطنا عليهم(فَكَذَّبُوا
رُسُلِي فَكَيْفَ كَانَ نَكِير) يقول : فكذبوا رسلي فيما أتوهم به من رسالتي ،
فعاقبناهم بتغييرنا بهم ما كنا آتيناهم من النعم ، فانظر يا محمد كيف كان نكير ،
يقول : كيف كان تغييري بهم وعقوبتي.
القول في تأويل قوله تعالى : { قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ
تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ
جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ (46) }
يقول تعالى ذكره : قل يا محمد لهؤلاء المشركين من قومك : إنما أعظكم أيها القوم بواحدة
وهي طاعة الله.
كما حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أَبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ،
قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أَبي نجيح ، عن مجاهد
قوله(إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ) قال : بطاعة الله.
وقوله( أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ) يقول : وتلك الواحدة التي
أعظكم بها هي أن تقوموا لله اثنين اثنين ، (وفُرادَى) فرادى (1) فأن في موضع خفض
ترجمة عن الواحدة.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*
__________
(1) لعله : فردًا وفردًا : أي أن تقوموا اثنين اثنين ، وواحدا واحدا.
(20/417)
قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (47)
ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثني أَبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال
: ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أَبي نجيح ، عن مجاهد( أَنْ
تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ) قال : واحدًا واثنين.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة قوله( قُلْ إِنَّمَا
أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ) رجلا ورجلين.
وقيل : إنما قيل : إنما أعظكم بواحدة ، وتلك الواحدة أن تقوموا لله بالنصيحة وترك
الهوى.(مَثْنَى) يقول : يقوم الرجل منكم مع آخر قيتصادقان على المناظرة : هل علمتم
بمحمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم جنونًا قطُّ ؟ ثم ينفرد كل واحد منكم ،
فيتفكر ويعتبر فردًا هل كان ذلك به ؟ فتعلموا حينئذٍ أنه نذير لكم.
وقوله(ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ) يقول : لأنه ليس
بمجنون.
وقوله(إِنْ هُوَ إِلا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ) يقول : ما
محمد إلا نذير لكم ينذركم على كفركم بالله عقابه أمام عذاب جهنم قبل أن تصلوها ،
وقوله : هو كناية اسم محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم.
القول في تأويل قوله تعالى : { قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ
إِنْ أَجْرِيَ إِلا عَلَى اللَّهِ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (47) }
يقول تعالى ذكره : قل يا محمد لقومك المكذبيك ، الرادين عليك ما أتيتهم به من عند
ربك : ما أسألكم من جُعْلٍ على إنذاريكم عذاب الله ، وتخويفكم به بأسه ، ونصيحتي
لكم في أمري إياكم بالإيمان بالله ، والعمل بطاعته ، فهو لكم لا حاجة لي به. وإنما
معنى الكلام : قل لهم : إني لم أسألكم على ذلك
(20/418)
قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (48)
جعلا فتتهموني ، وتظنوا أني إنما
دعوتكم إلى اتباعي لمال آخذه منكم.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة قوله(قُلْ مَا
سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ) أي : جُعل(فَهُوَ لَكُمْ) يقول : لم أسألكم على الإسلام
جعلا.
وقوله( إِنْ أَجْرِيَ إِلا عَلَى اللَّهِ ) يقول : ما ثوابي على دعائكم إلى
الإيمان بالله والعمل بطاعته ، وتبليغكم رسالته ، إلا على الله(وَهُوَ عَلَى كُلِّ
شَيْءٍ شَهِيد) يقول : والله على حقيقة ما أقول لكم شهيد يشهد لي به ، وعلى غير
ذلك من الأشياء كلها.
القول في تأويل قوله تعالى : { قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلامُ
الْغُيُوبِ (48) }
(20/419)
قُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ (49)
القول في تأويل قوله تعالى : { قُلْ
جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ (49) }
يقول جل ثناؤه لنبيه محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم : (قُلْ) يا محمد لمشركي
قومك( إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ ) وهو الوحي ، يقول : ينزله من السماء ،
فيقذفه إلى نبيه محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم(عَلامُ الْغُيُوبِ) يقول :
علام ما يغيب عن الأبصار ، ولا مَظْهَر لها ، وما لم يكن مما هو كائن ، وذلك من
صفة الرب ، غير أنه رفع لمجيئه بعد الخبر ، وكذلك تفعل العرب إذا وقع النعت بعد الخبر
، في أن أتبعوا النعت إعراب ما في الخبر ، فقالوا : إن أباك يقوم الكريم ، فرفع
الكريم على ما وصفت ، والنصب فيه جائز ؛ لأنه نعت للأب ، فيتبع إعرابه(قُلْ جَاءَ
الْحَقُّ) يقول : قل لهم يا محمد : جاء القرآن ووحي الله( وَمَا يُبْدِئُ
الْبَاطِلُ ) يقول : وما ينشىء الباطل خلقًا ، والباطل هو فيما فسره أهل التأويل :
(20/419)
قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ (50)
إبليس(وَمَا يُعِيدُ) يقول : ولا يعيده
حيًّا بعد فنائه.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة قوله(إِنَّ رَبِّي
يَقْذِفُ بِالْحَقِّ) : أي بالوحي(عَلام الْغُيُوبِ * قُلْ جَاءَ الْحَقُّ) أي :
القرآن( وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ ) والباطل : إبليس ، أي : ما
يخلق إبليس أحدًا ولا يبعثه.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله( قُلْ إِنَّ
رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلامُ الْغُيُوبِ ) فقرأ( بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ
عَلَى الْبَاطِلِ ...) إلى قوله(وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ) قال : يزهق
الله الباطل ، ويثبت الله الحق الذي دمغ به الباطل ، يدمغ بالحق على الباطل ،
فيهلك الباطل ويثبت الحق ، فذلك قوله( قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ
عَلامُ الْغُيُوبِ ) .
القول في تأويل قوله تعالى : { قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى
نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ
قَرِيبٌ (50) }
يقول تعالى ذكره : قل يا محمد لقومك : إن ضللت عن الهدى فسلكت غير طريق الحق ،
إنما ضلالي عن الصواب على نفسي ، يقول : فإن ضلالي عن الهدى على نفسي ضره ،
(وَإِنِ اهْتَدَيْتُ) يقول : وإن استقمت على الحق(فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي)
يقول : فبوحي الله الذي يوحِي إلي ، وتوفيقه للاستقامة على محجة الحق وطريق الهدى.
وقوله(إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ) يقول : إن ربي سميع لما أقول لكم حافظ له ، وهو
المجازي لي على صدقي في ذلك ، وذلك مني غير بعيد ، فيتعذر عليه سماع
(20/420)
وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلَا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ (51)
ما أقول لكم ، وما تقولون ، وما يقوله
غيرنا ، ولكنه قريب من كل متكلم يسمع كل ما ينطق به ، أقرب إليه من حبل الوريد.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ وَأُخِذُوا
مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ (51) }
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم : ولو ترى يا محمد إذ
فزعوا.
واختلف أهل التأويل في المعنيين بهذه الآية ؛ فقال بعضهم : عُنِي بها هؤلاء
المشركون الذين وصفهم تعالى ذكره بقوله( وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا
بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلا رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كَانَ
يَعْبُدُ آبَاؤُكُمْ ) قال : وعُنِي بقوله( إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ وَأُخِذُوا
مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ ) عند نزول نقمة الله بهم في الدنيا.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ،
عن ابن عباس قوله(وَلَوْ تَرَى إِذْ فُزِعُوا فَلا فَوْتَ ...) الى آخر الآية ،
قال : هذا من عذاب الدنيا.
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك
يقول في قوله(وَأُخِذُوا مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ) قال : هذا عذاب الدنيا.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله(وَلَوْ تَرَى
إِذْ فُزِعُوا فَلا فَوْتَ ...) إلى آخر السورة ، قال : هؤلاء قتلى المشركين من
أهل بدر ، نزلت فيهم هذه الآية ، قال : وهم الذين بدلوا نعمة الله كفرًا وأحلوا
قومهم دار البوار جهنم ، أهل بدر من المشركين.
(20/421)
وقال آخرون : عنى بذلك جيش يخسف بهم
ببيداء من الأرض.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد قال : ثنا يعقوب عن جعفر عن سعيد في قوله( وَلَوْ تَرَى إِذْ
فَزِعُوا فَلا فَوْتَ ) قال : هم الجيش الذي يخسف بهم بالبيداء ، يبقى منهم رجل
يخبر الناس بما لقي أصحابه.
حدثنا عصام بن روَّاد بن الجراح قال : ثنا أَبي قال : ثنا سفيان بن سعيد قال : ثني
منصور بن المعتمرِ عن رِبْعيِّ بن حِراش قال : سمعت حذيفة بن اليمان يقول : قال
رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم ، وذكر فتنة تكون بين أهل المشرق والمغرب
، قال : فبينما هم كذلك إذ خرج عليهم السفياني من الوادي اليابس في فورة ذلك ، حتى
ينزل دمشق ، فيبعث جيشين ؛ جيشًا إلى المشرق ، وجيشًا إلى المدينة ، حتى ينزلوا
بأرض بابل في المدينة الملعونة والبقعة الخبيثة ، فيقتلون أكثر من ثلاثة آلاف ،
ويبقرون بها أكثر من مائة امرأة ، ويقتلون بها ثلاثمائة كبش من بني العباس ، ثم
ينحدرون إلى الكوفة فيخربون ما حولها ، ثم يخرجون متوجهين إلى الشأم ، فتخرج راية
هذا من الكوفة ، فتلحق ذلك الجيش منها على الفئتين ، فيقتلونهم لا يفلت منهم مخبر
، ويستنقذون ما في أيديهم من السبي والغنائم ، ويخلي جيشه التالي بالمدينة ،
فينهبونها ثلاثة أيام ولياليها ، ثم يخرجون متوجهين إلى مكة ، حتى إذا كانوا
بالبيداء ، بعث الله جبريل ، فيقول : يا جبرائيل اذهب فأبدهم ، فيضربها برجله ضربة
يخسف الله بهم ، فذلك قوله في سورة سبأ(وَلَوْ تَرَى إِذْ فُزِعُوا فَلا فَوْتَ
...) الآية ، ولا ينفلت منهم إلا رجلان ؛ أحدهما بشير والآخر نذير ، وهما من جهينة
، فلذلك جاء القول :
... ... ... ... ... ...... وَعِنْدَ جُهَينَةَ الْخَبَرُ اليَقِينُ (1)
__________
(1) هذا عجز بيت من الوافر. وصدره : تُسَائل عن حُصْينٍ كلَّ ركْبٍ
(مجمع الأمثال الميداني 1 : 34) والشطر الثاني من الأمثال الثائرة. وله قصة مطولة
ذكرها الميداني خلاصتها : أن حصين بن عمرو بن معاوية بن كلاب والأخنس بن شريق
الجهني خرج لما يخرج له الفتيان الصعاليك ؛ ليغيرا ويكسبا ويغنما ، فلما غنما بعض
الشيء عدا الجهني على صاحبه فقتله ، ثم رجع إلى قومه جهينة ، وأخبرهم بالذي صنع
بصاحبه ، وقال أبياتًا من الشعر تتضمن القصة - ويلوح لي أن هذه القصة موضوعة -
ولهذا يروى المثل : " وعند جهينة الخبر اليقين " كما في (الاقتضاب شرح
أدب الكتاب) لابن السيد البطليوسي. وأما استشهاد المؤلف به في قصة السفياني ، فيدل
على أن جهينة كانت قبيلة مشهورة بتتبع أخبار العرب ومعرفة الأحداث ؛ حتى كان عندها
علم كل شيء. ولكثرة ذلك فيها نسب إليها العلم بما يقع من الأحداث المستقبلة.
(20/422)
حدثنا محمد بن خلف العسقلاني قال :
سألت رواد بن الجراح ، عن الحديث الذي حدث به عنه ، عن سفيان الثوري ، عن منصور ،
عن ربعى عن حذيفة ، عن النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم ، عن قصة ذكرها في الفتن
، قال : فقلت له : أخبرني عن هذا الحديث سمعته من سفيان الثوري ؟ قال : لا قلت :
فقرأته عليه ؟ قال : لا قلت : فقريء عليه وأنت حاضر ؟ قال : لا قلت : فما قصته فما
خبره ؟ قال : جاءني قوم فقالوا : معنا حديث عجيب ، أو كلام هذا معناه ، نقرؤه
وتسمعه ، قلت لهم : هاتوه ، فقرءوه عليَّ ، ثم ذهبوا فحدثوا به عني ، أو كلام هذا
معناه.
قال أَبو جعفر : وقد حدثني ببعض هذا الحديث محمد بن خلف ، قال : ثنا عبد العزيز بن
أبان ، عن سفيان الثوري ، عن منصور عن ربعى عن حذيفة عن النبي صَلَّى الله
عَلَيْهِ وَسَلَّم ، حديثا طويلا قال : رأيته في كتاب الحسين بن علي الصدائي ، عن
شيخ عن رواد عن سفيان بطوله.
وقال آخرون : بل عنى بذلك المشركون إذا فزعوا عند خروجهم من قبورهم.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة عن الحسن قوله
(20/423)
وَقَالُوا آَمَنَّا بِهِ وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ (52)
(وَلَوْ تَرَى إِذْ فُزِعُوا) قال :
فزعوا يوم القيامة حين خرجوا من قبورهم.
وقال قتادة : ( وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكَانٍ
قَرِيبٍ ) حين عاينوا عذاب الله.
حدثنا ابن حميد قال : ثنا جرير عن عطاء عن ابن معقل( وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا
فَلا فَوْتَ ) قال : أفزعهم يوم القيامة فلم يفوتوا.
والذي هو أولى بالصواب في تأويل ذلك ، وأشبه بما دل عليه ظاهر التنزيل قول من قال
: وعيد الله المشركين الذين كذبوا رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم من
قومه ، لأن الآيات قبل هذه الآية جاءت بالإخبار عنهم وعن أسبابهم ، وبوعيد الله
إياهم مغبته ، وهذه الآية في سياق تلك الآيات ، فلأن يكون ذلك خبرًا عن حالهم أشبه
منه بأن يكون خبرًا لما لم يجر له ذكر. وإذا كان ذلك كذلك ، فتأويل الكلام : ولو
ترى يا محمد هؤلاء المشركين من قومك ، فتعاينهم حين فزعوا من معاينتهم عذاب
الله(فَلا فَوتَ) يقول : فلا سبيل حينئذٍ أن يفوتوا بأنفسهم ، أو يعجزونا هربًا ،
وينجوا من عذابنا.
كما حدثني علي قال : ثنا أَبو صالح قال : ثني معاوية عن علي عن ابن عباس قوله(
وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ ) يقول : فلا نجاة.
حدثنا عمرو بن عبد الحميد قال : ثنا مروان عن جويبر عن الضحاك في قوله ( وَلَوْ
تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ ) قال : لا هرب.
وقوله(وَأُخِذُوا مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ) يقول : وأخذهم الله بعذابه من موضع قريب ،
لأنهم حيث كانوا من الله قريب لا يبعدون عنه.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَقَالُوا آمَنَّا بِهِ وَأَنَّى لَهُمُ
التَّنَاوُشُ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ (52) }
يقول تعالى ذكره : وقال هؤلاء المشركون حين عاينوا عذاب الله : آمنَّا
(20/424)
به ، يعني : آمنَّا بالله وبكتابه
ورسوله.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أَبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال
: ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أَبي نجيح ، عن مجاهد قوله(وَقَالُوا
آمَنَّا بِهِ) قالوا : آمنَّا بالله.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة(وَقَالُوا آمَنَّا بِهِ)
عند ذلك ، يعني : حين عاينوا عذاب الله.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله(وَقَالُوا
آمَنَّا بِهِ) بعد القتل ، وقوله(وأنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ) يقول : ومن أي وجه
لهم التناوش.
واختلفت قراء الأمصار في ذلك ؛ فقرأته عامة قراء المدينة(التَّنَاوُشُ) بغير همز ،
بمعنى : التناول ، وقرأته عامة قراء الكوفة والبصرة : (التَّنَاؤُشُ) بالهمز ،
بمعنى : التنؤُّش ، وهو الإبطاء ، يقال منه : تناءشت الشيء : أخذته من بعيد ،
ونشته : أخذته من قريب ، ومن التنؤش قول الشاعر :
تَمَنَّى نَئِيشًا أنْ يَكونَ أطَاعَني... وقدْ حَدَثَتْ بَعْدَ الأمُورِ أمُورُ
(1)
__________
(1) الأبيات لنهشل بن حري ، أنشدها اللسان في (نأش) المهموز على أنه يقال : جاء
نئيشًا : أي بطيئا. أنشد يعقوب لنهشل بن حري : وَمَوْلًى عَصَانِي وَاسْتَبَدَّ
بِرَأْيِهِ ... كمَا لَمْ يُطَعْ فِيما أشارَ قَصِيرُ
فَلَمَّا رَأى ما غِبُّ أمرِي وَأمْرِهِ ... وَناءَتْ بأعْجازِ الأمُورِ صُدُورُ
تَمنَّى نَئِيشا أنْ يَكُونَ أطاعنِي ... وَيحدُثَ مِنْ بَعْدِ الأُمُورِ أمُور
قوله ، تمنى نئيشا : أي في الأخير ، وبعد الفوت أن لو أطاعني وقد حدثت أمور لا
يستدرك بها ما فات. أي أطاعني في وقت لا تنفعه فيه الطاعة. قال : ويقال فعله نئيشا
: أي أخيرا ، واتبعه نئيشا : إذا تأخر عنه ثم اتبعه على عجلة ، شفقة أن يفوته.
والنئيش أيضا : البعيد عن ثعلب وقال الفراء في معاني القرآن (مصورة الجامعة ،
الورقة 265) وقوله : (وأنى لهم التناوش) ؟ قرأ الأعمش وحمزة والكسائي بالهمز ،
يجعلونه من الشيء البطيء من نأشت من النأش. قال الشاعر : وجئت نئيشا بعدما فاتك
الخير
وقال الآخر : تمنى شيئا ... إلخ البيت. وقد ترك همزها أهل الحجاز وغيرهم ، جعلوها
من نشته نوشا ، وهو التناول ، وهما متقاربان مثل ذمت الشيء وذأمته أي عبته.
وقال الشاعر : " فهي تنوش الحوض ... إلخ " وتناوش القوم في القتال : إذا
تناول بعضهم بعضا ولم يتدانوا كل التداني. وقد يجوز همزها ، وهي من نشت لانضمام
الواو ، يعني التناوش ، مثل قوله : (وإذا الرسل أقتت).
(20/425)
ومن النوش قول الراجز :
فَهيَ تَنُوشُ الحَوضَ نَوشًا مِن عَلا... نَوشًا بِهِ تَقْطَعُ أجْوَازَ الفَلا
(1)
ويقال للقوم في الحرب ، إذا دنا بعضهم إلى الرماح ولم يتلاقوا : قد تناوش القوم.
والصواب من القول في ذلك عندي أن يقال : إنهما قراءتان معروفتان في قراء الأمصار ،
متقاربتا المعنى ، وذلك أن معنى ذلك : وقالوا آمنا بالله ، في حين لا ينفعهم قيل
ذلك ، فقال الله(وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ) أي : وأين لهم التوبة والرجعة ، أي
: قد بعدت عنهم ، فصاروا منها كموضع بعيد أن يتناولوها ، وإنما
__________
(1) هذان البيتان من الرجز المشطور لأبي النجم الراجز (اللسان : علا). شاهد على أن
قوله " من علا " أي من أعلى ، أي من فوق. وفيه لغات أخر. وأورده
(اللسان) أيضا في (نوش) ونسبه إلى غيلان بن حريث ، لا إلى أَبي النجم. وجعله شاهدا
على أن الناقة تنوش الحوض بفيها ، أي تتناول ماءه قال : وقوله " من علا
" أي من فوق ، يريد أنها نوقه عالية الأجسام طوال الأعناق وذلك النوش الذي
تناوله : هو الذي يعيننا على قطع الفلوات. والأجواز : جمع جوز ، وهو الوسط. أي
تتناول ماء الحوض من فوق ، وتشرب شربا كثيرا. وتقطع بذلك الشرب فلوات ، فلا تحتاج
إلى ماء آخر. وأنشده أبو عبيدة في مجاز القرآن (الورقة 200) ونسبه لغيلان ، وجعله
شاهدا على أن التناوش في الآية (وأنى لهم التناوش) يجعله من لم يهمز من نشت تنوش.
