مجلد 9. جامع البيان في تأويل القرآن
المؤلف : محمد بن جرير بن يزيد بن كثير بن غالب الآملي، أبو جعفر الطبري،
[ 224 - 310 هـ ]
إِنْ تُبْدُوا شَيْئًا أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (54)
يجامعها ، ذكر نحوه.
وقوله(إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللهِ عَظِيمًا) يقول : إن أذاكم رسول الله
صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم ونكاحكم أزواجه من بعده عند الله عظيم من الإثم.
القول في تأويل قوله تعالى : { إِنْ تُبْدُوا شَيْئًا أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ
اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (54) }
يقول تعالى ذكره : إن تظهروا بألسنتكم شيئًا أيها الناس من مراقبة النساء ، أو غير
ذلك مما نهاكم عنه أو أذى لرسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم بقول :
لأتزوجن زوجته بعد وفاته ، (أَوْ تُخْفُوهُ) يقول : أو تخفوا ذلك في أنفسكم ،
(فَإِنَّ اللهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا) يقول : فإن الله بكل ذلك وبغيره من
أموركم وأمور غيركم ، عليم لا يخفى عليه شيء ، وهو يجازيكم على جميع ذلك.
(20/317)
لَا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي آَبَائِهِنَّ وَلَا أَبْنَائِهِنَّ وَلَا إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاءِ إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاءِ أَخَوَاتِهِنَّ وَلَا نِسَائِهِنَّ وَلَا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ وَاتَّقِينَ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا (55)
القول في تأويل قوله تعالى : { لا
جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبَائِهِنَّ وَلا أَبْنَائِهِنَّ وَلا إِخْوَانِهِنَّ
وَلا أَبْنَاءِ إِخْوَانِهِنَّ وَلا أَبْنَاءِ أَخَوَاتِهِنَّ وَلا نِسَائِهِنَّ
وَلا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ وَاتَّقِينَ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى
كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا (55) }
يقول تعالى ذكره : لا حرج على أزواج رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم في
آبائهن ولا إثم.
ثم اختلف أهل التأويل في المعنى الذي وضع عنهن الجناح في هؤلاء ؛ فقال بعضهم : وضع
عنهن الجناح في وضع جلابيبهن عندهم .
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا حكام ، عن عنبسة ، عن ابن أَبي ليلى ، عن
(20/317)
عبد الكريم ، عن مجاهد في قوله(لا
جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبَائِهِنَّ ...) الآية كلها ، قال : أن تضع الجلباب.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أَبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال
: ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أَبي نجيح ، عن مجاهد في قوله(لا
جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبَائِهِنَّ) ومن ذكر معه أن يروهن.
وقال آخرون : وضع عنهن الجناح فيهن في ترك الاحتجاب.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد عن قتادة في قوله(لا جُنَاحَ
عَلَيْهِنَّ ...) إلى(شَهِيدًا) : فرخص لهؤلاء أن لا يحتجبن منهم.
وأولى القولين في ذلك بالصواب قول من قال : ذلك وضع الجناح عنهن في هؤلاء المسلمين
أن لا يحتجبن منهم ؛ وذلك أن هذه الآية عقيب آية الحجاب ، وبعد قول الله : (
وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ) فلا
يكون قوله(لا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبَائِهِنَّ) استثناء من جملة الذين أمروا
بسؤالهن المتاع من وراء الحجاب إذا سألوهن ذلك أولى وأشبه من أن يكون خبر مبتدأ عن
غير ذلك المعنى.
فتأويل الكلام إذن : لا إثم على نساء النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم وأمهات
المؤمنين في إذنهن لآبائهن وترك الحجاب منهن ، ولا لأبنائهن ولا لإخوانهن ولا
لأبناء إخوانهن . وعنى بإخوانهن وأبناء إخوانهن إخوتهن وأبناء إخوتهن. وخرج معهم
جمع ذلك مخرج جمع فتى إذا جمع فتيان ، فكذلك جمع أخ إذا جمع إخوان. وأما إذا جمع
إخوة ، فذلك نظير جمع فتى إذا جمع فتية ، ولا أبناء إخوانهن ، ولم يذكر في ذلك العم
على ما قال الشعبي حذرًا من أن يصفهن لأبنائه.
حدثنا محمد بن المثنى ، قال : ثنا حجاج بن المنهال ، قال : ثنا حماد ، عن
(20/318)
داود ، عن الشعبي وعكرمة في قوله : (
لا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبَائِهِنَّ وَلا أَبْنَائِهِنَّ وَلا إِخْوَانِهِنَّ
وَلا أَبْنَاءِ إِخْوَانِهِنَّ وَلا أَبْنَاءِ أَخَوَاتِهِنَّ وَلا نِسَائِهِنَّ
وَلا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ ) قلت : ما شأن العم والخال لم يذكرا ؟ قال :
لأنهما ينعتانها لأبنائهما ، وكرها أن تضع خمارها عند خالها وعمها.
حدثنا ابن المثنى ، ، قال : ثنا أَبو الوليد ، قال : ثنا حماد ، عن داود ، عن
عكرمة والشعبي نحوه ، غير أنه لم يذكر ينعتانها.
وقوله(وَلا نِسَائِهِنَّ) يقول : ولا جناح عليهن أيضا في أن لا يحتجبن من نساء
المؤمنين.
كما حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله(وَلا
نِسَائِهِنَّ) قال : نساء المؤمنات الحرائر ليس عليهن جناح أن يرين تلك الزينة ،
قال : وإنما هذا كله في الزينة ، قال : ولا يجوز للمرأة أن تنظر إلى شيء من عورة
المرأة. قال : ولو نظر الرجل إلى فخذ الرجل لم أر به بأسًا ، قال : (وَلا مَا
مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ) فليس ينبغي لها أن تكشف قرطها للرجل ، قال : وأما الكحل
والخاتم والخضاب فلا بأس به ، قال : والزوج له فضل والآباء من وراء الرجل لهم فضل
، قال : والآخرون يتفاضلون ، قال : وهذا كله يجمعه ما ظهر من الزينة ، قال : وكان
أزواج النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم لا يحتجبن من المماليك. وقوله(وَلا مَا
مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ) من الرجال والنساء ، وقال آخرون : من النساء. وقوله :
(وَاتَّقِينَ اللَّهَ) يقول : وخفن الله أيها النساء أن تتعدين ما حد الله لكن ،
فتبدين من زينتكن ما ليس لكن أن تبدينه ، أو تتركن الحجاب الذي أمركن الله بلزومه
، إلا فيما أباح لكن تركه ، والْزمْنَ طاعته( إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ
شَيْءٍ شَهِيدًا ) يقول تعالى ذكره : إن الله شاهد على ما تفعلنه من احتجابكن ،
وترككن الحجاب لمن أبحت لكن ترك ذلك له ، وغير ذلك من أموركن ، يقول : فاتقين الله
في أنفسكن لا تلقين الله ، وهو شاهد عليكم ، بمعصيته ، وخلاف أمره ونهيه ، فتهلكن
، فإنه شاهد على كل شيء.
القول في
(20/319)
إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (56)
تأويل قوله تعالى : { إِنَّ اللَّهَ
وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (56) }
يقول تعالى ذكره : إن الله وملائكته يبرّكون على النبي محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ
وَسَلَّم.
كما حدثني علي ، قال : ثنا أَبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس ،
قوله( إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَاأَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ ) يقول : يباركون على النبي. وقد يحتمل أن
يقال : إن معنى ذلك : أن الله يرحم النبي ، وتدعو له ملائكته ويستغفرون ، وذلك أن
الصلاة في كلام العرب من غير الله إنما هو دعاء . وقد بينا ذلك فيما مضى من كتابنا
هذا بشواهده ، فأغنى ذلك عن إعادته.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ) يقول تعالى ذكره : يا أيها
الذين آمنوا ادعوا لنبي الله محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم(وَسَلِّمُوا
تَسْلِيمًا) يقول : وحيوه تحية الإسلام .
وبنحو الذي قلنا في ذلك جاءت الآثار عن رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا هارون ، عن عنبسة ، عن عثمان بن موهب ، عن موسى بن
طلحة ، عن أبيه ، قال : أتى رجل النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم ، فقال :
سمعت الله يقول(إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ ...)
الآية ، فكيف الصلاة عليك ؟ فقال : " قلِ : اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّد
وَعَلى آلِ مُحَمَّد ، كَمَا صَلَّيتَ عَلَى إبْرَاهيمَ إنَّكَ حَميدٌ مَجيدٌ ،
وَبَارك عَلَى مُحَمَّد وَعَلى آلِ مُحَمد ، كَمَا بَارَكتَ عَلَى إبْرَاهيمَ إنكَ
حَمِيد مَجِيدٌ " .
حدثني جعفر بن محمد الكوفي ، قال : ثنا يعلى بن الأجلح ، عن
(20/320)
الحكم بن عتيبة ، عن عبد الرحمن بن أبي
ليلى ، عن كعب بن عجرة ، قال : لما نزلت( إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ
عَلَى النَّبِيِّ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا
تَسْلِيمًا ) قمت إليه ، فقلت : السلام عليك قد عرفناه ، فكيف الصلاة عليك يا رسول
الله ؟ قال : " قل اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم
وآل إبراهيم ، إنك حميد مجيد ، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم
وآل إبراهيم ، إنك حميد مجيد " .
حدثنا أَبو كريب ، قال : ثنا مالك بن إسماعيل ، قال : ثنا أَبو إسرائيل ، عن يونس
بن خباب ، قال : خطبنا بفارس فقال : (إِنَّ الَّلهَ وَمَلائِكَتَه ...) الآية ،
فقال : أنبأني من سمع ابن عباس يقول : هكذا أنزل ، فقلنا : أو قالوا : يا رسول
الله قد علمنا السلام عليك ، فكيف الصلاة عليك ؟ فقال : " اللهم صلِّ على
محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وآل إبراهيم ، إنك حميد مجيد ، وبارك على
محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم إنك حميد مجيد " .
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا جرير ، عن مغيرة ، عن زياد ، عن إبراهيم في قوله :
(إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ ...) الآية ، قالوا : يا رسول الله هذا السلام قد
عرفناه ، فكيف الصلاة عليك ؟ فقال : قولوا " اللهم صلِّ على محمد عبدك ورسولك
وأهل بيته كما صليت على إبراهيم إنك حميد مجيد " .
حدثني يعقوب الدورقي ، قال : ثنا ابن علية ، قال : ثنا أيوب ، عن محمد بن سيرين ،
عن عبد الرحمن بن بشر بن مسعود الأنصاري ، قال : لما نزلت( إِنَّ اللَّهَ
وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ) قالوا : يا رسول الله هذا السلام قد
عرفناه ، فكيف الصلاة وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر ؟ قال : "
قولوا : اللهم صلِّ على محمد كما صليت على آل إبراهيم ، اللهم بارك على محمد كما
باركت على آل إبراهيم " .
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله( إِنَّ
(20/321)
إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا (57) وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (58)
اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ
عَلَى النَّبِيِّ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا
تَسْلِيمًا ) قال : لما نزلت هذه الآية قالوا : يا رسول الله ، قد علمنا السلام
عليك ، فكيف الصلاة عليك ؟ قال : " قولوا : اللهم صلِّ على محمد كما صليت على
إبراهيم ، وبارك على محمد كما باركت على إبراهيم " . وقال الحسن : اللهم اجعل
صلواتك وبركاتك على آل محمد ، كما جعلتها على إبراهيم ، إنك حميد مجيد " .
القول في تأويل قوله تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ
لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا
مُهِينًا (57) وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ
مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (58) }
يقول تعالى ذكره : (إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ) إن الذين يؤذون ربهم
بمعصيتهم إياه ، وركوبهم ما حرم عليهم ، وقد قيل : إنه عنى بذلك أصحاب التصاوير ؛
وذلك أنهم يرومون تكوين خلق مثل خلق الله.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد القرشي ، قال : ثنا يحيى بن سعيد ، عن سلمة بن الحجاج ، عن
عكرمة قال : الذين يؤذون الله ورسوله هم أصحاب التصاوير.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة في قوله( إِنَّ الَّذِينَ
يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ
وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا ) قال : يا سبحان الله ما زال أناس من جهلة
بني آدم حتى تعاطوا أذى ربهم ، وأما أذاهم رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ
وَسَلَّم فهو طعنهم عليه في نكاحه صفية بنت حيي فيما ذكر.
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ،
(20/322)
عن أبيه ، عن ابن عباس في قوله( إِنَّ
الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا
وَالآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا ) قال : نزلت في الذين طعنوا على
النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم حين اتخذ صفية بنت حيي بن أخطب.
وقوله(لَعَنَهُمُ الله فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ) يقول تعالى ذكره : أبعدهم الله
من رحمته في الدنيا والآخرة وأعد لهم في الآخرة عذابًا يهينهم فيه بالخلود فيه.
وقوله(وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ) كان مجاهد يوجه معنى قوله(يُؤْذُونَ)
إلى يقفون.
ذكر الرواية عنه :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أَبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال
: ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أَبي نجيح ، عن مجاهد(وَالَّذِينَ
يُؤْذُونَ) قال : يقفون.
فمعنى الكلام على ما قال مجاهد : والذين يقفون المؤمنين والمؤمنات. ويعيبونهم طلبا
لشينهم(بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا) يقول : بغير ما عملوا.
كما حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أَبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ،
قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أَبي نجيح ، عن مجاهد في
قوله(بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا) قال : عملوا.
حدثنا نصر بن علي ، قال : ثنا عثام بن علي ، عن الأعمش ، عن مجاهد ، قال : قرأ ابن
عمر : ( وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا
اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا ) قال : فكيف إذا
أوذي بالمعروف ، فذلك يضاعف له العذاب.
حدثنا أَبو كريب ، قال : ثنا عثام بن علي ، عن الأعمش ، عن ثور ، عن ابن عمر(
وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا
) قال : كيف بالذي يأتي إليهم المعروف.
(20/323)
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (59)
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال :
ثنا سعيد ، عن قتادة( وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ
بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا )
فإياكم وأذى المؤمن ، فإن الله يحوطه ، ويغضب له.
وقوله(فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا) يقول : فقد احتملوا زورا
وكذبًا وفرية شنيعة ، وبهتان : أفحش الكذب ، (وَإِثْمًا مُبِينًا) يقول : وإثما
يبين لسامعه أنه إثم وزور.
القول في تأويل قوله تعالى : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأزْوَاجِكَ
وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ
ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا
رَحِيمًا (59) }
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم : يا أيها النبي قل لأزواجك
وبناتك ونساء المؤمنين : لا يتشبهن بالإماء في لباسهن إذا هن خرجن من بيوتهن
لحاجتهن ، فكشفن شعورهن ووجوههن. ولكن ليدنين عليهن من جلابيبهنّ ؛ لئلا يعرض لهن
فاسق ، إذا علم أنهن حرائر ، بأذى من قول.
ثم اختلف أهل التأويل في صفة الإدناء الذي أمرهن الله به فقال بعضهم : هو أن يغطين
وجوههن ورءوسهن فلا يبدين منهن إلا عينا واحدة.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : ثنا أَبو صالح قال ثني معاوية عن علي عن ابن عباس ، قوله(
يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ
يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ) أمر الله نساء المؤمنين إذا خرجن من
بيوتهن في حاجة أن يغطين وجوههن من فوق رءوسهن بالجلابيب ويبدين عينا واحدة.
حدثني يعقوب قال ثنا ابن علية عن ابن عون عن محمد عن عبيدة في قوله( يَاأَيُّهَا
النَّبِيُّ قُلْ لأزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ
عَلَيْهِنَّ مِنْ
(20/324)
جَلابِيبِهِنَّ ) فلبسها عندنا ابن عون
قال : ولبسها عندنا محمد قال محمد : ولبسها عندي عبيدة قال ابن عون بردائه فتقنع
به ، فغطى أنفه وعينه اليسرى وأخرج عينه اليمنى ، وأدنى رداءه من فوق حتى جعله قريبا
من حاجبه أو على الحاجب.
حدثني يعقوب قال ثنا هشيم قال أخبرنا هشام عن ابن سيرين قال : سألت عبيدة عن قوله(
قُلْ لأزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ
مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ) قال : فقال بثوبه ، فغطى رأسه ووجهه ، وأبرز ثوبه عن إحدى
عينيه.
وقال آخرون : بل أمرن أن يشددن جلابيبهن على جباههن.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد قال ثني أَبي قال ثني عمي قال : ثني أَبي عن أبيه عن ابن عباس ،
قوله( يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ
الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ...) إلى قوله(وَكَانَ
اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا) قال : كانت الحرة تلبس لباس الأمة فأمر الله نساء
المؤمنين أن يدنين عليهن من جلابيبهن. وإدناء الجلباب : أن تقنع وتشد على جبينها.
حدثنا بشر قال ثنا يزيد قال ثنا سعيد عن قتادة قوله( يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ
لأزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ ) أخذ الله عليهن إذا خرجن أن
يقنعن على الحواجب(ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَينَ) وقد كانت
المملوكة إذا مرت تناولوها بالإيذاء ، فنهى الله الحرائر أن يتشبهن بالإماء.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أَبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال
: ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أَبي نجيح ، عن مجاهد
قوله(يُدْنِينَ عَلَيهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ) يتجلببن فيعلم أنهن حرائر فلا
يعرض لهن فاسق بأذى من قول ولا ريبة.
حدثنا ابن حميد قال ثنا حكام عن عنبسة عمَّن حدثه عن أَبي صالح ، قال :
(20/325)
لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا (60) مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا (61)
قدم النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ
وَسَلَّم المدينة على غير منزل ، فكان نساء النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم
وغيرهن إذا كان الليل خرجن يقضين حوائجهن. وكان رجال يجلسون على الطريق للغزل.
فأنزل الله( يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ
الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ) يقنعن بالجلباب حتى
تعرف الأمة من الحرة.
وقوله( ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ ) يقول تعالى ذكره :
إدناؤهن جلابيبهن إذا أدنينها عليهن أقرب وأحرى أن يعرفن ممن مررن به ، ويعلموا
أنهن لسن بإماء فيتنكبوا عن أذاهن بقول مكروه ، أو تعرض بريبة(وَكَانَ اللَّهُ
غَفُورًا) لما سلف منهن من تركهن إدناءهن الجلابيب عليهن(رَحِيمًا) بهن أن يعاقبهن
بعد توبتهن بإدناء الجلابيب عليهن.
القول في تأويل قوله تعالى : { لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ
فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ
ثُمَّ لا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلا قَلِيلا (60) مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا
ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلا (61) }
يقول تعالى ذكره : لئن لم ينته أهل النفاق الذين يستسرون بالكفر ويظهرون
الإيمان(وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) يعني : ريبة من شهوة الزنا وحب
الفجور.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو بن علي قال : ثنا أَبو عبد الصمد قال ثنا مالك بن دينار عن
عكرمة في قوله( لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ
مَرَضٌ ) قال :
(20/326)
هم الزناة.
حدثنا ابن بشار قال ثنا عبد الأعلى قال ثنا سعيد عن قتادة(وَالَّذِينَ فِي
قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) قال : شهوة الزنا.
قال ثنا عبد الرحمن بن مهدي قال ثنا أَبو صالح التمار قال : سمعت عكرمة في
قوله(فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) قال : شهوة الزنا.
حدثنا ابن حميد قال ثنا حكام عن عنبسة عمن حدثه عن أَبي صالح(وَالَّذِينَ فِي
قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) قال : الزناة.
حدثني يونس قال أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد في قوله( لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ
الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ...) الآية ، قال : هؤلاء صنف
من المنافقين(وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) أصحاب الزنا ، قال : أهل الزنا
من أهل النفاق الذين يطلبون النساء فيبتغون الزنا. وقرأ : ( فَلا تَخْضَعْنَ
بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ ) قال : والمنافقون أصناف
عشرة في براءة ، قال : فالذين في قلوبهم مرض صنف منهم مرض من أمر النساء.
وقوله(وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ) يقول : وأهل الإرجاف في المدينة بالكذب
والباطل.
وكان إرجافهم فيما ذكر كالذي حدثني بشر قال ثنا يزيد قال ثنا سعيد عن قتادة قوله(
لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ
وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ ...) الآية ، الإرجاف : الكذب الذي كان نافقه
أهل النفاق ، وكانوا يقولون : أتاكم عدد وعدة. وذكر لنا أن المنافقين أرادوا أن
يظهروا ما في قلوبهم من النفاق ، فأوعدهم الله بهذه الآية قوله : ( لَئِنْ لَمْ
يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ...) الآية ، فلما
أوعدهم الله بهذه الآية كتموا ذلك وأسروه.
حدثني يونس قال أخبرنا ابن وهب قال قال ابن زيد في قوله
(20/327)
( وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ )
هم أهل النفاق أيضًا الذين يرجفون برسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم
وبالمؤمنين. وقوله(لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ) يقول : لنسلطنك عليهم ولنحرشنك بهم.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني علي قال ثنا أَبو صالح قال ثني معاوية عن علي عن ابن عباس
قوله(لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ) يقول : لنسلطنك عليهم.
حدثنا بشر قال ثنا يزيد قال ثنا سعيد عن قتادة(لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ) : أي
لنحملنك عليهم لنحرشنك بهم.
قوله(ثُمَّ لا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلا قَلِيلا) يقول : ثم لننفينهم عن مدينتك
فلا يسكنون معك فيها إلا قليلا من المدة والأجل ، حتى تنفيهم عنها فنخرجهم منها.
كما حدثنا بشر قال ثنا يزيد قال ثنا سعيد عن قتادة(ثُمَّ لا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا
إِلا قَلِيلا) أي بالمدينة.
وقوله( مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلا ) يقول
تعالى ذكره : مطرودين منفيين(أَيْنَمَا ثُقِفُوا) يقول : حيثما لقوا من الأرض
أخذوا وقتلوا لكفرهم بالله تقتيلا.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر قال ثنا يزيد قال ثنا سعيد عن قتادة(مَلْعُونِينَ) على كل حال(أَيْنَمَا
ثُقِفُوا أُخِذُوا وقتلوا تَقْتِيلا) إذا هم أظهروا النفاق. ونصب قوله :
(مَلْعُونِينَ) على الشتم ، وقد يجوز أن يكون القليل من صفة الملعونين ، فيكون
(20/328)
سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا (62)
قوله(مَلْعُونِينَ) مردودا على القليل
؛ فيكون معناه : ثم لا يجاورونك فيها إلا أقلاء ملعونين يقتلون حيث أصيبوا.
القول في تأويل قوله تعالى : { سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ
وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلا (62) }
يقول تعالى ذكره : ( سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ ) هؤلاء
المنافقين الذين في مدينة رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم معه من ضرباء
هؤلاء المنافقين ، إذا هم أظهروا نفاقهم أن يقتلهم تقتيلا ويلعنهم لعنًا كثيرًا.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر قال ثنا يزيد قال ثنا سعيد عن قتادة قوله( سُنَّةَ اللَّهِ فِي
الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ ...) الآية ، يقول : هكذا سنة الله فيهم إذا أظهروا
النفاق.
وقوله(وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلا) يقول تعالى ذكره لنبيه محمد
صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم : ولن تجد يا محمد لسنة الله التي سنها في خلقه
تغييرًا ، فأيقن أنه غير مغير في هؤلاء المنافقين سنته.
(20/329)
يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا (63)
القول في تأويل قوله تعالى : {
يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَمَا
يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا (63) }
يقول تعالى ذكره : (يَسْأَلُكَ النَّاسُ) يا محمد(عَنِ السَّاعَةِ) متى هي قائمة ؟
قل لهم : إنما علم الساعة(عِنْدَ الله) لا يعلم وقت قيامها غيره( وَمَا
(20/329)
إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا (64) خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (65) يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا (66) وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا (67) رَبَّنَا آَتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا (68)
يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ
قَرِيبًا ) يقول : وما أشعرك يا محمد لعل قيام الساعة يكون منك قريبًا. قد قرب وقت
قيامها ، ودنا حين مجيئها.
القول في تأويل قوله تعالى : { إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ
لَهُمْ سَعِيرًا (64) خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا
نَصِيرًا (65) }
يقول تعالى ذكره : إن الله أبعد الكافرين به من كل خير ، وأقصاهم عنه(وَأَعَدَّ
لَهُمْ سَعِيرًا) يقول : وأعد لهم في الآخرة نارًا تتقد وتتسعر
ليصليهموها(خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا) يقول : ماكثين في السعير أبدًا إلى غير
نهاية(لا يَجِدُونَ وَلِيًّا) يتولاهم ، فيستنقذهم من السعير التي أصلاهموها
الله(وَلا نَصِيرًا) ينصرهم ، فينجيهم من عقاب الله إياهم.
القول في تأويل قوله تعالى : { يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ
يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَ (66) }
يقول تعالى ذكره : لا يجد هؤلاء الكافرون وليًّا ولا نصيرًا في يوم تقلب وجوههم في
النار حالا بعد حال(يَقُولُونَ) وتلك حالهم في النار(يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا
اللَّهَ) في الدنيا وأطعنا رسوله فيما جاءنا به عنه من أمره ونهيه ، فكنا مع أهل
الجنة في الجنة ، يا لها حسرة وندامة ، ما أعظمها وأجلها.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا
وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَ (67) رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ
الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا (68) }
(20/330)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آَذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا (69)
يقول تعالى ذكره : وقال الكافرون يوم
القيامة في جهنم : ربنا إنا أطعنا أئمتنا في الضلالة وكبراءنا في
الشرك(فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَ) يقول : فأزالونا عن محجة الحق وطريق الهدى
والإيمان بك والإقرار بوحدانيتك وإخلاص طاعتك في الدنيا(رَبَّنَا آتِهِمْ
ضِعْفَينِ مِنَ الْعَذَابِ) يقول : عذبهم من العذاب مثلي عذابنا الذي
تعذبنا(وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا) يقول : واخزهم خزيًا كبيرًا.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر قال ثنا يزيد قال ثنا سعيد عن قتادة قوله( رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا
سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا ) أي : رءوسنا في الشر والشرك.
حدثني يونس قال أخبرنا ابن وهب قال قال ابن زيد في قوله(إِنَّا أَطَعْنَا
سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا) قال : هم رءوس الأمم الذين أضلوهم ، قال : سادتنا
وكبراءنا واحد. وقرأت عامة قراء الأمصار(سَادَتَنا) وروي عن الحسن
البصري(سَادَاتِنا) على الجمع ، والتوحيد في ذلك هي القراءة عندنا ؛ لإجماع الحجة
من القراء عليه.
واختلفوا في قراءة قوله(لَعْنًا كَبِيرًا) فقرأت ذلك عامة قراء الأمصار
بالثاء(كَثِيرًا) من الكثرة ، سوى عاصم فإنه قرأه(لَعْنًا كَبِيرًا) من الكبر.
والقراءة في ذلك عندنا بالثاء لإجماع الحجة من القراء عليها.
القول في تأويل قوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا
كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ
اللَّهِ وَجِيهًا (69) }
يقول تعالى ذكره لأصحاب نبي الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم : يا أيها الذين
(20/331)
آمنوا بالله ورسوله لا تؤذوا رسول الله
بقول يكرهه منكم ، ولا بفعل لا يحبه منكم ، ولا تكونوا أمثال الذين آذوا موسى نبي
الله فرموه بعيب كذبًا وباطلا(فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا) فيه من الكذب
والزور بما أظهر من البرهان على كذبهم(وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا) يقول :
وكان موسى عند الله مشفعًا فيما يسأل ذا وجه ومنزلة عنده بطاعته إياه.
ثم اختلف أهل التأويل في الأذى الذي أوذي به موسى الذي ذكره الله في هذا الموضع ؛
فقال بعضهم : رموه بأنه آدر ، وروَى بذلك عن رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ
وَسَلَّم خبرا.
* ذكر الرواية التي رويت عنه ، ومن قال ذلك :
حدثني أَبو السائب قال ثنا أَبو معاوية عن الأعمش عن المنهال عن سعيد بن جبير وعبد
الله بن الحارث عن ابن عباس في قوله( لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى )
قال : قال له قومه : إنك آدر ، قال : فخرج ذات يوم يغتسل فوضع ثيابه على صخرة
فخرجت الصخرة تشتد بثيابه وخرج يتبعها عريانًا حتى انتهت به إلى مجالس بني إسرائيل
، قال : فرأوه ليس بآدر ، قال : فذلك قوله(فَبَرَّأَهُ الله مِمَّا قَالُوا) .
حدثني يحيى بن داود الواسطي قال ثنا إسحاق بن يوسف الأزرق عن سفيان عن جابر عن
عكرمة عن أَبي هريرة عن النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم : ( لا تَكُونُوا
كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى ) قال : قالوا هو آدر قال : فذهب موسى يغتسل ، فوضع
ثيابه على حجر فمر الحجر بثيابه فتبع موسى قفاه ، فقال : ثيابي حجر. فمر بمجلس بني
إسرائيل ، فرأوه ؛ فبرأه الله مما قالوا(وَكَانَ عِنْدَ الله وَجِيهًا) .
حدثني محمد بن سعد قال : ثني أَبي قال ثني عمي قال ثني أَبي عن أبيه عن ابن عباس(
يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى ...)
إلى(وَجِيهًا) قال : كان أذاهم موسى أنهم قالوا والله ما يمنع موسى أن يضع ثيابه
(20/332)
عندنا إلا أنه آدر ، فآذى ذلك موسى ،
فبينما هو ذات يوم يغتسل وثوبه على صخرة ، فلما قضى موسى غسله وذهب إلى ثوبه
ليأخذه انطلقت الصخرة تسعى بثوبه وأنطلق يسعى في أثرها حتى مرت على مجلس بني
إسرائيل وهو يطلبها ، فلما رأوا موسى صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم متجردا لا ثوب
عليه قالوا : ولله ما نرى بموسى بأسًا ، وإنه لبريء مما كنا نقول له فقال
الله(فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا) .
حدثني يونس قال أخبرنا ابن وهب قال قال ابن زيد في قوله( يَاأَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى ...) الآية قال : كان موسى رجلا
شديد المحافظة على فرجه وثيابه ، قال : فكانوا يقولون : ما يحمله على ذلك إلا عيب
في فرجه يكره أن يرى ، فقام يوما يغتسل في الصحراء فوضع ثيابه على صخرة ، فاشتدت
بثيابه ، قال : وجاء يطلبها عريانًا حتى اطلع عليهم عريانًا ، فرأوه بريئًا مما
قالوا ، وكان عند الله وجيهًا ، قال : والوجيه في كلام العرب : المحب المقبول.
وقال آخرون : بل وصفوه بأنه أبرص.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد قال ثنا يعقوب عن جعفر عن سعيد قال : قال بنو إسرائيل إن موسى آدر
، وقالت طائفة : هو أبرص ، من شدة تستره ، وكان يأتي كل يوم عينًا ، فيغتسل ويضع
ثيابه على صخرة عندها ، فعدت الصخرة بثيابه حتى انتهت إلى مجلس بني إسرائيل ، وجاء
موسى يطلبها فلما رأوه عريانًا ليس به شيء مما قالوا لبس ثيابه ثم أقبل على الصخرة
يضربها بعصاه ، فأثرت العصا في الصخرة.
حدثنا بحر بن حبيب بن عربي قال ثنا روح بن عبادة قال ثنا عوف عن محمد عن أَبي
هريرة في هذه الآية( لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ
مِمَّا
(20/333)
قَالُوا ...) الآية قال رسول الله
صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم : " إن موسى كان رجلا حييًّا سِتِّيرًا لا
يكاد يرى من جلده شيء استحياء منه فآذاه من آذاه من بنو إسرائيل ، وقالوا : ما
تستر هذا التستر إلا من عيب في جلده ؛ إما برص ، وإما أدرة ، وإما آفة ، وإن الله
أراد أن يبرئه مما قالوا ، وإن موسى خلا يومًا وحده فوضع ثيابه على حجر ثم اغتسل
فلما فرغ من غسله ، أقبل على ثوبه ليأخذه وإن الحجر عدا بثوبه ، فأخذ موسى عصًا
وطلب الحجر ، وجعل يقول : ثوبي حجر ، حتى انتهى إلى ملأ من بني إسرائيل ، فرأوه
عريانًا كأحسن الناس خلقًا وبرأه الله مما قالوا ، وإن الحجر قام فأخذ ثوبه ولبسه
فطفق بالحجر ضربًا بذلك ، فوالله إن في الحجر لندبًا من أثر ضربه ثلاثًا أو أربعًا
أو خمسًا " .
حدثنا ابن بشار قال ثنا ابن أَبي عدي عن عوف عن الحسن قال : بلغني أن رسول الله
صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم قال : " كان موسى رجلا حييًّا ستيرا " ثم
ذكر نحوًا منه.
حدثنا بشر قال ثنا يزيد قال ثنا سعيد عن قتادة قال حدث الحسن عن أَبي هريرة أن
رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم قال : " إن بني إسرائيل كانوا
يغتسلون وهم عراة وكان نبي الله موسى حييًّا ؛ فكان يتستر إذا اغتسل ، فطعنوا فيه
بعورة قال : فبينا نبي الله يغتسل يومًا إذ وضع ثيابه على صخرة فانطلقت الصخرة
واتبعها نبي الله ضربًا بعصاه : ثوبي يا حجر ثوبي يا حجر ، حتى انتهت إلى ملإ من
بني إسرائيل ، أو تَوَسَّطَهُم ، فقامت فأخذ نبي الله ثيابه ، فنظروا إلى أحسن
الناس خلْقًا وأعدله مروءة فقال الملأ قاتل الله أفَّاكي بني إسرائيل ، فكانت
براءته التي برأه الله منها " .
وقال آخرون : بل كان أذاهم إيَّاه ادعاءهم عليه قتل هارون أخيه.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني علي بن مسلم الطوسي قال ثنا عباد قال ثنا سفيان بن حبيب عن
(20/334)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا (71)
الحكم عن سعيد بن جبير عن ابن عباس عن
علي بن أبي طالب رضي الله عنه في قول الله(لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى
...) الآية ، قال : صعد موسى وهارون الجبل ، فمات هارون فقالت بنو إسرائيل : أنت
قتلته وكان أشد حبًّا لنا منك وألين لنا منك ، فآذوه بذلك ، فأمر الله الملائكة
فحملته حتى مروا به على بني إسرائيل ، وتكلمت الملائكة بموته ، حتى عرف بنو
إسرائيل أنه قد مات ، فبرأه الله من ذلك فانطلقوا به فدفنوه ، فلم يطلع على قبره
أحد من خلق الله إلا الرخم ؛ فجعله الله أصم أبكم.
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال : إن بني إسرائيل آذوا نبي الله ببعض ما كان
يكره أن يؤذى به ، فبرأه الله مما آذوه به. وجائز أن يكون ذلك كان قيلهم : إنه
أبرص. وجائز أن يكون كان ادعاءهم عليه قتل أخيه هارون. وجائز أن يكون كل ذلك ؛
لأنه قد ذكر كل ذلك أنهم قد آذوه به ، ولا قول في ذلك أولى بالحق مما قال الله
إنهم آذوا موسى ، فبرأه الله مما قالوا.
القول في تأويل قوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ
وَقُولُوا قَوْلا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ
ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا
(71) }
يقول تعالى ذكره : يا أيها الذين صدقوا الله ورسوله اتقوا الله أن تعصوه ،
فتستحقوا بذلك عقوبته.
وقوله(وَقُولُوا قَوْلا سَدِيدًا) يقول : قولوا في رسول الله والمؤمنين قولا
قاصدًا غير جائز ، حقًّا غير باطل.
كما حدثني الحارث قال ثنا الحسن قال ثنا ورقاء عن ابن أَبي نجيح عن
مجاهد(وَقُولُوا قَوْلا سَدِيدًا) يقول : سدادًا.
حدثنا ابن حميد قال ثنا عنبسة عن الكلبي(وَقُولُوا قَوْلا سَدِيدًا) قال :
(20/335)
إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا (72)
صدقا.
حدثنا بشر قال ثنا يزيد قال ثنا سعيد عن قتادة قوله( اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا
قَوْلا سَدِيدًا ) أي : عدلا قال قتادة : يعني به في منطقه وفي عمله كله ، والسديد
الصدق.
حدثني سعد بن عبد الله بن عبد الحكم قال ثنا حفص بن عمر عن الحكم بن أبان عن عكرمة
في قول الله(وَقُولُوا قَوْلا سَدِيدًا) قولوا : لا إله إلا الله.
وقوله(يُصْلِحُ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ) يقول تعالى ذكره للمؤمنين : اتقوا الله وقولوا
السداد من القول يوفقكم لصالح الأعمال ، فيصلح أعمالكم(وَيَغْفِرْ لَكُمْ
ذُنُوبَكُمْ) يقول : ويعف لكم عن ذنوبكم ، فلا يعاقبكم عليها(وَمَنْ يُطِعْ
اللَّهَ وَرَسُولَهُ) فيعمل بما أمره به وينتهي عما نهاه ويقل السديد(فَقَدْ فَازَ
فَوْزًا عَظِيمًا) يقول فقد ظفر بالكرامة العظمى من الله.
القول في تأويل قوله تعالى : { إِنَّا عَرَضْنَا الأمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ
وَالأرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا
وَحَمَلَهَا الإنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولا (72) }
اختلف أهل التأويل في معنى ذلك فقال بعضهم : معناه : إن الله عرض طاعته وفرائضه
على السموات والأرض والجبال على أنها إن أحسنت أثيبت وجوزيت ، وإن ضيعت عوقبت ،
فأبت حملها شفقًا منها أن لا تقوم بالواجب عليها ، وحملها آدم(إِنَّهُ كَانَ
ظَلُومًا) لنفسه(َجُهولا) بالذي فيه الحظ له.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : ثنا هشيم عن أَبي بشر عن سعيد بن جبير في قوله(
إِنَّا عَرَضْنَا الأمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَالْجِبَالِ
فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا ) قال : الأمانة : الفرائض
التي افترضها الله على العباد.
(20/336)
قال : ثنا هشيم عن العوام عن الضحاك بن
مزاحم عن ابن عباس في قوله( إِنَّا عَرَضْنَا الأمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ
وَالأرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا ) قال : الأمانة الفرائض
التي افترضها الله على عباده.
قال : ثنا هشيم قال أخبرنا العوام بن حوشب وجويبر (1) كلاهما عن الضحاك عن ابن
عباس في قوله(إِنَّا عَرَضْنَا الأمَانَةَ ...) إلى قوله : (جَهُولا) قال :
الأمانة الفرائض. قال جويبر في حديثه : فلما عرضت على آدم قال : أي رب وما الأمانة
؟ قال : قيل : إن أديتها جزيت ، وإن ضيعتها عوقبت ، قال : أي رب حملتها بما فيها ،
قال : فما مكث في الجنة إلا قدر ما بين العصر إلى غروب الشمس حتى عمل بالمعصية ،
فأخرج منها.
حدثنا ابن بشار قال ثنا محمد بن جعفر قال ثنا شعبة عن أَبي بشر عن سعيد عن ابن
عباس أنه قال في هذه الآية(إِنَّا عَرَضْنَا الأمَانَةَ) قال : عرضت على آدم ،
فقال : خذها بما فيها فإن أطعت غفرت لك وإن عصيت عذبتك ، قال : قد قبلت ، فما كان
إلا قدر ما بين العصر إلى الليل من ذلك اليوم حتى أصاب الخطيئة.
حدثني علي قال : ثنا أَبو صالح قال : ثني معاوية عن علي عن ابن عباس قوله : (
إِنَّا عَرَضْنَا الأمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَالْجِبَالِ ) إن
أدوها أثابهم وإن ضيعوها عذبهم ، فكرهوا ذلك ، وأشفقوا من غير معصية ، ولكن تعظيما
لدين الله أن لا يقوموا بها ، ثم عرضها على آدم فقبلها بما فيها ، وهو قوله : (
وَحَمَلَهَا الإنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولا ) غرًّا بأمر الله.
حدثني محمد بن سعد قال : ثني أَبى قال : ثني عمي قال : ثني أَبي عن أبيه عن ابن
عباس قوله(إِنَّا عَرَضْنَا الأمَانَةَ) : الطاعة عرضها عليها قبل أن يعرضها على
آدم ، فلم تطقها ، فقال لآدم : يا آدم إني قد عرضت الأمانة على السموات
__________
(1) في الأصل : وجبير. وسيأتي في الحديث نفسه أنه جويبر.
(20/337)
والأرض والجبال ، فلم تطقها ، فهل أنت
آخذها بما فيها ؟ فقال : يا رب : وما فيها ؟ قال : إن أحسنت جزيت وإن أسأت عوقبت ،
فأخذها آدم فتحملها فذلك قوله( وَحَمَلَهَا الإنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا
جَهُولا ) .
حدثنا ابن بشار قال : ثنا أَبو أحمد الزبيري قال : ثنا سفيان عن رجل عن الضحاك بن
مزاحم في قوله( إِنَّا عَرَضْنَا الأمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ
وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا
الإنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولا ) قال : آدم قيل له خذها بحقها قال وما
حقها ؟ قيل : إن أحسنت جزيت وإن أسأت عوقبت ، فما لبث ما بين الظهر والعصر حتى
أخرج منها.
حُدثت عن الحسين قال سمعت أبا معاذ يقول أخبرنا عبيد قال سمعت الضحاك يقول في قوله
: ( إِنَّا عَرَضْنَا الأمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَالْجِبَالِ )
فلم يطقن حملها فهل أنت يا آدم آخذها بما فيها ؟ قال آدم وما فيها يا رب ؟ قال :
إن أحسنت جزيت وإن أسأت عوقبت فقال : تحملتها ، فقال الله تبارك وتعالى : قد
حملتكها ، فما مكث آدم إلا مقدار ما بين الأولى إلى العصر حتى أخرجه إبليس لعنه
الله من الجنة ، والأمانة الطاعة.
حدثني سعيد بن عمرو السكوني قال ثنا بقية قال ثني عيسى بن إبراهيم عن موسى بن أبي
حبيب عن الحكم بن عمرو وكان من أصحاب النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم قال :
قال النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم : " إِنَّ الأمَانَةَ وَالْوَفَاءَ
نزلا عَلَى ابنِ آدَمَ مَعَ الأنْبِيَاءِ ، فَأُرْسِلُوا بِهِ ؛ فَمِنهُمْ رَسُولَ
اللهِ وَمِنْهُمْ نَبِي وَمِنْهُمْ نَبِي رَسُولٌ ، نزل القرآن وهو كلام الله
ونزلت العربية والعجمية ، فعلموا أمر القرآن وعلموا أمر السنن بألسنتهم ، ولم يدع
الله شيئًا من أمره مما يأتون ومما يجتنبون وهي الحجج عليهم إلا بينة لهم ، فليس
أهل لسان إلا وهم يعرفون الحسن من القبيح. ثم الأمانة أول شيء يرفع ، ويبقى أثرها
في جذور قلوب الناس ، ثم يرفع الوفاء والعهد والذمم ، وتبقى الكتب ؛ فعالم يعمل
وجاهل يعرفها وينكرها حتى وصل إليَّ وإلى أمتي فلا يهلك على الله إلا هالك ، ولا
يغفله إلا تارك ، والحذر
(20/338)
أيها الناس ، وإياكم والوسواس الخناس ،
وإنما يبلوكم أيكم أحسن عملا " .
حدثني محمد بن خلف العسقلاني قال ثنا عبد الله بن عبد المجيد الحنفي قال ثنا
العوام العطار قال ثنا قتادة وأبان بن أبي عياش عن خليد العصري عن أَبي الدرداء
قال : قال رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم : " خمس من جاء بهن يوم
القيامة مع إيمان دخل الجنة : من حافظ على الصلوات الخمس ؛ على وضوئهن وركوعهن
وسجودهن ومواقيتهن ، وأعطى الزكاة من ماله طيب النفس بها " وكان يقول : وايم
الله لا يفعل ذلك إلا مؤمن ، وصام رمضان ، وحج البيت إن استطاع إلى ذلك سبيلا وأدى
الأمانة ، قالوا : يا أبا الدرداء وما الأمانة ؟ قال : الغسل من الجنابة فإن الله
لم يأمن ابن آدم على شيء من دينه غيره.
حدثنا ابن بشار قال : ثنا عبد الرحمن قال : ثنا سفيان عن الأعمش عن أَبي الضحى عن
مسروق عن أُبي بن كعب ، قال : من الأمانة أن المرأة اؤتمنت على فرجها.
حدثني يونس قال : ثنا ابن وهب قال : قال ابن زيد في قول الله( إِنَّا عَرَضْنَا
الأمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ
يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا ) قال : إن الله عرض عليهن الأمانة أن يفترض
عليهن الدين ، ويجعل لهن ثوابًا وعقابًا ، ويستأمنهن على الدين ، فقلن : لا نحن
مسخرات لأمرك ، لا نريد ثوابًا ولا عقابًا ، قال رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ
وَسَلَّم : " وعرضها الله على آدم ، فقال : بين أذني وعاتقي " . قال ابن
زيد فقال الله له : أما إذ تحملت هذا فسأعينك ، أجعل لبصرك حجابًا إذا خشيت أن
تنظر إلى ما لا يحل لك ، فأرْخ عليه حجابه ، وأجعل للسانك بابًا وغلقًا ، فإذا
خشيت فأغلق ، وأجعل لفرجك لباسًا ، فلا تكشفه إلا على ما أحللت لك.
حدثنا بشر قال : ثنا يزيد قال : ثنا سعيد عن قتادة قوله( إِنَّا عَرَضْنَا
الأمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَالْجِبَالِ ) يعني به : الدين
والفرائض والحدود( فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا ) قيل لهن
: احملنها تؤدين حقها ؟ فقلن : لا
(20/339)
نطيق ذلك( وَحَمَلَهَا الإنْسَانُ
إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولا ) قيل له : أتحملها ؟ قال : نعم ، قيل : أتؤدي
حقها ؟ قال : نعم ، قال الله : إنه كان ظلومًا جهولا عن حقها.
وقال آخرون : بل عنى بالأمانة في هذا الموضع : أمانات الناس.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا تميم بن المنتصر قال : ثنا إسحاق عن شريك عن الأعمش عن عبد الله بن السائب
عن زاذان عن عبد الله بن مسعود عن النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم أنه قال :
" القتل في سبيل الله يكفر الذنوب كلها ، أو قال : يكفر كل شيء إلا الأمانة ؛
يؤتى بصاحب الأمانة فيقال له : أد أمانتك ، فيقول : أي رب وقد ذهبت الدنيا ،
ثلاثًا. فيقال : اذهبوا به إلى الهاوية ، فيذهب به إليها ، فيهوي فيها حتى ينتهي
إلى قعرها ، فيجدها هناك كهيئتها ، فيحملها فيضعها على عاتقه فيصعد بها إلى شفير جهنم
، حتى إذا رأى أنه قد خرج زلت ، فهوى في أثرها أبد الآبدين " . قالوا :
والأمانة في الصلاة والأمانة في الصوم والأمانة في الحديث ، وأشد ذلك الودائع ،
فلقيت البراء فقلت : ألا تسمع إلى ما يقول أخوك عبد الله ؟ فقال : صدق.
قال شريك وثني عياش العامري عن زاذان عن عبد الله بن مسعود عن النبي صَلَّى الله
عَلَيْهِ وَسَلَّم بنحوه ، لم يذكر الأمانة في الصلاة وفي كل شيء.
حدثني يونس قال أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد : أخبرني عمرو بن الحارث عن ابن
أَبي هلال عن أَبي حازم قال : إن الله عرض الأمانة على سماء الدنيا فأبت ثم التي
تليها حتى فرغ منها ، ثم الأرضين ثم الجبال ، ثم عرضها على آدم فقال : نعم بين
أذني وعاتقي. فثلاث آمرك بهن فإنهن لك عون : إني جعلت لك لسانًا بين لحيين فكفه عن
كل شيء نهيتك عنه ، وجعلت لك فرجًا وواريته
(20/340)
فلا تكشفه إلى ما حرمت عليك (1) .
وقال آخرون : بل ذلك إنما عنى به ائتمان آدم ابنه قابيل على أهله وولده ، وخيانة
قابيل أباه في قتله أخاه.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني موسى بن هارون قال : ثنا عمرو بن حماد قال : ثنا أسباط عن السدي في خبر ذكره
عن أَبي مالك وعن أَبي صالح عن ابن عباس وعن مرة الهمداني عن ابن مسعود وعن ناس من
أصحاب النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم قال : كان لا يولد لآدم مولود إلا ولد
معه جارية ، فكان يزوج غلام هذا البطن جارية هذا البطن الآخر ، ويزوج جارية هذا
البطن غلام هذا البطن الآخر ، حتى ولد له اثنان ، يقال لهما : قابيل وهابيل ، وكان
قابيل صاحب زرع وكان هابيل صاحب ضرع ، وكان قابيل أكبرهما وكان له أخت أحسن من أخت
هابيل ، وإن هابيل طلب أن ينكح أخت قابيل ، فأبى عليه وقال : هي أختي ولدت معي وهي
أحسن من أختك وأنا أحق أن أتزوجها فأمره أبوه أن يزوجها هابيل فأبى ، وإنهما قربا
قربانًا إلى الله أيهما أحق بالجارية ، وكان آدم يومئذ قد غاب عنهما ، أي بمكة
ينظر إليها ، قال الله لآدم : يا آدم هل تعلم أن لي بيتًا في الأرض ؟ قال : اللهم
لا قال : إن لي بيتا بمكة فأته ، فقال آدم للسماء : احفظي ولدي بالأمانة فأبت ،
وقال للأرض فأبت ، فقال للجبال فأبت ، فقال لقابيل فقال : نعم ، تذهب وترجع وتجد
أهلك كما يسرك ، فلما انطلق آدم وقربا قربانًا وكان قابيل يفخر عليه فيقول : أنا
أحق بها منك ؛ هي أختي ، وأنا أكبر منك ، وأنا وصي والدي ، فلما قربا ، قرب هابيل
جَذَعَة سمينة وقرب هابيل حزمة سنبل ، فوجد فيها سنبلة عظيمة ففركها فأكلها ،
فنزلت النار فأكلت قربان هابيل وتركت قربان
__________
(1) ترك الثالثة والذي في الدر : إني جعلت لك بصرا ، وجعلت لك شفرتين ، فعضمها عن
كل شيء نهيتك عنه ، وجعلت لك لسانك ... إلخ .
(20/341)
قابيل ، فغضب وقال : لأقتلنك حتى لا
تنكح أختي فقال هابيل( إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ لَئِنْ
بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ
لأقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ ...) إلى قوله(
فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ ) فطلبه ليقتله فراغ الغلام منه في رءوس
الجبال ، وأتاه يوما من الأيام وهو يرعى غنمه في جبل وهو نائم ، فرفع صخرة فشدخ
بها رأسه فمات ، وتركه بالعراء ولا يعلم كيف يدفن ؛ فبعث الله غرابين أخوين
فاقتتلا فقتل أحدهما صاحبه فحفر له ثم حثا عليه فلما رآه قال : ( يَاوَيْلَتَا
أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْأَةَ أَخِي )
فهو قول الله تبارك وتعالى( فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الأرْضِ
لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ ) فرجع آدم فوجد ابنه قد قتل أخاه
فذلك حين يقول( إِنَّا عَرَضْنَا الأمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ
وَالْجِبَالِ ...) إلى آخر الآية.
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب ما قاله الذين قالوا : إنه عُنِي بالأمانة في هذا
الموضع : جميع معاني الأمانات في الدين وأمانات الناس وذلك أن الله لم يخص
بقوله(عَرَضْنَا الأمَانَةَ) بعض معاني الأمانات لما وصفنا.
وبنحو قولنا قال أهل التأويل في معنى قول الله(إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولا) .
* ذكر من قال ذلك :
حدثني موسى قال ثنا عمرو قال ثنا أسباط عن السدي(إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولا)
يعني قابيل حين حمل أمانة آدم لم يحفظ له أهله.
حدثنا ابن بشار قال ثنا أَبو أحمد الزبيري قال ثنا سفيان عن رجل عن الضحاك في
قوله(وَحَملَهَا الإنْسَانُ) قال آدم(إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولا) قال :
ظلومًا لنفسه جهولا فيما احتمل فيما بينه وبين ربه.
حدثنا علي قال ثنا أَبو صالح قال ثني معاوية ، عن علي عن ابن عباس(إِنَّهُ كَانَ
(20/342)
لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (73)
ظَلُومًا جَهُولا) غر بأمر الله.
حدثنا بشر قال ثنا يزيد قال ثنا سعيد عن قتادة(إِنَّه كَانَ ظَلُومًا جَهُولا) قال
: ظلومًا لها يعني الأمانة جهولا عن حقها.
القول في تأويل قوله تعالى : { لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ
وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى
الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (73) }
يقول تعالى ذكره : وحمل الإنسان الأمانة كيما يعذب الله المنافقين فيها الذين
يظهرون أنهم يؤدون فرائض الله مؤمنين بها وهم مستسرون الكفر بها والمنافقات
والمشركين بالله في عبادتهم إياه الآلهة والأوثان( وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ
اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ) يرجع بهم إلى طاعته وأداء
الأمانات التي ألزمهم إياها حتى يؤدوها(وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا) لذنوب المؤمنين
والمؤمنات بستره عليها وتركه عقابهم عليها(رَحِيمًا) أن يعذبهم عليها بعد توبتهم
منها.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا سوار بن عبد الله العنبري قال : ثني أَبي قال ثنا أَبو الأشهب عن الحسن أنه
كان يقرأ هذه الآية( إِنَّا عَرَضْنَا الأمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ
وَالْجِبَالِ ...) حتى ينتهي( لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ
وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ ) فيقول : اللذان خاناها
اللذان ظلماها : المنافق والمشرك.
حدثنا بشر قال ثنا يزيد قال ثنا سعيد عن قتادة( لِيُعَذِّبَ اللَّهُ
الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ ) هذان
اللذان خاناها( وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ) هذان
اللذان أدَّياها(وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا) .
آخر سورة الأحزاب ، ولله الحمد والمنة.
(20/343)
تفسير سورة سبأ
(20/344)
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآَخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (1)
بسم الله الرحمن الرحيم
القول في تأويل قوله تعالى : { الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي
السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الآخِرَةِ وَهُوَ
الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (1) }
يقول تعالى ذكره : الشكر الكامل والحمد التام كله للمعبود الذي هو مالك جميع ما في
السماوات السبع وما في الأرضين السبع دون كل ما يعبدونه ، ودون كل شيء سواه لا
مالك لشيء من ذلك غيره ، فالمعنى الذي هو مالك جميعه(وَلَهُ الْحَمْدُ فِي
الآخِرَةِ) يقول : وله الشكر الكامل في الآخرة كالذي هو له ذلك في الدنيا العاجلة
؛ لأن منه النعم كلها على كل من في السماوات والأرض في الدنيا ، ومنه يكون ذلك في
الآخرة فالحمد لله خالصا دون ما سواه في عاجل الدنيا وآجل الآخرة لأن النعم كلها
من قبله لا يشركه فيها أحد من دونه وهو الحكيم في تدبيره خلقه وصرفه إياهم في
تقديره ، خبير بهم وبما يصلحهم ، وبما عملوا وما هم عاملون ، محيط بجميع ذلك.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر قال ثنا يزيد قال ثنا سعيد عن قتادة(وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ) حكيم
في أمره ، خبير بخلقه.
القول في
(20/346)
يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ (2)
تأويل قوله تعالى : { يَعْلَمُ مَا
يَلِجُ فِي الأرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا
يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ (2) }
يقول تعالى ذكره : يعلم ما يدخل الأرض وما يغيب فيها من شيء. من قولهم : ولجت في
كذا : إذا دخلت فيه ، كما قال الشاعر :
رأيتُ القوافي يَتَّلجنَ مَوَالِجًا... تَضَايَقُ عَنها أن تَوَلَّجها الإبَرْ (1)
يعني بقوله(يتَّلجن موالجا) : يدخلن مداخل(وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا) يقول : وما
يخرج من الأرض( وَمَا يَنزلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا ) يعني : وما
يصعد في السماء ، وذلك خبر من الله أنه العالم الذي لا يخفى عليه شيء في السماوات
والأرض ، مما ظهر فيها وما بطن ، وهو الرحيم الغفور ، وهو الرحيم بأهل التوبة من
عباده أن يعذبهم بعد توبتهم ، الغفور لذنوبهم إذا تابوا منها.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا
السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ الْغَيْبِ لا يَعْزُبُ
عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِنْ
ذَلِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلا فِي كِتَابٍ
__________
(1) البيت في الشعر المنسوب إلى طرفة بن العبد البكري ، وليس في ديوانه الذي فيه
أشعار الشعراء الستة (انظره في العقد الثمين ، في دواوين الشعراء الجاهليين لألورد
الألماني ، طبع غريفز) ولد سنة 1869 (وورد في) اللسان : ولج (غير منسوب. كما ورد
في فرائد القلائد ، في مختصر شرح الشواهد للعيني 391) قال : فإن القوافي ... إلخ.
قاله طرفه بن العبد. والقوافي جمع قافية ، وأراد به هنا : القصيدة ، لاشتمال
القافية عليها. والشواهد في (يتلجن) أصله (يوتلجن) ؛ لأنه من ولج : إذا دخل.
فأبدلت الواو تاء ، وأدغمت التاء في التاء. والموالج جمع مولج ، وهو موضع الولوج.
الإبر : جمع إبرة : الخياط. ا هـ. قلت : يريد طرفة أن قصائد الهجاء تبلغ من
التأثير في نفس المهجو مواضع بعيدة ، لا تنالها أسنة الإبر إذا طعن بها المهجو وهو
شبيه بقول الآخر : والقول ينفذ ما لا ينفذ الإبر.
(20/348)
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ الْغَيْبِ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (3)
مُبِينٍ (3) }
يقول تعالى ذكره : ويستعجلك يا محمد الذين جحدوا قدرة الله على إعادة خلقه بعد
فنائهم بهيئتهم التي كانوا بها من قبل فنائهم من قومك بقيام الساعة ؛ استهزاء
بوعدك إياهم وتكذيبا لخبرك ، قل لهم : بلى تأتيكم وربي ، قسمًا به لتأتينكم الساعة
، ثم عاد جل جلاله بعد ذكره الساعة على نفسه ، وتمجيدها فقال(عَالِمِ الْغَيْبِ).
واختلفت القراء في قراءة ذلك ؛ فقرأته عامة قراء المدينة(عَالِمُ الْغَيْبِ) على
مثال فاعل ، بالرفع على الاستئناف ؛ إذ دخل بين قوله(وَرَبِّي) وبين قوله(عَالِمِ
الْغَيْبِ) كلام حائل بينه وبينه ، وقرأ ذلك بعض قراء الكوفة والبصرة ، (عَالِمِ)
على مثال فاعل غير أنهم خفضوا عالم ردًّا منهم له على قوله(وَرَبِّي) إذ كان من
صفته. وقرأ ذلك بقية عامة قراء الكوفة(عَلام الْغَيْبِ) على مثال فعَّال ، وبالخفض
ردًّا لإعرابه على إعراب قوله(وربي) إذ كان من نعته.
والصواب من القول في ذلك عندنا أن كلَّ هذه القراءات الثلاث قراءات مشهورات في
قراء الأمصار متقاربات المعاني ، فبأيتهن قرأ القارىء فمصيب ، غير أن أعجب
القراءات في ذلك إليَّ أن أقرأ بها(عَلام الْغَيْبِ) على القراءة التي ذكرتها عن
عامة قراء أهل الكوفة ، فأما اختيار علام على عالم فلأنها أبلغ في المدح. وأما
الخفض فيها فلأنها من نعت الرب ، وهو في موضع جر ، وعنى بقوله(عَلام الْغَيْبِ)
علام ما يغيب عن أبصار الخلق فلا يراه أحد ، إما ما لم يكونه مما سيكونه أو ما قد
كونه فلم يطلع عليه أحدًا غيره ، وإنما وصف جل ثناؤه في هذا الموضع نفسه بعلمه
الغيب إعلامًا منه خلقه أن الساعة لا يعلم وقت مجيئها أحد سواه ، وإن كانت جائية
فقال لنبيه محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم : قل للذين كفروا بربهم : بلى
وربِّكم لتأتينكم الساعة ، ولكنه لا يعلم وقت مجيئها أحد سوى علام الغيوب ، الذي
لا يعزب عنه مثقال ذرة.
(20/349)
لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (4)
يعني جل ثناؤه بقوله(لا يَعْزُبُ
عَنْهُ) لا يغيب عنه ولكنه ظاهر له.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا علي قال ثنا أَبو صالح قال ثني معاوية عن علي عن ابن عباس في قوله(لا
يَعْزُبُ عَنْهُ) يقول : لا يغيب عنه.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أَبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال
: ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أَبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله :
(لا يَعْزُبُ عَنْهُ) قال : لا يغيب.
حدثنا بشر قال ثنا يزيد قال ثنا سعيد عن قتادة(لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ
ذَرَّةٍ) أي : لا يغيب عنه.
وقد بيَّنَّا ذلك بشواهده فيما مضى بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع.
وقوله(مِثْقَالُ ذَرَّةٍ) يعني : زنة ذرة في السماوات ولا في الأرض يقول تعالى
ذكره : لا يغيب عنه شيء من زنة ذرة فما فوقها فما دونها ، أين كان في السماوات ولا
في الأرض(وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ) يقول : ولا يعزب عنه أصغر من مثقال ذرة(وَلا
أَكْبَرُ) منه(إِلا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ) يقول : هو مثبت في كتاب يبين للناظر فيه
أن الله تعالى ذكره قد أثبته وأحصاه وعلمه فلم يعزب عن علمه.
القول في تأويل قوله تعالى : { لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا
الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (4) }
يقول تعالى ذكره : أثبت ذلك في الكتاب المبين كي يثيب الذين آمنوا بالله ورسوله
وعملوا بما أمرهم الله ورسوله به وانتهوا عما نهاهم عنه على طاعتهم
(20/350)
وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آَيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (5)
ربهم(أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ)
يقول جل ثناؤه : لهؤلاء الذين آمنوا وعملوا الصالحات مغفرة من ربهم
لذنوبهم(وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) يقول : وعيش هنيء يوم القيامة في الجنة.
كما حدثنا بشر قال ثنا يزيد قال ثنا سعيد عن قتادة(أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ)
لذنوبهم(وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) في الجنة.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ
أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (5) }
يقول تعالى ذكره : أثبت ذلك في الكتاب ليجزي المؤمنين ما وصف وليجزي الذين سعوا في
آياتنا معاجزين ، يقول : وكي يثيب الذين عملوا في إبطال أدلتنا وحججنا معاونين (1)
يحسبون أنهم يسبقوننا بأنفسهم فلا نقدر عليهم(أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ) يقول :
هؤلاء لهم عذاب من شديد العذاب الأليم ، ويعني بالأليم : الموجع.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر قال ثنا يزيد قال ثنا سعيد عن قتادة قوله( وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي
آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ ) أي : لا يعجزون( أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ
أَلِيمٌ ) قال : الرجز : سوء العذاب ، الأليم الموجع.
حدثني يونس قال أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد في قول الله
__________
(1) (في اللسان : عجز) : معاجزين : أي : يعاجزون الأنبياء وأولياء الله ، أي
يقاتلونهم ويمانعونهم ، ليصيروهم إلى المعجز عن أمر الله. ويقال : فلان يعاجز عن
الحق إلى الباطل ، أي يميل إليه ويلجأ.
(20/351)
وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (6)
( وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا
مُعَاجِزِينَ ) قال : جاهدين ليهبطوها أو يبطلوها ، قال : وهم المشركون ، وقرأ( لا
تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ ).
القول في تأويل قوله تعالى : { وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي
أُنزلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ
الْحَمِيدِ (6) }
يقول تعالى ذكره : أثبت ذلك في كتاب مبين ليجزي الذين آمنوا والذين سعوا في آياتنا
ما قد بين لهم ، وليرى الذين أوتوا العلم ، فيرى في موضع نصب عطفًا به على قوله :
يجزي في قوله(لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا) وعنى بالذين أوتوا العلم مسلمة أهل
الكتاب كعبد الله بن سلام ، ونظرائه الذين قد قرءوا كتب الله التي أنزلت قبل
الفرقان ، فقال تعالى ذكره : وليرى هؤلاء الذين أوتوا العلم بكتاب الله الذي هو
التوراة الكتاب الذي أنزل إليك يا محمد من ربك هو الحق.
وقيل : عنى بالذين أوتوا العلم : أصحاب رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر قال : ثنا يزيد قال : ثنا سعيد عن قتادة( وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا
الْعِلْمَ الَّذِي أُنزلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ ) قال : أصحاب
محمد.
وقوله( وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ ) يقول : ويرشد من اتبعه
وعمل بما فيه إلى سبيل الله العزيز في انتقامه من أعدائه الحميد عند خلقه ،
فأياديه عندهم ونعمه لديهم. وإنما يعني أن الكتاب الذي أنزل على محمد يهدي إلى
الإسلام.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ
(20/352)
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ (7)
نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ
إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ (7) }
يقول تعالى ذكره : وقال الذين كفروا بالله وبرسوله محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ
وَسَلَّم متعجبين من وعده إياهم البعث بعد الممات بعضهم لبعض(هَلْ نَدُلُّكُمْ)
أيها الناس( عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ
إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ ) يقول : يخبركم أنكم بعد تقطعكم في الأرض بلاء
(1) وبعد مصيركم في التراب رفاتًا ، عائدون كهيئتكم قبل الممات خلقًا جديدًا.
كما حدثنا بشر قال ثنا يزيد قال ثنا سعيد عن قتادة( وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا
هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ )
قال ذلك مشركو قريش والمشركون من الناس( يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ
مُمَزَّقٍ ) إذا أكلتكم الأرض وصرتم رفاتا وعظاما وقطعتكم السباع والطير( إِنَّكُمْ
لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ ) ستحيون وتبعثون.
حدثني يونس قال أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد في قوله(هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى
رَجُلٍ ...) إلى(خَلْقٍ جَدِيدٍ) قال : يقول : (إِذَا مُزِّقْتُمْ) وإذا بليتم
وكنتم عظاما وترابا ورفاتا ، ذلك(كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ)
قال : ينبئكم أنكم فكسر إن ولم يعمل ينبئكم فيها ولكن ابتدأ بها ابتداء ، لأن
النبأ خبر وقول ، فالكسر في إن لمعنى الحكاية في قوله(يُنَبِّئُكُمْ) دون لفظه ،
كأنه قيل : يقول لكم(إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ) .
__________
(1) بلاء : بفتح الباء ، ممدود : مصدر بلي ، بكسر اللام. تقول بلي الثوب بلى
وبلاء(اللسان).
(20/353)
أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَمْ بِهِ جِنَّةٌ بَلِ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ فِي الْعَذَابِ وَالضَّلَالِ الْبَعِيدِ (8)
القول في تأويل قوله تعالى : { أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَمْ بِهِ جِنَّةٌ بَلِ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ فِي الْعَذَابِ وَالضَّلالِ الْبَعِيدِ (8) }
(20/353)
يقول تعالى ذكره مخبرا عن قيل هؤلاء
الذين كفروا به وأنكروا البعث بعد الممات بعضهم لبعض معجبين من رسول الله صَلَّى
الله عَلَيْهِ وَسَلَّم في وعده إياهم ذلك : أفترى هذا الذي يعدنا أنا بعد أن نمزق
كل ممزق في خلق جديد على الله كذبا ، فتخلق عليه بذلك باطلا من القول وتخرص عليه
قول الزور(أَمْ بِهِ جِنَّةٌ) يقول : أم هو مجنون فيتكلم بما لا معنى له.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر قال : ثنا يزيد قال : ثنا سعيد عن قتادة قال : قالوا تكذيبا(أَفْتَرَى
عَلَى اللَّهِ كَذِبًا) قال : قالوا : إما أن يكون يكذب على الله(أَمْ ِبِه
جِنَّةٌ) وإما أن يكون مجنونًا(بَلِ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ ...) الآية.
حدثني يونس قال أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد : ثم قال بعضهم لبعض(أَفْتَرَى
عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَمْ بِهِ جِنَّةٌ) الرجل مجنون فيتكلم بما لا يعقل فقال
الله( الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ فِي الْعَذَابِ وَالضَّلالِ
الْبَعِيدِ ) .
وقوله( بَلِ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ فِي الْعَذَابِ وَالضَّلالِ
الْبَعِيدِ ) يقول تعالى ذكره : ما الأمر كما قال هؤلاء المشركون في محمد صَلَّى
الله عَلَيْهِ وَسَلَّم وظنوا به من أنه افترى على الله كذبا ، أو أن به جنة ، لكن
الذين لا يؤمنون بالآخرة من هؤلاء المشركين في عذاب الله في الآخرة وفي الذهاب
البعيد عن طريق الحق وقصد السبيل فهم من أجل ذلك يقولون فيه ما يقولون.
حدثني يونس بن عبد الأعلى قال أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد قال الله( بَلِ
الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ فِي الْعَذَابِ وَالضَّلالِ الْبَعِيدِ )
وأمره أن يحلف لهم ليعتبروا وقرأ(قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ
لَتُنَبَّؤُنَّ ...) الآية كلها وقرأ(قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ).
وقطعت الألف من قوله(أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ) في القطع والوصل ، ففتحت لأنها ألف
استفهام. فأما الألف التي بعدها التي
(20/354)
أَفَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (9)
هي ألف افتعل فإنها ذهبت لأنها خفيفة
زائدة تسقط في اتصال الكلام ، ونظيرها(سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ)
و(بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ) و(أَصْطَفَى الْبَنَاتِ) وما أشبه ذلك. وأما
ألف(آلآن) و(آلذَّكَرَينِ) فطولت هذه ، ولم تطول تلك لأن آلآن وآلذكرين كانت
مفتوحة فلو أسقطت لم يكن بين الاستفهام والخبر فرق فجعل التطويل فيها فرقا بين
الاستفهام والخبر ، وألف الاستفهام مفتوحة فكانتا مفترقتين بذلك فأغنى ذلك دلالة
على الفرق من التطويل.
القول في تأويل قوله تعالى : { أَفَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ
وَمَا خَلْفَهُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأرْضِ إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الأرْضَ
أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً
لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (9) }
يقول تعالى ذكره : أفلم ينظر هؤلاء المكذبون بالمعاد الجاحدون البعث بعد الممات
القائلون لرسولنا محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم(أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ
كَذِبًا أَمْ بِهِ جِنَّةٌ) إلى ما بين أيديهم وما خلفهم من السماء والأرض ،
فيعلموا أنهم حيث كانوا فإن أرضي وسمائي محيطة بهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن
أيمانهم وعن شمائلهم ؛ فيرتدعوا عن جهلهم وينزجروا عن تكذيبهم بآياتنا حذرًا أن
نأمر الأرض فتخسف بهم أو السماء فتسقط عليه قطعًا ، فإنا إن نشأ نفعل ذلك بهم
فعلنا.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر قال ثنا يزيد قال ثنا سعيد عن قتادة قوله( أَفَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا
(20/355)
وَلَقَدْ آَتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلًا يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ (10) أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (11)
بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ )
قال : ينظرون عن أيمانهم وعن شمائلهم كيف السماء قد أحاطت بهم(إِنْ نَشَأْ
نَخْسِفْ بِهِمُ الأرْضَ) كما خسفنا بمن كان قبلهم(أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ
كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ) أي : قطعًا من السماء.
وقوله( إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ ) يقول تعالى ذكره : إن في
إحاطة السماء والأرض بعباد الله لآية : يقول : لدلالة لكل عبد منيب : يقول لكل عبد
أناب إلى ربه بالتوبة ، ورجع إلى معرفة توحيده والإقرار بربوبيته والاعتراف
بوحدانيته والإذعان لطاعته على أن فاعل ذلك لا يمتنع عليه فعل شيء أراد فعله ولا
يتعذر عليه فعل شيء شاءه.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر قال ثنا سعيد عن قتادة( إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ
) والمنيب : المقبل التائب.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ مِنَّا فَضْلا يَا
جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ (10) أَنِ
اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا
تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (11) }
يقول تعالى ذكره : ولقد أعطينا داود منا فضلا وقلنا للجبال(أَوِّبِي مَعَهُ) :
سبحي معه إذا سبح. والتأويب عند العرب : الرجوع ومبيت الرجل في منزله وأهله ، ومنه
قول الشاعر :
يَوْمَانِ يَومُ مقاماتٍ وأنديةٍ... ويومُ سَيرٍ إلَى الأعْدَاءِ تَأْوِيبِ (1)
__________
(1) البيت لسلامة بن جندل. قاله أبو عبيدة في (مجاز القرآن ، مصورة الجامعة رقم
26059 ص 197 - ب) وانظره في المفضليات طبع القاهرة سنة 1926 والتأويب أن يبيت في
أهله. قال سلامة بن جندل : (يومان ... البيت). استشهد به (اللسان : أوب) ونسبه
لسلامة وقال : التأويب أن يسير النهار أجمع ، وينزل الليل. وقيل : هو تباري الركاب
في السير. قال : سلامة ... البيت. ثم قال التأويب في كلام العرب : سير النهار كله
إلى الليل. يقال : أوب القوم تأويبا : أي ساروا بالنهار. و (في اللسان : أوب) :
والتأويب : الرجوع. وقوله عز وجل : (يا جبال أوبي معه) ويقرأ : (أوبي معه) أي بضم
الهمزة. فمن قرأ أوبي معه (بفتح الهمزة ، وشد الواو المكسورة) فمعناه : يا جبال
سبحي معه ، ورجعة التسبح لأنه قال : سخرنا الجبال معه يسبحن. ومن قرأ (أوبي معه)
أي بضم الهمزة ، فمعناه : عودي معه في التسبيح كلما عاد فيه.
(20/356)
أي رجوع وقد كان بعضهم يقرؤه(أُوْبِي
مَعَهُ) من آب يئوب ، بمعنى تصرفي معه ، وتلك قراءة لا أستجيز القراءة بها لخلافها
قراءة الحجة.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني سليمان بن عبد الجبار قال ثني محمد بن الصلت قال ثنا أَبو كدينة ، وحدثنا
محمد بن سنان القزاز قال ثنا الحسن بن الحسن الأشقر قال ثنا أَبو كدينة عن عطاء عن
سعيد بن جبير عن ابن عباس(أَوِّبِي مَعَهُ) قال : سبحي معه.
حدثني محمد بن سعد قال ثني أَبي قال ثني عمي قال ثني أَبي عن أبيه عن ابن عباس
قوله(يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ) يقول : سبحي معه.
حدثنا أَبو عبد الرحمن العلائي قال ثنا مِسْعر عن أَبي حصين عن أَبي عبد
الرحمن(يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ) يقول : سبحي.
حدثنا ابن حميد قال ثنا حكام عن عنبسة عن أَبي إسحاق عن أَبي ميسرة(يَا جِبَالُ
أَوِّبِي مَعَهُ) قال : سبحي بلسان الحبشة.
حدثني يحيى بن طلحة اليربوعي قال : ثنا فضيل عن منصور عن مجاهد في قوله(يَا
جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ) قال : سبحي معه.
(20/357)
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أَبو
عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا
، عن ابن أَبي نجيح ، عن مجاهد قوله(يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ) قال : سبحي.
حدثنا بشر قال ثنا يزيد قال ثنا سعيد عن قتادة(يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ) أي :
سبحي معه إذا سبح.
حدثني يونس قال أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد في قوله(يَا جِبَالُ أَوِّبِي
مَعَهُ) قال : سبحي معه ، قال : والطيرُ أيضًا.
حُدثت عن الحسين قال سمعت أبا معاذ يقول أخبرنا عبيد قال سمعت الضحاك يقول في
قوله(يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ) قال : سبحي.
حدثنا عمرو بن عبد الحميد قال ثنا مروان بن معاوية عن جويبر عن الضحاك قوله(يَا
جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ) سبحي معه.
وقوله(وَالطَّيْرَ) وفي نصب الطير وجهان : أحدهما على ما قاله ابن زيد من أن الطير
نوديت كما نوديت الجبال فتكون منصوبة من أجل أنها معطوفة على مرفوع بما لا يحسن
إعادة رافعه عليه فيكون كالمصدر (1) عن جهته ، والآخر : فعل ضمير متروك استغني
بدلالة الكلام عليه ، فيكون معنى الكلام : فقلنا يا جبال أوبي معه وسخرنا له
الطير. وإن رفع ردا على ما في قوله : سبحي من ذكر الجبال كان جائزًا ، وقد يجوز
رفع الطير وهو معطوف على الجبال ، وإن لم يحسن نداؤها بالذي نوديت به الجبال ،
فيكون ذلك كما قال الشاعر :
ألا يا عمرُو والضحاكَ سِيرا... فقد جاوزتما خَمَرَ الطريقِ (2)
__________
(1) لعله كالمصروف عن جهته.
(2) البيت من شواهد الفراء في معاني القرآن (الورقة 261) قال في قوله تعالى : (يا
جبال أوبي معه والطير) : منصوبة على جهتين : إحداهما أن تنصبهما بالفعل ، بقوله :
(ولقد آتينا داود منا فضلا) وسخرنا له الطير ، فيكون مثل قوله : أطعمته طعاما وما
تريد ، وسقيته ماء. فيجوز ذلك. والوجه الآخر بالنداء ، لأنك إذا قلت : يا عمرو
والصلت أقبلا ، نصبت : الصلت بدعائهما ، فإذا فقدت كان كالمعدول عن جهته ، فنصب ،
وقد يجوز رفعه ، على أن يتبع ما قبله. ويجوز رفعه على أوبي أنت والطير. وأنشدني بعض
العرب النداء إذا نصب ، لفقده يا أيها : (ألا يا عمرو والضحاك) والخمر بالتحريك :
ما سترك من الشجر وغيرها ، فيجوز نصب الضحاك ورفعه. وقال الآخر : يا طلحة الكامل
وابن الكامل.
(20/358)
وقوله(وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ) ذكر
أن الحديد كان في يده كالطين المبلول يصرفه في يده كيف يشاء بغير إدخال نار ولا
ضرب بحديد.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر قال ثنا يزيد قال ثنا سعيد عن قتادة(وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ) سخر
الله له الحديد بغير نار.
حدثنا ابن بشار قال : ثنا ابن عثمة قال : ثنا سعيد بن بشير عن قتادة في
قوله(وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ) كان يسويها بيده ولا يدخلها نارًا ولا يضربها
بحديدة.
وقوله(أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ) يقول : وعهدنا إليه أن اعمل سابغات : وهي التوامُّ
الكوامل من الدروع.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر قال ثنا يزيد قال ثنا سعيد عن قتادة(أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ) دروع وكان
أول من صنعها داود ، إنما كان قبل ذلك صفائح.
حدثني يونس قال أخبرنا ابن وهب قال قال ابن زيد في قوله(أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ)
قال : السابغات دروع الحديد.
وقوله(وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ) اختلف أهل التأويل في السرد ؛ فقال بعضهم : السرد
هو مسمار حلق الدرع.
(20/359)
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر قال ثنا يزيد قال ثنا سعيد عن قتادة(وَقَدِّرْ فِي السرْدِ) قال : كان
يجعلها بغير نار ، ولا يقرعها بحديد ، ثم يسردها. والسرد : المسامير التي في
الحلق.
وقال آخرون : هو الحلق بعينها.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس قال أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد في قوله(وَقَدِّرْ فِي
السَّرْدِ) قال : السرد حلقه ، أي : قدر تلك الحلق ، قال : وقال الشاعر :
أجادَ المُسَدِّي سَرْدَهَا وَأَذَالَهَا (1)
قال : يقول وسعها وأجاد حلقها.
حدثنا محمد بن سعد قال ثني أَبي قال ثني عمي قال ثني أَبي عن أبيه عن ابن
عباس(وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ) يعني بالسرد : ثقب الدروع فيسد قتيرها. وقال بعض
أهل العلم بكلام العرب : يقال درع مسرودة إذا كانت مسمورة الحلق ، واستشهد لقيله
ذلك بقول الشاعر :
وَعَلَيهِمَا مَسْرُودَتَانِ قَضَاهُمَا... دَاودُ أَوْ صَنَعُ السَّوَابِغِ
تُبَّعُ (2)
__________
(1) البيت لكثير عزة بن عبد الرحمن الخزاعي (اللسان : ذيل) وصدره : على ابن أَبي
العاص دلاص حصينة ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
قال : وذيل فلان ثوبه تذييلا : إذا طوله. وملاء مذيل : طويل الذيل. ويقال : وأذال
فلان ثوبه إذا أطال ذيله ؛ قال كثير : على ابن أَبي العاص . . . . . ... . . . . .
. . . . . . وأذالها
وسردها : سمرها بالمسامير ، كما يأتي في الشواهد بعده. والمسدي : من التسديد وهي
أن يجعل الدرع مضاعفة ، لها سدى ولحمة. (على التشبيه بالثوب الذي له سدى ولحمة) أو
السدى : أسفل الثوب والدرع ، والتسديد منه توسع أسفلها حتى لا يعوق لابسه في السير
إذا كان ضيقا ، وهذا الشاهد في معنى الشاهد الذي بعده.
(2) البيت من شواهد أَبي عبيدة في (معاني القرآن 198 - أ) من مصورة الجامعة على
أنه يقال درع مسرودة : أي مسمورة الحلق. وقال الفراء في (معاني القرآن ، الورقة
261) : وقال عز وجل : (أن اعمل سابغات) : الدروع (وقدر في السرد) يقول : لا تجعل
مسمار الدروع دقيقا ، فيقلق ، ولا غليظا ، فيفصم الحلق. وفي (اللسان : قضى) :
والقضاء : بمعنى العمل ، ويكون بمعنى العمل ، ويكون بمعنى الصنع والتقدير قال أبو
ذؤيب : " وعليهما مسرودتان ... البيت " . قال ابن السيرافي : قضاهما فرغ
من عملها أو قلت : ومعنى البيت أنهما جاءا وعليهما درعان سابغتان أي طويلتان
محكمتا الصنع ، كأنهما من صنع داود عليه السلام ، أو من صنع تبع ملك اليمن العظيم
(20/360)
وقيل : إنما قال الله لداود(وَقَدِّرْ
فِي السَّرْدِ) لأنها كانت قبل صفائح.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا نصر بن علي قال ثنا أَبي قال ثنا خالد بن قيس عن قتادة(وَقَدِّرْ فِي
السَّرْدِ) قال : كانت صفائح فأمر أن يسردها حلقًا ، وعنى بقوله(وَقَدِّرْ فِي
السَّرْدِ) : وقدر المسامير في حلق الدروع حتى يكون بمقدار لا تغلظ المسمار ،
وتضيق الحلقة فتفصم الحلقة ، ولا توسع الحلقة وتصغر المسامير وتدقها فتسلس في
الحلقة.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو قال : ثنا أَبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال :
ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أَبي نجيح ، عن مجاهد في
قوله(وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ) قال : قدر المسامير والحلق ؛ لا تدق المسامير فتسلس
ولا تجلها ، قال محمد بن عمرو وقال الحارث : فتفصم.
حدثني علي بن سهل قال ثنا حجاج عن ابن جريج عن مجاهد في قوله(وَقَدِّرْ فِي
السَّرْدِ) قال : لا تصغر المسمار وتعظم الحلقة فتسلس ، ولا تعظم المسمار وتصغر
الحلقة فيفصم المسمار.
حدثني يعقوب قال ثنا ابن عيينة قال ثنا أَبي عن الحكم في قوله(وَقَدِّرْ
(20/361)
وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ (12)
فِي السَّرْدِ) قال : لا تغلظ المسمار
فيفصم الحلقة ولا تدقه فيقلق.
وقوله(وَاعْمَلُوا صَالِحًا) يقول تعالى ذكره : واعمل يا داود أنت وآلك بطاعة
الله(إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) يقول جل ثناؤه : إني بما تعمل أنت وأتباعك
ذو بصر لا يخفى عليَّ منه شيء ، وأنا مجازيك وإياهم على جميع ذلك.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ
وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ
يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا
نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ (12) }
اختلفت القراء في قراءة قوله(وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ) فقرأته عامة قراء
الأمصار(وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ) بنصب الريح ، بمعنى : ولقد آتينا داود منا فضلا
وسخرنا لسليمان الريحَ. وقرأ ذلك عاصم : (وَلِسُلَيْمِانَ الرِّيحُ) رفعًا بحرف
الصفة إذ لم يظهر الناصب.
والصواب من القراءة في ذلك عندنا النصب لإجماع الحجة من القراء عليه.
وقوله(غُدُوُّهَا شَهْرٌ) يقول تعالى ذكره : وسخرنا لسليمان الريح ، غدوها إلى
انتصاف النهار مسيرة شهر ، ورواحها من انتصاف النهار إلى الليل مسيرة شهر.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر قال ثنا يزيد قال ثنا سعيد عن قتادة قوله(وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ
غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ) قال : تغدو مسيرة شهر وتروح مسيرة شهر ،
قال : مسيرة شهرين في يوم.
(20/362)
حدثنا ابن حميد قال ثنا سلمة عن أَبي
إسحاق عن بعض أهل العلم عن وهب بن منبه(وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا
شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ) قال : ذكر لي أن منزلا بناحية دجلة مكتوب فيه كتاب
كتبه بعض صحابة سليمان ؛ إما من الجن وإما من الإنس : نحن نزلناه وما بنيناه ،
ومبنيًّا وجدناه ، غدونا من إصطخر فقِلناه ، ونحن رائحون منه إن شاء الله فبائتون
بالشام.
حدثنا يونس قال أخبرنا ابن وهب قال قال ابن زيد في قوله(وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ
غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ) قال : كان له مركب من خشب ، وكان فيه ألف
ركن ، في كل ركن ألف بيت تركب فيه الجن والإنس ، تحت كل ركن ألف شيطان ، يرفعون
ذلك المركب هم والعصار (1) فإذا ارتفع أتت الريح رخاء فسارت به وساروا معه ، يقيل
عند قوم بينه وبينهم شهر ، ويمسى عند قوم بينه وبينهم شهر ، ولا يدري القوم إلا
وقد أظلهم معه الجيوش والجنود.
حدثنا ابن بشار قال ثنا أَبو عامر قال ثنا قرة عن الحسن في قوله(غُدُوُّهَا شَهْرٌ
وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ) قال : كان يغدو فيقيل في إصطخر ، ثم يروح منها فيكون رواحها
بكابل.
حدثنا ابن بشار قال ثنا حماد قال ثنا قرة عن الحسن بمثله.
وقوله(وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ) يقول : وأذبنا له عين النحاس ،
وأجريناها له.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر قال ثنا يزيد قال ثنا سعيد عن قتادة(وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ)
__________
(1) في (اللسان : عصر) ، الإعصار والعصار (ككتاب) أن تهيج الريح فترفعه. والعصار :
الغبار الشديد.
(20/363)
يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ اعْمَلُوا آَلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ (13)
عين النحاس كانت بأرض اليمن ، وإنما
ينتفع اليوم بما أخرج الله لسليمان.
حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد في قوله(وَأَسَلْنَا لَهُ
عَيْنَ الْقِطْرِ) قال : الصِّفر سال كما يسيل الماء ، يعمل به كما كان يعمل
العجين في اللبن.
حدثني علي قال : ثنا أَبو صالح قال : ثني معاوية عن علي عن ابن عباس قوله(وَأَسَلْنَا
لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ) يقول : النحاس.
حدثني محمد بن سعد قال : ثني أَبي قال : ثني عمي قال : ثني أَبي عن أبيه عن ابن
عباس قوله(وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ) يعني : عين النحاس أسيلت.
وقوله(وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ) يقول
تعالى ذكره : ومن الجن من يطيعه ويأتمر بأمره وينتهى لنهيه ؛ فيعمل بين يديه ما
يأمره طاعة له بإذن ربه ، يقول : بأمر الله بذلك ، وتسخيره إياه له(وَمَنْ يَزِغْ
مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا) يقول : ومن يزل ويعدل من الجن عن أمرنا الذي أمرناه من
طاعة سليمان(نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ) في الآخرة ، وذلك عذاب نار جهنم
الموقدة.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر قال ثنا يزيد قال ثنا سعيد عن قتادة ، وقوله(وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ
عَنْ أَمْرِنَا) أي : يعدل منهم عن أمرنا عمَّا أمره به سليمان(نُذِقْهُ مِنْ
عَذَابِ السَّعِيرِ) .
القول في تأويل قوله تعالى : { يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ
وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ
شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ (13) }
(20/364)
يقول تعالى ذكره : يعمل الجن لسليمان
ما يشاء من محاريب وهي جمع محراب ، والمحراب : مقدم كل مسجد وبيت ومصلى ، ومنه قول
عدي بن زيد :
كدُمَي العاجِ في المحاريبِ أو كال... بيضِ في الرَّوضِ زَهرُهُ مُسْتَنِيرُ (1)
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو قال : ثنا أَبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال :
ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أَبي نجيح ، عن مجاهد قوله(مَا
يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ) قال : بنيان دون القصور.
حدثنا بشر قال ثنا يزيد قال ثنا سعيد عن قتادة(يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ
مَحَارِيبَ) وقصور ومساجد.
حدثني يونس قال أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد في قوله(يَعْمَلُونَ لَهُ مَا
يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ) قال : المحاريب : المساكن ، وقرأ قول الله( فَنَادَتْهُ
الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ ).
حدثني عمرو بن عبد الحميد الآملي قال ثنا مروان بن معاوية عن جويبر عن
الضحاك(يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ) قال : المحاريب : المساجد.
وقوله(وَتَمَاثِيلَ) يعني أنهم يعملون له تماثيل من نحاس وزجاج.
كما حدثني محمد بن عمرو قال : ثنا أَبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ،
قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أَبي نجيح ، عن
مجاهد(وَتَمَاثِيلَ) قال : من نحاس.
حدثنا بشر قال ثنا يزيد قال ثنا سعيد عن قتادة(وَتَمَاثِيلَ) قال : من
__________
(1) البيت لعدي بن زيد العبادي كما قال المؤلف ، وكما في شعراء النصرانية القسم
الرابع 455 وقد استشهد به المؤلف في (3 / 2464) من هذا التفسير ، على أن المحاريب
جمع محراب ، وهو مقدم موضع العبادة. فراجعه ثمة.
(20/365)
زجاج وشبهه.
حدثنا عمرو بن عبد الحميد قال ثنا مروان عن جويبر عن الضحاك في قول
الله(وَتَمَاثِيلَ) قال : الصور.
قوله(وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ) يقول : وينحتون له ما يشاء من جفان كالجواب ، وهي
جمع جابية والجابية : الحوض الذي يجبى فيه الماء ، كما قال الأعشى ميمون بن قيس :
تروحُ علَى نَادِي المُحَلَّقِ جَفْنَةٌ... كَجَابِيةِ الشَّيخِ العِرَاقِي
تَفْهَقُ (1)
وكما قال الآخر :
فَصَبَّحْتُ جَابِيَةً صُهَارِجا... كأنَّها جِلْدُ السَّمَاءِ خارِجا (2)
__________
(1) البيت لأعشى بني قيس بن ثعلبة (ديوانه طبعة القاهرة 225) وروايته : نَفَى
الذَّمَّ عَنْ آلِ المحلقِ جَفْنَةُ ... كَجابِيَةِ السِّيح العِرَاقيِّ تَفْهَقُ
وهي رواية مشهورة كالرواية التي أوردها المؤلف. يصف المحلق بالكرم وأن جفنته تروح
على ناديه مفعمة لحما وشحما ، وهي من كبير الجفان ، مثل جابية الماء التي يجمع
فيها الشيخ العراقي أيام يفيض النهر ، لينفق منه في أيام قلة الماء ، فهي جابية
كبيرة. وأما من رواه السيح ، بالسين والحاء والمهملتين ، فهو ما يفيض من الماء
ويسيح عن الزيادة بالنهر وقد ذكر في المبرد " الكتاب الكامل " هاتين
الروايتين (انظر طبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده 1 : 7) قال في تخريج رواية
الشيخ : كذا ينشده أهل البصرة. وتأويله عندهم أن العراقي إذا تمكن من الماء ، ملأ
جابيته ، لأنه حضري ، فلا يعرف مواقع الماء ولا محاله. قال أَبو العباسي : وسمعت
أعرابية تنشد : (وهي أم الهيثم الكلابية من ولد المحلق ، وهي رواية أهل الكوفة) :
" كجابية المسيح " ، تريد : النهر يجري على جانبيه ، فماؤها لا ينقطع ،
لأن النهر يمده. ا .هـ. وقال أبو عبيدة في مجاز القرآن : (الورقة : 198) (وجفان
كالجواب) : واحدها : جابية وهو الحوض الذي يجبى فيه الماء. وقال الفراء في معاني
القرآن الورقة 261 : (وجفان) : وهي القصاع الكبار. (كالجواب) الحياض التي للإبل. وفي
(اللسان : جبى) : الجابية الحوض الذي يجبى فيه الماء للإبل. والجابية : الحوض
الضخم وأورد البيت كرواية المؤلف ، ثم قال : خص العراقي ، لجهله بالمياه ، لأنه
حضري ، فإن وجدها ملأ جابية : وأعدها ، ولم يدر متى يجد المياه.
(2) هذان بيتان من مشطور الرجز. روى أولهما صاحب (اللسان : صهرج) عن الأزهري. قال
: وحوض صهارج : مطلي بالصاروخ : (النورة) والصهارج بالضم مثل الصهرج. وأنشد
الأزهري فصبحت جابية صحارجا وقد صهرجوا صهريجا. وفاعل صحبت ضمير يعود على ما قبله
، ولعله ذكر الإبل. والرجز غير منسوب. وقوله " كأنها جلد ... " البيت :
يشبه لون الجابية أو ماءها بلون السماء في الزرقة. وهذا البيت كالذي قبله شاهد على
أن معنى الجابية الحوض الكبير الذي يجمع فيه الماء ، وهو الصهارج والصهريج أيضا.
شبه جفنة المحلق بالحوض الكبير ، لكرمه.
(20/366)
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل
التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني علي قال ثنا أَبو صالح قال ثني معاوية عن علي عن ابن عباس قوله(وَجِفَانٍ
كَالْجَوَابِ) يقول : كالجوبة من الأرض.
حدثني محمد بن سعد قال ثني أَبي قال ثني عمي قال ثنى أَبي عن أبيه عن ابن عباس
قوله(وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ) يعني بالجواب : الحياض.
وحدثني يعقوب قال ثنا ابن علية عن أَبي رجاء عن الحسن(وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ) قال
: كالحياض.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أَبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال
: ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أَبي نجيح ، عن مجاهد
قوله(وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ) قال : حياض الإبل.
حدثنا بشر قال ثنا يزيد قال ثنا سعيد عن قتادة(وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ) قال : جفان
كجوبة الأرض من العظم ، والجوبة من الأرض : يستنقع فيها الماء.
حدثت عن الحسين بن الفرج ، قال سمعت أبا معاذ يقول أخبرنا عبيد قال سمعت الضحاك
يقول في قوله(وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ) كالحياض.
حدثنا عمرو قال ثنا مروان بن معاوية قال ثنا جويبر عن الضحاك(وَجِفَانٍ
كَالْجَوَابِ) قال : كحياض الإبل من العظم.
وقوله(وَقُدُورٍ رَاسيَاتٍ) يقول : وقدور ثابتات لا يحركن عن أماكنهن ، ولا تحول
لعظمهن.
(20/367)
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل
التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أَبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال
: ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أَبي نجيح ، عن مجاهد
قوله(وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ) قال : عظام.
حدثنا بشر قال ثنا يزيد قال ثنا سعيد عن قتادة(وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ) قال : عظام
ثابتات الأرض لا يزلن عن أمكنتهن.
حدثني يونس قال أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد في قوله(وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ)
قال : مثال الجبال من عِظمها ، يعمل فيها الطعام من الكبر والعظم ، لا تحرك ولا
تنقل ، كما قال للجبال : راسيات.
وقوله(اعْمَلُوا آلَ دَاودَ شُكْرًا) يقول تعالى ذكره : وقلنا لهم اعملوا بطاعة
الله يا آل داود شكرًا له على ما أنعم عليكم من النعم التي خصكم بها عن سائر خلقه
مع الشكر له على سائر نعمه التي عمكم بها مع سائر خلقه ، وتُرك ذكر : " وقلنا
لهم " اكتفاء بدلالة الكلام على ما ترك منه ، وأخرج قوله(شُكْرًا) مصدرا من
قوله(اعْمَلُوا آلَ دَاودَ) لأن معنى قوله(اعْمَلُوا) اشكروا ربكم بطاعتكم إياه ،
وأن العمل بالذي رضي الله ، لله شكر.
وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد قال : ثنا يحيى بن واضح ، قال ثنا موسى بن عبادة عن محمد بن كعب
قوله(اعْمَلُوا آلَ دَاودَ شُكْرًا) قال : الشكر تقوى الله والعمل بطاعته.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد : أخبرني
(20/368)
فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ (14)
حيوة عن زهرة بن معبد أنه سمع أبا عبد
الرحمن الحبلي (1) يقول : (اعْمَلُوا آلَ دَاودَ شُكْرًا) وأفضل الشكر الحمد.
قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد في قوله : (اعْمَلُوا آلَ دَاودَ شُكْرًا)
قال : أعطاكم وعلمكم وسخر لكم ما لم يسخر لغيركم ، وعلمكم منطق الطير ، اشكروا له
يا آل داود قال : الحمد طرف من الشكر.
وقوله(وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِي الشَّكُورُ) يقول تعالى ذكره : وقليل من عبادي
المخلصو توحيدي والمفردو طاعتي وشكري على نعمتي عليهم.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني علي قال ثنا أَبو صالح قال ثني معاوية عن علي عن ابن عباس قوله(وَقَلِيلٌ
مِنْ عِبَادِي الشَّكُورُ) يقول : قليل من عبادي الموحدون توحيدهم.
القول في تأويل قوله تعالى : { فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا
دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلا دَابَّةُ الأرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا
خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا
فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ (14) }
يقول تعالى ذكره : فلما أمضينا قضاءنا على سليمان بالموت فمات(مَا دَلَّهُمْ عَلَى
مَوْتِهِ) يقول : لم يدل الجن على موت سليمان(إِلا دَابَّةُ الأرْضِ) وهي الأرضة
وقعت في عصاه التي كان متكئًا عليها فأكلتها ، فذلك قول الله عز وجل(تَأْكُلُ
مِنْسَأَتَهُ).
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*
__________
(1) الحبلي : بسكون الباء وضمها : منسوب إلى بني الحبلى ، بطن من الأنصار ، ثقة ،
توفي سنة مائة. (عن التاج).
(20/369)
ذكر من قال ذلك :
حدثني ابن المثنى وعلي قالا ثنا أَبو صالح قال ثني معاوية عن علي عن ابن عباس
قوله( إِلا دَابَّةُ الأرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ ) يقول : الأرضة تأكل عصاه.
حدثنا محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ،
عن ابن عباس قوله(تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ) قال : عصاه.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثني أَبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال
: ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أَبي نجيح ، عن مجاهد قوله(إِلا
دَابَّةُ الأرْضِ) قال : الأرضة(تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ) قال : عصاه.
حدثني محمد بن عمارة قال ثنا عبد الله بن موسى قال أخبرنا إسرائيل عن أَبي يحيى عن
مجاهد(تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ) قال : عصاه.
حدثنا ابن بشار قال ثنا ابن عثمة قال ثنا سعيد بن بشير عن قتادة في قوله(تَأْكُلُ
مِنْسَأَتَهُ) أكلت عصاه حتى خرَّ.
حدثنا موسى بن هارون قال : ثنا عمرو ، قال : ثنا أسباط عن السدي المنسأة : العصا
بلسان الحبشة.
حدثنا يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد : المنسأة العصا.
واختلفت القراء في قراءة قوله(مِنْسَأَتَهُ) فقرأ ذلك عامة قراء أهل المدينة وبعض
أهل البصرة(مِنْسَاتَهُ) غير مهموزة ، وزعم من اعتل لقارىء ذلك كذلك من أهل البصرة
أن المنساة : العصا ، وأن أصلها من نسأت بها الغنم ، قال : وهي من الهمز الذي
تركته العرب ، كما تركوا همز النبي والبرية والخابية ، وأنشد لترك الهمز في ذلك
بيتا لبعض الشعراء :
(20/370)
إذا دَبَبْتَ على المِنساةِ من
هَرَمٍ... فقدْ تَبَاعَد عنكَ اللَّهوُ والغَزَلُ (1)
وذكر الفراء عن أَبي جعفر الرَّوَاسي أنه سأل عنها أبا عمرو فقال : (مِنْسَاتَهُ)
بغير همز.
وقرأ ذلك عامة قراء الكوفة(مِنْسَأَتَهُ) بالهمز ، وكأنهم وجهوا ذلك إلى أنها
مِفْعَلة من نسأت البعير : إذا زجرته ليزداد سيره ، كما يقال نسأت اللبن : إذا
صببت (2) عليه الماء وهو النسيء ، وكما يقال : نسأ الله في أجلك أي أدام (3) الله
في أيام حياتك.
قال أَبو جعفر : وهما قراءتان قد قرأ بكل واحدة منهما علماء من القراء بمعنى واحد
، فبأيتهما قرأ القارىء فمصيب ، وإن كنت أختار الهمز فيها لأنه الأصل.
وقوله(فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ) يقول عز وجل : فلما خر سليمان ساقطًا
بانكسار منسأته تبينت الجن(أنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ) الذي يدعون
علمه(مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ) المذل حولا كاملا بعد موت سليمان ،
وهم يحسبون أن سليمان حي.
__________
(1) البيت من شواهد أَبي عبيدة في (مجاز القرآن ، الورقة 198 - ب) والرواية فيه
" حبيت " في موضع " دببب " . وفي هامشه بخط الناسخ : (رواية :
دببب). قال أبو عبيدة : (تأكل منسأته) : وهي العصا : من نسأت بها الغنم. وهو من
المهموز الذي تركت العرب الهمزة من أسمائها ، ويهمزون الفعل منها ، كما تركوا همزة
النبي والبرية والخالية ، وهو من أنبأت ، ومن برأت ، وخبأت. قال : " إذا حببت
على المنساة ... " البيت. وبعضهم يهمزها فيقول : منسأة. ا . هـ. والبيت في
(اللسان : نسأ) وروايته : " إذا دببب ... " البيت. وقال قبل ذلك :
والمنسأة : العصا ؛ يهمز ، ولا يهمز. ينسأ بها. وأبدلوا إبدالا كليا ، فقالوا
منساة. وأصلها الهمز ، ولكنها بدل لازم حكاه سيبويه. وقد قرئ بهما جميعا. قال
الفراء في قوله عز وجل : (تأكل منسأته) وهي العصا العظيمة التي تكون مع الراعي.
أخذت من نسأت البعير إذا زجرته ليزداد سيره. كما يقال نسأت اللبن إذا صببت عليه
الماء. وهو النسئ.
(2) كذا في (معاني القرآن للفراء الورقة 261) وفي الأصل : صدرت بتحريف.
(3) لعله : أطال.
(20/371)
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل
التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا أحمد بن منصور قال ثنا موسى بن مسعود أَبو حذيفة قال ثنا إبراهيم بن طهمان
عن عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس عن النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ
وَسَلَّم قال : " كَانَ سُلَيمانُ نبيُّ اللهِ إذَا صَلَّى رأى شجرة نابتة
بين يديه فيقول لها ما اسمك ؟ فتقول كذا ، فيقول لأي شيء أنت ؟ فإن كانت تُغْرَسُ
غُرسَت ، وإن كان لدواءٍ كُتبتْ ، فبينما هو يصلي ذاتَ يَومٍ إذ رأى شجرةً بين
يديه ، فقال لها : ما اسمك ؟ قالت : الخروب ، قال : لأي شيء أنت ؟ قالت : لخراب
هذا البيت ، فقال سليمان : اللهم عمِّ على الجن موتي ؛ حتى يعلم الإنس أن الجن لا
يعلمون الغيب ، فنَحَتَها عصا فتوكَّأ عليها حولا ميتًا ، والجن تعمل ، فأكلتها
الأرضة ، فسقط ، فتبينت الإنس أن الجن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا حولا في
العذاب المهين " . قال : وكان ابن عباس يقرؤها كذلك ، قال : فشكرت الجن
للأرضة فكانت تأتيها بالماء.
حدثنا موسى بن هارون قال ثنا عمرو قال ثنا أسباط عن السدي في خبر ذكره عن أَبي
مالك وعن أَبي صالح عن ابن عباس وعن مرة الهمداني عن ابن مسعود وعن أناس من أصحاب
رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم قال : " كان سليمان يتجرد (1) في
بيت المقدس السنة والسنتين ، والشهر والشهرين ، وأقل من ذلك وأكثر ، يَدخل طعامه
(2) وشرابه ، فدخله في المرة التي مات فيها ، وذلك أنه لم يكن يوم يصبح فيه ، إلا
تنبت فيه شجرة ، فيسألها : ما اسمك ؟ فتقول الشجرة : اسمي كذا وكذا ، فيقول لها :
لأي شيء نبت ، فتقول : نبت لكذا وكذا. فيأمر بها فتقطع ؛ فإن كانت نبتت لغرس غرسها
، وإن كانت
__________
(1) في العرائس للثعلبي (طبعة الحلبي 326) قال ابن عباس وغيره : كان سليمان يحتجب
في بيت المقدس ... إلخ.
(2) في العرائس : يدخل فيه بطعامه ... إلخ.
(20/372)
نبتت لدواء قالت : نبت دواء لكذا وكذا
، فيجعلها كذلك ، حتى نبتت شجرة يقال لها الخروبة ، فسألها ما اسمك ؟ فقالت له :
أنا الخروبة ، فقال : لأي شيء نبتِّ ، قالت : لخراب هذا المسجد ، قال سليمان : ما
كان الله ليخربه وأنا حي ، أنت التي على وجهك هلاكي وخراب بيت المقدس ، فنزعها
وغرسها في حائط له ثم دخل المحراب ، فقام يصلي متكئًا على عصاه ، فمات ولا تعلم به
الشياطين في ذلك ، وهم يعملون له يخافون أن يخرج فيعاقبهم ، وكانت الشياطين تجتمع
حول المحراب ، وكان المحراب له كُوىً بين يديه وخلفه ، وكان الشيطان الذي يريد أن
يخلع يقول : ألست جلدًا إن دخلت ، فخرجت من الجانب الآخر ، فدخل شيطان من أولئك
فمر ، ولم يكن شيطان ينظر إلى سليمان في المحراب إلا احترق ، فمر ولم يسمع صوت
سليمان عليه السلام ، ثم رجع فلم يسمع ، ثم رجع فوقع في البيت فلم يحترق ، ونظر
إلى سليمان قد سقط فخرج فأخبر الناس أن سليمان قد مات ، ففتحوا عنه فأخرجوه ووجدوا
منسأته ، وهي العصا بلسان الحبشة قد أكلتها الأرضة ، ولم يعلموا منذ كم مات ،
فوضعوا الأرضة على العصا ، فأكلت منها يومًا وليلة ، ثم حسبوا على ذلك النحو ،
فوجدوه قد مات منذ سنة " . وهي في قراءة ابن مسعود : فمكثوا يدأبون له من بعد
موته حولا كاملا فأيقن الناس عند ذلك أن الجن كانوا يكذبونهم ، ولو أنهم علموا
الغيب لعلموا بموت سليمان ولم يلبثوا في العذاب سنة يعملون له ، وذلك قول الله(
مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلا دَابَّةُ الأرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ
فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا
لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ ) يقول : تبين أمرهم للناس أنهم كانوا
يكذبونهم ، ثم إن الشياطين قالوا للأرضة : لو كنت تأكلين الطعام أتيناك بأطيب
الطعام ، ولو كنت تشربين الشراب سقيناك أطيب الشراب ، ولكنا سننقل إليك الماء والطين
، فالذي يكون في جوف الخشب فهو ما تأتيها به الشياطين شكرًا لها.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قال : كانت الجن تخبر
الإنس أنهم كانوا يعلمون من الغيب أشياء ، وأنهم يعلمون ما في غد ،
(20/373)
فابتلوا بموت سليمان ، فمات فلبث سنة على
عصاه وهم لا يشعرون بموته ، وهم مسخرون تلك السنة يعملون دائبين( فَلَمَّا خَرَّ
تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي
الْعَذَابِ الْمُهِينِ ) ولقد لبثوا يدأبون ، ويعملون له حولا.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله( مَا دَلَّهُمْ
عَلَى مَوْتِهِ إِلا دَابَّةُ الأرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ ) قال : قال سليمان
لملك الموت : يا ملك الموت إذا أمرت بي فأعلمني ، قال : فأتاه فقال : يا سليمان قد
أمرت بك ، قد بقيت لك سويعة فدعا الشياطين فبنوا عليه صرحًا من قوارير ، ليس له
باب فقام يصلي واتكأ على عصاه ، قال : فدخل عليه ملك الموت فقبض روحه وهو متكىء
على عصاه ، ولم يصنع ذلك فرارًا من ملك الموت ، قال : والجن تعمل بين يديه وينظرون
إليه يحسبون أنه حي ، قال : فبعث الله دابة الأرض ، قال : دابة تأكل العيدان يقال
لها القادح ، فدخلت فيها فأكلتها ، حتى إذا أكلت جوف العصا ، ضعفت وثقل عليها فخر
ميتًا ، قال : فلما رأت الجن ذلك انفضوا وذهبوا ، قال : فذلك قوله( مَا دَلَّهُمْ
عَلَى مَوْتِهِ إِلا دَابَّةُ الأرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ ) قال : والمنسأة :
العصا.
حدثنا ابن حميد قال ثنا جرير عن عطاء قال : كان سليمان بن داود يصلي ، فمات وهو
قائم يصلي والجن يعملون لا يعلمون بموته ، حتى أكلت الأرضة عصاه فخر وأن في
قوله(أَنْ لَوْ كَانُوا) في موضع رفع بـ " تَبَيَّن " ، لأن معنى الكلام
: فلما خر تبين وانكشف ، أن لو كان الجن يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين.
وأما على التأويل الذي تأوله ابن عباس من أن معناه : تبينت الإنس الجن ، فإنه
ينبغي أن يكون في موضع نصب بتكريرها على الجن ، وكذلك يجب على هذه القراءة أن تكون
الجن منصوبة ، غير أني لا أعلم أحدًا من قراء الأمصار يقرأ ذلك بنصب الجن ، ولو
نصب كان في قوله(تَبَيَّنتِ) ضمير من ذكر الإنس.
(20/374)
لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آَيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ (15)
القول في تأويل قوله تعالى : { لَقَدْ
كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا
مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ (15)
}
يقول تعالى ذكره : لقد كان لولد سبأ في مسكنهم علامة بينة ، وحجة واضحة على أنه لا
رب لهم إلا الذي أنعم عليهم النعم التي كانوا فيها.
وسبأ عن رسول الله اسم أَبي اليمن.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا أَبو كريب قال ثنا وكيع عن أَبي حيان الكلبي عن يحيى بن هانىء عن عروة
المرادي عن رجل منهم يقال له : فروة بن مسيك قال : قلت يا رسول الله أخبرني عن سبأ
ما كان ؟ رجلا كان أو امرأة ، أو جبلا أو دواب ؟ فقال : " لا كان رجلا من
العرب وله عشرة أولاد ؛ فتيمن منهم ستة وتشاءم منهم أربعة ، فأما الذين تيمنوا
منهم فكندة وحمير والأزد والأشعريون ومذحج وأنمار الذين منها خثعم وبُجَيلة ، وأما
الذين تشاءموا ؛ فعاملة وجُذام ولخم وغسَّان " .
حدثنا أَبو كريب قال ثنا أَبو أسامة قال ثني الحسن بن الحكم قال ثنا أبو سَبْرة
النخَعي عن فروة بن مسيك القُطَيْعي قال : قال رجل يا رسول الله : أخبرني عن سبأ
ما هو ؟ أرض أو امرأة ؟ قال : ليس بأرض ولا امرأة ، ولكنه رجل ولَدَ عشرة من الولد
؛ فتيامن ستة وتشاءم أربعة ، فأما الذين تشاءموا فلخم وجُذام وعاملة وغسان ، وأما
الذين تيامنوا فكندة والأشعريون والأزد ومذحج وحمير وأنمار " ، فقال رجل : ما
أنمار ؟ قال : " الذين منهم خثعم وبجيلة " .
حدثنا أَبو كريب قال ثنا العَنْقزي قال أخبرنى أسباط بن نصر عن يحيى بن هانىء
المرادي عن أبيه أو عن عمه(أسباطٌ شك) قال : قدم فروة بن مسيك على رسول الله
صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم فقال : يا رسول الله أخبرني عن سبأ أجبلا كان أو
أرضًا ؟ فقال : " لم يكن جبلا ولا أرضًا ولكنه كان رجلا من العرب
(20/375)
ولد عشرة قبائل ثم ذكر نحوه ، إلا أنه
قال : " وأنمار الذين يقولون منهم بجيلة وخثعم " . فإن كان الأمر كما
روي عن رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم من أن سبأ رجل ، كان الإجراء فيه
وغير الإجراء معتدلين ، أما الإجراء فعلى أنه اسم رجل معروف ، وأما ترك الإجراء فعلى
أنه اسم قبيلة أو أرض. وقد قرأ بكل واحدة منهما علماء من القراء.
واختلفت القراء في قراءة قوله(فِي مسكنهم) فقرأته عامة قراء المدينة والبصرة وبعض
الكوفيين(فِي مِسِاكِنِهِمْ) على الجماع ، بمعنى منازل آل سبأ. وقرأ ذلك عامة قراء
الكوفيين(فِي مَسْكِنِهِمْ) على التوحيد ، وبكسر الكاف ، وهي لغة لأهل اليمن فيما
ذكر لي. وقرأ حمزة(مَسْكَنِهِمْ) على التوحيد وفتح الكاف.
والصواب من القول في ذلك عندنا : أن كل ذلك قراءات متقاربات المعنى ، فبأي ذلك قرأ
القارىء فمصيب.
وقوله(آيَةٌ) قد بينا معناها قبل.
وأما قوله(جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ) فإنه يعني : بستانان كانا بين جبلين
، عن يمين من أتاهما وشماله.
وكان من صنفهما فيما ذُكر لنا ما حدثنا محمد بن بشار قال ثنا سليمان قال ثنا أَبو
هلال قال سمعت قتادة في قوله( لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ
جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ ) قال : كانت جنتان بين جبلين فكانت المرأة
تخرج مكتلها على رأسها فتمشي بين جبلين ، فيمتلىء مكتلها ، وما مست بيدها ، فلما
طغوا بعث الله عليهم دابة ، يقال لها " جُرَذ " فنقبت عليهم فغرقتهم ،
فما بقي لهم إلا أَثْل ، وشيء من سدر قليل.
حدثنا يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله( لَقَدْ كَانَ
لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ ...) إلى
قوله( فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ ) قال : ولم يكن
يرى في قريتهم بعوضة
(20/376)
فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ (16) ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ (17)
قط ، ولا ذباب ولا برغوث ولا عقرب ولا
حية ، وإن كان الركب ليأتون وفي ثيابهم القُمَّل والدواب ، فما هم إلا أن ينظروا
إلى بيوتهم ، فتموت الدواب ، قال : وإن كان الإنسان ليدخل الجنتين ، فيمسك القفة
على رأسه فيخرج حين يخرج ، وقد امتلأت تلك القفة من أنواع الفاكهة ولم يتناول منها
شيئا بيده ، قال : والسّدُّ يسقيها.
ورفعت الجنتان في قوله(جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ) ترجمة عن الآية ، لأن
معنى الكلام : لقد كان لسبأ في مسكنهم آية هي جنتان عن أيمانهم وشمائلهم.
وقوله(كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ) الذي يرزقكم من هاتين الجنتين من زروعهما
وأثمارهما ، (وَاشْكُرُوا لَهُ) على ما أنعم به عليكم من رزقه ذلك ، وإلى هذا
منتهى الخبر ، ثم ابتدأ الخبر عن البلدة فقيل : هذه بلدة طيبة أي ليست بسبخة ،
ولكنها كما ذكرنا من صفتها عن عبد الرحمن بن زيد أن كانت كما وصفها به ابن زيد من
أنه لم يكن فيها شيء مؤذٍ ؛ الهمج والدبيب والهوام(وَرَبٌّ غَفُورٌ) يقول : ورب
غفور لذنوبكم إن أنتم أطعتموه.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة قوله(بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ
وَرَبٌّ غَفُورٌ) وربكم غفور لذنوبكم ، قوم أعطاهم الله نعمة ، وأمرهم بطاعته
ونهاهم عن معصيته.
القول في تأويل قوله تعالى : { فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ
الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ
وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ (16) ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا
وَهَلْ نُجَازِي إِلا الْكَفُورَ (17) }
(20/377)
يقول تعالى ذكره : فأعرضت سبأ عن طاعة
ربها وصدت عن اتباع ما دعتها إليه رسلها من أنه خالقها.
كما حدثنا ابن حميد قال : ثنا سلمة قال ثني محمد بن إسحاق عن وهب بن منبه اليماني
قال : لقد بعث الله إلى سبأ ثلاثة عشر نبيًّا فكذبوهم( فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ
سَيْلَ الْعَرِمِ ) يقول تعالى ذكره : فثقبنا عليهم حين أعرضوا عن تصديق رسلنا
سدهم الذي كان يحبس عنهم السيول.
والعرم المسناة التي تحبس الماء ، واحدها عرمة ، وإياه عنى الأعشى بقوله :
فَفِي ذَاكَ للْمُؤْتَسِي أُسْوَةٌ... وَمَأْرِبُ عَفَّى عليه العَرِمْ
رِجامٌ بَنَتْهُ لَهُمْ حِمْيَرٌ... إذا جَاءَ ماؤهُمُ لمْ يَرمْ (1)
وكان العرم فيما ذكر مما بنته بلقيس.
*
__________
(1) البيتان للأعشى بني قيس بن ثعلبة (ديوانه طبع القاهرة ص 43) من قصيدة يمدح بها
قيس بن معد يكرب ، من المتقارب. وفيه : " وقفى " في موضع " عفى
" و " رخام " بالخاء ، في موضع " رجام " بالجيم. وفي بعض
نسخ الديوان : " مواره " في موضع " ماؤه " . قال الفراء :
وقوله : (سيل العرم) كانت مسناة تحبس الماء ، على ثلاثة أبواب منها. فيسقون من ذلك
الماء من الباب الأول (الأعلى) ثم الثاني (الأوسط) ثم الآخر (الأسفل) ، فلا ينفذ
حتى يثوب الماء من السنة المقبلة. وكانوا أنعم قوم عيشا ، فلما أعرضوا وجحدوا
الرسل ، بثق الله عليهم تلك المسناة ، فغرقت أرضهم ، ودفن بيوتهم الرمل. والبيتان
من شواهد أبي عبيدة في مجاز القرآن ، وروايته : " قفى " في موضع "
عفى " وهو بمعناه. و " رخام " بالخاء في موضع رجام ، والرجام :
الصخور العظيمة ، جمع رجمة. توضع على القبر ونحوه. وفسر قوله " لم يرم "
: أي حبسه. والضمير راجع إلى الماء. وقال في قوله تعالى : (سيل العرم) : واحدها
عرمة ، وهي بناء مثل المشان ، يحبس بها الماء فيشرف به على الماء في وسط الأرض ،
ويترك فيه سبل للسفينة. فتلك العرمات. واحدها عرمة. ا هـ . وفي (اللسان : سني)
المسناة : العرم. وفي (اللسان : عرم) العرم يفتح الراء وكسرها ، وكذلك واحدها ،
وهو العرمة : والعرم سد يعترض به الوادي. والجمع عرم. وقيل العرم : وجمع لا واحد
له. وقال أبو حنيفة : العزم الأحباس تبنى في أوساط الأودية. ا . هـ . وهي ما نسميه
اليوم : خزانات أو قناطر.
(20/378)
ذكر من قال ذلك :
حدثنا أحمد بن إبراهيم الدورقي قال ثني وهب بن جرير قال ثنا أَبي قال سمعت المغيرة
بن حكيم قال : لما ملكت بلقيس ، جعل قومها يقتتلون على ماء واديهم ، قال فجعلت
تنهاهم فلا يطيعونها ، فتركت ملكها وانطلقت إلى قصر لها وتركتهم ، فلما كثر الشر
بينهم وندموا أتوها ، فأرادوها على أن ترجع إلى ملكها فأبت فقالوا : لترجعن أو
لنقتلنك ، فقالت : إنكم لا تطيعونني وليست لكم عقول ، ولا تطيعوني ، قالوا : فإنا
نطيعك ، وإنا لم نجد فينا خيرًا بعدك ، فجاءت فأمرت بواديهم ، فسد بالعرم.
قال أحمد قال وهب قال أبي : فسألت المغيرة بن حكيم عن العرم فقال : هو بكلام حمير
المسنَّاة فسدت ما بين الجبلين فحبست الماء من وراء السد ، وجعلت له أبوابًا بعضها
فوق بعض وبنت من دونه بركة ضخمة ، فجعلت فيها اثني عشر مخرجًا على عدة أنهارهم ،
فلما جاء المطر احتبس السيل من وراء السد فأمرت بالباب الأعلى ففتح فجرى ماؤه في
البركة ، وأمرت بالبعر فألقي فيها فجعل بعض البعر يخرج أسرع من بعض ، فلم تزل تضيق
تلك الأنهار ، وترسل البعر في الماء حتى خرج جميعًا معًا ، فكانت تقسمه بينهم على
ذلك ، حتى كان من شأنها وشأن سليمان ما كان.
حدثنا أحمد بن عمر البصري قال ثنا أَبو صالح بن زريق قال أخبرنا شريك عن أَبي
إسحاق عن أَبي ميسرة في قوله( فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ ) قال :
المسناة بلحن اليمن.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أَبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال
: ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أَبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله :
(سَيْلَ الْعَرِمِ) قال : شديد ، وقيل : إن العرم اسم وادٍ كان لهؤلاء القوم.
*
(20/379)
ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثنى أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ،
عن ابن عباس قوله( فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ ) قال : وادٍ كان
باليمن ، كان يسيل إلى مكة ، وكانوا يسقون وينتهي سيلهم إليه.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( فَأَرْسَلْنَا
عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ ) ذُكر لنا أن سيل العرم وادٍ كانت تجتمع إليه مسايل
من أودية شتى ، فعمدوا فسدوا ما بين الجبلين بالقير والحجارة وجعلوا عليه أبوابا ،
وكانوا يأخذون من مائه ما احتاجوا إليه ، ويسدون عنهم ما لم يعنوا به من مائه
شيئا.
حدثت عن الحسين قال سمعت أبا معاذ يقول أخبرنا عبيد قال سمعت الضحاك يقول في قوله(
فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ ) وادٍ يدعى العرم ، وكان إذا مطر سالت
أودية اليمن إلى العرم ، واجتمع إليه الماء فعمدت سبأ إلى العرم فسدوا ما بين
الجبلين ، فحجزوه بالصخر والقار ، فانسد زمانًا من الدهر ، لا يرجون الماء ، يقول
: لا يخافون.
وقال آخرون : العرم صفة للمسناة التي كانت لهم وليس باسم لها.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني علي قال ثنا أَبو صالح قال ثني معاوية عن علي عن ابن عباس قوله(سَيْلَ
الْعَرِمِ) يقول : الشديد ، وكان السبب الذي سبب الله لإرسال ذلك السيل عليهم فيما
ذُكر لي جُرذًا ابتعثه الله على سدهم ، فثقب فيه ثقبًا.
ثم اختلف أهل العلم في صفة ما حدث عن ذلك الثقب مما كان فيه خراب جنتيهم.
فقال بعضهم : كان صفة ذلك أن السيل لما وجد عملا في السد عمل فيه ، ثم فاض الماء
على جناتهم ؛ فغرقها وخرب أرضهم وديارهم.
*
(20/380)
ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد قال ثنا سلمة قال ثني محمد بن إسحاق عن وهب بن منبه اليماني قال :
كان لهم ، يعني لسبأ ، سد ، قد كانوا بنوه بنيانًا أبدًا ، وهو الذي كان يرد عنهم
السيل إذا جاء أن يغشى أموالهم ، وكان فيما يزعمون في علمهم من كهانتهم ، أنه إنما
يخرب عليهم سدهم ذلك فأرة ، فلم يتركوا فرجة بين حجرين إلا ربطوا عندها هرة ، فلما
جاء زمانه وما أراد الله بهم من التغريق ، أقبلت فيما يذكرون فأرة حمراء إلى هرة
من تلك الهرر فساورتها ، حتى استأخرت عنها أي الهرة ، فدخلت في الفرجة التي كانت
عندها ، فغلغلت في السد فحفرت فيه حتى وهنته للسيل وهم لا يدرون ، فلما جاء السيل
وجد خللا فدخل فيه حتى قلع السد وفاض على الأموال فاحتملها فلم يبق منها إلا ما ذكره
الله ، فلما تفرقوا نزلوا على كهانة عمران بن عامر.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة قال : لما ترك القوم أمر
الله بعث الله عليهم جُرذًا يسمى الخُلْد ، فثقبه من أسفله حتى غرق به جناتهم ،
وخرب به أرضهم عقوبة بأعمالهم.
حدثنا عن الحسين قال سمعت أبا معاذ يقول أخبرنا عبيد بن سليمان قال سمعت الضحاك
يقول : لما طغوا وبغوا ، يعني سبأ ، بعث الله عليهم جرذا فخرق عليهم السد فأغرقهم
الله.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد : بعث الله عليه جرذا
وسلطه على الذي كان يحبس الماء الذي يسقيها ، فأخرب في أفواه تلك الحجارة وكل شيء
منها من رصاص وغيره ، حتى تركها حجارة ، ثم بعث الله سيل العرم ، فاقتلع ذلك السد
وما كان يحبس ، واقتلع تلك الجنتين ، فذهب بهما ، وقرأ( فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ
سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ) قال : ذهب بتلك
القرى والجنتين.
وقال آخرون : كانت صفة ذلك أن الماء الذي كانوا يعمرون به جناتهم
(20/381)
سال إلى موضع غير الموضع الذي كانوا
ينتفعون به ، فبذلك خربت جناتهم.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ،
عن ابن عباس قال : بعث الله عليهم ، يعني على العرم ، دابة من الأرض فثقبت فيه
ثقبًا ، فسال ذلك الماء إلى موضع غير الموضع الذي كانوا ينتفعون به ، وأبدلهم الله
مكان جنتيهم جنتين ذواتي أُكُل خَمْط ، وذلك حين عصوا ، وبطروا المعيشة.
والقول الأول أشبه بما دل عليه ظاهر التنزيل ، وذلك أن الله تعالى ذكره أخبر أنه
أرسل عليهم سيل العرم ، ولا يكون إرسال ذلك عليهم إلا بإسالته عليهم ، أو على
جناتهم وأرضهم لا بصرفه عنهم.
وقوله( وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ )
يقول تعالى ذكره : وجعلنا لهم مكان بساتينهم من الفواكه والثمار بساتين من جنى ثمر
الأراك ، والأراك هو الخمط.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني علي قال ثنا أَبو صالح قال ثني معاوية عن علي عن ابن عباس قال : أبدلهم الله
مكان جنتيهم جنتين ذواتي أكل خمط ، والخمط : الأراك.
حدثني يعقوب ، قال : ثنا ابن علية عن أَبي رجاء قال سمعت الحسن يقول في
قوله(ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ) قال : أراه قال : الخمط : الأراك.
حدثني محمد بن عمارة قال ثني عبد الله بن موسى قال أخبرنا إسرائيل عن أَبي يحيى عن
مجاهد(أُكُلٍ خَمْطٍ) قال : الخمط : الأراك.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أَبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال
: ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أَبي نجيح ،
(20/382)
عن مجاهد(ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ) قال
: الأراك.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة(ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ)
والخمط : الأراك ، وأكله : بريره.
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك
يقول في قوله( وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ
خَمْطٍ ) قال : بدلهم الله بجنان الفواكه والأعناب ، إذ أصبحت جناتهم خمطًا وهو
الأراك.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله(
وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ) قال : أذهب تلك القرى والجنتين ،
وأبدلهم الذي أخبرك ذواتي أكل خمط ، قال : فالخمط : الأراك ، قال : جعل مكان العنب
أراكًا ، والفاكهة أثلا وشيئًا من سدر قليل.
واختلفت القراء في قراءة ذلك ، فقرأته عامة قراء الأمصار بتنوين " أكُلٍ
" غير أَبي عمرو ، فإنه يضيفها إلى الخمط بمعنى ذواتي ثمر خمط. وأما الذين لم
يضيفوا ذلك إلى الخمط وينونون الأكل ، فإنهم جعلوا الخمط هو الأكل ، فردوه عليه في
إعرابه. وبضم الألف والكاف من الأكل قرأت قراء الأمصار ، غير نافع ، فإنه كان يخفف
منها.
والصواب من القراءة في ذلك عندي قراءة من قرأه(ذَوَاتَيْ أُكُل) بضم الألف والكاف
لإجماع الحجة من القراء عليه ، وبتنوين أكل لاستفاضة القراءة بذلك في قراء الأمصار
، من غير أن أرى خطأ قراءة من قرأ ذلك بإضافته إلى الخمط ، وذلك في إضافته وترك
إضافته ، نظير قول العرب في بستان فلان أعنابُ كرمٍ وأعنابٌ كرم ، فتضيف أحيانًا
الأعناب إلى الكرم لأنها منه ، وتنون أحيانًا ، ثم تترجم بالكرم عنها ، إذ كانت
الأعناب ثمر الكرم.
وأما الأثل : فإنه يقال له : الطَّرفاء ، وقيل : شجر شبيه بالطرفاء غير أنه أعظم
منها ، وقيل : إنها السَّمُر.
*
(20/383)
ذكر من قال ذلك :
حدثني علي ، قال : ثنا صالح ، قال : ثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس(وَأَثْلٍ) قال
: الأثل : الطرفاء.
وقوله(وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ) يقول : ذواتي أكل خمط وأثل وشيء من سدر قليل.
وكان قتادة يقول في ذلك ما حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثني سعيد ، عن
قتادة( ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ ) قال : بينما
شجر القوم خير الشجر ، إذ صيره الله من شر الشجر بأعمالهم.
وقوله( ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا ) يقول تعالى ذكره : هذا الذي فعلنا
بهؤلاء القوم من سبأ من إرسالنا عليهم سيل العرم ، حتى هلكت أموالهم ، وخربت
جناتهم ، جزاءً منَّا على كفرهم بنا ، وتكذيبهم رسلنا ، و " ذَلِكَ " من
قوله(ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ) في موضع نصب بموقوع جزيناهم عليه ، ومعنى الكلام :
جزيناهم ذلك بما كفروا.
وقوله( وَهَلْ نُجَازِي إِلا الْكَفُورَ ) اختلفت القراء في قراءته ؛ فقرأته عامة
قراء المدينة والبصرة وبعض أهل الكوفة(وهل يُجازَى) بالياء وبفتح الزاي على وجه ما
لم يسمَّ فاعله(إلا الْكَفُورُ) رفعًا. وقرأ ذلك عامة قراء الكوفة(وهل نُجَازِي)
بالنون وبكسر الزاي(إلا الكَفُور) بالنصب.
والصواب من القول في ذلك أنهما قراءتان مشهورتان في قراء الأمصار ، متقاربتا
المعنى ، فبأيتهما قرأ القارىء فمصيب ، ومعنى الكلام : كذلك كافأناهم على كفرهم
بالله وهل يجازى إلا الكفور لنعمة الله.
فإن قال قائل : أوما يجزي الله أهل الإيمان به على أعمالهم الصالحة ، فيخص أهل
الكفر بالجزاء ؟ فيقال : وهل يجازى إلا الكفور ؟ قيل : إن المجازاة في هذا الموضع
المكافأة ، والله تعالى ذكره وعد أهل الإيمان به التفضل عليهم ،
(20/384)
وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آَمِنِينَ (18)
وأن يجعل لهم بالواحدة من أعمالهم الصالحة
عشر أمثالها إلى ما لا نهاية له من التضعيف ، ووعد المسيء من عباده أن يجعل
بالواحدة من سيئاته مثلها مكافأة له على جرمه ، والمكافأة لأهل الكبائر والكفر ،
والجزاء لأهل الإيمان مع التفضل ، فلذلك قال جل ثناؤه في هذا الموضع(وَهَلْ
يُجَازَى إِلا الْكَفُورُ) ؟ كأنه قال جل ثناؤه : لا يجازى : لا يكافأ على عمله
إلا الكفور ، إذا كانت المكافأة مثل المكافَأ عليه ، والله لا يغفر له من ذنوبه
شيئًا ، ولا يمحص شيء منها في الدنيا.
وأما المؤمن فإنه يتفضل عليه على ما وصفت.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن عمرو ، قال : ثنا أَبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال
: ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أَبي نجيح ، عن مجاهد(وَهَلْ
نُجَازِي) : نعاقب.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ
بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلا الْكَفُورَ ) إن الله تعالى إذا أراد بعبده
كرامة تقبل حسناته ، وإذا أراد بعبده هوانًا أمسك عليه ذنوبه حتى يُوَافَى به يوم
القيامة. قال : وذُكر لنا أن رجلا بينما هو في طريق من طريق المدينة ، إذ مرت به
امرأة ، فأتبعها بصره ، حتى أتى على حائط ، فشج وجهه ، فأتى نبي الله ووجهه يسيل
دمًا ، فقال : يا نبي الله فعلت كذا وكذا ، فقال له نبي الله : " إن الله إذا
أراد بعبد كرامة عجل له عقوبة ذنبه في الدنيا ، وإذا أراد الله بعبد هوانًا أمسك
عليه ذنبه حتى يُوافَى به يوم القيامة ، كأنه عَيرٌ أبتر " .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي
بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا
لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ (18) }
(20/385)
يقول تعالى ذكره مخبرًا عن نعمته التي
كان أنعمها على هؤلاء القوم الذين ظلموا أنفسهم : وجعلنا بين بلدهم وبين القرى
التى باركنا فيها وهي الشأم ، قرى ظاهرة.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أَبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال
: ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أَبى نجيح ، عن مجاهد قوله(
الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا ) قال : الشأم.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ
وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا ) يعني الشأم.
حدثني علي بن سهل قال : ثنا حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد( الْقُرَى الَّتِي
بَارَكْنَا فِيهَا ) قال : الشأم.
وقيل : عُنِي بالقرى التى بورك فيها بيت المقدس.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ،
عن ابن عباس( وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا
قُرًى ظَاهِرَةً ) قال : الأرض التي باركنا فيها : هي الأرض المقدسة.
وقوله(قُرًى ظَاهِرَةً) يعني : قرى متصلة ، وهي قرًى عرَبِيَّةٌ.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني يعقوب قال ثنا ابن علية ، عن أَبي رجاء ، قال : سمعت الحسن في قوله(
وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى
ظَاهِرَةً ) قال : قرًى
(20/386)
متواصلة ، قال : كان أحدهم يغدو فيقيل
في قرية ويروح فيأوي إلى قرية أخرى. قال : وكانت المرأة تضع زنبيلها على رأسها ،
ثم تمتهن بمغزلها ، فلا تأتى بيتها حتى يمتلىء من كل الثمار.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة(قُرًى ظَاهِرَةً) أي :
متواصلة.
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثنى أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثنى أبي ، عن أبيه ،
عن ابن عباس قوله(قُرًى ظَاهِرَةً) يعني : قرًى عربية بين المدينة والشام.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنى أَبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال
: ثنا الحسن ، قال : ثناء ورقاء جميعا ، عن ابن أَبي نجيح ، عن مجاهد قوله(قُرًى
ظَاهِرَةً) قال : السَّرَوَات.
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك
يقول في قوله(قُرًى ظَاهِرَةً) يعني : قرًى عربية وهي بين المدينة والشأم.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد ، في قوله( وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ
وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً ) قال : كان بين
قريتهم وقرى الشأم قرى ظاهرة ، قال : إن كانت المرأة لتخرج معها مغزلها ومكتلها
على رأسها ، تروح من قرية وتغدوها ، وتبيت في قرية لا تحمل زادًا ولا ماءً لما
بينها وبين الشأم.
وقوله(وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ) يقول تعالى ذكره : وجعلنا بين قراهم والقرى
التي باركنا فيها سيرًا مقدرًا من منزل إلى منزل وقرية إلى قرية ، لا ينزلون إلا
فى قرية ولا يغدون إلا من قرية.
وقوله(سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ) يقول : وقلنا لهم سيروا في
هذه
(20/387)
فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (19)
القرى ما بين قراكم والقرى التي باركنا
فيها لياليَ وأيَّامًا آمنين لا تخافون جوعًا ولا عطشًا ، ولا من أحد ظلمًا.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( سِيرُوا فِيهَا
لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ ) لا يخافون ظلمًا ولا جوعًا ، وإنما يغدون
فيقيلون ، ويروحون فيبيتون في قرية أهل جنة ونهر ، حتى لقد ذُكر لنا أن المرأة
كانت تضع مكتلها على رأسها ، وتمتهن بيدها ، فيمتلىء مكتلها من الثمر قبل أن ترجع
إلى أهلها من غير أن تخترف شيئًا ، وكان الرجل يسافر لا يحمل معه زادًا ولا سقاء
مما بُسِط للقوم.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله(وَأَيَّامًا
آمِنِينَ) قال : ليس فيها خوف.
القول في تأويل قوله تعالى : { فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا
وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ
مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (19) }
اختلف القراء في قراءة قوله : ( رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا ) فقرأته
عامة قراء المدينة والكوفة( رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا ) على وجه
الدعاء والمسألة بالألف. وقرأ ذلك بعض أهل مكة والبصرة(بَعِّدْ) بتشديد العين على
الدعاء أيضًا. وذكر عن المتقدمين أنه كان يقرؤه(رَبنَا بَاعَدَ بَيْنَ
أَسْفَارِنَا) على وجه الخبر من الله أن الله فعل بهم ذلك ، وحكي عن آخر أنه
قرأه(رَبَّنَا بَعَّدَ) على وجه الخبر أيضًا غير أن الرب منادى.
والصواب من القراءة في ذلك عندنا(رَبَّنَا بَاعِدْ) و(بَعِّدْ) لأنهما
(20/388)
القراءتان المعروفتان في قراءة الأمصار
، وما عداهما فغير معروف فيهم ، على أن التأويل من أهل التأويل أيضًا يحقق قراءة
من قرأه على وجه الدعاء والمسألة ، وذلك أيضًا مما يزيد القراءة الأخرى بعدًا من
الصواب.
فإذا كان هو الصواب من القراءة ، فتأويل الكلام : فقالوا : يا ربنا باعدْ بين
أسفارنا ؛ فاجعل بيننا وبين الشأم فلوات ومفاوز ، لنركب فيها الرواحل ، ونتزود
معنا فيها الأزواد ، وهذا من الدلالة على بطر القوم نعمة الله عليهم وإحسانه إليهم
، وجهلهم بمقدار العافية ، ولقد عجل لهم ربهم الإجابة ، كما عجل للقائلين( إِنْ
كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ
السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ) أعطاهم ما رغبوا إليه فيه وطلبوا من
المسألة.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني أَبو حصين عبد الله بن أحمد بن يونس ، قال ثنا عَبْثَر ، قال ثنا حصين عن
أَبي مالك في هذه الآية( فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا ) قال :
كانت لهم قرى متصلة باليمن ، كان بعضها ينظر إلى بعض ، فبطروا ذلك ، وقالوا : ربنا
باعد بين أسفارنا ، قال : فأرسل الله عليهم سيل العرم ، وجعل طعامهم أثلا وخمطًا
وشيئًا من سدر قليل.
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أَبي ، عن أبيه ،
عن ابن عباس قوله( فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا
أَنْفُسَهُمْ ) قال : فإنهم بطروا عيشهم ، وقالوا : لو كان جَنَى جناتنا أبعد مما
هي كان أجدر أن نشتهيه ، فمُزِّقوا بين الشأم وسبأ ، وبدلوا بجنتيهم جنتين ذواتي
أكل خمط ، وأثل وشيء من سدر قليل.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( فَقَالُوا رَبَّنَا
بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا ) بطر القوم نعمة الله وغمطوا كرامة الله ، قال الله(
وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ ) .
(20/389)
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ،
قال : قال ابن زيد ، في قوله( فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا )
حتى نبيت في الفلوات والصحاري(فَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ) .
وقوله(فَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ) وكان ظلمهم اياها عملَهم بما يسخط الله عليهم من
معاصيه مما يوجب لهم عقاب الله(فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ) يقول : صيرناهم أحاديث
للناس يضربون بهم المثل في السبِّ ، فيقال : تفرق القوم أيادي سَبَا ، وأيدي سبا
إذا تفرقوا وتقطعوا.
وقوله(وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ) يقول : وقطعناهم في البلاد كل مقطع.
كما حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( وَظَلَمُوا
أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ ) قال
قتادة : قال عامر الشعبي : أما غسان فقد لحقوا بالشأم ، وأما الأنصار فلحقوا بيثرب
، وأما خزاعة فلحقوا بتهامة ، وأما الأزد فلحقوا بعُمان.
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، قال : يزعمون أن عمران بن عامر
وهو عم القوم كان كاهنًا ، فرأى في كهانته أن قومه سيمزقون ويتباعدون ؛ فقال لهم :
إني قد علمت أنكم ستمزقون ، فمن كان منكم ذا هم بعيد وجمل شديد ومزاد جديد فليلحق
بكأس أو كرود ، قال : فكانت وادعة بن عمرو ، ومن كان منكم ذا هم مدنٍ وأمرد عن فليلحق
بأرض شنَّ فكانت عوف بن عمرو ، وهم الذين يقال لهم بارق ، ومن كان منكم يريد عيشًا
آينًا وحرمًا آمنًا فليلحق بالأرزين فكانت خزاعة ، ومن كان يريد الراسيات في الوحل
المطعمات في المحل فليلحق بيثرب ذات النخل فكانت الأوس والخزرج فهما هذان الحيان
من الأنصار ، ومن كان يريد خمرًا وخميرًا وذهبًا وحريرًا وملكًا وتأميرًا فليلحق
بكوسَى وبصرَى فكانت غسان بنو جفنة ملوك الشأم ومن كان منهم بالعراق ، قال ابن
إسحاق : قد سمعت بعض أهل العلم يقول : إنما قالت هذه المقالة طريفة امرأة عمران بن
عامر ، وكانت كاهنة ، فرأت في كهانتها ذلك ،
(20/390)
وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (20)
والله أعلم أي ذلك كان ، قال : فلما
تفرقوا ، نزلوا على كهانة عمران بن عامر.
وقوله( إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ ) يقول تعالى ذكره : إن
في تمزيقناهم كل ممزق لآيات ، يقول : لعظة وعبرة ودلالة على واجب حق الله على عبده
من الشكر على نعمه إذا أنعم عليه وحقه من الصبر على محنته إذا امتحنه ببلاء لكل
صبار شكور على نعمه.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( إِنَّ فِي ذَلِكَ
لآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ ) كان مطرف يقول : نعم العبد الصبارالشكور الذي
إذا أعطي شكر وإذا ابتلي صبر.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ
فَاتَّبَعُوهُ إِلا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (20) }
اختلفت القراء في قراءة قوله( وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ )
فقرأ ذلك عامة قراء الكوفيين(وَلَقَدْ صَدَّقَ) بتشديد الدال من صدق ، بمعنى أنه
قال ظنا منه( وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ ) وقال( فَبِعِزَّتِكَ
لأغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ ) ثم صدق ظنه
ذلك فيهم فحقق ذلك بهم ، وباتباعهم إياه. وقرأ ذلك عامة قراء المدينة والشأم
والبصرة(وَلَقَدْ صَدَقَ) بتخفيف الدال بمعنى : ولقد صدق عليهم ظنه.
والصواب من القول في ذلك عندي أنهما قراءتان معروفتان متقاربتا المعنى ، وذلك أن
إبليس قد صدق على كفرة بني آدم في ظنه ، وصدق عليهم ظنه الذي ظن حين قال : ( ثُمَّ
لآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ
وَعَنْ
(20/391)
وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآَخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (21) قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ (22)
شَمَائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ
أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ ) وحين قال(وَلأضِلَّنَّهُمْ وَلأمَنِّيَنَّهُمْ ...)
الآية ، قال ذلك عدو الله ظنًا منه أنه يفعل ذلك لا علمًا ، فصار ذلك حقًّا
باتباعهم إياه. فبأي القراءتين قرأ القارىء فمصيب. فإذا كان ذلك كذلك فتأويل
الكلام على قراءة من قرأ بتشديد الدال : ولقد ظن إبليس بهؤلاء الذين بدلناهم
بجنتيهم جنتين ذواتي أكل خمط عقوبة منَّا لهم ، ظنًّا غير يقين ، علم أنهم يتبعونه
ويطيعونه في معصية الله فصدق ظنه عليهم بإغوائه إياهم حتى أطاعوه وعصوا ربهم إلا
فريقًا من المؤمنين بالله فإنهم ثبتوا على طاعة الله ومعصية إبليس.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني أحمد بن يوسف قال : ثنا القاسم قال : ثنا حجاج عن هارون قالَ : أخبرني عمرو
بن مالك عن أَبي الجوزاء عن ابن عباس أنه قرأ( وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ
إِبْلِيسُ ظَنَّهُ ) مشددة ، وقال : ظن ظنًّا فصدَّق ظنه.
حدثنا ابن بشار قال : ثنا يحيى عن سفيان عن منصور عن مجاهد( وَلَقَدْ صَدَّقَ
عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ ) قال : ظن ظنًّا فاتبعوا ظنه.
قال : ثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة قوله( وَلَقَدْ
صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ ) قال الله : ما كان إلا ظنًّا ظنه ، والله
لا يصدق كاذبًا ولا يكذب صادقًا.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله( وَلَقَدْ
صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ ) قال : أرأيت هؤلاء الذين كَرَّمتهم عليَّ
وفضلتهم وشرفتهم لا تجد أكثرهم شاكرين ، وكان ذلك ظنًّا منه بغير علم ، فقال الله(
فَاتَّبَعُوهُ إِلا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ) .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلا
لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ
عَلَى كُلِّ شَيْءٍ
(20/392)
حَفِيظٌ (21) }
يقول تعالى ذكره : وما كان لإبليس على هؤلاء القوم الذين وصف صفتهم من حجة يضلهم بها
إلا بتسليطناه عليهم ؛ ليُعلم حزبُنا وأولياؤنا(مَنْ يُؤْمِنُ بِالآخِرَةِ) يقول :
من يصدق بالبعث والثواب والعقاب(مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ) فلا يوقن بالمعاد
، ولا يصدق بثواب ولا عقاب.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة قوله( وَمَا كَانَ لَهُ
عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطَانٍ ) قال : قال الحسن : والله ما ضربهم بعصا ولا سيف ولا
سوط ، إلا أمانيَّ وغرورًا دعاهم إليها.
قال : ثنا سعيد عن قتادة قوله( إِلا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالآخِرَةِ مِمَّنْ
هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ ) قال : وإنما كان بلاءً ليعلم الله المؤمن من الكافر.
وقيل : عُني بقوله( إِلا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالآخِرَةِ ) إلا لنعلم ذلك
موجودًا ظاهرًا ليستحق به الثواب أو العقاب.
وقوله( وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ ) يقول تعالى ذكره : وربك يا محمد
على أعمال هؤلاء الكفرة به ، وغير ذلك من الأشياء كلها(حَفِيظٌ) لا يعزب عنه علم
شيء منه ، وهو مجازٍ جميعهم يوم القيامة بما كسبوا في الدنيا من خير وشر.
القول في تأويل قوله تعالى : { قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ
لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأرْضِ وَمَا
لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ (22) }
(20/393)
يقول تعالى ذكره : فهذا فعلُنا بولينا
ومن أطاعنا ، داود وسليمان الذي فعلنا بهما من إنعامنا عليهما النعم التي لا كفاء
لها إذ شكرانا ، وذاك فعلنا بسبأ الذين فعلنا بهم ، إذ بطروا نعمتنا وكذبوا رسلنا
وكفروا أيادينا ، فقل يا محمد لهؤلاء المشركين بربهم من قومك الجاحدين نعمنا عندهم
: ادعوا أيها القوم الذين زعمتم أنهم لله شريك من دونه ، فسلوهم أن يفعلوا بكم بعض
أفعالنا بالذين وصفنا أمرهم من إنعام أو إياس ، فإن لم يقدروا على ذلك فاعلموا
أنكم مبطلون ؛ لأن الشركة في الربوبية لا تصلح ولا تجوز ، ثم وصف الذين يدعون من
دون الله فقال : إنهم لا يملكون مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض من خير ولا شر
ولا ضر ولا نفع ، فكيف يكون إلهًا من كان كذلك.
وقوله(وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ) يقول تعالى ذكره : ولا هم إذ لم يكونوا
يملكون مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض منفردين بملكه من دون الله يملكونه على
وجه الشركة ، لأن الأملاك في المملوكات لا تكون لمالكها إلا على أحد وجهين : إما
مقسومًا ، وإما مشاعًا ، يقول : وآلهتهم التي يدعون من دون الله لا يملكون وزن ذرة
في السماوات ولا في الأرض ، لا مشاعًا ولا مقسومًا ، فكيف يكون من كان هكذا شريكًا
لمن له ملك جميع ذلك.
وقوله(وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ) يقول : وما لله من الآلهة التي يدعون من
دونه معين على خلق شيء من ذلك ، ولا على حفظه ، إذ لم يكن لها ملك شيء منه مشاعًا
ولا مقسومًا ، فيقال : هو لك شريك من أجل أنه أعان وإن لم يكن له ملك شيء منه.
وبنحو الذي قلنا فى ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة قوله( قُلِ ادْعُوا
الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي
السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ ) يقول : ما
لله من شريك في السماء ولا في الأرض
(20/394)
(وَمَا لَهُ مِنْهُمْ) من الذين يدعون من دون الله(مِنْ ظَهِيرٍ) من عون بشيء.
(20/395)
وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (23)
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلا
تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ
عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ
الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (23) }
يقول تعالى ذكره : ولا تنفع شفاعة شافع كائنًا من كان الشافع لمن شفع له ، إلا أن
يشفع لمن أذن الله في الشفاعة ، يقول تعالى : فإذا كانت الشفاعات لا تنفع عند الله
أحدًا إلا لمن أذن الله في الشفاعة له ، والله لا يأذن لأحد من أوليائه في الشفاعة
لأحد من الكفرة به وأنتم أهل كفر به أيها المشركون ، فكيف تعبدون من تعبدونه من
دون الله زعمًا منكم أنكم تعبدونه ليقربكم إلى الله زلفى وليشفع لكم عند ربكم. فـ
" مَن " إذ كان هذا معنى الكلام التي في قوله(إِلا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ)
: المشفوع له.
واختلفت القراء في قراءة قوله(أُذِنَ لَهُ) فقرأ ذلك عامة القراء بضم الألف من(أُذِنَ
لَهُ) على وجه ما لم يسم فاعله ، وقرأه بعض الكوفيين(أَذِنَ لَهُ) على اختلاف
أيضًا عنه فيه ، بمعنى أذن الله له.
وقوله(حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ) يقول : حتى إذا جُلِىَ عن قلوبهم
وكشف عنها الفزع وذهب.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني علي قال : ثنا أَبو صالح قال : حدثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس
قوله(حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ) يعني : جُلِيَ.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أَبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ،
(20/395)
وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال
: ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أَبي نجيح ، عن مجاهد(حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ
قُلُوبِهِمْ) قال : كشف عنها الغطاء يوم القيامة.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة قال : إذا جلي عن قلوبهم.
واختلف أهل التأويل في الموصوفين بهذه الصفة من هم ؟ وما السبب الذي من أجله فزِّع
عن قلوبهم ؟ فقال بعضهم : الذي فزع عن قلوبهم الملائكة ، قالوا : وإنما يفزِّع عن
قلوبهم من غشية تصيبهم عند سماعهم الله بالوحي.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني يعقوب قال : ثنا ابن عُلية ، عن داود عن الشعبي قال : قال ابن مسعود في هذه الآية(حَتَّى
إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ) قال : إذا حدث أمر عند ذي العرش سمع مَن دونه من
الملائكة صوتًا كجر السلسلة على الصفا فيُغشى عليهم ، فإذا ذهب الفزع عن قلوبهم
تنادوا : (مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ) ؟ قال : فيقول : من شاء قال الحق وهو العلي
الكبير.
حدثنا ابن عبد الأعلى قال : ثنا المعتمر قال : سمعت داود ، عن عامر ، عن مسروق قال
: إذا حدث عند ذي العرش أمر سمعت الملائكة صوتًا كجر السلسلة على الصفا ، قال :
فيُغشى عليهم ، فإذا فزع عن قلوبهم قالوا : ماذا قال ربكم ؟ قال : فيقول من شاء
الله الحق وهو العلي الكبير.
حدثنا ابن المثنى قال : ثني عبد الأعلى قال : ثنا داود ، عن عامر ، عن ابن مسعود
أنه قال : إذا حدث أمر عند ذي العرش. ثم ذكر نحو معناه إلا أنه قال : فيُغشى عليهم
من الفزع ، حتى إذا ذهب ذلك عنهم تنادوا : ماذا قال ربكم ؟
حدثنا ابن حميد قال : ثنا جرير ، عن منصور ، عن إبراهيم ، عن عبد الله بن مسعود في
قوله(حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ) قال : إن الوحي إذا أُلقِي سمع أهل
السماوات صلصلة كصلصلة السلسلة على الصفوان ، قال : فيتنادون في
(20/396)
السماوات : ماذا قال ربكم ؟ قال :
فيتنادون الحق وهو العلي الكبير.
وبه عن منصور عن أَبي الضحى عن مسروق عن عبد الله ، مثله.
حدثنا ابن حميد قال : ثنا يعقوب عن جعفر عن سعيد ، قال : ينزل الأمر من عند رب
العزة إلى السماء الدنيا ؛ فيفزَع أهل السماء الدنيا ، حتى يستبين لهم الأمر الذي
نزل فيه ، فيقول بعضهم لبعض : ماذا قال ربكم ؟ فيقولون : قال الحق وهو العلي
الكبير ، فذلك قوله(حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ ...) الآية.
حدثنا أحمد بن عبدة الضَّبي قال : ثنا سفيان بن عيينة ، عن عمرو بن دينار عن عكرمة
قال : ثنا أَبو هريرة عن النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم قال : " إن
الله إذا قضى أمرًا في السماء ضربت الملائكة بأجنحتها جميعًا ، ولقوله صوت كصوت
السلسلة على الصفا الصفوان فذلك قوله( حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ
قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ )
.
حدثني يعقوب قال : ثنا ابن عُلية ، قال : ثنا أيوب عن هشام بن عروة قال : قال
الحارث بن هشام لرسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم : كيف يأتيك الوحي ؟ قال
: " يأتيني في صلصَلةٍ كصلصلة الجرس ، فَيَفصِمُ عني حين يَفْصِمُ وقد
وَعَيتُه ويأتي أحيَانًا في مِثْلِ صُورة الرجل ، فيكلِّمُني به كلامًا هو أهونُ
عليَّ " .
حدثني زكريا بن أبان المصري ، قال : ثنا نعيم قال : ثنا الوليد بن مسلم ، عن عبد
الرحمن بن يزيد بن جابر ، عن ابن أَبي زكريا ، عن جابر بن حَيْوَة ، عن النَّواس
بن سمعان قال : قال رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم : " إذا أراد الله
أن يُوحِيَ بالأمرِ تكلَّمَ بالوَحي ، أخذَتِ السماوات منه رَجفةٌ أو قال رِعْدَةٌ
شديدةٌ خوفَ أمرِ الله فإذا سمِعَ بذلك أهل السماوات صَعِقوا وخرُّوا لله سجَّدًا
فيكون أول من يرفع رأسَهُ جَبرائيل فيكلمُه الله من وحيه بما أراد ، ثم يمر
جبرائيل على الملائكة كلما مر بسماء سأله ملائكتها : ماذا قال ربنا يا جبرائيل ؟
فيقول
(20/397)
جبرائيل : قال الحقَّ وهو العلي الكبير
، قال : فيقولون كلهم مثل ما قال جبرائيل ، فينتهي جبرائيل بالوحي حيث أمره الله
" .
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ قال : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك
يقول في قوله(حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ ...) الآية ، قال : كان ابن
عباس يقول : إن الله لما أراد أن يوحي إلى محمد ، دعا جبريل ، فلما تكلم ربنا
بالوحي ، كان صوته كصوت الحديد على الصفا ، فلما سمع أهل السماوات صوت الحديد خروا
سُجَّدًا ، فلما أتى عليهم جبرائيل بالرسالة رفعوا رؤوسهم ، فقالوا : ( مَاذَا
قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ ) وهذا قول
الملائكة.
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ،
عن ابن عباس قوله(حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ ...) إلى(وَهُوَ
الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ) قال : لما أوحى الله تعالى ذكره إلى محمد صَلَّى الله
عَلَيْهِ وَسَلَّم دعا الرسول من الملائكة فبعث بالوحي ، سمعت الملائكة صوت الجبار
يتكلم بالوحي فلما كشف عن قلوبهم سألوا عما قال الله فقالوا الحق وعلموا أن الله
لا يقول إلا حقًّا وأنه منجز ما وعد ، قال ابن عباس : وصوت الوحي كصوت الحديد على
الصفا فلما سمعوه خروا سجدا ، فلما رفعوا رءوسهم( قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ
قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ ) ثم أمر الله نبيه أن يسأل الناس(قُلْ
مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاوَاتِ ...) إلى قوله(فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) .
حدثنا ابن بشار قال : ثنا أَبو عامر قال : ثنا قرة عن عبد الله بن القاسم في
قوله(حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ ...) الآية ، قال : الوحي ينزل من
السماء ، فإذا قضاه( قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ
الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ ) .
حدثنا ابن حميد قال : ثنا جرير عن مغيرة عن إبراهيم عن عبد الله في قوله(حَتَّى
إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ) قال : إن الوحي إذا قضى في زوايا السماء ، قال :
مثل وقع الفولاذ على الصخرة ، قال : فيشفقون لا يدرون ما حدث
(20/398)
فيفزعون ، فإذا مرت بهم الرسل( قَالُوا
مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ ) .
وقال آخرون ممن قال : الموصوفون بذلك الملائكة ، إنما يفزع عن قلوبهم فزعُهم من
قضاء الله الذي يقضيه حذرًا أن يكون ذلك قيام الساعة.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة قوله(حَتَّى إِذَا
فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ ...) الآية ، قال : يوحي
الله إلى جبرائيل فتفرَّق الملائكة ، أو تفزع مخافة أن يكون شيء من أمر الساعة ،
فإذا جُلِيَ عن قلوبهم وعلموا أنه ليس ذلك من أمر الساعة( قَالُوا مَاذَا قَالَ
رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ ).
وقال آخرون : بل ذلك من فعل ملائكة السماوات إذا مرت بها المعقِّبات فزعًا أن يكون
حدث أمر الساعة.
* ذكر من قال ذلك :
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك
يقول في قوله(حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ ...) الآية ، زعم ابن مسعود
أن الملائكة المعقبات الذين يختلفون إلى الأرض يكتبون أعمالهم ، إذا أرسلهم الرب
فانحدروا سمع لهم صوت شديد ، فيحسب الذين هم أسفل منهم من الملائكة أنه من أمر
الساعة ، فخروا سجدًا ، وهكذا كلما مروا عليهم يفعلون ذلك من خوف ربهم.
وقال آخرون : بل الموصوفون بذلك المشركون ، قالوا : وإنما يفزِّع الشيطان عن
قلوبهم ، قال : وإنما يقولون : ماذا قال ربكم عند نزول المنية بهم.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله(حَتَّى إِذَا
فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ) قال :
(20/399)
فزع الشيطان عن قلوبهم وفارقهم
وأمانيهم ، وما كان يضلهم( قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ
وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ ) قال : وهذا في بني آدم ، وهذا عند الموت أقروا به
حين لم ينفعهم الإقرار.
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب القول الذي ذكره الشعبي عن ابن مسعود لصحة الخبر
الذي ذكرناه عن ابن عباس عن رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم بتأييده. وإذ
كان ذلك كذلك ، فمعنى الكلام : لا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له أن يشفع عنده
، فإذا أذن الله لمن أذن له أن يشفع فزع لسماعه إذنه ، حتى إذا فزِّع عن قلوبهم
فجلِّيَ عنها ، وكشف الفزع عنهم قالوا : ماذا قال ربكم ؟ قالت الملائكة : الحق ،
(وَهُوَ الْعَلِيُّ) على كل شيء(الْكَبِيرُ) الذي لا شيء دونه. والعرب تستعمل
" فزِّع " في معنيين فتقول للشجاع الذي به تنزل الأمور التي يفزع منها :
هو مفزَّع ، وتقول للجبان الذي يفزَع من كل شيء : إنه لمفزَّع ، وكذلك تقول للرجل
الذي يقضي له الناس في الأمور بالغلبة على من نازله فيها : هو مغلِّب ، وإذا أريد
به هذا المعنى كان غالبًا ، وتقول للرجل أيضًا الذي هو مغلوب أبدًا : مغلَّب.
وقد اختلفت القراء في قراءة ذلك ؛ فقرأته عامة قراء الأمصار أجمعون(فُزِّعَ)
بالزاي والعين على التأويل الذي ذكرناه عن ابن مسعود ومن قال بقوله في ذلك ، وروي
عن الحسن أنه قرأ ذلك(حَتَّى إِذَا فُرِغَ عَنْ قُلُوبِهِمْ) بالراء والغين على
التأويل الذي ذكرناه عن ابن زيد. وقد يحتمل توجيه معنى قراءة الحسن ذلك كذلك ،
إلى(حَتَّى إِذَا فُرِغَ عَنْ قُلُوبِهِمْ) فصارت فارغة من الفزع الذي كان حل بها
، ذُكر عن مجاهد أنه قرأ ذلك(فُزِعَ) بمعنى : كشف الله الفزع عنها.
والصواب من القراءة في ذلك القراءة بالزاي والعين لإجماع الحجة من القراء وأهل
التأويل عليها ، ولصحة الخبر الذي ذكرناه عن رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ
وَسَلَّم بتأييدها ، والدلالة على صحتها.
(20/400)
قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (24)
القول في تأويل قوله تعالى : { قُلْ
مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ
إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (24) }
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم : قل يا محمد لهؤلاء
المشركين بربهم الأوثان والأصنام : من يرزقكم من السماوات والأرض بإنزاله الغيث
عليكم منها حياة لحروثكم ، وصلاحًا لمعايشكم ، وتسخيره الشمس والقمر والنجوم
لمنافعكم ، ومنافع أقواتكم ، والأرض بإخراجه منها أقواتكم وأقوات أنعامكم ، وترك
الخبر عن جواب القوم استغناء بدلالة الكلام عليه ، ثم ذكره ، وهو : فإن قالوا : لا
ندري ، فقل : الذي يرزقكم ذلك الله وإنَّا أو إياكم أيها القوم لعلى هدى أو في ضلال
مبين : يقول : قل لهم : إنا لعلى هدى أو في ضلال ، أو إنكم على ضلال أو هدى.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ
مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى
هُدًى أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ ) قال : قد قال ذلك أصحاب محمد للمشركين ، والله ما
أنا وأنتم على أمر واحد ، إن أحد الفريقين لمهتد.
وقد قال قوم : معنى ذلك : وإنا لعلى هدى وإنكم لفي ضلال مبين.
* ذكر من قال ذلك :
حثني إسحاق بن إبراهيم الشهيدي قال : ثنا عتاب بن بشير ، عن خصيف عن عكرمة وزياد
في قوله( وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ ) قال :
إنا لعلى هدى ، وإنكم لفي ضلال مبين.
(20/401)
واختلف أهل العربية في وجه دخول "
أو " في هذا الموضع ؛ فقال بعض نحويي البصرة : ليس ذلك لأنه شك ولكن هذا في
كلام العرب على أنه هو المهتدي ، قال : وقد يقول الرجل لعبده : أحدنا ضارب صاحبه.
ولا يكون فيه إشكال على السامع أن المولى هو الضارب.
وقال آخر منهم : معنى ذلك : إنا لعلى هدى ، وإنكم إياكم لفي ضلال مبين ، لأن العرب
تضع " أو " في موضع واو الموالاة ، قال جرير :
أثَعْلَبَةَ الفَوَارسِ أوْ رِياحا... عَدَلتَ بهم طُهَيَّةَ والخِشابا (1)
قال : يعني : ثعلبة ورياحا ، قال : وقد تكلم بهذا من لا يشك في دينه ، وقد علموا
أنهم على هدى ، وأولئك في ضلال ، فيقال : هذا وإن كان كلامًا واحدًا على جهة
الاستهزاء ، فقال : هذا لهم ، وقال :
فإن يَكُ حبُّهُمْ رُشْدًا أُصِبْهُ... ولسْتُ بِمُخْطِيءٍ إن كانَ غيَّا (2)
__________
(1) البيت لجرير. وهو من شواهد سيبويه (الكتاب 1 : 52 ، 489) وروايته في الموضع
الثاني " أو رياحا " . وفي الموضع الأول : " أم ريحا " . قال
: فأما إذا قلت أتضرب أو تحبس زيدا ، وهو بمنزلة أزيدا أو عمرا ضربت. قال الشاعر :
" أثعلبة ... البيت " . وإن قلت : أزيدا تضرب أو تقتل كان كقولك أتقتل
زيدا أو عمرا ضربت. قال : و " أم " في كل هذا : جيد. وإن قال : أتجلس أم
تذهب. فأم وأو فيه سواء.
والبيت : من شواهد أبي عبيدة في : (مجاز القرآن الورقة 99 - ب) قال في تفسير الآية
: (وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين) : لأن العرب تضع أو في موضع واو
الموالاة ، قال : أثعلبة الفوارس أو ... البيت. يعني ثعلبة ورياحا. وقال قد يتكلم
بهذا من يشك في دينه ، وقد علموا أنهم على هدى ، وأولئك على ضلال ، فقال هذا ، وإن
كان كلاما واحدا ، على وجه الاستهزاء يقال هذا له. وقال : إنْ يَكُنْ حُبُّهُمْ
رُشْدًا أُصِبْهُ ... وَلَسْتُ بِمُخْطِئٍ إنْ كانَ غَيًّا
قلت : وقد سمى ابن هشام في المعنى " أو " هذه : أو التي للإبهام.
(2) البيت لأبي الأسود الدؤلي ، قال صاحب الأغاني ترجمته : كان أَبو الأسود الدؤلي
نازلا في بني قشير ، وكانت بنو قشير عثمانية ، وكانت امرأته أمُّ عوف منهم ،
فكانوا يؤذونه ويسبونه وينالون من علي بن أبي طالب بحضرته ، ليغيظوه به ، ويرمونه
بالليل ، فقال في ذلك أبياتا يهجوهم ويمدح عليا وآل بيته. فقال له بنو قشير : شككت
يا أبا الأسود في صاحبك حيث تقول : (فإن يك حبهم رشدا أصبه) فقال : أما سمعتم قول
الله عز وجل : (وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين). أفترى الله جل وعز شكك
في نبيه. وقد روي أن معاوية قال هذه المقالة ، فأجابه بهذا الجواب. ا . هـ. وقال
الفراء في معاني القرآن (الورقتان 263 ، 264) في تفسير قوله تعالى : (وإنا أو
إياكم) ... الآية : قال المفسرون : معناه : وإنا لعلى هدى ، وأنتم في ضلال مبين.
معنى " أو " معنى الواو عندهم. كذلك هو المعنى. غير أن العربية على غير
ذلك. لا تكون " أو " بمنزلة الواو ، ولكنها تكون في الأمر المفوض (واو
الإباحة) كما تقول : إن شئت خذ درهما أو اثنين ، فله أن يأخذ واحدا أو اثنين ،
وليس له أن يأخذ ثلاثة ؛ في قول من لا يبصر بالعربية ، ويجعل أو بمنزلة الواو ،
ويجوز له أن يأخذ ثلاثة ، لأنه في قولهم بمنزلة قولك : خذ درهما واثنين.
فالمعنى في قوله : (إنا أو إياكم) إنا لضالون أو مهتدون ، وإنكم أيضا لضالون أو
مهتدون ، وهو يعلم أن رسوله المهتدي ، وأن غيره الضالون ... إلخ ما قاله.
(20/402)
قُلْ لَا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلَا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ (25) قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ (26)
وقال بعض نحويي الكوفة : معنى "
أو " ومعنى الواو في هذا الموضع في المعنى ، غير أن القرينة على غير ذلك ، لا
تكون " أو " بمنزلة الواو ولكنها تكون في الأمر المفوض ، كما تقول : إن
شئت فخذ دوهمًا أو اثنين ، فله أن يأخذ اثنين أو واحدًا ، وليس له أن يأخذ ثلاثة.
قال : وهو في قول من لا يبصر العربية ، ويجعل " أو " بمنزلة الواو ،
ويجوز له أن يأخذ ثلاثة ، لأنه في قولهم بمنزلة قولك : خذ درهمًا أو اثنين ، قال :
والمعنى في(إِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ) إنا لضالون أو مهتدون ، وإنكم أيضًا لضالون
وهو يعلم أن رسوله هو المهتدي وأن غيره الضال. قال : وأنت تقول في الكلام للرجل
يكذبك : والله إن أحدنا لكاذب ، وأنت تعنيه ، وكذبته تكذيبًا غير مكشوف ، وهو في
القرآن وكلام العرب كثير ، أن يوجه الكلام إلى أحسن مذاهبه إذا عرف ، كقول القائل
لمن قال : والله لقد قدم فلان ، وهو كاذب ، فيقول : قل : إن شاء الله ، أو قل :
فيما أظن ، فيكذبه بأحسن تصريح التكذيب. قال : ومن كلام العرب أن يقولوا : قاتله
الله ، ثم يستقبح فيقولون : قاتله الله ، وكاتعه الله. قال : ومن ذلك : ويحك وويسك
، إنما هي في معنى ويلك ، إلا أنها دونها. والصواب من القول في ذلك عندي أن ذلك
أمر من الله لنبيه بتكذيب من أمره بخطابه بهذا القول بأجمل التكذيب ، كما يقول
الرجل لصاحب يخاطبه ، وهو يريد تكذيبه في خبر له : أحدنا كاذب ، وقائل ذلك يعني
صاحبه لا نفسه ، فلهذا المعنى صير الكلام بـ " أو " .
القول في تأويل قوله تعالى : { قُلْ لا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلا
نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ (25) قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ
يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ (26) }
(20/403)
قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكَاءَ كَلَّا بَلْ هُوَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (27) وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (28)
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صَلَّى
الله عَلَيْهِ وَسَلَّم : قل لهؤلاء المشركين : أحد فريقينا على هدى والآخر على
ضلال ، لا تسألون أنتم عمَّا أجرمنا نحن من جرم ، ولا نسأل نحن عما تعملون أنتم من
عمل ، قل لهم : يجمع بيننا ربنا يوم القيامة عنده ثم يفتح بيننا بالحق. يقول : ثم
يقضي بيننا بالعدل ، فيتبين عند ذلك المهتدي منَّا من الضال(وَهُوَ الْفَتَّاحُ
الْعَلِيمُ) يقول : والله القاضي العليم بالقضاء بين خلقه ، لأنه لا تخفى عنه
خافيه ، ولا يحتاج إلى شهود تعرفه المحق من المبطل.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة قوله(قُلْ يَجْمَعُ
بَيْنَنَا رَبُّنَا) يوم القيامة(ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا) أي : يقضي بيننا.
حدثني علي قال : ثنا أَبو صالح قال : ثني معاوية عن علي عن ابن عباس قوله(وَهُوَ
الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ) يقول : القاضي.
القول في تأويل قوله تعالى : { قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ
شُرَكَاءَ كَلا بَلْ هُوَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (27) }
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم : قل يا محمد لهؤلاء
المشركين بالله الآلهة والأصنام : أروني أيها القوم الذين ألحقتموهم بالله
فصيرتموهم له شركاء في عبادتكم إياهم ماذا خلقوا من الأرض أم لهم شرك في
السماوات(كلا) يقول تعالى ذكره : كذبوا ليس الأمر كما وصفوا ، ولا كما جعلوا
وقالوا من أن لله شريكًا ، بل هو المعبود الذي لا شريك له ، ولا يصلح أن يكون له
شريك في ملكه ، العزيز في انتقامه ممن أشرك به من خلقه ، الحكيم في تدبيره خلقه.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا كَافَّةً لِلنَّاسِ
بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (28) }
يقول تعالى ذكره : وما أرسلناك يا محمد إلى هؤلاء المشركين بالله من قومك خاصة ،
ولكنا أرسلناك كافة للناس أجمعين ؛ العرب منهم والعجم ، والأحمر والأسود ، بشيرًا
من أطاعك ، ونذيرًا من كذبك( وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ ) أن
الله أرسلك كذلك إلى جميع البشر.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة قوله( وَمَا
أَرْسَلْنَاكَ إِلا كَافَّةً لِلنَّاسِ ) قال : أرسل الله محمدًا إلى العرب والعجم
، فأكرمُهُم على الله أطوعهم له.
ذُكر لنا نبي الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم قال : " أنَا سابِقُ العربِ
وصُهيبُ سابِقُ الرُّومِ وبِلالُ سابقُ الحبشةِ وسلْمَانُ سابقُ فارِسَ " .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ
(20/405)
وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (29) قُلْ لَكُمْ مِيعَادُ يَوْمٍ لَا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ سَاعَةً وَلَا تَسْتَقْدِمُونَ (30) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهَذَا الْقُرْآَنِ وَلَا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلَا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ (31)
إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (29) قُلْ
لَكُمْ مِيعَادُ يَوْمٍ لا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ سَاعَةً وَلا تَسْتَقْدِمُونَ
(30) }
يقول تعالى ذكره : ويقول هؤلاء المشركون بالله إذا سمعوا وعيد الله الكفار وما هو
فاعل بهم في معادهم مما أنزل الله في كتابه(مَتَى هَذَا الْوَعْدُ) جائيًا ، وفي
أي وقت هو كائن(إِنْ كُنْتُمْ) فيما تعدوننا من ذلك(صَادِقِينَ) أنه كائن ، قال
الله لنبيه : (قُلْ) لهم يا محمد(لَكُمْ) أيها القوم(مِيعَادُ يَوْمٍ) هو آتيكم(لا
تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ) إذا جاءكم(سَاعَةً) فتنظروا للتوبة والإنابة(وَلا
تَسْتَقْدِمُونَ) قبله بالعذاب لأن الله جعل لكم ذلك أجلا.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهَذَا
الْقُرْآنِ وَلا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ
مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ
يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلا أَنْتُمْ
لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ (31) }
يقول تعالى ذكره : (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا) من مشركي العرب(لَنْ نُؤْمِنَ
بِهَذَا الْقُرْآنِ) الذي جاءنا به محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم ولا
بالكتاب الذي جاء به غيره من بين يديه.
كما حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة قوله( لَنْ نُؤْمِنَ
بِهَذَا الْقُرْآنِ وَلا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ ) قال : قال المشركون : لن
نؤمن بهذا القرآن ولا بالذي بين يديه من الكتب والأنبياء.
وقوله( وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ) يتلاومون
، يحاور بعضهم بعضًا ؛ يقول المستضعفون ، كانوا في الدنيا ، للذين كانوا عليهم
فيها يستكبرون : لولا أنتم أيها الرؤساء والكبراء في الدنيا لكنا مؤمنين بالله
وآياته.
(20/406)
قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ (32) وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْدَادًا وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلَالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (33)
القول في تأويل قوله تعالى : { قَالَ
الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ
الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ (32) }
يقول تعالى ذكره : (قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا) في الدنيا ، فرأسوا في الضلالة
والكفر بالله(لِلَّذِينّ اسْتُضْعِفُوا) فيها فكانوا أتباعًا لأهل الضلالة منهم إذ
قالوا لهم(لَوْلا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ) : (أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ
الْهُدَى) ومنعناكم من اتباع الحق(بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ) من عند الله يبين
لكم(بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ) فمنعكم إيثاركم الكفر بالله على الإيمان من اتباع
الهدى ، والإيمان بالله ورسوله.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ
اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ
نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْدَادًا وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا
رَأَوُا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الأغْلالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ
يُجْزَوْنَ إِلا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (33) }
يقول تعالى ذكره : (وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا) من الكفرة بالله في الدنيا ،
فكانوا أتباعًا لرؤسائهم في الضلالة(لِلَّذِينّ اسْتَكْبَرُوا) فيها ، فكانوا لهم
رؤساء(بَلْ مَكْرُ) كم لنا بـ(اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ) صدنا عن الهدى( إِذْ
تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ ) أمثالا وأشباهًا في
العبادة والألوهة ، فأضيف إلى الليل والنهار. والمعنى ما ذكرنا من مكر المستكبرين
بالمستضعفين في الليل والنهار ، على اتساع العرب في الذي قد عُرِفَ معناها فيه من
منطقها ، من نقل صفة الشيء إلى غيره ، فتقول للرجل : يا فلان نهارك صائم وليلك
قائم ، وكما
(20/407)
قال الشاعر :
وَنِمْتِ ومَا لَيْلُ المَطِيِّ بنَائمِ (1)
وما أشبه ذلك مما قد مضى بيانا له في غير هذا الموضع من كتابنا هذا.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله( بَلْ مَكْرُ
اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ
لَهُ أَنْدَادًا ) يقول : بل مكركم بنا في الليل والنهار أيها العظماء الرؤساء حتى
أزلتمونا عن عبادة الله.
وقد ذُكر في تأويله عن سعيد بن جبير ما حدثنا أَبو كريب قال : ثنا ابن يمان عن
أشعث عن جعفر عن سعيد بن جبير( بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ ) قال : مرُّ
الليل والنهار.
وقوله( إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ ) يقول : حين تأمروننا أن
نكفر بالله.
وقوله(وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْدَادًا) يقول : شركاء.
كما حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة قوله
__________
(1) هذا عجز بيت لجرير بن عطية الخطفي الشاعر الإسلامي ، وصدره : لقد لمتنا يا أم
غيلان في السرى
(ديوانه طبعة الصاوي 554) واستشهد به المؤلف على أنك تقول يا فلان نهارك صائم
وليلك قائم ، فتسلم الصيام والقيام إلى الليل والنهار إسنادا مجازيا عقليا ،
والأصل فيه أن يسند الصيام والقيام للرجل لا للزمان ، وذلك من باب التوسع المجازي
، العلاقة هنا الزمانية ، والقرينة هنا عقلية. وذلك نظير قوله تعالى : (بل مكر
الليل والنهار). أصله : بل مكركم بنا في الليل والنهار ، ثم أسند الفعل إليهما.
قال الفراء في (معاني القرآن ، الورقة 274) : وقوله : (بل مكر الليل والنهار) :
المكر ليس لليل ولا النهار ، وإنما المعنى : بل مكركم بالليل والنهار. وقد يجوز أن
تضيف الفعل إلى الليل والنهار ، ويكونا كالفاعلين ؛ لأن العرب تقول : نهارك صائم ،
وليلك قائم ، ثم تضيف الفعل إلى الليل والنهار ، وهو المعنى للآدميين ، كما تقول :
نام ليلك. ا . هـ.
(20/408)
وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (34)
(وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْدَادًا) شركاء.
قوله( وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ ) يقول : وندموا على ما
فرطوا من طاعة الله في الدنيا حين عاينوا عذاب الله الذي أعده لهم.
كما حدثنا بشر ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة(وَأَسَرُّوا الندَامَةَ) بينهم( لَمَّا
رَأَوُا الْعَذَابَ ) .
قوله( وَجَعَلْنَا الأغْلالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا ) وغلت أيدي
الكافرين بالله في جهنم إلى أعناقهم في جوامع من نار جهنم ، جزاء بما كانوا بالله
في الدنيا يكفرون ، يقول جل ثناؤه : ما يفعل الله ذلك بهم إلا ثوابًا لأعمالهم
الخبيثة التي كانوا في الدنيا يعملونها ، ومكافأة لهم عليها.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلا
قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (34) }
يقول تعالى ذكره : وما بعثنا إلى أهل قرية نذيرًا ينذيرهم بأسنا أن ينزل بهم على
معصيتهم إيانا ، إلا قال كبراؤها ورؤساؤها في الضلالة كما قال قوم فرعون من
المشركين له : إنَّا بما أرسلتم به من النذارة ، وبعثتم به من توحيد الله ،
والبراءة من الآلهة والأنداد ، كافرون.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة قوله( وَمَا أَرْسَلْنَا
فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ
بِهِ كَافِرُونَ ) قال : هم رؤوسهم وقادتهم في الشر.
(20/409)
وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (35) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (36)
القول في تأويل قوله تعالى : {
وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالا وَأَوْلادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ
(35) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَلَكِنَّ
أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (36) }
يقول تعالى ذكره : وقال أهل الأستكبار على الله من كل قرية أرسلنا فيها نذيرًا
لأنبيائنا ورسلنا : نحن أكثر أموالا وأولادًا وما نحن في الآخرة بمعذبين لأن الله
لو لم يكن راضيًا ما نحن عليه من الملة والعمل لم يخولنا الأموال والأولاد ، ولم
يبسط لنا في الرزق ، وإنما أعطانا ما أعطانا من ذلك لرضاه أعمالنا ، وآثرنا بما
آثرنا على غيرنا لفضلنا ، وزلفة لنا عنده ، يقول الله لنبيه محمد صَلَّى الله
عَلَيْهِ وَسَلَّم : قل لهم يا محمد(إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ) من المعاش
والرياش في الدنيا(لِمَنْ يَشَاءُ) من خلقه(وَيَقْدِرُ) فيضيق على من يشاء لا
لمحبة فيمن يبسط له ذلك ولا خير فيه ولا زلفة له استحق بها منه ، ولا لبغض منه لمن
قدر عليه ذلك ولا مقت ، ولكنه يفعل ذلك محنة لعباده وابتلاء ، وأكثر الناس لا
يعلمون أن الله يفعل ذلك اختبارًا لعباده ولكنهم يظنون أن ذلك منه محبة لمن بسط له
ومقت لمن قدر عليه.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله( وَمَا
أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى ...)
الآية ، قال : قالوا : نحن أكثر أموالا وأولادًا ، فأخبرهم الله أنه ليست أموالكم
ولا أولادكم بالتي تقربكم عندنا زلفى(إِلا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا) ، قال :
وهذا قول المشركين لرسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم وأصحابه ، قالوا : لو
لم يكن الله عنا راضيًا لم يعطنا هذا ، كما قال قارون : لولا أن الله رضِيَ بي
وبحالي ما أعطاني
(20/410)
وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آَمِنُونَ (37)
هذا ، قال : (أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ
اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُون ...) إلى آخر الآية.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي
تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ
لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ (37) }
يقول جل ثناؤه : وما أموالكم التي تفتخرون بها أيها القوم على الناس ولا أولادكم
الذين تتكبرون بهم ، بالتي تقربكم منَّا قربة.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن عمرو ، قال : ثنا أَبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال
: ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أَبي نجيح ، عن مجاهد
قوله(عِنْدَنَا زُلْفَى) قال : قربى.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة قوله( وَمَا
أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى ) لا
يعتبر الناس بكثرة المال والولد ، وإن الكافر قد يعطى المال ، وربما حبس عن
المؤمن. وقال جل ثناؤه : ( وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي
تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى ) ولم يقل باللَّتين ، وقد ذكر الأموال والأولاد
، وهما نوعان مختلفان ، لأنه ذُكر من كل نوع منهما جمع يصلح فيه التي ، ولو قال
قائل : أراد بذلك أحد النوعين لم يبعد قوله ، وكان ذلك كقول الشاعر :
نحنُ بِمَا عِندَنا وأنتَ بما... عِندكَ رَاضٍ والرأيُ مختَلِفُ (1)
__________
(1) البيت لقيس بن الخطيم من قصيدة من المنسرح ، كما في معاهد التنصيص شرح شواهد
التلخيص. لعبد الرحيم العباسي وقد تقدم الكلام عليه في (10 : 122) مبسوطا. فراجعه
ثمة.
(20/411)
ولم يقل راضيان.
وقوله(إِلا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا) اختلف أهل التأويل في معنى ذلك ؛ فقال
بعضهم : معنى ذلك وما أموالكم ولا أولادكم بالتي تقربكم عندنا زلفى إلا من آمن
وعمل صالحًا فإنه تقربهم أموالهم وأولادهم بطاعتهم الله في ذلك وأدائهم فيه حقه
إلى الله زلفى دون أهل الكفر بالله.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قول الله(إِلا مَنْ
آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا) قال : لم تضرهم أموالهم ولا أولادهم في الدنيا للمؤمنين
، وقرأ(لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ) فالحسنى : الجنة ، والزيادة
: ما أعطاهم الله في الدنيا لم يحاسبهم به ، كما حاسب الآخرين ، فمن حمل على هذا
التأويل نصب بوقوع تقرب عليه ، وقد يحتمل أن يكون " من " في موضع رفع ،
فيكون كأنه قيل : وما هو إلا من آمن وعمل صالحًا.
وقوله(فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْف) يقول : فهؤلاء لهم من الله على
أعمالهم الصالحة الضعف من الثواب ، بالواحدة عشر.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله(فَأُولَئِكَ
لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا) قال : بأعمالهم الواحد عشر ، وفي سبيل
الله بالواحد سبعمائة.
وقوله(فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ) يقول : وهم في غرفات الجنات آمنون من عذاب الله.
(20/412)
وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آَيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ (38) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (39)
القول في تأويل قوله تعالى : {
وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ
مُحْضَرُونَ (38) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ
عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ
وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (39) }
يقول تعالى ذكره : والذين يعملون في آياتنا ، يعني : في حججنا وآي كتابنا ، يبتغون
إبطاله ويريدون إطفاء نوره معاونين ، يحسبون أنهم يفوتوننا بأنفسهم
ويعجزوننا(أُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ) يعني : في عذاب جهنم محضرون يوم
القيامة( قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ )
يقول تعالى ذكره : قل يا محمد إن ربي يبسط الرزق لمن يشاء من خلقه فيوسعه عليه
تكرمة له وغير تكرمة ، ويقدر على من يشاء منهم فيضيقه ويقتره إهانة له وغير إهانة
، بل محنة واختبارًا( وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ ) يقول :
وما أنفقتم أيها الناس من نفقة في طاعة الله ، فإن الله يخلفها عليكم.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن بشار قال : ثنا يحيى قال : ثنا سفيان عن المنهال بن عمرو ، عن سعيد بن
جبير( وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ ) قال : ما كان في غير
إسراف ولا تقتير.
وقوله(وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) يقول : وهو خير من قيل إنه يرزق ووصف به ،
وذلك أنه قد يوصف بذلك من دونه فيقال : فلان يرزق أهله وعياله.
(20/413)
وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ (40)
القول في تأويل قوله تعالى : { وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهَؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ (40) قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ
(20/413)
قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ (41) فَالْيَوْمَ لَا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (42)
وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ
كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ (41) }
يقول تعالى ذكره : ويوم نحشر هؤلاء الكفار بالله جميعًا ، ثم نقول للملائكة :
أهؤلاء كانوا يعبدونكم من دوننا ؟ فتتبرأ منهم الملائكة(قَالُوا سُبْحَانَكَ) ربنا
؛ تنزيهًا لك وتبرئة مما أضاف إليك هؤلاء من الشركاء والأنداد(أَنْتَ وَلِيُّنَا
مِنْ دُونِهِمْ) لا نتخذ وليًّا دونك(بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ).
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة قوله(وَيَوْمَ
نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهَؤُلاءِ إِيَّاكُمْ
كَانُوا يَعْبُدُونَ) استفهام كقوله لعيسى(أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي
وَأُمِّيَ إِلَهَينِ مِنْ دُونِ اللَّهِ).
وقوله(أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ) يقول : أكثرهم بالجن مصدقون ، يزعمون أنهم
بنات الله ، تعالى الله عمَّا يقولون علوًّا كبيرًا.
القول في تأويل قوله تعالى : { فَالْيَوْمَ لا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ
نَفْعًا وَلا ضَرًّا وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ
الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (42) }
يقول تعالى ذكره : فاليوم لا يملك بعضكم أيها الملائكة للذين كانوا في الدنيا
يعبدونكم نفعًا ينفعونكم به ، ولا ضرًّا ينالونكم به أو تنالونهم به(وَنَقُولُ
لِلَّذِينَ ظَلَمُوا) يقول : ونقول للذين عبدوا غير الله فوضعوا العبادة في غير
موضعها ، وجعلوها لغير من تنبغي أن تكون له(ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّتِي
كُنْتُمْ بِهَا) في الدنيا(تُكَذِّبُونَ) فقد وردتموها.
(20/414)
وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آَبَاؤُكُمْ وَقَالُوا مَا هَذَا إِلَّا إِفْكٌ مُفْتَرًى وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (43) وَمَا آَتَيْنَاهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ (44) وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَمَا بَلَغُوا مِعْشَارَ مَا آَتَيْنَاهُمْ فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (45)
القول في تأويل قوله تعالى : { وَإِذَا
تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلا رَجُلٌ يُرِيدُ
أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُكُمْ وَقَالُوا مَا هَذَا إِلا
إِفْكٌ مُفْتَرًى وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ إِنْ
هَذَا إِلا سِحْرٌ مُبِينٌ (43) }
يقول تعالى ذكره : وإذا تتلى على هؤلاء المشركين آيات كتابنا بيِّنات ، يقول :
واضحات أنهن حق من عندنا( قَالُوا مَا هَذَا إِلا رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ
عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُكُمْ ) يقول : قالوا عند ذلك : لا تتبعوا محمدًا ،
فما هو إلا رجل يريد أن يصدكم عما كان يعبد آباوكم من الأوثان ، ويغير دينكم ودين
آبائكم(وَقَالُوا مَا هَذَا إِلا إِفْكٌ مُفْتَرًى) يقول تعالى ذكره : وقال هؤلاء
المشركون : ما هذا الذي تتلو علينا يا محمد ، يعنون القرآن ، إلا إفك ، يقول : إلا
كذب مفترى : يقول : مختلق متخرص( وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا
جَاءَهُمْ إِنْ هَذَا إِلا سِحْرٌ مُبِينٌ ) يقول جل ثناؤه : وقال الكفار للحق ،
يعني محمدًا صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم ، لما جاءهم ، يعني : لما بعثه الله
نبيًّا : هذا سحر مبين ، يقول : ما هذا إلا سحر مبين ، يبين لمن رآه وتأمله أنه
سحر.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَمَا آتَيْنَاهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا
وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ (44) وَكَذَّبَ الَّذِينَ
مِنْ قَبْلِهِمْ وَمَا بَلَغُوا مِعْشَارَ مَا آتَيْنَاهُمْ فَكَذَّبُوا رُسُلِي
فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (45) }
يقول تعالى ذكره : وما أنزلنا على المشركين القائلين لمحمد صَلَّى الله عَلَيْهِ
وَسَلَّم لما جاءهم بآياتنا : هذا سحر مبين ، بما يقولون من ذلك كتبًا يدرسونها ،
يقول : يقرءونها.
(20/415)
كما حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال
: ثنا سعيد ، عن قتادة قوله(ومَا آتيْنَاهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا) أي :
يقرءونها(وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ) يقول : وما أرسلنا
إلى هؤلاء المشركين من قومك يا محمد فيما يقولون ويعملون قبلك من نبي ينذرهم بأسنا
عليه.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة(وَمَا أَرْسَلْنَا
إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ) ما أنزل الله على العرب كتابًا قبل القرآن ،
ولا بعث إليهم نبيًّا قبل محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم.
وقوله(وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) يقول : وكذب الذين من قبلهم من الأمم
رسلنا وتنزيلنا(وَمَا بَلَغُوا مِعْشَارَ مَا آتيْنَاهُمْ) يقول : ولم يبلغ قومك
يا محمد عشر ما أعطينا الذين من قبلهم من الأمم من القوة والأيدي والبطش ، وغير ذلك
من النعم.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني علي قال : ثنا أَبو صالح قال : ثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس
قوله(وَمَا بَلَغُوا مِعْشَارَ مَا آتيْنَاهُمْ) من القوة في الدنيا.
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ،
عن ابن عباس قوله(وَمَا بَلَغُوا مِعْشَارَ مَا آتيْنَاهُمْ) يقول : ما جاوزوا
معشار ما أنعمنا عليهم.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة قوله( وَكَذَّبَ
الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَمَا بَلَغُوا مِعْشَارَ مَا آتَيْنَاهُمْ ) يخبركم
أنه أعطى القوم ما لم يعطكم
(20/416)
قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ (46)
من القوة وغير ذلك.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله(وَمَا بَلَغُوا
مِعْشَارَ مَا آتيْنَاهُمْ) قال : ما بلغ هؤلاء ، أمة محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ
وَسَلَّم ، معشار ما آتينا الذين من قبلهم ، وما أعطيناهم من الدنيا ، وبسطنا عليهم(فَكَذَّبُوا
رُسُلِي فَكَيْفَ كَانَ نَكِير) يقول : فكذبوا رسلي فيما أتوهم به من رسالتي ،
فعاقبناهم بتغييرنا بهم ما كنا آتيناهم من النعم ، فانظر يا محمد كيف كان نكير ،
يقول : كيف كان تغييري بهم وعقوبتي.
القول في تأويل قوله تعالى : { قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ
تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ
جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ (46) }
يقول تعالى ذكره : قل يا محمد لهؤلاء المشركين من قومك : إنما أعظكم أيها القوم بواحدة
وهي طاعة الله.
كما حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أَبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ،
قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أَبي نجيح ، عن مجاهد
قوله(إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ) قال : بطاعة الله.
وقوله( أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ) يقول : وتلك الواحدة التي
أعظكم بها هي أن تقوموا لله اثنين اثنين ، (وفُرادَى) فرادى (1) فأن في موضع خفض
ترجمة عن الواحدة.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*
__________
(1) لعله : فردًا وفردًا : أي أن تقوموا اثنين اثنين ، وواحدا واحدا.
(20/417)
قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (47)
ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثني أَبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال
: ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أَبي نجيح ، عن مجاهد( أَنْ
تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ) قال : واحدًا واثنين.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة قوله( قُلْ إِنَّمَا
أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ) رجلا ورجلين.
وقيل : إنما قيل : إنما أعظكم بواحدة ، وتلك الواحدة أن تقوموا لله بالنصيحة وترك
الهوى.(مَثْنَى) يقول : يقوم الرجل منكم مع آخر قيتصادقان على المناظرة : هل علمتم
بمحمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم جنونًا قطُّ ؟ ثم ينفرد كل واحد منكم ،
فيتفكر ويعتبر فردًا هل كان ذلك به ؟ فتعلموا حينئذٍ أنه نذير لكم.
وقوله(ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ) يقول : لأنه ليس
بمجنون.
وقوله(إِنْ هُوَ إِلا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ) يقول : ما
محمد إلا نذير لكم ينذركم على كفركم بالله عقابه أمام عذاب جهنم قبل أن تصلوها ،
وقوله : هو كناية اسم محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم.
القول في تأويل قوله تعالى : { قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ
إِنْ أَجْرِيَ إِلا عَلَى اللَّهِ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (47) }
يقول تعالى ذكره : قل يا محمد لقومك المكذبيك ، الرادين عليك ما أتيتهم به من عند
ربك : ما أسألكم من جُعْلٍ على إنذاريكم عذاب الله ، وتخويفكم به بأسه ، ونصيحتي
لكم في أمري إياكم بالإيمان بالله ، والعمل بطاعته ، فهو لكم لا حاجة لي به. وإنما
معنى الكلام : قل لهم : إني لم أسألكم على ذلك
(20/418)
قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (48)
جعلا فتتهموني ، وتظنوا أني إنما
دعوتكم إلى اتباعي لمال آخذه منكم.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة قوله(قُلْ مَا
سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ) أي : جُعل(فَهُوَ لَكُمْ) يقول : لم أسألكم على الإسلام
جعلا.
وقوله( إِنْ أَجْرِيَ إِلا عَلَى اللَّهِ ) يقول : ما ثوابي على دعائكم إلى
الإيمان بالله والعمل بطاعته ، وتبليغكم رسالته ، إلا على الله(وَهُوَ عَلَى كُلِّ
شَيْءٍ شَهِيد) يقول : والله على حقيقة ما أقول لكم شهيد يشهد لي به ، وعلى غير
ذلك من الأشياء كلها.
القول في تأويل قوله تعالى : { قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلامُ
الْغُيُوبِ (48) }
(20/419)
قُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ (49)
القول في تأويل قوله تعالى : { قُلْ
جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ (49) }
يقول جل ثناؤه لنبيه محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم : (قُلْ) يا محمد لمشركي
قومك( إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ ) وهو الوحي ، يقول : ينزله من السماء ،
فيقذفه إلى نبيه محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم(عَلامُ الْغُيُوبِ) يقول :
علام ما يغيب عن الأبصار ، ولا مَظْهَر لها ، وما لم يكن مما هو كائن ، وذلك من
صفة الرب ، غير أنه رفع لمجيئه بعد الخبر ، وكذلك تفعل العرب إذا وقع النعت بعد الخبر
، في أن أتبعوا النعت إعراب ما في الخبر ، فقالوا : إن أباك يقوم الكريم ، فرفع
الكريم على ما وصفت ، والنصب فيه جائز ؛ لأنه نعت للأب ، فيتبع إعرابه(قُلْ جَاءَ
الْحَقُّ) يقول : قل لهم يا محمد : جاء القرآن ووحي الله( وَمَا يُبْدِئُ
الْبَاطِلُ ) يقول : وما ينشىء الباطل خلقًا ، والباطل هو فيما فسره أهل التأويل :
(20/419)
قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ (50)
إبليس(وَمَا يُعِيدُ) يقول : ولا يعيده
حيًّا بعد فنائه.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة قوله(إِنَّ رَبِّي
يَقْذِفُ بِالْحَقِّ) : أي بالوحي(عَلام الْغُيُوبِ * قُلْ جَاءَ الْحَقُّ) أي :
القرآن( وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ ) والباطل : إبليس ، أي : ما
يخلق إبليس أحدًا ولا يبعثه.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله( قُلْ إِنَّ
رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلامُ الْغُيُوبِ ) فقرأ( بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ
عَلَى الْبَاطِلِ ...) إلى قوله(وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ) قال : يزهق
الله الباطل ، ويثبت الله الحق الذي دمغ به الباطل ، يدمغ بالحق على الباطل ،
فيهلك الباطل ويثبت الحق ، فذلك قوله( قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ
عَلامُ الْغُيُوبِ ) .
القول في تأويل قوله تعالى : { قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى
نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ
قَرِيبٌ (50) }
يقول تعالى ذكره : قل يا محمد لقومك : إن ضللت عن الهدى فسلكت غير طريق الحق ،
إنما ضلالي عن الصواب على نفسي ، يقول : فإن ضلالي عن الهدى على نفسي ضره ،
(وَإِنِ اهْتَدَيْتُ) يقول : وإن استقمت على الحق(فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي)
يقول : فبوحي الله الذي يوحِي إلي ، وتوفيقه للاستقامة على محجة الحق وطريق الهدى.
وقوله(إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ) يقول : إن ربي سميع لما أقول لكم حافظ له ، وهو
المجازي لي على صدقي في ذلك ، وذلك مني غير بعيد ، فيتعذر عليه سماع
(20/420)
وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلَا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ (51)
ما أقول لكم ، وما تقولون ، وما يقوله
غيرنا ، ولكنه قريب من كل متكلم يسمع كل ما ينطق به ، أقرب إليه من حبل الوريد.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ وَأُخِذُوا
مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ (51) }
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم : ولو ترى يا محمد إذ
فزعوا.
واختلف أهل التأويل في المعنيين بهذه الآية ؛ فقال بعضهم : عُنِي بها هؤلاء
المشركون الذين وصفهم تعالى ذكره بقوله( وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا
بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلا رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كَانَ
يَعْبُدُ آبَاؤُكُمْ ) قال : وعُنِي بقوله( إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ وَأُخِذُوا
مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ ) عند نزول نقمة الله بهم في الدنيا.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ،
عن ابن عباس قوله(وَلَوْ تَرَى إِذْ فُزِعُوا فَلا فَوْتَ ...) الى آخر الآية ،
قال : هذا من عذاب الدنيا.
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك
يقول في قوله(وَأُخِذُوا مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ) قال : هذا عذاب الدنيا.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله(وَلَوْ تَرَى
إِذْ فُزِعُوا فَلا فَوْتَ ...) إلى آخر السورة ، قال : هؤلاء قتلى المشركين من
أهل بدر ، نزلت فيهم هذه الآية ، قال : وهم الذين بدلوا نعمة الله كفرًا وأحلوا
قومهم دار البوار جهنم ، أهل بدر من المشركين.
(20/421)
وقال آخرون : عنى بذلك جيش يخسف بهم
ببيداء من الأرض.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد قال : ثنا يعقوب عن جعفر عن سعيد في قوله( وَلَوْ تَرَى إِذْ
فَزِعُوا فَلا فَوْتَ ) قال : هم الجيش الذي يخسف بهم بالبيداء ، يبقى منهم رجل
يخبر الناس بما لقي أصحابه.
حدثنا عصام بن روَّاد بن الجراح قال : ثنا أَبي قال : ثنا سفيان بن سعيد قال : ثني
منصور بن المعتمرِ عن رِبْعيِّ بن حِراش قال : سمعت حذيفة بن اليمان يقول : قال
رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم ، وذكر فتنة تكون بين أهل المشرق والمغرب
، قال : فبينما هم كذلك إذ خرج عليهم السفياني من الوادي اليابس في فورة ذلك ، حتى
ينزل دمشق ، فيبعث جيشين ؛ جيشًا إلى المشرق ، وجيشًا إلى المدينة ، حتى ينزلوا
بأرض بابل في المدينة الملعونة والبقعة الخبيثة ، فيقتلون أكثر من ثلاثة آلاف ،
ويبقرون بها أكثر من مائة امرأة ، ويقتلون بها ثلاثمائة كبش من بني العباس ، ثم
ينحدرون إلى الكوفة فيخربون ما حولها ، ثم يخرجون متوجهين إلى الشأم ، فتخرج راية
هذا من الكوفة ، فتلحق ذلك الجيش منها على الفئتين ، فيقتلونهم لا يفلت منهم مخبر
، ويستنقذون ما في أيديهم من السبي والغنائم ، ويخلي جيشه التالي بالمدينة ،
فينهبونها ثلاثة أيام ولياليها ، ثم يخرجون متوجهين إلى مكة ، حتى إذا كانوا
بالبيداء ، بعث الله جبريل ، فيقول : يا جبرائيل اذهب فأبدهم ، فيضربها برجله ضربة
يخسف الله بهم ، فذلك قوله في سورة سبأ(وَلَوْ تَرَى إِذْ فُزِعُوا فَلا فَوْتَ
...) الآية ، ولا ينفلت منهم إلا رجلان ؛ أحدهما بشير والآخر نذير ، وهما من جهينة
، فلذلك جاء القول :
... ... ... ... ... ...... وَعِنْدَ جُهَينَةَ الْخَبَرُ اليَقِينُ (1)
__________
(1) هذا عجز بيت من الوافر. وصدره : تُسَائل عن حُصْينٍ كلَّ ركْبٍ
(مجمع الأمثال الميداني 1 : 34) والشطر الثاني من الأمثال الثائرة. وله قصة مطولة
ذكرها الميداني خلاصتها : أن حصين بن عمرو بن معاوية بن كلاب والأخنس بن شريق
الجهني خرج لما يخرج له الفتيان الصعاليك ؛ ليغيرا ويكسبا ويغنما ، فلما غنما بعض
الشيء عدا الجهني على صاحبه فقتله ، ثم رجع إلى قومه جهينة ، وأخبرهم بالذي صنع
بصاحبه ، وقال أبياتًا من الشعر تتضمن القصة - ويلوح لي أن هذه القصة موضوعة -
ولهذا يروى المثل : " وعند جهينة الخبر اليقين " كما في (الاقتضاب شرح
أدب الكتاب) لابن السيد البطليوسي. وأما استشهاد المؤلف به في قصة السفياني ، فيدل
على أن جهينة كانت قبيلة مشهورة بتتبع أخبار العرب ومعرفة الأحداث ؛ حتى كان عندها
علم كل شيء. ولكثرة ذلك فيها نسب إليها العلم بما يقع من الأحداث المستقبلة.
(20/422)
حدثنا محمد بن خلف العسقلاني قال :
سألت رواد بن الجراح ، عن الحديث الذي حدث به عنه ، عن سفيان الثوري ، عن منصور ،
عن ربعى عن حذيفة ، عن النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم ، عن قصة ذكرها في الفتن
، قال : فقلت له : أخبرني عن هذا الحديث سمعته من سفيان الثوري ؟ قال : لا قلت :
فقرأته عليه ؟ قال : لا قلت : فقريء عليه وأنت حاضر ؟ قال : لا قلت : فما قصته فما
خبره ؟ قال : جاءني قوم فقالوا : معنا حديث عجيب ، أو كلام هذا معناه ، نقرؤه
وتسمعه ، قلت لهم : هاتوه ، فقرءوه عليَّ ، ثم ذهبوا فحدثوا به عني ، أو كلام هذا
معناه.
قال أَبو جعفر : وقد حدثني ببعض هذا الحديث محمد بن خلف ، قال : ثنا عبد العزيز بن
أبان ، عن سفيان الثوري ، عن منصور عن ربعى عن حذيفة عن النبي صَلَّى الله
عَلَيْهِ وَسَلَّم ، حديثا طويلا قال : رأيته في كتاب الحسين بن علي الصدائي ، عن
شيخ عن رواد عن سفيان بطوله.
وقال آخرون : بل عنى بذلك المشركون إذا فزعوا عند خروجهم من قبورهم.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة عن الحسن قوله
(20/423)
وَقَالُوا آَمَنَّا بِهِ وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ (52)
(وَلَوْ تَرَى إِذْ فُزِعُوا) قال :
فزعوا يوم القيامة حين خرجوا من قبورهم.
وقال قتادة : ( وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكَانٍ
قَرِيبٍ ) حين عاينوا عذاب الله.
حدثنا ابن حميد قال : ثنا جرير عن عطاء عن ابن معقل( وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا
فَلا فَوْتَ ) قال : أفزعهم يوم القيامة فلم يفوتوا.
والذي هو أولى بالصواب في تأويل ذلك ، وأشبه بما دل عليه ظاهر التنزيل قول من قال
: وعيد الله المشركين الذين كذبوا رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم من
قومه ، لأن الآيات قبل هذه الآية جاءت بالإخبار عنهم وعن أسبابهم ، وبوعيد الله
إياهم مغبته ، وهذه الآية في سياق تلك الآيات ، فلأن يكون ذلك خبرًا عن حالهم أشبه
منه بأن يكون خبرًا لما لم يجر له ذكر. وإذا كان ذلك كذلك ، فتأويل الكلام : ولو
ترى يا محمد هؤلاء المشركين من قومك ، فتعاينهم حين فزعوا من معاينتهم عذاب
الله(فَلا فَوتَ) يقول : فلا سبيل حينئذٍ أن يفوتوا بأنفسهم ، أو يعجزونا هربًا ،
وينجوا من عذابنا.
كما حدثني علي قال : ثنا أَبو صالح قال : ثني معاوية عن علي عن ابن عباس قوله(
وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ ) يقول : فلا نجاة.
حدثنا عمرو بن عبد الحميد قال : ثنا مروان عن جويبر عن الضحاك في قوله ( وَلَوْ
تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ ) قال : لا هرب.
وقوله(وَأُخِذُوا مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ) يقول : وأخذهم الله بعذابه من موضع قريب ،
لأنهم حيث كانوا من الله قريب لا يبعدون عنه.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَقَالُوا آمَنَّا بِهِ وَأَنَّى لَهُمُ
التَّنَاوُشُ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ (52) }
يقول تعالى ذكره : وقال هؤلاء المشركون حين عاينوا عذاب الله : آمنَّا
(20/424)
به ، يعني : آمنَّا بالله وبكتابه
ورسوله.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أَبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال
: ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أَبي نجيح ، عن مجاهد قوله(وَقَالُوا
آمَنَّا بِهِ) قالوا : آمنَّا بالله.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة(وَقَالُوا آمَنَّا بِهِ)
عند ذلك ، يعني : حين عاينوا عذاب الله.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله(وَقَالُوا
آمَنَّا بِهِ) بعد القتل ، وقوله(وأنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ) يقول : ومن أي وجه
لهم التناوش.
واختلفت قراء الأمصار في ذلك ؛ فقرأته عامة قراء المدينة(التَّنَاوُشُ) بغير همز ،
بمعنى : التناول ، وقرأته عامة قراء الكوفة والبصرة : (التَّنَاؤُشُ) بالهمز ،
بمعنى : التنؤُّش ، وهو الإبطاء ، يقال منه : تناءشت الشيء : أخذته من بعيد ،
ونشته : أخذته من قريب ، ومن التنؤش قول الشاعر :
تَمَنَّى نَئِيشًا أنْ يَكونَ أطَاعَني... وقدْ حَدَثَتْ بَعْدَ الأمُورِ أمُورُ
(1)
__________
(1) الأبيات لنهشل بن حري ، أنشدها اللسان في (نأش) المهموز على أنه يقال : جاء
نئيشًا : أي بطيئا. أنشد يعقوب لنهشل بن حري : وَمَوْلًى عَصَانِي وَاسْتَبَدَّ
بِرَأْيِهِ ... كمَا لَمْ يُطَعْ فِيما أشارَ قَصِيرُ
فَلَمَّا رَأى ما غِبُّ أمرِي وَأمْرِهِ ... وَناءَتْ بأعْجازِ الأمُورِ صُدُورُ
تَمنَّى نَئِيشا أنْ يَكُونَ أطاعنِي ... وَيحدُثَ مِنْ بَعْدِ الأُمُورِ أمُور
قوله ، تمنى نئيشا : أي في الأخير ، وبعد الفوت أن لو أطاعني وقد حدثت أمور لا
يستدرك بها ما فات. أي أطاعني في وقت لا تنفعه فيه الطاعة. قال : ويقال فعله نئيشا
: أي أخيرا ، واتبعه نئيشا : إذا تأخر عنه ثم اتبعه على عجلة ، شفقة أن يفوته.
والنئيش أيضا : البعيد عن ثعلب وقال الفراء في معاني القرآن (مصورة الجامعة ،
الورقة 265) وقوله : (وأنى لهم التناوش) ؟ قرأ الأعمش وحمزة والكسائي بالهمز ،
يجعلونه من الشيء البطيء من نأشت من النأش. قال الشاعر : وجئت نئيشا بعدما فاتك
الخير
وقال الآخر : تمنى شيئا ... إلخ البيت. وقد ترك همزها أهل الحجاز وغيرهم ، جعلوها
من نشته نوشا ، وهو التناول ، وهما متقاربان مثل ذمت الشيء وذأمته أي عبته.
وقال الشاعر : " فهي تنوش الحوض ... إلخ " وتناوش القوم في القتال : إذا
تناول بعضهم بعضا ولم يتدانوا كل التداني. وقد يجوز همزها ، وهي من نشت لانضمام
الواو ، يعني التناوش ، مثل قوله : (وإذا الرسل أقتت).
(20/425)
ومن النوش قول الراجز :
فَهيَ تَنُوشُ الحَوضَ نَوشًا مِن عَلا... نَوشًا بِهِ تَقْطَعُ أجْوَازَ الفَلا
(1)
ويقال للقوم في الحرب ، إذا دنا بعضهم إلى الرماح ولم يتلاقوا : قد تناوش القوم.
والصواب من القول في ذلك عندي أن يقال : إنهما قراءتان معروفتان في قراء الأمصار ،
متقاربتا المعنى ، وذلك أن معنى ذلك : وقالوا آمنا بالله ، في حين لا ينفعهم قيل
ذلك ، فقال الله(وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ) أي : وأين لهم التوبة والرجعة ، أي
: قد بعدت عنهم ، فصاروا منها كموضع بعيد أن يتناولوها ، وإنما
__________
(1) هذان البيتان من الرجز المشطور لأبي النجم الراجز (اللسان : علا). شاهد على أن
قوله " من علا " أي من أعلى ، أي من فوق. وفيه لغات أخر. وأورده
(اللسان) أيضا في (نوش) ونسبه إلى غيلان بن حريث ، لا إلى أَبي النجم. وجعله شاهدا
على أن الناقة تنوش الحوض بفيها ، أي تتناول ماءه قال : وقوله " من علا
" أي من فوق ، يريد أنها نوقه عالية الأجسام طوال الأعناق وذلك النوش الذي
تناوله : هو الذي يعيننا على قطع الفلوات. والأجواز : جمع جوز ، وهو الوسط. أي
تتناول ماء الحوض من فوق ، وتشرب شربا كثيرا. وتقطع بذلك الشرب فلوات ، فلا تحتاج
إلى ماء آخر. وأنشده أبو عبيدة في مجاز القرآن (الورقة 200) ونسبه لغيلان ، وجعله
شاهدا على أن التناوش في الآية (وأنى لهم التناوش) يجعله من لم يهمز من نشت تنوش.
هو التناول. قال غيلان : " فهي تنوش ... " البيتين. ومن همز جعله من
نأشت إليه ، وهو من بعد المطلب. وقال في (اللسان : نأش) التناؤش بالهمز : التأخر
والتباعد. والتناوش : الأخذ من بعد ، مهموز عن ثعلب ، قال : فإن كان عن قرب فهو
التناؤش. ا . هـ. قلت : وروايتا اللسان متفقتان مع رواية أبي عبيدة. وتختلف عنها
رواية المؤلف في قوله " باتت " في موضع " فهي " .
(20/426)
وصفت ذلك الموضع بالبعيد ، لأنهم قالوا
: ذلك في القيامة فقال الله : أنى لهم بالتوبة المقبولة ، والتوبة المقبولة إنما
كانت في الدنيا ، وقد ذهبت الدنيا فصارت بعيدًا من الآخرة ، فبأي القراءتين اللتين
ذكرت قرأ القارىء فمصيب الصواب في ذلك.
وقد يجوز أن يكون الذين قرءوا ذلك بالهمز همزوا وهم يريدون معنى من لم يهمز ،
ولكنهم همزوه لانضمام الواو فقلبوها ، كما قيل : (وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ)
فجعلت الواو من وقتت إذا كانت مضمومة همزوه.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا أَبو كريب قال : ثنا ابن عطية قال : ثنا إسرائيل عن أَبي إسحاق عن التميمي
قال : قلت لابن عباس : أرأيت قول الله(وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ) قال : يسألون
الرد وليس بحين رد.
حدثنا ابن حميد قال : ثنا حكام عن عنبسة عن أَبي إسحاق عن التميمي عن ابن عباس
نحوه.
حدثني علي ، قال : ثنا أَبو صالح قال : ثني معاوية عن علي عن ابن عباس
قوله(وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ) يقول : فكيف لهم بالرد.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أَبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال
: ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أَبي نجيح ، عن مجاهد(وَأَنَّى
لَهُمُ التَّنَاوُشُ) قال : الرد.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد(وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ) قال :
التناوب(مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ) .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله( وَقَالُوا
آمَنَّا بِهِ وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ ) قال : هؤلاء
قتلى أهل
(20/427)
وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ (53)
بدر من قتل منهم ، وقرأ( وَلَوْ تَرَى
إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ وَقَالُوا آمَنَّا
بِهِ ...) الآية ، قال : التناوش : التناول ، وأنى لهم تناول التوبة من مكان بعيد
وقد تركوها في الدنيا ، قال : وهذا بعد الموت في الآخرة.
قال : وقال ابن زيد في قوله(وَقَالُوا آمَنَّا بِهِ) بعد القتل(وَأَنَّى لَهُمُ
التَّنَاوُشُ مِنْ مِكَانٍ بَعِيدٍ) وقرأ(وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ
كُفَّارٌ) قال : ليس لهم توبة ، وقال : عرض الله عليهم أن يتوبوا مرة واحدة ،
فيقبلها الله منهم ، فأبوا ، أو يعرضون التوبة بعد الموت ، قال : فهم يعرضونها في
الآخرة خمس عرضات ، فيأبى الله أن يقبلها منهم ، قال : والتائب عند الموت ليست له
توبة( وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ
وَلا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا ...) الآية ، وقرأ ( رَبَّنَا أَبْصَرْنَا
وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ ).
حدثنا عمرو بن عبد الحميد قال : ثنا مروان عن جويبر عن الضحاك فى قول(وَأَنَّى
لَهُمُ التَّنَاوُشُ) قال : وأنَّى لهم الرجعة.
وقوله(مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ) يقول : من آخرتهم إلى الدنيا.
كما حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أَبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ،
قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أَبي نجيح ، عن مجاهد قوله(مِنْ
مَكَانٍ بَعِيدٍ) من الآخرة إلى الدنيا.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ وَيَقْذِفُونَ
بِالْغَيْبِ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ (53) }
يقول تعالى ذكره : (وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ) يقول : وقد كفروا بما يسألونه ربهم عند
نزول العذاب بهم ، ومعاينتهم إياه من الإقالة له ، وذلك الإيمان بالله وبمحمد
صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم وبما جاءهم به من عند الله.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*
(20/428)
وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِمْ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ (54)
ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة(وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ
مِنْ قَبْلُ) : أي بالإيمان في الدنيا.
وقوله( وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ ) يقول : وهم اليوم يقذفون
بالغيب محمدًا من مكان بعيد ، يعني أنهم يرجمونه ، وما أتاهم من كتاب الله بالظنون
والأوهام ، فيقول بعضهم : هو ساحر ، وبعضهم شاعر ، وغير ذلك.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أَبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال
: ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أَبي نجيح ، عن مجاهد في قوله(
وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ ) قال : قولهم ساحر بل هو كاهن بل
هو شاعر.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة(وَيَقْذِفُونَ
بِالْغَيْبِ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ) أي : يرجمون بالظن ، يقولون : لا بعث ولا جنة
ولا نار.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله(وَيَقْذِفُونَ
بِالْغَيْبِ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ) قال : بالقرآن.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا
فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِمْ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ (54) }
(20/429)
يقول تعالى ذكره : وحيل بين هؤلاء
المشركين حين فزعوا فلا فوت وأخذوا من مكان قريب ، فقالوا : آمنَّا به(وَبَيْنَ
مَا يَشْتَهُونَ) حينئذٍ من الإيمان بما كانوا به في الدنيا قبل ذلك يكفرون ، ولا
سبيل لهم إليه.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني إسماعيل بن حفص الأبلي قال : ثنا المعتمر عن أَبي الأشهب عن الحسن في
قوله(وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ) قال : حيل بينهم وبين الإيمان
بالله.
حدثنا ابن بشار قال : ثنا مؤمل قال : ثنا سفيان عن عبد الصمد قال : سمعت الحسن ، وسئل
عن هذه الآية(وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ) قال : حيل بينهم وبين
الإيمان.
حدثني ابن أَبي زياد قال : ثنا يزيد قال : ثنا أَبو الأشهب عن الحسن(وَحِيلَ
بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ) قال : حيل بينهم وبين الإيمان.
حدثنا أحمد بن عبد الصمد الأنصاري قال : ثنا أَبو أسامة عن شبل عن ابن أَبي نجيح
عن مجاهد(وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ) قال : من الرجوع إلى
الدنيا ليتوبوا.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة(وَحِيلَ بَيْنَهُمْ
وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ) كان القوم يشتهون طاعة الله أن يكونوا عملوا بها في
الدنيا حين عاينوا ما عاينوا.
حدثنا الحسن بن واضح قال : ثنا الحسن بن حبيب قال : ثنا أَبو الأشهب عن الحسن في
قوله(وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ) قال : حيل بينهم وبين الإيمان.
وقال آخرون : معنى ذلك وحيل بينهم وبين ما يشتهون من مال وولد
(20/430)
وزهرة الدنيا.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أَبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، قال : ثني الحارث ،
قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أَبي نجيح ، عن مجاهد ، في قول
الله(وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ) قال : من مال أو ولد أو زهرة.
حدثني يونس ، قال : قال أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله(وَحِيلَ
بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ) قال : في الدنيا التي كانوا فيها والحياة.
وإنما اخترنا القول الذي اخترناه في ذلك ؛ لأن القوم إنما تمنوا حين عاينوا من
عذاب الله ما عاينوا ، ما أخبر الله عنهم أنهم تمنوه ، وقالوا آمنا به فقال الله :
وأنى لهم تناوش ذلك من مكان بعيد ، وقد كفروا من قبل ذلك في الدنيا. فإذا كان ذلك
كذلك فلأن يكون قوله(وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ) خبرًا عن أنه
لا سبيل لهم إلى ما تمنوه أولى من أن يكون خبرًا عن غيره.
وقوله( كما فعل باشياعهم من قبل ) يقول : فعلنا بهؤلاء المشركين ؛ فحلنا بينهم
وبين ما يشتهون من الإيمان بالله عند نزول سخط الله بهم ، ومعاينتهم بأسه ، كما
فعلنا بأشياعهم على كفرهم بالله من قبلهم من كفار الأمم ؛ فلم نقبل منهم إيمانهم
في ذلك الوقت ، كما لم نقبل في مثل ذلك الوقت من ضربائهم.
والأشياع : جمع شِيعَ ، وشِيعَ : جمع شيعة ؛ فأشياع جمع الجمع.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أَبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال
: ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أَبي نجيح
(20/431)
( كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِمْ مِنْ
قَبْلُ ) قال : الكفار من قبلهم.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِمْ
مِنْ قَبْلُ ) أي : في الدنيا ، كانوا إذا عاينوا العذاب لم يقبل منهم إيمان.
وقوله(إِنَّهُمْ كَانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ) يقول تعالى ذكره : وحيل بين هؤلاء
المشركين حين عاينوا بأس الله وبين الإيمان ؛ إنهم كانوا قبل في الدنيا في شك ، من
نزول العذاب الذي نزل بهم وعاينوه ، وقد أخبرهم نبيهم أنهم إن لم ينيبوا مما هم
عليه مقيمون من الكفر بالله ، وعبادة الأوثان ، أن الله مهلكهم ، ومحلٌّ بهم
عقوبته في عاجل الدنيا ، وآجل الآخرة قبل نزوله بهم ، مريب يقول : موجب لصاحبه
الذي هو به ما يريبه من مكروه ، من قولهم : قد أراب الرجل إذا أتى ريبة وركب فاحشة
، كما قال الراجز :
يا قَومُ مَا لِي وأبَا ذُؤَيبِ?... كنتُ إذَا أتَوْتُهُ من غَيبِ
يَشُمُّ عِطْفِي وَيُبُّز ثَوْبِي... كأنَّما أرَبْتُهُ بِرَيْبِ (1)
يقول : كأنما أتيت إليه ريبة.
آخر سورة سبأ
__________
(1) هذه الأبيات الرجز من المشطور ، أنشدها صاحب (اللسان : أتي). قال ويقال :
أتوته أتوا : لغة في أتيته. قال خالد بن زهير. " يا قوم ما لي .... "
الأبيات. وأنشدها أيضًا في (اللسان : ريب) ونسبها إلى خالد بن زهير الهذلي. وفيها
" أتيته " في موضع " أتوته " وهي لغة. وجعلها شاهدا على أنه
يقال : رابني أمره يريبني ريبًا وريبة بمعنى شككني وأما أراب فإنه يأتي متعديا
بمعنى راب ، ولازما بمعنى أتى بريبة. كما تقول : ألام : إذا أتى بما يلام عليه.
(20/432)
تفسير سورة فاطر
(20/433)
الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1)
بسم الله الرحمن الرحيم
القول في تأويل قوله تعالى : { الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ
جَاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ
يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1)
}
يقول تعالى ذكره : الشكر الكامل للمعبود الذي لا تصلح العبادة إلا له ، ولا ينبغي
أن تكون لغيره خالق السماوات السبع والأرض ، (جَاعِلِ الْمَلائِكَةَ رُسُلا) إلى
من يشاء من عباده ، وفيما شاء من أمره ونهيه(أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلاثَ
وَرُبَاعَ) يقول : أصحاب أجنحة يعني ملائكة ، فمنهم من له اثنان من الأجنحة ،
ومنهم من له ثلاثة أجنحة ، ومنهم من له أربعة.
كما حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة(أُولِي أَجْنِحَةٍ
مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ) قال : بعضهم له جناحان وبعضهم ثلاثة وبعضهم أربعة.
واختلف أهل العربية في علة ترك إجراء مثنى وثلاث ورباع ، وهي ترجمة عن أجنحة
وأجنحة نكرة ؛ فقال بعض نحويي البصرة : تُرك إجراؤهن لأنهن مصروفات عن وجوههن ،
وذلك أن مثنى مصروف عن اثنين وثلاث عن ثلاثة ورباع عن أربعة ، فصرف نظير عُمَرَ
وَزُفَرَ ، إذ صرف هذا عن عامر إلى عمر وهذا عن زافر إلى زفر ، وأنشد بعضهم في ذلك
:
(20/434)
مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (2)
وَلَقَدْ قَتَلْتُكُمْ ثُنَاءَ
وَمَوْحَدَا... وَتَركتُ مرَّةَ مِثْلَ أمسِ المُدبِرِ (1)
وقال آخر منهم : لم يصرف ذلك لأنه يوهم به الثلاثة والأربعة ، قال : وهذا لا
يستعمل إلا في حال العدد.
وقال بعض نحويي الكوفة : هن مصروفات عن المعارف ، لأن الألف واللام لا تدخلها ،
والإضافة لا تدخلها ، قال : ولو دخلتها الإضافة والألف واللام لكانت نكرة ، وهي
ترجمة عن النكرة ، قال : وكذلك ما كان في القرآن مثل(أَنْ تَقُومُوا للَّهِ
مَثْنَى وَفُرَادَى) وكذلك وحاد وأحاد ، وما أشبهه من مصروف العدد.
وقوله(يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ) وذلك زيادته تبارك وتعالى في خلق هذا
الملك من الأجنحة على الآخر ما يشاء ، ونقصانه عن الآخر ما أحب ، وكذلك ذلك في
جميع خلقه يزيد ما يشاء في خلق ما شاء منه ، وينقص ما شاء من خلق ما شاء ، له
الخلق والأمر وله القدرة والسلطان(إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) يقول
: إن الله تعالى ذكره قدير على زيادة ما شاء من ذلك فيما شاء ، ونقصان ما شاء منه
ممن شاء ، وغير ذلك من الأشياء كلها ، لا يمتنع عليه فعل شيء أراده سبحانه وتعالى.
القول في تأويل قوله تعالى : { مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا
مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ
الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (2) }
يقول تعالى ذكره : مفاتيح الخير ومغالقه كلها بيده ؛ فما يفتح الله للناس
__________
(1) البيت لصخر بن عمرو بن الشريد السلمي. وقد تقدم الاستشهاد به ، مع شواهد أخرى
في (4 : 337) من هذا التفسير فراجعه ثمة. وأنشده أبو عبيدة في مجاز القرآن (الورقة
201) قال : مثنى وثلاث ورباع : مجازه : اثنين ، وثلاثة ، وأربعة. فزعم النحويون
أنه لما صرف عن وجهه لم ينون فيهن. قال صخر بن عمرو : " ولقد قتلتكم .....
البيت " . ا . هـ.
(20/436)
يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (3)
من خير فلا مُغلق له ، ولا ممسك عنهم ،
لأن ذلك أمره لا يستطيع أمره أحد ، وكذلك ما يغلق من خير عنهم فلا يبسطه عليهم ولا
يفتحه لهم ، فلا فاتح له سواه ؛ لأن الأمور كلها إليه وله.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( مَا يَفْتَحِ اللَّهُ
لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ ) أي : من خير(فَلا مُمْسِكَ لَهَا) فلا يستطيع أحد
حبسها(وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ) وقال تعالى ذكره(فَلا
مُمْسِكَ لَهَا) فأنث ما لذكر الرحمة من بعده وقال(وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ
لَهُ مِنْ بَعْدِهِ) فذكر للفظ " ما " لأن لفظه لفظ مذكر ، ولو أنث في
موضع التذكير للمعنى وذكر في موضع التأنيث للفظ ، جاز ، ولكن الأفصح من الكلام
التأنيث إذا ظهر بعد ما يدل على تأنيثها والتذكير إذا لم يظهر ذلك.
وقوله(وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) يقول : وهو العزيز في نِقمته ممن انتقم منه
من خلقه بحبس رحمته عنه وخيراته ، الحكيم في تدبير خلقه وفتحه لهم الرحمة إذا كان
فتح ذلك صلاحًا ، وإمساكه إياه عنهم إذا كان إمساكه حكمة.
القول في تأويل قوله تعالى : { يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ
عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ
وَالأرْضِ لا إِلَهَ إِلا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (3) }
يقول تعالى ذكره للمشركين به من قوم رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم من
قريش : (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ) التي
أنعمها(عَلَيْكُمْ) بفتحه لكم من خيراته ما فتح وبسطه لكم من العيش ما بسط وفكروا
فانظروا هل من خالق سوى فاطر السماوات والأرض الذي بيده مفاتيح أرزاقكم
ومغالقها(يَرْزُقُكُمْ
(20/437)
مِنَ السَّمَاءِ وَالأرْضِ) فتعبدوه
دونه(لا إله إلاهو) يقول : لا معبود تنبغي له العبادة إلا الذي فطر السماوات
والأرض القادر على كل شيء ، الذي بيده مفاتح الأشياء وخزائنها ، ومغالق ذلك كله ،
فلا تعبدوا أيها الناس شيئًا سواه ، فإنه لا يقدر على نفعكم وضركم سواه ، فله
فأخلصوا العبادة وإياه فأفردوا بالألوهة(فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ) يقول : فأي وجه عن
خالقكم ورازقكم الذي بيده نفعكم وضركم تصرفون.
كما حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة قوله(فَأَنَّى
تُؤْفَكُونَ) يقول الرجل : إنه ليوفك عني كذا وكذا. وقد بينت معنى الإفك ، وتأويل
قوله(تُؤْفَكُونَ) فيما مضى بشواهده المغنية عن تكريره.
(20/438)
وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (4) يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (5)
القول في تأويل قوله تعالى : { وَإِنْ
يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ
الأمُورُ (4) يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ
الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (5) }
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم : وإن يكذبك يا محمد
هؤلاء المشركون بالله من قومك فلا يحزننك ذاك ، ولا يعظم عليك ، فإن ذلك سنة
أمثالهم من كفرة الأمم بالله ، من قبلهم وتكذيبهم رسل الله التي أرسلها إليهم من
قبلك ، ولن يعدو مشركو قومك أن يكونوا مثلهم ، فيتبعوا في تكذيبك منهاجهم ويسلكوا
سبيلهم(وَإِلَى اللَّهِ تُرْجعُ الأمُورُ) يقول تعالى ذكره : وإلى الله مرجع أمرك
وأمرهم ، فمُحِل بهم العقوبة ، إن هم لم ينيبوا إلى طاعتنا في اتباعك والإقرار
بنبوتك ، وقبول ما دعوتهم إليه من النصيحة ، نظير ما أحللنا بنظرائهم من الأمم
المكذبة رسلها قبلك ، ومنجيك وأتباعك من ذلك ، سنتنا بمن قبلك في رسلنا وأوليائنا.
(20/438)
إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ (6)
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل
التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ
فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ ) يعزي نبيه كما تسمعون.
وقوله( يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ ) يقول تعالى ذكره لمشركي
قريش المكذبي رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم : يا أيها الناس إن وعد
الله إياكم بأسه على إصراركم على الكفر به ، وتكذيب رسوله محمد صَلَّى الله
عَلَيْهِ وَسَلَّم ، وتحذيركم نزول سطوته بكم على ذلك ، حق ، فأيقنوا بذلك وبادروا
حلول عقوبتكم بالتوبة والإنابة إلى طاعة الله والإيمان به وبرسوله( فَلا
تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا ) يقول : فلا يغرنكم ما أنتم فيه من العيش
في هذه الدنيا ورياستكم التي تترأسون بها في ضعفائكم فيها عن اتباع محمد والإيمان(
وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ ) يقول : ولا يخدعنكم بالله الشيطان ،
فيمنيكم الأماني ، ويعدكم من الله العدات الكاذبة ، ويحملكم على الإصرار على كفركم
بالله.
كما حدثني علي قال : ثنا أَبو صالح قال : ثني معاوية عن علي عن ابن عباس في قوله(
وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ ) يقول : الشيطان.
القول في تأويل قوله تعالى : { إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ
عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ (6) }
يقول تعالى ذكره : (إِنَّ الشَّيْطَانَ) الذي نهيتكم أيها الناس أن تغتروا بغروره
إياكم بالله( لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا ) يقول : فأنزلوه من أنفسكم
منزلة العدو منكم واحذروه بطاعة الله واستغشاشكم إياه حذركم من عدوكم الذي تخافون
غائلته على أنفسكم ، فلا تطيعوه ولا تتبعوا خطواته ، فإنه إنما يدعو
(20/439)
الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (7)
حزبه ، ينعي شيعته ومن أطاعه ، إلى
طاعته والقبول منه ، والكفر بالله( لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ ) يقول
: ليكونوا من المخلدين في نار جهنم التي تتوقد على أهلها.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة قوله( إِنَّ الشَّيْطَانَ
لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا ) فإنه لحق على كل مسلم عداوته ، وعداوته
أن يعاديه بطاعة الله(إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ) وحزبه : أولياؤه( لِيَكُونُوا
مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ ) أي : ليسوقهم إلى النار فهذه عداوته.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله( إِنَّمَا يَدْعُو
حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ ) وقال : هؤلاء حزبه من الإنس ،
يقول : أولئك حزب الشيطان ، والحزب : ولاته الذين يتولاهم ويتولونه وقرأ( إِنَّ
وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نزلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ ).
القول في تأويل قوله تعالى : { الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ
(7) }
يقول تعالى ذكره : (الَّذِينَ كَفَرُوا) بالله ورسوله(لَهُمْ عَذَابٌ) من
الله(شَدِيدٌ) وذلك عذاب النار. وقوله(وَالَّذِينَ آمَنُوا) يقول : والذين صدقوا
الله ورسوله ، وعملوا بما أمرهم الله وانتهوا عما نهاهم عنه(لَهُمْ مَغْفِرَةٌ) من
الله لذنوبهم(وَأَجْرٌ كَبِيرٌ) وذلك الجنة.
كما حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة(لَهُمْ مَغْفِرَةٌ
وَأَجْرٌ كَبِيرٌ) وهي الجنة.
(20/440)
أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآَهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (8)
القول في تأويل قوله تعالى : { أَفَمَنْ
زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ
يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ
إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (8) }
يقول تعالى ذكره : أفمن حسَّن له الشيطان أعماله السيئة من معاصي الله والكفر به ،
وعبادة ما دونه من الآلهة والأوثان ، فرآه حسنًا فحسب سيىء ذلك حسنًا ، وظن أن
قبحه جميل ، لتزيين الشيطان ذلك له. ذهبت نفسك عليهم حسرات ، وحذف من الكلام :
ذهبت نفسك عليهم حسرات اكتفاء بدلالة قوله(فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ)
منه ، وقوله(فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ) يقول :
فإن الله يخذل من يشاء عن الإيمان به واتباعك وتصديقك ، فيضله عن الرشاد إلى الحق
في ذلك ، ويهدي من يشاء ، يقول : ويوفق من يشاء للإيمان به واتباعك والقبول منك ،
فتهديه إلى سبيل الرشاد( فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ ) يقول :
فلا تهلك نفسك حزنًا على ضلالتهم وكفرهم بالله وتكذيبهم لك.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ
سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي
مَنْ يَشَاءُ ) قال قتادة والحسن : الشيطان زيَّن لهم( فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ
عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ ) أي : لا يحزنك ذلك عليهم ؛ فإن الله يضل من يشاء ويهدي من
يشاء.
حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قول الله( فَلا
تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ ) قال : الحسرات الحزن ، وقرأ قول الله(
يَاحَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ ) ووقع قوله( فَإِنَّ
اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ
(20/441)
وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ النُّشُورُ (9)
وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ ) موضع الجواب
، وإنما هو منبع الجواب ، لأن الجواب هو المتروك الذي ذكرت ، فاكتفى به من الجواب
لدلالته على الجواب ومعنى الكلام.
واختلفت القراء في قراءة قوله( فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ )
فقرأته قراء الأمصار سوى أَبي جعفر المدني(فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ) بفتح التاء من
" تذهب " و " نفسك " برفعها. وقرأ ذلك أَبو جعفر(فَلا تُذْهِبَ)
بضم التاء من " تذهب " و " نفسك " بنصبها ، بمعنى : لا تذهب
أنت يا محمد نفسك.
والصواب من القراءة في ذلك عندنا ما عليه قراء الأمصار ؛ لإجماع الحجة من القراء
عليه.
وقوله( إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ ) يقول تعالى ذكره : إن الله يا
محمد ذو علم بما يصنع هؤلاء الذين زين لهم الشيطان سوء أعمالهم ، وهو محصيه عليهم
، ومجازيهم به جزاءهم.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ
سَحَابًا فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ
مَوْتِهَا كَذَلِكَ النُّشُورُ (9) }
يقول تعالى ذكره : والله الذي أرسل الرياح فتثير السحاب للحيا والغيث( فَسُقْنَاهُ
إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ ) يقول : فسقناه إلى بلد مجدب الأهل ، محل الأرض ، داثر لا
نيت فيه ولا زرع( فَأَحْيَيْنَا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا ) يقول : فأخصبنا
بغيث ذلك السحاب الأرض التي سقناه إليها بعد جدوبها ، وأنبتنا فيها الزرع بعد
المحل(كَذَلِكَ النُّشُورُ) يقول تعالى ذكره : هكذا يُنْشِر الله الموتى بعد
بلائهم في قبورهم ، فيحييهم بعد فنائهم ، كما أحيينا هذه الأرض بالغيث بعد مماتها.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*
(20/442)
مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولَئِكَ هُوَ يَبُورُ (10)
ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن بشار قال : ثنا عبد الرحمن قال : ثنا سفيان عن سلمة بن كهيل قال : ثنا
أَبو الزعراء عن عبد الله قال : يكون بين النفختين ما شاء الله أن يكون ، فليس من
بني آدم إلا وفي الأرض منه شيء ، قال : فيرسل الله ماءً من تحت العرش ؛ منيًّا
كمني الرجل ، فتنبت أجسادهم ولحمانهم من ذلك ، كما تنبت الأرض من الثرى ، ثم قرأ(
وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ إِلَى
بَلَدٍ مَيِّتٍ ...) إلى قوله(كَذَلِكَ النُّشُورُ) قال : ثم يقوم ملك بالصور بين
السماء والأرض ، فينفخ فيه فتنطلق كل نفس إلى جسدها فتدخل فيه.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة قوله( وَاللَّهُ الَّذِي
أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا ) قال : يرسل الرياح فتسوق السحاب ، فأحيا
الله به هذه الأرض الميتة بهذا الماء ، فكذلك يبعثه يوم القيامة.
القول في تأويل قوله تعالى : { مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ
الْعِزَّةُ جَمِيعًا إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ
الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ
شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولَئِكَ هُوَ يَبُورُ (10) }
اختلف أهل التأويل في معنى قوله ( مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ
الْعِزَّةُ جَمِيعًا ) فقال بعضهم : معنى ذلك : من كان يريد العزة بعبادة الآلهة
والأوثان فإن العزة لله جميعًا.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن عمرو ، قال : ثنا أَبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال
: ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أَبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله(
مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ ) يقول : من كان يريد العزة بعبادته
(20/443)
الآلهة(فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ
جَمِيعًا).
وقال آخرون : معنى ذلك من كان يريد العزة فليتعزز بطاعة الله.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة قوله( مَنْ كَانَ يُرِيدُ
الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا ) يقول : فليتعزز بطاعة الله.
وقال آخرون : بل معنى ذلك : من كان يريد علم العزة لمن هي ، فإنه لله جميعًا كلها
أي : كل وجه من العزة فلله.
والذي هو أولى الأقوال بالصواب عندي قول من قال : من كان يريد العزة فبالله
فليتعزز ، فلله العزة جميعًا ، دون كل ما دونه من الآلهة والأوثان.
وإنما قلت : ذلك أولى بالصواب لأن الآيات التي قبل هذه الآية ، جرت بتقريع الله
المشركين على عبادتهم الأوثان ، وتوبيخه إياهم ، ووعيده لهم عليها ، فأولى بهذه
أيضًا أن تكون من جنس الحث على فراق ذلك ، فكانت قصتها شبيهة بقصتها ، وكانت في
سياقها.
وقوله( إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ ) يقول تعالى ذكره : إلى الله يصعد
ذكر العبد إياه وثناؤه عليه(وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ) يقول : ويرفع ذكر
العبد ربه إليه عمله الصالح ، وهو العمل بطاعته ، وأداء فرائضه والانتهاء إلى ما
أمر به.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن إسماعيل الأحمسي قال : أخبرني جعفر بن عون عن عبد الرحمن بن عبد
الله المسعودي عن عبد الله بن المخارق عن أبيه المخارق بن سليم قال : قال لنا عبد
الله : إذا حدثناكم بحديث أتيناكم بتصديق ذلك من كتاب الله ، إن العبد المسلم إذا
قال : سبحان الله وبحمده ، الحمد لله لا إله إلا الله ،
(20/444)
والله أكبر ، تبارك الله ، أخذهن ملك
فجعلهن تحت جناحيه ثم صعد بهن إلى السماء ، فلا يمر بهن على جمع من الملائكة إلا
استغفروا لقائلهن حتى يحيي بهن وجه الرحمن ، ثم قرأ عبد الله( وَالْعَمَلُ
الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ ).
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : ثنا ابن عُلية ، قال : أخبرنا سعيد الجريري عن عبد
الله بن شقيق قال : قال كعب : إن لسبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله
أكبر ، لدويًّا حول العرش كدوي النحل يذكرن بصاحبهن والعمل الصالح في الخزائن.
حدثني يونس ، قال : ثنا سفيان عن ليث بن أبي سليم عن شهر بن حوشب الأشعري
قوله(إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيْبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ)
قال : العمل الصالح يرفع الكلم الطيب.
حدثني علي ، ثنا أَبو صالح قال : ثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس قوله(إِلَيْهِ
يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيْبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ) قال : الكلام
الطيب : ذكر الله ، والعمل الصالح : أداء فرائضه ، فمن ذكر الله سبحانه في أداء
فرائضه حمل عليه ذكر الله فصعد به إلى الله ، ومن ذكر الله ، ولم يؤد فرائضه رد
كلامه على عمله فكان أولى به.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أَبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال
: ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أَبي نجيح ، عن مجاهد قوله(إِلَيْهِ
يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيْبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ) قال : العمل
الصالح يرفع الكلام الطيب.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة قوله(إِلَيْهِ يَصْعَدُ
الْكَلِمُ الطَّيْبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ) قال : قال الحسن وقتادة :
لا يقبل الله قولا إلا بعمل ، من قال وأحسن العمل قبل الله منه.
وقوله(وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ) يقول تعالى ذكره : والذين يكسبون
(20/445)
وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجًا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (11)
السيئات لهم عذاب جهنم.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثني سعيد ، عن قتادة قوله( وَالَّذِينَ
يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ ) قال : هؤلاء أهل الشرك.
وقوله(وَمَكْرُ أُولَئِكَ هُوَ يَبُورُ) يقول : وعمل هؤلاء المشركين يبور ، فيبطل
فيذهب ؛ لأنه لم يكن لله ، فلم ينفع عامله.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة(وَمَكْرُ أُولَئِكَ هُوَ
يَبُورُ) أى : يفسد.
حدثني يونس قال : أخبرنا سفيان عن ليث بن أبي سليم عن شهر بن حوشب(وَمَكْرُ
أُولَئِكَ هُوَ يَبُورُ) قال : هم أصحاب الرياء.
حدثني محمد بن عمارة قال : ثنا سهل بن أبي عامر قال : ثنا جعفر الأحمر عن شهر بن
حوشب في قوله(وَمَكْرُ أُولَئِكَ هُوَ يَبُورُ) قال : هم أصحاب الرياء.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله(وَمَكْرُ
أُولَئِكَ هُوَ يَبُورُ) قال : بار فلم ينفعهم ولم ينتفعوا به ، وضرهم.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ
نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجًا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلا تَضَعُ
إِلا بِعِلْمِهِ وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلا
فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ
(20/446)
يَسِيرٌ (11) }
يقول تعالى ذكره : (وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ) أيها الناس(مِنْ تُرَابٍ) يعني بذلك أنه
خلق أباهم آدم من تراب ؛ فجعل خلق أبيهم منه لهم خلقًا(ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ) يقول
: ثم خلقكم من نطفة الرجل والمرأة(ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجًا) يعني أنه زوج منهم
الأنثى من الذكر.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة(وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ
مِنْ تُرَابٍ) يعني آدم(ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ) يعني ذريته(ثُمَّ جَعَلَكُمْ
أَزْوَاجًا) فزوج بعضكم بعضًا.
وقوله( وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلا تَضَعُ إِلا بِعِلْمِهِ ) يقول تعالى
ذكره : وما تحمل من أنثى منكم أيها الناس من حمل ولا نطفة إلا وهو عالم بحملها
إياه ووضعها وما هو ؟ ذكر أو أنثى ؟ لا يخفى عليه شيء من ذلك.
وقوله( وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلا فِي
كِتَابٍ ) اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك ؛ فقال بعضهم : معناه : وما يعمر من
معمر فيطول عمره ، ولا ينقص من عمر آخر غيره عن عمر هذا الذي عمر عمرًا طويلا(إِلا
فِي كِتَابٍ) عنده مكتوب قبل أن تحمل به أمه ، وقبل أن تضعه ، قد أحصى ذلك كله
وعلمه قبل أن يخلقه ، لا يزاد فيما كتب له ولا ينقص.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثنى أبي ، عن أبيه ،
عن ابن عباس قوله(وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ ...) إلى(يَسِير) يقول : ليس أحد
قضيت له طول العمر والحياة إلا وهو بالغ ما قدرت له من
(20/447)
العمر ، وقد قضيت ذلك له ، وإنما ينتهي
إلى الكتاب الذي قدرت له لا يزاد عليه ، وليس أحد قضيت له أنه قصير إلعمر والحياة
ببالغ العمر ، ولكن ينتهي إلى الكتاب الذي قدرت له لا يزاد عليه فذلك قوله ( وَلا
يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلا فِي كِتَابٍ ) يقول : كل ذلك في كتاب عنده.
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : من قضيت له أن يعمر حتى يدركه الكبر
، أو يعمر أنقص من ذلك ، فكل بالغ أجله الذي قد قضى له ، كل ذلك في كتاب.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله( وَمَا
يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلا فِي كِتَابٍ ) قال :
ألا ترى الناس ؛ الإنسان يعيش مائة سنة ، وآخر يموت حين يولد ؟ فهذا هذا ، فالهاء
التي في قوله(ولا يُنْقَصُ مِنْ عُمْرِهِ) على هذا التأويل ، وإن كانت في الظاهر
أنها كناية عن اسم المعمر الأول ، فهي كناية اسم آخر غيره ، وإنما حسن ذلك لأن
صاحبها لو أظهر لظهر بلفظ الأول ، وذلك كقولهم : عندي ثوب ونصفه ، والمعنى : ونصف
الآخر.
وقال آخرون : بل معنى ذلك : وما يعمر من معمَّر ولا ينقص من عمره بفناء ما فني من
أيام حياته ، فذلك هو نقصان عمره ، والهاء على هذا التأويل للمعمر الأول ، لأن
معنى الكلام : ما يطول عمر أحد ، ولا يذهب من عمره شيء ، فيُنقَص إلا وهو في كتاب
عند الله مكتوب ، قد أحصاه وعلمه.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني أَبو حصين عبد الله بن أحمد بن يونس قال : ثنا عبثر قال : ثنا حصين عن أَبي
مالك في هذه الآية( وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ
إِلا فِي كِتَابٍ ) قال : ما يقضي من أيامه التي عددت له إلا في كتاب.
وأولى التأويلين في ذلك عندي الصواب التأويل الأول ، وذلك أن ذلك
(20/448)
هو أظهر معنييه ، وأشبههما بظاهر
التنزيل.
وقوله(إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ) يقول تعالى ذكره : إن إحصاء أعمار خلقه
عليه يسير سهل ، طويل ذلك وقصيره ، لا يتعذر عليه شيء منه.
(20/449)
وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (12)
القول في تأويل قوله تعالى : { وَمَا
يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ
أُجَاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً
تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ
وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (12) }
يقول تعالى ذكره : وما يعتدل البحران فيستويان ؛ أحدهما عذب فرات ، والفرات : هو
أعذب العذب ، وهذا ملح أجاج يقول : والآخر منهما ملح أجاج وذلك هو ماء البحر
الأخضر ، والأجاج : المر وهو أشد المياه ملوحة.
كما حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة قوله(وهَذَا مِلْحٌ
أُجَاجٌ) والأجاج : المر.
وقوله( وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا ) يقول : ومن كل البحار تأكلون
لحمًا طريًّا ، وذلك السمك من عذبهما الفرات وملحهما الأجاج(وَتَسْتَخْرِجُونَ
حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا) يعني : الدر والمرجان تستخرجونها من الملح الأجاج ، وقد
بيَّنا قبل وجه(تَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً) وإنما يستخرج من الملح ، فيما مضى بما
أغنى عن إعادته.(وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ) يقول تعالى ذكره : وترى السفن
في كل تلك البحار مواخر تمخر الماء بصدورها ، وذلك خرقها إياه إذا مرت واحدتها
ماخرة ، يقال منه : مَخَرت تَمْخُر وتمخَر مخرًا ، وذلك إذا شقت الماء بصدورها.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل
(20/449)
يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ (13)
.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة قوله(وَمِنْ كُلٍّ
تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا) أي : منهما جميعًا(وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً
تَلْبَسُونَهَا) هذا اللؤلؤ(وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ) فيه السفن مقبلة
ومدبرة بريح واحدة.
حدثنا علي قال : ثنا أَبو صالح قال : ثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس
قوله(وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ) يقول : جواريَ.
وقوله(لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ) يقول : لتطلبوا بركوبكم في هذه البحار في الفلك
من معايشكم ، ولتتصرفوا فيها في تجاراتكم ، وتشكروا الله على تسخيره ذلك لكم ، وما
رزقكم منه من طيبات الرزق وفاخر الحلي.
القول في تأويل قوله تعالى : { يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ
النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأجَلٍ
مُسَمًّى ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ
دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ (13) }
يقول تعالى ذكره : يدخل الليل في النهار وذلك ما نقص من الليل أدخله في النهار
فزاده فيه ، ويولج النهار في الليل وذلك ما نقص من أجزاء النهار زاد في أجزاء
الليل فأدخله فيها.
كما حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة قوله(يُولِجُ
اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ) زيادة هذا فى نقصان
هذا ، ونقصان هذا في زيادة هذا.
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ،
عن ابن عباس قوله( يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي
اللَّيْلِ ) يقول : هو انتقاص أحدهما من الآخر.
(20/450)
وقوله( وَسَخَّرَ الشَّمْسَ
وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأجَلٍ مُسَمًّى ) يقول : وأجرى لكم الشمس والقمر نعمة
منه عليكم ، ورحمة منه بكم ؛ لتعلموا عدد السنين والحساب ، وتعرفوا الليل من
النهار.
وقوله(كُلٌّ يَجْرِي لأجَلٍ مُسَمًى) يقول : كل ذلك يجري لوقت معلوم.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة قوله( وَسَخَّرَ
الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأجَلٍ مُسَمًّى ) أجل معلوم ، وحد لا يقصر
دونه ولا يتعداه.
وقوله(ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ) يقول : الذي يفعل هذه الأفعال معبودكم أيها
الناس الذي لا تصلح العبادة إلا له ، وهو الله ربكم.
كما حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة قوله(ذَلِكُمُ
اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ) أي : هو الذي يفعل هذا.
وقوله(لَهُ الْمُلْكَ) يقول تعالى ذكره : له الملك التام الذي لا شىء إلا وهو في
ملكه وسلطانه.
وقوله( وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ ) يقول
تعالى ذكره : والذين تعبدون أيها الناس من دون ربكم الذي هذه الصفة التي ذكرها في
هذه الآيات الذي له الملك الكامل ، الذي لا يشبهه ملك ، صفته(مَا يَمْلِكُونَ مِنْ
قِطْمِيرٍ) يقول : ما يملكون قشر نواة فما فوقها.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قلنا أهل التأويل
(20/451)
إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ (14)
.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني يعقوب قال : ثنا هشيم قال : أخبرنا عوف عمن حدثه عن ابن عباس في قوله(مَا
يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ) قال : هو جلد النواة.
حدثني علي قال : ثنا أَبو صالح قال : ثني معاوية عن علي عن ابن عباس قوله(مِنْ
قِطْمِيرٍ) يقول : الجلد الذي يكون على ظهر النواة.
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثنى أبي ، عن أبيه ،
عن ابن عباس قوله(مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ) يعني : قشر النواة.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أَبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال
: ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أَبي نجيح ، عن مجاهد في قول
الله(مِنْ قِطْمِيرٍ) قال : لفافة النواة كسحاة البيضة.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة في قوله(مَا يَمْلِكُونَ
مِنْ قِطْمِيرٍ) والقطمير : القشرة التي على رأس النواة.
حدثنا عمرو بن عبد الحميد قال : ثنا مروان بن معاوية ، عن جويبر عن بعض أصحابه في
قوله(مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ) قال : هو القِمَع الذي يكون على التمرة.
حدثنا ابن بشار قال : ثنا أبو عامر قال : ثنا مرة عن عطية قال : القطمير : قشر
النواة.
القول في تأويل قوله تعالى : { إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ
سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ
وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ (14) }
قوله( إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا
اسْتَجَابُوا لَكُمْ )
(20/452)
يقول تعالى ذكره : إن تدعوا أيها الناس
هؤلاء الآلهة التي تعبدونها من دون الله لا يسمعوا دعاءكم ؛ لأنها جماد لا تفهم
عنكم ما تقولون( وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ ) يقول : ولو سمعوا
دعاءكم إياهم ، وفهموا عنكم أنها قولكم ، بأن جعل لهم سمع يسمعون به ، ما استجابوا
لكم ؛ لأنها ليست ناطقة ، وليس كل سامع قولا متيسرًا له الجواب عنه ، يقول تعالى
ذكره للمشركين به الآلهة والأوثان : فكيف تعبدون من دون الله من هذه صفته ، وهو لا
نفع لكم عنده ، ولا قدرة له على ضركم ، وتدعون عبادة الذي بيده نفعكم وضركم ، وهو
الذي خلقكم وأنعم عليكم.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة قوله( إِنْ تَدْعُوهُمْ
لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ ) أي : ما
قبلوا ذلك عنكم ، ولا نفعوكم فيه.
وقوله( وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ ) يقول تعالى ذكره
للمشركين من عبدة الأوثان : ويوم القيامة تتبرأ آلهتكم التي تعبدونها من دون الله
من أن تكون كانت لله شريكًا في الدنيا.
كما حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( وَيَوْمَ
الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ ) إياهم ولا يرضون ولا يقرون به.
وقوله(وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ) يقول تعالى ذكره : ولا يخبرك يا محمد عن
آلهة هؤلاء المشركين وما يكون من أمرها وأمر عَبَدَتها يوم القيامة ؛ من تبرؤها
منهم ، وكفرها بهم ، مثل ذي خبرة بأمرها وأمرهم ، وذلك الخبير هو الله الذي لا
يخفى عليه شيء كان أو يكون سبحانه.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل
(20/453)
يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (15) إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (16) وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ (17) وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (18)
.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة قوله( وَلا يُنَبِّئُكَ
مِثْلُ خَبِيرٍ ) والله هو الخبير أنه سيكون هذا منهم يوم القيامة.
القول في تأويل قوله تعالى : { يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى
اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (15) }
يقول تعالى ذكره : يا أيها الناس أنتم أولو الحاجة والفقر إلى ربكم فإياه فاعبدوا
، وفي رضاه فسارعوا ، يغنكم من فقركم ، وتُنْجِح لديه حوائجكم(وَاللَّهُ هُوَ
الْغَنِيُّ) عن عبادتكم إياه وعن خدمتكم ، وعن غير ذلك من الأشياء ؛ منكم ومن
غيركم(الْحَمِيدُ) يعني : المحمود على نعمه ؛ فإن كل نعمة بكم وبغيركم فمنه ، فله
الحمد والشكر بكل حال.
القول في تأويل قوله تعالى : { إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ
جَدِيدٍ (16) وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ (17) وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ
وِزْرَ أُخْرَى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لا يُحْمَلْ مِنْهُ
شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ
رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّمَا
يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (18) }
يقول تعالى ذكره : إن يشأ يهلككم أيها الناس ربكم ، لأنه أنشأكم من غير ما حاجة به
إليكم(وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ) يقول : ويأت بخلق سواكم يطيعونه ويأتمرون لأمره
وينتهون عمَّا نهاهم عنه.
كما حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة قوله( إِنْ يَشَأْ
يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ ) أي : ويأت بغيركم.
(20/454)
وقوله(وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ
بِعَزِيزٍ) يقول : وما إذهابكم والإتيان بخلق سواكم على الله بشديد ، بل ذلك عليه
يسير سهل ، يقول : فاتقوا الله أيها الناس ، وأطيعوه قبل أن يفعل بكم ذلك.
وقوله( وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ) يقول تعالى ذكره : ولا تحمل آثمة
إثم أخرى غيرها(وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لا يُحْمَلْ مِنْهُ
شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى ) يقول تعالى : وإن تسأل ذاتُ ثِقَل من الذنوب من
يحمل عنها ذنوبها وتطلب ذلك لم تجد من يحمل عنها شيئًا منها ولو كان الذي سألته ذا
قرابة من أب أو أخ.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ،
عن ابن عباس قوله( وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ
إِلَى حِمْلِهَا لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى ) يقول :
يكون عليه وزر لا يجد أحدًا يحمل عنه من وزره شيئًا.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أَبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال
: ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أَبي نجيح ، عن مجاهد( وَإِنْ
تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ ) كنحو(لا تَزِرُ
وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى).
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة(وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ
إِلَى حِمْلِهَا) إلى ذنوبها(لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى
) أي : قريب القرابة منها ، لايحمل من ذنوبها شيئًا ، ولا تحمل على غيرها من
ذنوبها شيئا(وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى) ، ونصب " ذَا قُرْبَى
" على تمام " كان " لأن معنى الكلام : ولو كان الذي تسأله أن يحمل
عنها ذنوبها ذا قربى لها. وأنثت
(20/455)
" مثقلة " لأنه ذهب بالكلام
إلى النفس ، كأنه قيل : وإن تدع نفس مثقلة من الذنوب إلى حمل ذنوبها ، وإنما قيل
كذلك لأن النفس تؤدي عن الذكر والأنثى كما قيل : (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ
الْمَوْتِ) يعني بذلك : كل ذكر وأنثى.
وقوله( إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ ) يقول
تعالى ذكره لنبيه محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم : إنما تنذر يا محمد الذين
يخافون عقاب الله يوم القيامة من غير معاينة منهم لذلك ، ولكن لإيمانهم بما أتيتهم
به ، وتصديقهم لك فيما أنباتهم عن الله ، فهؤلاء الذين ينفعهم إنذارك ويتعظون
بمواعظك ، لا الذين طبع الله على قلوبهم فهم لا يفقهون.
كما حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة قول : ( إِنَّمَا
تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ ) أي : يخشون النار.
وقوله(وَأَقَامُوا الصَّلاةَ) يقول : وأدوا الصلاة المفروضة بحدودها على ما فرضها
الله عليهم.
وقوله(وَمَنْ تَزَكَّى فإِنَّمَا يَتَزكَّى لِنَفْسِهِ) يقول تعالى ذكره : ومن
يتطهر من دنس الكفر والذنوب بالتوبة إلى الله ، والإيمان به ، والعمل بطاعته.
فإنما يتطهر لنفسه ، وذلك أنه يثيبها به رضا الله ، والفوز بجنانه ، والنجاة من
عقابه الذي أعده لأهل الكفر به.
كما حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة قوله( وَمَنْ
تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ ) أي : من يعمل صالحًا فإنما يعمله
لنفسه.
وقوله(وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ) يقول : وإلى الله مصير كل عامل منكم أيها الناس
، مؤمنكم وكافركم ، وبركم وفاجركم ، وهو مجازٍ جميعكم بما قدم من خير وشر على ما
أهل منه.
(20/456)
وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ (19) وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ (20) وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ (21)
القول في تأويل قوله تعالى : { وَمَا يَسْتَوِي الأعْمَى وَالْبَصِيرُ (19) وَلا الظُّلُمَاتُ وَلا النُّورُ (20) وَلا الظِّلُّ وَلا الْحَرُورُ (21) وَمَا يَسْتَوِي
(20/456)
وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ (22) إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ (23)
الأحْيَاءُ وَلا الأمْوَاتُ إِنَّ
اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ (22)
إِنْ أَنْتَ إِلا نَذِيرٌ (23) }
يقول تعالى ذكره : (وَمَا يَسْتَوِي الأعْمَى) عن دين الله الذي ابتعث به نبيه
محمدا صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم(وَالْبَصِيرُ) الذي قد أبصر فيه رشده ؛ فاتبع
محمدًا وصدقه ، وقبل عن الله ما ابتعثه به(وَلا الظُّلُمَاتُ) يقول : وما تستوي
ظلمات الكفر ونور الإيمان(وَلا الظِّلُّ) قيل : ولا الجنة(وَلا الْحَرُورُ) قيل :
النار ، كأن معناه عندهم : وما تستوي الجنة والنار ، والحرور بمنزلة السموم ، وهي
الرياح الحارة. وذكر أَبو عبيدة معمر بن المثنى ، عن رؤبة بن العجاج ، أنه كان
يقول : الحرور بالليل والسموم بالنهار. وأما أَبو عبيدة فإنه قال : الحرور في هذا
الموضع والنهار مع الشمس ، وأما الفراء فإنه كان يقول : الحرور يكون بالليل
والنهار ، والسموم لا يكون بالليل إنما يكون بالنهار.
والقول في ذلك عندى : أن الحرور يكون بالليل والنهار ، غير أنه في هذا الموضع بأن
يكون كما قال أَبو عبيدة : أشبه مع الشمس لأن الظل إنما يكون في يوم شمس ، فذلك
يدل على أنه أريد بالحرور : الذي يوجد في حال وجود الظل.
وقوله( وَمَا يَسْتَوِي الأحْيَاءُ وَلا الأمْوَاتُ ) يقول : وما يستوي الأحياء
القلوب بالإيمان بالله ورسوله ، ومعرفة تنزيل الله ، والأموات القلوب لغلبة الكفر
عليها ، حتى صارت لا تعقل عن الله أمره ونهيه ، ولا تعرف الهدى من الضلال ، وكل
هذه أمثال ضربها الله للمؤمن والإيمان والكافر والكفر.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني
(20/457)
أَبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله(
وَمَا يَسْتَوِي الأعْمَى وَالْبَصِيرُ ...) الآية ، قال : هو مثل ضربه الله لأهل
الطاعة وأهل المعصية ؛ يقول : وما يستوي الأعمى والظلمات والحرور ولا الأموات ،
فهو مثل أهل المعصية ، ولا يستوي البصير ولا النور ولا الظل والأحياء ، فهو مثل
أهل الطاعة.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة قوله( وَمَا يَسْتَوِي
الأعْمَى ...) الآية ، خلقًا فضل بعضه على بعض ؛ فأما المؤمن فعبد حي الأثر ، حي
البصر ، حي النية ، حي العمل ، وأما الكافر فعبد ميت ؛ ميت البصر ، ميت القلب ،
ميت العمل.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله( وَمَا
يَسْتَوِي الأعْمَى وَالْبَصِيرُ وَلا الظُّلُمَاتُ وَلا النُّورُوَلا الظِّلُّ
وَلا الْحَرُورُ وَمَا يَسْتَوِي الأحْيَاءُ وَلا الأمْوَاتُ ) قال : هذا مثل ضربه
الله ؛ فالمؤمن بصير في دين الله ، والكافر أعمى ، كما لا يستوي الظل ولا الحرور
ولا الأحياء ولا الأموات ، فكذلك لا يستوي هذا المؤمن الذي يبصر دينه ولا هذا
الأعمى ، وقرأ( أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا
يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ ) قال : الهدى الذي هداه الله به ونور له ، هذا مثل
ضربه الله لهذا المؤمن الذي يبصر دينه ، وهذا الكافر الأعمى فجعل المؤمن حيًّا
وجعل الكافر ميتًا ميت القلب( أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ ) قال :
هديناه إلى الإسلام كمن مثله في الظلمات أعمى القلب وهو في الظلمات ، أهذا وهذا
سواء ؟.
واختلف أهل العربية في وجه دخول " لا " مع حرف العطف في قوله( وَلا
الظُّلُمَاتُ وَلا النُّورُ وَلا الظِّلُّ وَلا الْحَرُورُ ) فقال بعض نحويي
البصرة : قال : ولا الظل ولا الحرور ، فيشبه أن تكون " لا " زائدة ،
لأنك لو قلت : لا يستوي عمرو ولا زيد في هذا المعنى لم يجز إلا أن تكون " لا
" زائدة ، وكان غيره يقول : إذا لم تدخل " لا " مع الواو ، فإنما
لم تدخل اكتفاء بدخولها في أول الكلام ، فإذا أدخلت فإنه يراد بالكلام أن كل واحد
منهما لا يساوي صاحبه ،
(20/458)
إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ (24) وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتَابِ الْمُنِيرِ (25) ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (26)
فكان معنى الكلام إذا أعيدت " لا "
مع الواو عند صاحب هذا القول لا يساوي الأعمى البصير ولا يساوي البصير الأعمى ،
فكل واحد منهما لا يساوي صاحبه.
وقوله( إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي
الْقُبُورِ ) يقول تعالى ذكره : كما لا يقدر أن يسمع من في القبور كتاب الله
فيهديهم به إلى سبيل الرشاد ، فكذلك لا يقدر أن ينفع بمواعظ الله وبيان حججه من
كان ميت القلب من أحياء عباده ، عن معرفة الله ، وفهم كتابه وتنزيله ، وواضح حججه.
كما حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( إِنَّ اللَّهَ
يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ ) كذلك الكافر
لا يسمع ، ولا ينتفع بما يسمع.
وقوله(إِنْ أَنْتَ إِلا نَذِيرٌ) يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ
وَسَلَّم : ما أنت إلا نذير تنذر هؤلاء المشركين بالله الذين طبع الله على قلوبهم
، ولم يرسلك ربك إليهم إلا لتبلغهم رسالته ، ولم يكلفك من الأمر ما لا سبيل لك
إليه ، فأما اهتداؤهم وقبولهم منك ما جئتهم به فإن ذلك بيد الله لا بيدك ولا بيد
غيرك من الناس ؛ فلا تذهب نفسك عليهم حسرات إن هم لم يستجيبوا لك.
القول في تأويل قوله تعالى : { إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا
وَنَذِيرًا وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلا خَلا فِيهَا نَذِيرٌ (24) وَإِنْ
يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ
بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتَابِ الْمُنِيرِ (25) ثُمَّ أَخَذْتُ
الَّذِينَ كَفَرُوا فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (26) }
يقول جل ثناؤه لنبيه محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم : (إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ)
يا محمد
(20/459)
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ (27) وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ (28)
(بِالْحَقِّ) وهو الإيمان بالله وشرائع
الدين التي افترضها على عباده(بَشِيرًا) يقول : مبشرًا بالجنة من صدقك وقبل منك ما
جئت به من عند الله من النصيحة(وَنَذِيرًا) تنذر الناس مَن كذبك ورد عليك ما جئت
به من عند الله من النصيحة( وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلا خَلا فِيهَا نَذِيرٌ ) يقول
: وما من أمة من الأمم الدائنة بملة إلا خلا فيها من قبلك نذير ينذرهم بأسنا على
كفرهم بالله.
كما حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ
إِلا خَلا فِيهَا نَذِيرٌ ) كل أمة كان لها رسول.
وقوله( وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ) يقول
تعالى ذكره مسليًا نبيه صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم فيما يلقى من مشركي قومه من
التكذيب : وإن يكذبك يا محمد مشركو قومك فقد كذب الذين من قبلهم من الأمم الذين
جاءتهم رسلهم بالبينات ، يقول : بحجج من الله واضحة ، وبالزبر يقول : وجاءتهم
بالكتب من عند الله.
كما حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة قوله(بِالْبَيِّنَاتِ
وَبِالزُّبُرِ) أي : الكتب.
وقوله(بِالْكِتَابِ الْمُنِيرِ) يقول : وجاءهم من الله الكتاب المنير لمن تأمله
وتدبره أنه الحق.
كما حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة قوله(وَبِالْكِتَابِ
الْمُنِيرِ) يضعف الشيء وهو واحد.
وقوله( ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ ) يقول تعالى
ذكره : ثم أهلكنا الذين جحدوا رسالة رسلنا ، وحقيقة ما دعوهم إليه من آياتنا وأصروا
على جحودهم(فَكَيْفَ كَانَ نَكِير) يقول : فانظر يا محمد كيف كان تغييري بهم وحلول
عقوبتي بهم.
القول في تأويل قوله تعالى : { أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزلَ مِنَ السَّمَاءِ
(20/460)
مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ
مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ
أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ (27) وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالأنْعَامِ
مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ
الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ (28) }
يقول تعالى ذكره : ألم تر يا محمد أن الله أنزل من السماء غيثًا فأخرجنا به ثمرات
مختلفًا ألوانها : يقول : فسقيناه أشجارًا في الأرض فأخرجنا به من تلك الأشجار
ثمرات مختلفا ألوانها ؛ منها الأحمر ومنها الأسود والأصفر ، وغير ذلك من ألوانها(
وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ ) يقول تعالى ذكره : ومن الجبال طرائق ،
وهي الجدد ، وهي الخطط تكون في الجبال بيض وحمر وسود ، كالطرق واحدتها جدة ، ومنه
قول امرىء القيس في صفة حمار :
كأنَّ سَرَاتَهُ وَجُدَّةَ مَتْنِهِ... كَنَائِنُ يَجْرِي فَوْقَهُنَّ دَلِيصُ (1)
يعني بالجدة : الخطة السوداء تكون في متن الحمار.
وقوله(مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا) يعني : مختلف ألوان الجدد(وَغَرَابِيبُ سُودٌ)
وذلك من المقدم الذي هو بمعنى التأخير ، وذلك أن العرب تقول : هو أسود غربيب ، إذا
وصفوه بشدة السواد ، وجعل السواد ها هنا صفة للغرابيب.
__________
(1) البيت لامرئ القيس (مختار الشعر الجاهلي ، بشرح مصطفى السقا ، طبعة مصطفى
البابي الحلبي وأولاده ص 127) وفيه " ظهره " في موضع " متنه "
. و " بينهن " في موضع " فوقهن " . قال شارحه : سراته : ظهره.
والجدة : الخط الذي وسط الظهر. والكنائن : جعاب السهام ، من جلد أو خشب ، والدليص
: ماء الذهب. شبه الخط الذي على ظهر الحمار في بريقه ولونه ، بجعاب مذهبه ، مع
بريق جلدها وإملاسه. ا . هـ. واستشهد به مؤلف عند قوله تعالى : (ومن جبال جدد بيض
وحمر) على أن معنى الجدد : الخطط تكون في الجبال : بيض وحمر وسود وحمر كالطرق ،
واحدها جدة ، وأنشد بيت امرئ القيس كرواية المؤلف. ثم قال : والجدة : الخطة
السوداء في متن الحمار. وقال الفراء : يقال : أدلصت الشيء ودلصته : إذا برق. فكل
شيء يبرق نحو المرآة والذهب والفضة ، فهو دليص.
(20/461)
وقوله( وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ
وَالأنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ ) كما من الثمرات والجبال مختلف
ألوانه بالحمرة والبياض والسواد والصفرة ، وغير ذلك.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة في قوله( أَلَمْ تَرَ
أَنَّ اللَّهَ أَنزلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ
مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا ) أحمر وأخضر وأصفر( وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ )
أي : طرائق بيض( وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا ) أي : جبال حمر
وبيض(وَغَرَابِيبُ سُودٌ) هو الأسود يعني لونه كما اختلف ألوان هذه اختلف ألوان
الناس والدواب والأنعام كذلك.
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك
يقول في قوله( وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ ) طرائق بيض وحمر وسود ، وكذلك
الناس مختلف ألوانهم.
حدثنا عمرو بن عبد الحميد الآملي ، قال : ثنا مروان ، عن جويبر عن الضحاك قوله(
وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ ) قال : هي طرائق حمر وسود.
وقوله( إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ ) يقول تعالى ذكره :
إنما يخاف الله فيتقي عقابه بطاعته العلماء ، بقدرته على ما يشاء من شيء ، وأنه
يفعل ما يريد ، لأن من علم ذلك أيقن بعقابه على معصيته ؛ فخافه ورهبه خشية منه أن
يعاقبه.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني علي قال : ثنا عبد الله قال : ثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس قوله(
إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ ) قال : الذين يعلمون أن
الله على كل شيء قدير.
(20/462)
إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ (29) لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ (30)
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال :
ثنا سعيد ، عن قتادة قوله( إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ
) قال : كان يقال : كفى بالرهبة علمًا.
وقوله(إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ) يقول تعالى ذكره : إن الله عزيز في انتقامه
ممن كفر به غفور لذنوب من آمن به وأطاعه.
القول في تأويل قوله تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ
وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً
يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ (29) لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ
مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ (30) }
يقول تعالى ذكره : إن الذين يقرءون كتاب الله الذي أنزله على محمد صَلَّى الله
عَلَيْهِ وَسَلَّم(وَأَقَامُوا الصَّلاةَ) يقول : وأدوا الصلاة المفروضة لمواقيتها
بحدودها ، وقال : وأقاموا الصلاة بمعنى : ويقيموا الصلاة.
وقوله( وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً ) يقول : وتصدقوا
بما أعطيناهم من الأموال سرًّا في خفاء وعلانية جهارًا ، وإنما معنى ذلك أنهم
يؤدون الزكاة المفروضة ، ويتطوعون أيضًا بالصدقة منه بعد أداء الفرض الواجب عليهم
فيه.
وقوله(يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ) يقول تعالى ذكره : يرجون بفعلهم ذلك
تجارة لن تبور : لن تكسد ولن تهلك ، من قولهم : بارت السوق إذا كسدت وبار الطعام.
وقوله(تِجَارَةً) جواب لأول الكلام.
وقوله(لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ) يقول : ويوفيهم الله على فعلهم ذلك ثواب
أعمالهم التى عملوها في الدنيا(وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ) يقول : وكي يزيدهم
على الوفاء من فضله ما هو له أهل ، وكان مطرف بن عبد الله يقول : هذه آية القراء.
(20/463)
حدثنا محمد بن بشار قال : ثنا عمرو بن
عاصم قال : ثنا معتمر عن أبيه ، عن قتادة قال : كان مطرف إذا مر بهذه الآية( إِنَّ
الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ ) يقول : هذه آية القراء.
حدثنا ابن المثنى قال : ثنا محمد بن جعفر قال : ثنا شعبة ، عن يزيد ، عن مطرف بن
عبد الله أنه قال في هذه الآية( إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ ...) إلى آخر
الآية ، قال : هذه آية القراء.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة قال : كان مطرف بن عبد
الله يقول : هذه آية القراء( ِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ
فَضْلِهِ ).
وقوله(إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ) يقول : إن الله غفور لذنوب هؤلاء القوم الذين هذه
صفتهم شكور لحسناتهم.
كما حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة(إِنَّهُ غَفُورٌ
شَكُورٌ) إنه غفور لذنوبهم ، شكور لحسناتهم.
(20/464)
وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ (31)
القول في تأويل قوله تعالى : {
وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا
بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ (31) }
يقول تعالى ذكره : ( وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ ) يا محمد
وهو هذا القرآن الذي أنزله الله عليه(هُوَ الْحَقُّ) يقول : هو الحق عليك وعلى
أمتك أن تعمل به ، وتتبع ما فيه دون غيره من الكتب التي أوحيت إلى غيرك(
مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ ) يقول : هو يصدق ما مضى بين يديه فصار أمامه من
الكتب التي أنزلتها إلى من قبلك من الرسل.
كما حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة قوله( وَالَّذِي
أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ
يَدَيْهِ )
(20/464)
ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (32)
للكتب التي خلت قبله.
وقوله( إِنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ ) يقول تعالى ذكره : إن الله
بعباده لذو علم وخبرة بما يعملون بصير بما يصلحهم من التدبير.
القول في تأويل قوله تعالى : { ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ
اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ
وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ
الْكَبِيرُ (32) }
اختلف أهل التأويل في معنى الكتاب الذي ذكر الله في هذه الآية أنه أورثه الذين
اصطفاهم من عباده ، ومن المصطفون من عباده ، والظالم لنفسه ؛ فقال بعضهم : الكتاب
هو الكتب التي أنزلها الله من قبل الفرقان. والمصطفون من عباده أمة محمد صَلَّى
الله عَلَيْهِ وَسَلَّم. والظالم لنفسه أهل الإجرام منهم.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا علي قال : ثنا أَبو صالح قال : ثني معاوية عن علي عن ابن عباس قوله(ثُمَّ
أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ ...) إلى قوله(الْفَضْلُ الْكَبِيرُ) هم أمة محمد صَلَّى
الله عَلَيْهِ وَسَلَّم ورثهم الله كل كتاب أنزله ؛ فظالمهم يغفر له ، ومقتصدهم
يحاسب حسابًا يسيرًا ، وسابقهم يدخل الجنة بغير حساب.
حدثنا ابن حميد قال : ثنا الحكم بن بشير قال : ثنا عمرو بن قيسٍ عن عبد الله بن
عيسى ، عن يزيد بن الحارث عن شقيق ، عن أَبي وائل عن عبد الله بن مسعود أنه قال :
هذه الأمة ثلاثة أثلاث يوم القيامة ؛ ثلث يدخلون الجنة بغير حساب ، وثلث يحاسبون
حسابًا يسيرًا ، وثلث يجيئون بذنوب عظام حتى يقول : ما هؤلاء ؟ وهو أعلم تبارك
وتعالى ، فتقول الملائكة : هؤلاء جاءوا بذنوب عظام إلا أنهم لم يشركوا بك ، فيقول
الرب : أدخلوا هؤلاء في سعة رحمتي ، وتلا عبد الله هذه الآية( ثُمَّ أَوْرَثْنَا
الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا ).
(20/465)
حدثنا حميد بن مسعدة قال : ثنا يزيد بن
زريع قال : ثنا عون قال : ثنا عبد الله بن الحارث بن نوفل قال : ثنا كعب الأحبار
أن الظالم لنفسه من هذه الأمة ، والمقتصد والسابق بالخيرات كلهم في الجنة ، ألم تر
أن الله قال( ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ
عِبَادِنَا ...) إلى قوله(كُل كَفُورٍ).
حدثني علي بن سعيد الكندي قال : ثنا عبد الله بن المبارك ، عن عوف ، عن عبد الله
بن الحارث بن نوفل ، قال : سمعت كعبًا يقول : ( فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ
وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ) قال
: كلهم في الجنة ، وتلا هذه الآية( جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا ).
حدثنا الحسن بن عرفة قال : ثنا مروان بن معاوية الفزاري عن عوف بن أبي جبلة قال :
ثنا عبد الله بن الحارث بن نوفل قال : ثنا كعب أن الظالم من هذه الأمة والمقتصد
والسابق بالخيرات كلهم في الجنة ، ألم تر أن الله قال( ثُمَّ أَوْرَثْنَا
الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا ...) إلى قوله(لُغُوب) والذين
كفروا لهم نار جهنم ، قال : قال كعب : فهؤلاء أهل النار.
حدثني يعقوب قال : ثنا ابن علية عن عوف قال : سمعت عبد الله بن الحارث يقول : قال
كعب : إن الظالم لنفسه والمقتصد والسابق بالخيرات من هذه الأمة كلهم في الجنة ،
ألم تر أن الله يقول( ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ
عِبَادِنَا ...) حتى بلغ قوله(جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا).
حدثني يعقوب بن إبراهيم قال : ثنا ابن عُلية ، قال : أخبرنا حميد عن إسحاق بن عبد
الله بن الحارث عن أبيه أن ابن عباس سأل كعبًا عن قوله تعالى( ثُمَّ أَوْرَثْنَا
الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا ...) إلى قوله(بِإِذْنِ
اللَّهِ) فقال : تماست مناكبهم ورب الكعبة ثم أعطوا الفضل بأعمالهم.
حدثنا ابن حميد قال : ثنا الحكم بن بشير قال : ثنا عمرو بن قيس عن أَبي إسحاق
السبيعي في هذه الآية( ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا ) قال
:
(20/466)
قال أَبو إسحاق : أما ما سمعت منذ ستين
سنة ، فكلهم ناجٍ.
قال : ثنا عمرو عن محمد بن الحنفية قال : إنها أمة مرحومة ، الظالم مغفور له
والمقتصد في الجنات عند الله والسابق بالخيرات في الدرجات عند الله.
وقال آخرون : الكتاب الذي أورث هؤلاء القوم هو شهادة أن لا إله إلا الله ،
والمصطفون هم أمة محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم ، والظالم لنفسه منهم هو
المنافق ، وهو في النار ، والمقتصد والسابق بالخيرات في الجنة.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا أَبو عمار الحسين بن حريث المروزي قال : ثنا الفضل بن موسى عن حسين بن واقد
عن يزيد عن عكرمة عن عبد الله( فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ
مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ ) قال : اثنان في الجنة وواحد في
النار.
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ،
عن ابن عباس قوله( ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ
عِبَادِنَا ...) إلى آخر الآية قال : جعل أهل الإيمان على ثلاثة منازل ، كقوله(
فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ
مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُولَئِكَ
الْمُقَرَّبُونَ ) فهم على هذا المثال.
حدثنا ابن حميد قال : ثنا يحيى بن واضح قال : ثنا الحسين عن يزيد عن عكرمة( فَمِنْهُمْ
ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ ...) الآية ، قال : الاثنان في الجنة
وواحد في النار ، وهي بمنزلة التي في الواقعة( فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا
أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ
وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ ).
حدثنا سهل بن موسى قال : ثنا عبد المجيد عن ابن جريج عن مجاهد في قوله( ثُمَّ
أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ
ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ ) قال : هم أصحاب المشأمة(وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ) قال : هم
أصحاب الميمنة(وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرِاتِ) قال : هم السابقون من الناس
كلهم.
(20/467)
حدثنا الحسن بن عرفة قال : ثنا مروان
بن معاوية قال : قال عوف : قال الحسن : أما الظالم لنفسه فإنه هو المنافق ، سقط
هذا وأما المقتصد والسابق بالخيرات فهما صاحبا الجنة.
حدثني يعقوب قال : ثنا ابن علية عن عوف قال : قال الحسن : الظالم لنفسه المنافق.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة قوله( ثُمَّ أَوْرَثْنَا
الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا ) شهادة أن لا إله إلا
الله(فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ) هذا المنافق في قول قتادة والحسن(وَمِنْهُمْ
مُقْتَصِدٌ) قال : هذا صاحب اليمين(وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ) قال : هذا
المقرب ، قال قتادة : كان الناس ثلاث منازل في الدنيا ، وثلاث منازل عند الموت ،
وثلاث منازل في الآخرة ؛ أما الدنيا فكانوا : مؤمن (1) ومنافق ومشرك ، وأما عند
الموت فإن الله قال( فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ فَرَوْحٌ
وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ
فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ
الضَّالِّينَ فَنزلٌ مِنْ حَمِيمٍ وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ ) وأما في الآخرة فكانوا
أزواجًا ثلاثة( فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ
وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ وَالسَّابِقُونَ
السَّابِقُونَ أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ ).
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أَبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال
: ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أَبي نجيح ، عن مجاهد قوله( ثُمَّ
أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ
ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ ) قال : هم أصحاب المشأمة(وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ) قال : أصحاب
الميمنة(وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ) قال : فهم السابقون من الناس كلهم.
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا أَبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال :
ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أَبي نجيح ، عن
__________
(1) هو تقدير مبتدأ قبله ، أي هم مؤمن ... إلخ. أو بعضهم مؤمن.
(20/468)
مجاهد( ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ
الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ ) قال :
سقط هذا( وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ
اللَّهِ ) قال : سبق هذا بالخيرات وهذا مقتصد على أثره.
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب تأويل من قال : عنى بقوله( ثُمَّ أَوْرَثْنَا
الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا ) الكتب التي أنزلت من قبل
الفرقان.
فإن قال قائل : وكيف يجوز أن يكون ذلك معناه وأمة محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ
وَسَلَّم لا يتلون غير كتابهم ، ولا يعملون إلا بما فيه من الأحكام والشرائع ؟ قيل
: إن معنى ذلك على غير الذي ذهبت إليه وإنما معناه : ثم أورثنا الإيمان بالكتاب
الذين اصطفينا ؛ فمنهم مؤمنون بكل كتاب أنزله الله من السماء قبل كتابهم وعاملون
به ؛ لأن كل كتاب أنزل من السماء قبل الفرقان ، فإنه يأمر بالعمل بالفرقان عند
نزوله ، وباتباع من جاء به ، وذلك عمل من أقر بمحمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم
وبما جاء به وعمل بما دعاه إليه بما فى القرآن ، وبما في غيره من الكتب التي أنزلت
قبله.
وإنما قيل : عنى بقوله(ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ) الكتب التي ذكرنا ؛ لأن الله
جل ثناؤه قال لنبيه محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم( وَالَّذِي أَوْحَيْنَا
إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ ) ثم
أتبع ذلك قوله( ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا ) فكان
معلومًا إذ كان معنى الميراث إنما هو انتقال معنى من قوم إلى آخرين ، ولم تكن أمة
على عهد نبينا صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم انتقل إليهم كتاب من قوم كانوا قبلهم
غير أمته أن ذلك معناه : وإذ كان ذلك كذلك فبين أن المصطفين من عباده هم مؤمنو
أمته ، وأما الظالم لنفسه فإنه لأن يكون من أهل الذنوب والمعاصي التي هي دون
النفاق والشرك عندي أشبه بمعنى الآية من أن يكون المنافق أو الكافر ، وذلك أن الله
تعالى ذكره أتبع هذه الآية قوله(جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا) فعم بدخول الجنة
جميع الأصناف الثلاثة.
فإن قال قائل : فإن قوله(يَدْخُلُونَهَا) إنما عنى به المقتصد والسابق!
(20/469)
قيل له : وما برهانك على أن ذلك كذلك
من خبر أو عقل ؟ فإن قال : قيام الحجة أن الظالم من هذه الأمة سيدخل النار ، ولو
لم يدخل النار من هذه الأصناف الثلاثة أحد وجب أن لا يكون لأهل الإيمان وعيد ؟ قيل
: إنه ليس في الآية خبر أنهم لا يدخلون النار ، وإنما فيها إخبار من الله تعالى
ذكره أنهم يدخلون جنات عدن ، وجائز أن يدخلها الظالم لنفسه بعد عقوبة الله إياه
على ذنوبه التي أصابها في الدنيا ، وظلمه نفسه فيها بالنار أو بما شاء من عقابه ،
ثم يدخله الجنة ، فيكون ممن عمه خبر الله جل ثناؤه بقوله(جَنَّاتُ عَدْنٍ
يَدْخُلُونَهَا).
وقد روي عن رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم بنحو الذي قلنا في ذلك أخبار
وإن كان في أسانيدها نظر مع دليل الكتاب على صحته على النحو الذي بينت.
* ذكر الرواية الواردة بذلك :
حدثنا محمد بن بشار قال : ثنا أَبو أحمد الزبيري قال : ثنا سفيان عن الأعمش قالَ :
ذكر أَبو ثابت أنه دخل المسجد ، فجلس إلى جنب أَبي الدرداء ، فقال : اللهم آنس
وحشتي وارحم غربتي ويسر لي جليسًا صالحًا ، فقال أَبو الدرداء : لئن كنت صادقًا
لأنا أسعد به منك ، سأحدثك حديثًا سمعته من رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ
وَسَلَّم لم أحدث به منذ سمعته ذَكَرَ هذه الآية( ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ
الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ ومنهم
وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ ) فأما السابق بالخيرات
فيدخلها بغير حساب وأما المقتصد فيحاسب حسابًا يسيرًا ، وأما الظالم لنفسه فيُصيبه
في ذلك المكان من الغم والحزن فذلك قوله( الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا
الْحَزَنَ ).
حدثنا ابن المثنى قال : ثنا محمد بن جعفر قال : ثنا شعبة عن الوليد بن المغيرة ،
أنه سمع رجلا من ثقيف حدث عن رجل من كنانة عن أَبي سعيد الخدري عن النبي صَلَّى
الله عَلَيْهِ وَسَلَّم أنه قال في هذه الآية : ( ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ
الَّذِينَ
(20/470)
جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ (33) وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ (34)
اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا
فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ ومنهم وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ
بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ) قال : " هؤلاء كلهم بمنزلة واحدة وكلهم في
الجنة " . وعنى بقوله(الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا) الذين
اخترناهم لطاعتنا واجتبيناهم ، وقوله(فَمْنِهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ) يقول : فمن
هؤلاء الذين اصطفينا من عبادنا من يظلم نفسه بركوبه المآثم واجترامه المعاصي
واقترافه الفواحش(وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ) وهو غير المبالغ في طاعة ربه وغير
المجتهد فيما ألزمه من خدمة ربه حتى يكون عمله في ذلك قصدًا(وَمِنْهُمْ سَابِقٌ
بِالْخَيْرَاتِ) وهو المبرز الذي قد تقدم المجتهدين في خدمة ربه وأداء ما لزمه من
فرائضه ، فسبقهم بصالح الأعمال وهي الخيرات التي قال الله جل ثناؤه(بِإِذْنِ
اللِّهِ) يقول : بتوفيق الله إياه لذلك.
وقوله(ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ) يقول تعالى ذكره : سبق هذا السابق من
سبقه بالخيرات بإذن الله ، هو الفضل الكبير الذي فضل به من كان مقتصرًا عن منزلته
في طاعة الله من المقتصد والظالم لنفسه.
القول في تأويل قوله تعالى : { جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا
مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ (33)
وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا
لَغَفُورٌ شَكُورٌ (34) }
يقول تعالى ذكره : بساتين إقامة يدخلونها هؤلاء الذين أورثناهم الكتاب ، الذين
اصطفينا من عبادنا يوم القيامة(يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ )
يلبسون في جنات عدن أسورة من ذهب( وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ )
يقول : ولباسهم في الجنة حرير.
وقوله( الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ ) اختلف أهل التأويل
في الحَزَنِ الذي حمد الله على إذهابه عنهم هؤلاء القوم ؛ فقال بعضهم : ذلك
(20/471)
الحزَن الذي كانوا فيه قبل دخولهم
الجنة من خوف النار إذ كانوا خائفين أن يدخلوها.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني قتادة بن سعيد بن قتادة السدوسي قال : ثنا معاذ بن هشام صاحب الدستوائي قال
: ثنا أَبي عن عمرو بن مالك عن أَبي الجوزاء عن ابن عباس في قوله( الْحَمْدُ
لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ ) قال : حزن النار.
حدثنا ابن حميد قال : ثنا ابن المبارك عن مَعْمَر عن يحيى بن المختار عن الحسن(
وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا ) قال : إن المؤمنين قوم ذُلُل
ذلَّت والله الأسماع والأبصار والجوارح ، حتى يحسبهم الجاهل مَرضَى ، وما بالقوم
مرض ، وإنهم لأصحة القلوب ولكن دخلهم من الخوف ما لم يدخل غيرهم ، ومنعهم من
الدنيا علمهم بالآخرة ، فقالوا( الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا
الْحَزَنَ ) والحَزَنُ ، والله ما حزنهم حزن الدنيا ولا تعاظم في أنفسهم ما طلبوا
به الجنة أبكاهم الخوف من النار ، وأنه من لا يتعزَّ بعزاء الله يقطِّع نفسه على
الدنيا حسرات ، ومن لم ير لله عليه نعمة إلا في مطعم أو مشرب فقد قل علمه وحضر
عذابه.
وقال آخرون : عني به الموت.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا أَبو كريب قال : ثنا ابن إدريس عن أبيه عن عطية في قوله( الْحَمْدُ لِلَّهِ
الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ ) قال : الموت.
وقال آخرون : عني به حزن الخبز (1) .
*
__________
(1) كذا في الأصل : الخبز ، ولعل المراد به. هم العيش في الدنيا. والعيش فيها
قوامه الطعام والخبز.
(20/472)
ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد قال : ثنا يعقوب عن حفص يعني ابن حميد عن شمر قال : لما أدخل الله
أهل الجنة الجنة قالوا( الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ )
قال : حزن الخبز.
وقال آخرون. عني بذلك : الحزن من التعب الذي كانوا فيه في الدنيا.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة قوله( وَقَالُوا
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ ) قال : كانوا في الدنيا
يعملون وينصبون وهم في خوف ، أو يحزنون.
وقال آخرون : بل عني بذلك الحزن الذي ينال الظالم لنفسه في موقف القيامة.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن بشار قال : ثنا أَبو أحمد قال : ثنا سفيان عن الأعمش قال : ذكر أَبو
ثابت أن أبا الدرداء قال : سمعت رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم يقول :
" أما الظالم لنفسه فيصيبه في ذلك المكان من الغم والحزن فذلك قوله(
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ ) " .
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال : إن الله تعالى ذكره أخبر عن هؤلاء القوم
الذين أكرمهم بما أكرمهم به أنهم قالوا حين دخلوا الجنة( الْحَمْدُ لِلَّهِ
الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ ) وخوف دخول النار من الحزن ، والجَزَع من
الموت من الحزن ، والجزع من الحاجة إلى المطعم من الحزن. ولم يخصص الله إذ أخبر
عنهم أنهم حمدوه على إذهابه الحزن عنهم نوعًا دون نوع ، بل أخبر عنهم أنهم عموا
جميع أنوع الحزن بقولهم ذلك ، وكذلك ذلك ؛ لأن من دخل الجنة فلا حزن
(20/473)
الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ (35)
عليه بعد ذلك ، فحمدهم على إذهابه عنهم
جميع معاني الحزن.
وقوله( إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ ) يقول تعالى ذكره مخبرًا عن قيل هذه
الأصناف الذين أخبر أنه اصطفاهم من عباده عند دخولهم الجنة : إن ربنا لغفور لذنوب
عباده الذين تابوا من ذنوبهم ، فساترها عليهم بعفوه لهم عنها ، شكور لهم على
طاعتهم إياه ، وصالح ما قدموا في الدنيا من الأعمال.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة قوله( إِنَّ رَبَّنَا
لَغَفُورٌ شَكُورٌ ) لحسناتهم.
حدثنا ابن حميد قال : ثنا يعقوب عن حفص عن شمر( إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ
) غفر لهم ما كان من ذنب ، وشكر لهم ما كان منهم.
القول في تأويل قوله تعالى : { الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ
فَضْلِهِ لا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ (35) }
يقول تعالى ذكره مخبرًا عن قيل الذين أدخلوا الجنة( إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ
الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ ) أي : ربنا الذي أنزلنا هذه الدار يعنون
الجنة ، فدار المقامة : دار الإقامة التي لا نقلة معها عنها ولا تحول ، والميم إذا
ضمت من " المقامة " فهو من الإقامة ، فإذا فتحت فهي من المجلس ، والمكان
الذي يقام فيه ، قال الشاعر :
يَومَانِ يَومُ مَقامَاتٍ وأنْدِيةٍ... وَيَومُ سَيرٍ إلَى الأعْدَاءِ تَأويب (1)
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل
__________
(1) البيت قد تقدم الاستشهاد به في هذا الجزء (22 : 65).
(20/474)
وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ (36) وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (37)
.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( الَّذِي أَحَلَّنَا
دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ ) أقاموا فلا يتحولون.
وقوله(لا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ) يقول : لا يصيبنا فيها تعب ولا وجع(وَلا
يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ) يعني باللغوب : العناء والإعياء.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن عبيد قال : ثنا موسى بن عمير عن أَبي صالح عن ابن عباس في قوله( لا
يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ ) قال : اللغوب : العناء
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة قوله( لا يَمَسُّنَا
فِيهَا نَصَبٌ ) أي : وجع.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لا
يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ
نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ (36) وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا
نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا
يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا
لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (37) }
يقول تعالى ذكره(وَالَّذِينَ كَفَرُوا) بالله ورسوله(لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ) يقول
: لهم نار جهنم مخلدين فيها لا حظ لهم في الجنة ولا نعيمها.
كما حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( لَهُمْ نَارُ
جَهَنَّمَ لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ ) بالموت(فَيَمُوتُوا) ، لأنهم لو ماتوا
لاستراحوا( وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا ) يقول : ولا يخفف عنهم من
عذاب نار جهنم بإماتتهم ،
(20/475)
فيخفف ذلك عنهم.
كما حدثني مطرَّف بن عبد الله الضَّبِّي قال : ثنا أَبو قتيبة قال ثنا أَبو هلال
الراسبي عن قتادة عن أَبي السوداء قال : مساكين أهل النار لا يموتون ، لو ماتوا
لاستراحوا.
حدثني عقبة بن سنان القزاز قال : ثنا غسان بن مضر قال : ثنا سعيد بن يزيد وحدثني
يعقوب قال : ثنا ابن علية عن سعيد بن يزيد ، وحدثنا سَوَّار بن عبد الله قال : ثنا
بشر بن المفضل ، ثنا أَبو سلمة عن أَبي نضرة عن أَبي سعيد قال : قال رسول الله
صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم : " أما أهل النار الذين هم أهلها فإنهم لا
يموتون فيها ولا يحيون ، لكنَّ ناسًا ، أو كما قال ، تُصيبهمُ النارُ بذنوبِهم ،
أو قال : بخطاياهم ، فَيُمِيتُهم إماتةً حتى إذا صاروا فَحْمًا أذن في الشفاعة ،
فجيء بهم ضَبَائرَ ضَبَائرَ ، فَبُثُّوا على أهل الجنة ، فقال : يا أهلَ الجنة
أفِيضُوا عليهم فَيَنْبُتُون كما تَنْبُتُ الحبة في حَمِيلِ السيل " فقال رجل
من القوم حينئذٍ : كأن رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم قد كان بالبادية .
فإن قال قائل : وكيف قيل( وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا ) وقد قيل في
موضع آخر( كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا ) ؟ قيل : معنى ذلك : ولا يخفف
عنهم من هذا النوع من العذاب.
وقوله( كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ ) يقول تعالى ذكره : هكذا يكافِىء كل جحود
لنعم ربه يوم القيامة ؛ بأن يدخلهم نار جهنم بسيئاتهم التي قدموها في الدنيا.
وقوله( وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا
غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ ) يقول تعالى ذكره : هؤلاء الكفار يستغيثون ويضجون
في النار ، يقولون : يا ربنا أخرجنا نعمل صالحًا أي : تعمل بطاعتك(غَيْرَ الَّذِي
كُنَّا نَعْمَلُ) قبلُ من معاصيك. وقولهُ(يَصْطَرِخُونَ) يفتعلون من الصراخ ؛
حولتْ تاؤها طاءً لقرب مخرجها من الصاد لما ثَقُلت.
(20/476)
وقوله( أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا
يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ ) اختلف أهل التأويل في مبلغ ذلك ؛ فقال بعضهم :
ذلك أربعون سنة.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن عبد الأعلى قال : ثنا بشر بن المفضل قال : ثنا عبد الله بن عثمان بن
خُثَيم عن مجاهد قال : سمعت ابن عباس يقول : العمر الذي أعذر الله إلى ابن آدم(
أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ ) أربعون سنة.
حدثني يعقوب قال : ثنا هشيم ، عن مجالد ، عن الشعبي عن مسروق أنه كان يقول : إذا
بلغ أحدكم أربعين سنة فليأخذ حذره من الله.
وقال آخرون : بل ذلك ستون سنة.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن بشار قال : ثنا عبد الرحمن قال : ثنا سفيان عن ابن خُثَيم عن مجاهد
عن ابن عباس( أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ ) قال
: ستون سنة.
حدثنا أَبو كريب قال : ثنا ابن إدريس قال : سمعت عبد الله بن عثمان بن خُثَيم عن
مجاهد عن ابن عباس قال : العمر الذي أعذر الله فيه لابن آدم ستون سنة.
حدثنا علي بن شعيب قال : ثنا محمد بن إسماعيل بن أبي فديك عن إبراهيم بن الفضل عن
أَبي حسين المكي عن عطاء بن أبي رباح عن ابن عباس قال : قال رسول الله صَلَّى الله
عَلَيْهِ وَسَلَّم : " إذا كان يومُ القيامةِ نُودِي : أين أبناء الستين ،
وهو العمر الذي قال الله( أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ
تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ ) " .
حدثني أحمد بن الفرج الحمصي قال : ثنا بقية بن الوليد قال : ثنا
(20/477)
مطرف بن مازن الكناني قال : ثني معمر
بن راشد قال : سمعت محمد بن عبد الرحمن الغفاري يقول : سمعت أبا هريرة يقول : قال
رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم : " لَقدْ أعْذَرَ اللهُ إلَى صاحب
السِّتَّين سنة والسَّبعين " .
حدثنا أَبو صالح الفزاري قال : ثنا محمد بن سوار قال : ثنا يعقوب بن عبدٍ القاريُّ
الإسكندريُّ قال : ثنا أَبو حازم عن سعيد المقبري عن أَبي هريرة قال : قال رسول
الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم : " منْ عَمَّرهُ اللهُ ستين سنةً فَقَد
أعذرَ إليهِ في العُمْرِ " .
حدثنا محمد بن سوار قال : ثنا أسد بن حميدٍ عن سعيد بن طريف عن الأصبغ بن نباتة عن
علي رضي الله عنه في قوله( أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ
تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ ) قال : العمر الذي عمركم الله به ستون سنة.
وأشبه القولين بتأويل الآية إذ كان الخبر الذي ذكرناه عن رسول الله صَلَّى الله
عَلَيْهِ وَسَلَّم خبرًا في إسناده بعض من يجب التثبت في نقله ، قول من قال ذلك
أربعون سنة ، لأن في الأربعين يتناهى عقل الإنسان وفهمه ، وما قبل ذلك وما بعده
منتقص عن كماله في حال الأربعين.
وقوله(وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ) اختلف أهل التأويل في معنى النذير ؛ فقال بعضهم :
عنى به محمدًا صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله(وَجَاءَكُمُ
النَّذِيرُ) قال : النذير : النبي ، وقرأ(هَذَا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الأولَى).
وقيل : عَنى به الشيب.
فتأويل الكلام إذن : أولم نعمركم يا معشر المشركين بالله من قريش من السنين ، ما
يتذكر فيه من تذكر ، من ذوي الألباب والعقول ، واتعظ منهم من اتعظ ، وتاب من تاب ،
وجاءكم من الله منذر ينذركم ما أنتم فيه اليوم من عذاب
(20/478)
إِنَّ اللَّهَ عَالِمُ غَيْبِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (38)
الله ، فلم تتذكروا مواعظ الله ، ولم
تقبلوا من نذير الله الذي جاءكم ما أتاكم به من عند ربكم.
القول في تأويل قوله تعالى : { إِنَّ اللَّهَ عَالِمُ غَيْبِ السَّمَاوَاتِ
وَالأرْضِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (38) }
يقول تعالى ذكره : (فَذُوقُوا) نار عذاب جهنم الذي قد صَلِيتموه أيها الكافرون
بالله(فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ) يقول : فما للكافرين الذين ظلموا أنفسهم
فأكسبوها غضب الله بكفرهم بالله في الدنيا من نصير ينصرهم من الله ليستنقذهم من
عقابه. وقوله( إِنَّ اللَّهَ عَالِمُ غَيْبِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ ) يقول تعالى
ذكره : إن الله عالم ما تخفون أيها الناس في أنفسكم وتضمرونه ، وما لم تضمروه ولم
تنووه مما ستنوونه ، وما هو غائب عن أبصاركم في السماوات والأرض ، فاتقوه أن يطلع
عليكم ، وأنتم تضمرون في أنفسكم من الشك في وحدانية الله أو في نبوة محمد ، غير
الذي تبدونه بألسنتكم ، (إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ).
(20/479)
هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَلَا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلَّا مَقْتًا وَلَا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلَّا خَسَارًا (39)
القول في تأويل قوله تعالى : { هُوَ
الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ فِي الأرْضِ فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَلا
يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلا مَقْتًا وَلا يَزِيدُ
الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلا خَسَارًا (39) }
يقول تعالى ذكره : الله الذي جعلكم أيها الناس خلائف في الأرض من بعد عاد وثمود ،
ومن مضى من قبلكم من الأمم فجعلكم تخلفونهم في ديارهم ومساكنهم.
كما حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة قوله( هُوَ
(20/479)
قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ أَمْ آَتَيْنَاهُمْ كِتَابًا فَهُمْ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْهُ بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا إِلَّا غُرُورًا (40)
الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ فِي
الأرْضِ ) أمة بعد أمة ، وقرنًا بعد قرن.
وقوله(فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ) يقول تعالى ذكره : فمن كفر بالله منكم
أيها الناس فعلى نفسه ضر كفره ، لا يضر بذلك غير نفسه ، لأنه المعاقب عليه دون
غيره. وقوله( وَلا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلا
مَقْتًا ) يقول تعالى : ولا يزيد الكافرين كفرهم عند ربهم إلا بعدًا من رحمة الله(
وَلا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلا خَسَارًا ) يقول : ولا يزيد الكافرين
كفرهم بالله إلا هلاكا.
القول في تأويل قوله تعالى : { قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءَكُمُ الَّذِينَ
تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الأرْضِ أَمْ لَهُمْ
شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا فَهُمْ عَلَى بَيِّنَةٍ
مِنْهُ بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا إِلا غُرُورًا (40) }
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم : (قُلْ) يا محمد
لمشركي قومك(أَرَأَيْتُمْ) أيها القوم( شُرَكَاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ
دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الأرْضِ ) يقول : أروني أي شيء خلقوا
من الأرض(أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ) يقول : أم لشركائكم شرك مع الله
في السماوات إن لم يكونوا خلقوا من الأرض شيئًا( أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا
فَهُمْ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْهُ ) يقول : أم آتينا هؤلاء المشركين كتابًا أنزلناه
عليهم من السماء بأن يشركوا بالله الأوثان والأصنام ، فهم على بينة منه ، فهم على
برهان مما أمرتهم فيه من الإشراك بي.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( قُلْ أَرَأَيْتُمْ
شُرَكَاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا
مِنَ الأرْضِ ) لا شيء والله خلقوا منها(أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ) لا
والله ما لهم فيها شرك(أَمْ
(20/480)
إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا (41)
آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا فَهُمْ عَلَى
بَيِّنَةٍ مِنْهُ) يقول : أم آتيناهم كتابًا فهو يأمرهم أن يشركوا.
وقوله(بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا إِلا غُرُورًا ) وذلك
قول بعضهم لبعض( مَا نَعْبُدُهُمْ إِلا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى )
خداعًا من بعضهم لبعض وغرورًا ، وإنما تزلفهم آلهتهم من النار ، وتقصيهم من الله
ورحمته.
القول في تأويل قوله تعالى : { إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ
أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ
إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا (41) }
يقول تعالى ذكره : (إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ) لئلا تزولا
من أماكنهما(وَلَئِنْ زَالَتَا) يقول : ولو زالتا(إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ
مِنْ بَعْدِهِ) يقول : ما أمسكهما أحد سواه. ووضعت " لئن " في
قوله(وَلَئِنْ زَالَتَا) في موضع " لو " لأنهما يجابان بجواب واحد ،
فيتشابهان في المعنى ، ونظير ذلك قوله( وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحًا فَرَأَوْهُ
مُصْفَرًّا لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ ) بمعنى : ولو أرسلنا ريحًا ،
وكما قال(وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ) بمعنى : لو أتيت. وقد
بيَّنا ذلك فيما مضى بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة قوله( إِنَّ اللَّهَ
يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ أَنْ تَزُولا ) من مكانهما.
حدثنا ابن بشار قال : ثنا عبد الرحمن قال : ثنا سفيان عن الأعمش عن أَبي وائل قال
: جاء رجل إلى عبد الله فقال : من أين جئت ؟ قال : من الشأم. قال : من لَقيتَ ؟
قال : لقيتُ كعبًا. فقال : ما حدثك كعب ؟ قال : حدثني
(20/481)
وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَا زَادَهُمْ إِلَّا نُفُورًا (42) اسْتِكْبَارًا فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّةَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلًا (43)
أن السماوات تدور على منكب ملك. قال :
فصدقته أو كذبته ؟ قال : ما صدقته ولا كذبته. قال : لوددت أنك افتديت من رحلتك
إليه براحلتك ورحلها ، وكذب كعب ، إن الله يقول( إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ
السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ
أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ ).
حدثنا جرير عن مغيرة عن إبراهيم قال : ذهب جُندَب البَجَلي إلى كعب الأحبار فقدم
عليه ثم رجع فقال له عبد الله : حدثنا ما حدثك. فقال : حدثني أن السماء في قطب
كقطب الرحا ، والقطب عمود على منكب ملك. قال عبد الله : لوددت أنك افتديت رحلتك
بمثل راحلتك ، ثم قال : ما تنتكت اليهودية في قلب عبد فكادت أن تفارقه ، ثم قال(
إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ أَنْ تَزُولا ) كفى بها زوالا أن
تدور.
وقوله(إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا) يقول تعالى ذكره : إن الله كان حليمًا عمن
أشرك وكفر به من خلقه فى تركه تعجيل عذابه له ، غفورًا لذنوب من تاب منهم ، وأناب
إلى الإيمان به ، والعمل بما يرضيه.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ
لَئِنْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الأمَمِ فَلَمَّا
جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَا زَادَهُمْ إِلا نُفُورًا (42) اسْتِكْبَارًا فِي الأرْضِ
وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلا بِأَهْلِهِ فَهَلْ
يَنْظُرُونَ إِلا سُنَّةَ الأوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلا وَلَنْ
تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلا (43) }
يقول تعالى ذكره : وأقسم هؤلاء المشركون بالله جهد أيمانهم ، يقول : أشد الإيمان
فبالغوا فيها ، لئن جاءهم من الله منذر ينذرهم بأس الله( لَيَكُونُنَّ أَهْدَى
مِنْ إِحْدَى الأمَمِ ) يقول : ليكونن أسلك لطريق الحق وأشد قبولا لما يأتيهم به
النذير من عند الله ، من إحدى الأمم التي خلت من قبلهم(فَلَمَّا جَاءَهُمْ
نَذِيرٌ)
(20/482)
يعني بالنذير محمدًا صَلَّى الله
عَلَيْهِ وَسَلَّم ، يقول : فلما جاءهم محمد ينذرهم عقاب الله على كفرهم.
كما حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة قوله(فَلَمَّا
جَاءَهُمْ نَذِيرٌ) وهو محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم.
وقوله(مَا زَادَهُمْ إِلا نُفُورًا) يقول : ما زادهم مجيء النذير من الإيمان بالله
واتباع الحق وسلوك هدى الطريق ، إلا نفورًا وهربًا.
وقوله(اسْتِكْبَارًا فِي الأرْضِ) يقول : نفروا استكبارًا في الأرض وخدعة سيئة ،
وذلك أنهم صدوا الضعفاء عن اتباعه مع كفرهم به. والمكر هاهنا : هو الشرك.
كما حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( وَمَكْرَ السَّيِّئِ
) وهو الشرك. وأضيف المكر إلى السيىء ، والسيىء من نعت المكر كما قيل(إِنَّ هَذَا
لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ) وقيل : إن ذلك في قراءة عبد الله(وَمَكْرًا سَيِّئًا) ،
وفي ذلك تحقيق القول الذي قلناه من أن السيىء في المعنى من نعت المكر. وقرأ ذلك
قراء الأمصار غير الأعمش وحمزة بهمزة محركة بالخفض. وقرأ ذلك الأعمش وحمزة بهمزة وتسكين
الهمزة اعتلالا منهما بأن الحركات لما كثرت في ذلك ثقل ، فسكَّنا الهمزة ، كما قال
الشاعر :
إذَا اعْوَجَجْنَ قُلْتُ صَاحِبْ قَوّمِ (1)
فسكن الباء لكثرة الحركات.
__________
(1) البيت من شواهد الفراء في معاني القرآن (الورقة 267) قال : وقوله (مكر السيئ) :
أضيف المكر إلى إلى السيئ ، وهو هو. كما قال : (إن هذا لهو حق اليقين). وتصديق ذلك
في رواية عبد الله : (ومكرًا سيئًا). وقوله (مكر السيئ) الهمزة في السيئ مخفوضة ،
وقد جزمها الأعمش وحمزة ، لكثرة الحركات ، كما قال : (لا يحزنهم الفزع الأكبر) ؛
قال الشاعر : إذَا اعْوَجَجْنَ قلْتُ صَاحبْ قَوّمِ
يريد : يا صاحبُ قوم ، فجزم الباء لكثرة الحركات قال الفراء : حدثني الرواسي ، عن
أَبي عمرو بن العلاء : (لا يحزنهم) جزم : ا . هـ.
(20/483)
أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا (44)
والصواب من القراءة ما عليه قراء
الأمصار من تحريك الهمزة فيه إلى الخفض وغير جائز في القرآن أن يقرأ بكل ما جاز في
العربية ؛ لأن القراءة إنما هي ما قرأت به الأئمة الماضية ، وجاء به السلف على
النحو الذي أخذوا عمن قبلهم.
وقوله( وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلا بِأَهْلِهِ ) يقول : ولا ينزل
المكر السيىء إلا بأهله ، يعني بالذين يمكرونه ، وإنما عنى أنه لا يحل مكروه ذلك
المكر الذي مكره هؤلاء المشركون إلا بهم.
وقال قتادة في ذلك ما حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة(
وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلا بِأَهْلِهِ ) وهو الشرك.
وقوله( فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلا سُنَّةَ الأوَّلِينَ ) يقول تعالى ذكره : فهل
ينتظر هؤلاء المشركون من قومك يا محمد إلا سنة الله بهم في عاجل الدنيا على كفرهم
به أليم العقاب ، يقول : فهل ينتظر هؤلاء إلا أن أحل بهم من نقمتي على شركهم بي
وتكذيبهم رسولي مثل الذي أحللت بمن قبلهم من أشكالهم من الأمم.
كما حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة قوله( فَهَلْ
يَنْظُرُونَ إِلا سُنَّةَ الأوَّلِينَ ) أي : عقوبة الأولين( فَلَنْ تَجِدَ
لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلا ) يقول : فلن تجد يا محمد لسنة الله تغييرًا.
وقوله( وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلا ) يقول : ولن تجد لسنة الله في
خلقه تبديلا يقول : لن يغير ذلك ولا يبدله ؛ لأنه لا مرد لقضائه.
القول في تأويل قوله تعالى : { أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأرْضِ فَيَنْظُرُوا
كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ
قُوَّةً وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي
الأرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا (44) }
(20/484)
يقول تعالى ذكره : أولم يَسِرْ يا محمد
هؤلاء المشركون بالله في الأرض التي أهلكنا أهلها بكفرهم بنا وتكذيبهم رسلنا فإنهم
تجار يسلكون طريق الشأم( فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ
قَبْلِهِمْ ) من الأمم التي كانوا يمرون بها ألم نهلكهم ونخرب مساكنهم ونجعلهم
مثلا لمن بعدهم ، فيتعظوا بهم وينزجروا عمَّا هم عليه من عبادة الآلهة بالشرك
بالله ، ويعلموا أن الذي فعل بأولئك ما فعل( وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً )
لن يتعذر عليه أن يفعل بهم مثل الذي فعل بأولئك من تعجيل النقمة والعذاب لهم.
وبنحو الذي قلنا في قوله( وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً ) قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( وَكَانُوا أَشَدَّ
مِنْهُمْ قُوَّةً ) يخبركم أنه أعطى القوم ما لم يعطكم.
وقوله( وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي
الأرْضِ ) يقول تعالى ذكره : ولن يعجزنا هؤلاء المشركون بالله من عبدة الآلهة
المكذبون محمدًا ، فيسبقونا هربًا في الأرض إذا نحن أردنا هلاكهم ؛ لأن الله لم
يكن ليعجزه شيء يريده في السماوات ولا في الأرض ، ولن يقدر هؤلاء المشركون أن
ينفذوا من أقطار السماوات والأرض. وقوله(إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا) يقول
تعالى ذكره : إن الله كان عليمًا بخلقه ، وما هو كائن ، ومن هو المستحق منهم تعجيل
العقوبة ، ومن هو عن ضلالته منهم راجع إلى الهدى آيب ، قديرا على الانتقام ممن شاء
منهم ، وتوفيق من أراد منهم للإيمان.
(20/485)
وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا (45)
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلَوْ
يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ
دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ
فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا (45) }
يقول تعالى ذكره : ( وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ ) يقول
(20/485)
ولو يعاقب الله الناس ويكافئهم بما
عملوا من الذنوب والمعاصي واجترحوا من الآثام ما ترك على ظهرها من دابة تدب عليها(
وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ) يقول : ولكن يؤخر عقابهم
ومؤاخذتهم بما كسبوا إلى أجل معلوم عنده ، محدود لا يقصرون دونه ، ولا يجاوزونه
إذا بلغوه.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( وَلَوْ يُؤَاخِذُ
اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ ) إلا
ما حمل نوح في السفينة.
وقوله( فإذا جاء أجلهم فإن الله كان بعباده بصيرا ) يقول تعالى ذكره : فإذا جاء
أجل عقابهم فإن الله كان بعباده بصيرًا من الذي يستحق أن يعاقب منهم ، ومن الذي
يستوجب الكرامة ومن الذي كان منهم في الدنيا له مطيعًا ، ومن كان فيها به مشركًا ،
لا يخفى عليه أحد منهم ، ولا يعزب عنه علم شيء من أمرهم.
آخر تفسير سورة فاطر
(20/486)
تفسير سورة يس
(20/487)
يس (1) وَالْقُرْآَنِ الْحَكِيمِ (2) إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (3) عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (4)
بسم الله الرحمن الرحيم
القول في تأويل قوله تعالى : { يس (1) وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (2) إِنَّكَ لَمِنَ
الْمُرْسَلِينَ (3) عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (4) }
اختلف أهل التأويل في تأويل قوله( يس ) ؛ فقال بعضهم : هو قسم أقسم الله به ، وهو
من أسماء الله.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني علي قال : ثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس ، قوله(
يس )قال : فإنه قسم أقسمه الله ، وهو من أسماء الله وقال آخرون : معناه : يا رجل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا أبو تُميلة ، قال : ثنا الحسين بن واقد ، عن يزيد ، عن
عكرمة ، عن ابن عباس ، في قوله(يس ) قال : يا إنسان بالحبشية .
حدثنا ابن المثنى قال : ثنا محمد بن جعفر ، قال : ثنا شعبة ، عن شرقي ، قال : سمعت
عكرمة يقول : تفسير )يس) : يا إنسان .
وقال آخرون : هو مفتاح كلام افتتح الله به كلامه.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا مؤمل ، قال : ثنا سفيان ، عن ابن أبي نجيح عن مجاهد
قال( يس )مفتاح كلام افتتح الله به كلامه .
(20/488)
تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (5)
وقال آخرون : بل هو اسم من أسماء
القرآن.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله( يس )قال : كل
هجاء في القرآن اسم من أسماء القرآن .
قال أبو جعفر ، وقد بيَّنا القول فيما مضى في نظائر ذلك من حروف الهجاء بما أغنى
عن إعادته وتكريره في هذا الموضع.
وقوله( وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ ) يقول : والقرآن المحكم بما فيه من أحكامه ،
وبيِّنات حججه( إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ ) يقول تعالى ذكره مقسمًا بوحيه
وتنزيله لنبيه محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم : إنك يا محمد لمن المرسلين
بوحي الله إلى عباده.
كما حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( وَالْقُرْآنِ
الْحَكِيمِ إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ ) قسم كما تسمعون( إِنَّكَ لَمِنَ
الْمُرْسَلِينَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ).
وقوله( عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ) يقول : على طريق لا اعوجاج فيه من الهدى وهو
الإسلام.
كما حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( عَلَى صِرَاطٍ
مُسْتَقِيمٍ ) : أي على الإسلام .
وفي قوله( عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ) وجهان ؛ أحدهما : أن يكون معناه : إنك لمن
المرسلين على استقامة من الحق ، فيكون حينئذٍ " على " من قوله( عَلَى
صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ) من صلة الإرسال. والآخر أن يكون خبرًا مبتدأ ، كأنه قيل :
إنك لمن المرسلين ، إنك على صراط مستقيم.
القول في تأويل قوله تعالى : { تَنزيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (5) }
(20/490)
لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آَبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ (6) لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (7)
اختلف القراء في قراءة قوله( تَنزيلَ
الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ ) فقرأته عامة قراء المدينة والبصرة(تَنزيلُ الْعَزِيزِ)
برفع " تنزيل " ، والرفع في ذلك يتجه من وجهين ؛ أحدهما بأن يجعل خبرًا
، فيكون معنى الكلام : إنه تنزيل العزيز الرحيم. والآخر : بالابتداء ، فيكون معنى
الكلام حينئذٍ : إنك لمن المرسلين ، هذا تنزيل العزيز الرحيم. وقرأته عامة قراء
الكوفة وبعض أهل الشام) تَنزيلَ) نصبًا على المصدر من قوله( إِنَّكَ لَمِنَ
الْمُرْسَلِينَ ) لأن الإرسال إنما هو عن التنزيل ، فكأنه قيل : لمنزل تنزيل
العزيز الرحيم حقًّا.
والصواب من القول في ذلك عندي أنهما قراءتان مشهورتان في قراء الأمصار ، متقاربتا
المعنى ، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب الصواب. ومعنى الكلام : إنك لمن المرسلين يا
محمد إرسال الرب العزيز في انتقامه من أهل الكفر به ، الرحيم بمن تاب إليه ، وأناب
من كفره وفسوقه أن يعاقبه على سالف جرمه بعد توبته له .
القول في تأويل قوله تعالى : { لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ
غَافِلُونَ (6) لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ
(7) }
اختلف أهل التأويل في تأويل قوله( لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ )
فقال بعضهم : معناه : لتنذر قومًا بما أنذر الله من قبلهم من آبائهم.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن المثنى ، قال : ثنا محمد بن جعفر ، قال : ثنا شعبة ، عن سماك ، عن
عكرمة في هذه الآية(لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ ) قال : قد أنذروا
.
وقال آخرون : بل معنى ذلك لتنذر قومًا ما أنذر آباؤهم (1) .
*
__________
(1) أي لم ينذر آباؤهم
(20/491)
إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلَالًا فَهِيَ إِلَى الْأَذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ (8) وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ (9)
ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا
أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ ) قال بعضهم : لتنذر قومًا ما أنذر آباؤهم من إنذار الناس
قبلهم. وقال بعضهم : لتنذر قومًا ما أنذر آباؤهم أي : هذه الأمة لم يأتهم نذير ،
حتى جاءهم محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم .
واختلف أهل العربية في معنى " ما " التي في قوله( مَا أُنْذِرَ
آبَاؤُهُمْ ) إذا وجِّهَ معنى الكلام إلى أن آباءهم قد كانوا أنذروا ، ولم يُرد
بها الجحد ؛ فقال بعض نحويي البصرة : معنى ذلك : إذا أريد به غير الجحد لتنذرهم
الذي أُنذِر آباؤهم( فَهُمْ غَافِلُونَ ) وقال : فدخول الفاء في هذا المعنى لا
يجوز ، والله أعلم. قال : وهو على الجحد أحسن ، فيكون معنى الكلام : إنك لمن
المرسلين إلى قوم لم ينذر آباؤهم ، لأنهم كانوا في الفترة.
وقال بعض نحويي الكوفة : إذإ لم يُرد بما الجحد ، فإن معنى الكلام : لتنذرهم بما
أنذر آباؤهم ، فتلقى الباء ، فتكون " ما " في موضع نصب( فَهُمْ
غَافِلُونَ ) يقول : فهم غافلون عما الله فاعل : بأعدائه المشركين به ، من إحلال
نقمته ، وسطوته بهم.
وقوله( لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ ) يقول
تعالى ذكره : لقد وجب العقاب على أكثرهم ، لأن الله قد حتم عليهم في أم الكتاب
أنهم لا يؤمنون بالله ، ولا يصدقون رسوله.
القول في تأويل قوله تعالى : { إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلالا
فَهِيَ إِلَى الأذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ (8) وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ
أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لا
يُبْصِرُونَ (9) }
(20/492)
يقول تعالى ذكره : إنا جعلنا أيمان
هؤلاء الكفار مغلولة إلى أعناقهم بالأغلال ، فلا تُبسط بشيء من الخيرات. وهي في
قراءة عبد الله فيما ذُكر(إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَيْمَانِهِمْ أَغْلالا فَهِيَ
إِلَى الأذْقَانِ) وقوله( إِلَى الأذْقَانِ ) يعني : فأيمانهم مجموعة بالأغلال في
أعناقهم ، فكُني عن الأيمان ، ولم يجر لها ذكر لمعرفة السامعين بمعنى الكلام ، وأن
الأغلال إذا كانت في الأعناق لم تكن إلا وأيدي المغلولين مجموعة بها إليها ،
فاستغنى بذكر كون الأغلال في الأعناق من ذكر الأيمان ، كما قال الشاعر :
وَما أدْرِي إذا يَمَّمْتُ وَجْهًا... أُرِيدُ الخَيْرَ أيُّهُما يَلِينِي
أألخَيرُ الذي أنَا أبْتَغِيهِ... أم الشَّرُّ الَّذي لا يَأتَلِيني (1)
فكنى عن الشر ، وإنما ذكر الخير وحده لعلم سامع ذلك بمعني قائله ، إذ كان الشر مع
الخير يذكر. والأذقان : جمع ذَقَن ، والذَّقَنُ : مجمع اللَّحيين.
وقوله( فَهُمْ مُقْمَحُونَ ) والمقمَح هو المقنع ، وهو أن يحدر الذقن حتى يصير في
الصدر ، ثم يرفع رأسه في قول بعض أهل العلم بكلام العرب من أهل البصرة ، وفي قول
بعض الكوفيين : هو الغاض بصره بعد رفع رأسه.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل
__________
(1) البيتان من الوافر ، وهما لسحيم بن وثيل الرياحي. وقد سبق الاستشهاد بهما في
(14 : 157) عند قوله تعالى : (سرابيل تقيكم الحرب) في سورة النحل. واستشهد بهما
هنا على أن قوله : " أريد الخير أيهما يليني " أي : أي الخير والشر يلني
، فاكتفى بذكر الخير وكنى عن الشر ، إذ كان معلوما من السياق كما في قوله تعالى :
(إنا جعلنا في أعناقهم أغلالا) إذ لم يصر بذكر الأيمان لأن الأيمان إنما تكون في
الأغلال مع الأعناق. فاكتفى بالأغلال عن ذكر الأيمان. قال الفراء في معاني القرآن
(الورقة 267) وقوله : (إنا جعلنا في أعناقهم أغلالا فهي إلى الأذقان) فكنى عن هي ،
وهي للأيمان ، ولم تذكر. وذلك أن الغل لا يكون إلا في اليمين والعنق جامعا لليمين
والعنق ، فيكفي ذكر أحدهما من صاحبه ، ومثله قول الشاعر : " وما أدري ....
" البيتين. فكنى عن الشر ، وإنما ذكر الخير وحده. وذلك أن الشر يذكر مع
الخير. وهي في قراءة عبد الله : (إنا جعلنا في أيمانهم أغلالا فهي إلى الأذقان)
فكفت من ذكر (الأعناق) في حرف عبد الله ، وكفت (الأعناق) من " الأيمان "
في قراءة العامة. والذقن : أسفل اللحيين.
(20/493)
.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ،
عن ابن عباس ، قوله( إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلالا فَهِيَ إِلَى
الأذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ ) قال : هو كقول الله( وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ
مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ ) يعني بذلك أن أيديهم موثقة إلى أعناقهم ، لا
يستطيعون أن يبسطوها بخير .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال
: ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله(
فَهُمْ مُقْمَحُونَ ) قال : رافعو رءوسهم ، وأيديهم موضوعة على أفواههم.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله( إِنَّا جَعَلْنَا
فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلالا فَهِيَ إِلَى الأذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ ) : أي
فهم مغلولون عن كل خير .
وقوله( وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا ) يقول تعالى ذكره : وجعلنا من
بين أيدي هؤلاء المشركين سدًّا ، وهو الحاجز بين الشيئين ؛ إذا فتح كان من فعل بني
آدم ، وإذا كان من فعل الله كان بالضم. وبالضم قرأ ذلك قراء المدينة والبصرة وبعض
الكوفيين. وقرأه بعض المكيين وعامة قراء الكوفيين بفتح السين( سَدًّا) في الحرفين
كلاهما ؛ والضم أعجب القراءتين إليّ في ذلك ، وإن كانت الأخرى جائزة صحيحة.
وعنى بقوله( وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا
) أنه زين لهم سوء أعمالهم فهم يَعْمَهُونَ ، ولا يبصرون رشدًا ، ولا يتنبهون
حقًّا.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني ابن حميد ، قال : ثنا حكام ، عن عنبسة ، عن محمد بن عبد الرحمن ،
(20/494)
عن القاسم بن أبي بزة ، عن مجاهد ، في
قوله( مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا ) قال : عن الحق .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ؛ وحدثني الحارث ، قال
: ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد( وَجَعَلْنَا
مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا ) عن الحق فهم يترددون .
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ
أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا ) قال : ضلالات .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قول الله(
وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا
فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ ) قال : جعل هذا سدًّا بينهم وبين
الإسلام والإيمان ، فهم لا يخلصون إليه ، وقرأ( وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ
أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ ) وقرأ( إِنَّ الَّذِينَ
حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ )... الآية كلها ، وقال : من
منعه الله لا يستطيع .
وقوله( فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ ) يقول : فأغشينا أبصار هؤلاء أي
: جعلنا عليها غشاوة ؛ فهم لا يبصرون هدى ولا ينتفعون به.
كما حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( فَأَغْشَيْنَاهُمْ
فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ ) هدى ، ولا ينتفعون به .
وذُكر أن هذه الآية نزلت في أبي جهل بن هشام حين حلف أن يقتله أو يشدخ رأسه بصخرة.
* ذكر الرواية بذلك :
حدثني عمران بن موسى ، قال : ثنا عبد الوارث بن سعيد ، قال : ثنا عُمارة بن أبي
حفصة ، عن عكرمة قال : قال أبو جهل : لئن رأيت محمدًا لأفعلن ولأفعلن ، فأنزلت(
إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلالا ) .. إلى قوله( فَهُمْ لا
(20/495)
وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (10) إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ (11)
يُبْصِرُونَ ) قال : فكانوا يقولون :
هذا محمد ، فيقول أين هو ، أين هو ؟ لا يبصره . وقد رُوي عن ابن عباس أنه كان يقرأ
ذلك : (فَأَعْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ) بالعين بمعنى : أعشيناهم عنه ،
وذلك أن العَشَا هو أن يمشي بالليل ولا يبصر.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ
تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (10) إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ
وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ (11)
}
يقول تعالى ذكره : وسواء يا محمد على هؤلاء الذين حق عليهم القول ، أي الأمرين كان
منك إليهم ؛ الإنذار ، أو ترك الإنذار ، فإنهم لا يؤمنون ؛ لأن الله قد حكم عليهم
بذلك. وقوله( إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ ) يقول تعالى ذكره : إنما
ينفع إنذارك يا محمد من آمن بالقرآن ، واتبع ما فيه من أحكام الله( وَخَشِيَ
الرَّحْمَنَ ) يقول : وخاف الله حين يغيب عن أبصار الناظرين ، لا المنافق الذي
يستخف بدين الله إذا خلا ويظهر الإيمان في الملأ ولا المشرك الذي قد طبع الله على
قلبه. وقوله( فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ ) يقول : فبشر يا محمد هذا الذي اتبع الذكر
وخشي الرحمن بالغيب بمغفرة من الله لذنوبه( وَأَجْرٍ كَرِيمٍ ) يقول : وثواب منه
له في الآخرة كريم ، وذلك أن يعطيه على عمله ذلك الجنة.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ
اتَّبَعَ الذِّكْرَ ) واتباع الذكر : اتباع القرآن .
القول في تأويل قوله تعالى : { إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ
(20/496)
إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآَثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ (12)
مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ
شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ (12) }
يقول تعالى ذكره( إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى ) من خلقنا( وَنَكْتُبُ مَا
قَدَّمُوا ) في الدنيا من خير وشر ، وصالح الأعمال وسيئها.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله( إِنَّا نَحْنُ
نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا ) من عمل .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا إبن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله( وَنَكْتُبُ مَا
قَدَّمُوا ) قال : ما عملوا.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ؛ وحدثني الحارث ، قال
: ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله( مَا
قَدَّمُوا ) قال : أعمالهم.
وقوله( وَآثَارَهُمْ ) يعني : وآثار خطاهم بأرجلهم ، وذكر أن هذه الآية نزلت في
قوم أرادوا أن يقربوا من مسجد رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم ، ليقرب
عليهم.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا نصر بن علي الجهضمي قال : ثنا أبو أحمد الزبيري ، قال : ثنا إسرائيل ، عن
سماك ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، قال : كانت منازل الأنصار متباعدة من المسجد ،
فأرادوا أن ينتقلوا إلى المسجد
(20/497)
فنزلت( وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا
وَآثَارَهُمْ ) فقالوا : نثبت في مكاننا.
حدثنا ابن وكيع ، قال : ثنا أبي ، عن إسرائيل ، عن سماك ، عن عكرمة ، عن ابن عباس
، قال : كانت الأنصار بعيده منازلهم من المسجد ، فأرادوا أن ينتقلوا ، قال :
فنزلت( وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ ) فثبتوا.
حدثنا ابن المثنى ، قال : ثنا عبد الصمد ، قال : ثنا شعبة ، قال : ثنا الجريري ،
عن أبي نضرة ، عن جابر ، قال : أراد بنو سَلِمة قرب المسجد ، قال : فقال لهم رسول
الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم : " يَا بَنِي سَلِمَةَ دِيَارَكُمْ
إنَّها تُكْتَبْ آثَارُكُمْ " .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا معتمر ، قال : سمعت كهمسا يحدث ، عن أبي نضرة ،
عن جابر ، قال : أراد بنو سلمة أن يتحولوا إلى قرب المسجد ، قال : والبقاع خالية ،
فبلغ ذلك النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم ، فقال : " يَا بَنِي سَلِمَةَ
دِيَارَكُمْ إنَّها تُكْتَبْ آثَارُكُمْ " قال : فأقاموا وقالوا : ما يسرنا
أنا كنا تحولنا .
حدثنا سليمان بن عمر بن خالد الرقي ، قال : ثنا ابن المبارك ، عن سفيان ، عن طريف
، عن أبي نضرة ، عن أبي سعيد الخدري ، قال : شكت بنو سَلِمة بُعد منازلهم إلى
النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم فنزلت( إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى
وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ ) فقال : " عَلَيكُمْ مَنَازِلَكُم
تُكْتَبُ آثارُكم " .
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا أبو نُمَيلة ، قال : ثنا الحسين ، عن ثابت ، قال :
مشيت مع أنس ، فأسرعت المشي ، فأخذ بيدي ، فمشينا رُويدا ، فلما قضينا الصلاة قال
أنس : مشيت مع زيد بن ثابت ، فأسرعت المشي ، فقال : يا أنس أما شعرت أن الآثار
تكتب ؟ .
حدثني يعقوب ، قال : ثنا ابن عُلَية ، عن يونس ، عن الحسن أن بني سَلِمة كانت
دورهم قاصية عن المسجد ، فهموا أن يتحولوا قرب المسجد ، فيشهدون الصلاة مع النبي
صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم ، فقال لهم النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم :
" ألا تَحْتَسِبون آثارَكم يا بني سَلِمة ؟ " فمكثوا في ديارهم .
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا حكام ، عن عنبسة ، عن محمد بن عبد الرحمن ، عن القاسم
ابن أبي بَزَّة ، عن مجاهد ، في قوله( مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ ) قال : خطاهم
بأرجلهم .
(20/498)
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو
عاصم ، قال : ثنا عيسى ؛ وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ،
جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد( وَآثَارَهُمْ ) قال : خطاهم .
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( وَآثَارَهُمْ ) قال :
قال الحسن : وآثارهم قال : خطاهم. وقال قتادة : لو كان مُغْفِلا شيئًا من شأنك يا
ابن آدم أغفل ما تعفي الرياح من هذه الآثار .
وقوله( وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ ) يقول تعالى ذكره : وكل
شيء كان أو هو كائن أحصيناه ، فأثبتناه في أم الكتاب ، وهو الإمام المبين. وقيل(
مُبِينٌ ) لأنه يبين عن حقيقة جميع ما أثبت فيه.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا عبد الرحمن ، قال : ثنا سفيان ، عن منصور ، عن مجاهد(
فِي إِمَامٍ مُبِينٍ ) قال : في أم الكتاب .
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله( وَكُلَّ شَيْءٍ
أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ ) كل شيء محصًى عند الله في كتاب .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله( وَكُلَّ شَيْءٍ
أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ ) قال : أم الكتاب التي عند الله فيها الأشياء
كلها هي الإمام المبين .
(20/499)
وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ (13) إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ (14)
القول في تأويل قوله تعالى : {
وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ (13)
إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ
فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ (14) }
يقول تعالى ذكره : ومثل يا محمد لمشركي قومك مثلا أصحاب القرية ،
(20/499)
ذُكر أنها أنطاكية( إِذْ جَاءَهَا
الْمُرْسَلُونَ ) اختلف أهل العلم في هؤلاء الرسل ، وفيمن كان أرسلهم إلى أصحاب
القرية ؛ فقال بعضهم : كانوا رسل عيسى ابن مريم ، وعيسى الذي أرسلهم إليهم.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلا
أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ
اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ ) قال : ذُكر لنا أن عيسى ابن
مريم بعث رجلين من الحواريين إلى أنطاكية - مدينة بالروم - فكذبوهما فأعزهما
بثالث( فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ ).
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا يحيى وعبد الرحمن ، قالا ثنا سفيان ، قال : ثني السدي
، عن عكرمة( وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ ) قال : أنطاكية .
وقال آخرون : بل كانوا رسلا أرسلهم الله إليهم.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سَلَمَة قال : ثنا ابن إسحاق ، فيما بلغه ، عن ابن
عباس ، وعن كعب الأحبار ، وعن وهب بن منبه ، قال : كان بمدينة أنطاكية ، فرعون من
الفراعنة يقال له أبطيحس بن أبطيحس يعبد الأصنام ، صاحب شرك ، فبعث الله المرسلين
، وهم ثلاثة : صادق ، ومصدوق ، وسلوم ، فقدم إليه وإلى أهل مدينته منهم اثنان
فكذبوهما ، ثم عزز الله بثالث ، فلما دعته الرسل ونادته بأمر الله ، وصدعت بالذي
أمرت به ، وعابت دينه ، وما هم عليه ، قال لهم( إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِنْ
لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ )
وقوله( إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا
بِثَالِثٍ ) يقول تعالى ذكره : حين أرسلنا إليهم اثنين يدعوانهم إلى الله فكذبوهما
فشددناهما بثالث ، وقويناهما به.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل
(20/500)
قَالُوا مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَمَا أَنْزَلَ الرَّحْمَنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ (15) قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ (16) وَمَا عَلَيْنَا إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (17)
.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أَبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ؛ وحدثني الحارث ، قال
: ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أَبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله(
فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ ) قال : شددنا .
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا حكام ، عن عنبسة ، عن محمد بن عبد الرحمن ، عن القاسم
بن أبي بَزَّة ، عن مجاهد في قوله( فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ ) قال : زدنا .
حدثنا يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله( فَعَزَّزْنَا
بِثَالِثٍ ) قال : جعلناهم ثلاثة ، قال : ذلك التعزز ، قال : والتعزز : القوة .
وقوله( فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ ) يقول : فقال المرسلون الثلاثة
لأصحاب القرية : إنَّا إليكم أيها القوم مرسلون ، بأن تُخْلِصوا العبادة لله وحده
، لا شريك له ، وتتبرءوا مما تعبدون من الآلهة والأصنام.
وبالتشديد في قوله( فَعَزَّزْنَا ) قرأت القراء سوى عاصم ، فإنه قرأه بالتخفيف ،
والقراءة عندنا بالتشديد ، لإجماع الحجة من القراء عليه ، وأن معناه ، إذا شُدد :
فقوينا ، وإذا خُفف : فغلبنا ، وليس لغلبنا في هذا الموضع كثير معنى.
القول في تأويل قوله تعالى : { قَالُوا مَا أَنْتُمْ إِلا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَمَا
أَنزلَ الرَّحْمَنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلا تَكْذِبُونَ (15) قَالُوا
رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ (16) وَمَا عَلَيْنَا إِلا
الْبَلاغُ الْمُبِينُ (17) }
يقول تعالى ذكره : قال أصحاب القرية للثلاثة الذين أرسلوا إليهم حين أخبروهم أنهم
أرسلوا إليهم بما أرسلوا به : ما أنتم أيها القوم إلا أُناس مثلنا ، ولو كنتم رسلا
كما تقولون ، لكنتم ملائكة( وَمَا أَنزلَ الرَّحْمَنُ مِنْ شَيْءٍ ) يقول : قالوا
:
(20/501)
قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ (18) قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَئِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (19)
وما أنزل الرحمن إليكم من رسالة ولا
كتاب ولا أمركم فينا بشيء( إِنْ أَنْتُمْ إِلا تَكْذِبُونَ ) في قيلكم إنكم إلينا
مرسلون
( قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ ) يقول : قال الرسل
: ربنا يعلم إنَّا إليكم لمرسلون فيما دعوناكم إليه ، وإنَّا لصادقون
( وَمَا عَلَيْنَا إِلا الْبَلاغُ الْمُبِينُ ) يقول : وما علينا إلا أن نبلغكم
رسالة الله التي أرسلنا بها إليكم بلاغًا يبين لكم أنَّا أبلغناكموها ، فإن
قبلتموها فحظ أنفسكم تصيبون ، وإن لم تقبلوها فقد أدينا ما علينا ، والله ولي
الحكم فيه.
القول في تأويل قوله تعالى : { قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ
تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ (18) }
يقول تعالى ذكره : قال أصحاب القرية للرسل( إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ ) يعنون :
إنَّا تشاءمنا بكم ، فإن أصابنا بلاء فمن أجلكم.
كما حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( قَالُوا إِنَّا
تَطَيَّرْنَا بِكُمْ ) قالوا : إن أصابنا شر ، فإنما هو من أجلكم .
وقوله( لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ ) يقول : لئن لم تنتهوا عمَّا
ذكرتم من أنكم أرسلتم إلينا بالبراءة من آلهتنا ، والنهي عن عبادتنا لنرجمنكم ،
قيل : عني بذلك لنرجمنكم بالحجارة.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال ثنا سعيد ، عن قتادة( لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا
لَنَرْجُمَنَّكُمْ ) بالحجارة( وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ ) يقول
: ولينالنكم منَّا عذاب موجع .
القول في تأويل قوله تعالى : { قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَئِنْ ذُكِّرْتُمْ
بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (19) وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ
يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ
(20/502)
وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (20) اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ (21)
اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (20)
اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ (21) }
يقول تعالى ذكره : قالت الرسل لأصحاب القرية( طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَئِنْ
ذُكِّرْتُمْ ) يقولون : أعمالكم وأرزاقكم وحظكم من الخير والشر معكم ، ذلك كله في
أعناقكم ، وما ذلك من شؤمنا إن أصابكم سوء فيما كتب عليكم ، وسبق لكم من الله.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنايزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، ( قَالُوا طَائِرُكُمْ
مَعَكُمْ ) أي : أعمالكم معكم .
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، عن ابن إسحاق فيما بلغه عن ابن عباس ، وعن كعب
وعن وهب بن منبه ، قالت لهم الرسل( طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ ) أي : أعمالكم معكم .
وقوله( أَئِنْ ذُكِّرْتُمْ ) اختلفت القراءة في قراءة ذلك ؛ فقرأته عامة قراء
الأمصار( أَئِنْ ذُكِّرْتُمْ ) بكسر الألف من " إن " وفتح
(20/503)
ألف الاستفهام : بمعنى إن ذكرناكم
فمعكم طائركم ، ثم أدخل على " إن " التي هي حرف جزاء ألف استفهام في قول
بعض نحويي البصرة ، وفي قول بعض الكوفيين منوي به التكرير ، كأنه قيل : طائركم
معكم إن ذكرتم فمعكم طائركم ، فحذف الجواب اكتفاء بدلالة الكلام عليه. وإنما أنكر
قائل هذا القول القول الأول ، لأن ألف الاستفهام قد حالت بين الجزاء وبين الشرط ،
فلا تكون شرطا لما قبل حرف الاستفهام. وذُكر عن أَبي رزين أنه قرأ ذلك( أَئِنْ
ذُكِّرْتُمْ ) بمعنى : ألأن ذكرتم طائركم معكم ؟. وذُكر . نعم بعض قارئيه أنه
قرأه(قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكَمْ أَيْنَ ذُكِرْتُمْ) بمعنى : حيث ذُكِرْتُمْ
بتخفيف الكاف من ذكرتم.
والقراءة التي لا نجيز القراءة بغيرها القراءة التي عليها قراء الأمصار ، وهي دخول
ألف الاستفهام على حرف الجزاء ، وتشديد الكاف على المعنى الذي ذكرناه عن قارئيه
كذلك ، لإجماع الحجة من القراء عليه.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( أَئِنْ ذُكِّرْتُمْ ) أي
: إن ذكرناكم الله تطيرتم بنا ؟( بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ ).
وقوله( بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ ) يقول : قالوا لهم : ما بكم التطير بنا
، ولكنكم قوم أهل معاصٍ لله وآثامٍ ، قد غلبت عليكم الذنوب والآثام.
وقوله( وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى ) يقول : وجاء من أقصى
مدينة هؤلاء القوم الذين أرسلت إليهم هذه الرسل رجل يسعى إليهم ؛ وذلك أن أهل
المدينة هذه عزموا ، واجتمعت آراؤهم على قتل هؤلاء الرسل الثلاثة فيما ذكر ، فبلغ
ذلك هذا الرجل ، وكان منزله أقصى المدينة ، وكان مؤمنًا ، وكان اسمه فيما ذكر
" حبيب بن مري " .
وبنحو الذي قلنا في ذلك جاءت الأخبار.
ذكر الأخبار الواردة بذلك :
حدثنا محمد بن بشار ، قال : ثنا مؤمل بن إسماعيل ، قال : ثنا سفيان ، عن عاصم
الأحول ، عن أبي مُجِلِّز ، قال : كان صاحب يس " حبيب بن مري " .
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، قال : كان من حديث صاحب يس فيما حدثنا محمد بن
إسحاق فيما بلغه ، عن ابن عباس ، وعن كعب الأحبار وعن وهب بن منبه اليماني أنه كان
رجلا من أهل أنطاكية ، وكان اسمه " حبيبًا " وكان يعمل الجَرير ، وكان
رجلا سقيمًا ، قد أسرع فيه الجذام ، وكان منزله عند باب من أبوب المدينة قاصيًا ،
وكان مؤمنًا ذا صدقة ، يجمع كسبه إذا أمسى فيما يذكرون ، فيقسمه نصفين ، فيطعم
نصفًا عياله ، ويتصدق بنصف ، فلم يهمَّه
(20/504)
سقمه ولا عمله ولا ضعفه ، عن عمل ربه ،
قال : فلما أجمع قومه على قتل الرسل ، بلغ ذلك : " حبيبًا " وهو على باب
المدينة الأقصى ، فجاء يسعى إليهم يذكرهم بالله ، ويدعوهم إلى اتباع المرسلين ،
فقال( يَاقَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ ) حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ،
عن ابن إسحاق ، عن عبد الله بن عبد الرحمن بن معمر بن عمرو بن حزم أنه حُدث عن كعب
الأحبار قال : ذكر له حبيب بن زيد بن عاصم أخو بني مازن بن النجار الذي كان مسيلمة
الكذاب قطعه باليمامة حين جعل يسأله عن رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم ،
فجعل يقول : أتشهد أن محمدًا رسول الله ؟ فيقول : نعم ، ثم يقول : أتشهد أني رسول
الله ؟ فيقول له : لا أسمع ، فيقول مسيلمة : أتسمع هذا ، ولا تسمع هذا ؟ فيقول :
نعم ، فجعل يقطعه عضوًا عضوًا ، كلما سأله لم يزده على ذلك حتى مات في يديه ، قال
كعب حين قيل له اسمه " حبيب " : وكان والله صاحب يس اسمه " حبيب
" .
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن الحسن بن عمارة ، عن الحكم
بن عتيبة ، عن مِقْسم أبي القاسم مولى عبد الله بن الحارث بن نوفل ، عن مجاهد ، عن
عبد الله بن عباس أنه كان يقول : كان اسم صاحب يس " حبيبًا " وكان
الجذام قد أسرع فيه .
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله( وَجَاءَ مِنْ
أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى ) قال : ذُكر لنا أن اسمه " حبيب "
، وكان في غار يعبد ربه ، فلما سمع بهم أقبل إليهم . وقوله( قَالَ يَاقَوْمِ
اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ ) يقول تعالى ذكره : قال الرجل الذي جاء من أقصى
المدينة لقومه : يا قوم اتبعوا المرسلين الذين أرسلهم الله إليكم ، واقبلوا منهم
ما أتوكم به.
وذُكر أنه لما أتى الرسل سألهم : هل يطلبون على ما جاءوا به أجرًا ؟ فقالت الرسل :
لا فقال لقومه حينئذٍ : اتبعوا من لا يسألكم على نصيحتهم لكم أجرًا
(20/505)
وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (22) أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آَلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لَا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلَا يُنْقِذُونِ (23) إِنِّي إِذًا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (24) إِنِّي آَمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ (25)
.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قال : لما انتهى إليهم
- يعني إلى الرسل - قال : هل تسألون على هذا من أجر ؟ قالوا : لا فقال عند ذلك(
يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا
وَهُمْ مُهْتَدُونَ ) .
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، عن ابن إسحاق فيما بلغه ، عن ابن عباس ، وعن
كعب الأحبار ، وعن وهب بن منبه( اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ
مُهْتَدُونَ ) أي : لا يسألونكم أموالكم على ما جاءوكم به من الهدى ، وهم لكم
ناصحون ، فاتبعوهم تهتدوا بهداهم . وقوله( وَهُمْ مُهْتَدُونَ ) يقول : وهم على
استقامة من طريق الحق ، فاهتدوا أيها القوم بهداهم.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَمَا لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي
وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (22) أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ
الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلا يُنْقِذُونِ
(23) إِنِّي إِذًا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (24) إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ
فَاسْمَعُونِ (25) }
يقول تعالى ذكره مخبرًا عن قيل هذا الرجل المؤمن( وَمَا لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي
فَطَرَنِي ) أي : وأي شيء لي لا أعبد الرب الذي خلقني( وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ )
يقول : وإليه تصيرون أنتم أيها القوم وتردون جميعًا ، وهذا حين أبدى لقومه إيمانه
بالله وتوحيده.
كما حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، عن ابن إسحاق فيما بلغه ، عن ابن عباس ،
وعن كعب الأحبار ، وعن وهب بن منبه قال : ناداهم - يعني نادى قومه - بخلاف ما هم
عليه من عبادة الأصنام ، وأظهر لهم دينه وعبادة ربه ، وأخبرهم أنه لا يملك نفعه
ولا ضره غيره ، فقال( وَمَا لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ
(20/506)
تُرْجَعُونَ أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ
آلِهَةً ) ثم عابها ، فقال( إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ ) وشدة( لا تُغْنِ
عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلا يُنْقِذُونِ ).
وقوله( أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً ) يقول : أأعبد من دون الله آلهة ، يعني
معبودًا سواه( إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ ) يقول : إذ مسني الرحمن بضر
وشدة( لا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا ) يقول : لا تغني عني شيئًا بكونها
إليَّ شفعاء ، ولا تقدر على رفع ذلك الضر عني( وَلا يُنْقِذُونِ ) يقول : ولا
يخلصوني من ذلك الضر إذا مسني.
وقوله( إِنِّي إِذًا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ ) يقول إني إن اتخذت من دون الله آلهة
هذه صفتها( إِذًا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ ) لمن تأمله ، جوره عن سبيل الحق.
وقوله( إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ ) فاختلف في معنى ذلك ، فقال
بعضهم : قال هذا القول هذا المؤمن لقومه يعلمهم إيمانه بالله.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، عن ابن إسحاق فيما بلغه ، عن ابن عباس ، وعن
كعب ، وعن وهب بن منبه( إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ ) إني آمنت بربكم
الذي كفرتم به ، فاسمعوا قولي .
وقال آخرون : بل خاطب بذلك الرسل ، وقال لهم : اسمعوا قولي لتشهدوا لي بما أقول
لكم عند ربي ، وأني قد آمنت بكم واتبعتكم ؛ فذكر أنه لما قال هذا القول ، ونصح
لقومه النصيحة التي ذكرها الله في كتابه وثبوا به فقتلوه.
ثم اختلف أهل التأويل في صفة قتلهم إياه ، فقال بعضهم : رجموه بالحجارة .
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( وَمَا لِيَ لا أَعْبُدُ
الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ) هذا رجل دعا قومه إلى الله ، وأبدى
لهم
(20/507)
النصيحة فقتلوه على ذلك. وذُكر لنا
أنهم كانوا يرجمونه بالحجارة ، وهو يقول : اللهم اهد قومي ، اللهم اهد قومي ،
اللهم اهد قومي ، حتى أقْعَصوه وهو كذلك .
وقال آخرون : بل وثبوا عليه ، فوطئوه بأقدامهم حتى مات.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، عن ابن إسحاق فيما بلغه ، عن ابن عباس ، وعن
كعب ، وعن وهب بن منبه قال لهم( وَمَا لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي ) ..
إلى قوله( فَاسْمَعُونِ ) وثبوا وثبة رجل واحد فقتلوه واسضعفوه لضعفه وسقمه ، ولم
يكن أحد يدفع عنه
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن بعض أصحابه
(20/508)
قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (26) بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ (27)
أن عبد الله بن مسعود كان يقول : وطئوه
بأرجلهم حتى خرج قُصْبه من دُبُره .
القول في تأويل قوله تعالى : { قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي
يَعْلَمُونَ (26) بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ (27) }
يقول تعالى ذكره : قال الله له إذ قتلوه كذلك فلقيه( ادْخُلِ الْجَنَّةَ ) فلما
دخلها وعاين ما أكرمه الله به لإيمانه وصبره فيه( قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي
يَعْلَمُونَ بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي ) يقول : يا ليتهم يعلمون أن السبب الذي من
أجله غفر لي ربي ذنوبي ، وجعلني من الذين أكرمهم الله بإدخاله إياه جنته ، كان
إيماني بالله وصبري فيه ، حتى قتلت ، فيؤمنوا بالله ويستوجبوا الجنة.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، قال : ثني ابن إسحاق ، عن بعض أصحابه أن عبد
الله بن مسعود كان يقول : قال الله له : ادخل الجنة ، فدخلها حيًّا يرزق فيها ، قد
أذهب الله عنه سقم الدنيا وحزنها ونصبها ، فلما أفضى إلى رحمة الله وجنته وكرامته(
قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ
الْمُكْرَمِينَ ).
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله( قِيلَ ادْخُلِ
الْجَنَّةَ ) فلما دخلها( قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ بِمَا غَفَرَ لِي
رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ ) قال : فلا تلقى المؤمن إلا ناصحًا ، ولا
تلقاه غاشًّا ، فلما عاين من كرامة الله( قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ
بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ ) تمنى على الله أن يعلم
قومه ما عاين من كرامة الله ، وما هجم عليه.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ؛ وحدثني الحارث ، قال
: ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله( قِيلَ
ادْخُلِ الْجَنَّةَ ) قال : قيل : قد وجبت له الجنة ؛ قال ذاك حين رأى الثواب .
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا مؤمل ، قال : ثنا سفيان ، عن ابن جريج ، عن مجاهد(
قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ ) قال : وجبت لك الجنة .
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا حكام ، عن عنبسة ، عن محمد بن عبد الرحمن ، عن القاسم
بن أبي بزة ، عن مجاهد( قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ ) قال : وجبت له الجنة .
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا يحيى ، عن سفيان ، عن عاصم الأحول ، عن أبي مجلز ، في
قوله( بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي ) قال إيماني بربي ، وتصديقي رسله ، والله أعلم .
(20/509)
وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا كُنَّا مُنْزِلِينَ (28) إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ (29)
القول في تأويل قوله تعالى : { وَمَا
أَنزلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا كُنَّا
مُنزلِينَ (28) إِنْ كَانَتْ إِلا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ
(29) }
يقول تعالى ذكره : وما أنزلنا على قوم هذا المؤمن الذي قتله قومه لدعائه إياهم إلى
الله ونصيحته لهم( مِنْ بَعْدِهِ) يعني : من بعد مهلكه( مِنْ جُنْدٍ مِنَ
السَّمَاءِ ).
واختلف أهل التأويل في معنى الجند الذي أخبر الله أنه لم ينزل إلى قوم هذا المؤمن
بعد قتلهموه فقال بعضهم : عُنِي بذلك أنه لم ينزل الله بعد ذلك إليهم رسالة ، ولا
بعث إليهم نبيًّا.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ؛ وحدثني الحارث ، قال
: ثنا الحسن قال : ثنا ورقاء ، جميعًا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله( مِنْ
جُنْدٍ مِنَ السَّمَاءِ ) قال : رسالة .
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا حَكَّام ، عن عنبسة ، عن محمد بن عبد الرحمن ، عن
القاسم بن أبي بَزَّة عن مجاهد ، مثله.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( وَمَا أَنزلْنَا عَلَى
قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا كُنَّا مُنزلِينَ ) قال
: فلا والله ما عاتب الله قومه بعد قتله( إِنْ كَانَتْ إِلا صَيْحَةً وَاحِدَةً
فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ ).
وقال آخرون : بل عني بذلك أن الله تعالى ذكره لم يبعث لهم جنودًا يقاتلهم بها ،
ولكنه أهلكهم بصيحة واحدة.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، قال : ثني ابن إسحاق ، عن بعض أصحابه ، أن عبد
الله بن مسعود ، قال : غضب الله له ، يعني لهذا المؤمن ،
(20/510)
يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (30)
لاستضعافهم إياه غضبةً لم تبق من القوم
شيئًا ، فعجَّل لهم النقمة بما استحلوا منه ، وقال : ( وَمَا أَنزلْنَا عَلَى
قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا كُنَّا مُنزلِينَ )
يقول : ما كاثرناهم بالجموع أي الأمر أيسر علينا من ذلك( إِنْ كَانَتْ إِلا
صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ ) فأهلك الله ذلك الملك وأهل أنطاكية
، فبادوا عن وجه الأرض ، فلم تبق منهم باقية .
وهذا القول الثاني أولى القولين بتأويل الآية ، وذلك أن الرسالة لا يقال لها جند
إلا أن يكون أراد مجاهد بذلك الرُّسُل ، فيكون وجهًا ، وإن كان أيضًا من المفهوم
بظاهر الآية بعيدًا ، وذلك أن الرسل من بني آدم لا ينزلون من السماء والخبر في
ظاهر هذه الآية عن أنه لم ينزل من السماء بعد مَهْلِك هذا المؤمن على قومه جندًا
وذلك بالملائكة أشبه منه ببني آدم.
وقوله( إِنْ كَانَتْ إِلا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ ) يقول : ما
كانت هَلَكتهم إلا صيحة واحدة أنزلها الله من السماء عليهم.
واختلفت القراء في قراءة ذلك ، فقرأته عامة قرّاء الأمصار( إِنْ كَانَتْ إِلا
صَيْحَةً وَاحِدَةً ) نصبا على التأويل الذي ذكرت ، وأنّ في كانت مضمرًا وذُكر عن
أبي جعفر المدني أنه قرأه(إلا صيْحَةٌ وَاحِدَةٌ) رفعًا على أنها مرفوعة بكان ،
ولا مضمر في كان.
والصواب من القراءة في ذلك عندي النصب لإجماع الحجة على ذلك ، وعلى أن في كانت
مضمرًا.
وقوله( فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ ) يقول : فإذا هم هالكون.
القول في تأويل قوله تعالى : { يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِمْ
مِنْ رَسُولٍ إِلا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (30) }
يقول تعالى ذكره : يا حسرةً من العباد على أنفسها وتندّما وتلهفا في
(20/511)
أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لَا يَرْجِعُونَ (31) وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ (32)
استهزائهم برسل الله( مَا يَأْتِيهِمْ
مِنْ رَسُولٍ ) من الله( إِلا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ) وذكر أن ذلك في بعض
القراءات(يَاحَسْرَةَ العِبَادِ عَلى أنْفُسِهَا).
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( يَاحَسْرَةً عَلَى
الْعِبَادِ ) أي : يا حسرة العباد على أنفسها على ما ضَيَّعت من أمر الله ، وفرّطت
في جنب الله. قال : وفي بعض القراءات : (يَاحَسْرَةَ العِبَادِ عَلى أنْفُسِهَا).
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ؛ وحدثني الحارث ، قال
: ثنا الحسن ؛ قال : ثنا ورقاء ، جميعًا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله(
يَاحَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ ) قال : كان حسرة عليهم استهزاؤهم بالرسل .
حدثني عليّ ، قال : ثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ،
قوله( يَاحَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ ) يقول : يا ويلا للعباد. وكان بعض أهل
العربية يقول : معنى ذلك : يا لها حسرة على العباد .
القول في تأويل قوله تعالى : { أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ
الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ (31) وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ
لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ (32) }
يقول تعالى ذكره : ألم ير هؤلاء المشركون بالله من قومك يا محمد كم أهلكنا قبلهم
بتكذيبهم رسلنا ، وكفرهم بآياتنا من القرون الخالية( أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لا
يَرْجِعُونَ ) يقول : ألم يَرَوا أنهم إليهم لا يرجعون.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل
(20/512)
.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( أَلَمْ يَرَوْا كَمْ
أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ )
قال : عاد وثمود ، وقرون بين ذلك كثير.
و " كَمْ " من قوله( كَمْ أَهْلَكْنَا ) في موضع نصب إن شئت بوقوع يروا
عليها. وقد ذَكر أن ذلك في قراءة عبد الله : (ألَمْ يَرَوْا مَنْ أهْلَكْنَا) وإن
شئت بوقوع أهلكنا عليها ؛ وأما " أنهم " ، فإن الألف منها فتحت بوقوع
يروا عليها. وذُكر عن بعضهم أنه كسر الألف منها على وجه الاستئناف بها ، وترك
إعمال يروا فيها.
وقوله( وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ ) يقول تعالى ذكره :
وإن كل هذه القرون التي أهلكناها والذين لم نهلكهم وغيرهم عندنا يوم القيامة
جميعهم محضرون.
كما حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد عن قتادة( وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا
جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ ) أي هم يوم القيامة .
واختلفت القرّاء في قراءة ذلك ، فقرأته عامة قرّاء المدينة والبصرة وبعض الكوفيين
: (وَإنْ كُلٌّ لَمَا) بالتخفيف توجيها منهم إلى أن ذلك " ما " أدخلت
عليها اللام التي تدخل جوابًا لإنْ وأن معنى الكلام : وإن كلّ لجميع لدينا محضرون.
وقرأ ذلك عامة قرّاء أهل الكوفة( لَمَّا) بتشديد الميم. ولتشديدهم ذلك عندنا وجهان
: أحدهما : أن يكون الكلام عندهم كان مرادًا به : وإن كلّ لمما جميع ، ثم حذفت
إحدى الميمات لما كثرت ، كما قال الشاعر :
غَدَاةَ طَفَتْ عَلْمَاءِ بَكْرُ بنُ وَائِلٍ... وَعُجْنَا صُدُورَ الخَيْلِ
نَحْوَ تَمِيمٍ (1)
__________
(1) هذا بيت من مقطوعة نسبها البلاذري في " أنساب الأشراف " إلى صالح بن
عبد الله العبشمي الخارجي في محاربة حارثة بن بدر الغداني للأزارقة ، قبل أن
يحاربهم المهلب. ونسبها المبرد في الكامل إلى قطري بن الفجاءة الخارجي في يوم
دولاب. ورواية البلاذري " طفت في الماء " ورواية المبرد : " طفت
علماء " . وأصله على الماء ، كما تقول في بني الحارث : بالحارث. والبيت من
شواهد الفراء في معاني القرآن (الورقة 269) قال : وقوله : (وإن كل لما جميع) :
شددها (لما) الأعمش وعاصم وقد خففها قوم كثير من قراء أهل المدينة. وبلغني أن عليا
خففها ، وهو الوجه ؛ لأنها " ما " أدخلت عليها لام ، تكون جوابا لإن ،
كأنك قلت وإن كل لما جميع لدينا محضرون ؛ ولم ينقلها من ثقلها إلا عن صواب ، فإن
شئت أردت : وإن كل " لمن ما " جميع ، ثم حذفت إحدى الميمات لكثرتهن كما
قال " غداة طفت علماء .... البيت " . والوجه الآخر من التثقيل : أن
يجعلوا " لما " بمنزلة " إلا " ، كأنها " لم " ضمت
إليها " ما " فصار جميعًا حرفا واحدا ، وخرجا من حد الجحد. وكان
االكسائي ينفي هذا القول ، يقول : لا أعرف جهة " لما " في التشديد في
القراءة. وقال أبو عبيدة في مجاز القرآن (الورقة 204) : " وإن كل " :
إذا خففت " إن " رفعتها بها ، وإن ثقلت نصبت. " لما جميع "
تفسيرها : وإن كل لجميع. و " ما " مجازها مجاز (مثلا ما بعوضة) ، و (عما
قليل).
(20/513)
وَآَيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ (33) وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ (34)
والآخر : أن يكونوا أرادوا أن تكون(
لَمَّا) بمعنى إلا مع إنْ خاصة فتكون نظيرة إنما إذا وضعت موضع " إلا "
. وقد كان بعض نحويِّي الكوفة يقول : كأنها " لَمْ " ضمت إليها "
ما " ، فصارتا جميعا استثناء ، وخرجتا من حد الجحد. وكان بعض أهل العربية
يقول : لا أعرف وجه " لمَّا " بالتشديد.
والصواب من القول في ذلك عندي أنهما قراءتان مشهورتان متقاربتا المعنى ، فبأيتهما
قرأ القارئ فمصيب.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَآيَةٌ لَهُمُ الأرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا
وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ (33) وَجَعَلْنَا فِيهَا
جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ (34) }
يقول تعالى ذكره : ودلالة لهؤلاء المشركين على قُدرة الله على ما يشاء ، وعلى
إحيائه من مات من خلقه وإعادته بعد فنائه ، كهيئته قبل مماته إحياؤه الأرض الميتة
، التي لا نبت فيها ولا زرع بالغيث الذي ينزله من السماء حتى يخرج زرعها ، ثم
إخراجه منها الحب الذي هو قوت لهم وغذاء ، فمنه يأكلون.
وقوله( وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ ) يقول تعالى ذكره :
وجعلنا
(20/514)
لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلَا يَشْكُرُونَ (35) سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ (36)
في هذه الأرض التي أحييناها بعد موتها
بساتين من نخيل وأعناب( وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ ) يقول : وأنبعنا
فيها من عيون الماء.
القول في تأويل قوله تعالى : { لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ
أَيْدِيهِمْ أَفَلا يَشْكُرُونَ (35) }
يقول تعالى ذكره : أنشأنا هذه الجنات في هذه الأرض ليأكل عبادي من ثمره ، وما عملت
أيديهم يقول : ليأكلوا من ثمر الجنات التي أنشأنا لهم ، وما عملت أيديهم مما غرسوا
هم وزرعوا. و " ما " التي في قوله( وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ ) في
موضع خفض عطفًا على الثمر ، بمعنى : ومن الذي عملت ؛ وهي في قراءة عبد الله فيما
ذُكر : (وَممَّا عَمِلَتْهُ) بالهاء على هذا المعنى ، فالهاء في قراءتنا مضمرة ،
لأن العرب تضمرها أحيانًا ، وتظهرها في صلات : من ، وما ، والذي. ولو قيل : "
ما " بمعنى المصدر كان مذهبًا ، فيكون معنى الكلام : ومن عمل أيديهم ، ولو
قيل : إنها بمعنى الجحد ولا موضع لها كان أيضًا مذهبا ، فيكون معنى الكلام :
ليأكلوا من ثمره ولم تعمله أيديهم. وقوله( أَفَلا يَشْكُرُونَ ) يقول : أفلا يشكر
هؤلاء القوم الذين رزقناهم هذا الرزق من هذه الأرض الميتة التي أحييناها لهم مَنْ
رزقهم ذلك وأنعم عليهم به ؟
القول في تأويل قوله تعالى : { سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الأزْوَاجَ كُلَّهَا
مِمَّا تُنْبِتُ الأرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ (36) }
يقول تعالى ذكره تنزيها وتبرئة للذي خلق الألوان المختلفة كلها من نبات الأرض ،
ومن أنفسهم ، يقول : وخلق من أولادهم ذكورًا وإناثًا ، ومما لا يعلمون أيضًا من
الأشياء التي لم يطلعهم عليها ، خلق كذلك أزواجًا مما يضيف إليه هؤلاء المشركون ،
ويصفونه به من الشركاء وغير ذلك.
(20/515)
وَآَيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ (37) وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (38)
القول في تأويل قوله تعالى : { وَآيَةٌ
لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ (37)
وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ
(38) }
يقول تعالى ذكره : ودليل لهم أيضًا على قدرة الله على فعل كل ما شاء( اللَّيْلُ
نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ ) يقول : ننزع عنه النهار. ومعنى " منه " في
هذا الموضع : عنه ، كأنه قيل : نسلخ عنه النهار ، فنأتي بالظلمة ونذهب بالنهار.
ومنه قوله( وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ
مِنْهَا ) أي : خرج منها وتركها ، فكذلك انسلاخ الليل من النهار. وقوله( فَإِذَا
هُمْ مُظْلِمُونَ ) يقول : فإذا هم قد صاروا في ظلمة بمجيء الليل.
وقال قتادة في ذلك ماحدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ،
قوله( وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ
مُظْلِمُونَ ) قال : يولج الليل في النهار ، ويولج النهار في الليل ، وهذا الذي
قاله قتادة في ذلك عندي ، من معنى سلخ النهار من الليل ، بعيد ، وذلك أن إيلاج
الليل في النهار ، إنما هو زيادة ما نقص من ساعات هذا في ساعات الآخر ، وليس
السلْخ من ذلك في شيء ، لأن النهار يسلخ من الليل كله ، وكذلك الليل من النهار كله
، وليس يولج كلّ الليل في كلّ النهار ، ولا كلّ النهار في كلّ الليل.
وقوله( وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ) يقول تعالى ذكره : والشمس تجري
لموضع قرارها ، بمعنى : إلى موضع قرارها ؛ وبذلك جاء الأثر عن رسول الله صَلَّى
الله عَلَيْهِ وَسَلَّم .
* ذكر الرواية بذلك :
حدثنا أبو كُرَيب ، قال : ثنا جابر بن نوح ، قال : ثنا الأعمش ، عن إبراهيم التيمي
، عن أبيه ، عن أبي ذرَ الغفاريّ ، قال : كنت جالسا عند النبي صَلَّى الله
(20/516)
وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ (39) لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (40)
عَلَيْهِ وَسَلَّم في المسجد ، فلما
غَرَبت الشمس ، قال : يا أبا ذَرّ هَلْ تَدْرِي أَيْنَ تَذْهَبُ الشَّمْسُ ؟ قلت
الله ورسوله أعلم قال : فإنها تذهب فتسجد بَيْنَ يَدَيْ رَبِّهَا ، ثُمَّ
تَسْتَأْذِنُ بالرُّجُوعِ فَيُؤْذَنُ لَهَا ، وَكَأَنَّهَا قَدْ قِيلَ لَهَا
ارْجِعِي مِنْ حَيْثُ جِئْتِ ، فَتَطْلُعُ مِنْ مَكَانِهَا وَذَلِكَ مُسْتَقَرّها
" .
وقال بعضهم في ذلك بما حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ،
قوله( وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ) قال : وقت واحد لا تعدوه .
وقال آخرون : معنى ذلك : تجري لمجرى لها إلى مقادير مواضعها ، بمعنى : أنها تجري
إلى أبعد منازلها في الغروب ، ثم ترجع ولا تجاوزه. قالوا : وذلك أنها لا تزال
تتقدم كلّ ليلة حتى تنتهي إلى أبعد مغاربها ثم ترجع.
وقوله( ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ ) يقول : هذا الذي وصفنا من جري
الشمس لمستقر لها ، تقدير العزيز في انتقامه من أعدائه ، العليم بمصالح خلقه ،
وغير ذلك من الأشياء كلها ، لا يخفي عليه خافية.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ
الْقَدِيمِ (39) لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا
اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (40) }
اختلفت القراء في قراءة قوله( وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ ) فقرأه بعض
المكيين وبعض المدنيين وبعض البصريين : (وَالقَمَرُ) رفعا عطفًا بها على الشمس ،
إذ كانت الشمس معطوفة على الليل ، فأتبعوا القمر أيضًا الشمس في الإعراب ، لأنه
أيضًا من الآيات ، كما الليل والنهار آيتان ، فعلى هذه القراءة تأويل الكلام :
وآية لهم القمرُ قدّرناه منازل. وقرأ ذلك بعض المكيين وبعض المدنيين وبعض البصريين
، وعامة قرّاء الكوفة نصبا( وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ ) بمعنى : وقدّرنا القمر
منازل ، كما فعلنا ذلك بالشمس ، فردّوه على الهاء من الشمس في المعنى ، لأن الواو
التي فيها للفعل المتأخر.
(20/517)
والصواب من القول في ذلك عندنا أنهما
قراءتان مشهورتان صحيحتا المعنى ، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب ، فتأويل الكلام :
وآية لهم ، تقديرنا القمر منازل للنقصان بعد تناهيه وتمامه واستوائه ، حتى عاد
كالعرجون القديم ؛ والعرجون : من العذق من الموضع النابت في النخلة إلى موضع
الشماريخ ؛ وإنما شبهه جل ثناوه بالعرجون القديم ، والقديم هو اليابس ، لأن ذلك من
العِذْق ، لا يكاد يوجد إلا متقوّسًا منحنيًا إذا قدم ويبس ، ولا يكاد أن يُصاب
مستويًا معتدلا كأغصان سائر الأشجار وفروعها ، فكذلك القمرُ إذا كان في آخر الشهر
قبل استسراره ، صار في انحنائه وتقوّسه نظير ذلك العرجون.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : ثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ،
قوله( حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ ) يقول : أصل العِذق العتيق .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ،
عن ابن عباس ، قوله( حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ ) يعني بالعُرجون :
العذقَ اليابس .
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : ثنا ابن عُلَية ، عن أبي رجاء ، عن الحسن ، في
قوله( وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ
) قال : كعِذْق النخلة إذا قدُم فانحنى .
حدثني أحمد بن إبراهيم الدورقيّ ، قال : ثنا أبو يزيد الخرّاز ، يعني خالد بن حيان
الرقيِّ ، عن جعفر بن برقان ، عن يزيد بن الأصمّ في قوله( حَتَّى عَادَ
كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ ) قال : عذق النخلة إذا قدُم انحنى .
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا يحيى بن واضح ، قال : ثنا عيسى بن عبيد ، عن عكرمة ،
في قوله( كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ ) قال : النخلة القديمة .
(20/518)
حدثني محمد بن عمارة الأسدي ، قال :
ثنا عبيد الله بن موسى ، قال : أخبرنا إسرائيل ، عن أبي يحيى عن مجاهد(
كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ ) قال : العِذْق اليابس .
حدثني محمد بن عمر بن عليّ المقدمي وابن سنان القزّاز ، قالا ثنا أبو عاصم
والمقدمي ، قال : سمعت أبا عاصم يقول : سمعت سليمان التيمي في قوله( حَتَّى عَادَ
كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ ) قال : العذْق .
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( حَتَّى عَادَ
كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ ) قال : قدّره الله منازل ، فجعل ينقص حتى كان مثل عذق
النخلة ، شبهه بعذق النخلة .
وقوله( لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ ) يقول تعالى ذكره :
لا الشمس يصلح لها إدراك القمر ، فيذهب ضوؤها بضوئه ، فتكون الأوقات كلها نهارًا
لا ليل فيها( وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ ) يقول تعالى ذكره : ولا الليل
بفائت النهار حتى تذهب ظلمته بضيائه ، فتكون الأوقات كلها ليلا.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل على اختلاف منهم في ألفاظهم في تأويل ذلك
، إلا أن معاني عامتهم الذي قلناه.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا حكام عن عنبسة ، عن محمد بن عبد الرحمن ، عن القاسم بن
أبي بَزَّة ، عن مجاهد في قوله( لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ
الْقَمَرَ ) قال : لا يشبه ضوءها ضوء الآخر ، لا ينبغي لها ذلك .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ؛ وحدثني الحارث ، قال
: ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، جميعًا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله( لا
الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ ) قال : لا يُشبه ضوء أحدهما
ضوء الآخر ، ولا ينبغي ذلك لهما
وفي قوله( وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ ) قال : يتطالبان حَثيثين ينسلخ
أحدهما من الآخر.
(20/519)
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : ثنا
الأشجعيّ ، عن سفيان ، عن إسماعيل ، عن أبي صالح( لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا
أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ ) قال : لا يدرك هذا
ضوءَ هذا ولا هذا ضوء هذا .
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك
يقول ، في قوله( لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ ) وهذا في
ضوء القمر وضوء الشمس ، إذا طلعت الشمس لم يكن للقمر ضوء ، وإذا طلع القمر بضوئه
لم يكن للشمس ضوء( وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ ) قال : في قضاء الله وعلمه
أن لا يفوت الليل النهار حتى يدركه ، فيذهب ظلمته ، وفي قضاء الله أن لا يفوت
النهار الليل حتى يدركه ، فيذهب بضوئه .
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي
لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ ) ولكلٍّ حدٌّ
وعلم لا يعدوه ، ولا يقصر دونه ؛ إذا جاء سلطان هذا ، ذهب سلطان هذا ، وإذا جاء
سلطان هذا ذهب سلطان هذا .
ورُوي عن ابن عباس في ذلك ما حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ،
قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله( لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ
تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ ) يقول : إذا اجتمعا في
السماء كان أحدهما بين يدي الآخر ، فإذا غابا غاب أحدهما بين يدي الآخر ، وأنْ من
قوله( أَنْ تُدْرِكَ ) في موضع رفع بقوله : ينبغي.
وقوله( وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ ) يقول : وكل ما ذكرنا من الشمس والقمر
والليل والنهار في فلك يجرون.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن المثنى ، قال : ثنا أبو النعمان الحكم بن عبد الله العجلي ، قال :
ثنا شعبة ، عن مسلم البطين ، عن سعيد بن جُبَير ، عن ابن عباس( وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ
(20/520)
يَسْبَحُونَ ) قال : في فلك كفلك
المِغْزَل .
حدثنا ابن المثنى ، قال : ثنا عبد الصمد ، قال : ثنا شعبة ، قال : ثنا الأعمش ، عن
مسلم البطين ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، مثله.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ؛ وحدثني الحارث ، قال
: ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، جميعًا عن ابن أبي نجيح عن مجاهد ، قال : مجرى
كلّ واحد منهما ، يعني الليل والنهار ، في فَلَك يسبحون : يجرون .
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ
يَسْبَحُونَ ) أي : في فلك السماء يسبحون .
حدثني عليّ ، قال : ثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ،
قوله( وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ ) دورانا ، يقول : دورانا يسبحون ؛ يقول :
يجرون .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ،
عن ابن عباس ، قوله( وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ ) يعني : كلّ في فلك في
السموات ؟.
(20/521)
وَآَيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (41) وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ (42) وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلَا صَرِيخَ لَهُمْ وَلَا هُمْ يُنْقَذُونَ (43) إِلَّا رَحْمَةً مِنَّا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ (44)
القول في تأويل قوله تعالى : { وَآيَةٌ
لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (41)
وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ (42) وَإِنْ نَشَأْ
نُغْرِقْهُمْ فَلا صَرِيخَ لَهُمْ وَلا هُمْ يُنْقَذُونَ (43) إِلا رَحْمَةً
مِنَّا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ (44) }
يقول تعالى ذكره : ودليل لهم أيضًا ، وعلامة على قُدرتنا على كلّ ما نشاء ، حملنا
ذرّيتهم ، يعني من نجا من ولد آدم في سفينة نوح ، وإياها عنى جلّ ثناؤه بالفُلك
المشحون ؛ والفلك : هي السفينة ، والمشحون : المملوء الموقر.
(20/521)
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل
التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : ثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس
قوله( أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ ) يقول :
الممتلئ .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ،
عن ابن عباس ، قوله( فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ ) يعني المثقل .
حدثني سليمان بن عبد الجبار ، قال : ثنا محمد بن الصلت ، قال : ثنا أبو كدينة ، عن
عطاء ، عن سعيد( الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ ) قال : الموقَر .
حدثنا عمران بن موسى ، قال : ثنا عبد الوارث ، قال : ثنا يونس ، عن الحسن ، في
قوله( الْمَشْحُونِ ) قال : المحمول .
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك
يقول في قوله( أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ ) يعني
: سفينة نوح عليه السلام .
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله( وَآيَةٌ لَهُمْ
أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ ) الموقر ، يعني
سفينة نوح .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله( الْفُلْكِ
الْمَشْحُونِ ) قال : الفلك المشحون : المَرْكَب الذي كان فيه نوح ، والذرية التي
كانت في ذلك المركب ؛ قال : والمشحون : الذي قد شُحِن ، الذي قد جعل فيه ليركبه
أهله ، جعلوا فيه ما يريدون ، فربما امتلأ وربما لم يمتلىء .
حدثنا الفضل بن الصباح ، قال : ثنا محمد بن فضيل ، عن عطاء ، عن سعيد بن جُبَير ،
عن ابن عباس قال : أتدرون ما الفُلك المشحون ؟ قلنا : لا قال : هو المُوقَر .
حدثنا عمرو بن عبد الحميد الآمُلِي ، قال : ثنا هارون ، عن جُوَيبر ، عن
(20/522)
الضحاك ، في قوله( الْفُلْكِ
الْمَشْحُونِ ) قال : المُوقَر .
وقوله( وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ ) يقول تعالى ذكره :
وخلقنا لهؤلاء المشركين المكذّبيك يا محمد ، تفضلا منا عليهم ، من مثل ذلك الفلك
الذي كنا حملنا من ذرية آدم مَنْ حملنا فيه الذي يركبونه من المراكب.
ثم اختلف أهل التأويل في الذي عني بقوله( مَا يَرْكَبُونَ ) فقال بعضهم : هي
السفن.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا الفضل بن الصباح ، قال : ثنا محمد بن فضيل ، عن عطاء ، عن سعيد بن جُبَير ،
عن ابن عباس قال : تدرون ما( وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ )
؟ قلنا : لا. قال : هي السفن جُعِلت من بعد سفينة نوح على مِثْلها .
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا عبد الرحمن ، قال : ثنا يحيى ، قال : ثنا سفيان ، عن
السديّ ، عن أبي مالك في قوله( وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ
) قال : السفن الصغار .
قال : ثنا ابن بشار ، قال : ثنا يحيى ، قال : ثنا سفيان ، عن السديّ ، عن أبي مالك
، في قوله( وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ ) قال : السفن
الصغار ، ألا ترى أنه قال( وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلا صَرِيخَ لَهُمْ ) ؟
حدثنا ابن المثنى ، قال : ثنا محمد بن جعفر ، قال : ثنا شعبة ، عن منصور بن زاذان
، عن الحسن في هذه الآية( وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ ) قال
: السفن الصغار .
حدثنا حاتم بن بكر الضَّبي ، قال : ثنا عثمان بن عمر ، عن شعبة ، عن إسماعيل ، عن
أبي صالح : ( وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ ) قال : السفن
الصغار .
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ ، يقول : ثنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك
يقول في قوله( وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ ) يعني : السفن
التي اتخذت
(20/523)
بعدها ، يعني بعد سفينة نوح .
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ
مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ ) قال : هي السفن التي ينتفع بها .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله( وَخَلَقْنَا
لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ ) قال : وهي هذه الفلك .
حدثني يونس ، قال : ثنا محمد بن عبيد ، عن إسماعيل بن أبي خالد ، عن أبي صالح ، في
قوله( وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ ) قال : نعم من مثل سفينة
.
وقال آخرون : بل عني بذلك الإبل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثنا أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ،
عن ابن عباس ، قوله( وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ ) يعني :
الإبل ، خَلَقها الله كما رأيت ، فهي سفن البر ، يحملون عليها ويركبونها .
حدثنا نصر بن عليّ ، قال : ثنا غندر ، عن عثمان بن غياث ، عن عكرمة( وَخَلَقْنَا
لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ ) قال : الإبل .
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا عبد الرحمن ، قال : ثنا سفيان ، عن السديّ ، قال : قال
عبد الله بن شداد( وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ ) هي الإبل .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ؛ وحدثني الحارث ، قال
: ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، جميعًا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله(
وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ ) قال : من الأنعام .
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قال : قال الحسن : هي
الإبل .
وأشبه القولين بتأويل ذلك قول من قال : عُنِي بذلك السفن ، وذلك لدلالة
(20/524)
وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَمَا خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (45) وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آَيَةٍ مِنْ آَيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ (46)
قوله( وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلا
صَرِيخَ لَهُمْ ) على أن ذلك كذلك ، وذلك أن الغرق معلوم أن لا يكون إلا في الماء
، ولا غرق في البرّ.
وقوله( وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلا صَرِيخَ لَهُمْ ) يقول تعالى ذكره : وإن
نشأ نغرق هؤلاء المشركين إذا ركبوا الفُلك في البحر( فَلا صَرِيخَ لَهُمْ ) يقول :
فلا مُغِيث لهم إذا نحن غرّقناهم يُغِيثهم ، فينجيهم من الغرق.
كما حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( وَإِنْ نَشَأْ
نُغْرِقْهُمْ فَلا صَرِيخَ لَهُمْ ) أي : لا مُغِيث
وقوله( وَلا هُمْ يُنْقَذُونَ ) يقول : ولا هو ينقذهم من الغرق شيء إن نحن
أغرقناهم في البحر ، إلا أن ننقذهم نحن رحمة منا لهم ، فننجيهم منه.
وقوله( وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ ) يقول : ولنمتعهم إلى أجل هم بالغوه ، فكأنه قال :
ولا هم يُنْقذُونَ ، إلا أن نرحمهم فنمتعهم إلى أجل .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ
) أي : إلى الموت .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا مَا بَيْنَ
أَيْدِيكُمْ وَمَا خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (45) وَمَا تَأْتِيهِمْ
مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ (46) }
يقول تعالى ذكره : وإذا قيل لهؤلاء المشركين بالله ، المكذّبين رسوله محمدًا
صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم : احذروا ما مضى بين أيديكم من نقم الله وَمثُلاته
بمن حلّ ذلك به من الأمم قبلكم أن يحلّ مثله بكم بشرككم وتكذيبكم رسوله.( وَمَا
خَلْفَكُمْ )
(20/525)
يقول : وما بعد هلاككم مما أنتم لاقوه إن
هلكتم على كفركم الذي أنتم عليه( لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ) يقول : ليرحمكم ربكم
إن أنتم حذرتم ذلك ، واتقيتموه بالتوبة من شرككم والإيمان به ، ولزوم طاعته فيما
أوجب عليكم من فرائضه.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله( وَإِذَا قِيلَ
لَهُمُ اتَّقُوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ ) : وقائع الله فيمن خلا قبلهم من الأمم
وما خلفهم من أمر الساعة.
وكان مجاهد يقول في ذلك ما حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم قال : ثنا
عيسى ؛ وحدثني الحارث قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، جميعًا عن ابن أبي نجيح
، عن مجاهد ، قوله( مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ ) قال : ما مضى من ذنوبهم ، وهذا القول
قريب المعنى من القول الذي قلنا ، لأن معناه : اتقوا عقوبة ما بين أيديكم من
ذنوبكم ، وما خلفكم مما تعملون من الذنوب ولم تعملوه بعد ، فذلك بعد تخويف لهم
العقاب على كفرهم.
وقوله( وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلا كَانُوا عَنْهَا
مُعْرِضِينَ ) يقول تعالى ذكره : وما تجيء هؤلاء المشركين من قريش آية ، يعني حجة
من حُجَج الله ، وعلامة من علاماته على حقيقة توحيده ، وتصديق رَسُوله ، إلا كانوا
عنها معرضين ، لا يتفكرون فيها ، ولا يتدبرونها ، فيعلموا بها ما احتجّ الله عليهم
بها.
فإن قال قائل : وأين جواب قوله( وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا مَا بَيْنَ
أَيْدِيكُمْ وَمَا خَلْفَكُمْ ) ؟ قيل : جوابه وجواب قوله( وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ
آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ ) ... قوله( إِلا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ ) لأن
الإعراض منهم كان عن كل آية لله ، فاكتفي بالجواب عن قوله( اتَّقُوا مَا بَيْنَ
أَيْدِيكُمْ ) وعن قوله( وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ ) بالخبر عن إعراضهم عنها لذلك
، لأن معنى الكلام : وإذا قيل لهم اتقوا
(20/526)
وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آَمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (47) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (48)
ما بين أيديكم وما خلفكم أعرضوا ، وإذا
أتتهم آية أعرضوا.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ
اللَّهُ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ
يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (47) }
يقول تعالى ذكره : وإذا قيل لهؤلاء المشركين بالله : أنفقوا من رزق الله الذي
رزقكم ، فأدوا منه ما فرض الله عليكم فيه لأهل حاجتكم ومسكنتكم ، قال الذين أنكروا
وحدانية الله ، وعبدوا من دونه للذين آمنوا بالله ورسوله : أنطعم أموالنا وطعامنا
مَنْ لو يشاء الله أطعمه.
وفي قوله( إِنْ أَنْتُمْ إِلا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ ) وجهان : أحدهما أن يكون من قيل
الكفار للمؤمنين ، فيكون تأويل الكلام حينئذ : ما أنتم أيها القومُ في قيلكم لنا :
أنفقوا مما رزقكم الله على مساكينكم ، إلا في ذهاب عن الحق ، وجور عن الرشد مُبين
لمن تأمله وتدبره ، أنه في ضلال ، وهذا أولى وجهيه بتأويله. والوجه الآخر : أن
يكون ذلك من قيل الله للمشركين ، فيكون تأويله حينئذ : ما أنتم أيها الكافرون في
قيلكم للمؤمنين : أنطعم من لو يشاء الله أطعمه ، إلا في ضلال مبين ، عن أن قيلكم
ذلك لهم ضلال.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ
صَادِقِينَ (48) }
يقول تعالى ذكره : ويقول هؤلاء المشركون المكذبون وعيد الله ، والبعثَ بعد الممات
، يستعجلون ربهم بالعذاب( مَتَى هَذَا الْوَعْدُ ) أي : الوعد بقيام الساعة( إِنْ
كُنْتُمْ صَادِقِينَ ) أيها القوم ، وهذا قولهم لأهل الإيمان بالله ورسوله.
(20/527)
مَا يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ (49) فَلَا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلَا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ (50)
القول في تأويل قوله تعالى : { مَا
يَنْظُرُونَ إِلا صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ (49) فَلا
يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ (50) }
يقول تعالى ذكره : ما ينتظر هؤلاء المشركون الذين يستعجلون بوعيد الله إياهم ، إلا
صيحة واحدة تأخذهم ، وذلك نفخة الفَزَع عند قيام الساعة.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل ، وجاءت الآثار.
* ذكر من قال ذلك ، وما فيه من الأثر : حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا ابن أبي عدي
ومحمد بن جعفر ، قالا ثنا عوف بن أبي جميلة عن أبي المغيرة القواس ، عن عبد الله
بن عمرو ، قال : ليُنْفَخَنّ في الصور ، والناس في طرقهم وأسواقهم ومجالسهم ، حتى
إن الثوب ليكون بين الرجلين يتساومان ، فما يُرسله أحدهما من يده حتى يُنفَخ في
الصور ، وحتى إن الرجل ليغدو من بيته فلا يرجع حتى ينفخ في الصُّور ، وهي التي قال
الله( مَا يَنْظُرُونَ إِلا صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ
فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً ) ... الآية " .
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( مَا يَنْظُرُونَ إِلا
صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ ) ذُكر لنا أن النبي صَلَّى
الله عَلَيْهِ وَسَلَّم كان يقول : " تَهِيجُ السَّاعَةُ بالنَّاسِ
وَالرَّجُلُ يَسْقِي ماشِيَتَهُ ، والرَّجُلُ يُصْلِحُ حَوْضَهُ ، والرَّجُلُ
يُقِيمُ سِلْعَتَهُ فِي سُوقِهِ والرَّجُلُ يَخْفِضُ مِيزَانَهُ وَيَرْفَعُهُ ،
وَتَهِيجُ بِهِمْ وَهُمْ كَذلكَ ، فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً ولا إلى
أهْلِهِمْ يَرْجِعُونِ " .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله( مَا يَنْظُرُونَ
إِلا صَيْحَةً وَاحِدَةً ) قال : النفخة نفخة واحدة .
حدثنا أبو كُرَيب ، قال : ثنا عبد الرحمن بن محمد المحاربي ، عن إسماعيل بن رافع ،
عمن ذكره ، عن محمد بن كعب القرظي ، عن أبي هريرة ،
(20/528)
قال : قال رسول الله صَلَّى الله
عَلَيْهِ وَسَلَّم : " إِنَّ الله لمَّا فَرَغَ مِنْ خَلْقِ السَّمواتِ
والأرْضِ خَلَقَ الصُّورَ ، فأعْطاهُ إسْرافِيلَ ، فَهُوَ وَاضِعُهُ عَلى فِيهِ
شَاخِصٌ بِبَصَرِهِ إلى العَرْش يَنْتَظِرُ مَتى يُؤْمَرُ ، قال أبو هريرة : يا
رسول الله : وما الصور ؟ قال : قَرْنٌ قال : وكَيْفَ هُوَ ؟ قال : قَرْنٌ عَظِيمٌ
يُنْفَخُ فِيهِ ثَلاثُ نَفَخاتٍ ، الأولى نَفْخَةُ الفَزَعِ ، والثَّانِيِةُ
نَفْخَةُ الصَّعْقِ ، والثَّالِثَةُ نَفْخَةُ القِيام لِرَب العالَمِينَ ،
يَأْمُرُ الله إسْرَافِيلَ بالنَّفْخَةِ الأولى فَيَقُولُ : انْفُخْ نَفْخَةَ
الفَزَعِ ، فَيَفْزَعُ أهْلُ السَّمَوَاتِ وأهْلُ الأرْضِ إلا مَنْ شَاءَ اللهُ ،
ويَأْمُرُهُ اللهُ فَيُدِيمُهَا ويُطَوِّلُها ، فَلا يَفْتُرُ ، وَهِيَ التي
يَقُولُ اللهُ( وَمَا يَنْظُرُ هَؤُلاءِ إِلا صَيْحَةً وَاحِدَةً مَا لَهَا مِنْ
فَوَاقٍ ) ثُمَّ يَأْمُرُ الله إسْرَافِيلُ بنَفْخَةِ الصَّعْقِ ، فَيَقُولُ :
انْفُخْ نَفْخَةَ الصَّعْقِ ، فَيَصْعَقُ أهْلُ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ إلا مَنْ
شَاءَ اللهُ ، فإذَا هُمْ خَامِدُونَ ، ثُمَّ يُمِيتُ مَنْ بَقِيَ ، فَإِذاَ لمَْ
يَبْقَ إِلا اللَّه الْوَاحِدُ الصَّمَدُ ، بَدَّلَ الأرْضَ غَيْرَ الأرْضِ
وَالسَّمَوَاتِ ، فَيَبْسُطُهَا وَيَسْطَحُهَا ، وَيَمُدُّهَا مَدَّ الأدِيمِ
الْعُكَاظِي ، لا تَرَى فِيهَا عِوَجا وَلا أَمْتا ، ثُمَّ يَزْجُرُ اللَّهُ
الْخَلْقَ زَجْرَةً ، فَإِذَا هُمْ فِي هَذِهِ الْمُبَدَّلَةِ فِي مِثْلِ
مَوَاضِعِهِمْ مِنَ الأولى ما كانَ في بَطْنها كان في بَطْنِها ، وَما كانَ على
ظَهْرِها كانَ عَلى ظَهْرِها " .
واختلفت القراء في قراءة قوله( وَهُمْ يَخِصِّمُونَ ) فقرأ ذلك بعض قراء المدينة :
(وَهُمْ يَخْصّمُون) بسكون الخاء وتشديد الصاد ، فجمع بين الساكنين ، بمعنى :
يختصمون ، ثم أدغم التاء في الصاد فجعلها صادا مشددة ، وترك الخاء على سكونها في
الأصل. وقرأ ذلك بعض المكيين والبصريين : (وَهُمْ يَخَصّمُون) بفتح الخاء وتشديد
الصاد بمعنى : يختصمون ، غير أنهم نقلوا حركة التاء وهي الفتحة التي في يفتعلون
إلى الخاء منها ، فحرّكوها بتحريكها ، وأدغموا التاء في الصاد وشددوها. وقرأ ذلك
بعض قراء الكوفة : ( يَخِصِّمُونَ ) بكسر الخاء وتشديد الصاد ، فكسروا الخاء بكسر
الصاد وأدغموا التاء في الصاد وشددوها. وقرأ ذلك آخرون منهم : (يَخْصِمُون) بسكون
الخاء وتخفيف الصاد ، بمعنى(يَفْعِلُون) من الخصومة ، وكأن معنى قارئ ذلك كذلك :
كأنهم يتكلمون ،
(20/529)
وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ (51) قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ (52) إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ (53)
أو يكون معناه عنده : كان وهم عند
أنفسهم يَخْصِمُون مَن وعدهم مجيء الساعة ، وقيام القيامة ، ويغلبونه بالجدل في
ذلك.
والصواب من القول في ذلك عندنا أن هذه قراءات مشهورات معروفات في قرّاء الأمصار ،
متقاربات المعاني ، فبأيتهنّ قرأ القارئ فمصيب.
وقوله( فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً ) يقول تعالى ذكره : فلا يستطيع هؤلاء
المشركون عند النفخ في الصُّور أن يوصوا في أموالهم أحدا( وَلا إِلَى أَهْلِهِمْ
يَرْجِعُونَ ) يقول : ولا يستطيع من كان منهم خارجا عن أهله أن يرجع إليهم ، لأنهم
لا يُمْهَلون بذلك. ولكن يُعَجَّلون بالهلاك.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( فَلا يَسْتَطِيعُونَ
تَوْصِيَةً ) أي : فيما في أيديهم( وَلا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ ) قال :
أُعْجِلوا عن ذلك .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله( وَمَا يَنْظُرُ
هَؤُلاءِ إِلا صَيْحَةً وَاحِدَةً ) ... الآية ، قال : هذا مبتدأ يوم القيامة ،
وقرأ( فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً ) حتى بلغ( إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ ) .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ
الأجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ (51) قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ
بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ
(52) إِنْ كَانَتْ إِلا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنَا
مُحْضَرُونَ (53) }
يقول تعالى ذكره( وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ) وقد ذكرنا اختلاف المختلفين
(20/530)
والصواب من القول فيه بشواهده فيما مضى
قبل بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع ، ويُعْنَى بهذه النفخة ، نفخة البعث.
وقوله( فَإِذَا هُمْ مِنَ الأجْدَاثِ ) يعني من أجداثهم ، وهي قبورهم ، واحدها جدث
، وفيها لغتان ، فأما أهل العالية ، فتقوله بالثاء : جَدَث ، وأما أهل السافلة
فتقوله بالفاء جَدَف.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : ثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ،
قوله( مِنَ الأجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ ) يقول : من القبور.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( فَإِذَا هُمْ مِنَ
الأجْدَاثِ ) أي : من القبور .
وقوله( إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ ) يقول : إلى ربهم يخرجون سراعا ، والنَّسَلان
: الإسراع في المشي.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : ثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ،
قوله( يَنْسِلُونَ ) يقول : يخرجون .
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( إِلَى رَبِّهِمْ
يَنْسِلُونَ ) أي : يخرجون .
وقوله( قَالُوا يَاوَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ
الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ ) يقول تعالى ذكره : قال هؤلاء المشركون لما
نفخ في الصور نفخة البعث لموقف القيامة فردت أرواحهم إلى أجسامهم ، وذلك بعد نومة
ناموها( يَاوَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا ) وقد قيل : إن ذلك نومة
بين النفختين.
(20/531)
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل
التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن بشار ، قال : ثنا أبو أحمد ، قال : ثنا سفيان ، عن منصور ، عن خيثمة
، عن الحسن ، عن أُبي بن كعب ، في قوله( يَاوَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ
مَرْقَدِنَا ) قال : ناموا نومة قبل البعث .
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا مؤمل ، قال : ثنا سفيان ، عن منصور ، عن رجل يقال له
خيثمة في قوله( يَاوَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا ) قال : ينامون نومة
قبل البعث .
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( قَالُوا يَاوَيْلَنَا
مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا ) هذا قول أهل الضلالة. والرَّقدة : ما بين
النفختين.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ؛ وحدثني الحارث ، قال
: ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، جميعًا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله(
يَاوَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا هَذَا ) قال : الكافرون يقولونه .
ويعني بقوله( مِنْ مَرْقَدِنَا هَذَا ) من أيقظنا من منامنا ، وهو من قولهم : بعث
فلان ناقته فانبعثت ، إذا أثارها فثارت. وقد ذُكر أن ذلك في قراءة ابن مسعود :
(مِنْ أّهَبَّنَاِ مِنْ مَرْقَدِنَا هَذَا) .. وفي قوله(هَذَا) وجهان : أحدهما :
أن تكون إشارة إلى " ما " ، ويكون ذلك كلاما مبتدأ بعد تناهي الخبر
الأول بقوله( مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا ) فتكون " ما " حينئذ
مرفوعة بهذا ، ويكون معنى الكلام : هذا وعد الرحمن وصدق المرسلون. والوجه الآخر :
أن تكون من صفة المرقد ، وتكون خفضا وردا على المرقد ، وعند تمام الخبر عن الأول ،
فيكون معنى الكلام : من بعثنا من مرقدنا هذا ، ثم يبتدىء الكلام فيقال : ما وعد
الرحمن ، بمعنى : بعثكم وعد الرحمن ، فتكون " ما " حينئذ رفعا على هذا
المعنى.
وقد اختلف أهل التأويل في الذي يقول حينئذ : هذا ما وعد الرحمن ،
(20/532)
فقال بعضهم : يقول ذلك أهل الإيمان
بالله.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد(
هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ ) مما سر المؤمنون يقولون هذا حين البعث .
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، في قوله( هَذَا مَا
وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ ) قال : قال أهل الهدى : هذا ما وعد
الرَّحْمَنُ وصدق المرسلون .
وقال آخرون : بل كلا القولين ، أعني( يَاوَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ
مَرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ ) : من قول
الكفار.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله( يَاوَيْلَنَا
مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا ) ثم قال بعضهم لبعض( هَذَا مَا وَعَدَ
الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ ) كانوا أخبرونا أنا نبعث بعد الموت ،
ونُحاسب ونُجازَى .
والقول الأول أشبه بظاهر التنزيل ، وهو أن يكون من كلام المؤمنين ، لأن الكفار في
قيلهم( مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا ) دليل على أنهم كانوا بمن بعثهم من
مَرْقَدهم جُهَّالا ولذلك من جهلهم استثبتوا ، ومحال أن يكونوا استثبتوا ذلك إلا
من غيرهم ، ممن خالفت صفته صفتهم في ذلك.
وقوله( إِنْ كَانَتْ إِلا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنَا
مُحْضَرُونَ ) يقول تعالى ذكره : إن كانت إعادتهم أحياء بعد مماتهم إلا صيحة واحدة
، وهي النفخة الثالثة في الصور( فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ )
يقول : فإذا هم مجتمعون لدينا قد أُحْضروا ، فأشهدوا مَوْقفَ العرض والحساب ، لم
يتخلف عنه منهم أحد. وقد بينا اختلاف المختلفين في قراءتهم( إِلا صَيْحَةً )
بالنصب والرفع فيما مضى ، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع.
(20/533)
فَالْيَوْمَ لَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَلَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (54)
القول في تأويل قوله تعالى : { فَالْيَوْمَ لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَلا تُجْزَوْنَ إِلا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (54) }
(20/534)
إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ (55)
القول في تأويل قوله تعالى : { إِنَّ
أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ (55) }
يقول تعالى ذكره( فَالْيَوْمَ) يعني يوم القيامة( لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا )
كذلك ربنا لا يظلم نفسا شيئا ، فلا يوفيها جزاء عملها الصالح ، ولا يحمل عليها
وِزْر غيرها ، ولكنه يوفي كلّ نفس أجر ما عملت من صالح ، ولا يعاقبها إلا بما
اجترمت واكتسبت من شيء( وَلا تُجْزَوْنَ إِلا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ) يقول :
ولا تكافئون إلا مكافأة أعمالكم التي كنتم تعملونها في الدنيا.
وقوله( إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ ) اختلف أهل
التأويل في معنى الشغل الذي وصف الله جلّ ثناؤه أصحاب الجنة أنهم فيه يوم القيامة
، فقال بعضهم : ذلك افتضاض العذارَى.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا يعقوب ، عن حفص بن حميد ، عن شَمِر بن عطية ، عن شقيق
بن سلمة ، عن عبد الله بن مسعود ، في قوله( إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ
فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ ) قال : شغلهم افتضاض العذارى .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا المعتمر ، عن أبيه ، عن أبي عمرو ، عن عكرمة ،
عن ابن عباس( إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ ) قال :
افتضاض الأبكار .
حدثني عبيد بن أسباط بن محمد ، قال : ثنا أبي ، عن أبيه ،
(20/534)
عن عكرمة ، عن ابن عباس( إِنَّ
أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ ) قال : افتضاض الأبكار .
حدثني الحسن بن زُرَيْق الطُّهَوِي ، قال : ثنا أسباط بن محمد ، عن أبيه ، عن
عكرمة ، عن ابن عباس ، مثله.
حدثني الحسين بن علي الصُّدائي ، قال : ثنا أبو النضر ، عن الأشجعي ، عن وائل بن
داود ، عن سعيد بن المسيب ، في قوله( إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي
شُغُلٍ فَاكِهُونَ ) قال : في افتضاض العذارى وقال آخرون : بل عُنِي بذلك : أنهم
في نعمة .
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ؛ وحدثني الحارث ، قال
: ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، جميعًا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله( إِنَّ
أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ ) قال : في نعمة .
حدثنا عمرو بن عبد الحميد ، قال : ثنا مروان ، عن جويبر ، عن أبي سهل ، عن الحسن ،
في قول الله( إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ ) .. الآية ، قال : شغلهم النعيم عما فيه
أهل النار من العذاب .
وقال آخرون : بل معنى ذلك : أنهم في شغل عما فيه أهل النار.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا نصر بن عليّ الجَهْضَمِيّ ، قال : ثنا أبي ، عن شعبة ، عن أبان بن تغلب ، عن
إسماعيل بن أبي خالد( إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ ) ... الآية ، قال : في شغل عما
يلقى أهلُ النار .
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال كما قال الله جلّ ثناؤه( إِنَّ أَصْحَابَ
الْجَنَّةِ ) وهم أهلها( فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ ) بنعم تأتيهم في شغل ، وذلك الشغل
الذي هم فيه نعمة ، وافتضاض أبكار ، ولهو ولذة ، وشغل عما يلقى أهل النار.
وقد اختلفت القراء في قراءة قوله( فِي شُغُلٍ ) فقرأت ذلك عامة قراء المدينة وبعض
البصريين على اختلاف عنه : (فِي شُغْلٍ) بضم الشين وتسكين
(20/535)
الغين. وقد رُوي عن أبي عمرو الضم في
الشين والتسكين في الغين ، والفتح في الشين والغين جميعًا في شغل.وقرأ ذلك بعض أهل
المدينة والبصرة وعامة قراء أهل الكوفة( فِي شُغُلٍ ) بضم الشين والغين.
والصواب في ذلك عندي قراءته بضم الشين والغين ، أو بضم الشين وسكون الغين ، بأي
ذلك قرأه القارئ فهو مصيب ، لأن ذلك هو القراءة المعروفة في قراء الأمصار مع تقارب
معنييهما. وأما قراءته بفتع الشين والغين ، فغير جائزة عندي ، لإجماع الحجة من
القراء على خلافها.
واختلفوا أيضًا في قراءة قوله( فَاكِهُونَ ) فقرأت ذلك عامة قراء الأمصار(
فَاكِهُونَ ) بالألف. وذُكر عن أبي جعفر القارئ أنه كان يقرؤه : (فَكِهُونَ) بغير
ألف.
والصواب من القراءة في ذلك عندي قراءة من قرأه بالألف ، لأن ذلك هو القراءة
المعروفة.
واختلف أهل التأويل في تأويل ذلك ، فقال بعضهم : معناه : فَرِحون.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني علي ، قال : ثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ،
قوله( فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ ) يقول : فرحون .
وقال آخرون : معناه : عجبون.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن
مجاهد ، قوله( فَاكِهُونَ ) قال : عجبون .
حدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعًا ، عن ابن أبي نجيح ، عن
مجاهد( فَكِهُونَ) قال : عَجِبون .
(20/536)
هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلَالٍ عَلَى الْأَرَائِكِ مُتَّكِئُونَ (56) لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ (57) سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ (58)
واختلف أهل العلم بكلام العرب في ذلك ،
فقال بعض البصريين : منهم الفكه الذي يتفكَّه. وقال : تقول العرب للرجل الذي
يتفكَّه بالطعام أو بالفاكهة ، أو بأعراض الناس : إن فلانا لفكِه بأعراض الناس ،
قال : ومن قرأها( فَاكِهُونَ ) جعله كثير الفواكه صاحب فاكهة ، واستشهد لقوله ذلك
ببيت الحُطَيئة :
وَدَعَوْتَنِي وَزَعَمْتَ أنَّكَ... لابنٌ بالصَّيْفِ تامِرْ (1)
أي عنده لبن كثير ، وتمر كثير ، وكذلك عاسل ، ولاحم ، وشاحم. وقال بعض الكوفيين :
ذلك بمنزلة حاذرون وحذرون ، وهذا القول الثاني أشبه بالكلمة.
القول في تأويل قوله تعالى : { هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلالٍ عَلَى الأرَائِكِ
مُتَّكِئُونَ (56) لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ (57) سَلامٌ
قَوْلا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ (58) }
يعني تعالى بقوله( هُمْ) أصحاب الجنة( وَأَزْوَاجُهُمْ ) من أهل الجنة في الجنة.
__________
(1) البيت للحطيئة ، وهو من شواهد أبي عبيدة في مجاز القرآن (مصورة الجامعة ص 207
- 1) قال في تفسير قوله تعالى : (في شغل فاكهون) : الفكه الذي يتفكه ، تقول العرب
للرجل إذا كان يتفكه بالطعام أو الفاكهة أو بأعراض الناس : إن فلانا لفكه بأعراض
الناس. ومن قرأها " فاكهون " : جعلها كثير الفواكه ، صاحب فاكهة ؛ قال
الحطيئة : " ودعوتني ... " البيت ، أي عنده لبن كثير ، وتمر كثير. فكذلك
عاسل ، ولاحم ، وشاحم. ا . هـ. وفي (اللسان : فكه) : رجل فكه : يأكل الفاكهة ،
وفاكه : عنده فاكهة. وكلاهما على النسب. أبو معاذ النحوي : الفاكه : الذي كثرت
فاكهته. والفكه : الذي ينال من أعراض الناس. اهـ. وفي معاني القرآن للفراء (مصورة
الجامعة ص 270) : وقوله " فاكهون " بالألف ، وتقرأ " فكهون "
. وهي بمنزلة " حذرون " " وحاذرون " . وهي في قراءة عبد الله
: " فاكهين " بالألف. وقد نقله عنه المؤلف ، ورجحه.
(20/537)
كما حدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ،
قال : ثنا ووقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله( هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي
ظِلالٍ ) قال : حلائلهم في ظلل .
واختلفت القرّاء في قراءة ذلك ، فقرأه بعضهم : (فِي ظُلَلٍ) بمعنى : جمع ظلة ، كما
تُجمع الْحُلة حُلَلا. وقرأه آخرون( في ظِلالٍ) ؛ وإذا قرىء ذلك كذلك كان له وجهان
: أحدهما أن يكون مُرادًا به جمع الظُّلَل الذي هو بمعنى الكِنّ ، فيكون معنى
الكلمة حينئذ : هم وأزواجهم في كِنّ لا يضْحَوْن لشمس كما يَضْحَى لها أهلُ الدنيا
، لأنه لا شمس فيها. والآخر : أن يكون مرادا به جمع ظلة ، فيكون وجه جمعها كذلك
نظير جمعهم الخلة في الكثرة : الخلال ، والقُلَّة : قِلال.
وقوله( عَلَى الأرَائِكِ مُتَّكِئُونَ ) والأرائك : هي الحِجال فيها السُرر والفُرُش
: واحدتها أريكة ، وكان بعضهم يزعم أن كل فِراش فأريكة ، ويستشهد لقوله ذلك بقول
ذي الرمة :
.......................... كأنَّما يُبَاشِرْنَ بالمَعزاءِ مَسَّ الأرَائِكِ (1)
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني يعقوب ، قال : ثنا هشيم ، قال : أخبرنا حُصَيْن ، عن مجاهد ، عن ابن عباس ،
في قوله( عَلَى الأرَائِكِ مُتَّكِئُونَ ) قال : هي السُّرُر في الحِجال .
__________
(1) هذا جزء من بيت لذي الرمة (ديوانه 422) وصدره :
" خدودا جفت في السير حتى كأنما " . وخدودا منصوب مفعول به لكسا في البيت
الذي قبله. وقال شارح ديوانه : أرادوا كسوا حيث موتت الرياح خدودا .. إلخ. أي
صيروا المكان الذي ناموا فيه كسوة الخدود. ا هـ. والمعزاء : الأرض فيها الحجارة
والحصى. والأرائك ؛ واحدها أريكة وهي السرير في الحجلة. يقول : من شدة النوم يرون
الأرض ذات الحجارة مثل الفرش على الأرائك. واستشهد أبو عبيدة بالبيت في مجاز
القرآن (الورقة 207) عند قوله تعالى : (على الأرائك) وقال : واحدتها : أريكة ، وهو
الفرش في الحجال. قال ذو الرمة : " خدودا ... " البيت ، جعلها فراشا.