هو التناول. قال غيلان : " فهي تنوش ... " البيتين. ومن همز جعله من
نأشت إليه ، وهو من بعد المطلب. وقال في (اللسان : نأش) التناؤش بالهمز : التأخر
والتباعد. والتناوش : الأخذ من بعد ، مهموز عن ثعلب ، قال : فإن كان عن قرب فهو
التناؤش. ا . هـ. قلت : وروايتا اللسان متفقتان مع رواية أبي عبيدة. وتختلف عنها
رواية المؤلف في قوله " باتت " في موضع " فهي " .
(20/426)
وصفت ذلك الموضع بالبعيد ، لأنهم قالوا
: ذلك في القيامة فقال الله : أنى لهم بالتوبة المقبولة ، والتوبة المقبولة إنما
كانت في الدنيا ، وقد ذهبت الدنيا فصارت بعيدًا من الآخرة ، فبأي القراءتين اللتين
ذكرت قرأ القارىء فمصيب الصواب في ذلك.
وقد يجوز أن يكون الذين قرءوا ذلك بالهمز همزوا وهم يريدون معنى من لم يهمز ،
ولكنهم همزوه لانضمام الواو فقلبوها ، كما قيل : (وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ)
فجعلت الواو من وقتت إذا كانت مضمومة همزوه.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا أَبو كريب قال : ثنا ابن عطية قال : ثنا إسرائيل عن أَبي إسحاق عن التميمي
قال : قلت لابن عباس : أرأيت قول الله(وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ) قال : يسألون
الرد وليس بحين رد.
حدثنا ابن حميد قال : ثنا حكام عن عنبسة عن أَبي إسحاق عن التميمي عن ابن عباس
نحوه.
حدثني علي ، قال : ثنا أَبو صالح قال : ثني معاوية عن علي عن ابن عباس
قوله(وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ) يقول : فكيف لهم بالرد.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أَبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال
: ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أَبي نجيح ، عن مجاهد(وَأَنَّى
لَهُمُ التَّنَاوُشُ) قال : الرد.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد(وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ) قال :
التناوب(مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ) .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله( وَقَالُوا
آمَنَّا بِهِ وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ ) قال : هؤلاء
قتلى أهل
(20/427)
وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ (53)
بدر من قتل منهم ، وقرأ( وَلَوْ تَرَى
إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ وَقَالُوا آمَنَّا
بِهِ ...) الآية ، قال : التناوش : التناول ، وأنى لهم تناول التوبة من مكان بعيد
وقد تركوها في الدنيا ، قال : وهذا بعد الموت في الآخرة.
قال : وقال ابن زيد في قوله(وَقَالُوا آمَنَّا بِهِ) بعد القتل(وَأَنَّى لَهُمُ
التَّنَاوُشُ مِنْ مِكَانٍ بَعِيدٍ) وقرأ(وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ
كُفَّارٌ) قال : ليس لهم توبة ، وقال : عرض الله عليهم أن يتوبوا مرة واحدة ،
فيقبلها الله منهم ، فأبوا ، أو يعرضون التوبة بعد الموت ، قال : فهم يعرضونها في
الآخرة خمس عرضات ، فيأبى الله أن يقبلها منهم ، قال : والتائب عند الموت ليست له
توبة( وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ
وَلا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا ...) الآية ، وقرأ ( رَبَّنَا أَبْصَرْنَا
وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ ).
حدثنا عمرو بن عبد الحميد قال : ثنا مروان عن جويبر عن الضحاك فى قول(وَأَنَّى
لَهُمُ التَّنَاوُشُ) قال : وأنَّى لهم الرجعة.
وقوله(مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ) يقول : من آخرتهم إلى الدنيا.
كما حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أَبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ،
قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أَبي نجيح ، عن مجاهد قوله(مِنْ
مَكَانٍ بَعِيدٍ) من الآخرة إلى الدنيا.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ وَيَقْذِفُونَ
بِالْغَيْبِ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ (53) }
يقول تعالى ذكره : (وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ) يقول : وقد كفروا بما يسألونه ربهم عند
نزول العذاب بهم ، ومعاينتهم إياه من الإقالة له ، وذلك الإيمان بالله وبمحمد
صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم وبما جاءهم به من عند الله.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*
(20/428)
وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِمْ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ (54)
ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة(وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ
مِنْ قَبْلُ) : أي بالإيمان في الدنيا.
وقوله( وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ ) يقول : وهم اليوم يقذفون
بالغيب محمدًا من مكان بعيد ، يعني أنهم يرجمونه ، وما أتاهم من كتاب الله بالظنون
والأوهام ، فيقول بعضهم : هو ساحر ، وبعضهم شاعر ، وغير ذلك.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أَبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال
: ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أَبي نجيح ، عن مجاهد في قوله(
وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ ) قال : قولهم ساحر بل هو كاهن بل
هو شاعر.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة(وَيَقْذِفُونَ
بِالْغَيْبِ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ) أي : يرجمون بالظن ، يقولون : لا بعث ولا جنة
ولا نار.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله(وَيَقْذِفُونَ
بِالْغَيْبِ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ) قال : بالقرآن.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا
فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِمْ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ (54) }
(20/429)
يقول تعالى ذكره : وحيل بين هؤلاء
المشركين حين فزعوا فلا فوت وأخذوا من مكان قريب ، فقالوا : آمنَّا به(وَبَيْنَ
مَا يَشْتَهُونَ) حينئذٍ من الإيمان بما كانوا به في الدنيا قبل ذلك يكفرون ، ولا
سبيل لهم إليه.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني إسماعيل بن حفص الأبلي قال : ثنا المعتمر عن أَبي الأشهب عن الحسن في
قوله(وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ) قال : حيل بينهم وبين الإيمان
بالله.
حدثنا ابن بشار قال : ثنا مؤمل قال : ثنا سفيان عن عبد الصمد قال : سمعت الحسن ، وسئل
عن هذه الآية(وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ) قال : حيل بينهم وبين
الإيمان.
حدثني ابن أَبي زياد قال : ثنا يزيد قال : ثنا أَبو الأشهب عن الحسن(وَحِيلَ
بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ) قال : حيل بينهم وبين الإيمان.
حدثنا أحمد بن عبد الصمد الأنصاري قال : ثنا أَبو أسامة عن شبل عن ابن أَبي نجيح
عن مجاهد(وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ) قال : من الرجوع إلى
الدنيا ليتوبوا.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة(وَحِيلَ بَيْنَهُمْ
وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ) كان القوم يشتهون طاعة الله أن يكونوا عملوا بها في
الدنيا حين عاينوا ما عاينوا.
حدثنا الحسن بن واضح قال : ثنا الحسن بن حبيب قال : ثنا أَبو الأشهب عن الحسن في
قوله(وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ) قال : حيل بينهم وبين الإيمان.
وقال آخرون : معنى ذلك وحيل بينهم وبين ما يشتهون من مال وولد
(20/430)
وزهرة الدنيا.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أَبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، قال : ثني الحارث ،
قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أَبي نجيح ، عن مجاهد ، في قول
الله(وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ) قال : من مال أو ولد أو زهرة.
حدثني يونس ، قال : قال أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله(وَحِيلَ
بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ) قال : في الدنيا التي كانوا فيها والحياة.
وإنما اخترنا القول الذي اخترناه في ذلك ؛ لأن القوم إنما تمنوا حين عاينوا من
عذاب الله ما عاينوا ، ما أخبر الله عنهم أنهم تمنوه ، وقالوا آمنا به فقال الله :
وأنى لهم تناوش ذلك من مكان بعيد ، وقد كفروا من قبل ذلك في الدنيا. فإذا كان ذلك
كذلك فلأن يكون قوله(وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ) خبرًا عن أنه
لا سبيل لهم إلى ما تمنوه أولى من أن يكون خبرًا عن غيره.
وقوله( كما فعل باشياعهم من قبل ) يقول : فعلنا بهؤلاء المشركين ؛ فحلنا بينهم
وبين ما يشتهون من الإيمان بالله عند نزول سخط الله بهم ، ومعاينتهم بأسه ، كما
فعلنا بأشياعهم على كفرهم بالله من قبلهم من كفار الأمم ؛ فلم نقبل منهم إيمانهم
في ذلك الوقت ، كما لم نقبل في مثل ذلك الوقت من ضربائهم.
والأشياع : جمع شِيعَ ، وشِيعَ : جمع شيعة ؛ فأشياع جمع الجمع.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أَبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال
: ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أَبي نجيح
(20/431)
( كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِمْ مِنْ
قَبْلُ ) قال : الكفار من قبلهم.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِمْ
مِنْ قَبْلُ ) أي : في الدنيا ، كانوا إذا عاينوا العذاب لم يقبل منهم إيمان.
وقوله(إِنَّهُمْ كَانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ) يقول تعالى ذكره : وحيل بين هؤلاء
المشركين حين عاينوا بأس الله وبين الإيمان ؛ إنهم كانوا قبل في الدنيا في شك ، من
نزول العذاب الذي نزل بهم وعاينوه ، وقد أخبرهم نبيهم أنهم إن لم ينيبوا مما هم
عليه مقيمون من الكفر بالله ، وعبادة الأوثان ، أن الله مهلكهم ، ومحلٌّ بهم
عقوبته في عاجل الدنيا ، وآجل الآخرة قبل نزوله بهم ، مريب يقول : موجب لصاحبه
الذي هو به ما يريبه من مكروه ، من قولهم : قد أراب الرجل إذا أتى ريبة وركب فاحشة
، كما قال الراجز :
يا قَومُ مَا لِي وأبَا ذُؤَيبِ?... كنتُ إذَا أتَوْتُهُ من غَيبِ
يَشُمُّ عِطْفِي وَيُبُّز ثَوْبِي... كأنَّما أرَبْتُهُ بِرَيْبِ (1)
يقول : كأنما أتيت إليه ريبة.
آخر سورة سبأ
__________
(1) هذه الأبيات الرجز من المشطور ، أنشدها صاحب (اللسان : أتي). قال ويقال :
أتوته أتوا : لغة في أتيته. قال خالد بن زهير. " يا قوم ما لي .... "
الأبيات. وأنشدها أيضًا في (اللسان : ريب) ونسبها إلى خالد بن زهير الهذلي. وفيها
" أتيته " في موضع " أتوته " وهي لغة. وجعلها شاهدا على أنه
يقال : رابني أمره يريبني ريبًا وريبة بمعنى شككني وأما أراب فإنه يأتي متعديا
بمعنى راب ، ولازما بمعنى أتى بريبة. كما تقول : ألام : إذا أتى بما يلام عليه.
(20/432)
تفسير سورة فاطر
(20/433)
الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1)
بسم الله الرحمن الرحيم
القول في تأويل قوله تعالى : { الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ
جَاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ
يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1)
}
يقول تعالى ذكره : الشكر الكامل للمعبود الذي لا تصلح العبادة إلا له ، ولا ينبغي
أن تكون لغيره خالق السماوات السبع والأرض ، (جَاعِلِ الْمَلائِكَةَ رُسُلا) إلى
من يشاء من عباده ، وفيما شاء من أمره ونهيه(أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلاثَ
وَرُبَاعَ) يقول : أصحاب أجنحة يعني ملائكة ، فمنهم من له اثنان من الأجنحة ،
ومنهم من له ثلاثة أجنحة ، ومنهم من له أربعة.
كما حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة(أُولِي أَجْنِحَةٍ
مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ) قال : بعضهم له جناحان وبعضهم ثلاثة وبعضهم أربعة.
واختلف أهل العربية في علة ترك إجراء مثنى وثلاث ورباع ، وهي ترجمة عن أجنحة
وأجنحة نكرة ؛ فقال بعض نحويي البصرة : تُرك إجراؤهن لأنهن مصروفات عن وجوههن ،
وذلك أن مثنى مصروف عن اثنين وثلاث عن ثلاثة ورباع عن أربعة ، فصرف نظير عُمَرَ
وَزُفَرَ ، إذ صرف هذا عن عامر إلى عمر وهذا عن زافر إلى زفر ، وأنشد بعضهم في ذلك
:
(20/434)
مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (2)
وَلَقَدْ قَتَلْتُكُمْ ثُنَاءَ
وَمَوْحَدَا... وَتَركتُ مرَّةَ مِثْلَ أمسِ المُدبِرِ (1)
وقال آخر منهم : لم يصرف ذلك لأنه يوهم به الثلاثة والأربعة ، قال : وهذا لا
يستعمل إلا في حال العدد.
وقال بعض نحويي الكوفة : هن مصروفات عن المعارف ، لأن الألف واللام لا تدخلها ،
والإضافة لا تدخلها ، قال : ولو دخلتها الإضافة والألف واللام لكانت نكرة ، وهي
ترجمة عن النكرة ، قال : وكذلك ما كان في القرآن مثل(أَنْ تَقُومُوا للَّهِ
مَثْنَى وَفُرَادَى) وكذلك وحاد وأحاد ، وما أشبهه من مصروف العدد.
وقوله(يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ) وذلك زيادته تبارك وتعالى في خلق هذا
الملك من الأجنحة على الآخر ما يشاء ، ونقصانه عن الآخر ما أحب ، وكذلك ذلك في
جميع خلقه يزيد ما يشاء في خلق ما شاء منه ، وينقص ما شاء من خلق ما شاء ، له
الخلق والأمر وله القدرة والسلطان(إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) يقول
: إن الله تعالى ذكره قدير على زيادة ما شاء من ذلك فيما شاء ، ونقصان ما شاء منه
ممن شاء ، وغير ذلك من الأشياء كلها ، لا يمتنع عليه فعل شيء أراده سبحانه وتعالى.
القول في تأويل قوله تعالى : { مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا
مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ
الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (2) }
يقول تعالى ذكره : مفاتيح الخير ومغالقه كلها بيده ؛ فما يفتح الله للناس
__________
(1) البيت لصخر بن عمرو بن الشريد السلمي. وقد تقدم الاستشهاد به ، مع شواهد أخرى
في (4 : 337) من هذا التفسير فراجعه ثمة. وأنشده أبو عبيدة في مجاز القرآن (الورقة
201) قال : مثنى وثلاث ورباع : مجازه : اثنين ، وثلاثة ، وأربعة. فزعم النحويون
أنه لما صرف عن وجهه لم ينون فيهن. قال صخر بن عمرو : " ولقد قتلتكم .....
البيت " . ا . هـ.
(20/436)
يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (3)
من خير فلا مُغلق له ، ولا ممسك عنهم ،
لأن ذلك أمره لا يستطيع أمره أحد ، وكذلك ما يغلق من خير عنهم فلا يبسطه عليهم ولا
يفتحه لهم ، فلا فاتح له سواه ؛ لأن الأمور كلها إليه وله.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( مَا يَفْتَحِ اللَّهُ
لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ ) أي : من خير(فَلا مُمْسِكَ لَهَا) فلا يستطيع أحد
حبسها(وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ) وقال تعالى ذكره(فَلا
مُمْسِكَ لَهَا) فأنث ما لذكر الرحمة من بعده وقال(وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ
لَهُ مِنْ بَعْدِهِ) فذكر للفظ " ما " لأن لفظه لفظ مذكر ، ولو أنث في
موضع التذكير للمعنى وذكر في موضع التأنيث للفظ ، جاز ، ولكن الأفصح من الكلام
التأنيث إذا ظهر بعد ما يدل على تأنيثها والتذكير إذا لم يظهر ذلك.
وقوله(وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) يقول : وهو العزيز في نِقمته ممن انتقم منه
من خلقه بحبس رحمته عنه وخيراته ، الحكيم في تدبير خلقه وفتحه لهم الرحمة إذا كان
فتح ذلك صلاحًا ، وإمساكه إياه عنهم إذا كان إمساكه حكمة.
القول في تأويل قوله تعالى : { يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ
عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ
وَالأرْضِ لا إِلَهَ إِلا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (3) }
يقول تعالى ذكره للمشركين به من قوم رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم من
قريش : (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ) التي
أنعمها(عَلَيْكُمْ) بفتحه لكم من خيراته ما فتح وبسطه لكم من العيش ما بسط وفكروا
فانظروا هل من خالق سوى فاطر السماوات والأرض الذي بيده مفاتيح أرزاقكم
ومغالقها(يَرْزُقُكُمْ
(20/437)
مِنَ السَّمَاءِ وَالأرْضِ) فتعبدوه
دونه(لا إله إلاهو) يقول : لا معبود تنبغي له العبادة إلا الذي فطر السماوات
والأرض القادر على كل شيء ، الذي بيده مفاتح الأشياء وخزائنها ، ومغالق ذلك كله ،
فلا تعبدوا أيها الناس شيئًا سواه ، فإنه لا يقدر على نفعكم وضركم سواه ، فله
فأخلصوا العبادة وإياه فأفردوا بالألوهة(فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ) يقول : فأي وجه عن
خالقكم ورازقكم الذي بيده نفعكم وضركم تصرفون.
كما حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة قوله(فَأَنَّى
تُؤْفَكُونَ) يقول الرجل : إنه ليوفك عني كذا وكذا. وقد بينت معنى الإفك ، وتأويل
قوله(تُؤْفَكُونَ) فيما مضى بشواهده المغنية عن تكريره.
(20/438)
وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (4) يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (5)
القول في تأويل قوله تعالى : { وَإِنْ
يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ
الأمُورُ (4) يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ
الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (5) }
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم : وإن يكذبك يا محمد
هؤلاء المشركون بالله من قومك فلا يحزننك ذاك ، ولا يعظم عليك ، فإن ذلك سنة
أمثالهم من كفرة الأمم بالله ، من قبلهم وتكذيبهم رسل الله التي أرسلها إليهم من
قبلك ، ولن يعدو مشركو قومك أن يكونوا مثلهم ، فيتبعوا في تكذيبك منهاجهم ويسلكوا
سبيلهم(وَإِلَى اللَّهِ تُرْجعُ الأمُورُ) يقول تعالى ذكره : وإلى الله مرجع أمرك
وأمرهم ، فمُحِل بهم العقوبة ، إن هم لم ينيبوا إلى طاعتنا في اتباعك والإقرار
بنبوتك ، وقبول ما دعوتهم إليه من النصيحة ، نظير ما أحللنا بنظرائهم من الأمم
المكذبة رسلها قبلك ، ومنجيك وأتباعك من ذلك ، سنتنا بمن قبلك في رسلنا وأوليائنا.
(20/438)
إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ (6)
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل
التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ
فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ ) يعزي نبيه كما تسمعون.
وقوله( يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ ) يقول تعالى ذكره لمشركي
قريش المكذبي رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم : يا أيها الناس إن وعد
الله إياكم بأسه على إصراركم على الكفر به ، وتكذيب رسوله محمد صَلَّى الله
عَلَيْهِ وَسَلَّم ، وتحذيركم نزول سطوته بكم على ذلك ، حق ، فأيقنوا بذلك وبادروا
حلول عقوبتكم بالتوبة والإنابة إلى طاعة الله والإيمان به وبرسوله( فَلا
تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا ) يقول : فلا يغرنكم ما أنتم فيه من العيش
في هذه الدنيا ورياستكم التي تترأسون بها في ضعفائكم فيها عن اتباع محمد والإيمان(
وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ ) يقول : ولا يخدعنكم بالله الشيطان ،
فيمنيكم الأماني ، ويعدكم من الله العدات الكاذبة ، ويحملكم على الإصرار على كفركم
بالله.