(20/538)
حدثنا هناد ، قال : ثنا أبو الأحوص ،
عن حصين ، عن مجاهد ، في قول الله( عَلَى الأرَائِكِ مُتَّكِئُونَ ) قال : الأرائك
: السُّرر عليها الحِجال .
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا مؤمل ، قال : ثنا سفيان ، قال : ثنا حصين ، عن مجاهد ،
في قوله( مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الأرَائِكِ ) قال : الأرائك : السُّرُر في الحِجال
.
حدثنا أبو السائب ، قال : ثنا ابن إدريس ، قال : أخبرنا حُصَيْن ، عن مجاهد ، في
قوله( عَلَى الأرَائِكِ ) قال : سُرُر عليها الحِجال .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا المعتمر ، عن أبيه ، قال : زعم محمد أن عكرمة
قال : الأرائك : السُّرُر في الحِجال .
حدثني يعقوب ، قال : ثنا ابن عُلَية ، عن أبي رجاء ، قال : سمعت الحسن ، وسأله رجل
عن الأرائك قال : هي الحجال. أهل اليمن يقولون : أريكة فلان. وسمعت عكرمة وسئل
عنها فقال : هي الحجال على السُّرر .
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( عَلَى الأرَائِكِ
مُتَّكِئُونَ ) قال : هي الحِجال فيها السرر .
وقوله( لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ ) يقول لهؤلاء الذين ذكرهم تبارك وتعالى من أهل
الجنة في الجنة فاكهة( وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ ) يقول : ولهم فيها ما يتَمنُّون.
وذُكر عن العرب أنها تقول : دع عليّ ما شئت أي : تمنّ عليّ ما شئت.
وقوله( سَلامٌ قَوْلا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ ) في رفع سلامٌ وجهان في قول بعض نحويّي
الكوفة ؛ أحدهما : أن يكون خبرا لما يدّعون ، فيكون معنى الكلام : ولهم ما يدّعون
مسلَّم لهم خالص. وإذا وُجِّه معنى الكلام إلى ذلك كان القول حينئذ منصوبا توكيدا
خارجا من السلام ، كأنه قيل : ولهم فيها ما يدّعون مسلَّم خالص حقا ، كأنه قيل :
قاله قولا. والوجه الثاني : أن يكون قوله( سَلامٌ) مرفوعا على المدح ، بمعنى : هو
سلام لهم قولا من الله. وقد ذُكر أنها في قراءة عبد الله :
(20/539)
(سَلامًا قَوْلا) على أن الخبر متناه
عند قوله( وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ ) ثم نصب سلاما على التوكيد ، بمعنى : مسلما
قولا. وكان بعضُ نحويّي البصرة يقول : انتصب قولا على البدل من اللفظ بالفعل ،
كأنه قال : أقول ذلك قولا. قال : ومن نصبها نصبها على خبر المعرفة على قوله(
وَلَهُمْ) فيها(مَا يَدَّعُونَ) .
والذي هو أولى بالصواب على ما جاء به الخبر عن محمد بن كعب القُرَظِيّ ، أن يكون(
سَلامٌ) خبرا لقوله( وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ ) فيكون معنى ذلك : ولهم فيها ما
يدعون ، وذلك هو سلام من الله عليهم ، بمعنى : تسليم من الله ، ويكون قَولا ترجمة
ما يدعون ، ويكون القول خارجا من قوله : سلام.
وإنما قلت ذلك أولى بالصواب لما حَدَّثنا به إبراهيم بن سعيد الجوهري ، قال : ثنا
أبو عبد الرحمن المقري عن حرملة ، عن سليمان بن حميد ، قال : سمعت محمد بن كعب ،
يحدث عمر بن عبد العزيز ، قال : إذا فرغ الله من أهل الجنة وأهل النار ، أقبل يمشي
في ظُلَل من الغمام والملائكة ، فيقف على أول أهل درجة ، فيسلم عليهم ، فيردون
عليه السلام ، وهو في القرآن( سَلامٌ قَوْلا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ ) فيقول : سَلُوا
، فيقولون : ما نسألك وعزتك وجلالك ، لو أنك قسمت بيننا أرزاق الثَّقَلين
لأطعمناهم وسقيناهم وكسوناهم ، فيقول : سَلُوا ، فيقولون : نسألك رضاك ، فيقول :
رضائي أحلَّكم دار كرامتي ، فيفعل ذلك بأهل كلّ درجة حتى ينتهي ، قال : ولو أن
امرأة من الحُور العِين طلعت لأطفأ ضوء سِوَارَيْها الشمس والقمر ، فكيف
بالمُسَوَّرة " .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : ثنا حرملة ، عن سليمان بن حميد ، قال :
سمعت محمد بن كعب القرظي يحدث عمر بن عبد العزيز ، قال : إذ فرغ الله من أهل الجنة
وأهل النار ، أقبل في ظُلَل من الغمام والملائكة ، قال : فيسلم على أهل الجنة ،
فيردون عليه السلام ، قال القُرظي : وهذا في كتاب الله( سَلامٌ قَوْلا مِنْ رَبٍّ
رَحِيمٍ ) ؟ فيقول : سَلُوني ، فيقولون : ماذا نسألك ، أي رَبّ ؟ قال : بل سلوني
قالوا : نسألك أي ربّ رضاك ، قال : رضائي أحلكم
(20/540)
وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ (59) أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آَدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (60) وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (61)
دار كرامتي ، قالوا : يا رب وما الذي
نسألك! فوعزتك وجلالك ، وارتفاع مكانك ، لو قسمت علينا رزق الثقلين لأطعمناهم ،
ولأسقيناهم ، ولألبسناهم ولأخدمناهم ، لا يُنقصنا ذلك شيئا ، قال : إن لدي مزيدا ،
قال : فيفعل الله ذلك بهم في درجهم حتى يستوي في مجلسه ، قال : ثم تأتيهم التحف من
الله تحملها إليهم الملائكة. ثم ذكر نحوه .
حدثنا ابن سنان القزاز ، قال : ثنا أبو عبد الرحمن ، قال : ثنا حرملة ، قال : ثنا
سليمان بن حميد ، أنه سمع محمد بن كعب القرظي يحدث عمر بن عبد العزيز ، قال : إذا
فرغ الله من أهل الجنة وأهل النار ، أقبل يمشي في ظُلل من الغمام ويقف ، قال : ثم
ذكر نحوه ، إلا أنه قال : فيقولون : فماذا نسألك يا رب ، فوعزتك وجلالك وارتفاع
مكانك ، لو أنك قسمت علينا أرزاق الثقلين ، الجن والإنس ، لأطعمناهم ، ولسقيناهم ،
ولأخدمناهم ، من غير أن ينتقص ذلك شيئًا مما عندنا ، قال : بلى فسلوفي ، قالوا :
نسألك رضاك ، قال : رضائي أحلَّكم دار كرامتي ، فيفعل هذا بأهل كلّ درجة ، حتى
ينتهي إلى مجلسه. وسائر الحديث مثله " . فهذا القول الذي قاله محمد بن كعب ،
ينبىء عن أنَّ " سلام " بيان عن قوله( مَا يَدَّعُونَ) ، وأن القول خارج
من السلام. وقوله( مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ ) يعني : رحيم بهم إذ لم يعاقبهم بما سلف
لهم من جُرْم في الدنيا.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ
(59) أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ
إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (60) وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ
مُسْتَقِيمٌ (61) }
يعني بقوله( وَامْتَازُوا ) : تَميزوا ؛ وهي افتعلوا ، من ماز يميز ، فعل يفعل منه
: امتاز يمتاز امتيازا.
(20/541)
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل
التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله( وَامْتَازُوا
الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ ) قال : عُزِلوا عن كل خير .
حدثنا أبو كُرَيب ، قال : ثنا عبد الرحمن بن محمد المحاربي ، عن إسماعيل بن رافع ،
عمن حدثه ، عن محمد بن كعب القرظي ، عن أبي هريرة ، أن رسول الله صَلَّى الله
عَلَيْهِ وَسَلَّم قال : " إذَا كانَ يَوْمُ القِيامَةِ أمَرَ اللهُ
جَهَنَّمَ فَيَخْرُجُ مِنْها عُنُقٌ ساطِعٌ مُظْلِمٌ ، ثُمَّ يَقُولُ : ( أَلَمْ
أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَابَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ ) .. الآية ،
إلى قوله( هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ )( وَامْتَازُوا
الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ ) فيَتَمَيَّزُ النَّاسُ ويَجْثُونَ ، وَهِيَ
قَوْلُ اللهِ( وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ ) ... الآية " .
فتأويل الكلام إذن : وتميزوا من المؤمنين اليوم أيها الكافرون بالله ، فإنكم
واردون غير موردهم ، داخلون غير مدخلهم.
وقول( أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَابَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ
إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ) وفي الكلام متروك استغني بدلالة الكلام عليه منه
، وهو : ثم يقال : ألم أعهد إليكم يا بني آدم ، يقول : ألم أوصكم وآمركم في الدنيا
أن لا تعبدوا الشيطان فتطيعوه في معصية الله( إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ )
يقول : وأقول لكم : إن الشيطان لكم عدو مبين ، قد أبان لكم عداوته بامتناعه من
السجود ، لأبيكم آدم ، حسدًا منه له ، على ما كان الله أعطاه من الكرامة ، وغُروره
إياه ، حتى أخرجه وزوجته من الجنة.
وقوله( وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ ) يقول : وألم أعهد إليكم أن
اعبدوني دون كلّ ما سواي من الآلهة والأنداد ، وإياي فأطيعوا ، فإن إخلاص عبادتي ،
وإفراد طاعتي ، ومعصية الشيطان ، هو الدين الصحيح ، والطريق المستقيم.
(20/542)
وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيرًا أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ (62) هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (63) اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (64)
القول في تأويل قوله تعالى : {
وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلا كَثِيرًا أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ (62)
هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (63) اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِمَا
كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (64) }
يعني تعالى ذكره بقوله( وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلا كَثِيرًا ) : ولقد صد
الشيطان منكم خلقًا كثيرا عن طاعتي ، وإفرادي بالألوهة حتى عبدوه ، واتخذوا من
دوني آلهة يعبدونها.
كما حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ؛ وحدثني الحارث ،
قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، جميعًا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد( وَلَقَدْ
أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلا ) قال : خلقا .
واختلف القراء في قراءة ذلك ، فقرأته عامة قراء المدينة وبعض الكوفيين( جِبِلا)
بكسر الجيم وتشديد اللام ، وكان بعض المكِّيين وعامة قراء الكوفة يقرءونه(جُبُلا)
بضم الجيم والباء وتخفيف اللام. وكان بعض قراء البصرة يقرؤه : (جُبْلا) بضم الجيم
وتسكين الباء ، وكل هذه لغات معروفات ، غير أني لا أحب القراءة في ذلك إلا بإحدى
القراءتين اللتين إحداهما بكسر الجيم وتشديد اللام ، والأخرى : ضم الجيم والباء
وتخفيف اللام ، لأن ذلك هو القراءة التي عليها عامة قراء الأمصار.
وقوله( أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ ) يقول : أفلم تكونوا تعقلون أيها المشركون
، إذ أطعتم الشيطان في عبادة غير الله ، أنه لا ينبغي لكم أن تطيعوا عدوكم وعدو الله
، وتعبدوا غير الله. وقوله( هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ ) يقول
: هذه جهنم التي كنتم توعدون بها في الدنيا على كفركم بالله ، وتكذيبكم رسله ،
فكنتم بها تكذبون. وقيل : إن جهنم أول باب من أبواب النار. وقوله( اصْلَوْهَا
الْيَوْمَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ ) يقول : احترقُوا بها اليوم ورِدُوها ؛
يعني باليوم : يوم القيامة( بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ ) : يقول : بما كنتم
تَجْحدونها في الدنيا ، وتكذبون بها.
(20/543)
الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (65)
القول في تأويل قوله تعالى : {
الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ
أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (65) }
يعني تعالى ذكره بقوله( الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ ) : اليوم نطبع
على أفواه المشركين ، وذلك يوم القيامة( وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ ) بما عملوا
في الدنيا من معاصي الله( وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ ) قيل : إن الذي ينطق من أرجلهم
: أفخاذهم من الرجل اليُسرى( بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ) في الدنيا من الآثام.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : ثنا ابن عُلَية ، قال : ثنا يونس بن عبيد ، عن
حميد بن هلال ، قال : قال أبو بردة : قال أبو موسى : يدعى المؤمن للحساب يوم
القيامة ، فيعرض عليه ربُّه عمله فيما بينه وبينه ، فيعترف فيقول : نعم أي رب عملت
عملت عملت ، قال : فيغفر الله له ذنوبه ، ويستره منها ، فما على الأرض خليقة ترى
من تلك الذنوب شيئًا ، وتبدو حسناته ، فود أن الناس كلهم يرونها ؛ ويدعى الكافر
والمنافق للحساب ، فيعرض عليه ربه عمله فيجحده ، ويقول أي : رب ، وعزتك لقد كتب
عليّ هذا الملك ما لم أعمل ، فيقول له الملك : أما عملت كذا في يوم كذا في مكان
كذا ؟ فيقول : لا وعزتك أي رب ، ما عملته ، فإذا فعل ذلك ختم على فيه. قال الأشعري
: فإني أحسب أول ما ينطق منه لفخذه اليمنى ، ثم تلا( الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى
أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا
يَكْسِبُونَ ) .
حدثنا أبو كُرَيب ، قال : ثنى يحيى ، عن أبي بكر بن عياش ، عن الأعمش ، عن الشعبي
، قال : يقال للرجل يوم القيامة : عملت كذا وكذا ، فيقول : ما عملت ، فيختم على
فيه ، وتنطق جوارحه ، فيقول لجوارحه : أبعدكن الله ، ما خاصمت إلا فيكن .
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله( الْيَوْمَ
(20/544)
وَلَوْ نَشَاءُ لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّرَاطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ (66) وَلَوْ نَشَاءُ لَمَسَخْنَاهُمْ عَلَى مَكَانَتِهِمْ فَمَا اسْتَطَاعُوا مُضِيًّا وَلَا يَرْجِعُونَ (67)
نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ ) ....
الآية ، قال : قد كانت خصومات وكلام ، فكان هذا آخره ، ( نَخْتِمُ عَلَى
أَفْوَاهِهِمْ ).
حدثني محمد بن عوف الطائي ، قال : ثنا ابن المبارك ، عن ابن عياش ، عن ضمضم بن
زرعة ، عن شريح بن عبيد ، عن عقبة بن عامر ، أنه سمع النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ
وَسَلَّم يقول : " أوَّلُ شَيْءٍ يَتَكَلَّمُ مِنَ الإنْسانِ ، يَوْمَ
يَخْتِمُ اللهُ على الأفْوَاهِ ، فَخِذُهُ مِنْ رِجْلِهِ اليُسْرَى " .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلَوْ نَشَاءُ لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ
فَاسْتَبَقُوا الصِّرَاطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ (66) وَلَوْ نَشَاءُ
لَمَسَخْنَاهُمْ عَلَى مَكَانَتِهِمْ فَمَا اسْتَطَاعُوا مُضِيًّا وَلا
يَرْجِعُونَ (67) }
اختلف أهل التأويل في تأويل قوله( وَلَوْ نَشَاءُ لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ
فَاسْتَبَقُوا الصِّرَاطَ ) فقال بعضهم : معنى ذلك : ولو نشاء لأعميناهم عن الهدى
، وأضللناهم عن قصد المَحَجَّة.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني علي ، قال : ثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس ،
قوله( وَلَوْ نَشَاءُ لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ ) يقول : أضللتهم وأعميتهم
عن الهدى وقال آخرون : معنى ذلك : ولو نشاء لتركناهم عميا.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني يعقوب ، قال : ثنا ابن عُلَية ، عن أبي رجاء ، عن الحسن ، في قوله( وَلَوْ
نَشَاءُ لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّرَاطَ فَأَنَّى
يُبْصِرُونَ ) قال : لو يشاء لطمس على أعينهم فتركهم عميًا يترددون .
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله( وَلَوْ نَشَاءُ
(20/545)
لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ
فَاسْتَبَقُوا الصِّرَاطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ ) يقول : لو شئنا لتركناهم عميا
يترددون . وهذا القول الذي ذكرناه عن الحسن وقتادة أشبه بتأويل الكلام ، لأن الله
إنما تهدد به قومًا كفارا ، فلا وجه لأن يقال : وهم كفار ، لو نشاء لأضللناهم وقد
أضلهم ، ولكنه قال : لو نشاء لعاقبناهم على كفرهم ، فطمسنا على أعينهم فصيرناهم
عميا لا يبصرون طريقا ، ولا يهتدون له ؛ والطَّمْس على العين : هو أن لا يكون بين
جفني العين غرٌّ ، وذلك هو الشق الذي بين الجفنين (1) كما تطمس الريح الأثر ، يقال
: أعمى مطموس وطميس.
وقوله( فَاسْتَبَقُوا الصِّرَاطَ ) يقول : فابتدروا الطريق.
كما حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ؛ وحدثني الحارث ،
قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، جميعًا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله(
فَاسْتَبَقُوا الصِّرَاطَ ) قال الطريق .
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( فَاسْتَبَقُوا
الصِّرَاطَ ) أي : الطريق .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله( فَاسْتَبَقُوا
الصِّرَاطَ ) قال : الصراط ، الطريق .
وقوله( فَأَنَّى يُبْصِرُونَ ) يقول : فأي وجه يبصرون أن يسلكوه من الطرق ، وقد
طمسنا على أعينهم.
كما حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ؛ وحدثني الحارث ،
قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، جميعًا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله(
فَأَنَّى يُبْصِرُونَ ) وقد طمسنا على أعينهم .
وقال الذين وجهوا تأويل قوله( وَلَوْ نَشَاءُ لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ )
إلى أنه معني به العمى عن الهدى ، تأويل قوله( فَأَنَّى يُبْصِرُونَ ) : فأنى
يهتدون للحق
__________
(1) كذا في مجاز القرآن لأبي عبيدة (مصورة الجامعة ، الورقة 207).
(20/546)
.
* ذكر من قال ذلك :
- حدثني علي ، قال : ثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس(
فَأَنَّى يُبْصِرُونَ ) يقول : فكيف يهتدون .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثنى أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ،
عن ابن عباس( فَأَنَّى يُبْصِرُونَ ) يقول : لا يبصرون الحق .
وقوله( وَلَوْ نَشَاءُ لَمَسَخْنَاهُمْ عَلَى مَكَانَتِهِمْ ) يقول تعالى ذكره :
ولو نشاء لأقعدنا هؤلاء المشركين من أرجلهم في منازلهم( فَمَا اسْتَطَاعُوا
مُضِيًّا وَلا يَرْجِعُونَ ) يقول : فلا يستطيعون أن يمضوا أمامهم ، ولا أن يرجعوا
وراءهم.
وقد اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك ، فقال بعضهم نحو الذي قلنا في ذلك.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني يعقوب ، قال : ثنا ابن عُلَية ، عن أبي رجاء ، عن الحسن( وَلَوْ نَشَاءُ
لَمَسَخْنَاهُمْ عَلَى مَكَانَتِهِمْ ) قال : لو نشاء لأقعدناهُمْ .
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، ثنا سعيد عن قتادة( وَلَوْ نَشَاءُ لَمَسَخْنَاهُمْ
عَلَى مَكَانَتِهِمْ ) أي : لأقعدناهم على أرجلهم( فَمَا اسْتَطَاعُوا مُضِيًّا
وَلا يَرْجِعُونَ ) فلم يستطيعوا أن يتقدموا ولا يتأخروا .
وقال آخرون : بل معنى ذلك : ولو نشاء لأهلكناهم في منازلهم .
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ،
عن ابن عباس ، قوله( وَلَوْ نَشَاءُ لَمَسَخْنَاهُمْ عَلَى مَكَانَتِهِمْ فَمَا
اسْتَطَاعُوا مُضِيًّا وَلا يَرْجِعُونَ ) يقول : ولو نشاء أهلكناهم في مساكنهم ،
والمكانة والمكان بمعنى واحد. وقد بيَّنا ذلك فيما مضى قبل .
(20/547)
وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلَا يَعْقِلُونَ (68) وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآَنٌ مُبِينٌ (69) لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ (70)
القول في تأويل قوله تعالى : { وَمَنْ
نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلا يَعْقِلُونَ (68) وَمَا
عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ
مُبِينٌ (69) لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى
الْكَافِرِينَ (70) }
يقول تعالى ذكره( وَمَنْ نُعَمِّرْهُ ) فنمُد له في العمر( نُنَكِّسْهُ فِي
الْخَلْقِ ) نرده إلى مثل حاله في الصبا من الهرم والكبر ، وذلك هو النكس في الخلق
، فيصير لا يعلم شيئا بعد العلم الذي كان يعلمه.
وبالذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة قوله( وَمَنْ نُعَمِّرْهُ
نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ ) يقول : من نمد له في العمر ننكسه في الخلق ، لكيلا
يعلم بعد علم شيئا ، يعني الهَرَم .
واختلفت القراء في قراءة قوله( نُنَكِّسْهُ ) فقرأه عامة قراء المدينة والبصرة
وبعض الكوفيين : (نَنْكِسْهُ) بفتح النون الأولى وتسكين الثانية ، وقرأته عامة
قراء الكوفة( نُنَكِّسْهُ ) بضم النون الأولى وفتح الثانية وتشديد الكاف.
والصواب من القول في ذلك أنهما قراءتان مشهورتان في قراء الأمصار ، فبأيتهما قرأ
القارئ فمصيب ، غير أن التي عليها عامة قراء الكوفيين أعجبُ إليّ ، لأن التنكيس من
الله في الخلق إنما هو حال بعد حال ، وشيء بعد شيء ، فذلك تأييد للتشديد.
وكذلك اختلفوا في قراءة قوله( أَفَلا يَعْقِلُونَ ) فقرأته قراء المدينة(أفَلا
تَعْقِلُونَ) بالتاء على وجه الخطاب. وقرأته قراء الكوفة بالياء على الخبر ،
وقراءة ذلك بالياء أشبه بظاهر التنزيل ، لأنه احتجاج من الله على المشركين الذين
قال
(20/548)
فيهم( وَلَوْ نَشَاءُ لَطَمَسْنَا
عَلَى أَعْيُنِهِمْ ) فإخراج ذلك خبرا على نحو ما خرج قوله( لَطَمَسْنَا عَلَى
أَعْيُنِهِمْ ) أعجب إلي ، وإن كان الآخر غير مدفوع.
ويعني تعالى ذكره بقوله( أَفَلا يَعْقِلُونَ ) : أفلا يعقل هؤلاء المشركون قُدْرة
الله على ما يشاء بمعاينتهم ما يعاينون من تصريفه خلقه فيما شاء وأحب من صغر إلى
كبر ، ومن تنكيس بعد كبر في هرم.
وقوله( وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ ) يقول تعالى ذكره :
وما علَّمنا محمدا الشعر ، وما ينبغي له أن يكون شاعرا.
كما حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله( وَمَا
عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ ) قال : قيل لعائشة : هل كان رسول
الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم يتمثل بشيء من الشعر ؟ قالت : كان أبغض الحديث
إليه ، غير أنه كان يتمثَّل ببيت أخي بني قيس ، فيجعل آخره أوله ، وأوله آخره ،
فقال له أبو بكر : إنه ليس هكذا ، فقال نبي الله : " إني وَاللهِ ما أنا
بِشاعِرٍ ، وَلا يَنْبَغِي لي " .
وقوله( إِنْ هُوَ إِلا ذِكْرٌ ) يقول تعالى ذكره : ما هو إلا ذكر ، يعني بقوله)
إنْ هُوَ) أي : محمد إلا ذكر لكم أيها الناس ، ذكركم الله بإرساله إياه إليكم ،
ونبهكم به على حظكم( وَقُرْآنٍ مُبِينٍ ) يقول : وهذا الذي جاءكم به محمد قرآن
مبين ، يقول : يَبِين لمن تدبَّره بعقل ولب ، أنه تنزيل من الله أنزله إلى محمد ،
وأنه ليس بشعر ولا مع كاهن.
كما حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( وَقُرْآنٍ مُبِينٍ )
قال : هذا القرآن .
وقوله( لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا ) يقول : إن محمد إلا ذكر لكم لينذر منكم
أيها الناس من كان حي القلب ، يعقل ما يقال له ، ويفهم ما يُبين له ، غير ميت
الفؤاد بليد.
(20/549)
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل
التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا أبو كُرَيب ، قال : ثنا أبو معاوية ، عن رجل ، عن أبي رَوْق ، عن الضحاك ،
في قوله( لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا ) قال : من كان عاقلا .
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ
حَيًّا ) : حي القلب ، حي البصر .
قوله( وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ ) يقول : ويحق العذاب على أهل
الكفر بالله ، المولِّين عن اتباعه ، المعرضين عما أتاهم به من عند الله.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( وَيَحِقَّ الْقَوْلُ
عَلَى الْكَافِرِينَ ) بأعمالهم .
(20/550)
أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ (71) وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ (72)
القول في تأويل قوله تعالى : {
أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا
فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ (71) وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ
وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ (72) }
يقول تعالى ذكره( أَوَلَمْ يَرَوْا ) هؤلاء المشركون بالله الآلهة والأوثان(
أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا ) يقول : مما خلقنا من الخلق(
أَنْعَامًا ) وهي المواشي التي خلقها الله لبني آدم ، فسخَّرها لهم من الإبل
والبقر والغنم( فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ ) يقول : فهم لها مصرِّفون كيف شاءوا
بالقهر منهم لها والضبط.
كما حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله( فَهُمْ لَهَا
مَالِكُونَ ) أي : ضابطون .
(20/550)
وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ أَفَلَا يَشْكُرُونَ (73) وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آَلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ (74)
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ،
قال : قال ابن زيد ، في قوله( أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا
عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ ) فقيل له : أهي الإبل ؟
فقال : نعم ، قال : والبقر من الأنعام ، وليست بداخلة في هذه الآية ، قال : والإبل
والبقر والغنم من الأنعام ، وقرأ( ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ ) قال : والبقر والإبل هي
النعم ، وليست تدخل الشاء في النعم .
وقوله( وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ ) يقول : وذللنا لهم هذه الأنعام( فَمِنْهَا
رَكُوبُهُمْ ) يقول : فمنها ما يركبون كالإبل يسافرون عليها ؛ يقال : هذه دابة
ركوب ، والرُّكوب بالضم : هو الفعل( وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ ) لحومها.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ
فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ ) : يركبونها يسافرون عليها( وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ )
لحومها .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ أَفَلا
يَشْكُرُونَ (73) وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ
يُنْصَرُونَ (74) }
يقول تعالى ذكره : ولهم في هذه الأنعام منافع ، وذلك منافع في أصوافها وأوبارها
وأشعارها باتخاذهم من ذلك أثاثًا ومتاعًا ، ومن جلودها أكنانا ، ومشارب يشربون
ألبانها.
كما حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( وَلَهُمْ فِيهَا
مَنَافِعُ ) يلبسون أصوافها( وَمَشَارِبُ ) يشربون ألبانها .
وقوله( أَفَلا يَشْكُرُونَ ) يقول : أفلا يشكرون نعمتي هذه ، وإحساني إليهم بطاعتي
، وإفراد الألوهية والعبادة ، وترك طاعة الشيطان وعبادة الأصنام.
(20/551)
لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ (75) فَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ (76)
قوله( وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ
آلِهَةً ) يقول : واتخذ هؤلاء المشركون من دون الله آلهة يعبدونها( لَعَلَّهُمْ
يُنْصَرُونَ ) يقول : طمعا أن تنصرهم تلك الآلهة من عقاب الله وعذابه.
القول في تأويل قوله تعالى : { لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ
مُحْضَرُونَ (75) فَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ
وَمَا يُعْلِنُونَ (76) }
يقول تعالى ذكره : لا تستطيع هذه الآلهة نصرهم من الله إن أراد بهم سوءا ، ولا
تدفع عنهم ضرا.
وقوله( وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ ) يقول : وهؤلاء المشركون لآلهتهم جند
محضَرون.
واختلف أهل التأويل في تأويل قوله( مُحْضَرُونَ ) وأين حضورهم إياهم ، فقال بعضهم
: عني بذلك : وهم لهم جند محضرون عند الحساب.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ؛ وحدثني الحارث ، قال
: ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، جميعًا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله(
وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ ) قال : عند الحساب .
وقال آخرون : بل معنى ذلك : وهم لهم جند محضَرون في الدنيا يغضبون لهم.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( لا يَسْتَطِيعُونَ
نَصْرَهُمْ ) الآلهة( وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ ) والمشركون يغضبون للآلهة
في الدنيا ، وهي لا تسوق إليهم خيرا ، ولا تدفع عنهم سوءا ، إنما هي أصنام .
(20/552)
أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (77) وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (79)
وهذا الذي قاله قتادة أولى القولين
عندنا بالصواب في تأويل ذلك ، لأن المشركين عند الحساب تتبرأ منهم الأصنام ، وما
كانوا يعبدونه ، فكيف يكونون لها جندا حينئذ ، ولكنهم في الدنيا لهم جند يغضبون
لهم ، ويقاتلون دونهم.
وقوله تعالى( فَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ ) يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صَلَّى
الله عَلَيْهِ وَسَلَّم : فلا يحْزُنْك يا محمد قول هؤلاء المشركين بالله من قومك
لك : إنك شاعر ، وما جئتنا به شعر ، ولا تكذيبهم بآيات الله وجحودهم نبوتك.
وقوله( إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ ) يقول تعالى ذكره : إنا
نعلم أن الذي يدعوهم إلى قيل ذلك الحسد ، وهم يعلمون أن الذي جئتهم به ليس بشعر ،
ولا يشبه الشعر ، وأنك لست بكذاب ، فنعلم ما يسرون من معرفتهم بحقيقة ما تدعوهم
إليه ، وما يعلنون من جحودهم ذلك بألسنتهم علانية.
القول في تأويل قوله تعالى : { أَوَلَمْ يَرَ الإنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ
نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (77) وَضَرَبَ لَنَا مَثَلا وَنَسِيَ
خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78) قُلْ يُحْيِيهَا
الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (79) }
يقول تعالى ذكره( أَوَلَمْ يَرَ الإنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ ) واخُتلف في
الإنسان الذي عُني بقوله( أَوَلَمْ يَرَ الإنْسَانُ ) فقال بعضهم : عُني به أُبي
بن خلف.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عُمارة ، قال : ثنا عبيد الله بن موسى ، قال : ثنا إسرائيل ، عن أبي
يحيى عن مجاهد ، في قوله( مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ ) قال : أُبي بن
خَلَف أتى رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم بعَظْم .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ؛ وحدثني الحارث ، قال
: ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، جميعًا عن ابن أبي نجيح ، عن
(20/553)
مجاهد ، قوله( وَضَرَبَ لَنَا مَثَلا )
أبي بن خلف .
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله( قَالَ مَنْ
يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ ) : ذُكر لنا أن أُبيَّ بن خلف ، أتى رسول الله
صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم بعظم حائل ، ففتَّه ، ثم ذراه في الريح ، ثم قال :
يا محمد من يحيي هذا وهو رميم ؟ قال : " والله يحييه ، ثم يميته ، ثم يُدخلك
النار ؛ قال : فقتله رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم يوم أُحد .
وقال آخرون : بل عني به : العاص بن وائل السَّهمي.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : ثنا هشيم ، قال : أخبرنا أبو بشر ، عن سعيد بن
جبير ، قال : جاء العاص بن وائل السهمي إلى رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ
وَسَلَّم بعظْم حائل ، ففته بين يديه ، فقال : يا محمد أيبعث الله هذا حيا بعد ما
أرم ؟ قال : نَعَمْ يَبْعَثُ اللهُ هَذَا ، ثُمَّ يُمِيتُكَ ثُمَّ يُحْييكَ ،
ثُمَّ يُدْخِلُك نَار جَهَنَّم " قال : ونزلت الآيات( أَوَلَمْ يَرَ
الإنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ ) ..
" وإلى آخر الآية .
وقال آخرون : بل عُنِي به : عبد الله بن أُبي.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ،
عن ابن عباس( أَوَلَمْ يَرَ الإنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ ) .. إلى
قوله( وَهِيَ رَمِيمٌ ) قال : جاء عبد الله بن أبي إلى النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ
وَسَلَّم بعظْم حائل فكسره بيده ، ثم قال : يا محمد كيف يبعث الله هذا وهو رميم ؟
فقال رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم : يَبْعَثُ اللهُ هَذَا ،
ويُمِيتُكَ ثُمَّ يُدْخِلُكَ جَهَنَّمَ ، فقال الله( قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي
أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ ) .
(20/554)
الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ (80) أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ (81)
فتأويل الكلام إذن : أو لم ير هذا
الإنسان الذي يقول( مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ ) أنا خلقناه من نطفة
فسويناه خلقا سَوِيًّا( فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ ) يقول : فإذا هو ذو خصومة لربه ،
يخاصمه فيما قال له ربه إني فاعل ، وذلك إخبار لله إياه أنه مُحْيي خلقه بعد
مماتهم ، فيقول : مَنْ يحيي هذه العظام وهي رميم ؟ إنكارا منه لقُدرة الله على
إحيائها.
وقوله( مُبِينٌ ) يقول : يبين لمن سمع خُصومته وقيله ذلك أنه مخاصم ربه الذي خلقه.
وقوله( وَضَرَبَ لَنَا مَثَلا وَنَسِيَ خَلْقَهُ ) يقول : ومثَّل لنا شبها بقوله(
مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ ) إذ كان لا يقدر على إحياء ذلك أحد ،
يقول : فجعلنا كمن لا يقدر على إحياء ذلك من الخلق( وَنَسِيَ خَلْقَهُ ) يقول :
ونسي خَلْقَنا إياه كيف خلقناه ، وأنه لم يكن إلا نطفة ، فجعلناها خلقا سَوِيًّا
ناطقا ، يقول : فلم يفكر في خلقناه ، فيعلم أن من خلقه من نطفة حتى صار بشرا سويا
ناطقا متصرفا ، لا يعْجِز أن يعيد الأموات أحياء ، والعظام الرَّميم بشَرا كهيئتهم
التي كانوا بها قبل الفناء ، يقول الله لنبيه محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم(
قُلْ) لهذا المشرك القائل لك : من يُحيي العظام وهي رميم( يُحْيِيهَا الَّذِي
أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ ) يقول : يحييها الذي ابتدع خلْقها أول مرة ولم تكن
شيئا( وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ ) يقول : وهو بجميع خلقه ذو علم كيف يميت ،
وكيف يحيي ، وكيف يبدىء ، وكيف يعيد ، لا يخفي عليه شيء من أمر خلقه.
القول في تأويل قوله تعالى : { الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الأخْضَرِ
نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ (80) أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ
السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ
الْخَلاقُ الْعَلِيمُ (81) }
يقول تعالى ذكره : قل يحييها الذي أنشأها أول مرة( الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ
(20/555)
إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (82) فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (83)
مِنَ الشَّجَرِ الأخْضَرِ نَارًا )
يقول : الذي أخرج لكم من الشجر الأخضر نارا تُحْرق الشجر ، لا يمتنع عليه فعل ما
أراد ، ولا يعجز عن إحياء العظام التي قد رَمَّت ، وإعادتها بشَرا سويا ، وخلقا
جديدا ، كما بدأها أول مرة.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ
مِنَ الشَّجَرِ الأخْضَرِ نَارًا ) يقول : الذي أخرج هذه النار من هذا الشجر قادر
أن يبعثه .
قوله( فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ ) يقول : فإذا أنتم من هذا الشجر توقدون
النار ؛ وقال) مِنْهُ) والهاء من ذكر الشجر ، ولم يقل : منها ، والشجر جمع شجرة ،
لأنه خرج مخرج الثمر والحصَى ، ولو قيل : منها كان صوابا أيضًا ، لأن العرب تذكِّر
مثل هذا وتؤنِّثه.
( أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ
يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ ) يقول تعالى ذكره منبها هذا الكافر الذي قال( مَنْ يُحْيِي
الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ ) على خطأ قوله ، وعظيم جهله( أَوَلَيْسَ الَّذِي
خَلَقَ السَّمَاوَاتِ ) السبع( وَالأرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ ) مثلكم ،
فإن خلق مثلكم من العظام الرميم ليس بأعظم من خلق السَّمَواتِ والأرض. يقول : فمن
لم يتعذر عليه خلق ما هو أعظم من خلقكم ، فكيف يتعذر عليه إحياء العظام بعد ما قد
رمَّت وبلِيَت ؟ وقوله( بَلَى وَهُوَ الْخَلاقُ الْعَلِيمُ ) يقول : بلى هو قادر
على أن يخلق مثلهم وهو الخلاق لما يشاء ، الفعَّال لما يريد ، العليم بكل ما خلق
ويخلق ، لا يخفي عليه خافية.
القول في تأويل قوله تعالى : { إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ
يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (82) فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ
شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (83) }
(20/556)
يقول تعالى ذكره( إِنَّمَا أَمْرُهُ
إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ) وكان قتادة يقول في ذلك
ما حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( أَوَلَيْسَ الَّذِي
خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى
وَهُوَ الْخَلاقُ الْعَلِيمُ ) قال : هذا مثل إنما أمر. إذا أراد شيئا أن يقول له
كن فيكون ، قال : ليس من كلام العرب شيء هو أخف من ذلك ، ولا أهون ، فأمر الله
كذلك .
وقوله( فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ ) يقول تعالى ذكره :
فتنزيه الذي بيده ملك كل شيء وخزائنه. وقوله( وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ) يقول :
وإليه تردون وتصيرون بعد مماتكم.
آخر تفسير سورة يس
(20/557)
وَالصَّافَّاتِ صَفًّا (1) فَالزَّاجِرَاتِ زَجْرًا (2) فَالتَّالِيَاتِ ذِكْرًا (3)
تفسير سورة الصافات بسم الله الرحمن
الرحيم
القول في تأويل قوله تعالى : { وَالصَّافَّاتِ صَفًّا (1) فَالزَّاجِرَاتِ زَجْرًا
(2) فَالتَّالِيَاتِ ذِكْرًا (3) }
قال أبو جعفر : أقسم الله تعالى ذكره بالصافات ، والزاجرات ، والتاليات ذكرا; فأما
الصافات : فإنها الملائكة الصافات لربها في السماء وهي جمع صافَّة ، فالصافات :
جَمْعُ جَمْعٍ ، وبذلك جاء تأويل أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني سلْم بن جنادة ، قال : ثنا أبو معاوية ، عن الأعمش ، عن مسلم ، قال : كان
مسروق يقول في الصَّافَّات : هي الملائكة.
حدثنا إسحاق بن أبي إسرائيل ، قال : أخبرنا النضر بن شميل ، قال : أخبرنا شُعْبة ،
عن سليمان ، قال : سمعت أبا الضحى ، عن مسروق ، عن عبد الله ، بمثله.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة(وَالصَّافَّاتِ صَفًّا)
قال : قسم أقسم الله بخلق ، ثم خلق ، ثم خلق ، والصافات : الملائكة صُفوفا في
السماء.
حدثني محمد بن الحسين ، قال : ثنا أحمد بن المفضل ، قال : ثنا أسباط ، عن السديّ ،
في قوله(وَالصَّافَّاتِ) قال : هم الملائكة.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله
(21/557)
(وَالصَّافَّاتِ صَفًّا) قال : هذا قسم
أقسم الله به.
واختلف أهل التأويل في تأويل قوله(فالزاجرات زجرا) فقال بعضهم : هي الملائكة تزجُر
السحاب تسوقه.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ; وحدثني الحارث ، قال
: ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في
قوله(فَالزَّاجِرَاتِ زَجْرًا) قال : الملائكة.
حدثني محمد بن الحسين ، قال : ثنا أحمد بن المفضل ، قال : ثنا أسباط ، عن السديّ ،
في قوله : (فَالزَّاجِرَاتِ زَجْرًا) قال : هم الملائكة.
وقال آخرون : بل ذلك آي القرآن التي زجر الله بها عما زَجر بها عنه في القرآن.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله(فَالزَّاجِرَاتِ
زَجْرًا) قال : ما زَجَر الله عنه في القرآن.
والذي هو أولى بتأويل الآية عندنا ما قال مجاهد ، ومن قال هم الملائكة ، لأن الله
تعالى ذكره ، ابتدأ القسم بنوع من الملائكة ، وهم الصافون بإجماع من أهل التأويل ،
فلأن يكون الذي بعده قسما بسائر أصنافهم أشبه.
وقوله(فَالتَّالِيَاتِ ذِكْرًا) يقول : فالقارئات كتابا.
واختلف أهل التأويل في المعني بذلك ، فقال بعضهم : هم الملائكة.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث ، قال :
ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد(فالتاليات ذكرا)
قال : الملائكة.
(21/8)
إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ (4) رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ الْمَشَارِقِ (5) إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ (6) وَحِفْظًا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ (7) لَا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ (8) دُحُورًا وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ (9) إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ (10)
حدثنا محمد بن الحسين ، قال : ثنا أحمد
بن المفضل ، قال : ثنا أسباط ، عن السدي(فالتاليات ذكرا) قال : هم الملائكة.
وقال آخرون : هو ما يُتلى في القرآن من أخبار الأمم قبلنا.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة(فَالتَّالِيَاتِ ذِكْرًا)
قال : ما يُتلى عليكم في القرآن من أخبار الناس والأمم قبلكم.
القول في تأويل قوله تعالى : { إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ (4) رَبُّ
السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ الْمَشَارِقِ (5) إِنَّا
زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ (6) وَحِفْظًا مِنْ كُلِّ
شَيْطَانٍ مَارِدٍ (7) لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلإ الأعْلَى وَيُقْذَفُونَ
مِنْ كُلِّ جَانِبٍ (8) دُحُورًا وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ (9) إِلا مَنْ خَطِفَ
الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ (10) }
يعني تعالى ذكره بقوله : (إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ ) والصافات صفا إن معبودكم
الذي يستوجب عليكم أيها الناس العبادة ، وإخلاص الطاعة منكم له لواحد لا ثاني له
ولا شريك. يقول : فأخلصوا العبادة وإياه فأفردوا بالطاعة ، ولا تجعلوا له في
عبادتكم إياه شريكا.
وقوله( رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا) يقول : هو واحد خالق
السموات السبع وما بينهما من الخلق ، ومالك ذلك كله ، والقيِّم على جميع ذلك ،
يقول : فالعبادة لا تصلح إلا لمن هذه صفته ، فلا تعبدوا غيره ، ولا تشركوا معه في
عبادتكم إياه من لا يضر ولا ينفع ، ولا يخلق شيئا ولا يُفْنيه.
واختلف أهل العربية في وجه رفع رب السموات ، فقال بعض نحويي البصرة ، رُفع على
معنى : إن إلهكم لرب. وقال غيره : هو رَد على " إن إلهكم
(21/9)
لواحد " ; ثم فَسَّر الواحد ،
فقال : رب السموات ، وهو رد على واحد. وهذا القول عندي أشبه بالصواب في ذلك ، لأن
الخبر هو قوله(لَوَاحِدٌ) ، وقوله(رَبُّ السَّمَوَاتِ) ترجمة عنه ، وبيان مردود
على إعرابه.
وقوله(وَرَبُّ الْمَشَارِقِ) يقول : ومدبر مشارق الشمس في الشتاء والصيف ومغاربها
، والقيِّم على ذلك ومصلحه ، وترك ذكر المغارب لدلالة الكلام عليه ، واستغني بذكر
المشارق من ذكرها ، إذ كان معلوما أن معها المغارب.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة(إِنَّ إِلَهَكُمْ
لَوَاحِدٌ ) وقع القسم على هذا إن إلهكم لواحد( رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ
وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ الْمَشَارِقِ ) قال : مشارق الشمس في الشتاء والصيف.
حدثني محمد بن الحسين ، قال : ثنا أحمد بن المفضل ، قال : ثنا أسباط ، عن السدي ،
قوله(رَبُّ الْمَشَارِقِ) قال : المشارق ستون وثلاث مئة مَشْرِق ، والمغارب مثلها
، عدد أيام السنة
وقوله( إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ ) اختلفت
القراء في قراءة قوله(بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ) فقرأته عامة قراء المدينة والبصرة
وبعض قراء الكوفة بزينة الكواكب بإضافة الزينة إلى الكواكب ، وخفض الكواكب(إِنَّا
زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا) التي تليكم أيها الناس وهي الدنيا إليكم
بتزيينها الكواكب : أي بأن زينتها الكواكب. وقرأ ذلك جماعة من قراء
الكوفة(بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ) بتنوين زينة ، وخفض الكواكب ردا لها على الزينة ،
بمعنى : إنا زينا السماء الدنيا بزينة هي الكواكب ، كأنه قال : زيناها بالكواكب.
ورُوِي عن بعض قراء الكوفة أنه كان ينون الزِّينة وينصب الكواكبَ ، بمعنى : إنا
زينا السماء الدنيا بتزييننا الكواكبَ. ولو كانت القراءة في الكواكب جاءت رفعا إذ
نونت الزينة ، لم
(21/10)
يكن لحنا ، وكان صوابا في العربية ،
وكان معناه : إنا زينا السماء الدنيا بتزيينها الكواكب : أي بأن زينتها الكواكب
وذلك أن الزينة مصدر ، فجائز توجيهها إلى أيِّ هذه الوجوه التي وُصِفت في العربية.
وأما القراءة فأعجبها إلي بإضافة الزينة إلى الكواكب وخفض الكواكب لصحة معنى ذلك
في التأول والعربية ، وأنها قراءة أكثر قراء الأمصار وإن كان التنوين في الزينة
وخفض الكواكب عندي صحيحا أيضا. فأما النصب في الكواكب والرفع ، فلا أستجيز القراءة
بهما ، لإجماع الحجة من القراء على خلافهما ، وإن كان لهما في الإعراب والمعنى وجه
صحيح.
وقد اختلف أهل العربية في تأويل ذلك إذا أضيفت الزينة إلى الكواكب ، فكان بعض
نحويي البصرة يقول : إذا قرئ ذلك كذلك فليس يعني بعضَها ، ولكن زينتها حسنها ،
وكان غيره يقول : معنى ذلك : إذا قرئ كذلك : إنا زينا السماء الدنيا بأن زينتها
الكواكب.
وقد بيَّنا الصواب في ذلك عندنا.
وقوله(وَحِفْظا) يقول تعالى ذكره : (وحفظا) للسماء الدنيا زيناها بزينة الكواكب.
وقد اختلف أهل العربية في وجه نصب قوله(وحِفْظا) فقال بعض نحويي البصرة : قال
وحفظا ، لأنه بدل من اللفظ بالفعل ، كأنه قال : وحفظناها حفظا. وقال بعض نحويي
الكوفة : إنما هو من صلة التزيين أنا زينا السماء الدنيا حفظا لها ، فأدخل الواو
على التكرير : أي وزيناها حفظا لها ، فجعله من التزيين ، وقد بيّنا القول فيه
عندنا. وتأويل الكلام : وحفظا لها من كل شيطان عات خبيث زيناها.
كما حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله(وَحِفْظا)
يقول : جعلتها حفظا من كل ، شيطان مارد.
وقوله(لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلإ الأعْلَى ) اختلفت القراء في قراءة قوله
(21/11)
( لا يَسَّمَّعُونَ ) فقرأ ذلك عامة
قراء المدينة والبصرة ، وبعض الكوفيين : ( لا يَسْمَعُونَ ) بتخفيف السين من
يسمعون ، بمعنى أنهم يتسمَّعون ولا يسمعون. وقرأ ذلك عامة قراء الكوفيين بعد لا
يسمعون بمعنى : لا يتسمعون ، ثم أدغموا التاء في السين فشددوها.
وأولى القراءتين في ذلك عندي بالصواب قراءة من قرأه بالتخفيف ، لأن الأخبار
الواردة عن رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم وعن أصحابه ، أن الشياطين قد
تتسمع الوحي ، ولكنها ترمى بالشهب لئلا تسمع.
* ذكر رواية بعض ذلك :
حدثنا أبو كُرَيب ، قال : ثنا وكيع ، عن إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن سعيد بن
جُبَير ، عن ابن عباس ، قال : كانت للشياطين مقاعد في السماء ، قال : فكانوا
يسمعون الوحي ، قال : وكانت النجوم لا تجري ، وكانت الشياطين لا ترمى ، قال : فإذا
سمعوا الوحي نزلوا إلى الأرض ، فزادوا في الكلمة تسعا; قال : فلما بُعِثَ رسول
الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم جعل الشيطانُ إذا قعد مقعده جاء شهاب ، فلم
يُخْطِهِ حتى يحرقه ، قال : فشكوا ذلك إلى إبليس ، فقال : ما هو إلا لأمر حدث ;
قال : فبعث جنوده ، فإذا رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم قائم يصلي بين
جبلي نخلة; قال أبو كُرَيب : قال وكيع : يعني بطن نخلة ، قال : فرجعوا إلى إبليس
فأخبروه ، قال : فقال هذا الذي حدث.
حدثنا ابن وكيع وأحمد بن يحيى الصوفي قالا ثنا عبيد الله ، عن إسرائيل ، عن أبي
إسحاق ، عن سعيد بن جُبَير ، عن ابن عباس ، قال : كانت الجن يصعدون إلى السماء
الدنيا يستمعون الوحي ، فإذا سمعوا الكلمة زادوا فيها تسعا ، فأما الكلمة فتكون
حقا ، وأما ما زادوا فيكون باطلا فلما بُعث النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم
مُنِعوا مقاعدَهم ، فذكروا ذلك لإبليس ، ولم تكن النجوم يُرْمى بها قبل ذلك ، فقال
لهم إبليس : ما هذا إلا لأمر حدث في الأرض ، فبعث جنوده ، فوجدوا رسول الله صَلَّى
الله عَلَيْهِ وَسَلَّم قائما يصلي ، فأتوه فأخبروه ، فقال :
(21/12)
هذا الحدث الذي حدث.
حدثنا ابن المثنى ، قال : ثنا عبد الله بن رجاء ، قال : ثنا إسرائيل ، عن أبي
إسحاق ، عن سعيد بن جُبَير ، عن ابن عباس ، قال : كانت الجن لهم مقاعد ، ثم ذكر
نحوه.
حدثنا أبو كُرَيب ، قال : ثنا يونس بن بكير ، قال : ثنا محمد بن إسحاق ، قال : ثني
الزهري ، عن عليّ بن الحسين ، عن أبي إسحاق ، عن ابن عباس ، قال : حدثني رهط من
الأنصار ، قالوا : " بينا نحن جلوس ذات ليلة مع رسول الله صَلَّى الله
عَلَيْهِ وَسَلَّم ، إذ رأى كوكبا رُمي به ، فقال : " ما تقولون في هذا
الكوكب الذي يرمي به ؟ " فقلنا : يولد مولود ، أو يهلك هالك ، ويموت ملك
ويملك ملك ، فقال رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم : " لَيْسَ
كَذَلِكَ ، وَلَكِنَّ اللهَ كان إذا قَضَى أمْرًا فِي السَّمَاءِ سَبَّحَ لِذَلِكَ
حَمَلَةُ الْعَرْشِ ، فَيُسَبِّحُ لِتَسْبِيحِهِمْ مَنْ يَلِيهِمْ مِنْ تَحْتِهِمْ
مِنَ الْمَلائِكَةِ ، فَمَا يَزَالُونَ كَذَلِكَ حَتَّى يَنْتَهِيَ التَّسْبِيحُ
إلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا ، فَيَقُولُ أهْلُ السَّمَاءِ الدُّنْيَا لِمَنْ
يَلِيهِمْ مِنَ الْمَلائِكَةِ مِمَّ سَبَّحْتُمْ ؟ فَيَقُولُونَ : مَا نَدْرِي :
سَمِعْنَا مَنْ فَوْقَنَا مِنَ الْمَلائِكَةِ سَبَّحُوا فَسَبَّحْنَا اللهَ
لِتَسْبِيحِهِمْ وَلَكِنَّا سَنَسْأَلُ ، فَيَسْأَلُونَ مَنْ فَوْقَهُمْ ، فَمَا
يَزَالُونَ كَذَلِكَ حتى يَنْتَهِيَ إلَى حَمَلَةِ الْعَرْشِ ، فَيَقُولُوَن :
قَضَى اللهُ كَذَا وَكَذَا ، فَيُخْبِرُونَ بِهِ مَنْ يَلِيهِمْ حتى يَنْتَهُوا
إلى السَّمَاءِ الدُّنْيا ، فَتَسْتَرِقُ الجِنُّ مَا يَقُولُونَ ، فَيَنزلُونَ
إلى أوْلِيائِهِمْ مِنَ الإنْسِ فَيُلْقُونَهُ على ألْسِنَتِهِمْ بِتَوَهُّمٍ
مِنْهُمْ ، فَيُخْبِرُونَهُمْ بِهِ ، فَيَكُونُ بَعْضُهُ حَقًّا وبَعْضُهُ كَذِبًا
، فَلَمْ تَزَلِ الجِنّ كذلكَ حتى رُمُوا بِهذهِ الشُّهُبِ "
وحدثنا ابن وكيع وابن المثنى ، قالا ثنا عبد الأعلى ، عن معمر ، عن الزهري ، عن
عليّ بن حسين ، عن ابن عباس ، قال بينما النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم في
نفر من الأنصار ، إذ رمي بنجم فاستنار ، فقال النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم
: ما كُنتم تقولون لِمثلِ هذا في الجاهليةِ إذا رأيتموهُ ؟ قالوا : كنا نقول :
يموت عظيم أو يولد عظيم ، قال رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم : فإنهُ لا
يرمى
(21/13)
به لموتِ أحد ولا لحياتهِ ، ولكنَّ
ربنا تباركَ اسمهُ إذا قضَى أمرًا سبحَ حملةُ العرشِ ، ثمَّ سبحَ أهلُ السماءِ
الذينَ يلونهمْ ، ثمَّ الذينَ يلونهمْ حتى يبلغَ التسبيحُ أهلَ هذه السماءِ ثمَّ
يسألُ أهلُ السماءِ السابعة حملة العرش : ماذا قال ربنا ؟ فيخبرونهم ، ثم يستخبر
أهلُ كل سماء ، حتى يبلع الخبر أهل السماءِ الدنيا ، وتخطُف الشياطين السمع ،
فيرمونَ ، فيقذفونهُ إلى أوليائهمْ ، فما جاءُوا به على وجههِ فهوَ حق ، ولكنهمْ
يزيدونَ " .
حدثنا ابن المثنى ، قال : ثنا محمد بن جعفر ، قال : أخبرنا معمر ، قال : ثنا ابن
شهاب ، عن عليّ بن حسين ، عن ابن عباس قال : كان رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ
وَسَلَّم جالسا في نفر من أصحابه ، قال : فرمي بنجم ، ثم ذكر نحوه ، إلا أنه زاد
فيه : قلت للزهري : أكان يُرْمى بها في الجاهلية ؟ قال : نعم ، ولكنها غلظت حين
بُعث النبيُّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم.
حدثني عليّ بن داود ، قال : ثنا عاصم بن عليّ ، قال : ثنا أبي عليّ بن عاصم ، عن
عطاء بن السائب ، عن سعيد بن جُبَير ، عن ابن عباس ، قال : " كان للجن مقاعد
في السماء يسمعون الوحي ، وكان الوحي إذا أُوحِي سمعت الملائكة كهيئة الحديدة
يُرْمى بها على الصَّفْوان ، فإذا سمعت الملائكة صلصلة الوحي خر لجباههم مَنْ في
السماء من الملائكة ، فإذا نزل عليهم أصحاب الوحي( قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ
قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ ) قال : فيتنادون ، قال : ربكم
الحق وهو العلي الكبير; قال : فإذا أنزل إلى السماء الدنيا ، قالوا : يكون في
الأرض كذا وكذا موتا ، وكذا وكذا حياة. وكذا وكذا جدوبة ، وكذا وكذا خِصْبا ، وما
يريد أن يصنع ، وما يريد أن يبتدئ تبارك وتعالى ، فنزلت الجن. فأوحوا إلى أوليائهم
من الإنس ، مما يكون في الأرض ، فبيناهم كذلك ، إذ بعث الله النبي صَلَّى الله
عَلَيْهِ وَسَلَّم ، فزجرت الشياطين عن السماء ورَمَوْهم بكواكب ، فجعل لا يصعد
أحد منهم إلا احترق ، وفزع أهل الأرض لِمَا رأوا في الكواكب ، ولم يكن قبل ذلك ،
وقالوا : هلك مَنْ في السماء ، وكان أهل
(21/14)
الطائف أول من فزع ، فينطلق الرجل إلى
إبله ، فينحر كل يوم بعيرا لآلهتهم ، وينطلق صاحب الغنم ، فيذبح كل يوم شاة ،
وينطلق صاحب البقر. فيذبح كل يوم بقرة ، فقال لهم رجل : ويلكم لا تهلكوا أموالكم ،
فإن معالمكم من الكواكب التي تهتدون بها لم يسقط منها شيء ، فأقلعوا وقد أسرعوا في
أموالهم. وقال إبليس : حدث في الأرض حدث ، فأتي من كل أرض بتربة ، فجعل لا يؤتى
بتربة أرض إلا شمها ، فلما أتي بتربة تهامة قال : ها هنا حدث الحدث ، وصرف الله
إليه نفرا من الجن وهو يقرأ القرآن ، فقالوا : ( إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا
عَجَبًا ) حتى ختم الآية... ، فولَّوا إلى قومهم منذرين.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرني ابن لهيعة ، عن محمد بن عبد
الرحمن ، عن عروة ، عن عائشة أنها قالت : سمعت رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ
وَسَلَّم يقول : " إنَّ الملائكةَ تنزلُ في العنانِ - وهوَ السحابُ - فتذكرُ
ما قضيَ في السماءِ ، فتسترقُ الشياطينُ السمعَ ، فتسمعهُ فتوحيهِ إلى الكهانِ ،
فيكذبونَ معها مئةَ كذبةٍ من عند أنفسهمْ .
فهذه الأخبار تُنبئ عن أن الشياطين تسمع ، ولكنها تُرْمى بالشهب لئلا تسمع.
فإن ظن ظان أنه لما كان في الكلام " إلى " ، كان التسمع أولى بالكلام من
السمع ، فإن الأمر في ذلك بخلاف ما ظن ، وذلك أن العرب تقول : سمعت فلانا يقول كذا
، وسمعت إلى فلان يقول كذا ، وسمعت من فلان.
وتأويل الكلام : إنا زينا السماء الدنيا بزينة الكواكب. وحفظا من كل شيطان مارد أن
لا يسمع إلى الملإ الأعلى ، فحذفت " إن " اكتفاء بدلالة الكلام عليها ،
كما قيل : (كذلك سلكناه في قلوب المجرمين لا يؤمنون به) بمعنى : أن لا يؤمنوا به;
ولو كان مكان " لا " أن ، لكان فصيحا ، كما قيل : ( يُبَيِّنُ اللَّهُ
لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا ) بمعنى : أن لا تضلوا ، وكما قال : ( وَأَلْقَى فِي
الأرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ ) بمعنى : أن لا تميد بكم. والعرب قد تجزم
مع " لا " في مثل هذا الموضع من الكلام ، فتقول : ربطت الفرس لا
يَنْفَلِتْ ، كما قال بعض بني
(21/15)
عقيل :
وحتى رأينا أحسن الود بيننا مُساكنةً لا يقرِف الشرَّ قارفُ (1)
ويُروى : لا يقرف رفعا ، والرفع لغة أهل الحجاز فيما قيل : وقال قتادة في ذلك ما :
حدثني بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى
الْمَلإ الأعْلَى ) قال : منعوها. ويعني بقوله(إلَى المَلإ) : إلى جماعة الملائكة
التي هم أعلى ممن هم دونهم.
وقوله( وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ دُحُورًا ويرمون من كل جانب من جوانب
السماء دُحُورا
والدحور : مصدر من قولك : دَحَرْته أدْحَرُه دَحْرا ودُحورا ، والدَّحْر : الدفع
والإبعاد ، يقال منه : ادْحَرْ عنك الشيطان : أي ادفعه عنك وأبعده.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( وَيُقْذَفُونَ مِنْ
كُلِّ جَانِبٍ دُحُورًا ) قذفا بالشهب.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث ، قال :
ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن
__________
(1) البيت من شواهد الفرّاء في معاني القرآن (مصورة الجامعة ص 271 ) قال في تفسير
قوله تعالى : " لا يسمعون " قرأها عبد الله بالتشديد ، على معنى "
لا يتسمعون " وكذلك قرأها ابن عباس ، وقال : يسمعون ولا يتسمعون قال الفرّاء
: ومعنى " لا " كقوله " كذلك سلكناه في قلوب المجرمين . لا يؤمنون
به " ، لو كان في موضع " لا " " أن " صلح ذلك ، كما قال
: " يبين الله لكم أن تضلوا " . وكما قال : " وألقى في الأرض رواسي
أن تميد بكم " . ويصلح في " لا " على هذا المعنى الجزم. العرب تقول
: ربطت الفرس لا ينفلت ، وأوثقت عبدي لا يفرر. وأنشد بعض بني عقيل : " وحتى
رأينا ... البيت " وبعضهم يقول : لا يقرف الشر (برفع الفعل) قال : والرفع لغة
أهل الحجاز ، وبذلك جاء القرآن. اهـ.
(21/16)
مجاهد ، قوله( وَيَقْذِفُونَ ) يرمون(
مِنْ كُلِّ جَانِبٍ ) قال : من كل مكان. وقوله(دُحُورًا) قال : مطرودين.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله( وَيُقْذَفُونَ
مِنْ كُلِّ جَانِبٍ دُحُورًا ) قال : الشياطين يدحرون بها عن الاستماع ، وقرأ وقال
: ( إلا من استرق السمع فأتبعه شهاب ثاقب ) .
وقوله( وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ ) يقول تعالى ذكره : ولهذه الشياطين المسترِقة
السمع عذاب من الله واصب.
واختلف أهل التأويل في معنى الواصب ، فقال بعضهم : معناه : الموجع.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا أبو كُرَيب ، قال : ثنا ابن أبي زائدة ، عن إسماعيل بن أبي خالد ، عن أبي
صالح(ولهم عذاب واصب) قال : موجع.
وحدثنا محمد بن الحسين ، قال : ثنا أحمد بن المفضل ، قال : ثنا أسباط ، عن السديّ
، في قوله( عَذَابٌ وَاصِبٌ ) قال : الموجع.
وقال آخرون : بل معناه : الدائم.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد عن قتادة( وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ
) : أي دائم.
حدثنا محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث ، قال :
ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله( عَذَابٌ
وَاصِبٌ ) قال : دائم.
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ،
عن ابن عباس( وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ ) يقول : لهم عذاب دائم.
حدثنا أبو كُرَيب ، قال : ثنا ابن أبي زائدة ، عمن ذكره ، عن عكرمة
(21/17)
( وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ ) قال :
دائم.
حدثنا يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله( وَلَهُمْ
عَذَابٌ وَاصِبٌ ) قال : الواصب : الدائب.
وأولى التأويلين في ذلك بالصواب تأويل من قال : معناه : دائم خالص ، وذلك أن الله
قال( وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا ) فمعلوم أنه لم يصفه بالإيلام والإيجاع ، وإنما
وصفه بالثبات والخلوص; ومنه قول أبي الأسود الدؤلي :
لا أشتري الحمد القليل بقاؤه... يؤما بذم الدهر أجمع واصبا (1)
أي دائما.
وقوله(إلا من خطف الخطفة) يقول : إلا من استرق السمع منهم(فأتبعه شهاب ثاقب) يعني
: مضيء متوقد.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله( فَأَتْبَعَهُ
شِهَابٌ ثَاقِبٌ ) من نار وثقوبه : ضوءه.
حدثنا محمد بن الحسين ، قال : ثنا أحمد بن المفضل ، قال : ثنا أسباط ، عن السدي ،
قوله( شِهَابٌ ثَاقِبٌ ) قال : شهاب مضيء يحرقه حين يُرْمى به.
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ،
عن ابن عباس ، قوله( فَأتْبَعَهُ شِهَابٌ ) قال : كان ابن عباس يقول : لا يقتلون
بالشهاب ، ولا يموتون ، ولكنها تحرقهم من غير قتل ، وتُخَبِّل
__________
(1) البيت من شواهد أبي عبيدة في مجاز القرآن ( مصورة الجامعة الورقة ص 208 - 1 )
قال في تفسير قوله تعالى " عذاب واصب " : دائم قال أبو الأسود الدؤلي :
" لا أشتري الحمد ... " البيت. اهـ. وفي معاني القرآن للفراء ( مصورة
الجامعة 271 ) : وقوله " عذاب واصب " " وله الدين واصبا " :
دائم خالص. اهـ.
(21/18)
فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمْ مَنْ خَلَقْنَا إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِنْ طِينٍ لَازِبٍ (11) بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ (12)
وتُخْدِج من غير قتل.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله( فَأتْبَعَهُ
شِهَابٌ ثَاقِبٌ ) قال : والثاقب : المستوقد ، قال : والرجل يقول : أَثقِب نارك ،
ويقول استثقِب نارك استوقد نارك.
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا يحيى بن واضح ، قال : ثنا عبيد الله ، قال : سُئل
الضحاك هل للشياطين أجنحة ؟ فقال : كيف يطيرون إلى السماء إلا ولهم أجنحة.
القول في تأويل قوله تعالى : { فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمْ مَنْ
خَلَقْنَا إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ (11) بَلْ عَجِبْتَ
وَيَسْخَرُونَ (12) }
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم : فاستفت يا محمد هؤلاء
المشركين الذي يُنكرون البعث بعد الممات والنشور بعد البلاء : يقول : فسَلْهم :
أهم أشد خلقا ؟ يقول : أخلقُهم أشد أم خلق من عددنا خلقه من الملائكة والشياطين
والسموات والأرض ؟
وذُكر أن ذلك في قراءة عبد الله بن مسعود : " أهُمْ أشَدُّ خَلْقا أمْ مَنْ
عَدَدْنَا " ؟.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث ، قال :
ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد( أهُمْ أشَدُّ
خَلْقا أمْ مَنْ خَلَقْنَا ) ؟ قال : السموات والأرض والجبال.
(21/19)
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا يحيى بن
واضح ، قال : ثنا عبيد بن سليمان ، عن الضحاك أنه قرأ " أهُمْ أَشَدُّ خَلْقا
أمْ مَنْ عَدَدْنَا " ؟ وفي قراءة عبد الله بن مسعود " عَدَدْنَا "
يقول : ( رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ المَشَارِقِ )
يقول : أهم أشد خلقا ، أم السموات والأرض ؟ يقول : السموات والأرض أشد خلقا منهم.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة(فَاسْتَفْتِهِمْ أهُمْ
أَشَدُّ خَلْقا أمْ مَنْ عَدَدْنَا " من خلق السموات والأرض ، قال اللهُ : (
لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ ) ... الآية.
حدثنا محمد بن الحسين ، قال : ثنا أحمد بن المفضل ، قال : ثنا أسباط ، عن السدي(
فَاسْتَفْتِهِمْ أهُمْ أشَدُّ خَلْقَا ) قال : يعني المشركين ، سلهم أهم أشد خلقا(
أمْ مَنْ خَلَقْنَا )
وقوله( إنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ ) يقول : إنا خلقناهم من طين لاصق.
وإنما وصفه جل ثناؤه باللُّزوب ، لأنه تراب مخلوط بماء ، وكذلك خَلْق ابن آدم من
تراب وماء ونار وهواء; والتراب إذا خُلط بماء صار طينا لازبا ، والعرب تُبدل
أحيانًا هذه الباء ميما ، فتقول : طين لازم; ومنه قول النجاشي الحارثي :
بنى اللؤم بيتا فاستقرت عماده... عليكم بني النجار ضربة لازم (1)
ومن اللازب قول نابغة بني ذُبيان :
ولا يحسبون الخير لا شرَّ بعدهُ... ولا يحسبون الشر ضربة لازب (2)
__________
(1) البيت من شواهد أبي عبيدة في مجاز القرآن ( مصورة الجامعة الورقة ص 208 - 1 )
قال في قوله تعالى " من طين لازب " مجازه مجاز لازم . قال النجاشي :
" بنى اللؤم ... البيت " .اهـ.
(2) وهذا البيت من شواهد أبي عبيدة في مجاز القرآن ( مصورة الجامعة ص 208 - 1 ) .
وهو كالشاهد الذي قبله على أن معنى اللازب اللازم . قال نابغة بني ذبيان : "
لا يحسبون الخير .... البيت " : اهـ.
(21/20)
وربما أبدلوا الزاي التي في اللازب تاء
، فيقولون : طين لاتب ، وذُكر أن ذلك في قَيس ، زعم الفرّاء أن أبا الجراح أنشده :
صداعٌ وتوصيمُ العظامِ وفترة... وغثي مع الإشراق في الجوف لاتب (1)
بمعنى : لازم ، والفعل من لازب : لَزِبَ يَلْزُب ، لزْبا ولُزوبا (2) وكذلك من
لاتب : لَتَبَ يَلْتُب لُتُوبا.
وبنحو الذي قلنا في معنى(لازِبٍ) قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني عبيد الله بن يوسف الجُبَيري ، قال : ثنا محمد بن كثير ، قال : ثنا مسلم ،
عن مجاهد ، عن ابن عباس في قوله( مِنْ طِينٍ لازِبٍ ) قال : هو الطين الحر الجيد
اللزج.
حدثنا محمد بن بشار ، قال : ثنا يحيى بن سعيد وعبد الرحمن ، قالا ثنا سفيان ، عن
الأعمش ، عن مسلم البطين ، عن سعيد ، عن ابن عباس ، قال : اللازب : الجيد.
__________
(1) البيت من شواهد الفراء في معاني القرآن ( مصورة الجامعة ص 271 ) قال اللازب
اللاصق . قال : وقيس تقول : " طين لاتب " أنشدني بعضهم : صداع وتوصيم ...............
... .............................. البيت
. قال والعرب تقول : ليس هذا بضربة لازب ، ولازم ؛ يبدلون الباء ميما ، لتقارب
المخرج.اه. (وفي اللسان : " لتب " اللاتب : الثابت ؛ تقول منه لتب يلتب)
. (بوزن يقتل) لتبا ولتوبا ، وأنشد أبو الجراح : فإن يك هذا من نبيذ شربته ...
فإني من شرب النبيذ لتائب
صداع وتوصيم ............... ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وفي اللسان عن الفرّاء في قوله تعالى " من طين لازب " : قال : اللازب
واللاتب واحد. قال : وقيس تقول : طين لاتب. واللاتب : اللازق ، مثل اللازب. وهذا
الشيء ضربة لاتب كضربة لازم .اهـ.
(2) في الأصل : ويلزب وهو تحريف عما أثبتناه ؛ لتصريحهم بأن الفعل من باب نفد ،
وأن المصدر لزبا ولزوبا . ( انظر اللسان والمصباح : لزب ) وضبط في التاج ككرم.
(21/21)
حدثنا أبو كُرَيب ، قال : ثنا عثمان بن
سعيد ، قال : ثنا بشر بن عمارة ، عن أبي رَوْق ، عن الضحاك ، عن ابن عباس قال :
اللازب : اللَّزج الطيب.
حدثني علي ، قال : ثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس ، في
قوله( مِنْ طِينٍ لازِبٍ ) يقول : ملتصق.
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ،
عن ابن عباس قوله( إنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ ) قال : من التراب
والماء فيصير طينا يَلْزَق.
حدثنا هناد ، قال : ثنا أبو الأحوص ، عن سماك ، عن عكرمة ، في قوله( إِنَّا
خَلَقْنَاهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ ) قال : اللازب : اللَّزِج.
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا يحيى بن واضح ، قال : ثنا عبيد بن سليمان ، عن الضحاك(
إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ ) واللازب : الطين الجيد.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قال الله( إنَّا
خَلَقْنَاهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ ) واللازب : الذي يَلْزَق باليد.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث ، قال :
ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله( مِنْ
طِينٍ لازِبٍ ) قال : لازم.
حدثنا عمرو بن عبد الحميد الآمُلي ، قال : ثنا مروان بن معاوية ، قال : ثنا
جُوَيبر ، عن الضحاك ، في قوله( مِنْ طِينٍ لازِبٍ ) قال : هو اللازق.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله( إِنَّا
خَلَقْنَاهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ ) قال : اللازب : الذي يلتصق كأنه غِراء ، ذلك
اللازب.
قوله( بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ ) اختلفت القرّاء فى قراءة ذلك ، فقرأته عامة
قراء الكوفة : ( بلْ عَجِبْتُ وَيَسْخَرُونَ) بضم التاء من عجبت ، بمعنى : بل عظم
(21/22)
وَإِذَا ذُكِّرُوا لَا يَذْكُرُونَ (13) وَإِذَا رَأَوْا آَيَةً يَسْتَسْخِرُونَ (14)
عندي وكبر اتخاذهم لي شريكا ، وتكذيبهم
تنزيلي وهم يسخرون. وقرأ ذلك عامة قراء المدينة والبصرة وبعض قراء الكوفة(بَلْ
عَجِبْتَ) بفتح التاء بمعنى : بل عجبت أنت يا محمد ويسخرون من هذا القرآن.
والصواب من القول في ذلك أن يقال : إنهما قراءتان مشهورتان في قراء الأمصار ، فبأيتهما
قرأ القارئ فمصيب.
فإن قال قائل : وكيف يكون مصيبا القارئ بهما مع اختلاف معنييهما ؟ قيل : إنهما وإن
اختلف معنياهما فكل واحد من معنييه صحيح ، قد عجب محمد مما أعطاه الله من الفضل ،
وسخر منه أهل الشرك بالله ، وقد عجب ربنا من عظيم ما قاله المشركون في الله ،
وسَخِر المشركون بما قالوه.
فإن قال : أكان التنزيل بإحداهما أو بكلتيهما ؟ قيل : التنزيل بكلتيهما. فإن قال :
وكيف يكون تنزيل حرف مرتين ؟ قيل : إنه لم ينزل مرتين ، إنما أنزل مرة ، ولكنه أمر
صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم أن يقرأ بالقراءتين كلتيهما ، ولهذا مَوضع سنستقصي
إن شاء الله فيه البيان عنه بما فيه الكفاية.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( بَلْ عَجِبْتَ
وَيَسْخَرُونَ ) قال : عجب محمد عليه الصلاة والسلام من هذا القرآن حين أُعطيه ،
وسخر منه أهل الضلالة.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَإِذَا ذُكِّرُوا لا يَذْكُرُونَ (13) وَإِذَا
رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ (14) }
يقول تعالى ذكره : وإذا ذُكِّر هؤلاء المشركون حُجَجَ الله عليهم ليعتبروا
ويتفكروا ، فينيبوا إلى طاعة الله( لا يَذْكرُون ) : يقول : لا ينتفعون بالتذكير
فيتذكروا.
(21/23)
وَقَالُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (15) أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (16) أَوَآَبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ (17) قُلْ نَعَمْ وَأَنْتُمْ دَاخِرُونَ (18) فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا هُمْ يَنْظُرُونَ (19)
بنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل
التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( وَإِذَا ذُكِّرُوا لا
يَذْكُرُونَ ) : أي لا ينتفعون ولا يُبْصرون.
وقوله( وَإِذَا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ ) يقول : وإذا رأوا حُجَّة من حجج
الله عليهم ، ودلالة على نبوة نبيه محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم يستسخرون :
يقول : يسخرون ويستهزءون.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( وَإذَا رَأَوْا آيَةً
يَسْتَسْخِرُونَ ) : يسخرون منها ويستهزئون.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث ، قال :
ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله( وَإِذَا
رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ ) قال : يستهزِئون ، يَسْتَخْسرون.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَقَالُوا إِنْ هَذَا إِلا سِحْرٌ مُبِينٌ (15)
أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (16)
أَوَآبَاؤُنَا الأوَّلُونَ (17) قُلْ نَعَمْ وَأَنْتُمْ دَاخِرُونَ (18)
فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا هُمْ يَنْظُرُونَ (19) }
يقول تعالى ذكره : وقال هؤلاء المشركون من قُرَيش بالله لمحمد صَلَّى الله
عَلَيْهِ وَسَلَّم : ما هذا الذي جئتنا به إلا سحرٌ مبين.
يقول : يبين لمن تأمله ورآه أنه سحر(أئذا متنا وكنا ترابا وعظاما أئنا لمبعوثون)
يقولون ، منكرين بعث
(21/24)
الله إياهم بعد بلائهم : أئنا لمبعوثون
أحياء من قبورنا بعد مماتنا ، ومصيرنا ترابا وعظاما ، قد ذهب عنها اللحوم
(أوآباؤنا الأولون) الذين مضوا من قبلنا ، فبادوا وهلكوا.
يقول الله لنبيه محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم : قل لهؤلاء : نعم أنتم
مبعوثون بعد مصيركم ترابا وعظاما أحياء كما كنتم قبل مماتكم ، وأنتم داخرون.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة(أئذا متنا وكنا ترابا
وعظاما أئنا لمبعوثون أو آباؤنا الأولون) تكذيبا بالبعث(قل نعم وأنتم داخرون)
وقوله(وأنتم داخرون) يقول تعالى ذكره : وأنتم صاغرون أشد الصَّغَر; من قولهم :
صاغر داخر.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة(وأنتم داخرون) : أي
صاغرون.
حدثني محمد بن الحسين ، قال : ثنا أحمد بن المفضل ، قال : ثنا أسباط ، عن السدي ،
في قوله( وأنْتُمْ دَاخِرُونَ ) قال : صاغرون.
وقوله( فإنَّما هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا هُمْ يَنْظُرُونَ ) يقول تعالى ذكره
: فإنما هي صيحة واحدة ، وذلك هو النفخ في الصور( فَإِذَا هُمْ يَنْظُرُونَ ) يقول
: فإذا هم شاخصة أبصارهم ينظرون إلى ما كانوا يوعدونه من قيام الساعة ويعاينونه.
كما حدثنا محمد بن الحسين ، قال : ثنا أحمد بن المفضل ، قال : ثنا أسباط ، عن
السدي ، في قوله(زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ) قال : هي النفخة
(21/25)
وَقَالُوا يَا وَيْلَنَا هَذَا يَوْمُ الدِّينِ (20) هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (21)
القول في تأويل قوله تعالى : {
وَقَالُوا يَا وَيْلَنَا هَذَا يَوْمُ الدِّينِ (20) هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ
الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (21) }
يقول تعالى ذكره : وقال هؤلاء المشركون المكذبون إذا زجرت زجرة واحدة ، ونُفخ في
الصور نفخة واحدة : ( يَا وَيْلَنَا هَذَا يَوْمُ الدِّينِ ) يقولون : هذا يوم
الجزاء والمحاسبة.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( هَذَا يَوْمُ الدِّينِ )
قال : يدين الله فيه العباد بأعمالهم.
حدثنا محمد بن الحسين ، قال : ثنا أحمد بن المفضل ، قال : ثنا أسباط ، عن السدي ،
في قوله( هَذَا يَوْمُ الدِّينِ ) قال : يوم الحساب.
وقوله( هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ ) يقول تعالى
ذكره : هذا يوم فصل الله بين خلقه بالعدل من قضائه الذي كنتم به تكذبون في الدنيا
فتنكرونه.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( هَذَا يَوْمُ الفَصْلِ
الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ ) يعني : يوم القيامة.
حدثنا محمد بن الحسين ، قال : ثنا أحمد بن المفضل ، قال : ثنا أسباط ، عن السدي ،
في قوله( هَذَا يَوْمُ الفَصْلِ ) قال : يوم يُقضى بين أهل الجنة وأهل النار .
القول في تأويل قوله تعالى : { احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ
(21/26)
احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ (22) مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ (23)
وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ (22) مِنْ
دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ (23) }
وفي هذا الكلام متروك استغني بدلالة ما ذكر عما ترك ، وهو : فيقال : احشروا الذين
ظلموا ، ومعنى ذلك اجمعوا الذين كفروا بالله في الدنيا وعصوه وأزواجهم وأشياعهم
على ما كانوا عليه من الكفر بالله وما كانوا يعبدون من دون الله من الآلهة.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا عبد الرحمن ، قال : ثنا سفيان ، عن سماك بن حرب ، عن
النعمان بن بشير ، عن عمر بن الخطاب( احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا
وَأَزْوَاجَهُمْ ) قال : ضرباءهم.
حدثني عليّ ، قال : ثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس(
احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجهُمْ ) يقول : نظراءهم.
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ،
عن ابن عباس قوله( احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ ) يعني : أتباعهم
، ومن أشبههم من الظلمة.
حدثنا محمد بن المثني ، قال : ثنا ابن أبي عديّ ، عن داود ، قال : سألت أبا
العالية ، عن قول الله : ( احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا
كَانُوا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ) قال : الذين ظلموا وأشياعهم.
حدثنا ابن المثنى ، قال : ثني عبد الأعلى ، قال : ثنا داود ، عن أبي العالية ، أنه
قال في هذه الآية ، ( احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ ) قال :
وأشياعهم.
(21/27)
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : ثنا
ابن علية ، قال : ثنا داود ، عن أبي العالية مثله.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله( احْشُرُوا
الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأزْوَاجهُمْ ) : أي وأشياعهم الكفار مع الكفار.
حدثني محمد بن الحسين ، قال : ثنا أحمد بن المفضل ، قال : ثنا أسباط ، عن السدي ،
في قوله : ( احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأزْوَاجهُمْ ) قال : وأشباههم.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله( احْشُرُوا
الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأزْوَاجهُمْ ) قال : أزواجهم في الأعمال ، وقرأ( وكُنْتُمْ
أزْوَاجا ثَلاثَةً فَأصحَابُ المَيْمَنَةِ ما أصحَابُ المَيْمَنَةِ. وَأَصْحَابُ
المَشأَمَةِ ما أصحَابُ المَشْأمةِ وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ ) فالسابقون زوج
وأصحاب الميمنة زوج ، وأصحاب الشمال زوج ، قال : كل من كان من هذا حشره الله معه.
وقرأ : ( وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ ) قال : زوجت على الأعمال ، لكل واحد من
هؤلاء زوج ، زوج الله بعض هؤلاء بعضا ، زوج أصحاب اليمين أصحاب اليمين ، وأصحاب
المشأمة أصحاب المشأمة ، والسابقين السابقين ، قال : فهذا قوله( احْشُرُوا
الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ ) قال : أزواج الأعمال التي زوجهن الله.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث ، قال :
ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله(
وَأَزْوَاجَهُمْ ) قال : أمثالهم.
وقوله( وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إلى صِراطِ
الجَحِيمِ ) يقول تعالى ذكره : احشروا هؤلاء المشركين وآلهتهم التي كانوا يعبدونها
من دون الله ، فوجهوهم إلى طريق الجحيم.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
(21/28)
وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ (24)
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( وما كانُوا يَعْبُدُونَ
مِنْ دُونِ اللَّهِ ) الأصنام.
حدثني علي ، قال : ثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس ،
قوله( فَاهْدُوهُمْ إلى صِرَاطِ الْجَحِيمِ ) يقول : وجِّهوهم ، وقيل : إن الجحيم
الباب الرابع من أبواب النار.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ (24) }
(21/29)
مَا لَكُمْ لَا تَنَاصَرُونَ (25) بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ (26) وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (27)
القول في تأويل قوله تعالى : { مَا
لَكُمْ لا تَنَاصَرُونَ (25) بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ (26) وَأَقْبَلَ
بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (27) }
يقول تعالى ذكره : ( وَقِفُوهُمْ ) : احبسوهم : أي احبسوا أيها الملائكة هؤلاء
المشركين الذين ظلموا أنفسهم وأزواجهم ، وما كانوا يعبدون من دون الله من الآلهة(
إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ ) فاختلف أهل التأويل في المعنى الذي يأمر الله تعالى ذكره
بوقفهم لمسألتهم عنه ، فقال بعضهم : يسألهم هل يعجبهم ورود النار.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن بشار ، قال : ثنا عبد الرحمن ، قال : ثنا سفيان ، عن سلمة بن كهيل ،
قال : ثنا أبو الزعراء ، قال : كنا عند عبد الله ، فذكر قصة ، ثم قال : يتمثل الله
للخلق فيلقاهم ، فليس أحد من الخلق كان يعبد من دون الله شيئا إلا وهو مرفوع له
يتبعه قال : فيلقى اليهود فيقول : من تعبدون ؟ فيقولون : نعبد عزيرا ، قال : فيقول
: هل يسركم الماء ؟
(21/29)
فيقولون : نعم ، فيريهم جهنم وهي كهيئة
السَّراب ، ثم قرأ( وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكَافِرِينَ عَرْضًا )
قال : ثم يلقى النصارى فيقول : من تعبدون ؟ فيقول : المسيح ، فيقول : هل يسركم
الماء ؟ فيقولون : نعم ، فيريهم جهنم ، وهي كهيئة السراب ، ثم كذلك لمن كان يعبد
من دون الله شيئا ، ثم قرأ عبد الله( وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ )
وقال آخرون : بل ذلك للسؤال عن أعمالهم.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : ثنا معتمر ، عن ليث ، عن رجل ، عن أنس بن مالك قال
: سمعت رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول : " أيمَا رَجُلٍ
دَعَا رَجُلا إلى شَيْءٍ كَانَ مَوْقُوفًا لازِما بِهِ ، لا يُغَادِرُهُ ، وَلا
يُفارِقُهُ " ثُمَّ قَرأ هَذِهِ الآيَةَ( وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ
)
وقال آخرون : بل معنى ذلك : وقفوا هؤلاء الذين ظلموا أنفسهم وأزواجهم إنهم مسئولون
عما كانوا يعبدون من دون الله .
وقوله( مَا لَكُمْ لا تَنَاصَرُونَ ) يقول : ما لكم أيها المشركون بالله لا ينصر
بعضكم بعضا( بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ ) يقول : بل هم اليوم مستسلمون
لأمر الله فيهم وقضائه ، موقنون بعذابه. كما حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال :
ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله( مَا لَكُمْ لا تَنَاصَرُونَ ) لا والله لا يتناصرون ،
ولا يدفع بعضهم عن بعض( بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ ) في عذاب الله.
وقوله( وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ ) قيل : معنى ذلك :
وأقبل الإنس على الجن ، يتساءلون.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله( وَأَقْبَلَ
بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ ) الإنس على الجن.
القول في تأويل قوله تعالى :
(21/30)
قَالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ (28) قَالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (29) وَمَا كَانَ لَنَا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بَلْ كُنْتُمْ قَوْمًا طَاغِينَ (30)
{ قَالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ
تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ (28) قَالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (29)
وَمَا كَانَ لَنَا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بَلْ كُنْتُمْ قَوْمًا طَاغِينَ (30)
}
يقول تعالى ذكره : قالت الإنس للجن : إنكم أيها الجن كنتم تأتوننا من قِبَل الدين
والحق فتخدعوننا بأقوى الوجوه ، واليمين : القوة والقدرة في كلام العرب ، ومنه قول
الشاعر :
إذَا ما رَايةٌ رُفِعتْ لمَجْدٍ... تَلقَّاها عَرَابةٌ بالْيَمِين (1)
يعني : بالقوة والقدرة.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث ، قال :
ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله(
تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ ) قال : عن الحق ، الكفار تقوله للشياطين.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( قَالُوا إِنَّكُمْ
كُنْتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ ) قال : قالت الإنس للجن : إنكم كنتم
تأتوننا عن اليمين ، قال : من قبل الخير ، فتنهوننا عنه ، وتبطِّئوننا عنه.
__________
(1) هذا البيت من شواهد الفرّاء في معاني القرآن ( مصورة الجامعة الورقة 272 ) قال
في قوله تعالى : " كنتم تأتوننا عن اليمين " : يقول : كنتم تأتوننا من
قبل الدين ، أي تأتوننا تخدعوننا بأقوى الوجوه ، واليمين أي بالقوة والقدرة قلت :
والبيت للشماخ يمدح عرابة الأوسي ، وقبله رأيتُ عرابةَ الأوْسيَّ يسُمو ... إلى
الخيراتِ منقطعَ القرينِ
انظر ( اللسان : يمن ) . وفسره كما فسره الفرّاء ، وعرابة الأوسي : هو ابن أوس بن
قيظي قيل : هو الذي قال لرسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : في غزوة
الخندق : " إن بيوتنا عورة " . قال السهيلي في " الروض الأنف 2 :
190 " : وكان عرابة الأوسي سيدا ، ولا صحبة له ، وذكرناه فيمن استصغر يوم أحد
، وهو الذي يقول فيه الشماخ : " إذا ما راية رفعت لمجد .... البيت " .
(21/31)
فَحَقَّ عَلَيْنَا قَوْلُ رَبِّنَا إِنَّا لَذَائِقُونَ (31) فَأَغْوَيْنَاكُمْ إِنَّا كُنَّا غَاوِينَ (32) فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ (33) إِنَّا كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (34)
حدثنا محمد بن الحسين ، قال : ثنا أحمد
بن المفضل ، قال : ثنا أسباط ، عن السدي ، في قوله( إِنَّكُمْ كُنْتُمْ
تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ ) قال : تأتوننا من قبل الحق تزينون لنا الباطل ،
وتصدوننا عن الحق.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله( إِنَّكُمْ
كُنْتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ ) قال : قال بنو آدم للشياطين الذين كفروا
: إنكم كنتم تأتوننا عن اليمين ، قال : تحولون بيننا وبين الخير ، ورددتمونا عن
الإسلام والإيمان ، والعمل بالخير الذي أمر الله به.
وقوله( قَالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ وَمَا كَانَ لَنَا عَلَيْكُمْ
مِنْ سُلْطَانٍ ) يقول تعالى ذكره : قالت الجن للإنس مجيبة لهم : بل لم تكونوا
بتوحيد الله مُقِرين ، وكنتم للأصنام عابدين
( وَمَا كَانَ لَنَا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ ) يقول : قالوا : وما كان لنا
عليكم من حُجَّة ، فنصدَّكم بها عن الإيمان ، ونحول بينكم من أجلها وبين اتباع
الحق( بَلْ كُنْتُمْ قَوْما طَاغِينَ ) يقول : قالوا لهم : بل كنتم أيها المشركون
قوما طاغين على الله ، متعدين إلى ما ليس لكم التعدي إليه من معصية الله وخلاف
أمره.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قال : قالت لهم الجن(
بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ ) حتى بلغ( قَوْما طَاغِينَ )
حدثنا محمد بن الحسين ، قال : ثنا أحمد بن المفضل ، قال : ثنا أسباط ، عن السدي ،
في قوله : ( وَما كَانَ لَنَا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ ) قال : الحجة وفي قوله(
بَلْ كُنْتُمْ قَوْما طَاغِينَ ) قال : كفَّار ضُلال.
القول في تأويل قوله تعالى : { فَحَقَّ عَلَيْنَا قَوْلُ رَبِّنَا إِنَّا
لَذَائِقُونَ (31) فَأَغْوَيْنَاكُمْ إِنَّا كُنَّا غَاوِينَ (32) فَإِنَّهُمْ
يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ (33) إِنَّا كَذَلِكَ نَفْعَلُ
بِالْمُجْرِمِينَ (34) }
(21/32)
إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ (35) وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُوا آَلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ (36) بَلْ جَاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ (37)
يقول تعالى ذكره : فحق علينا قول ربنا
، فوجب علينا عذاب ربنا ، إنا لذائقون العذاب نحن وأنتم بما قدمنا من ذنوبنا
ومعصيتنا في الدنيا; فهذا خبر من الله عن قيل الجن والإنس.
كما حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( فَحَقَّ عَلَيْنَا
قَوْلُ رَبِّنا ) ..........الآية. قال : هذا قول الجن.
وقوله( فأغْويْناكُمْ إِنَّا كُنَّا غاوِينَ ) يقول : فأضللناكم عن سبيل الله
والإيمان به إنا كنا ضالين; وهذا أيضا خبر من الله عن قيل الجن والإنس ، قال الله(
فإنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي العَذَابِ مُشْتَرِكُونَ ) يقول : فإن الإنس الذين كفروا
بالله وأزواجهم ، وما كانوا يعبدون من دون الله ، والَّذين أَغْوَوا الإنس من الجن
يوم القيامة في العذاب مشتركون جميعا في النار ، كما اشتركوا في الدنيا في معصية
الله.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله( فإنَّهُمْ
يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ ) قال : هم والشياطين.( إِنَّا كذلكَ
نَفْعَلُ بالمُجْرِمِينَ ) يقول تعالى ذكره : إنا هكذا نفعل بالذين اختاروا معاصي
الله في الدنيا على طاعته ، والكفر به على الإيمان ، فنذيقهم العذاب الأليم ،
ونجمع بينهم وبين قرنائهم في النار.
القول في تأويل قوله تعالى : { إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لا إِلَهَ
إِلا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ (35) وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا
لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ (36) بَلْ جَاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ (37) }
يقول تعالى ذكره : وإن هؤلاء المشركين بالله الذين وصف صفتهم في هذه الآيات كانوا
في الدنيا إذا قيل لهم : قولوا(لا إِلهَ إِلا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ ) يقول :
يتعظَّمون عن قِيل ذلك ويتكبرون; وترك من الكلام قولوا ، اكتفاء بدلالة الكلام
عليه من ذكره.
(21/33)
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل
التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن الحسين ، قال : ثنا أحمد بن المفضل ، قال : ثنا أسباط ، عن السدي ،
في قوله( إذَا قِيلَ لَهُمْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ ) قال : يعني
المشركين خاصة.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله( إنَّهُمْ كَانُوا
إِذَا قِيلَ لَهُمْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ ) قال : قال عمر بن
الخطاب : احْضُروا موتاكم ، ولقنوهم لا إله إلا الله ، فإنهم يرون ويسمعون.
وقوله( وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ ) يقول
تعالى ذكره : ويقول هؤلاء المشركون من قريش ، أنترك عبادة آلهتنا لشاعر مجنون يقول
: لاتباع شاعر مجنون ، يعنون بذلك نبي الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ،
ونقول : لا إله إلا الله.
كما حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( وَيَقُولُونَ
أَئِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُون ) يعنون محمدا صَلَّى الله
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وقوله( بَلْ جَاءَ بِالْحَقِّ ) وهذا خبر من الله مكذبا للمشركين الذين قالوا
للنبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : شاعر مجنون ، كذبوا ، ما محمد كما وصفوه
به من أنه شاعر مجنون ، بل هو لله نبي جاء بالحق من عنده ، وهو القرآن الذي أنزله
عليه ، وصدق المرسلين الذين كانوا من قبله.
وبمثل الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( بَلْ جَاءَ بِالْحَقِّ )
بالقرآن( وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ ) : أي صدق من كان قبله من المرسلين.
القول في تأويل قوله تعالى :
(21/34)
إِنَّكُمْ لَذَائِقُو الْعَذَابِ الْأَلِيمِ (38) وَمَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (39) إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (40) أُولَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ (41) فَوَاكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ (42) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (43) عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ (44) يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (45) بَيْضَاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ (46) لَا فِيهَا غَوْلٌ وَلَا هُمْ عَنْهَا يُنْزَفُونَ (47)
{ إِنَّكُمْ لَذَائِقُو الْعَذَابِ
الألِيمِ (38) وَمَا تُجْزَوْنَ إِلا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (39) إِلا عِبَادَ
اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (40) أُولَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ (41) }
يقول تعالى ذكره لهؤلاء المشركين من أهل مكة ، القائلين لمحمد : شاعر
مجنون(إنَّكُمْ) أيها المشركون( لَذَائِقُو الْعَذَابِ الألِيم ) الموجع في
الآخرة( وَمَا تُجْزَوْنَ ) يقول : وما تثابون في الآخرة إذا ذقتم العذاب الأليم
فيها(إلا) ثواب( مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ) في الدنيا ، معاصِيَ الله. وقوله(
إِلا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ ) يقول : إلا عباد الله الذين أخلصهم يوم
خلقهم لرحمته ، وكتب لهم السعادة في أم الكتاب ، فإنهم لا يذوقون العذاب ، لأنهم
أهل طاعة الله ، وأهل الإيمان به.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( إِلا عِبَادَ اللَّهِ
الْمُخْلَصِينَ ) قال : هذه ثَنِية الله.
وقوله( أُولَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ ) يقول : هؤلاء هم عباد الله المخلصون
لهم رزق معلوم; وذلك الرزق المعلوم : هو الفواكه التي خلقها الله لهم في الجنة.
كما حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( أُولَئِكَ لَهُمْ
رِزْقٌ مَعْلُومٌ ) في الجنة.
حدثنا محمد بن الحسين ، قال : ثنا أحمد بن المفضل ، قال : ثنا أسباط ، عن السدي ،
في قوله( أُولَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ ) قال : في الجنة.
القول في تأويل قوله تعالى : { فَوَاكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ (42) فِي جَنَّاتِ
النَّعِيمِ (43) عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ (44) يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ
مِنْ مَعِينٍ (45) بَيْضَاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ (46) لا فِيهَا غَوْلٌ وَلا
هُمْ عَنْهَا يُنزفُونَ (47) }
(21/35)
قوله(فَوَاكِهُ) ردا على الرزق المعلوم
تفسيرا له ، ولذلك رفعت وقوله( وَهُمْ مُكْرَمُونَ ) يقول : وهم مع الذي لهم من
الرزق المعلوم في الجنة ، مكرمون بكرامة الله التي أكرمهم الله بها
( فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ ) يعني : في بساتين النعيم
( عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ ) يعني : أن بعضهم يقابل بعضا ، ولا ينظر بعضهم في
قفا بعض. وقوله( يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ ) يقول تعالى ذكره :
يطوف الخدم عليهم بكأس من خمر جارية ظاهرة لأعينهم غير غائرة.
كما حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( يُطَافُ عَلَيْهِمْ
بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ ) قال : كأس من خمر جارية ، والمعين : هي الجارية.
حدثنا محمد بن بشار ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا سفيان ، عن سلمة بن نبيط ،
عن الضحاك بن مزاحم ، في قوله( بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ ) قال : كل كأس في القرآن
فهو خمر.
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا عبد الله بن داود ، عن سلمة بن نبيط ، عن الضحاك بن
مزاحم ، قال : كل كأس في القرآن فهو خمر
حدثنا محمد بن الحسين ، قال : ثنا أحمد ، قال : ثنا أسباط ، عن السدي ، في قوله(
بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ ) قال : الخمر. والكأس عند العرب : كل إناء فيه شراب ، فإن
لم يكن فيه شراب لم يكن كأسا ، ولكنه يكون إناء.
وقوله( بَيْضَاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ ) يعني بالبيضاء : الكأس ، ولتأنيث الكأس
أنثت البيضاء ، ولم يقل أبيض ، وذكر أن ذلك في قراءة عبد الله : صفراء.
حدثنا محمد بن الحسين ، قال : ثنا أحمد ، قال : ثنا أسباط ، عن السدي ، في
قوله(بَيْضَاءَ) قال السدي : في قراءة عبد الله : صفراء
(21/36)
وقوله( لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ ) يقول
: هذه الخمر لذة يلتذها شاربوها.
وقوله( لا فِيهَا غَوْلٌ ) يقول : لا في هذه الخمر غول ، وهو أن تغتال عقولهم :
يقول : لا تذهب هذه الخمر بعقول شاربيها كما تذهب بها خمور أهل الدنيا إذا شربوها
فأكثروا منها ، كما قال الشاعر :
وَما زَالَتِ الكأْسُ تَغْتَالُنَا... وَتَذْهَبُ بِالأوَّلِ الأوَّلِ (1)
والعرب تقول : ليس فيها غيلة وغائلة وغَوْل بمعنى واحد; ورفع غول ولم ينصب بلا
لدخول حرف الصفة بينها وبين الغول ، وكذلك تفعل العرب في التبرِئة إذا حالت بين لا
والاسم بحرف من حروف الصفات رفعوا الاسم ولم ينصبوه ، وقد يحتمل قوله( لا فِيهَا
غَوْلٌ ) أن يكون معنيا به : ليس فيها ما يؤذيهم من مكروه ، وذلك أن العرب تقول
للرجل يصاب بأمر مكروه ، أو ينال بداهية عظيمة : غالَ فلانا غولٌ وقد اختلف أهل
التأويل في تأويل ذلك ، فقال بعضهم : معناه : ليس فيها صُداع.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني علي ، قال : ثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ،
قوله( لا فِيهَا غَوْلٌ ) يقول : ليس فيها صداع.
وقال آخرون : بل معنى ذلك : ليس فيها أذى فتشكَّى منه بطونهم.
__________
(1) البيت من شواهد أبي عبيدة في مجاز القرآن ( مصورة الجامعة الورقة 209 - 1 )
قال : " لا فيها غول " : مجازه : ليس فيها غول. والغول : أن تغتال
عقولهم. قال الشاعر : " وما زالت الكأس .... البيت " . وقال الفرّاء في
معاني القرآن ( مصورة الجامعة ص 272 ) : وقوله " لا فيها غول " : "
لو قلت : لا غول فيها كان رفعا ونصبا ( أي كانت " لا " عاملة عمل ليس أو
عمل إن ). قال : فإذا حلت بين الغول بلام أو بغيرها من الصفات ( حروف جر ) لم يكن
إلا الرفع. والغول : يقول : ليس فيها غيلة ، غائلة وغول.اهـ. وأنشد البيت في (
اللسان : غول ) عن أبي عبيدة ، وفيه : " الخمر " في موضع : " الكأس
" .اهـ.
(21/37)
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ،
عن ابن عباس( لا فِيهَا غَوْلٌ ) قال : هي الخمر ليس فيها وجع بطن.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث ، قال :
ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد قوله( لا فِيهَا
غَوْلٌ ) قال : وجع بطن.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله( لا فِيهَا غَوْلٌ
) قال : الغول ما يوجع البطون ، وشارب الخمر ههنا يشتكي بطنه.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( لا فِيهَا غَوْلٌ ) يقول
: ليس فيها وجع بطن ، ولا صُداع رأس.
وقال آخرون : معنى ذلك : أنها لا تغول عقولهم.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن الحسين ، قال : ثنا أحمد ، قال : ثنا أسباط ، عن السديّ( لا فِيهَا
غَوْلٌ ) قال : لا تغتال عقولهم.
وقال آخرون : بل معنى ذلك : ليس فيها أذًى ولا مكروه.
* ذكر من قال ذلك :
حُدثت عن يحيى بن زكريا بن أبي زائدة ، عن إسرائيل ، عن سالم الأفطس ، عن سعيد بن
جُبَير ، في قوله( لا فيها غَوْلٌ ) قال : أذًى ولا مكروه.
حدثنا محمد بن سنان القزاز ، قال : ثنا عبد الله بن يزيعة ، قال : أخبرنا إسرائيل
، عن سالم ، عن سعيد بن جُبَير ، في قوله : ( لا فيها غَوْلٌ ) قال : ليس فيها
أذًى ولا مكروه.
(21/38)
وقال آخرون : بل معنى ذلك : ليس فيها
إثم.
ولكل هذه الأقوال التي ذكرناها وجه ، وذلك أن الغَوْل في كلام العرب : هو ما غال
الإنسان فذهب به ، فكل من ناله أمر يكرهه ضربوا له بذلك المثل ، فقالوا : غالت
فلانا غول ، فالذاهب العقل من شرب الشراب ، والمشتكي البطن منه ، والمصدع الرأس من
ذلك ، والذي ناله منه مكروه كلهم قد غالته غُول.
فإذا كان ذلك كذلك ، وكان الله تعالى ذكره قد نفى عن شراب الجنة أن يكون فيه غَوْل
، فالذي هو أولى بصفته أن يقال فيه كما قال جل ثناؤه( لا فِيها غَوْلٌ ) فيعم بنفي
كل معاني الغَوْل عنه ، وأعم ذلك أن يقال : لا أذى فيها ولا مكروه على شاربيها في
جسم ولا عقل ، ولا غير ذلك.
واختلفت القرّاء في قراءة قوله( وَلا هُمْ عَنْها يُنزفُونَ ) فقرأته عامة قراء
المدينة والبصرة وبعض قراء الكوفة(يُنزفُونَ) بفتح الزاي ، بمعنى : ولا هم عن
شربها تُنزف عقولهم. وقرأ ذلك عامة قراء الكوفة : ( وَلا هُمْ عَنْهَا يُنزفُونَ )
بكسر الزاي ، بمعنى : ولا هم عن شربها يَنْفَد شرابهم.
والصواب من القول في ذلك أنهما قراءتان معروفتان صحيحتا المعنى غير مختلفتيه ،
فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب ، وذلك أن أهل الجنة لا ينفد شرابهم ، ولا يُسكرهم
شربهم إياه ، فيُذْهب عقولهم.
واختلف أهل التأويل في معنى ذلك ، فقال بعضهم : معناه : لا تذهب عقولهم.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني علي ، قال : ثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس( وَلا
هُمْ عنْها يُنزفُونَ ) يقول : لا تذهب عقولهم.
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ،
عن ابن عباس( وَلا هُمْ عَنْهَا يُنزفُونَ ) قال : لا تُنزف فتذهب
(21/39)
عقولهم.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث ، قال :
ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد( وَلا هُمْ
عَنْهَا يُنزفُونَ ) قال : لا تذهب عقولهم.
حدثنا محمد بن الحسين ، قال : ثنا أحمد بن المفضل ، قال : ثنا أسباط ، عن السدي ،
في قوله( وَلا هُمْ عَنْهَا يُنزفُونَ ) قال : لا تُنزف عقولهم.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله( وَلا هُمْ
عَنْهَا يُنزفُونَ ) قال : لا تُنزف العقول.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( وَلا هُمْ عَنْهَا
يُنزفُونَ ) قال : لا تغلبهم على عقولهم.
وهذا التأويل الذي ذكرناه عمَّن ذكرنا عنه لم تفصل لنا رواته القراءة الذي هذا
تأويلها ، وقد يحتمل أن يكون ذلك تأويل قراءة من قرأها ينزفُونَ ويُنزفُونَ
كلتيهما ، وذلك أن العرب تقول : قد نزف الرجل فهو منزوف : إذا ذهب عقله من السكر ،
وأنزف فهو مُنزف ، محكية عنهم اللغتان كلتاهما في ذهاب العقل من السكر; وأما إذا
فَنِيت خمر القوم فإني لم أسمع فيه إلا أنزفَ القوم بالألف ، ومن الإنزاف بمعنى :
ذهاب العقل من السكر ، قول الأبَيْرد :
لَعَمْرِي لَئِنْ أنزفْتُمُوا أوْ صَحَوْتُمُ... لَبِئْسَ النَّدَامَى كُنْتُمُ
آلَ أبجَرا (1)
__________
(1) البيت من شواهد أبي عبيدة في مجاز القرآن ( مصورة الجامعة الورقة 209 - 1 )
قال في " ولا هم عنها ينزفون " : تقول العرب لا تقطع عنه وتنزف سكرا.
وقال الأبيرد الرياحي من بني عجل : " لعمري ...... البيت " قال : "
آل أبجرا " : آل أبجر من عجل. وقال الفرّاء في معاني القرآن ( مصورة الجامعة
ص 272 ) ، وقوله " ولا هم عنها ينزفون " وينزفون ( مبنيا للمجهول
والمعلوم ) وأصحاب عبد الله يقرءون : ينزفون ، وله معنيان يقال : قد أنزف الرجل :
إذا فنيت خمره ، وأنزف : إذا ذهب عقله. فهذان وجهان. ومن قال : ينزفون يقول : لا
تذهب عقولهم وهو منزوف. وفي ( اللسان : نزف ) : وفي التنزيل : " لا يصدعون
فيها ولا ينزفون " : أي لا يسكرون. وأنشد الجوهري للأبيرد : لعمري لئن
أنزفتمُ أو صحوتمُ ... لبئس الندامى كنتم آل أبجرا
شربتم ومدرتم وكان أبوكم ... كذاكمْ إذا ما يشربُ الكأس مدرَ
قال ابن بري : هو أبجر بن جابر العجلي ، وكان نصرانيا. قال : وقوم يجعلون المنزف
مثل المنزوف ، الذي قد نزف دمه. وقال اللحياني : نزف الرجل ، فهو منزوف ونزيف سكر
، فذهب عقله.اهـ.. وقول الأبيرد " شربتم ومدرتم " لعله يريد : سلحتم على
أنفسكم لذهاب عقولكم ، من قولهم مدرت الضبع : إذا سلحت. وانظر ( اللسان : مدر ).
(21/40)
وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ (48) كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ (49) فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (50)
القول في تأويل قوله تعالى : {
وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ (48) كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ (49)
فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (50) }
يقول تعالى ذكره : وعند هؤلاء المخلصين من عباد الله في الجنة قاصرات الطرف ، وهن
النساء اللواتي قصرن أطرافهن على بعولتهن ، لا يردن غيرهم ، ولا يمددن أبصارهن إلى
غيرهم.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني علي ، قال : ثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس(
وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ ) يقول : عن غير أزواجهن.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث ، قال :
ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد( وَعِنْدَهُمْ
قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ ) قال : على أزواجهن; زاد الحارث في حديثه : لا تبغي
غيرهم.
حدثنا محمد بن الحسين ، قال : ثنا أحمد ، قال : ثنا أسباط ، عن السدي ، في قوله(
وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ ) قال : قصرن أبصارهن وقلوبهن على
(21/41)
أزواجهن ، فلا يردن غيرهم.
حدثنا محمد بن الحسين ، قال : ثنا أحمد ، قال : ثنا أسباط ، عن السدي ، قال : ذُكر
أيضا عن منصور ، عن مجاهد ، مثله.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ
الطَّرْفِ ) قال : قَصَرْن طرفهن على أزواجهن ، فلا يُردن غيرهم.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قول الله(قاصرات
الطرف) قال : لا ينظرن إلا إلى أزواجهن ، قد قَصَرْن أطرافهن على أزواجهن ، ليس
كما يكون نساء أهل الدنيا.
وقوله(عِينٌ) يعني بالعين : النُّجْلَ العيون عِظامها ، وهي جمع عيناء ، والعيناء
: المرأة الواسعة العين عظيمتها ، وهي أحسن ما تكون من العيون.
ونحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن الحسين ، قال : ثنا أحمد ، قال : ثنا أسباط ، عن السدي ، في
قوله(عِينٌ) قال : عظام الأعين.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله(عِينٌ) قال :
العيناء : العظيمة العين.
حدثنا أحمد بن عبد الرحمن بن وهب ، قال : ثنا محمد بن الفرج الصَّدَفي الدِّمْياطي
، عن عمرو بن هاشم ، عن ابن أبي كريمة ، عن هشام بن حسان ، عن أبيه ، عن أم سلمة
زوج النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنها قالت : قلت : يا رسول الله أخبرني
عن قول الله : ( حُورٌ عِين ) قال : " العِينُ : الضِّخَامُ العُيونِ; شُفْر الحُورَاء
بمَنزلَة جَناحِ النِّسْرِ " .
وقوله( كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ ) اختلف أهل التأويل في الذي به شبهن من
(21/42)
البيض بهذا القول ، فقال بعضهم : شبهن
ببطن البيض في البياض ، وهو الذي داخل القِشْر ، وذلك أن ذلك لم يمسه شيء.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا أبو كُرَيب ، قال : ثنا ابن يمان ، عن أشعث ، عن جعفر ، عن سعيد بن جُبَير ،
في قوله( كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ ) قال : كأنهن بطن البيض.
حدثنا محمد بن الحسين ، قال : ثنا أحمد بن المفضل ، قال : ثنا أسباط ، عن السدي(
كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ ) قال : البيض حين يُقْشر قبل أن تمسَّه الأيدي.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ
مَكْنُونٌ ) لم تمر به الأيدي ولم تمسه ، يشبهن بياضه.
وقال آخرون : بل شبهن بالبيض الذي يحضنه الطائر ، فهو إلى الصفرة ، فشبه بياضهن في
الصفرة بذلك.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله( كَأَنَّهُنَّ
بَيْضٌ مَكْنُونٌ ) قال : البيض الذي يكنه الريش ، مثل بيض النعام الذي قد أكنه
الريش من الريح ، فهو أبيض إلى الصفرة فكأنه يبرق ، فذلك المكنون.
وقال آخرون : بل عنى بالبيض في هذا الموضع : اللؤلؤ ، وبه شبهن في بياضه وصفائه.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني علي ، قال : ثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس ،
قوله(كأَنَّهُنَّ بَيضٌ مَكْنُونٌ) يقول : اللؤلؤ المكنون.
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب عندي قول من قال : شبهن في بياضهن ، وأنهن لم يمسهن
قبل أزواجهن إنس ولا جان ببياض البيض الذي هو داخل
(21/43)
القشر ، وذلك هو الجلدة المُلْبَسة
المُح قبل أن تمسه يد أو شيء غيرها ، وذلك لا شك هو المكنون; فأما القشرة العليا
فإن الطائر يمسها ، والأيدي تباشرها ، والعش يلقاها. والعرب تقول لكل مصون مكنون
ما كان ذلك الشيء لؤلؤا كان أو بيضا أو متاعا ، كما قال أبو دَهْبَل :
وَهْيَ زَهْرَاءُ مِثْلُ لُؤْلُؤةِ الغَوَّا... صِ مِيزَتْ مِنْ جَوْهَرٍ
مَكْنُونِ (1)
وتقول لكل شيء أضمرته الصدور : أكنته ، فهو مُكَنٌّ.
وبنحو الذي قلنا في ذلك جاء الأثر عن رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا أحمد بن عبد الرحمن بن وهب ، قال : ثنا محمد بن الفرج الصَّدَفي الدمياطي ،
عن عمرو بن هاشم عن ابن أبي كريمة ، عن هشام ، عن الحسن ، عن أمه ، عن أم سلمة
" قلت : يا رسول الله أخبرني عن قوله(كأنهن بيض مكنون) قال : "
رِقَّتُهُنَّ كَرِقَّةِ الْجِلْدَةِ الَّتِي رَأَيْتها فِي داخِلِ البَيْضَة التي
تَلِي القِشْرِ وَهِيَ الغِرْقِئُ "
وقوله( فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ ) يقول تعالى ذكره :
فأقبل بعض أهل الجنة على بعض يتساءلون ، يقول : يسأل بعضهم بعضا.
كما حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( فَأَقْبَلَ
بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ ) أهل الجنة.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله( فَأَقْبَلَ
بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ ) قال : أهل الجنة.
__________
(1) البيت من شواهد أبي عبيدة في مجاز القرآن ( مصورة الجامعة الورقة 209 - 1 )
قال في قوله تعالى : " بيض مكنون " أي مصون كل لؤلؤ أو بيض أو متاع صنته
، فهو مكنون. وكل شيء أضمرته في نفسك فقد أكننته. قال الشاعر : " وهي زهراء
.... " البيت .اهـ. ولم يصرح باسم القائل ، وصرح به المؤلف.
(21/44)
قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ (51)
القول في تأويل قوله تعالى : { قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ (51) }
(21/45)
يَقُولُ أَئِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ (52) أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَدِينُونَ (53)
القول في تأويل قوله تعالى : { يَقُولُ
أَئِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ (52) أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا
وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَدِينُونَ (53) }
يقول تعالى ذكره : قال قائل من أهل الجنة إذ أقبل بعضهم على بعض يتساءلون : (
إِنِّي كانَ لِي قَرِينٌ ) فاختلف أهل التأويل في القرين الذي ذكر في هذا الموضع ،
فقال بعضهم : كان ذلك القرين شيطانا ، وهو الذي كان يقول له : ( أَئِنَّكَ لَمِنَ
الْمُصَدِّقِينَ ) بالبعث بعد الممات.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث ، قال :
ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح عن مجاهد في قول الله :
(إِنّي كَانَ لِي قَرِينٌ ) قال : شيطان. وقال آخرون : ذلك القرين شريك كان له من
بني آدم أو صاحب.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ،
عن ابن عباس ، قوله( قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ يَقُولُ
أَئِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ ) قال : هو الرجل المشرك يكون له الصاحب في
الدنيا من أهل الإيمان ، فيقول له المشرك : إنك لتُصدق بأنك مبعوث من بعد الموت
أئذا كنا ترابا ؟ فلما أن صاروا إلى الآخرة وأدخل المؤمنُ الجنة ، وأدخل المشرك
النار ، فاطلع المؤمن ، فرأى صاحبه في سَواء الجحيم( قَالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ
لَتُرْدِينِ )
حدثني إسحاق بن إبراهيم بن حبيب بن الشهيد ، قال : ثنا عتاب بن بشير ، عن خَصِيف ،
عن فُرات بن ثعلبة البهراني في قوله( إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ ) قال : إن رجلين
كانا شريكين ، فاجتمع لهما ثمانية آلاف دينار ، وكان أحدهما له حرفة ، والآخر ليس
له حرفة ، فقال الذي له حرفة للآخر : ليس لك حرفة ، ما أُراني
(21/45)
قَالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ (54) فَاطَّلَعَ فَرَآَهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ (55) قَالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ (56) وَلَوْلَا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (57)
إلا مفارقك ومُقاسمك ، فقاسمه وفارقه;
ثم إن الرجل اشترى دارًا بألف دينار كانت لملك قد مات فدعا صاحبه فأراه ، فقال :
كيف ترى هذه الدار ابتعتُها بألف دينار ؟ قال : ما أحسنها; فلما خرج قال : اللهم
إن صاحبي هذا قد ابتاع هذه الدار بألف دينار ، وإني أسألك دارًا من دور الجنة ،
فتَصَدَّقَ بألف دينار; ثم مكث ما شاء الله أن يمكث ، ثم إنه تزوج امرأة بألف
دينار ، فدعاه وصنع له طعاما; فلما أتاه قال : إني تزوجت هذه المرأة بألف دينار;
قال : ما أحسن هذا; فلما انصرف قال : يا رب إن صاحبي تزوج امرأة بألف دينار ، وإني
أسألك امرأة من الحُور العين ، فتصدق بألف دينار; ثم إنه مكث ما شاء الله أن يمكث
، ثم اشترى بستانين بألفي دينار ، ثم دعاه فأراه ، فقال : إني ابتعت هذين
البستانين ، فقال : ما أحسن هذا; فلما خرج قال : يا رب إن صاحبي قد اشترى بساتين
بألفي دينار ، وأنا أسألك بستانين من الجنة ، فتصدقَ بألفي دينار; ثم إن الملك
أتاهما فتوفَّاهما; ثم انطلق بهذا المتصدق فأدخله دارًا تعجبه ، فإذا امرأة تطلع
يضيء ما تحتها من حُسنها ، ثم أدخله بستانين ، وشيئا الله به عليم ، فقال عند ذلك
: ما أشبه هذا برجل كان من أمره كذا وكذا. قال : فإنه ذاك ، ولك هذا المنزل
والبستانان والمرأة. قال : فإنه كان لي صاحب يقول : ( أَئِنَّكَ لَمِنَ
الْمُصَدِّقِينَ ) قيل له : فإنه في الجحيم ، قال : فهل أنتم مُطَّلِعون ؟
فاطَّلَعَ فرآه في سواء الجحيم ، فقال عند ذلك : ( تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ
لَتُرْدِينِ وَلَوْلا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ ) .
...الآيات. وهذا التأويل الذي تأوله فرات بن ثعلبة يقوي قراءة من قرأ "
إنَّكَ لَمِنَ المُصَّدِّقِينَ " بتشديد الصاد بمعنى : لمن المتصدقين ، لأنه
يذكر أن الله تعالى ذكره إنما أعطاه ما أعطاه على الصدقة لا على التصديق ، وقراءة
قراء الأمصار على خلاف ذلك ، بل قراءتها بتخفيف الصاد وتشديد الدال ، بمعنى :
إنكار قرينه عليه التصديق أنه يبعث بعد الموت ، كأنه قال : أتصدق بأنك تبعث بعد
مماتك ، وتُجْزَى بعملك ، وتحاسَب ؟ يدل على ذلك قول الله : ( أَئِذَا مِتْنَا
وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَدِينُونَ ) وهي القراءة الصحيحة عندنا
التي لا يجوز خِلافُها لإجماع الحجة من القرّاء عليها.
وقوله( أَئِنَّا لَمَدِينُونَ ) يقول : أإنا لمحاسبون ومجزيُّون بعد مصيرنا عظاما
ولحومنا ترابا.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ،
عن ابن عباس ، قوله( أَئِنَّا لَمَدِينُونَ ) يقول : أئنا لمجازوْن بالعمل ، كما
تَدِين تُدان.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله( أَئِنَّا
لَمَدِينُونَ ) : أئنا لمحاسبون.
حدثنا محمد بن الحسين ، قال : ثنا أحمد بن المفضل ، قال : ثنا أسباط ، عن السدي(
أَئِنَّا لَمَدِينُونَ ) محاسبون.
القول في تأويل قوله تعالى : { قَالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ (54) فَاطَّلَعَ
فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ (55) قَالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ
(56) وَلَوْلا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (57) }
يقول تعالى ذكره : قال هذا المؤمن الذي أدخل الجنة لأصحابه : ( هَلْ أَنْتُمْ
مُطَّلِعُونَ ) في النار ، لعلي أرى قريني الذي كان يقول لي : إنك لمن
المُصَدِّقين بأنا مبعوثون بعد الممات.
وقوله( فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ ) يقول : فاطلع في النار فرآه
في وسط الجحيم. وفي الكلام متروك استغني بدلالة الكلام عليه من ذكره ، وهو فقالوا
: نعم.
(21/46)
وبنحو الذي قلنا في تأويل قوله(
فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ ) قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : ثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ،
قوله( فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ ) يعني : في وَسَط الجحيم.
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ،
عن ابن عباس( فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ ) يعني : في وَسَط الجحيم.
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا عبد الرحمن ، قال ثنا عباد بن راشد ، عن الحسن ، في
قوله( فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ ) يقول : في وسط الجحيم.
حدثنا ابن سنان ، قال : ثنا عبد الصمد ، قال ثنا عباد بن راشد ، قال : سمعت الحسن
، فذكر مثله.
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا سليمان بن حرب ، قال : ثنا أبو هلال ، قال : ثنا قتادة
، في قوله( سَوَاءِ الْجَحِيم ) قال : وَسَطها.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قال : ( هَلْ أَنْتُمْ
مُطَّلِعُونَ ) قال : سأل ربه أن يطلعه ، قال( فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ
الْجَحِيمِ ) : أي في وسط الجحيم.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، عن خليد العصري ، قال :
لولا أن الله عرفه إياه ما عرفه ، لقد تغير حبره وسبرة بعده ، وذُكر لنا أنه اطلع
فرأى جماجم القوم ، فقال : ( تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ وَلَوْلا نِعْمَةُ
رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ )
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا إبراهيم بن أبي الوزير ، قال : ثنا سفيان بن عيينة ،
عن سعيد بن أبي عروبة ، عن قتادة ، عن مطرف بن عبد الله ، في قوله( فَاطَّلَعَ
فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ ) قال : والله لولا أنه عرفه ما عرفه ، لقد غيرت
(21/48)
النار حِبْره وسِبْره (1) .
حدثنا محمد بن الحسين ، قال : ثنا أحمد ، قال : ثنا أسباط ، عن السدي ، قوله( هَلْ
أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ ) قال : كان ابن عباس يقرؤها : " هَلْ أنتُمْ
مُطْلِعُونِى فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ " قال : في وسط
الجحيم.
وهذه القراءة التي ذكرها السدي ، عن ابن عباس ، أنه كان يقرأ في(مُطَّلِعُونَ) إن
كانت محفوظة عنه ، فإنها من شواذ الحروف ، وذلك أن العرب لا تؤثر في المكنى من
الأسماء إذا اتصل بفاعل على الإضافة في جمع أو توحيد ، لا يكادون أن يقولوا أنت
مُكَلِّمُني ولا أنتما مكلماني ولا أنتم مكلِّموني ولا مكلِّمونني ، وإنما يقولون
أنت مكلِّمي ، وأنتما مكلِّماي ، وأنتم مكلمي; وإن قال قائل منهم ذلك قاله على وجه
الغلط توهما به : أنت تكلمني ، وأنتما تكلمانني ، وأنتم تكلمونني ، كما قال الشاعر
:
وَما أدْرِي وَظَنِّي كُلَّ ظَن... أَمُسْلِمُنِي إلى قَوْمي شَرَاحِي? (2)
__________
(1) في ( اللسان : حبر ) الحبر والسبر ، الحسن والبهاء.
(2) البيت من شواهد الفرّاء في معاني القرآن ( مصورة الجامعة ص 272 ) قال في قوله
تعالى " هل أنتم مطلعون " وقرأ بعض القراء " هل أنتم مطلعون فاطلع
" فكسر النون ، وهو شاذ ؛ لأن العرب لا تختار على الإضافة إذا أسندوا فاعلا
مجموعا أو موحدا ، إلى مكنى عنه. فمن ذلك أن يقولوا : أنت ضاربي ويقولون للاثنين :
أنتما ضارباي ، وللجميع : أنتم ضاربي ولا يقولون للاثنين أنتما ضاربانني ، ولا
للجميع : أنتم ضاربونني ، وإنما تكون هذه النون يضربونني يضربني ، وربما غلط
الشاعر ، فيذهب إلى المعنى ، فيقول : أنت ضاربني يتوهم أنه أراد : هل تضربني ،
فيكون ذلك على غير صحة قال الشاعر : " وما أدري وظني ......البيت " ،
يريد شراحيل ، ولم يقل : أمسلمي ، وهو وجه الكلام. وقال آخر : هم القائلون الخير
والفاعلونه ... إذا ما خشوا من محدث الأمر معظما
ولم يقل : " الفاعلوه " ، وهو وجه الكلام. وإنما اختاروا ( العرب )
الإضافة في الاسم المكنى ، لأنه يختلط بما قبله ( أي يلتصق به ) فيصير الحرفان
كالحرف الواحد ، استحبوا الإضافة في المكنى ، وقالوا هما ضاربان زيدا ، وضاربا زيد
، لأن زيدا في ظهوره لا يختلط بما قبله ، لأنه ليس بحرف واحد ، والمكنى ( الضمير )
: حرف. فأما قوله " فاطلع " فإنه على جهة فعل ذلك به ، كما تقول : دعا
فأجيب يا هذا. ويكون : هل أنتم مطلعون فاطلع أنا ، فيكون منصوبا بجواب الفاء .
اهـ.
(21/49)
فقال : مسلمني ، وليس ذلك وجه الكلام ،
بل وجه الكلام أمسلمي; فأما إذا كان الكلام ظاهرا ولم يكن متصلا بالفاعل ، فإنهم
ربما أضافوا ، وربما لم يضيفوا ، فيقال : هذا مكلم أخاك ، ومكلم أخيك ، وهذان
مكلما أخيك ، ومكلمان أخاك ، وهؤلاء مكلمو أخيك ، ومكلمون أخاك; وإنما تختار
الإضافة في المكنى المتصل بفاعل لمصير الحرفين باتصال أحدهما بصاحبه كالحرف
الواحد.
وقوله( تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ ) يقول : فلما رأى قرينه في النار قال :
تالله إن كدت في الدنيا لتهلكني بصدك إياي عن الإيمان بالبعث والثواب والعقاب.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن الحسين ، قال : ثنا أحمد ، قال : ثنا أسباط ، عن السدي قوله( إِنْ
كِدْتَ لَتُرْدِينِ ) قال : لتهلكني ، يقال منه : أردى فلان فلانا : إذا أهلكه ،
وردي فلان : إذا هلك ، كما قال الأعشى.
أفِي الطَّوْفِ خِفْتِ عليّ الرَّدَى... وَكَمْ مِنْ رَدٍ أهْلَهُ لَمْ يَرِمْ (1)
__________
(1) البيت لأعشى بني قيس بن ثعلبة ( ديوانه طبع القاهرة 41 ) من قصيدة ميمية مطولة
يمدح بها قيس بن معد يكرب. والبيت من أبيات في آخرها يخاطب الشاعر بها ابنته التي
تخشى عليه الموت بسبب طول أسفاره وكثرتها ، فيرد عليها قائلا : أخفت عليّ الموت
بسبب السفر ؟ فانظري كم إنسان يموت ولا يبرح ديار أهله! والردى الهلاك ، وهو محل
الشاهد على قوله تعالى : " إن كدت لتردين " أي إنك كدت تهلكني. قال أبو
عبيدة في مجاز القرآن ( مصورة الجامعة الورقة 209 - ب ) : أرديته : أهلكته وردي هو
: أي هلك. اهـ.
وقال الفراء في معاني القرآن ( مصورة الجامعة 272 ) قال : " هل أنتم مطلعون
" : هذا رجل من أهل الجنة ، قد كان له أخ من أهل الكفر ، فأحب أن يرى مكانه ،
فيأذن الله له ، فيطلع في النار ويخاطبه ، فإذا رآه قال " تالله إن كدت
لتردين " . وفي قراءة عبد الله . هو بن مسعود : " إن كدت لتغوين ، ولولا
رحمة ربي لكنت من المحضرين " : أي معك في النار محضرا.
(21/50)
أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ (58) إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (59) إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (60) لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ (61)
يعني بقوله : " وكم من رَد "
: وكم من هالك.
وقوله( وَلَوْلا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ ) يقول : ولولا أن
الله أنعم عليّ بهدايته ، والتوفيق للإيمان بالبعث بعد الموت ، لكنتُ من
المحضَرِين معك في عذاب الله.
كما حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( لَكُنْتُ مِنَ
الْمُحْضَرِينَ ) : أي في عذاب الله.
حدثنا محمد بن الحسين ، قال : ثنا أحمد ، قال : ثنا أسباط ، عن السديّ ، قوله(
لَكُنْتُ مِنَ المُحْضَرِينَ ) قال : من المعذبين.
القول في تأويل قوله تعالى : { أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ (58) إِلا مَوْتَتَنَا
الأولَى وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (59) إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ
(60) لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ (61) }
يقول تعالى ذكره مخبرا عن قيل هذا المؤمن الذي أعطاه الله ما أعطاه من كرامته في
جنته سرورا منه بما أعطاه فيها( أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ إِلا مَوْتَتَنَا
الأولَى ) يقول : أفما نحن بميتين غير موتتنا الأولى في الدنيا ، ( وَمَا نَحْنُ
بِمُعَذَّبِينَ ) يقول : وما نحن بمعذبين بعد دخولنا الجنة( إِنَّ هَذَا لَهُوَ
الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ) يقول : إن هذا الذي أعطاناه الله من الكرامة في الجنة ،
أنا لا نعذب ولا نموت لهو النَّجاء العظيم مما كنا في الدنيا نحذر من عقاب الله ،
وإدراك ما كنا فيها ، نؤمل بإيماننا ، وطاعتنا ربنا.
كما حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد عن قتادة ، قوله( أَفَمَا نَحْنُ
بِمَيِّتِينَ ) إلى قوله( الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ) قال : هذا قول أهل الجنة.
(21/51)
أَذَلِكَ خَيْرٌ نُزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ (62) إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ (63) إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ (64) طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ (65) فَإِنَّهُمْ لَآَكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ (66)
وقوله( لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ
الْعَامِلُونَ ) يقول تعالى ذكره : لمثل هذا الذي أعْطَيتُ هؤلاء المؤمنين من
الكرامة في الآخرة ، فليعمل في الدنيا لأنفسهم العاملون ، ليدركوا ما أدرك هؤلاء
بطاعة ربهم.
القول في تأويل قوله تعالى : { أَذَلِكَ خَيْرٌ نزلا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ
(62) إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ (63) إِنَّهَا شَجَرَةٌ
تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ (64) طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ
(65) فَإِنَّهُمْ لآكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ (66) }
يقول تعالى ذكره : أهذا الذي أعطيت هؤلاء المؤمنين الذين وصفت صفتهم من كرامتي في
الجنة ، ورزقتهم فيها من النعيم خير ، أو ما أعددت لأهل النار من الزَّقُّوم.
وعُنِي بالنزل : الفضل ، وفيه لغتان : نزل ونزل; يقال للطعام الذي له ريع : هو
طعام له نزل ونزل. وقوله( أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ ) ذكر أن الله تعالى لما أنزل
هذه الآية قال المشركون : كيف ينبت الشجر في النار ، والنار تحرق الشجر ؟ فقال
الله : ( إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ ) يعني لهؤلاء المشركين
الذين قالوا في ذلك ما قالوا ، ثم أخبرهم بصفة هذه الشجرة فقال( إِنَّهَا شَجَرَةٌ
تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ )
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( أَذَلِكَ خَيْرٌ نزلا
أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ ) حتى بلغ( فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ ) قال : لما ذكر شجرة
الزقوم افتتن الظلَمة ، فقالوا : ينبئكم صاحبكم هذا أن في النار شجرة ، والنار
تأكل الشجر ، فأنزل الله ما تسمعون : إنها شجرة تخرج في أصل الجحيم ، غُذِيت
بالنار ومنها خُلقت.
(21/52)
حدثنا محمد بن الحسين ، قال : ثنا أحمد
بن المفضل ، قال : ثنا أسباط ، عن السدي ، قال : قال أبو جهل لما نزلت( إِنَّ
شَجَرَةَ الزَّقُّومِ ) قال : تعرفونها في كلام العرب : أنا آتيكم بها ، فدعا
جارية فقال : ائتيني بتمر وزُبد ، فقال : دونكم تَزَقَّموا ، فهذا الزَّقوم الذي
يخوفكم به محمد ، فأنزل الله تفسيرها : ( أَذَلِكَ خَيْرٌ نزلا أَمْ شَجَرَةُ
الزَّقُّومِ إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ ) قال : لأبي جهل
وأصحابه.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث ، قال :
ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله( إِنَّا
جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ ) قال : قول أبي جهل : إنما الزَّقوم التمر
والزبد أَتَزَقَّمه.
وقوله( طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ ) يقول تعالى ذكره : كأن طلع
هذه الشجرة ، يعني شجرة الزقوم في قُبحه وسماجته رءوس الشياطين في قبحها.
وذكر أن ذلك في قراءة عبد الله : " إنَّهَا شَجَرَةٌ نَابِتَةُ فِي أصْلِ
الجَحِيم.
كما حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله( طَلْعُهَا
كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ ) قال : شبهه بذلك.
فإن قال قائل : وما وجه تشبيهه طلع هذه الشجرة برءوس الشياطين في القبح ، ولا علم
عندنا بمبلغ قبح رءوس الشياطين ، وإنما يمثَّل الشيء بالشيء تعريفا من المُمَثِّل
له قُرب اشتباه الممثَّل أحدهما بصاحبه مع معرفة المُمَثَّل له الشيئين كليهما ،
أو أحدهما ، ومعلوم أن الذين خوطبوا بهذه الآية من المشركين ، لم يكونوا عارفين شَجَرة
الزقوم ، ولا برءوس الشياطين ، ولا كانوا رأوهما ، ولا واحدا منهما ؟.
قيل له : أما شجرة الزقوم فقد وصفها الله تعالى ذكره لهم وبينها حتى عرفوها ما هي
وما صفتها ، فقال لهم : ( شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ طَلْعُهَا
(21/53)
ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْبًا مِنْ حَمِيمٍ (67) ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ (68) إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آَبَاءَهُمْ ضَالِّينَ (69) فَهُمْ عَلَى آَثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ (70)
كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ ) فلم
يتركهم في عَماء منها. وأما في تمثيله طلعها برءوس الشياطين ، فأقول لكل منها وجه
مفهوم : أحدها أن يكون مثل ذلك برءوس الشياطين على نحو ما قد جرى به استعمال
المخاطبين بالآية بينهم وذلك أن استعمال الناس قد جرى بينهم في مبالغتهم إذا أراد
أحدهم المبالغة في تقبيح الشيء ، قال : كأنه شيطان ، فذلك أحد الأقوال. والثاني أن
يكون مثل برأس حية معروفة عند العرب تسمى شيطانا ، وهي حية لها عرف فيما ذكر قبيح
الوجه والمنظر ، وإياه عنى الراجز بقوله
عَنْجَرِدٌ تَحْلِفُ حِينَ أحْلِفُ... كمِثْلِ شَيْطَانِ الحَماطِ أعْرَفُ (1)
ويروى عُجَيِّزٌ. والثالث : أن يكون مثل نبت معروف برءوس الشياطين ذُكِر أنه قبيح
الرأس( فَإِنَّهُمْ لآكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ ) يقول
تعالى ذكره : فإن هؤلاء المشركين الذين جعل الله هذه الشجرة لهم فتنة ، لآكلون من
هذه الشجرة التي هي شجرة الزقوم ، فمالئون من زقومها بطونهم.
القول في تأويل قوله تعالى : { ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْبًا مِنْ
حَمِيمٍ (67) ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لإلَى الْجَحِيمِ (68) إِنَّهُمْ أَلْفَوْا
آبَاءَهُمْ ضَالِّينَ (69) فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ (70) }
__________
(1) هذان البيتان من مشطور الرجز ، أنشدهما الفرّاء في معاني القرآن ( مصورة
الجامعة 273 ) عند تفسير قوله تعالى : " كأنه رءوس الشياطين " قال : فإن
فيه في العربية ثلاثة أوجه : أحدها : أن تشبه طلعها في قبحه برءوس الشياطين ،
لأنها موصوفة بالقبح ، كانت لا ترى ، وأنت قائل للرجل كأنه شيطان : إذا استقبحته.
والآخر أن : العرب تسمي بعض الحيات شيطانا ، وهو حية ذو عرف ، قال الشاعر وهو يذم
امرأة له : " عنجرد تحلف ... البيت " . ويقال : إنه بيت قبيح يسمى برءوس
الشياطين. والأوجه الثلاثة إلى معنى واحد في القبح .اهـ. وفي ( اللسان : عنجرد ) :
الأزهري - الفرّاء : امرأة عنجرد خبيثة سيئة الخلق وأنشد بيت الشاهد. وقال غيره :
امرأة عنجرد : سليطة. وفي ( اللسان : حمط ) عن الجوهري : الحماط يبيس الأفاعي ،
يألفه الحيات ، يقال شيطان حماط ، كما يقال ذئب غضبى ، وتيس حلب. وقال الأزهري
العرب تقول لجنس من الحيات : شيطان الحماط. وقيل الحماط بلغة هذيل : شجرة عظام
تنبت في بلادهم ، تألفها الحيات ، والحماط تبن الذرة خاصة عن أبي حنيفة. اهـ.
(21/54)
يقول تعالى ذكره : ( ثُمَّ إِنَّ
لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْبًا مِنْ حَمِيمٍ ) ثم إن لهؤلاء المشركين على ما يأكلون
من هذه الشجرة شجرة الزقوم شَوْبا ، وهو الخلط من قول العرب : شاب فلان طعامه فهو
يشوبه شَوْبا وشيابا(من حميم) والحميم : الماء المحموم ، وهو الذي أسخن فانتهى حره
، وأصله مفعول صرف إلى فعيل.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : ثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ،
قوله( ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْبًا مِنْ حَمِيمٍ ) يقول : لَمَزْجا.
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ،
عن ابن عباس ، قوله( ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْبًا مِنْ حَمِيمٍ ) يعني
: شرب الحميم على الزَّقوم.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله( ثُمَّ إِنَّ
لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْبًا مِنْ حَمِيمٍ ) قال : مِزاجا من حميم.
حدثنا محمد بن الحسين ، قال : ثنا أحمد بن المفضل ، قال : ثنا أسباط ، عن السديّ(
ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْبًا مِنْ حَمِيمٍ ) قال : الشَّوب : الخلط ،
وهو المَزْج.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله( ثُمَّ إِنَّ
لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْبًا مِنْ حَمِيمٍ ) قال : حميم يُشاب لهم بغساق مما
تَغْسِق أعينهم ، وصديد من قيحهم ودمائهم مما يخرج من أجسادهم.
وقوله( ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لإلَى الْجَحِيمِ ) يقول تعالى ذكره : ثم إن
مآبهم
(21/55)
ومصيرهم لإلى الجحيم.
كما حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله( ثُمَّ إِنَّ
مَرْجِعَهُمْ لإلَى الْجَحِيمِ ) فهم في عناء وعذاب من نار جهنم ، وتلا هذه الآية
: ( يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ )
حدثنا محمد بن الحسين ، قال : ثنا أحمد ، قال : ثنا أسباط ، عن السديّ ، في قوله(
ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لإلَى الْجَحِيمِ ) قال : في قراءة عبد الله : " ثم
إن منقلبهم لإلى الجحيم " وكان عبد الله يقول : والذي نفسي بيده ، لا ينتصف
النهار يوم القيامة حتى يَقِيلَ أهلُ الجنة في الجنة ، وأهل النار في النار ، ثم
قال : ( أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلا
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله( ثُمَّ إِنَّ
مَرْجِعَهُمْ لإلَى الْجَحِيمِ ) قال : موتهم (1) .
وقوله( إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءَهُمْ ضَالِّينَ ) يقول : إن هؤلاء المشركين
الذين إذا قيل لهم : قولوا لا إله إلا الله يستكبرون ، وجدوا آباءهم ضلالا عن قصد
السبيل ، غير سالكين مَحَجَّة الحق.
( فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ ) يقول : فهؤلاء يُسْرع بهم في طريقهم ،
ليقتفوا آثارهم وسنتهم; يقال منه : أهرع فلان : إذا سار سيرا حثيثا فيه شبه
بالرعدة.
__________
(1) لعله : مقرهم أو مآلهم.
(21/56)
وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ (71) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ (72) فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (73) إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (74)
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل
التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : ثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ،
قوله( إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءَهُمْ ضَالِّينَ )أي وجدوا آباءهم.
حدثنا بشر ، قال ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة(إنهم ألفوا آباءهم) : أي
وجدوا آباءهم.
وبنحو الذي قلنا في يهرعون أيضا ، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث ، قال :
ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله( فَهُمْ
عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ ) قال : كهيئة الهرْولَة.
حدثنا بشر ، قال ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ
يُهْرَعُونَ ) : أي يُسرعون إسراعا في ذلك.
حدثنا محمد بن الحسين ، قال : ثنا أحمد بن المفضل ، قال : ثنا أسباط ، عن السديّ ،
في قوله( يُهْرَعُونَ ) قال : يُسْرِعون.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، فى قوله( يُهْرَعُونَ
إِلَيْهِ )قال : يستعجلون إليه
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الأوَّلِينَ
(71) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ (72) فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ
عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (73) إِلا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (74) }
يقول تعالى ذكره : ولقد ضل يا محمد عن قصد السبيل ومَحجة الحق قبل مشركي قومك من
قريش أكثر الأمم الخالية من قبلهم( وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ )
يقول : ولقد أرسلنا في الأمم التي خلت من قبل أمتك ، ومن قبل قومك المكذبيك منذرين
تنذرهم بأسنا على كفرهم بنا ، فكذبوهم ولم يقبلوا منهم نصائحهم ، فأحللنا بهم
بأسنا وعقوبتنا( فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ ) يقول : فتأمل
وتبين كيف كان غِبُّ أمر الذين أنذرتهم أنبياؤنا ، وإلام صار أمرهم ، وما الذي
أعقبهم كفرهم بالله ، ألم نهلكهم فنصيرهم للعباد عبرة ولمن بعدهم عظة ؟.
(21/57)
وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ (75) وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (76)
وقوله( إِلا عِبَادَ اللَّهِ
الْمُخْلَصِينَ ) يقول تعالى : فانظر كيف كان عاقبة المنذَرين ، إلا عباد الله
الذين أخلصناهم للإيمان بالله وبرسله; واستثنى عباد الله من المنذَرين ، لأن معنى
الكلام : فانظر كيف أهلكنا المنذَرين إلا عباد الله المؤمنين ، فلذلك حسن
استثناؤهم منهم.
وبنحو الذي قلنا في قوله( إِلا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ ) قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن الحسين ، قال : ثنا أحمد بن المفضل ، قال : ثنا أسباط ، عن السديّ ،
في قوله( إِلا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ ) قال : الذين استخلصهم الله.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ
(75) وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (76) }
(21/58)
وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ (77)
القول في تأويل قوله تعالى : {
وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ (77) }
يقول تعالى ذكره : لقد نادانا نوح بمسألته إيانا هلاك قومه ، فقال : ( رَبِّ
إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلا وَنَهَارًا فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلا
فِرَارًا ...إلى قوله( رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ
دَيَّارًا ) وقوله( فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ ) يقول : فلنعم المجيبون كنا له إذ
دعانا ، فأجبنا له دعاءه ، فأهلكنا قومه( وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ ) يعني : أهل
نوح الذين ركبوا معه السفينة. وقد ذكرناهم فيما مضى ، وبيَّنا اختلاف العلماء في
عددهم .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( وَلَقَدْ نَادَانَا
نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ ) قال : أجابه الله. وقوله( مِنَ الْكَرْبِ
الْعَظِيمِ ) يقول : من الأذى والمكروه الذي كان فيه
(21/58)
وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآَخِرِينَ (78) سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ (79) إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (80) إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (81) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآَخَرِينَ (82)
من الكافرين ، ومن كرب الطُّوفان
والغرق الذي هلك به قوم نوح.
كما حدثني محمد بن الحسين ، قال : ثنا أحمد بن المفضَّل ، قال : ثنا أسباط عن
السديّ ، ( وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ ) قال : من الغرق
وقوله( وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ ) يقول : وجعلنا ذريّة نوح هم
الذين بقوا في الأرض بعد مَهْلِك قومه ، وذلك أن الناس كلهم من بعد مَهْلِك نوح
إلى اليوم إنما هم ذرية نوح ، فالعجم والعرب أولاد سام بن نوح ، والترك والصقالبة
والخَزَر أولاد يافث بن نوح ، والسودان أولاد حام بن نوح ، وبذلك جاءت الآثار ،
وقالت العلماء.
حدثنا محمد بن بشار ، قال : ثنا ابن عَشْمَة ، قال : ثنا سعيد بن بشير ، عن قتادة
، عن الحسن ، عن سَمُرة ، عن النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، في قوله(
وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ ) قال : " سام وحام ويافث "
.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، في قوله( وَجَعَلْنَا
ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ ) قال : فالناس كلهم من ذرية نوح.
حدثنا عليّ ، قال : ثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، في
قوله( وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ ) يقول : لم يبق إلا ذرية نوح
القول في تأويل قوله تعالى : { وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ (78) سَلامٌ
عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ (79) إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (80)
إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (81) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الآخَرِينَ (82) }
يعني تعالى ذكره بقوله( وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ ) وأبقينا عليه ،
يعني على نوح ذكرا جميلا وثناء حسنا في الآخرين ، يعني : فيمن تأخَّر بعده من
الناس يذكرونه به.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
(21/59)
* ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : ثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ،
قوله( وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ ) يقول : يُذْكَر بخير.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث ، قال :
ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله(
وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ ) يقول : جعلنا لسان صدق للأنبياء كُلِّهم.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ
فِي الآخِرِينَ ) قال : أبقى الله عليه الثناء الحسن في الآخرين.
حدثنا محمد بن الحسين ، قال : ثنا أسباط ، عن السديّ ، قوله( وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ
فِي الآخِرِينَ ) قال : الثناء الحسن.
وقوله( سَلامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ ) يقول : أمنة من الله لنوح في
العالمين أن يذكره أحد بسوء; وسلام مرفوع بعلى. وقد كان بعض أهل العربية من أهل
الكوفة يقول : معناه : وتركنا عليه في الآخرين ، ( سَلامٌ عَلَى نُوحٍ ) أي تركنا
عليه هذه الكلمة ، كما تقول : قرأت من القرآن( الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ
الْعَالَمِينَ ) فتكون الجملة في معنى نصب ، وترفعها باللام ، كذلك سلام على نوح
ترفعه بعلى ، وهو في تأويل نصب ، قال : ولو كان : تركنا عليه سلاما ، كان صوابا.
وقوله( إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ) يقول تعالى ذكره : إنا كما فعلنا
بنوح مجازاة له على طاعتنا وصبره على أذى قومه في رضانا وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ
مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ وأبقينا
عليه ثناء في الآخرين( كَذَلِكَ نَجْزِي ) الذين يحسنون فيطيعوننا ، وينتهون إلى
أمرنا ، ويصبرون على الأذى فينا. وقوله( إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ )
يقول : إن نوحا من عبادنا الذين آمنوا بنا ، فوحدونا ، وأخلصوا لنا العبادة ،
وأفردونا بالألوهة.
وقوله( ثُمَّ أَغْرَقْنَا
(21/60)
وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ (83) إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (84) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ (85) أَئِفْكًا آَلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ (86)
الآخَرِينَ ) يقول تعالى ذكره : ثم
أغرقنا حين نجَّينا نوحا وأهله من الكرب العظيم من بقي من قومه.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( ثُمَّ أَغْرَقْنَا
الآخَرِينَ ) قال : أنجاه الله ومن معه في السفينة ، وأغرق بقية قومه.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لإبْرَاهِيمَ (83) إِذْ
جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (84) إِذْ قَالَ لأبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا
تَعْبُدُونَ (85) أَئِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ (86) }
يقول تعالى ذكره : وإن من أشياع نوح على منهاجه وملته والله لإبراهيمَ خليل
الرحمن.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : ثنا أبو صالح ، قال : ثنا معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ،
قوله( وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لإبْرَاهِيمَ ) يقول : من أهل دينه.
حدثني ابن حميد ، قال : ثنا حكام ، عن عنبسة ، عن محمد بن عبد الرحمن ، عن القاسم
بن أبي بَزّة ، عن مجاهد ، في قوله( وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لإبْرَاهِيمَ ) قال :
على منهاج نوح وسنته.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث ، قال :
ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله( وَإِنَّ
مِنْ شِيعَتِهِ لإبْرَاهِيمَ ) قال : على مِنهاجه وسنته.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ
لإبْرَاهِيمَ ) قال : على دينه وملته.
(21/61)
فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (87) فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ (88) فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ (89) فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ (90)
حدثنا محمد بن الحسين ، قال : ثنا أحمد
، قال : ثنا أسباط ، عن السديّ ، في قوله( وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لإبْرَاهِيمَ )
قال : من أهل دينه.
وقد زعم بعض أهل العربية أن معنى ذلك : وإن من شيعة محمد لإبراهيم ، وقال : ذلك
مثل قوله( وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ ) بمعنى : أنا حملنا
ذرية من هم منه ، فجعلها ذرية لهم ، وقد سبقتهم.
وقوله( إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ) يقول تعالى ذكره : إذ جاء إبراهيم
ربه بقلب سليم من الشرك ، مخلص له التوحيد.
كما حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( إِذْ جَاءَ رَبَّهُ
بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ) والله من الشرك.
حدثنا محمد ، قال : ثنا أحمد ، قال : ثنا أسباط ، عن السديّ ، في قوله( إِذْ جَاءَ
رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ) قال : سليم من الشرك.
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا جرير ، عن ليث ، عن مجاهد( بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ) قال :
لا شك فيه. وقال آخرون في ذلك بما حدثنا أبو كُرَيب ، قال : ثنا عَثَّام بن عليّ ،
قال : ثنا هشام ، عن أبيه ، قال : يا بني لا تكونوا لعانين ، ألم تروا إلى إبراهيم
لم يلعن شيئا قطّ ، فقال الله : ( إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ )
وقوله( إِذْ قَالَ لأبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ ) يقول حين قال : يعني
إبراهيم لأبيه وقومه : أي شيء تعبدون.
وقوله( أَئِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ ) يقول : أكذبا معبودا غير
الله تريدون.
القول في تأويل قوله تعالى : { فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (87)
فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ (88) فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ (89) فَتَوَلَّوْا
عَنْهُ مُدْبِرِينَ (90)
(21/62)
فَرَاغَ إِلَى آَلِهَتِهِمْ فَقَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ (91) مَا لَكُمْ لَا تَنْطِقُونَ (92)
فَرَاغَ إِلَى آلِهَتِهِمْ فَقَالَ
أَلا تَأْكُلُونَ (91) مَا لَكُمْ لا تَنْطِقُونَ (92) }
يقول تعالى ذكره مخبرا عن قيل إبراهيم لأبيه وقومه : ( فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ
الْعَالَمِينَ ) ؟ يقول : فأي شيء تظنون أيها القوم أنه يصنع بكم إن لقيتموه وقد
عبدتم غيره.
كما حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة(فما ظنكم برب
العالمين) يقول : إذا لقيتموه وقد عبدتم غيره.
وقوله( فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ ) ذكر أن قومه
كانوا أهل تنجيم ، فرأى نجما قد طلع ، فعصب رأسه وقال : إني مَطْعُون ، وكان قومه
يهربون من الطاعون ، فأراد أن يتركوه في بيت آلهتهم ، ويخرجوا عنه ، ليخالفهم
إليها فيكسرها.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ،
عن ابن عباس ، قوله( فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ )
رأى نجما طلع.
حدثني يعقوب ، قال : ثنا ابن عليه ، عن سعيد ، عن قتادة ، عن سعيد بن المسيب(فنظر
نظرة في النجوم فقال إني سقيم) رأى نجما طلع.
حدثنا بشر ، قال : كَايَدَ نبي الله عن دينه ، فقال : إني سقيم.
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك
يقول في قوله( فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ ) قالوا
لإبراهيم وهو في بيت آلهتهم : أخرج معنا ، فقال لهم : إني مطعون ، فتركوه مخافة أن
يعديهم.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، عن أبيه ،
(21/63)
في قول الله : (فنظر نظرة في النجوم
فقال إني سقيم) قال : أرسل إليه ملكهم ، فقال : إن غدا عيدنا ، فاحضر معنا ، قال :
فنظر إلى نجم فقال : إن ذلك النجم لم يطلع قط إلا طلع بسقم لي ، فقال : ( إِنِّي
سَقِيمٌ )
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، عن ابن إسحاق( فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي
النُّجُومِ فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ ) يقول الله : ( فَتَوَلَّوْا عَنْهُ
مُدْبِرِينَ )
وقوله( إِنِّي سَقِيمٌ ) : أي طعين ، أو لسقم كانوا يهربون منه إذا سمعوا به ،
وإنما يريد إبراهيم أن يخرجوا عنه ، ليبلغ من أصنامهم الذي يريد.
واختلف في وجه قيل إبراهيم لقومه : ( إِنِّي سَقِيمٌ ) وهو صحيح ، فروي عن رسول
الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال : " لَمْ يَكْذِبْ
إِبْرَاهِيمُ إلا ثَلاثَ كَذَبَاتٍ " .
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا أبو كُرَيب ، قال : ثنا أبو أسامة ، قال : ثني هشام ، عن محمد ، عن أبي
هريرة ، أن رسول الله قال : " وَلَمْ يَكْذِبْ إبْرَاهِيمُ غَيْرَ ثَلاثَ
كَذَبَاتٍ ، ثِنْتَيْنِ فِي ذَاتِ الله ، قوله( إِنِّي سَقِيمٌ ) وقَوْلِهِ( بَلْ
فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا ) ، وقَوْلِهِ فِي سارَة : هِي أُخْتِي " .
حدثنا سعيد بن يحيى ، قال : ثنا أبي ، قال : ثنا محمد بن إسحاق ، قال : ثني أبو
الزناد ، عن عبد الرحمن الأعرج ، عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله صَلَّى الله
عَلَيْهِ وَسَلَّم : " لَمْ يَكْذِبْ إبْرَاهِيمُ فِي شَيْءٍ قَطُّ إلا فِي
ثَلاثٍ " ثم ذكر نحوه .
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا جرير ، عن مغيرة ، عن المسيب بن رافع ، عن أبي هريرة ،
قال : " ما كذب إبراهيم غير ثلاث كذبات ، قوله( إِنِّي سَقِيمٌ ) ، وقوله(
بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا ) ، وإنما قاله موعظة ، وقوله حين سأله الملك ،
فقال أختي لسارَة ، وكانت امرأته " .
(21/64)
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : ثنا
ابن عُلَية ، عن أيوب ، عن محمد ، قالَ : " إن إبراهيم ما كذب إلا ثلاث كذبات
، ثنتان في الله ، وواحدة في ذات نفسه; فأما الثنتان فقوله( إِنِّي سَقِيمٌ ) ،
وقوله( بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا ) وقصته في سارَة ، وذكر قصتها وقصة الملك
" .
وقال آخرون : إن قوله( إِنِّي سَقِيمٌ ) كلمة فيها مِعْراض ، ومعناها أن كل من كان
في عقبة الموت فهو سقيم ، وإن لم يكن به حين قالها سقم ظاهر ، والخبر عن رسول الله
صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بخلاف هذا القول ، وقول رسول الله صَلَّى الله
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هو الحقّ دون غيره. قوله( فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ )
يقول : فتولوا عن إبراهيم مدبرين عنه ، خوفا من أن يعدِيَهُمْ السقم الذي ذكر أنه
به.
كما حُدثت عن يحيى بن زكريا ، عن بعض أصحابه ، عن حكيم بن جُبَير ، عن سعيد بن
جُبَير ، عن ابن عباس( إِنِّي سَقِيمٌ ) يقول : مطعون فتولَّوا عنه مدبرين ، قال
سعيد : إن كان الفرار من الطاعون لقديما.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد قال : ثنا سعيد عن قتادة( فَتَوَلَّوْا ) فنكصوا عنه(
مُدْبِرِينَ ) منطلقين.
وقوله( فَرَاغَ إِلَى آلِهَتِهِمْ ) يقول تعالى ذكره : فمال إلى آلهتهم بعد ما
خرجوا عنه وأدبروا; وأرى أن أصل ذلك من قولهم : راغ فلان عن فلان : إذا حاد عنه ،
فيكون معناه إذا كان كذلك : فراغ عن قومه والخروج معهم إلى آلهتهم; كما قال عدي بن
زيد :
حِينَ لا يَنْفَعُ الرَّوَاغُ وَلا يَنْ... فَعُ إلا المُصَادِقُ النِّحْرِيرُ (1)
__________
(1) البيت نسبه المؤلف لعدي بن زيد العبادي ، ولم أجده في ترجمته في الأغاني ولا
في شعره في شعراء النصرانية. ولعله من قصيدته التي مطلعها " أرواح مودع أم
بكور " . واستشهد به المؤلف عند قوله تعالى : " فراغ عليهم ضربا باليمين
" على أن معنى راغ : حاد. وفسره بعضهم بمال. " وفي اللسان : روغ "
راغ يروغ روغا وروغانا : حاد. وراغ إلى كذا أي مال إليه سرا وحاد.
وقوله تعالى " فراغ عليهم ضربا " أي مال وأقبل .اهـ. وفي ( اللسان : نحر
) : والنحر( بكسر النون ) والنحرير : الحاذق الماهر العاقل المجرب. وقيل : النحرير
: الرجل : الطبن الفطن المتقن البصير في كل شيء. وجمعه : النحارير. اهـ.
وقال الفرّاء في معاني القرآن 273 : " فراغ عليهم ضربا باليمين " : أي
مال عليهم ضربا ، واغتنم خلوتهم من أهل دينهم. وفي قراءة عبد الله ( أي ابن مسعود
) : " فراغ عليهم صفقا باليمين " .
(21/65)
فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ (93) فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ (94) قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ (95) وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ (96)
يعني بقوله " لا ينفع الرّوَاغ
" : الحِياد. أما أهل التأويل فإنهم فسَّروه بمعنى فَمَال.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( فَرَاغَ إِلَى
آلِهَتِهِمْ ) : أي فمال إلى آلهتهم ، قال : ذهب.
حدثنا محمد ، قال : ثنا أحمد ، قال : ثنا أسباط ، عن السديّ قوله( فَرَاغَ إِلَى
آلِهَتِهِمْ ) قال : ذهب.
وقوله( فَقَالَ أَلا تَأْكُلُونَ مَا لَكُمْ لا تَنْطِقُونَ ) هذا خبر من الله عن
قيل إبراهيم للآلهة; وفي الكلام محذوف استغني بدلالة الكلام عليه من ذكره ، وهو :
فقرّب إليها الطعام فلم يرها تأكل ، فقال لها : ( أَلا تَأْكُلُونَ ) فلما لم يرها
تأكل قال لها : ما لكم لا تأكلون ، فلم يرها تنطق ، فقال لها : ( مَا لَكُمْ لا
تَنْطِقُونَ ) مستهزئا بها ، وكذلك ذكر أنه فعل بها ، وقد ذكرنا الخبر بذلك فيما
مضى قبلُ.
وقال قتادة في ذلك ما حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة(
قَالَ أَلا تَأْكُلُونَ ) يستنطقهم( مَا لَكُمْ لا تَنْطِقُونَ ) ؟
القول في تأويل قوله تعالى : { فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ (93)
فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ (94) قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ (95)
وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ (96) }
(21/66)
يقول تعالى ذكره : فمال على آلهة قومه
ضربا لها باليمين بفأس في يده يكسرهن.
كما حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه
، عن ابن عباس قال : لما خلا جعل يضرب آلهتهم باليمين
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك ،
فذكر مثله.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( فَرَاغَ عَلَيْهِمْ
ضَرْبًا بِالْيَمِينِ ) فأقبل عليهم يكسرهم.
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : ثم أقبل عليهم كما قال الله
ضربا باليمين ، ثم جعل يكسرهنّ بفأس في يده
وكان بعض أهل العربية يتأوّل ذلك بمعنى : فراغ عليهم ضربا بالقوّة والقدرة ، ويقول
: اليمين في هذا الموضع : القوّة : وبعضهم كان يتأوّل اليمين في هذا الموضع : الحلف
، ويقول : جعل يضربهنّ باليمين التي حلف بها بقوله( وَتَاللَّهِ لأكِيدَنَّ
أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ ) وذُكر أن ذلك في قراءة عبد
الله : " فراغ عليهم صفقا باليمين " . ورُوي نحو ذلك عن الحسن.
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا يحيى بن واضح ، قال : ثنا خالد بن عبد الله الجُشَمِي
، قال : سمعت الحسن قرأ : " فَرَاغَ عَلَيْهِمْ صَفْقًا بِالْيَمِينِ "
: أي ضربا باليمين.
وقوله( فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ ) اختلفت القرّاء في قراءة ذلك ، فقرأته
عامة قراء المدينة والبصرة ، وبعض قرّاء الكوفة : ( فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ
يَزِفُّونَ ) بفتح الياء وتشديد الفاء من قولهم : زَفَّتِ النعامة ، وذلك أوّل
عدوها ، وآخر مشيها; ومنه قول الفرزدق :
(21/67)
وَجَاءَ قَرِيعُ الشَّوْلِ قَبْلَ
إِفَالِهَا... يَزِفُّ وَجَاءَتْ خَلْفَهُ وَهِيَ زُفَّفُ (1) .
وقرأ ذلك جماعة من أهل الكوفة : " يُزِفُّونَ " بضم الياء وتشديد الفاء
من أزف فهو يزف. وكان الفرّاء يزعم أنه لم يسمع في ذلك إلا زَفَفْت ، ويقول : لعلّ
قراءة من قرأه : " يُزِفُّونَ " بضم الياء من قول العرب : أطْرَدْتُ
الرجل : أي صيرته طريدا ، وطردته : إذا أنت خسئته إذا قلت : اذهب عنا; فيكون يزفون
: أي جاءوا على هذه الهيئة بمنزلة المزفوفة على هذه الحالة ، فتدخل الألف. كما
تقول : أحمدت الرجل : إذا أظهرت حمده ، وهو محمد : إذا رأيت أمره إلى الحمد ، ولم
تنشر حمده; قال : وأنشدني المفضَّل :
تَمَنَّى حُصَيْنٌ أنْ يَسُودَ جِذَاعَةُ... فأَمْسَى حُصَيْنٌ قَدْ أذَلَّ
وَأَقْهَرا (2)
__________
(1) البيت للفرزدق ( ديوانه طبعة الصاوي 558 ) من قصيدته التي مطلعها : "
عزفت بأعشاش وما كدت تعزف " . ( وفي اللسان : قرع ) : القريع من الإبل الذي
يأخذ بذراع الناقة فينيخها. وقيل سمي قريعا لأنه يقرع الناقة ، قال الفرزدق (
وأنشد بيت الشاهد ). والإفال : جمع أفيل وأفيلة ، وهو الفصيل. وقال أبو عبيد :
الإفال بنات المخاض. وفي ( اللسان : زفف ) الزفيف : سرعة المشي مع تقارب وسكون.
وقيل : هو أول عدو النعام : زف يزف زفا ، وزفيفا وزفوفا ، وأزف عن الأعرابي. قال الفرّاء
في معاني القرآن : والناس يزفون بفتح الياء ، أي يسرعون. وقرأها الأعمش يزفون (
بضم الياء ) أي يجيئون على هيئة الزفيف ، بمنزلة المزفوفة على هذه الحال. وقال
الزجاج : يزفون : يسرعون. وأصله من زفيف النعامة ، وهو ابتداء عدوها .اهـ.
(2) البيت للمخبل السعدي يهجو الزبرقان. واستشهد به الفرّاء في معاني القرآن (
مصورة الجامعة 273 ) لتخريج قراءة الأعمش قوله تعالى : " فأقبلوا إليه يزفون
" بضم الياء. قال كأنها من أزفت ، ولم نسمعها إلا زففت تقول للرجل : جاءنا
يزف ( بفتح الياء ) . ولعل قراءة الأعمش من قول العرب : قد أطردت الرجل : أي صيرته
طريدا ، طردته إذا أنت قلت له : اذهب عنا. " يزفون " : أي جاءوا على هذه
الهيئة بمنزلة المزفوفة. على هذه الحال ، فتدخل الألف ، كما تقول للرجلك هو محمود
: إذا أظهرت حمده ، وهو محمد : إذا رأيت أمره إلى الحمد ؛ ولم تنشر حمده. قال :
وأنشدني المفضل : " تمنى حصين ... البيت " فقال : اقهر : أي صار إلى
القهر ، وإنما هو قهر. وقرأ الناس بعد " يزفون " بفتح الياء وكسر الزاي.
وقد قرأ بعض القراء : " يزفون " بالتخفيف كأنها من وزف يزف. وزعم
الكسائي أنه لا يعرفها. وقال الفرّاء : لا أعرفها أيضا ، إلا أن تكون لم تقع
إلينا. وفي اللسان إلينا. وفي اللسان والمحكم : جذع : ( وجذاع الرجل : قومه ، لا
واحد لها ). قال المخبل يهجو الزبرقان : " تمنى... البيت " . أي قد صار
أصحابه أذلاء مقهورين ورواه الأصمعي : قد أذل وأقهرا ( بالبناء للمجهول ). أو يكون
" أقهر " وجد مقهورا . وخص أبو عبيدة بالجذاع رهط الزبرقان.
(21/68)
فقال : أقهر ، وإنما هو قُهِر ، ولكنه
أراد صار إلى حال قهر. وقرأ ذلك بعضهم.
" يَزِفُونَ " بفتح الياء وتخفيف الفاء من وَزَفَ يَزِفُ وذُكر عن
الكسائي أنه لا يعرفها ، وقال الفرّاء : لا أعرفها إلا أن تكون لغة لم أسمعها.
وذُكر عن مجاهد أنه كان يقول : الوَزْف : النَّسَلان.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث ، قال :
ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله(إليه
يزفون) قال : الوزيف : النسلان.
والصواب من القراءة في ذلك عندنا قراءة من قرأه بفتح الياء وتشديد الفاء ، لأن ذلك
هو الصحيح المعروف من كلام العرب ، والذي عليه قراءة الفصحاء من القرّاء.
وقد اختلف أهل التأويل في معناه ، فقال بعضهم : معناه : فأقبل قوم إبراهيم إلى
إبراهيم يَجْرُون.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : ثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ،
قوله( فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ ) : فأقبلوا إليه يجرون.
وقال آخرون : أقبلوا إليه يَمْشُون.
* ذكر من قال ذلك :
محمد بن الحسين ، قال : ثنا أحمد بن المفضل ، قال : ثنا أسباط ، عن السديّ ، في
قوله( فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ ) قال : يَمْشُون.
وقال آخرون : معناه : فأقبلوا يستعجلون.
* ذكر من قال ذلك :
(21/69)
قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ (97) فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَسْفَلِينَ (98) وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ (99) رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ (100)
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ،
قال : قال ابن زيد ، عن أبيه( فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ ) قال : يستعجلون
، قال : يَزِفّ : يستعجل.
وقوله( قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ ) يقول تعالى ذكره : قال إبراهيم
لقومه : أتعبدون أيها القوم ما تنحتون بأيديكم من الأصنام.
كما حدثني بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( قَالَ أَتَعْبُدُونَ
مَا تَنْحِتُونَ ) الأصنام.
وقوله( وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ ) يقول تعالى ذكره مخبرا عن قيل
إبراهيم لقومه : والله خلقكم أيها القوم وما تعملون. وفي قوله( وَمَا تَعْمَلُونَ
) وجهان : أحدهما : أن يكون قوله " ما " بمعنى المصدر ، فيكون معنى
الكلام حينئذ : والله خلقكم وعملكم.
والآخر أن يكون بمعنى " الذي " ، فيكون معنى الكلام عند ذلك : والله
خلقكم والذي تعملونه : أي والذي تعملون منه الأصنام ، وهو الخشب والنحاس والأشياء
التي كانوا ينحتون منها أصنامهم.
وهذا المعنى الثاني قصد إن شاء الله قتادةُ بقوله : الذي حدثنا بشر ، قال : ثنا
يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة : ( وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ ) :
بِأَيْدِكُمْ
القول في تأويل قوله تعالى : { قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِي
الْجَحِيمِ (97) فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الأسْفَلِينَ (98)
وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ (99) رَبِّ هَبْ لِي مِنَ
الصَّالِحِينَ (100) }
يقول تعالى ذكره : قال قوم إبراهيم لما قال لهم إبراهيم : ( أَتَعْبُدُونَ مَا
تَنْحِتُونَ وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ ) ابنوا لإبراهيم بنيانا; ذكر
أنهم بنوا له بنيانا يشبه التنور ، ثم نقلوا إليه الحطب ، وأوقدوا عليه(
فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ ) والجحيم عند العرب : جمر النار بعضُه على بعض ،
والنار على النار.
(21/70)
وقوله( فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا )
يقول تعالى ذكره : فأراد قوم إبراهيم كيدًا ، وذلك ما كانوا أرادوا من إحراقه
بالنار. يقول الله : ( فَجَعَلْنَاهُمُ ) أي فجعلنا قوم إبراهيم( الأسْفَلِينَ )
يعني الأذلين حجة ، وغَلَّبنا إبراهيم عليهم بالحجة ، وأنقذناه مما أرادوا به من
الكيد.
كما حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة : ( فَأَرَادُوا بِهِ
كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الأسْفَلِينَ ) قال : فما ناظرهم بعد ذلك حتى أهلكهم.
وقوله( وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ ) يقول : وقال إبراهيم
لما أفْلَجَه الله على قومه ونجاه من كيدهم : ( إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي )
يقول : إني مُهَاجِرٌ من بلدة قومي إلى الله : أي إلى الأرض المقدَّسة ، ومفارقهم
، فمعتزلهم لعبادة الله.
وكان قتادة يقول في ذلك ما حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن
قتادة : ( وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ ) : ذاهب بعمله وقلبه
ونيته.
وقال آخرون في ذلك : إنما قال إبراهيم( إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي ) حين أرادوا
أن يلقوه في النار.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن المثني ، قال : ثنا أبو داود ، قال : ثنا شعبة ، عن أبي إسحاق ، قال
: سمعت سليمان بن صُرَد يقول : لما أرادوا أن يُلْقوا إبراهيم في النار( قَالَ
إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ ) فجمع الحطب ، فجاءت عجوز على ظهرها حطب
، فقيل لها : أين تريدين ؟ قالت : أريد أذهب إلى هذا الرجل الذي يُلْقَى في النار;
فلما ألقي فيها ، قال : حَسْبِيَ الله عليه توكلت ، أو قال : حسبي الله ونعم
الوكيل ، قال : فقال الله : ( يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى
إِبْرَاهِيمَ ) قال : فقال ابن لُوط ، أو ابن أخي لوط : إن النار لم تحرقه من أجلي
، وكان بينهما قرابة ، فأرسل الله عليه عُنُقا من النار فأحرقته.
وإنما اخترت القول الذي قلت في ذلك ، لأن الله تبارك وتعالى ذكر خبره
(21/71)
فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ (101) فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (102)
وخبر قومه في موضع آخر ، فأخبر أنه لما
نجاه مما حاول قومه من إحراقه قال( إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي ) ففسر أهل
التأويل ذلك أن معناه : إني مهاجر إلى أرض الشام ، فكذلك قوله( إِنِّي ذَاهِبٌ
إِلَى رَبِّي ) لأنه كقوله( إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي ) وقوله( سَيَهْدِينِ )
يقول : سيثبتني على الهدى الذي أبصرته ، ويعيننى عليه.
وقوله( رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ ) وهذا مسألة إبراهيم ربه أن يرزقه ولدا
صالحا; يقول : قال : يا رب هب لي منك ولدا يكون من الصالحين الذين يطيعونك ، ولا
يعصونك ، ويصلحون في الأرض ، ولا يفسدون.
كما حدثنا محمد بن الحسين ، قال : ثنا أحمد بن المفضل ، قال : ثنا أسباط ، عن
السديّ ، في قوله( رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ ) قال : ولدا صالحا.
وقال : من الصالحين ، ولم يَقُلْ : صالحا من الصالحين ، اجتزاء بمن ذكر المتروك ،
كما قال عز وجل : ( وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ ) بمعنى زاهدين من
الزاهدين.
القول في تأويل قوله تعالى : { فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ (101) فَلَمَّا
بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي
أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ
سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (102) }
يقول تعالى ذكره : فبشَّرنا إبراهيم بغلام حليم ، يعني بغلام ذي حِلْم إذا هو
كَبِر ، فأما في طفولته في المهد ، فلا يوصف بذلك. وذكر أن الغلام الذي بشر الله
به إبراهيم إسحاق.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن حميد ، قال : ثنا يحيى بن واضح ، قال : ثنا الحسين ، عن يزيد ، عن
عكرمة : ( فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ ) قال : هو إسحاق.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلامٍ
(21/72)
حَلِيمٍ ) بشر بإسحاق ، قال : لم يُثْن
بالحلم على أحد غير إسحاق وإبراهيم.
وقوله( فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ ) يقول : فلما بلغ الغلام الذي بشر به
إبراهيم مع إبراهيم العمل ، وهو السعي ، وذلك حين أطاق معونته على عمله.
وقد اختلف أهل التأويل في معنى ذلك ، فقال بعضهم نحو الذي قلنا فيه.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : ثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ،
قولهِ( فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ ) يقول : العمل.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث ، قال :
ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله(
فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ ) قال : لما شبّ حتى أدرك سعيه سَعْي إبراهيمَ
في العمل.
حدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ،
مثله ، إلا أنه قال : لما شبّ حين أدرك سعيه.
حدثنا ابن المثنى ، قال : ثنا ابن أبي عديّ ، عن شعبة ، عن الحكم ، عن مجاهد(
فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ ) قال : سَعي إبراهيم.
حدثنا ابن المثنى ، قال : ثنا سهل بن يوسف ، عن شعبة ، عن الحكم ، عن مجاهد(
فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ ) : سَعي إبراهيم.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله( فَلَمَّا
بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ ) قال : السَّعْيُ ها هنا العبادة.
وقال آخرون : معنى ذلك : فلما مشى مع إبراهيم.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ
(21/73)
السَّعْيَ ) : أي لما مشى مع أبيه.
وقوله( قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ ) يقول
تعالى ذكره : قال إبراهيم خليل الرحمن لابنه : ( يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي
الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ ) وكان فيما ذكر أن إبراهيم نذر حين بشَّرته
الملائكة بإسحاق ولدًا أن يجعله إذا ولدته سارَة لله ذبيحا; فلما بلغ إسحاقُ مع
أبيه السَّعْي أرِي إبراهيم في المنام ، فقيل له : أوف لله بنذرك ، ورؤيا الأنبياء
يقين ، فلذلك مضى لما رأى في المنام ، وقال له ابنه إسحاق ما قال.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا موسى بن هارون ، قال : ثنا عمرو بن حماد ، قال : ثنا أسباط ، عن السديّ ،
قال : قال جبرائيل لسارَة : أبشري بولد اسمه إسحاق ، ومن وراء إسحاق يعقوب ، فضربت
جبهتها عَجَبا ، فذلك قوله( فَصَكَّتْ وَجْهَهَا ) و( قَالَتْ يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ
وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ ) إلى
قوله( حَمِيدٌ مَجِيدٌ ) قالت سارَة لجبريل : ما آية ذلك ؟ فأخذ بيده عودا يابسا ،
فلواه بين أصابعه ، فاهتز أخضر ، فقال إبراهيم : هو لله إذن ذَبيح; فلما كبر إسحاق
أُتِيَ إبراهيمُ في النوم ، فقيل له : أوف بنذرك الذي نَذَرْت ، إن الله رزقك
غلاما من سارَة أن تذبحه ، فقال لإسحاق : انطلق نقرب قُرْبَانا إلى الله ، وأخذ
سكينا وحبلا ثم انطلق معه حتى إذا ذهب به بين الجبال قال له الغلام : يا أبت أين
قُرْبانك ؟( قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ
فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى ؟ قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ
شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ ) فقال له إسحاق : يا أبت أشدد رباطي حتى لا
أضطرب ، واكففْ عني ثيابك حتى لا ينتضح عليها من دمي شيء ، فتراه سارَة فتحزن ،
وأَسْرِعْ مرّ السكين على حَلْقي ؛ ليكون أهون للموت عليّ ، فإذا أتيت سارَة فاقرأ
عليها مني السلام; فأقبل عليه إبراهيم يقبله وقد ربطه وهو يبكي وإسحاق يبكي ، حتى
استنقع الدموع تحت خدّ إسحاق ، ثم إنه جرّ السكين على حلقه ، فلم تَحِكِ السكين ،
وضرب الله صفيحة من النحاس على
(21/74)
حلق إسحاق; فلما رأى ذلك ضرب به على
جبينه ، وحزّ من قفاه ، فذلك قوله( فَلَمَّا أَسْلَمَا ) يقول : سلما لله الأمر(
وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ ) فنودي يا إبراهيم( قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا ) بالحق
فالتفت فإذا بكبش ، فأخذه وخَلَّى عن ابنه ، فأكبّ على ابنه يقبله ، وهو يقول :
اليوم يا بُنَيّ وُهِبْتَ لي; فلذلك يقول الله : (وفديناه بذبح عظيم) فرجع إلى
سارَة فأخبرها الخبر ، فجَزِعَت سارَة وقالت : يا إبراهيم أردت أن تذبح ابني ولا
تُعْلِمني!.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله( يَا بُنَيَّ
إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ ) قال : رؤيا الأنبياء حق إذا رأوا
فى المنام شيئا فعلوه.
حدثنا مجاهد بن موسى ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سفيان بن عيينة ، عن عمرو بن
دينار ، عن عبيد بن عمير ، قال : رؤيا الأنبياء وحي ، ثم تلا هذه الآية : ( إِنِّي
أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ ).
قوله( فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى ) : اختلفت القرّاء في قراءة قوله( مَاذَا تَرَى ؟ )
، فقرأته عامة قرّاء أهل المدينة والبصرة ، وبعض قراء أهل الكوفة : ( فَانْظُرْ
مَاذَا تَرَى ؟) بفتح التاء ، بمعنى : أي شيء تأمر ، أو فانظر ما الذي تأمر ، وقرأ
ذلك عامة قراء الكوفة : " مَاذَا تُرَى " بضم التاء ، بمعنى : ماذا
تُشير ، وماذا تُرَى من صبرك أو جزعك من الذبح ؟.
والذي هو أولى القراءتين في ذلك عندي بالصواب قراءة من قرأه : ( مَاذَا تَرَى )
بفتح التاء ، بمعنى : ماذا ترى من الرأي.
فإن قال قائل : أو كان إبراهيم يؤامر ابنه في المضيّ لأمر الله ، والانتهاء إلى
طاعته ؟ قيل : لم يكن ذلك منه مشاورة لابنه في طاعة الله ، ولكنه كان منه ليعلم ما
عند ابنه من العَزْم : هل هو من الصبر على أمر الله على مثل الذي هو عليه ، فيسر
بذلك أم لا وهو في الأحوال كلها ماض لأمر الله.
(21/75)
وقوله( قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ ) يقول تعالى ذكره : قال إسحاق لأبيه : يا أبت افعل ما يأمرك به ربك من ذبحي.( سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ ) يقول : ستجدني إن شاء الله صابرا من الصابرين لما يأمرنا به ربنا ، وقال : (افعل ما تُؤْمَرُ ، ولم يقل : ما تؤمر به ، لأن المعنى : افعل الأمر الذي تؤمره ، وذكر أن ذلك في قراءة عبد الله : " إني أرى في المنام : افعل ما أُمِرْت به " .
(21/76)
فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (103) وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (105) إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ (106)
القول في تأويل قوله تعالى : {
فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (103) وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا
إِبْرَاهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي
الْمُحْسِنِينَ (105) إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ (106) }
يقول تعالى ذكره : فلما أسلما أمرهما لله وفوّضاه إليه واتفقا على التسليم لأمره
والرضا بقضائه.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني سليمان بن عبد الجبار ، قال : ثنا ثابت بن محمد ، وحدثنا ابن بشار ، قال :
ثنا مسلم بن صالح ، قالا ثنا عبد الله بن المبارك ، عن إسماعيل بن أبي خالد ، عن
أبي صالح ، في قوله( فَلَمَّا أَسْلَمَا ) قال : اتفقا على أمر واحد.
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا يحيى بن واضح ، قال : ثنا الحسين ، عن يزيد ، عن عكرمة
، قوله( فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ ) قال : أسلما جميعا لأمر الله
ورضي الغلام بالذبح ، ورضي الأب بأن يذبحه ، فقال : يا أبت اقذفني للوجه كيلا تنظر
إلي فترحمني ، وأنظر أنا إلى الشفرة فأجزع ، ولكن أدخل الشفرة من تحتي ، وامض لأمر
الله ، فذلك قوله( فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ ) فلما فعل ذلك(
وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ
نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ).
(21/76)
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال :
ثنا سعيد ، عن قتادة( فَلَمَّا أَسْلَمَا ) قال : أسلم هذا نفسه لله ، وأسلم هذا
ابنه لله.
حدثنا محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث ، قال :
ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله(
فَلَمَّا أَسْلَمَا ) قال : أسلما ما أمرا به.
حدثني موسى ، قال : ثنا عمرو ، قال : ثنا أسباط ، عن السديّ( فَلَمَّا أَسْلَمَا )
يقول : أسلما لأمر الله.
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، عن ابن إسحاق( فَلَمَّا أَسْلَمَا ) : أي سلم
إبراهيم لذبحه حين أمر به وسلم ابنه للصبر عليه ، حين عرف أن الله أمره بذلك فيه.
وقوله( وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ ) يقول : وصَرَعَه للجَبِيِن ، والجبينان ما عن يمين
الجبهة وعن شمالها ، وللوجه جبينان ، والجبهة بينهما.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو العاصم ، قال : ثنا عيسى : وحدثني الحارث ،
قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله(
وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ ) قال : وضع وجهه للأرض ، قال : لا تذبحني وأنت تنظر إلى
وجهي عسى أن ترحمني ، ولا تجهز عليّ ، اربط يدي إلى رقبتي ثم ضع وجهي للأرض.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ )
: أى وكبه لفيه وأخذ الشفرة( وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ
الرُّؤْيَا ) حتى بلغ( وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ )
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ،
(21/76)
عن أبيه ، عن ابن عباس( وَتَلَّهُ
لِلْجَبِينِ ) قال : أكبه على جبهته.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله( وَتَلَّهُ
لِلْجَبِينِ ) قال : جبينه ، قال : أخذ جبينه ليذبحه.
حدثنا ابن سنان ، قال : ثنا حجاج ، عن حماد ، عن أبي عاصم الغَنَوِيّ عن أبي
الطُّفَيل ، قال : قال ابن عباس : إن إبراهيم لما أُمر بالمناسك عرض له الشيطان
عند المسعى فسابقه ، فسبقه إبراهيم ، ثم ذهب به جبريل إلى جمرة العقبة ، فعرض له
الشيطان ، فرماه بسبع حَصَيَات حتى ذهب ، ثم عرض له عند الجمرة الوُسْطَى ، فرماه
بسبع حَصَيَات حتى ذهب ، ثم تلَّه للجَبِين ، وعلى إسماعيل قَميص أبيض ، فقال له :
يا أبت إنه ليس لي ثوب تكفنني فيه غير هذا ، فاخلعه حتى تكفنني فيه ، فالتفت
إبراهيم فإذا هو بكبش أعْيَن أبيض فذبحه ، فقال ابن عباس : لقد رأيتنا نتبع هذا
الضرب من الكِباش.
وقوله( وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا ) وهذا
جواب قوله( فَلَمَّا أَسْلَمَا ) ومعنى الكلام : فلما أسلما وتلَّه للجبين ، وناديناه
أن يا إبراهيم; وأدخلت الواو في ذلك كما أدخلت في قوله( حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا
وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا ) وقد تفعل العرب ذلك فتدخل الواو في جواب فلما ، وحتى
وإذا تلقيها.
ويعني بقوله( قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا ) التي أريناكها في منامك بأمرناك بذبح
ابنك.
وقوله( إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ) يقول : إنا كما جَزَيْناك
بطاعتنا يا إبراهيم ، كذلك نجزى الذين أحسنوا ، وأطاعوا أمرنا ، وعملوا في رضانا.
وقوله( إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ ) : يقول تعالى ذكره : إن أمرنا
إياك يا إبراهيم بذبح ابنك إسحاق ، لهو البلاء ، يقول : لهو الاختبار الذي يبين
لمن فكَّرَ فيه أنه بلاء شديد ومِحْنة عظيمة. وكان ابن زيد يقول : البلاء في هذا
الموضع الشرّ وليس باختبار.
(21/78)
وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ (107) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآَخِرِينَ (108) سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ (109) كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (110) إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (111)
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ،
قال : ابن زيد ، في قوله( إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ ) قال : هذا فى
البلاء الذي نزل به في أن يذبح ابنه.( صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا ) : ابتليتَ ببلاء
عظيم أمرت أن تذبح ابنك ، قال : وهذا من البلاء المكروه وهو الشرّ وليس من بلاء
الاختبار.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ (107) وَتَرَكْنَا
عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ (108) سَلامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ (109) كَذَلِكَ نَجْزِي
الْمُحْسِنِينَ (110) إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (111) }
وقوله( وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ ) يقول : وفدينا إسحاق بذبح عظيم ، والفدية
: الجزاء ، يقول : جزيناه بأن جعلنا مكان ذبحه ذبح كبش عظيم ، وأنقذناه من الذبح.
واختلف أهل التأويل ، في المفديّ من الذبح من ابني إبراهيم ، فقال بعضهم : هو
إسحاق.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا أبو كُرَيب ، قال : حدثنا ابن يمان ، عن مبارك ، عن الحسن ، عن الأحنف بن
قيس ، عن العباس بن عبد المطلب( وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ ) قال : هو إسحاق.
حدثني الحسين بن يزيد بن إسحاق ، قال : ثنا ابن إدريس ، عن داود بن أبي هند ، عن
عكرمة ، عن ابن عباس ، قال : الذي أُمِر بذبحه إبراهيم هو إسحاق.
حدثنا ابن المثنى ، قال : ثنا ابن أبي عديّ ، عن داود ، عن عكرمة ، عن ابن عباس(
وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ ) قال : هو إسحاق.
حدثني يعقوب ، قال : ثنا ابن علية ، عن داود ، عن عكرمة ، قال :
(21/79)
قال ابن عباس : الذبيح إسحاق.
حدثنا أبو كُرَيب ، قال : ثنا زيد بن حباب ، عن الحسن بن دينار ، عن عليّ بن زيد
بن جُدْعان ، عن الحسن ، عن الأحنف بن قيس ، عن العباس بن عبد المطلب ، عن النبيّ
صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في حديث ذكره ، قال : " هو إسحاق " .
حدثنا ابن المثنى ، قال : ثنا محمد بن جعفر ، قال : ثنا شعبة ، عن أبي إسحاق ، عن
أبي الأحوص ، قال : افتخر رجل عند ابن مسعود ، فقال : أنا فلان بن فلان ابن
الأشياخ الكرام ، فقال عبد الله : ذاك يوسف بن يعقوب بن إسحاق ذبيح الله بن
إبراهيم خليل الله.
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا إبراهيم بن المختار ، قال : ثنا محمد بن إسحاق ، عن
عبد الرحمن بن أبي بكر ، عن الزهري ، عن العلاء بن حارثة الثقفي ، عن أبي هريرة ،
عن كعب في قوله( وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ ) قال : من ابنه إسحاق.
حدثني يعقوب ، قال : ثنا هشيم ، قال : ثنا زكريا وشعبة ، عن ابن إسحاق ، عن مسروق
، في قوله( وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ ) قال : هو إسحاق.
حدثنا أبو كُرَيب ، قال : ثنا ابن يمان ، عن سفيان ، عن زيد بن أسلم ، عن عبيد بن
عمير ، قال : هو إسحاق.
حدثنا عمرو بن عليّ ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا سفيان ، عن زيد بن أسلم ، عن
عبد الله بن عمير قال : ( قال موسى : يا ربّ يقولون يا إله
(21/80)
إبراهيم وإسحاق ويعقوب ، فبم قالوا ذلك
؟ قال : إن إبراهيم لم يعدل بي شيئا قطّ إلا اختارني عليه ، وإن إسحاق جاد لي
بالذبح ، وهو بغير ذلك أجود ، وإن يعقوب كلما زدته بلاء زادني حسن ظنّ ).
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا مؤمل ، قال : ثنا سفيان ، عن زيد بن أسلم ، عن عبد
الله بن عبيد بن عمير ، عن أبيه ، قال : قال موسى : أي ربّ بم أعطيت إبراهيم وإسحاق
ويعقوب ما أعطيتهم ؟ فذكر معنى حديث عمرو بن عليّ.
حدثنا أبو كُرَيب ، قال : ثنا ابن يمان ، عن سفيان ، عن أبي سنان الشيباني ، عن
ابن أبي الهذيل ، قال : الذبيح هو إسحاق.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرنا يونس ، عن ابن شهاب أن عمرو بن
أبي سفيان بن أسيد بن حارثة الثقفي ، أخبره أن كعبا قال لأبي هريرة : ألا أخبرك عن
إسحاق بن إبراهيم النبيّ ؟ قال أبو هريرة : بلى ، قال كعب : لما رأى إبراهيم ذبح
إسحاق ، قال الشيطان : والله لئن لم أفتن عند هذا آل إبراهيم لا أفتن أحدا منهم
أبدا ، فتمثل الشيطان لهم رجلا يعرفونه ، فأقبل حتى إذا خرج إبراهيم بإسحاق ليذبحه
دخل على سارَة امرأة إبراهيم ، فقال لها : أين أصبح إبراهيم غاديا بإسحاق ؟ قالت
سارَة : غدا لبعض حاجته ، قال الشيطان : لا والله ما لذلك غدا به ، قالت سارَة :
فَلِمَ غدا به ؟ قال : غدا به ليذبحه! قالت سارَة : ليس من ذلك شيء ، لم يكن ليذبح
ابنه! قال الشيطان : بلى والله! قالت سارَة : فلم يذبحه ؟ قال : زعم أن ربه أمره
بذلك; قالت سارَة : فهذا أحسن بأن يطيع ربه إن كان أمره بذلك. فخرج الشيطان من عند
سارَة حتى أدرك إسحاق وهو يمشي على إثر أبيه ، فقال : أين أصبح أبوك غاديا بك ؟
قال : غدا بي لبعض حاجته ، قال الشيطان : لا والله ما غدا بك لبعض حاجته ، ولكن
غدا بك ليذبحك ، قال إسحاق : ما كان أبي ليذبحني! قال : بلى; قال : لِمَ ؟ قال :
زعم أن ربه أمره بذلك; قال إسحاق : فوالله لئن أمره بذلك ليطيعنَّه ، قال : فتركه
الشيطان وأسرع إلى إبراهيم ، فقال : أين أصبحت غاديا بابنك ؟ قال : غدوت به لبعض
حاجتي ، قال : أما والله ما غدوت به إلا لتذبحه ، قال : لِمَ أذبحه ؟ قال : زعمت
أن ربك أمرك بذلك; قال : الله فوالله لئن كان أمرني بذلك ربي لأفعلنّ; قال : فلما
أخذ إبراهيم إسحاق ليذبحه وسَلَّم إسحاق ، أعفاه الله وفداه بذبح عظيم ، قال
إبراهيم لإسحاق : قم أي بنيّ ، فإن الله قد أعفاك; وأوحى الله إلى إسحاق : إني قد
أعطيتك دعوة أستجيب
(21/81)
لك فيها; قال ، قال إسحاق : اللهمّ إني
أدعوك أن تستجيب لي ، أيما عبد لقيك من الأوّلين والآخرين لا يُشرك بك شيئا ،
فأدخله الجنة.
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، قال : ثني ابن إسحاق ، عن عبد الله بن أبي بكر
، عن محمد بن مسلم الزهري ، عن أبي سفيان بن العلاء بن حارثة الثقفي ، حليف بني
زُهرة ، عن أبي هريرة ، عن كعب الأحبار أن الذي أُمِر إبراهيم بذبحه من ابنيه إسحاق
، وأن الله لما فرج له ولابنه من البلاء العظيم الذي كان فيه ، قال الله لإسحاق :
إني قد أعطيتك بصبرك لأمري دعوة أعطيك فيها ما سألت ، فسلني ، قال : ربّ أسألك أن
لا تعذّب عبدا من عبادك لقيك وهو يؤمن بك ، فكانت تلك مسألته التي سأل.
حدثنا أبو كُرَيب ، قال : ثنا ابن يمان ، قال : ثنا إسرائيل ، عن جابر ، عن ابن
سابط ، قال : هو إسحاق.
حدثنا أبو كُرَيب ، قال : ثنا سفيان بن عُقْبة ، عن حمزة الزيات ، عن أبي ميسرة ،
قال : قال يوسف للملِك في وجهه : ترغب أن تأكل معي ، وأنا والله يوسف بن يعقوب
نبيّ الله ، ابن إسحاق ذبيح الله ، ابن إبراهيم خليل الله.
قال : ثنا أبو كُرَيب ، قال : ثنا وكيع ، عن سفيان ، عن أبى سنان ، عن ابن أبي
الهُذَيل ، قال : قال يوسف للملِك ، فذكر نحوه.
وقال آخرون : الذي فُدِي بالذبح العظيم من بني إبراهيم : إسماعيل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا أبو كُرَيب وإسحاق بن إبراهيم بن حبيب بن الشهيد ، قالا ثنا يحيى بن يمان ،
عن إسرائيل ، عن ثور ، عن مجاهد ، عن ابن عمر ، قال : الذبيح : إسماعيل.
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا سفيان ، قال : ثني بيان ، عن الشعبيّ ، عن ابن عباس(
وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ ) قال : إسماعيل.
(21/82)
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا يحيى بن
واضح ، قال : ثنا أبو حمزة ، عن محمد بن ميمون السكريّ ، عن عطاء بن السائب ، عن
سعيد بن جُبَير ، عن ابن عباس ، قال : إن الذي أمر بذبحه إبراهيم إسماعيلُ.
حدثني يعقوب ، قال : ثنا هشيم ، عن عليّ بن زيد ، عن عمار ، مولى بني هاشم ، أو عن
يوسف بن مِهْران ، عن ابن عباس ، قال : هو إسماعيل ، يعني( وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ
عَظِيمٍ ).
حدثني يعقوب ، قال : ثنا ابن عُلَية ، قال : ثنا داود ، عن الشعبيّ ، قال : قال
ابن عباس : هو إسماعيل.
وحدثني به يعقوب مرّة أخرى ، قال : ثنا ابن عُلَية ، قال : سئل داود بن أبي هند :
أيّ ابني إبراهيم الذي أُمِر بذبحه ؟ فزعم أن الشعبي قال : قال ابن عباس : هو
إسماعيل.
حدثنا ابن المثني ، قال : ثنا محمد بن جعفر ، قال : ثنا شعبة ، عن بيان ، عن
الشعبيّ ، عن ابن عباس أنه قال في الذي فداه الله بذبح عظيم قال : هو إسماعيل.
حدثنا يعقوب ، قال : ثنا ابن علية ، قال : ثنا ليث ، عن مجاهد ، عن ابن عباس ،
قوله( وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ ) قال : هو إسماعيل.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرني عمر بن قيس ، عن عطاء بن أبي
رَباح ، عن عبد الله بن عباس أنه قال : المَفْدِيّ إسماعيل ، وزعمت اليهود أنه
إسحاق وكذبت اليهود.
حدثنا محمد بن سنان القزاز ، قال : ثنا أبو عاصم ، عن مبارك ، عن عليّ بن زيد ، عن
يوسف بن مهران ، عن ابن عباس : الذي فداه الله هو إسماعيل.
حدثنا ابن سنان القزّاز ، قال : ثنا حجاج بن حماد ، عن أبي عاصم
(21/83)
الغنوي ، عن أبي الطفيل ، عن ابن عباس
، مثله.
حدثني إسحاق بن شاهين ، قال : ثنا خالد بن عبد الله ، عن داود ، عن عامر ، قال :
الذي أراد إبراهيم ذبحه : إسماعيل.
حدثني المثنى ، قال : ثنا عبد الأعلى ، قال : ثنا داود ، عن عامر أنه قال في هذه
الآية( وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ ) قال : هو إسماعيل ، قال : وكان قَرْنا
الكبش مَنُوطَيْن بالكعبة.
حدثنا أبو كُرَيب ، قال : ثنا ابن يمان ، عن إسرائيل ، عن جابر ، عن الشعبي ، قال
: الذبيح إسماعيل.
قال : ثنا ابن يمان ، عن إسرائيل ، عن جابر ، عن الشعبي ، قال : رأيت قرني الكبش
في الكعبة.
قال : ثنا ابن يمان ، عن مبارك بن فضالة ، عن عليّ بن زيد بن جُدْعان ، عن يوسف بن
مهران ، قال : هو إسماعيل.
قال : ثنا ابن يمان ، قال : ثنا سفيان ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قال : هو
إسماعيل.
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : ثنا هشيم ، قال : ثنا عوف ، عن الحسن(
وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ ) قال : هو إسماعيل.
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، قال : سمعت محمد بن كعب
القُرَظِيّ وهو يقول : إن الذي أمر الله إبراهيم بذبحه من بنيه إسماعيل ، وإنا
لنجد ذلك في كتاب الله في قصة الخبر عن إبراهيم وما أُمر به من ذبح ابنه إسماعيل ،
وذلك أن الله يقول ، حين فرغ من قصة المذبوح من إبراهيم ، قال : ( وَبَشَّرْنَاهُ
بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ ) يقول : بشرناه بإسحاق ومن وراء
(21/84)
إسحاق يعقوب ، يقول : بابن وابن ابن ،
فلم يكن ليأمره بذبح إسحاق وله فيه من الله الموعود ما وعده الله ، وما الذي أمر
بذبحه إلا إسماعيل.
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن الحسن بن دينار وعمرو بن
عبيد ، عن الحسن البصري أنه كان لا يشك في ذلك أن الذي أمر بذبحه من ابني إبراهيم
: إسماعيل.
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، قال : قال محمد بن إسحاق : سمعت محمد بن كعب
القُرَظِيّ يقول ذلك كثيرا.
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، قال : ثني محمد بن إسحاق ، عن بريدة بن سفيان
بن فَرْوة الأسلمي عن محمد بن كعب القُرَظِيّ ، أنه حدثهم أنه ذكر ذلك لعمر بن عبد
العزيز وهو خليفة ، إذ كان معه بالشام فقال له عمر : إن هذا لشيء ما كنت أنظر فيه
، وإني لأراه كما هو; ثم أرسل إلى رجل كان عنده بالشام كان يهوديا ، فأسلم فحسُن
إسلامه ، وكان يرى أنه من علماء يهود ، فسأله عمر بن عبد العزيز عن ذلك ، فقال
محمد بن كعب : وأنا عند عمر بن عبد العزيز ، فقال له عمر : أيّ ابني إبراهيم أُمِر
بذبحه ؟ فقال : إسماعيل والله يا أمير المؤمنين ، وإن يهود لتعلم بذلك ، ولكنهم
يحسُدونكم معشر العرب على أن يكون أباكم الذي كان من أمر الله فيه ، والفضل الذي
ذكره الله منه لصبره لما أمر به ، فهم يجحدون ذلك ويزعمون أنه إسحاق ، لأن إسحاق
أبوهم ، فالله أعلم أيهما كان ، كل قد كان طاهرا طيبا مطيعا لربه.
حدثني محمد بن عمار الرازي ، قال : ثنا إسماعيل بن عبيد بن أبي كريمة ، قال : ثنا
عمر بن عبد الرحيم الخطابيّ ، عن عبيد بن محمد العُتبي من ولد عتبة بن أبي سفيان ،
عن أبيه ، قال : ثني عبد الله بن سعيد ، عن الصّنَابحي ، قال : كنا عند معاوية بن
أبي سفيان ، فذكروا الذبيح إسماعيل أو إسحاق ، فقال : على الخبير سقطتم : ( كنا
عند رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فجاءه رجل ، فقال : يا رسول الله
عُدّ عليّ مما أفاء الله عليك يا ابن الذبيحين; فضحك عليه الصلاة
(21/85)
والسلام ; فقلنا له : يا أمير المؤمنين
، وما الذبيحان ؟ فقال : إن عبد المطلب لما أُمِر بحفْر زمزم ، نذر لله لئن سَهُل
عليه أمرها ليذبحنّ أحد ولده ، قال : فخرج السهم على عبد الله ، فمنعه أخواله ، وقالوا
: افْدِ ابنك بمئة من الإبل ، ففداه بمئة من الإبل ، وإسماعيل الثاني ) .
حدثنا محمد بن بشار ، قال : ثنا عثمان بن عمر ، قال : ثنا ابن جريج ، عن ابن أبى
نجيح ، عن مجاهد( وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ ) قال : الذي فُدِيَ به إسماعيل
، ويعني تعالى ذكره الكبش الذي فُدِيَ به إسحاق ، والعرب تقول لكلّ ما أُعِدّ
للذبح ذِبْح ، وأما الذَّبح بفتح الذال فهو الفعل.
قال أبو جعفر : وأولى القولين بالصواب في المَفْديّ من ابني إبراهيم خليل الرحمن
على ظاهر التنزيل قول من قال : هو إسحاق ، لأن الله قال : ( وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ
عَظِيمٍ ) فذكر أنه فدَى الغلامَ الحليمَ الذي بُشِّر به إبراهيم حين سأله أن يهب
له ولدًا صالحًا من الصالحين ، فقال : ( رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ ) فإذ
كان المفدِيّ بالذبح من ابنيه هو المبشَّر به ، وكان الله تبارك اسمه قد بين في
كتابه أن الذي بُشِّر به هو إسحاق ، ومن وراء إسحاق يعقوب ، فقال جل ثناؤه : (
فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ ) وكان في كل
موضع من القرآن ذكر تبشيره إياه بولد ، فإنما هو معنيّ به إسحاق ، كان بيَّنا أن
تبشيره إياه بقوله( فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ ) في هذا الموضع نحو سائر
أخباره في غيره من آيات القرآن.
وبعد : فإن الله أخبر جل ثناؤه في هذه الآية عن خليله أنه بشَّره بالغلام الحليم
عن مسألته إياه أن يهب له من الصالحين ، ومعلوم أنه لم يسأله ذلك إلا في حال لم
يكن له فيه ولد من الصالحين ، لأنه لم يكن له من ابنيه إلا إمام الصالحين ، وغير
موهم منه أن يكون سأل ربه في هبة ما قد كان أعطاه ووهبه له. فإذ كان ذلك كذلك
فمعلوم أن الذي ذكر تعالى ذكره في هذا الموضع هو الذي ذكر في سائر القرآن أنه
بشَّره به وذلك لا شك أنه إسحاق ، إذ كان المفديّ
(21/86)
هو المبشَّر به. وأما الذي اعتلّ به من
اعتلّ في أنه إسماعيل ، أن الله قد كان وعد إبراهيم أن يكون له من إسحاق ابن ابن ،
فلم يكن جائزا أن يأمره بذبحه مع الوعد الذي قد تقدم; فإن الله إنما أمره بذبحه
بعد أن بلغ معه السعي ، وتلك حال غير ممكن أن يكون قد وُلد لإسحاق فيها أولاد ،
فكيف الواحد ؟ وأما اعتلال من اعتل بأن الله أتبع قصة المفديّ من ولد إبراهيم
بقوله( وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا ) ولو كان المفديّ هو إسحاق لم يبشَّر
به بعد ، وقد ولد ، وبلغ معه السعي ، فإن البشارة بنبوه إسحاق من الله فيما جاءت
به الأخبار جاءت إبراهيم وإسحاق بعد أن فُدِي تكرمة من الله له على صبره لأمر ربه
فيما امتحنه به من الذبح ، وقد تقدمت الرواية قبلُ عمن قال ذلك. وأما اعتلال من
اعتلّ بأن قرن الكبش كان معلقا في الكعبة فغير مستحيل أن يكون حُمل من الشام إلى
الكعبة. وقد رُوي عن جماعة من أهل العلم أن إبراهيم إنما أمر بذبح ابنه إسحاق
بالشام ، وبها أراد ذبحه.
اختلف أهل العلم في الذِّبح الذي فُدِي به إسحاق ، فقال بعضهم : كان كبشا.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا أبو كُرَيب ، قال : ثنا ابن يمان ، عن سفيان ، عن جابر ، عن أبي الطفيل ، عن
عليّ( وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ ) قال : كبش أبيض أقرن أعين مربوط بسَمُرَة
في ثَبِير.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرني ابن جريج ، عن عطاء بن أبي رباح
، عن ابن عباس( وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ ) قال : كبش قال عبيد بن عمير :
ذُبِح بالمَقام ، وقال مجاهد : ذبح بمنًى في المَنْحَر.
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا عبد الرحمن ، قال : ثنا سفيان ، عن ابن خثيم ، عن سعيد
، عن ابن عباس قال : الكبش الذي ذبحه إبراهيم هو الكبش الذي قربه ابن آدم فتقبل
منه.
(21/87)
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : ثنا
هشيم ، قال : أخبرنا سيار ، عن عكرمة ، أن ابن عباس كان أفتى الذي جعل عليه أن
ينحر نفسه ، فأمره بمئة من الإبل ، قال : فقال ابن عباس بعد ذلك : لو كنت أفتيته
بكبش لأجزأه أن يذبح كبشا ، فإن الله قال في كتابه : ( وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ
عَظِيمٍ ) .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ،
عن ابن عباس ، قوله( وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ ) قال : ذبح كبش.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ
عَظِيمٍ ) قال : قال ابن عباس : التفتَ فإذا كبش ، فأخذه فذبحه.
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا يعقوب ، عن جعفر ، عن سعيد بن جُبَير( وَفَدَيْنَاهُ
بِذِبْحٍ عَظِيمٍ ) قال : كان الكبش الذي ذبحه إبراهيم رعى في الجنة أربعين سنة ،
وكان كبشا أملح ، صوفه مثل العِهْنِ الأحمر.
حدثنا أبو كُرَيب ، قال : ثنا وكيع ، عن سفيان ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد(
وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ ) قال : بكبش.
حدثني يعقوب ، قال : ثنا ابن عُلَية ، قال : أخبرنا ليث ، قال مجاهد : الذبح
العظيم : شاة.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث ، قال :
ثنا الحسن ، قال : وثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد قوله( بِذِبْحٍ
عَظِيمٍ ) قال : بكبش.
* وحدثنا الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا شريك ، عن ليث ، عن مجاهد(
وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ ) قال : الذِّبح : الكبش.
حدثنا موسى ، قال : ثنا عمرو ، قال : ثنا أسباط ، عن السديّ ، قال : التفت ، يعني
ابراهيم ، فإذا بكبش ، فأخذه وخلَّى عن ابنه.
(21/88)
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ،
قال : قال ابن زيد : الذبح العظيم : الكبش الذي فدى الله به إسحاق.
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن الحسن بن دينار ، عن قتادة بن
دِعامة ، عن جعفر بن إياس ، عن عبد الله بن العباس ، في قوله( وَفَدَيْنَاهُ
بِذِبْحٍ عَظِيمٍ ) قال : خرج عليه كبش من الجنة قد رعاها قبل ذلك أربعين خريفا ،
فأرسل إبراهيم ابنه واتبع الكبش ، فأخرجه إلى الجمرة الأولى فرمي بسبع حصيات ،
فأفلته عنده ، فجاء الجمرة الوسطى ، فأخرجه عندها ، فرماه بسبع حصيات ، ثم أفلته
فأدركه عند الجمرة الكبرى ، فرماه بسبع حصيات ، فأخرجه عندها ، ثم أخذه فأتى به
المنحر من مِنَى ، فذبحه; فوالذي نفس ابن عباس بيده ، لقد كان أوّل الإسلام ، وإن
رأس الكبش لمعلق بقرنيه عند ميزاب الكعبة قد حُشّ ، يعني يبس.
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، قال ابن إسحاق : ويزعم أهل الكتاب الأول وكثير
من العلماء أن ذبيحة إبراهيم التي فدى بها ابنه كبش أملح اقرن أعين.
حدثنا عمرو بن عبد الحميد ، قال : ثنا مروان بن معاوية ، عن جويبر ، عن الضحاك في
قوله( وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ ) قال : بكبش.
وقال آخرون : كان الذبح وعلا.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا أبو كُرَيب ، قال : ثنا معاوية بن هشام ، عن سفيان ، عن رجل ، عن أبي صالح ،
عن ابن عباس( وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ ) قال : كان وَعِلا.
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن عمرو بن عبيد ، عن الحسن أنه
كان يقول : ما فدي إسماعيل إلا بتيس من الأرويّ أهبط عليه من ثبير.
واختلف أهل التأويل في السبب الذي من أجله قيل للذِّبح الذي فدي
(21/89)
به إسحاق عظيم ، فقال بعضهم : قيل ذلك
كذلك ، لأنه كان رَعَى في الجنة.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا أبو كُرَيب ، قال : ثنا ابن يمان ، عن سفيان ، عن عبد الله بن عيسى ، عن
سعيد بن جُبَير عن ابن عباس( وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ ) قال : رعى في الجنة
أربعين خريفا.
وقال آخرون : قيل له عظيم ، لأنه كان ذِبْحًا متقبَّلا.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا أبو كُرَيب ، قال : ثنا وكيع ، عن سفيان ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، (
عَظِيمٌ ) قال : متقبَّل.
حدثنا الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا شريك ، عن ليث ، عن مجاهد في(
وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ ) قال : العظيم : المتقبل.
وقال آخرون : قيل له عظيم ، لأنه ذِبْح ذُبِحَ بالحقّ ، وذلك ذبحه بدين إبراهيم.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن عمرو بن عبيد ، عن الحسن أنه
كان يقول : ما يقول الله( وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ ) لذبيحته التي ذبح فقط
، ولكنه الذَّبح على دينه ، فتلك السُّنَّة إلى يوم القيامة ، فاعلموا أن الذبيحة
تدفع مِيتة السُّوء ، فضحُّوا عباد الله.
قال أبو جعفر : ولا قول في ذلك أصح مما قال الله جلّ ثناؤه ، وهو أن يقال : فداه
الله بذِبح عظيم ، وذلك أن الله عم وصفه إياه بالعظم دون تخصيصه ، فهو كما عمه به.
وقوله( وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ ) يقول تعالى ذكره : وأبقينا عليه
فيمن بعده إلى يوم القيامة ثناءً حسنا.
(21/90)
وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (112) وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ (113)
كما حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال
: ثنا سعيد ، عن قتادة( وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ ) قال : أبقى الله
عليه الثناء الحسن في الآخرين.
حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد في قوله( وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ
فِي الآخِرِينَ ) قال : سأل إبراهيمُ ، فقال : ( وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي
الآخِرِينَ ) قال : فترك الله عليه الثناء الحسن في الآخرين ، كما ترك اللسانَ
السَّوْء على فرعون وأشباهه كذلك ترك اللسان الصدق والثناء الصالح على هؤلاء.
وقيل : معنى ذلك : وتركنا عليه في الآخرين السلام ، وهو قوله( سَلامٌ عَلَى
إِبْرَاهِيمَ ) ، وذلك قول يُرْوى عن ابن عباس تركنا ذكره لأن في إسناده من لم
نستجز ذكره; وقد ذكرنا الأخبار المروية في قوله( وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي
الآخِرِينَ ) فيما مضى قبل. وقيل :
معنى ذلك : وتركنا عليه في الآخرين أن يقال : سلام على إبراهيم.
وقوله( سَلامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ ) يقول تعالى ذكره : أمَنَة من الله في الأرض
لإبراهيم أن لا يذكر من بعده إلا بالجميل من الذكر.
وقوله( كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ) يقول : كما جزينا إبراهيم على طاعته
إيانا وإحسانه في الانتهاء إلى أمرنا ، كذلك نجزي المحسنين( إِنَّهُ مِنْ
عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ ) يقول : إن إبراهيم من عبادنا المخلصين لنا الإيمان.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ
الصَّالِحِينَ (112) وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ وَمِنْ
ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ (113) }
يقول تعالى ذكره : وبشَّرنا إبراهيم بإسحاق نبيا شكرا له على إحسانه وطاعته.
كما حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( وَبَشَّرْنَاهُ
بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ ) قال : بشر به بعد ذلك نبيا ، بعد ما
كان هذا من أمره لمَّا جاد لله بنفسه.
(21/91)
حدثني يعقوب ، قال : ثنا ابن عُلَية ،
عن داود ، عن عكرمة ، قال : قال ابن عباس : الذبيح إسحاق; قال : وقوله(
وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ ) قال بُشِّر بنبوته. قال
: وقوله( وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا ) قال :
كان هارون أكبر من موسى ، ولكن أراد وهب الله له نبوته.
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا معتمر بن سليمان ، قال : سمعت داود يحدّث ، عن
عكرمة ، عن ابن عباس في هذه الآية( وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ
الصَّالِحِينَ ) قال : إنما بشره به نبيا حين فداه من الذبح ، ولم تكن البشارة
بالنبوة عند مولده.
حدثني الحسين بن يزيد الطحان ، قال : ثنا ابن إدريس ، عن داود ، عن عكرمة ، عن ابن
عباس ، في قول الله : ( وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا ) قال : إنما بُشِّر
بالنبوّة.
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ،
عن ابن عباس ، قوله( وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ )
قال : بُشِّر إبراهيم بإسحاق.
حدثنا محمد ، قال : ثنا أحمد ، قال : ثنا أسباط ، عن السديّ( وَبَشَّرْنَاهُ
بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ ) قال : بنبوته.
حدثني أبو السائب ، قال : ثنا ابن فضيل ، عن ضرار ، عن شيخ من أهل المسجد ، قال :
بُشِّر إبراهيم لسبع عشرة ومئة سنة.
وقوله( وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ ) يقول تعالى ذكره : وباركنا على
إبراهيم وعلى إسحاق( وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ ) يعني بالمحسن : المؤمن
المطيع لله ، المحسن في طاعته إياه( وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ ) ويعني بالظالم
لنفسه : الكافر بالله ، الجالب على نفسه بكفره عذاب الله وأليم عقابه( مبين ) :
يعني الذي قد أبان ظلمه نفسه بكفره بالله.
(21/92)
وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ (114) وَنَجَّيْنَاهُمَا وَقَوْمَهُمَا مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (115) وَنَصَرْنَاهُمْ فَكَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ (116)
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل
التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن الحسين ، قال : ثنا أحمد بن المفضل ، قال : ثنا أسباط ، عن السديّ ،
في قوله( مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ ) قال : المحسن : المطيع لله ،
والظالم لنفسه : العاصي لله.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ (114)
وَنَجَّيْنَاهُمَا وَقَوْمَهُمَا مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (115) وَنَصَرْنَاهُمْ
فَكَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ (116) }
يقول تعالى ذكره : ولقد تفضلنا على موسى وهارون ابني عمران ، فجعلناهما نبيين ،
ونجيناهما وقومهما من الغم والمكروه العظيم الذي كانوا فيه من عُبودة آل فرعون ،
ومما أهلكنا به فرعون وقومه من الغرق.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن الحسين ، قال : ثنا أحمد بن المفضل ، قال : ثنا أسباط ، عن السدّيّ ،
في قوله( وَنَجَّيْنَاهُمَا وَقَوْمَهُمَا مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ ) قال : من
الغرق.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( وَنَجَّيْنَاهُمَا
وَقَوْمَهُمَا مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ ) : أي من آل فرعون.
وقوله( وَنَصَرْنَاهُمْ ) يقول : ونصرنا موسى وهارون وقومهما على فرعون وآله
بتغريقناهم ، ( فَكَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ ) لهم.
وقال بعض أهل العربية : إنما أريد بالهاء والميم في قوله( وَنَصَرْنَاهُمْ ) موسى
وهارون ، ولكنها أخرجت على مخرج مكنيّ الجمع ، لأن العرب تذهب بالرئيس
(21/93)
وَآَتَيْنَاهُمَا الْكِتَابَ الْمُسْتَبِينَ (117) وَهَدَيْنَاهُمَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (118) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِمَا فِي الْآَخِرِينَ (119) سَلَامٌ عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ (120) إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (121) إِنَّهُمَا مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (122)
كالنبي والأمير وشبه إلى الجمع بجنوده
وأتباعه ، وإلى التوحيد لأنه واحد في الأصل ، ومثله : ( على خوف من فرعون وملئهم )
وفي موضع آخر : وملئه قال : وربما ذهبت العرب بالاثنين إلى الجمع كما تذهب بالواحد
إلى الجمع ، فتخاطب الرجل ، فتقول : ما أحسنتم ولا أجملتم ، وإنما تريده بعينه ،
وهذا القول الذي قاله هذا الذي حكينا قوله في قوله( وَنَصَرْنَاهُمْ ) وإن كان
قولا غير مدفوع ، فإنه لا حاجة بنا إلى الاحتيال به لقوله( وَنَصَرْنَاهُمْ ) لأن
الله أتبع ذلك قوله( وَنَجَّيْنَاهُمَا وَقَوْمَهُمَا مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ )
ثم قال : ( وَنَصَرْنَاهُمْ ) يعني : هما وقومهما ، لأن فرعون وقومه كانوا أعداء
لجميع بني إسرائيل ، قد استضعفوهم ، يذبحون أبناءهم ، ويستحيون نساءهم ، فنصرهم
الله عليهم ، بأن غرّقهم ونجى الآخرين.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَآتَيْنَاهُمَا الْكِتَابَ الْمُسْتَبِينَ (117)
وَهَدَيْنَاهُمَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (118) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِمَا فِي
الآخِرِينَ (119) سَلامٌ عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ (120) إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي
الْمُحْسِنِينَ (121) إِنَّهُمَا مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (122) }
يقول تعالى ذكره : وآتينا موسى وهارون الكتاب : يعني التوراة.
كما حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( وَآتَيْنَاهُمَا
الْكِتَابَ الْمُسْتَبِينَ ) : التوراة.
ويعني بالمستبين : المتبيِّن هُدَى ما فيه وتفصيله وأحكامه.
وقوله( وَهَدَيْنَاهُمَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ) يقول تعالى ذكره : وهدينا
موسى وهارون الطريق المستقيم ، الذي لا اعوجاج فيه وهو الإسلام دين الله ، الذي
ابتعث به أنبياءه.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
(21/94)
وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (123) إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَلَا تَتَّقُونَ (124) أَتَدْعُونَ بَعْلًا وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ (125) اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آَبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (126)
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( وَهَدَيْنَاهُمَا
الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ) الإسلام.
وقوله( وَتَرَكْنَا عَلَيْهِمَا فِي الآخِرِينَ ) يقول : وتركنا عليهما في الآخرين
بعدهم الثناء الحسن عليهما.
وقوله( سَلامٌ عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ ) يقول : وذلك أن يقال : سلام على موسى
وهارون.
وقوله( إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ) يقول : هكذا نجزي أهل طاعتنا ،
والعاملين بما يرضينا عنهم( إِنَّهُمَا مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ ) يقول :
إن موسى وهارون من عبادنا المخلصين لنا الإيمان.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (123)
إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَلا تَتَّقُونَ (124) أَتَدْعُونَ بَعْلا وَتَذَرُونَ
أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ (125) اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبَائِكُمُ الأوَّلِينَ
(126) }
(21/95)
فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (127) إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (128) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآَخِرِينَ (129)
القول في تأويل قوله تعالى : {
فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (127) إِلا عِبَادَ اللَّهِ
الْمُخْلَصِينَ (128) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ (129) }
يقول تعالى ذكره : وإن إلياس ، وهو إلياس بن ياسين بن فنحاص بن العيزار بن هارون
بن عمران فيما حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، عن ابن إسحاق.
وقيل : إنه إدريس ، حدثنا بذلك بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة
، قال : كان يقال : إلياس هو إدريس. وقد ذكرنا ذلك فيما مضى قبل.
وقوله( لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ ) يقول جلّ ثناؤه : لمرسل من المرسلين( إِذْ قَالَ
لِقَوْمِهِ أَلا تَتَّقُونَ ) .
؟ يقول حين قال لقومه في بني إسرائيل : ألا تتقون الله أيها
(21/95)
القوم ، فتخافونه ، وتحذرون عقوبته على
عبادتكم ربا غير الله ، وإلهًا سواه( وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ ) يقول :
وتَدعون عبادة أحسن مَن قيل له خالق.
وقد اختلف في معنى بَعْل ، فقال بعضهم : معناه : أتدعون ربا ؟ وقالوا : هي لغة
لأهل اليمن معروفة فيهم.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن المثنى ، قال : ثنا حرمي بن عمارة ، قال : ثنا شعبة ، قال : أخبرني
عُمارة ، عن عكرمة ، في قوله( أَتَدْعُونَ بَعْلا ) قال : إلها.
حدثنا عمران بن موسى ، قال : ثنا عبد الوارث ، قال : ثنا عمارة ، عن عكرمة ، في
قوله( أَتَدْعُونَ بَعْلا ) يقول : أتدعون ربا ، وهي لغة أهل اليمن ، تقول : من
بعل هذا الثور : أي من ربُّه ؟
حدثني زكريا بن يحيى بن أبي زائدة ومحمد بن عمرو ، قالا ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا
عيسى ، وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي
نجيح ، عن مجاهد ، في قوله( أَتَدْعُونَ بَعْلا ) قال : ربا.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله( أَتَدْعُونَ بَعْلا
) قال : هذه لغة باليمانية : أتدعون ربا دون الله.
حدثنا محمد ، قال : ثنا أحمد ، قال : ثنا أسباط ، عن السديّ ، قوله( أَتَدْعُونَ
بَعْلا ) قال : ربّا.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، عن عبد الله بن أبي
يزيد ، قال : كنت عند ابن عباس فسألوه عن هذه الآية : ( أَتَدْعُونَ بَعْلا ) قال
: فسكت ابن عباس ، فقال رجل : أنا بعلها ، فقال ابن عباس : كفاني هذا الجواب.
وقال آخرون : هو صنم كان لهم يقال له بَعْل ، وبه سميت بعلبك.
(21/96)
* ذكر من قال ذلك :
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك
يقول في قوله( أَتَدْعُونَ بَعْلا ) يعني : صنما كان لهم يسمى بَعْلا.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله( أَتَدْعُونَ
بَعْلا وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ ) ؟ قال : بعل : صنم كانوا يعبدون ،
كانوا ببعلك ، وهم وراء دمشق ، وكان بها البعل الذي كانوا يعبدون.
وقال آخرون : كان بَعْل : امرأة كانوا يعبدونها.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، قال : سمعت بعض أهل العلم يقول
: ما كان بَعْل إلا امرأة يعبدونها من دون الله.
وللبَعْل في كلام العرب أوجه. يقولون لربّ الشيء هو بَعْله ، يقال : هذا بَعْل هذه
الدار ، يعني ربُّها; ويقولون لزوج المرأة بعلُها; ويقولون لما كان من الغروس
والزروع مستغنيا بماء السماء ، ولم يكن سقيا بل هو بعل ، وهو العَذْي. وذُكر أن
الله بعث إلى بني إسرائيل إلياس بعد مهلك حِزْقيل بن يوزا.
وكان من قصته وقصة قومه فيما بلغنا ، ما حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، عن
محمد بن إسحاق ، عن وهب بن منبه ، قال : إن الله قبض حِزْقيل ، وعظمت في بني
إسرائيل الأحداث ، ونُسوا ما كان من عهد الله إليهم ، حتى نصبوا الأوثان وعبدوها
دون الله ، فبعث الله إليهم إلياس بن ياسين بن فنحاص بن العيزار بن هارون بن عمران
نبيا. وإنما كانت الأنبياء من بني إسرائيل بعد موسى يُبعثون إليهم بتجديد ما نُسوا
من التوراة ، فكان إلياس مع ملك من ملوك بني إسرائيل ، يقال له : أحاب ، كان اسم
امرأته : أربل ، وكان يسمع منه ويصدّقه ، وكان إلياس يقيم له أمره ، وكان سائر بني
إسرائيل قد اتخذوا صنما يعبدونه من دون الله يقال له بعل.
(21/97)
قال ابن إسحاق : وقد سمعت بعض أهل
العلم يقول : ( ما كان بعل إلا امرأة يعبدونها من دون الله; يقول الله لمحمد : (
وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَلا تَتَّقُونَ
أَتَدْعُونَ بَعْلا وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ
آبَائِكُمُ الأوَّلِينَ ) فجعل إلياس يدعوهم إلى الله ، وجعلوا لا يسمعون منه شيئا
إلا ما كان من ذلك الملك ، والملوك متفرّقة بالشام ، كل ملك له ناحية منها يأكلها
، فقال ذلك الملك الذي كان إلياس معه يقوم له أمره ، ويراه على هدى من بين أصحابه
يوما : يا إلياس ، والله ما أرى ما تدعو إليه إلا باطلا والله ما أرى فلانا وفلانا
، يعدّد ملوكًا من ملوك بني إسرائيل قد عبدوا الأوثان من دون الله - إلا على مثل
ما نحن عليه ، يأكلون ويشربون وينعمون مملكين ، ما ينقص دنياهم أمرهم الذي تزعم
أنه باطل ، وما نرى لنا عليهم من فضل; فيزعمون - والله أعلم - أن إلياس استرجع
وقام شعر رأسه وجلده ، ثم رفضه وخرج عنه ، ففعل ذلك الملك فعل أصحابه : عبد
الأوثان ، وصنع ما يصنعون ، فقال إلياس : اللهمّ إن بني إسرائيل قد أبَوْا إلا أن
يكفروا بك والعبادة لغيرك ، فغير ما بهم من نعمتك ) أو كما قال.
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، قال : ثنا محمد بن إسحاق ، قال : فذكر لي أنه
أوحي إليه : إنا قد جعلنا أمر أرزاقهم بيدك وإليك حتى تكون أنت الذي تأذن في ذلك ،
فقال إلياس : اللهم فأمسك عليهم المطر; فحبس عنهم ثلاث سنين ، حتى هلكت الماشية
والهوامّ والدوابّ والشجر ، وجهد الناس جهدا شديدا. وكان إلياس فيما يذكرون حين
دعا بذلك على بني إسرائيل قد استخفى ، شفقا على نفسه منهم ، وكان حيثما كان وضع له
رزق ، وكانوا إذا وجدوا ريح الخبز في دار أو بيت ، قالوا : لقد دخل إلياس هذا
المكان فطلبوه ، ولقي منهم أهل ذلك المنزل شرا. ثم إنه أوى ليلة إلى امرأة من بني
إسرائيل لها ابن يقال له اليسع ابن أخطوب به ضرّ ، فآوته وأخفت أمره ، فدعا إلياس
لابنها ، فعُوفِيَ من الضرّ الذي كان به ، واتبع اليسع غلاما شابا ، فيزعمون -
والله أعلم - أن أوحى إلى إلياس : إنك قد أهلكت كثيرا من الخلق ممن لم يعص سوى
(21/98)
سَلَامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ (130) إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (131) إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (132)
بني إسرائيل من البهائم والدوابّ
والطير والهوامّ والشجر ، بحبس المطر عن بني إسرائيل ، فيزعمون والله أعلم أن
إلياس قال : أي ربّ دعني أنا الذي أدعو لهم وأكون أنا الذي آتيهم بالفرج مما هم
فيه من البلاء الذي أصابهم ، لعلهم أن يرجعوا وينزعوا عما هم عليه من عبادة غيرك ،
قيل له : نعم; فجاء إلياس إلى بني إسرائيل فقال لهم : إنكم قد هلكتم جهدا ، وهلكت
البهائم والدوابّ والطير والهوامّ والشجر بخطاياكم ، وإنكم على باطل وغرور ، أو
كما قال لهم ، فإن كنتم تحبون أن تعلموا ذلك ، وتعلموا أن الله عليكم ساخط فيما
أنتم عليه ، وأن الذي أدعوكم إليه الحقّ ، فاخرجوا بأصنامكم هذه التي تعبدون
وتزعمون أنها خير مما أدعوكم إليه ، فإن استجابت لكم ، فذلك كما تقولون ، وإن هي
لم تفعل علمتم أنكم على باطل ، فنزعتم ، ودعوت الله ففرّج عنكم ما أنتم فيه من
البلاء ، قالوا : أنصفت; فخرجوا بأوثانهم ، وما يتقربون به إلى الله من إحداثهم
الذي لا يرضى ، فدعوها فلم تستجب لهم ، ولم تفرج عنهم ما كانوا فيه من البلاء حتى
عرفوا ما هم فيه من الضلالة والباطل ، ثم قالوا لإلياس : يا إلياس إنا قد هلكنا
فادع الله لنا ، فدعا لهم إلياس بالفرج مما هم فيه ، وأن يسقوا ، فخرجت سحابة مثل
التُّرس بإذن الله على ظهر البحر وهم ينظرون ، ثم ترامى إليه السحاب ، ثم أدحَسَتْ
ثم أرسل المطر ، فأغاثهم ، فحيت بلادهم ، وفرج عنهم ما كانوا فيه من البلاء ، فلم
ينزعوا ولم يرجعوا ، وأقاموا على أخبث ما كانوا عليه; فلما رأى ذلك إلياس من كفرهم
، دعا ربه أن يقبضه إليه ، فيريحه منهم ، فقيل له فيما يزعمون : انظر يوم كذا وكذا
، فاخرج فيه إلى بلد كذا وكذا ، فماذا جاءوك من شيء فاركبه ولا تهبه; فخرج إلياس
وخرج معه اليسع بن أخطوب ، حتى إذا كان في البلد الذي ذُكر له في المكان الذي أُمر
به ، أقبل إليه فرس من نار حتى وقف بين يديه ، فوثب عليه ، فانطلق به ، فناداه
اليسع : يا إلياس ، يا إلياس ما تأمرني ؟ فكان آخر عهدهم به ، فكساه الله الريش ،
وألبسه النور ، وقطع عنه لذّة المطعم والمشرب ، وطار في الملائكة ، فكان إنسيا
ملكيا أرضيا سَماويا.
واختلفت القرّاء في قراءة قوله( اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبَائِكُمُ الأوَّلِينَ
) فقرأته عامة قراء مكة والمدينة والبصرة وبعض قراء الكوفة : ( الله رَبُّكُمْ
وَرَبُّ آبَائِكُمُ الأوَّلِينَ ) رفعا على الاستئناف ، وأن الخبر قد تناهى عند
قوله( أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ ) وقرأ ذلك عامة قرّاء الكوفة : ( اللَّهَ رَبَّكُمْ
وَرَبَّ آبَائِكُمُ الأوَّلِينَ ) نصبا ، على الردّ على قوله( وَتَذَرُونَ
أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ ) على أن ذلك كله كلام واحد.
والصواب من القول في ذلك عندنا أنهما قراءتان متقاربتا المعنى ، مع استفاضة
القراءة بهما في القرّاء ، فبأي ذلك قرأ القارئ فمصيب. وتأويل الكلام : ذلك
معبودكم أيها الناس الذي يستحق عليكم العبادة : ربكم الذي خلقكم ، وربّ آبائكم
الماضين قبلكم ، لا الصنم الذي لا يخلق شيئا ، ولا يضرّ ولا ينفع.
وقوله( فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ ) يقول : فكَذّب إلياس قَومُهُ ،
فإنهم لمحضرون : يقول : فإنهم لمحضرون في عذاب الله فيشهدونه.
كما حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( فَإِنَّهُمْ
لَمُحْضَرُونَ ) في عذاب الله.( إِلا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ ) يقول :
فإنهم يحضرون في عذاب الله ، إلا عباد الله الذين أخلصهم من العذاب( وَتَرَكْنَا
عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ ) يقول : وأبقينا عليه الثناء الحسن في الآخرين من الأمم
بعده.
القول في تأويل قوله تعالى : { سَلامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ (130) إِنَّا كَذَلِكَ
نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (131) إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (132) }
يقول تعالى ذكره : أمنة من الله لآل ياسين.
(21/99)
واختلفت القرّاء في قراءة قوله( سَلامٌ
عَلَى إِلْ يَاسِينَ ) فقرأته عامة قرّاء مكة والبصرة والكوفة : ( سَلامُ عَلى
إلْياسِينَ ) بكسر الألف من إلياسين ، فكان بعضهم يقول : هو اسم إلياس ، ويقول :
إنه كان يُسمى باسمين : إلياس ، وإليا سين مثل إبراهيم ، وإبراهام; يُستشهد على
ذلك أن ذلك كذلك بأن جميع ما في السورة من قوله( سَلامٌ ) فإنه سلام على النبي
الذي ذكر دون آله ، فكذلك إلياسين ، إنما هو سلام على إلياس دون آله. وكان بعض أهل
العربية يقول : إلياس : اسم من أسماء العبرانية ، كقولهم : إسماعيل وإسحاق ،
والألف واللام منه ، ويقول : لو جعلته عربيا من الإلس ، فتجعله إفعالا مثل الإخراج
، والإدخال أجْري ; ويقول : قال : سلام على إلياسين ، فتجعله بالنون ، والعجمي من الأسماء
قد تفعل به هذا العرب ، تقول : ميكال وميكائيل وميكائيل ، وهي في بني أسد تقول :
هذا إسماعين قد جاء ، وسائر العرب باللام; قال : وأنشدني بعض بني نمير لضب صاده :
يَقُولُ رَبُّ السُّوقِ لَمَّا جِيْنا... هَذَا وَرَبّ البَيْتِ إسْرَائِينا (1)
__________
(1) هذان البيتان من شواهد الفراء في معاني القرآن (مصورة الجامعة ص 274) قال :
وقوله : " وإن إلياس لمن المرسلين " : ذكر أنه نبي ، وأن هذا الاسم اسم
من أسماء العبرانية ، كقولهم : إسماعيل وإسحاق ، والألف واللام منه . ولو جعلته
عربيا من الألف فتعجل إفعالا . مثل الإخراج والإدخال ، لجرى (أي صرف) . ثم قال :
" سلام على إلياسين " ، فجعله بالنون ، والعجمي من الأسماء قد يفعل به
هذا العرب ، تقول : ميكال وميكائيل وميكائين ، بالنون ، وهي في بني أسد ، يقولون :
هذا إسماعين قد جاء ، بالنون ، وسائر العرب باللام . قال : وأنشدني بعض بني نمير
لضب صاده بعضهم : " يقول أهل السوق .... البيتين . فهذا وجه لقوله "
إلياسين " في (مجاز القرآن : مصورة الجامعة الورقة 210 - 1) قال أبو عبيدة :
" سلام على إلياسين " : أي سلام على إلياس وأهله ، وعلى أهل دينه جميعهم
، بغير إضافة إلياء على العدد . قال الشاعر قدني من نصر الحبيبين قدي
فجعل عبدالله بن الزبير أبا خبيب " مصغرا " ومن كان على رأيه عددا ولم
يضفهما بالياء " أي لم ينسبهم إليه بياء النسب " فيقول خبيبيون وقال أبو
عمر وبن العلاء : نادى مناد يوم الكلاب فقال : هلك اليزيدون . يعني يزيد بن
عبدالمدان ، ويزيد بن هوبر ، ويزيد بن مخرمة الحارثيون .
ويقال : جاءك الحارثون والأشعرون .
(21/101)
قال : فهذا كقوله إلياسين; قال : وإن
شئت ذهبت بإلياسين إلى أن تجعله جمعا ، فتجعل أصحابه داخلين في اسمه ، كما تقول
لقوم رئيسهم المهلب : قد جاءتكم المهالبة والمهلبون ، فيكون بمنزلة قولهم الأشعرين
بالتخفيف ، والسعدين بالتخفيف وشبهه ، قال الشاعر :
أنا ابْنُ سَعْدٍ سَيِّدِ السَّعْدِينَا (1)
قال : وهو في الاثنين أن يضمّ أحدهما إلى صاحبه إذا كان أشهر منه اسما كقول الشاعر
:
جَزَانِي الزَّهْدَمَانِ جَزاءَ سَوْءٍ... وكُنتُ المَرْءَ يُجْزَى بالكَرَامَةْ
(2)
__________
(1) وهذا أيضا من شواهد الفراء في معاني القرآن ، جاء بعد الشاهد الذي قبله . قال
الفراء بعد كلامه السابق في أن إلياسين لغة في إلياس عند بني أسد : وإن شئت ذهبت
" بإلياسين " على أن تجعله جمعا ، فتجعل أصحابه داخلين في اسمه ، كما
تقول للقوم رئيسهم المهلب : قد جاءتكم المهالبة والمهلبون ، فيكون بمنزلة قوله :
الأشعرين والسعدين وشبهه . قال الشاعر : " أنا ابن سعد ... " البيت .
وهذا يشبه كلام أبي عبيدة في مجاز القرآن ، وقد نقلناه في آخر الشاهد السابق على
هذا.
(2) هذا الشاهد الثالث على قراءة قوله تعالى " سلام على إلياسين " .
نقله الفراء وأبو عبيدة في كتابيهما . قال الفراء بعد كلامه السابق : وهو في
الاثنين أكثر أن يضم أحدهما إلى صاحبه ، إذا كان أشهر منه اسما ، كقول الشاعر :
" جزاني الزهدمان ... البيت " . واسم أحدهما زهدم . وقال أبو عبيدة :
وكذلك يقال في الاثنين . وأنشد البيت ، ونسبه إلى قيس بن زهير . ثم قال بعده :
وإنما هو زهدم وكردم العبسيان : أخوان . وقيل لعلي بن أبي طالب : نسألك سنة
العمرين : يعنون أبا بكر وعمر رضي الله عنهما . ثم ذكر أبو عبيدة بعد ذلك وجها آخر
فقال : إن أهل المدينة يقولون : " سلام على آل ياسن " أي على أهل ياسين
. فقال سعد بن أبي وقاص وأبو عمرو وأهل الشام : هم قومه ومن كان معه على دينه .
وقالت الشيعة : آل محمد : أهل بيته . واحتجوا بأنك تصغر الآل ، فتجعله أهيلا. ا هـ
. وذكر بعد كلامه السابق في الموضوع وجها آخر فقال : وقد قرأ بعضهم : " وإن
إلياس " يجعل اسمه " ياسا " أدخل عليه الألف واللام . ثم يقرءون :
" سلام على آل ياسين " . جاء التفسير في تفسير الكلبي : على آل ياسين :
على آل محمد صلى الله عليه وسلم والأول أشبه بالصواب والله أعلم ، لأن في قراءة
عبدالله (يعني ابن مسعود) : " وإن إدريس لمن المرسلين " " سلام على
إدراسين " . وقد يشهد على صواب هذا قوله : " وشجرة تخرج من طور سيناء
" . ثم قال في موضع آخر : " وطور سينين " . وهو معنى واحد . والله
أعلم .
(21/102)
واسم أحدهما : زهدم; وقال الآخر :
جَزَى الله فِيها الأعْوَرَيْنِ ذَمَامَةً... وَفَرْوَةَ ثَفْرَ الثَّوْرَةِ
المُتَضَاجِمِ (1)
واسم أحدهما أعور.
وقرأ ذلك عامة قرّاء المدينة : " سَلام عَلى آل يَاسِينَ " بقطع آل من
ياسين ، فكان بعضهم يتأول ذلك بمعنى : سلام على آل محمد. وذُكر عن بعض القرّاء أنه
كان يقرأ قوله( وَإِنَّ إِلْيَاسَ ) بترك الهمز في إلياس ويجعل الألف واللام
داخلتين على " ياس " للتعريف ، ويقول : إنما كان اسمه " ياس "
أدخلت عليه ألف ولام ثم يقرأ على ذلك : " سلام على إلياسين " .
والصواب من القراءة في ذلك عندنا قراءة من قرأه : ( سَلامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ )
بكسر ألفها على مثال إدراسين ، لأن الله تعالى ذكره إنما أخبر عن كل موضع ذكر فيه
نبيا من أنبيائه صلوات الله عليهم في هذه السورة بأن عليه سلاما لا على آله ،
فكذلك السلام في هذا الموضع ينبغي أن يكون على إلياس كسلامه على غيره من أنبيائه ،
لا على آله ، على نحو ما بيَّنا من معنى ذلك.
فإن ظنّ ظانّ أن إلياسين غير إلياس ، فإن فيما حكينا من احتجاج من احتج بأن
إلياسين هو إلياس غني عن الزيادة فيه.
مع أن فيما حدثنا محمد بن الحسين ، قال : ثنا أحمد بن المفضل ، قال : ثنا أسباط ،
عن السديّ( سَلامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ ) قال : إلياس.
وفي قراءة عبد الله بن مسعود : " سَلامٌ عَلى إدْرَاسِينَ " دلالة واضحة
على خطأ قول من قال : عنى بذلك سلام على آل محمد ، وفساد قراءة من قرأ : "
وإنَّ إلياسَ " بوصل
__________
(1) هذا هو الشاهد الرابع في الموضوع نفسه ، أنشده الفراء في معاني القرآن بعد
سابقه . وأنشده صاحب اللسان في ضجم ، ونسبه إلى الأخطل ، وروايته فيه " ملامة
" في موضع " ذمامة " . وقال : الضجم : العوج في الأنف ، يميل إلى
أحد شقيه . والمتضاجم : المعوج الفم قال الأخطل : " جزى الله ... البيت
" . وفروة : اسم رجل . ا هـ . وموضع الشاهد فيه قوله " الأعورين "
كالذي قبله تماما .
(21/103)
وَإِنَّ لُوطًا لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (133) إِذْ نَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (134) إِلَّا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ (135) ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآَخَرِينَ (136)
النون من " إن " بالياس ،
وتوجيه الألف واللام فيه إلى أنهما أدخلتا تعريفا للاسم الذي هو ياس ، وذلك أن عبد
الله كان يقول : إلياس هو إدريس ، ويقرأ : " وَإِنَّ إدْرِيسَ لَمِنَ
الْمُرْسَلِينَ " ، ثم يقرأ على ذلك : " سَلامٌ عَلَى إدْرَاسِينَ
" ، كما قرأ الآخرون : ( سَلامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ ) بقطع الآل من ياسين. ونظير
تسمية إلياس بإل ياسين : ( وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ ) [ثم قال في
موضع آخر : ( وَطُورِ سِينِينَ ) وهو موضع واحد سمي بذلك.
وقوله( إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ) يقول تعالى ذكره : إنا هكذا نجزي
أهل طاعتنا والمحسنين أعمالا وقوله( إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ )
يقول : إن إلياس عبد من عبادنا الذين آمنوا ، فوحَّدونا ، وأطاعونا ، ولم يشركوا
بنا شيئا.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَإِنَّ لُوطًا لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (133) إِذْ
نَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (134) إِلا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ (135)
ثُمَّ دَمَّرْنَا الآخَرِينَ (136) }
يقول تعالى ذكره : وإن لوطا المرسل من المرسلين.
( إِذْ نَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ ) يقول : إذ نجَّينا لوطا وأهله
أجمَعينَ من العذاب الذي أحللناه بقومه ، فأهلكناهم به.( إِلا عَجُوزًا فِي
الْغَابِرِينَ ) يقول : إلا عجوزا في الباقين ، وهي امرأة لوط ، وقد ذكرنا خبرها
فيما مضى ، واختلاف المختلفين في معنى قوله( فِي الْغَابِرِينَ ) ، والصواب من
القول في ذلك عندنا.
وقد حُدثت عن المسيِّب بن شريك ، عن أبي روق ، عن الضحاك( إِلا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ
) يقول : إلا امرأته تخلَّفت فمسخت حجرا ، وكانت تسمى هيشفع. (1)
__________
(1) في عرائس المجالس للثعالبي ، طبعة الحلبي 106 : وكانت تسمى هلسفع .
(21/104)
وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ (137) وَبِاللَّيْلِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (138) وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (139)
حدثنا محمد ، قال : ثنا أحمد ، قال :
ثنا أسباط ، عن السديّ ، في قوله( إِلا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ ) قال :
الهالكين.
وقوله( ثُمَّ دَمَّرْنَا الآخَرِينَ ) يقول : ثم قذفناهم بالحجارة من فوقهم ،
فأهلكناهم بذلك.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ
(137) وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (138) }
يقول تعالى ذكره لمشركي قريش : وإنكم لتمرون على قوم لوط الذين دمرناهم عند
إصباحكم نهارا وبالليل. كما حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن
قتادة( وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ ) قالوا : نعم والله
صباحا ومساء يطئونها وطْئًا ، من أخذ من المدينة إلى الشام ، أخذ على سدوم قرية
قوم لوط.
حدثنا محمد بن الحسين ، قال : ثنا أحمد بن المفضل ، قال : ثنا أسباط ، عن السديّ
في قوله( لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ ) قال : في أسفاركم.
وقوله( أَفَلا تَعْقِلُونَ ) يقول : أفليس لكم عقول تتدبرون بها وتتفكَّرون ،
فتعلمون أن من سلك من عباد الله في الكفر به ، وتكذيب رسله ، مسلك هؤلاء الذين وصف
صفتهم من قوم لوط ، نازل بهم من عقوبة الله ، مثل الذي نزل بهم على كفرهم بالله ،
وتكذيب رسوله ، فيزجركم ذلك عما أنتم عليه من الشرك بالله ، وتكذيب محمد عليه
الصلاة والسلام.
كما حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله( أَفَلا
تَعْقِلُونَ ) قال : أفلا تتفكَّرون ما أصابهم في معاصي الله أن يصيبكم ما أصابهم
، قال : وذلك المرور أن يمر عليهم.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (139)
(21/105)
إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (140) فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ (141) فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ (142)
إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ
الْمَشْحُونِ (140) فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ (141) فَالْتَقَمَهُ
الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ (142) }
يقول تعالى ذكره : وإن يونس لمرسل من المرسلين إلى أقوامهم( إِذْ أَبَقَ إِلَى
الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ ) يقول : حين فرّ إلى الفُلك ، وهو السفينة ، المشحون :
وهو المملوء من الحمولة المُوقَر.
كما حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( إِلَى الْفُلْكِ
الْمَشْحُونِ ) كنَّا نحدّث أنه الموقر من الفُلك.
حدثنا محمد ، قال : ثنا أحمد ، قال : ثنا أسباط ، عن السديّ ، في قوله( الْفُلْكِ
الْمَشْحُونِ ) قال : الموقر. وقوله( فَسَاهَمَ ) يقول : فَقَارَعَ.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
(21/106)
* ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : ثنا أبو صالح ، قال : ثنا معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ،
قوله( فَسَاهَمَ ) يقول أقْرَعَ.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ
الْمُدْحَضِينَ ) قال : فاحتبست السفينة ، فعلم القوم أنما احتبست من حدث أحدثوه ،
فتساهموا ، فقُرِعَ يونس ، فرمى بنفسه ، فالتقمه الحوت.
حدثنا محمد ، قال : ثنا أحمد ، قال : ثنا أسباط ، عن السديّ ، في قوله( فَسَاهَمَ
) قال : قارع.
وقوله( فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ ) يعني : فكان من المسهومين المغلوبين ، يقال
منه : أدحض الله حجة فلان فدحضت : أي أبطلها فبطلت ، والدَّحْض : أصله الزلق في
الماء والطين ، وقد ذُكر عنهم : دَحَض الله حجته ، وهي قليلة.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : ثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ،
قوله( فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ ) يقول : من المقروعين.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث ، قال :
ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله( مِنَ
الْمُدْحَضِينَ ) قال : من المسهومين.
حدثنا محمد بن الحسين ، قال : ثنا أحمد بن المفضل ، قال : ثنا أسباط ، عن السديّ ،
قوله( فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ ) قال : من المقرعين.
وقوله( فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ ) يقول : فابتلعه الحوت; وهو افتعل من اللَّقْم.
وقوله( وَهُوَ مُلِيمٌ ) يقول : وهو مكتسب اللوم ، يقال : قد ألام الرجل ، إذا أتى
ما يُلام عليه من الأمر وإن لم يُلَم ، كما يقال : أصبحت مُحْمِقا مُعْطِشا : أي
عندك الحمق والعطش; ومنه قول لبيد :
سَفَها عَذَلْتَ ولُمْتَ غيرَ مُلِيمِ... وَهَداكَ قَبلَ الْيومِ غيرُ حَكيمِ (1)
فأما الملوم فهو الذي يلام باللسان ، ويعذل بالقول.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثني أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث ، قال :
ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله( وَهُوَ
مُلِيمٌ ) قال : مذنب.
__________
(1) البيت للبيد بن ربيعة العامري . استشهد به أبو عبيدة في مجاز القرآن (الورقة
211 - 1) قال في قوله تعالى " وهو مليم " يقول العرب : ألام فلان في
أمره : وذاك إذا أتى أمرا يلام عليه . وقال لبيد : " سفها ... البيت " .
ا هـ . واستشهد به في ( اللسان : لوم ) على مثل ما استشهد به أبو عبيدة . وقال :
لام فلان غير مليم .
(21/107)
فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (143) لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (144) فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيمٌ (145) وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ (146)
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال :
ثنا سعيد ، عن قتادة( وَهُوَ مُلِيمٌ ) : أي في صنعه.
حدثني يونس ، قال. أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله( وَهُوَ مُلِيمٌ
) قال : وهو مذنب ، قال : والمليم : المذنب.
القول في تأويل قوله تعالى : { فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (143)
لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (144) فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ
وَهُوَ سَقِيمٌ (145) وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ (146) }
يقول تعالى ذكره : ( فَلَوْلا أَنَّهُ ) يعني يونس( كَانَ مِنَ ) المُصَلِّينَ لله
قبل البلاء الذي ابتُلي به من العقوبة بالحبس في بطن الحوت( لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ
إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ) يقول : لبقي في بطن الحوت إلى يوم القيامة ، يوم يبعث
الله فيه خلقه محبوسا ، ولكنه كان من الذاكرين الله قبل البلاء ، فذكره الله في
حال البلاء ، فأنقذه ونجَّاه.
وقد اختلف أهل التأويل في وقت تسبيح يونس الذي ذكره الله به ، فقال( فَلَوْلا
أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ ) فقال بعضهم نحو الذي قلنا في ذلك ، وقالوا
مثل قولنا في معنى قوله( مِنَ الْمُسَبِّحِينَ )
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ
مِنَ الْمُسَبِّحِينَ ) كان كثير الصَّلاةِ في الرّخاء ، فنجَّاه الله بذلك; قال :
وقد كان يقال في الحكمة : إن العمل الصالح يرفع صاحبه إذا ما عَثَر ، فإذا صُرع
وجد متكئا.
حدثني يعقوب ، قال : ثنا ابن عُلَيَّة ، عن بعض أصحابه ، عن قتادة ،
(21/108)
في قوله( فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنَ
الْمُسَبِّحِينَ ) قال : كان طويل الصلاة في الرّخاء; قال : وإنّ العمل الصالح
يرفع صاحبه إذا عثر ، إذا صرع وجد متكئا .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : ثنا أبو ضحر ، أن يزيد الرَّقاشي ،
حدثه ، قال : سمعت أنس بن مالك ، قال : ولا أعلم إلا أن أنسا يرفع الحديث إلى
النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم : " أنَّ يُونُسَ النَّبِيّ حِينَ
بَدَا لَهُ أنْ يَدْعُوَ الله بالكَلِماتِ حِينَ نَادَاهُ وَهُوَ فِي بَطْنِ
الحُوتِ ، فَقَالَ : اللَّهُمَّ لا إلهَ إلا أنْتَ سُبْحَانَكَ إنِّي كُنْتُ مِنَ
الظَّالِمِينَ ، فَأَقْبَلَتِ الدَّعْوَةُ تَحْتَ الْعَرْشِ ، فَقَالَتِ
المَلائِكَةُ : يَا رَبِّ هَذَا صَوْتٌ ضَعِيفٌ مَعْرُوفٌ فِي بِلادٍ غَرِيبَة ،
قَالَ : أما تَعْرِفُونَ ذلكَ ؟ قَالُوا يَا رَبّ وَمَنْ هُوَ ؟ قَالَ : ذَلكَ عَبْدِي
يُونُسُ ، قَالُوا : عَبْدُكَ يُونُسُ الَّذِي لَمْ يَزَلْ يُرْفَعُ لَهُ عَمَلٌ
مُتَقَبَّلٌ وَدَعْوَةٌ مُسْتَجَابَةٌ ، قَالُوا : يَا رَبّ أوَلا يُرْحَمُ بِمَا
كَانَ يَصْنَعُ فِي الرَّخَاءِ فَتُنَجِّيهِ مِنَ البَلاءِ ؟ قَالَ : بَلَى ،
فَأَمَرَ الْحُوتَ فَطَرَحَهُ بالعَرَاءِ " .
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا عبد الرحمن ، قال : ثنا سفيان ، عن عاصم ، عن أبي رزين
، عن ابن عباس( فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ ) قال : من
المصلِّين.
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا عبد الرحمن ، قال : ثنا سفيان ، عن أبي الهيثم ، عن
سعيد بن جُبَير( فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ ) قال : من المصلين.
حدثنا أبو كُرَيب ، قال : ثنا ابن يمان ، عن أبي جعفر ، عن الربيع بن أنس ، عن أبي
العالية( فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ ) قال : كان له عمل صالح
فيما خلا.
حدثنا محمد بن الحسين ، قال : ثنا أحمد بن المفضل ، قال : ثنا أسباط ، عن السديّ ،
في قوله( مِنَ الْمُسَبِّحِينَ ) قال : المصلين.
(21/109)
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : ثنا
كثير بن هشام ، قال : ثنا جعفر ، قال : ثنا ميمون بن مهران ، قال : سمعت الضحاك بن
قيس يقول على منبره : اذكروا الله في الرخاء يذكركم في الشدّة ، إن يونس كان عبدًا
لله ذاكرا ، فلما أصابته الشدّة دعا الله فقال الله : ( لَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنَ
الْمُسَبِّحِينَ لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ) فذكره الله بما
كان منه ، وكان فرعون طاغيا باغيا فلمَّا( أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ
أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ
الْمُسْلِمِينَ آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ ) قال
الضحاك : فاذكروا الله في الرخاء يذكركم في الشدّة.
قال أبو جعفر : وقيل : إنما أحدث الصلاة التي أخبر الله عنه بها ، فقال : (
فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ ) في بطن الحوت.
وقال بعضهم : كان ذلك تسبيحا ، لا صلاة.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا أبو داود ، قال : ثنا عمران القطان ، قال : سمعت الحسن
يقول في قوله( فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ ) قال : فوالله ما
كانت إلا صلاة أحدثها في بطن الحوت; قال عمران : فذكرت ذلك لقتادة ، فأنكر ذلك
وقال : كان والله يكثر الصلاة في الرخاء.
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا حكام ، عن عنبسة ، عن المغيرة بن النعمان ، عن سعيد بن
جُبَير : ( فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ ) قال : قال( لا إِلَهَ إِلا
أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ ) فلما قالها ، قذفه الحوت ،
وهو مغرب.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله( لَلَبِثَ فِي
بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ) : لصار له بطن الحوت قبرًا إلى يوم القيامة.
(21/110)
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا عبد الرحمن
، قال : ثنا سفيان ، عن السديّ ، عن أبي مالك ، قال : لبث يونس في بطن الحوت
أربعين يوما.
وقوله( فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ ) يقول : فقذفناه بالفضاء من الأرض ، حيث لا
يواريه شيء من شجر ولا غيره; ومنه قول الشاعر :
ورَفَعْتُ رِجْلا لا أخافُ عِثارَها... وَنَبَذْتُ بالبَلدِ العَرَاءِ ثِيابِي (1)
يعني بالبلد : الفضاء.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : ثني أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ،
قوله( فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ ) يقول : ألقيناه بالساحل.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( فَنَبَذْنَاهُ
بِالْعَرَاءِ ) بأرض ليس فيها شيء ولا نبات.
حدثنا محمد بن الحسين ، قال : ثنا أحمد بن المفضل ، قال : ثنا أسباط ، عن السديّ ،
في قوله( بِالْعَرَاءِ ) قال : بالأرض. وقوله( وَهُوَ سَقِيمٌ ) يقول : وهو كالصبي
المنفوس : لحم نِيء.
كما حدثنا محمد بن الحسين ، قال : ثنا أحمد ، قال : ثنا أسباط ، عن السديّ( وَهُوَ
سَقِيمٌ ) كهيئة الصبيّ.
__________
(1) البيت من شواهد أبي عبيدة في " مجاز القرآن ، الورقة 211 - ب) . قال في
قوله تعالى : " فنبذناه بالعراء " : تقول العرب : " نبذته بالعراء
" : أي الأرض الفضاء . قال الخزاعي : " ورفعت رجلا ... إلخ البيت "
. العراء : لا شيء يواريه من شجر ولا من غيره اهـ . ، أنشده صاحب (اللسان : عرا)
ولم ينسبه . قال : وقال أبو عبيده إنما قيل له عراء ، لأنه لا شجر فيه ، ولا شيء
يغطيه . وقيل : عن العراء وجه الأرض الخالي وأنشد : " ورفعته رجلا ... البيت
" . ونقل بعد ذلك كلام الزجاج في معنى العراء ، فراجعه ثمة .
(21/111)
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، عن
ابن إسحاق ، عن يزيد بن زياد ، عن عبد الله بن أبي سلمة ، عن سعيد بن جُبَير ، عن
ابن عباس ، قال : خرج به ، يعني الحوت ، حتى لفظه في ساحل البحر ، فطرحه مثل
الصبيّ المنفوس ، لم ينقص من خلقه شيء.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد : ما لَفَظَه الحوت حتى
صار مثل الصبيّ المنفوس ، قد نشر اللحم والعظم ، فصار مثل الصبيّ المنفوس ، فألقاه
في موضع ، وأنبت الله عليه شجرة من يقطين.
وقوله( وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ ) يقول تعالى ذكره :
وأنبتنا على يونس شجرة من الشجر التي لا تقوم على ساق ، وكل شجرة لا تقوم على ساق
كالدُّباء والبِطِّيخ والحَنْظَل ونحو ذلك ، فهي عند العرب يَقْطِين.
واختلف أهل التأويل في ذلك ، فقال بعضهم نحو الذي قلنا في ذلك.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : ثنا هشيم ، عن القاسم بن أبي أيوب ، عن سعيد بن
جُبَير ، في قوله( وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ ) قال : هو كل
شيء ينبت على وجه الأرض ليس له ساق.
حدثني مطر بن محمد الضبي ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا الأصبغ بن زيد ، عن القاسم
بن أبي أيوب ، عن سعيد بن جُبَير ، في قوله( وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ
يَقْطِينٍ ) قال : كلّ شيء ينبت ثم يموت من عامه.
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا عبد الرحمن ، قال : ثنا سفيان ، عن حبيب ، عن سعيد بن
جُبَير ، عن ابن عباس ، قال : ( شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ ) فقالوا عنده : القرع;
قال : وما يجعله أحقّ من البطيخ.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث ، قال :
ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ،
(21/112)
عن مجاهد ، قوله( شَجَرَةً مِنْ
يَقْطِينٍ ) قال : غير ذات أصل من الدُّبَّاء ، أو غيره من نحوه. وقال آخرون : هو
القرع.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : ثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ،
قوله( وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ ) قال : القرع.
حدثنا محمد بن المثنى ، قال : ثنا محمد بن جعفر ، قال : ثنا شعبة ، عن أبي إسحاق ،
عن عمرو بن ميمون ، عن عبد الله ، أنه قال في هذه الآية : ( وَأَنْبَتْنَا
عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ ) قال : القرع.
حدثني مطر بن محمد الضبيّ ، قال : ثنا عبد الله بن داود الواسطي ، قال : ثنا شريك
، عن أبي إسحاق عن عمرو بن ميمون الأودي ، في قوله( وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ
شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ ) قال : القرع.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ
شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ ) : كنَّا نحدَّث أنها الدُّبَّاء ، هذا القرع الذي رأيتم
أنبتها الله عليه يأكل منها.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : ثني أبو صخر ، قال : ثني ابن قسيط ،
أنه سمع أبا هُرَيرة يقول : طرح بالعراء ، فأنبت الله عليه يقطينة ، فقلنا : يا
أبا هريرة وما اليقطينة ؟ قال : الشجرة الدُّبَّاء ، هيأ الله له أروية وحشية تأكل
من خَشاش الأرض - أو هَشاش - فتفشح عليه فترويه من لبنها كل عشية وبكرة حتى نبت.
وقال ابن أبي الصلت قبل الإسلام في ذلك بيتا من شعر :
فَأَنْبَتَ يَقْطِينا عَلَيْه برَحْمَةٍ... مِنَ الله لَوْلا الله أُلْفِيَ
ضَاحِيا (1)
__________
(1) البيت لأمية بن أبي الصلت كما قال المؤلف ، ولم أجده في شعراء النصرانية ولا
في ترجمته في الأغاني . وقال أبو عبيدة في مجاز القرآن (الورقة 211 - ب) : في قوله
تعالى " شجرة من يقطين) : كل شجرة لا تقوم على ساق فهي يقطين ، مثل الدباء
والحنظل والبطيخ . اهـ . وفي (اللسان : قطن) : قال الفراء قيل عند ابن عباس : هو
ورق القرع . وما جعل القرع من بين الشجر يقطينا ؛ كل ورقة اتسعت وشترت فهي يقطين .
قال الفراء : وقال مجاهد : كل شيء ذهب بسطا في الأرض : يقطين . ونحو ذلك قال
الكلبي . قال : ومنه القرع ، والبطيخ ، والقثاء والشريان . وقال سعيد بن جبير : كل
شيء ينبت ثم يموت من عامه فهو يقطين . ا هـ .
(21/113)
حدثني يحيى بن طلحة اليربوعي ، قال :
ثنا فضيل بن عياض ، عن مغيرة في قوله( وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ
) قال : القرع.
حدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك
يقول في قوله( شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ ) قال : القرع.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد : أنبت الله عليه شجرة من
يقطين; قال : فكان لا يتناول منها ورقة فيأخذها إلا أروته لبنا ، أو قال : شرب
منها ما شاء حتى نبت.
حدثنا محمد بن الحسين ، قال : ثنا أحمد بن المفضل ، قال : ثنا أسباط ، عن السديّ ،
في قوله( شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ ) قال : هو القرع ، والعرب تسميه الدُّبَّاء.
حدثنا عمرو بن عبد الحميد ، قال : ثنا مروان بن معاوية ، عن ورقاء ، عن سعيد بن
جُبَير في قول الله : ( وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ ) قال :
هو القرع.
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا جرير ، عن منصور ، عن مجاهد ، قوله( وَأَنْبَتْنَا
عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ ) قال : القرع.
وقال آخرون : كان اليقطين شجرة أظلَّت يونس.
* ذكر من قال ذلك :
(21/114)
وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِئَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ (147) فَآَمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ (148) فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ (149)
حدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال
: ثنا ثابت بن يزيد ، عن هلال بن خباب عن سعيد بن جُبَير ، قال : اليقطين : شجرة
سماها الله يقطينا أظلته ، وليس بالقرع. قال : فيما ذُكر أرسل الله عليه دابة
الأرض ، فجعلت تقرض عروقها ، وجعل ورقها يتساقط حتى أفضت إليه الشمس وشكاها ، فقال
: يا يونس جزعت من حرّ الشمس ، ولم تجزع لمئة ألف أو يزيدون تابوا إليّ ، فتبت
عليهم ؟
القول في تأويل قوله تعالى : { وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ
يَزِيدُونَ (147) فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ (148) فَاسْتَفْتِهِمْ
أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ (149) }
يقول تعالى ذكره : فأرسلنا يونس إلى مئة ألف من الناس ، أو يزيدون على مئة ألف.
وذكر عن ابن عباس أنه كان يقول : معنى قوله( أوْ ) : بل يزيدون.
* ذكر الرواية بذلك :
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا مؤمل ، قال : ثنا سفيان ، عن منصور ، عن سالم بن أبي
الجعد ، عن الحكم بن عبد الله بن الأزور ، عن ابن عباس ، في قوله( وَأَرْسَلْنَاهُ
إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ ) قال : بل يزيدون ، كانوا مئة ألف وثلاثين
ألفا.
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا يعقوب ، عن جعفر ، عن سعيد بن جُبَير ، في قوله(
مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ ) قال : يزيدون سبعين ألفا ، وقد كان العذاب أرسل
عليهم ، فلما فرقوا بين النساء وأولادها ، والبهائم وأولادها ، وعجُّوا إلى الله ،
كشف عنهم العذاب ، وأمطرت السماء دما.
حدثني محمد بن عبد الرحيم البرقي ، قال : ثنا عمرو بن أبي سلمة ، قال : سمعت زهيرا
، عمن سمع أبا العالية ، قال : ثني أبيّ بن كعب ، أنه سأل رسول الله صَلَّى الله
عَلَيْهِ وَسَلَّم عن قوله( وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ
)
(21/115)
قال : يزيدون عشرون ألفا.
وكان بعض أهل العربية من أهل البصرة يقول في ذلك : معناه إلى مئة ألف أو كانوا
يزيدون عندكم ، يقول : كذلك كانوا عندكم.
وإنما عنى بقوله( وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ ) أنه
أرسله إلى قومه الذين وعدهم العذاب ، فلما أظلهم تابوا ، فكشف الله عنهم. وقيل :
إنهم أهل نينَوَى.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى
مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ ) أرسل إلى أهل نينوى من أرض الموصل ، قال : قال
الحسن : بعثه الله قبل أن يصيبه ما أصابه( فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ
)
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث ، قال :
ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله( إِلَى
مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ ) قال : قوم يونس الذين أرسل إليهم قبل أن يلتقمه
الحوت.
وقيل : إن يونس أرسل إلى أهل نِيْنَوَى بعد ما نبذه الحوت بالعراء.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : سمعت أبا هلال محمد بن سليمان ، قال : ثنا
شهر بن حوشب ، قال : ( أتاه جبرائيل ، يعني يونس ، وقال : انطلق إلى أهل نِينَوَى
فأنذرهم أن العذاب قد حضرهم; قال : ألتمس دابة; قال : الأمر أعجل من ذلك ، قال :
ألتمس حذاء ، قال : الأمر أعجل من ذلك ، قال : فغضب فانطلق إلى السفينة فركب; فلما
ركب احتبست السفينة لا تُقدم ولا تُؤخر; قال : فتساهموا ، قال : فسُهم ، فجاء
الحوت يبصبص بذنبه ، فنودي الحوت : أيا حوت إنا لم نجعل يونس لك رزقا ، إنما
جعلناك له حوزا ومسجدا;
(21/116)
قال : فالتقمه الحوت ، فانطلق به من
ذلك المكان حتى مر به على الأيْلة ، ثم انطلق به حتى مر به على دجلة ، ثم انطلق به
حتى ألقاه في نينوى ).
حدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا أبو هلال ، قال : ثنا شهر بن حوشب ،
عن ابن عباس قال : إنما كانت رسالة يونس بعد ما نبذه الحوت.
وقوله( فَآمِنُوا ) يقول : فوحدوا الله الذي أرسل إليهم يونس ، وصدقوا بحقيقة ما
جاءهم به يونس من عند الله.
وقوله( فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ ) يقول : فأخرنا عنهم العذاب ، ومتعناهم إلى
حين بحياتهم إلى بلوغ آجالهم من الموت.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى
حِينٍ ) : الموت.
حدثني محمد بن الحسين ، قال : ثنا أحمد بن المفضل ، قال : ثنا أسباط ، عن السديّ ،
في قوله( فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ ) قال : الموت.
وقوله( فَاسْتَفْتِهِمْ ) يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ
وَسَلَّم : سل يا محمد مشركي قومك من قريش.
كما حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( فَاسْتَفْتِهِمْ
أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ ) : يعني مشركي قريش.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله(
فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ ) قال : سلهم ، وقرأ
: ( وَيَسْتَفْتُونَكَ ) قال : يسألونك.
حدثنا محمد ، قال : ثنا أحمد ، قال : ثنا أسباط ، عن السديّ
(21/117)
أَمْ خَلَقْنَا الْمَلَائِكَةَ إِنَاثًا وَهُمْ شَاهِدُونَ (150) أَلَا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ (151) وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (152)
( فَاسْتَفْتِهِمْ ) يقول : يا محمد
سلهم.
وقوله( أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ ) : ذكر أن مشركي قريش كانوا
يقولون : الملائكة بنات الله ، وكانوا يعبدونها ، فقال الله لنبيه محمد عليه
الصلاة والسلام : سلهم ، وقل لهم : ألربي البنات ولكم البنون ؟.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، ( أَلِرَبِّكَ
الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ ) ؟ لأنهم قالوا : يعني مشركي قريش : لله البنات ،
ولهم البنون.
حدثنا محمد بن الحسين ، قال : ثنا أحمد بن المفضل ، قال : ثنا أسباط ، عن السديّ ،
في قوله( فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ ) قال :
كانوا يعبدون الملائكة.
القول في تأويل قوله تعالى : { أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِنَاثًا وَهُمْ
شَاهِدُونَ (150) أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ (151) وَلَدَ
اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (152) }
يعني تعالى ذكره : أم شهد هؤلاء القائلون من المشركين : الملائكة بنات الله خلقي
الملائكة وأنا أخلقهم إناثا ، فشهدوا هذه الشهادة ، ووصفوا الملائكة بأنها إناث.
وقوله( أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ ) يقول تعالى ذكره : ألا إن هؤلاء المشركين
من كذبهم( لَيَقُولُونَ وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ) في قيلهم ذلك.
كما حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( أَلا إِنَّهُمْ مِنْ
إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ ) يقول : من كذبهم.
وقوله( أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ ) يقول تعالى ذكره : ألا إن هؤلاء المشركين
من كذبهم( لَيَقُولُونَ وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ) في قيلهم ذلك.
كما حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( أَلا إِنَّهُمْ مِنْ
إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ ) يقول : من كذبهم.
(21/118)
أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ (153) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (154) أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (155) أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُبِينٌ (156) فَأْتُوا بِكِتَابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (157)
القول في تأويل قوله تعالى : { أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ (153) }
(21/119)
القول في تأويل قوله تعالى : {
أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ (153) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (154)
أَفَلا تَذَكَّرُونَ (155) أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُبِينٌ (156) فَأْتُوا
بِكِتَابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (157) }
يقول تعالى ذكره موَبّخا هؤلاء القائلين لله البنات من مشركي قريش : ( أَصْطَفَى )
الله أيها القوم( الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ ) ؟ والعرب إذا وجهوا الاستفهام إلى
التوبيخ أثبتوا ألف الاستفهام أحيانا وطرحوها أحيانا ، كما قيل : ( أَذْهَبْتُمْ )
بالقصر( طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا ) يستفهم بها ، ولا يستفهم بها
، والمعنى في الحالين واحد ، وإذا لم يستفهم في قوله( أَصْطَفَى الْبَنَاتِ ) ذهبت
ألف اصطفى في الوصل ، ويبتدأ بها بالكسر ، وإذا استفهم فتحت وقطعت.
وقد ذُكر عن بعض أهل المدينة أنه قرأ ذلك بترك الاستفهام والوصل. فأما قرّاء
الكوفة والبصرة ، فإنهم في ذلك على قراءته بالاستفهام ، وفتح ألفه في الأحوال كلها
، وهي القراءة التي نختار لإجماع الحجة من القرّاء عليها.
وقوله( مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ) يقول : بئس الحكم تحكمون أيها القوم أن
يكون لله البنات ولكم البنون ، وأنتم لا ترضون البنات لأنفسكم ، فتجعلون له ما لا
ترضونه لأنفسكم ؟
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( أَصْطَفَى الْبَنَاتِ
عَلَى الْبَنِينَ مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ) يقول : كيف يجعل لكم البنين
ولنفسه البنات ، ما لكم كيف تحكمون ؟.
وقوله( أَفَلا تَذَكَّرُونَ ) يقول : أفلا تتدبرون ما تقولون ؟ فتعرفوا خطأه
(21/119)
وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (158) سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (159) إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (160)
فتنتهوا عن قيله.
وقوله( أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُبِينٌ ) يقول : ألكم حجة تبين صحتها لمن سمعها
بحقيقة ما تقولون ؟
كما حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( أَمْ لَكُمْ
سُلْطَانٌ مُبِينٌ ) : أي عذر مبين.
حدثنا محمد ، قال : ثنا أحمد ، قال : ثنا أسباط ، عن السديّ ، في قوله( سُلْطَانٌ
مُبِينٌ ) قال حجة.
وقوله( فَأْتُوا بِكِتَابِكُمْ ) يقول : فأتوا بحجتكم من كتاب جاءكم من عند الله
بأن الذي تقولون من أن له البنات ولكم البنين كما تقولون.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( فَأْتُوا بِكِتَابِكُمْ
) : أي بعذركم( إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ )
حدثنا محمد ، قال : ثنا أحمد ، قال : ثنا أسباط ، عن السديّ : ( فَأْتُوا
بِكِتَابِكُمْ ) أن هذا كذا بأن له البنات ولكم البنون.
وقوله( إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ) يقول : إن كنتم صادقين أن لكم بذلك حُجَّة.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا وَلَقَدْ
عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (158) سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا
يَصِفُونَ (159) إِلا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (160) }
يقول تعالى ذكره : وجعل هؤلاء المشركون بين الله وبين الجنة نسبا.
واختلف أهل التأويل في معنى النسب الذي أخبر الله عنهم أنهم جعلوه لله تعالى ،
فقال بعضهم : هو أنهم قالوا أعداء الله : إن الله وإبليس أخوان.
(21/120)
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال ثني أبي ، عن أبيه ، عن
ابن عباس ، قوله( وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا ) قال : زعم
أعداء الله أنه تبارك وتعالى وإبليس أخوان.
وقال آخرون : هو أنهم قالوا : الملائكة بنات الله ، وقالوا : الجنة : هي الملائكة.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث ، قال :
ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : ( وَجَعَلُوا
بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا ) قال : قال كفار قريش : الملائكة بنات الله
، فسأل أبو بكر : مَنْ أمهاتهنّ ؟ فقالوا : بنات سَرَوات الجنّ ، يحسبون أنهم
خلقوا مما خلق منه إبليس.
حدثنا عمرو بن يحيى بن عمران بن عفرة ، قال : ثنا عمرو بن سعيد الأبح ، عن سعيد بن
أبي عروبة ، عن قتادة ، في قوله( وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا
) قالت اليهود : إن الله تبارك وتعالى تزوّج إلى الجنّ ، فخرج منهما الملائكة ،
قال : سبحانه سبح نفسه.
حدثنا محمد ، قال : ثنا أحمد ، قال : ثنا أسباط ، عن السديّ ، في قوله( وَجَعَلُوا
بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا ) قال : الجنة : الملائكة ، قالوا : هنّ
بنات الله.
حدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن
مجاهد( وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا ) : الملائكة.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله( وَجَعَلُوا
بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا ) قال : بين الله وبين الجنة نسبا افتروا.
وقوله( وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ ) اختلف أهل التأويل
في معنى ذلك ، فقال بعضهم : معناه : ولقد علمت الجنة إنهم لمشهدون
(21/121)
فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ (161) مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ (162) إِلَّا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ (163) وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ (164)
الحساب.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث ، قال :
ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد( وَلَقَدْ
عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ ) أنها ستُحضر الحساب.
وقال آخرون : معناه : إن قائلي هذا القول سيُحضرون العذاب في النار.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد ، قال : ثنا أحمد ، قال : ثنا أسباط ، عن السديّ( إِنَّهُمْ
لَمُحْضَرُونَ ) إن هؤلاء الذين قالوا هذا لمحضَرُون : لمعذّبون. وأولى القولين في
ذلك بالصواب قول من قال : إنهم لمحضرون العذاب ، لأن سائر الآيات التي ذكر فيها
الإحضار في هذه السورة ، إنما عُنِيَ به الإحضار في العذاب ، فكذلك في هذا الموضع.
وقوله( سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ ) يقول تعالى ذكره تنزيهًا لله ،
وتبرئة له مما يضيف إليه هؤلاء المشركون به ، ويفترون عليه ، ويصفونه ، من أن له
بنات ، وأن له صاحبة.
وقوله( إِلا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ ) يقول : ولقد علمت الجنَّةُ أن الذين
قالوا : إن الملائكة بنات الله لمحضرون العذاب ، إلا عباد الله الذين أخلصَهُمْ
لرحمته ، وخلقهم لجنته.
القول في تأويل قوله تعالى : { فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ (161) مَا أَنْتُمْ
عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ (162) إِلا مَنْ هُوَ صَالِي الْجَحِيمِ (163) وَمَا مِنَّا
إِلا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ (164) }
(21/122)
يقول تعالى ذكره : ( فَإِنَّكُمْ )
أيها المشركون بالله( وَمَا تَعْبُدُونَ ) من الآلهة والأوثان( مَا أَنْتُمْ
عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ ) يقول : ما أنتم على ما تعبدون من دون الله بفاتنين : أي
بمضِلِّينَ أحدًا( إِلا مَنْ هُوَ صَالِي الْجَحِيمِ ) يقول : إلا أحدًا سبق في
علمي أنه صال الجحيم.
وقد قيل : إن معنى( عَلَيْهِ ) في قوله( مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ )
بمعنى به.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : ثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ،
قوله( فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ ) يقول :
لا تضلون أنتم ، ولا أضل منكم إلا من قد قضيت أنه صال الجحيم.
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ،
عن ابن عباس ، قوله( مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ إِلا مَنْ هُوَ صَالِي
الْجَحِيمِ ) يقول : ما أنتم بفاتنين على أوثانكم أحدا ، إلا من قد سبق له أنه صال
الجحيم.
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : ثنا ابن عُلَية ، عن خالد ، قال : قلت للحسن ،
قوله( مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ إِلا مَنْ هُوَ صَالِي الْجَحِيمِ ) إلا
من أوجب الله عليه أن يَصْلَى الجحيم.
حدثنا عليّ بن سهل ، قال : ثنا زيد بن أبي الزرقاء ، عن حماد بن سلمة ، عن حميد ،
قال : سألت الحسن ، عن قول الله : ( مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ إِلا مَنْ
هُوَ صَالِي الْجَحِيمِ ) قال : ما أنتم عليه بمضلين إلا من كان في علم الله أنه
سيصْلَى الجحيم.
حدثنا إن بشار ، قال : ثنا عبد الرحمن ، قال : ثنا سفيان ، عن منصور ، عن إبراهيم(
مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ إِلا مَنْ هُوَ صَالِي الْجَحِيمِ ) : إلا من
قدر عليه أنه يَصْلَى الجحيم.
(21/123)
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا يعقوب ، عن
جعفر ، عن العشرة الذين دخلوا على عمر بن عبد العزيز ، وكانوا متكلمين كلهم ،
فتكلموا ، ثم إن عمر بن عبد العزيز تكلم بشيء ، فظننا أنه تكلم بشيء رد به ما كان
في أيدينا ، فقال لنا : هل تعرفون تفسير هذه الآية : ( فَإِنَّكُمْ وَمَا
تَعْبُدُونَ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ إِلا مَنْ هُوَ صَالِي الْجَحِيمِ
) قال : إنكم والآلهة التي تعبدونها لستم بالذي تفتنون عليها إلا من قَضَيْت عليه
أنه يَصْلَى الجحيم.
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا جرير ، عن منصور ، عن إبراهيم( إِلا مَنْ هُوَ صَالِي
الْجَحِيم ) قال : ما أنتم بمضلين إلا من كتب عليه إنه يصلى الجحيم.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( فَإِنَّكُمْ وَمَا
تَعْبُدُونَ ) حتى بلغ : ( صَالِي الْجَحِيمِ ) يقول : ما أنتم بمضلين أحدا من
عبادي بباطلكم هذا ، إلا من تولاكُم بعمل النار.
حدثنا محمد بن الحسين ، قال : ثنا أحمد بن المفضل ، قال : ثنا أسباط عن السديّ(
مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ ) بمضلين( إِلا مَنْ هُوَ صَالِي الْجَحِيمِ )
إلا من كتب الله أنه يصلى الجحيم.
حدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك
يقول في قوله( مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ إِلا مَنْ هُوَ صَالِي
الْجَحِيمِ ) يقول : لا تضلون بآلهتكم أحدا إلا من سبقت له الشقاوة ، ومن هو صال
الجحيم.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله( فَإِنَّكُمْ
وَمَا تَعْبُدُونَ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ إِلا مَنْ هُوَ صَالِي
الْجَحِيمِ ) يقول : لا تفتنون به أحدا ، ولا تضلونه ، إلا من قضى الله أنه صال
الجحيم ، إلا من قد قضى أنه من أهل النار.
وقيل : ( بِفَاتِنِينَ ) من فتنت أفتن ، وذلك لغة أهل الحجاز ، وأما أهل نجد فإنهم
يقولون : أفتنته فأنا أفتنه. وقد ذُكر عن الحسن أنه قرأ : " إلا مَنْ هُوَ
صَالُ
(21/124)
الجَحِيمِ " برفع اللام من "
صالِ " ، فإن كان أراد بذلك الجمع كما قال الشاعر :
إذَا ما حاتِم وُجِدَ ابْنَ عَمِّي... مَجْدَنا منْ تَكَلَّمُ أجْمعِينا (1)
فقال : أجمعينا ، ولم يقل : تكلموا ، وكما يقال في الرجال : من هو إخوتك ، يذهب
بهو إلى الاسم المجهول ويخرج فعله على الجمع ، فذلك وجه وإن كان غيره أفصح منه;
وإن كان أراد بذلك واحدا فهو عند أهل العربية لحن ، لأنه لحن عندهم أن يقال : هذا
رامٌ وقاضٌ ، إلا أن يكون سمع في ذلك من العرب لغة مقلوبة ، مثل قولهم : شاكُ
السلاح ، وشاكي السلاح ، وعاث وعثا وعاق وعقا ، فيكون لغة ، ولم أسمع أحدا يذكر
سماع ذلك من العرب.
وقوله( وَمَا مِنَّا إِلا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ ) وهذا خبر من الله عن قيل
الملائكة أنهم قالوا : وما منا معشر الملائكة إلا من له مقام في السماء معلوم.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
__________
(1) البيت من شواهد الفراء في معاني القرآن (الورقة 275) ولم ينسبه . قال : وقد
يكون أن تجعل " صالو " جمعا ، كما تقول : من الرجال من هو أخوتك . تذهب
بهو إلى الاسم المجهول ، وتخرج فعله على الجمع ، كما قال الشاعر : " إذا ما
حاتم ... البيت " . ولم يقل تكلموا . واجود ذلك في العربية ، إذا أخرجت
الكناية ، أن تخرجها على المعنى والعدد ، لأنك تنوى تحقيق الاسم . ا هـ . وفي فتح
القدير للشوكاني (4 : 403) في تفسير قوله تعالى : " إلا من هو صال الجحيم
" : قرأ الجمهور : " صال " بكسر اللام ، لأنه منقوص مضاف ، حذفت
الياء للالتقاء الساكنين ، وحمل على لفظ من ، وأفرد ، كما أفرد " هو " .
وقرأ الحسن وابن أبي عبلة بضم اللام ، مع واو بعدها ؛ وروى عنهما قرأ بضم اللام
بدون واو . فاما مع الواو فعلى انه جمع سلامة بالواو ، حملا على معنى " من
" وحذفت نون الجمع للإضافة . وأما بدون الواو ، فيحتمل أن يكون جمعا ، وإنما
حذفت الواو خطا ، كما حذفت لفظا . ويحتمل أن يكون مفرداً ؛ وحقه على هذا كسر اللام
. قال النحاس : وجماعة أهل التفسير يقولون : إنه لحن ، لأنه لا يجوز : هذا قاض
المدينة . والمعنى أن الكفار وما يبعدونه ، لا يقدرون على إضلال أحد من عباد الله
، إلا من هو من أهل النار . أي يدخلها . ا هـ .
(21/125)
وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ (165) وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ (166) وَإِنْ كَانُوا لَيَقُولُونَ (167) لَوْ أَنَّ عِنْدَنَا ذِكْرًا مِنَ الْأَوَّلِينَ (168) لَكُنَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (169)
حدثنا محمد بن الحسين ، قال : ثنا أحمد
بن المفضل ، قال : ثنا أسباط ، عن السديّ ، في قوله( وَمَا مِنَّا إِلا لَهُ
مَقَامٌ مَعْلُومٌ ) قال : الملائكة.
حدثني يونس ، قال : ثنا أسباط ، عن السديّ في قوله( وَمَا مِنَّا إِلا لَهُ
مَقَامٌ مَعْلُومٌ ) قال الملائكة.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله( وَمَا مِنَّا
إِلا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ ) هؤلاء الملائكة.
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك
يقول في قوله( وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ
) كان مسروق بن الأجدع يروي عن عائشة أنها قالت : قال نبيّ الله صَلَّى الله
عَلَيْهِ وَسَلَّم : " ما فِي سَماءِ الدُّنْيا مَوْضِعُ قَدَمٍ إلا عَلَيْه
مَلَكٌ ساجِد أوْ قائم " . فذلك قول الملائكة : ( وَمَا مِنَّا إِلا لَهُ
مَقَامٌ مَعْلُومٌ وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ وَإِنَّا لَنَحْنُ
الْمُسَبِّحُونَ )
حدثني موسى بن إسحاق الحَبَئِيُّ المعروف بابن القوّاس ، قال : ثنا يحيى بن عيسى
الرملي ، عن الأعمش عن أبي يحيى ، عن مجاهد ، عن ابن عباس ، قال : لو أن قطرة من
زقوم جهنم أنزلت إلى الدنيا ، لأفسدت على الناس معايشهم ، وإن ناركم هذه لتعوذ من
نار جهنم.
حدثنا موسى بن إسحاق ، قال : ثنا يحيى بن عيسى ، عن الأعمش ، عن زيد بن وهب ، قال
: قال عبد الله بن مسعود : إن ناركم هذه لما أنزلت ، ضربت في البحر مرتين ففترت ،
فلولا ذلك لم تنتفعوا بها.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ (165) وَإِنَّا
لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ (166) وَإِنْ كَانُوا لَيَقُولُونَ (167) لَوْ أَنَّ
عِنْدَنَا ذِكْرًا مِنَ الأوَّلِينَ (168) لَكُنَّا عِبَادَ اللَّهِ
الْمُخْلَصِينَ (169) }
(21/126)
يقول تعالى ذكره مخبرًا عن قيل ملائكته
: ( وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ ) لله لعبادته( وَإِنَّا لَنَحْنُ
الْمُسَبِّحُونَ ) له ، يعني بذلك المصلون له.
وبنحو الذي قلنا في ذلك جاء الأثر عن رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم ،
وقال به أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عليّ بن الحسن بن شفيق المَرْوزي ، قال : ثنا أبو معاذ الفضل بن
خالد ، قال : ثنا عبيد بن سليمان ، قال : سمعت الضحاك بن مزاحم يقول قوله(
وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ ) كان مسروق بن
الأجدع ، يروي عن عائشة أنها قالت : قال نبي الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم :
" مَا فِي السَّمَاءِ الدُّنْيا مَوْضِعُ قَدَمٍ إلا عَلَيْهِ مَلَكٌ سَاجِدٌ
أوْ قائم " ، فذلك قول الله : ( وَمَا مِنَّا إِلا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ
وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ )
حدثني أبو السائب ، قال : ثنا أبو معاوية ، عن الأعمش ، عن مسلم ، عن مسروق ، قال
: قال عبد الله : إن من السموات لسماء ما فيها موضع شبر إلا وعليه جبهة ملك أو
قدمه قائما; قال : ثم قرأ : ( وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ وَإِنَّا لَنَحْنُ
الْمُسَبِّحُونَ ) .
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا عبد الرحمن ، قال : ثنا سفيان ، عن الأعمش ، عن أبي
الضحى عن مسروق عن عبد الله ، قال : إن من السموات سماءً ما فيها موضع إلا فيه ملك
ساجد ، أو قدماه قائم ، ثم قرأ : ( وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ وَإِنَّا
لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ ) .
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : ثنا ابن عُلَية ، قال : أخبرنا الجريري ،
(21/127)
عن أبي نضرة ، قال : كان عمر إذا أقيمت
الصلاة أقبل على الناس بوجهه ، فقال : يا أيها الناس استَوُوا ، إن الله إنما يريد
بكم هدى الملائكة( وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ وَإِنَّا لَنَحْنُ
الْمُسَبِّحُونَ ) استَوُوا ، تقدّم أنت يا فلان ، تأخر أنت أي هذا ، فإذا
استَوُوا تقدّم فكبر.
حدثني موسى بن عبد الرحمن ، قال : ثني أبو أسامة ، قال : ثني الجريري سعيد بن إياس
أبو مسعود ، قال : ثني أبو نضرة ، قال : كان عمر إذا أقيمت الصلاة استقبل الناس
بوجهه ، ثم قال : أقيموا صفوفكم واستووا فإنما يريد الله بكم هدي الملائكة ، يقول
: ( وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ ) ثم ذكر
نحوه.
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال; ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن
ابن عباس ، قوله( وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ ) قال : يعني الملائكة( وَإِنَّا
لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ ) قال : الملائكة صافون تسَبِّح لله عز وجل.
حدثني محمد بن عمرو. قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث ، قال :
ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد( وَإِنَّا
لَنَحْنُ الصَّافُّونَ ) قال : الملائكة.
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا سليمان ، قال : ثنا أبو هلال ، عن قتادة( وَإِنَّا
لَنَحْنُ الصَّافُّونَ ) قال : الملائكة.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله( وَإِنَّا
لَنَحْنُ الصَّافُّونَ ) قال : صفوف في السماء( وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ
) : أي المصلون ، هذا قول الملائكة يثنون بمكانهم من العبادة.
حدثنا محمد بن الحسين ، قال : ثنا أحمد بن المفضل ، قال : ثنا أسباط ، عن السديّ ،
في قوله( وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ ) قال : للصلاة.
حدثنا محمد ، قال : ثنا أحمد ، قال : ثنا أسباط عن السديّ ، قال :
(21/128)
وذكر السديّ ، عن عبد الله ، قال : ما
في السماء موضع شبر إلا عليه جبهة ملك أو قدماه ، ساجدا أو قائما أو راكعا ، ثم
قرأ هذه الآية( وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ
) .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله( وَإِنَّا
لَنَحْنُ الصَّافُّونَ ) قال : الملائكة ، هذا كله لهم.
وقوله( وَإِنْ كَانُوا لَيَقُولُونَ لَوْ أَنَّ عِنْدَنَا ذِكْرًا مِنَ
الأوَّلِينَ لَكُنَّا عِبَادَ اللَّهِ ) يقول تعالى ذكره : وكان هؤلاء المشركون من
قريش يقولون قبل أن يبعث إليهم محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم نبيا ، ( لَوْ
أَنَّ عِنْدَنَا ذِكْرًا مِنَ الأوَّلِينَ ) يعني كتابا أنزل من السماء كالتوراة
والإنجيل ، أو نبي أتانا مثل الذي أتى اليهود والنصارى( لَكُنَّا عِبَادَ اللَّهِ
) الذين أخلصهم لعبادته ، واصطفاهم لجنته.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله( وَإِنْ كَانُوا
لَيَقُولُونَ لَوْ أَنَّ عِنْدَنَا ذِكْرًا مِنَ الأوَّلِينَ لَكُنَّا عِبَادَ
اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ ) قال : قد قالت هذه الأمة ذاك قبل أن يبعث محمد صَلَّى
الله عَلَيْهِ وَسَلَّم : لو كان عندنا ذكر من الأولين ، لكنا عباد الله المخلصين;
فلما جاءهم محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم كفروا به ، فسوف يعلمون.
حدثنا محمد بن الحسين ، قال : ثنا أحمد بن المفضل ، قال : ثنا أسباط ، عن السديّ
في قوله( ذِكْرًا مِنَ الأوَّلِينَ ) قال : هؤلاء ناس من مشركي العرب قالوا : لو
أن عندنا كتابا من كتب الأولين ، أو جاءنا علم من علم الأولين قال : قد جاءكم محمد
بذلك.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد : رجع الحديث إلى الأولين
أهل الشرك( وَإِنْ كَانُوا لَيَقُولُونَ لَوْ أَنَّ عِنْدَنَا ذِكْرًا مِنَ
الأوَّلِينَ )
(21/129)
فَكَفَرُوا بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (170) وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ (171) إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ (172) وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ (173)
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ
يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله( لَوْ أَنَّ عِنْدَنَا
ذِكْرًا مِنَ الأوَّلِينَ لَكُنَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ ) هذا قول
مشركي أهل مكة ، فلما جاءهم ذكر الأولين وعلم الآخرين ، كفروا به فسوف يعلمون.
القول في تأويل قوله تعالى : { فَكَفَرُوا بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (170)
وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ (171) إِنَّهُمْ
لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ (172) وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ (173) }
يقول تعالى ذكره : فلما جاءهم الذكر من عند الله كفروا به ، وذلك كفرهم بمحمد
صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم وبما جاءهم به من عند الله من التنزيل والكتاب ،
يقول الله : فسوف يعلمون إذا وردوا عليّ ماذا لهم من العذاب بكفرهم بذلك.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ،
عن ابن عباس ، قوله( لَوْ أَنَّ عِنْدَنَا ذِكْرًا مِنَ الأوَّلِينَ لَكُنَّا
عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ ) قال : لما جاء المشركين من أهل مكة ذكر الأولين
وعلم الآخرين كفروا بالكتاب( فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ ) يقول : قد جاءكم محمد بذلك ،
فكفروا بالقرآن وبما جاء به محمد.
وقوله( وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ
لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ ) يقول تعالى ذكره : ولقد سبق منا القول لرسلنا إنهم لهم
المنصورون : أي مضى بهذا منا القضاء والحكم في أمّ الكتاب ، وهو أنهم لهم النُّصرة
والغَلبة بالحجج.
كما حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( وَلَقَدْ سَبَقَتْ
كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ ) حتى بلغ : ( لَهُمُ الْغَالِبُونَ )
قال : سبق هذا
(21/130)
فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (174) وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (175) أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ (176) فَإِذَا نَزَلَ بِسَاحَتِهِمْ فَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنْذَرِينَ (177)
من الله لهم أن ينصرهم.
حدثنا محمد بن الحسين ، قال : ثنا أحمد بن المفضل ، قال : ثنا أسباط ، عن السديّ ،
في قوله( وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ
لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ ) يقول : بالحجج.
وكان بعض أهل العربية يتأوّل ذلك : ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين بالسعادة.
وذُكر أن ذلك في قراءة عبد الله : " ولقد سبقت كلمتنا على عبادنا المرسلين
" فجعلت على مكان اللام ، فكأن المعنى : حقت عليهم ولهم ، كما قيل : على مُلك
سليمان ، وفي مُلك سليمان ، إذ كان معنى ذلك واحدا.
وقوله( وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ ) يقول : وإن حزبنا وأهل ولايتنا
لهم الغالبون ، يقول : لهم الظفر والفلاح على أهل الكفر بنا ، والخلاف علينا.
القول في تأويل قوله تعالى : { فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (174)
وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (175) أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ
(176) فَإِذَا نزلَ بِسَاحَتِهِمْ فَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنْذَرِينَ (177) }
يعني تعالى ذكره بقوله( فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ ) : فأعرض عنهم إلى حين.
واختلف أهل التأويل في هذا الحين ، فقال بعضهم : معناه إلى الموت.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( فَتَوَلَّ عَنْهُمْ
حَتَّى حِينٍ ) : أي إلى الموت.
وقال آخرون : إلى يوم بدر.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن الحسين ، قال : ثنا أحمد بن المفضل ، قال : ثنا أسباط ، عن
(21/131)
السديّ ، في قوله( فَتَوَلَّ عَنْهُمْ
حَتَّى حِينٍ ) قال : حتى يوم بدر. وقال آخرون : معنى ذلك : إلى يوم القيامة.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله( فَتَوَلَّ
عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ ) قال : يوم القيامة.
وهذا القول الذي قاله السديّ ، أشبه بما دلّ عليه ظاهر التنزيل ، وذلك أن الله
توعدهم بالعذاب الذي كانوا يستعجلونه ، فقال : ( أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ
) ، وأمر نبيه صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم أن يُعْرِض عليهم إلى مجيء حينه.
فتأويل الكلام : فتول عنهم يا محمد إلى حين مجيء عذابنا ، ونزوله بهم.
وقوله( وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ ) : وأنظرهم فسوف يرون ما يحل بهم من
عقابنا.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ
يُبْصِرُونَ ) حين لا ينفعهم البصر.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله( وَأَبْصِرْهُمْ
فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ ) يقول : أنظرهم فسوف يبصرون ما لهم بعد اليوم ، قال : يقول
: يبصرون يوم القيامة ما ضيعوا من أمر الله ، وكفرهم بالله ورسوله وكتابه ، قال :
فأبصرهم وأبصر ، واحد.
وقوله( أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ ) يقول : فبنزول عذابنا بهم يستعجلونك يا
محمد ، وذلك قولهم للنبي( مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ) .
وقوله( فَإِذَا نزلَ بِسَاحَتِهِمْ ) يقول : فإذا نزل بهؤلاء المشركين المستعجلين
(21/132)
وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (178) وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (179) سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (180) وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (181) وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (182)
بعذاب الله العذاب. العرب تقول : نزل
بساحة فلان العذاب والعقوبة ، وذلك إذا نزل به; والساحة : هي فناء دار الرجل ، (
فَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنْذَرِينَ ) يقول : فبئس صباح القوم الذين أنذرهم رسولنا
نزول ذلك العذاب بهم فلم يصدقوا به.
ونحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد ، قال : ثنا أحمد قال ثنا أسباط ، عن السديّ ، في قوله( فَإِذَا نزلَ
بِسَاحَتِهِمْ ) قال : بدارهم ، ( فَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنْذَرِينَ ) قال : بئس ما
يصبحون.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (178) وَأَبْصِرْ
فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (179) سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ
(180) وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (181) وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ
الْعَالَمِينَ (182) }
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم : وأعرض يا محمد عن
هؤلاء المشركين ، وخلهم وقريتهم على ربهم( حَتَّى حِينٍ ) يقول : إلى حين يأذن
الله بهلاكهم( وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ ) يقول : وانظرهم فسوف يرون ما يحل
بهم من عقابنا في حين لا تنفعهم التوبة ، وذلك عند نزول بأس الله بهم. وقوله(
سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ ) يقول تعالى ذكره تنزيها
لربك يا محمد وتبرئة له.( رَبِّ الْعِزَّةِ ) يقول : ربّ القوّة والبطش( عَمَّا
يَصِفُونَ ) يقول : عمَّا يصف هؤلاء المفترون عليه من مشركي قريش ، من قولهم ولد
الله ، وقولهم : الملائكة بنات الله ، وغير ذلك من شركهم وفريتهم على ربهم.
كما حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( سُبْحَانَ
(21/133)
رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ
) : أي عما يكذبون يسبح نفسه إذا قيل عليه البهتان.
وقوله( وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ ) يقول : وأمة من الله للمرسلين الذين
أرسلهم إلى أممهم الذي ذكرهم في هذه السورة وغيرهم من فزع يوم العذاب الأكبر ،
وغير ذلك من مكروه أن ينالهم من قبل الله تبارك وتعالى.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( سَلامٌ عَلَى
الْمُرْسَلِينَ ) قال رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم : " إذا سلمتم
عليّ فسلموا على المرسلين فإنما أنا رسول من المرسلين " .
( وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ) يقول تعالى ذكره : والحمد لله رب
الثقلين الجن والإنس ، خالصا دون ما سواه ، لأن كلّ نعمة لعباده فمنه ، فالحمد له
خالص لا شريك له ، كما لا شريك له في نعمه عندهم ، بل كلها من قبله ، ومن عنده.
(آخر تفسير سورة الصافات)
(21/134)
تفسير سورة ص
(21/135)
ص وَالْقُرْآَنِ ذِي الذِّكْرِ (1) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ (2)
بسم الله الرحمن الرحيم
القول في تأويل قوله تعالى : { ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ (1) بَلِ الَّذِينَ
كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ (2) }
قال أبو جعفر : اختلف أهل التأويل في معنى قول الله عزّ وجلّ : (ص) فقال بعضهم :
هو من المصاداة ، من صاديت فلانا ، وهو أمر من ذلك ، كأن معناه عندهم : صاد بعملك
القرآن : أي عارضه به ، ومن قال هذا تأويله ، فإنه يقرؤه بكسر الدال ، لأنه أمر ،
وكذلك رُوي عن الحسن .
* ذكر الرواية بذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قال : قال الحسن(ص) قال
: حادث القرآن.
وحُدثت عن عليّ بن عاصم ، عن عمرو بن عبيد ، عن الحسن ، في قوله(ص) قال : عارض
القرآن بعملك.
حُدثت عن عبد الوهاب ، عن سعيد ، عن قتادة ، عن الحسن ، في قوله(ص والقرآن) قال :
عارض القرآن ، قال عبد الوهاب : يقول اعرضه على عملك ، فانظر أين عملك من القرآن.
حدثني أحمد بن يوسف ، قال : ثنا القاسم ، قال : ثنا حجاج ، عن هارون ، عن إسماعيل
، عن الحسن أنه كان يقرأ : (ص والقرآن) بخفض الدال ،
(21/137)
وكان يجعلها من المصاداة ، يقول : عارض
القرآن.
وقال آخرون : هي حرف هجاء.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن الحسين ، قال : ثنا أحمد بن المفضل ، قال : ثنا أسباط ، عن السديّ :
أما(ص) فمن الحروف. وقال آخرون : هو قسم أقسم الله به.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني علي ، قال : ثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ،
قوله(ص) قال : قسم أقسمه الله ، وهو من أسماء الله.
وقال آخرون : هو اسم من أسماء القرآن أقسم الله به.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة(ص) قال : هو اسم من أسماء
القرآن أقسم الله به. وقال آخرون : معنى ذلك : صدق الله.
* ذكر من قال ذلك :
حُدثت عن المسيب بن شريك ، عن أبي روق ، عن الضحاك فى قوله(ص) قال : صدق الله.
واختلفت القرّاء في قراءة ذلك فقرأته عامة قرّاء الأمصار خلا عبد الله بن أبي
إسحاق وعيسى بن عمر ، بسكون الدال ، فأما عبد الله بن أبي إسحاق فإنه كان يكسرها
لاجتماع الساكنين ، ويجعل ذلك بمنزلة الأداة ، كقول العرب : تركته حاثِ باثِ ،
وخازِ بازِ يخفضان من أجل أن الذي
(21/138)
يلي آخر الحروف ألف فيخفضون مع الألف ،
وينصبون مع غيرها ، فيقولون حيث بيث ، ولأجعلنك في حيص بيص : إذا ضيق عليه. وأما
عيسى بن عمر فكان يوفق بين جميع ما كان قبل آخر الحروف منه ألف ، وما كان قبل آخره
ياء أو واو فيفتح جميع ذلك وينصبه ، فيقول : ص و ق و ن ويس ، فيجعل ذلك مثل الأداة
كقولهم : ليتَ ، وأينَ وما أشبه ذلك.
والصواب من القراءة في ذلك عندنا السكون في كل ذلك ، لأن ذلك القراءة التي جاءت
بها قرّاء الأمصار مستفيضة فيهم ، وأنها حروف هجاء لأسماء المسميات ، فيعرب إعراب
الأسماء والأدوات والأصوات ، فيسلك به مسالكهن ، فتأويلها إذ كانت كذلك تأويل
نظائرها التي قد تقدم بيانها قبل فيما مضى.
وكان بعض أهل العربية يقول : (ص) في معناها كقولك : وجب والله ، نزل والله ، وحق
والله ، وهي جواب لقوله(والقرآن) كما تقول : حقا والله ، نزل والله.
وقوله( وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ ) وهذا قسم أقسمه الله تبارك وتعالى بهذا
القرآن فقال : ( وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ )
واختلف أهل التأويل في تأويل قوله( ذِي الذِّكْرِ ) فقال بعضهم : معناه : ذي لشرف.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا نصر بن عليّ ، قال : ثنا أبو أحمد ، عن قيس ، عن أبي حصين ، عن سعيد( ص
وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ ) قال : ذي الشرف.
حدثنا نصر بن عليّ وابن بشار ، قالا ثنا أبو أحمد ، عن مسعر ، عن أبي حصين
(21/139)
(ذي الذكر) : ذي الشرف.
قال : ثنا أبو أحمد ، عن سفيان ، عن إسماعيل ، عن أبي صالح أو غيره(ذي الذكر) : ذي
الشرف.
حدثنا محمد بن الحسين ، قال : ثنا أحمد بن المفضل ، قال : ثنا أسباط ، عن
السديّ(والقرآن ذي الذكر) قال : ذي الشرف.
حدثنا أبو كُرَيب ، قال : ثنا معاوية بن هشام ، عن سفيان ، عن يحيى بن عُمارة ، عن
سعيد بن جُبَير عن ابن عباس(ص والقرآن ذي الذكر) ذي الشرف.
وقال بعضهم : بل معناه : ذي التذكير ، ذكَّركمُ الله به.
* ذكر من قال ذلك :
حُدثت عن المسيب بن شريك ، عن أبي روق ، عن الضحاك(ذي الذكر) قال : فيه ذكركم ،
قال : ونظيرتها : (لقد أنزلنا إليكم كتابا فيه ذكركم).
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة(ذي الذكر) : أي ما ذكر
فيه.
وأولى القولين في ذلك بالصواب قول من قال : معناه : ذي التذكير لكم ، لأن الله
أتبع ذلك قوله(بل الذين كفروا في عزة وشقاق) فكان معلوما بذلك أنه إنما أخبر عن
القرآن أنه أنزله ذكرًا لعباده ذكرهم به ، وأن الكفار من الإيمان به في عزّة
وشقاق.
واختلف في الذي وقع عليه اسم القسم ، فقال بعضهم; وقع القسم على قوله( بَلِ
الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ )
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة.( بَلِ الَّذِينَ
كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ ) قال : ها هنا وقع القسم.
وكان بعض أهل العربية يقول : " بل " دليل على تكذيبهم ، فاكتفى ببل
(21/140)
من جواب القسم ، وكأنه قيل : ص ، ما
الأمر كما قلتم ، بل أنتم في عزة وشقاق. وكان بعض نحويي الكوفة يقول : زعموا أن
موضع القسم في قوله( إِنْ كُلٌّ إِلا كَذَّبَ الرُّسُلَ ) وقال بعض نحويي الكوفة :
قد زعم قوم أن جواب(والقرآن) قوله( إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ
النَّارِ ) قال : وذلك كلام قد تأخر عن قوله(والقرآن) تأخرا شديدا ، وجرت بينهما
قصص ، مختلفة ، فلا نجد ذلك مستقيما في العربية ، والله أعلم.
قال : ويقال : إن قوله(والقُرآنِ) يمين اعترض كلام دون موقع جوابها ، فصار جوابها
للمعترض ولليمين ، فكأنه أراد : والقرآن ذي الذكر ، لَكَمْ أهلكنا ، فلما اعترض
قوله( بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ ) صارت كم جوابا للعزة واليمين. قال :
ومثله قوله( وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا ) اعترض دون الجواب قوله( وَنَفْسٍ وَمَا
سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا ) فصارت قد أفلح تابعة لقوله : فألهمها ، وكفى من جواب
القسم ، فكأنه قال : والشمس وضحاها لقد أفلح.
والصواب من القول في ذلك عندي ، القول الذي قاله قتادة ، وأن قوله(بَلْ) لما دلّت
على التكذيب وحلَّت محلّ الجواب استغني بها من الجواب ، إذ عرف المعنى ، فمعنى
الكلام إذ كان ذلك كذلك : ( ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ ) ما الأمر ، كما يقول
هؤلاء الكافرون : بل هم في عزّة وشقاق.
وقوله( بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ ) يقول تعالى ذكره : بل
الذين كفروا بالله من مشركي قريش في حمية ومشاقة ، وفراق لمحمد وعداوة ، وما بهم
أن لا يكونوا أهل علم ، بأنه ليس بساحر ولا كذاب.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث ، قال :
ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله(في عزة
وشقاق) قال : مُعَازِّين.
(21/141)
كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنَادَوْا وَلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ (3)
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال :
ثنا سعيد ، عن قتادة(في عزة وشقاقٍ) : أي في حَمِيَّة وفراق.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله( بَلِ الَّذِينَ
كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ ) قال : يعادون أمر الله ورسله وكتابه ، ويشاقون ،
ذلك عزّة وشِقاق ، فقلت له : الشقاق : الخلاف ، فقال : نعم.
القول في تأويل قوله تعالى : { كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ
فَنَادَوْا وَلاتَ حِينَ مَنَاصٍ (3) }
يقول تعالى ذكره : كثيرا أهلكنا من قبل هؤلاء المشركين من قريش الذين كذّبوا
رسولنا محمدا صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم فيما جاءهم به من عندنا من الحقّ(
مِنْ قَرْنٍ ) يعني : من الأمم الذين كانوا قبلهم ، فسلكوا سبيلهم في تكذيب رسلهم
فيما أتوهم به من عند الله(فَنَادَوْا) يقول : فعجوا إلى ربهم وضجوا واستغاثوا بالتوبة
إليه ، حين نزل بهم بأس الله وعاينوا به عذابه فرارا من عقابه ، وهربا من أليم
عذابه( وَلاتَ حِينَ مَنَاصٍ ) يقول : وليس ذلك حين فرار ولا هرب من العذاب
بالتوبة ، وقد حَقَّت كلمة العذاب عليهم ، وتابوا حين لا تنفعهم التوبة ،
واستقالوا في غير وقت الإقالة. وقوله(مَنَاصٍ) مفعل من النوص ، والنوص في كلام
العرب : التأخر ، والمناص : المفرّ; ومنه قول امرئ القيس :
أمِنْ ذِكْر سَلْمَى إذْ نأتْكَ تَنُوصُ... فَتقْصِرُ عَنْها خَطْوَةً وَتَبوصُ
(1)
__________
(1) البيت لامرئ القيس " مختار الشعر الجاهلي ، بشرح مصطفى السقا ، طبعة
الحلبي 127) قال : نأتك : بعدت عنك . وتنوص تتأخر ؛ فتقصر عنها : يقال : أقصر عنه
خطوه : إذا كفه عنه . وتبوص : تتقدم يقول : أمن حقك إذ نأت عنك سلمى ، وذكرتها
واشتقت إليها أن تتأخر عنها . وتقصر خطابك دونها أم تتقدم نحوها ، جادا في أثرها .
والبيت من شواهد الفراء في معاني القرآن (276) قال في تفسير قوله تعالى : "
ولات حين مناص " يقول : ليس بحين فرار . والنوص : التأخر في كلام العرب .
والبوص : التقدم ، وقال امرؤ القيس : " أمن ذكر ... البيت . فمناص : مفعل ،
مثل مقام . ومن العرب من يضيف " لات " ، فبخفض . أنشدوني : " لات
ساعة مندم " . أ هـ .
(21/142)
يقول : أو تقدم يقال من ذلك : ناصني
فلان : إذا ذهب عنك ، وباصني : إذا سبقك ، وناض في البلاد : إذا ذهب فيها ،
بالضاد. وذكر الفراء أن العقيلي أنشده :
إذَا عاشَ إسْحاقُ وَشَيْخُهُ لَمْ أُبَلْ... فَقِيدًا وَلَمْ يَصْعُبْ عَليَّ
مَناضُ (1) وَلَوْ أشْرَفَتْ مِنْ كُفَّةِ السِّتْرِ عاطِلا... لَقُلْتُ غَزَالٌ
مَا عَلَيْهِ خُضَاضُ
والخُضاض : الحلي.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا عبد الرحمن ، قال : ثنا سفيان ، عن أبي إسحاق عن
التميمي ، عن ابن عباس في قوله( وَلاتَ حِينَ مَنَاصٍ ) قال : ليس بحين نزو ، ولا
حين فرار.
حدثنا أبو كُريب ، قال : ثنا ابن عطية ، قال : ثنا إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن
التميمي ، قال : قلت لابن عباس : أرأيت قول الله( وَلاتَ حِينَ مَنَاصٍ ) قال :
ليس بحين نزو ولا فرار ضبط القوم.
__________
(1) قال المؤلف إن الفراء ذكر أن العقيلي أنشده البيتين. ويفهم منه أن البيتين
نقلهما الفراء في معاني القرآن عند تفسير قوله تعالى : " ولات حين مناص
" فلعلهما في نسخة غير التي في أيدينا منه وذكر صاحب اللسان البيت الثاني في
(خضض) وقال قبله : الخضاض الشيء اليسير من الحلي وأنشد القناني : " ولو أشرفت
... البيت " - قلت : ولعل لفظتا العقيلي والقناني محرفة إحداهما عن الأخرى .
ومحل الشاهد في البيت الأول في قوله " مناض " أي ذهاب في الأرض ، فهو
مصدر ميمي . وهو قريب في معناه مناص بالصاد المهملة ، أي مفر قال في (اللسان نوض)
وناض فلان ينوض نوضا في البلاد وناض نوضا ، كناص عدل أ هـ
(21/143)
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا حكام ، عن
عنبسة ، عن أبي إسحاق الهمداني ، عن التميمي ، قال : سألت ابن عباس ، قول الله(
وَلاتَ حِينَ مَنَاصٍ ) قال : ليس حين نزو ولا فرار.
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ،
عن ابن عباس ، قوله( وَلاتَ حِينَ مَنَاصٍ ) قال : ليس حين نزو ولا فرار.
حدثني عليّ ، قال : ثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ،
قوله( وَلاتَ حِينَ مَنَاصٍ ) يقول : ليس حين مَغاث.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال
: ثنا الحسن. قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قول الله :
( وَلاتَ حِينَ مَنَاصٍ ) قال : ليس هذا بحين فرار.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( فَنَادَوْا وَلاتَ حِينَ
مَنَاصٍ ) قال : نادى القوم على غير حين نداء ، وأرادوا التوبة حين عاينوا عذاب
الله فلم يقبل منهم ذلك.
حدثنا محمد بن الحسين ، قال : ثنا أحمد بن المفضل ، قال : ثنا أسباط ، عن السديّ ،
قوله( وَلاتَ حِينَ مَنَاصٍ ) قال : حين نزل بهم العذاب لم يستطيعوا الرجوع إلى
التوبة ، ولا فرارا من العذاب.
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : ثنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول
في قوله( فَنَادَوْا وَلاتَ حِينَ مَنَاصٍ ) يقول : وليس حين فرار.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله( وَلاتَ حِينَ
مَنَاصٍ ) ولات حين مَنْجى ينجون منه ، ونصب حين في قوله( وَلاتَ حِينَ مَنَاصٍ )
تشبيها للات بليس ، وأضمر فيها اسم الفاعل.
وحكى بعض نحويِّي أهل البصرة الرفع مع لات في حين زعم أن بعضهم رفع " ولاتَ
حينُ مَناصٍ " فجعله في قوله ليس ، كأنه قال : ليس وأضمر الحين; قال : وفي
الشعر :
(21/144)
طَلَبُوا صُلْحَنا وَلاتَ أوَان...
فَأَجَبْنَا أنْ لَيْسَ حِينَ بقاءِ (1)
فجرّ " أوان " وأضمر الحين إلى أوان ، لأن لات لا تكون إلا مع الحين;
قال : ولا تكون لات إلا مع حين. وقال بعض نحويي الكوفة : من العرب من يضيف لات
فيخفض بها ، وذكر أنه أنشد :
لات ساعة مندم (2)
__________
(1) وهذا البيت لأبي زبيد المنذر بن حرملة الطائي النصراني وقد أدرك الإسلام .
وكان عثمان رضي الله عنه يقربه ويدني مجلسه (فرائد القلائد ، في مختصر شرح الشواهد
، للعيني) قال : والشاهد في قوله : ولات أوان حيث وقع خبره (خبر لات) لفظة أوان
كالحين أي ليس الأوان صلح ، فحذف المضاف ، ثم بني أوان ، كما بني قبل وبعد . عند
حذف المضاف إليه ، ولكنه بنى على الكسر ، يشبهه بنزال في الوزن ، ثم نون للضرورة .
وأن تفسيرية . وليس للنفي واسمه محذوف . وحين بقاء : خبره . أي ليس الحين حين بقاء
الصلح . أ هـ . قال الفراء بعد كلامه الذي نقلناه تحت الشاهد السابق : وأنشدني
بعضهم : " طلبوا صلحنا ... " فخفض أوان . أ هـ . قلت : ولم يقل إنه بنى
على الكسر .
(2) هذا جزء من بيت . وهو بتمامه كما في " فرائد القلائد ، في مختصر شرح
الشواهد ، للعيني ( ص 105 مستقلة عن الخزانة للبغدادي ) . نَدِم البُغاةُ ولاتَ
ساعَةَ مَنْدَمٍ ... والْبَغْيُ مَرْتَعٌ مُبْتَغِيهِ وَخِيمُ
والرواية فيه عند العيني بنصب ساعة ، لا بجرها . وقال في شرحه وقائله محمد بن عيسى
بن طلحة بن عبيد الله التيمي وقيل مهلهل بن مالك الكناني . وقال الفراء . بعد أن
أنشد البيت (276) والكلام : أن ينصب بها في معنى ليس . أ هـ . قلت : وفي خزانة
الأدب للبغدادي (2 : 144 - 147) نقاش كثير بين النحويين في إعراب " ساعة
" في البيت : أبا لنصب ، وهي الرواية المشهورة وقد وافق عليها الفراء في آخر
كلامه . وأما الجر فإنه يحكيه عمن أنشده هذا الجزء من البيت ، الذي قال إنه لا
يحفظ صدره ، ولم يرض الفراء عن الجر بلات ، وإنما قرر أن وجه الكلام النصب بها ،
لأنها في معنى ليس ، وأنشد عليه الشاهد الذي بعده ، مؤكدا كلامه ، في عملها النصب
.
وأما رواية البيت فقد ذكرنا روايته عند ابن عقيل وغيره من شراح الألفية . ونسبته
إلى رجل من طييء وفي خزانة الأدب (2 : 147) أن ابن السكيت رواه في كتاب الأضداد ،
وهو : وَلَتَعْرِفَنَّ خَلائِقا مَشْمُولَةً ... وَلَتَنْدَمَنَّ ولاتَ سَاعةَ
مَنْدَمِ
قال ابن الأعرابي في تفسير قوله " مشمولة " : يقال أخلاق مشمولة : أي
مشئومة ، وأخلاق سوء . قال : ويقال أيضا : رجل مشمول الخلائق : أي كريم الأخلاق.
(21/145)
بخفض الساعة; قال : والكلام أن ينصب
بها ، لأنها في معنى ليس ، وذكر أنه أنشد :
تَذَكَّرَ حُبَّ لَيْلَى لاتَ حِينا... وأضْحَى الشَّيْبُ قَدْ قَطَعَ القَرِينا
(1)
قال : وأنشدني بعضهم :
طَلَبُوا صُلْحَنا وَلاتَ أوَانٍ... فأجَبْنَا أنْ لَيْسَ حَينَ بَقاءِ (2)
بخفض " أوانٍ " ; قال : وتكون لات مع الأوقات كلها.
واختلفوا في وجه الوقف على قراءة : (لاتَ حينَ) فقال بعض أهل العربية : الوقف عليه
ولاتْ بالتاء ، ثم يبتدأ حين مناص ، قالوا : وإنما هي " لا " التي بمعنى
: " ما " ، وإن في الجحد وُصلت بالتاء ، كما وُصلت ثم بها ، فقيل : ثمت
، وكما وصلت ربّ فقيل : ربت.
وقال آخرون منهم : بل هي هاء زيدت في لا فالوقف عليها لاه ، لأنها هاء زيدت للوقف
، كما زيدت في قولهم :
العاطِفُونَةَ حِينَ ما مِنْ عاطِفٍ... والمُطْعِمُونَةَ حِينَ أيْنَ المَطْعَمُ
(3)
__________
(1) البيت من شواهد الفراء (الورقة 276) على أن لات تعمل النصب فيما بعدها . قال
في معاني القرآن مبينا الوجه في عمل ليت : والكلام : أن ينصب بها في معنى ليس .
أنشدني المفضل : " تذكر حب ... البيت " . ثم قال : بعده : فهذا نصب ، ثم
أنشد شاهدا آخر على الجر بها ، وهو قول الشاعر : " طلبوا صلحنا ولات أوان ...
البيت " . وقال أبو عبيدة في مجاز القرآن (الورقة 210 - 1 ) في أول سورة ص :
و " لات حين مناص " : إنما هي : " ولا " . وبعض العرب يزيد
فيها الهاء ، فيقول : " ولاه " فيزيد فيها هاء للوقف ، فإذا اتصلت صارت
تاء . والمناص : مصدر ناص ينوص . وهو المنحى والفوت . وقال عمرو بن شاس الأسدي :
" تذكرت ليلى لات حين تذكر " . وقال الفراء في معاني القرآن (276) : أقف
على " لات " بالتاء . والكسائي يقف عليها بالهاء . أ هـ .
(2) تقدم الكلام على البيت قريبا ، فراجعه في موضعه.
(3) هذا الشاهد أيضا أنشده صاحب الخزانة (2 : 147) ونقل كثيرا من أقوال النحويين
في تخريجه . ومن احسن تخريجاته قول ابن جني الذي نقله صاحب الخزانة عن " سر
صناعة الإعراب " لابن جني ، قال : وسبقه ابن السيرافي في شرح شواهد الغريب
المصنف ، وأبو علي الفارسي ، في المسائل المنثورة . وهو أنها (التاء في العاطفونة)
في الأصل هاء السكت ، لاحقه لقوله : " العاطفون " ، اضطر الشاعر إلى
تحريكها ، فأبدلها تاء ، وفتحها ، قال ابن جني أراد أن يجريه في الأصل على حد ما
يكون عليه في الوقف . وذلك أن يقال في الوقف : هؤلاء مسلمونه ، وضاربونه ، فتلحق
الهاء لبيان حركة النون . فصار التقرير : العاطفونه . ثم إنه شبه هاء الوقف بهاء
التأنيث ، فلما احتاج لإقامة الوزن ، إلى حركة الهاء ، قلبها بتاء ، كما تقول في
الوقف : هذا طلحه فإذا وصلت صارت الهاء تاء ، فقلت : فقلت هذا طلحتنا . وعلى هذا
قال : العاطفونة . قال : ويؤنس لصحة هذا قول الراجز : من بعد ما وبعد ما وبعد مت
... صارت نفوس القوم عند الغلصمت
أراد : وبعد ما ، فأبدل الألف في التقديرها ، فصارت : بعدمه ، ثم إنه أبدل الهاء
تاء ، لتوافق بقية القوافي التي تليها . وشجعه شبه الهاء المقدرة في قوله : "
وبعدمه " بهاء التأنيث في طلحة وحمزة ... الخ . وذكر ابن مالك في التسهيل أن
التاء بقية لات . فحذفت لا ، وبقيت التاء . وربما استغنى مع التقدير عن (لا)
بالتاء ... أ هـ . والبيت من قصيدة لأبي وجزة السعدي ، مدح بها آل الزبير بن
العوام ، لكنه مركب من مصراعي بيتين . والمصراع الثاني منه " والمسبغون يدا
إذا ما أنعموا " .
(21/146)
فإذا وُصلت صارت تاء. وقال بعضهم :
الوقف على " لا " ، والابتداء بعدها تحين ، وزعم أن حكم التاء أن تكون
في ابتداء حين ، وأوان ، والآن; ويستشهد لقيله ذلك بقول الشاعر :
تَوَلّى قَبْلَ يَوْمِ سَبْيٍ جُمانا... وَصَلِينا كما زَعَمْتِ تَلانا (1)
وأنه ليس ها هنا " لا " فيوصل بها هاء أو تاء; ويقول : إن قوله(لاتَ حِينَ)
إنما هي : ليس حين ، ولم توجد لات في شيء من الكلام.
__________
(1) البيت لعمرو بن أحم الباهلي . كما في هامش رقم 1 من الجزء الأول من سر صناعة
الإعراب 185 طبعة الحلبي وروايته في الأصل : نولي قبل نأي دار جمانا ... وصليه كما
زعمت تلانا
ورواه ابن الأنباري في كتاب " الإنصاف في مسائل الخلاف . طبعة ليدن سنة 1913
ص 51 " : نولي قبل يوم ناي جمانا ... وصلينا كما زعمت تلانا
نولي : من النوال ، وأصله العطاء . والمراد هنا ما يزود به المحب من قبله . وجمانا
: مرخم : جمانة ، وهم اسم امرأة ، والألف للإطلاق . والشاهد في قوله " تلانا
" حيث زاد تاء قبل الآن ، كما تزاد قبل حين ..
(21/147)
وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ (4) أَجَعَلَ الْآَلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ (5)
والصواب من القول في ذلك عندنا : أن
" لا " حرف جحد كما ، وإن وَصلت بها تصير في الوصل تاء ، كما فعلت العرب
ذلك بالأدوات ، ولم تستعمل ذلك كذلك مع " لا " المُدَّة إلا للأوقات دون
غيرها ، ولا وجه للعلة التي اعتل بها القائل : إنه لم يجد لات في شيء من كلام
العرب ، فيجوز توجيه قوله( وَلاتَ حِينَ ) إلى ذلك ، لأنها تستعمل الكلمة في موضع
، ثم تستعملها في موضع آخر بخلاف ذلك ، وليس ذلك بأبعد في القياس من الصحة من
قولهم : رأيت بالهمز ، ثم قالوا : فأنا أراه بترك الهمز لما جرى به استعمالهم ،
وما أشبه ذلك من الحروف التي تأتي في موضع على صورة ، ثم تأتي بخلاف ذلك في موضع
آخر للجاري من استعمال العرب ذلك بينها. وأما ما استشهد به من قول الشاعر : "
وكما زعمت تلانا " ، فإن ذلك منه غلط في تأويل الكلمة; وإنما أراد الشاعر
بقوله : " وَصِلِينَا كما زَعمْتِ تَلانا " : وصلينا كما زعمت أنت الآن
، فأسقط الهمزة من أنت ، فلقيت التاء من زعمت النون من أنت وهي ساكنة ، فسقطت من
اللفظ ، وبقيت التاء من أنت ، ثم حذفت الهمزة من الآن ، فصارت الكلمة في اللفظ
كهيئة تلان ، والتاء الثانية على الحقيقة منفصلة من الآن ، لأنها تاء أنت. وأما
زعمه أنه رأى في المصحف الذي يقال له الإمام التاء متصلة بحين ، فإن الذي جاءت به
مصاحف المسلمين في أمصارها هو الحجة على أهل الإسلام ، والتاء في جميعها منفصلة عن
حين ، فلذلك اخترنا أن يكون الوقف على الهاء في قوله( وَلاتَ حِينَ )
القول في تأويل قوله تعالى : { وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ
الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ (4) أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا
إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ (5) }
يقول تعالى ذكره : وعجب هؤلاء المشركون من قريش أن جاءهم منذر ينذرهم بأس الله على
كفرهم به من أنفسهم ، ولم يأتهم ملك من السماء بذلك( وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا
سَاحِرٌ كَذَّابٌ ) يقول : وقال المنكرون وحدانية الله : هذا ،
(21/148)
يعنون محمدا صَلَّى الله عَلَيْهِ
وَسَلَّم ، ساحر كذّاب.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( وَعَجِبُوا أَنْ
جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ ) يعني محمدا صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم( وَقَالَ
الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ )
حدثنا محمد ، قال : ثنا أحمد ، قال : ثنا أسباط ، عن السديّ ، قوله( سَاحِرٌ
كَذَّابٌ ) يعني محمدا صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم.
وقوله( أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا ) يقول : وقال هؤلاء الكافرون الذين
قالوا : محمد ساحر كذاب : أجعل محمد المعبودات كلها واحدا ، يسمع دعاءنا جميعنا ،
ويعلم عبادة كل عابد عبدَه منا( إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ ) : أي إن هذا لشيء
عجيب.
كما حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( أَجَعَلَ الآلِهَةَ
إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ ) قال : عجب المشركون أن دُعوا إلى
الله وحده ، وقالوا : يسمع لحاجاتنا جميعا إله واحد! ما سمعنا بهذا في الملة
الآخرة.
وكان سبب قيل هؤلاء المشركين ما أخبر الله عنهم أنهم قالوه ، من ذلك ، أن رسول
الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم قال لهم : ( أسألكم أن تجيبوني إلى واحدة تدين
لكم بها العرب ، وتعطيكم بها الخراج العجم " فقالوا : وما هي ؟ فقال : "
تقولون لا إله إلا الله " ، فعند ذلك قالوا : ( أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا
وَاحِدًا ) تعجبا منهم من ذلك ).
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا أبو كُرَيب وابن وكيع ، قالا ثنا أبو أسامة ، قال : ثنا الأعمش ، قال : ثنا
عباد ، عن سعيد بن جُبَير ، عن ابن عباس ، قال : ( لما مرض أبو
(21/149)
طالب دخل عليه رهط من قريش فيهم أبو
جهل بن هشام فقالوا : إن ابن أخيك يشتم آلهتنا ، ويفعل ويفعل ، ويقول ويقول ، فلو
بعثت إليه فنهيته; فبعث إليه ، فجاء النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم فدخل
البيت ، وبينهم وبين أبي طالب قدر مجلس رجل ، قال : فخشي أبو جهل إن جلس إلى جنب
أبي طالب أن يكون أرق له عليه ، فوثب فجلس في ذلك المجلس ، ولم يجد رسول الله
صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم مجلسا قرب عمه ، فجلس عند الباب ، فقال له أبو طالب
: أي ابن أخي ، ما بال قومك يشكونك ؟ يزعمون أنك تشتم آلهتهم ، وتقول وتقول; قال :
فأكثروا عليه القول ، وتكلم رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم فقال :
" يا عَمّ إنّي أُرِيدهُمْ عَلى كَلِمَةٍ وَاحِدةٍ يَقُولُونَهَا ، تَدِينُ
لَهُمْ بِها العَرَبُ ، وتُؤَدِّي إلَيْهِم بِها العَجَمُ الجِزْيَةَ " ،
ففزعوا لكلمته ولقوله ، فقال القوم : كلمة واحدة ؟ نعم وأبيك عَشْرًا; فقالوا :
وما هي ؟ فقال أبو طالب : وأيّ كلمة هي يا ابن أخي ؟ قال : " لا إلَهَ إلا
الله " ; قال : فقاموا فزِعين ينفضون ثيابهم ، وهم يقولون : ( أَجَعَلَ
الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ ) قال : ونزلت من هذا
الموضع إلى قوله( لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ ) اللفظ لأبي كريب.
حدثنا أبو كُرَيب ، قال : ثنا معاوية بن هشام ، عن سفيان ، عن يحيى بن عمارة ، عن
سعيد بن جُبَير عن ابن عباس ، قال : مرض أبو طالب ، فأتاه رسول الله صَلَّى الله
عَلَيْهِ وَسَلَّم يعوده ، وهم حوله جلوس ، وعند رأسه مكان فارغ ، فقام أبو جهل
فجلس فيه ، فقال أبو طالب : يا ابن أخي ما لقومك يشكونك ؟ قال : يا عَمّ
أُرِيدُهُمْ عَلى كَلِمَةٍ تَدِينُ لَهُمْ بِهَا العَرَبُ ، وتُؤَدِّي إلَيْهِمْ
بِهَا العَجَمُ الجِزْيَةَ قال : ما هي ؟ قال : لا إلَهَ إلا الله " فقاموا
وهم يقولون : ( مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلا
اخْتِلاقٌ ) ونزل القرآن : ( ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ ) ذي الشرف( بَلِ
الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ ) حتى قوله( أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا
وَاحِدًا ) .
حدثنا ابن وكيع ، قال : ثنا يحيى بن سعيد ، عن سفيان ، عن الأعمش ، عن يحيى بن
عمارة ، عن سعيد بن جُبَير ، عن ابن عباس ، قال : مرض أبو
(21/150)
وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آَلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ (6) مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآَخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ (7)
طالب ، ثم ذكر نحوه ، إلا أنه لم يقل
ذي الشرف ، وقال : إلى قوله( إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ ).
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا عبد الرحمن ، قال : ثنا سفيان ، عن الأعمش ، عن يحيى
بن عمارة ، عن سعيد بن جُبَير ، قال : مرض أبو طالب ، قال : فجاء النبي صَلَّى
الله عَلَيْهِ وَسَلَّم يعوده ، فكان عند رأسه مقعدُ رجل ، فقام أبو جهل ، فجلس
فيه ، فشَكَوا النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم إلى أبي طالب ، وقالوا : إنه
يقع في آلهتنا ، فقال : يا ابن أخي ما تريد إلى هذا ؟ قال : " يا عمّ إنَّي
أُرِيدُهُمْ عَلَى كَلِمَةٍ تَدِينُ لَهُمْ بِهَا العَرَبُ ، وتُؤَدِّي إلَيْهِمُ
العَجَمُ الْجِزْيَةَ " قال : وما هي ؟ قال : " لا إلَهَ إلا الله
" ، فقالوا : ( أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ
عُجَابٌ ).
القول في تأويل قوله تعالى : { وَانْطَلَقَ الْمَلأ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا
وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ (6) مَا سَمِعْنَا
بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلا اخْتِلاقٌ (7) }
يقول تعالى ذكره : وانطلق الأشراف من هؤلاء الكافرين من قريش ، القائلين : (
أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا ) بأن امضُوا فاصبروا على دينكم وعبادة
آلهتكم. فأن من قوله( أَنِ امْشُوا ) في موضع نصب يتعلق انطلقوا بها ، كأنه قيل :
انطلقوا مشيا ، ومضيا على دينكم. وذُكر أن ذلك في قراءة عبد الله : "
وَانْطَلَقَ المَلأ مِنْهُمْ يَمْشُونَ أنِ اصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ " .
وذُكر أن قائل ذلك كان عُقْبَة بن أبي مُعيط.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا عبد الرحمن ، قال : ثنا سفيان ، عن إبراهيم بن مهاجر ،
عن مجاهد : ( وَانْطَلَقَ الْمَلأ مِنْهُمْ ) قال : عقبة بن أبى معيط.
(21/151)
وقوله( إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ )
: أي إن هذا القول الذي يقول محمد ، ويدعونا إليه ، من قول لا إله إلا الله ، شيء
يريده منا محمد يطلب به الاستعلاء علينا ، وأن نكون له فيه أتباعا ولسنا مجيبيه
إلى ذلك.
وقوله( مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الآخِرَةِ ) اختلف أهل التأويل في
تأويله ، فقال بعضهم : معناه : ما سمعنا بهذا الذي يدعونا إليه محمد من البراءة من
جميع الآلهة إلا من الله تعالى ذكره ، وبهذا الكتاب الذي جاء به في الملة
النصرانية ، قالوا : وهي الملة الآخرة.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : ثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ،
قوله( مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الآخِرَةِ ) يقول : النصرانية.
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ،
عن ابن عباس ، قوله( مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الآخِرَةِ ) يعني
النصرانية; فقالوا : لو كان هذا القرآن حقا أخبرتنا به النصارى.
حدثني محمد بن إسحاق ، قال : ثنا يحيى بن معين ، قال : ثنا ابن عيينة ، عن ابن أبي
لبيد ، عن القرطبي في قوله( مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الآخِرَةِ ) قال
: ملة عيسى.
حدثني محمد بن الحسين ، قال : ثنا أحمد بن المفضل ، قال : ثنا أسباط عن السديّ(
مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الآخِرَةِ ) النصرانية.
وقال آخرون : بل عنوا بذلك : ما سمعنا بهذا في ديننا دين قريش.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا حكام ، عن عنبسة ، عن محمد بن عبد الرحمن ، عن القاسم
بن أبي بَزّة ، عن مجاهد ، في قوله( مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ
الآخِرَةِ ) قال : ملة قريش.
(21/152)
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو
عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا
، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله( فِي الْمِلَّةِ الآخِرَةِ ) قال : ملة
قريش.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( مَا سَمِعْنَا بِهَذَا
فِي الْمِلَّةِ الآخِرَةِ ) : أي في ديننا هذا ، ولا في زماننا قَطُّ.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله( مَا سَمِعْنَا
بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الآخِرَةِ ) قال : الملة الآخرة : الدين الآخر. قال :
والملة الدين. وقيل : إن الملأ الذين انطلقوا نفر من مشيخة قريش ، منهم أبو جهل ،
والعاص بن وائل ، والأسود بن عبد يغوث.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن الحسين ، قال : ثنا أحمد بن المفضل ، قال : ثنا أسباط ، عن السديّ
أن أناسا من قُرَيش اجتمعوا ، فيهم أبو جهل بن هشام ، والعاص بن وائل ، والأسود بن
المطلب ، والأسود بن عبد يغوث في نفر من مشيخة قريش ، فقال بعضهم لبعض : انطلقوا
بنا إلى أبي طالب ، فلنكلمه فيه ، فلينصفنا منه ، فيأمره فليكفّ عن شتم آلهتنا ،
وندعه وإلهه الذي يَعبُد ، فإنا نخاف أن يموت هذا الشيخ ، فيكون منا شيء ، فتعيرنا
العرب فيقولون : تركوه حتى إذا مات عمه تناولوه ، قال : فبعثوا رجلا منهم يُدعى
المطَّلب ، فاستأذن لهم على أبي طالب ، فقال : هؤلاء مشيخة قومك وسَرَواتهم
يستأذنون عليك ، قال : أدخلهم; فلما دخلوا عليه قالوا : يا أبا طالب أنت كبيرنا
وسيدنا ، فأنصفنا من ابن أخيك ، فمُره فليكفّ عن شتم آلهتنا ، ونَدَعَه وإلهه; قال
: فبعث إليه أبو طالب; فلما دخل عليه رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم قال
: يا ابن أخي هؤلاء مشيخة قومك وسَرَواتهم ، وقد سألوك النَّصَف أن تكفّ عن شتم
آلهتهم ، ويدعوك وإلهك; قال : فقال : " أي عم أولا أدعوهم إلى ما هو خير لهم
منها ؟ "
(21/153)
قال : وإلامَ تَدْعُوهُمْ ؟ قال :
" أدعوهم إلى أن يَتَكَلَّمُوا بِكَلِمَةٍ تَدِينُ لَهُمْ بِها العَرَبُ
وَيَمْلِكُونَ بِهَا العَجَمَ " ; قال : فقال أبو جهل من بين القوم : ما هي
وأبيك لنعطينكها وعشر أمثالها ، قال : " تَقُولُونَ لا إلَهَ إلا الله "
. قال : فنفروا وقالوا : سلنا غير هذه ، قال : " لَوْ جِئْتُمُونِي
بالشَّمْسِ حتى تَضَعُوها في يَدِي ما سأَلْتُكُمْ غيرَها " ; قال : فغضبوا
وقاموا من عنده غضابا وقالوا : والله لنشتمنك والذي يأمرك بهذا( وَانْطَلَقَ
الْمَلأ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا
لَشَيْءٌ يُرَادُ ) .. إلى قوله( إِلا اخْتِلاقٌ ) وأقبل على عمه ، فقال له عمه :
يا ابن أخي ما شططت عليهم ، فأقبل على عمه فدعاه ، فقال : " قُلْ كَلِمَةً
أَشْهَدُ لَكَ بِهَا يَوْمَ القِيَامَةِ ، تَقُولُ : لا إلَهَ إلا الله " ،
فقال : لولا أن تعيبكم بها العرب يقولون جزع من الموت لأعطيتكها ، ولكن على مِلَّة
الأشياخ; قال : فنزلت هذه الآية( إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ
اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ ) .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمى ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ،
عن ابن عباس ، قوله( وَانْطَلَقَ الْمَلأ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى
آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ ) قال : نزلت حين انطلق أشراف قريش إلى
أبي طالب فكلموه في النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم.
وقوله( إِنْ هَذَا إِلا اخْتِلاقٌ ) يقول تعالى ذكره مخبرا عن قيل هؤلاء المشركين
في القرآن : ما هذا القرآن إلا اختلاق : أي كذب اختلقه محمد وتخرَّصه.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا عليّ ، قال : ثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ،
قوله( إِنْ هَذَا إِلا اخْتِلاقٌ ) يقول : تخريص.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث ، قال :
ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ،
(21/154)
أَؤُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ (8) أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ (9)
عن مجاهد ، في قوله( إِنْ هَذَا إِلا
اخْتِلاقٌ ) قال : كذب.
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا حكام ، عن عنبسة ، عن محمد بن عبد الرحمن ، عن القاسم
بن أبي بزة ، عن مجاهد( إِنْ هَذَا إِلا اخْتِلاقٌ ) : يقول : كذب.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( إِنْ هَذَا إِلا
اخْتِلاقٌ ) إلا شيء تخْلُقه.
حدثنا محمد بن الحسين ، قال : ثنا أحمد بن المفضل ، قال : ثنا أسباط ، عن السديّ(
إِنْ هَذَا إِلا اخْتِلاقٌ ) اختلقه محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله( إِنْ هَذَا
إِلا اخْتِلاقٌ ) قالوا : إن هذا إلا كذب.
القول في تأويل قوله تعالى : { أَؤُنزلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ
هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ (8) أَمْ عِنْدَهُمْ
خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ (9) }
يقول تعالى ذكره مخبرا عن قيل هؤلاء المشركين من قريش : أأنزل على محمد الذكر من
بيننا فخصّ به ، وليس بأشرف منا حسبا. وقوله( بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي )
يقول تعالى ذكره : ما بهؤلاء المشركين أن لا يكونوا أهل علم بأن محمدا صادق ،
ولكنهم في شك من وحينا إليه ، وفي هذا القرآن الذي أنزلناه إليه أنه من عندنا(
بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ ) يقول : بل لم ينزل بهم بأسنا ، فيذوقوا وبال
تكذيبهم محمدا ، وشكهم في تنزيلنا هذا القرآن عليه ، ولو ذاقوا العذاب على ذلك
علموا وأيقنوا حقيقة ما هم به مكذِّبون ، حين لا ينفعهم علمهم
( أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ ) يقول
تعالى ذكره : أم عند هؤلاء المشركين المنكرين وحي الله إلى محمد خزائن رحمة ربك ،
يعنى مفاتيح
(21/155)
أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبَابِ (10) جُنْدٌ مَا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزَابِ (11)
رحمة ربك يا محمد ، العزيز في سلطانه ،
الوهاب لمن يشاء من خلقه ، ما يشاء من ملك وسلطان ونبوة ، فيمنعوك يا محمد ، ما من
الله به عليك من الكرامة ، وفضَّلك به من الرسالة.
القول في تأويل قوله تعالى : { أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَمَا
بَيْنَهُمَا فَلْيَرْتَقُوا فِي الأسْبَابِ (10) جُنْدٌ مَا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ
مِنَ الأحْزَابِ (11) }
يقول تعالى ذكره : أم لهؤلاء المشركين الذين هم في عزّة وشقاق( مُلْكُ
السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا ) فإنه لا يُعازُّني ويُشاقُّني من كان
في مُلكي وسلطاني. وقوله( فَلْيَرْتَقُوا فِي الأسْبَابِ ) يقول : وإن كان لهم ملك
السموات والأرض وما بينهما ، فليصعدوّا في أبواب السماء وطرقها ، فإن كان له مُلك
شيء لم يتعذر عليه الإشراف عليه ، وتفقُّده وتعهُّده.
واختلف أهل التأويل في معنى الأسباب التي ذكرها الله في هذا الموضع ، فقال بعضهم :
عُنِي بها أبواب السماء.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث ، قال :
ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله(
فَلْيَرْتَقُوا فِي الأسْبَابِ ) قال : طرق السماء وأبوابها.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( فَلْيَرْتَقُوا فِي
الأسْبَابِ ) يقول : في أبواب السماء.
حدثنا محمد بن الحسين ، قال : ثنا أحمد بن المفضل ، قال : ثنا أسباط ، عن السديّ ،
قوله( فِي الأسْبَابِ ) قال : أسباب السموات.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله
(21/156)
( فَلْيَرْتَقُوا فِي الأسْبَابِ ) قال
: طرق السموات.
حُدثت عن المحاربي ، عن جُوَيبر ، عن الضحاك( أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ
وَالأرْضِ ) يقول : إن كان( لَهُمْ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَمَا
بَيْنَهُمَا فَلْيَرْتَقُوا فِي الأسْبَابِ ) يقول : فليرتقوا إلى السماء السابعة.
حدثني عليّ ، قال : ثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ،
قوله( فَلْيَرْتَقُوا فِي الأسْبَابِ ) يقول : في السماء.
وذُكر عن الربيع بن أنس في ذلك ما حُدثت عن المسيب بن شريك ، عن أبي جعفر الرازيّ
، عن الربيع بن أنس ، قال : الأسباب : أدقّ من الشعر ، وأشدّ من الحديد ، وهو بكل
مكان ، غير أنه لا يرى.
وأصل السبب عند العرب : كل ما تسبب به إلى الوصول إلى المطلوب من حبل أو وسيلة ،
أو رحم ، أو قرابة أو طريق ، أو محجة وغير ذلك.
وقوله( جُنْدٌ مَا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الأحْزَابِ ) يقول تعالى ذكره : هم(
جُنْد ) يعني الذين في عزّة وشقاق هنالك ، يعني : ببدر مهزوم. وقوله( هُنَالِكَ )
من صلة مهزوم وقوله( مِنَ الأحْزَابِ ) يعني من أحزاب إبليس وأتباعه الذين مضوا
قبلهم ، فأهلكهم الله بذنوبهم. و " مِنْ " من قوله( مِنَ الأحْزَابِ )
من صلة قوله جند ، ومعنى الكلام : هم جند من الأحزاب مهزوم هنالك ، وما في قوله(
جُنْدٌ مَا هُنَالِكَ ) صلة.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث ، قال :
ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد( جُنْدٌ مَا
هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الأحْزَابِ ) قال : قُريش من الأحزاب ، قال : القرون
الماضية.
(21/157)
كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتَادِ (12) وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ أُولَئِكَ الْأَحْزَابُ (13) إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقَابِ (14)
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال :
ثنا سعيد ، عن قتادة( جُنْدٌ مَا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الأحْزَابِ ) قال :
وعده الله وهو بمكة يومئذ أنه سيهزم جندا من المشركين ، فجاء تأويلها يوم بدر.
وكان بعض أهل العربية يتأول ذلك( جُنْدٌ مَا هُنَالِكَ ) مغلوب عن أن يصعد إلى
السماء.
القول في تأويل قوله تعالى : { كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ
وَفِرْعَوْنُ ذُو الأوْتَادِ (12) وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحَابُ الأيْكَةِ
أُولَئِكَ الأحْزَابُ (13) إِنْ كُلٌّ إِلا كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقَابِ
(14) }
يقول تعالى ذكره : كذّبت قبل هؤلاء المشركين من قريش ، القائلين : أجعل الآلهة
إلها واحدا ، رسلها ، قوم نوح وعاد وفرعون ذو الأوتاد.
واختلف أهل العلم في السبب الذي من أجله قيل لفرعون ذو الأوتاد ، فقال بعضهم : قيل
ذلك له لأنه كانت له ملاعب من أوتاد ، يُلْعَب له عليها.
* ذكر من قال ذلك :
حُدثت عن عليّ بن الهيثم ، عن عبد الله بن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن سعيد بن جُبَير
، عن ابن عباس( وَفِرْعَوْنُ ذُو الأوْتَادِ ) قال : كانت ملاعب يلعب له تحتها.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله( وَفِرْعَوْنُ ذُو
الأوْتَادِ ) قال : كان له أوتاد وأرسان ، وملاعب يلعب له عليها.
وقال آخرون : بل قيل ذلك له كذلك لتعذيبه الناس بالأوتاد.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن الحسين ، قال : ثنا أحمد بن المفضل ، قال : ثنا أسباط ،
(21/158)
عن السديّ ، ، قوله( ذُو الأوْتَادِ )
قال : كان يعذِّب الناسَ بالأوتاد ، يعذّبهم بأربعة أوتاد ، ثم يرفع صخرة تُمَدّ
بالحبال ، ثم تُلْقى عليه فتشدخه.
حُدثت عن عليّ بن الهيثم ، عن ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع بن أنس ، قال :
كان يعذب الناس بالأوتاد.
وقال آخرون : معنى ذلك : ذو البنيان ، قالوا : والبنيان : هو الأوتاد.
* ذكر من قال ذلك :
حُدثت عن المحاربي ، عن جويبر ، عن الضحاك( ذُو الأوْتَادِ ) قال : ذو البنيان.
وأشبه الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال : عني بذلك الأوتاد ، إما لتعذيب الناس ،
وإما للعب ، كان يُلْعَب له بها ، وذلك أن ذلك هو المعروف من معنى الأوتاد ، وثمود
وقوم لوط ، وقد ذكرنا أخبار كل هؤلاء فيما مضى قبل من كتابنا هذا.( وَأَصْحَابُ
الأيْكَةِ ) يعني : وأصحاب الغَيْضَة.
وكان أبو عمرو بن العلاء فِيما حُدثت عن معمر بن المثني ، عن أبي عمرو يقول :
الأيكة : الحَرَجَة من النبع والسدر ، وهو الملتفّ منه ، قال الشاعر :
أفَمِنْ بُكَاءِ حَمَامَةٍ فِي أيْكَةٍ... يَرْفَضُّ دَمْعُكَ فَوْقَ ظَهْرِ
المَحْمِلِ (1)
يعني : مَحْمِل السيف.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
__________
(1) البيت لعنترة العبسي (مختار الشعر الجاهلي ، بشرح مصطفى السقا طبعة الحلبي
387) وهو الرابع من قصيدة يهجو بها قيس بن زهير قائد تميم في بعض حروبها مع عبس .
قال شارحه : الأيكة الشجر الكثير الملتف . وذرفت دموعك : سالت . والمحمل علاقة
السيف . واستشهد به أبو عبيدة في مجاز القرآن (الورقة 213 - 1 ( وقال : الأيكة :
الحرجة : من النبع والسدر . وهو الملتف قال رجل ، وهو يسند على عنترة : "
أفمن بكاء ... " البيت . يعني محمل السيف . وهو الحمالة والحمائل . وجماع
المحمل : محامل . وبعضهم يقول : " ليكة " . لا يقطعون الألف ، ولم
يعرفوا معناها . أ هـ .
(21/159)
وَمَا يَنْظُرُ هَؤُلَاءِ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً مَا لَهَا مِنْ فَوَاقٍ (15) وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ (16)
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( وَأَصْحَابُ الأيْكَةِ )
قال : كانوا أصحاب شجر ، قال : وكان عامَّة شجرهم الدوم.
حدثنا محمد بن الحسين ، قال : ثنا أحمد بن المفضل ، قال : ثنا أسباط ، عن السديّ ،
قوله( وَأَصْحَابُ الأيْكَةِ ) قال : أصحاب الغَيْضَة.
وقوله( أُولَئِكَ الأحْزَابُ ) يقول تعالى ذكره : هؤلاء الجماعات المجتمعة ،
والأحزاب المتحزّبة على معاصي الله والكفر به ، الذين منهم يا محمد مشركو قومك ،
وهم مسلوك بهم سبيلهم.
( إِنْ كُلٌّ إِلا كَذَّبَ الرُّسُلَ ) يقول : ما كلّ هؤلاء الأمم إلا كذّب رسل
الله; وهي في قراءة عبد الله كما ذكر لي : " إنْ كُلٌّ لَمَّا كَذَّبَ
الرُّسُل فَحَقَّ عِقَابِ " يقول : فوجب عليهم عقاب الله إياهم.
كما حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( إِنْ كُلٌّ إِلا
كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقَابِ ) قال : هؤلاء كلهم قد كذبوا الرسل ، فحقّ
عليهم العذاب.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَمَا يَنْظُرُ هَؤُلاءِ إِلا صَيْحَةً وَاحِدَةً
مَا لَهَا مِنْ فَوَاقٍ (15) وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ
يَوْمِ الْحِسَابِ (16) }
يقول تعالى ذكره : ( وَمَا يَنْظُرُ هَؤُلاءِ ) المشركون بالله من قُريش( إِلا
صَيْحَةً وَاحِدَةً ) يعني بالصيحة الواحدة : النفخة الأولى في الصور( مَا لَهَا
مِنْ فَوَاقٍ ) يقول : ما لتلك الصيحة من فيقة ، يعني من فتور ولا انقطاع.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله( وَمَا
(21/160)
يَنْظُرُ هَؤُلاءِ إِلا صَيْحَةً
وَاحِدَةً ) يعني : أمة محمد( مَا لَهَا مِنْ فَوَاقٍ )
حدثنا أبو كُرَيب ، قال : ثنا المحاربي ، عن إسماعيل بن رافع ، عن يزيد بن زياد ،
عن رجل من الأنصار ، عن محمد بن كعب القرظي ، عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله
صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم : " إنَّ الله لما فَرغَ مِنْ خَلْقِ
السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ خَلَقَ الصُّورَ ، فَأَعْطَاهُ إسْرَافِيلَ ، فَهُوَ
وَاضِعُهُ عَلَى فِيهِ شَاخِص بِبَصَرِهِ إلَى العَرْشِ يَنْتَظِرُ مَتَى يُؤْمَرُ
" . قال أبو هريرة : يا رسول الله وما الصور ؟ قال : " قَرْنٌ " ،
قال : كيف هو ؟ قال : " قَرْنٌ عَظِيمٌ يُنْفَخُ فِيهِ ثَلاثُ نَفَخَاتٍ :
نَفْخَةُ الفَزَعِ الأولى ، والثَّانِيَةُ : نَفْخَةُ الصَّعْقِ ، والثَّالِثَةُ :
نَفْخَةُ القِيَامِ لِرَبّ العَالَمِينَ ، يَأْمُرُ الله إسْرَافِيلَ بالنَّفْخَةِ
الأولى ، فَيَقُولُ : انْفُخْ نَفْخَةَ الفَزَعِ ، فَيَفْزَعُ أهْلُ السَّمَوَاتِ
وَأهْلُ الأرْضِ إلا مَنْ شَاءَ الله ، وَيَأْمُرُهُ الله فَيُدِيمُهَا
وَيُطَوِّلُهَا ، فَلا يَفْتُرُ وَهِيَ الَّتِي يَقُولُ الله( مَا يَنْظُرُ
هَؤُلاءِ إِلا صَيْحَةً وَاحِدَةً مَا لَهَا مِنْ فَوَاقٍ ) . واختلف أهل التأويل
في معنى قوله( مَا لَهَا مِنْ فَوَاقٍ ) فقال بعضهم : يعني بذلك : ما لتلك الصيحة
من ارتداد ولا رجوع.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : ثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس( مَا
لَهَا مِنْ فَوَاقٍ ) يقول : من ترداد.
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ،
عن ابن عباس( مَا لَهَا مِنْ فَوَاقٍ ) يقول : ما لها من رجعة.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث ، قال :
ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله( مَا
لَهَا مِنْ فَوَاقٍ ) قال : من رجوع.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( مَا لَهَا مِنْ فَوَاقٍ
) يعني الساعة ما لها من رجوع ولا ارتداد.
وقال آخرون : بل معنى ذلك : ما لهؤلاء المشركين بعد ذلك إفاقة ولا
(21/161)
رجوع إلى الدنيا.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن الحسين ، قال : ثنا أحمد بن المفضل ، قال : ثنا أسباط ، عن السديّ(
مَا لَهَا مِنْ فَوَاقٍ ) يقول : ليس لهم بعدها إفاقة ولا رجوع إلى الدنيا.
وقال آخرون : الصيحة في هذا الموضع : العذاب. ومعنى الكلام : ما ينتظر هؤلاء
المشركون إلا عذابا يهلكهم ، لا إفاقة لهم منه.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله( مَا لَهَا مِنْ
فَوَاقٍ ) قال : ما ينتظرون إلا صيحة واحدة ما لها من فواق ، يا لها من صيحة لا
يفيقون فيها كما يفيق الذي يغشي عليها وكما يفيق المريض تهلكهم ، ليس لهم فيها
إفاقة.
واختلفت القرّاء في قراءة ذلك ، فقرأته عامة قرّاء المدينة والبصرة وبعض أهل
الكوفة( مِنْ فَوَاقٍ ) بفتح الفاء. وقرأته عامة أهل الكوفة : " مِنْ فُوَاقٍ
" بضم الفاء.
واختلفت أهل العربية في معناها إذا قُرئت بفتح الفاء وضمها ، فقال بعض البصريين
منهم : معناها ، إذا فتحت الفاء : ما لها من راحة ، وإذا ضمت جعلها فُواق ناقة ما
بين الحلبتين. وكان بعض الكوفيين منهم يقول : معنى الفتح والضم فيها واحد ، وإنما
هما لغتان مثل السَّوَاف والسُّواف ، وجَمام المكوك وجُمامه ، وقَصاص الشعر
وقُصاصه.
والصواب من القول في ذلك أنهما لغتان ، وذلك أنا لم نجد أحدا من المتقدمين على
اختلافهم في قراءته يفرّقون بين معنى الضمّ فيه والفتح ، ولو كان مختلف المعنى
باختلاف الفتح فيه والضم ، لقد كانوا فرقوا بين ذلك في المعنى.
(21/162)
فإذ كان ذلك كذلك ، فبأي القراءتين قرأ
القارئ فمصيب; وأصل ذلك من قولهم : أفاقت الناقة ، فهي تفيق إفاقة ، وذلك إذا ردت
ما بين الرضعتين ولدها إلى الرضعة الأخرى ، وذلك أن ترضع البهيمة أمها ، ثم تتركها
حتى ينزل شيء من اللبن ، فتلك الإفاقة; يقال إذا اجتمع ذلك في الضرع فيقة ، كما
قال الأعشى :
حَتَّى إذَا فِيْقَةٌ فِي ضَرْعِها اجْتَمَعَتْ... جاءَتْ لِتُرْضِعَ شِقَّ
النَّفْسِ لوْ رَضَعا (1)
وقوله( وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ )
يقول تعالى ذكره : وقال هؤلاء المشركون بالله من قريش : يا ربنا عجل لنا كتبنا قبل
يوم القيامة. والقطّ في كلام العرب : الصحيفة المكتوبة; ومنه قول الأعشى :
وَلا المَلِكُ النُّعْمَانُ يَوْمَ لَقِيتُهُ... بِنِعْمَتِهِ يُعْطِي القُطُوطَ
وَيأْفِقُ (2)
__________
(1) البيت في ديوان الأعشى ميمون بن قيس ص 13 وهو الثالث والثلاثون من قصيدة يمدح
بها هوذة بن علي الحنفي . والفيقة : اللبن الذي يجتمع في الضرع بين الحلبتين . وشق
الشيء : شطره ، والقطعة منه ، وشق النفس : ولدها ، لأنه قطعة منها . ويقول : حتى
إذا اجتمع اللبن في ضرعها ، عادت ترضع ولدها ، لو أنه حي يرضع . والضمير في ضرعها
: راجع إلى راحلته المذكورة قبل . واستشهد المؤلف بالبيت على معنى قوله تعالى :
" ما لها من فواق " . قال أبو عبيدة ( 213 - 1) من فتحها قال : ما لها من
راحة . ومن ضمها قال فواق ، وجعلها من " فواق ناقة " : ما بين الحلبتين
. وقوم قالوا : هما واحد . بمنزلة جمام المكوك وجمام المكوك ، وقصاص الشعر وقصاص
الشعر (الأول بضم أوله ، والثاني بفتحه فيهن) . أ هـ . وقال الفراء في معاني
القرآن (الورقة 277) : " ما لها من فواق " : من راحة ولا إفاقة . وأصله
من الإفاقة في الرضاع ، إذا ارتضعت البهيمة أمها ، ثم تركتها حتى تنزل شيئا من
اللبن ، فتلك الإفاقة والفواق بغير همز . وجاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه
قال : " العيادة قدر فواق ناقة " . وقرأها الحسن ، وأهل المدينة ، وعاصم
: فواق بالفتح ؛ وهي لغة جيدة عالية . وضم حمزة ، ويحيي ، والأعمش ، والكسائي . أ
هـ.
(2) البيت للأعمش ميمون بن قيس (ديوان طبع القاهرة ص 33) من قصيدة يمدح بها المحلق
بن خنثم بن شداد بن ربيعة. وفيه " بأمته " في مكان " بنعمته "
. والقطوط : جمع قط بكسر القاف ، وهو الصك بالجائزة ، ويأفق كيضرب يفضل بعض الناس
في الجوائز على بعض وهو من شواهد أبي عبيدة في (مجاز القرآن ، الورقة 213\1) قال
في قوله تعالى : " ربنا عجل لنا قطنا " القط : الكتاب قال الأعشى :
" ولا الملك " البيت القطوط : الكتب بالجوائز يأفق يفضل ويعلو . يقال :
ناقة أفقة ، وفرس آفق إذا فضله على غيره.
(21/163)
يعني بالقُطوط : جمع القط ، وهي الكتب
بالجوائز.
واختلف أهل التأويل في المعنى الذي أراد هؤلاء المشركون بمسألتهم تعجيل القطّ لهم
، فقال بعضهم : إنما سألوا ربهم تعجيل حظهم من العذاب الذي أعد لهم في الآخرة في
الدنيا ، كما قال بعضهم : ( إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ
فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ
) .
(21/164)
* ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : ثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله(
رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا ) يقول : العذاب.
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ،
عن ابن عباس ، قوله( وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ
الْحِسَابِ ) قال : سألوا الله أن يعجل لهم العذاب قبل يوم القيامة.
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا حكام ، عن عنبسة ، عن محمد بن عبد الرحمن ، عن القاسم
بن أبي بزّة ، عن مجاهد ، في قوله( لَنَا قِطَّنَا ) قال : عذابنا.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث ، قال :
ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله( عَجِّلْ
لَنَا قِطَّنَا ) قال : عذابنا.
حدثني بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله( وَقَالُوا
رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ ) أي نصيبنا حظنا من
العذاب قبل يوم القيامة ، قال : قد قال ذلك أبو جهل : اللهمّ إن كان ما يقول محمد
حقا( فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ ) ... الآية.
وقال آخرون : بل إنما سألوا ربهم تعجيل أنصبائهم ومنازلهم من الجنة حتى يروها
فيعلموا حقيقة ما يعدهم محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم فيؤمنوا حينئذ به
ويصدّقوه.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن الحسين ، قال : ثنا أحمد بن المفضل ، قال : ثنا أسباط ، عن السديّ ،
قوله( عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا ) قالوا : أرنا منازلنا في الجنة حتى نتابعك.
وقال آخرون : مسألتهم نصيبهم من الجنة ، ولكنهم سألوا تعجيله لهم في الدنيا.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا عبد الرحمن ، قال : ثنا سفيان ، عن ثابت الحدّاد ، قال
: سمعت سعيد بن جُبَير يقول في قوله( عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ
الْحِسَابِ ) قال : نصيبنا من الجنة.
وقال آخرون : بل سألوا ربهم تعجيل الرزق.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمر بن عليّ ، قال : ثنا أشعث السجستاني ، قال : ثنا شعبة ، عن
إسماعيل بن أبي خالد في قوله( عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا ) قال : رزقنا.
وقال آخرون : سألوا أن يعجل لهم كتبهم التي قال قال الله( فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ
كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ )( وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ ) في
الدنيا ، لينظروا بأيمانهم يعطونها أم بشمائلهم ؟ ولينظروا من أهل الجنة هم ، أم
من أهل النار قبل يوم القيامة استهزاء منهم بالقرآن وبوعد الله.
وأولى الأقوال في ذلك عندي بالصواب أن يقال : إن القوم سألوا ربهم تعجيل صِكاكهم
بحظوظهم من الخير أو الشر الذي وعد الله عباده أن يؤتيهموها في الآخرة قبل يوم
القيامة في الدنيا استهزاء بوعيد الله.
وإنما قلنا إن ذلك كذلك ، لأن القطّ هو ما وصفت من الكتب بالجوائز والحظوظ ، وقد
أخبر الله عن هؤلاء المشركين أنهم سألوه تعجيل ذلك لهم ، ثم أتبع ذلك قوله لنبيه :
( اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ ) فكان معلوما بذلك أن مسألتهم
(21/165)
ما سألوا النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم لو لم تكن على وجه الاستهزاء منهم لم يكن بالذي يتبع الأمر بالصبر عليه ، ولكن لما كان ذلك استهزاء ، وكان فيه لرسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم أذى ، أمره الله بالصبر عليه حتى يأتيه قضاؤه فيهم ، ولما لم يكن في قوله( عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا ) بيان أيّ القطوط إرادتهم ، لم يكن لما توجيه ذلك إلى أنه معني به القطوط ببعض معاني الخير أو الشرّ ، فلذلك قلنا إن مسألتهم كانت بما ذكرت من حظوظهم من الخير والشر.
(21/166)
اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ (17) إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ (18) وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ (19) وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآَتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ (20)
القول في تأويل قوله تعالى : { اصْبِرْ
عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُدَ ذَا الأيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ
(17) إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالإشْرَاقِ
(18) وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ (19) وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ
وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ (20) }
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم : اصبر يا محمد على ما
يقول مشركو قومك لك مما تكره قيلهم لك ، فإنا ممتحنوك بالمكاره امتحاننا سائر
رسلنا قبلك ، ثم جاعلو العلوّ والرفعة والظفر لك على من كذبك وشاقك سنتنا في الرسل
الذين أرسلناهم إلى عبادنا قبلك فمنهم عبدنا أيوب وداود بن إيشا ، فاذكره ذا
الأيد; ويعني بقوله( ذَا الأيْدِ ) ذا القوّة والبطش الشديد في ذات الله والصبر
على طاعته.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ،
عن ابن عباس( دَاوُدَ ذَا الأيْدِ ) قال : ذا القوّة.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثني أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث ، قال :
ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ،
(21/166)
عن مجاهد ، قوله( ذَا الأيْدِ ) قالَ
ذا القوّة في طاعة الله.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( وَاذْكُرْ عَبْدَنَا
دَاوُدَ ذَا الأيْدِ ) قال : أعطي قوّة في العبادة ، وفقها في الإسلام.
وقد ذُكر لنا أن داود صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم كان يقوم الليل ويصوم نصف
الدهر.
حدثنا محمد بن الحسين ، قال : ثنا أحمد بن المفضل ، قال : ثنا أسباط ، عن السديّ ،
قوله( دَاوُدَ ذَا الأيْدِ ) ذا القوّة في طاعة الله.
(21/167)
حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب ، قال
: قال ابن زيد ، في قوله( دَاوُدَ ذَا الأيْدِ ) قال : ذا القوّة في عبادة الله ،
الأيد : القوّة ، وقرأ : ( وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ ) قال : بقوة.
وقوله( إِنَّهُ أَوَّابٌ ) يقول : إن داود رَجَّاع لما يكرهه الله إلى ما يرضيه
أواب ، وهو من قولهم : آب الرجل إلى أهله : إذا رجع.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث ، قال :
ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد( إِنَّهُ
أَوَّابٌ ) قال : رجاع عن الذنوب.
حدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن
مجاهد( إِنَّهُ أَوَّابٌ ) قال : الراجع عن الذنوب.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله( إِنَّهُ أَوَّابٌ
) : أي كان مطيعا لله كثير الصلاة.
حدثنا محمد بن الحسين ، قال : ثنا أحمد بن المفضل ، قال : ثنا أسباط ، عن السديّ ،
قوله( إِنَّهُ أَوَّابٌ ) قال : المسبح.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله( إِنَّهُ
أَوَّابٌ ) قال : الأوّاب التوّاب الذي يئوب إلى طاعة الله ويرجع إليها ، ذلك
الأوّاب ، قال : والأوّاب : المطيع.
وقوله( إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ
وَالإشْرَاقِ ) يقول تعالى ذكره : إنا سخرنا الجبال يسبحن مع داود بالعشيّ ، وذلك
من وقت العصر إلى الليل ، والإشراق ، وذلك بالغداة وقت الضحى.
ذُكر أن داود كان إذا سبح سبحت معه الجبال.
كما حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( إِنَّا سَخَّرْنَا
الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالإشْرَاقِ ) يسبحن مع داود إذا سبح
بالعشيّ والإشراق.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله( بِالْعَشِيِّ
وَالإشْرَاقِ ) قال : حين تُشرق الشمس وتضحى.
حدثنا أبو كريب ، قال : ثنا محمد بن بشر ، عن مسعر بن عبد الكريم ، عن موسى بن أبي
كثير ، عن ابن عباس أنه بلغه أن أم هانئ ذكرت أن رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ
وَسَلَّم يوم فتح مكة ، صلى الضحى ثمان ركعات ، فقال ابن عباس : قد ظننت أن لهذه
الساعة صلاة ، يقول الله : ( يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالإشْرَاقِ ).
حدثنا ابن عبد الرحيم البرقي ، قال : ثنا عمرو بن أبي سلمة ، قال : ثنا صدقة ، قال
: ثني سعيد بن أبي عَروبة ، عن أبي المتوكل ، عن أيوب بن صفوان ، عن عبد الله بن
الحارث بن نوفل أن ابن عباس كان لا يصلي الضحى ، قال : فأدخلته على أم هانئ ، فقلت
: اخبري هذا بما أخبرتني به ، فقالت أم هانئ : دخل عليّ رسول الله صَلَّى الله
عَلَيْهِ وَسَلَّم يوم الفتح في بيتي ، فأمر بماء فصب في قصعة ، ثم أمر بثوب فأخذ
بيني وبينه ، فاغتسل ، ثم رشّ ناحية البيت فصلى ثمان ركعات ، وذلك من الضحى
قيامهنّ وركوعهنّ
(21/168)
وسجودهنّ وجلوسهنّ سواء ، قريب بعضهن من
بعض ، فخرج ابن عباس ، وهو يقول : لقد قرأت ما بين اللوحين ، ما عرفت صلاة الضحى
إلا الآن( يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالإشْرَاقِ ) وكنت أقول : أين صلاة الإشراق
، ثم قال : بعد هنّ صلاة الإشراق.
حدثنا عمرو بن عليّ ، قال : ثنا عبد الأعلى ، قال : ثنا سعيد بن أبي عروبة ، عن
متوكل ، عن أيوب بن صفوان ، مولى عبد الله بن الحارث ، عن عبد الله بن الحارث ،
" أن أم هانئ ابنة أبي طالب ، حَدثت أن رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ
وَسَلَّم يوم الفتح دخل عليها ثم ذكر نحوه " .
وعن ابن عباس في قوله( يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ ) مثل ذلك.
وقوله( وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً ) يقول تعالى ذكره : وسخرنا الطير يسبحن معه
محشورة بمعنى : مجموعة له; ذكر أنه صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم كان إذا سبح
أجابته الجبال ، واجتمعت إليه الطير ، فسبحت معه واجتماعها إليه كان حشرها. وقد
ذكرنا أقوال أهل التأويل في معنى الحشر فيما مضى ، فكرهنا إعادته.
وكان قتادة يقول في ذلك في هذا الموضع ما حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا
سعيد ، عن قتادة( وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً ) : مسخَّرة.
وقوله( كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ ) يقول : كل ذلك له مطيع رجَّاع إلى طاعته وأمره.
ويعني بالكلّ : كلّ الطير.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ ) :
أي مطيع.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله( وَالطَّيْرَ
مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ ) قال : كل له مطيع.
(21/169)
وقال آخرون : معنى ذلك : كل ذلك لله
مسبِّح.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن الحسين ، قال : ثنا أحمد بن المفضل ، قال : ثنا أسباط ، عن السديّ ،
قوله( وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ ) يقول : مسبِّح لله.
وقوله( وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ ) اختلف أهل التأويل في المعنى الذي به شدّد ملكه ،
فقال بعضهم : شدّد ذلك بالجنود والرجال ، فكان يحرسه كل يوم وليلة أربعة آلاف ،
أربعة آلاف.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن الحسين ، قال : ثنا أحمد بن المفضل ، قال : ثنا أسباط ، عن السديّ ،
قوله( وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ ) قال : كان يحرسه كلّ يوم وليلة أربعة آلاف ، أربعة
آلاف.
وقال آخرون : كان الذي شدد به ملكه ، أن أعطي هيبة من الناس له لقضية كان قضاها.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني ابن حرب ، قال : ثنا موسى ، قال : ثنا داود ، عن علباء بن أحمر ، عن عكرمة ،
عن ابن عباس ، أن رجلا من بني إسرائيل استعدى على رجل من عظمائهم ، فاجتمعا عند
داود النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم فقال المستعدي : إن هذا اغتصبني بقرًا
لي ، فسأل داود الرجل عن ذلك فجحده ، فسأل الآخر البيِّنة ، فلم يكن له بيِّنة ،
فقال لهما داود : قوما حتى أنظر في أمركما; فقاما من عنده ، فأوحى الله إلى داود
في منامه أن يقتل الرجل الذي استعدي عليه ، فقال : هذه رؤيا ولست أعجل حتى أتثبت ،
فأوحى الله إلى داود في منامه مرة أخرى أن يقتل الرجل ، وأوحى الله إليه الثالثة
أن يقتله أو تأتيه العقوبة من الله ، فأرسل داود إلى الرجل : إن الله قد أوحى إلي
أن أقتلك ،
(21/170)
فقال الرجل : تقتلني بغير بينة ولا
تثبت ؟! فقال له داود : نعم ، والله لأنفذنّ أمر الله فيك; فلما عرف الرجل أنه
قاتله ، قال : لا تعجل عليّ حتى أخبرك ، إني والله ما أُخِذت بهذا الذنب ، ولكني
كنت اغتلت والد هذا فقتلته ، فبذلك قُتلت ، فأمر به داود فقُتل ، فاشتدت هيبة بني
إسرائيل عند ذلك لداود ، وشدد به مُلْكه ، فهو قول الله : ( وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ
).
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال : إن الله تبارك تعالى أخبر أنه شَدَّد ملك
داود ، ولم يحضر ذلك من تشديده على التشديد بالرجال والجنود دون الهيبة من الناس
له ولا على هيبة الناس له دون الجنود. وجائز أن يكون تشديده ذلك كان ببعض ما ذكرنا
، وجائز أن يكون كان بجميعها ، ولا قول أولى في ذلك بالصحة من قول الله ، إذ لم
يحر ذلك على بعض معاني التشديد خبر يجب التسليم له.
وقوله( وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ ) اختلف أهل التأويل في معنى الحكمة في هذا
الموضع ، فقال بعضهم : عني بها النبوة.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن الحسين ، قال : ثنا أحمد بن المفضل ، قال : ثنا أسباط عن السديّ ،
قوله( وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ ) قال : النبوّة.
وقال آخرون : عنى بها أنه علم السنن.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( وَآتَيْنَاهُ
الْحِكْمَةَ ) : أي السنة.
وقد بينا معنى الحكمة في غير هذا الموضع بشواهده ، فأغنى ذلك عن إعادته في هذا
الموضع.
وقوله( وَفَصْلَ الْخِطَابِ ) اختلف أهل التأويل في معنى ذلك ، فقال
(21/171)
بعضهم : عني به أنه علم القضاء والفهم
به.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ،
عن ابن عباس( وآتيناه الحكمة وفصل الخطاب ) قال : أعطي الفهم.
حدثنا أبو كُرَيب ، قال : ثنا ابن إدريس ، عن ليث ، عن مجاهد( وَفَصْلَ الْخِطَابِ
) قال : إصابة القضاء وفهمه.
حدثنا محمد بن الحسين ، قال : ثنا أحمد بن المفضل ، قال : ثنا أسباط ، عن السديّ ،
في قوله( وَفَصْلَ الْخِطَابِ ) قال : علم القضاء.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله( وَآتَيْنَاهُ
الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ ) قال : الخصومات التي يخاصم الناس إليه فصل ذلك
الخطاب ، الكلام الفهم ، وإصابة القضاء والبيِّنات.
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا عبد الرحمن ، قال : ثنا سفيان ، عن أبي حصين ، قال :
سمعت أبا عبد الرحمن يقول : فصل الخطاب : القضاء.
وقال آخرون : بل معنى ذلك : وفصل الخطاب ، بتكليف المدّعي البينة ، واليمين على
المدعى عليه.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا أبو كُرَيب ، قال : ثنا هشيم ، قال : أخبرنا داود بن أبي هند ، قال : ثني
الشعبيّ أو غيره ، عن شريح أنه قال في قوله( وَفَصْلَ الْخِطَابِ ) قال : بيِّنة
المدَّعي ، أو يمين المُدَّعى عليه.
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : ثنا ابن عُلَية ، عن داود بن أبي هند ، في قوله(
وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ ) قال : نُبِّئْت عن شريح أنه قال :
شاهدان أو يمين.
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا معتمر ، قال : سمعت داود قال : بلغني
(21/172)
أن شريحا قال( وَفَصْلَ الْخِطَابِ )
الشاهدان على المدعي ، واليمين على من أنكر.
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا عبد الرحمن ، قال : ثنا سفيان ، عن منصور ، عن طاوس ،
أن شريحا قال لرجل : إن هذا يعيب عليّ ما أُعْطِيَ داود ، الشهود والأيمان.
حدثنا ابن المثنى ، قال : ثنا محمد بن جعفر ، قال : ثنا شعبة ، عن الحكم ، عن شريح
أنه قال في هذه الآية( وَفَصْلَ الْخِطَابِ ) قال : الشهود والأيمان.
حدثنا عمران بن موسى ، قال : ثنا عبد الوارث ، قال : ثنا داود ، عن الشعبي ، في
قوله( وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ ) قال : يمين أوْ شَاهِدٌ.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( وَفَصْلَ الْخِطَابِ )
البينة على الطالب ، واليمين على المطلوب ، هذا فصل الخطاب.
وقال آخرون : بل هو قولُ : أما بعد.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا أبو كُرَيب ، قال : ثنا جابر بن نوح ، قال : ثنا إسماعيل ، عن الشعبي في
قوله( وَفَصْلَ الْخِطَابِ ) قال : قول الرجل : أما بعد.
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال : إن الله أخبر أنه آتى داود صلوات الله
عليه فصل الخطاب ، والفصل : هو القطع ، والخطاب هو المخاطبة ، ومن قطع مخاطبة
الرجل الرجل في حال احتكام أحدهما إلى صاحبه قطع المحتكم إليه الحكم بين المحتكم
إليه وخصمه بصواب من الحكم ، ومن قطع مخاطبته أيضا صاحبه إلزام المخاطب في الحكم
ما يجب عليه إن كان مدعيا ، فإقامة البينة على دعواه وإن كان مدعى عليه فتكليفه
اليمين إن طلب ذلك خصمه. ومن قطع الخطاب أيضا الذي هو خطبة عند انقضاء قصة وابتداء
في أخرى الفصل بينهما بأما بعد. فإذ كان ذلك كله محتملا ظاهر الخبر ولم تكن في هذه
الآية دلالة على أي ذلك المراد ، ولا ورد به خبر عن الرسول صَلَّى الله عَلَيْهِ
وَسَلَّم ثابت ، فالصواب أن يعم الخبر ، كما عمه الله ، فيقال : أوتي داود فصل
الخطاب في القضاء والمحاورة والخطب.
(21/173)
وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ (21) إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لَا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلَا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ (22)
القول في تأويل قوله تعالى : { وَهَلْ
أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ (21) إِذْ دَخَلُوا عَلَى
دَاوُدَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى
بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ
الصِّرَاطِ (22) }
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم : وهل أتاك يا محمد نبأ
الخصم وقيل : إنه عني بالخصم في هذا الموضع ملكان ، وخرج في لفظ الواحد ، لأنه
مصدر مثل الزور والسفر ، لا يثنى ولا يجمع; ومنه قول لبيد :
وَخَصْمٍ يَعدوّنَ الذُّحُولَ كَأَنَّهُمْ... قُرُوم غَيَارَى كلُّ أزْهَرَ
مُصْعَب (1)
وقوله( إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ ) يقول : دخلوا عليه من غير باب المحراب;
والمحراب مقدّم كل مجلس وبيت وأشرفه.
وقوله( إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُدَ ) فكرّر إذ مرّتين وكان بعض أهل العربية يقول
في ذلك : قد يكون معناهما كالواحد ، كقولك : ضربتك إذ دخلت عليّ إذ اجترأت ، فيكون
الدخول هو الاجتراء ، ويكون أن تجعل إحداهما على مذهب لما ، فكأنه قال : إذ
تسوّروا المحراب لما دخلوا ، قال : وإن شئت جعلت لما في الأول ، فإذا كان لما أولا
أو آخرا ، فهي بعد صاحبتها ، كما تقول : أعطيته لما سألني ، فالسؤال قبل الإعطاء
في تقدّمه وتأخره.
وقوله( فَفَزِعَ مِنْهُمْ ) يقول القائل : وما كان وجه فزعه منهما وهما خصمان ،
فإن فزعه منهما كان لدخولهما عليه من غير الباب الذي كان المدخل
__________
(1) البيت للبيد (مجاز القرآن لأبي عبيدة ، الورقة 213 - ب) . قال : " نبأ
الخصم " : يقع على الواحد والجمع . قال لبيد : " وخصم ... " البيت
. والذحول : جمع ذحل ، وهو الثأر . والقروم جمع قرم ، وهو الفحل العظيم من الإبل .
وغياري : جمع غيران . والأزهر : الأبيض والمصعب : الشديد القوي الذي يودع من
الركوب والعمل ، للفحلة . ( اللسان : صعب . أ هـ شبه الخصوم الأقوياء بالفحول من
الإبل .
(21/174)
عليه ، فراعه دخولهما كذلك عليه. وقيل
: إن فزعه كان منهما ، لأنهما دخلا عليه ليلا في غير وقت نظره بين الناس; قالوا :
( لا تَخَفْ ) يقول تعالى ذكره : قال له الخصم : لا تخف يا داود ، وذلك لمَّا
رأياه قد ارتاع من دخولهما عليه من غير الباب. وفي الكلام محذوف استغني بدلالة ما
ظهر من الكلام منه ، وهو مرافع خصمان ، وذلك نحن. وإنما جاز ترك إظهار ذلك مع حاجة
الخصمين إلى المرافع ، لأن قوله( خَصْمَانِ ) فعل للمتكلم ، والعرب تضمر للمتكلم
والمكلم والمخاطب ما يرفع أفعالهما ، ولا يكادون أن يفعلوا ذلك بغيرهما ، فيقولون
للرجل يخاطبونه : أمنطلق يا فلان ويقول المتكلم لصاحبه : أحسن إليك وتجمل ، وإنما
يفعلون ذلك كذلك في المتكلم والمكَّلم ، لأنهما حاضران يعرف السامع مراد المتكلم
إذا حُذف الاسم ، وأكثر ما يجيءُ ذلك في الاستفهام ، وإن كان جائزا في غير
الاستفهام ، فيقال : أجالس راكب ؟ فمن ذلك قوله خَصْمان; ومنه قول الشاعر :
وَقُولا إذا جاوَزْتُمَا أرْضَ عامِرٍ... وَجَاوَزْتُمَا الحَيْين نَهْدًا
وَخَشْعَما نزيعانِ مِنْ جَرْمِ بْنِ رَبَّانَ إنهمْ... أبَوْا أنْ يُميرُوا في
الهَزَاهِزِ مِحْجَما (1)
وقول الآخر :
تَقُولُ ابْنَةُ الكَعْبِيّ يوْمَ لَقِيتُها... أمُنْطَلِقٌ فِي الجَيشِ أمْ
مُتَثَاقِلُ (2)
__________
(1) البيتان : من شواهد الفراء في معاني القرآن ( الورقة 278 ) على أن خصمان من
قوله تعالى : " قالوا خصمان " : رفع بإضمار نحن . قال : والعرب تضمر
للمتكلم والمخاطب ما يرفع فعله ، ولا يكادون يفعلون ذلك بغير المخاطب أو المتكلم .
من ذلك أن تقول للرجل : أذاهب ؟ أو أن يقول المتكلم : واصلكم إن شاء الله ، ومحسن
إليكم . من ذلك أن تقول للرجل : أذاهب ؟ أو أن يقول المتكلم : واصلكم إن شاء الله ،
ومحسن إليكم . وذلك أن المتكلم والمكلم حاضران فتعرف معنى أسمائها إذ تركت .
وأكثره في الاستفهام ، يقولون : أجاد ؟ أمنطق وقد يكون في غير الاستفهام . فقوله
" خصمان " من ذلك . وقال الشاعر : " وقولا إذا ... " البيتين
. وقد جاء في آثار للراجع من سفر : " تائبون آيبون ، لربنا حامدون "
..... الخ . قلت : والشاهد في البيتين قوله " نزيعان " : أي نحن نزيعان
. فهو مرفوع على تقدير مضمر قبله ، وإن لم يكن معه استفهام
(2) وهذا البيت أيضاً من شواهد الفراء في معاني القرآن ، على أنه قد يكون المبتدأ
محذوفاً ويكثر أن يكون ذلك مع وجود الاستفهام في الكلام ، كقوله في البيت : أمنطلق
في الجيش أم متثاقل ؟ أي أأنت منطلق ... الخ .
(21/175)
ومنه قولهم : " مُحْسِنة فهيلى
" . وقول النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم : " آئِبُونَ تَائِبُونَ
" . وقوله : " جَاءَ يَوْمَ القِيَامَةِ مَكْتُوبٌ بَيْنَ عَيْنَيْهِ
آيِسٌ مِنْ رَحْمَةِ الله " كلّ ذلك بضمير رَفَعه. وقوله عزّ وجلّ( بَغَى
بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ ) يقول : تعدّى أحدنا على صاحبه بغير حقّ( فَاحْكُمْ
بَيْنَنَا بِالْحَقِّ ) يقول : فاقض بيننا بالعدل( وَلا تُشْطِطْ ) : يقول : ولا
تجُر ، ولا تسرف في حكمك ، بالميل منك مع أحدنا على صاحبه. وفيه لغتان : أشَطَّ ،
وشَطَّ. ومن الإشطاط قول الأحوص :
ألا يا لقَوْمٍ قدْ أشَطَّتْ عَوَاذِلِي... وَيَزْعُمْنَ أنْ أودَى بحَقِّي باطِلي
(1)
ومسموع من بعضهم : شَطَطْتَ عليّ في السَّوم. فأما في البعد فإن أكثر كلامهم : شَطَّتْ
الدار ، فهي تَشِطّ ، كما قال الشاعر :
تَشِطُّ غَدًا دَارُ جِيرَانِنَا... وللدَّارُ بَعْدَ غَدٍ أبْعَدُ (2)
وقوله( وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ ) يقول : وأرشدنا إلى قصد الطريق
المستقيم.
وبنحو الذي قلنا في تأويل قوله( وَلا تُشْطِطْ ) قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( وَلا تُشْطِطْ ) : أي لا
تمل.
حدثنا محمد بن الحسين ، قال : ثنا أحمد بن المفضل ، قال : ثنا أسباط ، عن السديّ(
وَلا تُشْطِطْ ) يقول : لا تُحِف.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله( وَلا تُشْطِطْ
) تخالف عن الحقّ ، وكالذي قلنا أيضا في قوله( وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ
الصِّرَاطِ ) قالوا.
__________
(1) وهذا البيت للأحوص ، وهو كسابقه مروي في اللسان : " شطط " وفي مجاز
القرآن لأبي عبيدة ، شاهداً على أن معنى أشطت ، بالهمز في أوله : أبعدت . وأودى
بحقه : ذهب به وأهلكه .
(2) البيت من شواهد أبي عبيدة في مجاز القرآن ( الورقة 213) عند قوله تعالى :
" ولا تشطط " أي : لا تسرف . وأنشد " تشطط غدا دار جيراننا ...
" البيت . ويقال : كلفتني شططا : منه وشطت الدار : بعدت . أ هـ . وفي اللسان
: ( شطط ) : وفي التنزيل " ولا تشطط " . وقريء " ولا تشطط "
بضم الطاء الأولى ، وفتح التاء ، ومعناها : لا تبعد عن الحق . أ هـ .
(21/176)
إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ (23)
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( وَاهْدِنَا إِلَى
سَوَاءِ الصِّرَاطِ ) إلى عدله وخيره.
حدثنا محمد بن الحسين ، قال : ثنا أحمد بن المفضل ، قال : ثنا أسباط ، عن السديّ(
وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ ) إلى عدل القضاء.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله( وَاهْدِنَا
إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ ) قال : إلى الحق الذي هو الحق : الطريق المستقيم( وَلا
تُشْطِطْ ) تذهب إلى غيرها.
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن بعض أهل العلم ، عن وهب بن
منبه : ( وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ ) : أي احملنا على الحق ، ولا تخالف
بنا إلى غيره.
القول في تأويل قوله تعالى : { إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ
نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي
الْخِطَابِ (23) }
وهذا مثل ضربه الخصم المتسوّرون على داود محرابه له ، وذلك أن داود كانت له فيما
قيل : تسع وتسعون امرأة ، وكانت للرجل الذي أغزاه حتى قُتل امرأة واحدة; فلما قتل
نكح فيما ذكر داود امرأته ، فقال له أحدهما : ( إِنَّ هَذَا أَخِي ) يقول : أخي
على ديني.
كما حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن بعض أهل العلم ، عن وهب
بن منبه : ( إِنَّ هَذَا أَخِي ) : أي على ديني( لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً
وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ ).
وذُكر أن ذلك في قراءة عبد الله : " إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ
وَتِسْعُونَ نَعْجَةً أُنْثَى " وذلك على سبيل توكيد العرب الكلمة ، كقولهم :
هذا رجل ذكر ، ولا
(21/177)
يكادون أن يفعلوا ذلك إلا في المؤنث
والمذكر الذي تذكيره وتأنيثه في نفسه كالمرأة والرجل والناقة ، ولا يكادون أن
يقولوا هذه دار أنثى ، وملحفة أنثى ، لأن تأنيثها في اسمها لا في معناها. وقيل :
عنى بقوله : أنثى : أنها حسنة.
* ذكر من قال ذلك :
حُدثت عن المحاربي ، عن جُوَيبر ، عن الضحاك " إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ
وَتِسْعُونَ نَعْجَةً أُنْثَى " يعني بتأنيثها. حسنها.
وقوله( فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا ) يقول : فقال لي : انزل عنها لي وضمها إليّ.
كما حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله(
أَكْفِلْنِيهَا ) قال : أعطنيها ، طلِّقها لي ، أنكحها ، وخلّ سبيلها.
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن بعض أهل العلم ، عن وهب بن
منبه ، فقال : ( أَكْفِلْنِيهَا ) أي احملني عليها.
وقوله( وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ ) يقول : وصار أعز مني في مخاطبته إياي ، لأنه
إن تكلم فهو أبين مني ، وإن بطش كان أشدّ مني فقهرني.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا جرير ، عن الأعمش ، عن أبي الضحى ، عن مسروق ، قال :
قال عبد الله في قوله( وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ ) قال : ما زاد داود على أن قال
: انزل لي عنها.
حدثنا ابن وكيع ، قال : ثني أبي ، عن المسعودي ، عن المنهال ، عن سعيد بن جُبَير ،
عن ابن عباس قال : ما زاد على أن قال : انزل لي عنها.
وحدثني يحيى بن إبراهيم المسعودي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن جده ، عن الأعمش
، عن مسلم ، عن مسروق ، قال : قال عبد الله : ما زاد داود على أن قال : ( أكفلنيها
).
(21/178)
قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ (24)
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ،
قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، ( وَعَزَّنِي فِي
الْخِطَابِ ) قال : إن دعوت ودعا كان أكثر ، وإن بطشت وبطش كان أشدّ مني ، فذلك
قوله( وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ ).
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( وَعَزَّنِي فِي
الْخِطَابِ ) ; أي ظلمني وقهرني.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله( وَعَزَّنِي فِي
الْخِطَابِ ) قال : قهرني ، وذلك العزّ; قال : والخطاب : الكلام.
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن بعض أهل العلم عن وهب بن
منبه( وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ ) : أي قهرني في الخطاب ، وكان أقوى مني ، فحاز
نعجتي إلى نعاجه ، وتركني لا شيء لي.
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك
يقول في قوله( وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ ) قال : إن تكلم كان أبين مني ، وإن بطش
كان أشدّ مني ، وإن دعا كان أكثر مني.
القول في تأويل قوله تعالى : { قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى
نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ
إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ وَظَنَّ
دَاوُدُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ
(24) }
يقول تعالى ذكره : قال داود للخصم المتظلم من صاحبه : لقد ظلمك صاحبك بسؤاله نعجتك
إلى نعاجه; وهذا مما حذفت منه الهاء فأضيف بسقوط الهاء منه إلى المفعول به ، ومثله
قوله عزّ وجلّ : ( لا يَسْأَمُ الإنْسَانُ مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ ) والمعنى : من
دعائه بالخير ، فلما ألقيت الهاء من الدعاء أضيف إلى الخير ، وألقي من الخير
الباء; وإنما كنى
(21/179)
بالنعجة ها هنا عن المرأة ، والعرب
تفعل ذلك; ومنه قول الأعشى :
قَدْ كُنْتُ رَائِدَهَا وَشاةِ مُحَاذِرٍ... حَذرًا يُقِلُّ بعَيْنِهِ إغْفَالَهَا
(1)
يعني بالشاة : امرأة رجل يحذر الناس عليها; وإنما يعني : لقد ظلمت بسؤال امرأتك
الواحدة إلى التسع والتسعين من نسائه.
وقوله( وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ )
يقول : وإن كثيرا من الشركاء ليتعدَّى بعضهم على بعض( إِلا الَّذِينَ آمَنُوا )
بالله( وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ) يقول : وعملوا بطاعة الله ، وانتهوا إلى أمره
ونهيه ، ولم يتجاوزوه( وَقَلِيلٌ مَا هُمْ ) وفي " ما " التي في قوله(
وَقَلِيلٌ مَا هُمْ ) وجهان : أحدهما أن تكون صلة بمعنى : وقليل هم ، فيكون
إثباتها وإخراجها من الكلام لا يفسد معنى الكلام : والآخر أن تكون اسما ، و "
هم " صلة لها ، بمعنى : وقليل ما تجدهم ، كما يقال : قد كنت أحسبك أعقل مما
أنت ، فتكون أنت صلة لما ، والمعنى : كنت أحسب عقلك أكثر مما هو ، فتكون " ما
" والاسم مصدرا ، ولو لم ترد المصدر لكان الكلام بمن ، لأن من التي تكون
للناس وأشباههم ، ومحكي عن العرب : قد كنت أراك أعقل منك مثل ذلك ، وقد كنت أرى
أنه غير ما هو ، بمعنى : كنت أراه على غير ما رأيت.
ورُوي عن ابن عباس في ذلك ما حدثني به عليّ ، قال : ثنا أبو صالح ، قال : ثني
معاوية ، عن على ، عن ابن عباس ، في قوله( وَقَلِيلٌ مَا هُمْ ) يقول : وقليل
الذين هم.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله( إِلا الَّذِينَ
آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ ) قال : قليل من لا يبغي.
فعلى هذا التأويل الذي تأوله ابن عباس معنى الكلام : إلا الذين آمنوا وعملوا
الصالحات ، وقليل الذين
__________
(1) البيت في ديوان الأعشى ميمون بن قيس ( طبعة القاهرة ص 27 ) من لاميته التي
مطلعها : " رحلت سمية غدوة أجمالها ... " البيت وفيه : " بت "
في مكان " كنت " . والضمير في رائدها : راجع على الأرض التي تزينت
بأنواع النبات في البيت السابق . والشاة من الحيوان : يكنى بها عن المرأة . ومحاذر
: شديد المحاذرة عليها دائم المراقبة لها ، وهو زوجها . وقوله " شاة "
بالجر : معطوف على قوله في بيت سابق : " رب غانية صرمت وصالها " . يقول
: رب مصاب سحابة بت رائدها ، ورب امرأة لها زوج يحذر عليها ويراقبها مراقبة شديدة
، حتى إذا غفل عنها آخر الليل ، دنوت منها .... الخ .
(21/180)
هم كذلك ، بمعنى : الذين لا يبغي بعضهم
على بعض ، و " ما " على هذا القول بمعنى : مَنْ.
وقوله( وَظَنَّ دَاوُدُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ ) يقول : وعلم داود أنما ابتُليناه ،
كما :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( وَظَنَّ دَاوُدُ ) : علم
داود.
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : ثنا ابن عُلَية ، عن أبي رجاء ، عن الحسن( وَظَنَّ
دَاوُدُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ ) قال : ظن أنما ابتُلي بذاك.
حدثني عليّ ، قال : ثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس(
وَظَنَّ دَاوُدُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ ) قال : ظن أنما ابتُلي بذاك.
حدثني عليّ ، قال : ثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس(
وَظَنَّ دَاوُدُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ ) اختبرناه.
والعرب توجه الظن إذا أدخلته على الإخبار كثيرا إلى العلم الذي هو من غير وجه
العيان.
وقوله( فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ ) يقول : فسأل داود ربه غفران ذنبه( وَخَرَّ
رَاكِعًا ) يقول : وخر ساجدا لله( وَأَنَابَ ) يقول : ورجع إلى رضا ربه ، وتاب من
خطيئته.
واختلف في سبب البلاء الذي ابتُلي به نبي الله داود صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم
، فقال بعضهم : كان سبب ذلك أنه تذكر ما أعطى الله إبراهيم وإسحاق ويعقوب من حسن
الثناء الباقي لهم في الناس ، فتمنّى مثله ، فقيل له : إنهم امتُحنوا فصبروا ،
فسأل أن يُبتلى كالذي ابتلوا ، ويُعطى كالذي أعطوا إن هو صبر.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ،
عن ابن عباس ، قوله( وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا
الْمِحْرَابَ ) قال : إن داود قال : يا رب قد أعطيت إبراهيم وإسحاق ويعقوب من
الذكر ما لوددت أنك أعطيتني مثله ، قال الله : إني ابتُليتهم بما لم أبتلك به ،
فإن شئت ابتُليتك بمثل ما ابتُليتهم به ، وأعطيتك كما أعطيتهم ، قال : نعم ، قال
له : فاعمل حتى أرى بلاءك; فكان ما شاء الله أن يكون ، وطال ذلك عليه ، فكاد أن
ينساه; فبينا هو في محرابه ، إذ وقعت عليه حمامة من ذهب فأراد أن يأخذها ، فطار
إلى كوّة المحراب ، فذهب ليأخذها ، فطارت ، فاطلع من الكوّة ، فرأى امرأة تغتسل ،
فنزل نبي الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم من
(21/181)
المحراب ، فأرسل إليها فجاءته ، فسألها
عن زوجها وعن شأنها ، فأخبرته أن زوجها غائب ، فكتب إلى أمير تلك السَّرية أن
يُؤَمِّره على السرايا ليهلك زوجها ، ففعل ، فكان يُصاب أصحابه وينجو ، وربما
نُصروا ، وإن الله عزّ وجلّ لما رأى الذي وقع فيه داود ، أراد أن يستنقذه; فبينما
داود ذات يوم في محرابه ، إذ تسوّر عليه الخصمان من قبل وجهه; فلما رآهما وهو يقرأ
فزع وسكت ، وقال : لقد استضعفت في ملكي حتى إن الناس يستوّرون عليّ محرابي ، قالا
له : ( لا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ ) ولم يكن لنا بد من أن
نأتيك ، فاسمع منا; قال أحدهما : ( إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ
نَعْجَةً ) أنثى( وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا ) يريد أن
يتمم بها مئة ، ويتركني ليس لي شيء( وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ ) قال : إن دعوت
ودعا كان أكثر ، وإن بطشت وبطش كان أشد مني ، فذلك قوله( وَعَزَّنِي فِي
الْخِطَابِ ) قال له داود : أنت كنت أحوج إلى نعجتك منه( لَقَدْ ظَلَمَكَ
بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ ) .. إلى قوله( وَقَلِيلٌ مَا هُمْ ) ونسي
نفسه صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم ، فنظر الملكان أحدهما إلى الآخر حين قال ذلك
، فتبسم أحدهما إلى الآخر ، فرآه داود وظن أنما فتن( فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ
وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ ) أربعين ليلة ، حتى نبتت الخُضرة من دموع عينيه ، ثم
شدّد الله له ملكه.
حدثنا محمد بن الحسين ، قال : ثنا أحمد بن المفضل ، قال : ثنا أسباط ، عن السديّ ،
في قوله( وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ ) قال :
كان داود قد قسم الدهر ثلاثة أيام : يوم يقضي فيه بين الناس ، ويوم يخلو فيه
لعبادة ربه ، ويوم يخلو فيه لنسائه; وكان له تسع وتسعون امرأة ، وكان فيما يقرأ من
الكتب أنه كان يجد فيه فضل إبراهيم وإسحاق ويعقوب; فلما وجد ذلك فيما يقرأ من
الكتب قال : يا رب إن الخير كله قد ذهب به آبائي الذين كانوا قبلي ، فأعطني مثل ما
أعطيتهم ، وافعل بي مثل ما فعلت بهم ، قال : فأوحى الله إليه : إن آباءك ابتُلوا
ببلايا لم تبتل بها; ابتُلي إبراهيم بذبح ابنه ، وابتُلي إسحاق بذهاب بصره ،
وابتُلي يعقوب بحزنه على يوسف ، وإنك لم تبتل من ذلك بشيء ، قال : يا رب ابتلني
بمثل ما ابتُليتهم به ، وأعطني مثل ما أعطيتهم; قال. فأوحي إليه : إنك مبتلى
فاحترس; قال : فمكث بعد ذلك ما شاء الله أن يمكث ، إذ جاءه الشيطان قد تمثّل في
صورة حمامة من ذهب ، حتى وقع عند رجليه وهو قائم يصلي ، فمد يده ليأخذه ، فتنحى
فتبعه ، فتباعد حتى وقع في كوّة ، فذهب ليأخذه ، فطار من الكوّة ، فنظر أين يقع ،
فيبعث في أثره. قال : فأبصر امرأة تغتسل على سطح
(21/182)
لها ، فرأى امرأة من أجمل الناس خَلْقا
، فحانت منها التفاتة فأبصرته ، فألقت شعرها فاستترت به ، قال : فزاده ذلك فيها
رغبة ، قال : فسأل عنها ، فأخبر أن لها زوجا ، وأن زوجها غائب بمسلحة كذا وكذا;
قال : فبعث إلى صاحب المسلحة أن يبعث أهريا (1) إلى عدوّ كذا وكذا ، قال : فبعثه ،
ففتح له. قال : وكتب إليه بذلك ، قال : فكتب إليه أيضا : أن ابعثه إلى عدوّ كذا
وكذا ، أشد منهم بأسا ، قال : فبعثا ففتح له أيضا. قال : فكتب إلى داود بذلك ، قال
: فكتب إليه أن ابعثه إلى عدوّ كذا وكذا ، فبعثه فقتل المرة الثالثة ، قال : وتزوج
امرأته.
قال : فلما دخلت عليه ، قال : لم تلبث عنده إلا يسيرا حتى بعث الله مَلَكين في صور
إنسيين ، فطلبا أن يدخلا عليه ، فوجداه في يوم عبادته ، فمنعهما الحرس أن يدخلا
فتسوّروا عليه المحراب ، قالا فما شعر وهو يصلي إذ هو بهما بين يديه جالسين ، قال
: ففزع منهما ، فقالا( لا تَخَفْ ) إنما نحن( خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى
بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ ) يقول : لا تحف( وَاهْدِنَا
إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ ) : إلى عدل القضاء. قال : فقال : قصّا عليّ قصّتكما ،
قال : فقال أحدهما : ( إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ
نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ ) فهو يريد أن يأخذ نعجتي ، فيكمل بها نعاجه مئة. قال : فقال
للآخر : ما تقول ؟ فقال : إن لي تسعا وتسعين نعجة ، ولأخي هذا نعجة واحدة ، فأنا
أريد أن آخذها منه ، فأكمل بها نعاجي مئة ، قال : وهو كاره ؟ قال : وهو كاره ، قال
: وهو كاره ؟ قال : إذن لا ندعك وذاك ، قال : ما أنت على ذلك بقادر ، قال : فإن
ذهبت تروم ذلك أو تريد ، ضربنا منك هذا هذا وهذا ، وفسر أسباط طرف الأنف ، وأصل
الأنف والجبهة; قال : يا داود أنت أحق أن يُضرب منك هذا وهذا وهذا ، حيث لك تسع
وتسعون نعجة امرأة ، ولم يكن لأهريا إلا امرأة واحدة ، فلم تزل به تعرضه للقتل حتى
قتلته ، وتزوجت امرأته. قال : فنظر فلم ير شيئا ، فعرف ما قد وقع فيه ، وما قد
ابتُلي به. قال : فخر ساجدا ، قال : فبكى. قال : فمكث يبكي ساجدا أربعين يوما لا
يرفع
__________
(1) سيأتي في 149 أن اسمه " أوريا " .
(21/183)
رأسه إلا لحاجة منها ، ثم يقع ساجدا
يبكي ، ثم يدعو حتى نبت العشب من دموع عينيه. قال : فأوحى الله إليه بعد أربعين
يوما : يا داود ارفع رأسك ، فقد غفرت لك ، فقال : يا رب كيف أعلم أنك قد غفرت لي
وأنت حكم عدل لا تحيف في القضاء ، إذا جاءك أهريا يوم القيامة آخذا رأسه بيمينه أو
بشماله تشخب أوداجه دما فى قبل عرشك يقول : يا رب سل هذا فيم قتلني ؟ قال : فأوحى
إليه : إذا كان ذلك دعوت أهريا فأستوهبك منه ، فيهبك لي ، فأثيبه بذلك الجنة ، قال
: رب الآن علمت أنك قد غفرت لي ، قال : فما استطاع أن يملأ عينيه من السماء حياء
من ربه حتى قبض صلى الله عليه وسلم.
حدثني عليّ بن سهل ، قال : ثنا الوليد بن مسلم عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر ،
قال : ثني عطاء الخراساني ، قال : نقش داود خطيئته في كفه لكيلا ينساها ، قال :
فكان إذا رآها خفقت يده واضطربت.
وقال آخرون : بل كان ذلك لعارض كان عرض في نفسه من ظن أنه يطيق أن يتم يوما لا
يصيب فيه حوبة ، فابتُلي بالفتنة التي ابتُلي بها في اليوم الذي طمع في نفسه
بإتمامه بغير إصابة ذنب.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن مطر ، عن الحسن : إن داود
جَزَّأ الدهر أربعة أجزاء : يوما لنسائه ، ويوما لعبادته ، ويوما لقضاء بني
إسرائيل ، ويوما لبني إسرائيل يذاكرهم ويذاكرونه ، ويبكيهم ويبكونه; فلما كان يوم
بني إسرائيل قال : ذكروا فقالوا : هل يأتي على الإنسان يوم لا يصيب فيه ذنبا ؟ فأضمر
داود في نفسه أنه سيطيق ذلك; فلما كان يوم عبادته ، أغلق أبوابه ، وأمر أن لا يدخل
عليه أحد ، وأكب على التوراة; فبينما هو يقرؤها ، فإذا حمامة من ذهب فيها من كل
لون حسن ، قد وقعت بين يديه ، فأهوى إليها ليأخذها ، قال : فطارت ، فوقعت غير بعيد
، من غير أن تُؤيسه من نفسها ، قال : فما زال يتبعها حتى أشرف على امرأة تغتسل ،
فأعجبه خَلْقها وحُسنها; قال : فلما رأت ظله في الأرض ، جللت نفسها بشعرها ، فزاده
ذلك أيضا إعجابا بها ، وكان قد بعث زوجها على بعض جيوشه ، فكتب إليه أن يسير إلى
مكان كذا وكذا ، مكان إذا سار إليه لم يرجع ، قال : ففعل ، فأصيب فخطبها فتزوجها.
قال : وقال قتادة : بلغنا إنها أم سليمان ، قال : فبينما هو في المحراب ، إذ
(21/184)
تسور الملكان عليه ، وكان الخصمان إذا
أتوه يأتونه من بان المحراب ، ففزع منهم حين تسوروا المحراب ، فقالوا : ( لا
تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ ) .. حتى بلغ( وَلا تُشْطِطْ ) :
أي لا تمل( وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ ) : أي أعدله وخيره( إِنَّ هَذَا
أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً ) وكان لداود تسع وتسعون امرأة( وَلِيَ
نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ ) قال : وإنما كان للرجل امرأة واحدة( فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا
وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ ) أي : ظلمني وقهرني ، فقال : ( لَقَدْ ظَلَمَكَ
بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ ) .. إلى قوله( وَقَلِيلٌ مَا هُمْ وَظَنَّ
دَاوُدُ ) فعلم داود أنما صمد له : أي عنى به ذلك( وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ )
قال : وكان في حديث مطر ، أنه سجد أربعين ليلة ، حتى أوحى الله إليه : إني قد غمرت
لك ، قال : رب وكيف تغفر لي وأنت حكم عدل ، لا تظلم أحدا ؟ قال : إني أقضيك له ،
ثم أستوهبه دمك أو ذنبك ، ثم أثيبه حتى يرضى ، قال : الآن طابت نفسي ، وعلمت أنك
قد غفرت لي.
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، قال : ثني محمد بن إسحاق ، عن بعض أهل العلم ،
عن وهب بن منبه اليماني ، قال : لما اجتمعت بنو إسرائيل ، على داود ، أنزل الله
عليه الزبور ، وعلمه صنعة الحديد ، فألانه له ، وأمر الجبال والطير أن يسبِّحن معه
إذا سبح ، ولم يعط الله فيما يذكرون أحدا من خلقه مثل صوته ، كان إذا قرأ الزبور
فيما يذكرون ، تدنو له الوحوش حتى يأخذ بأعناقها ، وإنها لمصيخة تسمع لصوته ، وما
صنعت الشياطين المزامير والبرابط والصنوج ، إلا على أصناف صوته ، وكان شديد
الاجتهاد دائب العبادة ، فأقام في بني إسرائيل يحكم فيهم بأمر الله نبيا مستخلفا ،
وكان شديد الاجتهاد من الأنبياء ، كثير البكاء ، ثم عرض من فتنة تلك المرأة ما عرض
له ، وكان له محراب يتوحَّد فيه لتلاوة الزبور ، ولصلاته إذا صلى ، وكان أسفل منه
جنينة لرجل من بني إسرائيل ، كان عند ذلك الرجل المرأة التي أصاب داود فيها ما
أصابه
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، عن محمد بن إسحاق ، عن بعض أهل العلم ، عن وهب
بن منبه ، أن داود حين دخل محرابه ذلك اليوم ، قال : لا يدخلن عليّ محرابي اليوم
أحد حتى الليل ، ولا يشغلني شيء عما خلوت له حتى أمسي; ودخل محرابه ، ونشر زبوره
يقرؤه وفي المحراب كوّة تطلعه على تلك الجنينة ، فبينا هو جالس يقرأ زبور ، إذ
أقبلت حمامة من ذهب حتى وقعت في الكوّة ، فرفع رأسه فرآها ، فأعجبته ، ثم ذكر ما
كان قال : لا يشغله شيء عما دخل له ، فنكَّس رأسه وأقبل على زَبوره ، فتصوبت
(21/185)
الحمامة للبلاء والاختبار من الكوّة ،
فوقعت بين يديه ، فتناولها بيده ، فاستأخرت غير بعيد ، فاتبعها ، فنهضت إلى الكوّة
، فتناولها في الكوّة ، فتصوبت إلى الجنينة ، فأتبعها بصره أين تقع ، فإذا المرأة
جالسة تغتسل بهيئة الله أعلم بها في الجمال والحُسن والخَلْق; فيزعمون أنها لما
رأته نقضت رأسها فوارت به جسدها منه ، واختطفت قلبه ، ورجع إلى زَبوره ومجلسه ،
وهي من شأنه لا يفارق قلبه ذكرها. وتمادى به البلاء حتى أغزى زوجها ، ثم أمر صاحب
جيشه فيما يزعم أهل الكتاب أن يقدم زوجها للمهالك حتى أصابه بعض ما أراد به من
الهلاك ، ولداود تسع وتسعون امرأة; فلما أصيب زوجها خطبها داود ، فنكحها ، فبعث
الله إليه وهو في محرابه ملَكين يختصمان إليه ، مثلا يضربه له ولصاحبه ، فلم يرع
داود إلا بهما واقفين على رأسه في محرابه ، ففال : ما أدخلكما عليّ ؟ قالا لا تخف
لم ندخل لبأس ولا لريبة( خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ ) فجئناك لتقضي
بيننا( فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ
الصِّرَاطِ ) : أي احملنا على الحقّ ، ولا تخالف بنا إلى غيره; قال الملك الذي
يتكلم عن أوريا بن حنانيا زوج المرأة : ( إِنَّ هَذَا أَخِي ) أي على ديني( لَهُ
تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا )
أي احملني عليها ، ثم عزّني في الخطاب : أي قهرني في الخطاب ، وكان أقوى مني هو
وأعزّ ، فحاز نعجتي إلى نعاجه وتركني لا شيء لي; فغضب داود ، فنظر إلى خصمه الذي
لم يتكلم ، فقال : لئن كان صدقني ما يقول ، لأضربن بين عينيك بالفأس! ثم ارعوى
داود ، فعرف أنه هو الذي يراد بما صنع في امرأة أوريا ، فوقع ساجدا تائبا منيبا
باكيا ، فسجد أربعين صباحا صائما لا يأكل فيها ولا يشرب ، حتى أنبت دمعه الخضر تحت
وجهه ، وحتى أندب السجود في لحم وجهه ، فتاب الله عليه وقبل منه.
ويزعمون أنه قال : أي رب هذا غفرت ما جنيت في شأن المرأة ، فكيف بدم القتيل
المظلوم ؟ قيل له : يا داود ، فيما زعم أهل الكتاب ، أما إن ربك لم يظلمه بدمه ،
ولكنه سيسأله إياك فيعطيه ، فيضعه عنك; فلما فرج عن داود ما كان فيه ، رسم خطيئته
في كفه اليمنى بطن راحته ، فما رفع إلى فيه طعاما ولا شرابا قط إلا بكى إذا رآها ،
وما قام خطيبا في الناس قط إلا نشر راحته ، فاستقبل بها الناس ليروا رسم خطيئته في
يده.