كما حدثني علي قال : ثنا أَبو صالح قال : ثني معاوية عن علي عن ابن عباس في قوله(
وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ ) يقول : الشيطان.
القول في تأويل قوله تعالى : { إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ
عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ (6) }
يقول تعالى ذكره : (إِنَّ الشَّيْطَانَ) الذي نهيتكم أيها الناس أن تغتروا بغروره
إياكم بالله( لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا ) يقول : فأنزلوه من أنفسكم
منزلة العدو منكم واحذروه بطاعة الله واستغشاشكم إياه حذركم من عدوكم الذي تخافون
غائلته على أنفسكم ، فلا تطيعوه ولا تتبعوا خطواته ، فإنه إنما يدعو
(20/439)
الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (7)
حزبه ، ينعي شيعته ومن أطاعه ، إلى
طاعته والقبول منه ، والكفر بالله( لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ ) يقول
: ليكونوا من المخلدين في نار جهنم التي تتوقد على أهلها.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة قوله( إِنَّ الشَّيْطَانَ
لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا ) فإنه لحق على كل مسلم عداوته ، وعداوته
أن يعاديه بطاعة الله(إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ) وحزبه : أولياؤه( لِيَكُونُوا
مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ ) أي : ليسوقهم إلى النار فهذه عداوته.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله( إِنَّمَا يَدْعُو
حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ ) وقال : هؤلاء حزبه من الإنس ،
يقول : أولئك حزب الشيطان ، والحزب : ولاته الذين يتولاهم ويتولونه وقرأ( إِنَّ
وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نزلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ ).
القول في تأويل قوله تعالى : { الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ
(7) }
يقول تعالى ذكره : (الَّذِينَ كَفَرُوا) بالله ورسوله(لَهُمْ عَذَابٌ) من
الله(شَدِيدٌ) وذلك عذاب النار. وقوله(وَالَّذِينَ آمَنُوا) يقول : والذين صدقوا
الله ورسوله ، وعملوا بما أمرهم الله وانتهوا عما نهاهم عنه(لَهُمْ مَغْفِرَةٌ) من
الله لذنوبهم(وَأَجْرٌ كَبِيرٌ) وذلك الجنة.
كما حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة(لَهُمْ مَغْفِرَةٌ
وَأَجْرٌ كَبِيرٌ) وهي الجنة.
(20/440)
أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآَهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (8)
القول في تأويل قوله تعالى : { أَفَمَنْ
زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ
يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ
إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (8) }
يقول تعالى ذكره : أفمن حسَّن له الشيطان أعماله السيئة من معاصي الله والكفر به ،
وعبادة ما دونه من الآلهة والأوثان ، فرآه حسنًا فحسب سيىء ذلك حسنًا ، وظن أن
قبحه جميل ، لتزيين الشيطان ذلك له. ذهبت نفسك عليهم حسرات ، وحذف من الكلام :
ذهبت نفسك عليهم حسرات اكتفاء بدلالة قوله(فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ)
منه ، وقوله(فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ) يقول :
فإن الله يخذل من يشاء عن الإيمان به واتباعك وتصديقك ، فيضله عن الرشاد إلى الحق
في ذلك ، ويهدي من يشاء ، يقول : ويوفق من يشاء للإيمان به واتباعك والقبول منك ،
فتهديه إلى سبيل الرشاد( فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ ) يقول :
فلا تهلك نفسك حزنًا على ضلالتهم وكفرهم بالله وتكذيبهم لك.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ
سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي
مَنْ يَشَاءُ ) قال قتادة والحسن : الشيطان زيَّن لهم( فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ
عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ ) أي : لا يحزنك ذلك عليهم ؛ فإن الله يضل من يشاء ويهدي من
يشاء.
حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قول الله( فَلا
تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ ) قال : الحسرات الحزن ، وقرأ قول الله(
يَاحَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ ) ووقع قوله( فَإِنَّ
اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ
(20/441)
وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ النُّشُورُ (9)
وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ ) موضع الجواب
، وإنما هو منبع الجواب ، لأن الجواب هو المتروك الذي ذكرت ، فاكتفى به من الجواب
لدلالته على الجواب ومعنى الكلام.
واختلفت القراء في قراءة قوله( فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ )
فقرأته قراء الأمصار سوى أَبي جعفر المدني(فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ) بفتح التاء من
" تذهب " و " نفسك " برفعها. وقرأ ذلك أَبو جعفر(فَلا تُذْهِبَ)
بضم التاء من " تذهب " و " نفسك " بنصبها ، بمعنى : لا تذهب
أنت يا محمد نفسك.
والصواب من القراءة في ذلك عندنا ما عليه قراء الأمصار ؛ لإجماع الحجة من القراء
عليه.
وقوله( إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ ) يقول تعالى ذكره : إن الله يا
محمد ذو علم بما يصنع هؤلاء الذين زين لهم الشيطان سوء أعمالهم ، وهو محصيه عليهم
، ومجازيهم به جزاءهم.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ
سَحَابًا فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ
مَوْتِهَا كَذَلِكَ النُّشُورُ (9) }
يقول تعالى ذكره : والله الذي أرسل الرياح فتثير السحاب للحيا والغيث( فَسُقْنَاهُ
إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ ) يقول : فسقناه إلى بلد مجدب الأهل ، محل الأرض ، داثر لا
نيت فيه ولا زرع( فَأَحْيَيْنَا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا ) يقول : فأخصبنا
بغيث ذلك السحاب الأرض التي سقناه إليها بعد جدوبها ، وأنبتنا فيها الزرع بعد
المحل(كَذَلِكَ النُّشُورُ) يقول تعالى ذكره : هكذا يُنْشِر الله الموتى بعد
بلائهم في قبورهم ، فيحييهم بعد فنائهم ، كما أحيينا هذه الأرض بالغيث بعد مماتها.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*
(20/442)
مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولَئِكَ هُوَ يَبُورُ (10)
ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن بشار قال : ثنا عبد الرحمن قال : ثنا سفيان عن سلمة بن كهيل قال : ثنا
أَبو الزعراء عن عبد الله قال : يكون بين النفختين ما شاء الله أن يكون ، فليس من
بني آدم إلا وفي الأرض منه شيء ، قال : فيرسل الله ماءً من تحت العرش ؛ منيًّا
كمني الرجل ، فتنبت أجسادهم ولحمانهم من ذلك ، كما تنبت الأرض من الثرى ، ثم قرأ(
وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ إِلَى
بَلَدٍ مَيِّتٍ ...) إلى قوله(كَذَلِكَ النُّشُورُ) قال : ثم يقوم ملك بالصور بين
السماء والأرض ، فينفخ فيه فتنطلق كل نفس إلى جسدها فتدخل فيه.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة قوله( وَاللَّهُ الَّذِي
أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا ) قال : يرسل الرياح فتسوق السحاب ، فأحيا
الله به هذه الأرض الميتة بهذا الماء ، فكذلك يبعثه يوم القيامة.
القول في تأويل قوله تعالى : { مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ
الْعِزَّةُ جَمِيعًا إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ
الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ
شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولَئِكَ هُوَ يَبُورُ (10) }
اختلف أهل التأويل في معنى قوله ( مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ
الْعِزَّةُ جَمِيعًا ) فقال بعضهم : معنى ذلك : من كان يريد العزة بعبادة الآلهة
والأوثان فإن العزة لله جميعًا.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن عمرو ، قال : ثنا أَبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال
: ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أَبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله(
مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ ) يقول : من كان يريد العزة بعبادته
(20/443)
الآلهة(فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ
جَمِيعًا).
وقال آخرون : معنى ذلك من كان يريد العزة فليتعزز بطاعة الله.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة قوله( مَنْ كَانَ يُرِيدُ
الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا ) يقول : فليتعزز بطاعة الله.
وقال آخرون : بل معنى ذلك : من كان يريد علم العزة لمن هي ، فإنه لله جميعًا كلها
أي : كل وجه من العزة فلله.
والذي هو أولى الأقوال بالصواب عندي قول من قال : من كان يريد العزة فبالله
فليتعزز ، فلله العزة جميعًا ، دون كل ما دونه من الآلهة والأوثان.
وإنما قلت : ذلك أولى بالصواب لأن الآيات التي قبل هذه الآية ، جرت بتقريع الله
المشركين على عبادتهم الأوثان ، وتوبيخه إياهم ، ووعيده لهم عليها ، فأولى بهذه
أيضًا أن تكون من جنس الحث على فراق ذلك ، فكانت قصتها شبيهة بقصتها ، وكانت في
سياقها.
وقوله( إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ ) يقول تعالى ذكره : إلى الله يصعد
ذكر العبد إياه وثناؤه عليه(وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ) يقول : ويرفع ذكر
العبد ربه إليه عمله الصالح ، وهو العمل بطاعته ، وأداء فرائضه والانتهاء إلى ما
أمر به.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن إسماعيل الأحمسي قال : أخبرني جعفر بن عون عن عبد الرحمن بن عبد
الله المسعودي عن عبد الله بن المخارق عن أبيه المخارق بن سليم قال : قال لنا عبد
الله : إذا حدثناكم بحديث أتيناكم بتصديق ذلك من كتاب الله ، إن العبد المسلم إذا
قال : سبحان الله وبحمده ، الحمد لله لا إله إلا الله ،
(20/444)
والله أكبر ، تبارك الله ، أخذهن ملك
فجعلهن تحت جناحيه ثم صعد بهن إلى السماء ، فلا يمر بهن على جمع من الملائكة إلا
استغفروا لقائلهن حتى يحيي بهن وجه الرحمن ، ثم قرأ عبد الله( وَالْعَمَلُ
الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ ).
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : ثنا ابن عُلية ، قال : أخبرنا سعيد الجريري عن عبد
الله بن شقيق قال : قال كعب : إن لسبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله
أكبر ، لدويًّا حول العرش كدوي النحل يذكرن بصاحبهن والعمل الصالح في الخزائن.
حدثني يونس ، قال : ثنا سفيان عن ليث بن أبي سليم عن شهر بن حوشب الأشعري
قوله(إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيْبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ)
قال : العمل الصالح يرفع الكلم الطيب.
حدثني علي ، ثنا أَبو صالح قال : ثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس قوله(إِلَيْهِ
يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيْبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ) قال : الكلام
الطيب : ذكر الله ، والعمل الصالح : أداء فرائضه ، فمن ذكر الله سبحانه في أداء
فرائضه حمل عليه ذكر الله فصعد به إلى الله ، ومن ذكر الله ، ولم يؤد فرائضه رد
كلامه على عمله فكان أولى به.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أَبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال
: ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أَبي نجيح ، عن مجاهد قوله(إِلَيْهِ
يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيْبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ) قال : العمل
الصالح يرفع الكلام الطيب.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة قوله(إِلَيْهِ يَصْعَدُ
الْكَلِمُ الطَّيْبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ) قال : قال الحسن وقتادة :
لا يقبل الله قولا إلا بعمل ، من قال وأحسن العمل قبل الله منه.
وقوله(وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ) يقول تعالى ذكره : والذين يكسبون
(20/445)
وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجًا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (11)
السيئات لهم عذاب جهنم.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثني سعيد ، عن قتادة قوله( وَالَّذِينَ
يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ ) قال : هؤلاء أهل الشرك.
وقوله(وَمَكْرُ أُولَئِكَ هُوَ يَبُورُ) يقول : وعمل هؤلاء المشركين يبور ، فيبطل
فيذهب ؛ لأنه لم يكن لله ، فلم ينفع عامله.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة(وَمَكْرُ أُولَئِكَ هُوَ
يَبُورُ) أى : يفسد.
حدثني يونس قال : أخبرنا سفيان عن ليث بن أبي سليم عن شهر بن حوشب(وَمَكْرُ
أُولَئِكَ هُوَ يَبُورُ) قال : هم أصحاب الرياء.
حدثني محمد بن عمارة قال : ثنا سهل بن أبي عامر قال : ثنا جعفر الأحمر عن شهر بن
حوشب في قوله(وَمَكْرُ أُولَئِكَ هُوَ يَبُورُ) قال : هم أصحاب الرياء.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله(وَمَكْرُ
أُولَئِكَ هُوَ يَبُورُ) قال : بار فلم ينفعهم ولم ينتفعوا به ، وضرهم.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ
نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجًا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلا تَضَعُ
إِلا بِعِلْمِهِ وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلا
فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ
(20/446)
يَسِيرٌ (11) }
يقول تعالى ذكره : (وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ) أيها الناس(مِنْ تُرَابٍ) يعني بذلك أنه
خلق أباهم آدم من تراب ؛ فجعل خلق أبيهم منه لهم خلقًا(ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ) يقول
: ثم خلقكم من نطفة الرجل والمرأة(ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجًا) يعني أنه زوج منهم
الأنثى من الذكر.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة(وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ
مِنْ تُرَابٍ) يعني آدم(ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ) يعني ذريته(ثُمَّ جَعَلَكُمْ
أَزْوَاجًا) فزوج بعضكم بعضًا.
وقوله( وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلا تَضَعُ إِلا بِعِلْمِهِ ) يقول تعالى
ذكره : وما تحمل من أنثى منكم أيها الناس من حمل ولا نطفة إلا وهو عالم بحملها
إياه ووضعها وما هو ؟ ذكر أو أنثى ؟ لا يخفى عليه شيء من ذلك.
وقوله( وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلا فِي
كِتَابٍ ) اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك ؛ فقال بعضهم : معناه : وما يعمر من
معمر فيطول عمره ، ولا ينقص من عمر آخر غيره عن عمر هذا الذي عمر عمرًا طويلا(إِلا
فِي كِتَابٍ) عنده مكتوب قبل أن تحمل به أمه ، وقبل أن تضعه ، قد أحصى ذلك كله
وعلمه قبل أن يخلقه ، لا يزاد فيما كتب له ولا ينقص.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثنى أبي ، عن أبيه ،
عن ابن عباس قوله(وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ ...) إلى(يَسِير) يقول : ليس أحد
قضيت له طول العمر والحياة إلا وهو بالغ ما قدرت له من
(20/447)
العمر ، وقد قضيت ذلك له ، وإنما ينتهي
إلى الكتاب الذي قدرت له لا يزاد عليه ، وليس أحد قضيت له أنه قصير إلعمر والحياة
ببالغ العمر ، ولكن ينتهي إلى الكتاب الذي قدرت له لا يزاد عليه فذلك قوله ( وَلا
يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلا فِي كِتَابٍ ) يقول : كل ذلك في كتاب عنده.
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : من قضيت له أن يعمر حتى يدركه الكبر
، أو يعمر أنقص من ذلك ، فكل بالغ أجله الذي قد قضى له ، كل ذلك في كتاب.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله( وَمَا
يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلا فِي كِتَابٍ ) قال :
ألا ترى الناس ؛ الإنسان يعيش مائة سنة ، وآخر يموت حين يولد ؟ فهذا هذا ، فالهاء
التي في قوله(ولا يُنْقَصُ مِنْ عُمْرِهِ) على هذا التأويل ، وإن كانت في الظاهر
أنها كناية عن اسم المعمر الأول ، فهي كناية اسم آخر غيره ، وإنما حسن ذلك لأن
صاحبها لو أظهر لظهر بلفظ الأول ، وذلك كقولهم : عندي ثوب ونصفه ، والمعنى : ونصف
الآخر.
وقال آخرون : بل معنى ذلك : وما يعمر من معمَّر ولا ينقص من عمره بفناء ما فني من
أيام حياته ، فذلك هو نقصان عمره ، والهاء على هذا التأويل للمعمر الأول ، لأن
معنى الكلام : ما يطول عمر أحد ، ولا يذهب من عمره شيء ، فيُنقَص إلا وهو في كتاب
عند الله مكتوب ، قد أحصاه وعلمه.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني أَبو حصين عبد الله بن أحمد بن يونس قال : ثنا عبثر قال : ثنا حصين عن أَبي
مالك في هذه الآية( وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ
إِلا فِي كِتَابٍ ) قال : ما يقضي من أيامه التي عددت له إلا في كتاب.
وأولى التأويلين في ذلك عندي الصواب التأويل الأول ، وذلك أن ذلك
(20/448)
هو أظهر معنييه ، وأشبههما بظاهر
التنزيل.
وقوله(إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ) يقول تعالى ذكره : إن إحصاء أعمار خلقه
عليه يسير سهل ، طويل ذلك وقصيره ، لا يتعذر عليه شيء منه.
(20/449)
وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (12)
القول في تأويل قوله تعالى : { وَمَا
يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ
أُجَاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً
تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ
وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (12) }
يقول تعالى ذكره : وما يعتدل البحران فيستويان ؛ أحدهما عذب فرات ، والفرات : هو
أعذب العذب ، وهذا ملح أجاج يقول : والآخر منهما ملح أجاج وذلك هو ماء البحر
الأخضر ، والأجاج : المر وهو أشد المياه ملوحة.
كما حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة قوله(وهَذَا مِلْحٌ
أُجَاجٌ) والأجاج : المر.
وقوله( وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا ) يقول : ومن كل البحار تأكلون
لحمًا طريًّا ، وذلك السمك من عذبهما الفرات وملحهما الأجاج(وَتَسْتَخْرِجُونَ
حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا) يعني : الدر والمرجان تستخرجونها من الملح الأجاج ، وقد
بيَّنا قبل وجه(تَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً) وإنما يستخرج من الملح ، فيما مضى بما
أغنى عن إعادته.(وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ) يقول تعالى ذكره : وترى السفن
في كل تلك البحار مواخر تمخر الماء بصدورها ، وذلك خرقها إياه إذا مرت واحدتها
ماخرة ، يقال منه : مَخَرت تَمْخُر وتمخَر مخرًا ، وذلك إذا شقت الماء بصدورها.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل
(20/449)
يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ (13)
.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة قوله(وَمِنْ كُلٍّ
تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا) أي : منهما جميعًا(وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً
تَلْبَسُونَهَا) هذا اللؤلؤ(وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ) فيه السفن مقبلة
ومدبرة بريح واحدة.
حدثنا علي قال : ثنا أَبو صالح قال : ثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس
قوله(وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ) يقول : جواريَ.
وقوله(لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ) يقول : لتطلبوا بركوبكم في هذه البحار في الفلك
من معايشكم ، ولتتصرفوا فيها في تجاراتكم ، وتشكروا الله على تسخيره ذلك لكم ، وما
رزقكم منه من طيبات الرزق وفاخر الحلي.
القول في تأويل قوله تعالى : { يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ
النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأجَلٍ
مُسَمًّى ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ
دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ (13) }
يقول تعالى ذكره : يدخل الليل في النهار وذلك ما نقص من الليل أدخله في النهار
فزاده فيه ، ويولج النهار في الليل وذلك ما نقص من أجزاء النهار زاد في أجزاء
الليل فأدخله فيها.
كما حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة قوله(يُولِجُ
اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ) زيادة هذا فى نقصان
هذا ، ونقصان هذا في زيادة هذا.
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ،
عن ابن عباس قوله( يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي
اللَّيْلِ ) يقول : هو انتقاص أحدهما من الآخر.
(20/450)
وقوله( وَسَخَّرَ الشَّمْسَ
وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأجَلٍ مُسَمًّى ) يقول : وأجرى لكم الشمس والقمر نعمة
منه عليكم ، ورحمة منه بكم ؛ لتعلموا عدد السنين والحساب ، وتعرفوا الليل من
النهار.
وقوله(كُلٌّ يَجْرِي لأجَلٍ مُسَمًى) يقول : كل ذلك يجري لوقت معلوم.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة قوله( وَسَخَّرَ
الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأجَلٍ مُسَمًّى ) أجل معلوم ، وحد لا يقصر
دونه ولا يتعداه.
وقوله(ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ) يقول : الذي يفعل هذه الأفعال معبودكم أيها
الناس الذي لا تصلح العبادة إلا له ، وهو الله ربكم.
كما حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة قوله(ذَلِكُمُ
اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ) أي : هو الذي يفعل هذا.