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : ثنا ابن إدريس ، قال : سمعت ليثا يذكر عن مجاهد
قال : لما أصاب داود الخطيئة خر لله ساجدا أربعين يوما حتى نبت من دموع
(21/186)
عينيه من البقل ما غطَّى رأسه; ثم نادى
: رب قرح الجبين ، وَجمَدت العين ، وداود لم يرجع إليه في خطيئته شيء ، فنودي :
أجائع فتطعم ، أم مريض فتشفى ، أم مظلوم فينتصر لك ؟ قال : فنحب نحبة هاج كلّ شيء
كان نبت ، فعند ذلك غفر له. وكانت خطيئته مكتوبة بكفه يقرؤها ، وكان يؤتى بالإناء
ليشرب فلا يشرب إلا ثلثه أو نصفه ، وكان يذكر خطيئته ، فينحِب النَّحْبة تكاد
مفاصله تزول بعضها من بعض ، ثم ما يتم شرابه حتى يملأه من دموعه; وكان يقال : إن
دمعة داود ، تعدل دمعة الخلائق ، ودمعة آدم تعدل دمعة داود ودمعة الخلائق ، قال :
فهو يجيء يوم القيامة خطيئته مكتوبة بكفه ، فيقول : رب ذنبي ذنبي قدّمني ، قال :
فيقدّم فلا يأمن فيقول : ربّ أخِّرني فيؤخَّر فلا يأمن.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرني ابن لَهِيعة ، عن أبي صخر ، عن
يزيد الرقاشي ، عن أنس بن مالك سمعه يقول : سمعت رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ
وَسَلَّم يقول : " إنَّ دَاوُدَ النَّبِيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم
حِينَ نَظَرَ إلَى المَرْأَةِ فَأَهَمَّ ، قَطَعَ عَلَى بَنِي إسْرَائِيلَ ،
فَأَوْصَى صَاحِبَ البَعْثِ ، فَقَالَ : إذَا حَضَرَ العَدُوُّ ، فَقَرَّبَ
فُلانًا بَيْنَ يَدَيِ التَّابُوتِ ، وَكَانَ التَّابُوتُ فِي ذَلِكَ الزَّمانِ
يُسْتَنْصَرُ بِهِ ، وَمَنْ قُدّمَ بَيْنَ يَدَيِ التَّابُوتِ لَمْ يَرْجِعْ
حَتَّى يُقْتَلَ أوْ يُهْزَمَ عَنْهُ الجَيْشُ ، فَقُتِلَ زُوْجُ المَرْأَةِ
وَنزلَ المَلَكَانِ عَلى دَاوُدَ يَقُصَّانِ عَلَيْهِ قِصَّتَهُ ، فَفَطِنَ
دَاوُدُ فَسَجَدَ ، فَمَكَثَ أرْبَعِينَ لَيْلَةً سَاجِدًا حَتَّى نَبَتَ
الزَّرْعُ مِنْ دُمُوعِهِ عَلَى رَأْسِهِ ، وَأَكَلَتِ الأرْضُ جَبِينَهُ وَهُوَ
يَقُولُ فِي سُجُودِهِ " فَلَمْ أُحْصِ مِنَ الرّقاشيِّ إلا هؤلاء الكلمات :
" رَبِّ زَلَّ دَاوُدُ أبْعَدُ مَا بَيْنَ المَشْرِقِ وَالمَغْرِبِ ، إنْ
لَمْ تَرْحَمْ ضَعْفَ دَاوُدَ وَتَغْفِرْ ذَنْبَهُ ، جَعَلْتُ ذَنْبَهُ حَدِيثًا
فِي الخُلُوفِ مِنْ بَعْدِهِ ، فَجَاءَهُ جِبْرَائِيلُ صَلَّى الله عَلَيْهِ
وَسَلَّم مِنْ بَعْدِ الأرْبَعِينَ لَيْلَةً ، قَالَ : يَا دَاوُدُ إنَّ الله قَدْ
غَفَرَ لَكَ الهَمَّ الَّذِي هَمَمْتَ بِهِ ، فَقَالَ دَاوُدُ : عَلِمْت أن الرب
قادر على أن يغفر لي الهم الذي هممت به ، وقد عرفت أن الله عدل لا يميل فكيف بفلان
إذا جاء يوم القيامة فقال : يا رب دمي الذي عنْدَ دَاوُدَ ، فَقالَ جِبْرائيل
صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم : ما سألْتُ رَبَّكَ عَنْ ذلكَ ، وَلَئنْ شِئْتَ
لأفْعَلَنَّ ، فقال : نَعَمْ ، فَعَرجَ جِبْريلُ وَسَجَدَ دَاوُدُ ، فَمَكَثَ ما
شاء الله ، ثُمَّ نزلَ فَقَالَ : قَدْ سَأَلت رَبَّكَ عَزَّ وجَلّ َيا دَاوُدُ
عَنِ الَّذي أرْسَلْتَنِي فِيهِ ، فَقَالَ : قُلْ لِدَاوُدَ : إنَّ الله
يَجْمَعُكُما يَوْمَ القِيَامَةِ فَيَقُولُ : هَبْ لي دَمَكَ الَّذِي عِنْدَ
دَاوُدَ ، فَيَقُولُ : هُوَ لَك يا رَبّ ، فَيَقُولُ : فإنَّ لَكَ فِي الجَنَّةِ
ما شِئْتَ وَما اشْتَهَيْتَ عِوَضًا).
(21/187)
فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآَبٍ (25) يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ (26)
حدثنني عليّ بن سهل ، قال : ثنا الوليد
بن مسلم ، قال : ثنا ابن جابر ، عن عطاء الخراسانيّ : أن كتاب صاحب البعث جاء ينعي
من قُتل ، فلما قرأ داود نعي رجل منهم رجع ، فلما انتهى إلى اسم الرجل قال : كتب
الله على كل نفس الموت ، قال : فلما انقضت عِدّتها خطبها.
القول في تأويل قوله تعالى : { فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا
لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ (25) يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي
الأرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى
فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ
اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ (26) }
يعني تعالى ذكره بقوله( فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ ) فعفونا عنه ، وصفحنا له عن أن
نؤاخذه بخطيئته وذنبه ذلك( وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى ) يقول : وإن له
عندنا للقُرْبة منا يوم القيامة.
وبنحو الذي قلنا في قوله( فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ ) قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ
) الذنب.
وقوله( وَحُسْنُ مَآبٍ ) يقول : مَرْجع ومنقَلب ينقلب إليه يوم القيامة.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( وَحُسْنُ مَآبٍ ) : أي
حسن مصير.
حدثنا محمد ، قال : ثنا أحمد ، قال : ثنا أسباط ، عن السديّ ، قوله : .( وَحُسْنُ
مَآبٍ ) قال : حسن المنقلب.
(21/188)
وقوله( يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ
خَلِيفَةً فِي الأرْضِ ) يقول تعالى ذكره : وقلنا لداود : يا داود إنا استخلفناك
في الأرض من بعد من كان قبلك من رسلنا حكما ببن أهلها.
كما حدثنا محمد ، قال : ثنا أحمد ، قال : ثنا أسباط ، عن السديّ( إِنَّا
جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً ) ملَّكه في الأرض( فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ )
يعني : بالعدل والإنصاف( وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى ) يقول : ولا تؤثر هواك في قضائك
بينهم على الحق والعدل فيه ، فتجور عن الحقّ( فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ )
يقول : فيميل بك اتباعك هواك في قضائك على العدل والعمل بالحقّ عن طريق الله الذي
جعله لأهل الإيمان فيه ، فتكون من الهالكين بضلالك عن سبيل الله.
وقوله( إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ
بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ ) يقول تعالى ذكره : إن الذين يميلون عن سبيل الله
، وذلك الحقّ الذي شرعه لعباده ، وأمرهم بالعمل به ، فيجورون عنه في الدنيا ، لهم
في الآخرة يوم الحساب عذاب شديد على ضلالهم عن سبيل الله بما نسوا أمر الله ، يقول
: بما تركوا القضاء بالعدل ، والعمل بطاعة الله( يَوْمِ الْحِسَابِ ) من صلة
العذاب الشديد.
وبنحو الذي قلنا في تأويل ذلك ، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : ثنا هشيم ، قال : أخبرنا العوّام ، عن عكرمة ، في
قوله( عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ ) قال : هذا من التقديم
والتأخير ، يقول : لهم يوم الحساب عذاب شديد بما نسوا.
حدثنا محمد ، قال : ثنا أحمد ، قال : ثنا أسباط ، عن السديّ ، قوله( بِمَا نَسُوا
يَوْمَ الْحِسَابِ ) قال : نُسوا : تركوا.
(21/189)
وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ (27) أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ (28) كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آَيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ (29)
القول في تأويل قوله تعالى : { وَمَا
خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ
كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ (27) أَمْ نَجْعَلُ
الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الأرْضِ أَمْ
نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ (28) كِتَابٌ أَنزلْنَاهُ إِلَيْكَ
مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الألْبَابِ (29) }
يقول تعالى ذكره : ( وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا )
عبثا ولهوا ، ما خلقناهما إلا ليعمل فيهما بطاعتنا ، وينتهى إلى أمرنا ونهينا.
( ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا ) يقول : أي ظنّ أنَّا خلقنا ذلك باطلا ولعبا ،
ظنّ الذين كفروا بالله فلم يُوَحِّدُوه ، ولم يعرفوا عظمته ، وأنه لا ينبغي أن
يَعْبَث ، فيتيقنوا بذلك أنه لا يخلق شيئا باطلا.( فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا
مِنَ النَّارِ ) يعني : من نار جهنم. وقوله( أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا
وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الأرْضِ ) يقول : أنجعل الذين
صدقوا الله ورسوله وعملوا بما أمر الله به ، وانتهوا عما نهاهم عنه(
كَالْمُفْسِدِينَ فِي الأرْضِ ) يقول : كالذين يشركون بالله ويعصونه ويخالفون أمره
ونهيه.
( أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ ) يقول : الذين اتقوا الله بطاعته وراقبوه ، فحذروا
معاصيه( كَالْفُجَّارِ ) يعني : كالكفار المنتهكين حرمات الله.
وقوله( كِتَابٌ أَنزلْنَاهُ إِلَيْكَ ) يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صَلَّى الله
عَلَيْهِ وَسَلَّم : وهذا القرآن( كِتَابٌ أَنزلْنَاهُ إِلَيْكَ ) يا محمد(
مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ ) يقول : ليتدبَّروا حُجَج الله التي فيه ، وما
شرع فيه من شرائعه ، فيتعظوا ويعملوا به.
واختلفت القرّاء في قراءة ذلك ، فقرأته عامة القراء : ( لِيَدَّبَّرُوا ) بالياء ،
يعني : ليتدبر هذا القرآن من أرسلناك إليه من قومك يا محمد. وقراءة أبو جعفر وعاصم
" لتَدَّبَّرُوا آياته " بالتاء ، بمعنى : لتتدبره أنت يا محمد وأتباعك.
وأولى القراءتين عندنا بالصواب في ذلك أن يقال : إنهما قراءتان مشهورتان
(21/190)
وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (30) إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ (31) فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ (32) رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ (33)
صحيحتا المعنى ، فبأيتهما قرأ القارئ
فمصيب( وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الألْبَابِ ) يقول : وليعتبر أولو العقول والحِجَا
ما في هذا الكتاب من الآيات ، فيرتدعوا عما هم عليه مقيمين من الضلالة ، وينتهوا
إلى ما دلهم عليه من الرشاد وسبيل الصواب.
وبنحو الذي قلنا في معنى قوله( أُولُو الألْبَابِ ) قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد ، قال : ثنا أحمد ، قال : ثنا أسباط ، عن السديّ( أُولُو الألْبَابِ )
قال : أولو العقول من الناس ، وقد بيَّنا ذلك فيما مضى قبل بشواهده ، بما أغنى عن
إعادته في هذا الموضع.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَوَهَبْنَا لِدَاوُدَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ
الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (30) إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ
الْجِيَادُ (31) فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي
حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ (32) رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحًا
بِالسُّوقِ وَالأعْنَاقِ (33) }
يقول تعالى ذكره( وَوَهَبْنَا لِدَاوُدَ سُلَيْمَانَ ) ابنه ولدا( نِعْمَ
الْعَبْدُ ) يقول : نعم العبد سليمان( إِنَّهُ أَوَّابٌ ) يقول : إنه رجاع إلى
طاعة الله توّاب إليه مما يكرهه منه. وقيل : إنه عُنِي به أنه كثير الذكر لله
والطاعة.
(21/191)
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : شي عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن
ابن عباس( نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ ) قال : الأواب : المسبّح.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( نِعْمَ الْعَبْدُ
إِنَّهُ أَوَّابٌ ) قال : كان مطيعًا لله كثير الصلاة.
حدثنا محمد ، قال : ثنا أحمد ، قال : ثنا أسباط ، عن السديّ ، قوله( نِعْمَ
الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ ) قال : المسبِّح.
والمسبِّح قد يكون في الصلاة والذكر. وقد بيَّنَّا معنى الأوّاب ، وذكرنا اختلاف
أهل التأويل فيه فيما مضى بما أغنى عن إعادته هاهنا.
وقوله( إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ ) يقول تعالى
ذكره : إنه تواب إلى الله من خطيئته التي أخطأها ، إذ عرض عليه بالعشي الصافنات;
فإذ من صلة أواب ، والصافنات : جمع الصافن من الخيل ، والأنثى : صافنة ، والصافن
منها عند بعض العرب : الذي يجمع بين يديه ، ويثني طرف سنبك إحدى رجليه ، وعند
آخرين : الذي يجمع يديه. وزعم الفرّاء أن الصافن : هو القائم ، يقال منه : صَفَنَتِ
الخيلُ تَصْفِن صُفُونًا.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن
مجاهد ، في قول الله : ( الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ ) قال : صُفُون الفرس : رَفْع
إحدى يديه حتى يكون على طرف الحافر.
حدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد :
صَفَنَ الفرسُ : رفع إحدى يديه حتى يكون على طرف الحافر.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( إِذْ عُرِضَ
(21/192)
عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ
الْجِيَادُ ) يعني : الخيل ، وصُفونها : قيامها وبَسْطها قوائمها.
حدثنا محمد ، قال : ثنا أحمد ، قال : ثنا أسباط ، عن السديّ : الصافنات ، قال :
الخيل.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله( الصَّافِنَاتُ
الْجِيَادُ ) قال : الخيل أخرجها الشيطان لسليمان ، من مرج من مروج البحر. قال :
الخيل والبغال والحمير تَصْفِن ، والصَّفْن (1)
أن تقوم على ثلاث ، وترفع رجلا واحدة حتى يكون طرف الحافر على الأرض.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد : الصافنات : الخيل ، وكانت
لها أجنحة.
وأما الجياد ، فإنها السِّراع ، واحدها : جواد.
كما حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث ،
قاله. ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : الجياد :
قال : السِّراع.
وذُكر أنها كانت عشرين فرسا ذوات أجنحة.
* ذكر الخبر بذلك :
حدثنا محمد بن بشار ، قال : ثنا مؤمل ، قال : ثنا سفيان ، عن أبيه ، عن إبراهيم
التيمي ، في قوله( إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ )
قال : كانت عشرين فرسا ذات أجنحة.
وقوله( فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى
تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ ) وفي هذا الكلام محذوف استغني بدلالة الظاهر عليه من ذكره
: فَلَهِيَ عن الصلاة حتى فاتته ، فقال : إني أحببت حب الخير. ويعني بقوله(
فَقَالَ إِنِّي
__________
(1) لم نجد " الصفن " بسكون الفاء مصدرا لصفنت الخيل ، وإنما مصدره
الصفون مثل جلس يجلس جلوسا ، وهو القياس ، لأن الفعل لازم ، والصفن : مصدر للمعتدي
.
(21/193)
أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ ) : أي
المال والخيل ، أو الخير من المال.
حدثنا أبو كُرَيب ، قال : ثنا ابن يمان ، عن سفيان ، عن السُّدِّيّ( فَقَالَ
إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ ) قال : الخيل.
حدثنا محمد ، قال : ثنا أحمد ، قال : ثنا أسباط ، عن السديّ ، قوله( إِنِّي
أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ ) قال : المال.
وقوله( عَنْ ذِكْرِ رَبِّي ) يقول : إني أحببت حب الخير حتى سهوت عن ذكر ربي وأداء
فريضته. وقيل : إن ذلك كان صلاة العصر.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( عَنْ ذِكْرِ رَبِّي ) عن
صلاة العصر.
حدثنا محمد ، قال : ثنا أحمد ، قال : ثنا أسباط ، عن السديّ( عَنْ ذِكْرِ رَبِّي )
قال. صلاة العصر. حدثنا محمد بن عبد الله بن عبد الحكم ، قال : ثنا أبو زرعة ، قال
: ثنا حيوة بن شريح ، قال : ثنا أبو صخر ، أنه سمع أبا معاوية البجلي من أهل
الكوفة يقول : سمعت أبا الصَّهباء البكري يقول : سألت عليّ بن أبي طالب ، عن
الصلاة الوسطى ، فقال : هي العصر ، وهي التي فُتِن بها سليمان بن داود.
وقوله( حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ ) يقول : حتى توارت الشمس بالحجاب ، يعني :
تغيبت في مغيبها. كما حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، قال : ثنا ميكائيل ، عن
داود بن أبي هند ، قال : قال ابن مسعود ، في قوله( إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ
الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ ) قال : توارت الشمس
من وراء ياقوتة خضراء ، فخضرة السماء منها.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( حَتَّى تَوَارَتْ
(21/194)
بِالْحِجَابِ ) حتى دَلَكَتْ براح. قال
قتادة : فوالله ما نازعته بنو إسرائيل ولا كابروه ، ولكن ولوه من ذلك ما ولاه
الله.
حدثنا محمد بن الحسين ، قال : ثنا أحمد بن المفضل ، قال : ثنا أسباط ، عن السديّ(
حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ ) حتى غابت.
وقوله( رُدُّوهَا عَلَيَّ ) يقول : ردّوا عليّ الخيل التي عرضت عليّ ، فشغلتني عن
الصلاة ، فكروها عليّ.
كما حدثني محمد بن الحسين ، قال : ثنا أحمد بن المفضل ، قال : ثنا أسباط ، عن
السديّ( رُدُّوهَا عَلَيَّ ) قال : الخيل.
وقوله( فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالأعْنَاقِ ) يقول : فجعل يمسح منها السوق ،
وهي جمع الساق ، والأعناق.
واختلف أهل التأويل في معنى مسح سليمان بسوق هذه الخيل الجياد وأعناقها ، فقال
بعضهم : معنى ذلك أنه عقرها وضرب أعناقها ، من قولهم : مَسَحَ علاوته : إذا ضرب
عنقه.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( فَطَفِقَ مَسْحًا
بِالسُّوقِ وَالأعْنَاقِ ) قال : قال الحسن : قال لا والله لا تشغليني عن عبادة
ربي آخر ما عليك ، قال قولهما فيه ، يعني قتادة والحسن قال : فكَسَف عراقيبها ،
وضرب أعناقها.
حدثنا محمد ، قال : ثنا أحمد ، قال : ثنا أسباط ، عن السديّ( فَطَفِقَ مَسْحًا
بِالسُّوقِ وَالأعْنَاقِ ) فضرب سوقها وأعناقها.
حدثنا محمد بن عبد الله بن بزيع ، قال : ثنا بشر بن المفضل ، عن
(21/195)
وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ (34) قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (35)
عوف ، عن الحسن ، قال : أمر بها فعقرت.
وقال آخرون : بل جعل يمسح أعرافها وعراقيبها بيده حُبًّا لها.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : ثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ،
قوله( فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالأعْنَاقِ ) يقول : جعل يمسح أعراف الخيل
وعراقيبها : حبا لها.
وهذا القول الذي ذكرناه عن ابن عباس أشبه بتأويل الآية ، لأن نبيّ الله صَلَّى
الله عَلَيْهِ وَسَلَّم لم يكن إن شاء الله ليعذب حيوانًا بالعرقبة ، ويهلك مالا
من ماله بغير سبب ، سوى أنه اشتغل عن صلاته بالنطر إليها ، ولا ذنب لها باشتغاله
بالنظر إليها.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى
كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ (34) قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي
مُلْكًا لا يَنْبَغِي لأحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (35) }
يقول تعالى ذكره : ولقد ابتُلينا سليمان وألقينا على كرسيه جسدا شيطانا متمثلا
بإنسان ، ذكروا أن اسمه صخر. وقيل : إن اسمه آصَف. وقيل : إن اسمه آصر. وقيل : إن
اسمه حبقيق.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : ثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ،
قوله( وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ) قال : هو صخر الجنيّ تمثَّل على
كرسيه جسدا.
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثنى أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ،
عن ابن عباس ، قوله( وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى
كُرْسِيِّهِ
(21/196)
جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ ) قال : الجسد :
الشيطان الذي كان دفع إليه سليمان خاتمه ، فقذفه في البحر ، وكان مُلك سليمان في
خاتمه ، وكان اسم الجنيّ صخرا.
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا أبو داود ، قال : ثنا مبارك ، عن الحسن( وَأَلْقَيْنَا
عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ) قال : شيطانا.
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا أبو داود ، قال : ثنا ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن
مجاهد( وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ) قال : شيطانا يقال له آصر.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث ، قال :
ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله( عَلَى
كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ) قال : شيطانا يقال له آصف ، فقال له سليمان : كيف تفتنون
الناس ؟ قال : أرني خاتمك أخبرك. فلما أعطاه إياه نبذه آصف في البحر ، فساح سليمان
وذهب مُلكه ، وقعد آصف على كرسيه ، ومنعه الله نساء سليمان ، فلم يقربهنّ ،
وأنكرنه; قال : فكان سليمان يستطعم فيقول : أتعرفوني أطعموني أنا سليمان ،
فيكذّبونه ، حتى أعطته امرأة يوما حوتا يطيب بطنه ، فوجد خاتمه في بطنه ، فرجع
إليه مُلكه ، وفر آصف فدخل البحر فارّا.
حدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد
بنحوه ، غير أنه قال في حديثه : فيقول : لو تعرفوني أطعمتموني.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله( وَلَقَدْ
فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ )
قال : حدثنا قتادة أن سلمان أمر ببناء بيت المقدس ، فقيل له : ابنه ولا يسمع فيه
صوت حديد ، قال : فطلب ذلك فلم يقدر عليه ، فقيل له : إن شيطانا في البحر يقال له
صخر شبه المارد ، قال : فطلبه ، وكانت عين في البحر يردها في كلّ سبعة أيام مرّة ،
فنزح ماؤها
(21/197)
وجعل فيها خمر ، فجاء يوم وروده فإذا
هو بالخمر ، فقال : إنك لشراب طيب ، إلا أنك تصبين الحليم ، وتزيدين الجاهل جهلا
قال : ثم رجع حتى عطش عطشا شديدا ، ثم أتاها فقال : إنك لشراب طيب ، إلا أنك تصبين
الحليم ، وتزيدين الجاهل جهلا قال : ثم شربها حتى غلبت على عقله ، قال : فأري
الخاتم أو ختم به بين كتفيه ، فذلّ ، قال : فكان مُلكه في خاتمه ، فأتى به سليمان
، فقال : إنا قد أمرنا ببناء هذا البيت. وقيل لنا : لا يسمعنّ فيه صوت حديد ، قال
: فأتى ببيض الهدهد ، فجعل عليه زجاجة ، فجاء الهدهد ، فدار حولها ، فجعل يرى بيضه
ولا يقدر عليه ، فذهب فجاء بالماس ، فوضعه عليه ، فقطعها به حتى أفضى إلى بيضه ،
فأخذ الماس ، فجعلوا يقطعون به الحجارة ، فكان سليمان إذا أراد أن يدخل الخلاء أو
الحمام لم يدخلها بخاتمه; فانطلق يوما إلى الحمام ، وذلك الشيطان صخر معه ، وذلك
عند مقارفة ذنب قارف فيه بعض نسائه ، قال : فدخل الحمام ، وأعطى الشيطان خاتمه ،
فألقاه في البحر ، فالتقمته سمكة ، ونزع مُلك سليمان منه ، وألقي على الشيطان شبه
سليمان; قال : فجاء فقعد على كرسيه وسريره ، وسلِّط على ملك سليمان كله غير نسائه;
قال : فجعل يقضي بينهم ، وجعلوا ينكرون منه أشياء حتى قالوا : لقد فُتِن نبيّ
الله; وكان فيهم رجل يشبهونه بعمر بن الخطَّاب في القوّة ، فقال : والله لأجربنه;
قال : فقال له : يا نبيّ الله ، وهو يرى إلا أنه نبيّ الله ، أحدنا تصيبه الجَنابة
في الليلة الباردة ، فيدع الغسل عمدا حتى تطلع الشمس ، أترى عليه بأسا ؟ قال : لا
قال : فبينا هو كذلك أربعين ليلة حتى وجد نبي الله خاتمه في بطن سمكة ، فأقبل فجعل
لا يستقبله جنيّ ولا طير إلا سجد له ، حتى انتهى إليهم( وَأَلْقَيْنَا عَلَى
كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ) قال : هو الشيطان صخر.
حدثنا محمد بن الحسين ، قال : ثنا أحمد ، قال : ثنا أسباط ، عن السديّ ، في قوله(
وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ ) قال : لقد ابتلينا( وَأَلْقَيْنَا عَلَى
كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ) قال : الشيطان حين جلس على كرسيه أربعين يوما; قال : كان
لسليمان مئة امرأة ، وكانت امرأة منهنّ يقال لها جرادة ، وهي آثر نسائه عنده ،
وآمنهن
(21/198)
عنده ، وكان إذا أجنب أو أتى حاجة نزع
خاتمه ، ولم يأتمن عليه أحد من الناس غيرها; فجاءته يوما من الأيام ، فقالت : إن
أخي بينه وبين فلان خصومة ، وأنا أحب أن تقضي له إذا جاءك ، فقال لها : نعم ، ولم
يفعل ، فابتُلي وأعطاها خاتمه ، ودخل المخرج ، فخرج الشيطان في صورته ، فقال لها :
هاتي الخاتم ، فأعطته ، فجاء حتى جلس على مجلس سليمان ، وخرج سليمان بعد ، فسألها
أن تعطيه خاتمه ، فقالت : ألم تأخذه قبل ؟ قال : لا وخرج مكانه تائها; قال : ومكث
الشيطان يحكم بين الناس أربعين يوما. قال : فأنكر الناس أحكامه ، فاجتمع قرّاء بني
إسرائيل وعلماؤهم ، فجاءو ا حتى دخلوا على نسائه ، فقالوا : إنا قد أنكرنا هذا ،
فإن كان سليمان فقد ذهب عقله ، وأنكرنا أحكامه. قال : فبكى النساء عند ذلك ، قال :
فأقبلوا يمشون حتى أتوه ، فأحدقوا به ، ثم نشروا التوراة ، فقرءوا; قال : فطار من
بين أيديهم حتى وقع على شرفة والخاتم معه ، ثم طار حتى ذهب إلى البحر ، فوقع
الخاتم منه في البحر ، فابتلعه حوت من حيتان البحر. قال : وأقبل سليمان في حاله
التي كان فيها حتى انتهى إلى صياد من صيادي البحر وهو جائع ، وقد اشتدّ جوعه ،
فاستطعمهم من صيدهم ، قال : إني أنا سليمان ، فقام إليه بعضهم فضربه بعصا فشجَّه ،
فجعل يغسل دمه وهو على شاطئ البحر ، فلام الصيادون صاحبهم الذي ضربه ، فقالوا :
بئس ما صنعت حيث ضربته ، قال : إنه زعم أنه سليمان ، قال : فأعطوه سمكتين مما قد
مَذِر عندهم ، ولم يشغله ما كان به من الضرر ، حتى قام إلى شطّ البحر ، فشقّ
بطونهما ، فجعل يغسل... ، فوجد خاتمه في بطن إحداهما ، فأخذه فلبسه ، فرد الله
عليه بهاءه وملكه ، وجاءت الطير حتى حامت عليه ، فعرف القوم أنه سليمان ، فقام
القوم يعتذرون مما صنعوا ، فقال : ما أحمدكم على عذركم ، ولا ألومكم على ما كان
منكم ، كان هذا الأمر لا بُدّ منه ، قال : فجاء حتى أتى ملكه ، فأرسل إلى الشيطان
فجيء به ، وسخر له الريح والشياطين يومئذ ، ولم تكن سخرت له قبل ذلك ، وهو قوله(
وَهَبْ لِي مُلْكًا لا يَنْبَغِي لأحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ
) قال : وبعث إلى الشيطان ، فأتي به ، فأمر به فجعل في صندوق من حديد ، ثم أطبق
عليه فأقفل عليه بقفل ، وختم عليه بخاتمه ، ثم أمر به ، فألقي في البحر ، فهو فيه
حتى تقوم الساعة ، وكان اسمه حبقيق.
وقوله( ثُمَّ أَنَابَ ) سليمان ، فرجع إلى ملكه من بعد ما زال عنه ملكه فذهب.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حُدثت عن المحاربي ، عن عبد الرحمن ، عن جُوَيبر ، عن الضحاك ، في قوله( ثُمَّ
أَنَابَ ) قال : دخل سليمان على امرأة تبيع السمك ، فاشترى منها سمكة ، فشقّ بطنها
، فوجد خاتمه ، فجعل لا يمر على شجر ولا حجر ولا شيء إلا سجد له ، حتى أتى مُلكه
وأهله ، فذلك قوله;( ثُمَّ أَنَابَ ) يقول : ثم رجع.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( ثُمَّ أَنَابَ ) وأقبل ،
يعني سليمان.
قوله( قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لا يَنْبَغِي لأحَدٍ مِنْ
بَعْدِي ) يقول تعالى ذكره : قال سليمان راغبا إلى ربه : ربّ استر عليّ ذنبي الذي
أذنبت بيني وبينك ، فلا تعاقبني به( وَهَبْ لِي مُلْكًا لا يَنْبَغِي لأحَدٍ مِنْ
بَعْدِي ) لا يسلبنيه أحدكما كما سلبنيه قبل هذه الشيطان.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي
وَهَبْ لِي مُلْكًا لا يَنْبَغِي لأحَدٍ مِنْ بَعْدِي ) يقول : ملكا لا أسلَبه كما
سُلبتُه. وكان بعض أهل العربية يوجه معنى قوله( لا يَنْبَغِي لأحَدٍ مِنْ بَعْدِي
) إلى : أن لا يكون لأحد من بعدي ، كما قال ابن أحمر :
ما أُمُّ غُفْرٍ على دعْجَاءَ ذي عَلَقٍ... يَنْفي القَراميدَ عنها الأعْصَمُ الوَقِلُ
(21/199)
فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ (36) وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ (37) وَآَخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ (38) هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ (39) وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآَبٍ (40)
في رأْسِ حَلْقاءَ مِن عَنقاءَ
مُشْرِفةً... لا يَنْبَغي دُونها سَهْل وَلا جَبَل (1)
بمعنى : لا يكون فوقها سهل ولا جبل أحصن منها.
وقوله( إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ ) يقول : إنك وهاب ما تشاء لمن تشاء بيدك خزائن
كلّ شيء تفتح من ذلك ما أردت لمن أردت.
القول في تأويل قوله تعالى : { فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ
رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ (36) وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ (37)
وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الأصْفَادِ (38) هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ
أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ (39) وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ
(40) }
يقول تعالى ذكره : فاستجبنا له دعاءه ، فأعطيناه ملكا لا ينبغي لأحد من بعده(
فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ ) مكان الخيل التي شغلته عن الصلاة( تَجْرِي
بِأَمْرِهِ رُخَاءً ) يعني : رِخوة لينة ، وهي من الرخاوة.
كما حدثنا محمد بن عبد الله بن بزيع ، قال : ثنا بشر بن المفضل ، قال : ثنا عوف ،
عن الحسن ، أن نبي الله سليمان صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم لما عرضت
__________
(1) البيتان لابن أحمر الباهلي . أنشد أولهما صاحب اللسان في (دعج ، علق) وأنشد
الثاني في (علق) ، وقال : دعجاء : هضبة عن أبي عبيدة . والغفر ، بضم أوله وفتحه :
ولد الأروية ، والأنثى بالهاء والقراميد في البيت : أولاد الوعول . والقرمود : ذكر
الوعول : والقراميد في غير هذا : الصخور وطوابيق الدار والحمامات . وبناء مقرمد :
مبني بالآجر أو الحجارة . والأعصم : الوعل الذي في ذراعيه أو أحدهما بياض . والوعل
بكسر العين وضمها : الذي يسرع في الصعود في الجبل. وهضبة حلقاء : مصمتة ملساء ، لا
نبات فيها . ويقال : هضبة معنقة وعنقاء : إذا كانت مرتفعة طويلة في السماء. ولا
ينبغي : أي لا يكون مثلها في سهل أو جبل . وهذا محل الشاهد في البيتين ، وهو مثل
قوله تعالى : " هب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي " . قال أبو عبيدة
وأنشد البيتين ( الورقة 214 ) لا ينبغي أن يكون فوقها سهل ولا جبل أعز منها أو
أحصن منها . ورواية البيت الثاني في ( اللسان : علق ) : لا ينبغي تحريف . وقد مر
هذا البيت في شواهد المؤلف مرتين في الجزء ( 16 : 84 ، 131 ) . أ هـ .
(21/201)
عليه الخيل ، فشغله النظر إليها عن
صلاة العصر( حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ ) فغضب لله ، فأمر بها فعُقرت ، فأبدله
الله مكانها أسرع منها ، سخر الريح تجري بأمره رُخاء حيث شاء ، فكان يغدو من
إيلياء ، ويقيل بقزوين ، ثم يروح من قَزْوين ويبيت بكابُل.
حُدثت عن الحسن ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك
يقول في قوله( وَهَبْ لِي مُلْكًا لا يَنْبَغِي لأحَدٍ مِنْ بَعْدِي ) فإنه دعا
يوم دعا ولم يكن في مُلكه الريح ، وكل بناء وغواص من الشياطين ، فدعا ربه عند
توبته واستغفاره ، فوهب الله له ما سأل ، فتمّ مُلكه.
واختلف أهل التأويل في معنى الرخاء ، فقال فيه بعضهم نحو الذي قلنا فيه.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن
مجاهد ، في قوله( تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً ) قال : طَيِّبة.
حدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد
بنحوه.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ
تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ ) قال : سريعة طيبة ، قال : ليست
بعاصفة ولا بطيئة.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله( رُخَاءً ) قال
: الرخاء اللينة.
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا أبو عامر ، قال : ثنا قرة ، عن الحسن ، في قوله(
رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ ) قال : ليست بعاصفة ، ولا الهَيِّنة بين ذلك رُخاء.
وقال آخرون : معنى ذلك : مطيعة لسليمان.
(21/202)
* ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : ثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن على ، عن ابن عباس ،
قوله( رُخَاءً ) يقول : مُطيعة له.
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ،
عن ابن عباس( تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً ) قال : يعني بالرُّخاء : المطيعة.
حدثنا ابن المثنى ، قال : ثنا أبو النعمان الحكم بن عبد الله ، قال : ثنا شعبة ،
(21/203)
عن أبي رجاء ، عن الحسن ، في قوله(
تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً ) قال : مطيعة.
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك
يقول في قوله( رُخَاءً ) يقول : مطيعة.
حدثنا محمد بن الحسين ، قال : ثنا أحمد ، قال : ثنا أسباط ، عن السديّ ، قوله(
رُخَاءً ) قال : طوعا. وقوله( حَيْثُ أَصَابَ ) يقول : حيث أراد ، من قولهم : أصاب
الله بك خيرا : أي أراد الله بك خيرا.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : ثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ عن ابن عباس ،
قوله( حَيْثُ أَصَابَ ) يقول : حيث أراد.
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ،
عن ابن عباس ، قوله( حَيْثُ أَصَابَ ) يقول : حيث أراد ، انتهى عليها.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث ، قال :
ثنا الحسن ، قال. ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله( حَيْثُ
أَصَابَ ) قال : حيث شاء.
حدثنا ابن المثنى ، قال : ثنا أبو النعمان الحكم بن عبد الله ، قال : ثنا شعبة ،
عن أبي رجاء ، عن الحسن ، في قوله( حَيْثُ أَصَابَ ) قال : حيث أراد.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( حَيْثُ أَصَابَ ) قال :
إلى حيث أراد.
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك
يقول في قوله( حَيْثُ أَصَابَ ) قال : حيث أراد.
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن بعض أهل العلم ، عن وهب بن
منبه( حَيْثُ أَصَابَ ) : أي حيث أراد.
حدثنا محمد بن الحسين ، قال : ثنا أحمد بن المفضل ، قال : ثنا أسباط ، عن السديّ(
حَيْثُ أَصَابَ ) قال : حيث أراد.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله( حَيْثُ أَصَابَ
) قال : حيث أراد.
وقوله( وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ ) يقول تعالى ذكره : وسخرنا له
الشياطين سلطناه عليها مكان ما ابتُليناه بالذي ألقينا على كرسيّه منها يستعملها
فيما يشاء من أعماله من بنَّاء وغوَّاص; فالبُناة منها يصنعون محاريب وتماثيل ،
والغاصة يستخرجون له الحُلِيّ من البحار ، وآخرون ينحتون له جِفانا وقدورا ،
والمَردَة في الأغلال مُقَرَّنون.
كما حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( وَالشَّيَاطِينَ
كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ ) قال : يعملون له ما يشاء من محاريب وتماثيل ، وغوّاص
يستخرجون الحليّ من البحر( وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الأصْفَادِ ) قال : مردة
الشياطين في الأغلال.
حُدثت عن المحاربيّ ، عن جُوَيبر ، عن الضحاك( وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ
وَغَوَّاصٍ ) قال : لم يكن هذا في ملك داود ، أعطاه الله ملك داود وزاده الريح(
وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي
الأصْفَادِ ) يقول : في
(21/204)
السلاسل.
حدثنا محمد ، قال : ثنا أحمد ، قال : ثنا أسباط ، عن السديّ ، قوله( الأصْفَادِ )
قال : تجمع اليدين إلى عنقه ، والأصفاد : جمع صَفَد وهي الأغلال.
وقوله( هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ ) اختلف أهل
التأويل في المشار إليه بقوله( هَذَا ) من العطاء ، وأيّ عطاء أريد بقوله :
عَطاؤنا ، فقال بعضهم : عني به الملك الذي أعطاه الله.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، في قوله( هَذَا
عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ ) قال : قال الحسن : الملك
الذي أعطيناك فأعط ما شئت وامنع ما شئت.
حدثنا عن المحاربي ، عن جُوَيبر ، عن الضحاك( هَذَا عَطَاؤُنَا ) : هذا ملكنا.
وقال آخرون : بل عَنَى بذلك تسخيره له الشياطين ، وقالوا : ومعنى الكلام : هذا
الذي أعطيناك من كلّ بنّاء وغوّاص من الشياطين ، وغيرهم عطاؤنا.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( هَذَا عَطَاؤُنَا
فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ ) قال : هؤلاء الشياطين احبس من شئت
منهم فى وثاقك وفي عذابك أو سرِّح من شئت منهم تتخذ عنده يدًا ، اصنع ما شئت.
وقال آخرون : بل ذلك ما كان أوتي من القوّة على الجماع.
* ذكر من قال ذلك :
حُدثت عن أبي يوسف ، عن سعيد بن طريف ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، قال : كان سليمان
في ظهره ماءُ مِئَة رجل ، وكان له ثلاث مِئَة امرأة
(21/205)
وتسع مِئَة سُرِّيَّة( هَذَا
عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ ).
وأولى الأقوال في ذلك عندي بالصواب القولُ الذي ذكرناه عن الحسن والضحاك من أنه
عني بالعطاء ما أعطاه من الملك تعالى ذكره ، وذلك أنه جلّ ثناؤه ذكر ذلك عَقِيب
خبره عن مسألة نبيه سليمان صلوات الله وسلامه عليه إياه مُلكا لا ينبغي لأحد من
بعده ، فأخبر أنه سخر له ما لم يُسَخَّر لأحد من بني آدم ، وذلك تسخيره له الريح
والشياطين على ما وصفت ، ثم قال له عزّ ذكره : هذا الذي أعطيناك من المُلك ،
وتسخيرنا ما سخرنا لك عطاؤنا ، ووهبنا لك ما سألتنا أن نهبه لك من الملك الذي لا
ينبغي لأحد من بعدك( فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ )
واختلف أهل التأويل في تأويل قوله( فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ )
فقال بعضهم : عنى بذلك. فأعط من شئت ما شئت من الملك الذي آتيناك ، وامنع ما شئت
منه ما شئت ، لا حساب عليك في ذلك.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قال : قال الحسن(
فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ ) المُلك الذي أعطيناك ، فأعط ما شئت
وامنع ما شئت ، فليس عليك تبعة ولا حساب.
حُدثت عن المحاربي ، عن جُوَيبر ، عن الضحاك( فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ
حِسَابٍ ) سأل مُلكا هنيئا لا يُحاسب به يوم القيامة ، فقال : ما أعطيت ، وما
أمسكت ، فلا حرج عليك.
حدثنا ابن وكيع ، قال : ثنا أبي ، عن سفيان ، عن أبيه ، عن عكرمة( فَامْنُنْ أَوْ
أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ ) قال : أعط أو أمسك ، فلا حساب عليك.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث ، قال :
ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن
(21/206)
مجاهد( فَامْنُنْ ) قال : أعط أو أمسك
بغير حساب.
وقال آخرون : بل معنى ذلك : أعْتِق من هؤلاء الشياطين الذين سخرناهم لك من الخدمة
، أو من الوَثاق ممن كان منهم مُقَرَّنا في الأصفاد مَنْ شئت واحبس من شئت فلا حرج
عليك في ذلك.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ
بِغَيْرِ حِسَابٍ ) يقول : هؤلاء الشياطين احبس من شئت منهم في وَثاقك وفي عذابك ،
وسرح من شئت منهم تتخذ عنده يدًا ، اصنع ما شئت لا حساب عليك في ذلك.
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ،
عن ابن عباس( فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ ) يقول : أعتق من الجنّ من
شئت ، وأمسك من شئت. حدثنا محمد ، قال : ثنا أحمد ، قال : ثنا أسباط ، عن السديّ ،
قوله( فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ ) قال : تَمُنّ على من تشاء منهم
فتُعْتِقُهُ ، وتُمسِك من شئت فتستخدمه ليس عليك في ذلك حساب.
وقال آخرون : بل معنى ذلك : هذا الذي أعطيناك من القوّة على الجماع عطاؤنا ، فجامع
من شئت من نسائك وجواريك ما شئت بغير حساب ، واترك جماع من شئت منهن.
وقال آخرون : بل ذلك من المقدم والمؤخر. ومعنى الكلام : هذا عطاؤنا بغير حساب ،
فامْنُن أو أمسك. وذُكر أن ذلك في قراءة عبد الله : " هذا فامنن أو أمسك
عطاؤنا بغير حساب " .
وكان بعض أهل العلم بكلام العرب من البصريين يقول في قوله( بِغَيْرِ حِسَابٍ )
وجهان; أحدهما : بغير جزاء ولا ثواب ، والآخر : مِنَّةٍ ولا قِلَّةٍ.
(21/207)
والصواب من القول في ذلك ما ذكرته عن
أهل التأويل من أن معناه : لا يحاسب على ما أعطى من ذلك المُلك والسلطان. وإنما
قلنا ذلك هو الصواب لإجماع الحجة من أهل التأويل عليه.
وقوله( وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ ) يقول : وإن لسليمان
عندنا لقُرْبةً بإنابته إلينا وتوبته وطاعته لنا ، وحُسْنَ مآب : يقول : وحسن مرجع
ومصير في الآخرة.
كما حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( وَإِنَّ لَهُ
عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ ) : أي مصير.
إن قال لنا قائل : وما وجه رغبة سليمان إلى ربه في الملك ، وهو نبيّ من الأنبياء ،
وإنما يرغب في الملك أهل الدنيا المؤثِرون لها على الآخرة ؟ أم ما وجه مسألته إياه
، إذ سأله ذلك مُلكا لا ينبغي لأحد من بعده ، وما كان يضرّه أن يكون كلّ من بعده
يُؤْتَى مثل الذي أوتي من ذلك ؟ أكان به بخل بذلك ، فلم يكن من مُلكه ، يُعطي ذلك
من يعطاه ، أم حسد للناس ، كما ذُكر عن الحجاج بن يوسف; فإنه ذكر أنه قرأ قوله(
وَهَبْ لِي مُلْكًا لا يَنْبَغِي لأحَدٍ مِنْ بَعْدِي ) فقال : إن كان لحسودًا ،
فإن ذلك ليس من أخلاق الأنبياء! قيل : أما رغبته إلى ربه فيما يرغب إليه من المُلك
، فلم تكن إن شاء الله به رغبةً في الدنيا ، ولكن إرادة منه أن يعلم منزلته من
الله فى إجابته فيما رغب إليه فيه ، وقبوله توبته ، وإجابته دعاءه.
وأما مسألته ربه مُلكا لا ينبغي لأحد من بعده ، فإنا قد ذكرنا فيما مضى قبلُ قولَ
من قال : إن معنى ذلك : هب لي مُلكا لا أسلبه كما سلبته قبل. وإنما معناه عند
هؤلاء : هب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي أن يَسلُبنيه. وقد يتجه ذلك أن يكون
بمعنى : لا ينبغي لأحد سواي من أهل زماني ، فيكون حجة وعَلَما لي على نبوتي وأني
رسولك إليهم مبعوث ، إذ كانت الرسل لا بد لها من أعلام تفارق بها سائر الناس
سواهم. ويتجه أيضا لأن يكون معناه : وهب لي
(21/208)
وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ (41) ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ (42)
ملكا تخُصُّني به ، لا تعطيه أحدا غيري
تشريفا منك لي بذلك ، وتكرمة ، لتبين منزلتي منك به من منازل من سواي ، وليس في
وجه من هذه الوجوه مما ظنه الحجاج في معنى ذلك شيء.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ
أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ (41) ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا
مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ (42) }
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم : ( وَاذْكُرْ ) أيضا
يا محمد عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ ) مستغيثا به فيما نزل به من البلاء
: يا ربّ( أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ ) فاختلفت القرّاء في قراءة
قوله( بِنُصْبٍ ) فقرأته عامة قرّاء الأمصار خلا أبي جعفر القارئ : ( بِنُصْبٍ )
بضم النون وسكون الصاد ، وقرأ ذلك أبو جعفر : بضم النون والصاد كليهما ، وقد حُكي
عنه بفتح النون والصاد; والنُّصْب والنَّصَب بمنزلة الحُزْن والحَزَن ، والعُدم
والعَدَم ، والرُّشْد والرَّشَد ، والصُّلْب والصَّلَب. وكان الفرّاء يقول : إذا
ضُمّ أوّله لم يثقل ، لأنهم جعلوهما على سِمَتين : إذا فتحوا أوّله ثقّلوا ، وإذا
ضمّوا أوّله خففوا. قال : وأنشدني بعض العرب :
لَئِنْ بَعَثَتْ أُمُّ الحُمَيْدَيْنِ مائِرًا... لَقَدْ غَنِيَتْ في غَيرِ بُؤْسٍ
ولا جُحدِ (1)
__________
(1) البيت من شواهد الفراء في معاني القرآن ( الورقة 280) . قال : وقوله : (بنصب
وعذاب " : اجتمعت القراء على ضم النون من نصب وتخفيفها ( أي الكلمة بتسكين
وسطها ) ، وذكروا أن أبا جعفر المدني قرأ : " بنصب وعذاب " بنصب النون
والصاد . وكلاهما في التفسير واحد . وذكروا أنه المرض ، وما أصابه من العناء فيه .
والنصب بمنزلة الحزن والحزن ، والعدم والعدم ، والرشد والرشد ، والصلب والصلب :
إذا خفف ضم أوله ، ولم يثقل ، لأنهم جعلوها على سمتين . إذا فتحوا أوله ، ثقلوا ،
وإذا ضموا أوله خففوا قال : وأنشدني بعض العرب : " لئن بعثت أم الحميدين ...
البيت " . قال : والعرب تقول : جحد عيشهم جحدا : إذا ضاف واشتد . فلما قال
حجد ، وضم أوله خفف . فابن على هذا ما رأيت من هاتين اللغتين . أ هـ . قلت :
والمائر الذي يجلب الميرة .
(21/209)
من قولهم : جَحِد عيشه : إذا ضاق
واشتدّ; قال : فلما قال جُحْد خَفَّف.
وقال بعض أهل العلم بكلام العرب من البصريين : النَّصُب من العذاب. وقال : العرب
تقول : أنصبني : عذّبني وبرّح بي. قال : وبعضهم يقول : نَصَبَني ، واستشهد لقيله
ذلك بقول بشر بن أبي خازم :
تَعَنَّاكَ نَصْب مِن أُمَيْمَةَ مُنْصِبُ... كَذِي الشَّجْوِ لَمَّا يَسْلُه
وسيَذْهَبُ (1)
وقال : يعني بالنَّصْب : البلاء والشرّ; ومنه قول نابغة بني ذُبيان :
كِلِيني لِهَمّ يا أمَيْمَةَ ناصِبِ... وَلَيْلٍ أُقاسِيهِ بَطيءِ الكَوَاكِب (2)
حدثني بشر بن آدم ، قال : ثنا أبو قُتيبة ، قال : ثنا أبو هلال ، قال : سمعت الحسن
، في قول الله : ( ارْكُضْ بِرِجْلِكَ ) فركض برجله ، فنبعت عين فاغتسل منها ، ثم
مشى نحوا من أربعين ذراعا ، ثم ركض برجله ، فنبعت عين ، فشرب منها ، فذلك قوله(
ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ )
وعنى بقوله( مُغْتَسَلٌ ) : ما يُغْتَسل به من الماء ، يقال منه : هذا مُغْتَسل ،
وغسول للذي يَغْتسل به من الماء. وقوله( وَشَرَابٌ ) يعني : ويشرب منه ، والموضع
__________
(1) البيت لبشر بن أبي حازم " مجاز القرآن لآبي عبيدة ( الورقة 215 ) قال :
" بنصب وعذاب " : قال بشر بن أبي حازم " ... البيت " . وقال
النابغة : " كليني لهم يا أميمة ناصب .... البيت " ثم قال بعد البيتين :
تقول العرب : أنصبني : أي عذبني وبرح بي . وبعضهم يقول : نصبني . والنصب : إذا
فتحت وحركت حروفها ، كانت من الإعياء . والنصب إذا فتح أولها وأسكن ثانيها : واحد
أنصاب الحرم ، وكل شيء نصبته وجعلته علما . يقال : لأنصبنك نصب العود .
(2) البيت للنابغة الذبياني (مختار الشعر الجاهلي ، بشرح مصطفى السقا طبعة الحبلي
ص 159 ) قال شارحه : كليني : دعيني . وأميمة بالفتح ( والأحسن بالضم ) : منادى .
قال الخليل : من عادة العرب أن تنادى المؤنت بالترخيم ، فلما لم يرخم هنا (بسبب
الوزن) : أجراها على لفظها مرخمة ، وأتى بها بالفتح . وناصب : متعب . وبطيء
الكواكب : أى لا تغور كواكبه ، وهي كناية عن الطول ، لأن الشاعر كان قلقا . أ هـ .
وقد تقدم ذكر البيت في شرح الشاهد الذي قبله ، عن أبي عبيدة لأن موضع الشاهد فيهما
مشترك.
(21/210)
الذي يغتسل فيه يسمى مغتسلا.
(21/211)
وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ (43) وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (44)
القول في تأويل قوله تعالى : {
وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرَى
لأولِي الألْبَابِ (43) وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ
إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (44) }
اختلف أهل التأويل في معنى قوله( وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ
) وقد ذكرنا اختلافهم في ذلك والصواب من القول عندنا فيه في سورة الأنبياء بما
أغنى عن إعادته في هذا الموضع. فتأويل الكلام : فاغتسل وشرب ، ففرجنا عنه ما كان
فيه من البلاء ، ووهبنا له أهله ، من زوجة وولد( وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً
مِنَّا ) له ورأفة( وَذِكْرَى ) يقول : وتذكيرا لأولي العقول ، ليعتبروا بها فيتعظوا.
وقد حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرني نافع بن يزيد ، عن عقيل ،
عن ابن شهاب ، عن أنس بن مالك ، أن رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم قال :
" إنَّ نَبِيَّ الله أيُّوبَ لَبِثَ بِهِ بَلاؤهُ ثَمانِيَ عَشْرَة سَنَة ،
فَرَفَضَه القَرِيبُ وَالبَعِيدُ ، إلا رَجُلانِ مِنْ إخْوَانِهِ كانا مِنْ أخَصّ
إخْوَانِهِ بِهِ ، كَانَا يَغْدُوانِ إلَيْهِ ويَرُوحانِ ، فَقالَ أحَدُهُما
لِصَاحِبه : تَعْلَم والله لَقَدْ أذْنَبَ أيُّوبُ ذَنْبًا ما أذْنَبَهُ أحَدٌ
مِنَ العَالَمِينَ ، قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ : ومَا ذَاكَ ؟ قَالَ : مِنْ ثَمانِيَ
عَشْرَةَ سَنَةً لَمْ يَرْحَمْهُ الله فَيَكْشِفَ ما بِهِ; فَلَمَّا رَاحا إلَيْهِ
لَمْ يَصْبِر الرَّجُلُ حتَّى ذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ ، فقَالَ أيَّوُّبُ : لا أدْرِي
ما تَقُولُ ، غَيرَ أنَّ الله يَعْلَمُ أنِّي كُنْتُ أمُرُّ على الرُّجُلَيْنِ
يَتَنازَعانِ فَيَذْكُرَانِ الله ، فَأَرْجِعَ إلى بَيْتِي فَأكفِّرُ عَنْهُما
كَرَاهِيَةَ أنْ يُذْكَرَ الله إلا في حَقّ; قال : وكان يَخْرُجُ إلى حاجَتِهِ ،
فإذَا قَضَاها أمْسَكَت امْرأُتُه بِيَدِهِ حتى يَبْلُغ فَلَما كانَ ذاتَ يَوْمٍ
أبْطَأُ عَلَيْها ، وأوحِيَ إلى أيُّوب في مَكانِهِ : ( ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا
مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ ) فاسْتَبطأتَهُ ، فَتَلقتهُ تَنْظُرُ ، فأقْبَلَ
عَلَيْهَا قَدْ أذْهَبَ الله ما بِهِ مِنَ البَلاءِ ، وَهُوَ عَلى أحْسَنِ ما
كانَ; فَلَمَّا رَأتْهُ قَالَتْ : أيْ بارَكَ الله فِيكَ ، هَلْ رَأَيْتَ نَبِيَّ
الله هَذَا المُبْتَلى ، فوالله على ذلك ما رَأَيْتُ أحَدًا
(21/211)
أشْبَهَ بِهِ منْكَ إذْ كانَ صحيحا ؟
قال : فإنّي أنا هُوَ; قال : وكانَ لَهُ أنْدرَانِ : أنْدَرٌ للْقَمْحِ ، وأنْدَرٌ
للشَّعِيرِ ، فَبَعَثَ الله سَحَابَتَيْنِ ، فَلَمَّا كانَتْ إحْداهُما على
أنْدَرِ القَمْحِ ، أفْرَغَتْ فِيهِ الذَّهَبَ حتى فاضَ ، وأفرغَتِ الأخْرَى في
أنْدَرِ الشَّعِيرِ الوَرِق حتى فاضَ " .
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( وَوَهَبْنَا لَهُ
أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ ) قال : قال الحسن وقتادة : فأحياهم الله بأعيانهم
، وزادهم مثلهم .
حدثني محمد بن عوف ، قال : ثنا أبو المغيرة ، قال : ثنا صفوان ، قال : ثنا عبد
الرحمن بن جُبَير ، قال : لما ابتُلي نبيّ الله أيوب صَلَّى الله عَلَيْهِ
وَسَلَّم بماله وولده وجسده ، وطُرح في مَزْبَلة ، جعلت امرأته تخرج تكسب عليه ما
تطعمه ، فحسده الشيطان على ذلك ، وكان يأتي أصحاب الخبز والشويّ الذين كانوا
يتصدّقون عليها ، فيقول : اطردوا هذه المرأة التي تغشاكم ، فإنها تعالج صاحبها
وتلمسه بيدها ، فالناس يتقذّرون طعامكم من أجل أنها تأتيكم وتغشاكم على ذلك; وكان
يلقاها إذا خرجت كالمحزون لمَا لقي أيوب ، فيقول : لَجَّ صاحبك ، فأبى إلا ما أتى
، فوالله لو تكلم بكلمة واحدة لكشف عنه كلّ ضرّ ، ولرجع إليه ماله وولده ، فتجيء ،
فتخبر أيوب ، فيقول لها : لقيك عدوّ الله فلقنك هذا الكلام; ويلك ، إنما مثلك كمثل
المرأة الزانية إذا جاء صديقها بشيء قبلته وأدخلته ، وإن لم يأتها بشيء طردته ،
وأغلقت بابها عنه! لما أعطانا الله المال والولد آمنا به ، وإذا قبض الذي له منا
نكفر به ، ونبدّل فيره! إن أقامني الله من مرضي هذا لأجلدنَّك مئةً ، قال : فلذلك
قال الله : ( وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ )
وقوله( وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا ) يقول : وقلنا لأيوب : خذ بيدك ضغثا ، وهو ما
يجمع من شيء مثل حزمة الرُّطْبة ، وكملء الكفّ من الشجر أو الحشيش والشماريخ ونحو
ذلك مما قام على ساق; ومنه قول عوف بن الخَرِع :
(21/212)
وأسْفَل مِنِّي نَهْدَةٌ قَدْ
رَبَطْتُها... وألْقَيْتُ ضِغْثا مِن خَلا متَطَيِّبِ (1)
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : ثني عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية عن عليّ عن ابن عباس
، قوله( وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا ) يقول : حُزْمة.
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ،
عن ابن عباس ، قوله( وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ ) قال
: أمر أن يأخذ ضغثا من رطبة بقدر ما حلف عليه فيضرب به.
حدثنا أبو كُرَيب ، قال : ثنا ابن يمان ، عن ابن جُرَيج ، عن عطاء ، في قوله(
وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا ) قال : عيدانا رطبة.
حدثنا أبو هشام الرفاعيّ ، قال : ثنا يحيى ، عن إسماعيل بن إبراهيم بن المهاجر ،
عن أبيه ، عن مجاهد ، عن ابن عباس( وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا ) قال : هو الأثْل.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا
) .. الآية ، قال : كانت امرأته قد عَرَضت له بأمر ، وأرادها إبليس على شيء ، فقال
: لو تكلمت بكذا وكذا ، وإنما حملها عليها الجزع ، فحلف نبي الله : لِئن الله شفاه
ليجلِدنَّها مئة جلدة; قال : فأمر بغصن فيه تسعة وتسعون قضيبا ، والأصل تكملة
المِئَة ، فضربها ضربة واحدة ، فأبرّ نبيُّ الله ، وخَفَّفَ الله عن أمَتِهِ ،
والله رحيم.
__________
(1) البيت لعوف بن الخرع (مجاز القرآن لأبى عبيدة الورقة 215 - ب) ويؤيد أنه في
معجم الشعراء : عوف بن عطية بن الخرع ، وكذا في التاج . قال أبو عبيدة عند تفسير
قوله تعالى : " وخذ بيدك ضعثا : وهو ملء الكف من الشجر أو الحشيش والشماريخ
وما أشبه ذلك ، قال عوف بن الخرع : " واسفل منى ... البيت " . وفي
اللسان : وفرس نهد جسيم مشرف وقيل النهد الضخم القوى والأنثى نهدة . والخلا :
الرطب من الحشيش ( مثل البرسيم ، أو هو البرسيم ) .
(21/213)
وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ (45) إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ (46) وَإِنَّهُمْ عِنْدَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ (47)
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ
يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله( وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا )
يعني : ضِغْثا من الشجر الرَّطْب ، كان حلف على يمين ، فأخذ من الشجر عدد ما حلف
عليه ، فضرب به ضَرْبة واحدة ، فبرّت يمينه ، وهو اليوم في الناس يمين أيوب ، من
أخذ بها فهو حسن.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله( وَخُذْ
بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ ) قال : ضِغْثا واحدا من الكلأ فيه
أكثر من مِئَة عود ، فضرب به ضربة واحدة ، فذلك مِئَة ضربة.
حدثني محمد بن عوف ، قال : ثنا أبو المغيرة ، قال : ثنا صفوان ، قال : ثنا عبد
الرحمن بن جُبَير( وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ ) يقول : فاضرب زوجتك
بالضِّغْث ، لتَبرّ في يمينك التي حلفت بها عليها أن تضربها( وَلا تَحْنَثْ ) يقول
: ولا تحنَثْ في يمينك.
وقوله( إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ ) يقول : إنا وجدنا أيوب
صابرا على البلاء ، لا يحمله البلاء على الخروج عن طاعة الله ، والدخول في معصيته(
نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ ) يقول : إنه على طاعة الله مقبل ، وإلى رضاه رجَّاع.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ
وَيَعْقُوبَ أُولِي الأيْدِي وَالأبْصَارِ (45) إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ
بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ (46) وَإِنَّهُمْ عِنْدَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ
الأخْيَارِ (47) }
اختلفت القرّاء في قراءة قوله( عِبَادِنَا ) فقرأته عامة قرّاء الأمصار : (
وَاذْكُرْ عِبَادَنَا ) على الجماع غير ابن كثير ، فإنه ذكر عنه أنه قرأه : "
واذكر عبدنا " على التوحيد ، كأنه يوجه الكلام إلى أن إسحاق ويعقوب من ذرّية
إبراهيم ، وأنهما ذُكِرا من بعده.
(21/214)
حدثنا أبو كُرَيب ، قال : ثنا ابن
عيينة ، عن عمرو ، عن عطاء ، سمع ابن عباس يقرأ : " واذكر عبدنا إن إبراهيم
" قال : إنما ذكر إبراهيم ، ثم ذُكِر ولده بعده.
والصواب عنده من القراءة في ذلك ، قراءة من قرأه على الجماع ، على أن إبراهيم
وإسحاق ويعقوب بيان عن العباد ، وترجمة عنه ، لإجماع الحجة من القرّاء عليه.
وقوله( أُولِي الأيْدِي وَالأبْصَارِ ) ويعني بالأيدي : القوّة ، يقول : أهل
القوّة على عبادة الله وطاعته. ويعني بالأبصار : أنهم أهل أبصار القلوب ، يعني به
: أولى العقول (1) للحقّ.
وقد اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك ، فقال بعضهم في ذلك نحوًا مما قلنا فيه.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : ثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ،
قوله( أُولِي الأيْدِي ) يقول : أولي القوّة والعبادة ، والأبْصَارِ يقول : الفقه
في الدين.
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ،
عن ابن عباس ، قوله( أُولِي الأيْدِي وَالأبْصَارِ ) قال : فضِّلوا بالقوّة
والعبادة.
حدثني محمد بن المثنى ، قال : ثنا محمد بن جعفر ، قال : ثنا شعبة ، عن منصور أنه
قال في هذه الآية( أُولِي الأيْدِي ) قال : القوّة.
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا حكام ، عن عنبسة ، عن محمد بن عبد الرحمن ، عن القاسم
بن أبي بَزّة ، عن مجاهد ، في قوله( أُولِي الأيْدِي ) قال :
__________
(1) لعل العبارة قد سقط منهما كلمة " والأبصار " . كما يفهم مما قبله ،
ومما يجيء .
(21/215)
القوّة في أمر الله.
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا حكام ، عن عمرو ، عن منصور ، عن مجاهد( أُولِي
الأيْدِي ) قال : الأيدي : القوّة في أمر الله ، ( وَالأبْصَارَ ) : العقول.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث ، قال :
ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد( أُولِي الأيْدِي
وَالأبْصَارِ ) قال : القوّة في طاعة الله ، ( وَالأبْصَارَ ) : قال : البصر في
الحقّ.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله( أُولِي الأيْدِي
وَالأبْصَارِ ) يقول : أعطوا قوة في العبادة ، وبصرًا في الدين.
حدثنا محمد ، قال : ثنا أحمد ، قال : ثنا أسباط ، عن السديّ ، قوله( أُولِي
الأيْدِي وَالأبْصَارِ ) قال : الأيدي : القوّة في طاعة الله ، والأبصار : البصر
بعقولهم في دينهم.
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا جرير ، عن منصور ، عن مجاهد ، في قوله( أُولِي
الأيْدِي وَالأبْصَارِ ) قال : الأيدي : القوّة ، والأبصار : العقول.
فإن قال لنا قائل : وما الأيدي من القوّة ، والأيدي إنما هي جمع يد ، واليد جارحة
، وما العقول من الأبصار ، وإنما الأبصار جمع بصر ؟ قيل : إن ذلك مثل ، وذلك أن
باليد البطش ، وبالبطش تُعرف قوّة القويّ ، فلذلك قيل للقويّ : ذو يَدٍ; وأما
البصر ، فإنه عنى به بصر القلب ، وبه تنال معرفة الأشياء ، فلذلك قيل للرجل العالم
بالشيء : يصير به. وقد يُمكن أن يكون عَنى بقوله( أُولِي الأيْدِي ) : أولي الأيدي
عند الله بالأعمال الصالحة ، فجعل الله أعمالهم الصالحة التي عملوها في الدنيا
أيديا لهم عند الله تمثيلا لها باليد ، تكون عند الرجل الآخر.
وقد ذُكر عن عبد الله أنه كان يقرؤه : " أولى الأيدِ " بغير ياء ، وقد
(21/216)
يُحتمل أن يكون ذلك من التأييد ، وأن
يكون بمعنى الأيدي ، ولكنه أسقط منه الياء ، كما قيل : ( يَوْمَ يُنَادِي
الْمُنَادِي ) ، وقوله عَزّ وجلّ : ( إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ) يقول
تعالى ذكره : إنا خصصناهم بخاصة : ذكر الدار.
واختلف القرّاء في قراءة قوله( بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ ) فقرأته عامة قرّاء
المدينة : " بخالصة ذكرى الدار " بإضافة خالصة إلى ذكرى الدار ، بمعنى :
أنهم أخلصوا بخالصة الذكرى ، والذكرى إذا قُرئ كذلك غير الخالصة ، كما المتكبر إذا
قُرئ : " على كلّ قلب متكبر " بإضافة القلب إلى المتكبر ، هو الذي له
القلب وليس بالقلب. وقرأ ذلك عامة قرّاء العراق : ( بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ
) بتنوين قوله( خَالِصَةً ) وردّ ذكرى عليها ، على أن الدار هي الخالصة ، فردّوا
الذكر وهي معرفة على خالصة ، وهي نكرة ، كما قيل : لشرّ مآب : جهنم ، فرد جهنم وهي
معرفة على المآب وهي نكرة.
والصواب من القول في ذلك عندي أنهما قراءتان مستفيضتان في قَرَأَة الأمصار ،
فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب.
وقد اختلف أهل التأويل ، في تأويل ذلك ، فقال بعضهم : معناه : إنا أخلصناهم بخالصة
هي ذكرى الدار : أي أنهم كانوا يذَكِّرون الناس الدار الآخرة ، ويدعونهم إلى طاعة
الله ، والعمل للدار الآخرة.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ
بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ ) قال : بهذه أخلصهم الله ، كانوا يدعون إلى الآخرة
وإلى الله.
وقال آخرون : معنى ذلك أنه أخلصهم بعملهم للآخرة وذكرهم لها.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ بن الحسن الأزدي ، قال : ثنا يحي بن يمان ، عن ابن جُرَيج ،
(21/217)
عن مجاهد ، في قوله( إِنَّا
أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ ) قال : بذكر الآخرة فليس لهم همّ
غيرها.
حدثنا محمد بن الحسين ، قال : ثنا أحمد بن المفضل ، قال : ثنا أسباط ، عن السديّ(
إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ ) قال : بذكرهم الدار الآخرة
، وعملهم للآخرة.
وقال آخرون : معنى ذلك : إنا أخلصناهم بأفضلِ ما في الآخرة; وهذا التأويل على
قراءة من قرأه بالإضافة. وأما القولان الأوّلان فعلى تأويل قراءة من قرأه
بالتنوين.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال أبن زيد ، في قوله : " إنا
أخلصناهم بخالصة ذكرى الدار " قال : بأفضل ما في الآخرة أخلصناهم به ،
وأعطيناهم إياه; قال : والدار : الجنة ، وقرأ : ( تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ
نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأرْضِ ) قال : الجنة ، وقرأ
: ( وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ ) قال : هذا كله الجنة ، وقال : أخلصناهم بخير
الآخرة.
وقال آخرون : بل معنى ذلك : خالصة عُقْبَى الدار.
(21/218)
وَاذْكُرْ إِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ الْأَخْيَارِ (48) هَذَا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآَبٍ (49)
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن وكيع ، قال : ثنا أبي ، عن شريك ، عن سالم الأفطس ، عن سعيد بن جُبَير(
بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ ) قال : عُقبى الدار.
وقال آخرون : بل معنى ذلك : بخالصة أهل الدار.
* ذكر من قال ذلك :
حُدثت عن ابن أبي زائدة ، عن ابن جُرَيج ، قال : ثني ابن أبي نجيح ، أنه سمع
مجاهدا يقول : ( بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ ) هم أهل الدار; وذو الدار ، كقولك
: ذو الكلاع ، وذو يَزَن.
وكان بعض أهل العلم بكلام العرب من البصريين يتأوّل ذلك على القراءة بالتنوين(
بِخَالِصَةٍ ) عمل في ذكر الآخرة.
وأولى الأقوال بالصواب في ذلك على قراءة من قرأه بالتنوين أن يقال : معناه : إنا
أخلصناهُمْ بخالصة هي ذكرى الدار الآخرة ، فعملوا لها في الدنيا ، فأطاعوا الله
وراقبوه; وقد يدخل في وصفهم بذلك أن يكون من صفتهم أيضا الدعاء إلى الله وإلى
الدار الآخرة ، لأن ذلك من طاعة الله ، والعمل للدار الآخرة ، غير أن معنى الكلمة
ما ذكرت. وأما على قراءة من قرأه بالإضافة ، فأن يقال : معناه : إنا أخلصناهم
بخالصة ما ذكر في الدار الآخرة; فلمَّا لم تُذْكر " في " أضيفت الذكرى
إلى الدار كما قد بيَّنا قبل في معنى قوله( لا يَسْأَمُ الإنْسَانُ مِنْ دُعَاءِ
الْخَيْرِ ) وقوله( بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ )
وقوله( وَإِنَّهُمْ عِنْدَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الأخْيَارِ ) يقول : وإن
هؤلاء الذين ذكرنا عندنا لمن الذين اصطفيناهم لذكرى الآخرة الأخيار ، الذين
اخترناهم لطاعتنا ورسالتنا إلى خلقنا.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَاذْكُرْ إِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا
الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ الأخْيَارِ (48) هَذَا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ
لَحُسْنَ مَآبٍ (49) }
(21/219)
جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوَابُ (50) مُتَّكِئِينَ فِيهَا يَدْعُونَ فِيهَا بِفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرَابٍ (51)
يقول تعالى ذكره لنبيه صَلَّى الله
عَلَيْهِ وَسَلَّم : واذكر يا محمد إسماعيل واليسع وذا الكفل ، وما أبلوا في طاعة
الله ، فتأسَّ بهم ، واسلك منهاجَهم في الصبر على ما نالك في الله ، والنفاذ لبلاغ
رسالته. وقد بينا قبل من أخبار إسماعيل واليسع وذا الكفل فيما مضى من كتابنا هذا
ما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. والكِفْل في كلام العرب : الحظّ والجَدّ.
وقوله( هَذَا ذِكْرُ ) يقول تعالى ذكره : هذا القرآن الذي أنزلناه إليك يا محمد
ذكر لك ولقومك ، ذكرناك وإياهم به.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن الحسين ، قال : ثنا أحمد بن المفضل ، قال : ثنا أسباط ، عن السديّ(
هَذَا ذِكْرُ ) قال : القرآن.
وقوله : ( وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ ) يقول : وإن للمتقين الذين
اتقوا الله فخافوه بأداء فرائضه ، واجتناب معاصيه ، لحسنَ مَرْجع يرجعون إليه في
الآخرة ، ومَصِير يصيرون إليه. ثم أخبر تعالى ذكره عن ذلك الذي وعده من حُسن المآب
ما هو ، فقال : ( جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الأبْوَابُ )
حدثنا محمد بن الحسين ، قال : ثنا أحمد ، قال : ثنا أسباط ، عن السديّ ، قوله(
وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ ) قال : لحسن منقلب.
القول في تأويل قوله تعالى : { جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الأبْوَابُ
(50) مُتَّكِئِينَ فِيهَا يَدْعُونَ فِيهَا بِفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرَابٍ (51)
}
قوله تعالى ذكره : ( جَنَّاتِ عَدْنٍ ) : بيان عن حسن المآب ، وترجمة عنه ، ومعناه
: بساتينُ إقامة. وقد بيَّنا معنى ذلك بشواهده ، وذكرنا ما فيه من الاختلاف فيما
مضى بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع.
(21/220)
وقد حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، فال
: ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله( جَنَّاتِ عَدْنٍ ) قال : سأل عمر كعبا ما عَدَن ؟
قال : يا أمير المؤمنين ، قصور في الجنة من ذهب يسكنها النبيون والصدّيقون
والشهداء وأئمةُ العدل.
وقوله( مُفَتَّحَةً لَهُمُ الأبْوَابُ ) يعني : مفتحة لهم أبوابها; وأدخلت الألف
واللام في الأبواب بدلا من الإضافة ، كما قيل : ( فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ
الْمَأْوَى ) بمعنى : هي مَأْواه ، وكما قال الشاعر :
ما وَلَدتْكُمْ حَيَّةُ ابْنَة مالِكٍ... سِفاحا وَما كَانَتْ أحاديثَ كاذِبِ
وَلَكِنْ نَرَى أقْدَامَنَا فِي نِعَالِكُمْ... وآنفُنَا بينَ اللِّحَى
والحَوَاجِبِ (1)
بمعنى : بين لحاكم وحواجبكم; ولو كانت الأبواب جاءت بالنصب لم يكن لحنا ، وكان
نصبه على توجيه المفتحة في اللفظ إلى جنات ، وإن كان في المعنى للأبواب ، وكان
كقول الشاعر :
وَما قَوْمي بثَعْلَبَةَ بْنِ سَعْدٍ... وَلا بِفَزَارَةَ الشِّعْرَ الرَقابا (2)
__________
(1) البيتان من شواهد الفراء في معاني القرآن (الورقة 281 ) على أن قوله تعالى
" مفتحة لهم الأبواب " برفع الأبواب ، لأن المعنى مفتحة لهم أبوابها .
والعرب تجعل الألف واللام خلفا من الإضافة ومنه قوله : " فإن الجحيم هي
المأوى " فالمعنى والله أعلم : مأواه . ومثله قول الشاعر : " ما ولدتكم
حية ربعية .... البيتين " . فمعناه : ونرى آنفنا بين لحاكم وحواجبكم في الشبه
. أ هـ . وحية ابنة مالك : قبيلة وسفاحا : زنا . واللحى : جمع لحية .
(2) البيت للحارث بن ظالم المري من قصيدة من الوافر قالها لما هرب من النعمان بن
المنذر . فلحق بقريش . (انظر فرائد القلائد في مختصر شرح الشواهد للعيني ص 264 )
والرواية فيه " الشعر بدون ألف بعد الراء. قال : والشاهد في الشعر الرقابا
" فإنه مثل " الحسن الوجه بنصب الوجه " على أنه شبيه بالمفعول به (
لأن الشعر جمع أشعر ، كثير شعر الجسد ، صفة مشبهة . أنشد الفراء البيت في معاني
القرآن (الورقة 281) مع الشاهد السابق ، وقال في قوله تعالى " مفتحة لهم
الأبواب " وقال : ولو قال " مفتحة لهم الأبواب " (بنصب الأبواب )
على أن تجعل المفتحة في اللفظ للجنان ، وفي المعنى للأبواب ، فيكون مثل قول الشاعر
: ما قومي بثعلبة بن سعد ... ولا بفزارة الشعري رقابا
ولم يأت الفراء في كلامه بجواب لو ... أي لكان وجها .. والخلاصة أن في لفظة "
الأبواب " من قوله تعالى " مفتحة لهم الأبواب " وجهان من الإعراب :
الرفع على أن نائب فاعل ، أي مفتحة لهم أبوابها . والنصب على أن نائب الفاعل ضمير
راجع على الجنات ، وتنصب الأبواب على أنه شبيه بالمفعول به . وكذلك في قوله :
" الشعر الرقابا " النصب فيه على أنه شبيه بالمفعول به لأنه فعله "
شعر " لازم لا ينصب المفعول به وعلى رواية " الشعرى رقاباً : "
تنصب رقابه على أنه تمييز . وانظر معمول اسم المفعول ومعمول الصفة المشبهة في
التصريح والأشموني .
(21/221)
وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ أَتْرَابٌ (52) هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسَابِ (53) إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ (54)
ثم نوِّنت مفتحة ، ونصبت الأبواب.
فإن قال لنا قائل : وما في قوله( مُفَتَّحَةً لَهُمُ الأبْوَابُ ) من فائدة خبر
حتى ذكر ذلك ؟ قيل : فإن الفائدة في ذلك إخبار الله تعالى عنها أن أبوابها تفتح
لهم بغير فتح سكانها إياها ، بمعاناة بيد ولا جارحة ، ولكن بالأمر فيما ذُكر.
كما حدثنا أحمد بن الوليد الرملي ، قال : ثنا ابن نفيل ، قال : ثنا ابن دعيج ، عن
الحسن ، في قوله( مُفَتَّحَةً لَهُمُ الأبْوَابُ ) قال : أبواب تكلم ، فتكلم :
انفتحي ، انغلقي.
وقوله( مُتَّكِئِينَ فِيهَا يَدْعُونَ فِيهَا بِفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرَابٍ )
يقول : متكئين في جنات عدن ، على سُرر يدعون فيها بفاكهة ، يعني بثمار من ثمار
الجنة كثيرة ، وشراب من شرابها.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ أَتْرَابٌ (52)
هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسَابِ (53) إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ
مِنْ نَفَادٍ (54) }
( وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ أَتْرَابٌ )
يقول تعالى ذكره : عند هؤلاء المتقين الذين أكرمهم الله بما وصف في هذه الآية من
إسكانهم جنات عدن( قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ ) يعني : نساء قصرت أطرافهنّ على أزواجهنّ
، فلا يردن غيرهم ، ولا يمددن أعينهن إلى سواهم.
كما حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( وَعِنْدَهُمْ
قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ ) قال : قصرن طرفهم على أزواجهم ، فلا يردن غيرهم.
(21/222)
حدثنا محمد ، قال : ثنا أحمد ، قال :
ثنا أسباط ، عن السديّ( قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ ) قال : قصرن أبصارهنّ وقلوبهنّ
وأسماعهنّ على أزواجهنّ ، فلا يردن غيرهم.
وقوله( أَتْرَابٌ ) يعني : أسنان واحدة.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل على اختلاف بين أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث ، قال :
ثنا الحسن قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد( قَاصِرَاتُ
الطَّرْفِ أَتْرَابٌ ) قال : أمثال.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( أَتْرَابٌ ) سن واحدة.
حدثنا محمد ، قال : ثنا أحمد ، قال : ثنا أسباط ، عن السديّ( أَتْرَابٌ ) قال :
مستويات. قال : وقال بعضهم : متواخيات لا يتباغضن ، ولا يتعادين ، ولا يتغايرن ،
ولا يتحاسدن.
وقوله( هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسَابِ ) يقول تعالى ذكره : هذا الذي
يعدكم الله في الدنيا أيها المؤمنون به من الكرامة لمن أدخله الله الجنة منكم في
الآخرة.
كما حدثنا محمد ، قال : ثنا أحمد ، قال : ثنا أسباط ، عن السديّ( هَذَا مَا
تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسَابِ ) قال : هو في الدنيا ليوم القيامة.
وقوله( إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ ) يقول تعالى ذكره : إن هذا
الذي أعطينا هؤلاء المتقين في جنَّات عدن من الفاكهة الكثيرة والشراب ، والقاصرات
الطرف ، ومكنَّاهم فيها من الوصول إلى اللّذات وما اشْتهته فيها أنفسهم لرزقنا ،
رزقناهم فيها كرامة منا لهم( مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ ) يقول : ليس له عنهم انقطاع
ولا
(21/223)
هَذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآَبٍ (55) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمِهَادُ (56) هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ (57) وَآَخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ (58) هَذَا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ لَا مَرْحَبًا بِهِمْ إِنَّهُمْ صَالُوا النَّارِ (59) قَالُوا بَلْ أَنْتُمْ لَا مَرْحَبًا بِكُمْ أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا فَبِئْسَ الْقَرَارُ (60)
له فناء ، وذلك أنهم كلما أخذوا ثمرة
من ثمار شجرة من أشجارها ، فأكلوها ، عادت مكانها أخرى مثلها ، فذلك لهم دائم أبدا
، لا ينقطع انقطاع ما كان أهل الدنيا أوتوه فى الدنيا ، فانقطع بالفناء ، ونَفِد
بالإنفاد.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن الحسين ، قال : ثنا أحمد بن المفضل ، قال : ثنا أسباط ، عن السديّ(
إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ ) قال : رزق الجنة ، كلما أخذ منه
شيء عاد مثله مكانه ، ورزق الدنيا له نفاد.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ )
: أي ما له انقطاع.
القول في تأويل قوله تعالى : { هَذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ (55)
جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمِهَادُ (56) هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ
وَغَسَّاقٌ (57) وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ (58) هَذَا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ
مَعَكُمْ لا مَرْحَبًا بِهِمْ إِنَّهُمْ صَالُوا النَّارِ (59) قَالُوا بَلْ
أَنْتُمْ لا مَرْحَبًا بِكُمْ أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا فَبِئْسَ الْقَرَارُ
(60) }
يعني تعالى ذكره بقوله( هَذَا ) : الذي وصفت لهؤلاء المتقين : ثم استأنف جلّ وعزّ
الخبر عن الكافرين به الذين طَغَوا عليه وبَغَوا ، فقال : ( وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ
) وهم الذين تمرّدوا على ربهم ، فعصوا أمره مع إحسانه إليهم( لَشَرَّ مَآبٍ ) يقول
: لشرّ مرجع ومصير يصيرون إليه في الآخرة بعد خروجهم من الدنيا.
كما حدثنا محمد بن الحسين ، قال : ثنا أحمد بن المفضل ، قال : ثنا أسباط ، عن
السديّ( وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ ) قال : لشرَّ مُنْقَلَب. ثم بين
تعالى ذكره : ما ذلك الذي إليه ينقلبون ويصيرون في الآخرة ، فقال : ( جَهَنَّمَ
يَصْلَوْنَهَا )
(21/224)
فترجم عن جهنم بقوله( لَشَرَّ مَآبٍ )
ومعنى الكلام : إن للكافرين لشرَّ مَصِير يصيرون إليه يوم القيامة ، لأن مصيرهم
إلى جهنم ، وإليها منقلبهم بعد وفاتهم( فَبِئْسَ الْمِهَادُ ) يقول تعالى ذكره :
فبئس الفراش الذي افترشوه لأنفسهم جهنم.
وقوله( هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ ) يقول تعالى ذكره : هذا حميم ،
وهو الذي قد أغلي حتى انتهى حرّه ، وغساق فَلْيذوقوه; فالحميم مرفوع بهذا ، وقوله(
فَلْيَذُوقُوهُ ) معناه التأخير ، لأن معنى الكلام ما ذكرت ، وهو : هذا حميم وغساق
فليذوقوه. وقد يتجه إلى أن يكون هذا مكتفيا بقوله فليذوقوه ثم يُبْتَدأ فيقال :
حميم وغَسَّاق ، بمعنى : منه حميم ومنه غَسَّاق.
كما قال الشاعر :
حتى إذا أضَاءَ الصُّبْحُ في غَلَسٍ... وَغُودِرَ البَقْلُ مَلْوِيٌّ وَمَحْصُودٌ
(1)
وإذا وُجِّه إلى هذا المعنى جاز في هذا النصب والرفع. النصب : على أن يُضْمر قبلها
لها ناصب ، كم قال الشاعر :
زِيادَتَنا نُعْمانُ لا تَحْرِمَنَّنا... تَقِ الله فِينا والكِتابَ الَّذي
تَتْلُو (2)
والرفع بالهاء في قوله( فَلْيَذُوقُوهُ ) كما يقال : الليلَ فبادروه ، والليلُ
فبادروه.
__________
(1) البيت من شواهد الفراء في معاني القرآن ( الورقة 281 ) قال في قوله تعالى :
" هذا فليذوقوه حميم وغساق " : رفعت الحميم والغساق بهذا ، مقدما ومؤخرا
. والمعنى : هذا حميم وغساق فليذوقوه . وإن شئت جعلته ( حميم وغساق ) : مستأنفا ،
وجعلت الكلام قبله مكتفيا ، كأنك قلت : " هذا فليذوقوه " ثم قلت : منه
غساق . كقول الشاعر : " حتى إذا ... البيت) . أ هـ .
(2) هذا البيت لعبد الله بن همام السلولي ( اللسان : وفي ) يخاطب النعمان بن بشير
الأنصاري ، وكان قد ولي الكوفة لمعاوية ، وكان معاوية قد زاد أناسا في أعطياتهم
عشرة ، فأنفذ النعمان ، وترك بعضهم لأنهم جاءوا بكتب بعد ما فرغ من الحملة ، وكان
ابن همام ممن تخلف ، فكلمه فأبى عليه : فقال ابن همام قصيدة يرفقه عليه ، ويتشفع
بالأنصار ، ويمدح معاوية . وقوله " زيادتنا " منصوب بفعل محذوف يفسره
الفعل المؤكد بالنون . لأنه يعمل فيما قبله ، كما قال الرضى : والفعل المؤكد يروي
: لا تنسبنها ، ويروي لا تحرمننا (انظر شرح شواهد الشافية للرضي ص 497 ) .
(21/225)
حدثنا محمد بن الحسين ، قال : ثنا أحمد
بن المضفل ، قال : ثنا أسباط ، عن السديّ( هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ
وَغَسَّاقٌ ) قال : الحميم : الذي قد انتهى حَرُّه.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد : الحميم دموع أعينهم ،
تجمع في حياض النار فيسقونه.
وقوله( وَغَسَّاقٌ ) اختلفت القرّاء في قراءته ، فقرأته عامة قرّاء الحجاز والبصرة
وبعض الكوفيين والشام بالتخفيف : " وَغَسَاق " وقالوا : هو اسم موضوع.
وقرأ ذلك عامة قرّاء الكوفة : ( وَغَسَّاقٌ ) مشددة ، ووجهوه إلى أنه صفة من قولهم
: غَسَقَ يَغْسِقُ غُسُوقا : إذا سال ، وقالوا : إنما معناه : أنهم يُسْقَون
الحميم ، وما يسيل من صديدهم.
والصواب من القول في ذلك عندي أنهما قراءتان قد قرأ بكل واحدة منهما علماء من
القرّاء ، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب ، وإن كان التشديد في السِّين أتم عندنا في
ذلك ، لأن المعروف ذلك في الكلام ، وإن كان الآخر غير مدفوعة صحته.
واختلف أهل التأويل في معنى ذلك ، فقال بعضهم : هو ما يسيل من جلودهم من الصديد
والدم.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ
حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ ) قال : كنا نحدث أن الغسَّاق : ما يَسِيل من بين جلده ولحمه.
حدثنا محمد ، قال : ثنا أحمد ، قال : ثنا أسباط ، عن السديّ ، قال : الغساق : الذي
يسيل من أعينهم من دموعهم ، يسقونه مع الحميم.
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا جرير ، عن منصور ، عن إبراهيم ، قال : الغسَّاق : ما
يسيل من سُرْمهم ، وما يسقط من جلودهم.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد
(21/226)
( الغساق ) : الصديد الذي يجمع من
جلودهم مما تصهرهم النار في حياض يجتمع فيها فيسقونه.
حدثني يحيى بن عثمان بن صالح السهميّ ، قال : ثني أبي ، قال : ثنا ابن لَهِيعة ،
قال : ثني أبو قبيل أنه سمع أبا هبيرة الزيادي يقول : سمعت عبد الله بن عمرو يقول
: أيّ شيء الغسَّاق ؟ قالوا : الله أعلم ، فقال عبد الله بن عمرو : هو القَيْح
الغليظ ، لو أن قطرة منه تُهَرَاق في المغرب لأنتنت أهل المشرق ، ولو تُهَرَاق في
المشرق لأنتنت أهل المغرب.
قال يحيى بن عثمان ، قال أبي : ثنا ابن لهيعة مرة أخرى ، فقال : ثنا أبو قبيل ، عن
عبد الله بن هبيرة ، ولم يذكر لنا أبا هبيرة.
حدثنا ابن عوف ، قال : ثنا أبو المغيرة ، قال : ثنا صفوان ، قال : ثنا أبو يحيى
عطية الكلاعيّ ، أن كعبا كان يقول : هل تدرون ما غسَّاق ؟ قالوا : لا والله ، قال
: عين في جهنم يسيل إليها حُمَّةٌ كل ذات حُمَة من حية أو عقرب أو غيرها ، فيستنقع
فيؤتي بالآدمي ، فيُغْمَس فيها غمسة واحدة ، فيخرج وقد سقط جلده ولحمه عن العظام.
حتى يتعلق جلده في كعبيه وعقبيه ، وينجر لحمه كجر الرجل ثوبه.
وقال آخرون : هو البارد الذي لا يستطاع من برده.
* ذكر من قال ذلك :
حُدثت عن يحيى بن أبي زائدة ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد( وَغَسَّاقٌ ) قال : بارد
لا يُسْتطاع ، أو قال : برد لا يُسْتطاع.
حدثني عليّ بن عبد الأعلى ، قال : ثنا المحاربيّ ، عن جُوَيبر ، عن الضحاك( هَذَا
فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ ) قال : يقال : الغسَّاق : أبرد البرد ، ويقول
آخرون : لا بل هو أنْتَن النَّتْن.
وقال آخرون : بل هو المُنْتِن.
* ذكر من قال ذلك :
حُدثت عن المسيب ، عن إبراهيم النكري ، عن صالح بن حيان ، عن
(21/227)
أبيه ، عن عبد الله بن بُرَيدة ، قال :
الغسَّاق : المنتن ، وهو بالطُّخارية (1) .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : ثني عمرو بن الحارث ، عن درّاج ، عن
أبي الهيثم ، عن أبي سعيد الخدريّ ، أن النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم قال
: " لَوْ أنَّ دَلْوًا مِنْ غَسَّاقٍ يُهَراقُ فِي الدُّنْيا لأنْتَنَ أهْلَ
الدُّنْيا " .
وأولى الأقوال في ذلك عندي بالصواب قول من قال : هو ما يسيل من صديدهم ، لأن ذلك
هو الأغلب من معنى الغُسُوق ، وإن كان للآخر وجه صحيح.
وقوله( وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ ) اختلفت القرّاء في قراءة ذلك ، فقرأته
عامة قرّاء المدينة والكوفة( وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ ) على التوحيد ،
بمعنى : هذا حميم وغساق فليذوقوه ، وعذاب آخر من نحو الحميم ألوان وأنواع ، كما
يقال : لك عذاب من فلان : ضروب وأنواع; وقد يحتمل أن يكون مرادًا بالأزواج الخبر
عن الحميم والغساق ، وآخر من شكله ، وذلك ثلاثة ، فقيل أزواج ، يراد أن ينعت
بالأزواج تلك الأشياء الثلاثة. وقرأ ذلك بعض المكيين وبعض البصريين : "
وأخَرُ " على الجماع ، وكأن من قرأ ذلك كذلك كان عنده لا يصلح أن يكون
الأزواج وهي جمع نَعْتا لواحد ، فلذلك جمع أخر ، لتكون الأزواج نعتا لها; والعرب
لا تمنع أن ينعَت الاسم إذا كان فعلا بالكثير والقليل والاثنين كما بيَّنا ، فتقول
: عذاب فلان أنواع ، ونوعان مختلفان.
وأعجب القراءتين إليَّ أن أقرأ بها : ( وآخَرُ) على التوحيد ، وإن كانت الأخرى
صحيحة لاستفاضة القراءة بها في قرّاء الأمصار; وإنما اخترنا التوحيد لأنه أصحّ
مخرجا في العربية ، وأنه في التفسير بمعنى التوحيد. وقيل إنه الزَّمهرير.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن بشار ، قال : ثنا عبد الرحمن ، قال : ثنا سفيان ، عن
__________
(1) لعله يريد بالطخارية : المنسوبة إلى طخارستان ، بضم أوله ، وهو إقليم من بلاد
العجم ، شرقي جرجان يريد أن لفظة " غساق " ليست عربية الأصل .
(21/228)
السديّ ، عن مُرّة ، عن عبد الله(
وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ ) قال الزمهرير.
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا يحيى ، قال : ثنا سفيان ، عن السديّ ، عن مرة ، عن عبد
الله ، بمثله.
حدثنا أبو كُرَيب ، قال : ثنا معاوية ، عن سفيان ، عن السديّ ، عمن أخبره عن عبد
الله بمثله ، إلا أنه قال : عذاب الزمهرير.
حدثنا محمد قال : ثنا أحمد ، قال : ثنا أسباط ، عن السديّ ، عن مرّة الهمداني ، عن
عبد الله بن مسعود ، قال : هو الزمهرير.
حُدثت عن يحيى بن أبي زائدة ، عن مبارك بن فضالة ، عن الحسن ، قال : ذكر الله
العذاب ، فذكر السلاسل والأغلال ، وما يكون في الدنيا ، ثم قال : ( وَآخَرُ مِنْ
شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ ) قال : وآخر لم ير في الدنيا.
وأما قوله( مِنْ شَكْلِهِ ) فإن معناه : من ضربه ، ونحوه يقول الرجل للرجل : ما
أنت من شكلي ، بمعنى : ما أنت من ضربي بفتح الشين. وأما الشِّكْل فإنه من المراة
ما عَلَّقَتْ مما تتحسن به ، وهو الدَّلُّ أيضا منها.
(21/229)
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل
التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : ثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ،
قوله( وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ ) يقول : من نحوه.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ
أَزْوَاجٌ ) من نحوه.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله( وَآخَرُ مِنْ
شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ ) قال : من كُلّ شَكْلٍ ذلك العذاب الذي سمي الله ، أزواج لم
يسمها الله ، قال : والشَّكل : الشبيه.
وقوله( أَزْوَاجٌ ) يعني : ألوان وأنواع.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني يعقوب ، قال : ثنا ابن عُلَية ، عن أبي رجاء ، عن الحسن ، في قوله( وَآخَرُ
مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ ) قال : ألوان من العذاب.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( أَزْوَاجٌ ) زوج زوج من
العذاب.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله( أَزْوَاجٌ )
قال : أزواج من العذاب في النار.
وقوله( هَذَا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ ) يعني تعالى ذكره بقوله( هَذَا فَوْجٌ )
هذا فرقة وجماعة مقتحمة معكم أيها الطاغون النار ، وذلك دخول أمة من الأمم الكافرة
بعد أمة;( لا مَرْحَبًا بِهِمْ إِنَّهُمْ صَالُوا النَّارِ ) وهذا خبر من الله عن
قيلِ الطاغين الذين كانوا قد دخلوا النار قبل هذا الفوج المقتحِم للفوج المقتَحم
فيها عليهم ، لا مرحبا بهم ، ولكن الكلام اتصل فصار كأنه قول واحد ، كما قيل : (
يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ ) فاتصل قول
فرعون بقول ملئه ، وهذا كما قال تعالى ذكره مخبرا عن أهل النار : ( كُلَّمَا
دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا )
ويعني بقولهم : ( لا مَرْحَبًا بِهِمْ ) لا اتسعت بهم مداخلهم ، كما قال أبو
الأسود :
لا مرْحَب وَاديكَ غيرُ مُضَيَّقِ (1)
وبنحو الذي قلنا فى ذلك قال أهل التأويل.
__________
(1) هذا شطر بيت لأبي الأسود الدؤلي ، ذكره أبو عبيدة في مجاز القرآن (الورقة 212
من مصورة جامعة القاهرة رقم ( 26059 ) قال عند قوله تعالى " لا مرحبا بهم
" : تقول العرب للرجل : " لا مرحبا بك " أي لا رحبت عليك ، أي لا
اتسعت . قال أبو الأسود : " لا مرحب واديك غير مضيق " . ولم أجده في
ترجمته في الأغاني ، ولا في معجم ياقوت .
(21/230)
قَالُوا رَبَّنَا مَنْ قَدَّمَ لَنَا هَذَا فَزِدْهُ عَذَابًا ضِعْفًا فِي النَّارِ (61)
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله( هَذَا فَوْجٌ
مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ ) في النار( لا مَرْحَبًا بِهِمْ إِنَّهُمْ صَالُوا النَّارِ
قَالُوا بَلْ أَنْتُمْ لا مَرْحَبًا بِكُمْ ) .. حتى بلغ : ( فَبِئْسَ الْقَرَارُ
) قال : هؤلاء التباع يقولون للرءوس.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله( هَذَا فَوْجٌ
مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ لا مَرْحَبًا بِهِمْ ) قال : الفوج : القوم الذين يدخلون فوجا
بعد فوج ، وقرأ : ( كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا ) التي كانت
قبلها. وقوله( إِنَّهُمْ صَالُوا النَّارِ ) يقول : إنهم واردو النار وداخلوها.(
قَالُوا بَلْ أَنْتُمْ لا مَرْحَبًا بِكُمْ ) يقول : قال الفوج الواردون جهنم على
الطاغين الذين وصف جل ثناؤه صفتهم لهم : بل أنتم أيها القوم لا مرحبا بكم : أي لا
اتسعت بكم أماكنكم ، ( أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا ) يعنون : أنتم قدمتم لنا
سُكنى هذا المكان ، وصِليّ النار بإضلالكم إيانا ، ودعائكم لنا إلى الكفر بالله ،
وتكذيب رسله ، حتى ضللنا باتباعكم ، فاستوجبنا سكنى جهنم اليوم ، فذلك تقديمهم لهم
ما قدموا في الدنيا من عذاب الله لهم في الآخرة
( فَبِئْسَ الْقَرَارُ ) يقول : فبئس المكان يُسْتَقَرُّ فيه جهنم.
القول في تأويل قوله تعالى : { قَالُوا رَبَّنَا مَنْ قَدَّمَ لَنَا هَذَا
فَزِدْهُ عَذَابًا ضِعْفًا فِي النَّارِ (61) }
وهذا أيضا قول الفوج المقتحم على الطاغين ، وهم كانوا أتباع الطاغين في الدنيا ،
يقول جل ثناؤه : وقال الأتباع : ( رَبَّنَا مَنْ قَدَّمَ لَنَا هَذَا ) يعنون : من
قدم لهم في الدنيا بدعائهم إلى العمل الذي يوجب لهم النار التي ورودها ، وسكنى
المنزل الذي سكنوه منها. ويعنون بقولهم( هَذَا ) : العذاب الذي وردناه( فَزِدْهُ
عَذَابًا ضِعْفًا فِي النَّارِ ) يقولون : فأضعف له العذاب في النار على العذاب
(21/231)
الذي هو فيه فيها ، وهذا أيضا من دعاء الأتباع للمتبوعين.
(21/232)
وَقَالُوا مَا لَنَا لَا نَرَى رِجَالًا كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرَارِ (62) أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصَارُ (63) إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ (64)
القول في تأويل قوله تعالى : {
وَقَالُوا مَا لَنَا لا نَرَى رِجَالا كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الأشْرَارِ (62)
أَأَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الأبْصَارُ (63) إِنَّ
ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ (64) }
يقول تعالى ذكره : قال الطاغون الذين وصف جلّ ثناؤه صفتهم في هذه الآيات ، وهم
فيما ذُكر أبو جهل والوليد بن المُغيرة وذووهما : ( مَا لَنَا لا نَرَى رِجَالا )
يقول : ما بالنا لا نرى معنا في النار رجالا( كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الأشْرَارِ
) يقول : كنا نعدهم في الدنيا من أشرارنا ، وعنوا بذلك فيما ذُكر صُهَيْبا
وخَبَّابا وبِلالا وسَلْمان.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد ، قال : ثنا أحمد ، قال : ثنا أسباط ، عن ليث ، عن مجاهد ، في قوله(
مَا لَنَا لا نَرَى رِجَالا كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الأشْرَارِ ) قال : ذاك أبو
جهل بن هشام والوليد بن المغيرة ، وذكر أناسا صُهيبا وَعَمَّارًا وخبابا ، كنَّا
نعدّهم من الأشرار في الدنيا.
حدثنا أبو السائب ، قال : ثنا ابن إدريس ، قال : سمعت ليثا يذكر عن مجاهد في قوله(
وَقَالُوا مَا لَنَا لا نَرَى رِجَالا كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الأشْرَارِ ) قال :
قالوا : أين سَلْمان ؟ أين خَبَّاب ؟ أين بِلال ؟.
وقوله( أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيًّا ) اختلفت القرّاء في قراءته ، فقرأته عامة
قرّاء المدينة والشام وبعض قرّاء الكوفة : ( أَتَّخَذْنَاهُمْ ) بفتح الألف من
أتخذناهم ، وقطعها على وجه الاستفهام ، وقرأته عامة قرّاء الكوفة والبصرة ، وبعض
قرّاء مكة بوصل الألف من الأشرار : " اتخذناهم " . وقد بيَّنا فيما مضى
قبلُ ، أن كل
(21/232)
استفهام كان بمعنى التعجب والتوبيخ ،
فإن العرب تستفهم فيه أحيانا ، وتُخرجه على وجه الخبر أحيانا.
وأولى القراءتين في ذلك بالصواب قراءة من قرأه بالوصل على غير وجه الاستفهام ،
لتقدّم الاستفهام قبل ذلك في قوله( مَا لَنَا لا نَرَى رِجَالا كُنَّا ) فيصير
قوله : " اتخذناهم " بالخبر أولى وإن كان للاستفهام وجه مفهوم لما وصفتُ
قبل من أنه بمعنى التعجب.
وإذ كان الصواب من القراءة في ذلك ما اخترنا لما وصفنا ، فمعنى الكلام : وقال
الطاغون : ما لنا لا نرى سَلْمان وبِلالا وخَبَّابا الذين كنَّا نعدّهم في الدنيا
أشرارا ، أتخذناهم فيها سُخريا نهزأ بهم فيها معنا اليوم في النار ؟.
وكان بعض أهل العلم بالعربية من أهل البصرة يقول : من كسر السين من السُّخْريّ ،
فإنه يريد به الهُزْء ، يريد يسخر به ، ومن ضمها فإنه يجعله من السُّخْرَة ،
يستسخِرونهم : يستذِلُّونهم ، أزاغت عنهم أبصارنا وهم معنا.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا جرير ، عن ليث ، عن مجاهد( أَتَّخَذْنَاهُمْ
سِخْرِيًّا أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الأبْصَارُ ) يقول : أهم في النار لا نعرف
مكانهم ؟.
حُدثت عن المحاربيّ ، عن جويبر ، عن الضحاك( وَقَالُوا مَا لَنَا لا نَرَى رِجَالا
كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الأشْرَارِ ) قال : هم قوم كانوا يسخَرون من محمد وأصحابه
، فانطلق به وبأصحابه إلى الجنة وذهب بهم إلى النار ف( َقَالُوا مَا لَنَا لا
نَرَى رِجَالا كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الأشْرَار أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيًّا
أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الأبْصَارُ ) يقولون : أزاغت أبصارنا عنهم فلا ندري أين هم
؟.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث ، قال :
ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ،
(21/233)
قُلْ إِنَّمَا أَنَا مُنْذِرٌ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (65) رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (66)
عن مجاهد ، قوله( أَتَّخَذْنَاهُمْ
سِخْرِيًّا ) قال : أخطأناهم( أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الأبْصَارُ ) ولا نراهم ؟.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله( وَقَالُوا مَا
لَنَا لا نَرَى رِجَالا كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الأشْرَارِ ) قال : فقدوا أهل
الجنة( أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيًّا ) في الدنيا( أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ
الأبْصَارُ ) وهم معنا في النار.
وقوله( إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ ) يقول تعالى ذكره : إن هذا الذي أخبرتكم أيها الناس
من الخبر عن تراجع أهل النار ، ولعْن بعضهم بعضا ، ودعاء بعضهم على بعض في النار
لحق يقين ، فلا تشكُّوا في ذلك ، ولكن استيقنوه تخاصم أهل النار.
وقوله( تَخَاصُمُ ) رد على قوله( لَحَقٌّ ) ومعنى الكلام : إن تخاصم أهل النار
الذي أخبرتكم به لحقّ.
وكان بعض أهل العربية من أهل البصرة يوجه معنى قوله( أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ
الأبْصَارُ ) إلى : بل زاغت عنهم.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله( إِنَّ ذَلِكَ
لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ ) فقرأ : ( تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ
مُبِينٍ إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ ) وقرأ : ( يَوْمَ نَحْشُرُهُمْ
جَمِيعًا ).. حتى بلغ : ( إِنْ كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ ) قال : إن
كنتم تعبدوننا كما تقولون إن كنا عن عبادتكم لغافلين ، ما كنا نسمع ولا نبصر ، قال
: وهذه الأصنام ، قال : هذه خصومة أهل النار ، وقرأ : ( وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا
كَانُوا يَفْتَرُونَ ) قال : وضل عنهم يوم القيامة ما كانوا يفترون في الدنيا.
القول في تأويل قوله تعالى : { قُلْ إِنَّمَا أَنَا مُنْذِرٌ وَمَا مِنْ إِلَهٍ
إِلا اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (65) رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَمَا
بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (66) }
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم : ( قُلْ ) يا محمد
(21/234)
قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ (67) أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ (68) مَا كَانَ لِيَ مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلَى إِذْ يَخْتَصِمُونَ (69) إِنْ يُوحَى إِلَيَّ إِلَّا أَنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (70)
لمشركي قومك.( إِنَّمَا أَنَا مُنْذِرٌ
) لكم يا معشر قريش بين يدي عذاب شديد ، أنذركم عذاب الله وسخطه أن يحلّ بكم على
كفركم به ، فاحذروه وبادروا حلوله بكم بالتوبة( وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلا اللَّهُ
الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ ) يقول : وما من معبود تصلح له العبادة ، وتنبغي له
الربوبية ، إلا الله الذي يدين له كل شيء ، ويعبدُه كلّ خلق ، الواحد الذي لا
ينبغي أن يكون له في ملكه شريك ، ولا ينبغي أن تكون له صاحبة ، القهار لكلّ ما
دونه بقدرته ، ربّ السموات والأرض ، يقول : مالك السموات والأرض وما بينهما من
الخلق; يقول : فهذا الذي هذه صفته ، هو الإله الذي لا إله سواه ، لا الذي لا يملك
شيئا ، ولا يضرّ ، ولا ينفع. وقوله( الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ ) يقول : العزيز في
نقمته من أهل الكفر به ، المدّعين معه إلها غيره ، الغفَّار لذنوب من تاب منهم ومن
غيرهم من كفره ومعاصيه ، فأناب إلى الإيمان به ، والطاعة له بالانتهاء إلى أمره
ونهيه.
القول في تأويل قوله تعالى : { قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ (67) أَنْتُمْ عَنْهُ
مُعْرِضُونَ (68) مَا كَانَ لِيَ مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلإ الأعْلَى إِذْ
يَخْتَصِمُونَ (69) إِنْ يُوحَى إِلَيَّ إِلا أَنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (70)
}
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم : ( قُلْ ) يا محمد
لقومك المكذبيك فيما جئتهم به من عند الله من هذا القرآن ، القائلين لك فيه : إن
هذا إلا اختلاق( هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ ) يقول : هذا القرآن خبر عظيم.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني عبد الأعلى بن واصل الأسدي ، قال : ثنا أبو أسامة ، عن شبل بن عباد ، عن ابن
أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله( قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ أَنْتُمْ عَنْهُ
مُعْرِضُونَ ) قال : القرآن.
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : ثنا هشيم ، قال : أخبرنا هشام ، عن
(21/235)
ابن سيرين ، عن شريح ، أن رجلا قال له
: أتقضي عليّ بالنبأ ؟ قال : فقال له شريح : أو ليس القرآن نبأ ؟ قال : وتلا هذه
الآية : ( قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ ) قال : وقضَى عليه.
حدثنا محمد ، قال : ثنا أحمد ، قال : ثنا أسباط ، عن السديّ ، قوله( قُلْ هُوَ
نَبَأٌ عَظِيمٌ أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ ) قال : القرآن.
وقوله( أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ ) يقول : أنتم عنه منصرفون لا تعملون به ، ولا
تصدّقون بما فيه من حجج الله وآياته.
وقوله( مَا كَانَ لِيَ مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلإ الأعْلَى ) يقول لنبيه محمد صَلَّى
الله عَلَيْهِ وَسَلَّم : قل يا محمد لمشركي قومك : ( مَا كَانَ لِيَ مِنْ عِلْمٍ
بِالْمَلإ الأعْلَى إِذْ يَخْتَصِمُونَ ) في شأن آدم من قبل أن يوحي إلي ربّي
فيعلمني ذلك ، يقول : ففي إخباري لكم عن ذلك دليل واضح على أن هذا القرآن وحي من
الله وتنزيل من عنده ، لأنكم تعلمون أن علم ذلك لم يكن عندي قبل نزول هذا القرآن ،
ولا هو مما شاهدته فعاينته ، ولكني علمت ذلك بإخبار الله إياي به.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ،
عن ابن عباس ، قوله( مَا كَانَ لِيَ مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلإ الأعْلَى إِذْ
يَخْتَصِمُونَ ) قال : الملأ الأعلى : الملائكة حين شووروا في خلق آدم ، فاختصموا
فيه ، وقالوا : لا تجعل في الأرض خليفة.
حدثنا محمد ، قال : ثنا أحمد ، قال : ثنا أسباط ، عن السديّ( بِالْمَلإ الأعْلَى
إِذْ يَخْتَصِمُونَ ) هو : ( وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ
فِي الأرْضِ خَلِيفَةً ) .
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله( مَا
(21/236)
كَانَ لِيَ مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلإ
الأعْلَى ) قال : هم الملائكة ، كانت خصومتهم في شأن آدم حين قال ربك للملائكة : (
إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ ) ... حتى بلغ( سَاجِدِينَ ) وحين قال : (
إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأرْضِ خَلِيفَةً ) ... حتى بلغ( وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ ) ففي
هذا اختصم الملأ الأعلى.
وقوله( إِنْ يُوحَى إِلَيَّ إِلا أَنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ ) يقول تعالى
ذكره لنبيه محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم : قل يا محمد لمشركي قريش : ما
يوحي الله إليّ علم ما لا علم لي به ، من نحو العلم بالملأ الأعلى واختصامهم في
أمر آدم إذا أراد خلقه ، إلا لأني إنما أنا نذير مبين; " فإنما " على
هذا التأويل في موضع خفض على قول من كان يرى أن مثل هذا الحرف الذي ذكرنا لا بد له
من حرف خافض ، فسواء إسقاط خافضه منه وإثباته. وإما على قول من رأى أن مثل هذا
ينصب إذا أسقط منه الخافض ، فإنه على مذهبه نصب ، وقد بيَّنا ذلك فيما مضى بما
أغنى عن إعادته في هذا الموضع.
وقد يتجه لهذا الكلام وجه آخر ، وهو أن يكون معناه : ما يوحي الله إلى إنذاركم.
وإذا وجه الكلام إلى هذا المعنى ، كانت " أنما " في موضع رفع ، لأن
الكلام يصير حينئذ بمعنى : ما يوحى إلي إلا الإنذار.
قوله( إِلا أَنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ ) يقول : إلا أني نذير لكم مبين لكم
إلا إنذاركم. وقيل : إلا أنما أنا ، ولم يقل : إلا أنما أنك ، والخبر من محمد عن
الله ، لأن الوحْي قول ، فصار في معنى الحكاية ، كما يقال في الكلام : أخبروني أني
مسيء ، وأخبروني أنك مسيء بمعنى واحد ، كما قال الشاعر :
رَجُلانِ مِنْ ضَبَّةَ أخْبَرَانا... أنَّا رأيْنا رَجُلا عُرْيانا (1)
__________
(1) هذا البيت من شواهد الفراء في معاني القرآن ( الورقة 282 ) قال : وقوله "
إن يوحى إلى إلا أنما أنا نذير مبين " : إن شئت جعلت " أنما " في
موضع رفع ( نائب فاعل بيوحى ) كأنك قلت : ما يوحى إلي إلا الإنذار ، وإن شئت جعلت
المعنى : ما يوحى إلي لأني نبي ونذير . فإذا ألقيت اللام كان موضع " إنما
" نصبا ، ويكون في هذا الموضع ما يوحى إلي إلا أنك نذير مبين ، لأن المعنى
حكاية ، كما تقول في الكلام : أخبروني أني مسيء ، وأخبروني أنك مسيء . وهو كقوله :
" رجلان من ضبة .... البيت " . والمعنى : أخبرانا أنهما رأيا ، فجاز ذلك
لأن أصله الحكاية أ هـ .
(21/237)
إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ (71) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (72) فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (73) إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ (74)
بمعنى : أخبرانا أنهما رأيا ، وجاز ذلك
لأن الخبر أصله حكاية.
القول في تأويل قوله تعالى : { إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ
بَشَرًا مِنْ طِينٍ (71) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي
فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (72) فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (73)
إِلا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ (74) }
وقوله( إِذْ قَالَ رَبُّكَ ) من صلة قوله( إِذْ يَخْتَصِمُونَ ) وتأويل الكلام :
ما كان لي من علم بالملأ الأعلى إذ يختصمون حين قال ربك يا محمد( لِلْمَلائِكَةِ
إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ ) يعني بذلك خلق آدم.
وقوله( فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي ) يقول تعالى ذكره :
فإذا سويت خلقه ، وعدلت صورته ، ونفخت فيه من روحي ، قيل : عني بذلك : ونفخت فيه
من قُدرتي.
* ذكر من قال ذلك :
حُدثت عن المسيب بن شريك ، عن أبي روق ، عن الضحاك( وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي
) قال : من قدرتي.
( فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ ) يقول : فاسجدوا له وخِرّوا له سُجَّدا.
وقوله( فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ ) يقول تعالى ذكره : فلما
سوّى الله خلق ذلك البشر ، وهو آدم ، ونفخ فيه من روحه ، سجد له الملائكة كلهم
أجمعون ، يعني بذلك : الملائكة الذين هم في السموات والأرض.
( إِلا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ ) يقول : غير إبليس ، فإنه لم يسجد ، استكبر عن
السجود له تعظُّمًا وتكبرا
( وَكَانَ مِنَ
(21/238)
قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ (75) قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (76)
الْكَافِرِينَ ) يقول : وكان بتعظُّمه
ذلك ، وتكبره على ربه ومعصيته أمره ، ممن كفر في علم الله السابق ، فجحد ربوبيته ،
وأنكر ما عليه الإقرار له به من الإذعان بالطاعة.
كما حدثنا أبو كُرَيب ، قال : قال أبو بكر في : ( إِلا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ
وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ ) قال : قال ابن عباس : كان في علم الله من الكافرين.
القول في تأويل قوله تعالى : { قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ
لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَأَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ (75)
قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (76) }
يقول تعالى ذكره : ( قَالَ ) الله لإبليس ، إذ لم يسجد لآدم ، وخالف أمره : ( يَا
إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ ) يقول : أي شيء منعك من السجود( لِمَا
خَلَقْتُ بِيَدَيَّ ) يقول : لخلق يديّ ; يخبر تعالى ذكره بذلك أنه خلق آدم بيديه.
كما حدثنا ابن المثني ، قال : ثنا محمد بن جعفر ، قال : ثنا شعبة ، قال : أخبرني
عبيد المكتب ، قال : سمعت مجاهدا يحدّث عن ابن عمر ، قال : خلق الله أربعة بيده :
العرش ، وعَدْن ، والقلم ، وآدم ، ثم قال لكلّ شيء كن فكان.
وقوله( أَسْتَكْبَرْت ) يقول لإبليس : تعظَّمت عن السجود لآدم ، فتركت السجود له
استكبارا عليه ، ولم تكن من المتكبرين العالين قبل ذلك( أَمْ كُنْتَ مِنَ
الْعَالِينَ ) يقول : أم كنت كذلك من قبل ذا علوّ وتكبُّر على ربك( قَالَ أَنَا
خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ ) يقول جل ثناؤه : قال إبليس لربه : فعلت
ذلك فلم أسجد للذي أمرتني بالسجود له لأني خير منه وكنت خيرا لأنك خلقتني من نار
وخلقته من طين ، والنار تأكل الطين وتحرقه ، فالنار خير منه ، يقول :
(21/239)
قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (77) وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ (78) قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (79)
لم أفعل ذلك استكبارا عليك ، ولا لأني
كنت من العالين ، ولكني فعلته من أجل أني أشرف منه; وهذا تقريع من الله للمشركين
الذين كفروا بمحمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم ، وأبوا الانقياد له ، واتباع ما
جاءهم به من عند الله استكبارا عن أن يكونوا تبعا لرجل منهم حين قالُوا : (
أَؤُنزلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا ) و( هَلْ هَذَا إِلا بَشَرٌ
مِثْلُكُمْ ) فقصّ عليهم تعالى قصة إبليس وإهلاكه باستكباره عن السجود لآدم بدعواه
أنه خير منه ، من أجل أنه خلق من نار ، وخلق آدم من طين ، حتى صار شيطانا رجيما ،
وحقت عليه من الله لعنته ، محذّرهم بذلك أن يستحقوا باستكبارهم على محمد ،
وتكذيبهم إياه فيما جاءهم به من عند الله حسدا ، وتعظما من اللعن والسخط ما استحقه
إبليس بتكبره عن السجود لآدم.
القول في تأويل قوله تعالى : { قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (77)
وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ (78) قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي
إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (79) }
يقول تعالى ذكره لإبليس : ( فَاخْرُجْ مِنْهَا ) يعني من الجنة( فَإِنَّكَ رَجِيمٌ
) يقول : فإنك مرجوم بالقوم ، مشتوم ملعون.
كما حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله( قَالَ
فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ ) قال : والرجيم : اللعين.
حُدثت عن المحاربيّ ، عن جُوَيبر ، عن الضحاك بمثله.
وقوله( وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي ) يقول : وإن لك طردي من الجنة( إِلَى يَوْمِ
الدِّينِ ) يعني : إلى يوم مجازاة العباد ومحاسبتهم( قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي
إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ) يقول تعالى ذكره : قال إبليس لربه : ربّ فإذ لعنتني ،
وأخرجتني من جنتك( فَأَنْظِرْنِي ) يقول : فأخرني في الأجل ، ولا تهلكني( إِلَى
يَوْمِ يُبْعَثُونَ ) يقول : إلى يوم تبعث خلقك من قبورهم.
(21/240)
قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (80) إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (81) قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (83)
القول في تأويل قوله تعالى : { قَالَ
فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (80) إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (81)
قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لأغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82) إِلا عِبَادَكَ مِنْهُمُ
الْمُخْلَصِينَ (83) }
يقول تعالى ذكره : قال الله لإبليس : فإنك ممن أنظرته إلى يوم الوقت المعلوم ،
وذلك الوقت الذي جعله الله أجلا لهلاكه. وقد بيَّنت وقت ذلك فيما مضى على اختلاف
أهل العلم فيه ، وقال : ( فَبِعِزَّتِكَ لأغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ ) يقول تعالى
ذكره : قال إبليس : فبعزّتك : أي بقدرتك وسلطانك وقهرك ما دونك من خلقك(
لأغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ ) يقول : لأضلَّنّ بني آدم أجمعين( إِلا عِبَادَكَ
مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ ) يقول : إلا من أخلصته منهم لعبادتك ، وعصمتَه من إضلالي
، فلم تجعل لي عليه سبيلا فإني لا أقدر على إضلاله وإغوائه.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( قَالَ فَبِعِزَّتِكَ
لأغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ ) قال : علم عدوّ الله أنه ليست له عزّة.
(21/241)
قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ (84) لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ (85) قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ (86)
القول في تأويل قوله تعالى : { قَالَ
فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ (84) لأمْلأنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ
تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ (85) قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ
وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ (86) }
اختلفت القرّاء في قراءة قوله( قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ ) فقرأه بعض
أهل الحجاز وعامة الكوفيين برفع الحقّ الأوّل ، ونصب الثاني. وفي رفع الحقّ الأول
إذا قرئ كذلك وجهان : أحدهما رفعه بضمير لله الحق ، أو أنا الحق وأقول الحق.
والثاني : أن يكون مرفوعا بتأويل قوله( لأمْلأنَّ ) فيكون معنى الكلام حينئذ :
فالحق أن أملأ جهنم منك ، كما يقول : عزمة صادقة لآتينك ، فرفع عزمة بتأويل لآتينك
، لأن تأويله أن آتيك ، كما قال : ( ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا
الآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ ) فلا بدّ لقوله( بَدَا لَهُمْ ) من مرفوع ، وهو مضمر في
المعنى. وقرأ
(21/241)
ذلك عامة قرّاء المدينة والبصرة وبعض
المكيين والكوفيين بنصب الحقّ الأوّل والثاني كليهما ، بمعنى : حقا لأملأن جهنم
والحقّ أقول ، ثم أدخلت الألف واللام عليه ، وهو منصوب ، لأن دخولهما إذا كان كذلك
معنى الكلام وخروجهما منه سواء ، كما سواء قولهم : حمدا لله ، والحمد لله عندهم
إذا نصب. وقد يحتمل أن يكون نصبه على وجه الإغراء بمعنى : الزموا الحقّ ، واتبعوا
الحقّ ، والأوّل أشبه لأنه خطاب من إلله لإبليس بما هو فاعل به وبتُبَّاعه.
وأولى الأقوال في ذلك عندي بالصواب أن يقال : إنهما قراءتان مستفيضتان في قرأة
الأمصار ، فبأيتهما قرأ القاريّ فمصيب ، لصحة معنييهما.
وأما الحقّ الثاني ، فلا اختلاف في نصبه بين قرّاء الأمصار كلهم ، بمعنى : وأقول
الحق.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا جرير ، عن الأعمش ، عن مجاهد ، في قوله( فَالْحَقُّ
وَالْحَقَّ أَقُولُ ) يقول الله : أنا الحقُّ ، والحقَّ أقول.
وحُدثت عن ابن أبي زائدة ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد( فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ
أَقُولُ ) يقول الله : الحقُّ مني ، وأقول الحقَّ.
حدثنا أحمد بن يوسف ، قال : ثنا القاسم ، قال : ثنا حجاج ، عن هارون ، قال : ثنا
أبان بن تغلب ، عن طلحة اليامي ، عن مجاهد ، أنه قرأها( فَالحَقُّ ) بالرفع(
وَالْحَقَّ أَقُولُ ) نصبا وقال : يقول الله : أنا الحق ، والحق أقول.
حدثنا محمد ، قال : ثنا أحمد ، قال : ثنا أسباط ، عن السديّ ، في قوله( قَالَ
فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ ) قال : قسم أقسم الله به.
وقوله( لأمْلأنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ ) يقول لإبليس : لأملأن جهنم منك وممن تبعك من
بني آدم أجمعين. وقوله( قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ ) يقول تعالى
(21/242)
إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (87) وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ (88)
ذكره لنبيه محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ
وَسَلَّم : قل يا محمد لمشركي قومك ، القائلين لك( أَؤُنزلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ
مِنْ بَيْنِنَا ) : ما أسألكم على هذا الذكر وهو القرآن الذي أتيتكم به من عند
الله أجرًا ، يعني ثوابًا وجزاء( وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ ) يقول : وما
أنا ممن يتكلف تخرصه وافتراءه ، فتقولون : ( إِنْ هَذَا إِلا إِفْكٌ افْتَرَاهُ )
و( إِنْ هَذَا إِلا اخْتِلاقٌ ) .
كما حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله( قُلْ مَا
أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ ) قال : لا
أسألكم على القرآن أجرا تعطوني شيئا ، وما أنا من المتكلفين أتخرّص وأتكلف ما لم
يأمرني الله به.
القول في تأويل قوله تعالى : { إِنْ هُوَ إِلا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (87)
وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ (88) }
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم : قل لهؤلاء المشركين
من قومك : ( إِنْ هُوَ ) يعني : ما هذا القرآن( إِلا ذِكْرٌ ) يقول : إلا تذكير من
الله( لِلْعَالَمِينَ ) من الجنّ والإنس ، ذكرهم ربهم إرادة استنقاذ من آمن به
منهم من الهَلَكة. وقوله( وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ ) يقول : ولتعلمن
أيها المشركون بالله من قريش نبأه ، يعني : نبأ هذا القرآن ، وهو خبره ، يعني
حقيقة ما فيه من الوعد والوعيد بعد حين.
وبمثل الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله(
وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ ) قال : صدق هذا الحديث نبأ ما كذّبوا به. ، قيل : (
نَبَأَهُ ) حقيقة أمر محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم أنه نبيّ.
(21/243)
ثم اختلفوا في مدة الحين الذي ذكره
الله في هذا الموضع : ما هي ، وما نهايتها ؟ فقال بعضهم : نهايتها الموت.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله( وَلَتَعْلَمُنَّ
نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ ) : أي بعد الموت; وقال الحسن : يابن آدم عند الموت يأتيك
الخبر اليقين.
وقال بعضهم : كانت نهايتها إلى يوم بدر.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد ، قال : ثنا أحمد ، قال : ثنا أسباط ، عن السديّ ، في قوله(
وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ ) قال : يوم بدر.
وقال بعضهم : يوم القيامة. وقال بعضهم : نهايتها القيامة.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله( وَلَتَعْلَمُنَّ
نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ ) قال : يوم القيامة يعلمون نبأ ما كذبوا به بعد حين من
الدنيا وهو يوم القيامة. وقرأ : ( لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُون
) قال : وهذا أيضا الأخرة يستقرّ فيها الحقّ ، ويبطل الباطل.
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال : إن الله أعلم المشركين المكذبين بهذا
القرآن أنهم يعلمون نبأه بعد حين من غير حد منه لذلك الحين بحد ، وقد علم نبأه من
أحيائهم الذين عاشوا إلى ظهور حقيقته ، ووضوح صحته في الدنيا ، ومنهم من علم حقيقة
ذلك بهلاكه ببدر ، وقبل ذلك ، ولا حد عند العرب للحين ، لا يُجاوز ولا يقصر عنه.
فإذ كان ذلك كذلك فلا قول فيه أصح من أن يطلق كما أطلقه الله من غير حصر ذلك على
وقت دون وقت.
وبنحو الذين قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
(21/244)
* ذكر من قال ذلك :
حدثني يعقوب ابن إبراهيم ، قال : ثنا ابن عُلَية ، قال : ثنا أيوب ، قال : قال
عكرمة : سُئِلْت عن رجل حلف أن لا يصنع كذا وكذا إلى حين ، فقلت : إن من الحين
حينا لا يُدرك ، ومن الحين حين يدرك ، فالحين الذي لا يُدرك قوله( وَلَتَعْلَمُنَّ
نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ ) والحين الذي يدرك قوله( تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ
بِإِذْنِ رَبِّهَا ) وذلك من حين تُصْرَم النخلة إلى حين تُطْلِع ، وذلك ستة أشهر.
آخر تفسير سورة ص
(21/245)
تفسير سورة الزمر
(21/246)
تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (1) إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ (2) أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ (3)
بسم الله الرحمن الرحيم
القول في تأويل قوله تعالى : { تَنزيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ
الْحَكِيمِ (1) إِنَّا أَنزلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ
اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ (2) أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ
وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلا
لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا
هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ }
يقول تعالى ذكره : ( تَنزيلُ الْكِتَابِ ) الذي نزلناه عليك يا محمد( مِنَ اللَّهِ
الْعَزِيزِ ) في انتقامه من أعدائه( الحَكِيمِ ) في تدبيره خلقه ، لا من غيره ،
فلا تكوننّ في شكّ من ذلك ، ورفع قوله : ( تَنزيلُ ) بقوله : ( مِنَ اللَّهِ )
وتأويل الكلام : من الله العزيز الحكيم تنزيل الكتاب. وجائز رفعه بإضمار هذا ، كما
قيل : ( سُورَةٌ أَنزلْنَاهَا ) غير أن الرفع في قوله : ( تَنزيلُ الْكِتَابِ )
بما بعده ، أحسن من رفع سورة بما بعدها ، لأن تنزيل ، وإن كان فعلا فإنه إلى
المعرفة أقرب ، إذ كان مضافا إلى معرفة ، فحسن رفعه بما بعده ، وليس ذلك بالحسن في
" سُورَة " ، لأنه نكرة.
وقوله : ( إِنَّا أَنزلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ ) يقول تعالى ذكره
لنبيه محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم : إنا أنزلنا إليك يا محمد الكتاب ،
يعني بالكتاب : القرآن( بِالْحَقِّ ) يعني بالعدل ، يقول : أنزلنا إليك هذا القرآن
يأمر بالحقّ والعدل ، ومن ذلك الحق والعدل أن تعبد الله مخلصا له الدين ، لأن
الدين له لا للأوثان التي لا تملك ضرا ولا نفعا. ،
(21/248)
وبنحو الذي قلنا في معنى قوله : (
الكِتابَ ) قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( إِنَّا أَنزلْنَا إِلَيْكَ
الْكِتَابَ بِالْحَقِّ ) يعني : القرآن.
وقوله : ( فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ ) يقول تعالى ذكره : فاخشع
لله يا محمد بالطاعة ، وأخلص له الألوهة ، وأفرده بالعبادة ، ولا تجعل له في
عبادتك إياه شريكا ، كما فَعَلَتْ عَبَدة الأوثان.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا يعقوب ، عن حفص ، عن شمر ، قال : " يؤتى بالرجل
يوم القيامة للحساب وفي صحيفته أمثال الجبال من الحسنات ، فيقول ربّ العزّة جلّ
وعزّ : صَلَّيت يوم كذا وكذا ، ليقال : صلَّى فلان! أنا الله لا إله إلا أنا ، لي
الدين الخالص. صمتَ يوم كذا وكذا ، ليقال : صام فلان! أنا الله لا آله إلا أنا لي
الدين الخالص ، تصدّقت يوم كذا وكذا ، ليقال : تصدق فلان! أنا الله لا إله إلا أنا
لي الدين الخالص ، فما يزال يمحو شيئا بعد شيء حتى تبقى صحيفته ما فيها شيء ،
فيقول ملكاه : يا فلان ، ألغير الله كنت تعمل " .
حدثنا محمد ، قال : ثنا أحمد ، قال : ثنا أسباط ، عن السديّ ، أما قوله : (
مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ ) فالتوحيد ، والدين منصوب بوقوع مخلصا عليه.
وقوله : ( أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ ) يقول تعالى ذكره : ألا لله العبادة
والطاعة وحده لا شريك له ، خالصة لا شرك لأحد معه فيها ، فلا ينبغي ذلك لأحد ، لأن
كل ما دونه ملكه ، وعلى المملوك طاعة مالكه لا من لا يملك منه شيئا. وبنحو الذي
قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
(21/250)
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( أَلا لِلَّهِ الدِّينُ
الْخَالِصُ ) شهادة أن لا إله إلا الله.
وقوله : ( وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلا
لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى ) يقول تعالى ذكره : والذين اتخذوا من دون
الله أولياء يَتَوَلَّوْنَهُم ، ويعبدونهم من دون الله ، يقولون لهم : ما نعبدكم
أيها الآلهة إلا لتقربونا إلى الله زُلْفَى ، قربة ومنزلة ، وتشفعوا لنا عنده في
حاجاتنا ، وهي فيما ذُكر في قراءة أبي : " ما نَعْبُدُكُمْ " ، وفي
قراءة عبد الله : " ( قالوا ما نعبدهم ) وإنما حسن ذلك لأن الحكاية إذا كانت
بالقول مضمرا كان أو ظاهرا ، جعل الغائب أحيانا كالمخاطب ، ويترك أخرى كالغائب ،
وقد بيَّنت ذلك في موضعه فيما مضى.
حدثنا محمد بن الحسين ، قال : ثنا أحمد بن المفضل ، قال : ثنا أسباط ، عن السديّ ،
قال : هي في قراءة عبد الله : " قالُوا ما نَعْبُدُهُمْ " .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال
: ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله : (
مَا نَعْبُدُهُمْ إِلا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى ) قال : قريش تقوله
للأوثان ، ومن قبلهم يقوله للملائكة ولعيسى ابن مريم ولعزَير.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : ( وَالَّذِينَ
اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى
اللَّهِ زُلْفَى ) قالوا : ما نعبد هؤلاء إلا ليقرّبونا ، إلا ليشفعُوا لنا عند
الله.
حدثنا محمد ، قال : ثنا أحمد ، قال : ثنا أسباط ، عن السديّ ، في قوله : ( مَا
نَعْبُدُهُمْ إِلا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى ) قال : هي منزلة.
(21/251)
لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا لَاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ سُبْحَانَهُ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (4)
حدثني عليّ ، قال : ثنا أبو صالح ، قال
: ثنا معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، في قوله : ( وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ
دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى
) .
وقوله : ( وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا ) يقول سبحانه : لو شئت لجمعتهم
على الهدى أجمعين.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : ( مَا
نَعْبُدُهُمْ إِلا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى ) قال : قالوا هم
شفعاؤنا عند الله ، وهم الذين يقربوننا إلى الله زلفى يوم القيامة للأوثان ،
والزلفى : القُرَب.
وقوله : ( إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ )
يقول تعالى ذكره : إن الله يفصل بين هؤلاء الأحزاب الذين اتخذوا في الدنيا من دون
الله أولياء يوم القيامة ، فيما هم فيه يختلفون في الدنيا من عبادتهم ما كانوا
يعبدون فيها ، بأن يصليهم جميعا جهنم ، إلا من أخلص الدين لله ، فوحده ، ولم يشرك
به شيئا.
القول في تأويل قوله تعالى : { إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ
كَفَّارٌ 3 لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا لاصْطَفَى مِمَّا
يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ سُبْحَانَهُ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (4) }
يقول تعالى ذكره : ( إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي ) إلى الحق ودينه الإسلام ،
والإقرار بوحدانيته ، فيوفقه له( مَنْ هُوَ كَاذِبٌ ) مفتر على الله ، يتقول عليه
الباطل ، ويضيف إليه ما ليس من صفته ، ويزعم أن له ولدا افتراء عليه ، كفار لنعمه
، جحودا لربوبيته.
وقوله : ( لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا ) يقول تعالى ذكره : لو
شاء الله اتخاذ ولد ، ولا ينبغي له ذلك ، لاصطفى مما يخلق ما يشاء ، يقول : لاختار
من خلقه ما يشاء. وقوله : ( سُبْحَانَهُ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ )
يقول : تنزيها لله عن أن يكون له ولد ، وعما أضاف إليه المشركون به من شركهم( هُوَ
(21/252)
خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى أَلَا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (5)
اللَّهُ ) يقول : هو الذي يَعْبده كلّ
شيء ، ولو كان له ولد لم يكن له عبدا ، يقول : فالأشياء كلها له ملك ، فأنى يكون
له ولد ، وهو الواحد الذي لا شريك له في ملكه وسلطانه ، والقهار لخلقه بقدرته ،
فكل شيء له متذلل ، ومن سطوته خاشع.
القول في تأويل قوله تعالى : { خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ بِالْحَقِّ
يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ
وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأجَلٍ مُسَمًّى أَلا هُوَ
الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (5) }
يقول تعالى ذكره واصفا نفسه بصفتها : ( خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ بِالْحَقِّ
يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْل )
يقول : يغشي هذا على هذا ، وهذا على هذا ، كما قال( يُولِجُ اللَّيْلَ فِي
النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ ) وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل
التأويل :
* ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : ثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ،
قوله : ( يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى
اللَّيْلِ ) يقول : يحمل الليل على النهار.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال
: ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد قوله : (
يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ ) قال : يدهوره.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : ( يُكَوِّرُ
اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ ) قال :
يَغْشَى هذا هذا ، ويغشى هذا هذا.
حدثنا محمد ، قال : ثنا أحمد ، قال : ثنا أسباط ، عن السديّ ، قوله :
(21/253)
( يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى
النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ ) قال : يجيء بالنهار ويذهب
بالليل ، ويجيء بالليل ، ويذهب بالنهار.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد فى قوله : ( يُكَوِّرُ
اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ ) حين يذهب
بالليل ويكور النهار عليه ، ويذهب بالنهار ويكور الليل عليه.
وقوله : ( وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ ) يقول تعالى ذكره : وسخر الشمس والقمر
لعباده ، ليعلموا بذلك عدد السنين والحساب ، ويعرفوا الليل من النهار لمصلحة
معاشهم( كُلٌّ يَجْرِي لأجَلٍ مُسَمًّى ) يقول : ( كُلّ ) ذلك يعني الشمس والقمر(
يَجْرِي لأجَلٍ مُسَمًّى ) يعني إلى قيام الساعة ، وذلك إلى أن تكوّر الشمس ،
وتنكدر النجوم. وقيل : معنى ذلك : أن لكل واحد منهما منازل ، لا تعدوه ولا تقصر
دونه( أَلا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ ) يقول تعالى ذكره : ألا إن الله الذي فعل
هذه الأفعال وأنعم على خلقه هذه النعم هو العزيز في انتقامه ممن عاداه ، الغفار
لذنوب عباده التائبين إليه منها بعفوه لهم عنها.
(21/254)
خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (6)
القول في تأويل قوله تعالى : {
خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَأَنزلَ لَكُمْ
مِنَ الأنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ
خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلاثٍ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ
الْمُلْكُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (6) }
يقول تعالى ذكره : ( خَلَقَكُمْ ) أيها الناس( مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ) يعني من
آدم( ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا ) يقول : ثم جعل من آدم زوحه حواء ، وذلك أن
الله خلقها من ضِلَع من أضلاعه.
وبنحو الذي قلنا فى ذلك قال أهل التأويل.
(21/254)
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : ( خَلَقَكُمْ
مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ) يعني آدم ، ثم خلق منها زوجها حواء ، خلقها من ضِلَع من
أضلاعه.
فإن قال قائل : وكيف قيل : خلقكم من نفس واحدة ثم جعل منها زوجها ؟ وإنما خلق ولد
آدم من آدم وزوجته ، ولا شك أن الوالدين قبل الولد ، فإن في ذلك أقوالا أحدها أن
يقال : قيل ذلك لأنه رُوي عن رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم : "
إنَّ الله لَمَّا خَلَقَ آدَمَ مَسَحَ ظَهْرَهُ ، فَأَخْرَجَ كُلَّ نَسَمَةٍ هِيَ
كَائِنَةٌ إلى يَوْمِ القِيَامَةِ ، ثُمَّ أسْكَنَهُ بَعْدَ ذلك الجَنَّةَ ،
وَخَلَقَ بَعْدَ ذلك حَوَّاءَ مِنْ ضِلَعٍ مِنْ أضْلاعِهِ " فهذا قول. والآخر
: أن العرب ربما أخبر الرجل منهم عن رجل بفعلين ، فيرد الأول منهما في المعنى بثم
، إذا كان من خبر المتكلم ، كما يقال : قد بلغني ما كان منك اليوم ، ثم ما كان منك
أمس أعجب ، فذلك نسق من خبر المتكلم. والوجه الآخر : أن يكون خلقه الزوج مردودا
على واحدها ، كأنه قيل : خلقكم من نفس وحدها ثم جعل منها زوجها ، فيكون في واحدة
معنى : خلقها وحدها ، كما قال الراجز :
أَعْدَدْتُهُ للْخَصْمِ ذِي التَّعَدِّي... كَوَّحْتَهُ مِنْكَ بِدُونِ الجَهْدِ
(1)
__________
(1) البيتان من الرجز أنشدهما صاحب اللسان في " كوح " شاهدا على أن كوحه
بمعنى رده . وقال الأزهري : التكويح التغليب ، وأنشد أبو عمرو : " أعددته
للخصم ... البيت " . وهو أيضا من شواهد الفراء في معانى القرآن ( الورقة 283
) . قال : في تفسير قوله تعالى : " خلقكم من نفس واحدة ، ثم جعل منها زوجها
" والزوج مخلوق قبل الولد ؟ ففي ذلك وجهان من العربية . أحدهما أن العرب إذا
خبرت عن رجل بفعلين ردوا الآخر بثم إذا كان هو الآخر في المعنى . وربما جعلوا
" ثم " فيما معناه التقديم ، ويجعلون " ثم " من خبر المتكلم .
من ذلك أن تقول : قد بلغني ما صنعت يومك هذا ، ثم ما صنعت أمس أعجب ، فهذا نسق من
خبر المتكلم ، وتقول : قد أعطيتك اليوم شيئا ، ثم الذي أعطيتك أمس أكثر . فهذا من
ذلك . والوجه الآخر أن تجعل خلقة الزوج مردودا على واحدة ، كأنه قال خلقكم من نفس
وحدها ، ثم جعل منها زوجها ، ففي " واحدة " معنى خلقها واحد . قال :
أنشدني بعض العرب : أعددته للخصم ... البيت . ومعناه : الذي إذا تعدى كوحته .
وكوحته : غلبته . ا هـ .
(21/255)
بمعنى : الذي إذا تعدى كوّحته ، ومعنى
: كوحته : غلبته.
والقول الذي يقوله أهل العلم أولى بالصواب ، وهو القول الأول الذي ذكرت أنه يقال :
إن الله أخرج ذرية آدم من صلبه قبل أن يخلق حوّاء ، وبذلك جاءت الرواية عن جماعة
من أصحاب رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم ، والقولان الآخران على مذاهب
أهل العربية.
وقوله : ( وَأَنزلَ لَكُمْ مِنَ الأنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ ) يقول تعالى
ذكره : وجعل لكم من الأنعامِ ثمانية أزواج من الإبل زوجين ، ومن البقر زوجين ، ومن
الضأن اثنين ، ومن المعْز اثنين ، كما قال جل ثناؤه : ( ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ
مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ ) .
كما حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال ، ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ،
قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : (
مِنَ الأنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ ) قال : من الإبل والبقر والضأن والمعز.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : ( وَأَنزلَ
لَكُمْ مِنَ الأنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ ) من الإبل اثنين ، ومن البقر اثنين
، ومن الضأن اثنين ، ومن المعز اثنين ، من كلّ واحد زوج.
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك
يقول في قوله : ( وَأَنزلَ لَكُمْ مِنَ الأنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ ) يعني
من المعز اثنين ، ومن الضأن اثنين ، ومن البقر اثنين ، ومن الإبل اثنين.
وقوله : ( يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ )
يقول تعالى
(21/256)
ذكره : يبتدئ خلقكم أيها الناس في بطون
أمهاتكم خلقا من بعد خلق ، وذلك أنه يحدث فيها نطفة ، ثم يجعلها علقة ، ثم مضغة ،
ثم عظاما ، ثم يكسو العظام لحما ، ثم يُنْشئه خلقا آخر ، تبارك الله وتعالى ، فذلك
خلقه إياه خلقا بعد خلق.
كما حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا عبد الرحمن ، قال : ثنا سفيان ، عن سماك ، عن
عكرمة( يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ ) قال
: نطفة ، ثم علقة ، ثم مضغة.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال
: ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعًا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : (
خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ ) قال : نطفة ، ثم ما يتبعها حتى تم خلقه.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( يَخْلُقُكُمْ فِي
بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ ) نطفة ، ثم علقة ، ثم مضغة ،
ثم عظاما ، ثم لحما ، ثم أنبت الشعر ، أطوار الخلق.
حدثنا هناد بن السري ، قال : ثنا أبو الأحوص ، عن سماك ، عن عكرمة في قوله : (
يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ ) قال : يعني
بخلق بعد الخلق ، علقة ، ثم مضغة ، ثم عظاما.
حدثنا محمد ، قال : ثنا أحمد ، قال : ثنا أسباط ، عن السديّ ، في قوله : (
يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ ) قال :
يكونون نطفا ، ثم يكونون علقا ، ثم يكونون مضغا ، ثم يكونون عظاما ، ثم ينفخ فيهم
الروح.
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك
يقول في قوله : ( فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ ) خلق
نطفة ، ثم علقة ، ثم مضغة.
وقال آخرون : بل معنى ذلك : يخلقكم في بطون أمهاتكم من بعد خلقه إياكم في ظهر آدم
، قالوا : فذلك هو الخلق من بعد الخلق.
(21/257)
* ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد( يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ
أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ ) قال : خلقا في البطون من بعد الخلق
الأول الذي خلقهم في ظهر آدم.
وأولى القولين في ذلك بالصواب ، القول الذي قاله عكرمة ومجاهد ، ومن قال في ذلك
مثل قولهما ، لأن الله جلّ وعزّ أخبر أنه يخلقنا خلقا من بعد خلق في بطون أمهاتنا
في ظلمات ثلاث ، ولم يخبر أنه يخلقنا فى بطون أمهاتنا من بعد خلقنا في ظهر آدم ،
وذلك نحو قوله : ( وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ ثُمَّ
جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً )
... الآية.
وقوله : ( فِي ظُلُمَاتٍ ثَلاثٍ ) يعني : في ظلمة البطْن ، وظلمة الرّحِم ،
وظُلْمة المَشِيمَة.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا هناد بن السريّ ، قال : ثنا أبو الأحوص ، عن سماك ، عن عكرمة( فِي ظُلُمَاتٍ
ثَلاثٍ ) قال : الظلمات الثلاث : البطن ، والرحم ، والمَشِيمة.
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا عبد الرحمن ، قال : ثنا سفيان ، عن سماك ، عن عكرمة(
فِي ظُلُمَاتٍ ثَلاثٍ ) قال : البطن ، والمشيمة ، والرحم.
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه عن
ابن عباس( فِي ظُلُمَاتٍ ثَلاثٍ ) قال : يعني بالظلمات الثلاث : بطن أمه ، والرحم
، والمَشِيمة.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال
: ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : ( فِي
ظُلُمَاتٍ ثَلاثٍ ) قال : البطن ، والرحم والمشيمة.
(21/258)
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال :
ثنا سعيد ، عن قتادة( فِي ظُلُمَاتٍ ثَلاثٍ ) المَشِيمة ، والرحم ، والبطن.
حدثنا محمد ، قال : ثنا أحمد ، قال : ثنا أسباط ، عن السديّ( فِي ظُلُمَاتٍ ثَلاثٍ
) قال : ظلمة المشيمة ، وظلمة الرحم ، وظلمة البطن.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : ( فِي
ظُلُمَاتٍ ثَلاثٍ ) قال : المشيمة في الرحم ، والرحم في البطن.
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : ثنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول
، في قوله : ( فِي ظُلُمَاتٍ ثَلاثٍ ) : الرحم ، والمشيمة ، والبطن ، والمشيمة
التي تكون على الولد إذا خرج ، وهي من الدواب السَّلى.
وقوله : ( ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ ) يقول تعالى ذكره : هذا الذي فعل هذه
الأفعال أيها الناس هو ربكم ، لا من لا يجلب لنفسه نفعا ، ولا يدفع عنها ضرّا ،
ولا يسوق إليكم خيرا ، ولا يدفع عنكم سوءا من أوثانكم وآلهتكم.
وقوله : ( لَهُ الْمُلْكُ ) يقول جلّ وعزّ : لربكم أيها الناس الذي صفته ما وصف
لكم ، وقُدرته ما بين لكم المُلك ، ملك الدنيا والآخرة وسلطانهما لا لغيره ، فأما
ملوك الدنيا فإنما يملك أحدهما شيئا دون شيء ، فإنما له خاص من الملك. وأما المُلك
التام الذي هو المُلك بالإطلاق فلله الواحد القهار.
وقوله : ( لا إِلَهَ إِلا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ ) يقول تعالى ذكره : لا ينبغي
أن يكون معبود سواه ، ولا تصلح العبادة إلا له( فَأَنَّى تُصْرَفُونَ ) يقول تعالى
ذكره : فأنى تصرفون أيها الناس فتذهبون عن عبادة ربكم ، الذي هذه الصفة صفته ، إلى
عبادة من لا ضر عنده لكم ولا نفع.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( فَأَنَّى
(21/259)
إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (7)
تُصْرَفُونَ ) قال : كقوله : (
تُؤْفَكُونَ )
حدثنا محمد ، قال : ثنا أحمد ، قال : ثنا أسباط ، عن السديّ( فَأَنَّى تُصْرَفُونَ
) قال للمشركين : أنى تصرف عقولكم عن هذا ؟
القول في تأويل قوله تعالى : { إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ
وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلا
تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ
فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ
(7) }
اختلف أهل التأويل في تأويل قوله : ( إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ
عَنْكُمْ وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ ) فقال بعضهم : ذلك لخاص من الناس ،
ومعناه : إن تكفروا أيها المشركون بالله ، فإن الله غني عنكم ، ولا يرضى لعباده
المؤمنين الذين أخلصهم لعبادته وطاعته الكفر. * ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ قال : ثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله
: ( إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ
الْكُفْرَ ) يعني الكفار الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم ، فيقولوا : لا إله إلا
الله ، ثم قال : ( وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ ) وهم عباده المخلصون الذين
قال فيهم : ( إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ ) فألزمهم شهادة أن
لا إله إلا الله وحببها إليهم.
حدثنا محمد ، قال : ثنا أحمد ، قال : ثنا أسباط ، عن السديّ( وَلا يَرْضَى
لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ ) قال : لا يرضى لعباده المؤمنين أن يكفروا.
وقال آخرون : بل ذلك عام لجميع الناس ، ومعناه : أيها الناس إن تكفروا ، فإن الله
غني عنكم ، ولا يرضى لكم أن تكفروا به.
والصواب من القول في ذلك ما قال الله جلّ وعزّ : إن تكفروا بالله أيها
(21/260)
الكفار به ، فإن الله غني عن إيمانكم
وعبادتكم إياه ، ولا يرضى لعباده الكفر ، بمعنى : ولا يرضى لعباده أن يكفروا به ،
كما يقال : لست أحب الظلم ، وإن أحببت أن يظلم فلان فلانا فيعاقب.
وقوله : ( وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ ) يقول : وإن تومنوا بربكم وتطيعوه
يرض شكركم له ، وذلك هو إيمانهم به وطاعتهم إياه ، فكنى عن الشكر ولم يُذْكر ،
وإنما ذكر الفعل الدالّ عليه ، وذلك نظير قوله : ( الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ
النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ
إِيمَانًا ) بمعنى : فزادهم قول الناس لهم ذلك إيمانا.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد ، قال : ثنا أحمد ، قال : ثنا أسباط ، عن السديّ( وَإِنْ تَشْكُرُوا
يَرْضَهُ لَكُمْ ) قال : إن تطيعوا يرضه لكم.
وقوله : ( وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ) يقول : لا تأثم آثمة إثم آثمة
أخرى غيرها ، ولا تؤاخذ إلا بإثم نفسها ، يعلم عز وجل عباده أن على كل نفس ما جنت
، وأنها لا تؤاخذ بذنب غيرها.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد ، قال : ثنا أحمد ، قال : ثنا أسباط ، عن السديّ( وَلا تَزِرُ
وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ) قال : لا يؤخذ أحد بذنب أحد.
وقوله : ( ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ
تَعْمَلُونَ ) يقول تعالى ذكره : ثم بعد اجتراحكم في الدنيا ما اجترحتم من صالح
وسيئ ، وإيمان وكفر أيها الناس ، إلى ربكم مصيركم من بعد وفاتكم ، (
فَيُنَبِّئُكُمْ ) يقول : فيخبركم بما كنتم في الدنيا تعملونه من خير وشر ،
فيجازيكم على كل ذلك جزاءكم ، المحسن منكم بإحسانه ، والمسيء بما يستحقه ، يقول عز
وجل لعباده : فاتقوا أن تلقوا
(21/261)
وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ (8)
ربكم وقد عملتم في الدنيا بما لا يرضاه
منكم فتهلكوا ، فإنه لا يخفى عليه عمل عامل منكم.
وقوله : ( إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ) يقول تعالى ذكره : إن الله لا
يخفى عليه ما أضمرته صدوركم أيها الناس مما لا تدركه أعينكم ، فكيف بما أدركته
العيون ورأته الأبصار. وإنما يعني جلّ وعزّ بذلك الخبر عن أنه لا يخفى عليه شيء ،
وأنه محص على عباده أعمالهم ، ليجازيهم بها كي يتقوه في سرّ أمورهم وعلانيتها.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَإِذَا مَسَّ الإنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ
مُنِيبًا إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ
يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلَّ عَنْ
سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلا إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ (8)
}
يقول تعالى ذكره : وإذا مَسَّ الإنسان بلاء في جسده من مرض ، أو عاهة ، أو شدّة في
معيشته ، وجهد وضيق( دَعَا رَبَّهُ ) يقول : استغاث بربه الذي خلقه من شدة ذلك ،
ورغب إليه في كشف ما نزل به من شدة ذلك. وقوله : ( مُنِيبًا إِلَيْهِ ) يقول :
تائبا إليه مما كان من قبل ذلك عليه من الكفر به ، وإشراك الآلهة والأوثان به في
عبادته ، راجعا إلى طاعته.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : ( وَإِذَا مَسَّ
الإنْسَانَ ضُرٌّ ) قال : الوجع والبلاء والشدّة( دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ
) قال : مستغيثا به.
وقوله : ( ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ ) يقول تعالى ذكره : ثم إذا منحه
ربه نعمة منه ، يعني عافية ، فكشف عنه ضرّه ، وأبدله بالسقم صحة ، وبالشدة رخاء.
(21/262)
والعرب تقول لكلّ من أعطى غيره من مال
أو غيره : قد خوّله ، ومنه قول أبي النجْم العِجْلِيّ :
أعْطَى فَلَمْ يَبْخَلْ وَلَمْ يُبَخَّل... كُومَ الذرَا مِنْ خَوَلِ المَخَوِّلِ
(1)
وحُدثت عن أبي عُبيدة معمر بن المثنى أنه قال : سمعت أبا عمرو يقول في بيت زُهَيْر
:
هُنَالِكَ إنْ يُسْتَخْوَلُوا المَالَ يُخْوِلوا... وَإِنْ يُسْأَلُوا يُعْطوا
وَإنْ يَيْسِروا يُغْلُوا (2)
قال معمر : قال يونس : إنما سمعناه :
هُنَالكَ إنْ يُسْتَخْبِلُوا المَالَ يُخْبِلوا (3)
قال : وهي بمعناها.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد ، قال : ثنا أحمد ، قال : ثنا أسباط ، عن السديّ( ثُمَّ إِذَا
__________
(1) البيت لأبي النجم العجلى الراجز المشهور ( اللسان : خول ) . وهو يمدح إنسانا
أنه أعطى من سأله النوق السمينة العالية السنام والذرا : جمع ذروة ، وهو أعلى
الشيء . وهي مما خوله الله ومنحه ، وكان عطاؤه كثيرا ، فلم يبخل به ، ولم ينسبه
أحد إلى البخل . والبيت من شواهد أبي عبيدة في مجاز القرآن ( الورثة 216 ) ، عند
قوله تعالى : " ثم إذا خوله نعمة منه " : كل مال لك ، وكل شيء أعطيته
فقد خولته ؛ قال أبو النجم : " أعطى فلم يبخل ... البيت "
(2) البيت لزهير بن أبي سلمى المزني ( مختار الشعر الجاهلي بشرح مصطفى السقا ص 239
) والرواية فيه " يستخلبوا " في موضوع يستخولوا قال في اللسان :
والاستخوال أيضا مثل الاستخبال ، من أخبلته المال : إذا أعرته ناقة لينتفع
بألبانها وأوبارها ، أو فرسا يغزو عليه . ومنه قول زهير : " هنالك إن
يستخولوا المال ... البيت " . ومعنى ييسروا : يقامروا . ويغلوا : يختاروا
سمان الإبل بالثمن الغالي ، ويقامروا عليها . والبيت من شواهد أبي عبيدة في مجاز
القرآن ( 216 ب ) قال : وسمعت أبا عمرو يقول في بيت زهير " هنالك ... الخ
" : قال يونس : إنما سمعناه : " هنالك إن يستخلبوا المال " . أي
يخبلوا : وهو بمعناها .
(3) تقدم الكلام على رواية هذا الشطر من بيت زهير بن أبي سلمى في الشاهد الذي قبله
.
(21/263)
خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ ) : إذا
أصابته عافية أو خير.
وقوله : ( نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ ) يقول : ترك دعاءه الذي
كان يدعو إلى الله من قبل أن يكشف ما كان به من ضرّ( وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَادًا
) يعني : شركاء. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد ، قال : ثنا أحمد ، قال : ثنا أسباط ، عن السديّ( نَسِيَ ) يقول : ترك
، هذا في الكافر خاصة.
ولـ " ما " التي في قوله : ( نَسِيَ مَا كَانَ ) وجهان : أحدهما : أن
يكون بمعنى الذي ، ويكون معنى الكلام حينئذ : ترك الذي كان يدعوه في حال الضر الذي
كان به ، يعني به الله تعالى ذكره ، فتكون " ما " موضوعة عند ذلك موضع
" من " كما قيل : ( وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ ) يعني به
الله ، وكما قيل : ( فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ ) . والثاني :
أن يكون بمعنى المصدر على ما ذكرت. وإذا كانت بمعنى المصدر ، كان في الهاء التي في
قوله : ( إِلَيْهِ ) وجهان : أحدهما : أن يكون من ذكر ما. والآخر : من ذكر الربّ.
وقوله : ( وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَادًا ) يقول : وجعل لله أمثالا وأشباها.
ثم اختلف أهل التأويل في المعنى الذي جعلوها فيه له أندادا ، قال بعضهم : جعلوها
له أندادا في طاعتهم إياه في معاصي الله.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد ، قال : ثنا أحمد ، قال : ثنا أسباط ، عن السديّ( وَجَعَلَ لِلَّهِ
أَنْدَادًا ) قال : الأنداد من الرجال : يطيعونهم في معاصي الله.
وقال آخرون : عنى بذلك أنه عبد الأوثان ، فجعلها لله أندادا في عبادتهم إياها.
وأولى القولين في ذلك بالصواب قول من قال : عنى به أنه أطاع الشيطان
(21/264)
أَمْ مَنْ هُوَ قَانِتٌ آَنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآَخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ (9)
في عبادة الأوثان ، فحصل له الأوثان
أندادا ، لأن ذلك في سياق عتاب الله إياهم له على عبادتها.
وقوله : ( لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ ) يقول : ليزيل من أراد أن يوحد الله ويؤمن به
عن توحيده ، والإقرار به ، والدخول في الإسلام. وقوله : ( قُلْ تَمَتَّعْ
بِكُفْرِكَ قَلِيلا ) يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم :
قل يا محمد لفاعل ذلك : تمتع بكفرك بالله قليلا إلى أن تستوفي أجلك ، فتأتيك
منيتك( إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ ) : أي إنك من أهل النار الماكثين فيها.
وقوله : ( تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ ) : وعيد من الله وتَهَدُّدٌ.
القول في تأويل قوله تعالى : { أَمْ مَنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا
وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي
الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الألْبَابِ
(9) }
اختلفت القرّاء في قراءة قوله : ( أَمِنَ ) فقرأ ذلك بعض المكيين وبعض المدنيين
وعامة الكوفيين : " أمن " بتخفيف الميم ، ولقراءتهم ذلك كذلك وجهان :
أحدهما أن يكون الألف في " أمَّنْ " بمعنى الدعاء ، يراد بها : يا من هو
قانت آناء الليل ، والعرب تنادي بالألف كما تنادي بيا ، فتقول : أزيد أقبل ، ويا
زيد أقبل ، ومنه قول أوس بن حجر :
أبَنِي لُبَيْنَى لَسْتُم بِيَدٍ... إلا يَدٌ لَيْسَتْ لَهَا عَضُدُ (1)
__________
(1) تقدم الاستشهاد بالبيت في الجزء ( 14 : 110 ) وشرحناه شرحا مفصلا ، فراجعه ثمة
. والبيت من شواهد الفراء في معاني القرآن (الورقة 284 ) وموضع الاستشهاد به في
هذا الموضع أن العرب تنادي بالهمزة ، كما تنادي بيا . قال الفراء : عند قوله تعالى
" أم من هو قانت آناء الليل " قرأها يحيي بن وثاب بالتخفيف . وذكر ذلك
عن نافع وحمزة ، وفسروها : يريد : يا من هو قانت ، وهو وجه حسن . العرب تدعو بألف
كما يدعون بيا ، فيقولون : يا زيد أقبل ، وأزيد أقبل ؛ قال الشاعر : " أبني
لبيني ... البيت " وقال آخر : " أضمر بن ضمرة ... البيت " . وهو
كثير في الشعر ، فيكون المعنى مردودا بالدعاء ، كالمنسوق ، لأنه ذكر الناسي الكافر
، ثم قص قصة الصالح بالنداء ، كما تقول في كلام : فلان لا يصلي ولا يصوم ، فيا من
يصلي ويصوم أبشر . فهذا هو معناه . وقد تكون الألف استفهاما ، وبتأويل أم ، لأن
العرب قد تضع " أم " في موضع الألف ، إذا سبقها كلام ، وقد وصفت من ذلك
ما يكتفي به ، فيكون المعنى أمن هو قانت ؟ كالأول الذي ذكر بالنسيان والكفر . ومن
قرأها بالتشديد ، فإنه يريد معنى الألف وهو الوجه : أن تجعل " أم " إذا
كانت مردودة على معنى قد سبق ، قلتها بأم . وقد قرأها الحسن وعاصم وأبو جعفر
المدني ، يريدون " أم من هو " فقد تبين في الكلام أنه مضمر قد جرى معناه
في أول الكلمة ، إذ ذكر الضال ، ثم ذكر المهتدي بالاستفهام فهو دليل على أنه يريد
: أهذا مثل هذا ؟ أو أهذا أفضل ؟ ومن لم يعرف مذاهب العرب ، ويتبين له المعنى في
هذا وشبهه ، لم يكتف ولم يشتف . ا هـ .
(21/265)
وإذا وجهت الألف إلى النداء كان معنى
الكلام : قل تمتع أيها الكافر بكفرك قليلا إنك من أصحاب النار ، ويا من هو قانت
آناء الليل ساجدا وقائما إنك من أهل الجنة ، ويكون في النار عمى للفريق الكافر عند
الله من الجزاء في الآخرة ، الكفاية عن بيان ما للفريق المؤمن ، إذ كان معلوما
اختلاف أحوالهما في الدنيا ، ومعقولا أن أحدهما إذا كان من أصحاب النار لكفره بربه
أن الآخر من أصحاب الجنة ، فحذف الخبر عما له ، اكتفاءً بفهم السامع المراد منه من
ذكره ، إذ كان قد دلّ على المحذوف بالمذكور. والثاني : أن تكون الألف التي في قوله
: " أمن " ألف استفهام ، فيكون معنى الكلام : أهذا كالذي جعل لله أندادا
ليضلّ عن سبيله ، ثم اكتفى بما قد سبق من خبر الله عن فريق الكفر به من أعدائه ،
إذ كان مفهوما المراد بالكلام ، كما قال الشاعر :
فَأُقْسِمُ لَوْ شَيْءٌ أتَانَا رَسُولُهُ... سِوَاكَ وَلَكِنْ لَمْ نَجِدْ لَكَ
مَدْفَعا (1)
فحذف لدفعناه وهو مراد في الكلام إذ كان مفهوما عند السامع مراده. وقرأ ذلك بعض
قرّاء المدينة والبصرة وبعض أهل الكوفة : ( أمَّن ) بتشديد الميم ، بمعنى : أم من
هو ؟ ويقولون : إنما هي( أمَّن ) استفهام اعترض في الكلام بعد
__________
(1) تقدم الاستشهاد بالبيت وشرحناه مفصلا في الجزء ( 12 : 18 ) فراجعه ثمة . وقد
أورده الفراء في معاني القرآن (الورقة 284) بعقب كلامه الذي نقلناه عنه في الشاهد
السابق على هذا ، قال : ألا ترى قول الشاعر " فأقسم لو شيء أتانا رسوله ....
البيت " أن معناه : لو أتانا رسول غيرك لدفعناه ، فعلم المعنى ولم يظهر . وجرى
قوله " أفمن شرح الله صدره للإسلام " على مثل هذا .
(21/266)
كلام قد مضى ، فجاء بأم ، فعلى هذا
التأويل يجب أن يكون جواب الاستفهام متروكا من أجل أنه قد جرى الخبر عن فريق الكفر
، وما أعدّ له في الآخرة ، ثم أتبع الخبر عن فريق الإيمان ، فعلم بذلك المراد ،
فاستغني بمعرفة السامع بمعناه من ذكره ، إذ كان معقولا أن معناه : هذا أفضل أم هذا
؟.
والقول في ذلك عندنا أنهما قراءتان قرأ بكل واحدة علماء من القرّاء مع صحة كل
واحدة منهما في التأويل والإعراب ، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب.
وقد ذكرنا اختلاف المختلفين ، والصواب من القول عندنا فيما مضى قبل في معنى القانت
، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع ، غير أنا نذكر بعض أقوال أهل التأويل في ذلك
في هذا الموضع ، ليعلم الناظر في الكتاب اتفاق معنى ذلك في هذا الموضع وغيره ،
فكان بعضهم يقول : هو في هذا الموضع قراءة القارئ قائما في الصلاة.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن المثني ، قال : ثنا يحيى ، عن عبيد الله ، أنه قال : أخبرني نافع ، عن
ابن عمر ، أنه كان إذا سُئل عن القنوت ، قال : لا أعلم القنوت إلا قراءة القرآن
وطول القيام ، وقرأ : ( أمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا
)
وقال آخرون : هو الطاعة.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ،
عن ابن عباس ، قوله : ( أمَّنْ هُوَ قَانِتٌ ) يعني بالقنوت : الطاعة ، وذلك أنه
قال : ( ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الأرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ
) ... إلى( كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ ) قال : مطيعون.
حدثنا محمد ، قال : ثنا أحمد ، قال : ثنا أسباط ، عن السديّ ، في قوله : ( أمَّنْ
هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا ) قال : القانت : المطيع.
(21/267)
وقوله : ( آنَاءَ اللَّيْلِ ) يعني :
ساعات الليل.
كما حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : ( أمَّنْ
هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ ) أوله ، وأوسطه ، وآخره.
حدثنا محمد بن الحسين ، قال : ثنا أحمد ، قال : ثنا أسباط ، عن السديّ( آنَاءَ
اللَّيْلِ ) قال : ساعات الليل.
وقد مضى بياننا عن معنى الآناء بشواهده ، وحكاية أقوال أهل التأويل فيها بما أغنى
عن إعادته في هذا الموضع.
وقوله : ( سَاجِدًا وَقَائِمًا ) يقول : يقنت ساجدا أحيانا ، وأحيانا قائما ، يعني
: يطيع ، والقنوت عندنا الطاعة ، ولذلك نصب قوله : ( سَاجِدًا وَقَائِمًا ) لأن
معناه : أمَّن هو يقنت آناء الليل ساجدا طورا ، وقائما طورا ، فهما حال من قانت.
وقوله : ( يَحْذَرُ الآخِرَةَ ) يقول : يحذر عذاب الآخرة. كما حدثنا عليّ بن الحسن
الأزديّ. قال : ثنا يحيى بن اليمان ، عن أشعث ، عن جعفر ، عن سعيد بن جُبَير ، عن
ابن عباس ، في قوله : ( يَحْذَرُ الآخِرَةَ ) قال : يحذر عقاب الآخرة ، ويرجو رحمة
ربه ، يقول : ويرجو أن يرحمه الله فيدخله الجنة.
وقوله : ( قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ
) يقول تعالى ذكره : قل يا محمد لقومك : هل يستوي الذين يعلمون ما لهم في طاعتهم
لربهم من الثواب ، وما عليهم في معصيتهم إياه من التبعات ، والذين لا يعلمون ذلك ،
فهم يخبطون في عشواء ، لا يرجون بحسن أعمالهم خيرا ، ولا يخافون بسيئها شرا ؟ يقول
: ما هذان بمتساويين.
وقد رُوي عن أبي جعفر محمد بن عليّ في ذلك ما حدثني محمد بن خلف ، قال : ثني نصر
بن مزاحم ، قال : ثنا سفيان الجريري ، عن سعيد بن أبي مجاهد ، عن جابر ، عن أبي
جعفر ، رضوان الله عليه( هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا
يَعْلَمُونَ ) قال : نحن الذين يعلمون ، وعدونا الذين لا يعلمون.
(21/268)
قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ (10)
وقوله : ( إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو
الألْبَابِ ) يقول تعالى ذكره : إنما يعتبر حجج الله ، فيتعظ ، ويتفكر فيها ،
ويتدبرها أهل العقول والحجى ، لا أهل الجهل والنقص في العقول.
القول في تأويل قوله تعالى : { قُلْ يَا عِبَادِي الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا
رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ
وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ (10) }
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم : ( قُلْ ) يا محمد
لعبادي الذين آمنوا : ( يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا ) بالله ، وصدقوا رسوله(
اتَّقُوا رَبَّكُمُ ) بطاعته واجتناب معاصيه( لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ
الدُّنْيَا حَسَنَة )
ثم اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك ، فقال بعضهم : معناه : للذين أطاعوا الله حسنة
في هذه الدُّنْيا ، وقال " في " من صلة حسنة ، وجعل معنى الحسنة : الصحة
والعافية.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد ، قال : ثنا أحمد ، قال : ثنا أسباط ، عن السديّ( لِلَّذِينَ
أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ ) قال : العافية والصحة.
وقال آخرون " في " من صلة أحسنوا ، ومعنى الحسنة : الجنة.
وقوله : ( وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ ) يقول تعالى ذكره : وأرض الله فسيحة واسعة
، فهاجروا من أرض الشرك إلى دار الإسلام.
كما حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ،
قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا عن ابن أبي نحيح ، عن مجاهد ، قوله : (
وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ ) فهاجروا واعتزلوا الأوثان.
وقوله : ( إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ ) يقول
تعالى ذكره :
(21/269)
إنما يعطي الله أهل الصبر على ما لقوا
فيه في الدنيا أجرهم في الآخرة بغير حساب ، يقول : ثوابهم بغير حساب.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( إِنَّمَا يُوَفَّى
الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ ) لا والله ما هُناكم مكيال ولا ميزان.
حدثنا محمد ، قال : ثنا أحمد ، قال : ثنا أسباط ، عن السديّ( إِنَّمَا يُوَفَّى
الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ ) قال : في الجنة.
(21/270)
قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ (11) وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ (12) قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (13) قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي (14)
القول في تأويل قوله تعالى : { قُلْ
إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ (11) وَأُمِرْتُ
لأنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ (12) قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ
رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (13) }
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم : قل يا محمد لمشركي
قومك : إن الله أمرني أن أعبده مفردا له الطاعة ، دون كلّ ما تدعون من دونه من
الآلهة والأنداد( وَأُمِرْتُ لأنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ ) : يقول :
وأمرني ربي جل ثناؤه بذلك ، لأن أكون بفعل ذلك أوَّل من أسلم منكم ، فخضع له
بالتوحيد ، وأخلص له العبادة ، وبريء من كل ما دونه من الآلهة. وقوله تعالى : (
قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ) : يقول تعالى
ذكره : قال يا محمد لهم إني أخاف إن عصيت ربي فيما أمرني به من عبادته ، مخلصا له
الطاعة ، ومفرده بالربوبية.( عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ) : يعني عذاب يوم القيامة ،
ذلك هو اليوم الذي يعظم هوله.
القول في تأويل قوله تعالى : { قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي (14)
فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ
خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ
(21/270)
فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ (15)
وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ
أَلا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ (15) }
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم : قل يا محمد لمشركي
قومك : الله أعبد مخلصا ، مفردا له طاعتي وعبادتي ، لا أجعل له في ذلك شريكا ،
ولكني أفرده بالألوهة ، وأبرأ مما سواه من الأنداد والآلهة ، فاعبدوا أنتم أيها
القوم ما شئتم من الأوثان والأصنام ، وغير ذلك مما تعبدون من سائر خلقه ، فستعلمون
وبال عاقبة عبادتكم ذلك إذا لقيتم ربكم.
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم : قل يا محمد لمشركي
قومك : الله أعبد مخلصا ، مفردا له طاعتي وعبادتي ، لا أجعل له في ذلك شريكا ،
ولكني أفرده بالألوهة ، وأبرأ مما سواه من الأنداد والآلهة ، فاعبدوا أنتم أيها
القوم ما شئتم من الأوثان والأصنام ، وغير ذلك مما تعبدون من سائر خلقه ، فستعلمون
وبال عاقبة عبادتكم ذلك إذا لقيتم ربكم.
وقوله : ( قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ ) يقول تعالى
ذكره : قل يا محمد لهم : إن الهالكين الذين غَبَنوا أنفسهم ، وهلكت بعذاب الله
أهلوهم مع أنفسهم ، فلم يكن لهم إذ دخلوا النار فيها أهل ، وقد كان لهم في الدنيا
أهلون.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : ثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ،
قوله : ( قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ
يَوْمَ الْقِيَامَةِ ) قال : هم الكفار الذين خلقهم الله للنار ، وخلق النار لهم ،
فزالت عنهم الدنيا ، وحرمت عليهم الجنة ، قال الله : ( خَسِرَ الدُّنْيَا
وَالآخِرَةَ ).
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : ( قُلْ إِنَّ
الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ
) قال : هؤلاء أهل النار ، خسروا أنفسهم في الدنيا ، وخسروا الأهلين ، فلم يجدوا
في النار أهلا وقد كان لهم في الدنيا أهل.
حُدثت عن ابن أبي زائدة ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد ، قال : غبنوا أنفسهم وأهليهم
، قال : يخسرون أهليهم ، فلا يكون لهم أهل يرجعون إليهم ، ويخسرون أنفسهم ،
فيهلكون في النار ، فيموتون وهم أحياء فيخسرونهما.
(21/271)
لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ (16) وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ (17) الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ (18)
وقوله : ( أَلا ذَلِكَ هُوَ
الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ ) يقول تعالى ذكره : ألا إن خسران هؤلاء المشركين أنفسهم
وأهليهم يوم القيامة ، وذلك هلاكها هو الخسران المبين ، يقول تعالى ذكره : هو
الهلاك الذي يبين لمن عاينه وعلمه أنه الخسران.
القول في تأويل قوله تعالى : { لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ
وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يَا عِبَادِ
فَاتَّقُونِ (16) وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا
وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِي (17) الَّذِينَ
يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ
اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الألْبَابِ (18) }
يقول تعالى ذكره لهؤلاء الخاسرين يوم القيامو في جهنم : ( مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ
مِنَ النَّارِ ) وذلك كهيئة الظلل المبنية من النار( وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ )
يقول : ومن تحتهم من النار ما يعلوهم ، حتى يصير ما يعلوهم منها من تحتهم ظللا
وذلك نظير قوله جلّ ثناؤه لَهُمْ : ( مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ
غَوَاشٍ ) يغشاهم مما تحتهم فيها من المهاد.
وقوله : ( ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ )
يقول تعالى ذكره : هذا الذي أخبرتكم أيها الناس به ، مما للخاسرين يوم القيامة من
العذاب ، تخويف من ربكم لكم ، يخوفكم به لتحذروه ، فتجتنبوا معاصيه ، وتنيبوا من
كفركم إلى الإيمان به ، وتصديق رسوله ، واتباع أمره ونهيه ، فتنجوا من عذابه في
الآخرة( فَاتَّقُونِ ) يقول : فاتقوني بأداء فرائضي عليكم ، واجتناب معاصيّ ،
لتنجوا من عذابي وسخطي.
وقوله : ( وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ ) : أي اجتنبوا عبادة كلّ ما عبد
من دون الله من شيء. وقد بيَّنا معنى الطاغوت فيما مضى قبل بشواهد ذلك ، وذكرنا
اختلاف أهل التأويل فيه بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع ، وذكرنا أنه في
(21/272)
هذا الموضع : الشيطان ، وهو في هذا
الموضع وغيره بمعنى واحد عندنا.
ذكر من قال ما ذكرنا في هذا الموضع :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال
: ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : (
وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ ) قال : الشيطان.
حدثنا محمد ، قال : ثنا أحمد ، قال : ثنا أسباط ، عن السديّ( وَالَّذِينَ
اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا ) قال : الشيطان.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : ( وَالَّذِينَ
اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا ) قال : الشيطان هو ها هنا واحد وهي
جماعة.
والطاغوت على قول ابن زيد هذا واحد مؤنث ، ولذلك قيل : أن يعبدوها. وقيل : إنما
أُنثت لأنها في معنى جماعة.
وقوله : ( وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ ) يقول : وتابوا إلى الله ورجعوا إلى الإقرار
بتوحيده ، والعمل بطاعته ، والبراءة مما سواه من الآلهة والأنداد. وبنحو الذي قلنا
في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا زيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : ( وَأَنَابُوا
إِلَى اللَّهِ ) : وأقبلوا إلى الله.
حدثنا محمد ، قال : ثنا أحمد ، قال : ثنا أسباط ، عن السديّ ، قوله : (
وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ ) قال : أجابوا إليه.
وقوله : ( لَهُمُ الْبُشْرَى ) يقول : لهم البشرى في الدنيا بالجنة في الآخرة(
فَبَشِّرْ عِبَادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ ) يقول جل ثناؤه لنبيه محمد
صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم : فبشر يا محمد عبادي الذين يستمعون القول من
القائلين ، فيتبعون أرشده وأهداه ، وأدله على توحيد الله ، والعمل بطاعته ،
ويتركون ما سوى ذلك من
(21/273)
أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ (19) لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعَادَ (20)
القول الذي لا يدل على رشاد ، ولا يهدي
إلى سداد.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( فَيَتَّبِعُونَ
أَحْسَنَهُ ) وأحسنه طاعة الله.
حدثنا محمد ، قال : ثنا أحمد ، قال : ثنا أسباط ، عن السديّ ، في قوله : (
فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ ) قال : أحسن ما يؤمرون به فيعلمون به.
وقوله : ( أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ ) يقول تعالى ذكره : الذين يستمعون
القول فيتبعون أحسنه ، الذين هداهم الله ، يقول : وفقهم الله للرشاد وإصابة الصواب
، لا الذين يعرضون عن سماع الحقّ ، ويعبدون ما لا يضرّ ، ولا ينفع. وقوله : (
أُولَئِكَ هُمْ أُولُو الألْبَابِ ) يعني : أولو العقول والحجا.
وذُكر أن هذه الآية نزلت في رهط معروفين وحَّدوا الله ، وبرئوا من عبادة كل ما دون
الله قبل أن يُبعث نبيّ الله ، فأنزل الله هذه الآية على نبيه يمدحهم.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : ( وَالَّذِينَ
اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا ... ) الآيتين ، حدثني أبي أن هاتين
الآيتين نزلتا في ثلاثة نفر كانوا في الجاهلية يقولون : لا إله إلا الله : زيد بن
عمرو ، وأبي ذرّ الغفاري ، وسلمان الفارسيّ ، نزل فيهم : ( وَالَّذِينَ
اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا ) في جاهليتهم( وَأَنَابُوا إِلَى
اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ
فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ ) لا إله إلا الله ، أولئك الذين هداهم الله بغير كتاب
ولا نبي( وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الألْبَابِ ).
القول في تأويل قوله تعالى : { أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ
(21/274)
أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ
(19) لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ
مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ
اللَّهُ الْمِيعَادَ (20) }
يعني تعالى ذكره بقوله : ( أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ ) : أفمن
وجبت عليه كلمة العذاب في سابق علم ربك يا محمد بكفره به.
كما حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : ( أَفَمَنْ
حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ ) بكفره.
وقوله : ( أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ ) يقول تعالى ذكره لنبيه محمد
صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم : أفأنت تنقذ يا محمد من هو في النار من حق عليه
كلمة العذاب ، فأنت تنقذه ، فاستغنى بقوله : ( تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ ) عن
هذا. وكان بعض نحويي الكوفة يقول : هذا مما يراد به استفهام واحد ، فيسبق
الاستفهام إلى غير موضعه ، فيرد الاستفهام إلى موضعه الذي هو له. وإنما المعنى
والله أعلم : أفأنت تنقذ من في النار من حقَّت عليه كلمة العذاب. قال : ومثله من
غير الاستفهام : ( أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُرَابًا
وَعِظَامًا أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ ) فردد " أنكم " مرتين. والمعنى والله
أعلم : أيعدكم أنكم مخرجون إذا متم ، ومثله قوله : ( لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ
يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا
فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ ) وكان بعضهم يستخطئ القول الذي
حكيناه عن البصريين ، ويقول : لا تكون في قوله : ( أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي
النَّارِ ) كناية عمن تقدّم ، لا يقال : القوم ضربت من قام ، يقول : المعنى :
ألتجزئة أفأنت تُنْقذ من في النار منهم. وإنما معنى الكلمة : أفأنت تهدي يا محمد
من قد سبق له في علم الله أنه من أهل النار إلى الإيمان ، فتنقذه من النار
بالإيمان ؟ لست على ذلك بقادر.
وقوله : ( لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِهَا
غُرَفٌ مَبْنِيَّة ) يقول تعالى ذكره : لكن الذين اتقوا ربهم بأداء فرائضه واجتناب
محارمه ، لهم في الجنة غرف من فوقها
(21/275)
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَامًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ (21)
غرف مبنية علاليّ بعضها فوق بعض(
تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ ) يقول تعالى ذكره : تجري من تحت أشجار جناتها
الأنهار.
وقوله : ( وَعَدَ اللَّهُ ) يقول جل ثناؤه : وعدنا هذه الغرف التي من فوقها غرف
مبنية في الجنة ، هؤلاء المتقين( لا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعَادَ ) يقول جل ثناؤه
: والله لا يخلفهم وعده ، ولكنه يوفي بوعده.
القول في تأويل قوله تعالى : { أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزلَ مِنَ السَّمَاءِ
مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الأرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا مُخْتَلِفًا
أَلْوَانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَامًا إِنَّ
فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لأولِي الألْبَابِ (21) }
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم : ( أَلَمْ تَرَ ) يا
محمد( أَنَّ اللَّهَ أَنزلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً ) وهو المطر( فَسَلَكَهُ
يَنَابِيعَ فِي الأرْضِ ) يقول : فأجراه عيونا في الأرض ، وأحدها ينبوع ، وهو ما
جاش من الأرض.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا أبو كُرَيب ، قال : ثنا ابن يمان ، عن سفيان ، عن جابر ، عن الشعبيّ ، في
قوله : ( فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الأرْضِ ) قال : كلّ ندى وماء في الأرض من
السماء نزل.
قال : ثنا ابن يمان ، عن سفيان ، عن جابر ، عن الحسن بن مسلم بن بيان ، قال : ثم
أنبت بذلك الماء الذي أنزله من السماء فجعله في الأرض عيونا زرعا( مُخْتَلِفًا
أَلْوَانُهُ ) يعني : أنواعا مختلفة من بين حنطة وشعير وسمسم وأرز ، ونحو ذلك من
الأنواع المختلفة( ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ) يقول : ثم ييبس ذلك الزوع
من بعد خُضرته ، يقال للأرض إذا يبس ما فيها من الخضر وذوى : هاجت
(21/276)
الأرض ، وهاج الزرع.
وقوله : ( فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ) يقول : فتراه من بعد خُضرته ورطوبته قد يبس فصار
أصفر ، وكذلك الزرع إذا يبس اصفرّ( ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَامًا ) والحطام : فتات
التبن والحشيش ، يقول : ثم يجعل ذلك الزرع بعد ما صار يابسا فُتاتا متكسرا.
وقوله : ( إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لأولِي الألْبَابِ ) يقول تعالى ذكره : إن
في فعل الله ذلك كالذي وصف لذكرى وموعظة لأهل العقول والحجا يتذكرون به ، فيعلمون
أن من فعل ذلك فلن يتعذر عليه إحداث ما شاء من الأشياء ، وإنشاء ما أراد من
الأجسام والأعراض ، وإحياء من هلك من خلقه من بعد مماته وإعادته من بعد فنائه ،
كهيئته قبل فنائه ، كالذي فعل بالأرض التي أنزل عليها من بعد موتها الماء ، فأنبت
بها الزرع المختلف الألوان بقدرته.
(21/277)
أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (22)
القول في تأويل قوله تعالى : {
أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلإسْلامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ
فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلالٍ
مُبِينٍ (22) }
يقول تعالى ذكره : أفمن فسح الله قلبه لمعرفته ، والإقرار بوحدانيته ، والإذعان
لربوبيته ، والخضوع لطاعته( فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ ) يقول : فهو على
بصيرة مما هو عليه ويقين ، بتنوير الحق في قلبه ، فهو لذلك لأمر الله متبع ، وعما
نهاه عنه منته فيما يرضيه ، كمن أقسى الله قلبه ، وأخلاه من ذكره ، وضيقه عن
استماع الحق ، واتباع الهدى ، والعمل بالصواب ؟ وترك ذكر الذي أقسى الله قلبه ،
وجواب الاستفهام اجتزاء بمعرفة السامعين المراد من الكلام ، إذ ذكر أحد الصنفين ،
وجعل مكان ذكر الصنف الآخر الخبر عنه بقوله : ( فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ
قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ ).
(21/277)
اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (23)
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل
التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : ( أَفَمَنْ
شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلإسْلامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ ) يعني :
كتاب الله ، هو المؤمن به يأخذ ، وإليه ينتهي.
حدثنا محمد ، قال : ثنا أحمد ، قال : ثنا أسباط ، عن السديّ ، قوله : ( أَفَمَنْ
شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلإسْلامِ ) قال : وسع صدره للإسلام ، والنور : الهدى.
حُدثت عن ابن أبي زائدة عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد( أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ
صَدْرَهُ لِلإسْلامِ ) قال : ليس المنشرح صدره مثل القاسي قلبه.
قوله : ( فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ ) يقول تعالى
ذكره : فويل للذين جفت قلوبهم ونأت عن ذكر الله وأعرضت ، يعني عن القرآن الذي
أنزله تعالى ذكره ، مذكرا به عباده ، فلم يؤمن به ، ولم يصدّق بما فيه. وقيل : (
مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ ) والمعنى : عن ذكر الله ، فوضعت " من " مكان
" عن " ، كما يقال في الكلام : أتخمت من طعام أكلته ، وعن طعام أكلته
بمعنى واحد.
وقوله : ( أُولَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ ) يقول تعالى ذكره : هؤلاء القاسية قلوبهم
من ذكر الله في ضلال مبين ، لمن تأمله وتدبره بفهم أنه في ضلال عن الحق جائر.
القول في تأويل قوله تعالى : { اللَّهُ نزلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا
مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ
تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ
يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (23) }
(21/278)
يقول تعالى ذكره : ( اللَّهُ نزلَ
أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا ) يعني به القرآن( مُتَشَابِهًا ) يقول : يشبه بعضه
بعضا ، لا اختلاف فيه ، ولا تضادّ.
كما حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : ( اللَّهُ
نزلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا ) الآية تشبه الآية ، والحرف يشبه
الحرف.
حدثنا محمَّد قال : ثنا أحمد ، قال : ثنا أسباط ، عن السديّ( كِتَابًا
مُتَشَابِهًا ) قال : المتشابه : يشبه بعضه بعضا.
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا جرير ، عن يعقوب ، عن جعفر ، عن سعيد بن جُبَير ، في
قوله : ( كِتَابًا مُتَشَابِهًا ) قال : يشبه بعضه بعضا ، ويصدّق بعضه بعضا ،
ويدلّ بعضه على بعض.
وقوله : ( مَثَانِيَ ) يقول : تُثنى فيه الأنباء والأخبار والقضاء والأحكام
والحجج.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : ثنا ابن عُلَية ، عن أبي رجاء ، عن الحسن ، في
قوله : ( اللَّهُ نزلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ ) قال
: ثنى الله فيه القضاء ، تكون السورة فيها الآية في سورة أخرى آية تشبهها ، وسئل
عنها عكرمة (1) .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال
: ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : (
كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ ) قال : في القرآن كله.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( مَثَانِيَ ) قال :
__________
(1) الذي في الدر : وسئل عنها عكرمة ، فقال : ثنى الله فيه القضاء.
(21/279)
ثَنَى الله فيه الفرائض ، والقضاء ،
والحدود.
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ،
عن ابن عباس ، قوله : ( مَثَانِيَ ) قال : كتاب الله مثاني ، ثنى فيه الأمر مرارا.
حدثنا محمد ، قال : ثنا أحمد ، قال : ثنا أسباط ، عن السديّ ، فى قوله : (
مَثَانِيَ ) قال : كتاب الله مثاني ، ثَنى فيه الأمر مرارا.
حدثنا محمد ، قال : ثنا أحمد ، قال : ثنا أسباط ، عن السديّ ، في قوله : (
مَثَانِيَ ) ثنى في غير مكان.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : ( مَثَانِيَ )
مردّد ، رُدِّد موسى في القرآن وصالح وهود والأنبياء في أمكنة كثيرة.
وقوله : ( تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ) يقول
تعالى ذكره : تقشعرّ من سَماعه إذا تلي عليهم جلود الذين يخافون ربهم( ثُمَّ
تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ) يعني إلى العمل بما في
كتاب الله ، والتصديق به.
وذُكر أن هذه الآية نزلت على رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم من أجل أن
أصحابه سألوه الحديث.
ذكر الرواية بذلك :
حدثنا نصر بن عبد الرحمن الأودي ، قال : ثنا حكام بن سلم ، عن أيوب بن موسى ، عن
عمرو الملئي عن ابن عباس ، قالوا : يا رسول الله لو حدثتنا ؟ قال : فنزلت : (
اللَّهُ نزلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ ).
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا حكام ، عن أيوب بن سيار أبي عبد الرحمن ، عن عمرو بن
قيس ، قال : قالوا : يا نبي الله ، فذكر مثله.
( ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ ) يقول تعالى ذكره : هذا الذي
يصيب هؤلاء القوم الذين وصفت صفتهم عند سماعهم القرآن من اقشعرار جلودهم ،
(21/280)
أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (24) كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (25)
ثم لينها ولين قلوبهم إلى ذكر الله من
بعد ذلك ، ( هُدَى اللَّهِ ) يعني : توفيق الله إياهم وفَّقهم له( يَهْدِي بِهِ
مَنْ يَشَاءُ ) يقول : يهدي تبارك وتعالى بالقرآن من يشاء من عباده.
وقد يتوجَّه معنى قوله : ( ذَلِكَ هُدَى ) إلى أن يكون ذلك من ذكر القرآن ، فيكون
معنى الكلام : هذا القرآن بيان الله يهدي به من يشاء ، يوفق للإيمان به من يشاء.
وقوله : ( وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ ) يقول تعالى ذكره : ومن
يخذله الله عن الإيمان بهذا القرآن والتصديق بما فيه ، فيضله عنه ، فما له من هاد
، يقول : فما له من مُوَفِّق له ، ومسدد يسدده في اتباعه.
القول في تأويل قوله تعالى : { أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ
يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ
(24) كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لا
يَشْعُرُونَ (25) }
اختلف أهل التأويل في صفة اتقاء هذا الضالّ بوجهه سُوء العذاب ، فقال بعضهم : هو
أن يُرْمى به في جهنم مكبوبا على وجهه ، فذلك اتقاؤه إياه.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال
: ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله : (
أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ ) قال : يَخِرّ على وجهه في النار
، يقول : هو مثل( أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِنًا
يَوْمَ الْقِيَامَةِ ) ؟.
وقال آخرون : هو أن ينطلق به إلى النار مكتوفا ، ثم يُرمى به فيها ، فأوّل ما تَمس
النار وجهه ، وهذا قول يُذكر عن ابن عباس من وجه كرهت أن أذكره
(21/281)
فَأَذَاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْيَ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآَخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (26) وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآَنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (27) قُرْآَنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (28)
لضعف سنده ، وهذا أيضا مما ترك جوابه
استغناء بدلالة ما ذكر من الكلام عليه عنه. ومعنى الكلام : أفمن يتقي بوجهه سوء
العذاب يوم القيامة خير ، أم من ينعم في الجنان ؟.
وقوله : ( وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ ) يقول :
ويقال يومئذ للظالمين أنفسهم بإكسابهم إياها سخط الله. ذوقوا اليوم أيها القوم
وبال ما كنتم في الدنيا تكسبون من معاصي الله.
وقوله : ( كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ) يقول تعالى ذكره : كذب الذين من
قبل هؤلاء المشركين من قُريش من الأمم الذين مضوا في الدهور الخالية رسلهم(
فَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ ) يقول : فجاءهم عذاب الله من
الموضع الذي لا يشعرون : أي لا يعلمون بمجيئه منه.
القول في تأويل قوله تعالى : { فَأَذَاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْيَ فِي الْحَيَاةِ
الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (26) }
يقول تعالى ذكره : فعجل الله لهؤلاء الأمم الذين كذبوا رسلهم الهوان في الدنيا ،
والعذاب قبل الآخرة ، ولم ينظرهم إذ عتوا عن أمر ربهم( وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ
أَكْبَرُ ) يقول : ولعذاب الله إياهم في الآخرة إذا أدخلهم النار ، فعذّبهم بها ،
أكبر من العذاب الذي عذّبهم به في الدنيا ، لو كانوا يعلمون ، يقول : لو علم هؤلاء
المشركون من قريش ذلك.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ
مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (27) قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ
ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (28) }
يقول تعالى ذكره : ولقد مثلنا لهؤلاء المشركين بالله من كل مثل من أمثال القرون
للأمم الخالية ، تخويفا منا لهم وتحذيرا( لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ) يقول :
ليتذكروا
(21/282)
ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (29)
فينزجروا عما هم عليه مقيمون من الكفر
بالله.
وقوله : ( قُرْآنًا عَرَبِيًّا ) يقول تعالى ذكره : لقد ضربنا للناس في هذا القرآن
من كل مثل قرآنا عربيا( غَيْرَ ذِي عِوَجٍ ) يعني : ذي لبس.
كما حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ،
قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد( قُرْآنًا
عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ ) : غير ذي لبس.
ونصب قوله : ( قُرْآنًا عَرَبِيًّا ) على الحال من قوله : هذا القرآن ، لأن القرآن
معرفة ، وقوله( قُرْآنًا عَرَبِيًّا ) نكرة.
وقوله : ( لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ) يقول : جعلنا قرآنا عربيا إذ كانوا عربا ،
ليفهموا ما فيه من المواعظ ، حتى يتقوا ما حذرهم الله فيه من بأسه وسطوته ،
فينيبوا إلى عبادته وإفراد الألوهة له ، ويتبرّءوا من الأنداد والآلهة.
القول في تأويل قوله تعالى : { ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا رَجُلا فِيهِ شُرَكَاءُ
مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلا الْحَمْدُ
لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (29) }
يقول تعالى ذكره : مثل الله مثلا للكافر بالله الذي يعبد آلهة شَتَّى ، ويطيع
جماعة من الشياطين ، والمؤمن الذي لا يعبُد إلا الله الواحد ، يقول تعالى ذكره :
ضرب الله مثلا لهذا الكافر رجلا فيه شركاء. يقول : هو بين جماعة مالكين متشاكسين ،
يعني مختلفين متنازعين ، سيئة أخلاقهم ، من قولهم : رجل شكس : إذا كان سيئ الخلق ،
وكل واحد منهم يستخدمه بقدر نصيبه ومِلْكه فيه ، ورجلا مسلما لرجل ، يقول : ورجلا
خُلُوصا لرجل يعني المؤمن الموحد الذي أخلص عبادته لله ، لا يعبد غيره ولا يدين
لشيء سواه بالربوبية.
واختلفت القرّاء في قراءة قوله : ( وَرَجُلا سَلَمًا ) فقرأ ذلك بعض قرّاء أهل
(21/283)
مكة والبصرة : " ورَجُلا سَالِمًا
" وتأوّلوه بمعنى : رجلا خالصا لرجل. وقد رُوي ذلل أيضا عن ابن عباس.
حدثنا أحمد بن يوسف ، قال : ثنا القاسم ، قال : ثنا حجاج ، عن هارون ، عن جرير بن
حازم ، عن حميد ، عن مجاهد ، عن ابن عباس أنه قرأها : " سَالِمًا لِرَجُلٍ
" يعني بالألف ، وقال : ليس فيه لأحد شيء.
وقرأ ذلك عامة قرّاء المدينة والكوفة : ( وَرَجُلا سَلَمًا لِرَجُلٍ ) بمعنى :
صلحا (1) .
والصواب من القول في ذلك عندنا أنهما قراءتان معروفتان ، قد قرأ بكل واحدة منهما
علماء من القرّاء ، متقاربتا المعنى ، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب ، وذلك أن السلم
مصدر من قول القائل : سَلِم فلان لله سَلما (2) بمعنى : خَلَص له خُلوصا ، تقول
العرب : ربح فلان في تجارته رِبْحا ورَبَحا (3) وسَلِمَ سِلْما وسَلَما (4) وسلامة
، وأن السالم من صفة الرجل ، وسلم مصدر من ذلك. وأما الذي توهمه من رغب من قراءة
ذلك سَلَما من أن معناه صلحا ، فلا وجه للصلح في هذا الموضع ، لأن الذي تقدم من
صفة الآخر ، إنما تقدم بالخبر عن اشتراك جماعة فيه دون الخبر عن حربه بشيء من
الأشياء ، فالواجب أن يكون الخبر عن مخالفه بخلوصه لواحد لا شريك له ، ولا موضع
للخبر عن الحرب والصلح في هذا الموضع.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
__________
(1) قائل هذا : هو أبو عبيدة في مجاز القرآن (مصورة جامعة القاهرة رقم 26390
الورقة 159) .
(2) لم أجد في اللسان ( سلم لله سلما " بالتحريك ، بالمعنى الذي أورده المؤلف
هنا .
(3) في ( اللسان : ربح ) : الربح ( بالكسر ) ، والربح ( بالتحريك ) ، والرباح (
بفتح الراء ) : النماء في التجر ا هـ . قلت : وعلى هذا فهما مصدران كما قال المؤلف
. وقال : قال ابن الأعرابي : الربح والربح ، مثل البدل والبدل . وقال الجوهري :
مثل شبه وشبه : هو اسم ما ربحه .
(4) ضبط الثاني في اللسان ضبط قلم ، بفتح السين وسكون اللام ، عن أبي إسحاق الزجاج
، على أنه قراءة ، ولعله خطأ من الناسخ .
(21/284)
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال
: ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله :
" رَجُلا فِيه شُرَكاءُ مُتَشاكِسُونَ وَرَجُلا سالِمًا لِرَجُلٍ " قال
: هذا مثل إله الباطل وإله الحق.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : ( ضَرَبَ
اللَّهُ مَثَلا رَجُلا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ ) قال : هذا المشرك تتنازعه
الشياطين ، لا يقر به بعضهم لبعض " وَرَجُلا سَالِمًا لِرَجُلٍ " قال :
هو المؤمن أخلص الدعوة والعبادة.
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ،
عن ابن عباس ، قوله : ( ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا رَجُلا فِيهِ شُرَكَاءُ
مُتَشَاكِسُونَ ) إلى قوله : ( بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ ) قال : الشركاء
المتشاكسون : الرجل الذي يعبد آلهة شتى كلّ قوم يعبدون إلها يرضونه ويكفرون بما
سواه من الآلهة ، فضرب الله هذا المثل لهم ، وضرب لنفسه مثلا يقول : رجلا سَلِمَ
لرجل يقول : يعبدون إلها واحدا لا يختلفون فيه.
حدثنا محمد ، قال : ثنا أحمد ، قال : ثنا أسباط ، عن السديّ ، في قوله : ( ضَرَبَ
اللَّهُ مَثَلا رَجُلا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ ) قال : مثل لأوثانهم التي
كانوا يعبدون.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : ( ضَرَبَ
اللَّهُ مَثَلا رَجُلا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلا سَلَمًا لِرَجُلٍ
) قال : أرأيت الرجل الذي فيه شركاء متشاكسون كلهم سيئ الخلق ، ليس منهم واحد إلا
تلقاه آخذا بطرف من مال لاستخدامه أسواؤهم ، والذي لا يملكه إلا واحد ، فإنما هذا
مثل ضربه الله لهؤلاء الذين يعبدون الآلهة ، وجعلوا لها في أعناقهم حقوقا ، فضربه
الله مثلا لهم ، وللذي يعبده وحده( هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلا الْحَمْدُ
(21/285)
إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (30) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ (31) فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ (32)
لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا
يَعْلَمُونَ ) وفي قوله : " وَرَجُلا سالِمَا لِرَجُلٍ " يقول : ليس معه
شرك.
وقوله : ( هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلا ) يقول تعالى ذكره : هل يستوي مثلُ هذا الذي
يخدم جماعة شركاء سيئة أخلاقهم مختلفة فيه لخدمته مع منازعته شركاءه فيه والذي
يخدمُ واحدا لا ينازعه فيه منازع إذا أطاعه عرف له موضع طاعته وأكرمه ، وإذا أخطأ
صفح له عن خطئه ، يقول : فأيّ هذين أحسن حالا وأروح جسما وأقلّ تعبا ونصبا ؟.
كما حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه
، عن ابن عباس( هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلا الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا
يَعْلَمُونَ ) يقول : من اختُلف فيه خير ، أم من لم يُخْتلَف فيه ؟.
وقوله : ( الْحَمْدُ لِلَّهِ ) يقول : الشكر الكامل ، والحمدُ التامّ لله وحده دون
كلّ معبود سواه. وقوله : ( بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ ) يقول جل ثناؤه :
وما يستوي هذا المشترك فيه ، والذي هو منفرد ملكه لواحد ، بل أكثر هؤلاء المشركين بالله
لا يعلمون أنهما لا يستويان ، فهم بجهلهم بذلك يعبدون آلهة شتى من دون الله. وقيل
: ( هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلا ) ولم يقل : مثلين لأنهما كلاهما ضربا مثلا واحدا ،
فجرى المثل بالتوحيد ، كما قال جل ثناؤه : ( وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّه
) آية إذ كان معناهما واحدا في الآية.
والله أعلم.
القول في تأويل قوله تعالى : { إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (30) ثُمَّ
إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ (31) }
(21/286)
القول في تأويل قوله تعالى : { إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (30) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ (31) فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ (32) }
(21/286)
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صَلَّى
الله عَلَيْهِ وَسَلَّم : إنك يا محمد ميت عن قليل ، وإن هؤلاء المكذّبيك من قومك
والمؤمنين منهم ميتون( ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ
تَخْتَصِمُونَ ) يقول : ثم إن جميعكم المؤمنين والكافرين يوم القيامة عند ربكم
تختصمون فيأخذ للمظلوم منكم من الظالم ، ويفصل بين جميعكم بالحقّ.
واختلف أهل التأويل في تأويل ذلك ، فقال بعضهم : عنى به اختصام المؤمنين والكافرين
، واختصام المظلوم والظالم.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا عليّ ، قال : ثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، في
قوله : ( ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ )
يقول : يخاصم الصادق الكاذب ، والمظلوم الظالم ، والمهتدي الضال ، والضعيف
المستكبر.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : ( ثُمَّ
إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ ) قال : أهل
الإسلام وأهل الكفر.
حدثني ابن البرقي ، قال : ثنا ابن أبي مريم ، قال : ثنا ابن الدراوردي ، قال : ثني
محمد بن عمرو عن يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب بن الزبير ، قال : لما نزلت هذه الآية
: ( إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ
عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ ) قال الزبير : يا رسول الله ، أينكر علينا ما كان
بيننا فى الدنيا مع خواصّ الذنوب ؟ فقال النبي : صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم
" نَعَمْ حتى يُؤَدَّى إلى كُلِّ ذي حَقٍّ حَقُّهُ.
وقال آخرون : بل عني بذلك اختصام أهل الإسلام.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا يعقوب ، عن جعفر ، عن سعيد ، عن ابن عمر ، قال : نزلت
علينا هذه الآية وما ندري ما تفسيرها حتى وقعت الفتنة ،
(21/287)
فقلنا : هذا الذي وعدنا ربُّنا أن
نختصم في( ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ ).
حدثني يعقوب ، قال : ثنا ابن علية ، قال : ثنا ابن عون ، عن إبراهيم ، قال : لما
نزلت : ( إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ ثُمَّ إِنَّكُمْ ) ... الآية ،
قالوا : ما خصومتنا بيننا ونحن إخوان ، قال : فلما قُتل عثمان بن عفان ، قالوا :
هذه خصومتنا بيننا.
حُدثت عن ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع بن أنس ، عن أبي العالية ، في قوله(
ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ ) قال : هم
أهل القبلة.
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال : عني بذلك : إنك يا محمد ستموت ، وإنكم
أيها الناس ستموتون ، ثم إن جميعكم أيها الناس تختصمون عند ربكم ، مؤمنكم وكافركم
، ومحقوكم ومبطلوكم ، وظالموكم ومظلوموكم ، حتى يؤخذ لكلّ منكم ممن لصاحبه قبله حق
حقُّه.
وإنما قلنا هذا القول أولى بالصواب لأن الله عم بقوله : ( ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ ) خطاب جميع عباده ، فلم يخصص بذلك
منهم بعضا دون بعض ، فذلك على عمومه على ما عمه الله به ، وقد تنزل الآية في معنى
، ثم يكون داخلا في حكمها كلّ ما كان في معنى ما نزلت به.
وقوله : ( فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ
إِذْ جَاءَهُ ) يقول تعالى ذكره : فمن من خلق الله أعظم فرية ممن كذب على الله ،
فادّعى أن له ولد وصاحبة ، أو أنه حرَّم ما لم يحرمه من المطاعم( وَكَذَّبَ
بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ ) يقول : وكذّب بكتاب الله إذ أنزله على محمد ، وابتعثه
الله به رسولا وأنكر قول لا إله إلا الله.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
(21/288)
وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (33) لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ (34)
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ
إِذْ جَاءَهُ ) : أي بالقرآن.
وقوله : ( أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ ) يقول تبارك وتعالى :
أليس في النار مأوى ومسكن لمن كفر بالله ، وامتنع من تصديق محمد صَلَّى الله
عَلَيْهِ وَسَلَّم ، واتباعه على ما يدعوه إليه مما أتاه به من عند الله من
التوحيد ، وحكم القرآن ؟.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ
أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (33) لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ
جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ (34) }
اختلف أهل التأويل في الذي جاء بالصدق وصدّق به ، وما ذلك ، فقال بعضهم : الذي جاء
بالصدق رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم. قالوا : والصدق الذي جاء به : لا
إله إلا الله ، والذي صدق به أيضا ، هو رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : ثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ،
قوله : ( وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ ) يقول : من جاء بلا إله إلا الله(
وَصَدَّقَ بِهِ ) يعني : رسوله.
وقال آخرون : الذي جاء بالصدق : رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم ، والذي
صدّق به : أبو بكر رضي الله عنه.
(21/289)
* ذكر من قال ذلك :
حدثني أحمد بن منصور ، قال : ثنا أحمد بن مصعد المروزي ، قال : ثنا عمر بن إبراهيم
بن خالد ، عن عبد الملك بن عمير ، عن أسيد بن صفوان ، عن عليّ رضي الله عنه ، في
قوله : ( وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ ) قال : محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم
، وصدّق به ، قال : أبو بكر رضي الله عنه.
وقال آخرون : الذي جاء بالصدق : رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم ، والصدق
: القرآن ، والمصدّقون به : المؤمنون
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( وَالَّذِي جَاءَ
بِالصِّدْقِ ) قال : هذا رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم جاء بالقرآن ،
وصدّق به المؤمنون.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : ( وَالَّذِي
جَاءَ بِالصِّدْقِ ) رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم ، وصدّق به
المسلمون.
وقال آخرون : الذي جاء بالصدق جبريل ، والصدق : القرآن الذي جاء به من عند الله ،
وصدّق به رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد ، قال : ثنا أحمد ، قال : ثنا أسباط ، عن السديّ ، في قوله : (
وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ ) محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ
وَسَلَّم.
وقال آخرون : الذي جاء بالصدق : المؤمنون ، والصدق : القرآن ، وهم المصدِّقون به.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا جرير ، عن منصور ، عن مجاهد قوله : ( وَالَّذِي جَاءَ
بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ ) قال : الذين يجيئون بالقرآن يوم القيامة ، فيقولون :
(21/290)
هذا الذي أعطيتمونا فاتبعنا ما فيه.
قال : ثنا حكام ، عن عمرو ، عن منصور ، عن مجاهد( وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ
وَصَدَّقَ بِهِ ) قال : هم أهل القرآن يجيئون به يوم القيامة يقولون : هذا الذي
أعطيتمونا ، فاتبعنا ما فيه.
والصواب من القول في ذلك أن يقال : إن الله تعالى ذكره عنى بقوله : ( وَالَّذِي
جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ ) كلّ من دعا إلى توحيد الله ، وتصديق رسله ،
والعمل بما ابتعث به رسوله من بين رسل الله وأتباعه والمؤمنين به ، وأن يقال :
الصدق هو القرآن ، وشهادة أن لا إله إلا الله ، والمصدّق به : المؤمنون بالقرآن ،
من جميع خلق الله كائنا من كان من نبيّ الله وأتباعه.
وإنما قلنا ذلك أولى بالصواب ، لأن قوله تعالى ذكره : ( وَالَّذِي جَاءَ
بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ ) عَقيب قوله : ( فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ
عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ ) وذلك ذم من الله للمفترين
عليه ، المكذبين بتنزيله ووحيه ، الجاحدين وحدانيته ، فالواجب أن يكون عَقيب ذلك
مدح من كان بخلاف صفة هؤلاء المذمومين ، وهم الذين دعوهم إلى توحيد الله ، ووصفه
بالصفة التي هو بها ، وتصديقهم بتنزيل الله ووحيه ، والذي كانوا يوم نزلت هذه
الآية ، رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم وأصحابه ومن بعدهم ، القائمون في
كل عصر وزمان بالدعاء إلى توحيد الله ، وحكم كتابه ، لأن الله تعالى ذكره لم يخص
وصفه بهذه لصفة التي في هذه الآية على أشخاص بأعيانهم ، ولا على أهل زمان دون
غيرهم ، وإنما وصفهم بصفة ، ثم مدحهم بها ، وهي المجيء بالصدق والتصديق به ، فكل
من كان كذلك وصفه فهو داخل في جملة هذه الآية إذا كان من بني آدم.
ومن الدليل على صحة ما قلنا أن ذلك كذلك في قراءة ابن مسعود. " وَالَّذِينَ
جَاءُوا بِالصِّدْقِ وَصَدَّقُوا بِهِ " فقد بين ذلك من قراءته أن الذي من
(21/291)
لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ (35)
قوله( وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ )
لم يعن بها واحد بعينه ، وأنه مراد بها جِمَاع ذلك صفتهم ، ولكنها أخرجت بلفظ
الواحد ، إذ لم تكن موقتة. وقد زعم بعض أهل العربية من البصريين ، أن " الذي
" في هذا الموضع جُعل في معنى جماعة بمنزلة " مَن " . ومما يؤيد ما
قلنا أيضا قوله : ( أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ ) فجعل الخبر عن " الذي
" جماعا ، لأنها في معنى جماع. وأما الذين قالوا : عني بقوله : ( وَصَدَّقَ بِهِ
) : غير الذي جاء بالصدق ، فقول بعيد من المفهوم ، لأن ذلك لو كان كما قالوا لكان
التنزيل : والذي جاء بالصدق ، والذي صدق به أولئك هم المتقون ، فكانت تكون "
الذي " مكررة مع التصديق ، ليكون المصدق غير المصدق ، فأما إذا لم يكرّر ،
فإن المفهوم من الكلام ، أن التصديق من صفة الذي جاء بالصدق ، لا وجه للكلام غير
ذلك. وإذا كان ذلك كذلك ، وكانت " الذي " في معنى الجماع بما قد بيَّنا
، كان الصواب من القول في تأويله ما بيَّنا.
وقوله : ( أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ ) يقول جل ثناؤه : هؤلاء الذين هذه صفتهم.
هم الذين اتقوا الله بتوحيده والبراءة من الأوثان والأنداد ، وأداء فرائضه ،
واجتناب معاصيه ، فخافوا عقابه.
كما حدثني عليّ ، قال : ثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس(
أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ ) يقول : اتقوا الشرك.
وقوله : ( لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ) يقول تعالى ذكره : لهم عند
ربهم يوم القيامة ، ما تشتهيه أنفسهم ، وتلذّه أعينهم( ذَلِكَ جَزَاءُ
الْمُحْسِنِينَ ) يقول تعالى ذكره : هذا الذي لهم عند ربهم ، جزاء من أحسن في
الدنيا فأطاع الله فيها ، وائتمر لأمره ، وانتهى عما نهاه فيها عنه.
القول في تأويل قوله تعالى : { لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي
عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ (35)
}
يقول تعالى ذكره : وجزى هؤلاء المحسنين ربهم بإحسانهم ، كي يكفر
(21/292)
أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (36) وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُضِلٍّ أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقَامٍ (37)
عنهم أسوأ الذي عملوا في الدنيا من
الأعمال ، فيما بينهم وبين ربهم ، بما كان منهم فيها من توبة وإنابة مما اجترحوا
من السيئات فيها( وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ ) يقول : ويثيبهم ثوابهم( بِأَحْسَنِ
الَّذِي كَانُوا ) في الدنيا( يَعْمَلُونَ ) مما يرضى الله عنهم دون أسوئها.
كما يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد : ( وَالَّذِي جَاءَ
بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ ) : أي (1) ولهم ذنوب ،
أي رب نعم( لَهُمْ ) فيها( مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاءُ
الْمُحْسِنِينَ لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا
وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ ) ، وقرأ : (
إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ )
... إلى أن بلغ( وَمَغْفِرَةٌ ) لئلا ييأس من لهم الذنوب أن لا يكونوا منهم(
وَرِزْقٌ كَرِيمٌ ) [الأنفال : 4] ، وقرأ : ( إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ
) ... إلى آخر الآية.
القول في تأويل قوله تعالى : { أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ
وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ
مِنْ هَادٍ (36) وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُضِلٍّ أَلَيْسَ اللَّهُ
بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقَامٍ (37) }
اختلفت القرّاء في قراءة : ( أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ ) فقرأ ذلك بعض
قرّاء المدينة وعامة قرّاء أهل الكوفة : " أليس الله بكاف عباده " على
الجماع ، بمعنى : أليس الله بكاف محمدا وأنبياءه من قبله ما خوّفتهم أممهم من أن
تنالهم آلهتهم بسوء ، وقرأ ذلك عامة قرّاء المدينة والبصرة ، وبعض قرّاء الكوفة :
( بِكَافٍ عَبْدَهُ ) على التوحيد ، بمعنى : أليس الله بكاف عبده محمدا.
والصواب من القول في ذلك أنهما قراءتان مشهورتان في قراءة الأمصار.
__________
(1) في الأصل : ألهم ذنوب ، وهو استفهام لا معنى له في هذا المقام ، وقد أصلحناه
على هذا النحو ، ليتفق مع ما تضمنه الحديث .
(21/293)
فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب لصحة
مَعْنَيَيْهَا واستفاضة القراءة بهما في قَرَأَةِ الأمصار.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد ، قال : ثنا أحمد ، قال : ثنا أسباط ، عن السديّ( أَلَيْسَ اللَّهُ
بِكَافٍ عَبْدَهُ ) يقول : محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : ( أَلَيْسَ
اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ ) قال : بلى ، والله ليكفينه الله ويعزّه وينصره كما
وعده.
وقوله : ( وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ ) يقول تعالى ذكره لنبيه
محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم : ويخوّفك هؤلاء المشركون يا محمد بالذين من
دون الله من الأوثان والآلهة أن تصيبك بسوء ، ببراءتك منها ، وعيبك لها ، والله كافيك
ذلك.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( وَيُخَوِّفُونَكَ
بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ ) الآلهة ، قال : " بعث رسول الله صَلَّى الله
عَلَيْهِ وَسَلَّم خالد بن الوليد إلى شعب بسُقام (1) ليكسر العزّى ، فقال سادنها
، وهو قيمها : يا خالد أنا أحذّركها ، إن لها شدّة لا يقوم إليها شيء ، فمشى إليها
خالد بالفأس فهشّم أنفها " .
حدثنا محمد ، قال : ثنا أحمد ، قال : ثنا أسباط ، عن السديّ( وَيُخَوِّفُونَكَ
بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ ) يقول : بآلهتهم التي كانوا يعبدون.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله :
__________
(1) سقام كغراب : واد بالحجاز ، حمته قريش للعزى ، يضاهئون به حرم الكعبة . ا هـ
من معجم ياقوت .
(21/294)
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ (38)
( وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ
دُونِهِ ) قال : يخوّفونك بآلهتهم التي من دونه.
وقوله : ( وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ ) يقول تعالى ذكره : ومن
يخذله الله فيضلَّه عن طريق الحق وسبيل الرشد ، فما له سواه من مرشد ومسدّد إلى
طريق الحقّ ، ومُوفِّق للإيمان بالله ، وتصديق رسوله ، والعمل بطاعته( وَمَنْ
يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُضِلٍّ ) يقول : ومن يوفِّقه الله للإيمان به ،
والعمل بكتابه ، فما له من مضلّ ، يقول : فما له من مزيغ يزيغه عن الحق الذي هو
عليه إلى الارتداد إلى الكفر( أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقَامٍ ) يقول
جل ثناؤه : أليس الله يا محمد بعزيز في انتقامه من كفرة خلقه ، ذي انتقام من
أعدائه الجاحدين وحدانيته.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ
وَالأرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ
اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ
أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ
عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ (38) }
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم : ولئن سألت يا محمد
هؤلاء المشركين العادلين بالله الأوثان والأصنام : مَنْ خلق السموات والأرض ؟
ليقولن : الذي خلقه الله ، فإذا قالوا ذلك ، فقل : أفرأيتم أيها القوم هذا الذي
تعبدون من دون الله من الأصنام والآلهة( إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ ) يقول
: بشدة في معيشتي ، هل هن كاشفات عني ما يصيبني به ربي من الضر ؟( أَوْ أَرَادَنِي
بِرَحْمَةٍ ) يقول : إن أرادني برحمة أن يصيبني سعة في معيشتي ، وكثرة مالي ،
ورخاء وعافية في بدني ، هل هن ممسكات عني ما أراد أن يصيبني به من تلك الرحمة ؟
وترك الجواب لاستغناء السامع بمعرفة ذلك ، ودلالة ما ظهر من الكلام عليه. والمعنى
:
(21/295)
قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (39) مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ (40)
فإنهم سيقولون لا فقل : حسبي الله مما
سواه من الأشياء كلها ، إياه أعبد ، وإليه أفزع في أموري دون كلّ شيء سواه ، فإنه
الكافي ، وبيده الضر والنفع ، لا إلى الأصنام والأوثان التي لا تضر ولا تنفع ، (
عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ ) يقول : على الله يتوكل من هو متوكل ،
وبه فليثق لا بغيره. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
بشر ، قال : ثنا.يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : ( وَلَئِنْ
سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ ) حتى
بلغ( كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ ) يعني : الأصنام( أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ
مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِه )
واختلفت القرّاء في قراءة( كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ ) و( مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ ) ،
فقرأه بعضهم بالإضافة وخفض الضر والرحمة ، وقرأه بعض قرّاء المدينة وعامة قرّاء
البصرة بالتنوين ، ونصب الضر والرحمة.
والصواب من القول في ذلك عندنا ، أنهما قراءتان مشهورتان ، متقاربتا المعنى ،
فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب ، وهو نظير قوله : ( كَيْدِ الْكَافِرِينَ ) فى حال
الإضافة والتنوين.
القول في تأويل قوله تعالى : { قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ
إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (39) مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ
وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ (40) }
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم : قل يا محمد لمشركي
قومك ، الذي اتخذوا الأوثان والأصنام آلهة يعبدونها من دون الله اعملوا أيها القوم
على تمكنكم من العمل الذي تعملون ومنازلكم.
كما حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ،
(21/296)
وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال
: ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : ( عَلَى مَكَانَتِكُمْ )
قال : على ناحيتكم( إِنِّي عَامِلٌ ) كذلك على تؤدة على عمل من سلف من أنبياء الله
قبلي( فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ ) إذا جاءكم بأس الله ، من المحقّ منا من المبطل ،
والرشيد من الغويّ.
وقوله : ( مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ ) يقول تعالى ذكره : من يأتيه عذاب يخزيه ، ما
أتاه من ذلك العذاب ، يعني : يذله ويهينه( وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ )
يقول : وينزل عليه عذاب دائم لا يفارقه.
(21/297)
إِنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنِ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (41)
القول في تأويل قوله تعالى : { إِنَّا
أَنزلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنِ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ
وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ
(41) }
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم : إنا أنزلنا عليك يا
محمد الكتاب تبيانا للناس بالحقّ( فَمَنِ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ ) يقول : فمن عمل
بما في الكتاب الذي أنزلناه إليه واتبعه فلنفسه ، يقول : فإنما عمل بذلك لنفسه ،
وإياها بغى الخير لا غيرها ، لأنه أكسبها رضا الله والفوز بالجنة ، والنجاة من
النار.( وَمَنْ ضَلَّ ) يقول : ومن جار عن الكتاب الذي أنزلناه إليك ، والبيان
الذي بيَّناه لك ، فضل عن قصد المحجة ، وزال عن سواء السبيل ، فإنما يجور على نفسه
، وإليها يسوق العطب والهلاك ، لأنه يكسبها سخط الله ، وأليم عقابه ، والخزي
الدائم.( وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ ) يقول تعالى ذكره : وما أنت يا محمد
على من أرسلتك إليه من الناس برقيب ترقب أعمالهم ، وتحفظ عليهم أفعالهم ، إنما أنت
رسول ، وإنما عليك البلاغ ، وعلينا الحساب.
كما حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : ( وَمَا أَنْتَ
عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ ) أي بحفيظ.
(21/297)
اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (42)
حدثنا محمد ، قال : ثنا أحمد ، قال :
ثنا أسباط ، عن السديّ ، في قوله : ( وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ ) قال :
بحفيظ.
القول في تأويل قوله تعالى : { اللَّهُ يَتَوَفَّى الأنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا
وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا
الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الأخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ
لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (42) }
يقول تعالى ذكره : ومن الدلالة على أن الألوهة لله الواحد القهار خالصة دون كلّ ما
سواه ، أنه يميت ويحيي ، ويفعل ما يشاء ، ولا يقدر على ذلك شيء سواه ، فجعل ذلك
خبرا نبههم به على عظيم قُدرته ، فقال : ( اللَّهُ يَتَوَفَّى الأنْفُسَ حِينَ
مَوْتِهَا ) فيقبضها عند فناء أجلها ، وانقضاء مدة حياتها ، ويتوفى أيضا التي لم
تمت في منامها ، كما التي ماتت عند مماتها( فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا
الْمَوْتَ ) ذكر أن أرواح الأحياء والأموات تلتقي في المنام ، فيتعارف ما شاء الله
منها ، فإذا أراد جميعها الرجوع إلى أجسادها أمسك الله أرواح الأموات عنده وحبسها
، وأرسل أرواح الأحياء حتى ترجع إلى أجسادها إلى أجل مسمى وذلك إلى انقضاء مدة
حياتها.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا يعقوب ، عن جعفر ، عن سعيد بن جُبَير ، في قوله : (
اللَّهُ يَتَوَفَّى الأنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا ) ... الآية. قال : يجمع بين أرواح
الأحياء ، وأرواح الأموات ، فيتعارف منها ما شاء الله أن يتعارف ، فيمسك التي قضى
عليها الموت ، ويُرسل الأخرى إلى أجسادها.
حدثنا محمد بن الحسين ، قال : ثنا أحمد بن المفضل ، قال : ثنا أسباط ،
(21/298)
أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلَا يَعْقِلُونَ (43) قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (44)
عن السديّ ، في قوله : ( اللَّهُ
يَتَوَفَّى الأنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا ) قال : تقبض الأرواح عند نيام النائم ،
فتقبض روحه في منامه ، فتلقى الأرواح بعضها بعضا : أرواح الموتى وأرواح النيام ،
فتلتقي فتساءل ، قال : فيخلي عن أرواح الأحياء ، فترجع إلى أجسادها ، وتريد الأخرى
أن ترجع ، فيحبس التي قضى عليها الموت ، ويرسل الأخرى إلى أجل مسمى ، قال : إلى
بقية آجالها.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : ( اللَّهُ
يَتَوَفَّى الأنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا ) قال
: فالنوم وفاة( فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الأخْرَى
) التي لم يقبضها( إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ).
وقوله : ( إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ) يقول تعالى ذكره :
إن في قبض الله نفس النائم والميت وإرساله بعدُ نَفس هذا ترجع إلى جسمها ، وحبسه
لغيرها عن جسمها لعبرة وعظة لمن تفكر وتدبر ، وبيانا له أن الله يحيي من يشاء من
خلقه إذا شاء ، ويميت من شاء إذا شاء.
القول في تأويل قوله تعالى : { أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ
أَوَلَوْ كَانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلا يَعْقِلُونَ (43) قُلْ لِلَّهِ
الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ
تُرْجَعُونَ (44) }
يقول تعالى ذكره : أم اتخذ هؤلاء المشركون بالله من دونه آلهتهم التي يعبدونها
شفعاء تشفع لهم عند الله في حاجاتهم. وقوله : ( قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لا
يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلا يَعْقِلُونَ ) يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صَلَّى الله
عَلَيْهِ وَسَلَّم : قل يا محمد لهم : أتتخذون هذه الآلهة شفعاء كما تزعمون ولو
كانوا لا يملكون لكم نفعا ولا ضرا ، ولا يعقلون شيئا ، قل لهم : إن تكونوا
تعبدونها لذلك ، وتشفع لكم عند الله ، فأخلصوا عبادتكم لله ، وأفردوه بالألوهة ،
فإن الشفاعة
(21/299)
وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (45)
جميعا له ، لا يشفع عنده إلا من أذن له
، ورضي له قولا وأنتم متى أخلصتم له العبادة ، فدعوتموه ، وشفعكم( لَهُ مُلْكُ
السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ ) ، يقول : له سلطان السموات والأرض ومُلكها ، وما تعبدون
أيها المشركون من دونه له ، يقول : فاعبدوا الملك لا المملوك الذي لا يملك شيئا.(
ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ) يقول : ثم إلى الله مصيركم ، وهو معاقبكم على
إشراككم به ، إن متم على شرككم.
ومعنى الكلام : لله الشفاعة جميعا ، له مُلك السموات والأرض ، فاعبدوا المالك الذي
له مُلك السموات والأرض ، الذي يقدر على نفعكم في الدنيا ، وعلى ضركم فيها ، وعند
مرجعكم إليه بعد مماتكم ، فإنكم إليه ترجعون.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ
دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ ) الآلهة( قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئًا
) الشفاعة.
حدثني محمد بن عمرو ، قال. ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحثني الحارث ، قال :
ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : ( قُلْ
لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا ) قال : لا يشفع عنده أحد إلا بإذنه.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ
قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ
دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (45) }
يقول تعالى ذكره : وإذا أفرد الله جل ثناؤه بالذكر ، فدعي وحده ، وقيل لا إله إلا
الله ، اشمأزّت قلوب الذين لا يؤمنون بالمعاد والبعث بعد الممات. وعنى بقوله : (
اشْمَأَزَّتْ ) : نفرت من توحيد الله.( وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ )
(21/300)
قُلِ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (46)
يقول : وإذا ذُكر الآلهة التي يدعونها
من دون الله مع الله ، فقيل : تلك الغرانيق العلى ، وإن شفاعتها لترتجى ، إذ الذين
لا يؤمنون بالآخرة يستبشرون بذلك ويفرحون.
كما حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : ( وَإِذَا
ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ
بِالآخِرَةِ ) : أي نفرت قلوبهم واستكبرت( وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ
) الآلهة( إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ ).
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال
: ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : (
اشْمَأَزَّتْ ) قال : انقبضت ، قال : وذلك يوم قرأ عليهم " النجم " عند
باب الكعبة.
حدثنا محمد ، قال : ثنا أحمد ، قال : ثنا أسباط ، عن السديّ قوله : ( اشْمَأَزَّتْ
) قال : نفرت( وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ ) أوثانهم.
القول في تأويل قوله تعالى : { قُلِ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ
عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا
كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (46) }
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم : قل يا محمد ، الله
خالق السموات والأرض( عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ ) الذي لا تراه الأبصار ،
ولا تحسه العيون والشهادة الذي تشهده أبصار خلقه ، وتراه أعينهم( أَنْتَ تَحْكُمُ
بَيْنَ عِبَادِكَ ) فتفصل بينهم بالحق يوم تجمعهم لفصل القضاء بينهم( فِيمَا
كَانُوا فِيهِ ) في الدنيا( يَخْتَلِفُونَ ) من القول فيك ، وفي عظمتك وسلطانك ،
وغير ذلك من اختلافهم بينهم ، فتقضي يومئذ بيننا وبين هؤلاء المشركين الذين إذا
ذكرت وحدك اشمأزّت قلوبهم ، إذا ذكر مَنْ دونك استبشروا بالحقّ.
(21/301)
وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ (47)
وبنحو ذلك قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد ، قال : ثنا أحمد ، قال : ثنا أسباط ، عن السديّ ، في قوله : ( فَاطِرِ
السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ ) فاطر : قال خالق. وفي قوله( عَالِمُ الْغَيْبِ ) قال :
ما غاب عن العباد فهو يعلمه ، ( وَالشَّهَادَةِ ) : ما عرف العباد وشهدوا ، فهو
يعلمه.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مَا فِي الأرْضِ
جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذَابِ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ (47)
}
يقول تعالى ذكره : ولو أن لهؤلاء المشركين بالله يوم القيامة ، وهم الذين ظلموا
أنفسهم( مَا فِي الأرْضِ جَمِيعًا ) في الدنيا من أموالها وزينتها( وَمِثْلَهُ
مَعَهُ ) مضاعفا ، فقبل ذلك منهم عوضا من أنفسهم ، لفدوا بذلك كله أنفسهم عوضا
منها ، لينجو من سوء عذاب الله ، الذي هو معذّبهم به يومئذ( وَبَدَا لَهُمْ مِنَ
اللَّهِ ) يقول : وظهر لهم يومئذ من أمر الله وعذابه ، الذي كان أعدّه لهم ، ما لم
يكونوا قبل ذلك يحتسبون أنه أعدّه لهم.
(21/302)
وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (48)
القول في تأويل قوله تعالى : { وَبَدَا
لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ
(48) }
يقول تعالى ذكره : وظهر لهؤلاء المشركين يوم القيامة( سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا )
من الأعمال في الدنيا ، إذ أعطوا كتبهم بشمائلهم( وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ
يَسْتَهْزِئُونَ ) ووجب عليهم حينئذ ، فلزمهم عذاب الله الذي كان نبي الله صَلَّى
الله عَلَيْهِ وَسَلَّم في الدنيا يعدهم على كفرهم بربهم ، فكانوا به يسخرون ،
(21/302)
فَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (49)
إنكارا أن يصيبهم ذلك ، أو ينالهم
تكذيبا منهم به ، وأحاط ذلك بهم.
القول في تأويل قوله تعالى : { فَإِذَا مَسَّ الإنْسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ
إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ بَلْ
هِيَ فِتْنَةٌ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (49) }
يقول تعالى ذكره : فإذا أصاب الإنسان بؤس وشدّة دعانا مستغيثا بنا من جهة ما أصابه
من الضرّ ، ( ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِنَّا ) يقول : ثم إذا أعطيناه
فرجا مما كان فيه من الضرّ ، بأن أبدلناه بالضرّ رخاء وسعة ، وبالسقم صحة وعافية ،
فقال : إنما أعطيت الذي أعطيت من الرخاء والسعة في المعيشة ، والصحة في البدن
والعافية ، على علم عندي (1) يعني على علم من الله بأني له أهل لشرفي ورضاه
بعملي(عندي) يعني : فيما عندي ، كما يقال : أنت محسن في هذا الأمر عندي : أي فيما
أظنّ وأحسب.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : ( ثُمَّ إِذَا
خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِنَّا ) حتى بلغ( عَلَى عِلْمٍ ) عندي (2) أي على خير
عندي.
حدّثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال
: ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : (
إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِنَّا ) قال : أعطيناه.
__________
(1) قوله ( عندي ) : أضافه المؤلف إلى معنى الآية ، لمجيئه في حديث قتادة بعده
بقليل . وليس في الآية في هذا الموضع لفظة " عندي " ، وإنما هي في آية
القصص ، إذ جاء على لسان قارون : ( قال إنما أوتيته على علم عندي ) .
(2) قوله ( عندي ) : أضافه المؤلف إلى معنى الآية ، لمجيئه في حديث قتادة بعده
بقليل . وليس في الآية في هذا الموضع لفظة " عندي " ، وإنما هي في آية
القصص ، إذ جاء على لسان قارون : ( قال إنما أوتيته على علم عندي ) .
(21/303)
قَدْ قَالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (50) فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هَؤُلَاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ (51)
وقوله : ( أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ ) :
أي على شرف أعطانيه.
وقوله : ( بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ ) يقول تعالى ذكره : بل عطيتنا إياهم تلك النعمة من
بعد الضرّ الذي كانوا فيه فتنة لهم ، يعني بلاء ابتليناهم به ، واختبارا اختبرناهم
به( وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ ) لجهلهم ، وسوء رأيهم( لا يَعْلَمُونَ ) لأي سبب
أعطوا ذلك.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يريد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ ) :
أي بلاء.
القول في تأويل قوله تعالى : { قَدْ قَالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَمَا
أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (50) فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا
كَسَبُوا وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هَؤُلاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئَاتُ مَا
كَسَبُوا وَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ (51) }
يقول تعالى ذكره : قد قال هذه المقالة يعني قولهم : لنعمة الله التي خولهم وهم
مشركون : أوتيناه على علم عندنا( الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ) يعني : الذي من قبل
مشركي قريش من الأمم الخالية لرسلها ، تكذيبا منهم لهم ، واستهزاء بهم. وقوله.(
فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ) يقول : فلم يغن عنهم حين أتاهم
بأس الله على تكذيبهم رسل الله واستهزائهم بهم ما كانوا يكسبون من الأعمال ، وذلك
عبادتهم الأوثان. يقول : لم تنفعهم خدمتهم إياها ، ولم تشفع آلهتهم لهم عند الله
حينئذ ، ولكنها أسلمتهم وتبرأت منهم. وقوله : ( فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا
كَسَبُوا ) يقول : فأصاب الذين قالوا هذه المقالة من الأمم الخالية ، وبال سيئات
ما كسبوا من الأعمال ، فعوجلوا بالخزي في دار الدنيا ، وذلك كقارون الذي
(21/304)
أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (52)
قال حين وعظ( إِنَّمَا أُوتِيتُهُ
عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي ) فخسف الله به وبداره الأرض( فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ
يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ ) يقول الله
عز وجل ثناؤه : ( وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هَؤُلاءِ ) يقول لنبيه محمد صَلَّى
الله عَلَيْهِ وَسَلَّم : والذين كفروا بالله يا محمد من قومك ، وظلموا أنفسهم
وقالوا هذه المقالة سيصيبهم أيضا وبال( سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا ) كما أصاب الذين
من قبلهم بقيلهموها( وَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ ) يقول : وما يفوتون ربهم ولا
يسبقونه هربا في الأرض من عذابه إذا نزل بهم ، ولكنه يصيبهم( سُنَّةَ اللَّهِ فِي
الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلا ) ففعل
ذلك بهم ، فأحلّ بهم خزيه في عاجل الدنيا فقتلهم بالسيف يوم بدر.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن الحسين ، قال : ثنا أحمد ، قال : ثنا أسباط ، عن السديّ( قَدْ
قَالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ) الأمم الماضية( وَالَّذِينَ ظَلَمُوا ) من
هؤلاء ، قال : من أمة محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم.
القول في تأويل قوله تعالى : { أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ
لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (52) }
يقول تعالى ذكره : أولم يعلم يا محمد هؤلاء الذين كشفنا عنهم ضرهم ، فقالوا : إنما
أوتيناه على علم منا ، أن الشدة والرخاء والسعة والضيق والبلاء بيد الله ، دون كل
من سواه ، يبسط الرزق لمن يشاء ، فيوسعه عليه ، ويقدر ذلك على من يشاء من عباده ،
فيضيقه ، وأن ذلك من حجج الله على عباده ، ليعتبروا به ويتذكروا ، ويعلموا أن
الرغبة إليه والرهبة دون الآلهة والأنداد.( إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ ) يقول : إن
في بسط الله الرزق لمن يشاء ، وتقتيره على من أراد لآيات ،
(21/305)
قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53)
يعني : دلالات وعلامات( لِقَوْمٍ
يُؤْمِنُونَ ) يعني : يصدقون بالحقّ ، فيقرّون به إذا تبينوه وعلموا حقيقته أن
الذي يفعل ذلك هو الله دون كل ما سواه.
القول في تأويل قوله تعالى : { قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى
أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ
جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53) }
اختلف أهل التأويل في الذين عُنُوا بهذه الآية ، فقال بعضهم : عني بها قوم من أهل
الشرك ، قالوا لما دعوا إلى الإيمان بالله : كيف نؤمن وقد أشركنا وزنينا ، وقتلنا
النفس التي حرّم الله ، والله يعد فاعل ذلك النار ، فما ينفعنا مع ما قد سلف منا
الإيمان ، فنزلت هذه الآية.
* ذكر من قال ذلك :
محمد بن سعد ، قال ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن
عباس : ( قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا
تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ ) وذلك أن أهل مكة قالوا : يزعم محمد أنه من عبد
الأوثان ، ودعا مع الله إلها آخر ، وقتل النفس التي حرّم الله لم يغفر له ، فكيف
نهاجر ونسلم ، وقد عبدنا الآلهة ، وقتلنا النفس التي حرم الله ونحن أهل الشرك ؟
فأنزل الله : ( يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا
تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ ) يقول : لا تيأسوا من رحمتي ، إن الله يغفر
الذنوب جميعا وقال : ( وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ ) وإنما
يعاتب الله أولي الألباب وإنما الحلال والحرام لأهل الإيمان ، فإياهم عاتب ، وإياهم
أمر إن أسرف أحدهم على نفسه ، أن لا يقنط من رحمة الله ، وأن ينيب ولا يبطئ
بالتوبة من ذلك الإسراف ، والذنب الذي عمل ، وقد ذر الله في سورة آل عمران
المؤمنين حين سألوا الله المغفرة ، فقالوا : ( رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا
وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا ) فينبغي أن يعلم
(21/306)
أنهم قد كانوا يصيبون الإسراف ، فأمرهم
بالتوبة من إسرافهم.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ؛ وحدثني الحارث ، قال
: ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قول الله
: ( الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ ) قال : قتل النفس في الجاهلية.
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، قال : ثني ابن إسحاق ، عن بعض أصحابه ، عن عطاء
بن يسار ، قال : نزلت هذه الآيات الثلاث بالمدينة في وحشيّ (1) وأصحابه( يَا
عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ ) إلى قوله : ( مِنْ قَبْلِ
أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ ).
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرني أبو صخر ، قال : قال زيد بن
أسلم ، في قوله : ( يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا
تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ ) قال : إنما هي للمشركين.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : ( يَا عِبَادِيَ
الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ ) حتى بلغ( الذُّنُوبَ جَمِيعًا ) قال :
ذكر لنا أن أناسا أصابوا ذنوبا عظاما في الجاهلية ، فلما جاء الإسلام أشفقوا أن لا
يتاب عليهم ، فدعاهم الله بهذه الآية : ( يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا
عَلَى أَنْفُسِهِمْ ).
حدثنا محمد ، قال : ثنا أحمد ، قال : ثنا أسباط ، عن السديّ في قوله : ( يَا
عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ ) قال : هؤلاء المشركون من أهل
مكة ، قالوا : كيف نجيبك وأنت تزعم أنه من زنى ، أو قتل ، أو أشرك بالرحمن كان
هالكا من أهل النار ؟ فكلّ هذه الأعمال قد عملناها ، فأنزلت فيهم هذه الآية : (
يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ ).
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله :
__________
(1) هو وحشي بن حرب الحبشي مولى جبير بن مطعم ، وهو قاتل حمزة بن عبد المطلب في
غزوة أحد ، وكان فاتكا يشرب الخمر ثم أسلم بعد . ( انظر خلاصة الخزرجي ) .
(21/307)
( يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا
عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ ) ... الآية قال : كان
قوم مسخوطين في أهل الجاهلية ، فلما بعث الله نبيه قالوا : لو أتينا محمدا صَلَّى
الله عَلَيْهِ وَسَلَّم فأمنا به واتبعناه ، فقال بعضهم لبعض : كيف يقبلكم الله
ورسوله فى دينه ؟ فقالوا : ألا نبعث إلى رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم
رجلا ؟ فلما بعثوا ، نزل القرآن : ( قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا
عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ ) فقرأ حتى بلغ : (
فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ ).
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا جرير ، عن منصور ، عن الشعبي ، قال : تجالس شتير بن
شكل ومسروق فقال شتير : إما أن تحدث ما سمعت من ابن مسعود فأصدّقك ، وإما أن أحدّث
فتصدّقني فقال مسروق : لا بل حدث فأصدّقك ، فقال : سمعت ابن مسعود يقول : إن أكبر
آية فرجا في القرآن( يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا
تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ ) فقال مسروق : صدقت.
وقال آخرون : بل عني بذلك أهل الإسلام ، وقالوا : تأويل الكلام : إن الله يغفر
الذنوب جميعا لمن يشاء ، قالوا : وهي كذلك في مصحف عبد الله ، وقالوا : إنما نزلت
هذه الآية في قوم صدّهم المشركون عن الهجرة وفتنوهم ، فأشفقوا أن لا يكون لهم
توبة.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا إبراهيم بن سعيد الجوهري ، قال : ثنا يحيى بن سعيد الأموي ، عن ابن إسحاق ،
عن نافع ، عن ابن عمر قال : قال يعني عمر : كنا نقول : ما لمن افتتن من توبة ،
وكانوا يقولون : ما الله بقابل منا شيئا ، تركنا الإسلام ببلاء أصابنا بعد معرفته
، فلما قدم رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم المدينة أنزل الله فيهم : (
يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ
رَحْمَةِ اللَّه ) ... الآية ، قال عمر : فكتبتها بيدي ، ثم بعثت بها إلى هشام بن
العاص ، قال هشام : فلما جاءتني جعلت أقرؤها ولا أفهمها ، فوقع في نفسي أنها أنزلت
فينا لما كنا
(21/308)
نقول ، فجلست على بعيري ، ثم لحقت
بالمدينة.
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، قال : ثني محمد بن إسحاق ، عن نافع ، عن ابن
عمر ، قال : إنما أنزلت هذه الآيات في عياش بن أبي ربيعة ، والوليد بن الوليد ،
ونفر من المسلمين ، كانوا أسلموا ثم فتنوا وعذّبوا ، فافتنوا ، كنا نقول : لا يقبل
الله من هؤلاء صرفا ولا عدلا أبدا ، قوم أسلموا ثم تركوا دينهم بعذاب عُذّبوه ،
فنزلت هؤلاء الآيات ، وكان عمر بن الخطاب كاتبا ، قال : فكتبها بيده ثم بعث بها
إلى عَيَّاش بن أبي ربيعة ، والوليد بن الوليد ، إلى أولئك النفر ، فأسلموا
وهاجروا.
حدثني يعقوب ، قال : ثنا ابن علية ، قال : ثنا يونس ، عن ابن سيرين ، قال : قال
عليّ رضي الله عنه : أي آية في القرآن أوسع ؟ فجعلوا يذكرون آيات من القرآن : (
وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ
اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا ) . ونحوها ، فقال علي : ما في القرآن آية أوسع من : (
يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ ) ... إلى آخر الآية.
حدثنا أبو السائب ، قال : ثنا أبو معاوية ، عن الأعمش ، عن أبي سعيد الأزدي ، عن
أبي الكنود ، قال : دخل عبد الله المسجد ، فإذا قاصّ يذكر النار والأغلال ، قال :
فجاء حتى قام على رأسه ، فقال ما يذكر أتقنط الناس( يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ
أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ ) ... الآية.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرني أبو صخر ، عن القرظي أنه قال في
هذه الآية : ( يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا
تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ ) قال : هي للناس أجمعين.
حدثني زكريا بن يحيى بن أبي زائدة ، قال : ثنا حجاج ، قال : ثنا ابن لهيعة ، عن
أبي قنبل ، قال : سمعت أبا عبد الرحمن المزني يقول : ثني أبو عبد الرحمن الجلائي ،
أنه سمع ثوبان مولى رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم يقول : سمعت رسول
الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم يقول : " ما أُحِبُّ أنَّ لِي الدُّنْيَا
وَمَا فِيها
(21/309)
بهذه الآية : ( يَا عِبَادِيَ
الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ )
" ... الآية ، فقال رجل : يا رسول الله ، ومن أشرك ؟ فسكت النبي صَلَّى الله
عَلَيْهِ وَسَلَّم ، ثم قال : " ألا وَمَنْ أشْرَكَ ، ألا ومَنْ أشْرَكَ ،
ثلاث مرات " .
وقال آخرون : نزل ذلك في قوم كانوا يرون أهل الكبائر من أهل النار ، فأعلمهم الله
بذلك أنه يغفر الذنوب جميعا لمن يشاء.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني ابن البرقي ، قال : ثنا عمرو بن أبي سلمة ، قال : ثنا أبو معاذ الخراساني ،
عن مقاتل بن حيا ، عن نافع ، عن ابن عمر ، قال : كنا معشر أصحاب رسول الله صَلَّى
الله عَلَيْهِ وَسَلَّم نرى أو نقول : إنه ليس شيء من حسناتنا إلا وهي مقبولة ،
حتى نزلت هذه الآية( أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا
أَعْمَالَكُمْ ) فلما نزلت هذه الآية قلنا : ما هذا الذي يبطل أعمالنا ؟ فقلنا :
الكبائر والفواحش ، قال : فكنا إذا رأينا من أصاب شيئا منها قلنا : قد هلك ، حتى
نزلت هذه الآية( إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا
دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ ) فلما نزلت هذه الآية كففنا عن القول في ذلك ، فكنا
إذا رأينا أحدا أصاب منها شيئا خفنا عليه ، إن لم يصب منها شيئا رجونا له.
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال : عنى تعالى ذكره بذلك جميع من أسرف على
نفسه من أهل الإيمان والشرك ، لأن الله عم بقوله( يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ
أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ ) جميع المسرفين ، فلم يخصص به مسرفا دون مسرف.
فإن قال قائل : فيغفر الله الشرك ؟ قيل : نعم إذا تاب منه المشرك. وإنما عنى
بقوله( إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا ) لمن يشاء ، كما قد ذكرنا قبل
، أن ابن مسعود كان يقرؤه : وأن الله قد استثنى منه الشرك إذا لم يتب منه صاحبه ،
فقال : إن الله لا يغفر أن يشرك به ، ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ، فأخبر أنه
(21/310)
وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ (54) وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ (55)
لا يغفر الشرك إلا بعد توبة بقوله : (
إِلا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ) . فأما ما عداه فإن صاحبه في مشيئة
ربه ، إن شاء تفضل عليه ، فعفا له عنه ، وإن شاء عدل عليه فجازاه به.
وأما قوله : ( لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ ) فإنه يعني : لا تيأسوا من
رحمة الله. كذلك حدثني محمد بن سعد قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي
، عن أبيه ، عن ابن عباس.
وقد ذكرنا ما في ذلك من الروايات قبل فيما مضى وبيَّنا معناه.
وقوله : ( إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا ) يقول : إن الله يستر على
الذنوب كلها بعفوه عن أهلها وتركه عقوبتهم عليها إذا تابوا منها( إِنَّهُ هُوَ
الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ) بهم ، أن يعاقبهم عليها بعد توبتهم منها.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ
مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ (54) وَاتَّبِعُوا
أَحْسَنَ مَا أُنزلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ
الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ (55) }
يقول تعالى ذكره : وأقبلوا أيها الناس إلى ربكم بالتوبة ، وارجعوا إليه بالطاعة له
، واستجيبوا له إلى ما دعاكم إليه من توحيده ، وإفراد الألوهة له ، وإخلاص العبادة
له.
كما حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : (
وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ ) : أي أقبلوا إلى ربكم.
حدثنا محمد ، قال : ثنا أحمد ، قال : ثنا أسباط ، عن السديّ( وَأَنِيبُوا ) قال :
أجيبوا.
(21/311)
أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ (56)
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ،
قال : قال ابن زيد ، في قوله : ( وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ ) قال : الإنابة :
الرجوع إلى الطاعة ، والنزوع عما كانوا عليه ، ألا تراه يقول : ( مُنِيبِينَ
إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ ) .
وقوله : ( وَأَسْلِمُوا لَهُ ) يقول : واخضعوا له بالطاعة والإقرار بالدين
الحنيفي( مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ) من عنده على كفركم به.
( ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ ) يقول : ثم لا ينصركم ناصر ، فينقذكم من عذابه النازل
بكم.
وقوله : ( وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنزلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ ) يقول
تعالى ذكره : واتبعوا أيها الناس ما أمركم به ربكم في تنزيله ، واجتنبوا ما نهاكم
فيه عنه ، وذلك هو أحسن ما أنزل إلينا من ربنا.
فإن قال قائل : ومن القرآن شيء وهو أحسن من شيء ؟ قيل له : القرآن كله حسن ، وليس
معنى ذلك ما توهمت ، وإنما معناه : واتبعوا مما أنزل إليكم ربكم من الأمر والنهي
والخبر ، والمثل ، والقصص ، والجدل ، والوعد ، والوعيد أحسنه أن تأتمروا لأمره ،
وتنتهوا عما نهى عنه ، لأن النهي مما أنزل في الكتاب ، فلو عملوا بما نهوا عنه
كانوا عاملين بأقبحه ، فذلك وجهه.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
محمد ، قال : ثنا أحمد ، قال : ثنا أسباط ، عن السديّ( وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا
أُنزلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ ) يقول : ما أمرتم به في الكتاب( مِنْ قَبْلِ
أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ) قوله : ( مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ
الْعَذَابُ بَغْتَةً ) يقول : من قبل أن يأتيكم عذاب الله فجأة( وَأَنْتُمْ لا
تَشْعُرُونَ ) يقول : وأنتم لا تعلمون به حتى يغشاكم فجأة.
القول في تأويل قوله تعالى : { أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا
(21/312)
فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ
كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ (56) }
يقول تعالى ذكره : وأنيبوا إلى ربكم ، وأسلموا له( أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ ) بمعنى
لئلا تقول نفس( يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ ) ، وهو
نظير قوله : ( وَأَلْقَى فِي الأرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ ) بمعنى : أن
لا تميد بكم ، فأن ، إذ كان ذلك معناه ، في موضع نصب.
وقوله( يَا حَسْرَتَا ) يعني أن تقول : يا ندما.
كما محمد بن الحسين ، قال : ثني أحمد بن المفضل ، قال : ثنا أسباط ، عن السديّ في
قوله : ( يَا حَسْرَتَا ) قال : الندامة ، والألف في قوله( يَا حَسْرَتَا ) هي
كناية المتكلم ، وإنما أريد : يا حسرتي ، ولكن العرب تحوّل الياء فى كناية اسم
المتكلم في الاستغاثة ألفا ، فتقول : يا ويلتا ، ويا ندما ، فيخرجون ذلك على لفظ
الدعاء ، وربما قيل : يا حسرة على العباد ، كما قيل : يا لهف ، ويا لهفا عليه ،
وذكر الفراء أن أبا ثَرْوان أنشده :
تَزُورُونَهَا وَلا أزُورُ نِسَاءَكُمْ... ألْهفَ لأوْلادِ الإماء الحَوَاطِبِ (1)
خفضا كما يخفض في النداء إذا أضافه المتكلم إلى نفسه ، وربما أدخلوا الهاء بعد هذه
الألف ، فيخفضونها أحيانا ، ويرفعونها أحيانا ، وذكر الفراء أن بعض بني أسد أنشد :
__________
(1) البيت لأبي ثروان العكلي . وهو من شواهد الفراء في معاني القرآن ( الورقة 285
) قال : وقوله " يا حسرتا ، يا ويلتا " مضاف إلى المتكلم : يحول العرب
الياء إلى الألف في كل كلام كان معناه الاستغاثة ، يخرج على لفظ الدعاء . وربما
قالوا : يا حسرة ، كما قالوا : يا لهف على فلان ، ويا لهفا عليه . قال : أنشدني
أبو ثروان العكلي : تزورونها ولا أزور .... البيت " ا هـ . فخفض كما يخفض
المنادي إذا أضافه المتكلم إلى نفسه . والإماء : الجواري من الرقيق يتخذن للخدمة
والعمل عند ساداتهم واحدها أمة . والحواطب : جمع حاطبة ، وهي التي ترسل في جمع
الحطب للوقود . واللهف بسكون الهاء وفتحها : الأسف والحزن والغيظ .
(21/313)
يَا رَبّ يا رَبَّاهُ إيَّاكَ أسَلْ...
عَفْرَاءَ يا رَبَّاهُ مِنْ قَبْلِ الأجَلْ (1)
خفضا ، قال : والخفض أكثر في كلامهم ، إلا في قولهم : يا هَناه ، ويا هَنْتاه ،
فإن الرفع فيها أكثر من الخفض ، لأنه كثير في الكلام ، حتى صار كأنه حرف واحد.
وقوله : ( عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ ) يقول على ما ضيعت من العمل
بما أمرني الله به ، وقصرت في الدنيا في طاعة الله.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال. ثنا حكام ، عن عنبسة ، عن محمد بن عبد الرحمن ، عن القاسم
بن أبي بزّة ، عن مجاهد في قوله( يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ
اللَّهِ ) يقول : في أمر الله.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ؛ وحدثني الحارث ، قال
: ثنا الحسن ، قال. ثنا ورقاء جميعا ، عن أبن أبي نجيح ، عن
__________
(1) البيت من شواهد الفراء في معاني القرآن ( الورقة 286 ) قال بعد كلامه الذي
نقلناه في الشاهد السابق في إعراب المضاف إلى ياء المتكلم بعد حذف الياء ، أو
قلبها ألفا : وربما أدخلت العرب الهاء ( التي للسكت ) بعد الألف التي في "
حسرتا " فيخفضونها مرة ، ويرفعونها . قال : أنشدني أبو فقعس لبعض بن أسد :
" يا رب يا رباه أسل ... البيتين " . فخفض . قال : وأنشدني أبو فقعس :
يا مَرْحباهُ بِجِمارِ ناهِيةْ ... ذَا أتى قَرَّبْتُهُ للسَّانِيَهْ
والخفض أكثر في كلام العرب إلا في قولهم : يا هناه ، ويا هنيتاه ، والرفع في هذا
أكثر من الخفض ، لأنه كثير في الكلام ، فكأنه حرف واحد مدعو (أي كأن اللفظ كله صار
كلمة واحدة في النداء) . وفي خزانة الأدب الكبرى للبغدادي ( 3 : 263 ) : وهذا من
رجز أورده أبو محمد الأسود الأعرابي في ضالة الأديب ، ولم ينسبه إلى أحد . وفيها
أيضا : وقال الزمخشري في المفصل : وحق هاء السكت أن تكون ساكنة ، وتحريكها لحن ،
نحو ما في إصلاح المنطق لابن السكيت ، من قوله :
* يا مرحباه بجمار ناجيه ، مما لا معرج عليه للقياس ، واستعمال الفصحاء . ومعذرة
من قال ذلك : أنه أجرى الوصل مجرى الوقف ، مع تشبيه هاء الوقف بهاء الضمير . ا هـ
.
(21/314)
مجاهد ، في قول الله : ( عَلَى مَا
فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ ) قال : في أمر الله.
حدثنا محمد ، قال. ثنا أحمد قال ثنا أسباط ، عن السديّ ، في قوله : ( عَلَى مَا
فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ ) قال : تركت من أمر الله.
وقوله : ( وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ ) يقول : وإن كنت لمن المستهزئين
بأمر الله وكتابه ورسوله والمؤمنين به.
وبنحو الذي قلنا فى ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتاده في قوله : ( أَنْ تَقُولَ
نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ
لَمِنَ السَّاخِرِينَ ) قال : فلم يكفه أن ضيع طاعة الله حتى جعل يسخر بأهل طاعة
الله ، قال : هذا قول صنف منهم.
حدثنا محمد ، قال. ثنا أحمد ، قال ثنا أسباط ، عن السديّ( وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ
السَّاخِرِينَ ) يقول : من المستهزئين بالنبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم
وبالكتاب ، وبما جاء به.
(21/315)
أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (57) أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (58)
القول في تأويل قوله تعالى : { أَوْ
تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (57) أَوْ
تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ
الْمُحْسِنِينَ (58) }
يقول تعالى ذكره : وأنيبوا إلى ربكم أيها الناس ، وأسلموا له ، أن لا تقول نفس يوم
القيامة : يا حسرتا على ما فرّطت في جنب الله ، فى أمر الله ، وأن لا يقول نفس
أخرى : لو أن الله هداني للحق ، فوفقني للرشاد لكنت ممن اتقاه بطاعته واتباع رضاه
، أو أن لا تقول أخرى حين ترى عذاب الله فتعاينه( لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً ) تقول
لو أن لي رجعة إلى الدنيا( فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ ) الذين
(21/315)
أحسنوا في طاعة ربهم ، والعمل بما
أمرتهم به الرسل.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا
فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ ) ... الآية ، قال : هذا قول صنف منهم( أَوْ تَقُولَ
لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي ) ... الآية ، قال. هذا قول صنف آخر : ( أَوْ تَقُولَ
حِينَ تَرَى الْعَذَابَ ) الآية ، يعني بقوله( لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً ) رجعة إلى
الدنيا ، قال : هذا صنف آخر.
حدثني عليّ ، قال : ثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ،
قوله : ( أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ
اللَّهِ ) قال : أخبر الله ما العباد قائلوه قبل أن يقولوه ، وعملهم قبل أن يعملوه
، قال : ( وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ )( أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَاحَسْرَتَا
عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ( ) أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ
هَدَانِي ) ... إلى قوله : ( فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ ) يقول : من المهتدين
، فأخبر الله سبحانه أنهم لو ردوا لم يقدروا على الهدى ، وقال( وَلَوْ رُدُّوا
لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ) وقال : ( وَنُقَلِّبُ
أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ ) كما لم يؤمنوا به أول مرة ، قال : ولو ردوا إلى
الدنيا لحيل بينهم وبين الهدى ، كما حلنا بينهم وبينه أول مرة وهم في الدنيا.
وفي نصب قوله( فَأَكُونَ ) وجهان ، أحدهما : أن يكون نصبه على أنه جواب لو والثاني
: على الرد على موضع الكرة ، وتوجيه الكرة في المعنى إلى : لو أن لي أن أكر ، كما
قال الشاعر :
فَمَا لَكَ مِنْهَا غيرُ ذِكْرَى وَحَسْرَةٍ... وَتَسْألَ عَنْ رُكْبانها أيْنَ
يَمَّمُوا? (1)
__________
(1) البيت من شواهد الفراء في معاني القرآن ( الورقة 286 من مخطوطة الجامعة )
والشاهد في قوله " وتسأل " إذ يجوز فيه النصب بتقدير " أن "
لعطف الفعل على اسم صريح ، مثل قول ميسون بنت بحدل الكلبية زوج معاوية : "
لبس عباءة وتقر عيني " أي وأن تقر عيني . ويجوز فيه أن يرفع ، لأنه لم تظهر
قبله " أن " . قال الفراء : قوله " لو أن لي كرة فأكون من المحسنين
" : النصب في قوله " فأكون " : جواب للو . وإن شئت مردودا على
تأويل " أن " تضمرها في الكثرة ، كما يقولون : لو أن أكر فأكون. ومثله
مما نصب على إضمار أن قوله " وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء
حجاب ، أو يرسل " المعنى - والله أعلم - ما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا
. ولو رفع " فيوحي " إذ لم يظهر أن قبله ولا معه ، كان صوابا . وقد قرأ
به بعض القراء . وأنشدني بعض القراء : " فما لك منها غير ذكرى وحسرة "
البيت . وقال الكسائي : سمعت من العرب : " ما هي إلا ضربة من الأسد ، فيحطم
ظهره ، أي برفع الفعل ونصبه " . ا هـ .
الخ .
(21/316)
بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آَيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ (59)
فنصب تسأل عطفا بها على موضع الذكرى ،
لأن معنى الكلام : فما لك (1) بيرسل على موضع الوحي في قوله : ( إِلا وَحْيًا ).
القول في تأويل قوله تعالى : { بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا
وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ (59) }
يقول تعالى ذكره مكذبا للقائل : ( لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ
الْمُتَّقِينَ ) ، وللقائل : ( لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ
الْمُحْسِنِينَ ) : ما القول كما تقولون( بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ ) أيها المتمني على
الله الرد إلى الدنيا لتكون فيها من المحسنين( آيَاتِي ) يقول : قد جاءتك حججي من
بين رسول أرسلته إليك ، وكتاب أنزلته يتلى عليك ما فيه من الوعد والوعيد والتذكير(
فَكَذَبَتْ ) بآياتي( وَاسْتَكْبَرْتَ ) عن قبولها واتباعها( وَكُنْتَ مِنَ
الْكَافِرِينَ ) يقول : وكنت ممن يعمل عمل الكافرين ، ويستن بسنتهم ، ويتبع
منهاجهم.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة : يقول الله ردًا
__________
(1) في الكلام سقط من الناسخ ، ولعل الأصل : فما لك غير أن تذكر وتسأل : ونظيره (
وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل ) فعطف بيرسل ...
(21/317)
وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْمُتَكَبِّرِينَ (60)
لقولهم ، وتكذيبا لهم ، يعني لقول
القائلين : ( لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي ) ، والصنف الآخر : ( بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ
آيَاتِي ) ... الآية.
وبفتح الكاف والتاء من قوله( قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ ) على وجه
المخاطبة للذكور ، قرأه القرّاء في جميع أمصار الإسلام. وقد روي عن رسول الله
صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم أنه قرأ ذلك بكسر جميعه على وجه الخطاب للنفس ،
كأنه قال : أن تقول نفس : يا حسرتا على ما فرطت في جنب الله ، بلى قد جاءتك أيتها
النفس آياتي ، فكذّبت بها ، أجرى الكلام كله على النفس ، إذ كان ابتداء الكلام بها
جرى ، والقراءة التي لا أستجيز خلافها ، ما جاءت به قرّاء الأمصار مجمعة عليه ،
نقلا عن رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم ، وهو الفتح في جميع ذلك.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا
عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى
لِلْمُتَكَبِّرِينَ (60) }
يقول تعالى ذكره : ( وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى ) يا محمد هؤلاء( الَّذِينَ
كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ ) من قومك فزعموا أن له ولدا ، وأن له شريكا ، وعبدوا آلهة
من دونه( وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ ) ، والوجوه وإن كانت مرفوعة بمسودة ، فإن فيها
معنى نصب ، لأنها مع خبرها تمام ترى ، ولو تقدم قوله مسودة قبل الوجوه ، كان نصبا
، ولو نصب الوجوه المسودة ناصب في الكلام لا في القرآن ، إذا كانت المسودة مؤخرة
كان جائزا ، كما قال الشاعر :
ذَرِيني إنَّ أمْرَكِ لَنْ يُطاعَا... وَمَا ألْفَيْتِنِي حِلْمِي مُضَاعَا (1)
__________
(1) البيت لعدي بن زيد ، كما قال الفراء في معاني القرآن ( الورقة 286 ) من مخطوطة
الجامعة ) . وهو من أبيات الكتاب لسيبويه 1 : 87 . ومن شواهد ( خزانة الأدب الكبرى
للبغدادي 2 : 368 ) . وموضع الشاهد فيه : أن قوله " حلمي " بدل اشتمال
من الياء في " ألفيتني " . قال ابن جني في إعراب الحماسة : " إنما
يجوز البدل من ضمير المتكلم وضمير المخاطب ، إذا كان بدل البعض أو بدل الاشتمال ،
نحو قولك : عجبت منك عقلك ، وضربتك رأسك . ا هـ . وقال في الخزانة : والبيت نسبه
سيبويه لرجل من خثعم أو بجيلة ، وتبعه ابن السراج في أصوله . وعزاه الفراء والزجاج
، إلى عدي بن زيد العبادي . وهو الصحيح ، وكذلك قال صاحب الحماسة البصرية وأورد من
القصيدة بعده أبياتا . ا هـ .
(21/318)
وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ لَا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (61) اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (62)
فنصب الحلم والمضاع على تكرير ألفيتني
، وكذلك تفعل العرب في كلّ ما احتاج إلى اسم وخبر ، مثل ظنّ وأخواتها ، وفي "
مسودّة " للعرب لغتان : مسودّة ، ومسوادّة ، وهي في أهل الحجاز يقولون فيما
ذكر عنهم : قد اسوادّ وجهه ، واحمارّ ، واشهابّ. وذكر بعض نحويي البصرة عن بعضهم
أنه قال : لا يكون افعالّ إلا في ذي اللون الواحد نحو الأشهب ، قال : ولا يكون في
نحو الأحمر ، لأن الأشهب لون يحدث ، والأحمر لا يحدث.
وقوله : ( أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْمُتَكَبِّرِينَ ) يقول : أليس في
جهنم مأوى ومسكن لمن تكبر على الله ، فامتنع من توحيده ، والانتهاء إلى طاعته فيما
أمره ونهاه عنه.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا
بِمَفَازَتِهِمْ لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (61) اللَّهُ
خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (62) }
يقول تعالى ذكره : وينجي الله من جهنم وعذابها ، الذين اتقوه بأداء فرائضه ،
واجتناب معاصيه في الدنيا ، بمفازتهم : يعني بفوزهم ، وهي مفعلة منه.
وبنحو الذي قلنا في تأويل ذلك قال أهل التأويل ، وإن خالفت ألفاظ بعضهم اللفظة
التي قلناها في ذلك.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد ، قال : ثنا أحمد ، قال : ثنا أسباط ، عن السديّ ، في قوله :
(21/319)
لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآَيَاتِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (63) قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ (64)
( وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ
اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ ) قال : بفضائلهم.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : ( وَيُنَجِّي
اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ ) قال : بأعمالهم ، قال : والآخرون
يحملون أوزارهم يوم القيامة( وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ
عِلْمٍ أَلا سَاءَ مَا يَزِرُونَ ).
واختلفت القرّاء في ذلك ، فقرأته عامة قرّاء المدينة ، وبعض قرّاء مكة والبصرة : (
بِمَفَازَتِهِمْ ) على التوحيد. وقرأته عامة قرّاء الكوفة : " بمفازاتهم
" على الجماع.
والصواب عندي من القول في ذلك أنهما قراءتان مستفيضتان ، قد قرأ بكل واحدة منهما
علماء من القرّاء فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب ، لاتفاق معنييهما ، والعرب توحد مثل
ذلك أحيانا وتجمع بمعنى واحد ، فيقول أحدهم : سمعت صوت القوم ، وسمعت أصواتهم ،
كما قال جل ثناؤه : ( إِنَّ أَنْكَرَ الأصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ ) ، ولم يقل
: أصوات الحمير ، ولو جاء ذلك كذلك كان صوابا.
وقوله : ( لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ ) يقول تعالى ذكره : لا
يمس المتقين من أذى جهنم شيء ، وهو السوء الذي أخبر جل ثناؤه أنه لن يمسهم ، ولا
هم يحزنون ، يقول : ولا هم يحزنون على ما فاتهم من آراب الدنيا ، إذ صاروا إلى
كرامة الله ونعيم الجنان.
وقوله : ( اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ ) يقول
تعالى ذكره : الله الذي له الألوهة من كل خلقه الذي لا تصلح العبادة إلا له ، خالق
كل شيء ، لا ما لا يقدر على خلق شيء ، وهو على كل شيء وكيل ، يقول : وهو على كل
شيء قيم بالحفظ والكلاءة.
القول في تأويل قوله تعالى : { لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ
(21/320)
وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ
أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (63) }
يقول تعالى ذكره : له مفاتيح خزائن السموات والأرض ، يفتح منها على من يشاء ،
ويمسكها عمن أحب من خلقه ، واحدها : مقليد. وأما الإقليد : فواحد الأقاليد.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : ثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ،
قوله : ( لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ ) مفاتيحها.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : ( لَهُ
مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ ) أي مفاتيح السموات والأرض.
حدثنا محمد ، قال : ثنا أحمد ، قال : ثنا أسباط ، عن السديّ ، قوله : ( لَهُ
مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ ) قال : خزائن السموات والأرض.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : ( لَهُ
مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ ) قال : المقاليد : المفاتيح ، قال : له
مفاتيح خزائن السموات والأرض.
وقوله : ( وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ )
يقول تعالى ذكره : والذين كفروا بحجج الله فكذبوا بها وأنكروها ، أولئك هم
المغبونون حظوظهم من خير السموات التي بيده مفاتيحها ، لأنهم حرموا ذلك كله في
الآخرة بخلودهم في النار ، وفي الدنيا بخذلانهم عن الإيمان بالله عزّ وجلّ.
القول في تأويل قوله تعالى : { قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ
أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ (64) وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ
قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ
(21/321)
وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (65)
لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ
مِنَ الْخَاسِرِينَ (65) }
يقول تعالى ذكره لنبيه : قل يا محمد لمشركي قومك ، الداعيك إلى عبادة الأوثان : (
أَفَغَيْرَ اللَّهِ ) أيها الجاهلون بالله( تَأْمُرُونِّي ) أن( أَعْبُدُ ) ولا
تصلح العبادة لشيء سواه. واختلف أهل العربية في العامل ، في قوله( أَفَغَيْرَ )
النصب ، فقال بعض نحويي البصرة : قل أفغير الله تأمروني ، يقول : أفغير الله أعبد
تأمروني ، كأنه أراد الإلغاء ، والله أعلم ، كما تقول : ذهب فلان (1) يدري ، حمله
على معنى. فما يدري. وقال بعض نحويي الكوفة : " غير " منتصبة بأعبد ،
وأن تحذف وتدخل ، لأنها علم للاستقبال ، كما تقول : أريد أن أضرب ، وأريد أضرب ،
وعسى أن أضرب ، وعسى أضرب ، فكانت في طلبها الاستقبال ، كقولك : زيدا سوف أضرب ،
فلذلك حُذفت وعمل ما بعدها فيما قبلها ، ولا حاجة بنا إلى اللغو.
وقوله : ( وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ ) يقول
تعالى ذكره : ولقد أوحى إليك يا محمد ربك ، وإلى الذين من قبلك من الرسل( لَئِنْ
أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ ) يقول : لئن أشركت بالله شيئا يا محمد ،
ليبطلنّ عملك ، ولا تنال به ثوابا ، ولا تدرك جزاء إلا جزاء من أشرك بالله ، وهذا
من المؤخر الذي معناه التقديم.. ومعنى الكلام : ولقد أوحي إليك لئن أشركت ليحبطنّ
عملك ، ولتكوننّ من الخاسرين ، وإلى الذين من قبلك ، بمعنى : وإلى الذين من قبلك
من الرسل من ذلك ، مثل الذي أوحي إليك منه ، فاحذر أن تشرك بالله شيئا فتهلك.
ومعنى قوله : ( وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ ) ولتكونن من الهالكين بالإشراك
__________
(1) كذا في الأصل ، وهو غير واضح . وقد وضح الشوكاني في فتح القدير ( 4 : 461 )
عامل النصب في " غير " توضيحا شافيا فراجعه ، ولعل أصل العبارة : "
ذهب فلا أن يدري " ... الخ .
(21/322)
بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (66) وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (67)
بالله إن أشركت به شيئا.
القول في تأويل قوله تعالى : { بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ
(66) وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى
عَمَّا يُشْرِكُونَ (67) }
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم : لا تعبد ما أمرك به
هؤلاء المشركون من قومك يا محمد بعبادته ، بل الله فاعبد دون كلّ ما سواه من
الآلهة والأوثان والأنداد( وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ ) لله على نعمته عليك بما
أنعم من الهداية لعبادته ، والبراءة من عبادة الأصنام والأوثان. ونصب اسم الله
بقوله( فَاعْبُدِ ) وهو بعده ، لأنه رد الكلام ، ولو نصب بمضمر قبله ، إذا كانت
العرب تقول : زيد فليقم. وزيدا فليقم. رفعا ونصبا ، الرفع على فلينظر زيد ، فليقم
، والنصب على انظروا زيدا فليقم. كان صحيحا جائزا.
وقوله : ( وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ ) يقول تعالى ذكره : وما عظَّم
الله حقّ عظمته ، هؤلاء المشركون بالله ، الذين يدعونك إلى عبادة الأوثان.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
عليّ ، قال. ثنا أبو صالح ، قال. ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : (
وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ ) قال : هم الكفار الذين لم يؤمنوا بقدرة
الله عليهم ، فمن آمن أن الله على كل شيء قدير ، فقد قدر الله حقّ قدره ، ومن لم
يؤمن بذلك ، فلم يقدر الله حقّ قدره.
حدثنا محمد ، قال : ثنا أحمد. قال. ثنا أسباط ، عن السديّ( وَمَا قَدَرُوا
(21/323)
اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ ) : ما عظموا
الله حقّ عظمته.
وقوله : ( وَالأرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ) يقول تعالى ذكره :
والأرض كلها قبضته في يوم القيامة( وَالسَّمَوَاتُ ) كلها( مَطْوِيَّاتٌ
بِيَمِينِه ) فالخبر عن الأرض مُتَنَاهٍ عند قوله : يوم القيامة ، والأرض مرفوعة
بقوله( قَبْضَتُهُ ) ، ثم استأنف الخبر عن السموات ، فقال : ( وَالسَّماوَاتُ
مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ ) وهي مرفوعة بمطويات.
ورُوي عن ابن عباس وجماعة غيره أنهم كانوا يقولون : الأرض والسموات جميعا في يمينه
يوم القيامة.
* ذكر الرواية بذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ،
عن أبن عباس. قوله : ( وَالأرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ) يقول
: قد قبض الأرضين والسموات جميعا بيمينه. ألم تسمع أنه قال : ( مَطْوِيَّاتٌ
بِيَمِينِه ) يعنى : الأرض والسموات بيمينه جميعا ، قال ابن عباس : وإنما يستعين
بشماله المشغولة يمينه.
حدثنا ابن بشار ، قال. ثنا معاذ بن هشام. قال : ثني أبي عن عمرو بن مالك ، عن أبي
الجوزاء ، عن ابن عباس ، قال : ما السموات السبع ، والأرضون السبع في يد الله إلا
كخردلة في يد أحدكم. قال : ثنا معاذ بن هشام ، قال : ثني أبي ، عن قتادة ، قال :
ثنا النضر بن أنس ، عن ربيعة الجُرْسي ، قال : ( وَالأرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ
يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ ) قال : ويده الأخرى
خلو ليس فيها شيء.
حدثني عليّ بن الحسن الأزديّ ، قال ثنا يحيى بن يمان ، عن عمار بن عمرو ، عن الحسن
، في قوله : ( وَالأرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ) قال : كأنها
جوزة بقضها وقضيضها.
(21/324)
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ
يقول : ثنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : ( وَالأرْضُ جَمِيعًا
قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ) يقول : السموات والأرض مطويات بيمينه جميعا.
وكان ابن عباس يقول : إنما يستعين بشماله المشغولة يمينه ، وإنما الأرض والسموات
كلها بيمينه ، وليس في شماله شيء.
حدثنا الربيع ، قال : ثنا ابن وهب ، قال : أخبرني أُسامة بن زيد ، عن أبي حازم ،
عن عبد الله بن عمر ، أنه رأى رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم ، على
المنبر يخطب الناس ، فمر بهذه الآية : ( وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ
وَالأرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ) فقال رسول الله صَلَّى الله
عَلَيْهِ وَسَلَّم : " يَأْخُذُ السَّمَوَاتِ وَالأرَضَينَ السَّبْعَ
فَيَجْعَلُهَا في كَفِّهِ ، ثُمَّ يَقُولُ بِهِما كمَا يَقُولُ الغُلامُ بالكُرَةِ
: أنا اللهُ الوَاحِدُ ، أنا اللهُ العَزِيزُ " حتى لقد رأينا المنبر وإنه
ليكاد أن يسقط به.
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا يحيى ، عن سفيان ، قال : ثني منصور وسليمان ، عن
إبراهيم ، عن عبيدة السَّلْماني ، عن عيد الله ، قال : جاء يهوديّ إلى النبيّ
صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم فقال : يا محمد إن الله يمسك السموات على أصبع ،
والأرضين على أصبع ، والجبال على أصبع ، والخلائق على أصبع ، ثم يقول : أنا الملك
، قال : فضحك النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم حتى بدت نواجذه وقال : ( وَمَا
قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ ).
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا يحيى ، قال : ثنا فضيل بن عياض ، عن منصور ، عن
إبراهيم ، عن عبيدة عن عبد الله ، قال : فضحك النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم
تعجبا وتصديقا.
محمد بن الحسين ، قال : ثنا أحمد بن المفضل ، قال : ثنا أسباط ، عن السديّ ، عن
منصور ، عن خيثمة بن عبد الرحمن ، عن علقمة ، عن عبد الله بن مسعود ، قال : كنا
عند رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم ، حين
(21/325)
جاءه حبر من أحبار اليهود ، فجلس إليه
، فقال له النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم : " حَدِّثْنا ، قال : إن
الله تبارك وتعالى إذا كان يوم القيامة ، جعل السموات على أصبع ، والأرضين على
أصبع ، والجبال على أصبع ، والماء والشجر على أصبع ، وجميع الخلائق على أصبع ثم
يهزهنّ ثم يقول : أنا الملك ، قال : فضحك رسول الله حتى بدت نواجذه تصديقا لما قال
، ثم قرأ هذه الآية : ( وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ ) ... الآية "
.
محمد ، قال : ثنا أحمد ، قال : ثنا أسباط ، عن السديّ ، نحو ذلك.
حدثني سليمان بن عبد الجبار ، وعباس بن أبي طالب ، قالا ثنا محمد بن الصلت ، قال :
ثنا أبو كدينة عن عطاء بن السائب ، عن أبي الضحى ، عن ابن عباس ، قال : مر يهوديّ
بالنبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم وهو جالس ، فقال : " يا يَهُودِيُّ
حَدّثْنا " ، فقال : كيف تقول يا أبا ألقاسم يوم يجعل الله السماء على ذه ،
والأرض على ذه ، والجبال على ذه ، وسائر الخلق على ذه ، فأنزل الله( وَمَا
قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ ) ... الآية " .
حدثني أبو السائب ، قال : ثنا أبو معاوية ، عن الأعمش ، عن إبراهيم ، عن علقمة ،
عن عبد الله ، قال : " أتى النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم رجل من أهل
الكتاب ، فقال : يا أبا القاسم أبلغك أن الله يحمل الخلائق على أصبع ، والسموات
على أصبع ، والأرضين على أصبع ، والشجر على أصبع ، والثرى على أصبع ؟ قال فضحك
النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم حتى بدت نواجذه ، فأنزل الله( وَمَا قَدَرُوا
اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ ) ... إلى آخر الآية.
وقال آخرون : بل السموات في يمينه ، والأرضون في شماله.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا عليّ بن داود ، قال : ثنا ابن أبي مريم ، قال : أخبرنا ابن أبي حازم ، قال :
ثني أبو حازم ، عن عبيد الله بن مقْسَمٍ ، أنه سمع عبد الله بن
(21/326)
عمر يقول : رأيت رسول الله صَلَّى الله
عَلَيْهِ وَسَلَّم وهو على المنبر يقول : " يَأْخُذُ الجَبَّارُ سَمَوَاتِه
وأرْضَهُ بِيَدَيْه " وقبض رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم يديه ،
وجعل يقبضهما ويبسطهما ، قال : ثمَّ يَقُولُ : " أنا الرَّحْمَنُ أنا المَلِك
، أيْنَ الجَبَّارُونَ ، أيْنَ المُتَكَبِّرُونَ " وتمايل رسول الله صَلَّى
الله عَلَيْهِ وَسَلَّم عن يمينه ، وعن شماله ، حتى نظرت إلى المنبر يتحرّك من
أسفل شيء منه ، حتى إني لأقول : أساقط هو برسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ
وَسَلَّم " ؟.
حدثني أبو علقمة الفروي عبد الله بن محمد ، قال : ثني عبد الله بن نافع ، عن عبد
العزيز بن أبي حازم ، عن أبيه ، عن عبيد بن عمير ، عن عبد الله بن عمر ، أنه قال :
سمعت رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم يقول : " يَأْخُذُ الجَبَّارُ
سَمَوَاتِهِ وَأرْضَهُ بِيَديْهِ " ، وقبض يده فجعل يقبضها ويبسطها ، ثُمَّ
يَقُولُ : " أنا + الجَبَّارُ ، أنا المَلِكُ ، أيْنَ الجَبَّارُونَ ، أيْنَ
المُتَكَبِّرُونَ ؟ " قال : ويميل رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم
عن يمينه وعن شماله ، حتى نظرت إلى المنبر يتحرّك من أسفل شيء منه ، حتى إني لأقول
: أساقط هو برسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم ؟ " .
حدثني الحسن بن عليّ بن عياش الحمصي ، قال : ثنا بشر بن شعيب ، قال : أخبرني أبي ،
قال : ثنا محمد بن مسلم بن شهاب ، قال : أخبرني سعيد بن المسيب ، عن أبي هريرة أنه
كان يقول : قال رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم : " يَقْبِضُ اللهُ
عَزَّ وجَلَّ الأرْضَ يَوْمَ القِيامَةِ وَيَطْوِي السموات بيَمينهِ ، ثُمَّ
يَقُولُ : أنا المَلِكُ أيْنَ مُلُوكُ الأرْضِ ؟ " .
حُدثت عن حرملة بن يحيى ، قال : ثنا إدريس بن يحيى القائد ، قال : أخبرنا حيوة ،
عن عقيل ، عن ابن شهاب ، قال : أخبرني نافع مولى ابن عمر ، عن عبد الله بن عمر ،
أن رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم قال : " إنَّ اللهَ يَقْبِضُ
الأرْضَ يَوْمَ القِيَامَةِ بِيَدِهِ ، وَيَطْوِي السَّماءَ بِيَمينهِ وَيَقُولُ :
أنا المَلِكُ " .
حدثني محمد بن عون ، قال : ثنا أبو المغيرة ، قال : ثنا ابن أبي مريم ،
(21/327)
قال : ثنا سعيد بن ثوبان الكلاعي عن
أبي أيوب الأنصاري ، قال : أتى رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم حبر من
اليهود ، قال : أرأيت إذ يقول الله في كتابه : ( وَالأرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ
يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ ) فأين الخلق عند
ذلك ؟ قال : " هُمْ فِيها كرَقْمِ الكِتابِ " .
حدثنا إبراهيم بن سعيد الجوهري ، قال : ثنا أبو أسامة ، قال : ثنا عمرو بن حمزة ،
قال : ثني سالم ، عن أبيه ، أنه أخبره أن رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم
قال : " يَطْوِي اللهُ السَّمَوَاتِ فَيَأخُذُهُنَّ بِيَمِينِهِ ويَطْوِي
الأرْضَ فَيأْخُذُها بشِمالِهِ ، ثُمَّ يَقُولُ : أنا المَلِك أيْنَ الجَبَّارُونَ
؟ أينَ المُتَكَبِّرُونَ " .
وقيل : إن هذه الآية نزلت من أجل يهودي سأل رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ
وَسَلَّم عن صفة الرب.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، قال : ثني ابن إسحاق ، عن محمد ، عن سعيد ، قال
: " أتى رهط من اليهود نبي الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم ، فقالوا : يا
محمد ، هذا الله خلق الخلق ، فمن خلقه ؟ فغضب النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم
حتى انتقع لونه ، ثم ساورهم غضبا لربه ، فجاءه جبريل فسكنه ، وقال : اخفض عليك
جناحك يا محمد ، وجاءه من الله جواب ما سألوه عنه ، قال : يقول الله تبارك وتعالى
: ( قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَد اللَّهُ الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ
يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ ) فلما تلاها عليهم النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ
وَسَلَّم قالوا : صف لنا ربك ، كيف خلقه ، وكيف عضده ، وكيف ذراعه ؟ فغضب النبي
صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم أشد من غضبه الأول ، ثم ساورهم ، فأتاه جبريل فقال
مثل مقالته ، وأتاه بجواب ما سألوه عنه( وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ
وَالأرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ
بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ).
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا يعقوب ، عن جعفر ، عن سعيد ، قال : تكلمت اليهود في
صفة الرب ، فقالوا ما لم يعلموا ولم يروا ، فأنزل الله على
(21/328)
نبيه صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم :
( وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ ) ثم بين للناس عظمته فقال : ( وَالأرْضُ
جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ
سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُون ) ، فجعل صفتهم التي وصفوا الله بها
شركا " .
وقال بعض أهل العربية من أهل البصرة( وَالأرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ ) يقول في قدرته نحو قوله :
( وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ) أي وما كانت لكم عليه قدرة وليس الملك لليمين
دون سائر الجسد ، قال : وقوله( قَبْضَتُهُ ) نحو قولك للرجل : هذا في يدك وفي
قبضتك. والأخبار التي ذكرناها عن رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم وعن
أصحابه وغيرهم ، تشهد على بطول هذا القول.
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا هارون بن المغيرة ، عن عنبسة ، عن حبيب بن أبي عمرة ،
عن مجاهد ، عن ابن عباس ، عن عائشة قالت : سألت رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ
وَسَلَّم ، عن قوله( وَالأرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ) فأين
الناس يومئذ ؟ قال : " عَلى الصِّراطِ " .
وقوله( سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ) يقول تعالى ذكره تنزيها
وتبرئة لله ، وعلوا وارتفاعا عما يشرك به هؤلاء المشركون من قومك يا محمد ،
القائلون لك : اعبد الأوثان من دون الله ، واسجد لآلهتنا.
(21/329)
وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ (68)
القول في تأويل قوله تعالى : {
وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الأرْضِ إِلا
مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ
(68) }
يقول تعالى ذكره : ونفخ إسرافيل في القرن ، وقد بيَّنا معنى الصور فيما مضى بشواهده
، وذكرنا اختلاف أهل العلم فيه ، والصواب من القول فيه بشواهده ، فأغنى ذلك عن
إعادته في هذا الموضع.
وقوله( فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الأرْضِ ) يقول : مات ، وذلك
(21/329)
في النفخة الأولى.
كما حدثنا محمد ، قال : ثنا أحمد ، قال : ثنا أسباط ، عن السديّ( فَصَعِقَ مَنْ
فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الأرْضِ ) قال : مات.
وقوله : ( إِلا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ) اختلف أهل التأويل في الذي عنى الله
بالاستثناء في هذه الآية ، فقال بعضهم عنى به جبريل وميكائيل وإسرافيل وملك الموت.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد ، قال : ثنا أحمد ، قال : ثنا أسباط ، عن السديّ( وَنُفِخَ فِي
الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الأرْضِ إِلا مَنْ شَاءَ
اللَّهُ ) قال جبريل وميكائيل وإسرافيل وملك الموت.
حدثني هارون بن إدريس الأصم ، قال : ثنا عبد الرحمن بن محمد المحاربي ، قال : ثنا
محمد بن إسحاق ، قال : ثنا الفضل بن عيسى ، عن عمه يزيد الرقاشي ، عن أنس بن مالك
قال : قرأ رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم : ( وَنُفِخَ فِي الصُّورِ
فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الأرْضِ إِلا مَنْ شَاءَ اللَّهُ )
فقيل : من هؤلاء الذين استثنى الله يا رسول الله ؟ قال : " جبرائيلَ
وميكائيلَ ، ومَلكَ المَوْتِ ، فإذَا قَبَضَ أرْوَاحَ الخَلائِقِ قالَ : يَا
مَلَكَ المَوْتِ مَنْ بَقِيَ ؟ وَهُوَ أعْلَمُ ، قال : يَقُولُ : سُبْحانَكَ
تَبارَكْتَ رَبِّي ذَا الجَلالِ وَالإكْرَامِ ، بَقِيَ جِبْرِيلُ وَمِيكائيل
وَمَلَكُ المَوْتِ ، قال : يَقُولُ يَا مَلَكَ المَوْتِ خُذْ نَفْسَ مِيكائيلَ ،
قالَ : فَيَقَعُ كَالطَّوْدِ العَظِيمِ ، قال : ثُمَّ يَقُولُ : يَا مَلَكَ
المَوْتِ مَنْ بَقِيَ ؟ فيَقُولُ : سُبْحَانَكَ رَبِّي يا ذَا الجَلالِ وَالإكْرَامِ
، بَقِيَ جِبْرِيلُ وَمَلَكُ المَوْتِ ، قَالَ : فَيَقُولُ : يا مَلَكَ المَوْتِ
مُتْ ، قالَ : فَيَمُوتُ ، قالَ : ثُمَّ يَقُولُ : يا جِبْرِيلُ مَنْ بَقِيَ ؟
قالَ : فيَقُولُ جِبْرِيلُ : سُبْحَانَكَ رَبِّي يَا ذَا الجَلالِ وَالإكْرَامِ ،
بَقِيَ جِبْرِيلُ ، وَهُوَ مِنَ اللهِ بالمَكانِ الَّذي هُوَ بِهِ ، قالَ :
فَيَقُولُ يَا جِبْرِيلُ لا بُدَّ مِنْ مَوْتَةٍ ، قالَ : فَيَقَعُ سَاجِدًا
يَخْفِقُ بِجناحَيْه يَقُولُ : سُبْحَانَكَ رَبِّي تَبَارَكَتْ وَتَعَالَيْتَ يَا
ذَا الجَلالِ وَالإكْرَامِ ، أنْتَ البَاقِي وجِبْرِيلُ المَيِّتُ الفَانِي : قال
: ويأْخُذُ رُوحَهُ
(21/330)
في الحلْقَةِ التي خُلِقَ مِنْها ،
قالَ : فَيَقَعُ على مِيكائِيلَ أنَّ فَضْلَ خَلْقِهِ على خَلْقِ مِيكَائيل
كفَضْلِ الطَّوْدِ العَظِيمِ عَلى الظَّرْبِ (1) مِنَ الظِّرابِ " .
وقال آخرون : عنى بذلك الشهداء.
حدثني محمد بن المثنى ، قال : ثني وهب بن جرير ، قال : ثنا شعبة عن عمارة ، عن ذي
حجر اليحمدي ، عن سعيد بن جُبَير ، في قوله : ( فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ
وَمَنْ فِي الأرْضِ إِلا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ) قال : الشهداء ثنية الله حول العرش
، متقلدين السيوف.
وقال آخرون : عنى بالاستثناء في الفزع : الشهداء ، وفي الصعق : جبريل ، وملك الموت
، وحملة العرش.
* ذكر من قال ذلك ، والخبر الذي جاء فيه عن رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ
وَسَلَّم :
حدثنا أبو كُرَيب ، قال : ثنا المحاربي عبد الرحمن بن محمد ، عن إسماعيل بن رافع
المدني ، عن يزيد ، عن رجل من الأنصار ، عن محمد بن كعب القرظي ، عن رجل من
الأنصار ، عن أبي هريرة أنه قال : قال رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم :
" يُنْفَخُ فِي الصُّورِ ثَلاثَ نَفَخَاتٍ : الأولى : نَفْخَةُ الفَزَعِ ،
والثَّانِيَةُ : نَفْخَةُ الصَّعْقِ ، والثَّالِثَةُ : نَفْخَةُ القِيَامِ لِرَبِّ
العَالَمِينَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى ، يَأْمُرُ اللهُ إسْرَافِيلَ بالنَّفْخَةِ
الأولى ، فَيَقُولُ : انْفُخْ نَفْخَةَ الفَزَعِ ، فتَفْزَعُ أهْلُ السَّمَوَاتِ
وأهْلُ الأرْضِ إلا مَنْ شَاءَ اللهُ " ، قالَ أبو هريرة : يا رسول الله ،
فمن استثنى حين يقول : ( فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الأرْضِ إِلا
مَنْ شَاءَ اللَّهُ ) قال : " أُولَئِكَ الشُّهَدَاءُ ، وإنَّما يَصلُ
الفَزَعُ إلى الأحْياءِ ، أُولَئِكَ أحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ ، وَقاهُمْ
الله فَزَعَ ذلكَ اليَوْمِ وأمَّنَهُمْ ، ثُمَّ يأْمُرُ اللهُ إسْرَافِيلَ
بِنَفْخَةِ الصَّعْقِ ، فَيَقُولُ : انْفُخْ نَفْخَةَ الصَّعْقِ ، فَيَصْعَقُ
أهْلُ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ
__________
(1) في اللسان : الظرب : الجبل المنبسط . وقيل : هو الجبل الصغير ، وقيل : الروابي
الصغار . والجمع ظراب .
(21/331)
إلا مَنْ شَاءَ اللهُ فإذا هُمْ
خَامِدُونَ ، ثُمَّ يَأْتِي مَلَكُ المَوْتِ إلى الجَبَّارِ تبَارَكَ وَتَعَالَى
فَيَقُولُ : يَا رَبِّ قَدْ مَاتَ أهْلُ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ إلا مَنْ شِئْتَ ،
فَيَقُولُ لَهُ وَهُوَ أعْلَمُ. فمَنْ بَقِيَ ؟ فَيَقُولُ : بَقِيتَ أنْتَ الحَيَّ
الَّذِي لا يَمُوتُ ، وَبَقِيَ حَمَلَةُ عَرْشُكَ ، وَبَقِيَ جِبْرِيلُ
ومِيكائِيلُ ، فَيَقُولُ اللهُ لَهُ : اسْكُتْ إنِّي كَتَبْتُ المَوْتَ عَلَى مَنْ
كَانَ تَحْتَ عَرْشِي ، ثُمَّ يَأْتِي مَلَكُ المَوْتِ فَيَقُولُ : يا رَبِّ قَدْ
مَاتَ جِبْرِيلُ ومِيكائِيلُ ، فيَقُولُ اللهُ وَهُوَ أعْلَمُ : فَمَنْ بَقِيَ ؟
فَيَقُولُ بَقِيتَ أنْتَ الحَيّ الَّذِي لا يَمُوتُ ، وبَقِيَ حَمَلَةُ عَرْشِكَ ،
وَبَقِيتُ أنا ، فَيَقُولُ اللهُ : فَلْيَمُتْ حَمَلَةُ العَرْشِ ، فَيَمُوتُونَ ،
وَيَأْمُرُ اللهُ تعالى العَرْشَ فَيَقْبِضُ الصُّورَ. فَيَقُولُ : أيْ رَبِّ قَدْ
مَاتَ حَمَلَةُ عَرْشِكَ ، فَيَقُولُ : مَنْ بَقِيَ ؟ وَهُوَ أعْلَمُ ، فَيَقُولُ
: بَقِيتَ أنْتَ الحَيَّ الَّذِي لا يَمُوتُ وبَقِيتُ أنا ، قال : فَيَقُولُ اللهُ
: أنْتَ مِنْ خَلْقِي خَلَقْتُكَ لِمَا رَأَيْتَ ، فَمُتْ لا تَحْيَى ، فَيَمُوتُ
" .
وهذا القول الذي رُوي في ذلك عن رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم أولى
بالصحة ، لأن الصعقة في هذا الموضع : الموت. والشهداء وإن كانوا عند الله أحياء
كما أخبر الله تعالى ذكره فإنهم قد ذاقوا الموت قبل ذلك.
وإنما عنى جل ثناؤه بالاستثناء في هذا الموضع ، الاستثناء من الذين صعقوا عند نفخة
الصعق ، لا من الذين قد ماتوا قبل ذلك بزمان ودهر طويل ، وذلك أنه لو جاز أن يكون
المراد بذلك من قد هلك ، وذاق الموت قبل وقت نفخة الصعق ، وجب أن يكون المراد بذلك
من قد هلك ، فذاق الموت من قبل ذلك ، لأنه ممن لا يصعق في ذلك الوقت إذا كان الميت
لا يجدد له موت آخر في تلك الحال.
وقال آخرون في ذلك ما حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ،
قوله : ( فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الأرْضِ إِلا مَنْ شَاءَ
اللَّهُ ) قال الحسن : يستثني الله وما يدع أحدا من أهل السموات ولا أهل الأرض إلا
أذاقه الموت ؟ قال قتادة : قد استثنى الله ، والله أعلم إلى ما صارت ثنيته ، قال :
(21/332)
ذُكر لنا أن نبيّ الله قال : "
أتاني مَلَكٌ فَقَالَ : يا مُحَمَّدُ اخْتَرْ نَبِيًّا مَلِكًا ، أوْ نَبِيًّا
عَبْدًا ، فأَوْمَأ إليَّ أنْ تَوَاضَعْ ، قَالَ : نَبِيًّا عَبْدًا ، قال
فأُعْطِيتُ خَصْلَتَيْنِ : أنْ جُعِلْتُ أوَّلَ مَنْ يَنْشَقُّ عَنْهُ الأرْضُ ،
وأوَّلُ شَافِعٌ ، فَأَرْفَعُ رَأْسِي فَأَجِدُ مُوسَى آخِذًا بالعَرْشِ ، فاللهُ
أعْلَمُ أصَعِقَ بَعْدَ الصَّعْقَةِ الأولَى أمْ لا ؟ " .
حدثنا أبو كُرَيب ، قال : ثنا عبدة بن سليمان ، قال : ثنا محمد بن عمرو ، قال :
ثنا أبو سلمة ، عن أبي هريرة ، قال : قال يهودي بسوق المدينة : والذي اصطفى موسى
على البشر ، قال : فرفع رجل من الأنصار يده ، فصكّ بها وجهه ، فقال : تقول هذا
وفينا رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم ؟ فقال رسول الله صَلَّى الله
عَلَيْهِ وَسَلَّم : " وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي
السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الأرْضِ إِلا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ
أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ ، فَأَكُونُ أنَا أوَّلَ مَنْ يَرْفَعُ
رَأْسَهُ ، فإذَا مُوسَى آخِذٌ بِقَائِمَةٍ مِنْ قَوَائِمِ العَرْشِ فَلا أدْرِي
أرَفَعَ رَأْسَه قَبْلِي ، أوْ كَانَ مِمَّنْ استثنى الله " .
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا جرير ، عن عطاء ، عن الحسن ، قال : قال النبي صَلَّى
الله عَلَيْهِ وَسَلَّم : " كأنَّي أنْفُضُ رأسِي مِنَ التُّرَابِ أوَّلَ
خَارِجٍ ، فَأَلْتَفِتُ فَلا أَرَى أحَدًا إلا مُوسَى مُتَعَلِّقًا بالعَرْشِ ،
فَلا أدْرِي أمِمَّنْ اسْتَثْنَى اللهُ أنْ لا تُصِيبُه النَّفْخَةُ أوْ بُعِثَ
قَبْلِي " .
وقوله : ( ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ ) يقول
تعالى ذكره : ثم نفخ في الصور نفخة أخرى ، والهاء التي في " فيه " من
ذكر الصور.
كما حدثنا محمد ، قال : ثنا أحمد ، قال : ثنا أسباط ، عن السديّ( ثُمَّ نُفِخَ
فِيهِ أُخْرَى ) قال : في الصور ، وهى نفخة البعث.
وذُكر أن بين النخفتين أربعين سنة.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا أبو كُرَيب ، قال : ثنا أبو معاوية ، عن الأعمش ، عن أبي صالح ،
(21/333)
وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (69)
عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله :
" ما بَيْنَ النَّفْخَتَيْنِ أرْبَعُونَ " قالوا : يا أبا هريرة أربعون
يومًا ؟ قال : أبَيْتُ ، قالوا : أربعون شهرا ؟ قال : أبيت ، قالوا : أربعون سنة ؟
قال : أبيت ، " ثُمَّ يُنزلُ اللهُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتَنْبِتُونَ
كَمَا يَنْبِتُ البَقْلُ ، وَلَيْسَ مِنَ الإنْسانِ شَيْءٌ إلا يَبْلَى ، إلا
عَظْمًا وَاحِدًا ، وَهُوَ عَجْبُ الذَّنَبِ ، وَمِنْهُ يُرَكَّبُ الخَلْقُ يَوْمَ
القِيَامَةِ " .
حدثنا يحيى بن واضح ، قال : ثنا البلخي بن إياس ، قال : سمعت عكرمة يقول في قوله(
فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الأرْضِ ) ... الآية ، قال : الأولى
من الدنيا ، والأخيرة من الآخرة.
حدثنا بشر قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ
أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ ) قال نبي الله : " بين النفختين
أربعون " قال أصحابه : فما سألناه عن ذلك ، ولا زادنا على ذلك ، غير أنهم
كانوا يرون من رأيهم أنها أربعون سنة.
وذُكر لنا أنه يبعث في تلك الأربعين مطر يقال له مطر الحياة ، حتى تطيب الأرض
وتهتزّ ، وتنبت أجساد الناس نباتَ البقل ، ثم ينفخ فيه الثانية( فَإِذَا هُمْ
قِيَامٌ يَنْظُرُونَ ) قال : ذُكر لنا أن معاذ بن جبل ، سأل نبي الله صَلَّى الله
عَلَيْهِ وَسَلَّم : كيف يبعث المؤمنون يوم القيامة ؟ قال : " يُبْعَثُونَ
جُرْدًا مُرْدا مُكَحَّلِينَ بني ثَلاثِين سَنَةً " .
وقوله : ( فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ ) يقول : فإذا من صعق عند النفخة التي
قبلها وغيرهم من جميع خلق الله الذين كانوا أمواتا قبل ذلك قيام من قبورهم
وأماكنهم من الأرض أحياء كهيئتهم قبل مماتهم ينظرون أمر الله فيهم.
كما حدثنا محمد ، قال : ثنا أحمد ، قال : ثنا أسباط ، عن السديّ( فَإِذَا هُمْ
قِيَامٌ يَنْظُرُونَ ) قال : حين يبعثون.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَأَشْرَقَتِ الأرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا
(21/334)
وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ
بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا
يُظْلَمُونَ (69) }
يقول تعالى ذكره : فأضاءت الأرض بنور ربها ، يقال : أشرقت الشمس. إذا صفت وأضاءت ،
وأشرقت : إذا طلعت ، وذلك حين يبرز الرحمن لفصل القضاء بين خلقه.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر. قال. ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : ( وَأَشْرَقَتِ
الأرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا ) قال : فما يتضارون في نوره إلا كما يتضارون في الشمس
في اليوم الصحو الذي لا دخن فيه.
حدثنا محمد ، قال ثنا أحمد ، قال : ثنا أسباط ، عن السديّ( وَأَشْرَقَتِ الأرْضُ
بِنُورِ رَبِّهَا ) قال : أضاءت.
وقوله( وَوُضِعَ الْكِتَابُ ) يعني. كتاب أعمالهم لمحاسبتهم ومجازاتهم.
كما حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال ثنا سعيد ، عن قتادة( وَوُضِعَ الْكِتَابُ )
قال : كتب أعمالهم.
حدثنا محمد ، قال : ثنا أحمد ، قال : ثنا أسباط ، عن السديّ( وَوُضِعَ الْكِتَابُ
) قال : الحساب.
وقوله : ( وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ ) يقول : وجيء بالنبيين ليسألهم
ربهم عما أجابتهم به أممهم ، وردت عليهم في الدنيا ، حين أتتهم رسالة الله ،
والشهداء ، يعني بالشهداء : أمة محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم ، ويستشهدهم
ربهم على الرسل ، فيما ذكرت من تبليغها رسالة الله التي أرسلهم بها ربهم إلى أممها
، إذ جحدت أممهم أن يكونوا أبلغوهم رسالة الله ، والشهداء : جمع شهيد ، وهذا
(21/335)
وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ (70) وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آَيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ (71)
نظير قول الله : ( وَكَذَلِكَ
جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ
الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا ) . وقيل : عنى بقوله : ( الشُّهَدَاءِ ) : الذين
قتلوا في سبيل الله ، وليس لما قالوا من ذلك في هذا الموضع كبير معنى ، لأن عقيب
قوله : ( وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ
) ، وفي ذلك دليل واضح على صحة ما قلنا من أنه إنما دعى بالنبيين والشهداء للقضاء
بين الأنبياء وأممها ، وأن الشهداء إنما هي جمع شهيد ، الذين يشهدون للأنبياء على
أممهم كما ذكرنا.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا عليّ ، قال : ثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ،
قوله( وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ ) فإنهم ليشهدون للرسل بتبليغ
الرسالة ، وبتكذيب الأمم إياهم.
* ذكر من قال ما حكينا قوله من القول الآخر :
حدثنا محمد بن الحسين ، قال : ثنا أحمد بن المفضل ، قال : ثنا أسباط ، عن السديّ(
وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ ) : الذين استشهدوا في طاعة الله.
وقوله : ( وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ ) يقول تعالى ذكره : وقضي بين النبيين
وأممها بالحقّ ، وقضاؤه بينهم بالحقّ ، أن لا يحمل على أحد ذنب غيره ، ولا يعاقب
نفسا إلا بما كسبت.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُوَ
أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ (70) وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ
زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا
أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ
وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ
كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ (71) }
(21/336)
قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (72)
يقول تعالى ذكره : ووفى الله حينئذ كل
نفس جزاء عملها من خير وشرّ ، وهو أعلم بما يفعلون في الدنيا من طاعة أو معصية ،
ولا يعزب عنه علم شيء من ذلك ، وهو مجازيهم عليه يوم القيامة ، فمثيب المحسن
بإحسانه ، والمسيء بما أساء.
وقوله : ( وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ ) يقول : وحشر الذين كفروا
بالله إلى ناره التي أعدّها لهم يوم القيامة جماعات ، جماعة جماعة ، وحزبا حزبا.
كما حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة في قوله : ( زُمَرًا
) قال : جماعات.
وقوله : ( إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا ) السبعة( وَقَالَ لَهُمْ
خَزَنَتُهَا ) قوامها : ( أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ
آيَاتِ رَبِّكُمْ ) يعني : كتاب الله المنزل على رسله وحججه التي بعث بها رسله إلى
أممهم( وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا ) يقول : وينذرونكم ما تلقون
في يومكم هذا ، وقد يحتمل أن يكون معناه : وينذرونكم مصيركم إلى هذا اليوم. قالوا
: بلى : يقول : قال الذين كفروا مجيبين لخزنة جهنم : بلى قد أتتنا الرسل منا ،
فأنذرتنا لقاءنا هذا اليوم( وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى
الْكَافِرِينَ ) يقول : قالوا : ولكن وجبت كلمة الله أن عذابه لأهل الكفر به علينا
بكفرنا به.
كما حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : ( وَلَكِنْ
حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ ) بأعمالهم.
القول في تأويل قوله تعالى : { قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ
فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (72) }
يقول تعالى ذكره : فتقول خزنة جهنم للذين كفروا حينئذ : ( ادْخُلُوا أَبْوَابَ
جَهَنَّمَ ) السبعة على قدر منازلكم فيها( خَالِدِينَ فِيهَا ) يقول : ماكثين فيها
(21/337)
وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ (73) وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (74)
لا يُنقلون عنها إلى غيرها.( فَبِئْسَ
مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ ) يقول : فبئس مسكن المتكبرين على الله في الدنيا ، أن
يوحدوه ويفردوا له الألوهة ، جهنم يوم القيامة.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى
الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ
لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ (73)
وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الأرْضَ
نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (74) }
يقول تعالى ذكره : وحُشر الذين اتقوا ربهم بأداء فرائضه ، واجتناب معاصيه في
الدنيا ، وأخلصوا له فيها الألوهة ، وأفردوا له العبادة ، فلم يشركوا في عبادتهم
إياه شيئا( إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا ) يعني جماعات ، فكان سوق هؤلاء إلى منازلهم
من الجنة وفدا على ما قد بيَّنا قبل فى سورة مريم على نجائب من نجائب الجنة ، وسوق
الآخرين إلى النار دعًّا ووردا ، كما قال الله.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. وقد ذكر ذلك في أماكنه من هذا الكتاب.
وقد حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : ( وَسِيقَ
الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا ) ، وفي قوله : ( وَسِيقَ الَّذِينَ
اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا ) قال : كان سوق أولئك عنفا وتعبا
ودفعا ، وقرأ : ( يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا ) قال : يدفعون
دفعا ، وقرأ : ( فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ ) . قال : يدفعه ، وقرأ(
وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا - و - نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ
إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا ). ثم قال : فهؤلاء وفد الله.
حدثنا مجاهد بن موسى ، قال : ثنا يزيد ، قال : أخبرنا شريك بن
(21/338)
عبد الله ، عن أبي إسحاق ، عن عاصم بن
ضمرة ، عن عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه قوله : ( وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا
رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا ) حتى إذا انتهوا إلى بابها ، إذا هم بشجرة
يخرج من أصلها عينان ، فعمدوا إلى إحداهما ، فشربوا منها كأنما أمروا بها ، فخرج
ما في بطونهم من قذر أو أذى أو قذى ، ثم عمدوا إلى الأخرى ، فتوضئوا منها كأنما
أمروا به ، فجرت عليهم نضرة النعيم ، فلن تشعث رءوسهم بعدها أبدا ولن تبلى ثيابهم
بعدها ، ثم دخلوا الجنة ، فتلقتهم الولدان كأنهم اللؤلؤ المكنون ، فيقولون : أبشر
، أعد الله لك كذا ، وأعد لك كذا وكذا ، ثم ينظر إلى تأسيس بنيانه جندل اللؤلؤ
الأحمر والأصفر والأخضر ، يتلألأ كأنه البرق ، فلولا أن الله قضى أن لا يذهب بصره
لذهب ، ثم يأتي بعضهم إلى بعض أزواجه ، فيقول : أبشري قد قدم فلان بن فلان ،
فيسميه باسمه واسم أبيه ، فتقول : أنت رأيته ، أنت رأيته! فيستخفها الفرح حتى تقوم
، فتجلس على أسكفة بابها ، فيدخل فيتكئ على سريره ، ويقرأ هذه الآية : ( الْحَمْدُ
لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا
اللَّهُ ) ... الآية.
حدثنا محمد ، قال : ثنا أحمد ، قال : ثنا أسباط ، عن السديّ ، قال : ذكر أبو إسحاق
عن الحارث ، عن عليّ رضي الله عنه قال : يساقون إلى الجنة ، فينتهون إليها ،
فيجدون عند بابها شجرة في أصل ساقها عينان تجريان ، فيعمدون إلى إحداهما ،
فيغتسلون منها ، فتجري عليهم نضرة النعيم ، فلن تشعث رءوسهم بعدها أبدا ، ولن تغبر
جلودهم بعدها أبدا ، كأنما دهنوا بالدهان ، ويعمدون إلى الأخرى ، فيشربون منها ،
فيذهب ما في بطونهم من قذى أو أذى ، ثم يأتون باب الجنة فيستفتحون ، فيفتح لهم ،
فتتلقاهم خزنة الجنة فيقولون( سَلامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا
كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ) قال : وتتلقاهم الولدان المخلدون ، يطيفون بهم كما تطيف
ولدان أهل الدنيا بالحميم إذا جاء من الغيبة ، يقولون : أبشر أعد الله لك كذا ،
وأعد لك كذا ، فينطلق أحدهم إلى زوجته ، فيبشرها به ، فيقول : قدم فلان باسمه الذي
كان يسمى به في الدنيا ، وقال : فيستخفها الفرح حتى تقوم على أسكفة بابها ، وتقول
: أنت رأيته ، أنت رأيته ؟ قال : فيقول : نعم ، قال :
(21/339)
فيجيء حتى يأتي منزله ، فإذا أصوله من
جندل اللؤلؤ من بين أصفر وأحمر وأخضر ، قال : فيدخل فإذا الأكواب موضوعة ،
والنمارق مصفوفة ، والزرابيّ مبثوثة قال : ثم يدخل إلى زوجته من الحور العين ،
فلولا أن الله أعدها له لالتمع بصره من نورها وحسنها ، قال : فاتكأ عند ذلك ويقول
: ( الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا
أَنْ هَدَانَا اللَّهُ ) قال : فتناديهم الملائكة : ( أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ
أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ) .
حدثنا محمد ، قال : ثنا أحمد ، قال : ثنا أسباط ، قال : ذكر السديّ نحوه أيضا ،
غير أنه قال : لهو أهدى إلى منزله في الجنة منه إلى منزله في الدنيا ، ثم قرأ
السديّ : ( وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ ).
واختلف أهل العربية في موضع جواب " إذا " التي في قوله( حَتَّى إِذَا
جَاءُوهَا ) فقال بعض نحويي البصرة : يقال إن قوله( وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا )
في معنى : قال لهم ، كأنه يلغي الواو ، وقد جاء في الشعر شيء يشبه أن تكون الواو
زائدة ، كما قال الشاعر :
فإذَا وَذلكَ يا كُبَيْشَةُ لَمْ يَكُنْ... إلا تَوَهُّمَ حَاِلمٍ بِخَيالٍ (1)
فيشبه أن يكون يريد : فإذا ذلك لم يكن. قال : وقال بعضهم : فأضمر الخبر ، وإضمار
الخبر أيضا أحسن في الآية ، وإضمار الخبر في الكلام كثير. وقال آخر منهم : هو
مكفوف عن خبره ، قال : والعرب تفعل مثل هذا ، قال عبد مَناف بن ربع في آخر قصيدة :
حتى إذَا أسْلَكُوهُمْ فِي قُتائِدَةٍ... شَلا كما تَطْرُدُ الجَمَّالَةُ
الشُّرُدا (2)
__________
(1) هذا البيت لم نقف على قائله . استشهد به المؤلف عند قوله تعالى " حتى إذا
جاءوها وفتحت " على أن الواو زائدة في قوله تعالى " وفتحت أبوابها
" كزيادتها في قول الشاعر : " فإذا وذلك " لأن الشاعر يريد :
" فإذا ذلك " بدون واو .
(2) البيت لعبد مناف بن ربع الهذلي ( اللسان : جمل ) . و ( خزانة الأدب الكبرى
للبغدادي 3 : 170 ) شاهد على أن جواب إذ عند الرضي شارح كافية ابن الحاجب محذوف
لتفخيم الأمر . ( وقد تقدم الاستشهاد به على هذا وغيره في الجزء 14 : 9 ) فراجعه
ثمة . وفي مجاز القرآن لأبي عبيدة ( الورقة 217 ) قال : وقوله " حتى إذا
جاءوها ، وقال لهم خزنتها سلام عليكم طبتم فادخلوها خالدين " : مكفوف عن خبره
( أي محذوف خبره ) والعرب تفعل مثل هذا . قال عبد مناف : " حتى إذا أسلكوهم
... البيت " . وفي خزانة الأدب للبغدادي ( 3 : 171) : وقال في الصحاح : إذا :
زائدة. أو يكون قد كف عن خبره ، لعلم السامع . هـ . ورد قوله بأن إذا اسم ، والاسم
لا يكون لغوا . ا هـ .
(21/340)
وقال الأخطل في آخر القصيدة :
خَلا أنَّ حيَّا من قُرَيْشٍ تَفَصَّلُوا... على النَّاسِ أوْ أنَّ الأكارِمَ
نَهْشَلا (1)
وقال بعض نحويِّي الكوفة : أدخلت في حتى إذا وفي فلما الواو في جوابها وأخرجت ،
فأما من أخرجها فلا شيء فيه ، ومن أدخلها شبه الأوائل بالتعجب ، فجعل الثاني نسقا
على الأوّل ، وإن كان الثاني جوابا كأنه قال : أتعجب لهذا وهذا.
وأولى الأقوال في ذلك عندي بالصواب قول من قال : الجواب متروك ، وإن كان القول
الآخر غير مدفوع ، وذلك أن قوله : ( وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلامٌ عَلَيْكُمْ
طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ ) يدلّ على أن في الكلام متروكا ، إذ كان
عقيبه( وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ ) ، وإذا كان ذلك
كذلك ، فمعنى الكلام : حتى إذا جاءوا وفتحت أبوابها وقال لهم خزنتها : سلام عليكم
طبتم فادخلوها خالدين ، دخلوها وقالوا : الحمد لله الذي صدقنا وعده. وعنى بقوله(
سَلامٌ عَلَيْكُمْ ) : أمنة من الله لكم أن ينالكم بعدُ مكروه أو أذى. وقوله(
طِبْتُمْ ) يقول : طابت أعمالكم في الدنيا ، فطاب اليوم مثواكم.
وكان مجاهد يقول في ذلك ما حدثنا محمد بن عمر ، قال : ثنا أبو عاصم. قال : ثنا
عيسى ، وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا
__________
(1) البيت للأخطل ، قاله أبو عبيدة في مجاز القرآن ( الورقة 217) وذكر البيت بعقب
البيت الذي قبله ، ولم يبين موضع الشاهد فيه وهو قوله " أو أن المكارم نهشلا
... " فلم يذكر خبر أن الثانية ، كما لم يذكر جواب " إذا " في بيت
عبد مناف قبله . والعرب تفعل ذلك إذا كان مفهوما من السياق . وتقدير المحذوف في
هذا البيت : أو أن الأكارم نهشلا تفضلوا على الناس .
(21/341)
ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد
يقول في( طِبْتُمْ ) قال : كنتم طيبين في طاعة الله.
وقوله : ( وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ ) يقول وقال
الذين سيقوا زمرا ودخلوها : الشكر خالص لله الذي صدقنا وعده ، الذي كان وعَدناه في
الدنيا على طاعته ، فحققه بإنجازه لنا اليوم ، ( وَأَوْرَثَنَا الأرْضَ ) يقول :
وجعل أرض الجنة التي كانت لأهل النار لو كانوا أطاعوا الله في الدنيا ، فدخلوها ،
ميراثا لنا عنهم.
كما حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : (
وَأَوْرَثَنَا الأرْضَ ) قال : أرض الجنة.
حدثنا محمد ، قال : ثنا أحمد ، قال : ثنا أسباط ، عن السديّ( وَأَوْرَثَنَا
الأرْضَ ) أرض الجنة.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : (
وَأَوْرَثَنَا الأرْضَ ) قال : أرض الجنة ، وقرأ : ( أَنَّ الأرْضَ يَرِثُهَا
عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ ) .
وقوله : ( نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ ) يقول : نتخذ من الجنة
بيتا ، ونسكن منها حيث نحب ونشتهي.
كما حدثنا محمد ، قال : ثنا أحمد ، قال : ثنا أسباط ، عن السديّ( نَتَبَوَّأُ مِنَ
الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ ) ننزل منها حيث نشاء.
وقوله : ( فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ ) يقول : فنعم ثواب المطيعين لله ،
العاملين له في الدنيا الجنة لمن أعطاه الله إياها في الآخرة.
(21/342)
وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (75)
القول في تأويل قوله تعالى : { وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (75) }
(21/342)
يقول تعالى ذكره : وترى يا محمد
الملائكة محدقين من حول عرش الرحمن ، ويعني بالعرش : السرير.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : ( وَتَرَى
الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ ) محدقين.
حدثنا محمد ، قال : ثنا أحمد ، قال : ثنا أسباط ، عن السديّ( وَتَرَى
الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ ) قال : محدقين حول العرش ، قال :
العرش : السرير.
واختلف أهل العربية في وجه دخول " مِنْ " في قوله : ( حَافِّينَ مِنْ
حَوْلِ الْعَرْشِ ) والمعنى : حافِّين حول العرش.
وفي قوله : ( وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ
أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ ) فقال بعض نحويي البصرة : أدخلت " مِنْ
" في هذين الموضعين توكيدا ، والله أعلم ، كقولك : ما جاءني من أحد ، وقال
غيره : قبل وحول وما أشبههما ظروف تدخل فيها " مِنْ " وتخرج ، نحو :
أتيتك قبل زيد ، ومن قبل زيد ، وطفنا حولك ومن حولك ، وليس ذلك من نوع : ما جاءني
من أحد ، لأن موضع " مِنْ " في قولهم : ما جاءني من أحد رفع ، وهو اسم.
والصواب من القول في ذلك عندي أن " من " في هذه الأماكن ، أعني في قوله(
مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ ) ومن قبلك ، وما أشبه ذلك ، وإن كانت دخلت على الظروف
فإنها بمعنى التوكيد.
وقوله : ( يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ ) يقول : يصلون حول عرش الله شكرا له ،
والعرب تدخل الباء أحيانا في التسبيح ، وتحذفها أحيانا ، فتقول : سبح بحمد الله ،
وسبح حَمْدَ الله ، كما قال جل ثناؤه : ( سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأعْلَى ) ، وقال
في موضع آخر : ( فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ ) .
(21/343)
وقوله : ( وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ
بِالْحَقِّ ) يقول : وقضى الله بين النبيين الذين جيء بهم ، والشهداء وأممها
بالعدل ، فأسكن أهل الإيمان بالله ، وبما جاءت به رسله الجنة. وأهل الكفر به ،
ومما جاءت به رسله النار( وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ) يقول :
وختمت خاتمة القضاء بينهم بالشكر للذي ابتدأ خلقهم الذي له الألوهية ، وملك جميع
ما في السموات والأرض من الخلق من ملك وجن وإنس ، وغير ذلك من أصناف الخلق.
وكان قتادة يقول في ذلك ما حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن
قتادة( يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ ) ... الآية ، كلها قال : فتح أول الخلق
بالحمد لله ، فقال : الحمد لله الذي خلق السموات والأرض ، وختم بالحمد فقال : (
وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ).
آخر تفسير سورة الزمر
(21/344)
حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (2) غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ (3)
تفسير سورة غافر
بسم الله الرحمن الرحيم
القول في تأويل قوله تعالى : { حم (1) تَنزيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ
الْعَلِيمِ (2) غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي
الطَّوْلِ لا إِلَهَ إِلا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ (3) }
اختلف أهل التأويل فى معنى قوله(حم) فقال بعضهم : هو حروف مقطعة من اسم الله الذي
هو الرحمن الرحيم ، وهو الحاء والميم منه.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني عبد لله بن أحمد بن شبُّويه المَروزي ، قال : ثنا عليّ بن الحسن ، قال : ثني
أبي ، عن يزيد ، عن عكرمة ، عن ابن عباس : الر ، وحم ، ون ، حروف الرحمن مقطعة.
وقال آخرون : هو قسم أقسمه الله ، وهو
(21/345)
اسم من أسماء الله.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : ثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ،
قال : (حم) : قسم أقسمه الله ، وهو اسم من أسماء الله.
حدثنا محمد بن الحسين ، قال : ثنا أحمد بن المفضل ، قال : ثنا أسباط ، عن السديّ ،
قوله(حم) : من حروف أسماء الله.
وقال آخرون : يل هو اسم من أسماء القرآن.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة(حم) قال : اسم من أسماء
القرآن. وقال آخرون : هو حروف هجاء.
وقال آخرون : بل هو اسم ، واحتجوا لقولهم ذلك بقول شريح بن أوفى العبسي :
يُذَكِّرُنِي حَامِيمَ وَالرُّمْحُ شَاجِرٌ... فَهَلا تَلا حم قَبْلَ التَّقَدُّمِ
(1)
ويقول الكُمَيت :
وَجَدْنَا لَكُمْ فِي آلِ حامِيمَ آيَةً... تَأوَّلَهَا مِنَّا تَقِيٌّ وَمُعْرِبُ
(2)
وحُدثت عن معمر بن المثنى أنه قال : قال يونس ، يعني الجرمي : ومن قال هذا القول
فهو منكَر عليه ، لأن السورة(حم) ساكنة الحروف ، فخرجت مخرج التهجي ، وهذه أسماء
سور خرجت متحركات ، وإذا سميت سورة بشيء
__________
(1) البيت لشريح بن أوفى العبسي ، كما قال أبو عبيد في مجاز القرآن ( 217 ب ) وكما
في ( اللسان : حمم ) وقال : وأنشده غير أبي عبيد للأشتر النخعي . وقال : قال ابن
مسعود : " آل حاميم " ديباج القرآن . قال الفراء : هو كقولك آل فلان وآل
فلان . وقال الجوهري : أما قول العامة " الحواميم " فليس من كلام العرب
. قال أبو عبيد : " الحواميم " : سور في القرآن ، على غير قياس ، وأنشد
: وبالطواسين التي قد ثلثت ... وبالحواميم التي قد سبعت
قال : والأولى أن تجمع " بذوات حاميم " . وأنشد أبو عبيد في " حاميم
" لشريح بن أوفى العبسي : " يذكرني حاميم ... البيت " قال : وأنشده
غيره للأشتر النخعي . والضمير في " يذكرني " : هو لمحمد بن طلحة ، وقتله
الأشتر أو شريح . ( أي في يوم الجمل ) ا هـ .
(2) البيت للكميت بن زيد الأسدي " مجاز القرآن لأبي عبيدة 218 - 1 ) وديوانه طبعه
الموسوعات بالقاهرة 18 . وآل حاميم وذوات حاميم : السور التي أولها " حم
" نص الحريري في درة الغواص ، على أنه يقال : آل حاميم ، وذوات حاميم ، وآل
طسم ، ولا يقال : حواميم ولا طواسيم . ا هـ . والآية هي هي قوله تعالى في سورة
الشورى : " قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى " . وفي سورة
الأحزاب من آل حاميم : " إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم
تطهيرا " . والتقي : الساكت عن التفضيل ، والمعرب : الناطق به ، رواية البيت
في مجاز القرآن : وجدنا لكم في حم آية ... وفي غيرها آي ، وأي يعرب
ثنا قال : قال يونس : من قال بهذا القول ، فهو منكر عليه ، لأن السورة " حم
" ساكنة الحروف ، فخرجت مخرج حروف التهجي وهذه أسماء سور خرجن متحركات ؛ وإذا
سميت سورة بشيء من هذه الأحرف ( كذا ) ، دخلها الإعراب . ا هـ . وقول المؤلف :
يعني الجرمي : نبهنا عليه فيما مضى ، لأن الجرمي اسمه صالح بن إسحاق أبو عمر .
(21/348)
من هذه الأحرف المجزومة دخله الإعراب.
والقول في ذلك عندي نظير القول في أخواتها ، وقد بيَّنا ذلك ، في قوله : (الم) ،
ففي ذلك كفاية عن إعادته في هذا الموضع ، إذ كان القول في حم ، وجميع ما جاء في
القرآن على هذا الوجه ، أعني حروف التهجي قولا واحدا.
وقوله : ( تَنزيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ ) يقول الله
تعالى ذكره : من الله العزيز في انتقامه من أعدائه ، العليم يما يعملون من الأعمال
وغيرها تنزيل هذا الكتاب; فالتنزيل مرفوع بقوله : ( مِنَ اللَّهِ ) .
وفي قوله : ( غَافِرِ الذَّنْبِ ) وجهان ; أحدهما : أن يكون بمعنى يغفر ذنوب
العباد ، وإذا أريد هذا المعنى ، كان خفض غافر وقابل من وجهين ، أحدهما من نية
تكرير " من " ، فيكون معنى الكلام حينئذ : تنزيل الكتاب من الله العزيز
العليم ، من غافر الذنب ، وقابل التوب ، لأن غافر الذنب نكرة ، وليس بالأفصح أن
يكون نعتا للمعرفة ، وهو نكرة ، والآخر أن يكون أجرى في إعرابه ، وهو نكرة على
إعراب الأول كالنعت له ، لوقوعه بينه وبين قوله : ( ذِي الطَّوْلِ ) وهو معرفة..
وقد يجوز أن يكون أتبع إعرابه وهو نكرة إعراب الأول ، إذ كان مدحا ، وكان المدح
يتبع إعرابه ما قبله أحيانا ، ويعدل به عن إعراب الأول أحيانا بالنصب والرفع كما
قال الشاعر :
لا يَبْعَدَنْ قَوْمي الَّذِينَ همُ... سُمُّ العُدَاةِ وآفَةُ الجُزُرِ
النَّازِلينَ بِكُلّ مُعْتَركٍ... والطَّيِّبِينَ مَعَاقِدَ الأزُر (1)
__________
(1) البيتان لخرنق بنت هفان من قصيدة رثت بها زوجها بشر بن عمرو بن مرثد الضبعي ،
وابنها علقمة بن بشر وجماعة من قومها قتلوا في معركة ( خزاية الأدب الكبرى
للبغدادي 2 : 306 ) ومحل الشاهد في البيتين أنه يجوز قطع نعت المعرفة بالواو ،
فقولها : والطيبون نعت مقطوع بالواو من قومي ، للمدح والتعظيم ، يجعله خبر مبتدأ
محذوف ، أي هم الطيبون . وقوله " النازلين " : مقطوع فالنصب ، مع أنه
نعت لقومي المرفوع . وإنما نصب بفعل مقدر أي أمدح أو أعني ، أو نحوهما ، واستشهد
بهما المؤلف ( الطبري ) على أن قوله تعالى : " غافر الذنب " نعت للفظ
" الله " المجرور بمن ، ويجوز في هذا النعت الجر على الإتباع ، كما يجوز
فيه القطع بالنصب ، بتقدير فعل : أي أخص غافر الذنب ، أو بالرفع ، بتقدير مبتدإ :
أي هو غافر الذنب .
(21/349)
وكما قال جلّ ثناؤه( وَهُوَ الْغَفُورُ
الْوَدُودُ ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ ) فرفع فعال وهو نكرة
محضة ، وأتبع إعراب الغفور الودود; والآخر : أن يكون معناه : أن ذلك من صفته تعالى
، إذ كان لم يزل لذنوب العباد غفورا من قبل نزول هذه الآية وفي حال نزولها ، ومن
بعد ذلك ، فيكون عند ذلك معرفة صحيحة ونعتا على الصحة. وقال : ( غَافِرِ الذَّنْبِ
) ولم يقل الذنوب ، لأنه أريد به الفعل ، وأما قوله : ( وَقَابِلِ التَّوْبِ ) فإن
التوب قد يكون جمع توبة ، كما يجمع الدَّومة دَوما والعَومة عَوما من عومة السفينة
، كما قال الشاعر :
عَوْمَ السَّفِينَ فَلَمَّا حالَ دُونَهُمُ (1)
وقد يكون مصدر تاب يتوب توبا.
وقد حدثني محمد بن عبيد المحاربي ، قال : ثنا أبو بكر بن عياش ، عن أبي إسحاق ،
قال : جاء رجل إلى عمر ، فقال : إني قتلت ، فهل لي من توبة ؟ قال : نعم ، اعمل ولا
تيأس ، ثم قرأ : ( حم تَنزيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ
غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ ) .
وقوله : ( شَدِيدُ الْعِقَابِ ) يقول تعالى ذكره : شديد عقابه لمن عاقبه من أهل
العصيان له ، فلا تتكلوا على سعة رحمته ، ولكن كونوا منه على حذر ، باجتناب معاصيه
، وأداء فرائضه ، فإنه كما أن لا يؤيس أهل الإجرام والآثام من عفوه ، وقبول توبة
من تاب منهم من جرمه ، كذلك لا يؤمنهم من عقابه
__________
(1) هذا صدر بيت لم نعرف قائله ، ولا عجزه . استشهد به المؤلف على أن التوب في
قوله تعالى : " قابل التوب " : قد يكون جمع توبة كما يجمع الدومة دوما ،
والعومة عوما ، من عوم السفينة .
(21/350)
مَا يُجَادِلُ فِي آَيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلَادِ (4)
وانتقامه منهم بما استحلوا من محارمه ،
وركبوا من معاصيه.
وقوله : ( ذِي الطَّوْلِ ) يقول : ذي الفضل والنعم المبسوطة على من شاء من خلقه;
يقال منه : إن فلانا لذو طول على أصحابه ، إذا كان ذا فضل عليهم.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : ثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ،
قوله : ( ذِي الطَّوْلِ ) يقول : ذي السعة والغنى .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث ، قال :
ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قول الله(
ذِي الطَّوْلِ ) الغنى.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( ذِي الطَّوْلِ ) : أي ذي
النعم.
وقال بعضهم : الطول : القدرة.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، فى قوله( ذِي الطَّوْلِ
) قال : الطول القدرة ، ذاك الطول.
وقوله : ( لا إِلَهَ إِلا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ ) يقول : لا معبود تصلح له
العبادة إلا الله العزيز العليم ، الذي صفته ما وصف جلّ ثناؤه ، فلا تعبدوا شيئا
سواه( إِلَيْهِ الْمَصِيرُ ) يقول تعالى ذكره : إلى الله مصيركم ومرجعكم أيها
الناس ، فإياه فاعبدوا ، فإنه لا ينفعكم شيء عبدتموه عند ذلك سواه.
القول في تأويل قوله تعالى : { مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلا الَّذِينَ
كَفَرُوا فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ (4) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ
قَوْمُ نُوحٍ
(21/351)
كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزَابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ (5)
وَالأحْزَابُ مِنْ بَعْدِهِمْ
وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ
لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ (5) }
يقول تعالى ذكره : ما يخاصم في حجج الله وأدلته على وحدانيته بالإنكار لها ، إلا
الذين جحدوا توحيده.
وقوله : ( فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ ) يقول جلّ ثناؤه : فلا
يخدعك يا محمد تصرفهم في البلاد وبقاؤهم ومكثهم فيها ، مع كفرهم بربهم ، فتحسب
أنهم إنما أمهلوا وتقلبوا ، فتصرّفوا في البلاد مع كفرهم بالله ، ولم يعاجلوا
بالنقمة والعذاب على كفرهم لأنهم على شيء من الحق فإنا لم نمهلهم لذلك ، ولكن
ليبلغ الكتاب أجله ، ولتحقّ عليهم كلمة العذاب ، عذاب ربك.
كما حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( فَلا يَغْرُرْكَ
تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ ) أسفارهم فيها ، ومجيئهم وذهابهم.
ثم قصّ على رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم قصص الأمم المكذّبة رسلها ،
وأخبره أنهم كانوا من جدالهم لرسله على مثل الذي عليه قومه الذين أرسل إليهم ،
وإنه أحلّ بهم من نقمته عند بلوغهم أمدهم بعد إعذار رسله إليهم ، وإنذارهم بأسه ما
قد ذكر في كتابه إعلاما منه بذلك نبيه ، أن سنته في قومه الذين سلكوا سبيل أولئك
في تكذيبه وجداله سنته من إحلال نقمته بهم ، وسطوته بهم ، فقال تعالى ذكره : كذبت
قبل قومك المكذبين لرسالتك إليهم رسولا المجادليك بالباطل قوم نوح والأحزاب من
بعدهم ، وهم الأمم الذين تحزبوا وتجمعوا على رسلهم بالتكذيب لها ، كعاد وثمود ،
وقوم لوط ، وأصحاب مَدْيَن وأشباههم.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
(21/352)
وَكَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ (6)
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : ( كَذَّبَتْ
قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالأحْزَابُ مِنْ بَعْدِهِمْ ) قال : الكفار.
وقوله : ( وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ ) يقول تعالى ذكره
: وهمت كل أمة من هذه الأمم المكذّبة رسلها ، المتحزّبة على أنبيائها ، برسولهم
الذي أرسل إليهم ليأخذوه فيقتلوه.
كما حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( وَهَمَّتْ كُلُّ
أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ ) : أي ليقتلوه ، وقيل برسولهم; وقد قيل : كل
أمة ، فوجَّهت الهاء والميم إلى الرجل دون لفظ الأمة ، وقد ذُكر أن ذلك في قراءة
عبد الله " برسولها " ، يعني برسول الأمة.
وقوله : ( وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ ) يقول : وخاصموا
رسولهم بالباطل من الخصومة ليبطلوا بجدالهم إياه وخصومتهم له الحق الذي جاءهم به
من عند الله ، من الدخول في طاعته ، والإقرار بتوحيده ، والبراءة من عبادة ما سواه
، كما يخاصمك كفار قومك يا محمد بالباطل.
وقوله : ( فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ ) يقول تعالى ذكره : فأخذت الذين
هموا برسولهم ليأخذوه بالعذاب من عندي ، فكيف كان عقابي إياهم ، الم أهلكهم
فأجعلهم للخلق عبرة ، ولمن بعدهم عظة ؟ وأجعل ديارهم ومساكنهم منهم خلاء ، وللوحوش
ثواء.
وقد حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ
كَانَ عِقَابِ ) قال : شديد والله.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَكَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى
الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ (6) }
(21/353)
الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آَمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (7)
يقول تعالى ذكره : وكما حق على الأمم
التي كذبت رسلها التي قصصت عليك يا محمد قصصها عذابي ، وحل بها عقابي بتكذيبهم
رسلهم ، وجدالهم إياهم بالباطل ، ليدحضوا به الحق ، كذلك وجبت كلمة ربك على الذين
كفروا بالله من قومك ، الذين يجادلون في آيات الله.
وقوله : ( أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ ) اختلف أهل العربية في موضع قوله( أنَّهُمْ
) ، فقال بعض نحويّي البصرة : معنى ذلك : حقت كلمة ربك على الذين كفروا أنهم أصحاب
النار : أي لأنهم ، أو بأنهم ، وليس أنهم في موضع مفعول ليس مثل قولك : أحققت أنهم
لو كان كذلك كان أيضا أحققت ، لأنهم. وكان غيره يقول : " أنهم " بدل من
الكلمة ، كأنه أحقت الكلمة حقا أنهم أصحاب النار.
والصواب من القول في ذلك ، أن قوله " أنهم " ترجمة عن الكلمة ، بمعنى :
وكذلك حقّ عليهم عذاب النار ، الذي وعد الله أهل الكفر به.
القول في تأويل قوله تعالى : { الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ
يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ
آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ
تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (7) }
يقول تعالى ذكره : الذين يحملون عرش الله من ملائكته ، ومن حول عرشه ، ممن يحفّ به
من الملائكة( يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ ) يقول : يصلون لربهم بحمده وشكره(
وَيُؤْمِنُونَ بِهِ ) يقول : ويقرّون بالله أنه لا إله لهم سواه ، ويشهدون بذلك ،
لا يستكبرون عن عبادته( وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا ) يقول : ويسألون ربهم
أن يغفر للذين أقرّوا بمثل إقرارهم من توحيد الله ، والبراءة من كلّ معبود سواه
ذنوبهم ، فيعفوها عنهم.
(21/354)
كما حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال
: ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : ( وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا ) لأهل لا
اله إلا الله.
وقوله : ( رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا ) ، وفي هذا الكلام
محذوف ، وهو يقولون; ومعنى الكلام ويستغفرون للذين آمنوا يقولون : يا ربنا وسعت
كلّ شيء رحمة وعلما. ويعني بقوله : ( وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا )
: وسعت رحمتك وعلمك كل شيء من خلقك ، فعلمت كل شيء ، فلم يخف عليك شيء ، ورحمت
خلقك ، ووسعتهم برحمتك.
وقد اختلف أهل العربية في وجه نصب الرحمة والعلم ، فقال بعض نحويّي البصرة :
انتصاب ذلك كانتصاب لك مثله عبدا ، لأنك قد جعلت وسعت كلّ شيء ، وهو مفعول له ،
والفاعل التاء ، وجاء بالرحمة والعلم تفسيرا ، وقد شغلت عنهما الفعل كما شغلت
المثل بالهاء ، فلذلك نصبته تشبيها بالمفعول بعد الفاعل; وقال غيره : هو من
المنقول ، وهو مفسر ، وسعت رحمته وعلمه ، ووسع هو كلّ شيء رحمة ، كما تقول : طابت
به نفسي ، طبت به نفسا ، . قال : أما لك مثله عبدا ، فإن المقادير لا تكون إلا
معلومة مثل عندي رطل زيتا ، والمثل غير معلوم ، ولكن لفظه لفظ المعرفة والعبد نكرة
، فلذلك نصب العبد ، وله أن يرفع ، واستشهد لقيله ذلك بقول الشاعر :
ما في مَعَدّ والقبائِلِ كُلِّها... قَحْطَانَ مِثْلُكَ وَاحِدٌ مَعْدُودُ (1)
وقال : ردّ " الواحد " على " مثل " لأنه نكرة ، قال : ولو قلت
: ما مثلك رجل ،
__________
(1) لم اقف على قائله . واستشهد به المؤلف عند قوله تعالى : " ربنا وسعت كل
شيء رحمة وعلما " وقد اختلف أهل العربية في نصب رحمة .... الخ . والشاهد في
البيت قوله " مثلك واحد " ؛ فيجوز في " واحد " أن يرد على
" مثلك " بطريق البدل منه . ويجوز أيضا أن يكون تفسيرا . أي تمييزا لمثل
، لأنه وإن كان معرفة في لفظه ، فهو نكرة في معناه ، فاحتاج من أجل ذلك إلى
التفسير " التمييز " مثل قولك : لك مثله أرضا ، وعندي فدان أرضا ، ورطل
زيتا . لأن المقادير لا تكون إلا معلومة ، وقوله " مثلك " في المعنى
ألفاظ المقادير . وأما نصب رحمة في الآية ، فقد بينه المؤلف .
(21/355)
ومثلك رجل ، ومثلك رجلا جاز ، لأن مثل
يكون نكرة ، وإن كان لفظها معرفة.
وقوله : ( فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ ) يقول : فاصفح عن
جرم من تاب من الشرك بك من عبادك ، فرجع إلى توحيدك ، واتبع أمرك ونهيك.
كما حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتاده( فَاغْفِرْ
لِلَّذِينَ تَابُوا ) من الشرك.
وقوله : ( وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ ) يقول : وسلكوا الطريق الذي أمرتهم أن يسلكوه ،
ولزموا المنهاج الذي أمرتهم بلزومه ، وذلك الدخول في الإسلام.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ
) : أي طاعتك وقوله : ( وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ ) يقول : واصرف عن الذين
تابوا من الشرك ، واتبعوا سبيلك عذاب النار يوم القيامة.
(21/356)
رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آَبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (8)
القول في تأويل قوله تعالى : {
رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ
آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ
الْحَكِيمُ (8) }
يقول تعالى ذكره مخبرا عن دعاء ملائكته لأهل الإيمان به من عباده ، تقول : يا(
رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ ) يعني : بساتين إقامة( الَّتِي
وَعَدْتَهُمْ ) يعني التي وعدت أهل الإنابة إلى طاعتك أن تدخلهموها( وَمَنْ صَلَحَ
مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ ) يقول : وأدخل مع هؤلاء الذين
تابوا( وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ ) جنات عدن من صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم ،
فعمل بما يرضيك عنه من الأعمال الصالحة في الدنيا ، وذكر أنه يدخل مع الرجل أبواه
وولده وزوجته
(21/356)
وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (9)
الجنة ، وإن لم يكونوا عملوا عمله بفضل
رحمة الله إياه.
كما حدثنا أبو هشام ، قال : ثنا يحيى بن يمان العجلي ، قال : ثنا شريك ، عن سعيد ،
قال : يدخل الرجل الجنة ، فيقول : أين أبي ، أين أمي ، أين ولدي ، أين زوجتي ،
فيقال : لم يعملوا مثل عملك ، فيقول : كنت أعمل لي ولهم ، فيقال : أدخلوهم الجنة;
ثم قرأ( جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ
وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ ) .
فمن إذن ، إذ كان ذلك معناه ، في موضع نصب عطفا على الهاء والميم في قوله(
وَأَدْخِلْهُمْ ) وجائز أن يكون نصبا على العطف على الهاء والميم في وعدتهم(
إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ) يقول : أنك أنت يا ربنا العزيز في انتقامه
من أعدائه ، الحكيم في تدبيره خلقه.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ
فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (9) }
يعني تعالى ذكره بقوله مخبرا عن قيل ملائكته : وقِهِم : اصرف عنهم سوء عاقبة
سيئاتهم التي كانوا أتوها قبل توبتهم وإنابتهم ، يقولون : لا يؤاخذهم بذلك ،
فتعذبهم به( وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ ) يقول : ومن
تصرف عنه سوء عاقبة سيئاته بذلك يوم القيامة ، فقد رحمته ، فنجيته من عذابك(
وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ) لأنه من نجا من النار وأدخل الجنة فقد فاز ،
وذلك لا شك هو الفوز العظيم.
وبنحو الذي قلنا في معنى السيئات قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ
) : أي العذاب .
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا معمر بن بشير ، قال : ثنا ابن المبارك ، عن
(21/357)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ (10) قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ (11)
معمر ، عن قتادة وعن مطرف قال : وجدنا
أنصح العباد للعباد ملائكة وأغش العباد للعباد الشياطين ، وتلا( الَّذِينَ
يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ ) ...
الآية.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قال : قال مطرف : وجدنا
أغشّ عباد الله لعباد الله الشياطين ، ووجدنا أنصح عباد الله لعباد الله الملائكة.
القول في تأويل قوله تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ
اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الإيمَانِ
فَتَكْفُرُونَ (10) قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا
اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ (11)
}
يقول تعالى ذكره : إن الذين كفروا بالله ينادون في النار يوم القيامة إذا دخلوها ،
فمقتوا بدخولهموها أنفسهم حين عاينوا ما أعدّ الله لهم فيها من أنواع العذاب ،
فيقال لهم : لمقت الله إياكم أيها القوم في الدنيا ، إذ تدعون فيها للإيمان بالله
فتكفرون ، أكبر من مقتكم اليوم أنفسكم لما حل بكم من سخط الله عليكم.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث ، قال :
ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : (
لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ ) قال : مقتوا أنفسهم حين رأوا أعمالهم ، ومقت الله
إياهم في الدنيا ، إذ يدعون إلى الإيمان ، فيكفرون أكبر.
(21/358)
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال :
ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : ( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ
اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الإيمَانِ
فَتَكْفُرُونَ ) يقول : لمقت الله أهل الضلالة حين عرض عليهم الإيمان في الدنيا ،
فتركوه ، وأبوا أن يقبلوا ، أكبر مما مقتوا أنفسهم ، حين عاينوا عذاب الله يوم
القيامة.
حدثنا محمد ، قال : ثنا أحمد ، قال : ثنا أسباط ، عن السديّ قوله : ( إِنَّ
الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ
أَنْفُسَكُمْ ) في النار( إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الإيمَانِ ) في الدنيا(
فَتَكْفُرُونَ ) .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله( يُنَادَوْنَ
لَمَقْتُ اللَّهِ ) ... الآية ، قال : لما دخلوا النار مقتوا أنفسهم في معاصي الله
التي ركبوها ، فنودوا : إن مقت الله إياكم حين دعاكم إلى الإسلام أشد من مقتكم
أنفسكم اليوم حين دخلتم النار.
واختلف أهل العربية في وجه دخول هذه اللام في قوله : ( لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ
) فقال بعض أهل العربية من أهل البصرة : هي لام الابتداء ، كان ينادون يقال لهم ،
لأن في النداء قول. قال : ومثله في الإعراب يقال : لزيد أفضل من عمرو. وقال بعض
نحويِّي الكوفة : المعنى فيه : ينادون إن مقت الله إياكم ، ولكن اللام تكفي من أن
تقول في الكلام : ناديت أنّ زيدا قائم ، قال : ومثله قوله : ( ثُمَّ بَدَا لَهُمْ
مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ ) اللام بمنزلة
" إن " في كل كلام ضارع القول مثل ينادون ويخبرون ، وأشباه ذلك.
وقال آخر غيره منهم : هذه لام اليمين ، تدخل مع الحكاية ، وما ضارع الحكاية لتدلّ
على أن ما بعدها ائتناف. قال : ولا يجوز في جوابات الإيمان أن تقوم مقام اليمين ،
لأن اللام كانت معها النون أو لم تكن ، فاكتفي بها من اليمين ، لأنها لا تقع إلا
معها.
(21/359)
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من
قال : دخلت لتؤذن أن ما بعدها ائتناف وأنها لام اليمين.
وقوله : ( رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ ) قد
أتينا عليه في سورة البقرة ، فأغنى ذلك عن إعادته في هذا الموضع ، ولكنا نذكر بعض
ما قال بعضهم فيه.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : ( أَمَتَّنَا
اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ ) قال : كانوا أمواتا في أصلاب آبائهم ،
فأحياهم الله في الدنيا ، ثم أماتهم الموتة التي لا بد منها ، ثم أحياهم للبعث يوم
القيامة ، فهما حياتان وموتتان.
وحُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك
يقول فى قوله : ( أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ ) هو قول
الله( كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ
يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ) .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ،
عن ابن عباس ، قوله : ( رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا
اثْنَتَيْنِ ) قال : هو كقوله : ( كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ
أَمْوَاتًا ) ... الآية.
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا عبد الرحمن ، قال : ثنا سفيان ، عن أبي إسحاق ، عن أبي
الأحوص ، عن عبد الله ، في قوله : ( أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا
اثْنَتَيْنِ ) قال : هي كالتي في البقرة( وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ
ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ) .
حدثني أبو حصين عبد الله بن أحمد بن يونس ، قال : ثنا عبثر ، قال : ثنا حصين ، عن
أبي مالك في هذه الآية( أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ ) قال
: خلقتنا ولم نكن شيئا ثم أمتنا ، ثم أحييتنا.
حدثني يعقوب ، قال : ثنا هشيم ، عن حصين ، عن أبي مالك ، في قوله : ( أَمَتَّنَا
اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ ) قالوا : كانوا أمواتا فأحياهم الله ،
ثم
(21/360)
أماتهم ، ثم أحياهم.
وقال آخرون فيه ما حدثنا محمد ، قال : ثنا أحمد ، قال : ثنا أسباط ، عن السديّ ،
قوله : ( أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ ) قال : أميتوا في
الدنيا ، ثم أحيوا في قبورهم ، فسئلوا أو خوطبوا ، ثم أميتوا في قبورهم ، ثم أحيوا
في الآخرة.
وقال آخرون في ذلك ما حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في
قوله( رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ ) قال : خلقهم
من ظهر آدم حين أخذ عليهم الميثاق ، وقرأ : ( وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي
آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ ) فقرأ حتى بلغ( الْمُبْطِلُونَ ) قال :
فنساهم الفعل ، وأخذ عليهم الميثاق ، قال : وانتزع ضلعا من أضلاع آدم القصرى ،
فخلق منه حواء ، ذكره عن النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم ، قال : وذلك قول
الله : ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ
نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالا كَثِيرًا
وَنِسَاءً ) قال : بث منهما بعد ذلك في الأرحام خلقا كثيرا ، وقرأ : (
يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ ) قال : خلقا
بعد ذلك ، قال : فلما أخذ عليهم الميثاق ، أماتهم ثم خلقهم في الأرحام ، ثم أماتهم
، ثم أحياهم يوم القيامة ، فذلك قول الله : ( رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ
وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا ) ، وقرأ قول الله : (
وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا ) قال : يومئذ ، وقرأ قول الله : (
وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ
إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا ) .
وقوله : ( فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا ) يقول : فأقررنا بما عملنا من الذنوب في
الدنيا( فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ ) يقول : فهل إلى خروج من النار لنا
سبيل ، لنرجع إلى الدنيا ، فنعمل غير الذي كنا نعمل فيها.
كما حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ
مِنْ سَبِيلٍ ) : فهل إلى كرّة إلى الدنيا.
(21/361)
ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ (12) هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آَيَاتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقًا وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ (13) فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (14)
القول في تأويل قوله تعالى : {
ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ
بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ (12) }
وفي هذا الكلام متروك استغني بدلالة الظاهر من ذكره عليه; وهو : فأجيبوا أن لا
سبيل إلى ذلك هذا الذي لكم من العذاب أيها الكافرون( بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ
اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ ) ، فأنكرتم أن تكون الألوهة له خالصة ، وقلتم(
أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا ) .
( وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا ) يقول : وإن يجعل لله شريك تصدّقوا من جعل ذلك
له( فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ ) يقول : فالقضاء لله العلي على كل
شيء ، الكبير الذي كل شيء دونه متصاغرا له اليوم.
القول في تأويل قوله تعالى : { هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ وَيُنزلُ لَكُمْ
مِنَ السَّمَاءِ رِزْقًا وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلا مَنْ يُنِيبُ (13) فَادْعُوا
اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (14) }
يقول تعالى ذكره : الذي يريكم أيها الناس حججه وأدلته على وحدانيته وربوبيته(
وَيُنزلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقًا ) يقول ينزل لكم من أرزاقكم من السماء
بإدرار الغيث الذي يخرج به أقواتكم من الأرض ، وغذاء أنعامكم عليكم( وَمَا
يَتَذَكَّرُ إِلا مَنْ يُنِيبُ ) يقول : وما يتذكر حجج الله التي جعلها أدلة على
وحدانيته ، فيعتبر بها ويتعظ ، ويعلم حقيقة ما تدل عليه ، إلا من ينيب ، يقول :
إلا من يرجع إلى توحيده ، ويقبل على طاعته.
كما حدثنا محمد ، قال : ثنا أحمد ، قال : ثنا أسباط ، عن السديّ( إِلا مَنْ
يُنِيبُ ) قال : من يقبل إلى طاعة الله.
وقوله : ( فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ) يقول تعالى ذكره لنبيه
محمد
(21/362)
رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ (15) يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ (16)
صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم
وللمؤمنين به ، فاعبدوا الله أيها المؤمنون له ، مخلصين له الطاعة غير مشركين به
شيئا مما دونه( وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ ) يقول : ولو كره عبادتكم إياه مخلصين
له الطاعة الكافرون المشركون في عبادتهم إياه الأوثان والأنداد.
القول في تأويل قوله تعالى : { رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي
الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ
التَّلاقِ (15) يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ
لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ (16) }
يقول تعالى ذكره : هو رفيع الدرجات; ورفع قوله : ( رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ) على
الابتداء; ولو جاء نصبا على الرد على قوله : فادعوا الله ، كان صوابا.( ذُو
الْعَرْشِ ) يقول : ذو السرير المحيط بما دونه.
وقوله : ( يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ )
يقول : ينزل الوحي من أمره على من يشاء من عباده.
وقد اختلف أهل التأويل في معنى الروح في هذا الموضع ، فقال بعضهم : عني به الوحي.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتاده ، قوله : ( يُلْقِي
الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ ) قال : الوحي من أمره.
وقال آخرون : عني به القرآن والكتاب.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني هارون بن إدريس الأصمّ ، قال : ثنا عيد الرحمن بن
(21/363)
المحاربيّ ، عن جُوَيبر ، عن الضحاك في
قوله : ( يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ ) قال
: يعني بالروح : الكتاب ينزله على من يشاء.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : ( يُلْقِي الرُّوحَ
مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ ) ، وقرأ : ( وَكَذَلِكَ
أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا ) قال : هذا القرآن هو الروح ، أوحاه
الله إلى جبريل ، وجبريل روح نزل به على النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم ،
وقرأ : ( نزلَ بِهِ الرُّوحُ الأمِينُ ) قال. فالكتب التي أنزلها الله على أنبيائه
هي الروح ، لينذر بها ما قال الله يوم التلاق ، ( يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ
وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا ) قال : الروح : القرآن ، كان أبي يقوله ، قال ابن زيد :
يقومون له صفا بين السماء والأرض حين ينزل جل جلاله.
وقال آخرون : عني به النبوّة.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد ، قال : ثنا أحمد ، قال : ثنا أسباط ، عن السديّ ، في قول الله : (
يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ ) قال :
النبوّة على من يشاء.
وهذه الأقوال متقاربات المعاني ، وإن اختلفت ألفاظ أصحابها بها.
وقوله : ( لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ ) يقول : لينذر من يلقي الروح عليه من
عباده من أمر الله بإنذاره من خلقه عذاب يوم تلتقي فيه أهل السماء وأهل الأرض ،
وهو يوم التلاق ، وذلك يوم القيامة.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : ثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ بن أبي طلحة عن ابن
عباس ، قوله : ( يَوْمَ التَّلاقِ ) من أسماء يوم القيامة ، عظمه الله ، وحذّره
عباده.
(21/364)
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال :
ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : ( يَوْمَ التَّلاقِ ) : يوم تلتقي فيه أهل السماء
وأهل الأرض ، والخالق والخلق.
حدثنا محمد ، قال : ثنا أحمد ، قال : ثنا أسباط ، عن السديّ( يَوْمَ التَّلاقِ )
تلقي أهل السماء وأهل الأرض.
حدثنا يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد( يَوْمَ التَّلاقِ ) قال :
يوم القيامة. قال : يوم تتلاقى العباد.
وقوله : ( يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ )
يعني بقوله( يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ ) يعني المنذرين الذين أرسل الله إليهم رسله
لينذروهم وهم ظاهرون يعني للناظرين لا يحول بينهم وبينهم جبل ولا شجر ، ولا يستر
بعضهم عن بعض ساتر ، ولكنهم بقاع صفصف لا أمت فيه ولا عوج . و " هم " من
قوله : ( يَوْمِهِمْ ) في موضع رفع بما بعده ، كقول القائل : فعلت ذلك يوم الحجاج
أمير.
واختلف أهل العربية في العلة التي من أجلها لم تخفض هم بيوم وقد أضيف إليه ؟ فقال
بعض نحويي البصرة : أضاف يوم إلى هم في المعنى ، فلذلك لا ينوّن اليوم ، كما قال :
( يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ ) وقال : ( هَذَا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ
) ومعناه : هذا يوم فتنتهم ، ولكن لما ابتدأ بالاسم ، وبنى عليه لم يقدر على جرّه
، وكانت الإضافة في المعنى إلى الفتنة ، وهذا إنما يكون إذا كان اليوم في معنى إذ
، وإلا فهو قبيح; ألا ترى أنك تقول : ليتك زمن زيد أمير : أي إذ زيد أمير ، ولو
قلت : ألقاك زمن زيدٌ أمير ، لم يحسن. وقال غيره : معنى ذلك : أن الأوقات جعلت
بمعنى إذ وإذا ، فلذلك بقيت عل نصبها في الرفع والخفض والنصب ، فقال : ( وَمِنْ
خِزْيِ يَوْمِئِذٍ ) فنصبوا ، والموضع خفض ، وذلك دليل على أنه جعل موضعَ الأداة ،
ويجوز أن يعرب بوجوه الإعراب ، لأنه ظهر ظهور الأسماء; ألا ترى أنه لا يعود عليه
العائد كما يعود على الأسماء ، فإن عاد العائد نوّن وأعرب ولم يضف ، فقيل : أعجبني
يوم فيه تقول ، لما أن خرج من معنى الأداة ، وعاد عليه الذكر صار اسما صحيحا. وقال
: وجائز فى إذ أن تقول : أتيتك إذ تقوم ،
(21/365)
كما تقول : أتيتك يوم يجلس القاضي ،
فيكون زمنا معلوما ، فأما أتيتك يوم تقوم فلا مؤنة فيه وهو جائز عند جميعهم ، وقال
: وهذه التي تسمى إضافة غير محضة.
والصواب من القول عندي في ذلك ، أن نصب يوم وسائر الأزمنة في مثل هذا الموضع نظير
نصب الأدوات لوقوعها مواقعها ، وإذا أعربت بوجوه الإعراب ، فلأنها ظهرت ظهور
الأسماء ، فعوملت معاملتها.
وقوله : ( لا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ ) أي ولا من أعمالهم التي عملوها في
الدنيا( شَيْءٌ ) .
وكان قتادة يقول في ذلك ما حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن
قتادة ، قوله : ( يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ
شَيْءٌ ) ولكنهم برزوا له يوم القيامة ، فلا يستترون بحبل ولا مدر.
وقوله : ( لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ) يعني بذلك : يقول الربّ : لمن الملك
اليوم; وترك ذكر " يقول " استغناء بدلالة الكلام عليه. وقوله : (
لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ ) وقد ذكرنا الرواية الواردة بذلك فيما مضى قبل.
ومعنى الكلام : يقول الربّ : لمن السلطان اليوم ؟ وذلك يوم القيامة ، فيحيب نفسه
فيقول : ( لِلَّهِ الْوَاحِدِ ) الذي لا مثل له ولا شبيه( القَهَّارِ ) لكلّ شيء
سواه بقدرته ، الغالب بعزّته.
(21/366)
الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (17)
القول في تأويل قوله تعالى : {
الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ
سَرِيعُ الْحِسَابِ (17) }
يقول تعالى ذكره مخبرا عن قيله يوم القيامة حين يبعث خلقه من قبورهم لموقف الحساب
: ( الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ ) يقول : اليوم يثاب كلّ عامل
بعمله ، فيوفى أجر عمله ، فعامل الخير يجزى الخير ، وعامل الشر يجزى جزاءه.
(21/366)
وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآَزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ (18) يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ (19) وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (20)
وقوله : ( لا ظُلْمَ الْيَوْمَ ) يقول
: لا بخس على أحد فيما استوجبه من أجر عمله في الدنيا ، فينقص منه إن كان محسنا ،
ولا حُمِل على مسيء إثم ذنب لم يعمله فيعاقب عليه( إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ
الْحِسَابِ ) يقول : إن الله ذو سرعة في محاسبة عباده يومئذ على أعمالهم التي
عملوها في الدنيا; ذُكر أن ذلك اليوم لا يَنْتَصِف حتى يقيل أهل الجنة في الحنة ،
وأهل النار في النار ، وقد فرغ من حسابهم ، والقضاء بينهم.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ
لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ
يُطَاعُ (18) يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ (19)
وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَقْضُونَ
بِشَيْءٍ إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (20) }
يقول تعالى ذكره لنبيه : وأنذر يا محمد مشركي قومك يوم الآزفة ، يعنى يوم القيامة
، أن يوافوا الله فيه بأعمالهم الخبيثة ، فيستحقوا من الله عقابه الأليم.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال
: ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قول الله :
( يَوْمَ الآزِفَةِ ) قال : يوم القيامة.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ
الآزِفَةِ ) يوم القيامة.
حدثنا محمد ، قال : ثنا أحمد ، قال : ثنا أسباط ، عن السديّ( وَأَنْذِرْهُمْ
(21/367)
يَوْمَ الآزِفَةِ ) قال : يوم القيامة.
حدثنا يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، فى قوله( وَأَنْذِرْهُمْ
يَوْمَ الآزِفَةِ ) قال : يوم القيامة ، وقرأ : ( أَزِفَتِ الآزِفَةُ لَيْسَ لَهَا
مِنْ دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ ) .
وقوله : ( إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ ) يقول تعالى ذكره : إذ
قلوب العباد من مخافة عقاب الله لدى حناجرهم قد شخصت من صدورهم ، فتعلقت بحلوقهم
كاظميها ، يرومون ردّها إلى مواضعها من صدورهم فلا ترجع ، ولا هي تخرج من أبدانهم
فيموتوا.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى
الْحَنَاجِرِ ) قال : قد وقعت القلوب في الحناجر من المخافة ، فلا هي تخرج ولا
تعود إلى أمكنتها.
حدثنا محمد ، قال : ثنا أحمد ، قال : ثنا أسباط ، عن السديّ( إِذِ الْقُلُوبُ
لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ ) قال : شخصت أفئدتهم عن أمكنتها ، فنشبت في حلوقهم
، فلم تخرج من أجوافهم فيموتوا ، ولم ترجع إلى أمكنتها فتستقرّ.
واختلف أهل العربية في وجه النصب( كَاظِمِينَ ) فقال بعض نحويِّي البصرة : انتصابه
على الحال ، كأنه أراد : إذ القلوب لدى الحناجر في هذه الحال. وكان بعض نحويي
الكوفة يقول : الألف واللام بدل من الإضافة ، كأنه قال : إذا قلوبهم لدى حناجرهم
في حال كظمهم. وقال آخر منهم : هو نصب على القطع من المعنى الذي يرجع من ذكرهم في
القلوب والحناجر ، المعمى : إذ قلوبهم لدى حناجرهم كاظمين. قال : فإن شئت جعلت
قطعة من الهاء التي في قوله( وَأَنْذِرْهُمْ ) قال : والأول أجود في العربية ، وقد
تقدّم بيان وجه ذلك.
(21/368)
وقوله : ( مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ
حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ ) يقول جلّ ثناؤه : ما للكافرين بالله يومئذ من حميم يحم (1)
لهم ، فيدفع عنهم عظيم ما نزل بهم من عذاب الله ، ولا شفيع يشفع لهم عند ربهم
فيطاع فيما شفع ، ويُجاب فيما سأل.
وبنحو الذي قلنا فى ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد ، قال : ثنا أحمد ، قال : ثنا أسباط ، عن السديّ( مَا لِلظَّالِمِينَ
مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ ) قال : من يعنيه أمرهم ، ولا شفيع لهم. وقوله : ( يطاع
) صلة للشفيع. ومعنى الكلام : ما للظالمين من حميم ولا شفيع إذا شفع أطيع فيما شفع
، فأجيب وقبلت شفاعته له.
وقوله : ( يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأعْيُنِ ) يقول جلّ ذكره مخبرا عن صفة نفسه : يعلم
ربكم ما خانت أعين عباده ، وما أخفته صدورهم ، يعني : وما أضمرته قلوبهم; يقول :
لا يخفى عليه شيء من أمورهم حتى ما يحدث به نفسه ، ويضمره قلبه إذا نظر ماذا يريد
بنظره ، وما ينوي ذلك بقلبه( وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ ) يقول : والله تعالى
ذكره يقضي في الذي خانته الأعين بنظرها ، وأخفته الصدور عند نظر العيون بالحق ،
فيجزي الذين أغمضوا أبصارهم ، وصرفوها عن محارمه حذارَ الموقف بين يديه ، ومسألته
عنه بالحُسنى ، والذين ردّدوا النظر ، وعزمت قلوبهم على مواقعة الفواحش إذا قدّرت
، جزاءها.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني عبد الله بن أحمد المَرْوَزِيّ ، قال : ثنا عليّ بن حسين بن واقد قال : ثني
أبي ، قال : ثنا الأعمش ، قال : ثنا سعيد بن جبير ، عن ابن عباس
__________
(1) في اللسان : حمنى : الأمر وأحمني : أهمني . وقال الأزهري : أحمني هذا الأمر
واحتممت له ، كأنه اهتمام بحميم قريب .
(21/369)
( يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأعْيُنِ ) إذا
نظرت إليها تريد الخيانة أم لا( وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ ) إذا قدرت عليها أتزني
بها أم لا ؟ قال : ثم سكت ، ثم قال : ألا أخبركم بالتي تليها ؟ قلت نعم ، قال : (
وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ ) قادر على أن يجزي بالحسنة الحسنة ، وبالسيئة
السيئة( إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ) قال الحسن : فقلت للأعمش :
حدثني الكلبيّ ، إلا أنه قال : إن الله قادر على أن يجزي بالسيئة السيئة ،
وبالحسنة عشرا. وقال الأعمش : إن الذي عند الكلبيّ عندي ، ما خرج مني إلا بحقير.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث ، قال :
ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد( يَعْلَمُ
خَائِنَةَ الأعْيُنِ ) قال : نظر الأعين إلى ما نهى الله عنه.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : ( خَائِنَةَ
الأعْيُنِ ) : أي يعلم همزه بعينه ، وإغماضه فيما لا يحبّ الله ولا يرضاه.
وقوله : ( وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ ) يقول :
والأوثان والآلهة التي يعبدها هؤلاء المشركون بالله من قومك من دونه لا يقضون بشيء
، لأنها لا تعلم شيئا ، ولا تقدر على شيء ، يقول جلّ ثناؤه لهم : فاعبدوا الذي
يقدر على كل شيء ، ولا يخفى عليه شيء من أعمالكم ، فيجزي محسنكم بالإحسان ،
والمسيء بالإساءة ، لا ما لا يقدر على شيء ولا يعلم شيئا ، فيعرف المحسن من المسيء
، فيثيب المحسن ، ويعاقب المسيء.
وقوله : ( إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ) يقول : إن الله هو السميع
لما تنطق به ألسنتكم أيها الناس ، البصير بما تفعلون من الأفعال ، محيط بكل ذلك
محصيه عليكم ، ليجازي جميعكم جزاءه يوم الجزاء.
واختلفت القرّاء في قراءة قوله : ( وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ ) فقرأ ذلك
عامة قرّاء المدينة : " وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ " بالتاء
على وجه الخطاب. وقرأ ذلك عامة قرّاء الكوفة بالياء على وجه الخبر.
(21/370)
أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآَثَارًا فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ (21) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَكَفَرُوا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ (22)
والصواب من القول في ذلك أنهما قراءتان
معروفتان صحيحتا المعنى ، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب.
القول في تأويل قوله تعالى : { أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأرْضِ فَيَنْظُرُوا
كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ
مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الأرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَمَا
كَانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ (21) }
يقول تعالى ذكره : أو لم يسر هؤلاء المقيمون على شركهم بالله ، المكذبون رسوله من
قريش ، في البلاد ، ( فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ
قَبْلِهِمْ ) يقول : فيروا ما الذي كان خاتمة أمم الذين كانوا من قبلهم من الأمم
الذين سلكوا سبيلهم ، في الكفر بالله ، وتكذيب رسله( كَانُوا هُمْ أَشَدَّ
مِنْهُمْ قُوَّةً ) يقول : كانت تلك الأمم الذين كانوا من قبلهم أشد منهم بطشا ،
وأبقى في الأرض آثارا ، فلم تنفعهم شدة قواهم ، وعظم أجسامهم ، إذ جاءهم أمر الله
، وأخذهم بما أجرموا من معاصيه ، واكتسبوا من الآثام ، ولكنه أباد جمعهم ، وصارت
مساكنهم خاوية منهم بما ظلموا( وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ ) يقول
: وما كان لهم من عذاب الله إذ جاءهم ، من واق يقيهم ، فيدفعه عنهم.
كالذي حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( وَمَا كَانَ
لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ ) يقيهم ، ولا ينفعهم.
القول في تأويل قوله تعالى : { ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ
بِالْبَيِّنَاتِ فَكَفَرُوا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ
الْعِقَابِ (22) }
يقول تعالى ذكره : هذا الذي فعلت بهؤلاء الأمم الذين من قبل مشركي
(21/371)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآَيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ (23) إِلَى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ (24)
قريش من إهلاكناهم بذنوبهم فعلنا بهم
بأنهم كانت تأتيهم رسل الله إليهم بالبيّنات ، يعني بالآيات الدالات على حقيقة ما
تدعوهم إليه من توحيد الله ، والانتهاء إلى طاعته( فَكَفَرُوا ) يقول : فانكروا
رسالتها ، وجحدوا توحيد الله ، وأبوا أن يطيعوا الله( فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ ) يقول
: فأخذهم الله بعذابه فأهلكهم( إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ ) يقول : إن
الله ذو قوّة لا يقهره شيء ، ولا يغلبه ، ولا يعجزه شيء أراده ، شديد عقابه من
عاقب من خلقه ، وهذا وعيد من الله مشركي قريش ، المكذّبين رسوله محمدا صَلَّى الله
عَلَيْهِ وَسَلَّم يقول لهم جلّ ثناؤه : فاحذروا أيها القوم أن تسلكوا سبيلهم في
تكذيب محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم وجحود توحيد الله ، ومخالفة أمره ونهيه
فيسلك بكم في تعجيل الهلاك لكم مسلَكَهم.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا
وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ (23) إِلَى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ فَقَالُوا
سَاحِرٌ كَذَّابٌ (24) }
يقول تعالى ذكره مُسَلِّيا نبيه محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم ، عما كان
يلقى من مشركي قومه من قريش ، بإعلامه ما لقي موسى ممن أرسل إليه من التكذيب ،
ومخيره أنه معليه عليهم ، وجاعل دائرة السَّوْء على من حادّه وشاقَّه ، كسنته في
موسى صلوات الله عليه ، إذ أعلاه ، وأهلك عدوه فرعون( وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى
بِآيَاتِنَا ) : يعني بأدلته.( وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ ) : كما حدثنا بشر ، قال : ثنا
يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، ( وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ ) : أي عذر مبين ، يقول
: وحججه المبينة لمن يراها أنها حجة محققة ما يدعو إليه موسى( إِلَى فِرْعَوْنَ
وَهَامَانَ وَقَارُونَ فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ ) يقول : فقال هؤلاء الذين أرسل
إليهم موسى لموسى : هو ساحر يسحر العصا ، فيرى الناظر إليها أنها حية تسعى.
( كَذَّابٌ ) يقول : يكذب على الله ، ويزعم أنه أرسله إلى الناس رسولا.
(21/372)
فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا اقْتُلُوا أَبْنَاءَ الَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِسَاءَهُمْ وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ (25) وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ (26)
القول في تأويل قوله تعالى : {
فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا اقْتُلُوا أَبْنَاءَ
الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِسَاءَهُمْ وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ
إِلا فِي ضَلالٍ (25) }
يقول تعالى ذكره : فلما جاء موسى هؤلاء الذين أرسله الله إليهم بالحق من عندنا ،
وذلك مجيئه إياهم بتوحيد الله ، والعمل بطاعته ، مع إقامة الحجة عليهم ، بأن الله
ابتعثه إليهم بالدعاء إلى ذلك( قَالُوا اقْتُلُوا أَبْنَاءَ الَّذِينَ آمَنُوا )
بالله( مَعَهُ ) من بني إسرائيل( وَاسْتَحْيُوا نِسَاءَهُمْ ) يقول : واستبقوا
نساءهم للخدمة.
فإن قال قائل : وكيف قيل( فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا
اقْتُلُوا أَبْنَاءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِسَاءَهُمْ ) ،
وإنما كان قتل فرعون الولدان من بني إسرائيل حذار المولود الذي كان أخبر أنه على
رأسه ذهاب ملكه ، وهلاك قومه ، وذلك كان فيما يقال قبل أن يبعث الله موسى نبيًّا ؟
قيل : إن هذا الأمر بقتل أبناء الذين آمنوا مع موسى ، واستحياء نسائهم ، كان أمرا
من فرعون وملئه من بعد الأمر الأول الذي كان من فرعون قبل مولد موسى.
كما حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتاده : ( فَلَمَّا
جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا اقْتُلُوا أَبْنَاءَ الَّذِينَ
آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِسَاءَهُمْ ) قال : هذا قتل غير القتل الأوّل الذي
كان.
وقوله : ( وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلا فِي ضَلالٍ ) يقول : وما احتيال أهل
الكفر لأهل الإيمان بالله إلا في جوز عن سبيل الحقّ ، وصدّ عن قصد المحجة ، وأخذ
على غير هدى.
(21/373)
وَقَالَ مُوسَى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لَا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ (27) وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آَلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ (28)
القول في تأويل قوله تعالى : { وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الأرْضِ
(21/373)
الْفَسَادَ (26) }
يقول تعالى ذكره : ( وَقَالَ فِرْعَوْنُ ) لملئه : ( ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى
وَلْيَدْعُ رَبَّهُ ) الذي يزعم أنه أرسله إلينا فيمنعه منا( إِنِّي أَخَافُ أَنْ
يُبَدِّلَ دِينَكُمْ ) يقول : إني أخاف أن يغير دينكم الذي أنتم عليه بسحره.
واختلفت القرّاء في قراءة قوله : ( أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الأرْضِ الْفَسَادَ )
فقرأ ذلك عامة قرّاء المدينة والشأم والبصرة : " وَأَنْ يُظْهِرَ فِي الأرْضِ
الفَسَادَ " بغير ألف ، وكذلك ذلك في مصاحف أهل المدينة ، وقرأ ذلك عامة
قرّاء الكوفة : ( أوْ أن ) بالألف ، وكذلك ذلك في مصاحفهم " يَظْهَرَ فِي
الأرْضِ " بفتح الياء ورفع الفساد.
والصواب من القول في ذلك عندنا أنهما قراءتان مشهورتان في قراءة الأمصار متقاربتا
المعنى ، وذلك أن الفساد إذا أظهره مظهرا كان ظاهرا ، وإذا ظهر فبإظهار مظهره يظهر
، ففي القراءة بإحدى القرّاءتين فى ذلك دليل واضح على صحة معنى الأخرى. وأما
القراءة في : ( أَوْ أَنْ يُظْهِرَ ) بالألف وبحذفها ، فإنهما أيضا متقاربتا
المعنى ، وذلك أن الشيء إذا بدل إلى خلافه فلا شك أن خلافه المبدل إليه الأوّل هو
الظاهر دون المبدل ، فسواء عطف على خبره عن خوفه من موسى أن يبدّل دينهم بالواو أو
بأو ، لأن تبديل دينهم كان عنده ظهور الفساد ، وظهور الفساد كان عنده هو تبديل
الدين.
فتأويل الكلام إن : إني أخاف من موسى أن يغير دينكم الذي أنتم عليه ، أو أن يظهر
في أرضكم أرض مصر ، عبادة ربه الذي يدعوكم إلى عبادته ، وذلك كان عنده هو الفساد.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( إِنِّي أَخَافُ أَنْ
يُبَدِّلَ دِينَكُمْ
(21/374)
) : أي أمركم الذي أنتم عليه( أَوْ
أَنْ يُظْهِرَ فِي الأرْضِ الْفَسَادَ ) والفساد عنده أن يعمل بطاعة الله.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَقَالَ مُوسَى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ
مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ (27) وَقَالَ رَجُلٌ
مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلا أَنْ
يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ
يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ
الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ (28) }
يقول تعالى ذكره : وقال موسى لفرعون وملئه : إني استجرت أيها القوم بربي وربكم ،
من كلّ متكبر عليه ، تكبر عن توحيده ، والإقرار بألوهيته وطاعته ، لا يؤمن بيوم
يحاسب الله فيه خلقه ، فيجازي المحسن بإحسانه ، والمسيء بما أساء; وإنما خص موسى صلوات
الله وسلامه عليه ، الاستعاذة بالله ممن لا يؤمن بيوم الحساب ، لأن من لم يؤمن
بيوم الحساب مصدقا ، لم يكن للثواب على الإحسان راجيا ، ولا للعقاب على الإساءة ،
وقبيح ما يأتي من الأفعال خائفا ، ولذلك كان استجارته من هذا الصنف من الناس خاصة.
وقوله : ( وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ )
اختلف أهل العلم في هذا الرجل المؤمن ، فقال بعضهم : كان من قوم فرعون ، غير أنه
كان قد آمن بموسى ، وكان يُسِرّ إيمانه من فرعون وقومه خوفا على نفسه.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد ، قال : ثنا أحمد ، قال : ثنا أسباط ، عن السديّ( وَقَالَ رَجُلٌ
مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ ) قال : هو ابن عم فرعون.
ويقال : هو الذي نجا
(21/375)
مع موسى ، فمن قال هذا القول ، وتأوّل
هذا التأويل ، كان صوابا الوقف إذا أراد القارئ الوقف على قوله : ( مِنْ آلِ
فِرْعَوْنَ ) ، لأن ذلك خبر متناه قد تمّ.
وقال آخرون : بل كان الرجل إسرائيليا ، ولكنه كان يكتم إيمانه من آل فرعون.
والصواب على هذا القول لمن أراد الوقف أن يجعل وقفه على قوله : ( يَكْتُمُ
إِيمَانَهُ ) لأن قوله : ( مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ ) صلة لقوله : ( يَكْتُمُ
إِيمَانَهُ ) فتمامه قوله : يكتم إيمانه ، وقد ذكر أن اسم هذا الرجل المؤمن من آل
فرعون : جبريل ، كذلك حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، عن ابن إسحاق.
وأولى القولين في ذلك بالصواب عندي القول الذي قاله السديّ من أن الرجل المؤمن كان
من آل فرعون ، قد أصغى لكلامه ، واستمع منه ما قاله ، وتوقف عن قتل موسى عند نهيه
عن قتله. وقيله ما قاله. وقال له : ما أريكم إلا ما أرى ، وما أهديكم إلا سبيل
الرشاد ، ولو كان إسرائليا لكان حريا أن يعاجل هذا القاتل له ، ولملئه ما قال
بالعقوبة على قوله ، لأنه لم يكن يستنصح بني إسرائيل ، لاعتداده إياهم أعداء له ،
فكيف بقوله عن قتل موسى لو وجد إليه سبيلا ؟ ولكنه لما كان من ملأ قومه ، استمع
قوله ، وكفّ عما كان همّ به في موسى.
وقوله : ( أَتَقْتُلُونَ رَجُلا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ ) يقول : أتقتلون
أيها القوم موسى لأن يقول ربي الله ؟ فإن في موضع نصب لما وصفت.( وَقَدْ جَاءَكُمْ
بِالْبَيِّنَاتِ ) يقول : وقد جاءكم بالآيات الواضحات على حقيقة ما يقول من ذلك.
وتلك البيّنات من الآيات يده وعصاه.
كما حدثنا ابن حميد ، قال. ثنا سلمة ، عن ابن إسحاق( وَقَدْ جَاءَكُمْ
بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ ) بعصاه وبيده.
وقوله : ( وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ ) يقول : وإن يك موسى كاذبا
في قيله : إن الله أرسله إليك يأمركم بعبادته ، وترك دينكم الذي أنتم عليه ، فإنما
(21/376)
يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ (29) وَقَالَ الَّذِي آَمَنَ يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ (30) مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ (31)
إثم كذبه عليه دونكم( وَإِنْ يَكُ
صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ ) يقول : وإن يك صادقا في قيله ذلك
، أصابكم الذي وعدكم من العقوبة على مقامكم على الدين الذي أنتم عليه مقيمون ، فلا
حاجة بكم إلى قتله ، فتزيدوا ربكم بذلك إلى سخطه عليكم بكفركم سخطا( إِنَّ اللَّهَ
لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ ) يقول : إن الله لا يوفّق للحقّ من هو
متعد إلى فعل ما ليس له فعله ، كذّاب عليه يكذب ، ويقول عليه الباطل وغير الحقّ.
وقد اختلف أهل التأويل في معنى الإسراف الذي ذكره المؤمن في هذا الموضع ، فقال
بعضهم : عني به الشرك ، وأراد : إن الله لا يهدي من هو مشرك به مفتر عليه.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال. ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي
مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ ) : مشرك أسرف على نفسه بالشرك.
وقال آخرون : عنى به من هو قتَّال سفَّاك للدماء بغير حق.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد ، قال : ثنا أحمد ، قال : ثنا أسباط ، عن السديّ( إِنَّ اللَّهَ لا
يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ ) قال : المسرف : هو صاحب الدم ، ويقال : هم
المشركون.
والصواب من القول في ذلك أن يقال : إن الله أخبر عن هذا المؤمن أنه عمّ بقوله : (
إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ ) والشرك من الإسراف ، وسفك
الدم بغير حقّ من الإسراف ، وقد كان مجتمعا في فرعون الأمران كلاهما ، فالحقّ أن
يعم ذلك كما أخبر جلّ ثناؤه عن قائله ، أنه عم القول بذلك.
القول في تأويل قوله تعالى : { يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ
فِي الأرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا قَالَ
فِرْعَوْنُ مَا
(21/377)
أُرِيكُمْ إِلا مَا أَرَى وَمَا
أَهْدِيكُمْ إِلا سَبِيلَ الرَّشَادِ (29) }
يقول تعالى ذكره مخبرا عن قيل المؤمن من آل فرعون لفرعون وملئه : ( يَا قَوْمِ
لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الأرْضِ ) يعني : أرض مصر ، يقول : لكم
السلطان اليوم والملك ظاهرين أنتم على بنى إسرائيل في أرض مصر( فَمَنْ يَنْصُرُنَا
مِنْ بَأْسِ اللَّهِ ) يقول : فمن يدفع عنا بأس الله وسطوته إن حل بنا ، وعقوبته
أن جاءتنا ، قال فرعون( مَا أُرِيكُمْ إِلا مَا أَرَى ) يقول : قال فرعون مجيبا
لهذا المؤمن الناهي عن قتل موسى : ما رأيكم أيها الناس من الرأي والنصيحة إلا ما
أرى لنفسي ولكم صلاحا وصوابا ، وما أهديكم إلا سبيل الرشاد. يقول : وما أدعوكم إلا
إلى طريق الحق والصواب في أمر موسى وقتله ، فإنكم إن لم تقتلوه بدل دينكم ، وأظهر
في أرضكم الفساد.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ
عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الأحْزَابِ (30) مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ
وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ
(31) }
يقول تعالى ذكره : وقال المؤمن من آل فرعون لفرعون وملثه : يا قوم إني أخاف عليكم
بقتلكم موسى إن قتلتموه مثل يوم الأحزاب الذين تحزّبوا على رسل الله نوح وهود
وصالح ، فأهلكهم الله بتجرّئهم عليه ، فيهلككم كما أهلكهم.
وقوله : ( مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ ) يقول : يفعل ذلك بكم فيهلككم مثل سنته في
قوم نوح وعاد وثمود وفعله بهم. وقد بيَّنا معنى الدأب فيما مضى بشواهده ، المغنية
عن إعادته ، مع ذكر أقوال أهل التأويل فيه.
وقد حدثني عليّ ، قال : ثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس(
مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ ) يقول : مثل حال.
(21/378)
وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ (32) يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (33)
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ،
قال : قال ابن زيد ، في قوله : ( مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ ) قال : مثل ما أصابهم.
وقوله : ( وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ ) يعني قوم إبراهيم ، وقوم لوط ، وهم أيضا
من الأحزاب.
كما حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( وَالَّذِينَ مِنْ
بَعْدِهِمْ ) قال : هم الأحزاب.
وقوله : ( وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ ) يقول تعالى ذكره مخبرا عن
قيل المؤمن من آل فرعون لفرعون وملئه : وما أهلك الله هذه الأحزاب من هذه الأمم
ظلما منه لهم بغير جرم اجترموه بينهم وبينه ، لأنه لا يريد ظلم عباده ، ولا يشاؤه
، ولكنه أهلكهم بإجرامهم وكفرهم به ، وخلافهم أمره.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ
التَّنَادِ (32) يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ
عَاصِمٍ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (33) }
يقول تعالى ذكره مخبرا عن قيل هذا المؤمن لفرعون وقومه : ( وَيَا قَوْمِ إِنِّي
أَخَافُ عَلَيْكُمْ ) بقتلكم موسى إن قتلتموه عقاب الله( يَوْمَ التَّنَادِ ) .
واختلفت القرّاء في قراءة قوله : ( يَوْمَ التَّنَادِ ) فقرأ ذلك عامة قرّاء
الأمصار : ( يَوْمَ التَّنَادِ ) بتخفيف الدال ، وترك إثبات الياء ، بمعنى التفاعل
، من تنادى القوم تناديا ، كما قال جلّ ثناؤه : ( وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ
أَصْحَابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ
وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُوا نَعَمْ ) وقال : ( وَنَادَى
أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ
) فلذلك تأوله قارئو ذلك كذلك.
(21/379)
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن بشار ، قال : ثنا محمد بن عبد الله الأنصاريّ ، قال : ثنا سعيد ، عن
قتادة أنه قال في هذه الآية( يَوْمَ التَّنَادِ ) قال : يوم ينادي أهل النار أهل
الجنة : أن أفيضوا علينا من الماء.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : ( وَيَا قَوْمِ
إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ ) يوم ينادي أهل الجنة أهل النار(
أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ
رَبُّكُمْ حَقًّا ) وينادي أهل النار أهل الجنة( أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ
الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ )
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : ( يَوْمَ
التَّنَادِ ) قال : يوم القيامة ينادي أهل الجنة أهل النار.
وقد روي عن رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم في معنى ذلك على هذه القراءة
تأويل آخر على غير هذا الوجه.
وهو ما حدثنا به أبو كريب ، قال : ثنا عبد الرحمن بن محمد المحاربي ، عن إسماعيل
بن رافع المدني ، عن يزيد بن زياد ، عن محمد بن كعب القرظيّ ، عن رجل من الأنصار ،
عن أبي هريرة ، أن رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم قال : " يَأْمُرُ
الله إسْرَافِيلَ بالنَّفْخَةِ الأولَى ، فَيَقُولُ : انْفُخْ نَفْخَةَ الفَزَعِ ،
فَفَزِعَ أهْلُ السَّمَوَاتِ وأهْلُ الأرْضِ إلا مَنْ شَاءَ الله ، وَيَأْمُرُهُ الله
أنْ يُدِيمَهَا وَيُطَوِّلَهَا فَلا يَفْتَرُ ، وَهِيَ الَّتِي يَقُولُ اللهُ : (
وَمَا يَنْظُرُ هَؤُلاءِ إِلا صَيْحَةً وَاحِدَةً مَا لَهَا مِنْ فَوَاقٍ )
فَيُسَيِّرُ اللهُ الجِبَالَ فَتَكُونَ سَرَابًا ، فَتُرَجُّ الأرْضُ بأهْلِها
رَجًّا ، وَهِيَ التي يَقُولُ اللهُ : ( يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ تَتْبَعُهَا
الرَّادِفَةُ قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ ) فَتَكُونُ كالسَّفِينَة المُرْتَعَةِ
فِي البَحْرِ تَضرِبُها الأمْوَاجُ تَكْفَأُ بأهْلِهَا ، أوْ كالقِنْدِيلِ
المُعَلَّقِ بالعَرْشِ تَرُجُّهُ الأرْوَاحُ ، فَتَمِيدُ النَّاسَ عَلى ظَهْرِها ،
فَتَذْهَلُ المَرَاضِعُ ، وَتَضَعُ الحَوَامِلُ ، وَتَشِيبُ الوِلْدَانُ ،
وَتَطِيرُ الشَّيَاطِينُ هَارِبَةً حتى تأتي الأقْطارَ ، فَتَلَقَّاها
المَلائِكَةُ ، فَتَضْرِبُ وُجُوهَها ، فَتَرْجِعَ وَيُوَلِّي النَّاسُ
مُدْبِرِينَ ، يُنَادِي بَعْضُهُمْ بَعْضًا ، وَهُوَ الَّذِي
(21/380)
يَقُولُ الله : ( يَوْمَ التَّنَادِ
يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ ) " .
فعلى هذا التأويل معنى الكلام : ويا قوم إني أخاف عليكم يوم ينادي الناس بعضهم
بعضا من فزع نفخة الفزع.
وقرأ ذلك آخرون : " يَوْمَ التَّنَادِّ " بتشديد الدال ، بمعنى :
التفاعل من النَّدّ ، وذلك إذا هربوا فنَدُّوا في الأرض ، كما تَنِدّ الإبل : إذا
شَرَدَت على أربابها.
* ذكر من قال ذلك ، وذكر المعنى الذي قَصَد بقراءته ذلك كذلك.
حدثني موسى بن عبد الرحمن المسروقيّ ، قال : ثنا أبو أسامة ، عن الأجلح ، قال :
سمعت الضحاك بن مزاحم ، قال : إذا كان يوم القيامة ، أمر الله السماء الدنيا
فتشقَّقت بأهلها ، ونزل من فيها من الملائكة ، فأحاطوا بالأرض ومن عليها ، ثم
الثانية ، ثم الثالثة ، ثم الرابعة ، ثم الخامسة ، ثم السادسة ، ثم السابعة ،
فصفوا صفا دون صف ، ثم ينزل الملك الأعلى على مجنبته اليسرى جهنم ، فإذا رآها أهل
الأرض نَدُّوا فلا يأتون قطرا من أقطار الأرض إلا وجدوا السبعة صفوف من الملائكة ،
فيرجعون إلى المكان الذي كانوا فيه ، فذلك قول الله : ( إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ
يَوْمَ التَّنَادِ يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ ) وذلك قوله : ( وَجَاءَ رَبُّكَ
وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ ) وقوله : (
يَامَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ
أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ فَانْفُذُوا لا تَنْفُذُونَ إِلا بِسُلْطَانٍ )
وذلك قوله : ( وَانْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ وَالْمَلَكُ
عَلَى أَرْجَائِهَا ) .
حدثنا محمد ، قال : ثنا أحمد ، قال : ثنا أسباط ، عن السديّ ، قوله( يَوْمَ
التَّنَادِ ) قال : تَنِدون ورُوِي عن الحسن البصري أنه قرأ ذلك : " يَوْمَ
التَّنَادِي " بإثبات الياء وتخفيف الدال.
والصواب من القراءة في ذلك عندنا ما عليه قرّاء الأمصار ، وهو تخفيف الدال وبغير
إثبات الياء ، وذلك أن ذلك هو القراءة التي عليها الحجة مجمعة من قرّاء الأمصار ،
وغير جائز خلافها فيما جاءت به نقلا. فإذا كان ذلك هو
(21/381)
الصواب ، فمعنى الكلام : ويا قوم إني
أخاف عليكم يوم ينادي الناس بعضهم بعضا ، إما من هول ما قد عاينوا من عظيم سلطان
الله ، وفظاعة ما غشيهم من كرب ذلك اليوم ، وإما لتذكير بعضُهم بعضا إنجاز إلله
إياهم الوعد الذي وعدهم في الدنيا ، واستغاثة من بعضهم ببعض ، مما لقي من عظيم
البلاء فيه.
وقوله : ( يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ ) فتأويله على التأويل الذي ذكرنا من
الخبر عن رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم : " يَوْمَ يُوَلُّونَ
هارِبينَ فِي الأرْضِ حِذَارَ عَذَابِ اللهِ وَعِقابِهِ عِنْدَ مُعَايَنَتِهم
جَهَنَّمَ " .
وتأويله على التأويل الذي قاله قَتادة في معنى( يَوْمَ التَّنَادِ ) : يوم تولُّون
مُنْصَرِفِينَ عن موقف الحساب إلى جهنم.
وبنحو ذلك روي الخبر عنه ، وعمن قال نحو مقالته في معنى( يَوْمَ التَّنَادِ ) .
* ذكر من قال ذلك.
حدثنا بشر ، قال. ثنا يزيد ، قال. ثنا سعيد ، عن قتادة( يَوْمَ تُوَلُّونَ
مُدْبِرِينَ ) : أي منطَلقا بكم إلى النار.
وأولى القولين في ذلك بالصواب ، القول الذي رُوي عن رسول الله صَلَّى الله
عَلَيْهِ وَسَلَّم ، وإن كان الذي قاله قتادة في ذلك غير بعيد من الحقّ ، وبه قال
جماعه من أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال. ثنا أبو عاصم ، قال. ثنا عيسى; وحدثني الحارث ، قال :
ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : (
يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ ) قال : فارّين غير معجزين.
وقوله : ( مَا لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ ) يقول : ما لكم من الله مانع
يمنعكم ، وناصر ينصركم.
(21/382)
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل
التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال. ثنا سعيد ، عن قتادة( مَا لَكُمْ مِنَ اللَّهِ
مِنْ عَاصِمٍ ) : أي من ناصر.
وقوله : ( وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ ) يقول : ومن يخذله الله
فلم يوفّقه لرشده ، فما له من موفّق يوفّقه له.
(21/383)
وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ (34)
القول في تأويل قوله تعالى : {
وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ
مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ
بَعْدِهِ رَسُولا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ (34) }
يقول تعالى ذكره : ولقد جاءكم يوسف بن يعقوب يا قوم من قبل موسى بالواضحات من حجج
الله.
كما حدثنا محمد ، قال : ثنا أحمد ، قال : ثنا أسباط ، عن السديّ( وَلَقَدْ
جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ ) قال : قبل موسى.
وقوله : ( فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ ) يقول : فلم تزالوا
مرتابين فيما أتاكم به يوسف من عند ربكم غير موقني القلوب بحقيقته( حَتَّى إِذَا
هَلَكَ ) يقول : حتى إذا مات يوسف قلتم أيها القوم : لن يبعث الله من بعد يوسف
إليكم رسولا بالدعاء إلى الحقّ( كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ
مُرْتَابٌ ) يقول : هكذا يصد الله عن إصابة الحقّ وقصد السبيل من هو كافر به مرتاب
، شاكّ فى حقيقة أخبار رسله.
القول في تأويل قوله تعالى : { الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ
(21/383)
الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آَيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آَمَنُوا كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ (35)
بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ
مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ
عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ (35) }
يقول تعالى ذكره مخبرا عن قيل المؤمن من آل فرعون : ( الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي
آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ ) فقوله " الذين " مردود
على " من " في قوله( مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ ) . وتأويل الكلام : كذلك يضلّ
الله أهل الإسراف والغلوّ في ضلالهم بكفرهم باقله ، واجترائهم على معاصيه ،
المرتابين في أخبار رسله ، الذين يخاصمون في حججه التي أتتهم بها رسله ليدحضوها
بالباطل من الحُجَج( بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ ) يقول : بغير حجة أتتهم من عند
ربهم يدفعون بها حقيقة الحُجَج التي أتتهم بها الرسل; و " الذين " إذا
كان معنى الكلام ما ذكرنا في موضع نصب ردًّا على " مَن " .
وقوله : ( كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ ) يقول : كبر ذلك الجدال الذي يجادلونه
في آيات الله مقتا عند الله ، ( وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا ) بالله; وإنما نصب
قوله : ( مَقْتا ) لما في قوله( كَبُرَ ) من ضمير الجدال ، وهو نظير قوله : (
كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ ) فنصب كلمة من نصبها ، لأنه جعل
في قوله : ( كَبُرَتْ ) ضمير قولهم : ( اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا ) وأما من لم
يضمر ذلك فإنه رفع الكلمة.
وقوله : ( كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ )
يقول : كما طبع الله على قلوب المسرفين الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان
أتاهم ، كذلك يطبع الله على كل قلب متكبر على الله أن يوحده ، ويصدّق رسله. جبار :
يعني متعظم عن اتباع الحقّ.
واختلفت القرّاء في قراءة ذلك ، فقرأته عامة قرّاء الأمصار ، خلا أبي عمرو بن
العلاء ، على : ( كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ ) بإضافة القلب إلى المتكبر ، بمعنى
الخبر عن أن الله طبع على قلوب المتكبرين كلها; ومن كان ذلك قراءته ، كان قوله
" جبار " . من نعت " متكبر " . وقد روي عن ابن مسعود أنه كان
يقرأ
(21/384)
وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ (36) أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبَابٍ (37)
ذلك " كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللهُ
على قَلْبِ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ " .
حدثني بذلك ابن يوسف ، قال : ثنا القاسم ، قال : ثني حجاج ، عن هارون أنه كذلك في
حرف ابن مسعود ، وهذا الذي ذُكر عن ابن مسعود من قراءته يحقق قراءة من قرأ ذلك
بإضافة قلب إلى المتكبر ، لأن تقديم " كل " قبل القلب وتأخيرها بعده لا
يغير المعنى ، بل معنى ذلك في الحالتين واحد. وقد حُكي عن بعض العرب سماعا : هو
يرجِّل شعره يوم كلّ جمعة ، يعني : كلّ يوم جمعة. وأما أبو عمرو فقرأ ذلك بتنوين
القلب وترك إضافته إلى متكبر ، وجعل المتكبر والجبار من صفة القلب.
وأولى القراءتين في ذلك عندي بالصواب قراءة من قرأه بإضافة القلب إلى المتكبر ،
لأن التكبر فعل الفاعل بقلبه ، كما أن القاتل إذا قتل قتيلا وإن كان قتله بيده ،
فإن الفعل مضاف إليه ، وإنما القلب جارحة من جوارح المتكبر. وإن كان بها التكبر ،
فإن الفعل إلى فاعله مضاف ، نظير الذي قلنا في القتل ، وذلك وإن كان كما قلنا ،
فإن الأخرى غير مدفوعة ، لأن العرب لا تمنع أن تقول : بطشت يد فلان ، ورأت عيناه
كذا ، وفهم قلبه ، فتضيف الأفعال إلى الجوارح ، وإن كانت في الحقيقة لأصحابها.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا
لَعَلِّي أَبْلُغُ الأسْبَابَ (36) أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى
إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لأظُنُّهُ كَاذِبًا وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ
عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلا فِي تَبَابٍ (37)
}
يقول تعالى ذكره : وقال فرعون لما وعظه المؤمن من آله بما وعظه به وزجره عن قتل
موسى نبيّ الله وحذره من بأس الله على قيله أقتله ما حذره لوزيره وزير السوء هامان
: ( يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الأسْبَابَ ) يعني بناء.
(21/385)
وقد بيَّنا معنى الصرح فيما مضى
بشواهده بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع.
( لَعَلِّي أَبْلُغُ الأسْبَابَ ) اختلف أهل التأويل في معنى الأسباب في هذا
الموضع ، فقال بعضهم : أسباب السموات : طرقها.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا أحمد بن هشام ، قال : ثنا عبد الله بن موسى ، عن إسرائيل ، عن السديّ ، عن
أبي صالح( أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ ) قال : طرق السموات.
حدثنا محمد بن الحسين ، قال : ثنا أحمد بن المفضل ، قال : ثنا أسباط ، عن السديّ(
أَبْلُغُ الأسْبَابَ أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ ) قال : طُرُق السموات.
وقال آخرون : عني بأسباب السموات : أبواب السموات.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا
هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا ) وكان أول من بنى بهذا الآجر وطبخه( لَعَلِّي
أَبْلُغُ الأسْبَابَ أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ ) : أي أبواب السموات.
وقال آخرون : بل عُنِي به مَنزل السماء.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي عن أبيه ، عن
ابن عباس ، قوله : ( لَعَلِّي أَبْلُغُ الأسْبَابَ أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ ) قال
: مَنزل السماء.
وقد بيَّنا فيما مضى قبل ، أن السبب : هو كل ما تسبب به إلى الوصول إلى ما يطلب من
حبل وسلم وطريق وغير ذلك.
فأولى الأقوال بالصواب في ذلك أن يقال : معناه لعلي أبلغ من أسباب السموات أسبابا
أتسيب بها إلى رؤية إله موسى ، طرقا كانت تلك الأسباب منها ،
(21/386)
أو أبوابا ، أو منازل ، أو غير ذلك.
وقوله : ( فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى ) اختلف القرّاء في قراءة قوله : (
فَأَطَّلِعَ ) فقرأت ذلك عامة قرّاء الأمصار : " فَأَطَّلِعُ " بضم
العين : ردًا على قوله : ( أَبْلُغُ الأسْبَابَ ) وعطفا به عليه. وذكر عن حميد
الأعرج أنه قرأ( فَأَطَّلِعَ ) نصبا جوابا للعلي ، وقد ذكر الفرّاء أن بعض العرب
أنشده :
عَلَّ صُرُوفَ الدَّهْرِ أوْ دُولاتِها... يُدِلْنَنا اللَّمَّةَ مِنْ لَمَّاتِها
فَتَسْتَرِيحَ النَّفْسُ مِنْ زَفَرَاتِهَا (1)
فنصب فتستريح على أنها جواب للعلّ.
والقراءة التي لا أستجيز غيرها الرفع في ذلك ، لإجماع الحجة من القرّاء عليه.
وقوله : ( وَإِنِّي لأظُنُّهُ كَاذِبًا ) يقول : وإني لأظنّ موسى كاذبا فيما يقول
ويدّعي من أن له في السماء ربا أرسله إلينا.
وقوله : ( وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ ) يقول الله تعالى ذكره
: وهكذا
__________
(1) هذه أبيات من مشطور الرجز . قال الفراء في معاني القرآن ( 228 مصورة الجامعة )
وقوله " لعلي أبلغ الأسباب فأطلع " بالرفع ، يرده على قوله " أبلغ
" . ومن جعله جوابا " للعلي " نصبه . وقد قرأ به بعض القراء ، قال
: وأنشدني بعض العرب : " عل صروف الدهر .... الأبيات " ، فنصب على
الجواب بلعل . والرجز لم يعلم قائله . وعل : لغة في لعل . والدولات : جمع دولة في
المال . وبالفتح في الحرب . وقيل هما واحد . ويدلننا : من الإدالة ، وهي الغلبة .
والملة ، بالفتح : الشدة . وهي مفعول ثان ليدلننا . والشاهد في " فتستريح
" حيث نصب في جواب لعل ، الذي هو أداة الترجي . قاله الفراء . وهو الصحيح ،
لثبوت ذلك في القرآن : " لعله يزكى أو يذكر فتنفعه الذكرى " . والزفرات
جمع زفرة ، وهي المرة من الزفر ، وهو أن يملأ الرجل صدره هواء ، بالشهيق ، ثم يزفر
به أي يخرجه ويرمى به ، وذلك عند الغم الحزن . والأصل : تحريك الفاء في الجمع ،
على نحو سجدة وسجدات . وسكن هنا للضرورة .
(21/387)
زين الله لفرعون حين عتا عليه وتمرّد ،
قبيحَ عمله ، حتى سوّلت له نفسه بلوغ أسباب السموات ، ليطلع إلى إله موسى.
وقوله : ( وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ ) اختلفت القرّاء في قراءة ذلك ، فقرأته عامة
قرّاء المدينة والكوفة : ( وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ ) بضم الصاد ، على وجه ما لم
يُسَمّ فاعله.
كما حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( وَصُدَّ عَنِ
السَّبِيلِ ) قال : فُعِل ذلك به ، زين له سوء عمله ، وصُدَّ عن السبيل.
وقرا ذلك حميد وأبو عمرو وعامة قرّاء البصرة " وَصَدَّ " بفتح الصاد ،
بمعنى : وأعرض فرعون عن سبيل الله التي ابتُعث بها موسى استكبارا.
والصواب من القول فى ذلك أن يقال : إنهما قراءتان معروفتان في قراءة الأمصار ،
فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب.
وقوله : ( وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلا فِي تَبَابٍ ) يقول تعالى ذكره : وما
احتيال فرعون الذي يحتال للاطلاع إلى إله موسى ، إلا في خسار وذهاب مال وغبن ،
لأنه ذهبت نفقته التي أنفقها على الصرح باطلا ولم ينل بما أنفق شيئا مما أراده ،
فذلك هو الخسار والتباب.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : ثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ،
قوله : ( وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلا فِي تَبَابٍ ) يقول : في خُسران.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث ، قال :
ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : ( فِي
تَبَابٍ ) قال : خسار.
(21/388)
وَقَالَ الَّذِي آَمَنَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ (38) يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآَخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ (39)
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال :
ثنا سعيد ، عن قتادة( وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلا فِي تَبَابٍ ) : أي في ضلال
وخسار.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : ( وَمَا
كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلا فِي تَبَابٍ ) قال : التَّباب والضَّلال واحد.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ
أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ (38) يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ
الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ (39) }
يقول تعالى ذكره مخبرا عن المؤمن بالله من آل فرعون( وَقَالَ الَّذِي آمَنَ ) من
قوم فرعون لقومه : ( يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ ) يقول
: إن اتبعتموني فقبلتم مني ما أقول لكم ، بينت لكم طريق الصواب الذي ترشدون إذا
أخذتم فيه وسلكتموه وذلك هو دين الله الذي ابتعث به موسى. يقول : ( إِنَّمَا
هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ ) يقول لقومه : ما هذه الحياة الدنيا
العاجلة التي عجلت لكم في هذه الدار إلا متاع تستمتعون بها إلى أجل أنتم بالغوه ،
ثم تموتون وتزول عنكم( وَإِنَّ الآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ ) يقول : وإن
الدار الآخرة ، وهي دار القرار التي تستقرّون فيها فلا تموتون ولا تزول عنكم ،
يقول : فلها فاعملوا ، وإياها فاطلبوا.
وبنحو الذي قلنا في معنى قوله : ( وَإِنَّ الآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ ) قال
أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( وَإِنَّ الآخِرَةَ هِيَ
دَارُ الْقَرَارِ ) استقرت الجنة بأهلها ، واستقرّت النار بأهلها.
القول في تأويل قوله تعالى : { مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزَى
(21/389)
مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ (40)
إِلا مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا
مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ
يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ (40) }
يقول : من عمل بمعصية الله في هذه الحياة الدنيا ، فلا يجزيه الله في الآخرة إلا
سيئة مثلها ، وذلك أن يعاقبه بها;( وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ
أُنْثَى ) يقول : ومن عمل بطاعة الله فى الدنيا ، وائتمر لأمره ، وانتهى فيها عما
نهاه عنه من رجل أو امرأة ، وهو مؤمن بالله( فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ )
يقول : فالذين يعملون ذلك من عباد الله يدخلون في الآخرة الجنة.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً
فَلا يُجْزَى إِلا مِثْلَهَا ) أي شركا ، " السيئة عند قتادة شرك " (
وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا ) ، أي خيرا( مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ ).
وقوله : ( يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ ) يقول : يرزقهم الله في الجنة من
ثمارها ، وما فيها من نعيمها ولذاتها بغير حساب.
كما حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( يُرْزَقُونَ فِيهَا
بِغَيْرِ حِسَابٍ ) قال : لا والله ما هناكم مكيال ولا ميزان.
(21/390)
وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ (41) تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ (42)
القول في تأويل قوله تعالى : { وَيَا
قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ (41)
تَدْعُونَنِي لأكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ
وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ (42) }
يقول تعالى ذكره مخبرا عن قيل هذا المؤمن لقومه من الكفرة : ( مَا لِي أَدْعُوكُمْ
إِلَى النَّجَاةِ ) من عذاب الله وعقوبته بالإيمان به ، واتباع رسوله موسى ،
(21/390)
لَا جَرَمَ أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآَخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اللَّهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ (43)
وتصديقه فيما جاءكم به من عند ربه(
وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ ) يقول : وتدعونني إلى عمل أهل النار.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث ، قال :
ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : ( مَا
لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ ) قال : الإيمان بالله.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : ( مَا لِي
أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ ) قال هذا مومن آل
فرعون ، قال : يدعونه إلى دينهم والإقامة معهم.
وقوله : ( تَدْعُونَنِي لأكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ
عِلْمٌ ) يقول : وأشرك بالله في عبادته أوثانا ، لست أعلم أنه يصلح لي عبادتها
وإشراكها فى عبادة الله ، لأن الله لم يأذن لي في ذلك بخبر ولا عقل.
وقوله : ( وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ ) يقول : وأنا أدعوكم
إلى عبادة العزيز في انتقامه ممن كفر به ، الذي لا يمنعه إذا انتقم من عدوّ له شيء
، الغفار لمن تاب إليه بعد معصيته إياه ، لعفوه عنه ، فلا يضرّه شيء مع عفوه عنه ،
يقول : فهذا الذي هذه الصفة صفته فاعبدوا ، لا ما لا ضرّ عنده ولا نفع.
القول في تأويل قوله تعالى : { لا جَرَمَ أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ
لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلا فِي الآخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى
اللَّهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ (43) }
يقول : حقا أن الذي تدعونني إليه من الأوثان ، ليس له دعاء في الدنيا ولا في
الآخرة ، لأنه جماد لا ينطق ، ولا يفهم شيئا.
(21/391)
و بنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل
التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال
: ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : (
لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا ) قال : الوثن ليس بشيء.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : ( لَيْسَ لَهُ
دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلا فِي الآخِرَةِ ) : أي لا ينفع ولا يضرّ.
حدثنا محمد ، قال : ثنا أحمد ، قال : ثنا أسباط ، عن السديّ ، في قوله : ( لَيْسَ
لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلا فِي الآخِرَةِ ) (1) .
وقوله : ( وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اللَّهِ ) يقول : وأن مرجعنا ومنقلبنا بعد
مماتنا إلى الله( وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ ) يقول : وإن
المشركين بالله المتعدّين حدوده ، القتلة النفوس التي حرم الله قتلها ، هم أصحاب
نار جهنم عند مرجعنا إلى الله.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل على اختلاف منهم في معنى المسرفين في هذا
الموضع ، فقال بعضهم : هم سفاكو الدماء بغير حقها.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا حكام ، عن عنبسة ، عن محمد بن عبد الرحمن ، عن القاسم
بن أبي بزة ، عن مجاهد ، في قوله : ( وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ
النَّارِ ) قال : هم السفَّاكون الدماء بغير حقها.
حدثنا عليّ بن سهل ، قال : ثنا حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد في قول الله(
وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ ) قال : هم السفاكون الدماء
__________
(1) سقط التفسير من قلم الناسخ ، والذي في ابن كثير عنه : " لا يجيب داعيه ،
لا في الدنيا ولا في الآخرة " . ا هـ .
(21/392)
فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (44) فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآَلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ (45)
بغير حقها.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث ، قال :
ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله : (
وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ ) قال : السفاكون الدماء بغير حقها ، هم أصحاب النار.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : ( وَأَنَّ
الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ ) قال : سماهم الله مسرفين ، فرعون ومن
معه.
وقال آخرون : هم المشركون.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، ( وَأَنَّ
الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ ) : أي المشركون. وقد بيَّنا معنى الإسراف
فيما مضى قبل بما فيه الكفاية من إعادته في هذا الموضع.
وإنما اخترنا في تأويل ذلك في هذا الموضع ما اخترنا ، لأن قائل هذا القول لفرعون
وقومه ، إنما قصد فرعون به لكفره ، وما كان همّ به من قتل موسى ، وكان فرعون عاليا
عاتيا في كفر. سفاكا للدماء التي كان محرّما عليه سفكها ، وكلّ ذلك من الإسراف ،
فلذلك اخترنا ما اخترنا من التأويل في ذلك.
القول في تأويل قوله تعالى : { فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ
أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (44) فَوَقَاهُ اللَّهُ
سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ (45) }
يقول تعالى ذكره مخبرا عن قيل المؤمن من آل فرعون لفرعون وقومه :
(21/393)
فستذكرون أيها القوم إذا عاينتم عقاب
الله قد حل بكم ، ولقيتم ما لقيتموه صدق ما أقول ، وحقيقة ما أخبركم به من أن
المسرفين هم أصحاب النار.
كما حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : (
فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ ) ، فقلت له : أو ذلك في الأخرة ؟ قال : نعم.
وقوله : ( وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ ) يقول : وأسلم أمري إلى الله ،
وأجعله إليه وأتوكل عليه ، فإنه الكافي من توكل عليه.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد ، قال : ثنا أحمد ، قال : ثنا أسباط ، عن السديّ( وَأُفَوِّضُ أَمْرِي
إِلَى اللَّهِ ) قال : أجعل أمري إلى الله.
وقوله : ( إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ ) يقول : إن الله عالم بأمور عباده
، ومن المطيع منهم ، والعاصي له ، والمستحق جميل الثواب ، والمستوجب سيئ العقاب.
وقوله : ( فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا ) يقول تعالى ذكره : فدفع
الله عن هذا المؤمن من آل فرعون بإيمانه وتصديق رسوله موسى ، مكروه ما كان فرعون
ينال به أهل الخلاف عليه من العذاب والبلاء ، فنجاه منه.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : ( سَيِّئَاتِ
مَا مَكَرُوا ) قال : وكان قبطيا من قوم فرعون ، فنجا مع موسى ، قال : وذكر لنا
أنه بين يدي موسى يومئذ يسير ويقول : أين أمرت يا نبيّ الله ؟ فيقول :
(21/394)
النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آَلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ (46)
أمامك ، فيقول له المؤمن : وهل أمامي
إلا البحر ؟ فيقول موسى : لا والله ما كَذبتُ ولا كُذبتُ ، ثم يسير ساعة ويقول :
أين أمرت يا نبيّ الله ؟ فيقول : أمامك ، فيقول : وهل أمامي إلا البحر ، فيقول :
لا والله ما كذبت ، ولا كذبت ، حتى أتى على البحر فضربه بعصاه ، فانفلق اثني عشر
طريقا ، لكل سبط طريق.
وقوله : ( وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ ) يقول : وحل بآل فرعون ووجب
عليهم; وعني بآل فرعون في هذا الموضع تباعه وأهل طاعته من قومه.
كما حدثنا محمد ، قال : ثنا أحمد ، قال : ثنا أسباط ، عن السديّ في قول الله : (
وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ ) قال : قوم فرعون.
وعني بقوله : ( سُوءَ الْعَذَابِ ) : مأ ساءهم من عذاب الله ، وذلك نار جهنم .
القول في تأويل قوله تعالى : { النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا
وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ
الْعَذَابِ (46) }
يقول تعالى ذكره مبيِّنا عن سوء العذاب الذي حلّ بهؤلاء الأشقياء من قوم فرعون ذلك
الذي حاق بهم من سوء عذاب الله( النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا ) إنهم لما هلكوا
وغرقهم الله ، جعلت أرواحهم في أجواف طير سود ، فهي تعرض على النار كلّ يوم مرتين(
غُدُوًّا وَعَشِيًّا ) إلى أن تقوم الساعة.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن بشار ، قال : ثنا عبد الرحمن ، قال : ثنا سفيان ، عن أبي قيس ، عن الهذيل
بن شرحبيل ، قال : أرواح آل فرعون في أجواف طير سود تغدو وتروح على النار ، وذلك
عرضها.