وقوله(لَهُ الْمُلْكَ) يقول تعالى ذكره : له الملك التام الذي لا شىء إلا وهو في
ملكه وسلطانه.
وقوله( وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ ) يقول
تعالى ذكره : والذين تعبدون أيها الناس من دون ربكم الذي هذه الصفة التي ذكرها في
هذه الآيات الذي له الملك الكامل ، الذي لا يشبهه ملك ، صفته(مَا يَمْلِكُونَ مِنْ
قِطْمِيرٍ) يقول : ما يملكون قشر نواة فما فوقها.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قلنا أهل التأويل
(20/451)
إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ (14)
.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني يعقوب قال : ثنا هشيم قال : أخبرنا عوف عمن حدثه عن ابن عباس في قوله(مَا
يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ) قال : هو جلد النواة.
حدثني علي قال : ثنا أَبو صالح قال : ثني معاوية عن علي عن ابن عباس قوله(مِنْ
قِطْمِيرٍ) يقول : الجلد الذي يكون على ظهر النواة.
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثنى أبي ، عن أبيه ،
عن ابن عباس قوله(مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ) يعني : قشر النواة.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أَبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال
: ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أَبي نجيح ، عن مجاهد في قول
الله(مِنْ قِطْمِيرٍ) قال : لفافة النواة كسحاة البيضة.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة في قوله(مَا يَمْلِكُونَ
مِنْ قِطْمِيرٍ) والقطمير : القشرة التي على رأس النواة.
حدثنا عمرو بن عبد الحميد قال : ثنا مروان بن معاوية ، عن جويبر عن بعض أصحابه في
قوله(مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ) قال : هو القِمَع الذي يكون على التمرة.
حدثنا ابن بشار قال : ثنا أبو عامر قال : ثنا مرة عن عطية قال : القطمير : قشر
النواة.
القول في تأويل قوله تعالى : { إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ
سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ
وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ (14) }
قوله( إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا
اسْتَجَابُوا لَكُمْ )
(20/452)
يقول تعالى ذكره : إن تدعوا أيها الناس
هؤلاء الآلهة التي تعبدونها من دون الله لا يسمعوا دعاءكم ؛ لأنها جماد لا تفهم
عنكم ما تقولون( وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ ) يقول : ولو سمعوا
دعاءكم إياهم ، وفهموا عنكم أنها قولكم ، بأن جعل لهم سمع يسمعون به ، ما استجابوا
لكم ؛ لأنها ليست ناطقة ، وليس كل سامع قولا متيسرًا له الجواب عنه ، يقول تعالى
ذكره للمشركين به الآلهة والأوثان : فكيف تعبدون من دون الله من هذه صفته ، وهو لا
نفع لكم عنده ، ولا قدرة له على ضركم ، وتدعون عبادة الذي بيده نفعكم وضركم ، وهو
الذي خلقكم وأنعم عليكم.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة قوله( إِنْ تَدْعُوهُمْ
لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ ) أي : ما
قبلوا ذلك عنكم ، ولا نفعوكم فيه.
وقوله( وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ ) يقول تعالى ذكره
للمشركين من عبدة الأوثان : ويوم القيامة تتبرأ آلهتكم التي تعبدونها من دون الله
من أن تكون كانت لله شريكًا في الدنيا.
كما حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( وَيَوْمَ
الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ ) إياهم ولا يرضون ولا يقرون به.
وقوله(وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ) يقول تعالى ذكره : ولا يخبرك يا محمد عن
آلهة هؤلاء المشركين وما يكون من أمرها وأمر عَبَدَتها يوم القيامة ؛ من تبرؤها
منهم ، وكفرها بهم ، مثل ذي خبرة بأمرها وأمرهم ، وذلك الخبير هو الله الذي لا
يخفى عليه شيء كان أو يكون سبحانه.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل
(20/453)
يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (15) إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (16) وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ (17) وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (18)
.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة قوله( وَلا يُنَبِّئُكَ
مِثْلُ خَبِيرٍ ) والله هو الخبير أنه سيكون هذا منهم يوم القيامة.
القول في تأويل قوله تعالى : { يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى
اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (15) }
يقول تعالى ذكره : يا أيها الناس أنتم أولو الحاجة والفقر إلى ربكم فإياه فاعبدوا
، وفي رضاه فسارعوا ، يغنكم من فقركم ، وتُنْجِح لديه حوائجكم(وَاللَّهُ هُوَ
الْغَنِيُّ) عن عبادتكم إياه وعن خدمتكم ، وعن غير ذلك من الأشياء ؛ منكم ومن
غيركم(الْحَمِيدُ) يعني : المحمود على نعمه ؛ فإن كل نعمة بكم وبغيركم فمنه ، فله
الحمد والشكر بكل حال.
القول في تأويل قوله تعالى : { إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ
جَدِيدٍ (16) وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ (17) وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ
وِزْرَ أُخْرَى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لا يُحْمَلْ مِنْهُ
شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ
رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّمَا
يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (18) }
يقول تعالى ذكره : إن يشأ يهلككم أيها الناس ربكم ، لأنه أنشأكم من غير ما حاجة به
إليكم(وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ) يقول : ويأت بخلق سواكم يطيعونه ويأتمرون لأمره
وينتهون عمَّا نهاهم عنه.
كما حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة قوله( إِنْ يَشَأْ
يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ ) أي : ويأت بغيركم.
(20/454)
وقوله(وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ
بِعَزِيزٍ) يقول : وما إذهابكم والإتيان بخلق سواكم على الله بشديد ، بل ذلك عليه
يسير سهل ، يقول : فاتقوا الله أيها الناس ، وأطيعوه قبل أن يفعل بكم ذلك.
وقوله( وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ) يقول تعالى ذكره : ولا تحمل آثمة
إثم أخرى غيرها(وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لا يُحْمَلْ مِنْهُ
شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى ) يقول تعالى : وإن تسأل ذاتُ ثِقَل من الذنوب من
يحمل عنها ذنوبها وتطلب ذلك لم تجد من يحمل عنها شيئًا منها ولو كان الذي سألته ذا
قرابة من أب أو أخ.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ،
عن ابن عباس قوله( وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ
إِلَى حِمْلِهَا لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى ) يقول :
يكون عليه وزر لا يجد أحدًا يحمل عنه من وزره شيئًا.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أَبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال
: ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أَبي نجيح ، عن مجاهد( وَإِنْ
تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ ) كنحو(لا تَزِرُ
وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى).
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة(وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ
إِلَى حِمْلِهَا) إلى ذنوبها(لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى
) أي : قريب القرابة منها ، لايحمل من ذنوبها شيئًا ، ولا تحمل على غيرها من
ذنوبها شيئا(وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى) ، ونصب " ذَا قُرْبَى
" على تمام " كان " لأن معنى الكلام : ولو كان الذي تسأله أن يحمل
عنها ذنوبها ذا قربى لها. وأنثت
(20/455)
" مثقلة " لأنه ذهب بالكلام
إلى النفس ، كأنه قيل : وإن تدع نفس مثقلة من الذنوب إلى حمل ذنوبها ، وإنما قيل
كذلك لأن النفس تؤدي عن الذكر والأنثى كما قيل : (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ
الْمَوْتِ) يعني بذلك : كل ذكر وأنثى.
وقوله( إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ ) يقول
تعالى ذكره لنبيه محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم : إنما تنذر يا محمد الذين
يخافون عقاب الله يوم القيامة من غير معاينة منهم لذلك ، ولكن لإيمانهم بما أتيتهم
به ، وتصديقهم لك فيما أنباتهم عن الله ، فهؤلاء الذين ينفعهم إنذارك ويتعظون
بمواعظك ، لا الذين طبع الله على قلوبهم فهم لا يفقهون.
كما حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة قول : ( إِنَّمَا
تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ ) أي : يخشون النار.
وقوله(وَأَقَامُوا الصَّلاةَ) يقول : وأدوا الصلاة المفروضة بحدودها على ما فرضها
الله عليهم.
وقوله(وَمَنْ تَزَكَّى فإِنَّمَا يَتَزكَّى لِنَفْسِهِ) يقول تعالى ذكره : ومن
يتطهر من دنس الكفر والذنوب بالتوبة إلى الله ، والإيمان به ، والعمل بطاعته.
فإنما يتطهر لنفسه ، وذلك أنه يثيبها به رضا الله ، والفوز بجنانه ، والنجاة من
عقابه الذي أعده لأهل الكفر به.
كما حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة قوله( وَمَنْ
تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ ) أي : من يعمل صالحًا فإنما يعمله
لنفسه.
وقوله(وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ) يقول : وإلى الله مصير كل عامل منكم أيها الناس
، مؤمنكم وكافركم ، وبركم وفاجركم ، وهو مجازٍ جميعكم بما قدم من خير وشر على ما
أهل منه.
(20/456)
وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ (19) وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ (20) وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ (21)
القول في تأويل قوله تعالى : { وَمَا يَسْتَوِي الأعْمَى وَالْبَصِيرُ (19) وَلا الظُّلُمَاتُ وَلا النُّورُ (20) وَلا الظِّلُّ وَلا الْحَرُورُ (21) وَمَا يَسْتَوِي
(20/456)
وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ (22) إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ (23)
الأحْيَاءُ وَلا الأمْوَاتُ إِنَّ
اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ (22)
إِنْ أَنْتَ إِلا نَذِيرٌ (23) }
يقول تعالى ذكره : (وَمَا يَسْتَوِي الأعْمَى) عن دين الله الذي ابتعث به نبيه
محمدا صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم(وَالْبَصِيرُ) الذي قد أبصر فيه رشده ؛ فاتبع
محمدًا وصدقه ، وقبل عن الله ما ابتعثه به(وَلا الظُّلُمَاتُ) يقول : وما تستوي
ظلمات الكفر ونور الإيمان(وَلا الظِّلُّ) قيل : ولا الجنة(وَلا الْحَرُورُ) قيل :
النار ، كأن معناه عندهم : وما تستوي الجنة والنار ، والحرور بمنزلة السموم ، وهي
الرياح الحارة. وذكر أَبو عبيدة معمر بن المثنى ، عن رؤبة بن العجاج ، أنه كان
يقول : الحرور بالليل والسموم بالنهار. وأما أَبو عبيدة فإنه قال : الحرور في هذا
الموضع والنهار مع الشمس ، وأما الفراء فإنه كان يقول : الحرور يكون بالليل
والنهار ، والسموم لا يكون بالليل إنما يكون بالنهار.
والقول في ذلك عندى : أن الحرور يكون بالليل والنهار ، غير أنه في هذا الموضع بأن
يكون كما قال أَبو عبيدة : أشبه مع الشمس لأن الظل إنما يكون في يوم شمس ، فذلك
يدل على أنه أريد بالحرور : الذي يوجد في حال وجود الظل.
وقوله( وَمَا يَسْتَوِي الأحْيَاءُ وَلا الأمْوَاتُ ) يقول : وما يستوي الأحياء
القلوب بالإيمان بالله ورسوله ، ومعرفة تنزيل الله ، والأموات القلوب لغلبة الكفر
عليها ، حتى صارت لا تعقل عن الله أمره ونهيه ، ولا تعرف الهدى من الضلال ، وكل
هذه أمثال ضربها الله للمؤمن والإيمان والكافر والكفر.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني
(20/457)
أَبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله(
وَمَا يَسْتَوِي الأعْمَى وَالْبَصِيرُ ...) الآية ، قال : هو مثل ضربه الله لأهل
الطاعة وأهل المعصية ؛ يقول : وما يستوي الأعمى والظلمات والحرور ولا الأموات ،
فهو مثل أهل المعصية ، ولا يستوي البصير ولا النور ولا الظل والأحياء ، فهو مثل
أهل الطاعة.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة قوله( وَمَا يَسْتَوِي
الأعْمَى ...) الآية ، خلقًا فضل بعضه على بعض ؛ فأما المؤمن فعبد حي الأثر ، حي
البصر ، حي النية ، حي العمل ، وأما الكافر فعبد ميت ؛ ميت البصر ، ميت القلب ،
ميت العمل.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله( وَمَا
يَسْتَوِي الأعْمَى وَالْبَصِيرُ وَلا الظُّلُمَاتُ وَلا النُّورُوَلا الظِّلُّ
وَلا الْحَرُورُ وَمَا يَسْتَوِي الأحْيَاءُ وَلا الأمْوَاتُ ) قال : هذا مثل ضربه
الله ؛ فالمؤمن بصير في دين الله ، والكافر أعمى ، كما لا يستوي الظل ولا الحرور
ولا الأحياء ولا الأموات ، فكذلك لا يستوي هذا المؤمن الذي يبصر دينه ولا هذا
الأعمى ، وقرأ( أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا
يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ ) قال : الهدى الذي هداه الله به ونور له ، هذا مثل
ضربه الله لهذا المؤمن الذي يبصر دينه ، وهذا الكافر الأعمى فجعل المؤمن حيًّا
وجعل الكافر ميتًا ميت القلب( أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ ) قال :
هديناه إلى الإسلام كمن مثله في الظلمات أعمى القلب وهو في الظلمات ، أهذا وهذا
سواء ؟.
واختلف أهل العربية في وجه دخول " لا " مع حرف العطف في قوله( وَلا
الظُّلُمَاتُ وَلا النُّورُ وَلا الظِّلُّ وَلا الْحَرُورُ ) فقال بعض نحويي
البصرة : قال : ولا الظل ولا الحرور ، فيشبه أن تكون " لا " زائدة ،
لأنك لو قلت : لا يستوي عمرو ولا زيد في هذا المعنى لم يجز إلا أن تكون " لا
" زائدة ، وكان غيره يقول : إذا لم تدخل " لا " مع الواو ، فإنما
لم تدخل اكتفاء بدخولها في أول الكلام ، فإذا أدخلت فإنه يراد بالكلام أن كل واحد
منهما لا يساوي صاحبه ،
(20/458)
إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ (24) وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتَابِ الْمُنِيرِ (25) ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (26)
فكان معنى الكلام إذا أعيدت " لا "
مع الواو عند صاحب هذا القول لا يساوي الأعمى البصير ولا يساوي البصير الأعمى ،
فكل واحد منهما لا يساوي صاحبه.
وقوله( إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي
الْقُبُورِ ) يقول تعالى ذكره : كما لا يقدر أن يسمع من في القبور كتاب الله
فيهديهم به إلى سبيل الرشاد ، فكذلك لا يقدر أن ينفع بمواعظ الله وبيان حججه من
كان ميت القلب من أحياء عباده ، عن معرفة الله ، وفهم كتابه وتنزيله ، وواضح حججه.
كما حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( إِنَّ اللَّهَ
يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ ) كذلك الكافر
لا يسمع ، ولا ينتفع بما يسمع.
وقوله(إِنْ أَنْتَ إِلا نَذِيرٌ) يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ
وَسَلَّم : ما أنت إلا نذير تنذر هؤلاء المشركين بالله الذين طبع الله على قلوبهم
، ولم يرسلك ربك إليهم إلا لتبلغهم رسالته ، ولم يكلفك من الأمر ما لا سبيل لك
إليه ، فأما اهتداؤهم وقبولهم منك ما جئتهم به فإن ذلك بيد الله لا بيدك ولا بيد
غيرك من الناس ؛ فلا تذهب نفسك عليهم حسرات إن هم لم يستجيبوا لك.
القول في تأويل قوله تعالى : { إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا
وَنَذِيرًا وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلا خَلا فِيهَا نَذِيرٌ (24) وَإِنْ
يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ
بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتَابِ الْمُنِيرِ (25) ثُمَّ أَخَذْتُ
الَّذِينَ كَفَرُوا فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (26) }
يقول جل ثناؤه لنبيه محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم : (إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ)
يا محمد
(20/459)
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ (27) وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ (28)
(بِالْحَقِّ) وهو الإيمان بالله وشرائع
الدين التي افترضها على عباده(بَشِيرًا) يقول : مبشرًا بالجنة من صدقك وقبل منك ما
جئت به من عند الله من النصيحة(وَنَذِيرًا) تنذر الناس مَن كذبك ورد عليك ما جئت
به من عند الله من النصيحة( وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلا خَلا فِيهَا نَذِيرٌ ) يقول
: وما من أمة من الأمم الدائنة بملة إلا خلا فيها من قبلك نذير ينذرهم بأسنا على
كفرهم بالله.
كما حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ
إِلا خَلا فِيهَا نَذِيرٌ ) كل أمة كان لها رسول.
وقوله( وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ) يقول
تعالى ذكره مسليًا نبيه صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم فيما يلقى من مشركي قومه من
التكذيب : وإن يكذبك يا محمد مشركو قومك فقد كذب الذين من قبلهم من الأمم الذين
جاءتهم رسلهم بالبينات ، يقول : بحجج من الله واضحة ، وبالزبر يقول : وجاءتهم
بالكتب من عند الله.
كما حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة قوله(بِالْبَيِّنَاتِ
وَبِالزُّبُرِ) أي : الكتب.
وقوله(بِالْكِتَابِ الْمُنِيرِ) يقول : وجاءهم من الله الكتاب المنير لمن تأمله
وتدبره أنه الحق.
كما حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة قوله(وَبِالْكِتَابِ
الْمُنِيرِ) يضعف الشيء وهو واحد.
وقوله( ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ ) يقول تعالى
ذكره : ثم أهلكنا الذين جحدوا رسالة رسلنا ، وحقيقة ما دعوهم إليه من آياتنا وأصروا
على جحودهم(فَكَيْفَ كَانَ نَكِير) يقول : فانظر يا محمد كيف كان تغييري بهم وحلول
عقوبتي بهم.
القول في تأويل قوله تعالى : { أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزلَ مِنَ السَّمَاءِ
(20/460)
مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ
مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ
أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ (27) وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالأنْعَامِ
مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ
الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ (28) }
يقول تعالى ذكره : ألم تر يا محمد أن الله أنزل من السماء غيثًا فأخرجنا به ثمرات
مختلفًا ألوانها : يقول : فسقيناه أشجارًا في الأرض فأخرجنا به من تلك الأشجار
ثمرات مختلفا ألوانها ؛ منها الأحمر ومنها الأسود والأصفر ، وغير ذلك من ألوانها(
وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ ) يقول تعالى ذكره : ومن الجبال طرائق ،
وهي الجدد ، وهي الخطط تكون في الجبال بيض وحمر وسود ، كالطرق واحدتها جدة ، ومنه
قول امرىء القيس في صفة حمار :
كأنَّ سَرَاتَهُ وَجُدَّةَ مَتْنِهِ... كَنَائِنُ يَجْرِي فَوْقَهُنَّ دَلِيصُ (1)
يعني بالجدة : الخطة السوداء تكون في متن الحمار.
وقوله(مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا) يعني : مختلف ألوان الجدد(وَغَرَابِيبُ سُودٌ)
وذلك من المقدم الذي هو بمعنى التأخير ، وذلك أن العرب تقول : هو أسود غربيب ، إذا
وصفوه بشدة السواد ، وجعل السواد ها هنا صفة للغرابيب.
__________
(1) البيت لامرئ القيس (مختار الشعر الجاهلي ، بشرح مصطفى السقا ، طبعة مصطفى
البابي الحلبي وأولاده ص 127) وفيه " ظهره " في موضع " متنه "
. و " بينهن " في موضع " فوقهن " . قال شارحه : سراته : ظهره.
والجدة : الخط الذي وسط الظهر. والكنائن : جعاب السهام ، من جلد أو خشب ، والدليص
: ماء الذهب. شبه الخط الذي على ظهر الحمار في بريقه ولونه ، بجعاب مذهبه ، مع
بريق جلدها وإملاسه. ا . هـ. واستشهد به مؤلف عند قوله تعالى : (ومن جبال جدد بيض
وحمر) على أن معنى الجدد : الخطط تكون في الجبال : بيض وحمر وسود وحمر كالطرق ،
واحدها جدة ، وأنشد بيت امرئ القيس كرواية المؤلف. ثم قال : والجدة : الخطة
السوداء في متن الحمار. وقال الفراء : يقال : أدلصت الشيء ودلصته : إذا برق. فكل
شيء يبرق نحو المرآة والذهب والفضة ، فهو دليص.
(20/461)
وقوله( وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ
وَالأنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ ) كما من الثمرات والجبال مختلف
ألوانه بالحمرة والبياض والسواد والصفرة ، وغير ذلك.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة في قوله( أَلَمْ تَرَ
أَنَّ اللَّهَ أَنزلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ
مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا ) أحمر وأخضر وأصفر( وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ )
أي : طرائق بيض( وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا ) أي : جبال حمر
وبيض(وَغَرَابِيبُ سُودٌ) هو الأسود يعني لونه كما اختلف ألوان هذه اختلف ألوان
الناس والدواب والأنعام كذلك.
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك
يقول في قوله( وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ ) طرائق بيض وحمر وسود ، وكذلك
الناس مختلف ألوانهم.
حدثنا عمرو بن عبد الحميد الآملي ، قال : ثنا مروان ، عن جويبر عن الضحاك قوله(
وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ ) قال : هي طرائق حمر وسود.
وقوله( إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ ) يقول تعالى ذكره :
إنما يخاف الله فيتقي عقابه بطاعته العلماء ، بقدرته على ما يشاء من شيء ، وأنه
يفعل ما يريد ، لأن من علم ذلك أيقن بعقابه على معصيته ؛ فخافه ورهبه خشية منه أن
يعاقبه.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني علي قال : ثنا عبد الله قال : ثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس قوله(
إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ ) قال : الذين يعلمون أن
الله على كل شيء قدير.
(20/462)
إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ (29) لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ (30)
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال :
ثنا سعيد ، عن قتادة قوله( إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ
) قال : كان يقال : كفى بالرهبة علمًا.
وقوله(إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ) يقول تعالى ذكره : إن الله عزيز في انتقامه
ممن كفر به غفور لذنوب من آمن به وأطاعه.
القول في تأويل قوله تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ
وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً
يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ (29) لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ
مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ (30) }
يقول تعالى ذكره : إن الذين يقرءون كتاب الله الذي أنزله على محمد صَلَّى الله
عَلَيْهِ وَسَلَّم(وَأَقَامُوا الصَّلاةَ) يقول : وأدوا الصلاة المفروضة لمواقيتها
بحدودها ، وقال : وأقاموا الصلاة بمعنى : ويقيموا الصلاة.
وقوله( وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً ) يقول : وتصدقوا
بما أعطيناهم من الأموال سرًّا في خفاء وعلانية جهارًا ، وإنما معنى ذلك أنهم
يؤدون الزكاة المفروضة ، ويتطوعون أيضًا بالصدقة منه بعد أداء الفرض الواجب عليهم
فيه.
وقوله(يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ) يقول تعالى ذكره : يرجون بفعلهم ذلك
تجارة لن تبور : لن تكسد ولن تهلك ، من قولهم : بارت السوق إذا كسدت وبار الطعام.
وقوله(تِجَارَةً) جواب لأول الكلام.
وقوله(لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ) يقول : ويوفيهم الله على فعلهم ذلك ثواب
أعمالهم التى عملوها في الدنيا(وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ) يقول : وكي يزيدهم
على الوفاء من فضله ما هو له أهل ، وكان مطرف بن عبد الله يقول : هذه آية القراء.
(20/463)
حدثنا محمد بن بشار قال : ثنا عمرو بن
عاصم قال : ثنا معتمر عن أبيه ، عن قتادة قال : كان مطرف إذا مر بهذه الآية( إِنَّ
الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ ) يقول : هذه آية القراء.
حدثنا ابن المثنى قال : ثنا محمد بن جعفر قال : ثنا شعبة ، عن يزيد ، عن مطرف بن
عبد الله أنه قال في هذه الآية( إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ ...) إلى آخر
الآية ، قال : هذه آية القراء.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة قال : كان مطرف بن عبد
الله يقول : هذه آية القراء( ِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ
فَضْلِهِ ).
وقوله(إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ) يقول : إن الله غفور لذنوب هؤلاء القوم الذين هذه
صفتهم شكور لحسناتهم.
كما حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة(إِنَّهُ غَفُورٌ
شَكُورٌ) إنه غفور لذنوبهم ، شكور لحسناتهم.
(20/464)
وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ (31)
القول في تأويل قوله تعالى : {
وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا
بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ (31) }
يقول تعالى ذكره : ( وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ ) يا محمد
وهو هذا القرآن الذي أنزله الله عليه(هُوَ الْحَقُّ) يقول : هو الحق عليك وعلى
أمتك أن تعمل به ، وتتبع ما فيه دون غيره من الكتب التي أوحيت إلى غيرك(
مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ ) يقول : هو يصدق ما مضى بين يديه فصار أمامه من
الكتب التي أنزلتها إلى من قبلك من الرسل.
كما حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة قوله( وَالَّذِي
أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ
يَدَيْهِ )
(20/464)
ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (32)
للكتب التي خلت قبله.
وقوله( إِنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ ) يقول تعالى ذكره : إن الله
بعباده لذو علم وخبرة بما يعملون بصير بما يصلحهم من التدبير.
القول في تأويل قوله تعالى : { ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ
اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ
وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ
الْكَبِيرُ (32) }
اختلف أهل التأويل في معنى الكتاب الذي ذكر الله في هذه الآية أنه أورثه الذين
اصطفاهم من عباده ، ومن المصطفون من عباده ، والظالم لنفسه ؛ فقال بعضهم : الكتاب
هو الكتب التي أنزلها الله من قبل الفرقان. والمصطفون من عباده أمة محمد صَلَّى
الله عَلَيْهِ وَسَلَّم. والظالم لنفسه أهل الإجرام منهم.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا علي قال : ثنا أَبو صالح قال : ثني معاوية عن علي عن ابن عباس قوله(ثُمَّ
أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ ...) إلى قوله(الْفَضْلُ الْكَبِيرُ) هم أمة محمد صَلَّى
الله عَلَيْهِ وَسَلَّم ورثهم الله كل كتاب أنزله ؛ فظالمهم يغفر له ، ومقتصدهم
يحاسب حسابًا يسيرًا ، وسابقهم يدخل الجنة بغير حساب.
حدثنا ابن حميد قال : ثنا الحكم بن بشير قال : ثنا عمرو بن قيسٍ عن عبد الله بن
عيسى ، عن يزيد بن الحارث عن شقيق ، عن أَبي وائل عن عبد الله بن مسعود أنه قال :
هذه الأمة ثلاثة أثلاث يوم القيامة ؛ ثلث يدخلون الجنة بغير حساب ، وثلث يحاسبون
حسابًا يسيرًا ، وثلث يجيئون بذنوب عظام حتى يقول : ما هؤلاء ؟ وهو أعلم تبارك
وتعالى ، فتقول الملائكة : هؤلاء جاءوا بذنوب عظام إلا أنهم لم يشركوا بك ، فيقول
الرب : أدخلوا هؤلاء في سعة رحمتي ، وتلا عبد الله هذه الآية( ثُمَّ أَوْرَثْنَا
الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا ).
(20/465)
حدثنا حميد بن مسعدة قال : ثنا يزيد بن
زريع قال : ثنا عون قال : ثنا عبد الله بن الحارث بن نوفل قال : ثنا كعب الأحبار
أن الظالم لنفسه من هذه الأمة ، والمقتصد والسابق بالخيرات كلهم في الجنة ، ألم تر
أن الله قال( ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ
عِبَادِنَا ...) إلى قوله(كُل كَفُورٍ).
حدثني علي بن سعيد الكندي قال : ثنا عبد الله بن المبارك ، عن عوف ، عن عبد الله
بن الحارث بن نوفل ، قال : سمعت كعبًا يقول : ( فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ
وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ) قال
: كلهم في الجنة ، وتلا هذه الآية( جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا ).
حدثنا الحسن بن عرفة قال : ثنا مروان بن معاوية الفزاري عن عوف بن أبي جبلة قال :
ثنا عبد الله بن الحارث بن نوفل قال : ثنا كعب أن الظالم من هذه الأمة والمقتصد
والسابق بالخيرات كلهم في الجنة ، ألم تر أن الله قال( ثُمَّ أَوْرَثْنَا
الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا ...) إلى قوله(لُغُوب) والذين
كفروا لهم نار جهنم ، قال : قال كعب : فهؤلاء أهل النار.
حدثني يعقوب قال : ثنا ابن علية عن عوف قال : سمعت عبد الله بن الحارث يقول : قال
كعب : إن الظالم لنفسه والمقتصد والسابق بالخيرات من هذه الأمة كلهم في الجنة ،
ألم تر أن الله يقول( ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ
عِبَادِنَا ...) حتى بلغ قوله(جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا).
حدثني يعقوب بن إبراهيم قال : ثنا ابن عُلية ، قال : أخبرنا حميد عن إسحاق بن عبد
الله بن الحارث عن أبيه أن ابن عباس سأل كعبًا عن قوله تعالى( ثُمَّ أَوْرَثْنَا
الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا ...) إلى قوله(بِإِذْنِ
اللَّهِ) فقال : تماست مناكبهم ورب الكعبة ثم أعطوا الفضل بأعمالهم.
حدثنا ابن حميد قال : ثنا الحكم بن بشير قال : ثنا عمرو بن قيس عن أَبي إسحاق
السبيعي في هذه الآية( ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا ) قال
:
(20/466)
قال أَبو إسحاق : أما ما سمعت منذ ستين
سنة ، فكلهم ناجٍ.
قال : ثنا عمرو عن محمد بن الحنفية قال : إنها أمة مرحومة ، الظالم مغفور له
والمقتصد في الجنات عند الله والسابق بالخيرات في الدرجات عند الله.
وقال آخرون : الكتاب الذي أورث هؤلاء القوم هو شهادة أن لا إله إلا الله ،
والمصطفون هم أمة محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم ، والظالم لنفسه منهم هو
المنافق ، وهو في النار ، والمقتصد والسابق بالخيرات في الجنة.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا أَبو عمار الحسين بن حريث المروزي قال : ثنا الفضل بن موسى عن حسين بن واقد
عن يزيد عن عكرمة عن عبد الله( فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ
مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ ) قال : اثنان في الجنة وواحد في
النار.
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ،
عن ابن عباس قوله( ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ
عِبَادِنَا ...) إلى آخر الآية قال : جعل أهل الإيمان على ثلاثة منازل ، كقوله(
فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ
مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُولَئِكَ
الْمُقَرَّبُونَ ) فهم على هذا المثال.
حدثنا ابن حميد قال : ثنا يحيى بن واضح قال : ثنا الحسين عن يزيد عن عكرمة( فَمِنْهُمْ
ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ ...) الآية ، قال : الاثنان في الجنة
وواحد في النار ، وهي بمنزلة التي في الواقعة( فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا
أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ
وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ ).
حدثنا سهل بن موسى قال : ثنا عبد المجيد عن ابن جريج عن مجاهد في قوله( ثُمَّ
أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ
ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ ) قال : هم أصحاب المشأمة(وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ) قال : هم
أصحاب الميمنة(وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرِاتِ) قال : هم السابقون من الناس
كلهم.
(20/467)
حدثنا الحسن بن عرفة قال : ثنا مروان
بن معاوية قال : قال عوف : قال الحسن : أما الظالم لنفسه فإنه هو المنافق ، سقط
هذا وأما المقتصد والسابق بالخيرات فهما صاحبا الجنة.
حدثني يعقوب قال : ثنا ابن علية عن عوف قال : قال الحسن : الظالم لنفسه المنافق.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة قوله( ثُمَّ أَوْرَثْنَا
الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا ) شهادة أن لا إله إلا
الله(فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ) هذا المنافق في قول قتادة والحسن(وَمِنْهُمْ
مُقْتَصِدٌ) قال : هذا صاحب اليمين(وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ) قال : هذا
المقرب ، قال قتادة : كان الناس ثلاث منازل في الدنيا ، وثلاث منازل عند الموت ،
وثلاث منازل في الآخرة ؛ أما الدنيا فكانوا : مؤمن (1) ومنافق ومشرك ، وأما عند
الموت فإن الله قال( فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ فَرَوْحٌ
وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ
فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ
الضَّالِّينَ فَنزلٌ مِنْ حَمِيمٍ وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ ) وأما في الآخرة فكانوا
أزواجًا ثلاثة( فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ
وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ وَالسَّابِقُونَ
السَّابِقُونَ أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ ).
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أَبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال
: ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أَبي نجيح ، عن مجاهد قوله( ثُمَّ
أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ
ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ ) قال : هم أصحاب المشأمة(وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ) قال : أصحاب
الميمنة(وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ) قال : فهم السابقون من الناس كلهم.
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا أَبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال :
ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أَبي نجيح ، عن
__________
(1) هو تقدير مبتدأ قبله ، أي هم مؤمن ... إلخ. أو بعضهم مؤمن.
(20/468)
مجاهد( ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ
الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ ) قال :
سقط هذا( وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ
اللَّهِ ) قال : سبق هذا بالخيرات وهذا مقتصد على أثره.
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب تأويل من قال : عنى بقوله( ثُمَّ أَوْرَثْنَا
الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا ) الكتب التي أنزلت من قبل
الفرقان.
فإن قال قائل : وكيف يجوز أن يكون ذلك معناه وأمة محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ
وَسَلَّم لا يتلون غير كتابهم ، ولا يعملون إلا بما فيه من الأحكام والشرائع ؟ قيل
: إن معنى ذلك على غير الذي ذهبت إليه وإنما معناه : ثم أورثنا الإيمان بالكتاب
الذين اصطفينا ؛ فمنهم مؤمنون بكل كتاب أنزله الله من السماء قبل كتابهم وعاملون
به ؛ لأن كل كتاب أنزل من السماء قبل الفرقان ، فإنه يأمر بالعمل بالفرقان عند
نزوله ، وباتباع من جاء به ، وذلك عمل من أقر بمحمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم
وبما جاء به وعمل بما دعاه إليه بما فى القرآن ، وبما في غيره من الكتب التي أنزلت
قبله.
وإنما قيل : عنى بقوله(ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ) الكتب التي ذكرنا ؛ لأن الله
جل ثناؤه قال لنبيه محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم( وَالَّذِي أَوْحَيْنَا
إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ ) ثم
أتبع ذلك قوله( ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا ) فكان
معلومًا إذ كان معنى الميراث إنما هو انتقال معنى من قوم إلى آخرين ، ولم تكن أمة
على عهد نبينا صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم انتقل إليهم كتاب من قوم كانوا قبلهم
غير أمته أن ذلك معناه : وإذ كان ذلك كذلك فبين أن المصطفين من عباده هم مؤمنو
أمته ، وأما الظالم لنفسه فإنه لأن يكون من أهل الذنوب والمعاصي التي هي دون
النفاق والشرك عندي أشبه بمعنى الآية من أن يكون المنافق أو الكافر ، وذلك أن الله
تعالى ذكره أتبع هذه الآية قوله(جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا) فعم بدخول الجنة
جميع الأصناف الثلاثة.
فإن قال قائل : فإن قوله(يَدْخُلُونَهَا) إنما عنى به المقتصد والسابق!
(20/469)
قيل له : وما برهانك على أن ذلك كذلك
من خبر أو عقل ؟ فإن قال : قيام الحجة أن الظالم من هذه الأمة سيدخل النار ، ولو
لم يدخل النار من هذه الأصناف الثلاثة أحد وجب أن لا يكون لأهل الإيمان وعيد ؟ قيل
: إنه ليس في الآية خبر أنهم لا يدخلون النار ، وإنما فيها إخبار من الله تعالى
ذكره أنهم يدخلون جنات عدن ، وجائز أن يدخلها الظالم لنفسه بعد عقوبة الله إياه
على ذنوبه التي أصابها في الدنيا ، وظلمه نفسه فيها بالنار أو بما شاء من عقابه ،
ثم يدخله الجنة ، فيكون ممن عمه خبر الله جل ثناؤه بقوله(جَنَّاتُ عَدْنٍ
يَدْخُلُونَهَا).
وقد روي عن رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم بنحو الذي قلنا في ذلك أخبار
وإن كان في أسانيدها نظر مع دليل الكتاب على صحته على النحو الذي بينت.
* ذكر الرواية الواردة بذلك :
حدثنا محمد بن بشار قال : ثنا أَبو أحمد الزبيري قال : ثنا سفيان عن الأعمش قالَ :
ذكر أَبو ثابت أنه دخل المسجد ، فجلس إلى جنب أَبي الدرداء ، فقال : اللهم آنس
وحشتي وارحم غربتي ويسر لي جليسًا صالحًا ، فقال أَبو الدرداء : لئن كنت صادقًا
لأنا أسعد به منك ، سأحدثك حديثًا سمعته من رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ
وَسَلَّم لم أحدث به منذ سمعته ذَكَرَ هذه الآية( ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ
الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ ومنهم
وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ ) فأما السابق بالخيرات
فيدخلها بغير حساب وأما المقتصد فيحاسب حسابًا يسيرًا ، وأما الظالم لنفسه فيُصيبه
في ذلك المكان من الغم والحزن فذلك قوله( الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا
الْحَزَنَ ).
حدثنا ابن المثنى قال : ثنا محمد بن جعفر قال : ثنا شعبة عن الوليد بن المغيرة ،
أنه سمع رجلا من ثقيف حدث عن رجل من كنانة عن أَبي سعيد الخدري عن النبي صَلَّى
الله عَلَيْهِ وَسَلَّم أنه قال في هذه الآية : ( ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ
الَّذِينَ
(20/470)
جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ (33) وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ (34)
اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا
فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ ومنهم وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ
بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ) قال : " هؤلاء كلهم بمنزلة واحدة وكلهم في
الجنة " . وعنى بقوله(الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا) الذين
اخترناهم لطاعتنا واجتبيناهم ، وقوله(فَمْنِهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ) يقول : فمن
هؤلاء الذين اصطفينا من عبادنا من يظلم نفسه بركوبه المآثم واجترامه المعاصي
واقترافه الفواحش(وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ) وهو غير المبالغ في طاعة ربه وغير
المجتهد فيما ألزمه من خدمة ربه حتى يكون عمله في ذلك قصدًا(وَمِنْهُمْ سَابِقٌ
بِالْخَيْرَاتِ) وهو المبرز الذي قد تقدم المجتهدين في خدمة ربه وأداء ما لزمه من
فرائضه ، فسبقهم بصالح الأعمال وهي الخيرات التي قال الله جل ثناؤه(بِإِذْنِ
اللِّهِ) يقول : بتوفيق الله إياه لذلك.
وقوله(ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ) يقول تعالى ذكره : سبق هذا السابق من
سبقه بالخيرات بإذن الله ، هو الفضل الكبير الذي فضل به من كان مقتصرًا عن منزلته
في طاعة الله من المقتصد والظالم لنفسه.
القول في تأويل قوله تعالى : { جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا
مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ (33)
وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا
لَغَفُورٌ شَكُورٌ (34) }
يقول تعالى ذكره : بساتين إقامة يدخلونها هؤلاء الذين أورثناهم الكتاب ، الذين
اصطفينا من عبادنا يوم القيامة(يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ )
يلبسون في جنات عدن أسورة من ذهب( وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ )
يقول : ولباسهم في الجنة حرير.
وقوله( الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ ) اختلف أهل التأويل
في الحَزَنِ الذي حمد الله على إذهابه عنهم هؤلاء القوم ؛ فقال بعضهم : ذلك
(20/471)
الحزَن الذي كانوا فيه قبل دخولهم
الجنة من خوف النار إذ كانوا خائفين أن يدخلوها.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني قتادة بن سعيد بن قتادة السدوسي قال : ثنا معاذ بن هشام صاحب الدستوائي قال
: ثنا أَبي عن عمرو بن مالك عن أَبي الجوزاء عن ابن عباس في قوله( الْحَمْدُ
لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ ) قال : حزن النار.