حدثنا محمد ، قال : ثنا أحمد ، قال : ثنا أسباط ، عن السديّ ، قال : بلغني أن
أرواح قوم فرعون في أجواف طير سود تعرض على النار غدوّا وعشيًّا ،
(21/395)
حتى تقوم الساعة.
حدثنا عبد الكريم بن أبي عمير ، قال : ثنا حماد بن محمد الفزاري البلخي ، قال :
سمعت الأوزاعيّ وسأله رجل فقال : رحمك الله ، رأينا طيورا تخرج من البحر تأخذ
ناحية الغرب بيضا ، فوجا فوحا ، لا يعلم عددها إلا الله ، فإذا كان العشيّ رجع
مثلُها سُودا ، قال : وفطنتم إلى ذلك ؟ قالوا : نعم ، قال : إن تلك الطيور في
حواصلها أرواح آل فرعون يُعرضون على النار غدوّا وعشيًّا ، فترجع إلى وكورها وقد
احترقت رياشها ، وصارت سوداء ، فتنبت عليها من الليل رياض بيض ، وتتناثر السود ،
ثم تغدو ، ويُعرضون على النار غدوّا وعشيا ، ثم ترجع إلى وكورها ، فذلك دَأبُها في
الدنيا; فإذا كان يوم القيامة ، قال الله( أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ
الْعَذَابِ ) قالوا : وكانوا يقولون : إنهم ستّ مئة ألف مقاتل.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : ثني حرملة ، عن سليمان بن حميد ، قال :
سمعت محمد بن كعب القرظي يقول : ليس في الآخرة ليل ولا نصف نهار ، وإنما هو بُكرة
وعشيّ ، وذلك في القرآن في آل فرعون( يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا )
وكذلك قال لأهل الجنة( وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا ) .
وقيل : عنى بذلك : أنهم يعرضون على منازلهم في النار تعذيبا لهم غدوّا وعشيّا.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( النَّارُ يُعْرَضُونَ
عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا ) قال : يعرضون عليها صباحا ومساء ، يقال لهم : يا
آل فرعون هذه منازلكم ، توبيخا ونقمة وصغارا لهم.
حدثنا محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث ، قال :
ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ،
(21/396)
عن مجاهد ، قوله : ( غُدُوًّا
وَعَشِيًّا ) قال : ما كانت الدنيا.
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال : إن الله أخبر أن آل فرعون يعرضون على
النار غدوّا وعشيّا. وجائز أن يكون ذلك العرض على النار على نحو ما ذكرناه عن
الهذيل ومن قال مثل قوله ، وأن يكون كما قال قتادة ، ولا خبر يوجب الحجة بأن ذلك
المعني به ، فلا في ذلك إلا ما دل عليه ظاهر القرآن ، وهم أنهم يعرضون على النار
غدوا وعشيا ، وأصل الغدو والعشي مصادر جعلت أوقاتا.
وكان بعض نحويي البصرة يقول في ذلك : إنما هو مصدر ، كما تقول : أتيته ظلاما; جعله
ظرفا وهو مصدر. قال : ولو قلت : موعدك غدوة ، أو موعدك ظلام ، فرفعته ، كما تقول :
موعدك يوم الجمعة ، لم يحسن ، لأن هذه المصادر وما أشبهها من نحو سحر لا تجعل إلا
ظرفا; قال : والظرف كله ليس بمتمكن; وقال نحويو الكوفة : لم يسمع في هذه الأوقات ،
وإن كانت مصادر ، إلا التعريب : موعدك يوم موعدك صباح ورواح ، كما قال جلّ ثناؤه :
( غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ ) فرفع ، وذكروا أنهم سمعوا : إنما
الطيلسان شهران (1) قالوا : ولم يسمع في الأوقات النكرات إلا الرفع إلا قولهم :
إنما سخاؤك أحيانا ، وقالوا : إنما جاز ذلك لأنه بمعنى : إنما سخاؤك الحين بعد
الحين ، فلما كان تأويله الإضافة نصب.
وقوله : ( وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ
الْعَذَابِ ) اختلفت القرّاء في قراءة ذلك فقرأته عامة قرّاء أهل الحجاز والعراق
سوى عاصم وأبي عمرو( وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ )
بفتح الألف من أدخلوا في الوصل والقطع بمعنى : الأمر بإدخالهم النار. وإذا قُرئ
ذلك كذلك ، كان الآل نصبا بوقوع أدخلوا عليه ، وقرأ ذلك عاصم وأبو عمرو : "
وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أُدْخِلُوا " بوصل الألف وسقوطها في الوصل من
اللفظ ، وبضمها إذا ابتدئ بعد الوقف على
__________
(1) الطيلسان : شيء كان يضعه العلماء والكبراء حول أعناقهم وعلى أكتافهم اتقاء
البرد . يريد أن مدة لبس الطيلسان شهران .
(21/397)
وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيبًا مِنَ النَّارِ (47) قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيهَا إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ (48)
الساعة ، ومن قرأ ذلك كذلك ، كان الآل
على قراءته نصبا بالنداء ، لأن معنى الكلام على قراءته : ادخلوا يا آل فرعون أشدّ
العذاب.
والصواب من القول في ذلك عندي أن يقال إنهما قراءتان معروفتان متقاربتا المعنى قد
قرأ بكل واحدة منهما جماعة من القرّاء ، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب. فمعنى الكلام
إذن : ويوم تقوم الساعة يقال لآل فرعون : ادخلوا يا آل فرعون أشدّ العذاب ، فهذا
على قراءة من وصل الألف من ادخلوا ولم يقطع ، ومعناه على القراءة الأخرى ، ويوم
تقوم الساعة يقول الله لملائكته( أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ )
.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ
الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ
أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيبًا مِنَ النَّارِ (47) قَالَ الَّذِينَ
اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيهَا إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ
(48) }
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم : ( وَأَنْذِرْهُمْ
يَوْمَ الآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ ) ، ( وَإِذْ
يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ ) يقول : وإذ يتخاصمون في النار. وعنى بذلك : إذ
يتخاصم الذين أمر رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم بإنذارهم من مشركي قومه
في النار ، فيقول الضعفاء منهم وهم المتبعون على الشرك بالله( إِنَّا كُنَّا
لَكُمْ تَبَعًا ) تقول لرؤسائهم الذين اتبعوهم على الضلالة : إنا كنا لكم في
الدنيا تبعا على الكفر بالله( فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ ) اليوم( عَنَّا نَصِيبًا
مِنَ النَّارِ ) يعنون حظا فتخففوه عنا ، فقد كنا نسارع في محبتكم في الدنيا ، ومن
قبلكم أتينا ، لو لا أنتم لكنا في الدنيا مؤمنين ، فلم يصبنا اليوم هذا البلاء;
والتبع يكون واحدا وجماعة في قول بعض نحويي البصرة ، وفي قول بعض نحويي الكوفة جمع
لا واحد له ، لأنه كالمصدر. قال : وإن شئت كان واحده تابع ، فيكون مثل خائل وخول ،
وغائب وغيب.
(21/398)
وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِنَ الْعَذَابِ (49)
والصواب من القول في ذلك عندي أنه جمع
واحده. تابع ، وقد يجوز أن يكون واحدا فيكون جمعه أتباع. فأجابهم المتبوعون بما
أخبر الله عنهم; قال الذين استكبروا ، وهم الرؤساء المتبوعون على الضلالة في
الدنيا : إنا أيها القوم وأنتم كلنا في هذه النار مخلدون ، لا خلاص لنا منها(
إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ ) بفصل قضائه ، فأسكن أهل الجنة
الجنة ، وأهل النار النار ، فلا نحن مما نحن فيه من البلاء خارجون ، ولا هم مما
فيه من النعيم منتقلون ، ورفع قوله( كُلّ ) بقوله( فِيهَا ) ولم ينصب على النعت.
وقد اختلف في جواز النصب في ذلك في الكلام. وكان بعض نحويي البصرة يقول : إذا لم
يضف " كلّ " لم يجز الاتباع. وكان بعض نحويي الكوفة يقول : ذلك جائز في
الحذف وغير الحذف ، لأن أسماءها إذا حُذفت اكتفي بها منها. وقد بيَّنا الصواب من
القول في ذلك فيما مضى بما أغنى عن إعادته.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ
جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِنَ الْعَذَابِ (49) }
(21/399)
قَالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا بَلَى قَالُوا فَادْعُوا وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ (50)
القول في تأويل قوله تعالى : { قَالُوا
أَوَ لَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا بَلَى قَالُوا
فَادْعُوا وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلا فِي ضَلالٍ (50) }
يقول تعالى ذكره : وقال أهل جهنم لخزنتها وقوّامها ، استغاثة بهم من عظيم ما هم
فيه من البلاء ، ورجاء أن يجدوا من عندهم فرجا( ادْعُوا رَبَّكُمْ ) لنا(
يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا ) واحدا ، يعني قدر يوم واحد من أيام الدنيا( مِنَ
الْعَذَابِ ) الذي نحن فيه. وإنما قلنا : معنى ذلك : قدر يوم من أيام الدنيا ، لأن
الآخرة يوم لا ليل فيه ، فيقال : خفف عنهم يوما واحدا.
وقوله : ( قَالُوا أَوَ لَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ ) يقول
تعالى ذكره : قالت خزنة جهنم لهم : أو لم تك تأتيكم في الدنيا رسلكم بالبيّنات من
الحجج
(21/399)
إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آَمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ (51) يَوْمَ لَا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (52)
على توحيد الله ، فتوحدوه وتؤمنوا به ،
وتتبرّءوا مما دونه من الآلهة ؟ قالوا : بلى ، قد أتتنا رسلنا بذلك.
وقوله : ( قَالُوا فَادْعُوا ) يقول جلّ ثناؤه : قالت الخزنة لهم : فادعوا إذن
ربكم الذي أتتكم الرسل بالدعاء إلى الإيمان به.
وقوله : ( وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلا فِي ضَلالٍ ) يقول : قد دعوا وما
دعاؤهم إلا في ضلال ، لأنه دعاء لا ينفعهم ، ولا يستجاب لهم ، بل يقال لهم : (
اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ ) .
القول في تأويل قوله تعالى : { إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا
فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأشْهَادُ (51) يَوْمَ لا يَنْفَعُ
الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (52)
}
يقول القائل : وما معنى : ( إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي
الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ) وقد علمنا أن منهم من قتله أعداؤه ، ومثَّلوا به ، كشعياء
ويحيى بن زكريا وأشباههما. ومنهم من همّ بقتله قومه ، فكان أحسن أحواله أن يخلص
منهم حتى فارقهم ناجيا بنفسه ، كإبراهيم الذي هاجر إلى الشام من أرضه مفارقا لقومه
، وعيسى الذي رفع إلى السماء إذ أراد قومه قتله ، فأين النصرة التي أخبرنا أنه
ينصرها رسله ، و المؤمنين به في الحياة الدنيا ، وهؤلاء أنبياؤه قد نالهم من قومهم
ما قد علمت ، وما نصروا على من نالهم بما نالهم به ؟ قيل : إن لقوله : ( إِنَّا
لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ) وجهين
كلاهما صحيح معناه. أحدهما أن يكون معناه : إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في
الحياة الدنيا إما بإعلائناهم على من كذّبنا وإظفارنا بهم ، حتى يقهروهم غلبة ،
ويذلوهم بالظفر ذلة ، كالذي فعل من ذلك بداود وسليمان ، فأعطاهما من المُلْك
والسلطان ما قهرا به كل كافر ، وكالذي فعل بمحمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم
بإظهاره على من كذّبه من قومه ، وإما بانتقامنا ممن حادّهم وشاقهم بإهلاكهم وإنجاء
الرسل ممن كذّبهم وعاداهم ، كالذي فعل
(21/400)
تعالى ذكره بنوح وقومه ، من تغريق قومه
وإنجائه منهم ، وكالذي فعل بموسى وفرعون وقومه ، إذ أهلكهم غرقا ، ونجى موسى ومن
آمن به من بني إسرائيل وغيرهم ونحو ذلك ، أو بانتقامنا في الحياة الدنيا من
مكذّبيهم بعد وفاة رسولنا من بعد مهلكهم ، كالذي فعلنا من نصرتنا شعياء بعد مهلكه
، بتسليطنا على قتله من سلطنا حتى انتصرنا بهم من قتلته ، وكفعلنا بقتلة يحيى ، من
تسليطنا بختنصر عليهم حتى انتصرنا به من قتله له وكانتصارنا لعيسى من مريدي قتله
بالروم حتى أهلكناهم بهم ، فهذا أحد وجهيه. وقد كان بعض أهل التأويل يوجه معنى ذلك
إلى هذا الوجه.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن الحسين ، قال : ثنا أحمد بن الفضل ، قال : ثنا أسباط ، عن السديّ
قول الله : ( إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ
الدُّنْيَا ) قد كانت الأنبياء والمؤمنون يقتلون في الدنيا وهم منصورون ، وذلك أن
تلك الأمة التي تفعل ذلك بالأنبياء والمؤمنين لا تذهب حتى يبعث الله قوما فينتصر
بهم لأولئك الذين قتلوا منهم. والوجه الآخر : أن يكون هذا الكلام على وجه الخبر عن
الجميع من الرسل والمؤمنين ، والمراد واحد ، فيكون تأويل الكلام حينئذ : إنا لننصر
رسولنا محمدا صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم والذين آمنوا به في الحياة الدنيا ،
ويوم يقوم الأشهاد ، كما بيَّنا فيما مضى أن العرب تخرج الخبر بلفظ الجميع ،
والمراد واحد إذا لم تنصب للخبر شخصا بعينه.
واختلفت القرّاء في قراءة قوله : ( وَيَوْمَ يَقُومُ الأشْهَادُ يَوْمَ لا
يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ ) فقرأ ذلك عامة قرّاء المدينة والكوفة(
وَيَوْمَ يَقُومُ ) بالياء. وينفع أيضا بالياء ، وقرأ ذلك بعض أهل مكة وبعض قرّاء
البصرة : " تَقُومُ " بالتاء ، و " تَنْفَعُ " بالتاء.
والصواب من القول في ذلك أنهما قراءتان معروفتان بمعنى واحد ، فبأيتهما قرأ القارئ
فمصيب.
(21/401)
وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى الْهُدَى وَأَوْرَثْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ (53) هُدًى وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ (54)
وقد بيَّنا فيما مضى أن العرب تذكر فعل
الرجل وتؤنث إذا تقدّم بما أغنى عن إعادته.
وعني بقوله : ( وَيَوْمَ يَقُومُ الأشْهَادُ ) يوم يقوم الأشهاد من الملائكة
والأنبياء والمؤمنين على الأمم المكذبة رسلها بالشهادة بأن الرسل قد بلغتهم رسالات
ربهم ، وأن الأمم كذّبتهم. والأشهاد : جمع شهيد ، كما الأشراف : جمع شريف.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتاد.( وَيَوْمَ يَقُومُ
الأشْهَادُ ) من ملائكة الله وأنبيائه ، والمؤمنين به.
حدثنا محمد ، قال : ثنا أحمد ، قال : ثنا أسباط ، عن السديّ( وَيَوْمَ يَقُومُ
الأشْهَادُ ) يوم القيامة.
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا مؤمل ، قال : ثنا سفيان ، عن الأعمش ، عن مجاهد ، في
قول الله : ( وَيَوْمَ يَقُومُ الأشْهَادُ ) قال الملائكة.
وقوله : ( يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ ) يقول تعالى ذكره :
ذلك يوم لا ينفع أهل الشرك اعتذارهم لأنهم لا يعتذرون إن اعتذروا إلا بباطل ، وذلك
أن الله قد أعذر إليهم في الدنيا ، وتابع عليهم الحجج فيها فلا حجة لهم في الآخرة
إلا الاعتصام بالكذب بأن يقولوا : ( وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ ).
وقوله : ( وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ ) يقول : وللظالمين اللعنة ، وهي البعد من رحمة
الله( وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ ) يقول : ولهم مع اللعنة من الله شرّ ما في الدار
الآخرة ، وهو العذاب الأليم.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْهُدَى وَأَوْرَثْنَا
بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ (53) هُدًى وَذِكْرَى لأولِي الألْبَابِ (54)
(21/402)
فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ (55)
فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ
وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالإبْكَارِ
(55) }
يقول تعالى ذكره( وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى ) البيان للحقّ الذي بعثناه به كما
آتينا ذلك محمدا فكذّب به فرعون وقومه ، كما كذّبت قريش محمدا( وَأَوْرَثْنَا
بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ ) يقول : وأورثنا بني إسرائيل التوراة ،
فعلَّمناهموها ، وأنزلنا اليهم( هُدًى ) يعني بيانا لأمر دينهم ، وما ألزمناهم من
فرائضها ، ( وَذِكْرَى لأولِي الألْبَابِ ) يقول : وتذكيرا منا لأهل الحجا والعقول
منهم بها.
وقوله : ( فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ ) يقول تعالى ذكره لنبيه محمد
صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم : فاصبر يا محمد لأمر ربك ، وانفذ لما أرسلك به من
الرسالة ، وبلِّغ قومك ومن أمرت بإبلاغه ما أنزل إليك ، وأيقن بحقيقة وعد الله
الذي وعدك من نصرتك ، ونصرة من صدّقك وآمن بك ، على من كذّبك ، وأنكر ما جئته به
من عند ربك ، وإن وعد الله حقّ لا خلف له وهو منجز له( وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ )
يقول : وسله غفران ذنوبك وعفوه لك عنه( وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ ) يقول : وصلّ
بالشكر منك لربك( بِالْعَشِيِّ ) وذلك من زوال الشمس إلى الليل( وَالإبْكَارِ )
وذلك من طلوع الفجر الثاني إلى طلوع الشمس. وقد وجه قوم الإبكار إلى أنه من طلوع
الشمس إلى ارتفاع الضحى ، وخروج وقت الضحى ، والمعروف عند العرب القول الأوّل.
واختلف أهل العربية في وجه عطف الإبكار والباء غير حسن دخولها فيه على العشيّ ،
والباء تحسن فيه ، فقال بعض نحويي البصرة : معنى ذلك : وسبح بحمد ربك بالعشي وفي
الإبكار. وقال : قد يقال : بالدار زيد ، يراد : فى الدار زيد ، وقال غيره : إنما
قيل ذلك كذلك ، لأن معنى الكلام : صل بالحمد بهذين الوقتين وفي هذين الوقتين ،
فإدخال الباء في واحد فيهما.
القول في تأويل قوله تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي
(21/403)
إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آَيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (56)
آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ
أَتَاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ
بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (56) }
يقول تعالى ذكره : إن الذين يخاصمونك يا محمد فيما أتيتهم به من عند ربك من
الآيات( بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ ) يقول : بغير حجة جاءتهم من عند الله
بمخاصمتك فيها( إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلا كِبْرٌ ) يقول : ما في صدورهم إلا كبر
يتكبرون من أجله عن اتباعك ، وقبول الحق الذي أتيتهم به حسدا منهم على الفضل الذي
آتاك الله ، والكرامة التي أكرمك بها من النبوّة( مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ ) يقول :
الذي حسدوك عليه أمر ليسوا بُمدركيه ولا نائليه ، لأن ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء
، وليس بالأمر الذي يدرك بالأمانيّ; وقد قيل : إن معناه : إن في صدورهم إلا عظمة
ما هم ببالغي تلك العظمة لأن الله مذلُّهم.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال. ثني أبو عاصم ، قال. ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال :
ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : ( إِنْ
فِي صُدُورِهِمْ إِلا كِبْرٌ ) قال : عظمة.
وبنحو الذي قلنا في تأويل قوله : ( إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ
اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ ) قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتاد. ، قوله.( إِنَّ الَّذِينَ
يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ ) لم يأتهم بذاك
سلطان.
وقوله : ( فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ) يقول تعالى
ذكره : فاستجر بالله يا محمد من شرّ هؤلاء الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان
، ومن الكبر أن يعرض فى قلبك منه شيء( إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ) يقول :
إن الله هو السميع لما يقول هؤلاء المجادلون في آيات الله وغيرهم من قول البصير
بما تمله
(21/404)
لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (57) وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَلَا الْمُسِيءُ قَلِيلًا مَا تَتَذَكَّرُونَ (58)
جوارحهم ، لا يخفى عليه شيء من ذلك.
القول في تأويل قوله تعالى : { لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ أَكْبَرُ مِنْ
خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (57) }
يقول تعالى ذكره : لابتداع السموات والأرض وإنشاؤها من غير شيء أعظم أيها الناس
عندكم إن كنتم مستعظمي خلق الناس ، وإنشائهم من غير شيء من خلق الناس ، ولكن أكثر
الناس لا يعلمون أن خلق جميع ذلك هين على الله.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَمَا يَسْتَوِي الأعْمَى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ
آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَلا الْمُسِيءُ قَلِيلا مَا تَتَذَكَّرُونَ
(58) }
وما يستوي الأعمى الذي لا يبصر شيئا ، وهو مثل الكافر الذي لا يتأمل حجج الله
بعينيه ، فيتدبرها ويعتبر بها ، فيعلم وحدانيته وقُدرته على خلق ما شاء من شيء ،
ويؤمن به ويصدّق. والبصير الذي يرى بعينيه ما شخص لهما ويبصره ، وذلك مئل للمؤمن
الذي يرى بعينيه حجج الله ، فيتفكَّر فيها ويتعظ ، ويعلم ما دلت عليه من توحيد
صانعه ، وعظيم سلطانه وقُدرته على خلق ما يشاء; يقول جلّ ثناؤه : كذلك لا يستوي
الكافر والمؤمن.( وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ) يقول جلّ ثناؤه
: ولا يستوي أيضا كذلك المؤمنون بالله ورسوله ، المطيعون لربهم ، ولا المسيء ، وهو
الكافر بربه ، العاصي له ، المخالف أمره( قَلِيلا مَا تَتَذَكَّرُونَ ) يقول جل
ثناؤه : قليلا ما تتذكرون أيها الناس حجج الله ، فتعتبرون وتتعظون; يقول : لو
تذكرتم آياته واعتبرتم ، لعرفتم خطأ ما أنتم عليه مقيمون من إنكاركم قدرة الله على
إحيائه من فني من خلقه من بعد الفناء ، وإعادتهم لحياتهم من بعد وفاتهم ، وعلمتم
قبح شرككم من تشركون في عبادة ربكم.
(21/405)
واختلفت القرّاء في قراءة قوله : ( تَتَذَكَّرُونَ ) فقرأت ذلك عامة قرّاء أهل المدينة والبصرة : " يَتَذَكَّرُونَ " بالياء على وجه الخبر ، وقرأته عامة قرّاء الكوفة : ( تَتَذَكَّرُونَ ) بالتاء على وجه الخطاب ، والقول في ذلك أن القراءة بهما صواب.
(21/406)
إِنَّ السَّاعَةَ لَآَتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ (59) وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ (60)
القول في تأويل قوله تعالى : { إِنَّ
السَّاعَةَ لآتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيهَا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ
(59) وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ
يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ (60) }
يقول تعالى ذكره : إن الساعة التي يحيي الله فيها الموتى للثواب والعقاب لجائية
أيها الناس لا شكّ في مجيئها; يقول : فأيقنوا بمجيئها ، وأنكم مبعوثون من بعد
مماتكم ، ومجازون بأعمالكم ، فتوبوا إلى ربكم( وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا
يُؤْمِنُونَ ) يقول : ولكن أكثر قريش لا يصدّقون بمجيئها.
وقوله : ( وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ ) يقول تعالى ذكره :
ويقول ربكم أيها الناس لكم ادعوني : يقول : اعبدوني وأخلصوا لي العبادة دون من
تعبدون من دوني من الأوثان والأصنام وغير ذلك( أَسْتَجِبْ لَكُمْ ) يقول : أُجِبْ
دعاءكم فأعفو عنكم وأرحمكم.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : ثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ،
قوله : ( ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ ) يقول : وحَّدوني أغفر لكم.
حدثنا عمرو بن عليّ ، قال : ثنا عبد الله بن داود ، عن الأعمش ، عن زرّ ، عن يسيع
الحضرمي ، عن النعمان بن بشير ، قال : قال رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ
وَسَلَّم : " الدُّعاءُ هُوَ العِبادَةُ " وقرأ رسول الله صَلَّى الله
عَلَيْهِ وَسَلَّم :
(21/406)
( وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي
أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي ) .
حدثنا محمد بن بشار ، قال : ثنا عبد الرحمن ، قال : ثنا سفيان ، عن منصور ،
والأعمش عن زرّ ، عن يسيع الحضرمي ، عن النعمان بن بشير ، قال : سمعت النبيّ
صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم يقول : " الدُّعاءُ هُوَ العبادَةُ ، (
وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ ) ... الآية.
حدثنا محمد بن المثنى ، قال : ثنا محمد بن جعفر ، قال : ثنا شعبة ، عن منصور ، عن
زرّ ، عن يسيع قال أبو موسى : هكذا قال غندر ، عن سعيد ، عن منصور ، عن زرّ ، عن
يسيع ، عن النعمان بن بشير قال : قال النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم :
" إنَّ الدُّعاءَ هُوَ العِبَادَةُ " ( وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي
أَسْتَجِبْ لَكُمْ ) .
حدثنا ابن المثنى ، قال : ثنا عبد الرحمن بن مهدي ، قال : ثنا شعبة ، عن منصور ،
عن زر ، عن يسيع عن النعمان بن بشير ، عن النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم
بمثله.
حدثنا الحسن بن عرفة ، قال : ثنا يوسف بن العرف الباهلي ، عن الحسن بن أبي جعفر ،
عن محمد بن جحادة ، عن يسيع الحضرمي ، عن النعمان بن بشير ، قال : قال رسول الله
صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم : " إنَّ عِبَادَتي دُعائي " ثُم تلا هذه
الآية :
(21/407)
اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ (61)
( وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي
أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي ) قال :
" عَنْ دُعائي " .
حدثنا عليّ بن سهل ، قال : ثنا مؤمل ، قال : ثنا عمارة ، عن ثابت ، قال : قالت لأنس
: يا أبا حمزة أبلغك أن الدعاء نصف العبادة ؟ قال : لا بل هو العبادة كلها.
حدثنا محمد ، قال : ثنا أحمد ، قال : ثنا أسباط ، عن السديّ ، قال : أخبرنا منصور
، عن زر ، عن يسيع الحضرمي ، عن النعمان بن بشير ، قال : قال رسول الله صَلَّى
الله عَلَيْهِ وَسَلَّم : " الدُّعاءُ هُوَ العِبادَةُ ، ثم قرأ هذه الآية(
وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ
عَنْ عِبَادَتِي ) " .
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : ثنا هاشم بن القاسم ، عن الأشجعي ، قال : قيل
لسفيان : ادع الله ، قال : إن ترك الذنوب هو الدعاء.
وقوله : ( إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي ) يقول : إن الذين
يتعظمون عن إفرادي بالعبادة ، وإفراد الألوهة لي( سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ
دَاخِرِينَ ) بمعنى : صاغرين. وقد دللنا فيما مضى قبل على معنى الدخر بما أغني عن
إعادته في هذا الموضع.
وقد قيل : إن معنى قوله( إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي ) : إن
الذين يستكبرون عن دعائي.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن الحسين ، قال : ثنا أحمد بن المفضل ، قال : ثنا أسباط ، عن السديّ(
إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي ) قال : عن دعائي.
حدثنا محمد ، قال : ثنا أحمد ، قال : ثنا أسباط ، عن السديّ( دَاخِرِينَ ) قال :
صاغرين.
القول في تأويل قوله تعالى : { اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ
لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى
النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ (61) }
يقول تعالى ذكره : الله الذي لا تصلح الألوهة إلا له ، ولا تنبغي العبادة لغيره ،
الذي صفته أنه جعل لكم أيها الناس الليل سكنا لتسكنوا فيه ، فتهدءوا من التصرّف
والاضطراب للمعاش ، والأسباب التي كنتم تتصرفون فيها في نهاركم( وَالنَّهَارَ
مُبْصِرًا ) يقول : وجعل النهار مبصرا من اضطرب فيه لمعاشه ، وطلب حاجاته ، نعمة
منه بذلك عليكم( إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ ) يقول : إن إلله
(21/408)
ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (62) كَذَلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كَانُوا بِآَيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (63) اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَارًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (64) هُوَ الْحَيُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (65)
لمتفضل عليكم أيها الناس بما لا كفء له
من الفضل( وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ ) يقول : ولكن أكثرهم لا
يشكرونه بالطاعة له ، وإخلاص الألوهة والعبادة له ، ولا يد تقدمت له عنده استوجب
بها منه الشكر عليها.
القول في تأويل قوله تعالى : { ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ
لا إِلَهَ إِلا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (62) كَذَلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ
كَانُوا بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (63) }
يقول تعالى ذكره : الذي فعل هذه الأفعال ، وأنعم عليكم هذه النعم أيها الناس ،
الله مالككم ومصلح أموركم ، وهو خالقكم وخالق كلّ شيء( لا إِلَهَ إِلا هُوَ ) يقول
: لا معبود تصلح له العبادة غيره ، ( فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ ) يقول : فأي وجه
تأخذون ، وإلى أين تذهبون عنه ، فتعبدون سواه ؟.
وقوله : ( كَذَلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كَانُوا بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ )
يقول : كذهابكم عنه أيها القوم ، وانصرافكم عن الحقّ إلى الباطل ، والرشد إلى الضلال
، ذهب عنه الذين كانوا من قبلكم من الأمم بآيات الله ، يعني : بحجج الله وأدلته
يكذّبون فلا يؤمنون; يقول : فسلكتم أنتم معشر قريش مسلكهم ، وركبتم محجتهم في
الضلال.
القول في تأويل قوله تعالى : { اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأرْضَ قَرَارًا
وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ
الطَّيِّبَاتِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ
الْعَالَمِينَ (64) هُوَ الْحَيُّ لا إِلَهَ إِلا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ
لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (65) }
يقول تعالى ذكره : ( اللهُ ) الذي له الألوهة خالصة أيها الناس( الَّذِي
(21/409)
جَعَلَ لَكُمُ الأرْضَ ) التي أنتم على
ظهرها سكان( قَرَارًا ) تستقرون عليها ، وتسكنون فوقها ، ( وَالسَّمَاءَ بِنَاءً )
: بناها فرفعها فوقكم بغير عمد ترونها لمصالحكم ، وقوام دنياكم إلى بلوغ آجالكم(
وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ ) يقول : وخلقكم فأحسن خلقكم( وَرَزَقَكُمْ
مِنَ الطَّيِّبَاتِ ) يقول : ورزقكم من حلال الرزق ، ولذيذات المطاعم والمشارب.
وقوله : ( ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ ) يقول تعالى ذكره : فالذي فعل هذه الأفعال
، وأنعم عليكم أيها الناس هذه النعم ، هو الله الذي لا تنبغي الألوهة إلا له ،
وربكم الذي لا تصلح الربوبية لغيره ، لا الذي لا ينفع ولا يضر ، ولا يخلق ولا
يرزق( فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ) يقول : فتبارك الله مالك جميع
الخلق جنهم وإنسهم ، وسائر أجناس الخلق غيرهم( هُوَ الْحَيُّ ) يقول : هو الحي
الذي لا يموت ، الدائم الحياة ، وكل شيء سواه فمنقطع الحياة غير دائمها( لا إِلَهَ
إِلا هُوَ ) يقول : لا معبود بحق تجوز عبادته ، وتصلح الألوهة له إلا الله الذي
هذه الصفات صفاته ، فادعوه أيها الناس مخلصين له الدين ، مخلصين له الطاعة ،
مفردين له الألوهة ، لا تشركوا في عبادته شيئا سواه ، من وثن وصنم ، ولا تجعلوا له
ندا ولا عدلا( الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ) يقول : الشعر لله الذي هو
مالك جميع أجناس الخلق ، من ملك وجن وإنس وغيرهم ، لا للآلهة والأوثان التي لا
تملك شيئا ، ولا تقدر على ضرّ ولا نفع ، بل هو مملوك ، إن ناله نائل بسوء لم يقدر
له عن نفسه دفعًا.
وكان جماعة من أهل العلم يأمرون من قال : لا إله إلا الله ، أن يتبع ذلك : (
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ) تأولا منهم هذه الآية ، بأنها أمر من الله
بقيل ذلك.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عليّ بن الحسن بن شقيق ، قال : سمعت أبي ، قال : أخبرنا الحسين بن
واقد ، قال : ثنا الأعمش ، عن مجاهد ، عن ابن عباس ، قال : من قال لا إله إلا الله
، فليقل على إثرها : الحمد لله ربّ العالمين ، فذلك قوله : ( فَادْعُوهُ
مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ).
(21/410)
قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَمَّا جَاءَنِيَ الْبَيِّنَاتُ مِنْ رَبِّي وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (66)
حدثنا عبد الحميد بن بيان السكري (1)
قال : ثنا محمد بن يزيد ، عن إسماعيل ، عن سعيد بن جبير ، قال : " إذا قال
أحدكم : لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، فليقل : الحمد لله ربّ العالمين ، ثم
قال : ( فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ
) .
حدثني محمد بن عبد الرحمن ، قال : ثنا محمد بن بشر ، قال : ثنا إسماعيل بن أبي
خالد ، عن سعيد بن جبير أنه كان يستحب إذا قال : لا إله إلا الله ، يتبعها الحمد
لله ، ثم قرأ هذه الآية : ( هُوَ الْحَيُّ لا إِلَهَ إِلا هُوَ فَادْعُوهُ
مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ) .
حدثني محمد بن عمارة ، قال : ثنا عبيد الله بن موسى ، قال : أخبرنا إسماعيل بن أبي
خالد ، عن عامر ، عن سعيد بن جبير ، قال : إذا قال أحدكم لا إله إلا الله وحده ،
فليقل بأثرها : الحمد لله رب العالمين ، ثم قرا( فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ
الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ) .
القول في تأويل قوله تعالى : { قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ
تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَمَّا جَاءَنِيَ الْبَيِّنَاتُ مِنْ رَبِّي
وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (66) }
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم : قل يا محمد لمشركي
قومك من قريش( إِنِّي نُهِيتُ ) أيها القوم( أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ
مِنْ دُونِ اللَّهِ ) من الآلهة والأوثان( لَمَّا جَاءَنِيَ الْبَيِّنَاتُ مِنْ رَبِّي
) يقول : لما جاءني الآيات الواضحات من عند ربي ، وذلك آيات كتاب الله الذي أنزله(
وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ
__________
(1) كذا في التقريب والتهذيب . وفي الخلاصة : عبد الحميد بن بيان اليشكري ، أبو
الحسن العطار الواسطي توفى سنة 244 هـ .
(21/411)
الْعَالَمِينَ ) يقول : وأمرني ربي أن أذلّ لربّ كلّ شيء ، ومالك كلّ خلق بالخضوع ، وأخضع له بالطاعة دون غيره من الأشياء.
(21/412)
هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخًا وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلًا مُسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (67) هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ فَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (68) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آَيَاتِ اللَّهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ (69)
القول في تأويل قوله تعالى : { هُوَ
الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ
يُخْرِجُكُمْ طِفْلا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخًا
وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلا مُسَمًّى
وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (67) }
يقول تعالى ذكره آمرًا نبيه محمدا صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم بتنبيه مشركي
قومه على حججه عليهم في وحدانيته : قل يا محمد لقومك : أمرت أن أسلم لرب العالمين
الذي صفته هذه الصفات. وهي أنه خلق أباكم آدم( مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ ) خلقكم( مِنْ
نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ) بعد أن كنتم نطفا( ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلا ) من
بطون أمهاتكم صغارا ، ( ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ) ، فتتكامل قواكم ،
ويتناهى شبابكم ، وتمام خلقكم شيوخا( وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ ) أن
يبلغ الشيخوخة( وَلِتَبْلُغُوا أَجَلا مُسَمًّى ) يقول : ولتبلغوا ميقاتا مؤقتا
لحياتكم ، وأجلا محدودا لا تجاوزونه ، ولا تتقدمون قبله( وَلَعَلَّكُمْ
تَعْقِلُونَ ) يقول : وكي تعقلوا حجج الله عليكما بذلك ، وتتدبروا آياته فتعرفوا
بها أنه لا إله غيره فعل ذلك.
القول في تأويل قوله تعالى : { هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ فَإِذَا قَضَى
أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (68) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ
يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ (69) }
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم : قل لهم يا محمد : (
هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ ) يقول قل لهم : ومن صفته جلّ ثناؤه أنه هو الذي
يحيي من يشاء بعد مماته ، ويميت من يشاء من الأحياء بعد حياته و( إِذَا قَضَى
أَمْرًا )
(21/412)
يقول : وإذا قضى كون أمر من الأمور
التي يريد تكوينها( فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ ) يعني للذي يريد تكوينه كن ،
فيكون ما أراد تكوينه موجودا بغير معاناة ، ولا كلفة مؤنة.
وقوله : ( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ
) يقول لنبيه محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم ألم تر يا محمد هؤلاء المشركين
من قومك ، الذين يخاصمونك في حجج الله وآياته( أَنَّى يُصْرَفُونَ ) يقول : أيّ
وجه يصرفون عن الحق ، ويعدلون عن الرشد.
كما حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( أَنَّى يُصْرَفُونَ
) : أنى يكذبون ويعدلون.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : ( أَنَّى
يُصْرَفُونَ ) قال : يُصْرَفون عن الحقّ.
واختلف أهل التأويل في الذين عنوا بهذه الآية ، فقال بعضهم : عنى بها أهل القدر.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن بشار ومحمد بن المثنى ، قالا ثنا مؤمل ، قال : ثنا سفيان ، عن داود
بن أبي هند. عن محمد بن سيرين ، قال : إن لم تكن هذه الآية نزلت في القدرية ، فإني
لا أدري فيمن نزلت : ( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ
اللَّهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ ) إلى قوله : ( لَمْ نَكُنْ نَدْعُو مِنْ قَبْلُ
شَيْئًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكَافِرِينَ ) .
حدثني عليّ بن سهل ، قال : ثنا زيد بن أبي الزرقاء ، عن سفيان ، عن داود بن أبي
هند ، عن ابن سيرين ، قال : إن لم يكن أهل القدر الذين يخوضون في آيات الله فلا
علم لنا به.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرني مالك بن أبي الخير
(21/413)
الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتَابِ وَبِمَا أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (70) إِذِ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلَاسِلُ يُسْحَبُونَ (71) فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ (72) ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ (73) مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُو مِنْ قَبْلُ شَيْئًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكَافِرِينَ (74)
الزيادي ، عن أبي قبيل ، قال : أخبرني
عقبة بن عامر الجهني ، أن رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم قال : "
سَيَهْلِكُ مِنْ أُمَّتِي أهْلُ الكِتَابِ ، وأهْلُ اللِّينِ " فقال عقبة :
يا رسول الله ، وما أهل الكتاب ؟ قال : " قَوْمٌ يَتَعَلَّمُونَ كِتابَ الله
يُجادلُونَ الَّذينَ آمَنُوا " ، فقال عقبة : يا رسول الله ، وما أهل اللين ؟
قال : " قَوْمٌ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ ، ويُضَيِّعُونَ الصَّلَوَاتِ
" . قال أبو قبيل : لا أحسب المكذّبين بالقدر إلا الذين يجادلون الذين آمنوا
، وأما أهل اللين ، فلا أحسبهم إلا أهل العمود (1) ليس عليهم إمام جماعة ، ولا
يعرفون شهر رمضان.
وقال آخرون : بل عنى به أهل الشرك.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : ( أَلَمْ تَرَ
إِلَى الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ ) قال : هؤلاء
المشركون.
والصواب من القول في ذلك ما قاله ابن زيد; وقد بين الله حقيقة ذلك بقوله : (
الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتَابِ وَبِمَا أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا ) .
القول في تأويل قوله تعالى : { الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتَابِ وَبِمَا
أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (70) إِذِ الأغْلالُ فِي
أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ (71) فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ
يُسْجَرُونَ (72) ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ (73) مِنْ
دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُو مِنْ قَبْلُ
شَيْئًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكَافِرِينَ (74) }
__________
(1) كذا في الأصل ، ولم أجد معنى للعمود في النهاية لابن الأثير ، ولعله محرف عن (
العمور) بضم العين ، جمع عمر ، بفتح فسكون وبضمتين ، وهو من النخيل ، وهو الحسوق
الطويل . يريد أصحاب هذه النخل الملازمين لها ، يجادلون في الدين ، بلا علم ولا
فقه .
(21/414)
يقول تعالى ذكره : ألم تر إلى الذين
يجادلون في آيات الله أنى يصرفون الذين كذّبوا بكتاب الله ، وهو هذا القرآن; و
" الذين " الثانية في موضع خفض ردّا لها على " الذين " الأولى
على وجه النعت( وَبِمَا أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا ) يقول : وكذّبوا أيضا مع
تكذيبهم بكتاب الله بما أرسلنا به رسلنا من إخلاص العبادة لله ، والبراءة مما يعبد
دونه من الآلهة والأنداد ، والإقرار بالبعث بعد الممات للثواب والعقاب. وقوله : (
فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ إِذِ الأغْلالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ ) ، وهذا
تهديد من الله المشركين به; يقول جلّ ثناؤه : فسوف يعلم هؤلاء الذين يجادلون في
آيات الله ، المكذبون بالكتاب حقيقة ما تخبرهم به يا محمد ، وصحة ما هم به اليوم
مكذّبون من هذا الكتاب ، حين تجعل الأغلال والسلاسل في أعناقهم في جهنم. وقرأت
قراءة الأمصار : والسلاسل ، برفعها عطفا بها على الأغلال على المعنى الذي بينَّت.
وذُكر عن ابن عباس أنه كان يقرؤه " والسَّلاسِلَ يُسْحَبونَ " بنصب
السلاسل في الحميم. وقد حكي أيضا عنه أنه كان يقول : إنما هو وهم في السلاسل
يسحبون ، ولا يجيز أهل ألعلم بالعربية خفض الاسم والخافض مضمر. وكان بعضهم يقول في
ذلك : لو أن متوهما قال : إنما المعنى : إذ أعناقهم في الأغلال والسلال يسبحون.
حاز الخفض في السلاسل على هذا المذهب ، وقال : مثله ، مما رد إلى المعنى. قول
الشاعر :
قَدْ سَالَم الحَيَّاتُ مِنْهُ القَدمَا... الأفْعُوَانَ والشُّجاعَ الأرْقَما (1)
فنصب الشُّجاع والحيات قبل ذلك مرفوعة ، لأن المعنى : قد سالمت رجله الحيات
وسالمتها ، فلما احتاج إلى نصب القافية ، جعل الفعل من القدم واقعا على
__________
(1) البيتان من مشطور الرجز ( اللسان : شجع ) . قال الشجاع : الحية ، وفي الحديث :
" يجيء كنز أحدهم يوم القيامة شجاها أقرع " . وأنشد الأحمر : " قد
سالم الحيات .... البيتين " . نصب الشجاع والأفعوان بمعنى الكلام ، لأن
الحيات إذا سالمت القدم ، فقد سالمها القدم ، فكأنه قال : سالم القدم الحيات ؛ ثم
جعل الأفعوان بدلا منها . ا هـ . وقال الفراء في معاني القرآن ( الورقة " 289
" ) نصب الشجاع والحيات قبل ذلك مرفوعة ، لأن المعنى قد سالمت رجله الحيات
وسالمتها . فلما احتاج إلى نصب القافية ، جعل الفعل من القدم واقعا على الحيات . ا
هـ .
(21/415)
الحيات.
والصواب من القراءة عندنا فى ذلك ما عليه قراء الأمصار ، لإجماع الحجة عليه ، وهو
رفع السلاسل عطفا بها على ما في قوله : ( فِي أَعْنَاقِهِمْ ) من ذكر الأغلال.
وقوله : ( يُسَبِّحُونَ ) يقول : يسحب هؤلاء الذين كذّبوا في الدنيا بالكتاب
زبانية العذاب يوم القيامة في الحميم ، وهو ما قد انتهى حَرُّه ، وبلغ غايته.
وقوله( ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ ) يقول : ثم في نار جهنم يحرقون ، يقول :
تسجر بها جهنم : أي توقد بهم.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث ، قال :
ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله : (
يُسْجَرُونَ ) قال : يوقد بهم النار.
حدثنا محمد. قال : ثنا أحمد ، قال : ثنا أسباط ، عن السديّ( ثُمَّ فِي النَّارِ
يُسْجَرُونَ ) قال : يحرقون في النار.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال. قال ابن زيد ، في قوله : ( ثُمَّ فِي
النَّارِ يُسْجَرُونَ ) قال : يسجرون في النار : يوقد عليهم فيها.
وقوله : ( ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ
) يقول : ثم قيل : أين الذين كنتم تشركون بعبادتكم إياها من دون الله من آلهتكم
وأوثانكم حتى يغيثوكم فينقذوكم مما أنتم فيه من البلاء والعذاب ، فإن المعبود يغيث
من عبد وخدمه; وإنما يقال هذا لهم توبيخا وتقريعا على ما كان منهم في الدنيا من
الكفر بالله وطاعة الشيطان ، فأجاب المساكين عند ذلك فقالوا : ضلوا عنا : يقول :
عدلوا عنا ، فأخذوا غير طريقنا ، وتركونا في هذا البلاء ، بل ما ضلوا عنا ، ولكنا
لم نكن
(21/416)
ذَلِكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ (75) ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (76)
ندعو من قبل في الدنيا شيئا : أي لم
نكن نعبد شيئا; يقول الله تعالى ذكره : ( كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكَافِرِينَ
) يقول : كما أضل هؤلاء الذين ضل عنهم في جهنم ما كانوا يعبدون في الدنيا من دون
الله من الآلهة والأوثان آلهتهم وأوثانهم ، كذلك يضل الله أهل الكفر به عنه ، وعن
رحمته وعبادته ، فلا يرحمهم فينجيهم من النار ، ولا يغيثهم فيخفف عنهم ما هم فيه
من البلاء.
القول في تأويل قوله تعالى : { ذَلِكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الأرْضِ
بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ (75) ادْخُلُوا أَبْوَابَ
جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (76) }
يعني تعالى ذكره بقوله : ( ذَلِكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الأرْضِ
بِغَيْرِ الْحَقِّ ) هذا الذي فعلنا اليوم بكم أيها القوم من تعذيبنا كم العذاب
الذي أنتم فيه ، بفرحكم الذي كنتم تفرحونه في الدنيا ، بغير ما أذن لكم به من
الباطل والمعاصي ، وبمر حكم فيها ، والمرح : هو الأشر والبطر .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ،
عن ابن عباس ، قوله : ( بِمَا كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الأرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ
) إلى( فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ ) قال : الفرح والمرح : الفخر
والخُيَلاء ، والعمل في الأرض بالخطيئة ، وكان ذلك في الشرك ، وهو مثل قوله لقارون
: ( إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ
) وذلك في الشرك.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث ، قال :
ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : ( بِمَا
كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الأرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ
(21/417)
فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ (77)
تَمْرَحُونَ ) قال : تبطرون وتأشَرُون.
حدثنا محمد ، قال : ثنا أحمد ، قال : ثنا أسباط ، عن السديّ ، قوله : (
تَمْرَحُونَ ) قال : تبطرون.
وقوله : ( ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا ) يقول تعالى ذكره لهم
: ادخلوا أبواب جهنم السبعة من كل باب منها جزء مقسوم منكم( فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ
) يقول : فبئس منزل المتكبرين في الدنيا على الله أن يوحدوه ، ويؤمنوا برسله اليوم
جهنم.
القول في تأويل قوله تعالى : { فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَإِمَّا
نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا
يُرْجَعُونَ (77) }
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم : فاصبر يا محمد على ما
يجادلك به هؤلاء المشركون في آيات الله التي أنزلناها عليك ، وعلى تكذيبهم إياك ،
فإن الله منجِز لك فيهم ما وعدك من الظفر عليهم ، والعلو عليهم ، وإحلال العقاب
بهم ، كسنتنا في موسى بن عمران ومن كذّبه( فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي
نَعِدُهُمْ ) يقول جلّ ثناؤه : فإما نرينك يا محمد في حياتك بعض الذي نعد هؤلاء
المشركين من العذاب والنقمة أن يحل بهم( أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ ) قبل أن يَحِلَّ
ذلك بهم( فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ ) يقول : فإلينا مصيرك ومصيرهم ، فنحكم عند ذلك
بينك وبينهم بالحقّ بتخليدناهم في النار ، وإكرامناك بجوارنا في جنات النعيم.
(21/418)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآَيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ فَإِذَا جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْمُبْطِلُونَ (78)
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلا مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ فَإِذَا جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْمُبْطِلُونَ (78) }
(21/418)
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صَلَّى
الله عَلَيْهِ وَسَلَّم : ( وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا ) يا محمد( رُسُلا مِنْ قَبْلِكَ
) إلى أممها( مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ ) يقول : من أولئك الذين أرسلنا
إلى أممهم من قصصنا عليك نبأهم( وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ ) نبأهم.
وذُكر عن أنس أنهم ثمانية آلاف.
* ذكر الرواية بذلك :
حدثنا عليّ بن شعيب السمسار ، قال : ثنا معن بن عيسى ، قال : ثنا إبراهيم بن
المهاجر بن مسمار ، عن محمد بن المنكدر ، عن يزيد بن أبان ، عن أنس بن مالك ، قال
: بعث النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم بعد ثمانية آلاف من الأنبياء ، منهم
أربعة آلاف من بني إسرائيل.
حدثنا أبو كُرَيب قال : ثنا يونس ، عن عتبة بن عتيبة البصريّ العبدي ، عن أبي سهل
عن وهب بن عبد الله بن كعب بن سور الأزديّ ، عن سلمان ، عن النبي صَلَّى الله
عَلَيْهِ وَسَلَّم قال : " بعث الله أربعة آلاف نبيّ " .
حدثني أحمد بن الحسين الترمذي ، قال : ثنا آدم بن أبي إياس ، قال : ثنا إسرائيل ،
عن جابر ، عن ابن عبد الله بن يحيى ، عن عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه ، في قوله
: ( مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ )
قال : بعث الله عبدا حبشيا نبيا ، فهو الذي لم نقصص عليك.
وقوله : ( وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلا بِإِذْنِ اللَّه )
يقول تعالى ذكره : وما جعلنا لرسول ممن أرسلناه من قبلك الذين قصصناهم عليك ،
والذين لم نقصصهم عليك إلى أممها أن يأتي قومه بآية فاصلة بينه وبينهم ، إلا بإذن
الله له بذلك ، فيأتيهم بها; يقول جلّ ثناؤه لنبيه : فلذلك لم يجعل لك أن تأتي
قومك بما يسألونك من الآيات دون إذننا لك بذلك ، كما لم نجعل لمن قبلك من رسلنا
إلا أن نأذن له به( فَإِذَا جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ ) يعني بالعدل
، وهو أن ينجي رسله والذين آمنوا معهم( وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْمُبْطِلُونَ ) يقول
: وهلك
(21/419)
اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعَامَ لِتَرْكَبُوا مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (79) وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْهَا حَاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (80) وَيُرِيكُمْ آَيَاتِهِ فَأَيَّ آَيَاتِ اللَّهِ تُنْكِرُونَ (81)
هنالك الذين أبطلوا في قيلهم الكذب ،
وافترائهم على الله وادعائهم له شريكا.
القول في تأويل قوله تعالى : { اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأنْعَامَ
لِتَرْكَبُوا مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (79) وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ
وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْهَا حَاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ
تُحْمَلُونَ (80) وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَأَيَّ آيَاتِ اللَّهِ تُنْكِرُونَ (81) }
يقول تعالى ذكره : ( اللهُ ) الذي لا تصلح الألوهة إلا له أيها المشركون به من
قريش( الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأنْعَامَ ) من الإبل والبقر والغنم والخيل ، وغير
ذلك من البهائم التي يقتنيها أهل الإسلام لمركب أو لمطعم( لِتَرْكَبُوا مِنْهَا )
يعني : الخيل والحمير( وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ ) يعني الإبل والبقر والغنم. وقال :
( لِتَرْكَبُوا مِنْهَا ) ومعناه : لتركبوا منها بعضا ومنها بعضا تأكلون ، فحذف
استغناء بدلالة الكلام على ما حذف.
وقوله : ( وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ ) وذلك أن جعل لكم من جلودها بيوتا تستخفونها
يوم ظعنكم ، ويوم إقامتكم ، ومن أصوافها وأوبارها وأشعارها أثاثا ومتاعا إلى حين.
وقوله : ( وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْهَا حَاجَةً فِي صُدُورِكُمْ ) يقول : ولتبلغوا
بالحمولة على بعضها ، وذلك الإبل حاجة في صدروكم لم تكونوا بالغيها لولا هي ، إلا
بشق أنفسكم ، كما قال جلّ ثناؤه : ( وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ
تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلا بِشِقِّ الأنْفُسِ ) وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل
التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : (
وَلِتَبْلُغُوا
(21/420)
أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآَثَارًا فِي الْأَرْضِ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (82)
عَلَيْهَا حَاجَةً فِي صُدُورِكُمْ )
يعني الإبل تحمل أثقالكم إلى بلد.
حدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد(
وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْهَا حَاجَةً فِي صُدُورِكُمْ ) لحاجتكم ما كانت. وقوله : (
وَعَلَيْهَا ) يعني : وعلى هذه الإبل ، وما جانسها من الأنعام المركوبة( وَعَلَى
الْفُلْكِ ) يعني : وعلى السفن( تُحْمَلُونَ ) يقول نحملكم على هذه في البر ، وعلى
هذه في البحر( وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ ) يقول : ويريكم حججه ، ( فَأَيَّ آيَاتِ
اللَّهِ تُنْكِرُونَ ) يقول : فأي حجج الله التي يريكم أيها الناس في السماء
والأرض تنكرون صحتها ، فتكذبون من أجل فسادها بتوحيد الله ، وتدعون من دونه إلها.
القول في تأويل قوله تعالى : { أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأرْضِ فَيَنْظُرُوا
كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ
وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الأرْضِ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا
يَكْسِبُونَ (82) }
يقول تعالى ذكره : أفلم يسر يا محمد هؤلاء المجادلون في آيات الله من مشركي قومك
في البلاد ، فإنهم أهل سفر إلى الشأم واليمن ، رحلتهم في الشتاء والصيف ، فينظروا
فيما وطئوا من البلاد إلى وقائعنا بمن أوقعنا به من الأمم قبلهم ، ويروا ما أحللنا
بهم من بأسنا بتكذيبهم رسلنا ، وجحودهم آياتنا ، كيف كان عقبى تكذيبهم( كَانُوا
أَكْثَرَ مِنْهُمْ ) يقول : كان أولئك الذين من قبل هؤلاء المكذبيك من قريش أكثر
عددا من هؤلاء وأشد بطشا ، وأقوى قوة ، وأبقى في الأرض آثارا ، لأنهم كانوا ينحتون
من الجبال بيوتا ويتخذون مصانع.
وكان مجاهد يقول في ذلك ما حدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، عن
ابن أبي نجيح ، عن مجاهد( وَآثَارًا فِي الأرْضِ ) المشي بأرجلهم.
(21/421)
فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (83)
( فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا
يَكْسِبُونَ ) يقول : فلما جاءهم بأسنا وسطوتنا ، . لم يغن عنهم ما كانوا يعملون
من البيوت في الجبال ، ولم يدفع عنهم ذلك شيئا. ولكنهم بادوا جميعا فهلكوا. وقد
قيل : إن معنى قوله : ( فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ ) فأيّ شيء أغني عنهم; وعلى هذا
التأويل يجب أن يكون " ما " الأولى في موضع نصب ، والثانية في موضع رفع.
يقول : فلهؤلاء المجادليك من قومك يا محمد في أولئك معتبر إن اعتبروا ، ومتعظ إن
اتعظوا ، وإن بأسنا إذا حلّ بالقوم المجرمين لم يدفعه دافع ، ولم يمنعه مانع ، وهو
بهم إن لم ينيبوا إلى تصديقك واقع.
القول في تأويل قوله تعالى : { فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ
فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ
يَسْتَهْزِئُونَ (83) }
يقول تعالى ذكره : فلما جاءت هؤلاء الأمم الذين من قبل قريش المكذّبة رسلها
رُسُلُهُمْ الذين أرسلهم الله إليهم بالبيّنات ، يعني : بالواضحات من حجج عزّ
وجلّ( فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ ) يقول : فرحوا جهلا منهم بما
عندهم من العلم وقالوا : لن نُبْعَثَ ، ولن يُعذّبنا الله.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث ، قال :
ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن أبن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله(
فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ ) قال : قولهم : نحن أعلم منهم ، لن
نُعَذَّبَ ، ولن نُبْعَثَ.
حدثنا محمد بن الحسين ، قال : ثنا أحمد بن المفضل ، قال : ثنا أسباط ، عن السديّ(
فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ ) بجهالتهم .
(21/422)
فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آَمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ (84) فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ (85)
وقوله : ( وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا
بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ) يقول : وحاق بهم من عذاب الله ما كانوا يستعجلون رسلهم به
استهزاء وسخرية.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث ، قال :
ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : (
وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ) ما جاءتهم به رسلهم من الحقّ.
القول في تأويل قوله تعالى : { فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا
بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ (84) }
يقول تعالى ذكره : فلما رأت هذه الأمم المكذّبة رسلها بأسنا ، يعني عقاب الله الذي
وعدتهم به رسلُهم قد حلّ بهم.
كما حدثنا محمد ، قال : ثنا أحمد ، قال : ثنا أسباط ، عن السديّ( فَلَمَّا رَأَوْا
بَأْسَنَا ) قال : النقمات التي نزلت بهم .
وقوله( قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ ) يقول : قالوا : أقررنا بتوحيد الله ،
وصدقنا أنه لا آله غيره( وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ ) يقول :
وجحدنا الآلهة التي كنا قبل وقتنا هذا نشركها في عبادتنا الله ونعبدها معه ،
ونتخذها آلهة ، فبرئنا منها.
القول في تأويل قوله تعالى : { فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا
رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ
هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ (85) }
(21/423)
يقول تعالى ذكره : فلم يك ينفعهم
تصديقهم في الدنيا بتوحيد الله عند معاينة عقابه قد نزل ، وعذابه قد حل ، لأنهم
صدقوا حين لا ينفع التصديق مصدقا ، إذ كان قد مضى حكم الله في السابق من علمه ، أن
من تاب بعد نزول العذاب من الله على تكذيبه لم تنفعه توبته.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة قوله : ( فَلَمْ يَكُ
يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا ) : لما رأوا عذاب الله في
الدنيا لم ينفعهم الإيمان عند ذلك.
وقوله : ( سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ ) يقول : ترك الله
تبارك وتعالى إقالتهم ، وقبول التوبة منهم ، ومراجعتهم الإيمان بالله ، وتصديق
رسلهم بعد معاينتهم بأسه ، قد نزل بهم سنته التي قد مضت في خلقه ، فلذلك لم يقلهم
ولم يقبل توبتهم في تلك الحال.
كما حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( سُنَّةَ اللَّهِ
الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ ) يقول : كذلك كانت سنة الله في الذين خلوا من
قبل إذا عاينوا عذاب الله لم ينفعهم إيمانهم عند ذلك.
وقوله : ( وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ ) يقول : وهلك عند مجيء بأس الله ،
فغبنت صفقته ووضُع في بيعه الآخرة بالدنيا ، والمغفرة بالعذاب ، والإيمان بالكفر ،
الكافرون بربهم الجاحدون توحيد خالقهم ، المتخذون من دونه آلهة يعبدونهم من دون
بارئهم
آخر تفسير سورة حم المؤمن
(21/424)
حم (1) تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (2) كِتَابٌ فُصِّلَتْ آَيَاتُهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (3) بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (4)
تفسير سورة فصلت
بسم الله الرحمن الرحيم
القول في تأويل قوله تعالى : { حم (1) تَنزيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (2)
كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (3)
بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ (4) }
قال أبو جعفر : قد تقدم القول منا فيما مضى قبلُ في معنى( حم ) والقول في هذا
الموضع كالقول في ذلك.
وقوله : ( تَنزيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ) يقول تعالى ذكره : هذا القرآن
تنزيل من عند الرحمن الرحيم نزله على نبيه محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم(
كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ ) يقول : كتاب بينت آياته.
كما حدثنا محمد ، قال : ثنا أحمد ، قال : ثنا أسباط ، عن السدي ، قوله : (
فُصِّلَتْ آيَاتُهُ ) قال : بينت آياته.
وقوله : ( قُرْآنًا عَرَبِيًّا ) يقول تعالى ذكره : فُصلت آياته هكذا.
وقد اختلف أهل العربية في وجه نصب القرآن ، فقال بعض نحويّي البصرة قوله : (
كِتَابٌ فُصِّلَتْ ) الكتاب خبر لمبتدأ أخبر أن التنزيل كتاب ، ثم قال : (
فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا ) شغل الفعل بالآيات حتى صارت بمنزلة
الفاعل ، فنصب القرآن ، وقال : ( بَشِيرًا وَنَذِيرًا ) على أنه صفة ، وإن شئت
جعلت نصبه على المدح كأنه حين ذكره أقبل في مدحته ، فقال : ذكرنا قرآنا عربيا
بشيرا ونذيرا ، وذكرناه قرآنا عربيا ، وكان فيما مضى من ذكره دليل على ما أضمر.
(21/425)
وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آَذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ (5)
وقال بعض نحويّي الكوفة : نصب قرآنا
على الفعل : أي فصلت آياته كذلك. قال : وقد يكون النصب فيه على القطع ، لأن الكلام
تامّ عند قوله " آيَاتُهُ " . قال : ولو كان رفعا على أنه من نعت الكتاب
كان صوابا ، كما قال في موضع آخر : ( كِتَابٌ أَنزلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ )
وقال : وكذلك قوله : ( بَشِيرًا وَنَذِيرًا ) فيه ما في( قُرْآنًا عَرَبِيًّا ).
وقوله : ( لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ) يقول : فصلت آيات هذا الكتاب قرآنا عربيا لقوم
يعلمون اللسان العربي.
بشيرا لهم يبشرهم إن هم آمنوا به ، وعملوا بما أنزل فيه من حدود الله وفرائضه
بالجنة ، ( وَنَذِيرًا ) يقول ومنذرا من كذب به ولم يعمل بما فيه بأمر الله في
عاجل الدنيا ، وخلود الأبد في نار جهنم في آجل الآخرة.
وقوله : ( فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ ) يقول تعالى ذكره : فاستكبر عن الإصغاء له
وتدبر ما فيه من حجج الله ، وأعرض عنه أكثر هؤلاء القوم الذين أنزل هذا القرآن
بشيرا لهم ونذيرا ، وهم قوم رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم. يقول : فهم
لا يصغون له فيسمعوه إعراضا عنه واستكبارا.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا
تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ
فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ (5) }
يقول تعالى ذكره : وقال هؤلاء المشركون المعرضون عن آيات الله من مشركي قريش إذ
دعاهم محمد نبيّ الله إلى الإقرار بتوحيد الله وتصديق ما في هذا القرآن من أمر
الله ونهيه ، وسائر ما أنزل فيه( قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ ) يقول : في أغطية(
مِمَّا تَدْعُونَا ) يا محمد( إِلَيْهِ ) من توحيد الله ، وتصديقك فيما جئتنا به ،
لا نفقه ما تقول( وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ ) وهو الثقل ، لا نسمع ما تدعونا إليه
استثقالا لما يدعو إليه وكراهة له. وقد مضى البيان قبل عن معاني هذه الأحرف
(21/428)
قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ (6) الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآَخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (7)
بشواهده ، وذكر ما قال أهل التأويل فيه
، فكرهنا إعادة ذلك في هذا الموضع.
وقد : حدثني محمد بن عمرو قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث ،
قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله
: ( قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ ) قال : عليها أغطية كالجَعْبة للنَّبْل.
حدثنا محمد ، قال : ثنا أحمد ، قال : ثنا أسباط ، عن السديّ ، قوله : ( وَقَالُوا
قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ ) قال : عليها أغطية( وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ ) قال :
صمم.
وقوله : ( وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ ) يقولون : ومن بيننا وبينك يا
محمد ساتر لا نجتمع من أجله نحن وأنت ، فيرى بعضنا بعضا ، وذلك الحجاب هو اختلافهم
في الدين ، لأن دينهم كان عبادة الأوثان ، ودين محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ
وَسَلَّم عبادة الله وحده لا شريك له ، فذلك هو الحجاب الذي زعموا أنه بينهم وبين
نبيّ الله ، وذلك هو خلاف بعضهم بعضا في الدين.
وأدخلت " من " في قوله( وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ ) والمعنى
: وبيننا وبينكَ حِجابٌ ، توكيدا للكلام.
القول في تأويل قوله تعالى : { قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى
إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ
وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ (6) الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ
وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (7) }
يقول تعالى ذكره : قل يا محمد لهؤلاء المعرضين عن آيات الله من قومك : أيها القوم
، ما أنا إلا بشر من بني آدم مثلكم في الجنس والصورة والهيئة
(21/429)
لست بمَلك( يُوحَى إِلَيَّ ) يوحي الله
إلى أن لا معبود لكم تصلح عبادته إلا معبود واحد.( فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ )يقول
: فاستقيموا إليه بالطاعة ، ووجهوا إليه وجوهكم بالرغبة والعبادة دون الآلهة
والأوثان.
يقول : وسلوه العفو لكم عن ذنوبكم التي سلفت منكم بالتوبة من شرككم ، يتب عليكم
ويغفر لكم.
وقوله : ( وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ
بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ ) يقول تعالى ذكره : وصديد أهل النار ، وما يسيل منهم
للمدعين لله شريكا العابدين الأوثان دونه الذين لا يؤتون الزكاة.
اختلف أهل التأويل في ذلك ، فقال بعضهم : معناه : الذين لا يعطون الله الطاعة التي
تطهرهم ، وتزكي أبدانهم ، ولا يوحدونه; وذلك قول يذكر عن ابن عباس.
* ذكر الرواية بذلك :
حدثني عليّ ، قال : ثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ،
قوله : ( وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ ) قال : هم
الذين لا يشهدون أن لا إله إلا الله.
حدثني سعيد بن عبد الله بن عبد الحكم ، قال : ثنا حفص ، قال : ثنا الحكم بن أبان ،
عن عكرمة ، قوله : ( وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ
) : الذين لا يقولون لا إله إلا الله.
وقال آخرون : بل معنى ذلك : الذين لا يقرّون بزكاة أموالهم التي فرضها الله فيها ،
ولا يعطونها أهلها. وقد ذكرنا أيضا قائلي ذلك قبلُ.
وقد حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( وَوَيْلٌ
لِلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ ) قال : لا يقرّون بها ولا
يؤمنون بها. وكان يقال : إن الزكاة قنطرة الإسلام ، فمن قطعها نجا ، ومن تخلف عنها
هلك;
(21/430)
إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (8) قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ (9)
وقد كان أهل الردّة بعد نبيّ الله
قالوا : أما الصلاة فنصلِّي ، وأما الزكاة فوالله لا تغصب أموالنا; قال : فقال أبو
بكر : والله لا أفرق بين شيء جمع الله بينه; والله لو منعوني عقالا مما فرض الله
ورسوله لقاتلناهم عليه.
حدثنا محمد ، قال : ثنا أحمد ، قال : ثنا أسباط ، عن السديّ( وَوَيْلٌ
لِلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ ) قال : لو زَكَّوا وهم مشركون
لم ينفعهم.
والصواب من القول في ذلك ما قاله الذين قالوا : معناه : لا يؤدّون زكاة أموالهم;
وذلك أن ذلك هو الأشهر من معنى الزكاة ، وأن في قوله : ( وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ
كَافِرُونَ ) دليلا على أن ذلك كذلك ، لأن الكفار الذين عنوا بهذه الآية كانوا لا
يشهدون أن لا إله إلا الله ، فلو كان قوله : ( الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ
) مرادا به الذين لا يشهدون أن لا إله إلا الله لم يكن لقوله : ( وَهُمْ
بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ ) معنى ، لأنه معلوم أن من لا يشهد أن لا إله إلا
الله لا يؤمن بالآخرة ، وفي إتباع الله قوله : ( وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ
كَافِرُونَ ) قوله( الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ ) ما ينبئ عن أن الزكاة في
هذا الموضع معنيّ بها زكاة الأموال.
وقوله : ( وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ ) يقول : وهم بقيام الساعة ، وبعث
الله خلقه أحياء من قبورهم ، من بعد بلائهم وفنائهم منكرون.
القول في تأويل قوله تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ
لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (8) قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي
خَلَقَ الأرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ
الْعَالَمِينَ (9) }
يقول تعالى ذكره : إن الذين صدقوا الله ورسوله ، وعملوا بما أمرهم الله به ورسوله
، وانتهوا عما نهاهم عنه ، وذلك هو الصالحات من الأعمال.( لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ
مَمْنُونٍ )يقول : لمن فعل ذلك أجر غير منقوص عما وعدهم أن
(21/431)
يأجرهم عليه.
وقد اختلف في تأويل ذلك أهل التأويل ، وقد بيَّناه فيما مضى بما أغنى عن إعادته في
هذا الموضع. وقد :
حدثنا محمد بن الحسين ، قال : ثنا أحمد بن المفضل ، قال : ثنا أسباط ، عن السديّ(
لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ ) قال بعضهم : غير منقوص. وقال بعضهم : غير ممنون
عليهم.
حدثني عليّ ، قال : ثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ،
قوله : ( أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ ) يقول : غير منقوص.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث ، قال :
ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، قوله : ( لَهُمْ أَجْرٌ
غَيْرُ مَمْنُونٍ ) قال : محسوب.
وقوله : ( أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأرْضَ فِي يَوْمَيْنِ )
وذلك يوم الأحد ويوم الاثنين; وبذلك جاءت الأخبار عن رسول الله صَلَّى الله
عَلَيْهِ وَسَلَّم وقالته العلماء ، وقد ذكرنا كثيرا من ذلك فيما مضى قبل ، ونذكر
بعض ما لم نذكره قبل إن شاء الله.
* ذكر بعض ما لم نذكره فيما مضى من الأخبار بذلك :
حدثنا هناد بن السري ، قال : ثنا أبو بكر بن عياش ، عن أبي سعيد البقال ، عن عكرمة
، عن ابن عباس ، قال هناد : قرأت سائر الحديث على أبي بكر " أن اليهود أتت
النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم فسألته عن خلق السموات والأرض ، قال :
" خَلَقَ اللهُ الأرْضَ يَوْمَ الأحَد وَالاثْنَيْنِ ، وَخَلَقَ الجِبَالَ
يَوْمَ الثُّلاثَاءِ وَما فِيهِنَّ مِنْ مَنَافِعَ ، وَخَلَقَ يَوْمَ الأرْبَعاء
الشَّجَرَ وَالمَاءَ وَالمَدَائِنَ وَالعُمْرَانَ والخَرَابَ ، فَهَذِهِ أرْبَعَةٌ
، ثُمَّ قال : أئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأرْضَ فِي يَوْمَيْنِ
، وَتَجْعَلُونَ لَهُ أنْدَادًا ، ذلك رَبُّ العَالَمِينَ ، وَجَعَلَ فِيهَا
رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِها
(21/432)
وَبَارَكَ فِيها ، وَقَدَّرَ فِيها
أقْوَاتَهَا في أرْبَعَةِ أيَّامٍ سَوَاءً للسَّائِلِينَ لِمَنْ سأل. قالَ :
وَخَلَقَ يَوْمَ الخَمِيسِ السَّمَاءَ ، وَخَلَقَ يَوْمَ الجُمْعَةِ النُّجُومَ
والشَّمْسَ وَالقَمَرَ وَالمَلائِكَةَ إلَى ثَلاثِ سَاعَاتٍ بَقِيَتْ مِنْهُ
فَخَلَقَ فِي أَوَّلِ سَاعَةٍ مِنْ هَذِهِ الثَّلاثَةِ الآجَالِ حِينَ يَمُوتُ
مَنْ مَاتَ ، وفِي الثَّانِيَةِ ألْقَى الآفَةَ على كُلِّ شَيْءٍ مِمَّا
يَنْتَفِعُ بِهِ النَّاسُ ، وَفِي الثَّالِثَةِ آدَمَ وَأَسْكَنَهُ الجَنَّةَ ،
وَأَمَرَ إبْلِيسَ بالسُّجُودِ لَهُ ، وَأَخْرَجَهُ مِنْهَا فِي آخِرِ سَاعَةٍ
" قالت اليهود : ثم ماذا يا محمد ؟ قال : " ثُمَّ اسْتَوَى على العَرْشِ
" ، قالوا : قد أصبت لو أتممت ، قالوا : ثم استراح; فغضب النبيّ صَلَّى الله
عَلَيْهِ وَسَلَّم غضبا شديدا ، فنزل : ( وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ
وَالأرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوب فَاصْبِرْ
عَلَى مَا يَقُولُونَ ) .
حدثنا تميم بن المنتصر ، قال : أخبرنا إسحاق ، عن شريك ، عن غالب بن غلاب ، عن
عطاء بن أبي رباح ، عن ابن عباس ، قال : إن الله خلق يوما واحدا فسماه الأحد ، ثم
خلق ثانيا فسماه الإثنين ، ثم خلق ثالثا فسماه الثلاثاء ، ثم خلق رابعا فسماه
الأربعاء ، ثم خلق خامسا فسماه الخميس; قال : فخلق الأرض في يومين : الأحد
والاثنين ، وخلق الجبال يوم الثلاثاء ، فذلك قول الناس : هو يوم ثقيل ، وخلق مواضع
الأنهار والأشجار يوم الأربعاء ، وخلق الطير والوحوش والهوامّ والسباع يوم الخميس
، وخلق الإنسان يوم الجمعة ، ففرغ من خلق كلّ شيء يوم الجمعة.
حدثنا موسى ، قال : ثنا عمرو ، قال : ثنا أسباط ، عن السديّ( خَلَقَ الأرْضَ فِي
يَوْمَيْنِ ) في الأحد والإثنين.
وقد قيل غير ذلك.
وذلك ما حدثني القاسم بن بشر بن معروف والحسين بن علي قالا ثنا حجاج ، عن ابن جريج
، قال أخبرني إسماعيل بن أمية ، عن أيوب بن خالد ، عن عبد الله بن رافع مولى أم
سلمة ، عن أبي هريرة قال : أخذ رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم بيدي فقال
: " خَلَقَ اللهُ التُّرْبَةَ يَوْمَ السَّبْتِ ، وَخَلَقَ فِيها الجِبالَ
يَوْمَ الأحَدِ ، وَخَلَقَ الشَّجَرَ يَوْمَ الاثْنَيْنِ ، وَخَلَقَ المَكْرُوهَ
يَوْمَ الثُّلاثَاءِ ،
(21/433)
وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ (10) ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ (11)
وَخَلَقَ النُّورَ يَوْمَ الأرْبَعَاءِ
، وَبَثَّ فِيهَا الدَّوَابّ يوم الخَمِيسِ ، وَخَلَقَ آدَمَ بَعْدَ العَصْرِ
يَوْمَ الجُمُعَةِ آخِرِ خَلْق في آخِرِ سَاعَةٍ مِنْ ساعاتِ الجُمُعَةِ فِيمَا
بَيْنَ العَصْرِ إلى اللَّيْلِ " .
وقوله : ( وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ) يقول : وتجعلون لمن خلق ذلك كذلك
أندادا ، وهم الأكفاء من الرجال تطيعونهم في معاصي الله ، وقد بيَّنا معنى الندّ
بشواهده فيما مضى قبل.
وقوله : ( ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ ) يقول : الذي فعل هذا الفعل ، وخلق الأرض
في يومين ، مالك جميع الجن والإنس ، وسائر أجناس الخلق ، وكل ما دونه مملوك له ،
فكيف يجوز أن يكون له ندّ ؟! هل يكون المملوك العاجز الذي لا يقدر على شيء ندّا
لمالكه القادر عليه ؟.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا
وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً
لِلسَّائِلِينَ (10) ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ
لَهَا وَلِلأرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ
(11) }
يقول تعالى ذكره : وجعل في الأرض التي خلق في يومين جبالا رواسي ، وهي الثوابت في
الأرض من فوقها ، يعني : من فوق الأرض على ظهرها.
وقوله : ( وَبَارَكَ فِيهَا ) يقول : وبارك في الأرض فجعلها دائمة الخير لأهلها.
وقد ذُكر عن السديّ في ذلك ما حدثنا موسى ، قال : ثنا عمرو ، قال : ثنا أسباط ، عن
السديّ : ( وَبَارَكَ فِيهَا ) قال : أنبت شجرها.( وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا
)
(21/434)
اختلف أهل التأويل في ذلك ، فقال بعضهم
: وقدر فيها أقوات أهلها بمعنى أرزاقهم ومعايشهم.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن الحسن( وَقَدَّرَ فِيهَا
أَقْوَاتَهَا ) قال : أرزاقها.
حدثني موسى ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قول الله : (
وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا ) قال : قدر فيها أرزاق العباد ، ذلك الأقوات.
حدثنا موسى ، قال : ثنا عمرو ، قال : ثنا أسباط ، عن السديّ( وَقَدَّرَ فِيهَا
أَقْوَاتَهَا ) يقول : أقواتها لأهلها.
وقال آخرون : بل معناه : وقدر فيها ما يصلحها.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني علي بن سهل ، قال : ثنا الوليد بن مسلم ، عن خليد بن دعلج ، عن قتادة ، قوله
: ( وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا ) قال : صلاحها.
وقال آخرون : بل معنى ذلك : وقدر فيها جبالها وأنهارها وأشجارها.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( وَقَدَّرَ فِيهَا
أَقْوَاتَهَا ) : خلق فيها جبالها وأنهارها وبحارها وشجرها ، وساكنها من الدواب
كلها.
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة( وَقَدَّرَ فِيهَا
أَقْوَاتَهَا ) قال : جبالها ودوابها وأنهارها وبحارها.
وقال آخرون : بل معنى ذلك : وقدر فيها أقواتها من المطر.
(21/435)
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث ، قال :
ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله : (
وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا ) قال : من المطر.
وقال آخرون : بل معنى ذلك : وقدر في كل بلدة منها ما لم يجعله في الآخر منها لمعاش
، بعضهم من بعض بالتجارة من بلدة إلى بلدة.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني الحسين بن محمد الذارع ، قال : ثنا أبو محصن ، قال : ثنا حسين ، عن عكرمة ،
في قوله : ( وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا ) قال : اليمانيّ باليمن ، والسابريّ
بسابور.
حدثني محمد بن عبد الله بن بزيع ، قال : ثنا أبو محصن ، عن حصين ، قال : قال
عكرمة( وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا ) اليمانية باليمن ، والسابرية بسابور ،
وأشباه هذا.
حدثنا أبو كُرَيب ، قال : ثنا ابن إدريس ، قال : سمعت حصينا عن عكرمة في قوله : (
وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا ) قال : في كل أرض قوت لا يصلح في غيرها ، اليماني
باليمن ، والسابري بسابور.
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : ثنا هشيم ، قال : أخبرنا حصين عن عكرمة في قوله :
( وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا ) قال : البلد يكون فيه القوت أو الشيء لا يكون
لغيره ، ألا ترى أن السابري إنما يكون بسابور ، وأن العصب إنما يكون باليمن ونحو
ذلك.
حدثني إسماعيل بن سيف ، قال : ثنا ابن عبد الواحد بن زياد ، عن خصيف ، عن مجاهد ،
في قوله : ( وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا ) قال : السابريّ بسابور ، والطيالسة
من الريّ.
(21/436)
حدثني إسماعيل ، قال : ثنا أبو النضر
صاحب البصري ، قال : ثنا أبو عوانة ، عن مطرف ، عن الضحاك في قوله : ( وَقَدَّرَ
فِيهَا أَقْوَاتَهَا ) قال : السابريّ بسابور ، والطيالسة من الريّ.
فى قوله( وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا ) قال : السابريّ من سابور ، والطيالسة من
الريّ ، والحِبَر من اليمن.
والصواب من القول في ذلك أن يقال : إن الله تعالى أخبر أنه قدّر في الأرض أقوات
أهلها ، وذلك ما يقوتهم من الغذاء ، ويصلحهم من المعاش ، ولم يخصص جلّ ثناؤه
بقوله( وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا ) أنه قَدّر فيها قوتا دون قوت ، بل عم
الخبر عن تقديره فيها جميع الأقوات ، ومما يقوت أهلها ما لا يصلحهم غيره من الغذاء
، وذلك لا يكون إلا بالمطر والتصرّف في البلاد لما خصّ به بعضا دون بعض ، ومما
أخرج من الجبال من الجواهر ، ومن البحر من المآكل والحليّ ، ولا قول في ذلك أصح
مما قال جلّ ثناؤه : قدّر في الأرض أقوات أهلها ، لما وصفنا من العلة.
وقال جلّ ثناؤه : ( فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ ) لما ذكرنا قبل من الخبر الذي روينا
عن ابن عباس ، عن رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم أنه فرغ من خلق الأرض
وجميع أسبابها ومنافعها من الأشجار والماء والمدائن والعمران والخراب في أربعة
أيام ، أوّلهنّ يوم الأحد ، وآخرهن يوم الأربعاء.
حدثني موسى ، قال : ثنا عمرو ، قال : ثنا أسباط ، عن السديّ ، قال : خلق الجبال
فيها وأقوات أهلها وشجرها وما ينبغي لها في يومين ، في الثلاثاء والأربعاء.
وقال بعض نحويي البصرة : قال. خلق الأرض في يومين ، ثم قال في أربعة أيام ، لأنه
يعني أن هذا مع الأول أربعة أيام ، كما تقول : تزوّجت أمس امرأة ، واليوم ثنتين ،
وإحداهما التي تزوّجتها أمس.
وقوله : ( سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ ) اختلف أهل التأويل في تأويله ، فقال بعضهم :
(21/437)
تأويله : سواء لمن سأل عن مبلغ الأجل
الذي خلق الله فيه الأرض ، وجعل فيها الرواسي من فوقها والبركة ، وقدّر فيها
الأقوات بأهلها ، وجَدَهُ كما أخبر الله أربعه أيام لا يزدن على ذلك ولا ينقصن
منه.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ
) من سأل عن ذلك وجده ، كما قال الله.
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة( سَوَاءً
لِلسَّائِلِينَ ) قال : من سأل فهو كما قال الله.
حدثنا موسى بن هارون ، قال : ثنا عمرو ، قال : ثنا أسباط ، عن السديّ( فِي أَرْبَعَةِ
أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ ) يقول : من سأل فهكذا الأمر.
وقال آخرون : بل معنى ذلك : سواء لمن سأل ربه شيئا مما به الحاجة إليه من الرزق ،
فإن الله قد قدّر له من الأقوات في الأرض ، على قدر مسألة كل سائل منهم لو سأله
لما نفذ من علمه فيهم قبل أن يخلقهم.
*ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد في قوله( سَوَاءً
لِلسَّائِلِينَ ) قال : قدّر ذلك على قدر مسائلهم ، يعلم ذلك أنه لا يكون من
مسائلهم شيء إلا شيء قد علمه قبل أن يكون. واختلفت القراء في قراءة ذلك. فقرأته
عامة قراء الأمصار غير أبي جعفر والحسن البصري : ( سَوَاءً ) بالنصب. وقرأه أبو
جعفر القارئ : " سَوَاءٌ " بالرفع. وقرأ الحسن : " سَوَاءٍ "
بالجر.
والصواب من القراءة في ذلك ما عليه قراء الأمصار ، وذلك قراءته بالنصب لإجماع
الحجة من القراء عليه ، ولصحة معناه. وذلك أن معنى الكلام : قدر فيها أقواتها سواء
لسائليها على ما بهم إليه الحاجة ، وعلى ما يصلحهم.
(21/438)
وقد ذُكر عن ابن مسعود أنه كان يقرأ
ذلك : " وَقَسَّمَ فِيهَا أقْوَاتَهَا " .
وقد اختلف أهل العربية في وجه نصب سواءً ، فقال بعض نحويي البصرة : من نصبه جعله
مصدرا ، كأنه قال : استواء. قال : وقد قرئ بالجر وجعل اسما للمستويات : أي في
أربعة أيام تامَّة. وقال بعض نحويي الكوفة : من خفض سواء ، جعلها من نعت الأيام ،
وإن شئت من نعت الأربعة ، ومن نصبها جعلها متصلة بالأقوات. قال : وقد ترفع كأنه
ابتداء ، كأنه قال : ذلك( سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ ) يقول : لمن أراد علمه.
والصواب من القول في ذلك أن يكون نصبه إذا نصب حالا من الأقوات ، إذ كانت سواء قد
شبهت بالأسماء النكرة ، فقيل : مررت بقوم سواء ، فصارت تتبع النكرات ، وإذا تبعت
النكرات انقطعت من المعارف فنصبت ، فقيل : مررت بإخوتك سواء ، وقد يجوز أن يكون
إذا لم يدخلها تثنية ولا جمع أن تشبه بالمصادر. وأما إذا رُفعت ، فإنما ترفع
ابتداء بضمير ذلك ونحوه ، وإذا جرت فعلى الاتباع للأيام أو للأربعة.
وقوله : ( ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا
وَلِلأرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ ) يعني
تعالى ذكره : ثم استوى إلى السماء ، ثم ارتفع إلى السماء.
وقد بيَّنا أقوال أهل العلم في ذلك فيما مضى قبل.
وقوله : ( فَقَالَ لَهَا وَلِلأرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا ) يقول جلّ
ثناؤه : فقال الله للسماء والأرض : جيئا بما خلقت فيكما ، أما أنت يا سماء فأطلعي
ما خلقت فيك من الشمس والقمر والنجوم ، وأما أنت يا أرض فأخرجي ما خلقت فيك من
الأشجار والثمار والنبات ، وتشقَّقِي عن الأنهار( قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ )
جئنا بما أحدثت فينا من خلقك ، مستجيبين لأمرك لا نعصي أمرك.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك :
حدثنا أبو هشام ، قال : ثنا ابن يمان ، قال : ثنا سفيان ، عن ابن جريج ،
(21/439)
عن سليمان بن موسى ، عن مجاهد ، عن ابن
عباس ، ( فَقَالَ لَهَا وَلِلأرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا
أَتَيْنَا طَائِعِينَ ) قال : قال الله للسموات : أطلعي شمسي وقمري ، وأطلعي نجومي
، وقال للأرض : شققي أنهارك وأخرجي ثمارك ، فقالتا : أعطينا طائعين.
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : ثنا ابن علية ، عن ابن جريج ، عن سليمان الأحول ،
عن طاوس ، عن ابن عباس ، في قوله( اِئْتِيَا ) : أعطيا. وفي قوله : ( قَالَتَا
أَتَيْنَا ) قالتا : أعطينا.
وقيل : أتينا طائعين ، ولم يقل طائعتين ، والسماء والأرض مؤنثتان ، لأن النون
والألف اللتين هما كناية أسمائهما في قوله( أَتَيْنَا ) نظيره كناية أسماء
المخبرين من الرجال عن أنفسهم ، فأجرى قوله( طَائِعِينَ ) على ما جرى به الخبر عن
الرجال كذلك. وقد كان بعض أهل العربية يقول : ذهب به إلى السموات والأرض ومن
فيهنّ.
وقال آخرون منهم : قيل ذلك كذلك لأنهما لما تكلمتا أشبهتا الذكور من بني آدم.
(21/440)
فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (12)
القول في تأويل قوله تعالى : {
فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا
وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ
الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (12) }
يقول تعالى ذكره : ففرغ من خلقهنّ سبع سموات في يومين ، وذلك يوم الخميس ويوم
الجمعة.
كما حدثني موسى ، قال : ثنا عمرو ، قال : ثنا أسباط ، عن السديّ ، قال : استوى إلى
السماء وهي دخان من تنفس الماء حين تنفس ، فجعلها سماء واحدة ، ففتقها ، فجعلها
سبع سموات في يومين ، في الخميس والجمعة. وإنما سمي يوم الجمعة لأنه جمع فيه خلق
السموات والأرض.
(21/440)
وقوله : ( وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ
أَمْرَهَا ) يقول : وألقى في كل سماء من السموات السبع ما أراد من الخلق.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث ، قال :
ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله : (
وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا ) قال : ما أمر الله به وأراده.
حدثنا موسى ، قال : ثنا عمرو ، قال : ثنا أسباط ، عن السديّ( وَأَوْحَى فِي كُلِّ
سَمَاءٍ أَمْرَهَا ) قال : خلق في كلّ سماء خلقها من الملائكة والخلق الذي فيها من
البحار وجبال البرد ، وما لا يعلم.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( وَأَوْحَى فِي كُلِّ
سَمَاءٍ أَمْرَهَا ) : خلق فيها شمسها وقمرها ونجومها وصلاحها.
وقوله : ( وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ) يقول تعالى
ذكره : وزيَّنا السماء الدنيا إليكم أيها الناس بالكواكب وهي المصابيح.
كما حدثنا موسى ، قال : ثنا عمرو ، قال : ثنا أسباط ، عن السديّ( زَيَّنَّا
السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ ) قال : ثم زين السماء بالكواكب ، فجعلها
زينة( وَحِفْظًا ) من الشياطين.
واختلف أهل العربية في وجه نصبه قوله : ( وَحِفْظًا ) فقال بعض نحويي البصرة : نصب
بمعنى : وحفظناها حفظا ، كأنه قال : ونحفظها حفظا ، لأنه حين قال : "
زَيَّنَّاهَا بِمَصَابِيحَ " قد أخبر أنه قد نظر في أمرها وتعهدها ، فهذا
يدلّ على الحفظ ، كأنه قال : وحفظناها حفظا. وكان بعض نحويي الكوفة يقول : نصب ذلك
على معنى : وحفظا زيناها ، لأن الواو لو سقطت لكان إنا زينا السماء الدنيا حفظا;
وهذا القول الثاني أقرب عندنا للصحة من الأوّل.
(21/441)
فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ (13) إِذْ جَاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ قَالُوا لَوْ شَاءَ رَبُّنَا لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً فَإِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (14)
وقد بيَّنا العلة في نظير ذلك في غير
موضع من هذا الكتاب ، فأغنى ذلك عن إعادته.
وقوله : ( ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ ) يقول تعالى ذكره : هذا الذي
وصفت لكم من خلقي السماء والأرض وما فيهما ، وتزييني السماء الدنيا بزينة الكواكب
، على ما بينت تقدير العزيز في نقمته من أعدائه ، العليم بسرائر عباده وعلانيتهم ،
وتدبيرهم على ما فيه صلاحهم.
القول في تأويل قوله تعالى : { فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً
مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ (13) إِذْ جَاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ
أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلا تَعْبُدُوا إِلا اللَّهَ قَالُوا لَوْ شَاءَ
رَبُّنَا لأنزلَ مَلائِكَةً فَإِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (14) }
يقول تعالى ذكره : فإن أعرض هؤلاء المشركون عن هذه الحجة التي بيَّنتها لهم يا
محمد ، ونبهتهم عليها فلم يؤمنوا بها ولم يقروا أن فاعل ذلك هو الله الذي لا إله
غيره ، فقل لهم : أنذرتكم أيها الناس صاعقة تهلككم مثل صاعقة عاد وثمود.
وقد بيَّنا فيما مضى أن معنى الصاعقة : كلّ ما أفسد الشيء وغيره عن هيئته. وقيل في
هذا الموضع عنى بها وقيعة من الله وعذاب.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، في قوله : ( صَاعِقَةً
مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ ) قال : يقول : أنذرتكم وقيعة عاد وثمود ، قال :
عذاب مثل عذاب عاد وثمود.
وقوله : ( إِذْ جَاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ
) يقول : فقل : أنذرتكم صاعقة مثل صاعقه عاد وثمود التي أهلكتهم ، إذ جاءت عادا
وثمود
(21/442)
فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآَيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (15)
الرسل من بين أيديهم; فقوله " إذ
" من صلة صاعقة. وعنى بقوله : ( مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ ) الرسل التي أتت
آباء الذين هلكوا بالصاعقة من هاتين الأمتين.
وعنى بقوله : ( وَمِنْ خَلْفِهِمْ ) : من خلف الرسل الذين بعثوا إلى آبائهم رسلا
إليهم ، وذلك أن الله بعث إلى عاد هودا ، فكذبوه من بعد رسل قد كانت تقدمته إلى
آبائهم أيضا ، فكذبوهم ، فأهلكوا.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ،
عن ابن عباس ، قوله : ( فَإِنْ أَعْرَضُوا )... إلى قوله : ( وَمِنْ خَلْفِهِمْ )
قال : الرسل التي كانت قبل هود ، والرسل الذين كانوا بعده ، بعث الله قبله رسلا
وبعث من بعده رسلا.
وقوله : ( أَلا تَعْبُدُوا إِلا اللَّهَ ) يقول تعالى ذكره : جاءتهم الرسل بأن لا
تعبدوا إلا الله وحده لا شريك له.
قالوا : ( لَوْ شَاءَ رَبُّنَا لأنزلَ مَلائِكَةً ) يقول جل ثناؤه : فقالوا لرسلهم
إذ دعوهم إلى الإقرار بتوحيد الله : لو شاء ربنا أن نوحده ، ولا نعبد من دونه شيئا
غيره ، لأنزل إلينا ملائكة من السماء رسلا بما تدعوننا أنتم إليه ، ولم يرسلكم
وأنتم بشر مثلنا ، ولكنه رضي عبادتنا ما نعبد ، فلذلك لم يرسل إلينا بالنهي عن ذلك
ملائكة.
وقوله : ( فَإِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ ) يقول : قال لرسلهم :
فإنا بالذي أرسلكم به ربكم إلينا جاحدون غير مصدّقين به.
القول في تأويل قوله تعالى : { فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الأرْضِ
بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ
اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا
يَجْحَدُونَ (15) }
(21/443)
فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآَخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لَا يُنْصَرُونَ (16)
يقول تعالى ذكره : ( فَأَمَّا عَادٌ )
قوم هود( فَاسْتَكْبَرُوا ) على ربهم وتجبروا( فِي الأرْضِ ) تكبرا وعتوّا بغير ما
أذن الله لهم به( وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ
اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ ) وأعطاهم ما أعطاهم من عظم الخلق ، وشدة البطش( هُوَ
أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً ) فيحذروا عقابه ، ويتقوا سطوته لكفرهم به ، وتكذيبهم
رسله. يقول : وكانوا بأدلتنا وحججنا عليهم يجحدون.
القول في تأويل قوله تعالى : { فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي
أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا
وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لا يُنْصَرُونَ (16) }
يقول تعالى ذكره : فأرسلنا على عاد ريحا صرصرا.
واختلف أهل التأويل في معنى الصرصر ، فقال بعضهم : عني بذلك أنها ريح شديدة.
* ذكر من قال ذلك.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن
مجاهد ، قوله( رِيحًا صَرْصَرًا ) قال : شديدة.
حدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد(
رِيحًا صَرْصَرًا ) شديدة السَّموم عليهم.
وقال آخرون : بل عنى بها أنها باردة.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( فَأَرْسَلْنَا
عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا ) قال : الصرصر : الباردة.
(21/444)
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن
ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، في قوله : ( رِيحًا صَرْصَرًا ) قال : باردة.
حدثنا محمد بن الحسين ، قال : ثنا أحمد ، قال : ثنا أسباط ، عن السديّ( رِيحًا
صَرْصَرًا ) قال : باردة ذات الصوت.
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : ثنا عبيد ، قال : سمعت. الضحاك يقول
، في قوله : ( رِيحًا صَرْصَرًا ) يقول : ريحا فيها برد شديد.
وأولى القولين في ذلك بالصواب قول مجاهد ، وذلك أن قوله : ( صَرْصَرًا ) إنما هو
صوت الريح إذا هبت بشدة ، فسمع لها كقول القائل : صرر ، ثم جعل ذلك من أجل التضعيف
الذي في الراء ، فقال ثم أبدلت إحدى الراءات صادا لكثرة الراءات ، كما قيل في ردده
: ردرده ، وفي نههه : نهنهه ، كما قال رؤبة?
فالْيَوْمَ قَدْ تُنَهْنِهُني... وَأَوَّلُ حِلْمٍ لَيْسَ بِالْمُسَفَّهِ (1)
وكما قيل في كففه : كفكفه ، كما قال النابغة?
أُكَفكِفُ عَبْرَةً غَلَبَتْ عُدَاتِي... إذَا نَهْنَهْتُهَا عادَت ذُباحا (2)
وقد قيل : إن النهر الذي يسمى صرصرا ، إنما سمي بذلك لصوت الماء الجاري فيه ، وإنه
" فعلل " من صرر نظير الريح الصرصر.
__________
(1) البيتان في ديوانه ( طبع ليبسج 166 ) وهما أل ( 19 ، 20 ) ونهنهني زجرني وكفنى
. يقول هذا بعد أن كبر وضعف . والأول : الرجوع . والحلم العقل . والسفه : المنسوب
إلى السفه . يقول : كنت أستجيب لدواعي الصبا ما دمت شابا ، أما اليوم وقد علتني
كبرة ، ورجع إلى ما عزب من عقلي ، فقد كفني عن الطيش حلمي وعقلى ، فلا أفعل ما كنت
أفعل في الشباب .
(2) نسب المؤلف البيت إلى النابغة ، ولم أجده في الديوان ولا في شروحه المختلفة .
ومعنى أكفكف العبرة : أردها . وقوله غلبت عداتي : أي أنهم كانوا حراصا على أن أبكي
بما يسيئون إلى ، فغلبتهم عبرتي التي حبستها ، ونهنهتها : كففتها ورددتها . وذباحا
: ذبحا . ذبحا . يريد أنه حبس عبرته ، وكان حبسها كالذبح من شدة الألم لأن البكاء
يخفف ما يضطرم في النفس من ألم وغيظ ونحوه . والبيت عند المؤلف شاهد على أن كفكف
ونهنه وصرصر ونحوها من الفعل الرباعي المضعف : أصلها : كفف ونهه وصرر ، فلما اجتمع
فيه ثلاث أحرف أمثال ، أبدلت إحدى الراءات من نوع فاء الكلمة . وهذا مذهب لبعض
النحويين الكوفيين ، والله أعلم .
(21/445)
وقوله : ( فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ )
اختلف أهل التأويل في تأويل النحسات ، فقال بعضهم : عني بها المتتابعات.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ،
عن ابن عباس ، قوله : ( فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ ) قال : أيام متتابعات أنزل الله
فيهن العذاب.
وقال آخرون : عني بذلك المشائيم.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث ، قال :
ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : (
أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ ) قال : مشائيم.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ
) أيام والله كانت مشئومات على القوم.
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، قال : النحسات :
المشئومات النكدات.
حدثنا محمد بن الحسين ، قال : ثنا أحمد بن المفضل ، قال : ثنا أسباط ، عن السديّ(
فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ ) قال : أيام مشئومات عليهم.
وقال آخرون : معنى ذلك : أيام ذات شر.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد قوله : ( أَيَّامٍ
نَحِسَاتٍ ) قال : النحس : الشر; أرسل عليهم ريح شر ليس فيها من الخير شيء.
وقال آخرون : النحسات : الشداد.
(21/446)
* ذكر من قال ذلك :
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : ثنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول(
فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ ) قال : شداد.
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال عنى بها : أيام مشائيم ذات نحوس ، لأن
ذلك هو المعروف من معنى النحس في كلام العرب.
وقد اختلفت القرّاء في قراءة ذلك ، فقراته عامة قراء الأمصار غير نافع وأبي عمرو(
فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ ) بكسر الحاء ، وقرأه نافع وأبو عمرو : " نَحْسَاتٍ
" بسكون الحاء. وكان أبو عمرو فيما ذكر لنا عنه يحتج لتسكينه الحاء بقوله : (
يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ ) وأن الحاء فيه ساكنة.
والصواب من القول في ذلك أن يقال : إنهما قراءتان مشهورتان ، قد قرأ بكل واحدة
منهما قرّاء علماء مع اتفاق معنييهما ، وذلك أن تحريك الحاء وتسكينها في ذلك لغتان
معروفتان ، يقال هذا يوم نحْس ، ويوم نَحِس ، بكسر الحاء وسكونها; قال الفرّاء :
أنشدني بعض العرب?
أبْلِغْ جُذَاما وَلَخْما أنَّ إخْوَتَهُمْ... طَيَّا وَبَهْرَاءَ قَوْمٌ
نَصْرُهُمْ نَحِسُ (1)
وأما من السكون فقول الله( يَوْمِ نَحْسٍ ); منه قول الراجز?
يَوْمَيْنِ غَيْمَيْنِ وَيَوْما شَمْسا... نَجْمَيْنِ بالسَّعْدِ وَنَجْما نَحْسا
(2)
__________
(1) البيت من شواهد الفراء في معاني القرآن ( الورقة 289 ) عند قوله تعالى :
" في أيام نحسات " . قال : العوام على تثقيلها بكسر الحاء . وقد خفف بعض
أهل المدينة ( بسكون الحاء ) . قال وقد سمعت بعض العرب ينشد : " أبلغ جذاما
... البيت " فهذا لمن ثقل . ومن خفف بناه على قوله " في يوم نحس مستمر
" وفي ( اللسان : نحس ) وقرأ أبو عمرو : " فأرسلنا عليهم ريحا صرصرا في
أيام نحسات " بسكون الحاء . قال الأزهري : هي جمع أيام نحسة ثم جمع الجمع (
بسكون الحاء فيهما) . وقرأت في أيام نحسات ( بكسر الحاء ) وهي المشؤمات عليهم في
الوجهين . ا هـ .
(2) البيتان من مشطور الرجز ، ولم نعرف قائلهما . واستشهد المؤلف بهما على أن
النحس فيه لغتان : سكون الحاء ، كهذا البيت وكسرها كالشاهد الذي قبله . وعلى هاتين
اللغتين جاءت قراءة من قرأ قوله تعالى : " في أيام نحسات " وقد سبق
القول عليه في الشاهد السابق .
(21/447)
وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (17) وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (18)
فمن كان في لغته : " يوْمٌ نَحْسٌ
" قال : " في أيَّامٍ نَحْساتٍ " ، ومن كان في لغته : ( يَوْمِ
نَحْسٍ ) قال : ( فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ ) ، وقد قال بعضهم : النحْس بسكون الحاء
: هو الشؤم نفسه ، وإن إضافة اليوم إلى النحس ، إنما هو إضافة إلى الشوم ، وإن
النحِس بكسر الحاء نعت لليوم بأنه مشئوم ، ولذلك قيل : ( فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ )
لأنها أيام مشائيم.
وقوله : ( لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ) يقول جل
ثناؤه : ولعذابنا إياهم في الآخرة أخزى لهم وأشد إهانة وإذلالا. يقول : وهم يعني
عادا لا ينصرهم من الله يوم القيامة إذا عذبهم ناصر ، فينقذهم منه ، أو ينتصر لهم.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا
الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا
كَانُوا يَكْسِبُونَ (17) وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ
(18) }
يقول تعالى ذكره : فبينا لهم سبيل الحق وطريق الرشد.
كما حدثني عليّ ، قال : ثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس
، قوله : ( وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ ) : أي بيَّنا لهم.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( وَأَمَّا ثَمُودُ
فَهَدَيْنَاهُمْ ) بينا لهم سبيل الخير والشرّ.
حدثنا محمد ، قال : ثنا أحمد ، قال : ثنا أسباط ، عن السديّ( وَأَمَّا ثَمُودُ
فَهَدَيْنَاهُمْ ) بينا لهم.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : ( وَأَمَّا
ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ ) قال : أعلمناهم الهدى والضلالة ، ونهيناهم أن يتبعوا
الضلالة ، وأمرناهم أن يتبعوا الهدى.
(21/448)
وقد اختلفت القرّاء في قراءة قوله : (
ثَمُودُ ) فقرأته عامة القراء من الأمصار غير الأعمش وعبد الله بن أبي إسحاق برفع
ثمود ، وترك إجرائها على أنها اسم للأمة التي تعرف بذلك. وأما الأعمش فإنه ذكر عنه
أنه كان يجري ذلك في القرآن كله إلا في قوله : ( وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ
مُبْصِرَةً ) فإنه كان لا يجريه في هذا الموضع خاصة من أجل أنه في خطّ المصحف في
هذا الموضع بغير ألف ، وكان يوجه ثمود إلى أنه اسم رجل بعينه معروف ، أو اسم جيل
معروف. وأما ابن إسحاق فإنه كان يقرؤه نصبا. وأما ثمود بغير إجراء ، وذلك وإن كان
له في العربية وجه معروف ، فإن أفصحَ منه وأصحّ في الإعراب عند أهل العربية الرفع
لطلب أما الأسماء وأن الأفعال لا تليها ، وإنما تعمل العرب الأفعال التي بعد الأسماء
فيها إذا حسن تقديمها قبلها والفعل في أما لا يحسن تقديمه قبل الاسم; ألا ترى أنه
لا يقال : وأما هدينا فثمود ، كما يقال : ( وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ ).
والصواب من القراءة في ذلك عندنا الرفع وترك الإجراء; أما الرفع فلما وصفت ، وأما
ترك الإجراء فلأنه اسم للأمة.
وقوله : ( فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى ) يقول : فاختاروا العمى على
البيان الذي بينت لهم ، والهدى الذي عرفتهم ، بأخذهم طريق الضلال على الهدى ، يعني
على البيان الذي بينه لهم ، من توحيد الله.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد ، قال : ثنا أحمد ، قال : ثنا أسباط. عن السديّ( فَاسْتَحَبُّوا
الْعَمَى عَلَى الْهُدَى ) قال : اختاروا الضلالة والعمى على الهدى.
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ،
عن ابن عباس ، قوله : ( وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى
عَلَى الْهُدَى ) قال : أرسل الله إليهم الرسل بالهدى فاستحبوا العمى على الهدى.
(21/449)
وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (19) حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (20)
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن
ثور ، عن معمر ، عن قتادة( فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى ) يقول : بينا لهم ، فاستحبوا
العمى على الهدى.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : (
فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى ) قال : استحبوا الضلالة على الهدى ، وقرأ
: و( كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ )... إلى آخر الآية ، قال :
فزين لثمود عملها القبيح ، وقرأ : ( أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ
حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ )... إلى آخر الآية.
وقوله : ( فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا
يَكْسِبُونَ ) يقول : فأهلكتهم من العذاب المذل المهين لهم مهلكة أذلتهم وأخزتهم;
والهون : هو الهوان.
كما حدثنا محمد ، قال : ثنا أحمد ، قال : ثنا أسباط ، عن السديّ( عَذَابَ الْهُونِ
) قال : الهوان.
وقوله : ( بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ) من الآثام بكفرهم بالله قبل ذلك ، وخلافهم
إياه ، وتكذيبهم رسله.
وقوله : ( وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا ) يقول : ونجينا الذين آمنوا من العذاب
الذي أخذهم بكفرهم بالله ، الذين وحدوا الله ، وصدقوا رسله.
يقول : وكانوا يخافون الله أن يحل بهم من العقوبة على كفرهم لو كفروا ما حل بالذين
هلكوا منهم ، فآمنوا اتقاء الله وخوف وعيده ، وصدقوا رسله ، وخلعوا الآلهة
والأنداد.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى
النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (19) حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ
سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (20) }
(21/450)
يقول تعالى ذكره : ويوم يجمع هؤلاء
المشركون أعداء الله إلى النار ، إلى نار جهنم ، فهم يحبس أولهم على آخرهم.
كما حدثنا محمد ، قال : ثنا أحمد ، قال : ثنا أسباط ، عن السديّ( فَهُمْ
يُوزَعُونَ ) قال : يحبس أوّلهم على آخرهم.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( فَهُمْ يُوزَعُونَ ) قال
: عليهم وزعة تردّ أولاهم على أُخراهم.
وقوله : ( حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ
وَأَبْصَارُهُمْ ) يقول : حتى إذا ما جاءوا النار شهد عليهم سمعهم بما كانوا يصغون
به في الدنيا إليه ، ويسمعون له ، وأبصارهم بما كانوا ينظرون إليه في الدنيا(
وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ).
وقد قيل : عني بالجلود في هذا الموضع : الفروج.
* ذكر من قال ذلك.
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا يعقوب القمي ، عن الحكم الثقفي ، رجل من آل أبي عقيل
رفع الحديث ، ( وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا ) إنما عني فروجهم
، ولكن كني عنها.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : ثنا حرملة ، أنه سمع عبيد الله بن أبي
جعفر ، يقول( حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ
وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ ) قال : جلودهم : الفروج.
وهذا القول الذي ذكرناه عمن ذكرنا عنه في معنى الجلود ، وإن كان معنى يحتمله
التأويل ، فليس بالأغلب على معنى الجلود ولا بالأشهر ، وغير جائز نقل معنى ذلك
المعروف على الشيء الأقرب إلى غيره إلا بحجة يجب التسليم لها.
(21/451)
وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (21) وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ (22)
القول في تأويل قوله تعالى : { وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ
(21/451)
عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ
الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ
تُرْجَعُونَ (21) وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ
سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصَارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ
اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ (22) }
يقول تعالى ذكره : وقال هؤلاء الذين يحشرون إلى النار من أعداء الله سبحانه
لجلودهم إذ شهدت عليهم بما كانوا في الدنيا يعملون : لم شهدتم علينا بما كنا نعمل
في الدنيا ؟.
فأجابتهم جلودهم : ( أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ ) فنطقنا;
وذكر أن هذه الجوارح تشهد على أهلها عند استشهاد الله إياها عليهم إذا هم أنكروا
الأفعال التي كانوا فعلوها في الدنيا بما سخط الله ، وبذلك جاء الخبر عن رسول الله
صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم.
* ذكر الأخبار التي رُويت عن رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم :
حدثنا أحمد بن حازم الغفاريّ ، قال : أخبرنا عليّ بن قادم الفزاري ، قال : أخبرنا
شريك ، عن عبيد المُكْتِب ، عن الشعبيّ ، عن أنس ، قال : ضحك رسول الله صَلَّى
الله عَلَيْهِ وَسَلَّم ذات يوم حتى بدت نواجذه ، ثم قال : " ألا
تَسْأَلُونِي ممَّ ضَحِكْتُ ؟ " قالوا : ممّ ضحكتَ يا رسول الله ؟ قال :
" عَجِبْتُ مِنْ مُجَادَلَةِ العَبْدِ رَبَّهُ يَوْمَ القِيَامَةِ! قال :
يقُولُ : يا رَبّ ألَيْسَ وَعَدْتَنِي أنْ لا تَظْلِمَنِي ؟ قالَ : فإنَّ لكَ ذلكَ
، قال : فإنّي لا أقْبَلُ عليَّ شاهدًا إلا مِنْ نَفْسِي ، قالَ : أوَلَيْس كفَى
بِي شَهِيدًا ، وَبالمَلائِكَةِ الكرَام الكاتبين ؟ قالَ فَيُخْتمُ عَلى فِيه ،
وَتَتَكَلَّمُ أرْكانُهُ بِمَا كانَ يَعْمَلُ ، قالَ : فَيَقُولُ لَهُنَّ :
بُعْدًا لَكُنَّ وسُحْقنا ، عَنْكُنَّ كُنْتُ أُجادِلُ " .
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا مهران ، عن سفيان ، عن عبيد المكتب ، عن فضيل بن عمرو
، عن الشعبي ، عن أنس ، عن النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم بنحوه.
(21/452)
حدثني عباس بن أبي طالب ، قال : ثنا
يحيى بن أبي بكر ، عن شبل ، قال : سمعت أبا قزعة يحدّث عمرو بن دينار ، عن حكيم بن
معاوية ، عن أبيه ، عن النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم أنه قال ، وأشار بيده
إلى الشأم ، قال : " هاهُنا إلى هاهُنا تحْشَرُونَ رُكْبانا وَمُشاةً على
وُجُوهِكُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ ، على أفْوَاهِكُمْ الفِدامُ ، تُوَقُّونَ
سَبْعِينَ أُمَّةً أنْتُمْ آخِرُها وأكْرَمُها على الله ، وإن أوَّلَ ما يُعْرِبُ
مِنْ أحَدِكُمْ فَخِذُهُ " .
حدثنا مجاهد بن موسى ، قال : ثنا يزيد ، قال : أخبرنا الحريري ، عن حكيم بن معاوية
، عن أبيه عن النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم قال : وتَجِيئُونَ يَوْمَ
القِيَامَةِ على أفْوَاهِكُمْ الفِدامُ ، وإنَّ أوَّلَ ما يَتَكَلَّمُ مِنَ
الآدَمِيّ فَخِذُهُ وكَفُّهُ " .
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : ثنا ابن علية ، عن بمز بن حكيم ، عن أبيه ، عن جده
، قال : قال رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم " ما لي أُمْسكُ
بحُجَزِكُمْ مِنَ النَّارِ ؟ ألا إن رَبِّي داعيَّ وإنَّهُ سائِلي هَلْ بَلَّغْت
عِبادَهُ ؟ وإنّي قائِلٌ : رَبّ قَدْ بَلَّغْتُهُمْ ، فَيُبَلِّغَ شاهدُكُمْ
غائِبَكُمْ ، ثُمَّ إنَّكُمْ مُدَّعُونَ مُفَدَّمَةً أفْوَاهُكُمْ بالفِدامِ ،
ثُمَّ إنَّ أوَّل ما يُبِينُ عَنْ أَحْدِكَمْ لفَخِذُهُ وكَفُّهُ " .
حدثني محمد بن خلف ، قال : ثنا الهيثم بن خارجة ، عن إسماعيل بن عياش ، عن ضمضم بن
زُرْعة ، عن شريح بن عبيد ، عن عقبة ، سمع النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم
يقول : " إنَّ أوَّل عَظْمٍ تَكَلَّمَ مِنَ الإنْسانِ يَوْمَ يخْتَمُ على
الأفْوَاهِ فَخِذُه ُمِنَ الرِّجْل الشمال " .
وقوله : ( وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ ) يقول تعالى ذكره : والله خلقكم
الخلق الأول ولم تكونوا شيئا. يقول : وإليه مصيركم من بعد مماتكم.( وَمَا كُنْتُمْ
تَسْتَتِرُونَ ) في الدنيا( أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ ) يوم القيامة( سَمْعُكُمْ
وَلا أَبْصَارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ ).
واختلف أهل التأويل في معنى قوله : ( وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ ) ، فقال بعضهم
: معناه : وما كنتم تستخفون.
(21/453)
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن الحسين ، قال : ثنا أحمد بن المفضل ، قال : ثنا أسباط ، عن السديّ(
وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ ) : أي تَسْتَخْفُونَ منها.
وقال آخرون : معناه : وما كنتم تتقون.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ثنا عيسى; وحدثني الحارث ، قال : ثنا
الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : ( وَمَا
كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ ) قال : تتقون.
وقال آخرون : بل معنى ذلك : وما كنتم تظنون.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( وَمَا كُنْتُمْ
تَسْتَتِرُونَ ) يقول : وما كنتم تظنون( أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا
أَبْصَارُكُمْ ) حتى بلغ( كَثِيرًا مِمَّا ) كنتم (1) ( تَعْمَلُونَ ) ، والله إن
عليك يا ابن آدم لشهودا غير متهمة من بدنك ، فراقبهم واتق الله في سر أمرك
وعلانيتك ، فإنه لا يخفي عليه خافية ، الظلمة عنده ضوء ، والسر عنده علانية ، فمن
استطاع أن يموت وهو بالله حسن الظنّ فليفعل ، ولا قوّة إلا بالله.
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال : معنى ذلك : وما كنتم تَستَخْفُون ،
فتتركوا ركوب محارم الله في الدنيا حذرا أن يشهد عليكم سمعكم وأبصاركم اليوم.
وإنما قلنا ذلك أولى الأقوال في ذلك بالصواب ، لأن المعروف من معاني الاستتار
الاستخفاء.
__________
(1) الظاهر أن لفظة " كنتم " زيدت سهوًا من المؤلف في الموضعين.
(21/454)
فإن قال قائل : وكيف يستخفي الإنسان عن
نفسه مما يأتي ؟ قيل : قد بيَّنا أن معنى ذلك إنما هو الأماني ، وفي تركه إتيانه
إخفاؤه عن نفسه.
وقوله : ( وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا كنتم
(1) تَعْمَلُونَ ) يقول جلّ ثناؤه : ولكن حسبتم حين ركبتم في الدنيا من معاصي الله
أن الله لا يعلم كثيرا مما تعملون من أعمالكم الخبيثة ، فلذلك لم تستتروا أن يشهد
عليكم سمعكم وأبصاركم وجلودكم ، فتتركوا ركوب ما حرّم الله عليكم.
وذُكر أن هذه الآية نزلت من أجل نفر تدارَءُوا بينهم في علم الله بما يقولونه
ويتكلمون سرًا.
* ذكر الخبر بذلك.
حدثني ابن يحيى القطعي ، قال : ثنا أبو داود ، قال : ثنا قيس ، عن منصور ، عن
مجاهد ، عن أبي معمر الأزدي ، عن عبد الله بن مسعود ، قال : كنت مستترا بأستار
الكعبة ، فدخل ثلاثة نفر ، ثَقَفيان وقُرشيّ ، أو قُرشيان وثَقَفي ، كثير شحوم
بطونهما ، قليل فقه قلوبهما ، فتكلموا بكلام لم أفهمه ، فقال أحدهم : أترون أن
الله يسمع ما نقول ؟ فقال الرجلان : إذا رفعنا أصواتنا سمع ، وإذا لم نرفع لم يسمع
، فأتيت رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم ، فذكرت له ذلك ، فنزلت هذه
الآية : ( وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا
أَبْصَارُكُمْ )... إلى آخر الآية.
حدثنا محمد بن بشار ، قال : ثنا يحيى بن سعيد ، قال : ثنا سفيان ، قال : ثني
الأعمش ، عن عمارة بن عمير ، عن وهب بن ربيعة ، عن عبد الله بن مسعود ، قال : إني
لمستتر بأستار الكعبة ، إذ دخل ثلاثة نفر ، ثقفي وختناه قرشيان ، قليل فقه قلوبهما
، كثير شحوم بطونهما ، فتحدثوا بينهم بحديث ، فقال أحدهم : أترى الله يسمع ما قلنا
؟ فقال الآخر : إنه يسمع إذا رفعنا ، ولا يسمع إذا خفضنا. وقال الآخر : إذا كان
يسمع منه شيئا فهو يسمعه كله ، قال : فأتيت رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ
__________
(1) الظاهر أن لفظة " كنتم " زيدت سهوًا من المؤلف في الموضعين.
(21/455)
وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (23)
وَسَلَّم ، فذكرت ذلك له ، فنزلت هذه
الآية : ( وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا
أَبْصَارُكُمْ )... حتى بلغ( وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُمْ مِنَ
الْمُعْتَبِينَ ).
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا يحيى ، قال : ثنا سفيان ، قال : ثني منصور ، عن مجاهد
، عن أبي معمر ، عن عبد الله بنحوه.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ
بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (23) }
يقول تعالى ذكره : وهذا الذي كان منكم في الدنيا من ظنكم أن الله لا يعلم كثيرا
مما تعملون من قبائح أعمالكم ومساويها ، هو ظنكم الذي ظننتم بربكم في الدنيا
أرداكم ، يعني أهلككم. يقال منه : أردى فلانا كذا وكذا : إذا أهلكه ، وردي هو :
إذا هلك ، فهو يردى ردى; ومنه قول الأعشى?
أفِي الطَّوْفِ خِفْتِ عَليَّ الرَّدَى... وكَمْ مِنْ ردًى أهْلَهُ لَمْ يَرِمْ
(1)
يعني : وكم من هالك أهله لم يرم.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد ، قال : ثنا أحمد ، قال : ثنا أسباط ، عن السديّ ، قوله : (
أَرْدَاكُمْ ) قال : أهلككم.
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، قال : تلا الحسن : (
وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ ) فقال : إنما
عمل الناس
__________
(1) هذا البيت للأعشى يخاطب ابنته . وقد سبق القول فيه مفصلا في الجزء ( 23 : 62 )
وموضع الشاهد هنا هو ( الردى ) بمعنى الهلاك . وهو مصدر ردي ( كفرح ) يردى ردى .
ومنه قوله تعالى : " وذلكم ظنكم الذي ظننتم الذي بربكم أرداكم " .
(21/456)
فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ (24)
على قدر ظنونهم بربهم; فأما المؤمن
فأحسن بالله الظن ، فأحسن العمل; وأما الكافر والمنافق ، فأساءا الظن فأساءا العمل
، قال ربكم : ( وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ
وَلا أَبْصَارُكُمْ )... حتى بلغ : الخاسرين. قال معمر : وحدثني وجل : أنه يؤمر
برجل إلى النار ، فيلتفت فيقول : يا ربّ ما كان هذا ظني بك ، قال : وما كان ظنك بي
؟ قال : كان ظني أن تغفر لي ولا تعذّبني ، قال : فإني عند ظنك بي " .
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قال : الظنّ ظنان ،
فظنّ منج ، وظنّ مُرْدٍ قال : ( الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُو رَبِّهِمْ
) قال( إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ ) ، وهذا الظنّ المنجي ظنا
يقينا ، وقال ها هنا : ( وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ
أَرْدَاكُمْ ) هذا ظنّ مُرْدٍ.
وقوله : وقال الكافرون( إِنْ نَظُنُّ إِلا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ
) وذُكر لنا أن نبيّ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم كان يقول ويروي ذلك عن
ربه : " عَبْدِي عِنْدَ ظنِّه بِي ، وأنا مَعَهُ إذَا دَعانِي " . وموضع
قوله : ( ذَلِكُمْ ) رفع بقوله ظنكم. وإذا كان ذلك كذلك ، كان قوله : (
أَرْدَاكُمْ ) في موضع نصب بمعنى : مرديا لكم. وقد يُحتمل أن يكون في موضع رفع
بالاستئناف ، بمعنى : مردٍ لكم ، كما قال : ( تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ
هُدًى وَرَحْمَةً ) في قراءة من قرأه بالرفع. فمعنى الكلام : هذا الظنّ الذي ظننتم
بربكم من أنه لا يعلم كثيرا مما تعملون هو الذي أهلككم ، لأنكم من أجل هذا الظنّ
اجترأتم على محارم الله فقدمتم عليها ، وركبتم ما نهاكم الله عنه ، فأهلككم ذلك
وأرداكم. يقول : فأصبحتم اليوم من الهالكين ، قد غبنتم ببيعكم منازلكم من الجنة
بمنازل أهل الجنة من النار.
القول في تأويل قوله تعالى : { فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ
وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ (24) }
(21/457)
وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ (25)
يقول تعالى ذكره : فإن يصبر هؤلاء
الذين يحشرون إلى النار على النار ، فالنار مسكن لهم ومنزل. يقول : وإن يسألوا
العُتبى ، وهي الرجعة لهم إلى الذي يحبون بتخفيف العذاب عنهم. يقول : فليسوا
بالقوم الذين يرجع بهم إلى الجنة ، فيخفف عنهم ما هم فيه من العذاب ، وذلك كقوله
جلّ ثناؤه مخبرا عنهم : ( قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا )...
إلى قوله( وَلا تُكَلِّمُونِ ) وكقولهم لخزنة جهنم : ( ادْعُوا رَبَّكُمْ
يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِنَ الْعَذَابِ )... إلى قوله : ( وَمَا دُعَاءُ
الْكَافِرِينَ إِلا فِي ضَلالٍ ).
القول في تأويل قوله تعالى : { وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ
مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ
قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالإنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا
خَاسِرِينَ (25) }
يعنى تعالى ذكره بقوله : ( وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ ) وبعثنا لهم نُظراء من
الشياطين ، فجعلناهم لهم قرناء قرنَّاهم بهم يزيِّنون لهم قبائح أعمالهم ، فزينوا
لهم ذلك.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد ، قال : ثنا أحمد ، قال : ثنا أسباط ، عن السديّ( وَقَيَّضْنَا لَهُمْ
قُرَنَاءَ ) قال : الشيطان.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث ، قال :
ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد قوله : (
وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ ) قال : شياطين.
وقوله : ( فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ ) يقول :
فزين لهؤلاء الكفار قرناؤُهم من الشياطين ما بين أيديهم من أمر الدنيا. فحسنوا ذلك
لهم وحبَّبوه
(21/458)
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآَنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ (26) فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذَابًا شَدِيدًا وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ (27)
إليهم حتى آثروه على أمر الآخرة( وَمَا
خَلْفَهُمْ ) يقول : وحسَّنوا لهم أيضا ما بعد مماتهم بأن دعوهم إلى التكذيب
بالمعاد ، وأن من هلك منهم ، فلن يُبعث ، وأن لا ثواب ولا عقاب حتى صدّقوهم على
ذلك ، وسهل عليهم فعل كلّ ما يشتهونه ، وركوب كلّ ما يلتذونه من الفواحش
باستحسانهم ذلك لأنفسهم.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد ، قال : ثنا أحمد ، قال : ثنا أسباط ، عن السديّ( فَزَيَّنُوا لَهُمْ
مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ ) من أمر الدنيا( وَمَا خَلْفَهُمْ ) من أمر الآخرة.
وقوله : ( وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ ) يقول تعالى ذكره : ووجب لهم العذاب
بركوبهم ما ركبوا مما زين لهم قرناؤهم وهم من الشياطين.
كما حدثنا محمد ، قال : ثنا أحمد ، قال : ثنا أسباط ، عن السديّ( وَحَقَّ
عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ ) قال : العذاب.( فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ
مِنَ الْجِنِّ وَالإنْسِ ) ، يقول تعالى ذكره : وحق على هؤلاء الذين قيضنا لهم
قُرَناء من الشياطين ، فزيَّنوا لهم ما بين أيديهم وما خلفهم العذاب في أمم قد مضت
قبلهم من ضربائهم ، حق عليهم من عذابنا مثل الذي حَقّ على هؤلاء بعضهم من الجن
وبعضهم من الإنس.
( إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ ) يقول : إن تلك الأمم الذين حق عليهم عذابنا من
الجنّ والإنس ، كانوا مغبونين ببيعهم رضا الله ورحمته بسخطه وعذابه.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهَذَا
الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ (26) فَلَنُذِيقَنَّ
الَّذِينَ كَفَرُوا عَذَابًا شَدِيدًا وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي
كَانُوا يَعْمَلُونَ (27) }
يقول تعالى ذكره : ( وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا ) بالله ورسوله من مشركي قريش :
(21/459)
( لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ
وَالْغَوْا فِيهِ ) يقول : قالوا للذين يطيعونهم من أوليائهم من المشركين : لا
تسمعوا لقارئ هذا القرآن إذا قرأه ، ولا تصغوا له ، ولا تتبعوا ما فيه فتعملوا به.
كما حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه
، عن ابن عباس قوله : ( وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهَذَا
الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ ) قال : هذا قول المشركين ،
قالوا : لا تتبعوا هذا القرآن والهوا عنه.
وقوله : ( وَالْغَوْا فِيهِ ) يقول : الغطوا بالباطل من القول إذا سمعتم قارئه
يقرؤه كَيْما لا تسمعوه ، ولا تفهموا ما فيه.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا حكام ، عن عنبسة ، عن محمد بن عبد الرحمن ، عن القاسم
بن أبي بزّة ، عن مجاهد ، في قول الله : ( لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ
وَالْغَوْا فِيهِ ) قال : المكاء والتصفير ، وتخليط من القول على رسول الله صَلَّى
الله عَلَيْهِ وَسَلَّم إذا قرأ ، قريش تفعله.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث ، قال :
ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : (
وَالْغَوْا فِيهِ ) قال : بالمكاء والتصفير والتخليط في المنطق على رسول الله
صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم إذا قرأ القرآن ، قريش تفعله.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : ( وَقَالَ
الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ ) : أي
اجحدوا به وأنكروه وعادوه ، قال : هذا قول مشركي العرب.
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، قال : قال بعضهم
(21/460)
ذَلِكَ جَزَاءُ أَعْدَاءِ اللَّهِ النَّارُ لَهُمْ فِيهَا دَارُ الْخُلْدِ جَزَاءً بِمَا كَانُوا بِآَيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (28)
في قوله : ( وَالْغَوْا فِيهِ ) قال :
تحدثوا وصيحوا كيما لا تسمعوه.
وقوله : ( لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ ) يقول : لعلكم بفعلكم ذلك تصدون من أراد
استماعه عن استماعه ، فلا يسمعه ، وإذا لم يسمعه ولم يفهمه لم يتبعه ، فتغلبون
بذلك من فعلكم محمدا.
قال الله جل ثناؤه : ( فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا ) بالله من مشركي قريش
الذين قالوا هذا القول عذابا شديدا في الآخرة( وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ
الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ ) يقول : ولنثيبنهم على فعلهم ذلك وغيره من أفعالهم
بأقبح جزاء أعمالهم التي عملوها في الدنيا.
القول في تأويل قوله تعالى : { ذَلِكَ جَزَاءُ أَعْدَاءِ اللَّهِ النَّارُ لَهُمْ
فِيهَا دَارُ الْخُلْدِ جَزَاءً بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (28) }
يقول تعالى ذكره : هذا الجزاء الذي يجزى به هؤلاء الذين كفروا من مشركي قريش جزاء
أعداء الله; ثم ابتدأ جلّ ثناؤه الخبر عن صفة ذلك الجزاء ، وما هو فقال : هو النار
، فالنار بيان عن الجزاء ، وترجمة عنه ، وهي مرفوعة بالردّ عليه; ثم قال : (
لَهُمْ فِيهَا دَارُ الْخُلْدِ ) يعني لهؤلاء المشركين بالله في النار دار الخلد
يعني دار المكث واللبث ، إلى غير نهاية ولا أمد; والدار التي أخبر جلّ ثناؤه أنها
لهم في النار هي النار ، وحسن ذلك لاختلاف اللفظين ، كما يقال : لك من بلدتك دار
صالحة ، ومن الكوفة دار كريمة ، والدار : هي الكوفة والبلدة ، فيحسن ذلك لاختلاف
الألفاظ ، وقد ذكر لنا أنها في قراءة ابن مسعود : " ذَلكَ جَزَاءُ أعْدَاء
اللهِ النَّارُ دَارُ الخُلْدِ " ففي ذلك تصحيح ما قلنا من التأويل في ذلك ،
وذلك أنه ترجم بالدار عن النار.
وقوله : ( جَزَاءً بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ ) يقول : فعلنا هذا الذي
فعلنا بهؤلاء من مجازاتنا إياهم النار على فعلهم جزاء منا بجحودهم في الدنيا
بآياتنا التي احتججنا بها عليهم.
(21/461)
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنَا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلَّانَا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الْأَسْفَلِينَ (29)
القول في تأويل قوله تعالى : { وَقَالَ
الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنَا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلانَا مِنَ الْجِنِّ
وَالإنْسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الأسْفَلِينَ (29) }
يقول تعالى ذكره : وقال الذين كفروا بالله ورسوله يوم القيامة بعد ما أدخلوا جهنم
: يا ربنا أرنا اللذين أضلانا من خلقك من جنهم وإنسهم. وقيل : إن الذي هو من الجنّ
إبليس ، والذي هو من الإنس ابن آدم الذي قتل أخاه.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا عبد الرحمن ، قال : ثنا سفيان ، عن ثابت الحداد ، عن
حبة العرنيّ (1) عن عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه في قوله : ( أَرِنَا الَّذَيْنِ
أَضَلانَا مِنَ الْجِنِّ وَالإنْسِ ) قال : إبليس الأبالسة وابن آدم الذي قتل
أخاه.
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا عبد الرحمن ، قال : ثنا سفيان ، عن سلمة ، عن مالك بن
حصين ، عن أبيه عن عليّ رضي الله عنه في قوله : ( رَبَّنَا أَرِنَا الَّذَيْنِ
أَضَلانَا مِنَ الْجِنِّ وَالإنْسِ ) قال : إبليس وابن آدم الذي قتل أخاه.
حدثنا ابن المثنى ، قال : ثني وهب بن جرير ، قال : ثنا شعبة ، عن سلمة بن كهيل ،
عن أبي مالك وابن مالك ، عن أبيه ، عن علي رضي الله عنه( رَبَّنَا أَرِنَا
الَّذَيْنِ أَضَلانَا مِنَ الْجِنِّ وَالإنْسِ ) قال : ابن آدم الذي قتل أخاه ،
وإبليس الأبالسة.
حدثنا محمد ، قال : ثنا أحمد ، قال : ثنا أسباط ، عن السيديّ ، عن
__________
(1) كذا في خلاصة الخزرجي ، حبة بن جوين العرني ، بضم المهملة الأولى ، أبو قدامة
الكوفي ؛ عن علي ؛ وعنه سلمة بن كهيل والحكم بن عتيبة . قال العجلي : ثقة ؛ وقال
ابن سعد : مات سنة ست وسبعين . وفي الأصل : العوفي ، تحريف .
(21/462)
علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، في
قوله : ( رَبَّنَا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلانَا مِنَ الْجِنِّ وَالإنْسِ )...
الآية ، فإنهما ابن آدم القاتل ، وإبليس الأبالسة. فأما ابن آدم فيدعو به كلّ صاحب
كبيرة دخل النار من أجل الدعوة. وأما إبليس فيدعو به كل صاحب شرك ، يدعوانهما في
النار.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : ثنا محمد بن ثور ، قال : ثنا معمر ، عن قتادة(
رَبَّنَا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلانَا مِنَ الْجِنِّ وَالإنْسِ ) هو الشيطان ،
وابن آدم الذي قتل أخاه.
وقوله( نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الأسْفَلِينَ ) يقول :
نجعل هذين اللذين أضلانا تحت أقدامنا ، لأن أبواب جهنم بعضها أسفل من بعض ، وكل ما
سفل منها فهو أشد على أهله ، وعذاب أهله أغلظ ، ولذلك سأل هؤلاء الكفار ربهم أن
يريهم اللذين أضلاهم ليجعلوهما أسفل منهم ليكونا في أشد العذاب في الدرك الأسفل من
النار.
(21/463)
إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (30)
القول في تأويل قوله تعالى : { إِنَّ
الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنزلُ عَلَيْهِمُ
الْمَلائِكَةُ أَلا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي
كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (30) }
يقول تعالى ذكره : ( إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ) وحده لا شريك له
، ويرثوا من الآلهة والأنداد ، ( ثُمَّ اسْتَقَامُوا ) على توحيد الله ، ولم
يخلطوا توحيد الله بشرك غيره به ، وانتهوا إلى طاعته فيما أمر ونهى.
وبنحو الذي قلنا في ذلك جاء الخبر عن رسوله الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم
وقاله أهل التأويل على اختلاف منهم ، في معنى قوله : ( ثُمَّ اسْتَقَامُوا ) ذُكر
الخبر بذلك عن رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم.
حدثنا عمرو بن عليّ ، قال : ثنا سالم بن قتيبة أبو قتيبة ، قال : ثنا
(21/463)
سهيل بن أبي حزم القطعي ، عن ثابت
البناني ، عن أنس بن مالك ، أن رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم قرأ : (
إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا ) قال : " قد
قالها الناس ، ثم كفر أكثرهم ، فمن مات عليها فهو ممن استقام " .
وقال بعضهم : معناه : ولم يشركوا به شيئا. ولكن تموا على التوحيد.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن بشار. قال : ثنا عبد الرحمن ، قال : ثنا سفيان ، عن أبي إسحاق ، عن عامر
بن سعد ، عن سعيد بن عمران ، قال : قد قرأت عند أبي بكر الصديق رضي الله عنه هذه
الآية : ( إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا ) قال :
هم الذين لم يشركوا بالله شيئا.
حدثنا ابن وكيع. قال : ثنا أبي ، عن سفيان بإسناده ، عن أبي بكر الصديق رضي الله
عنه ، مثله.
قال ثنا جرير بن عبد الحميد. وعبد الله بن إدريس عن الشيياني ، عن أبي بكر بن أبي
موسى ، عن الأسود بن هلال ، عن أبي بكر رضي الله عنه أنه قال لأصحابه( إِنَّ
الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا ) قال : قالوا : ربنا الله
ثم عملوا بها ، قال : لقد حملتموها على غير المحمل( إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا
اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا ) الذين لم يعدلوها بشرك ولا غيره.
حدثنا أبو كريب وأبو السائب قالا ثنا إدريس ، قال : أخبرنا الشيباني ، عن أبي بكر
بن أبي موسى ، عن الأسود بن هلال المحاربي ، قال : قال أبو بكر : ما تقولون في هذه
الآية : ( إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا ) قال :
ربنا الله ثم استقاموا من ذنب ، قال : فقال أبو بكر : لقد حملتم على غير المحمل ،
قالوا : ربنا الله ثم استقاموا فلم يلتفتوا إلى إله غيره.
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا حكام ، عن عنبسة ، عن ليث ، عن مجاهد( إِنَّ الَّذِينَ
قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا ) قال : أي على : لا إله إلا الله.
(21/464)
قال : ثنا حكام عن عمرو ، عن منصور ،
عن مجاهد( إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا ) قال :
أسلموا ثم لم يشركوا به حتى لحقوا به.
قال : ثنا حكام عن عمرو ، عن منصور ، عن مجاهد ، قوله( إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا
رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا ) قال : أسلموا ثم لم يشركوا به حتى لحقوا
به.
قال : ثنا حكام ، قال : ثنا عمرو ، عن منصور ، عن جامع بن شداد ، عن الأسود بن
هلال مثل ذلك.
حدثنا محمد ، قال : ثنا أحمد ، قال : ثنا أسباط ، عن السديّ( إِنَّ الَّذِينَ
قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا ) قال : تموا على ذلك.
حدثني سعد بن عبد الله بن عبد الحكم ، قال : ثنا حفص بن عمر ، قال : ثنا الحكم بن
أبان ، عن عكرمة قوله : ( إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ
اسْتَقَامُوا ) قال : استقاموا على شهادة أن لا إله إلا الله.
وقال آخرون : معنى ذلك : ثم استقاموا على طاعته.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا أحمد بن منيع ، قال : ثنا عبد الله بن المبارك ، قال : ثنا يونس بن يزيد عن
الزهري ، قال : تلا عمر رضي الله عنه على المنبر : ( إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا
رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا ) قال : استقاموا ولله بطاعته ، ولم يروغوا
روغان الثعلب.
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : ( إِنَّ
الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا ) قال استقاموا على طاعة
الله. وكان الحسن إذا تلاها قال : اللهمَّ فأنت ربنا فارزقنا الاستقامة.
حدثني عليّ ، قال : ثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ،
قوله : ( إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا ) يقول :
على أداء فرائضه.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله :
(21/465)
( إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا
اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا ) قال : على عبادة الله وعلى طاعته.
وقوله : ( تَتَنزلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ ) يقول : تتهبط عليهم الملائكة عند
نزول الموت بهم.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا حكام ، عن عنبسة ، عن محمد بن عبد الرحمن ، عن القاسم
بن أبي بزّة ، عن مجاهد ، في قوله : ( تَتَنزلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلا
تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا ) قال : عند الموت.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال
: ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله.
حدثنا محمد ، قال : ثنا أحمد ، قال : ثنا أسباط ، عن السديّ( تَتَنزلُ عَلَيْهِمُ
الْمَلائِكَةُ ) قال : عند الموت.
وقوله : ( أَلا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا ) يقول : تتنزل عليهم الملائكة بأن لا
تخافوا ولا تحزنوا; فإن في موضع نصب إذا كان ذلك معناه.
وقد ذُكر عن عبد الله أنه كان يقرأ ذلك " تَتَنزلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ
أَلا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا " بمعنى : تتنزل عليهم قائلة : لا تخافوا ،
ولا تحزنوا. وعنى بقوله : ( أَلا تَخَافُوا ) ما تقدمون عليه من بعد مماتكم( وَلا
تَحْزَنُوا ) على ما تخلفونه وراءكم.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد ، قال : ثنا أحمد ، قال : ثنا أسباط ، عن السديّ( أَلا
(21/466)
نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآَخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ (31) نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ (32)
تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا ) قال لا
تخافوا ما أمامكم ، ولا تحزنوا على ما بعدكم.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا يحيى بن حسان ، عن مسلم بن خالد ، عن ابن أبي نجيح ، عن
مجاهد ، قوله : ( تَتَنزلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلا تَخَافُوا وَلا
تَحْزَنُوا ) قال : لا تخافوا ما تقدمون عليه من أمر الآخرة ، ولا تحزنوا على ما
خلفتم من دنياكم من أهل وولد ، فإنا نخلفكم في ذلك كله.
وقيل : إن ذلك في الآخرة.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : ثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ،
قوله : ( تَتَنزلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا
وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّة ) فذلك في الآخرة.
وقوله : ( وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ ) يقول : وسروا
بأن لكم في الآخرة الجنة التي كنتم توعدونها في الدنيا على إيمانكم بالله ،
واستقامتكم على طاعته.
كما حدثنا محمد ، قال : ثنا أحمد ، قال : ثنا أسباط ، عن السديّ( وَأَبْشِرُوا
بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ ) في الدنيا.
القول في تأويل قوله تعالى : { نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا
وَفِي الآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا
تَدَّعُونَ (31) نزلا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ (32) }
يقول تعالى ذكره مخبرا عن قيل ملائكته التي تتنزل على هؤلاء المؤمنين الذين
استقاموا على طاعته عند موتهم : ( نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ ) أيها القوم( فِي
الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ) كنا نتولاكم فيها; وذكر أنهم الحفظة الذين كانوا يكتبون
أعمالهم.
(21/467)
وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (33) وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34)
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد ، قال : ثنا أحمد ، قال : ثنا أسباط ، عن السديّ( نَحْنُ
أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ) نحن الحفظة الذين كنا معكم في الدنيا
، ونحن أولياؤكم في الآخرة.
وقوله : ( وَفِي الآخِرَةِ ) يقول : وفي الآخرة أيضا نحن أولياؤكم ، كما كنا لكم
في الدنيا أولياء ، يقول : ولكم في الآخرة عند الله ما تشتهي أنفسكم من اللّذات
والشهوات.
وقوله : ( وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ ) يقول : ولكم في الآخرة ما تدّعون. وقوله
: ( نزلا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ ) يقول : أعطاكم ذلك ربكم نزلا لكم من ربّ غفور
لذنوبكم ، رحيم بكم أن يعاقبكم بعد توبتكم; ونصب نزلا على المصدر من معنى قوله : (
وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ ) لأن
في ذلك تأويل أنزلكم ربكم بما يشتهون من النعيم نزلا.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلا مِمَّنْ دَعَا إِلَى
اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (33) وَلا
تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا
الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34) }
يقول تعالى ذكره : ومن أحسن أيها الناس قولا ممن قال ربنا الله ثم استقام على
الإيمان به ، والانتهاء إلى أمره ونهيه ، ودعا عباد الله إلى ما قال وعمل به من
ذلك.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : ثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، قال :
(21/468)
تلا الحسن : ( وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلا
مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ
الْمُسْلِمِينَ ) قال : هذا حبيب الله ، هذا وليّ الله ، هذا صفوة الله ، هذا خيرة
الله ، هذا أحبّ الخلق إلى الله ، أجاب الله في دعوته ، ودعا الناس إلى ما أجاب
الله فيه من دعوته ، وعمل صالحا في إجابته ، وقال : إنني من المسلمين ، فهذا خليفة
الله.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : ( وَمَنْ
أَحْسَنُ قَوْلا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ )... الآية ، قال : هذا عبد صدّق
قولَه عملُه ، ومولَجه مخرجُه ، وسرَّه علانيته ، وشاهده مغيبه ، وإن المنافق عبد
خالف قوله عمله ، ومولجه مخرجه ، وسرَّه علانيته ، وشاهده مغيبه.
واختلف أهل العلم في الذي أريد بهذه الصفة من الناس ، فقال بعضهم : عني بها نبيّ
الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن الحسين ، قال : ثنا أحمد ، قال : ثنا أسباط ، عن السديّ( وَمَنْ
أَحْسَنُ قَوْلا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ ) قال : محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ
وَسَلَّم حين دعا إلى الإسلام.
حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : ( وَمَنْ
أَحْسَنُ قَوْلا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي
مِنَ الْمُسْلِمِينَ ) قال : هذا رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم. وقال
آخرون : عُني به المؤذّن.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني داود بن سليمان بن يزيد المكتب البصري ، قال : ثنا عمرو بن جرير البجلي ، عن
إسماعيل بن أبي خالد ، عن قيس بن أبي حازم ، في قول الله : ( وَمَنْ أَحْسَنُ
قَوْلا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ ) قال : المؤذن( وَعَمِلَ صَالِحًا ) قال :
الصلاة ما بين الأذان إلى الإقامة.
(21/469)
وقوله : ( وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ
الْمُسْلِمِينَ ) يقول : وقال : إنني ممن خضع لله بالطاعة ، وذل له بالعبودة ،
وخشع له بالإيمان بوحدانيته.
وقوله : ( وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ) يقول تعالى ذكره : ولا
تستوي حسنة الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا ، فأحسنوا في قولهم ، وإجابتهم وبهم
إلى ما دعاهم إليه من طاعته ، ودعوا عباد الله إلى مثل الذي أجابوا ربهم إليه ،
وسيئة الذين قالوا : ( لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ
لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ ) فكذلك لا تستوي عند الله أحوالهم ومنازلهم ، ولكنها
تختلف كما وصف جلّ ثناؤه أنه خالف بينهما ، وقال جلّ ثناؤه : ( وَلا تَسْتَوِي
الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ) فكرر لا والمعنى : لا تستوي الحسنة ولا السيئة ، لأن
كلّ ما كان غير مساو شيئا ، فالشيء الذي هو له غير مساو غير مساويه ، كما أن كل ما
كان مساويا لشيء فالآخر الذي هو له مساو ، مساو له ، فيقال : فلان مساو فلانا ،
وفلان له مساو ، فكذلك فلان ليس مساويا لفلان ، لا فلان مساويا له ، فلذلك كرّرت
لا مع السيئة ، ولو لم تكن مكرّرة معها كان الكلام صحيحا. وقد كان بعض نحويي
البصرة يقول : يجوز أن يقال : الثانية زائدة; يريد : لا يستوي عبد الله وزيد ،
فزيدت لا توكيدا ، كما قال( لِئَلا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلا يَقْدِرُونَ )
أي لأن يعلم ، وكما قال : ( لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ وَلا أُقْسِمُ
بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ ) . وقد كان بعضهم ينكر قوله هذا في : ( لِئَلا
يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ ) ، وفي قوله : ( لا أُقْسِمُ ) فيقول : لا الثانية في
قوله : ( لِئَلا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ ) أن لا يقدرون ردّت إلى موضعها ، لأن
النفي إنما لحق يقدرون لا العلم ، كما يقال : لا أظنّ زيدا لا يقوم ، بمعنى : أظن
زيدا لا يقوم; قال : وربما استوثقوا فجاءوا به أوّلا وآخرا ، وربما اكتفوا بالأول
من الثاني.
وحُكي سماعا من العرب : ما كأني أعرفها : أي كأني لا أعرفها. قال : وأما " لا
" في قوله( لا أُقْسِمُ ) فإنما هو جواب ، والقسم بعدها مستأنف ، ولا يكون
حرف الجحد مبتدأ صلة.
(21/470)
وإنما عنى يقوله.( وَلا تَسْتَوِي
الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَة ) ولا يستوي الإيمان بالله والعمل بطاعته والشرك به
والعمل بمعصيته.
وقوله : ( ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ) يقول تعالى ذكره لنبيّه محمد صَلَّى
الله عَلَيْهِ وَسَلَّم : ادفع يا محمد بحلمك جهل من جهل عليك ، ويعفوك عمن أساء
إليك إساءة المسيء ، وبصبرك عليهم مكروه ما تجد منهم ، ويلقاك من قِبلهم.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل على اختلاف منهم في تأويله.
* ذكر من قال ذلك.
حدثني عليّ ، قال : ثنا أبو صالح ، قال ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله
: ( ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ) قال : أمر الله المؤمنين بالصبر عند الغضب
، والحلم والعفو عند الإساءة ، فإذا فعلوا ذلك عصمهم الله من الشيطان ، وخضع لهم
عدوُّهم ، كأنه وليّ حميم.
وقال آخرون : معنى ذلك : ادفع بالسلام على من أساء إليك إساءته.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن بشار ، قال : ثنا أبو عامر ، قال : ثنا سفيان ، عن طلحة بن عمرو ،
عن عطاء( ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ) قال : بالسلام.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : ثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن عبد الكريم
الجزري ، عن مجاهد( ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ) قال : السلام عليك إذا
لقيته.
وقوله : ( فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ
حَمِيمٌ ) يقول تعالى ذكره : افعل هذا الذي أمرتك به يا محمد من دفع سيئة المسيء
إليك بإحسانك الذي أمرتك به إليه ، فيصير المسيء إليك الذي بينك وبينه عداوة ،
كأنه من ملاطفته إياك. وبرّه لك ، وليّ لك من بني أعمامك ، قريب النسب بك ،
والحميم : هو القريب.
(21/471)
وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (35) وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (36)
كما حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد. قال :
ثنا سعيد ، ، عن قتادة( كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ ) : أي كأنه وليّ قريب.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا
يُلَقَّاهَا إِلا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (35) وَإِمَّا يَنزغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ
نزغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (36) }
يقول تعالى ذكره : وما يعطى دفع السيئة بالحسنة إلا الذين صبروا لله على المكاره ،
والأمور الشاقة; وقال : ( وَمَا يُلَقَّاهَا ) ولم يقل : وما يلقاه ، لأن معنى
الكلام : وما يلقى هذه الفعلة من دفع السيئة بالتي هي أحسن.
وقوله : ( وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ ). يقول : وما يلقى هذه إلا
ذو نصيب وجدّ له سابق في المبرات عظيم.
كما حدثنا محمد ، قال : ثنا أحمد ، قال : ثنا أسباط ، عن السديّ ، في قوله : (
وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ ) : ذو جدّ.
وقيل : إن ذلك الحظ الذي أخبر الله جلّ ثناؤه في هذه الآية أنه لهؤلاء القوم هو
الجنة.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا
الَّذِينَ صَبَرُوا )... الآية. والحظّ العظيم : الجنة. ذكر لنا أن أبا بكر رضي
الله عنه شتمه رجل ونبيّ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم شاهد ، فعفا عنه ساعة
، ثم إن أبا بكر جاش به الغضب ، فردّ عليه ، فقام النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ
وَسَلَّم فاتبعه أبو بكر ، فقال يا رسول الله شتمني الرجل ، فعفوت وصفحت وأنت قاعد
، فلما أخذت أنتصر قمت يا نبيّ الله ، فقال نبيّ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ
وَسَلَّم : " إنَّهُ كانَ يَرُدُّ عَنْكَ مَلَكٌ من المَلائكَةِ ، فَلَمَّا
قَرُبْتَ تَنْتَصِرُ ذَهَبَ المَلَكُ وَجاءَ
(21/472)
وَمِنْ آَيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (37)
الشَّيْطانُ ، فَوَاللهِ ما كُنْتُ
لأجالِسَ الشَّيْطانَ يا أبا بَكْرٍ " .
حدثني عليّ ، قال : ثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ،
قوله : ( وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا ذُو
حَظٍّ عَظِيمٍ ) يقول : الذين أعدّ الله لهم الجنة.
وقوله : ( وَإِمَّا يَنزغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نزغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ
)... الآية ، يقول تعالى ذكره : وإما يلقين الشيطان يا محمد في نفسك وسوسة من حديث
النفس إرادة حملك على مجازاة المسيء بالإساءة ، ودعائك إلى مساءته ، فاستجر بالله
واعتصم من خطواته ، إن الله هو السميع لاستعاذتك منه واستجارتك به من نزغاته ،
ولغير ذلك من كلامك وكلام غيرك ، العليم بما ألقى في نفسك من نزغاته ، وحدثتك به
نفسك ومما يذهب ذلك من قبلك ، وغير ذلك من أمورك وأمور خلقه.
كما حدثنا محمد ، قال : ثنا أحمد ، قال : ثنا أسباط ، عن السديّ( وَإِمَّا
يَنزغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نزغٌ ) قال : وسوسة وحديث النفس( فَاسْتَعِذْ
بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ ).
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد( وَإِمَّا يَنزغَنَّكَ
مِنَ الشَّيْطَانِ نزغٌ ) هذا الغضب.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ
وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا
لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (37) }
يقول تعالى ذكره : ومن حجج الله تعالى على خلقه ودلالته على وحدانيته ، وعظيم
سلطانه ، اختلاف الليل والنهار ، ومعاقبة كلّ واحد منهما صاحبه ، والشمس والقمر ،
لا الشمس تدرك القمر( وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي
(21/473)
فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ (38)
فَلَكٍ يَسْبَحُونَ ) لا تسجدوا أيها
الناس للشمس ولا للقمر ، فإنهما وإن جريا في الفلك بمنافعكم ، فإنما يجريان به لكم
بإجراء الله إياهما لكم طائعين له في جريهما ومسيرهما ، لا بأنهما يقدران بأنفسهما
على سير وجري دون إجراء الله إياهما وتسييرهما ، أو يستطيعان لكم نفعا أو ضرّا ،
وإنما الله مسخرهما لكم لمنافعكم ومصالحكم ، فله فاسجدوا ، وإياه فاعبدوا دونها ،
فإنه إن شاء طمس ضوءهما ، فترككم حيارى في ظلمة لا تهتدون سبيلا ولا تبصرون شيئا.
وقيل : ( وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ ) فجمع بالهاء والنون ، لأن
المراد من الكلام : واسجدوا لله الذي خلق الليل والنهار والشمس والقمر ، وذلك جمع
، وأنث كنايتهن ، وإن كان من شأن العرب إذا جمعوا الذكر إلى الأنثى أن يخرجوا
كنايتهما بلفظ كناية المذكر فيقولوا : أخواك وأختاك كلموني ، ولا يقولوا : كلمنني
، لأن من شأنهم أن يؤنثوا أخبار الذكور من غير بني آدم في الجمع ، فيقولوا : رأيت
مع عمرو أثوابا فأخذتهن منه. وأعجبني خواتيم لزيد قبضتهنّ منه.
وقوله : ( إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ ) يقول : إن كنتم تعبدون الله ،
وتذلون له بالطاعة; وإن من طاعته أن تخلصوا له العبادة ، ولا تشركوا في طاعتكم
إياه وعبادتكموه شيئا سواه ، فإن العبادة لا تصلح لغيره ولا تنبغي لشيء سواه.
القول في تأويل قوله تعالى : { فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ
يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ (38) }
يقول تعالى ذكره : فإن استكبر يا محمد هؤلاء الذين أنت بين أظهرهم من مشركي قريش ،
وتعظموا عن أن يسجدوا لله الذي خلقهم وخلق الشمس والقمر ، فإن الملائكة الذين عند
ربك لا يستكبرون عن ذلك ، ولا يتعظمون عنه ، بل يسبحون له ، ويصلون ليلا ونهارًا ،
( وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ ) يقول وهم لا يفترون عن عبادتهم ، ولا يملون الصلاة له.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
(21/474)
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي. عن أبيه ، عن
ابن عباس ، قوله : ( فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ
يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ ) قال : يعني محمدا ، يقول : عبادي ،
ملائكة صافون يسبحون ولا يستكبرون.
(21/475)
وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (39)
القول في تأويل قوله تعالى : { وَمِنْ
آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الأرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنزلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ
اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى
كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (39) }
يقول تعالى ذكره : ومن حجج الله أيضا وأدلته على قدرته على نشر الموتى من بعد
بلاها ، وإعادتها لهيئتها كما كانت من بعد فنائها أنك يا محمد ترى الأرض دارسة
غبراء ، لا نبات بها ولا زرع.
كما حدثنا بشر ، قاله : ثنا يزيد ، قاله : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : ( وَمِنْ
آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الأرْضَ خَاشِعَةً ) : أي غبراء متهشمة.
حدثنا محمد ، قال : ثنا أحمد ، قال : ثنا أسباط ، عن السديّ( وَمِنْ آيَاتِهِ
أَنَّكَ تَرَى الأرْضَ خَاشِعَةً ) قال : يابسة متهمشة.
( فَإِذَا أَنزلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ ) يقول تعالى ذكره : فإذا
أنزلنا من السماء غيثا على هذه الأرض الخاشعة اهتزت بالنبات. يقول : تحرّكت به.
كما حدثنا محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث ،
قال : ثنا الحسن ، قال. ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : (
اهْتَزَّتْ ) قال : بالنبات( وَرَبَتْ ) يقول : انتفخت.
كما حدثنا محمد ، قال : ثنا أحمد ، قال : ثنا أسباط ، عن السديّ ، ( وَرَبَتْ )
انتفخت.
(21/475)
إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آَيَاتِنَا لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آَمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (40)
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال :
ثنا سعيد ، عن قتادة( فَإِذَا أَنزلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ )
يعرف الغيث في سحتها وربوها.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث ، قال :
ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد( وَرَبَتْ )
للنبات ، قال : ارتفعت قبل أن تنبت.
وقوله : ( إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى ) يقول تعالى ذكره : إن
الذي أحيا هذه الأرض الدارسة فأخرج منها النبات ، وجعلها تهتزّ بالزرع من بعد
يبسها ودثورها بالمطر الذي أنزل عليها لقادر أن يحيي أموات بني آدم من بعد مماتهم
بالماء الذي ينزل من السماء لإحيائهم.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد ، قال : ثنا أحمد ، قال : ثنا أسباط ، عن السديّ ، قال : كما يحيي
الأرض بالمطر ، كذلك يحيي الموتى بالماء يوم القيامة بين النفختين. يعني بذلك
تأويل قوله : ( إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى ).
وقوله : ( إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) يقول تعالى ذكره : إن ربك يا محمد
على إحياء خلقه بعد مماتهم وعلى كل ما يشاء ذو قدرة لا يعجزه شيء أراده ، ولا
يتعذّر عليه فعل شيء شاءه.
القول في تأويل قوله تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لا
يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي
آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ
(40) }
يعني جلّ ثناؤه بقوله : ( إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا ) إن الذين
يميلون عن الحق في حججنا وأدلتنا ، ويعدلون عنها تكذيبا بها وجحودا لها.
(21/476)
وقد بيَّنت فيما مضى معنى اللحد
بشواهده المغنية عن إعادتها في هذا الموضع.
وسنذكر بعض اختلاف المختلفين في المراد به من معناه في هذا الموضع.
اختلف أهل التأويل في المراد به من معنى الإلحاد في هذا الموضع ، فقال بعضهم :
أريد به معارضة المشركين القرآن باللغط والصفير استهزاء به.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى : وحدثني الحارث ، قال
: ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله : (
إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا ) قال : المُكَاء وما ذكر معه.
وقال بعضهم : أريد به الخبر عن كذبهم في آيات الله.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( إِنَّ الَّذِينَ
يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا ) قال : يكذّبون في آياتنا.
وقال آخرون : أريد به يعاندون.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد ، قال : ثنا أحمد ، قال : ثنا أسباط ، عن السديّ( إِنَّ الَّذِينَ
يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا ) قال : يشاقُّون : يعاندون.
وقال آخرون : أريد به الكفر والشرك.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال قال ابن زيد ، في قوله : ( إِنَّ
الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا ) قال : هؤلاء أهل
الشرك وقال : الإلحاد : الكفر والشرك.
(21/477)
وقال آخرون : أريد به الخبر عن تبديلهم
معاني كتاب الله.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثنى عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ،
عن ابن عباس ، قوله : ( إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لا يَخْفَوْنَ
عَلَيْنَا ) قال : هو أن يوضع الكلام على غير موضعه. وكل هذه الأقوال التي ذكرناها
في تأويل ذلك في قريبات المعاني ، وذلك أن اللحد والإلحاد : هو الميل ، وقد يكون
ميلا عن آيات الله ، وعدولا عنها بالتكذيب بها ، ويكون بالاستهزاء مكاء وتصدية ، ويكون
مفارقة لها وعنادا ، ويكون تحريفا لها وتغييرا لمعانيها.
ولا قول أولى بالصحة في ذلك مما قلنا ، وأن يعم الخبر عنهم بأنهم ألحدوا في آيات
الله ، كما عمّ ذلك ربنا تبارك وتعالى.
وقوله : ( لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا ) يقول تعالى ذكره : نحن بهم عالمون لا يخفون
علينا ، ونحن لهم بالمرصاد إذا وردوا علينا ، وذلك تهديد من الله جلّ ثناؤه لهم
بقوله : سيعلمون عند ورودهم علينا ماذا يلقون من أليم عذابنا. ثم أخبر جلّ ثناؤه
عما هو فاعل بهم عند ورودهم عليه ، فقال : ( أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ
أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ ). يقول تعالى ذكره لهؤلاء الذين
يلحدون في آياتنا اليوم في الدنيا يوم القيامة عذاب النار ، ثم قال الله : أفهذا
الذي يلقى في النار خير ، أم الذي يأتي يوم القيامة آمنا من عذاب الله لإيمانه
بالله جلّ جلاله ؟ هذا الكافر ، إنه إن آمن بآيات الله ، واتبع امر الله ونهيه ،
أمنه يوم القيامة مما حذره منه من عقابه إن ورد عليه يومئذ به كافرا.
وقوله : ( اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ ) وهذا أيضا وعيد لهم من الله خرج مخرج الأمر ،
وكذلك كان مجاهد يقول : حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا عبد الرحمن ، قال : ثنا سفيان
، عن ابن أبي نجيح عن مجاهد( اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ ) قال : هذا وعيد.
وقوله : ( إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ) يقول جلّ ثناؤه : إن الله أيها
الناس بأعمالكم التي تعملونها ذو خبرة وعلم لا يخفي عليه منها ، ولا من غيرها شيء.
(21/478)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ (41) لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (42)
القول في تأويل قوله تعالى : { إِنَّ
الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ
(41) لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزيلٌ
مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (42) }
يقول تعالى ذكره : إن الذين جحدوا هذا القرآن وكذّبوا به لما جاءهم ، وعنى بالذكر
القرآن.
كما حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : ( إِنَّ
الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ ) كفروا بالقرآن.
وقوله : ( وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ ) يقول تعالى ذكره : وإن هذا الذكر لكتاب
عزيز بإعزاز الله إياه ، وحفظه من كل من أراد له تبديلا أو تحريفا ، أو تغييرا ،
من إنسي وجني وشيطان مارد.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : ( وَإِنَّهُ
لَكِتَابٌ عَزِيزٌ ) يقول : أعزه الله لأنه كلامه ، وحفظه من الباطل.
حدثنا محمد بن الحسين ، قال : ثنا أحمد بن المفضل ، قال : ثنا أسباط ، عن السديّ(
وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ ) قال : عزيز من الشيطان.
وقوله : ( لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ )
اختلف أهل التأويل في تأويله فقال بعضهم : معناه : لا يأتيه النكير من بين يديه
ولا من خلفه.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا أبو كريب ، قال : ثنا ابن يمان ، عن أشعث ، عن جعفر ، عن سعيد( لا يَأْتِيهِ
الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ ) قال : النكير من بين يديه
ولا من خلفه.
(21/479)
مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ (43)
وقال آخرون : معنى ذلك : لا يستطيع
الشيطان أن ينقص منه حقا ، ولا يزيد فيه باطلا قالوا : والباطل هو الشيطان.
وقوله : ( مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ ) من قبل الحق( وَلا مِنْ خَلْفِهِ ) من قبل
الباطل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ
مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ ) الباطل : إبليس لا يستطيع أن ينقص منه
حقا ، ولا يزيد فيه باطلا.
وقال آخرون : معناه : إن الباطل لا يطيق أن يزيد فيه شيئا من الحروف ولا ينقص ،
منه شيئا منها.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن الحسين ، قال : ثنا أحمد بن المفضل ، قال : ثنا أسباط ، عن السديّ(
لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ ) قال : الباطل
: هو الشيطان لا يستطيع أن يزيد فيه حرفا ولا ينقص.
وأولى الأقوال في ذلك عندنا بالصواب أن يقال : معناه : لا يستطيع ذو باطل بكيده
تغييره بكيده ، وتبديل شيء من معانيه عما هو به ، وذلك هو الإتيان من بين يديه ،
ولا إلحاق ما ليس منه فيه ، وذلك إتيانه من خلفه.
وقوله : ( تَنزيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ ) يقول تعالى ذكره : هو تنزيل من عند ذي
حكمة بتدبير عباده ، وصرفهم فيما فيه مصالحهم ، ( حَمِيدٌ ) يقول : محمود على نعمه
عليهم بأياديه عندهم.
القول في تأويل قوله تعالى : { مَا يُقَالُ لَكَ إِلا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ
مِنْ قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ (43) }
(21/480)
وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآَنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آَيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آَمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آَذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ (44)
يقول تعالى ذكره لنبيّه محمد صَلَّى
الله عَلَيْهِ وَسَلَّم : ما يقول لك هؤلاء المشركون المكذّبون ما جئتهم به من عند
ربك إلا ما قد قاله من قبلهم من الأمم الذين كانوا من قبلك ، يقول له : فاصبر على
ما نالك من أذى منهم ، كما صبر أولو العزم من الرسل ، ( وَلا تَكُنْ كَصَاحِبِ
الْحُوتِ )
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( مَا يُقَالُ لَكَ إِلا
مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ ) يعزي نبيّه صَلَّى الله عَلَيْهِ
وَسَلَّم كما تسمعون ، يقول : ( كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ
مِنْ رَسُولٍ إِلا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ ).
حدثنا محمد ، قال : ثنا أحمد ، قال : ثنا أسباط ، عن السديّ في قوله : ( مَا
يُقَالُ لَكَ إِلا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ ) قال : ما يقولون إلا
ما قد قال المشركون للرسل من قبلك.
وقوله : ( إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ ) يقول : إن ربك لذو مغفرة لذنوب
التائبين إليه من ذنوبهم بالصفح عنهم( وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ ) يقول : وهو ذو عقاب
مؤلم لمن أصرّ على كفره وذنوبه ، فمات على الإصرار على ذلك قبل التوبة منه.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا
لَقَالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ
لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ
وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ (44)
}
يقول تعالى ذكره : ولو جعلنا هذا القرآن الذي أنزلناه يا محمد أعجميا لقال قومك من
قريش : ( لَوْلا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ ) يعني : هلا بينت أدلته وما فيه من آية ،
فنفقهه ونعلم ما هو وما فيه ، أأعجميّ ، يعني أنهم كانوا يقولون إنكارا
(21/481)
له : أأعجميّ هذا القرآن ولسان الذي
أنزل عليه عربي ؟.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن بشار ، قال : ثنا محمد بن جعفر ، قال : ثنا شعبة ، عن أبي بشر ، عن
سعيد بن جبير أنه قال في هذه الآية( لَوْلا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ
وَعَرَبِيٌّ ) قال : لو كان هذا القران أعجميا لقالوا : القرآن أعجميّ ، ومحمد
عربيّ.
حدثنا محمد بن المثنى ، قال : ثني محمد بن أبي عديّ ، عن داود بن أبي هند ، عن
جعفر بن أبي وحشية عن سعيد بن جبير في هذه الآية : ( لَوْلا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ
أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ ) قال : الرسول عربيّ ، واللسان أعجميّ.
حدثنا ابن المثنى ، قال : ثني عبد الأعلى ، قال : ثنا أبو داود عن سعيد بن جبير في
قوله : ( وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ
آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ ) قرآن أعجميّ ولسان عربيّ.
حدثنا ابن المثنى ، قال : ثنا عبد الأعلى ، قال : ثنا داود ، عن محمد بن أبي موسى
، عن عبد الله بن مطيع بنحوه.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث قال :
ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : (
لَوْلا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ ) فجعل عربيا ، أعجميّ الكلام وعربيّ الرجل.
حدثنا محمد ، قال : ثنا أحمد ، قال : ثنا أسباط ، عن السديّ ، في قوله : ( وَلَوْ
جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ ) يقول :
بُينت آياته ، أأعجميّ وعربيّ ، نحن قوم عرب ما لنا وللعجمة.
وقد خالف هذا القول الذي ذكرناه عن هؤلاء آخرون ، فقالوا : معنى ذلك( لَوْلا
فُصِّلَتْ آيَاتُهُ ) بعضها عربيّ ، وبعضها عجميّ. وهذا التأويل على
(21/482)
تأويل من قرأ( أَعْجَمِيّ ) بترك
الاستفهام فيه ، وحمله خبرا من الله تعالى عن قيل المشركين ذلك ، يعني : هلا فصلت
آياته ، منها عجميّ تعرفه العجم ، ومنها عربيّ تفقهه العرب.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا يعقوب ، عن جعفر ، عن سعيد ، قال : قالت قريش : لولا
أنزل هذا القرآن أعجميا وعربيا ، فأنزل الله( لَقَالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ
أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ ) فأنزل
الله بعد هذه الآية كل لسان ، فيه( حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ ) قال : فارسية أعربت
سنك وكل.
وقرأت قراء الأمصار : ( أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ ؟ ) على وجه الاستفهام ، وذكر
عن الحسن البصري أنه قرأ ذلك : أعجميّ بهمزة واحدة على غير مذهب الاستفهام ، على
المعنى الذي ذكرناه عن جعفر بن أبي المغيرة ، عن سعيد بن جبير.
والصواب من القراءة في ذلك عندنا القراءة التي عليها قراء الأمصار لإجماع الحجة
عليها على مذهب الاستفهام.
وقوله : ( قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ ) يقول تعالى ذكره : قل
يا محمد لهم : هو ، ويعني بقوله( هُوَ ) القرآن( لِلَّذِينَ آمَنُوا ) بالله
ورسوله ، وصدقوا بما جاءهم به من عند ربهم( هُدًى ) يعني بيان للحق( وَشِفَاءٌ )
يعني أنه شفاء من الجهل.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال. ثنا سعيد ، عن قتادة( قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ
آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ ) قال : جمله الله نورا وبركة وشفاء للمؤمنين.
حدثنا محمد ، قال. ثنا أحمد ، قال : ثنا أسباط ، عن السديّ( قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ
آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ ) قال : القرآن.
(21/483)
وقوله : ( وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ
فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى ) يقول تعالى ذكره : والذين لا
يؤمنون بالله ورسوله ، وما جاءهم به من عند الله في آذانهم ثقل عن استماع هذا
القرآن ، وصمم لا يستمعونه ولكنهم يعرضون عنه ، ( وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى ) يقول
: وهذا القرآن على قلوب هؤلاء المكذّبين به عمى عنه ، فلا يبصرون حججه عليهم ، وما
فيه من مواعظه.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( وَالَّذِينَ لا
يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى ) عموا وصموا عن
القرآن ، فلا ينتفعون به ، ولا يرغبون فيه.
حدثنا محمد ، قال. ثنا أحمد ، قال : ثنا أسباط ، عن السديّ( وَالَّذِينَ لا
يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ ) قال : صمم( وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى ) قال :
عميت قلوبهم عنه.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : ( وَهُوَ
عَلَيْهِمْ عَمًى ) قال : العمى : الكفر.
وقرأت قرّاء الأمصار : ( وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى ) بفتح الميم. وذُكر عن ابن عباس
أنه قرأ : " وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمٍ " بكسر الميم على وجه النعت للقرآن.
والصواب من القراءة في ذلك عندنا ما عليه قرّاء الأمصار.
وقوله : ( أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ ) اختلف أهل التأويل في
معناه ، فقال بعضهم : معنى ذلك : تشبيه من الله جلّ ثناؤه ، لعمى قلوبهم عن فهم ما
أنزل في القرآن من حججه ومواعظه ببعيد ، فهم كما مع صوت من بعيد نودي ، فلم يفهم
ما نودي ، كقول العرب للرجل القليل الفهم : إنك لتنادى من بعيد ، وكقولهم للفهم :
إنك لتأخذ الأمور من قريب.
(21/484)
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا عبد الرحمن ، قال : ثنا سفيان ، عن ابن جريج ، عن بعض
أصحابه ، عن مجاهد( أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ ) قال : بعيد من
قلوبهم.
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا أبو أحمد ، قال : ثنا سفيان ، عن ابن جريج عن مجاهد ،
بنحوه.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : ( أُولَئِكَ
يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ ) قال : ضيعوا أن يقبلوا الأمر من قريب ، يتوبون
ويؤمنون ، فيقبل منهم ، فأبوا.
وقال آخرون : بل معنى ذلك : إنهم ينادون يوم القيامة من مكان بعيد منهم بأشنع
أسمائهم.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا أبو أحمد ، قال : ثنا سفيان ، عن أجلح ، عن الضحاك بن
مزاحم( أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ ) قال : ينادَى الرجل بأشنع
اسمه.
واختلف أهل العربية في موضع تمام قوله : ( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ
لَمَّا جَاءَهُمْ ) فقال بعضهم : تمامه : ( أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ
بَعِيدٍ ) وجعل قائلو هذا القول خبر( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ ) - (
أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ ) ; وقال بعض نحويي البصرة : يجوز ذلك
ويجوز أن بكون على الأخبار التي في القرآن يستغنى بها ، كما استغنت أشياء عن الخبر
إذا طال الكلام ، وعرف المعنى ، نحو قوله : ( وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ
بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الأرْضُ ). وما أشبه ذلك.
قال : وحدثني شيخ من أهل العلم ، قال : سمعت عيسى بن عمر يسأل عمرو بن عبيد( إِنَّ
الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ ) أين خبره ؟ فقال عمرو :
(21/485)
وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (45)
معناه في التفسير : إن الذين كفروا
بالذكر لما جاءهم كفروا به( وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ ) فقال عيسى : أجدت يا
أبا عثمان.
وكان بعض نحويي الكوفة يقول : إن شئت جعلت جواب( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا
بِالذِّكْرِ( ) أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ ) وإن شئت كان جوابه
في قوله : ( وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ ) ، فيكون جوابه معلوما ، فترك فيكون
أعرب الوجهين وأشبهه بما جاء في القرآن.
وقال آخرون : بل ذلك مما انصرف عن الخبر عما ابتدئ به إلى الخبر عن الذي بعده من
الذكر; فعلى هذا القول ترك الخبر عن الذين كفروا بالذكر ، وجعل الخبر عن الذكر
فتمامه على هذا القول; وإنه لكتاب عزيز; فكان معنى الكلام عند قائل هذا القول : إن
الذكر الذي كفر به هؤلاء المشركون لما جاءهم ، وإنه لكتاب عزيز ، وشبهه بقوله : (
وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ
بِأَنْفُسِهِنَّ ).
وأولى الأقوال في ذلك عندي بالصواب أن يقال : هو مما ترك خبره اكتفاء بمعرفة
السامعين بمعناه لما تطاول الكلام.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ
فِيهِ وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ
لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (45) }
يقول تعالى ذكره : ( وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ ) يا محمد ، يعني
التوراة ، كما آتيناك الفرقان ، ( فَاخْتُلِفَ فِيهِ ) يقول : فاختلف في العمل بما
فيه الذين أوتوه من اليهود( وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ
بَيْنَهُمْ ) يقول : ولولا ما سبق من قضاء الله وحكمه فيهم أنه أخر عذابهم إلى يوم
القيامة.
(21/486)
مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (46)
كما حدثنا محمد ، قال : ثنا أحمد ، قال
: ثنا أسباط ، عن السديّ ، في قوله : ( وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ )
قال : أخروا إلى يوم القيامة.
وقوله : ( وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ ) يقول : وإن الفريق المبطل
منهم لفي شكّ مما قالوا فيه( مُريب ) يقول : يريبهم قولهم فيه ما قالوا ، لأنهم
قالوا بغير ثبت ، وإنما قالوه ظنًّا.
القول في تأويل قوله تعالى : { مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ
فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلامٍ لِلْعَبِيدِ (46) }
يقول تعالى ذكره : من عمل بطاعة الله في هذه الدنيا ، فائتمر لأمره ، وانتهى عما
نهاه عنه( فَلِنَفْسِهِ ) يقول : فلنفسه عمل ذلك الصالح من العمل ، لأنه يجازى
عليه جزاءه ، فيستوجب في المعاد من الله الجنة ، والنجاة من النار.( وَمَنْ
أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ) يقول : ومن عمل بمعاصي الله فيها ، فعلى نفسه جنى ، لأنه
أكسبها بذلك سخط الله ، والعقاب الأليم.( وَمَا رَبُّكَ بِظَلامٍ لِلْعَبِيدِ )
يقول تعالى ذكره : وما ربك يا محمد بحامل عقوبة ذنب مذنب على غير مكتسبه ، بل لا
يعاقب أحدا إلا على جرمه الذي اكتسبه في الدنيا ، أو على سبب استحقه به منه ،
والله أعلم.
(21/487)
إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ وَمَا تَخْرُجُ مِنْ ثَمَرَاتٍ مِنْ أَكْمَامِهَا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكَائِي قَالُوا آَذَنَّاكَ مَا مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ (47)
القول في تأويل قوله تعالى : {
إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ وَمَا تَخْرُجُ مِنْ ثَمَرَاتٍ مِنْ
أَكْمَامِهَا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلا تَضَعُ إِلا بِعِلْمِهِ وَيَوْمَ
يُنَادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكَائِي قَالُوا آذَنَّاكَ مَا مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ (47) }
يقول تعالى ذكره : إلى الله يرد العالمون به علم الساعة ، فإنه لا يعلم ما قيامها
غيره.( وَمَا تَخْرُجُ مِنْ ثَمَرَاتٍ مِنْ أَكْمَامِهَا ) يقول : وما تظهر من
ثمرة شجرة من أكمامها التي هي متغيبة فيها ، فتخرج منها بارزة.(
(21/487)
وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى ) يقول :
وما تحمل من أنثى من حمل حين تحمله ، ولا تضع ولدها إلا بعلم من الله ، لا يخفى
عليه شيء من ذلك.
وبنحو الذي قلنا في معنى قوله : ( وَمَا تَخْرُجُ مِنْ ثَمَرَاتٍ مِنْ
أَكْمَامِهَا ) قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال
: ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله : (
مِنْ أَكْمَامِهَا ) قال : حين تطلع.
حدثنا محمد ، قال : ثنا أحمد ، قال : ثنا أسباط ، عن السديّ( وَمَا تَخْرُجُ مِنْ
ثَمَرَاتٍ مِنْ أَكْمَامِهَا ) قال : من طلعها والأكمام جمع كمة (1) وهو كل ظرف
لماء أو غيره ، والعرب تدعو قشر الكفراة كمَّا.
واختلفت القراء في قراءة قوله : ( مِنْ ثَمَرَاتٍ ) فقرأت ذلك قرّاء المدينة : (
مِنْ ثَمَرَاتٍ ) على الجماع ، وقرأت قراء الكوفة " من ثمرات " على لفظ
الواحدة ، وبأي القراءتين قرئ ذلك فهو عندنا صواب لتقارب معنييهما مع شهرتهما في
القراءة.
وقوله : ( وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكَائِي ) يقول تعالى ذكره : ويوم
ينادي الله هؤلاء المشركين به في الدنيا الأوثان والأصنام : أين شركائي الذين كنتم
تشركونهم في عبادتكم إياي ؟.( قَالُوا آذَنَّاكَ ) يقول : أعلمناك( مَا مِنَّا
مِنْ شَهِيدٍ ) يقول : قال هؤلاء المشركون لربهم يومئذ : ما منا من شهيد يشهد أن
لك شريكا.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : ثما أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن
__________
(1) لعل الأصل : جمع كم ، بلا تاء ، لأن الأكمام جمع " كم " لا جمع كمة
. انظر ( اللسان : كم ) .
(21/488)
وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَدْعُونَ مِنْ قَبْلُ وَظَنُّوا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (48) لَا يَسْأَمُ الْإِنْسَانُ مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ (49)
ابن عباس ، قوله( آذَنَّاكَ ) يقول :
أعلمناك.
حدثني محمد ، قال : ثنا أبو صالح ، قال : ثنا أسباط ، عن السديّ ، في قوله : (
آذَنَّاكَ مَا مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ ) قالوا : أطعناك (1) ما منا من شهيد على أن لك
شريكا.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَدْعُونَ مِنْ
قَبْلُ وَظَنُّوا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (48) لا يَسْأَمُ الإنْسَانُ مِنْ
دُعَاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ (49) }
يقول تعالى ذكره : وضلّ عن هؤلاء المشركين يوم القيامة آلهتهم التي كانوا يعبدونها
في الدنيا ، فأخذ بها طريق غير طريقهم ، فلم تنفعهم ، ولم تدفع عنهم شيئا من عذاب
الله الذي حلّ بهم.
وقوله : ( وَظَنُّوا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ ) يقول : وأيقنوا حينئذ ما لهم من
ملجأ : أي ليس لهم ملجأ يلجئون إليه من عذاب الله.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد ، قال : ثنا أحمد ، قال : ثنا أسباط ، عن السديّ( وَظَنُّوا مَا لَهُمْ
مِنْ مَحِيصٍ ) : استيقنوا أنه ليس لهم ملجأ.
واختلف أهل العربية في المعنى الذي من أجله أبطل عمل الظنّ في هذا الموضع ، فقال
بعض أهل البصرة فعل ذلك ، لأن معنى قوله : ( وَظَنُّوا ) : استيقنوا. قال : و
" ما " هاهنا حرف وليس باسم ، والفعل لا يعمل في مثل هذا ، فلذلك جعل
الفعل ملغى. وقال بعضهم : ليس يلغي الفعل وهو عامل في المعنى
__________
(1) كذا في الأصل . ولعله " أطلعناك " ، ليكون فيه معنى العلم .
(21/489)
وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِمَا عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ (50)
إلا لعلة. قال : والعلة أنه حكاية ،
فإذا وقع على ما لم يعمل فيه كان حكاية وتمنيا ، وإذا عمل فهو على أصله.
وقوله : ( لا يَسْأَمُ الإنْسَانُ مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ ) يقول تعالى ذكره : لا
يمل الكافر بالله من دعاء الخير ، يعني من دعائه بالخير ، ومسألته إياه ربه.
والخير في هذا الموضع : المال وصحة الجسم ، يقول : لا يملّ من طلب ذلك.( وَإِنْ
مَسَّهُ الشَّرُّ ) يقول : وإن ناله ضرّ في نفسه من سُقم أو جهد في معيشته ، أو
احتباس من رزقه( فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ ) يقول : فإنه ذو يأس من روح الله وفرجه ، قنوط
من رحمته ، ومن أن يكشف ذلك الشرّ النازل به عنه.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد ، قال : ثنا أحمد ، قال : ثنا أسباط ، عن السديّ( لا يَسْأَمُ
الإنْسَانُ مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ ) يقول : الكافر( وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ
فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ ) : قانط من الخير.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : ( لا يَسْأَمُ
الإنْسَانُ ) قال : لا يملّ. وذكر أن ذلك في قراءة عبد الله : " لا يَسْأَمُ
الإنْسَانُ مِنْ دَعَاءٍ بالخَيْرِ " .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ
ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً
وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى فَلَنُنَبِّئَنَّ
الَّذِينَ كَفَرُوا بِمَا عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ (50)
}
يقول تعالى ذكره : ولئن نحن كشفنا عن هذا الكافر ما أصابه من سقم ف
(21/490)
وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ (51)
ي نفسه وضرّ ، وشدّة في معيشته وجهد ،
رحمة منا ، فوهبنا له العافية في نفسه بعد السقم ، ورزقناه مالا فوسعنا عليه في
معيشته من بعد الجهد والضرّ.( لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي ) عند الله ، لأن الله راض
عني برضاه عملي ، وما أنا عليه مقيم.
كما حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث ،
قال : ثنا الحسن قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد(
لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي ) : أي بعملي ، وأنا محقوق بهذا. يقول : وما أحسب القيامة
قائمة يوم تقوم. يقول : وإن قامت أيضا القيامة ، ورددت إلى الله حيا بعد مماتي.
يقول : إن لي عنده غنى ومالا.
كما حدثنا محمد ، قال : ثنا أحمد ، قال : ثنا أسباط ، عن السديّ ، في قوله : (
إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى ) يقول : غنى. يقول تعالى ذكره : فلنخبرن هؤلاء
الكفار بالله ، المتمنين عليه الأباطيل يوم يرجعون إليه بما عملوا في الدنيا من
المعاصي ، واجترحوا من السيئات ، ثم لنجازينّ جميعهم على ذلك جزاءهم.
وذلك العذاب الغليظ تخليدهم في نار جهنم ، لا يموتون فيها ولا يحيون.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الإنْسَانِ أَعْرَضَ
وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ (51) }
يقول تعالى ذكره : وإذا نحن أنعمنا على الكافر ، فكشفنا ما به من ضرّ ، ورزقناه
غنى وسعة ، ووهبنا له صحة جسم وعافية ، أعرض عما دعوناه إليه من طاعته ، وصدّ عنه(
وَنَأَى بِجَانِبِهِ ) يقول : وبعد من إجابتنا إلى ما دعوناه إليه ، ويعني بجانبه
بناحيته.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
(21/491)
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (52) سَنُرِيهِمْ آَيَاتِنَا فِي الْآَفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (53)
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد ، قال : ثنا أحمد ، قال : ثنا أسباط ، عن السديّ ، في قوله : (
أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ ) يقول : أعرض : صدّ بوجهه ، ونأى بجانبه : يقول :
تباعد.
وقوله : ( وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ ) يعني بالعريض :
الكثير.
كما حدثنا محمد ، قال : ثنا أحمد ، قال : ثنا أسباط ، عن السديّ( فَذُو دُعَاءٍ
عَرِيضٍ ) يقول : كثير ، وذلك قول الناس : أطال فلان الدعاء : إذا أكثر ، وكذلك
أعرض دعاءه.
القول في تأويل قوله تعالى : { قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ
ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (52) }
يقول تعالى ذكره لنبيّه محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم( قُلْ ) يا محمد
للمكذّبين بما جئتهم به من عند ربك من هذا القرآن( أَرَأَيْتُمْ ) أيها القوم(
إِنْ كَانَ ) هذا الذي تكذبون به( مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ )
ألستم في فراق وبعد من الصواب ، فجعل مكان التفريق الخبر ، فقال : ( مَنْ أَضَلُّ
مِمَّنْ هُوَ فِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ ) إذا كان مفهوما معناه.
وقوله : ( مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ ) يقول : قل لهم من أشد
ذهابا عن قصد السبيل ، وأسلك لغير طريق الصواب ، ممن هو في فراق لأمر الله وخوف له
، بعيد من الرشاد.
القول في تأويل قوله تعالى : { سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي
أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ
بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (53) }
(21/492)
يقول تعالى ذكره : سنري هؤلاء
المكذّبين ، ما أنزلنا على محمد عبدنا من الذكر ، آياتنا في الآفاق.
واختلف أهل التأويل في معنى الآيات التي وعد الله هؤلاء القوم أن يريهم ، فقال
بعضهم : عني بالآيات في الآفاق وقائع النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم بنواحي
بلد المشركين من أهل مكة وأطرافها ، وبقوله : ( وَفِي أَنْفُسِهِمْ ) فتح مكة.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا أبو كريب ، قال : ثنا ابن يمان ، عن سفيان ، عن عمرو بن دينار ، عن عمرو بن أبي
قيس ، عن المنهال ، في قوله : ( سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ ) قال : ظهور
محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم على الناس.
حدثنا محمد ، قال : ثنا أحمد ، قال : ثنا أسباط ، عن السديّ( سَنُرِيهِمْ
آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ ) يقول : ما نفتح لك يا محمد من الآفاق( وَفِي
أَنْفُسِهِمْ ) في أهل مكة ، يقول : نفتح لك مكة.
وقال آخرون : عنى بذلك أنه يريهم نجوم الليل وقمره ، وشمس النهار ، وذلك ما وعدهم
أنه يريهم في الآفاق. وقالوا : عنى بالآفاق : آفاق السماء ، وبقوله : ( وَفِي
أَنْفُسِهِمْ ) سبيل الغائط والبول.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : ( سَنُرِيهِمْ
آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ ) قال : آفاق السموات : نجومها وشمسها
وقمرها اللاتي يجرين ، وآيات فى أنفسهم أيضا.
وأولى القولين في ذلك بالصواب القول الأول ، وهو ما قاله السديّ ، وذلك أن الله
عزّ وجلّ وعد نبيّه صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم أن يري هؤلاء المشركين الذين
كانوا به مكذّبين آيات في الآفاق ، وغير معقول أن يكون تهدّدهم بأن
(21/493)
أَلَا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَاءِ رَبِّهِمْ أَلَا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ (54)
يريهم ما هم راءوه ، بل الواجب أن يكون
ذلك وعدا منه لهم أن يريهم ما لم يكونوا راؤه قبل من ظهور نبيّ الله صَلَّى الله
عَلَيْهِ وَسَلَّم على أطراف بلدهم وعلى بلدهم ، فأما النجوم والشمس والقمر ، فقد
كانوا يرونها كثيرا قبل وبعد ولا وجه لتهددهم بأنه يريهم ذلك.
وقوله : ( حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ ) يقول جلّ ثناؤه : أري
هؤلاء المشركين وقائعنا بأطرافهم وبهم حتى يعلموا حقيقة ما أنزلنا إلى محمد ،
وأوحينا إليه من الوعد له بأنا مظهرو ما بعثناه به من الدين على الأديان كلها ، ولو
كره المشركون.
وقوله : ( أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ) يقول
تعالى ذكره : أولم يكف بربك يا محمد أنه شاهد على كل شيء مما يفعله خلقه ، لا يعزب
عنه علم شيء منه ، وهو مجازيهم على أعمالهم ، المحسن بالإحسان ، والمسيء جزاءه.
وفي قوله : ( أنَّهُ ) وجهان :
أحدهما : أن يكون في موضع خفض على وجه تكرير الباء ، فيكون معنى الكلام حينئذ :
أولم يكف بربك بأنه على كلّ شيء شهيد ؟ والآخر : أن يكون في موضع رفع رفعا ، بقوله
: يكف ، فيكون معنى الكلام : أولم يكف بربك شهادته على كل شيء.
القول في تأويل قوله تعالى : { أَلا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَاءِ
رَبِّهِمْ أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ (54) }
يقول تعالى ذكره : ألا إن هؤلاء المكذّبين بآيات الله في شكّ من لقاء ربهم ، يعني
أنهم في شك من البعث بعد الممات ، ومعادهم إلى ربهم.
كما حدثنا محمد ، قال : ثنا أحمد ، قال : ثنا أسباط ، عن السديّ( أَلا إِنَّهُمْ
فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَاءِ رَبِّهِمْ ) يقول : في شك.
(21/494)
وقوله : ( أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ
مُحِيطٌ ) يقول تعالى ذكره : ألا أن الله بكل شيء مما خلق محيط علما بجميعه ،
وقدرة عليه ، لا يعزب عنه علم شيء منه أراده فيفوته ، ولكن المقتدر عليه العالم
بمكانه.
آخر تفسير سورة فصلت
(21/495)
حم (1) عسق (2) كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3)
تفسير سورة الشورى
بسم الله الرحمن الرحيم
القول في تأويل قوله تعالى : { حم (1) عسق (2) كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى
الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3) }
قد ذكرنا اختلاف أهل التأويل في معاني حروف الهجاء التي افتتحت بها أوائل ما افتتح
بها من سور القرآن ، وبينا الصواب من قولهم في ذلك عندنا بشواهده المغنية عن
إعادتها في هذا الموضع إذ كانت هذه الحروف نظيرة الماضية منها.
وقد ذكرنا عن حُذيفة في معنى هذه خاصة قولا وهو ما حدثنا به أحمد بن زهير ، قال :
ثنا عبد الوهاب بن نجدة الحوطي ، قال : ثنا أبو المُغيرة عبد القدوس بن الحجاج
الحمصي ، عن أرطأة بن المنذر قال : جاء رجل إلى ابن عباس ، فقال له وعنده حُذيفة
بن اليمان ، أخبرني عن تفسير قول الله : (حم عسق) قال : فأطرق ثم أعرض عنه ، ثم
كرّر مقالته فأعرض فلم يجبه بشيء وكره مقالته ، ثم كرّرها الثالثة فلم يجبه شيئا ،
فقال له حُذيفة : أنا أنبئك بها ، قد عرفت بم كرهها; نزلت في رجل من أهل بيته يقال
له عبد الإله أو عبد الله ينزل على نهر من أنهار المشرق ، تبنى عليه مدينتان يشقّ
النهر بينهما شقا ، فإذا أذن الله في زوال مُلكهم ، وانقطاع دولتهم ومدتهم ، بعث
الله على إحداهما نارا ليلا فتصبح سوداء مظلمة قد احترقت ، كأنها لم تكن مكانها ،
وتصبح صاحبتها متعجبة ، كيف أفلتت ، فما هو إلا بياض يومها ذلك حتى يجتمع فيها كل
جبار عنيد منهم ، ثم يخسف الله بها وبهم جميعا ، فذلك قوله : (حم عسق)
(21/497)
لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (4) تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ وَالْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَلَا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (5)
يعني : عزيمة من الله وفتنة وقضاء حم ،
عين : يعني عدلا منه ، سين : يعني سيكون ، وقاف : يعني واقع بهاتين المدينتين.
وذُكر عن ابن عباس أنه كان يقرأه " حم. سق " بغير عين ، ويقول : إن
السين : عمر كل فرقة كائنة وإن القاف : كل جماعة كائنة; ويقول : إن عليا إنما كان
يعلم العين بها. وذُكر أن ذلك في مصحف عبد الله (1) على مثل الذي ذكر عن ابن عباس
من قراءته من غير عين.
وقوله : ( كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ
الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ) يقول تعالى ذكره : هكذا يوحي إليك يا محمد والى الذين من
قبلك من أنبيائه. وقيل : إن حم عين سين قد أوحيت إلى كل نبي بعث ، كما أوحيت إلى
نبينا صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم ، ولذلك قيل : ( كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ
وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ ) في انتقامه من أعدائه(
الحَكِيمُ ) في تدبيره خلقه.
القول في تأويل قوله تعالى : { لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ
وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (4) تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ
فَوْقِهِنَّ وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ
لِمَنْ فِي الأرْضِ أَلا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (5) }
يقول تعالى ذكره : (لِلَّهِ) ملك( مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ ) من
الأشياء كلها( وَهُوَ الْعَلِيُّ ) يقول : وهو ذو علوّ وارتفاع على كل شيء ،
والأشياء كلها دونه ، لأنهم في سلطانه ، جارية عليهم قدرته ، ماضية فيهم مشيئته(
العَظِيمُ ) الذي له العظمة والكبرياء والجبرية.
وقوله : ( تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ ) يقول تعالى
ذكره : تكاد
__________
(1) عبد الله : هو ابن مسعود رضي الله عنه ، معلم أهل الكوفة القرآن .
(21/500)
السموات يتشققن من فوق الأرضين ، من
عظمة الرحمن وجلاله.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ،
عن ابن عباس ، قوله : ( تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ )
قال : يعني من ثقل الرحمن وعظمته تبارك وتعالى.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : ( تَكَادُ
السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ ) : أي من عظمة الله وجلاله.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : ثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، مثله.
حدثنا محمد ، قال : ثنا أحمد ، قال : ثنا أسباط ، عن السديّ( تَكَادُ
السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ ) قال : يتشقَّقن في قوله : ( مُنْفَطِرٌ بِهِ ) قال
: منشقّ به.
حدثنا عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك
يقول ، في قوله : ( يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ ) يقول : يتصدعن من عظمة الله.
حدثنا محمد بن منصور الطوسي ، قال : ثنا حسين بن محمد ، عن أبي معشر ، عن محمد بن
قيس ، قال : جاء رجل إلى كعب فقال : يا كعب أين ربنا ؟ فقال له الناس : دقّ الله
تعالى ، أفتسال عن هذا ؟ فقال كعب : دعوه ، فإن يك عالما ازداد ، وإن يك جاهلا
تعلم. سألت أين ربنا ، وهو على العرش العظيم متكئ ، واضع إحدى رجليه على الأخرى ،
ومسافة هذه الأرض التي أنت عليها خمسمائة سنة ومن الأرض إلى الأرض مسيرة خمس مئة
سنة ، وكثافتها خمس مئة سنة ، حتى تمّ سبع أرضين ، ثم من الأرض إلى السماء مسيرة
خمس مئة سنة ، وكثافتها خمس مئة سنة ، والله على العرم متكئ ، ثم تفطر السموات.
(21/501)
وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (6)
ثم قال كعب : اقرءوا إن شئتم( مِنْ
فَوْقِهِنَّ ).... الآية.
وقوله : ( وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ ) يقول تعالى ذكره :
والملائكة يصلون بطاعة ربهم وشكرهم له من هيبة جلاله وعظمته.
كما حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثنا أبي ، عن أبيه
، عن ابن عباس( وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ ) قال :
والملائكة يسبحون له من عظمته.
وقوله : ( وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الأرْضِ ) يقول : ويسألون ربهم المغفرة
لذنوب من في الأرض من أهل الإيمان به.
كما حدثنا محمد ، قال : ثنا أحمد ، قال : ثنا أسباط ، عن السديّ ، في قوله : (
وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الأرْضِ ) قال : للمؤمنين.
يقول الله عزّ وجلّ : ألا إن الله هو الغفور لذنوب مؤمني عباده ، الرحيم بهم أن
يعاقبهم بعد توبتهم منها.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَولِيَاءَ
اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (6) }
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم( وَالَّذِينَ
اتَّخَذُوا ) يا محمد من مشركي قومك( مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ ) آلهة يتولونها
ويعبدونها( اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ ) يحصي عليهم أفعالهم ، ويحفظ أعمالهم ،
ليجازيهم بها يوم القيامة جزاءهم.( وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ )
يقول : ولست أنت يا محمد بالوكيل عليهم بحفظ أعمالهم ، إنما أنت منذر ، فبلغهم ما
أرسلت به إليهم ، فإنما عليك البلاغ وعلينا الحساب.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا
(21/502)
وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لَا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ (7)
عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى
وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي
الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ (7) }
يقول تعالى ذكره : وهكذا( أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ) يا محمد( قُرْآنًا عَرَبِيًّا )
بلسان العرب ، لأن الذين أرسلتك إليهم قوم عرب ، فأوحينا إليك هذا القرآن بألسنتهم
، ليفهموا ما فيه من حجج الله وذكره ، لأنا لا نرسل رسولا إلا بلسان قومه ، ليبين
لهم( لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى ) وهي مكة( وَمَنْ حَوْلَهَا ) يقول : ومن حول أم
القرى من سائر الناس.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد ، قال : ثنا أحمد ، قال : ثنا أسباط ، عن السديّ ، في قوله : (
لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى ) قال : مكة.
وقوله : ( وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ ) يقول عزّ وجلّ : وتنذر عقاب الله في يوم
الجمع عباده لموقف الحساب والعرض. وقيل : وتنذر يوم الجمع ، والمعنى : وتنذرهم يوم
الجمع ، كما قيل : يخوّف أولياءه ، والمعنى : يخوّفكم أولياءه.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد ، قال : ثنا أحمد ، قال : ثنا أسباط ، عن السديّ( وَتُنْذِرَ يَوْمَ
الْجَمْعِ ) قال : يوم القيامة.
وقوله : ( لا رَيْبَ فِيهِ ) يقول : لا شكّ فيه.
وقوله : ( فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ ) يقول : منهم فريق في
الجنة ، وهم الذين آمنوا بالله واتبعوا ما جاءهم به رسوله( وَفَرِيقٌ فِي
السَّعِيرِ ) يقول : ومنهم فريق في الموقدة من نار الله المسعورة على
(21/503)
أهلها ، وهم الذين كفروا بالله ،
وخالفوا ما جاءهم به رسوله.
وقد حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرني عمرو بن الحارث ، عن أبي
قبيل المعافريّ ، عن شفيّ الأصبحيّ ، عن رجل من أصحاب رسول الله صَلَّى الله
عَلَيْهِ وَسَلَّم ، قال : " خرج علينا رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ
وَسَلَّم وفى يده كتابان ، فقال : " هل تدرون ما هذا ؟ " فقلنا : لا إلا
أن تخبرنا يا رسول الله ، قال : " هَذَا كِتابٌ مِنْ رَبّ العَالمِينَ ،
فِيهِ أسْمَاءُ أهْلِ الجَنَّة ، وأسْمَاءُ آبائِهِمْ وَقَبَائِلِهِمْ " ،
ثُمَّ أجْمَلَ (1) على آخِرِهِمْ ، فَلا يُزَاد فِيهِمْ وَلا يُنْقَصُ مِنْهُمْ
أبَدًا ، وهَذَا كِتَابُ أهْلِ النَّارِ بأسْمائِهِمْ وأسْمَاءِ آبَائِهِمْ "
، ثُمَّ أجْمَلَ على آخِرِهِمْ ، " فَلا يُزَادُ ولا يُنْقَصُ مِنْهُمْ
أبَدًا " ، قال أصحاب رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم : ففيم إذن
نعمل إن كان هذا أمر قد فُرغ منه ؟ فقال رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم
: " بَلْ سَدِّدُوا وقَارِبُوا ، فإنَّ صَاحبَ الجَنَّة يُخْتَمُ لَهُ
بعَمَلِ الْجَنَّةِ وإنْ عَمِلَ أيَّ عَمَلٍ ، وَصَاحِبُ النَّارِ يُخْتَمُ لَه
بعَمَلِ النَّارِ وإنْ عَمِلَ أيَّ عَمَلٍ ، فَرَغَ رَبُّكُمْ مِنَ العِبَادِ
" ثم قال رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم بيديه فنبذهما : "
فَرَغَ رَبُّكُمْ مِنَ الخَلْقِ ، فَرِيقٌ في الجَنَّةِ ، وفَرِيقٌ في السَّعِيرِ
" قالوا : سبحان الله ، فلم نعمل وننصب ؟ فقال رسول الله صَلَّى الله
عَلَيْهِ وَسَلَّم : " العَمَلُ إلى خَوَاتِمِهِ " .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرني عمرو بن الحارث وحيوة بن شريح ،
عن يحيى بن أبي أسيد ، أن أبا فراس حدثه أنه سمع عبد الله بن عمرو يقول : إن الله
تعالى ذكره لما خلق آدم نفضه نفض المزود ، فأخرج منه كلّ ذرية ، فخرج أمثال النغف
، فقبضهم قبضتين ، ثم قال : شقي وسعيد ، ثم ألقاهما ، ثم قبضهما فقال : ( فَرِيقٌ
فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ ) " .
قال : أخبرني عمرو بن الحارث ، عن أبي شُبُّويه ، حدثه عن ابن حجيرة أنه بلغه أن
موسى قال : يا ربّ خلقك الذين خلقتهم ، جعلت منهم فريقا في الجنة ،
__________
(1) أجمل : أي ذكر جملة عددهم في آخر الكتاب .
(21/504)
وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمُونَ مَا لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (8)
وفريقا في السعير ، لو ما أدخلتهم كلهم
الجنة قال : يا موسى ارفع زرعك ، فرفع ، قال : قد رفعت ، قال : ارفع ، فرفع ، فلم
يترك شيئا ، قال : يا رب قد رفعت ، قال : ارفع ، قال : قد رفعت إلا ما لا خير فيه
، قال : كذلك أدخل خلقي كلهم الجنة إلا ما لا خير فيه. وقيل : ( فَرِيقٌ فِي
الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ ) فرفع. وقد تقدم الكلام قبل ذلك بقوله : (
لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا ) بالنصب ، لأنه أريد به الابتداء ،
كما يقال : رأيت العسكر مقتول أو منهزم ، بمعنى : منهم مقتول ، ومنهم منهزم.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً
وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمُونَ مَا
لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (8) }
يقول تعالى ذكره : ولو أراد الله أن يجمع خلقه على هدى ، ويجعلهم على ملة واحدة
لفعل ، و( لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً ) يقول : أهل ملة واحدة ، وجماعة مجتمعة
على دين واحد.
يقول : لم يفعل ذلك فيجعلهم أمة واحدة ، ولكن يدخل من يشاء ، من عباده في رحمته ،
يعني أنه يدخله في رحمته بتوفيقه إياه للدخول في دينه ، الذي ابتعث به نبيه محمدا
صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم.
يقول : والكافرون بالله ما لهم من ولي يتولاهم يوم القيامة ، ولا نصير ينصرهم من
عقاب الله حين يعاقبهم ، فينقذهم من عذابه ، ويقتص لهم ممن عاقبهم ، وإنما قيل هذا
لرسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم تسلية له عما كان يناله من الهمّ بتولية
قومه عنه ، وأمرا له بترك إدخال المكروه على نفسه من أجل إدبار من أدبر عنه منهم ،
فلم يستجب لما دعاه إليه من الحق ، وإعلاما له أن أمور عباده بيده ، وأنه الهادي
إلى الحق من شاء ، والمضل من أراد دونه ، ودون كلّ أحد سواه.
(21/505)
أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ وَهُوَ يُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (9) وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (10)
القول في تأويل قوله تعالى : { أَمِ
اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ وَهُوَ يُحْيِي
الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (9) وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ
شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ
وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (10) }
يقول تعالى ذكره : أم اتخذ هؤلاء المشركون بالله أولياء من دون الله يتولونهم.(
فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ ) يقول : فالله هو وليّ أوليائه ، وإياه فليتخذوا وليا
لا الآلهة والأوثان ، ولا ما لا يملك لهم ضرّا ولا نفعا.( وَهُوَ يُحْيِي
الْمَوْتَى )يقول : والله يحيي الموتى من بعد مماتهم ، فيحشرهم يوم القيامة.(
وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) يقول : والله القادر على إحياء خلقه من بعد
مماتهم وعلى غير ذلك ، إنه ذو قدرة على كل شيء.
وقوله : ( وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ) يقول
تعالى ذكره : وما اختلفتم أيها الناس فيه من شيء فتنازعتم بينكم ، فحكمه إلى الله.
يقول : فإن الله هو الذي يقضي بينكم ويفصل فيه الحكم.
كما حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث ،
قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله
: ( وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ) قال ابن
عمرو في حديثه : فهو يحكم فيه ، وقال الحارث : فالله يحكم فيه.
وقوله : ( ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ ) يقول لنبيه صَلَّى الله
عَلَيْهِ وَسَلَّم : قل لهؤلاء المشركين بالله هذا الذي هذه الصفات صفاته ربي ، لا
آلهتكم التي تدعون من دونه ، التي لا تقدر على شيء( عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ ) في
أموري ، وإليه فوضت أسبابي ، وبه وثقت( وَإِلَيْهِ أُنِيبُ ) يقول : وإليه أرجع في
أموري وأتوب من ذنوبي.
(21/506)
فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11)
القول في تأويل قوله تعالى : { فَاطِرُ
السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ
الأنْعَامِ أَزْوَاجًا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ
السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11) }
يقول تعالى ذكره : ( فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ ) ، خالق السموات السبع
والأرض. كما :
حدثنا محمد ، قال : ثنا أحمد ، قال : ثنا أسباط ، عن السديّ ، قوله : ( فَاطِرُ
السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ ) قال : خالق.
وقوله : ( جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا ) يقول تعالى ذكره : زوّجكم
ربكم من أنفسكم أزواجا. وإنما قال جلّ ثناؤه : ( مِنْ أَنْفُسِكُمْ ) لأنه خلق
حوّاء من ضلع آدم ، فهو من الرجال.( وَمِنَ الأنْعَامِ أَزْوَاجًا ) يقول جلّ
ثناؤه : وجعل لكم من الأنعام أزواجا من الضأن اثنين ، ومن المعز اثنين ، ومن الإبل
اثنين ، ومن البقر اثنين ، ذكورا وإناثا ، ومن كل جنس من ذلك.( يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ
) يقول : يخلقكم فيما جعل لكم من أزواجكم ، ويعيشكم فيما جعل لكم من الأنعام. وقد
اختلف أهل التأويل في معنى قوله : ( يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ ) في هذا الموضع ، فقال
بعضهم : معنى ذلك : يخلقكم فيه.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث ، قال :
ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيع ، عن مجاهد ، في قوله : (
يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ ) قال : نسل بعد نسل من الناس والأنعام.