حدثنا ابن حميد قال : ثنا ابن المبارك عن مَعْمَر عن يحيى بن المختار عن الحسن(
وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا ) قال : إن المؤمنين قوم ذُلُل
ذلَّت والله الأسماع والأبصار والجوارح ، حتى يحسبهم الجاهل مَرضَى ، وما بالقوم
مرض ، وإنهم لأصحة القلوب ولكن دخلهم من الخوف ما لم يدخل غيرهم ، ومنعهم من
الدنيا علمهم بالآخرة ، فقالوا( الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا
الْحَزَنَ ) والحَزَنُ ، والله ما حزنهم حزن الدنيا ولا تعاظم في أنفسهم ما طلبوا
به الجنة أبكاهم الخوف من النار ، وأنه من لا يتعزَّ بعزاء الله يقطِّع نفسه على
الدنيا حسرات ، ومن لم ير لله عليه نعمة إلا في مطعم أو مشرب فقد قل علمه وحضر
عذابه.
وقال آخرون : عني به الموت.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا أَبو كريب قال : ثنا ابن إدريس عن أبيه عن عطية في قوله( الْحَمْدُ لِلَّهِ
الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ ) قال : الموت.
وقال آخرون : عني به حزن الخبز (1) .
*
__________
(1) كذا في الأصل : الخبز ، ولعل المراد به. هم العيش في الدنيا. والعيش فيها
قوامه الطعام والخبز.
(20/472)
ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد قال : ثنا يعقوب عن حفص يعني ابن حميد عن شمر قال : لما أدخل الله
أهل الجنة الجنة قالوا( الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ )
قال : حزن الخبز.
وقال آخرون. عني بذلك : الحزن من التعب الذي كانوا فيه في الدنيا.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة قوله( وَقَالُوا
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ ) قال : كانوا في الدنيا
يعملون وينصبون وهم في خوف ، أو يحزنون.
وقال آخرون : بل عني بذلك الحزن الذي ينال الظالم لنفسه في موقف القيامة.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن بشار قال : ثنا أَبو أحمد قال : ثنا سفيان عن الأعمش قال : ذكر أَبو
ثابت أن أبا الدرداء قال : سمعت رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم يقول :
" أما الظالم لنفسه فيصيبه في ذلك المكان من الغم والحزن فذلك قوله(
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ ) " .
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال : إن الله تعالى ذكره أخبر عن هؤلاء القوم
الذين أكرمهم بما أكرمهم به أنهم قالوا حين دخلوا الجنة( الْحَمْدُ لِلَّهِ
الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ ) وخوف دخول النار من الحزن ، والجَزَع من
الموت من الحزن ، والجزع من الحاجة إلى المطعم من الحزن. ولم يخصص الله إذ أخبر
عنهم أنهم حمدوه على إذهابه الحزن عنهم نوعًا دون نوع ، بل أخبر عنهم أنهم عموا
جميع أنوع الحزن بقولهم ذلك ، وكذلك ذلك ؛ لأن من دخل الجنة فلا حزن
(20/473)
الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ (35)
عليه بعد ذلك ، فحمدهم على إذهابه عنهم
جميع معاني الحزن.
وقوله( إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ ) يقول تعالى ذكره مخبرًا عن قيل هذه
الأصناف الذين أخبر أنه اصطفاهم من عباده عند دخولهم الجنة : إن ربنا لغفور لذنوب
عباده الذين تابوا من ذنوبهم ، فساترها عليهم بعفوه لهم عنها ، شكور لهم على
طاعتهم إياه ، وصالح ما قدموا في الدنيا من الأعمال.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة قوله( إِنَّ رَبَّنَا
لَغَفُورٌ شَكُورٌ ) لحسناتهم.
حدثنا ابن حميد قال : ثنا يعقوب عن حفص عن شمر( إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ
) غفر لهم ما كان من ذنب ، وشكر لهم ما كان منهم.
القول في تأويل قوله تعالى : { الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ
فَضْلِهِ لا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ (35) }
يقول تعالى ذكره مخبرًا عن قيل الذين أدخلوا الجنة( إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ
الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ ) أي : ربنا الذي أنزلنا هذه الدار يعنون
الجنة ، فدار المقامة : دار الإقامة التي لا نقلة معها عنها ولا تحول ، والميم إذا
ضمت من " المقامة " فهو من الإقامة ، فإذا فتحت فهي من المجلس ، والمكان
الذي يقام فيه ، قال الشاعر :
يَومَانِ يَومُ مَقامَاتٍ وأنْدِيةٍ... وَيَومُ سَيرٍ إلَى الأعْدَاءِ تَأويب (1)
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل
__________
(1) البيت قد تقدم الاستشهاد به في هذا الجزء (22 : 65).
(20/474)
وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ (36) وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (37)
.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( الَّذِي أَحَلَّنَا
دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ ) أقاموا فلا يتحولون.
وقوله(لا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ) يقول : لا يصيبنا فيها تعب ولا وجع(وَلا
يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ) يعني باللغوب : العناء والإعياء.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن عبيد قال : ثنا موسى بن عمير عن أَبي صالح عن ابن عباس في قوله( لا
يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ ) قال : اللغوب : العناء
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة قوله( لا يَمَسُّنَا
فِيهَا نَصَبٌ ) أي : وجع.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لا
يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ
نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ (36) وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا
نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا
يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا
لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (37) }
يقول تعالى ذكره(وَالَّذِينَ كَفَرُوا) بالله ورسوله(لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ) يقول
: لهم نار جهنم مخلدين فيها لا حظ لهم في الجنة ولا نعيمها.
كما حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( لَهُمْ نَارُ
جَهَنَّمَ لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ ) بالموت(فَيَمُوتُوا) ، لأنهم لو ماتوا
لاستراحوا( وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا ) يقول : ولا يخفف عنهم من
عذاب نار جهنم بإماتتهم ،
(20/475)
فيخفف ذلك عنهم.
كما حدثني مطرَّف بن عبد الله الضَّبِّي قال : ثنا أَبو قتيبة قال ثنا أَبو هلال
الراسبي عن قتادة عن أَبي السوداء قال : مساكين أهل النار لا يموتون ، لو ماتوا
لاستراحوا.
حدثني عقبة بن سنان القزاز قال : ثنا غسان بن مضر قال : ثنا سعيد بن يزيد وحدثني
يعقوب قال : ثنا ابن علية عن سعيد بن يزيد ، وحدثنا سَوَّار بن عبد الله قال : ثنا
بشر بن المفضل ، ثنا أَبو سلمة عن أَبي نضرة عن أَبي سعيد قال : قال رسول الله
صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم : " أما أهل النار الذين هم أهلها فإنهم لا
يموتون فيها ولا يحيون ، لكنَّ ناسًا ، أو كما قال ، تُصيبهمُ النارُ بذنوبِهم ،
أو قال : بخطاياهم ، فَيُمِيتُهم إماتةً حتى إذا صاروا فَحْمًا أذن في الشفاعة ،
فجيء بهم ضَبَائرَ ضَبَائرَ ، فَبُثُّوا على أهل الجنة ، فقال : يا أهلَ الجنة
أفِيضُوا عليهم فَيَنْبُتُون كما تَنْبُتُ الحبة في حَمِيلِ السيل " فقال رجل
من القوم حينئذٍ : كأن رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم قد كان بالبادية .
فإن قال قائل : وكيف قيل( وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا ) وقد قيل في
موضع آخر( كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا ) ؟ قيل : معنى ذلك : ولا يخفف
عنهم من هذا النوع من العذاب.
وقوله( كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ ) يقول تعالى ذكره : هكذا يكافِىء كل جحود
لنعم ربه يوم القيامة ؛ بأن يدخلهم نار جهنم بسيئاتهم التي قدموها في الدنيا.
وقوله( وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا
غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ ) يقول تعالى ذكره : هؤلاء الكفار يستغيثون ويضجون
في النار ، يقولون : يا ربنا أخرجنا نعمل صالحًا أي : تعمل بطاعتك(غَيْرَ الَّذِي
كُنَّا نَعْمَلُ) قبلُ من معاصيك. وقولهُ(يَصْطَرِخُونَ) يفتعلون من الصراخ ؛
حولتْ تاؤها طاءً لقرب مخرجها من الصاد لما ثَقُلت.
(20/476)
وقوله( أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا
يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ ) اختلف أهل التأويل في مبلغ ذلك ؛ فقال بعضهم :
ذلك أربعون سنة.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن عبد الأعلى قال : ثنا بشر بن المفضل قال : ثنا عبد الله بن عثمان بن
خُثَيم عن مجاهد قال : سمعت ابن عباس يقول : العمر الذي أعذر الله إلى ابن آدم(
أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ ) أربعون سنة.
حدثني يعقوب قال : ثنا هشيم ، عن مجالد ، عن الشعبي عن مسروق أنه كان يقول : إذا
بلغ أحدكم أربعين سنة فليأخذ حذره من الله.
وقال آخرون : بل ذلك ستون سنة.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن بشار قال : ثنا عبد الرحمن قال : ثنا سفيان عن ابن خُثَيم عن مجاهد
عن ابن عباس( أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ ) قال
: ستون سنة.
حدثنا أَبو كريب قال : ثنا ابن إدريس قال : سمعت عبد الله بن عثمان بن خُثَيم عن
مجاهد عن ابن عباس قال : العمر الذي أعذر الله فيه لابن آدم ستون سنة.
حدثنا علي بن شعيب قال : ثنا محمد بن إسماعيل بن أبي فديك عن إبراهيم بن الفضل عن
أَبي حسين المكي عن عطاء بن أبي رباح عن ابن عباس قال : قال رسول الله صَلَّى الله
عَلَيْهِ وَسَلَّم : " إذا كان يومُ القيامةِ نُودِي : أين أبناء الستين ،
وهو العمر الذي قال الله( أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ
تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ ) " .
حدثني أحمد بن الفرج الحمصي قال : ثنا بقية بن الوليد قال : ثنا
(20/477)
مطرف بن مازن الكناني قال : ثني معمر
بن راشد قال : سمعت محمد بن عبد الرحمن الغفاري يقول : سمعت أبا هريرة يقول : قال
رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم : " لَقدْ أعْذَرَ اللهُ إلَى صاحب
السِّتَّين سنة والسَّبعين " .
حدثنا أَبو صالح الفزاري قال : ثنا محمد بن سوار قال : ثنا يعقوب بن عبدٍ القاريُّ
الإسكندريُّ قال : ثنا أَبو حازم عن سعيد المقبري عن أَبي هريرة قال : قال رسول
الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم : " منْ عَمَّرهُ اللهُ ستين سنةً فَقَد
أعذرَ إليهِ في العُمْرِ " .
حدثنا محمد بن سوار قال : ثنا أسد بن حميدٍ عن سعيد بن طريف عن الأصبغ بن نباتة عن
علي رضي الله عنه في قوله( أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ
تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ ) قال : العمر الذي عمركم الله به ستون سنة.
وأشبه القولين بتأويل الآية إذ كان الخبر الذي ذكرناه عن رسول الله صَلَّى الله
عَلَيْهِ وَسَلَّم خبرًا في إسناده بعض من يجب التثبت في نقله ، قول من قال ذلك
أربعون سنة ، لأن في الأربعين يتناهى عقل الإنسان وفهمه ، وما قبل ذلك وما بعده
منتقص عن كماله في حال الأربعين.
وقوله(وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ) اختلف أهل التأويل في معنى النذير ؛ فقال بعضهم :
عنى به محمدًا صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله(وَجَاءَكُمُ
النَّذِيرُ) قال : النذير : النبي ، وقرأ(هَذَا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الأولَى).
وقيل : عَنى به الشيب.
فتأويل الكلام إذن : أولم نعمركم يا معشر المشركين بالله من قريش من السنين ، ما
يتذكر فيه من تذكر ، من ذوي الألباب والعقول ، واتعظ منهم من اتعظ ، وتاب من تاب ،
وجاءكم من الله منذر ينذركم ما أنتم فيه اليوم من عذاب
(20/478)
إِنَّ اللَّهَ عَالِمُ غَيْبِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (38)
الله ، فلم تتذكروا مواعظ الله ، ولم
تقبلوا من نذير الله الذي جاءكم ما أتاكم به من عند ربكم.
القول في تأويل قوله تعالى : { إِنَّ اللَّهَ عَالِمُ غَيْبِ السَّمَاوَاتِ
وَالأرْضِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (38) }
يقول تعالى ذكره : (فَذُوقُوا) نار عذاب جهنم الذي قد صَلِيتموه أيها الكافرون
بالله(فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ) يقول : فما للكافرين الذين ظلموا أنفسهم
فأكسبوها غضب الله بكفرهم بالله في الدنيا من نصير ينصرهم من الله ليستنقذهم من
عقابه. وقوله( إِنَّ اللَّهَ عَالِمُ غَيْبِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ ) يقول تعالى
ذكره : إن الله عالم ما تخفون أيها الناس في أنفسكم وتضمرونه ، وما لم تضمروه ولم
تنووه مما ستنوونه ، وما هو غائب عن أبصاركم في السماوات والأرض ، فاتقوه أن يطلع
عليكم ، وأنتم تضمرون في أنفسكم من الشك في وحدانية الله أو في نبوة محمد ، غير
الذي تبدونه بألسنتكم ، (إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ).
(20/479)
هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَلَا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلَّا مَقْتًا وَلَا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلَّا خَسَارًا (39)
القول في تأويل قوله تعالى : { هُوَ
الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ فِي الأرْضِ فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَلا
يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلا مَقْتًا وَلا يَزِيدُ
الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلا خَسَارًا (39) }
يقول تعالى ذكره : الله الذي جعلكم أيها الناس خلائف في الأرض من بعد عاد وثمود ،
ومن مضى من قبلكم من الأمم فجعلكم تخلفونهم في ديارهم ومساكنهم.
كما حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة قوله( هُوَ
(20/479)
قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ أَمْ آَتَيْنَاهُمْ كِتَابًا فَهُمْ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْهُ بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا إِلَّا غُرُورًا (40)
الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ فِي
الأرْضِ ) أمة بعد أمة ، وقرنًا بعد قرن.
وقوله(فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ) يقول تعالى ذكره : فمن كفر بالله منكم
أيها الناس فعلى نفسه ضر كفره ، لا يضر بذلك غير نفسه ، لأنه المعاقب عليه دون
غيره. وقوله( وَلا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلا
مَقْتًا ) يقول تعالى : ولا يزيد الكافرين كفرهم عند ربهم إلا بعدًا من رحمة الله(
وَلا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلا خَسَارًا ) يقول : ولا يزيد الكافرين
كفرهم بالله إلا هلاكا.
القول في تأويل قوله تعالى : { قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءَكُمُ الَّذِينَ
تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الأرْضِ أَمْ لَهُمْ
شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا فَهُمْ عَلَى بَيِّنَةٍ
مِنْهُ بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا إِلا غُرُورًا (40) }
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم : (قُلْ) يا محمد
لمشركي قومك(أَرَأَيْتُمْ) أيها القوم( شُرَكَاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ
دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الأرْضِ ) يقول : أروني أي شيء خلقوا
من الأرض(أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ) يقول : أم لشركائكم شرك مع الله
في السماوات إن لم يكونوا خلقوا من الأرض شيئًا( أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا
فَهُمْ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْهُ ) يقول : أم آتينا هؤلاء المشركين كتابًا أنزلناه
عليهم من السماء بأن يشركوا بالله الأوثان والأصنام ، فهم على بينة منه ، فهم على
برهان مما أمرتهم فيه من الإشراك بي.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( قُلْ أَرَأَيْتُمْ
شُرَكَاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا
مِنَ الأرْضِ ) لا شيء والله خلقوا منها(أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ) لا
والله ما لهم فيها شرك(أَمْ
(20/480)
إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا (41)
آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا فَهُمْ عَلَى
بَيِّنَةٍ مِنْهُ) يقول : أم آتيناهم كتابًا فهو يأمرهم أن يشركوا.
وقوله(بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا إِلا غُرُورًا ) وذلك
قول بعضهم لبعض( مَا نَعْبُدُهُمْ إِلا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى )
خداعًا من بعضهم لبعض وغرورًا ، وإنما تزلفهم آلهتهم من النار ، وتقصيهم من الله
ورحمته.
القول في تأويل قوله تعالى : { إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ
أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ
إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا (41) }
يقول تعالى ذكره : (إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ) لئلا تزولا
من أماكنهما(وَلَئِنْ زَالَتَا) يقول : ولو زالتا(إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ
مِنْ بَعْدِهِ) يقول : ما أمسكهما أحد سواه. ووضعت " لئن " في
قوله(وَلَئِنْ زَالَتَا) في موضع " لو " لأنهما يجابان بجواب واحد ،
فيتشابهان في المعنى ، ونظير ذلك قوله( وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحًا فَرَأَوْهُ
مُصْفَرًّا لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ ) بمعنى : ولو أرسلنا ريحًا ،
وكما قال(وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ) بمعنى : لو أتيت. وقد
بيَّنا ذلك فيما مضى بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة قوله( إِنَّ اللَّهَ
يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ أَنْ تَزُولا ) من مكانهما.
حدثنا ابن بشار قال : ثنا عبد الرحمن قال : ثنا سفيان عن الأعمش عن أَبي وائل قال
: جاء رجل إلى عبد الله فقال : من أين جئت ؟ قال : من الشأم. قال : من لَقيتَ ؟
قال : لقيتُ كعبًا. فقال : ما حدثك كعب ؟ قال : حدثني
(20/481)
وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَا زَادَهُمْ إِلَّا نُفُورًا (42) اسْتِكْبَارًا فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّةَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلًا (43)
أن السماوات تدور على منكب ملك. قال :
فصدقته أو كذبته ؟ قال : ما صدقته ولا كذبته. قال : لوددت أنك افتديت من رحلتك
إليه براحلتك ورحلها ، وكذب كعب ، إن الله يقول( إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ
السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ
أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ ).
حدثنا جرير عن مغيرة عن إبراهيم قال : ذهب جُندَب البَجَلي إلى كعب الأحبار فقدم
عليه ثم رجع فقال له عبد الله : حدثنا ما حدثك. فقال : حدثني أن السماء في قطب
كقطب الرحا ، والقطب عمود على منكب ملك. قال عبد الله : لوددت أنك افتديت رحلتك
بمثل راحلتك ، ثم قال : ما تنتكت اليهودية في قلب عبد فكادت أن تفارقه ، ثم قال(
إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ أَنْ تَزُولا ) كفى بها زوالا أن
تدور.
وقوله(إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا) يقول تعالى ذكره : إن الله كان حليمًا عمن
أشرك وكفر به من خلقه فى تركه تعجيل عذابه له ، غفورًا لذنوب من تاب منهم ، وأناب
إلى الإيمان به ، والعمل بما يرضيه.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ
لَئِنْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الأمَمِ فَلَمَّا
جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَا زَادَهُمْ إِلا نُفُورًا (42) اسْتِكْبَارًا فِي الأرْضِ
وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلا بِأَهْلِهِ فَهَلْ
يَنْظُرُونَ إِلا سُنَّةَ الأوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلا وَلَنْ
تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلا (43) }
يقول تعالى ذكره : وأقسم هؤلاء المشركون بالله جهد أيمانهم ، يقول : أشد الإيمان
فبالغوا فيها ، لئن جاءهم من الله منذر ينذرهم بأس الله( لَيَكُونُنَّ أَهْدَى
مِنْ إِحْدَى الأمَمِ ) يقول : ليكونن أسلك لطريق الحق وأشد قبولا لما يأتيهم به
النذير من عند الله ، من إحدى الأمم التي خلت من قبلهم(فَلَمَّا جَاءَهُمْ
نَذِيرٌ)
(20/482)
يعني بالنذير محمدًا صَلَّى الله
عَلَيْهِ وَسَلَّم ، يقول : فلما جاءهم محمد ينذرهم عقاب الله على كفرهم.
كما حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة قوله(فَلَمَّا
جَاءَهُمْ نَذِيرٌ) وهو محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم.
وقوله(مَا زَادَهُمْ إِلا نُفُورًا) يقول : ما زادهم مجيء النذير من الإيمان بالله
واتباع الحق وسلوك هدى الطريق ، إلا نفورًا وهربًا.
وقوله(اسْتِكْبَارًا فِي الأرْضِ) يقول : نفروا استكبارًا في الأرض وخدعة سيئة ،
وذلك أنهم صدوا الضعفاء عن اتباعه مع كفرهم به. والمكر هاهنا : هو الشرك.
كما حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( وَمَكْرَ السَّيِّئِ
) وهو الشرك. وأضيف المكر إلى السيىء ، والسيىء من نعت المكر كما قيل(إِنَّ هَذَا
لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ) وقيل : إن ذلك في قراءة عبد الله(وَمَكْرًا سَيِّئًا) ،
وفي ذلك تحقيق القول الذي قلناه من أن السيىء في المعنى من نعت المكر. وقرأ ذلك
قراء الأمصار غير الأعمش وحمزة بهمزة محركة بالخفض. وقرأ ذلك الأعمش وحمزة بهمزة وتسكين
الهمزة اعتلالا منهما بأن الحركات لما كثرت في ذلك ثقل ، فسكَّنا الهمزة ، كما قال
الشاعر :
إذَا اعْوَجَجْنَ قُلْتُ صَاحِبْ قَوّمِ (1)
فسكن الباء لكثرة الحركات.
__________
(1) البيت من شواهد الفراء في معاني القرآن (الورقة 267) قال : وقوله (مكر السيئ) :
أضيف المكر إلى إلى السيئ ، وهو هو. كما قال : (إن هذا لهو حق اليقين). وتصديق ذلك
في رواية عبد الله : (ومكرًا سيئًا). وقوله (مكر السيئ) الهمزة في السيئ مخفوضة ،
وقد جزمها الأعمش وحمزة ، لكثرة الحركات ، كما قال : (لا يحزنهم الفزع الأكبر) ؛
قال الشاعر : إذَا اعْوَجَجْنَ قلْتُ صَاحبْ قَوّمِ
يريد : يا صاحبُ قوم ، فجزم الباء لكثرة الحركات قال الفراء : حدثني الرواسي ، عن
أَبي عمرو بن العلاء : (لا يحزنهم) جزم : ا . هـ.
(20/483)
أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا (44)
والصواب من القراءة ما عليه قراء
الأمصار من تحريك الهمزة فيه إلى الخفض وغير جائز في القرآن أن يقرأ بكل ما جاز في
العربية ؛ لأن القراءة إنما هي ما قرأت به الأئمة الماضية ، وجاء به السلف على
النحو الذي أخذوا عمن قبلهم.
وقوله( وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلا بِأَهْلِهِ ) يقول : ولا ينزل
المكر السيىء إلا بأهله ، يعني بالذين يمكرونه ، وإنما عنى أنه لا يحل مكروه ذلك
المكر الذي مكره هؤلاء المشركون إلا بهم.
وقال قتادة في ذلك ما حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة(
وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلا بِأَهْلِهِ ) وهو الشرك.
وقوله( فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلا سُنَّةَ الأوَّلِينَ ) يقول تعالى ذكره : فهل
ينتظر هؤلاء المشركون من قومك يا محمد إلا سنة الله بهم في عاجل الدنيا على كفرهم
به أليم العقاب ، يقول : فهل ينتظر هؤلاء إلا أن أحل بهم من نقمتي على شركهم بي
وتكذيبهم رسولي مثل الذي أحللت بمن قبلهم من أشكالهم من الأمم.
كما حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة قوله( فَهَلْ
يَنْظُرُونَ إِلا سُنَّةَ الأوَّلِينَ ) أي : عقوبة الأولين( فَلَنْ تَجِدَ
لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلا ) يقول : فلن تجد يا محمد لسنة الله تغييرًا.
وقوله( وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلا ) يقول : ولن تجد لسنة الله في
خلقه تبديلا يقول : لن يغير ذلك ولا يبدله ؛ لأنه لا مرد لقضائه.
القول في تأويل قوله تعالى : { أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأرْضِ فَيَنْظُرُوا
كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ
قُوَّةً وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي
الأرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا (44) }
(20/484)
يقول تعالى ذكره : أولم يَسِرْ يا محمد
هؤلاء المشركون بالله في الأرض التي أهلكنا أهلها بكفرهم بنا وتكذيبهم رسلنا فإنهم
تجار يسلكون طريق الشأم( فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ
قَبْلِهِمْ ) من الأمم التي كانوا يمرون بها ألم نهلكهم ونخرب مساكنهم ونجعلهم
مثلا لمن بعدهم ، فيتعظوا بهم وينزجروا عمَّا هم عليه من عبادة الآلهة بالشرك
بالله ، ويعلموا أن الذي فعل بأولئك ما فعل( وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً )
لن يتعذر عليه أن يفعل بهم مثل الذي فعل بأولئك من تعجيل النقمة والعذاب لهم.
وبنحو الذي قلنا في قوله( وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً ) قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( وَكَانُوا أَشَدَّ
مِنْهُمْ قُوَّةً ) يخبركم أنه أعطى القوم ما لم يعطكم.
وقوله( وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي
الأرْضِ ) يقول تعالى ذكره : ولن يعجزنا هؤلاء المشركون بالله من عبدة الآلهة
المكذبون محمدًا ، فيسبقونا هربًا في الأرض إذا نحن أردنا هلاكهم ؛ لأن الله لم
يكن ليعجزه شيء يريده في السماوات ولا في الأرض ، ولن يقدر هؤلاء المشركون أن
ينفذوا من أقطار السماوات والأرض. وقوله(إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا) يقول
تعالى ذكره : إن الله كان عليمًا بخلقه ، وما هو كائن ، ومن هو المستحق منهم تعجيل
العقوبة ، ومن هو عن ضلالته منهم راجع إلى الهدى آيب ، قديرا على الانتقام ممن شاء
منهم ، وتوفيق من أراد منهم للإيمان.
(20/485)
وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا (45)
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلَوْ
يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ
دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ
فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا (45) }
يقول تعالى ذكره : ( وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ ) يقول
(20/485)
ولو يعاقب الله الناس ويكافئهم بما
عملوا من الذنوب والمعاصي واجترحوا من الآثام ما ترك على ظهرها من دابة تدب عليها(
وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ) يقول : ولكن يؤخر عقابهم
ومؤاخذتهم بما كسبوا إلى أجل معلوم عنده ، محدود لا يقصرون دونه ، ولا يجاوزونه
إذا بلغوه.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( وَلَوْ يُؤَاخِذُ
اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ ) إلا
ما حمل نوح في السفينة.
وقوله( فإذا جاء أجلهم فإن الله كان بعباده بصيرا ) يقول تعالى ذكره : فإذا جاء
أجل عقابهم فإن الله كان بعباده بصيرًا من الذي يستحق أن يعاقب منهم ، ومن الذي
يستوجب الكرامة ومن الذي كان منهم في الدنيا له مطيعًا ، ومن كان فيها به مشركًا ،
لا يخفى عليه أحد منهم ، ولا يعزب عنه علم شيء من أمرهم.
آخر تفسير سورة فاطر
(20/486)
تفسير سورة يس
(20/487)
يس (1) وَالْقُرْآَنِ الْحَكِيمِ (2) إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (3) عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (4)
بسم الله الرحمن الرحيم
القول في تأويل قوله تعالى : { يس (1) وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (2) إِنَّكَ لَمِنَ
الْمُرْسَلِينَ (3) عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (4) }
اختلف أهل التأويل في تأويل قوله( يس ) ؛ فقال بعضهم : هو قسم أقسم الله به ، وهو
من أسماء الله.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني علي قال : ثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس ، قوله(
يس )قال : فإنه قسم أقسمه الله ، وهو من أسماء الله وقال آخرون : معناه : يا رجل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا أبو تُميلة ، قال : ثنا الحسين بن واقد ، عن يزيد ، عن
عكرمة ، عن ابن عباس ، في قوله(يس ) قال : يا إنسان بالحبشية .
حدثنا ابن المثنى قال : ثنا محمد بن جعفر ، قال : ثنا شعبة ، عن شرقي ، قال : سمعت
عكرمة يقول : تفسير )يس) : يا إنسان .
وقال آخرون : هو مفتاح كلام افتتح الله به كلامه.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا مؤمل ، قال : ثنا سفيان ، عن ابن أبي نجيح عن مجاهد
قال( يس )مفتاح كلام افتتح الله به كلامه .
(20/488)
تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (5)
وقال آخرون : بل هو اسم من أسماء
القرآن.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله( يس )قال : كل
هجاء في القرآن اسم من أسماء القرآن .
قال أبو جعفر ، وقد بيَّنا القول فيما مضى في نظائر ذلك من حروف الهجاء بما أغنى
عن إعادته وتكريره في هذا الموضع.
وقوله( وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ ) يقول : والقرآن المحكم بما فيه من أحكامه ،
وبيِّنات حججه( إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ ) يقول تعالى ذكره مقسمًا بوحيه
وتنزيله لنبيه محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم : إنك يا محمد لمن المرسلين
بوحي الله إلى عباده.
كما حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( وَالْقُرْآنِ
الْحَكِيمِ إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ ) قسم كما تسمعون( إِنَّكَ لَمِنَ
الْمُرْسَلِينَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ).
وقوله( عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ) يقول : على طريق لا اعوجاج فيه من الهدى وهو
الإسلام.
كما حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( عَلَى صِرَاطٍ
مُسْتَقِيمٍ ) : أي على الإسلام .
وفي قوله( عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ) وجهان ؛ أحدهما : أن يكون معناه : إنك لمن
المرسلين على استقامة من الحق ، فيكون حينئذٍ " على " من قوله( عَلَى
صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ) من صلة الإرسال. والآخر أن يكون خبرًا مبتدأ ، كأنه قيل :
إنك لمن المرسلين ، إنك على صراط مستقيم.
القول في تأويل قوله تعالى : { تَنزيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (5) }
(20/490)
لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آَبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ (6) لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (7)
اختلف القراء في قراءة قوله( تَنزيلَ
الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ ) فقرأته عامة قراء المدينة والبصرة(تَنزيلُ الْعَزِيزِ)
برفع " تنزيل " ، والرفع في ذلك يتجه من وجهين ؛ أحدهما بأن يجعل خبرًا
، فيكون معنى الكلام : إنه تنزيل العزيز الرحيم. والآخر : بالابتداء ، فيكون معنى
الكلام حينئذٍ : إنك لمن المرسلين ، هذا تنزيل العزيز الرحيم. وقرأته عامة قراء
الكوفة وبعض أهل الشام) تَنزيلَ) نصبًا على المصدر من قوله( إِنَّكَ لَمِنَ
الْمُرْسَلِينَ ) لأن الإرسال إنما هو عن التنزيل ، فكأنه قيل : لمنزل تنزيل
العزيز الرحيم حقًّا.
والصواب من القول في ذلك عندي أنهما قراءتان مشهورتان في قراء الأمصار ، متقاربتا
المعنى ، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب الصواب. ومعنى الكلام : إنك لمن المرسلين يا
محمد إرسال الرب العزيز في انتقامه من أهل الكفر به ، الرحيم بمن تاب إليه ، وأناب
من كفره وفسوقه أن يعاقبه على سالف جرمه بعد توبته له .
القول في تأويل قوله تعالى : { لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ
غَافِلُونَ (6) لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ
(7) }
اختلف أهل التأويل في تأويل قوله( لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ )
فقال بعضهم : معناه : لتنذر قومًا بما أنذر الله من قبلهم من آبائهم.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن المثنى ، قال : ثنا محمد بن جعفر ، قال : ثنا شعبة ، عن سماك ، عن
عكرمة في هذه الآية(لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ ) قال : قد أنذروا
.
وقال آخرون : بل معنى ذلك لتنذر قومًا ما أنذر آباؤهم (1) .
*
__________
(1) أي لم ينذر آباؤهم
(20/491)
إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلَالًا فَهِيَ إِلَى الْأَذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ (8) وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ (9)
ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا
أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ ) قال بعضهم : لتنذر قومًا ما أنذر آباؤهم من إنذار الناس
قبلهم. وقال بعضهم : لتنذر قومًا ما أنذر آباؤهم أي : هذه الأمة لم يأتهم نذير ،
حتى جاءهم محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم .
واختلف أهل العربية في معنى " ما " التي في قوله( مَا أُنْذِرَ
آبَاؤُهُمْ ) إذا وجِّهَ معنى الكلام إلى أن آباءهم قد كانوا أنذروا ، ولم يُرد
بها الجحد ؛ فقال بعض نحويي البصرة : معنى ذلك : إذا أريد به غير الجحد لتنذرهم
الذي أُنذِر آباؤهم( فَهُمْ غَافِلُونَ ) وقال : فدخول الفاء في هذا المعنى لا
يجوز ، والله أعلم. قال : وهو على الجحد أحسن ، فيكون معنى الكلام : إنك لمن
المرسلين إلى قوم لم ينذر آباؤهم ، لأنهم كانوا في الفترة.
وقال بعض نحويي الكوفة : إذإ لم يُرد بما الجحد ، فإن معنى الكلام : لتنذرهم بما
أنذر آباؤهم ، فتلقى الباء ، فتكون " ما " في موضع نصب( فَهُمْ
غَافِلُونَ ) يقول : فهم غافلون عما الله فاعل : بأعدائه المشركين به ، من إحلال
نقمته ، وسطوته بهم.
وقوله( لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ ) يقول
تعالى ذكره : لقد وجب العقاب على أكثرهم ، لأن الله قد حتم عليهم في أم الكتاب
أنهم لا يؤمنون بالله ، ولا يصدقون رسوله.
القول في تأويل قوله تعالى : { إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلالا
فَهِيَ إِلَى الأذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ (8) وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ
أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لا
يُبْصِرُونَ (9) }
(20/492)
يقول تعالى ذكره : إنا جعلنا أيمان
هؤلاء الكفار مغلولة إلى أعناقهم بالأغلال ، فلا تُبسط بشيء من الخيرات. وهي في
قراءة عبد الله فيما ذُكر(إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَيْمَانِهِمْ أَغْلالا فَهِيَ
إِلَى الأذْقَانِ) وقوله( إِلَى الأذْقَانِ ) يعني : فأيمانهم مجموعة بالأغلال في
أعناقهم ، فكُني عن الأيمان ، ولم يجر لها ذكر لمعرفة السامعين بمعنى الكلام ، وأن
الأغلال إذا كانت في الأعناق لم تكن إلا وأيدي المغلولين مجموعة بها إليها ،
فاستغنى بذكر كون الأغلال في الأعناق من ذكر الأيمان ، كما قال الشاعر :
وَما أدْرِي إذا يَمَّمْتُ وَجْهًا... أُرِيدُ الخَيْرَ أيُّهُما يَلِينِي
أألخَيرُ الذي أنَا أبْتَغِيهِ... أم الشَّرُّ الَّذي لا يَأتَلِيني (1)
فكنى عن الشر ، وإنما ذكر الخير وحده لعلم سامع ذلك بمعني قائله ، إذ كان الشر مع
الخير يذكر. والأذقان : جمع ذَقَن ، والذَّقَنُ : مجمع اللَّحيين.
وقوله( فَهُمْ مُقْمَحُونَ ) والمقمَح هو المقنع ، وهو أن يحدر الذقن حتى يصير في
الصدر ، ثم يرفع رأسه في قول بعض أهل العلم بكلام العرب من أهل البصرة ، وفي قول
بعض الكوفيين : هو الغاض بصره بعد رفع رأسه.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل
__________
(1) البيتان من الوافر ، وهما لسحيم بن وثيل الرياحي. وقد سبق الاستشهاد بهما في
(14 : 157) عند قوله تعالى : (سرابيل تقيكم الحرب) في سورة النحل. واستشهد بهما
هنا على أن قوله : " أريد الخير أيهما يليني " أي : أي الخير والشر يلني
، فاكتفى بذكر الخير وكنى عن الشر ، إذ كان معلوما من السياق كما في قوله تعالى :
(إنا جعلنا في أعناقهم أغلالا) إذ لم يصر بذكر الأيمان لأن الأيمان إنما تكون في
الأغلال مع الأعناق. فاكتفى بالأغلال عن ذكر الأيمان. قال الفراء في معاني القرآن
(الورقة 267) وقوله : (إنا جعلنا في أعناقهم أغلالا فهي إلى الأذقان) فكنى عن هي ،
وهي للأيمان ، ولم تذكر. وذلك أن الغل لا يكون إلا في اليمين والعنق جامعا لليمين
والعنق ، فيكفي ذكر أحدهما من صاحبه ، ومثله قول الشاعر : " وما أدري ....
" البيتين. فكنى عن الشر ، وإنما ذكر الخير وحده. وذلك أن الشر يذكر مع
الخير. وهي في قراءة عبد الله : (إنا جعلنا في أيمانهم أغلالا فهي إلى الأذقان)
فكفت من ذكر (الأعناق) في حرف عبد الله ، وكفت (الأعناق) من " الأيمان "
في قراءة العامة. والذقن : أسفل اللحيين.
(20/493)
.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ،
عن ابن عباس ، قوله( إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلالا فَهِيَ إِلَى
الأذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ ) قال : هو كقول الله( وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ
مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ ) يعني بذلك أن أيديهم موثقة إلى أعناقهم ، لا
يستطيعون أن يبسطوها بخير .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال
: ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله(
فَهُمْ مُقْمَحُونَ ) قال : رافعو رءوسهم ، وأيديهم موضوعة على أفواههم.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله( إِنَّا جَعَلْنَا
فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلالا فَهِيَ إِلَى الأذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ ) : أي
فهم مغلولون عن كل خير .
وقوله( وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا ) يقول تعالى ذكره : وجعلنا من
بين أيدي هؤلاء المشركين سدًّا ، وهو الحاجز بين الشيئين ؛ إذا فتح كان من فعل بني
آدم ، وإذا كان من فعل الله كان بالضم. وبالضم قرأ ذلك قراء المدينة والبصرة وبعض
الكوفيين. وقرأه بعض المكيين وعامة قراء الكوفيين بفتح السين( سَدًّا) في الحرفين
كلاهما ؛ والضم أعجب القراءتين إليّ في ذلك ، وإن كانت الأخرى جائزة صحيحة.
وعنى بقوله( وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا
) أنه زين لهم سوء أعمالهم فهم يَعْمَهُونَ ، ولا يبصرون رشدًا ، ولا يتنبهون
حقًّا.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني ابن حميد ، قال : ثنا حكام ، عن عنبسة ، عن محمد بن عبد الرحمن ،
(20/494)
عن القاسم بن أبي بزة ، عن مجاهد ، في
قوله( مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا ) قال : عن الحق .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ؛ وحدثني الحارث ، قال
: ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد( وَجَعَلْنَا
مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا ) عن الحق فهم يترددون .
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ
أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا ) قال : ضلالات .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قول الله(
وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا
فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ ) قال : جعل هذا سدًّا بينهم وبين
الإسلام والإيمان ، فهم لا يخلصون إليه ، وقرأ( وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ
أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ ) وقرأ( إِنَّ الَّذِينَ
حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ )... الآية كلها ، وقال : من
منعه الله لا يستطيع .
وقوله( فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ ) يقول : فأغشينا أبصار هؤلاء أي
: جعلنا عليها غشاوة ؛ فهم لا يبصرون هدى ولا ينتفعون به.
كما حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( فَأَغْشَيْنَاهُمْ
فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ ) هدى ، ولا ينتفعون به .
وذُكر أن هذه الآية نزلت في أبي جهل بن هشام حين حلف أن يقتله أو يشدخ رأسه بصخرة.
* ذكر الرواية بذلك :
حدثني عمران بن موسى ، قال : ثنا عبد الوارث بن سعيد ، قال : ثنا عُمارة بن أبي
حفصة ، عن عكرمة قال : قال أبو جهل : لئن رأيت محمدًا لأفعلن ولأفعلن ، فأنزلت(
إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلالا ) .. إلى قوله( فَهُمْ لا
(20/495)
وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (10) إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ (11)
يُبْصِرُونَ ) قال : فكانوا يقولون :
هذا محمد ، فيقول أين هو ، أين هو ؟ لا يبصره . وقد رُوي عن ابن عباس أنه كان يقرأ
ذلك : (فَأَعْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ) بالعين بمعنى : أعشيناهم عنه ،
وذلك أن العَشَا هو أن يمشي بالليل ولا يبصر.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ
تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (10) إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ
وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ (11)
}
يقول تعالى ذكره : وسواء يا محمد على هؤلاء الذين حق عليهم القول ، أي الأمرين كان
منك إليهم ؛ الإنذار ، أو ترك الإنذار ، فإنهم لا يؤمنون ؛ لأن الله قد حكم عليهم
بذلك. وقوله( إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ ) يقول تعالى ذكره : إنما
ينفع إنذارك يا محمد من آمن بالقرآن ، واتبع ما فيه من أحكام الله( وَخَشِيَ
الرَّحْمَنَ ) يقول : وخاف الله حين يغيب عن أبصار الناظرين ، لا المنافق الذي
يستخف بدين الله إذا خلا ويظهر الإيمان في الملأ ولا المشرك الذي قد طبع الله على
قلبه. وقوله( فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ ) يقول : فبشر يا محمد هذا الذي اتبع الذكر
وخشي الرحمن بالغيب بمغفرة من الله لذنوبه( وَأَجْرٍ كَرِيمٍ ) يقول : وثواب منه
له في الآخرة كريم ، وذلك أن يعطيه على عمله ذلك الجنة.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ
اتَّبَعَ الذِّكْرَ ) واتباع الذكر : اتباع القرآن .
القول في تأويل قوله تعالى : { إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ
(20/496)
إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآَثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ (12)
مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ
شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ (12) }
يقول تعالى ذكره( إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى ) من خلقنا( وَنَكْتُبُ مَا
قَدَّمُوا ) في الدنيا من خير وشر ، وصالح الأعمال وسيئها.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله( إِنَّا نَحْنُ
نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا ) من عمل .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا إبن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله( وَنَكْتُبُ مَا
قَدَّمُوا ) قال : ما عملوا.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ؛ وحدثني الحارث ، قال
: ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله( مَا
قَدَّمُوا ) قال : أعمالهم.
وقوله( وَآثَارَهُمْ ) يعني : وآثار خطاهم بأرجلهم ، وذكر أن هذه الآية نزلت في
قوم أرادوا أن يقربوا من مسجد رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم ، ليقرب
عليهم.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا نصر بن علي الجهضمي قال : ثنا أبو أحمد الزبيري ، قال : ثنا إسرائيل ، عن
سماك ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، قال : كانت منازل الأنصار متباعدة من المسجد ،
فأرادوا أن ينتقلوا إلى المسجد
(20/497)
فنزلت( وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا
وَآثَارَهُمْ ) فقالوا : نثبت في مكاننا.
حدثنا ابن وكيع ، قال : ثنا أبي ، عن إسرائيل ، عن سماك ، عن عكرمة ، عن ابن عباس
، قال : كانت الأنصار بعيده منازلهم من المسجد ، فأرادوا أن ينتقلوا ، قال :
فنزلت( وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ ) فثبتوا.
حدثنا ابن المثنى ، قال : ثنا عبد الصمد ، قال : ثنا شعبة ، قال : ثنا الجريري ،
عن أبي نضرة ، عن جابر ، قال : أراد بنو سَلِمة قرب المسجد ، قال : فقال لهم رسول
الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم : " يَا بَنِي سَلِمَةَ دِيَارَكُمْ
إنَّها تُكْتَبْ آثَارُكُمْ " .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا معتمر ، قال : سمعت كهمسا يحدث ، عن أبي نضرة ،
عن جابر ، قال : أراد بنو سلمة أن يتحولوا إلى قرب المسجد ، قال : والبقاع خالية ،
فبلغ ذلك النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم ، فقال : " يَا بَنِي سَلِمَةَ
دِيَارَكُمْ إنَّها تُكْتَبْ آثَارُكُمْ " قال : فأقاموا وقالوا : ما يسرنا
أنا كنا تحولنا .
حدثنا سليمان بن عمر بن خالد الرقي ، قال : ثنا ابن المبارك ، عن سفيان ، عن طريف
، عن أبي نضرة ، عن أبي سعيد الخدري ، قال : شكت بنو سَلِمة بُعد منازلهم إلى
النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم فنزلت( إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى
وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ ) فقال : " عَلَيكُمْ مَنَازِلَكُم
تُكْتَبُ آثارُكم " .
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا أبو نُمَيلة ، قال : ثنا الحسين ، عن ثابت ، قال :
مشيت مع أنس ، فأسرعت المشي ، فأخذ بيدي ، فمشينا رُويدا ، فلما قضينا الصلاة قال
أنس : مشيت مع زيد بن ثابت ، فأسرعت المشي ، فقال : يا أنس أما شعرت أن الآثار
تكتب ؟ .
حدثني يعقوب ، قال : ثنا ابن عُلَية ، عن يونس ، عن الحسن أن بني سَلِمة كانت
دورهم قاصية عن المسجد ، فهموا أن يتحولوا قرب المسجد ، فيشهدون الصلاة مع النبي
صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم ، فقال لهم النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم :
" ألا تَحْتَسِبون آثارَكم يا بني سَلِمة ؟ " فمكثوا في ديارهم .
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا حكام ، عن عنبسة ، عن محمد بن عبد الرحمن ، عن القاسم
ابن أبي بَزَّة ، عن مجاهد ، في قوله( مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ ) قال : خطاهم
بأرجلهم .
(20/498)
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو
عاصم ، قال : ثنا عيسى ؛ وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ،
جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد( وَآثَارَهُمْ ) قال : خطاهم .
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( وَآثَارَهُمْ ) قال :
قال الحسن : وآثارهم قال : خطاهم. وقال قتادة : لو كان مُغْفِلا شيئًا من شأنك يا
ابن آدم أغفل ما تعفي الرياح من هذه الآثار .
وقوله( وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ ) يقول تعالى ذكره : وكل
شيء كان أو هو كائن أحصيناه ، فأثبتناه في أم الكتاب ، وهو الإمام المبين. وقيل(
مُبِينٌ ) لأنه يبين عن حقيقة جميع ما أثبت فيه.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا عبد الرحمن ، قال : ثنا سفيان ، عن منصور ، عن مجاهد(
فِي إِمَامٍ مُبِينٍ ) قال : في أم الكتاب .
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله( وَكُلَّ شَيْءٍ
أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ ) كل شيء محصًى عند الله في كتاب .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله( وَكُلَّ شَيْءٍ
أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ ) قال : أم الكتاب التي عند الله فيها الأشياء
كلها هي الإمام المبين .
(20/499)
وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ (13) إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ (14)
القول في تأويل قوله تعالى : {
وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ (13)
إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ
فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ (14) }
يقول تعالى ذكره : ومثل يا محمد لمشركي قومك مثلا أصحاب القرية ،
(20/499)
ذُكر أنها أنطاكية( إِذْ جَاءَهَا
الْمُرْسَلُونَ ) اختلف أهل العلم في هؤلاء الرسل ، وفيمن كان أرسلهم إلى أصحاب
القرية ؛ فقال بعضهم : كانوا رسل عيسى ابن مريم ، وعيسى الذي أرسلهم إليهم.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلا
أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ
اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ ) قال : ذُكر لنا أن عيسى ابن
مريم بعث رجلين من الحواريين إلى أنطاكية - مدينة بالروم - فكذبوهما فأعزهما
بثالث( فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ ).
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا يحيى وعبد الرحمن ، قالا ثنا سفيان ، قال : ثني السدي
، عن عكرمة( وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ ) قال : أنطاكية .
وقال آخرون : بل كانوا رسلا أرسلهم الله إليهم.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سَلَمَة قال : ثنا ابن إسحاق ، فيما بلغه ، عن ابن
عباس ، وعن كعب الأحبار ، وعن وهب بن منبه ، قال : كان بمدينة أنطاكية ، فرعون من
الفراعنة يقال له أبطيحس بن أبطيحس يعبد الأصنام ، صاحب شرك ، فبعث الله المرسلين
، وهم ثلاثة : صادق ، ومصدوق ، وسلوم ، فقدم إليه وإلى أهل مدينته منهم اثنان
فكذبوهما ، ثم عزز الله بثالث ، فلما دعته الرسل ونادته بأمر الله ، وصدعت بالذي
أمرت به ، وعابت دينه ، وما هم عليه ، قال لهم( إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِنْ
لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ )
وقوله( إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا
بِثَالِثٍ ) يقول تعالى ذكره : حين أرسلنا إليهم اثنين يدعوانهم إلى الله فكذبوهما
فشددناهما بثالث ، وقويناهما به.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل
(20/500)
قَالُوا مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَمَا أَنْزَلَ الرَّحْمَنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ (15) قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ (16) وَمَا عَلَيْنَا إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (17)
.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أَبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ؛ وحدثني الحارث ، قال
: ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أَبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله(
فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ ) قال : شددنا .
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا حكام ، عن عنبسة ، عن محمد بن عبد الرحمن ، عن القاسم
بن أبي بَزَّة ، عن مجاهد في قوله( فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ ) قال : زدنا .
حدثنا يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله( فَعَزَّزْنَا
بِثَالِثٍ ) قال : جعلناهم ثلاثة ، قال : ذلك التعزز ، قال : والتعزز : القوة .
وقوله( فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ ) يقول : فقال المرسلون الثلاثة
لأصحاب القرية : إنَّا إليكم أيها القوم مرسلون ، بأن تُخْلِصوا العبادة لله وحده
، لا شريك له ، وتتبرءوا مما تعبدون من الآلهة والأصنام.
وبالتشديد في قوله( فَعَزَّزْنَا ) قرأت القراء سوى عاصم ، فإنه قرأه بالتخفيف ،
والقراءة عندنا بالتشديد ، لإجماع الحجة من القراء عليه ، وأن معناه ، إذا شُدد :
فقوينا ، وإذا خُفف : فغلبنا ، وليس لغلبنا في هذا الموضع كثير معنى.
القول في تأويل قوله تعالى : { قَالُوا مَا أَنْتُمْ إِلا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَمَا
أَنزلَ الرَّحْمَنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلا تَكْذِبُونَ (15) قَالُوا
رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ (16) وَمَا عَلَيْنَا إِلا
الْبَلاغُ الْمُبِينُ (17) }
يقول تعالى ذكره : قال أصحاب القرية للثلاثة الذين أرسلوا إليهم حين أخبروهم أنهم
أرسلوا إليهم بما أرسلوا به : ما أنتم أيها القوم إلا أُناس مثلنا ، ولو كنتم رسلا
كما تقولون ، لكنتم ملائكة( وَمَا أَنزلَ الرَّحْمَنُ مِنْ شَيْءٍ ) يقول : قالوا
:
(20/501)
قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ (18) قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَئِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (19)
وما أنزل الرحمن إليكم من رسالة ولا
كتاب ولا أمركم فينا بشيء( إِنْ أَنْتُمْ إِلا تَكْذِبُونَ ) في قيلكم إنكم إلينا
مرسلون
( قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ ) يقول : قال الرسل
: ربنا يعلم إنَّا إليكم لمرسلون فيما دعوناكم إليه ، وإنَّا لصادقون
( وَمَا عَلَيْنَا إِلا الْبَلاغُ الْمُبِينُ ) يقول : وما علينا إلا أن نبلغكم
رسالة الله التي أرسلنا بها إليكم بلاغًا يبين لكم أنَّا أبلغناكموها ، فإن
قبلتموها فحظ أنفسكم تصيبون ، وإن لم تقبلوها فقد أدينا ما علينا ، والله ولي
الحكم فيه.
القول في تأويل قوله تعالى : { قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ
تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ (18) }
يقول تعالى ذكره : قال أصحاب القرية للرسل( إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ ) يعنون :
إنَّا تشاءمنا بكم ، فإن أصابنا بلاء فمن أجلكم.
كما حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( قَالُوا إِنَّا
تَطَيَّرْنَا بِكُمْ ) قالوا : إن أصابنا شر ، فإنما هو من أجلكم .
وقوله( لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ ) يقول : لئن لم تنتهوا عمَّا
ذكرتم من أنكم أرسلتم إلينا بالبراءة من آلهتنا ، والنهي عن عبادتنا لنرجمنكم ،
قيل : عني بذلك لنرجمنكم بالحجارة.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال ثنا سعيد ، عن قتادة( لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا
لَنَرْجُمَنَّكُمْ ) بالحجارة( وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ ) يقول
: ولينالنكم منَّا عذاب موجع .
القول في تأويل قوله تعالى : { قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَئِنْ ذُكِّرْتُمْ
بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (19) وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ
يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ
(20/502)
وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (20) اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ (21)
اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (20)
اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ (21) }
يقول تعالى ذكره : قالت الرسل لأصحاب القرية( طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَئِنْ
ذُكِّرْتُمْ ) يقولون : أعمالكم وأرزاقكم وحظكم من الخير والشر معكم ، ذلك كله في
أعناقكم ، وما ذلك من شؤمنا إن أصابكم سوء فيما كتب عليكم ، وسبق لكم من الله.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنايزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، ( قَالُوا طَائِرُكُمْ
مَعَكُمْ ) أي : أعمالكم معكم .
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، عن ابن إسحاق فيما بلغه عن ابن عباس ، وعن كعب
وعن وهب بن منبه ، قالت لهم الرسل( طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ ) أي : أعمالكم معكم .
وقوله( أَئِنْ ذُكِّرْتُمْ ) اختلفت القراءة في قراءة ذلك ؛ فقرأته عامة قراء
الأمصار( أَئِنْ ذُكِّرْتُمْ ) بكسر الألف من " إن " وفتح
(20/503)
ألف الاستفهام : بمعنى إن ذكرناكم
فمعكم طائركم ، ثم أدخل على " إن " التي هي حرف جزاء ألف استفهام في قول
بعض نحويي البصرة ، وفي قول بعض الكوفيين منوي به التكرير ، كأنه قيل : طائركم
معكم إن ذكرتم فمعكم طائركم ، فحذف الجواب اكتفاء بدلالة الكلام عليه. وإنما أنكر
قائل هذا القول القول الأول ، لأن ألف الاستفهام قد حالت بين الجزاء وبين الشرط ،
فلا تكون شرطا لما قبل حرف الاستفهام. وذُكر عن أَبي رزين أنه قرأ ذلك( أَئِنْ
ذُكِّرْتُمْ ) بمعنى : ألأن ذكرتم طائركم معكم ؟. وذُكر . نعم بعض قارئيه أنه
قرأه(قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكَمْ أَيْنَ ذُكِرْتُمْ) بمعنى : حيث ذُكِرْتُمْ
بتخفيف الكاف من ذكرتم.
والقراءة التي لا نجيز القراءة بغيرها القراءة التي عليها قراء الأمصار ، وهي دخول
ألف الاستفهام على حرف الجزاء ، وتشديد الكاف على المعنى الذي ذكرناه عن قارئيه
كذلك ، لإجماع الحجة من القراء عليه.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( أَئِنْ ذُكِّرْتُمْ ) أي
: إن ذكرناكم الله تطيرتم بنا ؟( بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ ).
وقوله( بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ ) يقول : قالوا لهم : ما بكم التطير بنا
، ولكنكم قوم أهل معاصٍ لله وآثامٍ ، قد غلبت عليكم الذنوب والآثام.
وقوله( وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى ) يقول : وجاء من أقصى
مدينة هؤلاء القوم الذين أرسلت إليهم هذه الرسل رجل يسعى إليهم ؛ وذلك أن أهل
المدينة هذه عزموا ، واجتمعت آراؤهم على قتل هؤلاء الرسل الثلاثة فيما ذكر ، فبلغ
ذلك هذا الرجل ، وكان منزله أقصى المدينة ، وكان مؤمنًا ، وكان اسمه فيما ذكر
" حبيب بن مري " .
وبنحو الذي قلنا في ذلك جاءت الأخبار.
ذكر الأخبار الواردة بذلك :
حدثنا محمد بن بشار ، قال : ثنا مؤمل بن إسماعيل ، قال : ثنا سفيان ، عن عاصم
الأحول ، عن أبي مُجِلِّز ، قال : كان صاحب يس " حبيب بن مري " .
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، قال : كان من حديث صاحب يس فيما حدثنا محمد بن
إسحاق فيما بلغه ، عن ابن عباس ، وعن كعب الأحبار وعن وهب بن منبه اليماني أنه كان
رجلا من أهل أنطاكية ، وكان اسمه " حبيبًا " وكان يعمل الجَرير ، وكان
رجلا سقيمًا ، قد أسرع فيه الجذام ، وكان منزله عند باب من أبوب المدينة قاصيًا ،
وكان مؤمنًا ذا صدقة ، يجمع كسبه إذا أمسى فيما يذكرون ، فيقسمه نصفين ، فيطعم
نصفًا عياله ، ويتصدق بنصف ، فلم يهمَّه
(20/504)
سقمه ولا عمله ولا ضعفه ، عن عمل ربه ،
قال : فلما أجمع قومه على قتل الرسل ، بلغ ذلك : " حبيبًا " وهو على باب
المدينة الأقصى ، فجاء يسعى إليهم يذكرهم بالله ، ويدعوهم إلى اتباع المرسلين ،
فقال( يَاقَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ ) حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ،
عن ابن إسحاق ، عن عبد الله بن عبد الرحمن بن معمر بن عمرو بن حزم أنه حُدث عن كعب
الأحبار قال : ذكر له حبيب بن زيد بن عاصم أخو بني مازن بن النجار الذي كان مسيلمة
الكذاب قطعه باليمامة حين جعل يسأله عن رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم ،
فجعل يقول : أتشهد أن محمدًا رسول الله ؟ فيقول : نعم ، ثم يقول : أتشهد أني رسول
الله ؟ فيقول له : لا أسمع ، فيقول مسيلمة : أتسمع هذا ، ولا تسمع هذا ؟ فيقول :
نعم ، فجعل يقطعه عضوًا عضوًا ، كلما سأله لم يزده على ذلك حتى مات في يديه ، قال
كعب حين قيل له اسمه " حبيب " : وكان والله صاحب يس اسمه " حبيب
" .
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن الحسن بن عمارة ، عن الحكم
بن عتيبة ، عن مِقْسم أبي القاسم مولى عبد الله بن الحارث بن نوفل ، عن مجاهد ، عن
عبد الله بن عباس أنه كان يقول : كان اسم صاحب يس " حبيبًا " وكان
الجذام قد أسرع فيه .
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله( وَجَاءَ مِنْ
أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى ) قال : ذُكر لنا أن اسمه " حبيب "
، وكان في غار يعبد ربه ، فلما سمع بهم أقبل إليهم . وقوله( قَالَ يَاقَوْمِ
اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ ) يقول تعالى ذكره : قال الرجل الذي جاء من أقصى
المدينة لقومه : يا قوم اتبعوا المرسلين الذين أرسلهم الله إليكم ، واقبلوا منهم
ما أتوكم به.
وذُكر أنه لما أتى الرسل سألهم : هل يطلبون على ما جاءوا به أجرًا ؟ فقالت الرسل :
لا فقال لقومه حينئذٍ : اتبعوا من لا يسألكم على نصيحتهم لكم أجرًا
(20/505)