حدثنا محمد بن المثنى ، قال : ثنا أحمد ، قال : ثنا أسباط ، عن السديّ ، قوله : (
يَذْرَؤُكُمْ ) قال : يخلقكم.
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا حكام ، عن عنبسة ، عن محمد بن عبد
(21/507)
الرحمن ، عن القاسم بن أبي بزّة ، عن
مجاهد ، في قوله : ( يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ ) قال : نسلا بعد نسل من الناس والأنعام.
حدثنا محمد بن المثنى ، قال : ثنا محمد بن جعفر ، قال ثنا شعبة ، عن منصور ، أنه
قال في هذه الآية : ( يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ ) قال يخلقكم.
وقال آخرون : بل معناه : يعيشكم فيه.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ،
عن ابن عباس ، قوله : ( جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ
الأنْعَامِ أَزْوَاجًا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ ) يقول : يجعل لكم فيه معيشة تعيشون
بها.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : ثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة(
يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ ) قال : يعيشكم فيه.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : ( يَذْرَؤُكُمْ
فِيهِ ) قال : عيش من الله يعيشكم فيه. وهذان القولان وإن اختلفا في اللفظ من
قائليهما فقد يحتمل توجيههما إلى معنى واحد ، وهو أن يكون القائل في معناه يعيشكم
فيه ، أراد بقوله ذلك : يحييكم بعيشكم به كما يحيي من لم يخلق بتكوينه إياه ،
ونفخه الروح فيه حتى يعيش حيا. وقد بينت معنى ذرء الله الخلق فيما مضى بشواهده
المغنية عن إعادته.
وقوله : ( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ) فيه وجهان : أحدهما أن يكون معناه : ليس هو
كشيء ، وأدخل المثل في الكلام توكيدًا للكلام إذا اختلف اللفظ به وبالكاف ، وهما
بمعنى واحد ، كما قيل :
ما إن نديت بشيء أنت تكرهه (1)
__________
(1) هذا مصراع أول من بيت للنابغة الذبياني . وعجزه : * إذن فلا رفعت سوطي إلى يدي
*
( انظر مختار الشعر الجاهلي بشرح مصطفى السقا طبعة الحلبي ) ورواية الشطر الأول
فيه : * ما قلت من سييء مما أتيت به *
قال شارحه : يقول : إذا كنت قلت هذا الذي بلغك ، فشلت يدي حتى لا أطيق رفع السوط
على خفته . وروى في اللسان والتاج كرواية المؤلف ، قال الزبيدي : يقال : ما نديني
من فلان شيء أكرهه ، أي ما بلني ولا أصابني . وما نديت له كفى بشر وما نديت بشيء .
ومحل الشاهد في البيت عند المؤلف قوله " ما إن " حيث أدخل حرف النفي
" ما " على حرف النفي " إن " لاختلاف لفظهما ، توكيدا للكلام
. وهو نظير إدخال كاف التشبيه ، على كلمة " مثل " التي تفيد التشبيه ،
في قوله تعالى (ليس كمثله شيء) ، لتوكيد الكلام ؛ لاختلاف اللفظين .
(21/508)
فأدخل على " ما " وهي حرف
جحد " إن " وهي أيضًا حرف جحد ، لاختلاف اللفظ بهما ، وإن اتفق معناهما
توكيدا للكلام ، وكما قال أوس بن حجر :
وَقَتْلَى كمِثْلِ جذُوعِ النَّخيلْ... تَغَشَّاهُمُ مُسْبِلٌ مُنْهَمِرْ (1)
ومعنى ذلك : كجذوع النخيل ، وكما قال الآخر :
سَعْدُ بْنُ زيد إذَا أبْصَرْتَ فَضْلَهُمُ... ما إن كمِثْلِهِمِ فِي النَّاسِ
مِنْ أحَدٍ (2)
والآخر : أن يكون معناه : ليس مثل شيء ، وتكون الكاف هي المدخلة في الكلام ، كقول
الراجز :
* وَصَالِياتٍ كَكَما يُؤْثَفَيْنِ (3)
__________
(1) وهذا الشاهد من كلام أوس بن حجر التميمي ، وهو شاعر جاهلي مشهور ، شاهد
كالشاهد السابق ، أدل فيه أداة التشبيه " الكاف " على أختها في المعنى
" مثل " لاختلاف لفظهما ، توكيدا للكلام ، وهو نظير " ما " في
قوله تعالى : (ليس كمثله شيء ) .
(2) لم أقف على قائل هذا البيت . وقد استشهد به المؤلف على إدخال أداتي التشبيه (
الكاف ، ومثل ) معا على شيء واحد ، فهو في معنى الشاهدين قبله .
(3) هذا بيت من عدة أبيات من مشطور الرجز ، ينسبان على خطام المجاشعي ، ونسبهما
الجوهري في الصحاح ، والصقلي في شرحه لأبيات الإيضاح للفارسي ، إلى هميان بن قحافة
. وبيت الشاهد آخرها بيتا . ( انظر الأبيات في هامش صفحة 282 من الجزء الأول من سر
صناعة الإعراب لابن جنى طبعة شركة مصطفى البابي الحبي وأولاده ) وفيه : الصاليات :
الأثافي التي توضع عليها القدور وقد صليت النار حتى اسودت . ويؤثفين : يجعلن أثافي
للقدر ، وهي جمع أثفية ، يقال أثفى القدر يثفيها : جعل لها أثافي . ومحل الشاهد
قوله " كما " فإن الكاف الأولى حرف ، والثانية اسم بمعنى مثل . والمعنى
: لم يبق إلا حجارة منصوبة كمثل الأثافي . واستشهد به المؤلف على دخول الكاف على
الكاف لتوكيد الكلام.
(21/509)
لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (12)
فأدخل على الكاف كافا توكيدا للتشبيه ،
وكما قال الآخر :
تَنْفِي الغَيادِيقُ عَلى الطَّرِيقِ... قَلَّصَ عَنْ كَبَيْضَةٍ فِي نِيقِ (1)
فأدخل الكاف مع " عن " ، وقد بيَّنا هذا في موضع غير هذا المكان بشرح هو
أبلغ من هذا الشرح ، فلذلك تجوّزنا في البيان عنه في هذا الموضع.
وقوله : ( وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ) يقول جلّ ثناؤه واصفا نفسه بما هو به ،
وهو يعني نفسه : السميع لما تنطق به خلقه من قول ، البصير لأعمالهم ، لا يخفى عليه
من ذلك شيء ، ولا يعزب عنه علم شيء منه ، وهو محيط بجميعه ، محصٍ صغيره وكبيره(
لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ ) من خير أو شرّ.
القول في تأويل قوله تعالى : { لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ يَبْسُطُ
الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (12) }
يعني تعالى ذكره بقوله : ( لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ ) : له مفاتيح
خزائن السموات والأرض وبيده مغاليق الخير والشر ومفاتيحها ، فما يفتح من رحمة فلا
ممسك لها ، وما يمسك فلا مرسل له من بعده.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
__________
(1) لم أقف على قائل البيت . ولم يتضح لي معناه تماما ، ولعل فيه تحريفا من الناسخ
. وموضع الشاهد فيه واضح ، وهو دخول " عن " على الكاف في قوله "
كبيضة " فإما أن تكون الكاف زائدة ، أي عن بيضة ، وإما أن تكون الكاف اسما
بمعنى مثل في محل جر .
(21/510)
شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ (13)
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال
: ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد( لَهُ
مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ ) قال : مفاتيح بالفارسية.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : ثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة( لَهُ
مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ ) قال : مفاتيح السموات والأرض. وعن الحسن
بمثل ذلك.
ثنا محمد ، قال : ثنا أحمد ، قال : ثنا أسباط ، عن السديّ( لَهُ مَقَالِيدُ
السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ ) قال : خزائن السموات والأرض.
وقوله : ( يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ ) يقول : يوسع رزقه وفضله
على من يشاء من خلقه ، ويبسط له ، ويكثر ماله ويغنيه. ويقدر : يقول : ويقتر على من
يشاء منهم فيضيقه ويفقره.( إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ) يقول : إن الله تبارك
وتعالى بكل ما يفعل من توسيعه على من يوسع ، وتقتيره على من يقتر ، ومن الذي
يُصلحه البسط عليه في الرزق ، ويفسده من خلقه ، والذي يصلحه التقتير عليه ويفسده ،
وغير ذلك من الأمور ، ذو علم لا يخفى عليه موضع البسط والتقتير وغيره ، من صلاح
تدبير خلقه.
يقول تعالى ذكره : فإلى من له مقاليد السموات والأرض الذي صفته ما وصفت لكم في هذه
الآيات أيها الناس فارغبوا ، وإياه فاعبدوا مخلصين له الدين لا الأوثان والآلهة
والأصنام ، التي لا تملك لكم ضرّا ولا نفعا.
القول في تأويل قوله تعالى : { شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ
نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ
وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى
الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ
(21/511)
مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ
يُنِيبُ (13) }
يقول تعالى ذكره : ( شَرَعَ لَكُمْ ) ربكم أيها الناس( مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى
بِهِ نُوحًا ) أن يعمله( وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ) يقول لنبيه محمد صَلَّى
الله عَلَيْهِ وَسَلَّم : وشرع لكم من الدين الذي أوحينا إليك يا محمد ، فأمرناك
به( وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا
الدِّينَ ) يقول : شرع لكم من الدين ، أن أقيموا الدين " فأن " إذ كان
ذلك معنى الكلام ، في موضع نصب على الترجمة بها عن " ما " التي في قوله
: ( مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا ). ويجوز أن تكون في موضع خفض ردّا على الهاء التي في
قوله : ( بِهِ ) ، وتفسيرا عنها ، فيكون معنى الكلام حينئذ : شرع لكم من الدين ما
وصى به نوحا ، أن أقيموا الدين ولا تتفرّقوا فيه. وجائز أن تكون في موضع رفع على
الاستئناف ، فيكون معنى الكلام حينئذ : شرع لكم من الدين ما وصى به ، وهو أن
أقيموا الدين. وإذ كان معنى الكلام ما وصفت ، فمعلوم أن الذي أوصى به جميع هؤلاء
الأنبياء وصية واحدة ، وهي إقامة الدين الحق ، ولا تتفرقوا فيه.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث ، قال :
ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : ( مَا
وَصَّى بِهِ نُوحًا ) قال : ما أوصاك به وأنبيائه ، كلهم دين واحد.
حدثنا محمد ، قال : ثنا أحمد ، قال : ثنا أسباط ، عن السديّ ، في قوله : ( شَرَعَ
لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا ) قال : هو الدين كله.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : ( شَرَعَ لَكُمْ
مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا ) بعث نوح حين بعث بالشريعة بتحليل
(21/512)
الحلال ، وتحريم الحرام( وَمَا
وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ).
حدثنا محمد ، قال : ثنا أحمد ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة( شَرَعَ
لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا ) قال : الحلال والحرام.
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ،
عن ابن عباس ، قوله : ( شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا )....
إلى آخر الآية ، قال : حسبك ما قيل لك.
وعنى بقوله : ( أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ ) أن اعملوا به على ما شرع لكم وفرض ، كما
قد بينا فيما مضى قبل في قوله : ( أَقِيمُوا الصَّلاةَ ).
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد ، قال : ثنا أحمد ، قال : ثنا أسباط ، عن السديّ ، في قوله : ( أَنْ
أَقِيمُوا الدِّينَ ) قال : اعملوا به.
وقوله : ( وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ ) يقول : ولا تختلفوا في الدين الذي أمرتم
بالقيام به ، كما اختلف الأحزاب من قبلكم.
كما حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : ( وَلا
تَتَفَرَّقُوا فِيهِ ) تعلموا أن الفرقة هلكة ، وأن الجماعة ثقة.
وقوله : ( كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ ) يقول تعالى
ذكره لنبيه محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم : كبر على المشركين بالله من قومك
يا محمد ما تدعوهم إليه من إخلاص العبادة لله ، وإفراده بالألوهية والبراءة مما
سواه من الآلهة والأنداد.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( كَبُرَ عَلَى
(21/513)
وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (14)
الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ
إِلَيْهِ ) قال : أنكرها المشركون ، وكبر عليهم شهادة أن لا إله إلا الله ،
فصادمها إبليس وجنوده ، فأبى الله تبارك وتعالى إلا أن يمضيها وينصرها ويفلجها
ويظهرها على من ناوأها.
وقوله : ( اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ
يُنِيبُ ) يقول : الله يصطفي إليه من يشاء من خلقه ، ويختار لنفسه ، وولايته من
أحبّ.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال :
ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : (
اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ ) يقول
: ويوفق للعمل بطاعته ، واتباع ما بعث به نبيه عليه الصلاة والسلام من الحق من
أقبل إلى طاعته ، وراجع التوبة من معاصيه.
كما حدثنا محمد ، قال : ثنا أحمد ، قال : ثنا أسباط ، عن السديّ( وَيَهْدِي
إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ ) : من يقبل إلى طاعة الله.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَمَا تَفَرَّقُوا إِلا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ
الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلَى
أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ
بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (14) }
يقول تعالى ذكره : وما تفرّق المشركون بالله في أديانهم فصاروا أحزابا ، إلا من
بعد ما جاءهم العلم ، بأن الذي أمرهم الله به ، وبعث به نوحا ، هو إقامة الدين
الحقّ ، وأن لا تتفرّقوا فيه.
(21/514)
فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آَمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (15)
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن
ثور ، عن معمر ، عن قتادة( وَمَا تَفَرَّقُوا إِلا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ
الْعِلْمُ ) فقال : إياكم والفرقة فإنها هلكة( بَغْيًا بَيْنَهُمْ ) يقول : بغيا
من بعضكم على بعض وحسدا وعداوة على طلب الدنيا.( وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ
رَبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ) يقول جلّ ثناؤه : ولولا قول سبق يا محمد من ربك
لا يعاجلهم بالعذاب ، ولكنه أخر ذلك إلى أجل مسمى ، وذلك الأجل المسمى فيما ذُكر :
يوم القيامة.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد ، قال : ثنا أحمد ، قال : ثنا أسباط ، عن السديّ( وَلَوْلا كَلِمَةٌ
سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ) قال : يوم القيامة.
وقوله : ( لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ ) يقول : لفرغ ربك من الحكم بين هؤلاء المختلفين في
الحق الذي بعث به نبيه نوحا من بعد علمهم به ، بإهلاكه أهل الباطل منهم ، وإظهاره
أهل الحقّ عليهم.
وقوله : ( وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ ) يقول : وإن
الذين أتاهم الله من بعد هؤلاء المختلفين في الحقّ كتابه التوراة والإنجيل.( لَفِي
شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ ) يقول : لفي شكّ من الدين الذين وصّى الله به نوحا ، وأوحاه
إليك يا محمد ، وأمركما بإقامته مريب.
وبنحو الذي قلنا في معنى قوله : ( وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ
بَعْدِهِمْ ) قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد ، قال : ثنا أحمد ، قال : ثنا أسباط ، عن السديّ ، قوله : ( وَإِنَّ
الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ ) قال : اليهود والنصارى.
القول في تأويل قوله تعالى : { فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ
(21/515)
وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ
آمَنْتُ بِمَا أَنزلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لأعْدِلَ بَيْنَكُمُ
اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لا
حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ
(15) }
يقول تعالى ذكره : فإلى ذلك الدين الذي شَرَع لكم ، ووصّى به نوحا ، وأوحاه إليك
يا محمد ، فادع عباد الله ، واستقم على العمل به ، ولا تزغ عنه ، واثبت عليه كما
أمرك ربك بالاستقامة. وقيل : فلذلك فادع ، والمعنى : فإلى ذلك ، فوضعت اللام موضع
إلى ، كما قيل : ( بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا ) وقد بيَّنا ذلك في غير موضع من
كتابنا هذا.
وكان بعض أهل العربية يوجه معنى ذلك ، في قوله : ( فَلِذَلِكَ فَادْعُ ) إلى معنى
هذا ، ويقول : معنى الكلام : فإلى هذا القرآن فادع واستقم. والذي قال من هذا القول
قريب المعنى مما قلناه ، غير أن الذي قلنا في ذلك أولى بتأويل الكلام ، لأنه في
سياق خبر الله جلّ ثناؤه عما شرع لكم من الدين لنبيه محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ
وَسَلَّم بإقامته ، ولم يأت من الكلام ما يدلّ على انصرافه عنه إلى غيره.
وقوله : ( وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ ) يقول تعالى ذكره : ولا تتبع يا محمد
أهواء الذين شكُّوا في الحقّ الذي شرعه الله لكم من الذين أورثوا الكتاب من بعد
القرون الماضية قبلهم ، فتشك فيه ، كالذي شكوا فيه.
يقول تعالى ذكره : وقل لهم يا محمد : صدّقت بما أنزل الله من كتاب كائنا ما كان
ذلك الكتاب ، توراة كان أو إنجيلا أو زبورا أو صحف إبراهيم ، لا أكذب بشيء من ذلك
تكذيبكم ببعضه معشر الأحزاب ، وتصديقكم ببعض.
وقوله : ( وَأُمِرْتُ لأعْدِلَ بَيْنَكُمُ ) يقول تعالى ذكره : وقل لهم يا محمد :
وأمرني ربي أن أعدل بينكم معشر الأحزاب ، فأسير فيكم جميعا بالحق الذي أمرني به
وبعثني بالدعاء إليه.
(21/516)
كالذي حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ،
قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : ( وَأُمِرْتُ لأعْدِلَ بَيْنَكُمُ ) قال : أمر
نبي الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم أن يعدل ، فعدل حتى مات صلوات الله وسلامه
عليه. والعدل ميزان الله في الأرض ، به يأخذ للمظلوم من الظالم ، وللضعيف من
الشديد ، وبالعدل يصدّق الله الصادق ، ويكذّب الكاذب ، وبالعدل يردّ المعتدي
ويوبخه.
ذكر لنا أن نبي الله داود عليه السلام : كان يقول : ثلاث من كن فيه أعجبني جدا :
القصد في الفاقة والغنى ، والعدل في الرضا والغضب ، والخشية في السر والعلانية;
وثلاث من كن فيه أهلكه : شح مطاع ، وهوى متبع ، وإعجاب المرء بنفسه. وأربع من
أعطيهن فقد أعطي خير الدنيا والآخرة : لسان ذاكر ، وقلب شاكر ، وبدن صابر ، وزوجة
مؤمنة.
واختلف أهل العربية في معنى اللام التي في قوله : ( وَأُمِرْتُ لأعْدِلَ
بَيْنَكُمُ ) فقال بعض نحويي البصرة : معناها : كي ، وأمرت كي أعدل; وقال غيره :
معنى الكلام : وأمرت بالعدل ، والأمر واقع على ما بعده ، وليست اللام التي في
لأعدل بشرط; قال : ( وَأُمِرْتُ ) تقع على " أن " وعلى " كي "
واللام أمرت أن أعبد ، وكي أعبد ، ولأعبد. قال : وكذلك كلّ من طالب الاستقبال ،
ففيه هذه الأوجه الثلاثة.
والصواب من القول في ذلك عندي أن الأمر عامل في معنى لأعدل ، لأن معناه : وأمرت
بالعدل بينكم.
وقوله : ( اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ ) يقول : الله مالكنا ومالككم معشر
الأحزاب ما أهل الكتابين التوراة والإنجيل.
يقول : لنا ثواب ما اكتسبناه من الأعمال ، ولكم ثواب ما اكتسبتم منها.
وقوله : ( لا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ ) يقول : لا خصومة بيننا وبينكم. كما
:
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; والحارث ،
(21/517)
قال : ثنا الحسن ، قال ثنا ورقاء جميعا
، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله : ( لا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُم )
قال : لا خصومة.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قول الله عز وجل : (
لا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ ) لا خصومة بيننا وبينكم ، وقرأ : ( وَلا
تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ).... إلى آخر الآية.
وقوله : ( اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا ) يقول : الله يجمع بيننا يوم القيامة ،
فيقضي بيننا بالحقّ فيما اختلفنا فيه.( وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ ) يقول : وإليه
المعاد والمرجع بعد مماتنا.
(21/518)
وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ (16)
القول في تأويل قوله تعالى : {
وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ
دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ (16) }
يقول تعالى ذكره : والذين يخاصمون في دين الله الذي ابتعث به نبيه محمدا صَلَّى
الله عَلَيْهِ وَسَلَّم من بعد ما استجاب له الناس ، فدخلوا فيه من الذين أورثوا
الكتاب( حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ ) يقول : خصومتهم التي يخاصمون فيه باطلة ذاهبة عند
ربهم( وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ ) يقول : وعليهم من الله غضب ، ولهم في الآخرة عذاب
شديد ، وهو عذاب النار.
وذكر أن هذه الآية نزلت في قوم من اليهود خاصموا أصحاب رسول الله صَلَّى الله
عَلَيْهِ وَسَلَّم في دينهم ، وطمعوا أن يصدوهم عنه ، ويردوهم عن الإسلام إلى
الكفر.
* ذكر الرواية عمن ذكر ذلك عنه :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ،
عن ابن عباس ، قوله : ( وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا
اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ
وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ )
(21/518)
اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ (17)
قال : هم أهل الكتاب كانوا يجادلون
المسلمين ، ويصدّونهم عن الهدى من بعد ما استجابوا لله. وقال : هم أهل الضلالة كان
استجيب لهم على ضلالتهم ، وهم يتربصون بأن تأتيهم الجاهلية.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث ، قال :
ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد( وَالَّذِينَ
يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ ) قال : طمع رجال بأن
تعود الجاهلية.
حدثنا محمد بن المثنى ، قال : ثنا محمد بن جعفر ، قال : ثنا شعبة ، عن منصور ، عن
مجاهد ، أنه قال في هذه الآية( وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ
مَا اسْتُجِيبَ لَهُ ) قال : بعد ما دخل الناس في الإسلام.
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة( وَالَّذِينَ
يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ
عِنْدَ رَبِّهِمْ ) قال : هم اليهود والنصارى ، قالوا : كتابنا قبل كتابكم ،
ونبينا قبل نبيكم ، ونحن خير منكم.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : ( وَالَّذِينَ
يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ ).....
الآية ، قال : هم اليهود والنصارى حاجوا أصحاب نبي الله صَلَّى الله عَلَيْهِ
وَسَلَّم ، فقالوا : كتابنا قبل كتابكم ، ونبينا قبل نبيكم ، ونحن أولى بالله
منكم.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : ( وَالَّذِينَ
يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ ).... إلى آخر الآية ، قال : نهاه عن الخصومة.
القول في تأويل قوله تعالى : { اللَّهُ الَّذِي أَنزلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ
وَالْمِيزَانَ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ (17) يَسْتَعْجِلُ
(21/519)
يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِهَا وَالَّذِينَ آَمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ أَلَا إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ (18)
بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِهَا
وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ أَلا
إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلالٍ بَعِيدٍ (18) }
يقول تعالى ذكره : ( اللَّهُ الَّذِي أَنزلَ ) هذا( الكِتَابَ ) يعني القرآن(
بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ ) يقول : وأنزل الميزان وهو العدل ، ليقضي بين الناس
بالإنصاف ، ويحكم فيهم بحكم الله الذي أمر به في كتابه.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثنا الحارث ، قال :
ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : ( أَنزلَ
الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ ) قال : العدل.
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، في قوله : (
الَّذِي أَنزلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ ) قال : الميزان : العدل.
وقوله : ( وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ ) يقول تعالى ذكره : وأيّ
شيء يدريك ويعلمك ، لعل الساعة التي تقوم فيها القيامة قريب( يَسْتَعْجِلُ بِهَا
الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِهَا ) : يقول : يستعجلك يا محمد بمجيئها الذين لا
يوقنون بمجيئها ، ظنا منهم أنها غير جائية( وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا
) يقول : والذين صدّقوا بمجيئها ، ووعد الله إياهم الحشر فيها ، ( مُشْفِقُونَ
مِنْهَا ) يقول : وَجِلون من مجيئها ، خائفون من قيامها ، لأنهم لا يدرون ما الله
فاعل بهم فيها( وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ ) يقول : ويوقنون أن مجيئها الحقّ
اليقين ، لا يمترون في مجيئها( أَلا إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ فِي السَّاعَةِ )
يقول تعالى ذكره : ألا إن الذين يخاصمون في قيام الساعة ويجادلون فيه( لَفِي
ضَلالٍ بَعِيدٍ ) يقول : لفي جَور عن طريق الهدى ، وزيغ عن سبيل الحقّ والرشاد ،
بعيد من الصواب.
(21/520)
اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (19) مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآَخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآَخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ (20)
القول في تأويل قوله تعالى : { اللَّهُ
لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (19)
مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ نزدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ
حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ (20) }
يقول تعالى ذكره : الله ذو لطف بعباده ، يرزق من يشاء فيوسع عليه ويقتر على من
يشاء منهم.( وَهُوَ الْقَوِيُّ ) الذي لا يغلبه ذو أيد لشدته ، ولا يمتنع عليه إذا
أراد عقابه بقدرته( العَزِيزُ ) في انتقامه إذا انتقم من أهل معاصيه.( مَنْ كَانَ
يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ نزدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ ) يقول تعالى ذكره : من كان يريد
بعمله الآخرة نزد له في حرثه : يقول : نزد له في عمله الحسن ، فنجعل له بالواحدة
عشرا ، إلى ما شاء ربنا من الزيادة( وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا
نُؤْتِهِ مِنْهَا ) يقول : ومن كان يريد بعمله الدنيا ولها يسعى لا للآخرة ، نؤته
منها ما قسمنا له منها.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ،
عن ابن عباس ، قوله : ( مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ نزدْ لَهُ فِي
حَرْثِهِ )... إلى( وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ ) قال : يقول : من كان
إنما يعمل للدنيا نؤته منها.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( مَنْ كَانَ يُرِيدُ
حَرْثَ الآخِرَةِ نزدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا
) .... الآية ، يقول : من آثر دنياه على آخرته لم نجعل له نصيبا في الآخرة إلا
النار ، ولم نزده بذلك
(21/521)
أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ وَلَوْلَا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (21)
من الدنيا شيئا إلا رزقا قد فرغ منه
وقسم له.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : ( مَنْ كَانَ
يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ نزدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ ) قال : من كان يريد الآخرة
وعملها نزد له في عمله( وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا
)... إلى آخر الآية ، قال : من أراد الدنيا وعملها آتيناه منها ، ولم نجعل له في
الآخرة من نصيب ، الحرث العمل ، من عمل للآخرة أعطاه الله ، ومن عمل للدنيا أعطاه
الله.
حدثني محمد ، قال : ثنا أحمد ، قال : ثنا أسباط ، عن السديّ ، قوله : ( مَنْ كَانَ
يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ نزدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ ) قال : من كان يريد عمل الآخرة
نزد له في عمله.
وقوله : ( وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ ) قال : للكافر عذاب أليم.
القول في تأويل قوله تعالى : { أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ
الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ وَلَوْلا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ
بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (21) }
يقول تعالى ذكره : أم لهؤلاء المشركين بالله شركاء في شركهم وضلالتهم( شَرَعُوا
لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ ) يقول : ابتدعوا لهم من
الدين ما لم يبح الله لهم ابتداعه( وَلَوْلا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ
بَيْنَهُمْ ) يقول تعالى ذكره : ولولا السابق من الله في أنه لا يعجل لهم العذاب
في الدنيا ، وأنه مضى من قيله إنهم مؤخرون بالعقوبة إلى قيام الساعة ، لفرغ من
الحكم بينكم وبينهم بتعجيله العذاب لهم في الدنيا ، ولكن لهم في الآخرة من العذاب
الأليم ، كما قال جلّ ثناؤه : ( وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ )
يقول : وإن الكافرين بالله لهم يوم القيامة عذاب مؤلم مُوجع.
(21/522)
تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (22)
القول في تأويل قوله تعالى : { تَرَى
الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ وَالَّذِينَ
آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ مَا
يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (22) }
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم : ترى يا محمد الكافرين
بالله يوم القيامة( مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا ) يقول : وَجِلين خائفين من عقاب
الله على ما كسبوا في الدنيا من أعمالهم الخبيثة.( وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ ) يقول :
والذين هم مشفقون منه من عذاب الله نازل بهم ، وهم ذائقوه لا محالة.
وقوله : ( وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي رَوْضَاتِ
الْجَنَّاتِ ) يقول تعالى ذكره : والذين آمنوا بالله وأطاعوه فيما أمر ونهى في
الدنيا في روضات البساتين في الآخرة. ويعني بالروضات : جمع روضة ، وهي المكان الذي
يكثر نبته ، ولا تقول العرب لمواضع الأشجار رياض; ومنه قول أبي النجم.
والنَّغضَ مِثْلَ الأجْرَبِ المُدَّجَّلِ... حَدائِقَ الرَّوْضِ التي لَمْ
تُحْلَلِ (1)
يعني بالروض : جمع روضة. وإنما عنى جل ثناؤه بذلك : الخبر عما هم
__________
(1) هذان بيتان من مشطور الرجز ، لأبي النجم الفضل بن قدامة العجلي والأرجوزة
بتمامها في مجلة المجمع العلمي ( مجلد 8 : 472 ) وروى البيت الأول منهما وفسره ابن
قتيبة في كتابه ( المعاني الكبير ، طبع الهند 332 - 333) والنغض من أسماء الظليم ،
لأنه يحرك رأسه إذا عدا . والمدجل : المهنوء بالقطران . وشبهه بالأجرب ، لأنه قد
أسن وذهب ريشه من أرفاغه . وفي ( اللسان : دجل) : شدة طلي الجرب بالقطران .
والمدجل : المهنوء بالقطران . ونغض برأسه ينغض نغضا : حركه . وإنما سمي الظليم
نغضا ، لأنه إذا عجل في مشيته ارتفع وانخفض . ا هـ . والنغض منصوب بالفعل " راعت
" في البيت قبله ، أي راقبته ونظرت إليه . والحدائق : جمع حديقة ، وهي القطعة
من الزرع ؛ وكل بستان كان عليه حائط فهو حديقة . وما لم يكن عليه حائط ، لم يقل له
حديقة . وقال الزجاج : الحدائق البساتين والشجر الملتف . وحدائق الروض : ما أعشب
منه والتف . يقال : روضة بني فلان ما هي إلا حديقة . وإذا لم يكن فيها عشب فهي
روضة ( اللسان : حدق ) ونصب قوله حدائق بقوله " تبقلت من أول التبقل "
وهو بيت في أول الأرجوزة . والتي لم تحال : التي لم توطأ ولم ترعها الحيوانات ،
فيقل نبتها .
(21/523)
فيه من السرور والنعيم.
كما : حدثني محمد بن سعد ، قال : ثنى أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن
أبيه ، عن ابن عباس قوله : ( وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي
رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ ) إلى آخر الآية. قال في رياض الجنة ونعيمها.
وقوله : ( لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ) يقول للذين آمنوا وعملوا
الصالحات عند ربهم في الآخرة ما تشتهيه أنفسهم ، وتلذّه أعينهم ، ذلك هوالفوز
الكبير ، يقول تعالى ذكره : هذا الذي أعطاهم الله من هذا النعيم ، وهذه الكرامة في
الآخرة : هو الفضل من الله عليهم ، الكبير الذي يفضل كلّ نعيم وكرامة في الدنيا من
بعض أهلها على بعض.
(21/524)
ذَلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبَادَهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ (23)
القول في تأويل قوله تعالى : { ذَلِكَ
الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبَادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ
قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى وَمَنْ
يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نزدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ (23)
}
يقول تعالى ذكره : هذا الذي أخبرتكم أيها الناس أني أعددته للذين آمنوا وعملوا
الصالحات في الآخرة من النعيم والكرامة ، البشرى التي يبشر الله عباده الذين آمنوا
به في الدنيا ، وعملوا بطاعته فيها.( قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا )
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم : قل يا محمد للذين
يمارونك في الساعة من مشركي قومك : لا أسألكم أيها القوم على دعايتكم إلى ما
أدعوكم إليه من الحق الذي جئتكم به ، والنصيحة التي أنصحكم ثوابا وجزاء ، وعوضا من
موالكم تعطوننيه( إِلا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى ).
واختلف أهل التأويل في معنى قوله : ( إِلا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى ). فقال
(21/524)
بعضهم : معناه : إلا أن تودّوني في
قرابتي منكم ، وتصلوا رحمي بيني وبينكم.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا أبو كريب ويعقوب ، قالا ثنا إسماعيل بن إبراهيم ، عن داود بن أبي هند ، عن
الشعبي ، عن ابن عباس ، في قوله : ( لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلا
الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى ) قال : لم يكن بطن من بطون قريش إلا وبين رسول الله
صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم وبينهم قرابة ، فقال : " قل لا أسألكم عليه
أجرا أن تودّوني في القرابة التي بيني وبينكم " .
حدثنا أبو كُرَيب ، قال : ثنا أبو أسامة ، قال : ثنا شعبة ، عن عبد الملك بن ميسرة
عن طاوس ، في قوله : ( قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلا الْمَوَدَّةَ
فِي الْقُرْبَى ) قال : سئل عنها ابن عباس ، فقال ابن جبير : هم قربى آل محمد ،
فقال ابن عباس : عجلت ، إن رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم لم يكن بطن من
بطون قريش إلا وله فيهم قرابة ، قال : فنزلت( قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ
أَجْرًا إِلا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى ) قال : " إلا القرابة التي بيني
وبينكم أن تصلوها " .
حدثني عليّ ، قال : ثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ،
قوله : ( قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى
) قال : كان لرسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم قرابة في جميع قريش ، فلما
كذبوه وأبوا أن يبايعوه قال : " يا قوم إذا أبيتم أن تبايعوني فاحفظوا قرابتي
فيكم لا يكن غيركم من العرب أولى بحفظي ونُصرتي منكم " .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ،
عن ابن عباس ، قوله : ( قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلا الْمَوَدَّةَ
فِي الْقُرْبَى ) يعني محمدا صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم ، قال لقريش : "
لا أسألكم من أموالكم شيئا ، ولكن أسألكم أن لا تؤذوني لقرابة ما بيني وبينكم ،
فإنكم قومي وأحقّ من أطاعني وأجابني " .
(21/525)
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا جرير ، عن
مغيرة ، عن عكرمة ، قال : إن النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم كان واسطا من
قريش ، كان له في كلّ بطن من قريش نسب ، فقال : ولا أسْألُكُمْ على ما أدْعُوكُمْ
إلَيْهِ إلا أنْ تَحْفظُوني في قَرَابَتِي ، قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ
أَجْرًا إِلا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى " .
حدثني يعقوب ، قال : ثنا هشيم ، قال : أخبرنا حصين ، عن أبي مالك ، قال : كان رسول
الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم واسط النسب من قريش ، ليس حيّ من أحياء قريش
إلا وقد ولدوه; قال : فقال الله عز وجل : ( قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا
إِلا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى ) : " إلا أن تودّوني لقرابتي منكم
وتحفظوني " .
حدثنا أبو حصين عبد الله بن أحمد بن يونس ، قال : ثنا عبثر ، قال : ثنا حصين ، عن
أبي مالك في هذه الآية : ( قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلا
الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى ) قال : كان رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم
من بني هاشم وأمه من بني زهرة وأم أبيه من بني مخزوم ، فقال : " احفظوني في
قرابتي " .
حدثنا ابن المثنى ، قال : ثنا حرمي ، قال : ثنا شعبة ، قال : أخبرني عمارة ، عن
عكرمة ، في قوله : ( قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلا الْمَوَدَّةَ فِي
الْقُرْبَى ) قال : تعرفون قرابتي ، وتصدّقونني بما جئت به ، وتمنعوني.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : ( قُلْ لا
أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى ) وإن الله تبارك
وتعالى أمر محمدا صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم أن لا يسأل الناس على هذا القرآن
أجرا إلا أن يصلوا ما بينه وبينهم من القرابة ، وكلّ بطون قريش قد ولدته وبينه
وبينهم قرابة.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث ، قال :
ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : ( إِلا
الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى ) أن تتبعوني ، وتصدقوني وتصلوا رحمي.
(21/526)
حدثنا محمد ، قال : ثنا أسباط ، عن
السديّ ، فى قوله : ( قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلا الْمَوَدَّةَ
فِي الْقُرْبَى ) قال : لم يكن بطن من بطون قريش إلا لرسول الله صَلَّى الله
عَلَيْهِ وَسَلَّم فيهم ولادة ، فقال : قل لا أسألكم عليه أجرا إلا أن تودوني
لقرابتي منكم.
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك
يقول في قوله : ( قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلا الْمَوَدَّةَ فِي
الْقُرْبَى ) يعني قريشا. يقول : إنما أنا رجل منكم ، فأعينوني على عدويّ ،
واحفظوا قرابتي ، وإن الذي جئتكم به لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى ، أن
تودّوني لقرابتي ، وتعينوني على عدويّ.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : ( قُلْ لا
أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى ) قال : يقول :
إلا أن تودّوني لقرابتي كما توادّون في قرابتكم وتواصلون بها ، ليس هذا الذي جئت
به يقطع ذلك عني ، فلست أبتغي على الذي جئت به أجرا آخذه على ذلك منكم.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب قال : أخبرني سعيد بن أبي أيوب ، عن عطاء بن
دينار ، في قوله : ( قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلا الْمَوَدَّةَ فِي
الْقُرْبَى ) يقول : لا أسألكم على ما جئتكم به أجرا ، إلا أن تودّوني في قرابتي
منكم ، وتمنعوني من الناس.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : ثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، في قوله
: ( قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى )
قال : كل قريش كانت بينهم وبين رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم قرابة ،
فقال : قل لا أسألكم عليه أجرا إلا أن تودوني بالقرابة التي بيني وبينكم.
وقال آخرون : بل معنى ذلك : قل لمن تبعك من المؤمنين : لا أسألكم على ما جئتكم به
أجرا إلا أن تودّوا قرابتي.
(21/527)
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمارة ، قال : ثنا إسماعيل بن أبان ، قال : ثنا الصباح بن يحيى
المريّ ، عن السديّ ، عن أبي الديلم قال : لما جيء بعليّ بن الحسين رضي الله عنهما
أسيرا ، فأقيم على درج دمشق ، قام رجل من أهل الشام فقال : الحمد لله الذي قتلكم
واستأصلكم ، وقطع قربى الفتنة ، فقال له عليّ بن الحسين رضي الله عنهما : أقرأت
القرآن ؟ قال : نعم ، قال : أقرأت آل حم ؟ قال : قرأت القرآن ولم أقرأ آل حم ، قال
: ما قرأت( قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلا الْمَوَدَّةَ فِي
الْقُرْبَى ) ؟ قال : وإنكم لأنتم هم ؟ قال نعم.
حدثنا أبو كُرَيب قال : ثنا مالك بن إسماعيل ، قال : ثنا عبد السلام ، قال : ثنا
يزيد بن أبي زياد ، عن مقسم ، عن ابن عباس ، قال : قالت الأنصار : فعلنا وفعلنا ،
فكأنهم فخروا ، قال ابن عباس ، أو العباس ، شكّ عبد السلام : لنا الفضل عليكم ،
فبلغ ذلك رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم ، فأتاهم في مجالسهم ، فقال :
" يا مَعْشَرَ الأنْصَارِ ألَمْ تَكُونُوا أذِلَّةً فأعَزَّكُمُ الله بِي ؟
" قالوا : بلى يا رسول الله ، قال : ألَمْ تَكُونُوا ضُلالا فَهَدَاكُمْ الله
بِي ؟ " قالوا : بلى يا رسول الله ، قال : " أفلا تُجِيبُونِي ؟ "
قالوا : ما نقول يا رسول الله ؟ قال : " ألا تقولون : ألَمْ يُخْرِجْكَ
قَوْمُكَ فآوَيْناكَ ، أوَلَمْ يُكَذِّبُوكَ فَصَدَّقْنَاكَ ، أوَلَمْ يَخْذُلُوكَ
فَنَصَرْنَاكَ ؟ " قال : فما زال يقول حتى جثوا على الركب ، وقالوا : أموالنا
وما في أيدينا لله ولرسوله ، قال : فنزلت( قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا
إِلا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى ).
حدثني يعقوب ، قال : ثنا مروان ، عن يحيى بن كثير ، عن أبي العالية ، عن سعيد بن
جُبير ، في قوله : ( قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلا الْمَوَدَّةَ فِي
الْقُرْبَى ) قال : هي قُربى رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم.
حدثني محمد بن عمارة الأسدي ومحمد بن خلف قالا ثنا عبيد الله قال : أخبرنا إسرائيل
، عن أبي إسحاق قال : سألت عمرو بن شعيبٍ ، عن قول الله
(21/528)
عزّ وجلّ : ( قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ
عَلَيْهِ أَجْرًا إِلا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى ) قال : قُربى النبيّ صَلَّى
الله عَلَيْهِ وَسَلَّم.
وقال آخرون : بل معنى ذلك : قل لا أسألكم أيها الناس على ما جئتكم به أجرا إلا أن
تودّدوا إلى الله ، وتتقربوا بالعمل الصالح والطاعة.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ بن داود ومحمد بن داود أخوه أيضًا قالا ثنا عاصم بن عليّ ، قال : ثنا
قزعة بن سويد ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، عن ابن عباس ، عن النبي صَلَّى الله
عَلَيْهِ وَسَلَّم : " قل لا أسألُكُمْ على ما أَتَيْتُكُمْ بِهِ مِنَ
البَيِّنَاتِ والهُدَى أجْرًا إلا أنْ تَوَدَّدُوا الله وتَتَقَرَّبُوا إلَيْهِ
بطاعَتِهِ " .
حدثنا ابن المثنى ، قال : ثنا محمد بن جعفر ، قال : ثنا شعبة ، عن منصور بن زاذان
، عن الحسن أنه قال في هذه الآية( قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلا
الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى ) قال : القُربى إلى الله.
حدثني يعقوب ، قال : ثنا هشيم ، قال : أخبرنا عوف ، عن الحسن ، في قوله : ( قُلْ
لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى ) قال : إلا
التقرّب إلى الله ، والتودّد إليه بالعمل الصالح.
بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قال : قال الحسن : في قوله :
( قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى ) قل
لا أسألكم على ما جئتكم به ، وعلى هذا الكتاب أجرا ، إلا المودّة في القربى ، إلا
أن تودّدوا إلى الله بما يقرّبكم إليه ، وعمل بطاعته.
قال بشر : قال يزيد : وحدثنيه يونس ، عن الحسن ، حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا
ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، في قوله : ( قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ
أَجْرًا إِلا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى ) إلا أن توددوا إلى الله فيما يقرّبكم
إليه.
وقال آخرون : بل معنى ذلك : إلا أن تصلوا قرابتكم.
(21/529)
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا أبو عامر ، قال : ثنا قرة ، عن عبد الله بن القاسم ، في
قوله : ( إِلا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى ) قال : أمرت أن تصل قرابتك.
وأولى الأقوال فى ذلك بالصواب ، وأشبهها بظاهر التنزيل قول من قال : معناه : قل لا
أسألكم عليه أجرا يا معشر قريش ، إلا أن تودّوني في قرابتي منكم ، وتصلوا الرحم
التي بيني وبينكم.
وإنما قلت : هذا التأويل أولى بتأويل الآية لدخول " في " في قوله : (
إِلا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى ) ، ولو كان معنى ذلك على ما قاله من قال : إلا
أن تودوا قرابتي ، أو تقربوا إلى الله ، لم يكن لدخول " في " في الكلام
في هذا الموضع وجه معروف ، ولكان التنزيل : إلا مودّة القُربى إن عُنِي به الأمر
بمودّة قرابة رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم ، أو إلا المودّة
بالقُرْبَى ، أو ذا القربى إن عُنِي به التودّد والتقرب. وفي دخول " في
" في الكلام أوضح الدليل على أن معناه : إلا مودّتي في قرابتي منكم ، وأن
الألف واللام فى المودّة أدخلتا بدلا من الإضافة ، كما قيل : ( فَإِنَّ الْجَنَّةَ
هِيَ الْمَأْوَى ) وقوله : " إلا " في هذا الموضع استثناء منقطع. ومعنى
الكلام : قل لا أسألكم عليه أجرا ، لكني أسألكم المودّة في القُربى ، فالمودّة
منصوبة على المعنى الذي ذكرت. وقد كان بعض نحويي البصرة يقول : هي منصوبة بمضمر من
الفعل ، بمعنى : إلا أن أذكر مودّة قرابتي.
وقوله : ( وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نزدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا ) يقول تعالى ذكره
: ومن يعمل حسنة ، وذلك أن يعمل عملا يطيع الله فيه من المؤمنين( نزدْ لَهُ فِيهَا
حُسْنًا ) يقول : نضاعف عمله ذلك الحسن ، فنجعل له مكان الواحد عشرا إلى ما شئنا
من الجزاء والثواب.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
(21/530)
أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَإِنْ يَشَأِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (24)
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد ، قال : ثنا أحمد ، قال : ثنا أسباط ، عن السديّ ، في قول الله عز وجل
: ( وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً ) قال : يعمل حسنة.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : ( وَمَنْ
يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نزدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا ) قال : من يعمل خيرا نزد له.
الاقتراف : العمل.
وقوله : ( إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ ) يقول : إن الله غفور لذنوب عباده ،
شكور لحسناتهم وطاعتهم إياه.
كما حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة : ( إِنَّ اللَّهَ
غَفُورٌ ) للذنوب( شَكُورٌ ) للحسنات يضاعفها.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : ( إِنَّ
اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ ) قال : غفر لهم الذنوب ، وشكر لهم نعما هو أعطاهم إياها
، وجعلها فيهم.
القول في تأويل قوله تعالى : { أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا
فَإِنْ يَشَأِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ
وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (24) }
يقول تعالى ذكره : أم يقول هؤلاء المشركون بالله : ( افْتَرَى ) محمد( عَلَى
اللَّهِ كَذِبًا ) فجاء بهذا الذي يتلوه علينا اختلاقا من قبل نفسه. وقوله : (
فَإِنْ يَشَأِ اللَّهُ ) يا محمد يطبع على قلبك ، فتنس هذا القرآن الذي أُنزل
إليك.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
(21/531)
وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ (25)
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة : ( أَمْ يَقُولُونَ
افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَإِنْ يَشَأِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ )
فينسيك القرآن.
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، فى قوله : ( فَإِنْ
يَشَأِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ ) قال : إن يشأ الله أنساك ما قد أتاك.
حدثنا محمد ، قال : ثنا أحمد ، قال : ثنا أسباط ، عن السديّ ، في قول الله عزّ
وجلّ : ( فَإِنْ يَشَأِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ ) قال : يطبع.
وقوله : ( وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ ) يقول : ويذهب الله بالباطل فيمحقه.(
وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ ) التي أنزلها إليك يا محمد فيثبته.
وقوله : ( وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ ) في موضع رفع بالابتداء ، ولكنه حُذفت منه
الواو في المصحف ، كما حُذفت من قوله : ( سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ ) ومن قوله : (
وَيَدْعُ الإنْسَانُ بِالشَّرِّ ) وليس بجزم على العطف على يختم.
وقوله : ( إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ) يقول تعالى ذكره : إن الله ذو علم
بما في صدور خلقه ، وما تنطوي عليه ضمائرهم ، لا يخفى عليه من أمورهم شيء ، يقول
لنبيه صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم : لو حدّثت نفسك أن تفتري على الله كذبا ،
لطبعت على قلبك ، وأذهبت الذي أتيتك من وحيي ، لأني أمحو الباطل فأذهبه ، وأحقّ
الحقّ ، وإنما هذا إخبار من الله الكافرين به ، الزاعمين أن محمدا افترى هذا
القرآن من قبل نفسه ، فأخبرهم أنه إن فعل لفعل به ما أخبر به في هذه الآية.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ
عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ (25) }
يقول تعالى ذكره : والله الذي يقبل مراجعة العبد إذا رجع إلى توحيد الله وطاعته من
بعد كفره( وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ ) يقول : ويعفو له أن يعاقبه على
(21/532)
وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَالْكَافِرُونَ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ (26)
سيئاته من الأعمال ، وهي معاصيه التي
تاب منها( وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ ) اختلف القرّاء في قراءة ذلك ، فقرأته عامة
قرّاء المدينة والبصرة " يَفْعَلُونَ " بالياء ، بمعنى : ويعلم ما يفعل
عباده ، وقرأته عامة قراء الكوفة( تَفْعَلُونَ ) بالتاء على وجه الخطاب.
والصواب من القول في ذلك عندي أنهما قراءتان مشهورتان في قراءة الأمصار متقاربتا
المعنى ، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب ، غير أن الياء أعجب إلي ، لأن الكلام من قبل
ذلك جرى على الخبر ، وذلك قوله : ( وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ
عِبَادِهِ ) ويعني جلّ ثناؤه بقوله : ( وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ ) ويعلم ربكم
أيها الناس ما تفعلون من خير وشر ، لا يخفى عليه من ذلك شيء ، وهو مجازيكم على كل
ذلك جزاءه ، فاتقوا الله في أنفسكم ، واحذروا أن تركبوا ما تستحقون به منه
العقوبة.
حدثنا تميم بن المنتصر ، قال : أخبرنا إسحاق بن يوسف ، عن شريك عن إبراهيم بن
مهاجر ، عن إبراهيم النخعي ، عن همام بن الحارث ، قال : أتينا عبد الله نسأله عن
هذه الآية : ( وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ
السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ ) قال : فوجدنا عنده أناسا أو رجالا
يسألونه عن رجل أصاب من امرأة حراما ، ثم تزوجها ، فتلا هذه الآية( وَهُوَ الَّذِي
يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا
تَفْعَلُونَ ).
القول في تأويل قوله تعالى : { وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا
الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَالْكَافِرُونَ لَهُمْ عَذَابٌ
شَدِيدٌ (26) }
يقول تعالى ذكره : ويجيب الذين آمنوا بالله ورسوله ، وعملوا بما أمرهم الله به ،
وانتهوا عما نهاهم عنه لبعضهم دعاء بعض.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
(21/533)
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا أبو كريب ، قال : ثنا عثام ، قال : ثنا الأعمش ، عن شقيق بن سلمة ، عن سلمة
بن سبرة ، قال : خطبنا معاذ ، فقال : أنتم المؤمنون ، وأنتم أهل الجنة ، والله إني
لأرجو أن من تصيبون من فارس والروم يدخلون الجنة ، ذلك بأن أحدهم إذا عمل لأحدكم
العمل قال : أحسنت رحمك الله ، أحسنت غفر الله لك ، ثم قرأ : ( وَيَسْتَجِيبُ
الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ ).
وقوله : ( وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ ) يقول تعالى ذكره : ويزيد الذين آمنوا
وعملوا الصالحات مع إجابته إياهم دعاءهم ، وإعطائه إياهم مسألتهم من فضله على مسألتهم
إياه ، بأن يعطيهم ما لم يسألوه. وقيل : إن ذلك الفضل الذي ضمن جلّ ثناؤه أن
يزيدهموه ، هو أن يشفعهم في إخوان إخوانهم إذا هم شفعوا في إخوانهم ، فشفعوا فيهم.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا عبيد الله بن محمد الفريابي ، قال : ثنا عمرو بن أبي سلمة ، عن سعيد بن بشير
، عن قتادة ، عن إبراهيم النخعيّ في قول الله عزّ وجلّ : ( وَيَسْتَجِيبُ
الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ) قال : يُشَفَّعُون في إخوانهم ،
ويزيدهم من فضله ، قال : يشفعون في إخوان إخوانهم.
وقوله : ( وَالْكَافِرُونَ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ ) يقول جلّ ثناؤه : والكافرون
بالله لهم يوم القيامة عذاب شديد على كفرهم به.
واختلف أهل العربية في معنى قوله( وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا ) فقال بعضهم :
أي استجاب فجعلهم هم الفاعلين ، فالذين في قوله رفع والفعل لهم. وتأويل الكلام على
هذا المذهب : واستجاب الذين آمنوا وعملوا الصالحات لربهم إلى الإيمان به ، والعمل
بطاعته إذا دعاهم إلى ذلك.
(21/534)
وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ (27)
وقال آخر منهم : بل معنى ذلك : ويجيب
الذين آمنوا. وهذا القول يحتمل وجهين : أحدهما الرفع ، بمعنى ويجيب الله الذين
آمنوا. والآخر ما قاله صاحب القول الذي ذكرنا.
وقال بعض نحوي الكوفة( وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا ) يكون " الَّذِينَ
" في موضع نصب بمعنى : ويجيب الله الذين آمنوا. وقد جاء في التنزيل(
فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ ) والمعنى : فأجاب لهم ربهم ، إلا أنك إذا قلت
استجاب ، أدخلت اللام في المفعول ؛ وإذا قلت أجاب حذفت اللام ، ويكون استجابهم
بمعنى : استجاب لهم ، كما قال جلّ ثناؤه : ( وإذا كالوهم أو وزنوهم ) والمعنى والله
أعلم : وإذا كالوا لهم ، أو وزنوا لهم( يُخْسِرُونَ ). قال : ويكون "
الَّذِينَ " في موضع رفع إن يجعل الفعل لهم ، أي الذين آمنوا يستجيبون لله ،
ويزيدهم على إجابتهم ، والتصديق به من فضله. وقد بيَّنا الصواب في ذلك من القول
على ما تأوّله معاذ ومن ذكرنا قوله فيه.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ
لَبَغَوْا فِي الأرْضِ وَلَكِنْ يُنزلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ
خَبِيرٌ بَصِيرٌ (27) }
ذكر أن هذه الآية نزلت من أجل قوم من أهل الفاقة من المسلمين تمنوا سعة الدنيا والغنى
، فمال جلّ ثناؤه : ولو بسط الله الرزق لعباده ، فوسعه وكثره عندهم لبغوا ،
فتجاوزوا الحدّ الذي حدّه الله لهم إلى غير الذي حدّه لهم في بلاده بركوبهم في
الأرض ما حظره عليهم ، ولكنه ينزل رزقهم بقدر لكفايتهم الذي يشاء منه.
* ذكر من قال ذلك :
يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال أبو هانئ : سمعت عمرو بن حريث وغيره
يقولون : إنما أزلت هذه الآية في أصحاب الصُّفَّة( وَلَوْ
(21/535)
بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ
لَبَغَوْا فِي الأرْضِ وَلَكِنْ يُنزلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ ) ذلك بأنهم قالوا :
لو أن لنا ، فتمنوا.
* حدثنا محمد بن سنان القزاز ، قال : ثنا أبو عبد الرحمن المقري ، قال : ثنا حيوة
، قال : أخبرني أبو هانئ ، أنه سمع عمرو بن حريث يقول : إنما نزلت هذه الآية ، ثم
ذكر مثله.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ
الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الأرْضِ ) ... الآية قال : كان يقال : خير
الرزق ما لا يُطغيك ولا يُلهيك.
وذُكر لنا أن نبيّ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم قال : " أخْوَفُ ما
أخافُ على أمَّتِي زَهْرَةُ الدُّنْيا وكَثْرَتُها " . فقال له قاتل : يا
نبيّ الله هل يأتي الخير بالشرّ ؟ فقال النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم :
وهَلْ يَأتِي الخَيْرُ بالشَّرِّ ؟ " فأنزل الله عليه عند ذلك ، وكان إذا نزل
عليه كرب (1) لذلك ، وتربَّد وجهه ، حتى إذا سرّي عن نبيّ الله صَلَّى الله
عَلَيْهِ وَسَلَّم قال : " هَلْ يَأْتِي الخَيْرُ بالشَّرِّ " يقولها
ثلاثا : " إنَّ الخَيْرَ لا يأتِي إلا بالخَيْرِ " ، يقولها ثلاثا. وكان
صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم وتر الكلام : ولكنه والله ما كان ربيع قط إلا أحبط
أو ألمّ فأما عبد أعطاه الله مالا فوضعه فى سبيل الله التي افترض وارتضى ، فذلك عبد
أريد به خير ، وعزم له على الخير ، وأما عبد أعطاه الله مالا فوضعه في شهواته
ولذّاته ، وعدل عن حقّ الله عليه ، فذلك عبد أريد به شرّ ، وعزم له على شرّ "
.
وقوله : ( إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ ) يقول تعالى ذكره : إن الله بما
يصلح عباده ويفسدهم من غنى وفقر وسعة وإقتار ، وغير ذلك من مصالحهم ومضارهم ، ذو
خبرة ، وعلم ، بصير بتدبيرهم ، وصرفهم فيما فيه صلاحهم.
__________
(1) في ( اللسان : كرب ) : وفي الحديث : كان إذا أتاه الوحي كرب له ، أي أصابه
الكرب فهو مكروب .
(21/536)
وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ (28) وَمِنْ آَيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِنْ دَابَّةٍ وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ (29)
القول في تأويل قوله تعالى : { وَهُوَ
الَّذِي يُنزلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ
الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ (28) }
يقول تعالى ذكره : والله الذي ينزل المطر من السماء فيغيثكم به أيها الناس( مِنْ
بَعْدِ مَا قَنَطُوا ) يقول : من بعد ما يئس من نزوله ومجيئه.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : أنه قيل لعمر بن
الخطاب رضي الله عنه : أجدبت الأرض ، وقنط الناس ، قال : مطروا إذن.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث ، قال :
ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : ( مِنْ
بَعْدِ مَا قَنَطُوا ) قال : يئسوا.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة قال : ذكر لنا أن رجلا
أتى عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، فقال : يا أمير المؤمنين قحط المطر ، وقنط الناس
قال : مطرتم( وَهُوَ الَّذِي يُنزلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا
وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ ).
وقوله : ( وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ ) يقول : وهو الذي يليكم بإحسانه وفضله ،
الحميد بأياديه عندكم ، ونعمه عليكم في خلقه.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ
وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِنْ دَابَّةٍ وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ
قَدِيرٌ (29) }
(21/537)
وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ (30) وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (31)
يقول تعالى ذكره : ومن حججه عليكم أيها
الناس أنه القادر على إحيائكم بعد فنائكم ، وبعثكم من قبوركم من بعد بلائكم ، خلقه
السموات والأرض. وما بثّ فيهما من دابة ،
يعني وما فرّق في السموات والأرض من دابة.
كما حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث ،
قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : (
وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِنْ دَابَّةٍ ) قال : الناس والملائكة.
يقول : وهو على جمع ما بث فيهما من دابة إذا شاء جمعه ، ذو قدرة لا يتعذر عليه ،
كما لم يتعذر عليه خلقه وتفريقه ، يقول تعالى ذكره : فكذلك هو القادر على جمع خلقه
بحشر يوم القيامة بعد تفرق أوصالهم في القبور.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ
أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ (30) وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي
الأرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (31) }
يقول تعالى ذكره : وما يصيبكم أيها الناس من مصيبة في الدنيا في أنفسكم وأهليكم
وأموالكم( فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ ) يقول : فإنما يصيبكم ذلك عقوبة من الله
لكم بما اجترمتم من الآثام فيما بينكم وبين ربكم ويعفو لكم ربكم عن كثير من
إجرامكم ، فلا يعاقبكم بها.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : ثنا ابن علية ، قال : ثنا أيوب ، قال : قرأت في
كتاب أبي قلابة ، قال : نزلت : ( فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا
يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ ) وأبو بكر رضي الله عنه
يأكل ، فأمسك فقال : يا
(21/538)
رسول الله إني لراء ما عملت من خير أو
شر ؟ فقال : " أرَأيْتَ ما رَأَيْتَ مِمَّا تَكْرَهُ فَهُوَ مِنْ مَثَاقِيلِ
ذَرّ الشَّرّ ، وَتَدَّخِر مَثاقِيلَ الخَيْرِ حتى تُعْطاهُ يَوْمَ القِيامَةِ
" ، قال : قال أبو إدريس : فأرى مصداقها في كتاب الله ، قال : ( وما أصابكم
من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير ).
قال أبو جعفر : حدّث هذا الحديث الهيثم بن الربيع ، فقال فيه أيوب عن أبي قلابة ،
عن أنس ، أن أبا بكر رضي الله عنه كان جالسا عند النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ
وَسَلَّم ، فذكر الحديث ، وهو غلط ، والصواب عن أبي إدريس.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ
مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ ).... الآية " ذُكر لنا أن نبيّ الله
صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم كان يقول : " لا يُصِيبُ ابْنُ آدَمَ خَدْش
عُودٍ ، ولا عَثْرَةُ قَدَم ، ولا اخْتِلاجُ عِرْقٍ إلا بذَنْب ، ومَا يَعْفُو
عَنْهُ أكْثَرُ " .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ،
عن ابن عباس ، قوله : ( وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ
أَيْدِيكُمْ ).... الآية ، قال : يعجل للمؤمنين عقوبتهم بذنوبهم ولا يؤاخذون بها
في الآخرة.
وقال آخرون : بل عنى بذلك : وما عوقبتم في الدنيا من عقوبة بحدّ حددتموه على ذنب
استوجبتموه عليه فبما كسبت أيديكم يمول : فيما عملتم من معصية الله( وَيَعْفُو
عَنْ كَثِيرٍ ) فلا يوجب عليكم فيها حدّا.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن الحسن( وَمَا
أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ )... الآية ، قال : هذا في الحدود. وقال قتادة : بلغنا
أنه ما من رجل يصيبه عثرة قدم ولا خدش عود أو كذا وكذا إلا بذنب ، أو يعفو ، وما
يعفو أكثر.
وقوله : ( وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الأرْضِ ) يقول : وما أنتم أيها الناس
بمفيتي ربكم
(21/539)
بأنفسكم إذا أراد عقوبتكم على ذنوبكم التي أذنبتموها ، ومعصيتكم إياه التي ركبتموها هربا في الأرض ، فمعجزيه ، حتى لا يقدر عليكم ، ولكنكم حيث كنتم في سلطانه وقبضته ، جارية فيكم مشيئته( وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ ) يليكم بالدفاع عنكم إذا أراد عقوبتكم على معصيتكم إياه( وَلا نَصِيرٍ ) يقول : ولا لكم من دونه نصير ينصركم إذا هو عاقبكم ، فينتصر لكم منه ، فاحذروا أيها الناس معاصيه ، واتقوه أن تخالفوه فيما أمركم أو نهاكم ، فإنه لا دافع لعقوبته عمن أحلها به.
(21/540)
وَمِنْ آَيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ (32) إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (33)
القول في تأويل قوله تعالى : { وَمِنْ
آيَاتِهِ الْجَوَارِي فِي الْبَحْرِ كَالأعْلامِ (32) إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ
الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِكُلِّ
صَبَّارٍ شَكُورٍ (33) }
يقول تعالى ذكره : ومن حجج الله أيها الناس عليكم بأنه القادر على كل ما يشاء ،
وأنه لا يتعذّر عليه فعل شيء أراده ، السفن الجارية في البحر. والجواري : جمع
جارية ، وهي السائرة في البحر.
كما حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث ، قال
: ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبى نجيح ، عن مجاهد ، قوله : (
الْجَوَارِي فِي الْبَحْرِ ) قال : السفن.
حدثنا محمد ، قال : ثنا أحمد ، قال : ثنا أسباط ، عن السديّ( وَمِنْ آيَاتِهِ
الْجَوَارِي فِي الْبَحْرِ ) قال : الجواري : السفن.
وقوله : ( كَالأعْلامِ ) يعني كالجبال : واحدها علم; ومنه قول الشاعر :
..................... كَأَنَّه عَلَمٌ فِي رأسِه نَارُ (1)
__________
(1) هذا عجز بيت للخنساء بنت عمرو بن الشريد السلمي ، من قصيدة ترثي بها أخاها
صخرا ( معاهد التنصيص للعباسي ) وصدره . وإن صخرا لتأتم الهداة به
وقد استشهد به المؤلف عند قوله تعالى : (وله الجوار المنشآت في البحر كالأعلام )
على أن الأعلام في البيت جمع علم بالتحريك ، وهو الجبل . وقد كان العرب يوقدون
النار في أعالي الجبال ، لهداية الغريب والجائع ونحوهما .
(21/540)
يعني : جَبَل.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث ، قال :
ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد( كَالأعْلامِ )
قال : كالجبال.
حدثنا محمد ، قال : ثنا أحمد ، قال : ثنا أسباط ، عن السديّ ، قال : الأعلام : الجبال.
وقوله : ( إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ )
يقول تعالى ذكره : إن يشأ الله الذي قد أجرى هذه السفن في البحر أن لا تجري فيه ،
أسكن الريح التي تجري بها فيه ، فثبتن في موضع واحد ، ووقفن على ظهر الماء لا تجري
، فلا تتقدّم ولا تتأخر.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : ( وَمِنْ
آيَاتِهِ الْجَوَارِي فِي الْبَحْرِ كَالأعْلامِ إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ
فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ ) سفن هذا البحر تجري بالريح فإذا أمسكت
عنها الريح ركدت ، قال الله عزّ وجلّ : ( إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِكُلِّ
صَبَّارٍ شَكُورٍ ).
حدثنا محمد ، قال : ثنا أحمد ، قال : ثنا أسباط ، عن السديّ( إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ
الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ ) لا تجري.
حدثني عليّ ، قال : ثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن
(21/541)
أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ (34) وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آَيَاتِنَا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (35) فَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آَمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (36)
ابن عباس ، قوله : ( فَيَظْلَلْنَ
رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ ) يقول : وقوفا.
وقوله : ( إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ ) يقول : إن في جري
هذه الجواري في البحر بقُدرة الله لعظة وعبرة وحجة بينة على قُدرة الله على ما
يشاء ، لكل ذي صبر على طاعة الله ، شكور لنعمه وأياديه عنده.
القول في تأويل قوله تعالى : { أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا وَيَعْفُ عَنْ
كَثِيرٍ (34) وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِنَا مَا لَهُمْ مِنْ
مَحِيصٍ (35) فَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا
عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ
يَتَوَكَّلُونَ (36) }
يقول تعالى ذكره : أو يوبق هذه الجواري في البحر بما كسبت ركبانها من الذنوب ،
واجترموا من الآثام ، وجزم يوبقهنّ ، عطفا على( يُسْكِنِ الرِّيحَ ) ومعنى الكلام
إن يسكن الريح فيظللن رواكد على ظهره ، ( أَوْ يُوبِقْهُنَّ ) ويعني بقوله : (
أَوْ يُوبِقْهُنَّ ) أو يهلكهنّ بالغرق.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : ثنا أبو صالح ، قال : ثنا معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ،
قوله : ( أَوْ يُوبِقْهُنَّ ) يقول : يهلكهنّ.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث ، قال :
ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : ( أَوْ
يُوبِقْهُنَّ ) : أو يهلكهنّ.
حدثنا محمد ، قال : ثنا أحمد ، قال : ثنا أسباط ، عن السديّ( أَوْ يُوبِقْهُنَّ )
قال : يغرقهن بما كسبوا.
(21/542)
وبنحو الذي قلنا في قوله : ( بِمَا
كَسَبُوا ) قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا
كَسَبُوا ) : أي بذنوب أهلها.
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة( أَوْ
يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا ) قال : بذنوب أهلها.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : ( أَوْ
يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا ) قال : يوبقهنّ بما كسبت أصحابهنّ.
وقوله : ( وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ ) يقول : ويصفح تعالى ذكره عن كثير من ذنوبكم فلا
يعاقب عليها.
وقوله : ( وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِنَا ) يقول جلّ ثناؤه :
ويعلم الذين يخاصمون رسوله محمدا صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم من المشركين في
آياته وعبره وأدلته على توحيده.
واختلفت القرّاء في قراءة ذلك ، فقرأته عامة قرّاء المدينة " وَيَعْلَمُ
الَّذِينَ " رفعا على الاستئناف ، كما قال في سورة براءة : ( وَيَتُوبُ
اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ ) وقرأته قرّاء الكوفة والبصرة( وَيَعْلَمَ الَّذِينَ
) نصبا كما قال في سورة آل عمران( وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ ) على الصرف; وكما قال
النابغة :
فإنْ يَهْلِكْ أبو قابُوسَ يَهْلِكْ... رَبِيعُ النَّاسِ والشَّهْرُ الحَرَامُ
وَنُمْسِكَ بَعْدَهُ بذنَاب عَيْشٍ... أجَبِّ الظَّهْرِ لَهُ سَنامُ (1)
__________
(1) البيتان للنابغة الذبياني من مقطوعة يخاطب بها عصام بن شهبرة الجرمي حاجب
النعمان ، ويسأله عما بلغه من مرضه ( مختار الشعر الجاهلي بشرح مصطفى السقا ص 191
) وقوله : " ربيع الناس " جعل النعمان بمنزلة الربيع في الحصب ، لكثرة
عطائه ، وهو موضع الأمن من كل مخافة لمستجير وغيره ، مثل الشهر الحرام . و "
أجب الظهر " : لا سنام له . ويجوز في الظهر : الرفع والنصب والجر يقول : نبقى
بعده في شدة من العيش وسوء حال . وذناب الشيء : ذنبه . والشاهد في البيتين في قوله
" ونأخذ " فإنه يجوز فيه الرفع على الاستئناف ، والنصب بتقدير " أن
" ، والجزم بالعطف على يهلك ( فرائد القلائد للعيني ) . وقال الفراء في معاني
القرآن ( الروقة 292 ) وقوله " ويعف عن كثير ويعلم الذين " : مردودة على
الجزم إلا أنه صرف ( النصف على الصرف مذهب للفراء في العطف على المجزوم كما في
الآية ، وفي المفعول معه ، وفي خبر المبتدأ إذا كان ظرفا ) قال : والجزم إذا صرف
عنه معطوفه نصب ، كقول الشاعر : " فإن يهلك ... " البيتين . والرفع جائز
في المنصوب على الصرف . وقد قرأ بذلك قوم ، فرفعوا ويعلم الذين يجادلون . ومثله
مما استؤنف فرفع : " ويتوب الله من بعد ذلك على من يشاء " في براءة .
ولو جزم " ويعلم " جازم كان مصيبا . ا هـ .
(21/543)
والصواب من القول في ذلك أنهما قراءتان
مشهورتان ولغتان معروفتان ، متقاربتا المعنى ، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب.
وقوله : ( مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ ) يقول تعالى ذكره : ما لهم من محيص من عقاب
الله إذا عاقبهم على ذنوبهم ، وكفرهم به ، ولا لهم منه ملجأ.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد ، قال : ثنا أحمد ، قال : ثنا أسباط عن السديّ ، قوله : ( مَا لَهُمْ
مِنْ مَحِيصٍ ) : ما لهم من ملجأ.
وقوله : ( فَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ) يقول
تعالى ذكره : فما أعطيتم أيها الناس من شيء من رياش الدنيا من المال والبنين ،
فمتاع الحياة الدنيا ، يقول تعالى ذكره : فهو متاع لكم تتمتعون به في الحياة
الدنيا ، وليس من دار الآخرة ، ولا مما ينفعكم في معادكم.( وَمَا عِنْدَ اللَّهِ
خَيْرٌ وَأَبْقَى ) يقول تعالى ذكره : والذي عند الله لأهل طاعته والإيمان به في
الآخرة ، خير مما أوتيتموه في الدنيا من متاعها وأبقى ، لأن ما أوتيتم في الدنيا
فإنه نافد ، وما عند الله من النعيم في جنانه لأهل طاعته باق غير نافذ.
( لِلَّذِينَ آمَنُوا ) يقول : وما عند الله للذين آمنوا به ، وعليه يتوكلون في
أمورهم ، وإليه يقومون في أسبابهم ، وبه يثقون ، خير وأبقى مما أوتيتموه من متاع
الحياة الدنيا.
(21/544)
وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ (37) وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (38)
القول في تأويل قوله تعالى : {
وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا
هُمْ يَغْفِرُونَ (37) وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا
الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ
(38) }
يقول تعالى ذكره : وما عند الله للذين آمنوا( وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ
الإثْمِ ) ، وكبائر فواحش الإثم ، قد بينَّا اختلاف أهل التأويل فيها وبينَّا
الصواب من القول عندنا فيها فى سورة النساء ، فأغنى ذلك عن إعادته ها هنا.( وَالْفَوَاحِشَ
) قيل : إنها الزنى.
* ذكر من قال ذلك :
محمد ، قال : ثنا أحمد ، قال : ثنا أسباط ، عن السديّ( وَالْفَوَاحِشَ ) قال :
الفواحش : الزنى.
واختلفت القرّاء في قراءة قوله : ( كَبَائِرَ الإثْمِ ) فقرأته عامة قرّاء المدينة
على الجماع كذلك في النجم ، وقرأته عامة قرّاء الكوفة " كبير الإثم "
على التوحيد فيهما جميعا; وكأن من قرأ ذلك كذلك ، عنى بكبير الإثم : الشرك ، كما
كان الفرّاء يقول : كأني أستحب لمن قرأ كبائر الإثم أن يخفض الفواحش ، لتكون
الكبائر مضافة إلى مجموع إذ كانت جمعا ، وقال : ما سمعت أحدا من القرّاء خفض
الفواحش.
والصواب من القول في ذلك عندنا أنهما قراءتان قد قرأ بكل واحدة منهما علماء من
القرّاء على تقارب معنييهما ، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب.
وقوله : ( وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ ) يقول تعالى ذكره : وإذا ما
غضبوا على من اجترم إليهم جرما ، هم يغفرون لمن أجرم إليهم ذنبه ، ويصفحون عنه
عقوبة ذنبه.
وقوله : ( وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ ) يقول
تعالى ذكره :
(21/545)
والذين أجابوا لربهم حين دعاهم إلى
توحيده ، والإقرار بوحدانيته والبراءة من عبادة كل ما يعبد دونه( وَأَقَامُوا
الصَّلاةَ ) المفروضة بحدودها في أوقاتها.
وكان ابن زيد يقول : عنى بقوله : ( وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ )...
الآية الأنصار.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، وقرأ( وَالَّذِينَ
يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ
(21/546)
وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ (39) وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (40)
الإثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا
غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ ) قال : فبدأ بهم( وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا
لِرَبِّهِمْ ) الأنصار( وَأَقَامُوا الصَّلاةَ ) وليس فيهم رسول الله صَلَّى الله
عَلَيْهِ وَسَلَّم( وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ ) ليس فيهم رسول الله صَلَّى
الله عَلَيْهِ وَسَلَّم أيضا.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ
يَنْتَصِرُونَ (39) وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا
وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (40) }
يقول تعالى ذكره : والذين إذا بغى عليهم باغ ، واعتدى عليهم هم ينتصرون.
ثم اختلف أهل التأويل في الباغي الذي حمد تعالى ذكره ، المنتصر منه بعد بغيه عليه
، فقال بعضهم : هو المشرك إذا بغى على المسلم.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرني ابن وهب قال : قال ابن زيد : ذكر المهاجرين صنفين ،
صنفا عفا ، وصنفا انتصر ، وقرأ( وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإثْمِ
وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ ) قال : فبدأ بهم(
وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ )... إلى قوله : ( وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ
يُنْفِقُونَ ) وهم الأنصار. ثم ذكر الصنف الثالث فقال : ( وَالَّذِينَ إِذَا
أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُون ) من المشركين.
وقال آخرون : بل هو كلّ باغ بغى فحمد المنتصر منه
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد ، قال : ثنا أحمد ، قال : ثنا أسباط ، عن السديّ ، فى قوله : (
وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُون ) قال : ينتصرون ممن
بغى عليهم من غير أن يعتدوا.
وهذا القول الثاني أولى في ذلك بالصواب ، لأن الله لم يخصص من ذلك معنى دون معنى ،
بل حمد كلّ منتصر بحقّ ممن بغى عليه.
فإن قال قائل : وما في الانتصار من المدح ؟ قيل : إن في إقامة الظالم على سبيل
الحقّ وعقوبته بما هو له أهل تقويما له ، وفي ذلك أعظم المدح.
وقوله : ( وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا ) وقد بينا فيما مضى معنى ذلك
، وأن معناه : وجزاء سيئة المسيء عقوبته بما أوجبه الله عليه ، فهي وإن كانت عقوبة
من الله أوجبها عليه ، فهي مساءة له. والسيئة : إنما هي الفعلة من السوء ، وذلك
نظير قول الله عز وجل( وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى إِلا مِثْلَهَا )
وقد قيل : إن معنى ذلك : أن يجاب القائل الكلمة القزعة بمثلها.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني يعقوب ، قال : قال لي أبو بشر : سمعت. ابن أبي نجيح يقول في قوله : (
وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا ) قال : يقول أخزاه الله ، فيقول : أخزاه
الله.
حدثنا محمد ، قال : ثنا أحمد ، قال : ثنا أسباط ، عن السديّ ، في قوله : (
وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا ) قال : إذا شتمك بشتمة فاشمته مثلها من
غير أن تعتدي.
(21/547)
وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ (41) إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (42)
وكان ابن زيد يقول في ذلك بما حدثني
يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في : ( وَالَّذِينَ إِذَا
أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ ) من المشركين( وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ
سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ )... الآية ، ليس أمركم أن تعفوا
عنهم لأنه أحبهم( وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ
مِنْ سَبِيلٍ ) ، ثم نسخ هذا كله وأمره بالجهاد.
فعلى قول ابن زيد هذا تأويل الكلام : وجزاء سيئة من المشركين إليك ، سيئة مثلها
منكم إليهم ، وإن عفوتم وأصلحتم في العفو ، فأجركم في عفوكم عنهم إلى الله ، إنه
لا يحب الكافرين; وهذا على قوله كقول الله عز وجل( فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ
فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ )
وللذي قال من ذلك وجه. غير أن الصواب عندنا : أن تحمل الآية على الظاهر ما لم
ينقله إلى الباطن ما يجب التسليم لها ، ولم يثبت حجة في قوله : ( وَجَزَاءُ
سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا ) أنه مراد به المشركون دون المسلمين ، ولا بأن هذه
الآية منسوخة ، فنسلم لها بأن ذلك كذلك.
وقوله : ( فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ ) يقول جل ثناؤه :
فمن عفا عمن أساء إليه إساءته إليه ، فغفرها له ، ولم يعاقبه بها ، وهو على عقوبته
عليها قادر ابتغاء وجه الله ، فأجر عفوه ذلك على الله ، والله مثيبه عليه ثوابه.(
إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ ) يقول : إن الله لا يحب أهل الظلم الذين
يتعدّون على الناس ، فيسيئون إليهم بغير ما أذن الله لهم فيه.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ
مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ (41) إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ
يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الأرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ
عَذَابٌ أَلِيمٌ (42) }
(21/548)
يقول تعالى ذكره : ولمن انتصر ممن ظلمه
ممن بعد ظلمه إياه( فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ ) يقول : فأولئك
المنتصرون منهم لا سبيل للمنتصر منهم عليهم بعقوبة لا أذى ، لأنهم انتصروا منهم
بحقّ ، ومن أخذ حقه ممن وجب ذلك له عليه ، ولم يتعد ، لم يظلم ، فيكون عليه سبيل.
وقد اختلف أهل التأويل في المعنيّ بذلك ، فقال بعضهم : عني به كلّ منتصر ممن أساء
إليه ، مسلما كان المسيء أو كافرا.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عبد الله بن بزيع ، قال : ثنا معاذ ، قال : ثنا ابن عون ، قال : كنت
أسأل عن الانتصار( وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ ). .. الآية ، فحدثني علي
بن زيد بن جدعان ، عن أمّ محمد امرأة أبيه ، قال ابن عون : زعموا أنها كانت تدخل
على أمّ المؤمنين قالت : قالت أم المؤمنين : دخل رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ
وَسَلَّم ، وعندنا زينب بنت جحش ، فجعل يصنع بيده شيئا ، ولم يفطن لها ، فقلت بيده
حتى فطَّنته لها ، فأمسك ، وأقبلت زينب تقحم (1) عائشة ، فنهاها ، فأبت أن تنتهي ،
فقال لعائشة : " سُبيها " فسبتها وغلبتها وانطلقت زينب فأتت عليا ،
فقالت : إن عائشة تقع بكم وتفعل بكم ، فجاءت فاطمة ، فقال لها : " إنها حبة
أبيك وربّ الكعبة " ، فانصرفت وقالت لعليّ : إني قلت له كذا وكذا ، فقال كذا
وكذا; قال : وجاء عليّ إلى النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم فكلَّمه في ذلك.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : ( وَلَمَنِ
انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ )... الآية ، قال : هذا في الخمش (2) يكون بين الناس.
__________
(1) في النهاية لابن الأثير في حديث عائشة : أقبلت زينب تقحم لها ، أي تتعرض
لشتمها ، وتدخل عليها فيه ؛ كأنها أقبلت تشتمها من غير روية ولا تثبت .
(2) المقصود بالخمش : ما كان دون القتل والدية من قطع أو جدع أو جرح أو ضرب أو نهب
ونحو ذلك . من أنواع الأذى التي لا قصاص فيها ( انظر النهاية لابن الأثير ) .
(21/549)
وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (43) وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ (44)
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن
ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، في قوله : ( وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ
فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ ) قال : هذا فيما يكون بين الناس من
القصاص ، فأما لو ظلمك رجل لم يحلّ لك أن تظلمه.
وقال آخرون : بل عُنِيَ به الانتصار من أهل الشرك ، وقال : هذا منسوخ.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : ( وَلَمَنِ
انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ ) قال : لمن
انتصر بعد ظلمه من المؤمنين انتصر من المشركين وهذا قد نسخ ، وليس هذا في أهل
الإسلام ، ولكن في أهل الإسلام الذي قال الله تبارك وتعالى : ( ادْفَعْ بِالَّتِي
هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ
حَمِيمٌ ) .
والصواب من القول أن يقال : إنه معنيّ به كل منتصر من ظالمه ، وأن الآية محكمة غير
منسوخة للعلة التي بينت في الآية قبلها.
وقوله : ( إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ ) يقول تبارك
وتعالى : إنما الطريق لكم أيها الناس على الذين يتعدّون على الناس ظلما وعدوانا ،
بأن يعاقبوهم بظلمهم لا على من انتصر ممن ظلمه ، فأخذ منه حقه.
وقوله : ( وَيَبْغُونَ فِي الأرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ ) يقول : ويتجاوزون في أرض
الله الحدّ الذي أباح لهم ربهم إلى ما لم يأذن لهم فيه ، فيفسدون فيها بغير الحق.
يقول : فهؤلاء الذين يظلمون الناس ، ويبغون في الأرض بغير الحق ، لهم عذاب من الله
يوم القيامة في جهنم مؤلم موجع.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ
عَزْمِ الأمُورِ (43) وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ
بَعْدِهِ وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلَى
مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ (44) }
(21/550)
يقول تعالى ذكره : ولمن صبر على إساءة
إليه ، وغفر للمسيء إليه جرمه إليه ، فلم ينتصر منه ، وهو على الانتصار منه قادر
ابتغاء وجه الله وجزيل ثوابه.( إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأمُورِ ) يقول : إن
صبره ذلك وغفرانه ذنب المسيء إليه ، لمن عزم الأمور التي ندب إليها (1) عباده ،
وعزم عليهم العمل به.( وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ
) يقول : ومن خذله الله عن الرشاد ، فليس له من ولي يليه ، فيهديه لسبيل الصواب ،
ويسدده من بعد إضلال الله إياه( وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ
) يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم : وترى الكافرين
بالله يا محمد يوم القيامة لما عاينوا عذاب الله يقولون لربهم : ( هَلْ ) لنا يا
رب( إِلَى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ ) وذلك كقوله( وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ
نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا )...
الآية ، استعتب المساكين في غير حين الاستعتاب.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد ، قال : ثنا أحمد ، قال : ثنا أسباط ، عن السديّ ، في قوله : ( هَلْ
إِلَى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ ) يقول : إلى الدنيا.
واختلف أهل العربية في وجه دخول " إنَّ " في قوله : ( إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ
عَزْمِ الأمُورِ ) مع دخول اللام في قوله : ( وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ ) فكان
نحوي أهل البصرة يقول في ذلك : أما اللام التي في قوله : ( وَلَمَنْ صَبَرَ
وَغَفَرَ ) فلام الابتداء ، وأما إن ذلك فمعناه والله أعلم : إن ذلك منه من عزم
الأمور ، وقال : قد تقول : مررت بالدار الذراع بدرهم : أي الذراع منها بدرهم ،
ومررت ببرّ قفيز بدرهم ، أي قفيز منه بدرهم. قال : وأما ابتداء " إنَّ "
في هذا الموضع ، فمثل( قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي
__________
(1) كذا في الأصول . ولعل فيه تحريفا من الناسخ ، وأصل العبارة : الذي ندب إليه ،
بدليل ما بعده .
(21/551)
تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ
مُلاقِيكُمْ ) يجوز ابتداء الكلام ، وهذا إذا طال الكلام في هذا الموضع.
وكان بعضهم يستخطئ هذا القول ويقول : إن العرب إذا أدخلت اللام في أوائل الجزاء
أجابته بجوابات الأيمان بما ، ولا وإنَّ واللام : قال : وهذا من ذاك ، كما قال : (
لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ )( وَلَئِنْ قُوتِلُوا لا
يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الأدْبَارَ ثُمَّ لا
يُنْصَرُونَ ) فجاء بلا وباللام جوابا للام الأولى. قال : ولو قال : لئن قمت إني
لقائم لجاز ولا حاجة به إلى العائد ، لأن الجواب في اليمين قد يكون فيه العائد ،
وقد لا يكون; ألا ترى أنك تقول : لئن قمت لأقومنّ ، ولا أقوم ، وإني لقائم فلا
تأتي بعائد. قال : وأما قولهم : مررت بدار الذراع بدرهم وببرّ قفيز بدرهم ، فلا بد
من أن يتصل بالأوّل بالعائد ، وإنما يحذف العائد فيه ، لأن الثاني تبعيض للأولّ
مررت ببر بعضه بدرهم ، وبعضه بدرهم; فلما كان المعنى التبعيض حذف العائد. قال :
وأما ابتداء " إن " فى كل موضع إذا طال الكلام ، فلا يجوز أن تبتدئ إلا
بمعنى : قل إن الموت الذي تفرّون منه ، فإنه جواب للجزاء ، كأنه قال : ما فررتم
منه من الموت ، فهو ملاقيكم.
وهذا القول الثاني عندي أولى في ذلك بالصواب للعلل التي ذكرناها.
(21/552)
وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ وَقَالَ الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذَابٍ مُقِيمٍ (45)
القول في تأويل قوله تعالى : {
وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ
طَرْفٍ خَفِيٍّ وَقَالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا
أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي
عَذَابٍ مُقِيمٍ (45) }
يقول تعالى ذكره : وترى يا محمد الظالمين يعرضون على النار( خَاشِعِينَ مِنَ
الذُّلِّ ) يقول : خاضعين متذللين.
كما حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد :
(21/552)
الخشوع : الخوف والخشية لله عزّ وجلّ ،
وقرأ قول الله عزّ وجلّ : ( لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ )... إلى قوله : (
خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ ) قال : قد أذلهم الخوف الذي نزل بهم وخشعوا له.
حدثنا محمد ، قال : ثنا أحمد ، قال : ثنا أسباط ، عن السديّ ، في قوله : (
خَاشِعِينَ ) قال : خاضعين من الذلّ.
وقوله : ( يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ ) يقول : ينظر هؤلاء الظالمون إلى
النار حين يعرضون عليها من طرف خفي.
واختلف أهل التأويل في معنى قوله : ( مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ ) فقال بعضهم : معناه :
من طرف ذليل. وكأن معنى الكلام : من طرف قد خَفِيَ من ذلَّةٍ.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ،
عن ابن عباس ، قوله : ( وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ
الذُّلِّ )... إلى قوله : ( مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ ) يعني بالخفيّ : الذليل.
حدثنا محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى : وحدثني الحارث ، قال
: ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله عز
وجل : ( مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ ) قال : ذليل.
وقال آخرون : بل معنى ذلك أنهم يسارقون النظر.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : ( يَنْظُرُونَ
مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ ) قال : يسارقون النظر.
حدثنا محمد ، قال : ثنا أحمد ، قال : ثنا أسباط ، عن السديّ( مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ
) قال : يسارقون النظر.
(21/553)
وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِيَاءَ يَنْصُرُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ سَبِيلٍ (46)
واختلف أهل العربية في ذلك ، فقال بعض
نحويي البصرة في ذلك : جعل الطرف العين ، كأنه قال : ونظرهم من عين ضعيفة ، والله
أعلم. قال : وقال يونس : إن( مِنْ طَرْفٍ ) مثل بطرف ، كما تقول العرب : ضربته في
السيف ، وضربته بالسيف.
وقال آخر منهم : إنما قيل : ( مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ ) لأنه لا يفتح عينيه ، إنما
ينظر ببعضها.
وقال آخرون منهم : إنما قيل : ( مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ ) لأنهم ينظرون إلى النار
بقلوبهم ، لأنهم يُحشرُون عُميا.
والصواب من القول في ذلك ، القول الذي ذكرناه عن ابن عباس ومجاهد ، وهو أن معناه :
أنهم ينظرون إلى النار من طرف ذليل ، وصفه الله جلّ ثناؤه بالخفاء للذلة التي قد ركبتهم
، حتى كادت أعينهم أن تغور ، فتذهب.
وقوله : ( وَقَالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا
أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ) يقول تعالى ذكره : وقال الذين
آمنوا بالله ورسوله : إن المغبونين الذين غبنوا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة في
الجنة.
كما حدثنا محمد ، قال : ثنا أحمد ، قال : ثنا أسباط ، عن السديّ ، قوله : (
الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ) قال : غبنوا
أنفسهم وأهليهم في الجنة.
وقوله : ( أَلا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذَابٍ مُقِيمٍ ) يقول تعالى ذكره : ألا
إن الكافرين يوم القيامة في عذاب لهم من الله مقيم عليهم ، ثابت لا يزول عنهم ،
ولا يَبيد ، ولا يخفّ.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِيَاءَ
يَنْصُرُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ
سَبِيلٍ (46) اسْتَجِيبُوا
(21/554)
اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ مَا لَكُمْ مِنْ مَلْجَأٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ (47)
لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ
يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ مَا لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا
لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ (47) }
يقول تعالى ذكره : ولم يكن لهؤلاء الكافرين حين يعذبهم الله يوم القيامة أولياء
يمنعونهم من عذاب الله ولا ينتصرون لهم من ربهم على ما نالهم به من العذاب من دون
الله.( وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ سَبِيلٍ ) يقول : ومن يخذله عن
طريق الحق فما له من طريق إلى الوصول إليه ، لأن الهداية والإضلال بيده دون كلّ
أحد سواه.
وقوله : ( اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ ) يقول تعالى ذكره للكافرين به : أجيبوا أيها
الناس داعي الله وآمنوا به واتبعوه على ما جاءكم به من عند ربكم.( مِنْ قَبْلِ
أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ ) يقول : لا شيء يرد مجيئه إذا
جاء الله به ، وذلك يوم القيامة.( مَا لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذ ) يقول جلّ
ثناؤه : ما لكم أيها الناس من معقل تحترزون فيه ، وتلجئون إليه ، فتعتصمون به من
النازل بكم من عذاب الله على كفركم به ، كان في الدنيا( وَمَا لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ
) يقول : ولا أنتم تقدرون لما يحلّ بكم من عقابه يومئذ على تغييره ، ولا على
انتصار منه إذا عاقبكم بما عاقبكم به.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث ، قال :
ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : ( مَا
لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ ) قال : من مَحْرَز.
وقوله : ( مِنْ نَكِيرٍ ) قال : ناصر ينصركم.
حدثنا محمد ، قال : ثنا أحمد ، قال : ثنا أسباط ، عن السديّ( مَا لَكُمْ مِنْ
مَلْجَإٍ يَوْمَئِذ ) تلجئون إليه( وَمَا لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ ) يقول : من عز
تعتزون.
(21/555)
فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ وَإِنَّا إِذَا أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ كَفُورٌ (48) لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ (49) أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (50)
القول في تأويل قوله تعالى : { فَإِنْ
أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا إِنْ عَلَيْكَ إِلا الْبَلاغُ
وَإِنَّا إِذَا أَذَقْنَا الإنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِهَا وَإِنْ
تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الإنْسَانَ كَفُورٌ
(48) }
يقول تعالى ذكره : فإن أعرض هؤلاء المشركون يا محمد عما أتيتهم به من الحق ،
ودعوتهم إليه من الرشد ، فلم يستجيبوا لك ، وأبوا قبوله منك ، فدعهم ، فإنا لن
نرسلك إليهم رقيبا عليهم ، تحفظ عليهم أعمالهم وتحصيها.( إِنْ عَلَيْكَ إِلا
الْبَلاغُ ) يقول : ما عليك يا محمد إلا أن تبلغهم ما أرسلناك به إليهم من الرسالة
، فإذا بلغتهم ذلك ، فقد قضيت ما عليك. يقول تعالى ذكره : فإنا إذا أغنينا ابن آدم
فأعطيناه من عندنا سعة ، وذلك هو الرحمة التي ذكرها جلّ ثناؤه ، فرح بها : يقول :
سر بما أعطيناه من الغنى ، ورزقناه من السعة وكثرة المال.( وَإِنْ تُصِبْهُمْ
سَيِّئَةٌ ) يقول : وإن أصابتهم فاقة وفقر وضيق عيش.( بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ
) يقول : بما أسلفت من معصية الله عقوبة له على معصيته إياه ، جحد نعمة الله ،
وأيس من الخير( فَإِنَّ الإنْسَانَ كَفُورٌ ) يقول تعالى ذكره : فإن الإنسان جحود
نعم ربه ، يعدد المصائب ويجحد النعم. وإنما قال : ( وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ )
فأخرج الهاء والميم مخرج كناية جمع الذكور ، وقد ذكر الإنسان قبل ذلك بمعنى الواحد
، لأنه بمعنى الجمع.
القول في تأويل قوله تعالى : { لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ يَخْلُقُ
مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ (49)
أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا
إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (50) }
يقول تعالى ذكره : لله سلطان السموات السبع والأرضين ، يفعل في
(21/556)
سلطانه ما يشاء ، ويخلق ما يحبّ خلقَه
، يهب لمن يشاء من خلقه من الولد الإناث دون الذكور ، بأن يجعل كل ما حملت زوجته
من حمل منه أنثى( وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ ) يقول : ويهب لمن يشاء منهم
الذكور ، بأن يجعل كل حمل حملته امرأته ذكرا لا أنثى فيهم.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث قال : ثنا
الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد( أَوْ يُزَوِّجُهُمْ
ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا ) قال : يخلط بينهم يقول : التزويج : أن تلد المرأة غلاما ،
ثم تلد جارية ، ثم تلد غلاما ، ثم تلد جارية.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : ( يَهَبُ لِمَنْ
يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ ) قادر والله ربنا على ذلك
أن يهب للرجل ذكورا ليست معهم أنثى ، وأن يهب للرجل ذكرانا وإناثا ، فيجمعهم له
جميعا ، ( وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا ) لا يولد له.
حدثنا محمد ، قال : ثنا أحمد ، قال : ثنا أسباط ، عن السديّ ، في قول الله عزّ
وجلّ : ( يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ )
ليست معهم إناث( أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا ) قال : يهب لهم إناثا
وذكرانا ، ويجعل من يشاء عقيما لا يُولَد له.
حدثني عليّ ، قال : ثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ،
قوله : ( وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا ) يقول : لا يُلْقِح.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : ( وَيَجْعَلُ
مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا ) لا يلد واحدا ولا اثنين.
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد الله ، قال : سمعت
الضحاك يقول في قوله : ( يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ
الذُّكُورَ ) ليس فيهم أنثى( أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا ) تلد
المرأة ذكرا مرّة وأنثى مرّة( وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا ) لا يولد له.
(21/557)
وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ (51)
وقال ابن زيد : في معنى قوله : ( أَوْ
يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا ) قال : أو يجعل في الواحد ذكرا وأنثى توأما
، هذا قوله : ( أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا ).
وقوله : ( إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ ) يقول تعالى ذكره : إن الله ذو علم بما يخلق ،
وقدرة على خلق ما يشاء لا يعزب عنه علم شيء من خلقه ، ولا يعجزه شيء أراد خلقه.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ
إِلا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولا فَيُوحِيَ
بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ (51) }
يقول تعالى ذكره : وما ينبغي لبشر من بني آدم أن يكلمه ربه إلا وحيا يوحي الله
إليه كيف شاء ، أو إلهاما (1) وإما غيره( أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ) يقول : أو
يكلمه بحيث يسمع كلامه ولا يراه ، كما كلم موسى نبيه صَلَّى الله عَلَيْهِ
وَسَلَّم( أَوْ يُرْسِلَ رَسُولا ) يقول : أو يرسل الله من ملائكته رسولا إما
جبرائيل ، وإما غيره( فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ ) يقول : فيوحي ذلك الرسول
إلى المرسل إليه بإذن ربه ما يشاء ، يعني : ما يشاء ربه أن يوحيه إليه من أمر ونهي
، وغير ذلك من الرسالة والوحي.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد ، قال : ثنا أحمد ، قال : ثنا أسباط ، عن السديّ ، في قوله عز وجل : (
وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلا وَحْيًا ) يوحي إليه( أَوْ
مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ) موسى كلمه الله من وراء حجاب ، ( أَوْ يُرْسِلَ رَسُولا
فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ ) قال : جبرائيل يأتي بالوحي.
__________
(1) كذا في الخط ، ولعله إما إلقاء أو إلهاما الخ .
(21/558)
واختلفت القرّاء في قراءة قوله : (
أَوْ يُرْسِلَ رَسُولا ) فيوحي ، فقرأته عامة قرّاء الأمصار( فَيُوحِيَ ) بنصب
الياء عطفا على( يُرْسِلَ ) ، ونصبوا( يُرْسِلَ ) عطفا بها على موضع الوحي ،
ومعناه ، لأن معناه وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا أن يوحي إليه أو يرسل إليه
رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء. وقرأ ذلك نافع المدني " فَيُوحِي " بإرسال
الياء بمعنى الرفع عطفا به على( يُرْسِلَ ) ، وبرفع( يُرْسِلُ ) على الابتداء.
وقوله : ( إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ ) يقول تعالى ذكره إنه يعني نفسه جلّ ثناؤه :
ذو علو على كل شيء وارتفاع عليه ، واقتدار. حكيم : يقول : ذو حكمة في تدبيره خلقه.
(21/559)
وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (52) صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ (53)
القول في تأويل قوله تعالى : {
وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا
الْكِتَابُ وَلا الإيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ
مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (52) صِرَاطِ
اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ أَلا إِلَى اللَّهِ
تَصِيرُ الأمُورُ (53) }
يعني تعالى ذكره بقوله : ( وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا
) وكما كنا نوحي في سائر رسلنا ، كذلك أوحينا إليك يا محمد هذا القرآن ، روحا من
أمرنا : يقول : وحيا ورحمة من أمرنا.
واختلف أهل التأويل في معنى الروح في هذا الموضع ، فقال بعضهم : عنى به الرحمة.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ،
(21/559)
عن الحسن في قوله : ( رُوحًا مِنْ
أَمْرِنَا ) قال : رحمة من أمرنا.
وقال آخرون : معناه : وحيا من أمرنا.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد ، قال : ثنا أحمد ، قال : ثنا أسباط ، عن السديّ ، في قوله : (
وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا ) قال : وحيا من أمرنا.
وقد بيَّنا معنى الروح فيما مضى بذكر اختلاف أهل التأويل فيها بما أغنى عن إعادته
في هذا الموضع.
وقوله : ( مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإيمَانُ ) يقول جلّ ثناؤه
لنبيه محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم : ما كنت تدري يا محمد أي شيء الكتاب
ولا الإيمان اللذين أعطيناكهما.
( وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا ) يقول : ولكن جعلنا هذا القرآن ، وهو الكتاب نورا
، يعني ضياء للناس ، يستضيئون بضوئه الذي بين الله فيه ، وهو بيانه الذي بين فيه ،
مما لهم فيه في العمل به الرشاد ، ومن النار النجاة( نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ
مِنْ عِبَادِنَا ) يقول : نهدي بهذا القرآن ، فالهاء فى قوله " به " من
ذكر الكتاب.
ويعني بقوله : ( نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ ) : نسدد إلى سبيل الصواب ، وذلك
الإيمان بالله( مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا ) يقول : نهدي به من نشاء هدايته إلى
الطريق المستقيم من عبادنا.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد ، قال : ثنا أحمد ، قال : ثنا أسباط ، عن السديّ( مَا كُنْتَ تَدْرِي
مَا الْكِتَابُ وَلا الإيمَانُ ) يعني محمدا صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم(
وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا ) يعني
بالقرآن.
وقال جل ثناؤه( وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ ) فوحد الهاء ، وقد ذكر قبل الكتاب والإيمان
، لأنه قصد به الخبر عن
(21/560)
الكتاب. وقال بعضهم : عنى به الإيمان
والكتاب ، ولكن وحد الهاء ، لأن أسماء الأفعال يجمع جميعها الفعل ، كما يقال :
إقبالك وإدبارك يعجبني ، فيوحدهما وهما اثنان.
وقوله : ( وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ) يقول تعالى ذكره لنبيه
محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم : وإنك يا محمد لتهدي إلى صراط مستقيم عبادنا
، بالدعاء إلى الله ، والبيان لهم.
كما حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : ( وَإِنَّكَ
لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ) قال تبارك وتعالى( وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ
) داع يدعوهم إلى الله عز وجل.
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة( وَإِنَّكَ
لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ) قال : لكل قوم هاد.
حدثنا محمد ، قال : ثنا أحمد ، قال : ثنا أسباط ، عن السديّ( وَإِنَّكَ لَتَهْدِي
إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ) يقول : تدعو إلى دين مستقيم.
يقول جلّ ثناؤه : وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم ، وهو الإسلام ، طريق الله الذي دعا
إليه عباده ، الذي له ملك جميع ما في السموات وما في الأرض ، لا شريك له في ذلك.
والصراط الثاني : ترجمة عن الصراط الأول.
وقوله جلّ ثناؤه : ( أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الأمُورُ ) يقول جلّ ثناؤه : ألا
إلى الله أيها الناس تصير أموركم في الآخرة ، فيقضي بينكم بالعدل.
فإن قال قائل : أو ليست أمورهم في الدنيا إليه ؟ قيل : هي وإن كان إليه تدبير جميع
ذلك ، فإن لهم حكاما وولاة ينظرون بينهم ، وليس لهم يوم القيامة حاكم ولا سلطان
غيره ، فلذلك قيل : إليه تصير الأمور هنالك وإن كانت الأمور كلها إليه وبيده
قضاؤها وتدبيرها في كلّ حال.
آخر تفسير سورة حم عسق
(21/561)
حم (1) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (3)
تفسير سورة الزخرف
بسم الله الرحمن الرحيم
القول في تأويل قوله تعالى : { حم (1) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا
جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (3) }
قد بينَّا فيما مضى قوله( حم ) بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع.
وقوله : ( وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ ) قسم من الله تعالى أقسم بهذا الكتاب الذي
أنزله على نبيه محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم فقال : ( وَالْكِتَابِ
الْمُبِينِ ) لمن تدبَّره وفكَّر في عبره وعظاته هداه ورشده وأدلته على حقيته ،
وأنه تنزيل من حكيم حميد ، لا اختلاق من محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم ولا
افتراء من أحد( إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا ) يقول : إنا أنزلناه
قرآنا عربيا بلسان العرب ، إذا كنتم أيها المنذرون به من رهط محمد صَلَّى الله
عَلَيْهِ وَسَلَّم عربا( لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ) يقول : معانيه وما فيه من
مواعظ ، ولم ينزله بلسان العجم ، فيجعله أعجميا ، فتقولوا نحن : نحن عرب ، وهذا
كلام أعجمي لا نفقه معانيه.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد ، قال : ثنا أحمد ، قال : ثنا أسباط ، عن السديّ( حم وَالْكِتَابِ
الْمُبِينِ ) هو هذا الكتاب المبين.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( حم وَالْكِتَابِ
الْمُبِينِ ) مبين والله بركته ، وهداه ورشده.
(21/562)
وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ (4)
القول في تأويل قوله تعالى : {
وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ (4) }
يقول تعالى ذكره : وإن هذا الكتاب أصل الكتاب الذي منه نسخ هذا الكتاب عندنا لعليّ
: يقول : لذو علوّ ورفعة ، حكيم : قد أحكمت آياته ، ثم فصلت فهو ذو حكمة.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني يعقوب ، قال : ثنا ابن علية ، عن هشام الدستوائي ، عن القاسم بن أبي بزة ،
قال : ثنا عروة بن عامر ، أنه سمع ابن عباس يقول : أول ما خلق الله القلم ، فأمره
أن يكتب ما يريد أن يخلق ، قال : والكتاب عنده ، قال : ( وَإِنَّهُ فِي أُمِّ
الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ ). يعني القرآن في أمّ الكتاب الذي عند
الله منه نسخ.
حدثني أبو السائب ، قال : ثنا ابن إدريس ، قال : سمعت أبي ، عن عطية بن سعد في قول
الله تبارك وتعالى : ( وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ
حَكِيمٌ ) يعني القرآن في أمّ الكتاب الذي عند الله منه نسخ.
حدثني أبو السائب ، قال : ثنا ابن إدريس ، قال : سمعت مالكا يروي عن عمران ، عن
عكرمة( وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا ) قال : أمّ الكتاب القرآن.
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، في قوله : (
وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا ) قال : أمّ الكتاب : أصل الكتاب
وجملته.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( وَإِنَّهُ فِي أُمِّ
الْكِتَابِ ) : أي جملة الكتاب أي أصل الكتاب.
حدثنا محمد ، قال : ثنا أحمد ، قال : ثنا أسباط ، عن السديّ( وَإِنَّهُ فِي أُمِّ
الْكِتَابِ ) يقول : في الكتاب الذي عند الله في الأصل.
(21/566)
أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا أَنْ كُنْتُمْ قَوْمًا مُسْرِفِينَ (5)
وقوله : ( لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ
) وقد ذكرنا معناه.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ
حَكِيمٌ ) يخبر عن منزلته وفضله وشرفه.
القول في تأويل قوله تعالى : { أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا أَنْ
كُنْتُمْ قَوْمًا مُسْرِفِينَ (5) }
اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك ، فقال بعضهم : معناه : أفنضرب عنكم ونترككم أيها
المشركون فيما تحسبون ، فلا نذكركم بعقابنا من أجل أنكم قوم مشركون.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث ، قال :
ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قول الله
عزّ وجلّ : ( أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا ) قال : تكذّبون بالقرآن ثم
لا تعاقبون عليه.
حدثني محمد بن عمارة ، قال : ثنا عبيد الله بن موسى ، قال : اخبرنا سفيان ، عن
إسماعيل ، عن أبي صالح ، قوله : ( أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا ) قال
: بالعذاب.
حدثني محمد ، قال : ثنا أحمد ، قال : ثنا أسباط ، عن السديّ( أَفَنَضْرِبُ
عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا ) قال : أفنضرب عنكم العذاب.
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني
(21/567)
أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله :
( أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا أَنْ كُنْتُمْ قَوْمًا مُسْرِفِينَ )
يقول : أحسبتم أن نصفح عنكم ولما تفعلوا ما أمرتم به.
وقال آخرون : بل معنى ذلك : أفنترك تذكيركم بهذا القرآن ، ولا نذكركم به ، لأن
كنتم قوما مسرفين.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ
الذِّكْرَ صَفْحًا أَنْ كُنْتُمْ قَوْمًا مُسْرِفِينَ ) : أي مشركين ، والله لو
كان هذا القرآن رفع حين ردّه أوائل هذه الأمة لهلكوا ، فدعاهم إليه عشرين سنة ، أو
ما شاء الله من ذلك.
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، في قوله : (
أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا ) قال : لو أن هذه الأمة لم يؤمنوا لضرب
عنهم الذكر صفحا ، قال : الذكر ما أنزل عليهم مما أمرهم الله به ونهاهم صفحا ، لا
يذكر لكم منه شيئا.
وأولى التأويلين في ذلك بالصواب تأويل من تأوّله : أفنضرب عنكم العذاب فنترككم
ونعرض عنكم ، لأن كنتم قوما مسرفين لا تؤمنون بربكم.
وإنما قلنا ذلك أولى التأويلين بالآية ، لأن الله تبارك وتعالى أتبع ذلك خبره عن
الأمم السالفة قبل الأمم التي توعدها بهذه الآية في تكذيبها رسلها ، وما أحل بها
من نقمته ، ففي ذلك دليل على أن قوله : ( أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا
) وعيد منه للمخاطبين به من أهل الشرك ، إذ سلكوا في التكذيب بما جاءهم عن الله
رسولهم مسلك الماضين قبلهم.
واختلفت القرّاء في قراءة ذلك ، فقرأته عامة قرّاء المدينة والكوفة " إنْ
كُنْتُمْ " بكسر الألف من " إن " بمعنى : أفنضرب عنكم الذكر صفحا
إذ كنتم قوما مسرفين. وقرأه بعض قرّاء أهل مكة والكوفة وعامة قرّاء البصرة "
أنْ " بفتح الألف من " أنْ " ، بمعنى : لأن كنتم.
(21/568)
واختلف أهل العربية في وجه فتح الألف
من أن في هذا الموضع ، فقال بعض نحويي البصرة : فتحت لأن معنى الكلام : لأن كنتم.
وقال بعض نحويي الكوفة : من فتحها فكأنه أراد شيئا ماضيا ، فقال : وأنت تقول في
الكلام : أتيت أن حرمتني ، تريد : إذ حرمتني ، ويكسر إذا أردت : أتيت إن تحرمني.
ومثله : ( وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ ) و( أنْ
صَدُّوكُمْ ) بكسر وبفتح.
( فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا
الْحَدِيثِ أَسَفًا ) قال : والعرب تنشد قول الفرزدق?
أتَجْزَعُ أنْ أُذْنا قُتَيْبَةَ حُزَّتا... جِهارًا وَلمْ تَجْزَعْ لقَتْلِ ابنِ
حَازِمِ (1)
قال : وينشد?
أتَجْزَعُ أنْ بانَ الخَلِيطُ المُوَدّعُ... وَحَبْلُ الصَّفَا مِنْ عَزَّةَ
المُتَقَطِّعُ (2)
__________
(1) البيت من شواهد النحويين ومن شواهد الفراء في معاني القرآن ( الورقة 294 ) قال
عند قوله تعالى في سورة الزخرف : ( أفنضرب عنكم الذكر صفحا أن كنتم( قرأ الأعمش :
( إن كنتم ) بالكسر . وقرأ عاصم والحسن ( أن كنتم ) بفتح أن ، كأنهم أرادوا شيئا
ماضيا ، وأنت تقول في الكلام : أأسبك أن حرمتني ، وتكسر إذا أردت : أأسبك إن
تحرمني ؟ ومثله : ( لا يجرمنكم شنآن قوم إن صدوكم) تكسر إن وتفتح ومثله ( فعلك
باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا) . والعرب تنشد . قول الفرزدق " أتجزع إن
أذنا قتيبة ... " البيت . بالفتح والكسر . ورواية البيت في شرح شواهد المغني
للسيوطي : " أتغضب " في مكان " أتجزع " قال : وضمير تغضب راجع
على قيس. والحز : القطع . وابن خازم : عبد الله بن خازم ، بمعجمتين ، كما ضبطه
الدارقطني وغيره أمير خراسان ، وليها سنتين ، ثم ثار به أهل خرسان ، فقتلوه ،
وحملوا رأسه إلى عبد الملك بن مروان. وقتيبة بن مسلم الباهلي ، من أكبر قواد
المسلمين ، وفاتحي بلاد الشرق ، وهو الذي افتتح خوارزم وسمرقند وبخارى . وقتل سنة
سبع وتسعين رحمه الله . والظاهر أن قول المؤلف " أتيت أن حرمتني " . فيه
تصحيف من الناسخ لقول الفراء في معاني القرآن " أأسبك حرمتني " .
(2) البيت لكثير عزة ، وهو من شواهد الفراء أورده بعد الشاهد السابق ، قال :
أنشدوني " أتجزع أن بان " ... البيت . ثم قال : وفي كل واحد من البيتين
، ما في صاحبه من الفتح والكسر .
(21/569)
وَكَمْ أَرْسَلْنَا مِنْ نَبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ (6) وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (7) فَأَهْلَكْنَا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشًا وَمَضَى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ (8)
قال : وفي كل واحد من البيتين ما في
صاحبه من الكسر والفتح.
والصواب من القول في ذلك عندنا : أن الكسر والفتح في الألف في هذا الموضع قراءتان
مشهورتان في قرأة الأمصار صحيحتا المعنى ، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب ، وذلك أن
العرب إذا تقدم " أن " وهي بمعنى الجزاء فعل مستقبل كسروا ألفها أحيانا
، فمحضوا لها الجزاء ، فقالوا : أقوم إن قمت ، وفتحوها أحيانا ، وهم ينوون ذلك
المعنى ، فقالوا : أقوم أن قمت بتأويل ، لأن قمت ، فإذا كان الذي تقدمها من الفعل
ماضيا لم يتكلموا إلا بفتح الألف من " أن " فقالوا : قمت أن قمت ، وبذلك
جاء التنزيل ، وتتابع شعر الشعراء.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَكَمْ أَرْسَلْنَا مِنْ نَبِيٍّ فِي الأوَّلِينَ
(6) وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (7) }
يقول تعالى ذكره : ( وَكَمْ أَرْسَلْنَا مِنْ نَبِيٍّ ) يا محمد في القرون الأولين
الذين مضوا قبل قرنك الذي بعثت فيه كما أرسلناك في قومك من قريش.( وَمَا
يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ) يقول وما كان يأتي
قرنا من أولئك القرون وأمة من أولئك الأمم الأولين لنا من نبيّ يدعوهم إلى الهدى
وطريق الحق ، إلا كان الذين يأتيهم ذلك من تلك الأمم نبيهم الذي أرسله إليهم
يستهزئون سخرية منهم بهم كاستهزاء قومك بك يا محمد. يقول : فلا يعظمن عليك ما يفعل
بك قومك ، ولا يشقنّ عليك ، فإنهم إنما سلكوا في استهزائهم بك مسلك أسلافهم ،
ومنهاج أئمتهم الماضين من أهل الكفر بالله.
القول في تأويل قوله تعالى : { فَأَهْلَكْنَا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشًا وَمَضَى
مَثَلُ الأوَّلِينَ (8) }
(21/570)
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (9) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (10)
يقول تعالى ذكره : فأهلكنا أشدّ من
هؤلاء المستهزئين بأنبيائهم بطشا إذا بطشوا فلم يعجزونا بقواهم وشدة بطشهم ، ولم
يقدروا على الامتناع من بأسنا إذ أتاهم ، فالذين هم أضعف منهم قوة أحرى أن لا
يقدروا على الامتناع من نقمنا إذا حلَّت بهم. يقول جلّ ثناؤه : ومضى لهؤلاء
المشركين المستهزئين بك ولمن قبلهم من ضربائهم مثلنا لهم في أمثالهم من مكذّبي
رسلنا الذين أهلكناهم ، يقول : فليتوقع هؤلاء الذين يستهزئون بك يا محمد من
عقوبتنا مثل الذي أحللناه بأولئك الذين أقاموا على تكذيبك.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( وَمَضَى مَثَلُ
الأوَّلِينَ ) قال : عقوبة الأولين.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث ، قال :
ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله : (
مَثَلُ الأوَّلِينَ ) قال : سُنتهم.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ
وَالأرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (9) الَّذِي جَعَلَ
لَكُمُ الأرْضَ مَهْدًا وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ
(10) }
يقول تعالى ذكره : ولئن سألت يا محمد هؤلاء المشركين من قومك : من خلق السموات
السبع والأرضين ، فأحدثهن وأنشأهن ؟ ليقولنّ : خلقهنّ العزيز في سلطانه
(21/571)
وانتقامه من أعدائه ، العليم بهن وما
فيهنّ من الأشياء ، لا يخفى عليه شيء.( الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأرْضَ مَهْدًا )
يقول : الذي مهد لكم الأرض ، فجعلها لكم وطاء توطئونها بأقدامكم ، وتمشون عليها
بأرجلكم.( وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلا ) يقول : وسهل لكم فيها طرقا تتطرّقونها
من بلدة إلى بلدة ، لمعايشكم ومتاجركم.
كما حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( وَجَعَلَ لَكُمْ
فِيهَا سُبُلا ) أي طرقا. حدثنا محمد ، قال : ثنا أحمد ، قال : ثنا أسباط ، عن
السديّ( الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأرْضَ مَهْدًا ) قال : بساطا( وَجَعَلَ لَكُمْ
فِيهَا سُبُلا ) قال : الطرق.( لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ) يقول : لكي تهتدوا بتلك
السبل إلى حيث أردتم من البلدان والقرى والأمصار ، لولا ذلك لم تطيقوا براح
أفنيتكم ودوركم ، ولكنها نعمة أنعم بها عليكم.
(21/572)
وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَنْشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ (11) وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ (12)
القول في تأويل قوله تعالى : {
وَالَّذِي نزلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَنْشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً
مَيْتًا كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ (11) وَالَّذِي خَلَقَ الأزْوَاجَ كُلَّهَا وَجَعَلَ
لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالأنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ (12) }
يقول تعالى ذكره : ( وَالَّذِي نزلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ ) يعني : ما
نزل جلّ ثناؤه من الأمطار من السماء بقدر : يقول : بمقدار حاجتكم إليه ، فلم يجعله
كالطوفان ، فيكون عذابا كالذي أنزل على قوم نوح ، ولا جعله قليلا لا ينبت به
النبات والزرع من قلته ، ولكن جعله غيثا ، حيا للأرض الميتة محييا.( فَأَنْشَرْنَا
بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا ) يقول جلّ ثناؤه : فأحيينا به بلده من بلادكم ميتا ، يعني
مجدبة لا نبات بها ولا زرع ، قد درست من الجدوب ، وتعفنت من القحوط( كَذَلِكَ
تُخْرَجُونَ ) يقول تعالى ذكره :
(21/572)
كما أخرجنا بهذا الماء الذي نزلناه من
السماء من هذه البلدة الميتة بعد جدوبها وقحوطها النبات والزرع ، كذلك أيها الناس
تخرجون من بعد فنائكم ومصيركم في الأرض رفاتًا بالماء الذي أنزله إليها لإحيائكم
من بعد مماتكم منها أحياء كهيئتكم التي بها قبل مماتكم.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( وَالَّذِي نزلَ مِنَ
السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ ).... الآية ، كما أحيا الله هذه الأرض الميتة بهذا
الماء كذلك تبعثون يوم القيامة.
وقيل : أنشرنا به ، لأن معناه : أحيينا به ، ولو وصفت الأرض بأنها أحييت ، قيل :
نشرت الأرض ، كما قال الأعشى : ?
حتى يَقُولَ النَّاسُ ممَّا رأوْا يا عَجَبا للْمَيِّتِ النَّاشِرِ (1)
وقوله : ( وَالَّذِي خَلَقَ الأزْوَاجَ كُلَّهَا ) يقول تعالى ذكره : والذي خلق
كلّ شيء فزوّجه ، أي (2) خلق الذكور من الإناث أزواجا ، الإناث من الذكور
__________
(1) البيت للأعشى ميمون بن قيس من قصيدة يهجو بها علقمة بن علاثة ويمدح عامر بن
الطفيل ، في المنافرة التي جرت بينهما ( ديوانه 139 ) وعلقمة بن علاثة صحابي ، قدم
على النبي صلى الله عليه وسلم ، وهو شيخ ، فأسلم وبايع . والبيت : من شواهد ( أبي
عبيدة في مجاز القرآن الورقة 220 - 1 ) عند قوله تعالى في سورة الزخرف : ( فأنشرنا
به بلدة ميتا ) قال : أحيينا . ونشرت الأرض : حييت ، قال الأعشى : " حتى يقول
... " البيت . وفي ( اللسان : نشر ) : ونشر الله الميت ينشره نشرا ونشورا .
وأنشره ، أحياه فنشر هو ، قال الأعشى : " حتى يقول الناس ... البيت " .
ا هـ .
(2) في الأصل : أن . ولعله من تحريف الناسخ .
(21/573)
لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ (13) وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ (14)
أزواجا( لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ ) وهي
السفن( وَالأنْعَامِ ) وهي البهائم( مَا تَرْكَبُونَ ) يقول : جعل لكم من السفن ما
تركبونه في البحار إلى حيث قصدتم واعتمدتم في سيركم فيها لمعايشكم ومطالبكم ، ومن
الأنعام ما تركبونه في البر إلى حيث أردتم من البلدان ، كالإبل والخيل والبغال
والحمير.
القول في تأويل قوله تعالى : { لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا
نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحَانَ الَّذِي
سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ (13) وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا
لَمُنْقَلِبُونَ (14) }
يقول تعالى ذكره : كي تستوا على ظهور ما تركبون.
واختلف أهل العربية في وجه توحيد الهاء في قوله : ( عَلَى ظُهُورِهِ ) وتذكيرها ،
فقال بعض نحويي البصرة : تذكيره يعود على ما تركبون ، وما هو مذكر ، كما يقال :
عندي من النساء من يوافقك ويسرك ، وقد تذكر الأنعام وتؤنث. وقد قال في موضع آخر :
( مِمَّا فِي بُطُونِهِ ) وقال في موضع آخر : ( بُطُونِهَا ) وقال بعض نحوييّ
الكوفة : أضيفت الظهور إلى الواحد ، لأن ذلك الواحد في معنى جمع بمنزلة الجند
والجيش. قال : فإن قيل : فهلا قلت : لتستووا على ظهره ، فجعلت الظهر واحدا إذا
أضفته إلى واحد. قلت : إن الواحد فيه معنى الجمع ، فردّت الظهور إلى المعنى ، ولم
يقل ظهره ، فيكون كالواحد الذي معناه ولفظه واحد. وكذلك تقول : قد كثر نساء الجند
، وقلت : ورفع الجند أعينه ولم يقل عينه. قال : وكذلك كلّ ما أضفت إليه من الأسماء
الموصوفة ، فأخرجها على الجمع ، وإذا أضفت إليه اسما في معنى فعل جاز جمعه وتوحيده
، مثل قولك : رفع العسكر صوتَه ، وأصواته أجود وجاز هذا لأن الفعل لا صورة له في
الاثنين إلا الصورة في الواحد.
وقال آخر منهم : قيل : لتستووا على ظهره ، لأنه وصف للفلك ،
(21/574)
ولكنه وحد الهاء ، لأن الفلك بتأويل
جمع ، فجمع ، الظهور ووحد الهاء ، لأن أفعال كل واحد تأويله الجمع توحد وتجمع مثل
: الجند منهزم ومنهزمون ، فإذا جاءت الأسماء خرج على الأسماء لا غير ، فقلت : الجند
رجال ، فلذلك جمعت الظهور ووحدت الهاء ، ولو كان مثل الصوت وأشباهه جاز الجند رافع
صوته وأصواته.
قوله : ( ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ ) يقول تعالى ذكره : ثم تذكروا نعمة
ربكم التي أنعمها عليكم بتسخيره ذلك لكم مراكب في البر والبحر( إِذَا
اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ ) فتعظموه وتمجدوه ، وتقولوا تنزيها لله الذي سخر لنا هذا
الذي ركبناه من هذه الفلك والأنعام ، مما يصفه به المشركون ، وتشرك معه في العبادة
من الأوثان والأصنام( وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ ).
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا أبو كريب وعبيد بن إسماعيل الهباري ، قالا ثنا المحاربيّ ، عن عاصم الأحول ،
عن أبي هاشم عن أبي مجلز ، قال : ركبت دابة ، فقلت : ( سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ
لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ ) ، فسمعني رجل من أهل البيت; قال أبو
كُرَيب والهباريّ : قال المحاربيّ : فسمعت سفيان يقول : هو الحسن بن علي رضوان
الله تعالى عليهما ، فقال : أهكذا أمرت ؟ قال : قلت : كيف أقول ؟ قال : تقول الحمد
لله الذي هدانا الإسلام ، الحمد لله الذي من علينا بمحمد عليه الصلاة والسلام ،
الحمد لله الذي جعلنا في خير أمة أُخرجت للناس ، فإذا أنت قد ذكرت نعما عظاما ، ثم
يقول بعد ذلك( سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ
مُقْرِنِينَ وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ ).
(21/575)
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا عبد الرحمن
، قال : ثنا سفيان ، عن أبي هاشم ، عن أبي مجلز ، أن الحسن بن عليّ رضى الله عنه ،
رأى رجلا ركب دابة ، فقال : الحمد لله الذي سخر لنا هذا ، ثم ذكر نحوه.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( لِتَسْتَوُوا عَلَى
ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ )
يعلمكم كيف تقولون إذا ركبتم في الفلك تقولون : ( بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا
وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ ) وإذا ركبتم الإبل قلتم : (
سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ وَإِنَّا
إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ ) ويعلمكم ما تقولون إذا نزلتم من الفلك والأنعام
جميعا تقولون : اللهمّ أنزلنا منزلا مباركًا وأنت خير المنزلين.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن ابن طاوس ، عن أبيه
أنه كان إذا ركب قال : اللهمّ هذا من منك وفضلك ، ثم يقول : ( سُبْحَانَ الَّذِي
سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا
لَمُنْقَلِبُونَ ).
وقوله : ( وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ ) وما كنا له مطيقين ولا ضابطين ، من
قولهم : قد أقرنت لهذا : إذا صرت له قرنا وأطقته ، وفلان مقرن لفلان : أي ضابط له
مُطِيق.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : ثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس(
وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ ) يقول : مطيقين.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث ، قال :
ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قول الله
عزّ وجلّ : ( مُقْرِنِينَ ) قال : الإبل والخيل والبغال والحمير.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( وَمَا كُنَّا لَهُ
مُقْرِنِينَ ) أي مُطِيقين ، لا والله لا في الأيدي ولا في القوّة.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : ثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، قوله :
( وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ ) قال : في القوّة.
(21/576)
وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ (15) أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُمْ بِالْبَنِينَ (16) وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلًا ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (17)
حدثنا محمد ، قال : ثنا أحمد ، قال :
ثنا أسباط ، عن السديّ( وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ ) قال : مُطِيقين.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قول الله جلّ ثناؤه : (
سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ ) قال :
لسنا له مطيقين ، قال : لا نطيقها إلا بك ، لو لا أنت ما قوينا عليها ولا أطقناها.
وقوله : ( وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ ) يقول جلّ ثناؤه : وليقولوا
أيضا : وإنا إلى ربنا من بعد مماتنا لصائرون إليه راجعون.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا إِنَّ
الإنْسَانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ (15) أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ
وَأَصْفَاكُمْ بِالْبَنِينَ (16) وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِمَا ضَرَبَ
لِلرَّحْمَنِ مَثَلا ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (17) }
يقول تعالى ذكره : وجعل هؤلاء المشركون لله من خلقه نصيبا ، وذلك قولهم للملائكة :
هم بنات الله.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني في محمد بن عمرو ، قال : ثنا عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث ، قال :
ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله عزّ
وجلّ : ( وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا ) قال : ولدا وبنات من الملائكة.
حدثنا محمد ، قال : ثنا أحمد ، قال : ثنا أسباط ، عن السديّ( وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ
عِبَادِهِ جُزْءًا ) قال : البنات.
وقال آخرون : عنى بالجزء ها هنا : العدل.
(21/577)
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ
عِبَادِهِ جُزْءًا ) : أي عدلا.
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، في قوله : (
وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا ) : أي عدلا.
وإنما اخترنا القول الذي اخترناه في تأويل ذلك ، لأن الله جلّ ثناؤه أتبع ذلك قوله
: ( أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُمْ بِالْبَنِينَ ) توبيخًا
لهم على قولهم ذلك ، فكان معلوما أن توبيخه إياهم بذلك إنما هو عما أخبر عنهم من
قيلهم ما قالوا في إضافة البنات إلى الله جلّ ثناؤه.
وقوله : ( إِنَّ الإنْسَانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ ) يقول تعالى ذكره : إن الإنسان لذو
جحد لنعم ربه التي أنعمها عليه مبين : يقول : يبين كفرانه نعمه عليه ، لمن تأمله
بفكر قلبه ، وتدبر حاله.
وقوله : ( أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ ) يقول جلّ ثناؤه موبخا هؤلاء
المشركين الذين وصفوه بأن الملائكة بناته : اتخذ ربكم أيها الجاهلون مما يخلق بنات
، وأنتم لا ترضون لأنفسكم ، وأصفاكم بالبنين. يقول : وأخلصكم بالبنين ، فجعلهم
لكم.( وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلا ) يقول تعالى
ذكره : وإذا بشر أحد هؤلاء المشركين الجاعلين لله من عباده حزءا بما ضرب للرحمن
مثلا يقول : بما مثل لله ، فشبهه شبها ، وذلك ما وصفه به من أن له بنات.
كما حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث ،
قال : ثنا الحسن قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله :
( بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلا ) قال : ولدا.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : ( بِمَا
(21/578)
أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ (18)
ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلا ) بما جعل
لله.
وقوله : ( ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا ) يقول تعالى ذكره : ظلّ وجه هذا الذي بشَّر
بما ضرب للرحمن مثلا من البنات مسودّا من سوء ما بشر به.( وَهُوَ كَظِيمٌ ) يقول :
وهو حزين.
كما حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( وَهُوَ كَظِيمٌ ) :
أي حزين.
القول في تأويل قوله تعالى : { أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي
الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ (18) }
يقول تعالى ذكره : أو من ينبت في الحلية ويزين بها( وَهُوَ فِي الْخِصَامِ ) يقول
: وهو في مخاصمة من خاصمه عند الخصام غير مبين ، ومن خصمه ببرهان وحجة ، لعجزه
وضعفه ، جعلتموه جزء الله من خلقه وزعمتم أنه نصيبه منهم ، وفي الكلام متروك
استغنى بدلالة ما ذكر منه وهو ما ذكرت.
واختلف أهل التأويل في المعنيّ بقوله : ( أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ
وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ ) ، فقال بعضهم : عُنِي بذلك الجواري
والنساء.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ،
عن ابن عباس ، قوله : ( أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ
غَيْرُ مُبِينٍ ) قال : يعني المرأة.
حدثنا محمد بن بشار ، قال : ثنا عبد الرحمن ، قال : ثنا سفيان ، عن علقمة ، عن
مرثد ، عن مجاهد ، قال : رخص للنساء في الحرير والذهب ، وقرأ( أَوَمَنْ يُنَشَّأُ
فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ ) قال : يعني المرأة.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : قال ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني
(21/579)
الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا
ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله( أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي
الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ ) قال : الجواري جعلتموهنّ للرحمن
ولدا ، كيف تحكمون.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : ( أَوَمَنْ
يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ ) قال : الجواري
يسفههنّ بذلك ، غير مبين بضعفهنّ.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة( أَوَمَنْ
يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ ) يقول : جعلوا له البنات وهم إذا بشِّر أحدهم بهنّ ظلّ
وجهه مسودّا وهو كظيم. قال : وأما قوله : ( وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ
) يقول : قلما تتكلم امرأة فتريد أن تتكلم بحجتها إلا تكلمت بالحجة عليها.
حدثنا محمد ، قال : ثنا أحمد ، قال : ثنا أسباط ، عن السديّ( أَوَمَنْ يُنَشَّأُ
فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ ) قال : النساء.
وقال آخرون : عُنِي بذلك أوثانهم التي كانوا يعبدونها من دون الله.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : ( أَوَمَنْ
يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ ) ... الآية ، قال : هذه تماثيلهم التي يضربونها من فضة
وذهب يعبدونها هم الذين أنشئوها ، ضربوها من تلك الحلية ، ثم عبدوها( وَهُوَ فِي
الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ ) قال : لا يتكلم ، وقرأ( فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ
) .
وأولى القولين في ذلك بالصواب قول من قال : عُنِي بذلك الجواري والنساء ، لأن ذلك
عقيب خبر الله عن إضافة المشركين إليه ما يكرهونه لأنفسهم من البنات ، وقلة
معرفتهم بحقه ، وتحليتهم إياه من الصفات والبخل ، وهو خالقهم ومالكهم ورازقهم ،
والمنعم عليهم النعم التي عددها في أول هذه السورة ما لا
(21/580)
وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ (19)
يرضونه لأنفسهم ، فاتباع ذلك من الكلام
ما كان نظيرا له أشبه وأولى من اتباعه ما لم يجر له ذكر.
واختلف القرّاء في قراءة قوله : ( أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ ) فقرأته
عامة قرّاء المدينة والبصرة وبعض المكيين والكوفيين " أوْ مَنْ يَنْشَأُ
" بفتح الياء والتخفيف من نَشَأَ ينشأ. وقرأته عامة قرّاء الكوفة( يُنَشَّأُ
) بضم الياء وتشديد الشين من نَشَّأْتُهُ فهو يُنَشَّأُ. والصواب من القول في ذلك
عندنا أن يقال : إنهما قراءتان معروفتان في قراءة الأمصار ، متقاربتا المعنى ، لأن
المُنَشَّأ من الإنشاء ناشئ ، والناشئ منشأ ، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب. وقد ذُكر
أن ذلك في قراءة عبد الله " أوَ مَنْ لا يُنشَّأُ إلا فِي الحلْية " ،
وفي " من " وجوه من الإعراب الرفع على الاستئناف والنصب على إضمار
يجعلون كأنه قيل : أو من ينشأ في الحلية يجعلون بنات الله. وقد يجوز النصب فيه
أيضا على الردّ على قوله : أم اتخذ مما يخلق بنات أو من ينشأ في الحلية ، فيردّ
" من " على البنات ، والخفض على الردّ على " ما " التي في
قوله : ( وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلا ).
القول في تأويل قوله تعالى : { وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ
الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ
وَيُسْأَلُونَ (19) }
يقول تعالى ذكره : وجعل هؤلاء المشركون بالله ملائكته الذين هم عباد الرحمن.
واختلفت القرّاء في قراءة ذلك ، فقرأته عامة قرّاء المدينة " الذين هم عند
الرحمن " بالنون ، فكأنهم تأولوا في ذلك قول الله جلّ ثناؤه : ( إِنَّ
الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ ) فتأويل الكلام على هذه القراءة :
وجعلوا ملائكة الله الذين هم عنده يسبحونه ويقدسونه إناثا ، فقالوا : هم بنات الله
جهلا منهم بحق الله ، وجرأة منهم على قيل الكذب والباطل. وقرأ ذلك عامة قرّاء
الكوفة والبصرة
(21/581)
وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ (20) أَمْ آَتَيْنَاهُمْ كِتَابًا مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ (21)
( وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ
هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا ) بمعنى : جمع عبد. فمعنى الكلام على قراءة
هؤلاء : وجعلوا ملائكة الله الذين هم خلقه وعباده بنات الله ، فأنثوهم بوصفهم
إياهم بأنهم إناث.
والصواب من القول في ذلك عندي أنهما قراءتان معروفتان في قراءة الأمصار صحيحتا
المعنى ، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب ، وذلك أن الملائكة عباد الله وعنده.
واختلفوا أيضًا في قراءة قوله : ( أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ ) فقرأ ذلك بعض قرّاء
المدينة " أشهدوا خلقهم " بضم الألف ، على وجه ما لم يسمّ فاعله ، بمعنى
: أأشهد الله هؤلاء المشركين الجاعلين ملائكة الله إناثا ، خلق ملائكته الذين هم
عنده ، فعلموا ما هم ، وأنهم إناث ، فوصفوهم بذلك ، لعلمهم بهم ، وبرؤيتهم إياهم ،
ثم رد ذلك إلى ما لم يسمّ فاعله.
وقرئ بفتح الألف ، بمعنى : أشهدوا هم ذلك فعلموه ؟ والصواب من القول في ذلك عندي
أنهما قراءتان معروفتان ، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب.
وقوله : ( سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ ) يقول تعالى ذكره : ستكتب شهادة هؤلاء
القائلين : الملائكة بنات الله في الدنيا ، بما شهدوا به عليهم ، ويسألون عن
شهادتهم تلك في الآخرة أن يأتوا ببرهان على حقيقتها ، ولن يجدوا إلى ذلك سبيلا.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا
عَبَدْنَاهُمْ مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلا يَخْرُصُونَ (20)
أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ (21) }
يقول تعالى ذكره : وقال هؤلاء المشركون من قريش : لو شاء الرحمن ما عبدنا أوثاننا
التي نعبدها من دونه ، وإنما لم يحلّ بنا عقوبة على عبادتنا إياها
(21/582)
بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آَبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آَثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ (22)
لرضاه منا بعبادتناها.
كما حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث ،
قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : (
لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ ) للأوثان يقول الله عزّ وجلّ.( مَا
لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ ) يقول : ما لهم بحقيقة ما يقولون من ذلك من علم ،
وإنما يقولونه تخرّصا وتكذّبا ، لأنهم لا خبر عندهم مني بذلك ولا بُرْهان. وإنما
يقولونه ظنا وحسبانا.( إِنْ هُمْ إِلا يَخْرُصُونَ ) يقول : ما هم إلا متخرّصون
هذا القول الذي قالوه ، وذلك قولهم( لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ ).
وكان مجاهد يقول في تأويل ذلك ، ما حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال
: ثنا عيسى; وحدثنا الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن
أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : ( إِنْ هُمْ إِلا يَخْرُصُونَ ) ما يعلمون قُدرة
الله على ذلك.
وقوله : ( أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا مِنْ قَبْلِهِ ) يقول تعالى ذكره ما (1)
آتينا هؤلاء المتخرّصين القائلين لو شاء الرحمن ما عبدنا الآلهة كتابا بحقيقة ما
يقولون من ذلك ، من قبل هذا القرآن الذي أنزلناه إليك يا محمد.( فَهُمْ بِهِ
مُسْتَمْسِكُونَ ) يقول : فهم بذلك الكتاب الذي جاءهم من عندي من قبل هذا القرآن ،
مستمسكون يعملون به ، ويدينون بما فيه ، ويحتجون به عليك.
القول في تأويل قوله تعالى : { بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى
أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ (22) }
يقول تعالى ذكره : ما آتينا هؤلاء القائلين : لو شاء الرحمن ما عبدنا هؤلاء
__________
(1) ما : ساقطة من المطبوعة .
(21/583)
الأوثان بالأمر بعبادتها ، كتابا من
عندنا ، ولكنهم قالوا : وجدنا آباءنا الذين كانوا قبلنا يعبدونها ، فنحن نعبدها
كما كانوا يعبدونها; وعنى جلّ ثناؤه بقوله : ( بَلْ (1) وَجَدْنَا آباءنَا على
أُمَّةٍ ). بل وجدنا آباءنا على دين وملة ، وذلك هو عبادتهم الأوثان.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث ، قال :
ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد قوله : ( عَلَى
أُمَّةٍ ) : مِلَّة.
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ،
عن ابن عباس ، قوله : ( إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ ) يقول : وجدنا
آباءنا على دين.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : ( إِنَّا
وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ ) قال : قد قال ذلك مشركو قريش : إنا وجدنا
آباءنا على دين.
حدثنا محمد ، قال : ثنا أحمد ، قال : ثنا أسباط عن السديّ( قَالُوا إِنَّا
وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ ) قال : على دين.
واختلفت القرّاء في قراءة قوله : ( عَلَى أُمَّةٍ ) فقرأته عامة قرّاء الأمصار(
عَلَى أُمَّةٍ ) بضم الألف بالمعنى الذي وصفت من الدين والملة والسنة. وذُكر عن
مجاهد وعمر بن عبد العزيز أنهما قرأاه " على إمَّةٍ " بكسر الألف. وقد اختلف
في معناها إذا كسرت ألفها ، فكان بعضهم يوجه تأويلها إذا كسرت على أنها الطريقة
وأنها مصدر من قول القائل : أممت القوم فأنا أؤمهم إمَّة. وذُكر عن العرب سماعا :
__________
(1) التلاوة : ( بل قالوا إنا وجدنا آباءنا على أمة ) .
(21/584)
ما أحسن عمته وإمته وجلسته إذا كان
مصدرا. ووجهه بعضهم إذا كُسرت ألفها إلى أنها الإمة التي بمعنى النعيم والمُلك ،
كما قال عدي بن زيد. ثُمَّ بَعْدَ الفَلاحِ والمُلْكِ والإم... ة وَارَتهُمْ
هُناكَ القُبور (1)
وقال : أراد إمامة الملك ونعيمه. وقال بعضهم : (الأمَّة بالضم ، والإمَّة بالكسر
بمعنى واحد).
والصواب من القراءة في ذلك الذي لا أستجيز غيره : الضم في الألف لإجماع الحجة من
قرّاء الأمصار عليه. وأما الذين كسروها فإني لا أراهم قصدوا بكسرها إلا معنى
الطريقة والمنهاج ، على ما ذكرناه قبل ، لا النعمة والملك ، لأنه لا وجه لأن يقال
: إنا وجدنا آباءنا على نعمة ونحن لهم متبعون في ذلك ، لأن الاتباع إنما يكون في
الملل والأديان وما أشبه ذلك لا في الملك والنعمة ، لأن الاتباع في الملك ليس
بالأمر الذي يصل إليه كلّ من أراده.
وقوله : ( وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ ) يقول : وإنا على آثار آبائنا
فيما كانوا عليه من دينهم مهتدون ، يعني : لهم متبعون على منهاجهم.
كما حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه
، عن ابن عباس( وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ ) يقول : وإنا على دينهم.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( وَإِنَّا عَلَى
__________
(1) البيت لعدي بن زيد العبادي ( اللسان : أمم ) وهو من شواهد الفراء في معاني
القرآن ، عند قوله تعالى ( إنا وجدنا آباءنا على أمة ) ( الورقة 294 ) قال : قرأها
القراء بضم الألف من " أمة " ، وكسرها مجاهد ، وعمر بن عبد العزيز .
وكأن الإمة : الطريقة ، والمصدر من أممت القوم ؛ فإن العرب تقول : ما أحسن إمته
وعمته وجلسته ، إذا كان مصدرا . والأمة أيضا : الملك والنعيم . قال عدي : "
ثم بعد الفلاج ... " البيت . فكأنه أراد إمامة الملك ونعيمه . ا هـ . وفي اللسان
: والأمة ( بالضم ) والكسر الدين . والأمة ( بالكسر ) لغة في الأمة ( بالضم ) وهي
الطريقة والدين . ا هـ .
(21/585)
آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ ) يقول : وإنا متبعوهم على ذلك.
(21/586)
وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آَبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آَثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ (23)
القول في تأويل قوله تعالى : {
وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلا قَالَ
مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ
مُقْتَدُونَ (23) }
يقول تعالى ذكره : وهكذا كما فعل هؤلاء المشركون من قريش فعل من قبلهم من أهل
الكفر بالله ، وقالوا مثل قولهم ، لم نرسل من قبلك يا محمد في قرية ، يعني إلى
أهلها رسلا تنذرهم عقابنا على كفرهم بنا فأنذروهم وحذروهم سخطنا ، وحلول عقوبتنا
بهم( إِلا قَالَ مُتْرَفُوهَا ) ، وهم رؤساؤهم وكبراؤهم.
كما حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : ثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، في
قوله : ( إِلا قَالَ مُتْرَفُوهَا ) قال : رؤساؤهم وأشرافهم.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : ( وَكَذَلِكَ
مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلا قَالَ مُتْرَفُوهَا
) قادتهم ورءوسهم فى الشرك.
وقوله : ( إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ ) يقول : قالوا : إنا وجدنا
آباءنا على ملة ودين( وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ ) يعني : وإنا على منهاجهم
وطريقتهم مقتدون بفعلهم نفعل كالذي فعلوا ، ونعبد ما كانوا يعبدون; يقول جلّ ثناؤه
لمحمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم : فإنما سلك مشركو قومك منهاج من قبلهم من
إخوانهم من أهل الشرك بالله في إجابتهم إياك بما أجابوك به ، وردّهم ما ردّوا عليك
من النصيحة ، واحتجاجهم بما احتجوا به لمُقامهم على دينهم الباطل.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
(21/586)
قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آَبَاءَكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (24) فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (25)
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث ، قال :
ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : (
وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ ) قال بفعلهم.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( وَإِنَّا عَلَى
آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ ) فاتبعوهم على ذلك.
القول في تأويل قوله تعالى : { قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا
وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ
كَافِرُونَ (24) }
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم : قل يا محمد لهؤلاء
المشركين من قومك ، القائلين إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون(
أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ ) أيها القوم من عند ربكم( بِأَهْدَى ) إلى طريق الحق ، وأدل
لكم على سبيل الرشاد( مِمَّا وَجَدْتُمْ ) أنتم عليه آبائكم من الدين والمِلَّة.(
قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ ) يقول : فقال ذلك لهم ،
فأجابوه بأن قالوا له كما قال الذين من قبلهم من الأمم المكذّبة رسلها لأنبيائها :
إنا بما أرسلتم به يا أيها القوم كافرون ، يعني : جاحدون منكرون.
وقرأ ذلك قرّاء الأمصار سوى أبي جعفر " قل أولو جئتكم " بالتاء. وذُكر
عن أبي جعفر القارئ أنه قرأه " قُلْ أوَ لَوْ جِئْنَاكُمْ " بالنون
والألف.
والقراءة عندنا ما عليه قرّاء الأمصار لإجماع الحجة عليه.
القول في تأويل قوله تعالى : { فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ
عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (25) }
(21/587)
وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ (26) إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ (27) وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (28)
يقول تعالى ذكره : فانتقمنا من هؤلاء
المكذّبة رسلها من الأمم الكافرة بربها ، بإحلالنا العقوبة بهم ، فانظر يا محمد
كيف كان عقبى أمرهم ، إذ كذّبوا بآيات الله. ويعني بقوله : ( عَاقِبَةُ
الْمُكَذِّبِينَ ) آخر أمر الذين كذبوا رسل الله إلام صار ، يقول : ألم نهلكهم
فنجعلهم عبرة لغيرهم ؟
كما حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( فَانْتَقَمْنَا
مِنْهُمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ ) قال : شر والله ،
أخذهم بخسف وغرق ، ثم أهلكهم فأدخلهم النار.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأبِيهِ وَقَوْمِهِ
إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ (26) إِلا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ
سَيَهْدِينِ (27) وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ
يَرْجِعُونَ (28) }
يقول تعالى ذكره : ( وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأبِيهِ وَقَوْمِهِ ) الذين كانوا
يعبدون ما يعبده مشركو قومك يا محمد( إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ ) من
دون الله ، فكذّبوه ، فانتقمنا منهم كما انتقمنا ممن قبلهم من الأمم المكذّبة
رسلها. وقيل : ( إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ ) فوضع البراء وهو مصدر موضع
النعت ، والعرب لا تثني البراء ولا تجمع ولا تؤنث ، فتقول : نحن البراء والخلاء :
لِما ذكرت أنه مصدر ، وإذا قالوا : هو بريء منك ثنوا وجمعوا وأنَّثوا ، فقالوا :
هما بريئان منك ، وهم بريئون منك. وذُكر أنها في قراءة عبد الله : " إنَّنِي
بَرِيءٌ " بالياء ، وقد يجمع برئ : براء وأبراء.( إِلا الَّذِي فَطَرَنِي )
يقول : إني بريء مما تعبدون من شيء إلا من الذي فطرني ، يعني الذي خلقني(
فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ ) يقول : فإنه سيقومني للدين الحقّ ، ويوفقني لاتباع سبيل
الرشد.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
(21/588)
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : ( وَإِذْ قَالَ
إِبْرَاهِيمُ لأبِيهِ وَقَوْمِهِ )... الآية ، قال : كايدهم ، كانوا يقولون : إن
الله ربنا( وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ
لَيَقُولُنَّ اللَّهُ ) فلم يبرأ من ربه.
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، قوله : (
إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ ) يقول : إنني بريء مما تعبدون " إلا
الذي خلقني " .
حدثنا محمد ، قال : ثنا أحمد ، قال : ثنا أسباط ، عن السديّ( إِلا الَّذِي
فَطَرَنِي ) قال : خلقني. وقوله : ( وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ
) يقول تعالى ذكره : وجعل قوله : ( إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلا
الَّذِي فَطَرَنِي ) وهو قول : لا إله إلا الله ، كلمة باقية في عقبه ، وهم ذريّته
، فلم يزل فى ذريّته من يقول ذلك من بعده.
واختلف أهل التأويل في معنى الكلمة التي جعلها خليل الرحمن باقية في عقبه ، فقال
بعضهم : بنحو الذي قلنا في ذلك.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا عبد الرحمن ، قال : ثنا سفيان ، عن ليث ، عن مجاهد(
وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ ) قال : لا إله إلا الله.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( وَجَعَلَهَا كَلِمَةً
بَاقِيَةً ) قال : شهادة أن لا إله إلا الله ، والتوحيد لم يزل في ذريته من يقولها
من بعده.
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة( وَجَعَلَهَا
كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ ) قال : التوحيد والإخلاص ، ولا يزال في ذريّته
من يوحد الله ويعبده.
حدثنا محمد ، قال : ثنا أحمد ، قال : ثنا أسباط ، عن السديّ( وَجَعَلَهَا كَلِمَةً
بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ ) قال : لا إله إلا الله.
وقال آخرون : الكلمة التي جعلها الله في عقبه اسم
(21/589)
الإسلام.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، فى قوله : ( وَجَعَلَهَا
كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ ) فقرأ( إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ
أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ ) قال : جعل هذه باقية في عقبه ، قال : الإسلام
، وقرأ( هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ ) فقرأ( وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ
لَكَ )
وبنحو ما قلنا في معنى العقب قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث ، قال :
ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : ( فِي
عَقِبِهِ ) قال : ولده.
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ،
عن ابن عباس ، قوله : ( وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ ) قال : يعني
من خلَفه.
حدثني محمد ، قال : ثنا أحمد ، قال : ثنا أسباط ، عن السديّ( فِي عَقِبِهِ ) قال :
في عقب إبراهيم آل محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم.
حدثني محمد بن عبد الله بن عبد الحكم ، قال : ثنا ابن أبي فديك ، قال : ثنا ابن
أبي ذئب ، عن ابن شهاب أنه كان يقول : العقب : الولد ، وولد الولد.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد( فِي عَقِبِهِ ) قال :
عقبه : ذرّيته.
وقوله : ( لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ) يقول : ليرجعوا إلى طاعة ربهم ، ويثوبوا إلى
عبادته ، ويتوبوا من كفرهم وذنوبهم.
(21/590)
بَلْ مَتَّعْتُ هَؤُلَاءِ وَآَبَاءَهُمْ حَتَّى جَاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ (29) وَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كَافِرُونَ (30)
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل
التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ
) : أي يتوبون ، أو يذَّكرون.
القول في تأويل قوله تعالى : { بَلْ مَتَّعْتُ هَؤُلاءِ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى
جَاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ (29) وَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ قَالُوا
هَذَا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كَافِرُونَ (30) }
يقول تعالى ذكره : ( بَلْ مَتَّعْتُ ) يا محمد( هَؤُلاءِ ) المشركين من قومك( وَآبَاءَهُمْ
) من قبلهم بالحياة ، فلم أعاجلهم بالعقوبة على كفرهم( حَتَّى جَاءَهُمُ الْحَقُّ
) يعني جلّ ثناؤه بالحقّ : هذا القرآن : يقول : لم أهلكهم بالعذاب حتى أنزلت عليهم
الكتاب ، وبعثت فيهم رسولا مبينا. يعني بقوله : ( وَرَسُولٌ مُبِينٌ ) : محمدا
صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم ، والمبين : أنه يبين لهم بالحجج التي يحتج بها
عليهم أنه لله رسول محقّ فيما يقول( وَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ ) يقول جلّ ثناؤه
: ولما جاء هؤلاء المشركين القرآنُ من عند الله ، ورسول من الله أرسله إليهم
بالدعاء إليه( قَالُوا هَذَا سِحْرٌ ) يقول : هذا الذي جاءنا به هذا الرسول سحر
يسحرنا به ، ليس بوحي من الله( وَإِنَّا بِهِ كَافِرُونَ ) يقول : قالوا : وإنا به
جاحدون ، ننكر أن يكون هذا من الله.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد ، قال : ثنا أحمد ، قال : ثنا أسباط ، عن السديّ ، في قوله : (
وَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كَافِرُونَ ) قال
: هؤلاء قريش قالوا القرآن الذي جاء به محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم : هذا
سحر.
(21/591)
وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآَنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ (31) أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (32)
القول في تأويل قوله تعالى : {
وَقَالُوا لَوْلا نزلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ
عَظِيمٍ (31) أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ
مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ
دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ
مِمَّا يَجْمَعُونَ (32) }
يقول تعالى ذكره : وقال هؤلاء المشركون بالله من قريش لما جاءهم القرآن من عند
الله : هذا سحر ، فإن كان حقا فهلا نزل على رجل عظيم من إحدى هاتين القريتين مكة
أو الطائف.
واختلف في الرجل الذي وصفوه بأنه عظيم ، فقالوا : هلا نزل عليه هذا القرآن ، فقال
بعضهم : هلا نزل على الوليد بن المُغيرة المخزومي من أهل مكة ، أو حبيب بن عمرو بن
عمير الثقفي من أهل الطائف ؟.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ،
عن ابن عباس ، قوله : ( لَوْلا نزلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ
الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ ) قال : يعني بالعظيم : الوليد بن المغيرة القرشيّ ، أو
حبيب بن عمرو بن عمير الثقفي ، وبالقريتين : مكة والطائف.
وقال آخرون : بل عُنِي به عُتْبةُ بن ربيعة من أهل مكة ، وابن
(21/592)
عبد ياليل ، من أهل الطائف.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث ، قال :
ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد( عَلَى رَجُلٍ
مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ ) قال عتبة بن ربيعة من أهل مكة ، وابن عبد ياليل
الثقفي من الطائف.
وقال آخرون : بل عني به من أهل مكة : الوليد بن المُغيرة ، ومن أهل الطائف : ابن
مسعود (1) .
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، في قوله : (
رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ ) قال : الرجل : الوليد بن المغيرة ، قال :
لو كان ما يقول محمد حقا أنزل عليّ هذا ، أو على ابن مسعود الثقفي ، والقريتان :
الطائف ومكة ، وابن مسعود الثقفي من الطائف اسمه عروة بن مسعود.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : ( لَوْلا نزلَ
هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ ) والقريتان : مكة
والطائف; قال : قد قال ذلك مشركو قريش ، قال : بلغنا أنه ليس فخذ من قريش إلا قد
ادّعته ، وقالوا : هو منا ، فكنا نحدّث أن الرجلين : الوليد بن المغيرة ، وعروة
الثقفي أبو مسعود ، يقولون : هلا كان أنزل على أحد هذين الرجلين.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب : قال ابن زيد ، في قوله : ( لَوْلا نزلَ هَذَا
الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ ) قال : كان أحد العظيمين
عروة بن مسعود الثقفي ، كان عظيم أهل الطائف.
وقال آخرون : بل عني به من أهل مكة : الوليد بن المغيرة ، ومن أهل الطائف : كنانة
بن عَبد بنِ عمرو.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد ، قال : ثنا أحمد ، قال : ثنا أسباط ، عن السديّ( وَقَالُوا لَوْلا
نزلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ ) قال : الوليد
بن المغيرة
__________
(1) هو عروة بن مسعود الثقفي ، كما تكرر في الروايات ، لا أبو مسعود ، كما في هذه
الرواية ؛ فلعلها من تحريف الناسخ .
(21/593)
القرشي ، وكنانة بن عبد بن عمرو بن
عمير ، عظيم أهل الطائف.
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال كما قال جلّ ثناؤه ، مخبرا عن هؤلاء
المشركين( وَقَالُوا لَوْلا نزلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ
الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ ) إذ كان جائزا أن يكون بعض هؤلاء ، ولم يضع الله تبارك
وتعالى لنا الدلالة على الذين عنوا منهم في كتابه ، ولا على لسان رسوله صَلَّى
الله عَلَيْهِ وَسَلَّم ، والاختلاف فيه موجود على ما بيَّنت.
وقوله : ( أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ ) يقول تعالى ذكره : أهؤلاء
القائلون : لو لا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم يا محمد ، يقسمون رحمة
ربك بين خلقه ، فيجعلون كرامته لمن شاءوا ، وفضله لمن أرادوا ، أم الله الذي يقسم
ذلك ، فيعطيه من أحبّ ، ويحرمه مَنْ شاء ؟.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا أبو كريب ، قال : ثنا عثمان بن سعيد ، قال : ثنا بشر بن عمارة ، عن أبي روق
، عن الضحاك عن ابن عباس ، قال : لما بعث الله محمدا رسولا أنكرت العرب ذلك ، ومن
أنكر منهم ، فقالوا : الله أعظم من أن يكون رسوله بشرا مثل محمد ، قال : فأنزل
الله عزّ وجلّ : ( أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ
مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ ) وقال( وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلا
رِجَالا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ ) يعني : أهل الكتب
الماضية ، أبشرا كانت الرسل التي أتتكم أم ملائكة ؟ فإن كانوا ملائكة أتتكم ، وإن
كانوا بشرا فلا تنكرون أن يكون محمد رسولا قال : ثم قال : ( وَمَا أَرْسَلْنَا
مِنْ قَبْلِكَ إِلا رِجَالا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى ) أي ليسوا من
أهل السماء كما قلتم; قال : فلما كرر الله عليهم الحجج قالوا ، وإذا كان بشرا فغير
محمد كان أحق بالرسالة فـ( لَوْلا نزلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ
الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ ) يقولون : أشرف من محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم ،
يعنون الوليد بن المغيرة المخزومي ، وكان يسمى ريحانة قريش ، هذا
(21/594)
من مكة ، ومسعود بن عمرو بن عبيد الله
الثقفي من أهل الطائف ، قال : يقول الله عزّ وجلّ ردّا عليهم( أَهُمْ يَقْسِمُونَ
رَحْمَةَ رَبِّكَ ) أنا أفعل ما شئت.
وقوله : ( نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا )
يقول تعالى ذكره : بل نحن نقسم رحمتنا وكرامتنا بين من شئنا من خلقنا ، فنجعل من
شئنا رسولا ومن أردنا صديقا ، ونتخذ من أردنا خليلا كما قسمنا بينهم معيشتهم التي
يعيشون بها في حياتهم الدنيا من الأرزاق والأقوات ، فجعلنا بعضهم فيها أرفع من بعض
درجة ، بل جعلنا هذا غنيا ، وهذا فقيرا ، وهذا ملكًا ، وهذا مملوكًا( لِيَتَّخِذَ
بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا ).
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قال : قال الله تبارك
وتعالى( أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ
مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ) فتلقاه ضعيف الحيلة ، عي اللسان ، وهو
مبسوط له في الرزق ، وتلقاه شديد الحيلة ، سليط اللسان ، وهو مقتور عليه ، قال
الله جلّ ثناؤه : ( نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ
الدُّنْيَا ) كما قسم بينهم صورهم وأخلاقهم تبارك ربنا وتعالى.
وقوله : ( لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا ) يقول : ليستسخر هذا هذا في
خدمته إياه ، وفي عود هذا على هذا بما في يديه من فضل ، يقول : جعل تعالى ذكره
بعضا لبعض سببا فى المعاش ، في الدنيا.
وقد اختلف أهل التأويل فيما عنى بقوله : ( لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا
سُخْرِيًّا ) فقال بعضهم : معناه ما قلنا فيه.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد ، قال : ثنا أحمد ، قال : ثنا أسباط ، عن السديّ ، في قوله :
(21/595)
وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ (33)
( لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا
سُخْرِيًّا ) قال : يستخدم بعضهم بعضا في السخرة.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : ( لِيَتَّخِذَ
بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا ) قال : هم بنو آدم جميعا ، قال : وهذا عبد هذا ،
ورفع هذا على هذا درجة ، فهو يسخره بالعمل ، يستعمله به ، كما يقال : سخر فلان
فلانا.
وقال بعضهم : بل عنى بذلك : ليملك بعضهم بعضا.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا يحيى بن واضح ، قال : ثنا عبيد بن سليمان ، عن الضحاك
، في قوله : ( لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا ) يعني بذلك : العبيد
والخدم سخر لهم.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ
بَعْضًا سُخْرِيًّا ) مِلْكة.
وقوله : ( وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ ) يقول تعالى ذكره :
ورحمة ربك يا محمد بإدخالهم الجنة خير لهم مما يجمعون من الأموال في الدنيا.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( وَرَحْمَةُ رَبِّكَ
خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ ) يعني الجنة.
حدثنا محمد ، قال : ثنا أحمد ، قال : ثنا أسباط ، عن السديّ( وَرَحْمَةُ رَبِّكَ )
يقول : الجنة خير مما يجمعون في الدنيا.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً
(21/596)
وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ
بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فَضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا
يَظْهَرُونَ (33) }
يقول تعالى ذكره : ( وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً ) : جماعة واحدة.
ثم اختلف أهل التأويل في المعنى الذي لم يؤمن اجتماعهم عليه ، لو فعل ما قال جلّ
ثناؤه ، وما به لم يفعله من أجله ، فقال بعضهم : ذلك اجتماعهم على الكفر. وقال :
(21/597)
معنى الكلام : ولو لا أن يكون الناس
أمة واحدة على الكفر ، فيصيرَ جميعهم كفارا( لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ
بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فَضَّةٍ ).
* ذكر من قال ذلك.
حدثني عليّ ، قال : ثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ،
قوله : ( وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً ) يقول الله سبحانه :
لو لا أن أجعل الناس كلهم كفارا ، لجعلت للكفار لبيوتهم سقفا من فضة.
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا هوذة بن خليفة ، قال : ثنا عوف ، عن الحسن ، في قوله :
( وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً ) قال : لو لا أن يكون الناس
كفارا أجمعون ، يميلون إلى الدنيا ، لجعل الله تبارك وتعالى الذي قال ، تم قال :
والله لقد مالت الدنيا بأكثر أهلها ، وما فعل ذلك ، فكيف لو فعله.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : ( وَلَوْلا أَنْ
يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً ) : أي كفارا كلهم.
حدثنا محمد بن عيد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة( وَلَوْلا
أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً ) قال : لو لا أن يكون الناس كفارا.
حدثنا محمد ، قال : ثنا أحمد ، قال. ثما أسباط ، عن السديّ( وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ
النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً ) يقول : كفارا على دين واحد.
وقال آخرون : اجتماعهم على طلب الدنيا وترك طلب الآخرة. وقال : معنى الكلام : ولو
لا أن يكون الناس أمة واحده على طلب الدنيا ورفض الآخرة.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : ( وَلَوْلا
أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً ) قال : لو لا أن يختار الناس دنياهم على
دينهم ، لجعلنا هذا لأهل الكفر.
وقوله : ( لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ
فَضَّةٍ ) يقول تعالى ذكره : لجعلنا لمن يكفر بالرحمن فى الدنيا سقفا ، يعني أعالي
بيوتهم ، وهي السطوح فضة
كما حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( لِبُيُوتِهِمْ
سُقُفًا مِنْ فَضَّةٍ ) السقف : أعلى البيوت.
واختلف أهل العربية فى تكرير اللام التي في قوله : ( لِمَنْ يَكْفُرُ ) وفي قوله :
( لِبُيُوتِهِمْ ) ، فكان بعض نحويي البصرة يزعم أنها أدخلت في البيوت على البدل.
وكان بعض نحويي الكوفة يقول : إن شئت حملتها في( لِبُيُوتِهِمْ ) مكرّرة ، كما في(
يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ ) وإن شئت جعلت اللامين
مختلفتين ، كأن الثانية في معنى على ، كأنه قال : جعلنا لهم على بيوتهم سقفا. قال
: وتقول العرب للرجل في وجهه : جعلت لك لقومك الأعطية : أي جعلته من أجلك لهم.
واختلفت القرّاء في قراءة قوله : " سقفا " فقرأته عامة قرّاء أهل مكة
وبعض المدنيين وعامة البصريين( سَقْفا ) بفتح السين وسكون القاف اعتبارا منهم ذلك
بقوله : ( فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ ) وتوجيها منهم ذلك إلى
أنه بلفظ واحد معناه الجمع. وقرأه بعض قرّاء المدينة وعامة قرّاء الكوفة( سُقُفًا
) بضم السين والقاف ، ووجهوها إلى أنها جمع سقيفة أو سقوف. وإذا وجهت إلى أنها جمع
سقوف كانت جمع الجمع ، لأن السقوف : جمع سقف ، ثم تجمع السقوف سقفا ، فيكون ذلك
نظير قراءة من قرأه " فَرُهُنٌ مَقْبُوضَةٌ " بضم الراء والهاء ، وهي
الجمع ، واحدها
(21/598)
رهان ورهون ، وواحد الرهون والرهان :
رهن.
وكذلك قراءة من قرأ " كُلُوا مِنْ ثُمُرِهِ " بضم الثاء والميم ، ونظير
قول الراجز?
حتى إذَا ابْتَلَّتْ حَلاقِيمُ الحُلُقْ (1)
وقد زعم بعضهم أن السُّقُف بضم السين والقاف جمع سقف ، والرُّهُن بضم الراء والهاء
جمع رهن ، فأغفل وجه الصواب في ذلك ، وذلك أنه غير موجود في كلام العرب اسم على
تقدير فعل بفتح الفاء وسكون العين مجموعا على فعل ، فيجعل السُّقُف والرُّهُن
مثله.
والصواب من القول في ذلك عندي ، أنهما قراءتان متقاربتا المعنى ، معروفتان في
قراءة الأمصار ، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب.
وقوله : ( وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ ) يقول : ومراقي ودَرَجا عليها
يصعدون ، فيظهرون على السقف والمعارج : هي الدرج نفسها ، كما قال المثنى بن جندل?
يا رَبّ ربَّ البَيْتِ ذي المَعَارِج (2)
__________
(1) البيت في ( اللسان : حلق ) ، ولم ينسبه ، ولعله لرؤبة . قال : الحلق : مساغ
الطعام والشراب في المريء ، والجمع القليل : أحلاق ، والكثير : حلوق ، وحلق .
الأخيرة ككتب عزيزة . أنشد الفارسي : * حتى إذا ابتلت حلاقيم الحلق *
وفي معاني القرآن للفراء ( الورقة 295) قال عند قوله تعالى : ( لجعلنا لمن يكفر
بالرحمن لبيوتهم سقفا ) : والسقف قرأها عاصم والأعمش " سقفا " ( أي بضم
السين والقاف ) . وإن شئت جعلت واحدها " سقيفة " ، وإن شئت جعلت "
سقوفا " ، فيكون جمع الجمع ، كما قال الشاعر : * حتى إذَا بُلَّتْ حَلاقِيمُ
الحُلُقْ *
* أهْوَى لأدْنى فَقْرَةٍ عَلى شَفَقٍ *
ومثله قراءة من قرأ : " كلوا من ثمره " ( بضم الثاء والميم ) ، وهو جمع
، وواحده : ثمار وكقول من قرأ : " فرهن مقبوضة " واحدها " رهان
" و " رهون " . ا هـ .
(2) البيت نسبه المؤلف إلى المثنى بن جندل . ونسبه أبو عبيدة في مجاز القرآن ، (
الورقة 220 - ب ) إلى جندل بن المثنى ، وهو الصواب ، وهو جندل بن المثنى الطهوي ،
كما في سمط اللآلي ( 702 ) . والمعارج : جمع معراج ، وهي كما في ( اللسان : عرج )
المصاعد والدرج . واستشهد به المؤلف عند قوله تعالى : ( ومعارج عليها يظهرون ) .
قال أبو عبيدة : المعارج : الدرج . قال جندل ابن المثنى : * يا رب رب البيت ذي
المعارج *
(21/599)
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل
التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : ثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس(
وَمَعَارِجَ ) قال : معارج من فضة ، وهي درج.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا
يَظْهَرُونَ ) : أي دَرجا عليها يصعدون.
حدثنا محمد ، قال : ثنا أحمد ، قال : ثنا أسباط ، عن السديّ( وَمَعَارِجَ
عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ ) قال : المعارج : المراقي.
حدثنا محمد ، قال : ثنا ابن ثور ، عن حمر ، عن قتادة ، في قوله : ( وَمَعَارِجَ
عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ ) قال : درج عليها يرفعون.
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن ابن عباس
قوله : ( وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ ) قال : درج عليها يصعدون إلى الغرف.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : ( وَمَعَارِجَ
عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ ) قال : المعارج : درج من فضة.
(21/600)
وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ (34)
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ (34) وَزُخْرُفًا وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالآخِرَةُ
(21/600)
وَزُخْرُفًا وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ (35)
عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ (35) }
يقول تعالى ذكره : وجعلنا لبيوتهم أبوابا من فضة ، وسُرُرا من فضة.
كما حدثني عليّ ، قال : ثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس
، وسررا قال : سرر فضة.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، فى قوله : (
وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ ) قال : الأبواب من
فضة ، والسرر من فضة عليها يتكئون ، يقول : على السرر يتكئون.
وقوله : ( وَزُخْرُفًا ) يقول : ولجعلنا لهم مع ذلك زخرفا ، وهو الذهب.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : ثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس(
وَزُخْرُفًا ) وهو الذهب.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، في قوله : (
وَزُخْرُفًا ) قال : الذهب. وقال الحسن : بيت من زُخرف ، قال : ذهب.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( وَزُخْرُفًا ) الزخرف :
الذهب ، قال : قد والله كانت تكره ثياب الشهرة. وذُكر لنا أن نبي الله صَلَّى الله
عَلَيْهِ وَسَلَّم كان يقول : " إيَّاكُمْ والحُمْرَةَ فإنَّها مِنْ أحَبّ
الزّينَةِ إلى الشَّيْطَانِ " .
حدثنا محمد ، قال : ثنا أحمد ، قال : ثنا أسباط ، عن السديّ( وَزُخْرُفًا ) قال :
الذهب.
(21/601)
حدثنا أحمد (1) قال : ثنا أسباط ، عن
السديّ( وَزُخْرُفًا ) قال : الذهب.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : ( وَزُخْرُفًا
) لجعلنا هذا لأهل الكفر ، يعني لبيوتهم سقفا من فضة وما ذكر معها. والزخرف سمي
هذا الذي سمي السقف ، والمعارج والأبواب والسرر من الأثاث والفرش والمتاع.
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك
يقول في قوله : ( وَزُخْرُفًا ) يقول : ذهبا. والزخرف على قول ابن زيد : هذا هو ما
تتخذه الناس من منازلهم من الفرش والأمتعة والآلات.
وفي نصب الزخرف وجهان : أحدهما : أن يكون معناه : لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم
سقفا من فضة ومن زخرف ، فلما لم يكرّر عليه من نصب على إعمال الفعل فيه ذلك ،
والمعنى فيه : فكأنه قيل : وزخرفا يجعل ذلك لهم منه. والوجه الثاني : أن يكون
معطوفا على السرر ، فيكون معناه : لجعلنا لهم هذه الأشياء من فضة ، وجعلنا لهم مع
ذلك ذهبا يكون لهم غنى يستغنون بها ، ولو كان التنزيل جاء بخفض الزخرف لكان :
لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفا من فضة ومن زخرف ، فكان الزخرف يكون معطوفا
على الفضة. وأما المعارج فإنها جُمعت على مفاعل ، وواحدها معراج ، على جمع معرج ،
كما يجمع المفتاح مفاتح على جمع مفتح ، لأنهما لغتان : معرج ، ومفتح ، ولو جمع
معاريج كان صوابا ، كما يجمع المفتاح مفاتيح ، إذ كان واحده معراج.
وقوله : ( وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ) يقول تعالى
ذكره : وما كل هذه الأشياء التي ذكرت من السقف من الفضة والمعارج والأبواب والسرر
من الفضة والزخرف ، إلا متاع يستمتع به أهل الدنيا في الدنيا.( وَالآخِرَةُ عِنْدَ
رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ ) يقول تعالى ذكره : وزين الدار الآخرة وبهاؤها عند ربك
__________
(1) يظهر أن هذا مكرر .
(21/602)
وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ (36) وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (37)
للمتقين ، الذين اتقوا الله فخافوا
عقابه ، فجدوا في طاعته ، وحذروا معاصيه خاصة دون غيرهم من خلق الله.
كما حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( وَالآخِرَةُ عِنْدَ
رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ ) خصوصا.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ
لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ (36) وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ
السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (37) }
يقول تعالى ذكره : ومن يعرض عن ذكر الله فلم يخف سطوته ، ولم يخش عقابه( نُقَيِّضْ
لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ ) يقول : نجعل له شيطانا يغويه فهو له قرين :
يقول : فهو للشيطان قرين ، أي يصير كذلك ، وأصل العشو : النظر بغير ثبت لعلة في
العين ، يقال منه : عشا فلان يعشو عشوا وعشوّا : إذا ضعف بصره ، وأظلمت عينه ، كأن
عليه غشاوة ، كما قال الشاعر?
مَتى تَأتِهِ تَعْشُو إلى ضَوْءِ نارِهِ... تَجِدْ حَطَبا جَزْلا وَنارًا
تَأَجَّجا (1)
__________
(1) هذا بيت مركب من شطرين من بيتين مختلفين ؛ فصدره للحطيئة من قصدية مدح بها
بغيض بن عامر بن شماس بن لأي بن أنف الناقة التميمي. وعجزه من بيت لعبد بن الحر من
قصيدة قالها وهو في حبس مصعب بن الزبير في الكوفة وبيت الحطيئة بتمامه كما في (
خزانة الأدب الكبير للبغدادي 3 : 662 ) : مَتى تَأْتِهِ تَعْشُو إلى ضَوْءِ
نَارِهِ ... تجِدْ خَيرَ نارٍ عِنْدَها خَيرُ مُوقِدِ
وبيت عبد الله بن الحر بتمامه هو ، كما في ( الخزانة 3 : 663 ) : َتى تَأْتِنا
تُلْمِمْ بِنا فِي دِيارِنا ... تَجِدْ حَطَبا جَزْلا وناراً تَأجَّجا
واستشهد المؤلف بالبيت عند قوله تعالى : ( ومن يعش عن ذكر الرحمن ) . قال أبو
عبيدة في مجاز القرآن ( الورقة 220 ) : أي تظلم عينه عنه ، كأن عليها غشاوة . وقال
الفراء في معاني القرآن ( الورقة 295) : يريد : ومن يعرض عنه . ومن قرأها (ومن يعش
) فتح الشين ، فمعناه : من يعم عنه . وقال القتيبي ( اللسان : عشي ) معنى قوله (
ومن يعش عن ذكر الرحمن ) أي يظلم بصره . قال : وهذا قول أبي عبيدة . ثم ذهب يرد
قول الفراء ويقول : لم أر أحداً يجيزه : عشوت عن الشيء : أعرضت عنه . إنما يقال :
تعايشت عن الشيء : أي تغافلت عنه ، كأني لم أره . وكذلك تعاميت . قال : وعشوت إلى
النار : أي استدللت عليها ببصر ضعيف . وقال الأزهري يرد كلام ابن قتيبة : أغفل
القتيبي موضع الصواب ، واعترض مع غفلته على الفراء . والعرب تقول : عشوت إلى النار
أعشو عشوا ، أي قصدتها مهتديا . وعشوت عنها : أي أعرضت عنها . فيفرقون بين إلى وعن
موصولين بالفعل . ا هـ .
(21/603)
يعني : متى تفتقر فتأته يعنك. وأما إذا
ذهب البصر ولم يبصر ، فإنه يقال فيه : عَشِيَ فلان يَعْشَى عَشًى منقوص ، ومنه قول
الأعشى?
رأتْ رَجُلا غَائِبَ الوَافِدَيْنِ... مُخْتَلِفَ الخَلْقِ أعْشَى ضَرِيرا (1)
يقال منه : رجل أعشى وامرأة عشواء. وإنما معنى الكلام : ومن لا ينظر في حجج الله
بالإعراض منه عنه إلا نظرًا ضعيفًا ، كنظر من قد عَشِيَ بصره( نُقَيِّضْ لَهُ
شَيْطَانًا ). وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : ( وَمَنْ يَعْشُ
عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا ) يقول : إذا أعرض عن ذكر الله
نقيض له شيطانا( فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ ).
حدثنا محمد ، قال : ثنا أحمد ، قال : ثنا أسباط ، عن السديّ ، في قوله :
__________
(1) البيت لأعشى بن قيس بن ثعلبة ، ميمون بن قيس ( ديوانه طبع القاهرة 95 ) الضمير
في رأت يعود على امرأة ذكرها من أول القصيدة ، وسماها ليلى . والوافدان : العينان
. ومختلف الخلق : غيرته السن والأحداث عما عهدته عليه من النضرة والقوة . والأعشى
الذي به سوء في عينيه ، أو هو الذي لا يبصر ليلاً ، أو هو الأعمى . وهو الأقرب لقوله
بعده " ضريرا " . وفعله عشي يعشى عشى ، مثل عمي يعمى . وهو غير عشا إلى
الشيء يعشو إذا نظر إليه وأقبل عليه ؛ أو عشا عنه يعشو عشا : إذا أعرض عنه ؛ كما
بيناه في الشاهد الذي قبله . ا هـ .
(21/604)
حَتَّى إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ (38) وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ (39)
( وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ
الرَّحْمَنِ ) قال : يعرض.
وقد تأوّله بعضهم بمعنى. ومن يعمَ ، ومن تأوّل ذلك كذلك ، فيحب أن تكون قراءته(
وَمَنْ يَعْشُ ) بفتح الشين على ما بيَّنت قيل.
* ذكر من تأوّله كذلك : حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ،
في قوله : ( وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ ) قال : من يعمَ عن ذكر
الرحمن.
وقوله : ( وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ ) يقول تعالى ذكره : وإن
الشياطين ليصدّون هؤلاء الذين يعشون عن ذكر الله ، عن سبيل الحقّ ، فيزينون لهم
الضلالة ، ويكرهون إليهم الإيمان بالله ، والعمل بطاعته( وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ
مُهْتَدُونَ ) يقول : ويظن المشركون بالله بتحسين الشياطين لهم ما هم عليه من
الضلالة ، أنهم على الحق والصواب ، يخبر تعالى ذكره عنهم أنهم من الذي هم عليه من
الشرك على شكّ وعلى غير بصيرة. وقال جلّ ثناؤه : ( وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ
عَنِ السَّبِيلِ ) فأخرج ذكرهم مخرج ذكر الجميع ، وإنما ذُكر قبل واحدا ، فقال : (
نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا ) لأن الشيطان وإن كان لفظه واحدا ، ففي معنى جمع.
القول في تأويل قوله تعالى : { حَتَّى إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي
وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ (38) وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ
الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ (39) }
اختلفت القرّاء في قراءة قوله : ( حَتَّى إِذَا جَاءَنَا ) فقرأته عامة قرّاء
الحجاز سوى ابن محيصن ، وبعض الكوفيين وبعض الشاميين " حتى إذا جاءنا "
على التوحيد بمعنى : حتى إذا جاءنا هذا الذي عَشِي عن ذكر الرحمن ، وقرينه الذي
(21/605)
قيض له من الشياطين. وقرأ ذلك عامة
قرّاء الكوفة والبصرة وابن محيصن : ( حَتَّى إِذَا جَاءَنَا ) على التوحيد ، بمعنى
: حتى إذا جاءنا هذا العاشي من بني آدم عن ذكر الرحمن.
والصواب من القول في ذلك عندنا أنهما قراءتان متقاربتا المعنى وذلك أن في خبر الله
تبارك وتعالى عن حال أحد الفريقين عند مقدمه عليه فيما أقرنا فيه في الدنيا ،
الكفاية للسامع عن خبر الآخر ، إذ كان الخبر عن حال أحدهما معلوما به خبر حال
الآخر ، وهما مع ذلك قراءتان مستفيضتان في قرءة الأمصار ، فبأيتهما قرأ القارئ
فمصيب.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة : حتى إذَا جاءنا هو
وقرينه جميعا.
وقوله : ( يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ ) يقول تعالى
ذكره : قال أحد هذين القرينين لصاحبه الآخر : وددت أن بيني وبينك بعد المشرقين :
أى بعد ما بين المشرق والمغرب ، فغلب اسم أحدهما على الآخر ، كما قيل : شبه
القمرين ، وكما قال الشاعر?
أخَذْنا بآفاقِ السَّمَاءِ عَلَيْكُمُ... لنَا قَمَرَاهَا والنُّجُومُ
الطَّوَالِعُ (1)
__________
(1) البيت للفرزدق ( ديوانه طبعة الصاوي 519 ) . قال : وقمراها : الشمس والقمر ،
ثناهما تغليبا . ورواه المبرد في الكامل : " أخذنا بأطراف " في موضع ،
ورواه في آخر بآفاق . ا هـ . واستشهد به المؤلف عند قوله تعالى : (يا ليت بيني
وبينك بعد المشرقين) : أي بعد ما بين المشرق والمغرب . وأخذ كلامه من كلام الفراء
في معاني القرآن ( الورقة 295 ) قال الفراء : يريد ما بين مشرق الشتاء ومشرق الصيف
. ويقال إنه أراد المشرق والمغرب ، فقال المشرقين ، وهو أشبه الوجهين بالصواب ؛
لأن العرب قد تجمع الاسمين ، على تسمية أشهرهما فيقال : جاءك الزهدمان ، وإنما أحدهما
زهم ( أي والآخر : كردم العبسيان كما تقدم في شاهد سابق ) وقال الشاعر : "
أخذنا بآفاق السماء ... " البيت .
(21/606)
وكما قال الآخر?
فَبَصْرَةُ الأزْدِ مِنَّا والعِرَاقُ لنَا... والمَوْصِلانِ وَمِنَّا مِصْرُ
والحَرَمُ (1)
يعني : الموصل والجزيرة ، فقال : الموصلان ، فغلب الموصل.
وقد قيل : عنى بقوله( بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ ) : مشرق الشتاء ، ومشرق الصيف ،
وذلك أن الشمس تطلع في الشتاء من مشرق ، وفي الصيف من مشرق غيره; وكذلك المغرب
تغرب في مغربين مختلفين ، كما قال جلّ ثناؤه : ( رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ
).
وذُكر أن هذا قول أحدهما لصاحبه عند لزوم كل واحد منهما صاحبه حتى يورده جهنم.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن سعيد الجريري ، قال :
بلغني أن الكافر إذا بُعث يوم القيامة من قبره ، سفع بيده الشيطان ، فلم يفارقه
حتى يصيرهما الله إلى النار ، فذلك حين يقول : يا ليت بيني وبينك بعد المشرقين ،
فبئس القرين. وأما المؤمن فيوكَّل به ملك فهو معه حتى قال : إما يفصل بين الناس ،
أو نصير إلى ما شاء الله.
وقوله : ( وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ ) أيها العاشون عن ذكر الله في الدنيا(
إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ ) يقول : لن يخفف عنكم
اليوم من عذاب الله اشتراككم فيه ، لأن لكل واحد منكم نصيبه منه ، و " أنَّ
" من قوله( أنَّكُمْ ) في موضع رفع لما ذكرت أن معناه : لن ينفعكم اشتراككم.
__________
(1) هذا الشاهد في معنى الذي قبله . استشهد به الفراء أيضا في معاني القرآن كسابقه
، على أن الشيئين المختلفي اللفظ ، قد يجمعان بلفظ واحد ، فيقال البصرتان ، البصرة
والكوفة ، والموصلان للموصل والجزيرة . وكل هذا من باب تغليب الأشهر من اللفظين
على الآخر . قال : وأنشدني رجل من طيئ : " فبصرة الأزد منا ... " البيت
، يريد الجزيرة والموصل .
(21/607)
أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَمَنْ كَانَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (40) فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ (41) أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْنَاهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ (42)
القول في تأويل قوله تعالى : {
أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَمَنْ كَانَ فِي ضَلالٍ
مُبِينٍ (40) فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ (41)
أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْنَاهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ (42) }
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم : ( أَفَأَنْتَ
تُسْمِعُ الصُّمَّ ) : من قد سلبه الله استماع حججه التي احتجّ بها في هذا الكتاب
فأصمه عنه ، أو تهدي إلى طريق الهدى من أعمى الله قلبه عن إبصاره ، واستحوذ عليه
الشيطان ، فزين له الردى( وَمَنْ كَانَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ ) يقول : أو تهدي من
كان في جور عن قصد السبيل ، سالك غير سبيل الحقّ ، قد أبان ضلاله أنه عن الحقّ
زائل ، وعن قصد السبيل جائر : يقول جلّ ثناؤه : ليس ذلك إليك ، إنما ذلك إلى الله
الذي بيده صرف قلوب خلقه كيف شاء ، وإنما أنت منذر ، فبلغهم النذارة.
وقوله : ( فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ ) اختلف أهل
التأويل في المعنيين بهذا الوعيد ، فقال بعضهم : عني به أهل الإسلام من أمة نبينا
عليه الصلاة والسلام .
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا سوار بن عبد الله العنبري ، قال : ثني أبي ، عن أبي الأشهب ، عن الحسن ، في
قوله : ( فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ ) قال : لقد
كانت بعد نبي الله نقمة شديدة ، فأكرم الله جلّ ثناؤه نبيه صَلَّى الله عَلَيْهِ
وَسَلَّم أن يريه في أمته ما كان من النقمة بعده.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : ( فَإِمَّا
نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ ) فذهب الله بنبيه صَلَّى الله
عَلَيْهِ وَسَلَّم ، ولم ير في أمته إلا الذي تقرّ به عينه ، وأبقى الله النقمة
بعده ، وليس من نبيّ إلا وقد رأى
(21/608)
فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (43) وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ (44)
في أمته العقوبة ، أو قال ما لا يشتهي.
ذُكر لنا أن النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم أُري الذي لقيت أمته بعده ، فما
زال منقبضا ما انبسط ضاحكا حتى لقي الله تبارك وتعالى.
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، قال : تلا قتادة( فَإِمَّا
نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ ) فقال : ذهب النبيّ صَلَّى
الله عَلَيْهِ وَسَلَّم وبقيت النقمة ، ولم ير الله نبيه صَلَّى الله عَلَيْهِ
وَسَلَّم في أمته شيئا يكرهه حتى مضى ، ولم يكن نبيّ قطّ إلا رأى العقوبة في أمته
، إلا نبيكم صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم. قال : وذُكر لنا أن النبي صَلَّى الله
عَلَيْهِ وَسَلَّم أري ما يصيب أمته بعده ، فما رئي ضاحكا منبسطا حتى قبضه الله.
وقال آخرون : بل عنى به أهل الشرك من قريش ، وقالوا : قد أري الله نبيه عليه
الصلاة والسلام فيهم.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد ، قال : ثنا أحمد ، قال : ثنا أسباط ، عن السديّ ، في قوله : (
فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ ) كما انتقمنا من
الأمم الماضية.( أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْنَاهُمْ ) فقد أراه الله ذلك
وأظهره عليه. وهذا القول الثاني أولى التأويلين في ذلك بالصواب وذلك أن ذلك في
سياق خبر الله عن المشركين فلأن يكون ذلك تهديدا لهم أولى من أن يكون وعيدا لمن لم
يجر له ذكر. فمعنى الكلام إذ كان ذلك كذلك : فإن نذهب بك يا محمد من بين أظهر
هؤلاء المشركين ، فنخرجك من بينهم( فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ ) ، كما فعلنا
ذلك بغيرهم من الأمم المكذّبة رسلها.( أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْنَاهُمْ )
يا محمد من الظفر بهم ، وإعلائك عليهم( فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ ) أن
نظهرك عليهم ، ونخزيهم بيدك وأيدي المؤمنين بك.
القول في تأويل قوله تعالى : { فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ
(21/609)
إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ
مُسْتَقِيمٍ (43) وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ (44)
}
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم : فتمسك يا محمد بما
يأمرك به هذا القرآن الذي أوحاه إليك ربك ، ( إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ )
و منهاج سديد ، وذلك هو دين الله الذي أمر به ، وهو الإسلام.
كما حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : (
فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ) :
أي الإسلام.
حدثنا محمد ، قال : ثنا أحمد ، قال : ثنا أسباط ، عن السديّ( فَاسْتَمْسِكْ
بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ).
وقوله : ( وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ ) يقول تعالى ذكره : وإن هذا
القرآن الذي أوحي إليك يا محمد الذي أمرناك أن تستمسك به لشرف لك ولقومك من قريش(
وَسَوْفَ تُسْأَلُون ) يقول : وسوف يسألك ربك وإياهم عما عملتم فيه ، وهل عملتم
بما أمركم ربكم فيه ، وانتهيتم عما نهاكم عنه فيه ؟.
وبنحو الذي قلنا في تأويل ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : ثنا أبو صالح ، قال : ثنا معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس :
قوله : ( وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ ) يقول : إن القرآن شرف لك.
حدثني عمرو بن مالك ، قال : ثنا سفيان ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله : (
وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ ) قال : يقول للرجل : من أنت ؟ فيقول : من
العرب ، فيقال : من أيّ العرب ؟ فيقول : من قريش.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ
وَلِقَوْمِكَ ) وهو هذا القرآن.
(21/610)
وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آَلِهَةً يُعْبَدُونَ (45)
حدثنا محمد ، قال : ثنا أحمد ، قال :
ثنا أسباط ، عن السديّ( وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ ) قال : شرف لك
ولقومك ، يعني القرآن.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : ( وَإِنَّهُ
لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ ) قال : أولم تكن النبوّة والقرآن الذي أنزل على نبيه
صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم ذكرا له ولقومه.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ
رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ (45) }
اختلف أهل التأويل في معنى قوله : ( وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ
مِنْ رُسُلِنَا ) ومن الذين أمر رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم بمسألتهم
ذلك ، فقال بعضهم الذين أمر بمسألتهم ذلك رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم
، مؤمنو أهل الكتابين : التوراة ، والإنجيل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني عبد الأعلى بن واصل ، قال : ثنا يحيى بن آدم ، عن ابن عيينة ، عن ابن أبي
نجيح ، عن مجاهد قال : في قراءة عبد الله بن مسعود " وَاسأَلْ الَّذِينَ
أرْسَلْنا إلَيْهِمْ قَبْلَكَ رُسُلنا " .
حدثنا محمد ، قال : ثنا أحمد ، قال : ثنا أسباط ، عن السديّ( وَاسْأَلْ مَنْ
أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا ) إنها قراءة عبد الله : " سل
الذين أرسلنا إليهم قبلك رسلنا " .
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( وَاسْأَلْ مَنْ
أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا ) يقول : سل أهل التوراة والإنجيل : هل
جاءتهم
(21/611)
الرسل إلا بالتوحيد أن يوحدوا الله
وحده ؟ قال : وفي بعض القراءة : " واسأل الذين أرسلنا إليهم رسلنا قبلك
" .( أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ ).
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة في بعض الحروف
" واسْأَلْ الَّذِينَ أَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنا "
سل أهل الكتاب : أما كانت الرسل تأتيهم بالتوحيد ؟ أما كانت تأتي بالإخلاص ؟.
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : ثنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول
: في قوله : ( وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا ) في
قراءة ابن مسعود " سَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ
" يعني : مؤمني أهل الكتاب.
وقال آخرون : بل الذي أمر بمسألتهم ذلك الأنبياء الذين جُمِعوا له ليلة أُسرِي به ببيت
المقدس.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : ( وَاسْأَلْ
مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ )... الآية ، قال : جمعوا له ليلة أُسري به ببيت
المقدس ، فأمهم ، وصلى بهم ، فقال الله له : سلهم ، قال : فكان أشدّ إيمانا ويقينا
بالله وبما جاء من الله أن يسألهم ، وقرأ( فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا
أَنزلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ )
قال : فلم يكن فى شكّ ، ولم يسأل الأنبياء ، ولا الذين يقرءون الكتاب. قال : ونادى
جبرائيل صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم ، فقلت في نفسي : " الآن يؤمنا أبونا
إبراهيم " ; قال : " فدفع جبرائيل في ظهري " ، قال : تقدم يا محمد
فصلّ ، وقرأ( سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلا مِنَ الْمَسْجِدِ
الْحَرَامِ )... حتى بلغ( لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا ) .
وأولى القولين بالصواب في تأويل ذلك ، قول من قال : عني به : سل مؤمني أهل
الكتابين.
فإن قال قائل : وكيف يجوز أن يقال : سل الرسل ، فيكون معناه : سل
(21/612)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآَيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَقَالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (46)
المؤمنين بهم وبكتابهم ؟ قيل : جاز ذلك
من أجل أن المؤمنين بهم وبكتبهم أهل بلاغ عنهم ما أتوهم به عن ربهم ، فالخبر عنهم
وعما جاءوا به من ربهم إذا صحَّ بمعنى خبرهم ، والمسألة عما جاءوا به بمعنى
مسألتهم إذا كان المسئول من أهل العلم بهم والصدق عليهم ، وذلك نظير أمر الله جلّ
ثناؤه إيانا برد ما تنازعنا فيه إلى الله وإلى الرسول ، يقول : ( فَإِنْ
تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ ) ومعلوم أن معنى
ذلك : فردوه إلى كتاب الله وسنة رسوله ، لأن الرد إلى ذلك رد إلى الله والرسول. وكذلك
قوله : ( وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا ) إنما معناه :
فاسأل كتب الذين أرسلنا من قبلك من الرسل ، فإنك تعلم صحة ذلك من قبلنا ، فاستغنى
بذكر الرسل من ذكر الكتب ، إذ كان معلوما ما معناه.
وقوله : ( أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ ) يقول :
أمرناهم بعبادة الآلهة من دون إلله فيما جاءوهم به ، أو أتوهم بالأمر بذلك من
عندنا.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد ، قال : ثنا أحمد ، قال : ثنا أسباط ، عن السديّ( أَجَعَلْنَا مِنْ
دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ ) ؟ أتتهم الرسل يأمرونهم بعبادة الآلهة من
دون الله ؟ وقيل : ( آلِهَةً يُعْبَدُونَ ) ، فأخرج الخبر عن الآلهة مخرج الخبر عن
ذكور بني آدم ، ولم يقل : تعبد ، ولا يعبدن ، فتؤنث وهي حجارة ، أو بعض الجماد كما
يفعل في الخبر عن بعض الجماد. وإنما فعل ذلك كذلك ، إذ كانت تعبد وتعظم تعظيم
الناس ملوكهم وسراتهم ، فأجري الخبر عنها مُجْرى الخبر عن المملوك والأشراف من بني
آدم.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى
فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَقَالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (46) فَلَمَّا
جَاءَهُمْ
(21/613)
فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِآَيَاتِنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَضْحَكُونَ (47)
بِآيَاتِنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا
يَضْحَكُونَ (47) }
يقول تعالى ذكره : ولقد أرسلنا يا محمد موسى بحججنا إلى فرعون وأشراف قومه ، كما أرسلناك
إلى هؤلاء المشركين من قومك ، فقال لهم موسى : إني رسول رب العالمين ، كما قلت أنت
لقومك من قريش. إني رسول الله إليكم.
( فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِآيَاتِنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَضْحَكُونَ ) يقول : فلما
جاء موسى فرعون وملأه بحججنا وأدلتنا على صدق قوله ، فيما يدعوهم إليه من توحيد
الله والبراءة من عبادة الآلهة ، إذا فرعون وقومه مما جاءهم به موسى من الآيات
والعبر يضحكون; كما أن قومك مما جئتهم به من الآيات والعبر يسخرون ، وهذا تسلية من
الله عزّ وجلّ نبيه صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم عما كان يلقى من مشركي قومه ،
وإعلام منه له ، أن قومه من أهل الشرك لن يعدو أن يكونوا كسائر الأمم الذين كانوا
على منهاجهم في الكفر بالله وتكذيب رسله ، وندب منه نبيه صَلَّى الله عَلَيْهِ
وَسَلَّم إلى الاستنان في الصبر عليهم بسنن أولي العزم من الرسل ، وإخبار منه له
أن عقبى مردتهم إلى البوار والهلاك كسنته في المتمردين عليه قبلهم ، وإظفاره بهم ،
وإعلائه أمره ، كالذي فعل بموسى عليه السلام ، وقومه الذين آمنوا به من إظهارهم
على فرعون وملئه.
(21/614)
وَمَا نُرِيهِمْ مِنْ آَيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا وَأَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (48)
القول في تأويل قوله تعالى : { وَمَا
نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا وَأَخَذْنَاهُمْ
بِالْعَذَابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (48) }
يقول تعالى ذكره : وما نرى فرعون وملأه آية ، يعني : حجته لنا عليه بحقيقة ما يدعوه
إليه رسولنا موسى( إِلا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا ) يقول : إلا التي نريه من
ذلك أعظم في الحجة عليهم وأوكد من التي مضت قبلها من الآيات ، وأدل على صحة ما
يأمره به موسى من توحيد الله.
وقوله : ( وَأَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ ) يقول : وأنزلنا بهم العذاب ، وذلك كأخذه
(21/614)
وَقَالُوا يَا أَيُّهَا السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ (49) فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ (50)
تعالى ذكره إياهم بالسنين ، ونقص من
الثمرات ، وبالجراد ، والقمل ، والضفادع ، والدم.
وقوله : ( لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ) يقول : ليرجعوا عن كفرهم بالله إلى توحيده
وطاعته ، والتوبة مما هم عليه مقيمون من معاصيهم.
كما حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : (
وَأَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ) أي يتوبون ، أو يذكرون.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَقَالُوا يَا أَيُّهَا السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا
رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ (49) فَلَمَّا كَشَفْنَا
عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ (50) }
يقول تعالى ذكره : وقال فرعون وملؤه لموسى : ( يَا أَيُّهَا السَّاحِرُ ادْعُ
لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ ) وعنوا بقولهم " بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ
" : بعهده الذي عهد إليك أنا إن آمنا بك واتبعناك ، كُشف عنا الرِّجْز.
كما حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث ،
قال : ثنا الحسن قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قول
الله عزّ وجلّ( بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ ) قال لئن آمنا ليكشفن عنا العذاب.
إن قال لنا قائل : وما وجه قيلهم يا أيها الساحر ادع لنا ربك بما عهد عندك ، وكيف
سموه ساحرا وهم يسألونه أن يدعو لهم ربه ليكشف عنهم العذاب ؟ قيل : إن الساحر كان
عندهم معناه : العالم ، ولم يكن السحر عندهم ذما ، وإنما دعوه بهذا الاسم ، لأن
معناه عندهم كان : يا أيها العالم.
وقوله : ( إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ ) يقول : قالوا : إنا لمتبعوك فمصدّقوك فيما
جئتنا
(21/615)
وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ (51)
به ، وموحدو الله فمبصرو سبيل الرشاد.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : ( يَا أَيُّهَا
السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ )
قال : قالوا يا موسى : ادع لنا ربك لئن كشفت عنا الرجز لنؤمننّ لك.
وقوله : ( فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ ) يقول
تعالى ذكره : فلما رفعنا عنهم العذاب الذي أنزلنا بهم ، الذي وعدوا أنهم إن كشف
عنهم اهتدوا لسبيل الحق ، إذا هم بعد كشفنا ذلك عنهم ينكثون العهد الذي عاهدونا :
يقول : يغدرون ويصرّون على ضلالهم ، ويتمادون في غيهم.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ
) : أي يغدرون.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ
أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا
تُبْصِرُونَ (51) }
يقول تعالى ذكره : ( وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ ) من القبط ، فـ( قَالَ
يَاقَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي
أَفَلا تُبْصِرُونَ ) يعنى بقوله : ( مِنْ تَحْتِي ) : من بين يدي في الجنان.
كما حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( وَهَذِهِ
(21/616)
أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ (52) فَلَوْلَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلَائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ (53)
الأنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي ) قال
: كانت لهم جنات وأنهار ماء.
وقوله : ( أَفَلا تُبْصِرُونَ ) يقول : أفلا تبصرون أيها القوم ما أنا فيه من
النعيم والخير ، وما فيه موسى من الفقر وعيّ اللسان ، افتخر بملكه مصر عدوّ الله ،
وما قد مكَّن له من الدنيا استدراجا من الله له ، وحسب أن الذي هو فيه من ذلك ناله
بيده وحوله ، وأن موسى إنما لم يصل إلى الذي يصفه ، فنسبه من أجل ذلك إلى المهانة
محتجًا على جهلة قومه بأن موسى عليه السلام لو كان محقًا فيما يأتي به من الآيات
والعبر ، ولم يكن ذلك سحرا ، لأكسب نفسه من الملك والنعمة ، مثل الذي هو فيه من
ذلك جهلا بالله واغترارًا منه بإملائه إياه.
القول في تأويل قوله تعالى : { أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ
وَلا يَكَادُ يُبِينُ (52) فَلَوْلا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ
أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ (53) }
يقوله تعالى ذكره مخبرًا عن قيل فرعون لقومه بعد احتجاجه عليهم بملكه وسلطانه ،
وبيان لسانه وتمام خلقه ، وفضل ما بينه وبين موسى بالصفات التي وصف بها نفسه وموسى
: أنا خير أيها القوم ، وصفتي هذه الصفة التي وصفت لكم( أم هذا الذي هو مهين ) لا
شيء له من الملك والأموال مع العلة التي في جسده ، والآفة التي بلسانه ، فلا يكاد
من أجلها يبين كلامه ؟.
وقد اختُلف في معنى قوله : ( أمْ ) في هذا الموضع ، فقال بعضهم : معناها : بل أنا
خير ، وقالوا. ذلك خير ، لا استفهام.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد : قال : ثنا أحمد قال : ثنا أسباط ، عن السديّ ، قوله : ( أَمْ أَنَا
خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ ) قال : بل أنا خير من هذا.
(21/617)
وبنحو ذلك كان يقول بعض أهل العلم
بكلام العرب من أهل البصرة.
وقال بعض نحويي الكوفة ، هو من الاستفهام الذي جعل بأم لاتصاله بكلام قبله. قال :
وإن شئت رددته على قوله : ( أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ ) ؟ وإذا وجه الكلام إلى
أنه استفهام ، وجب أن يكون في الكلام محذوف استغني بذكر ما ذكر مما ترك ذكره ،
ويكون معنى الكلام حينئذ : أنا خير أيها القوم من هذا الذي هو مهين ، أم هو ؟.
وذُكر عن بعض القرّاء أنه كان يقرأ ذلك " أما أنا خَيْرٌ " .
حدثنا بذلك عن الفرّاء قال : أخبرني بعض المشيخة أنه بلغه أن بعض القرّاء قرأ كذلك
، ولو كانت هذه القراءة قراءة مستفيضة في قَرَأة الأمصار لكانت صحيحة ، وكان
معناها حسنا ، غير أنها خلاف ما عليه قرّاء الأمصار ، فلا أستجيز القراءة بها ،
وعلى هذه القراءة لو صحت لا كلفة له في معناها ولا مؤنة.
والصواب من القراءة في ذلك ما عليه قرّاء الأمصار. وأولى التأويلات بالكلام إذ كان
ذلك كذلك ، تأويل من جعل : أم أنا( خَيْرٌ ) ؟ من الاستفهام الذي جعل بأم ،
لاتصاله بما قبله من الكلام ، ووجهه إلى أنه بمعنى : أأنا خير من هذا الذي هو مهين
؟ أم هو ؟ ثم ترك ذكر أم هو ، لما في الكلام من الدليل عليه.
وعني بقوله : ( مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ ) : من هذا الذي هو ضعيف لقلة ماله
، وأنه ليس له من الملك والسلطان ماله.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ
هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ ) قال : ضعيف.
حدثنا محمد ، قال : ثنا أحمد ، قال : ثنا أسباط ، عن السديّ( مِنْ هَذَا الَّذِي
هُوَ مَهِينٌ ) قال : المهين : الضعيف.
(21/618)
وقوله : ( وَلا يَكَادُ يُبِينُ ) يقول
: ولا يكاد يبين الكلام من عِيّ لسانه. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( وَلا يَكَادُ يُبِينُ )
: أي عَييّ اللسان.
حدثنا محمد ، قال : ثنا أحمد ، قال : ثنا أسباط ، عن السديّ( وَلا يَكَادُ يُبِينُ
) الكلام.
وقوله : ( فَلَوْلا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ ) يقول : فهلا ألقي
على موسى إن كان صادقا أنه رسول رب العالمين أسورة من ذهب ، وهو جمع سوار ، وهو
القُلْب الذي يجعل في اليد.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ،
عن ابن عباس ، قوله : ( أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ ) يقول : أقلبة من ذهب.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ
) : أي أقلبة من ذهب.
واختلفت القرّاء في قراءة ذلك ، فقرأته عامة قرّاء المدينة والبصرة والكوفة "
فَلَوْلا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسَاوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ " . وذُكر عن الحسن
البصري أنه كان يقرؤه( أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ ).
وأولى القراءتين في ذلك بالصواب عندي ما عليه قَرَأة الأمصار ، وإن كانت الأخرى
صحيحة المعنى.
(21/619)
واختلف أهل العربية في واحد الأساورة ،
والأسورة ، فقال بعض نحوييّ البصرة : الأسورة جمع إسوار قال : والأساورة جمع
الأسورة; وقال : ومن قرأ ذلك أساورة ، فإنه أراد أساوير والله أعلم ، فجعل الهاء
عوضا من الياء ، مثل الزنادقة صارت الهاء فيها عوضا من الياء التي في زناديق. وقال
بعض نحوييّ الكوفة : من قرأ أساورة جعل واحدها إسوار; ومن قرأ أسورة جعل واحدها
سوار; وقال : قد تكون الأساورة جمع أسورة كما يقال في جمع الأسقية الأساقي ، وفي
جمع الأكرع الأكارع. وقال آخر منهم قد قيل في سوار اليد : يجوز فيه أسوار وإسوار;
قال : فيجوز على هذه اللغة أن يكون أساورة جمعه. وحُكي عن أبي عمرو بن العلاء أنه
كان يقول : واحد الأساورة إسوار; قال : وتصديقه في قراءة أبيّ بن كعب "
فَلَوْلا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أسَاوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ " فإن كان ما حكي من
الرواية من أنه يجوز أن يقال في سوار اليد إسوار ، فلا مؤنة في جمعه أساورة ، ولست
أعلم ذلك صحيحا عن العرب برواية عنها ، وذلك أن المعروف في كلامهم من معنى الإسوار
: الرجل الرامي ، الحاذق بالرمي من رجال العجم. وأما الذي يُلبس في اليد ، فإن
المعروف من أسمائه عندهم سوارا. فإذا كان ذلك كذلك ، فالذي هو أولى بالأساورة أن
يكون جمع أسورة على ما قاله الذي ذكرنا قوله في ذلك.
وقوله : ( أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ ) يقول : أو هلا إن كان
صادقا جاء معه الملائكة مقترنين قد اقترن بعضهم ببعض ، فتتابَعُوا يشهدون له بأنه
لله رسول إليهم. وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل على اختلاف منهم في
العبارة على تأويله ، فقال بعضهم : يمشون معا.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال أبو عاصم ، قال ثنا عيسى; وحدثني الحارث ، قال : ثنا
الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن نجيح ، عن
(21/620)
فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (54) فَلَمَّا آَسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ (55)
مجاهد ، في قوله : ( الْمَلائِكَةُ
مُقْتَرِنِينَ ) قال : يمشون معا.
وقال آخرون : متتابعين.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا زيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( أَوْ جَاءَ مَعَهُ
الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ ) : أي متتابعين.
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، مثله.
وقال آخرون : يقارن بعضهم بعضا.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد ، قال ثنا أحمد ، قال : ثنا أسباط ، عن السديّ( أَوْ جَاءَ مَعَهُ
الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ ) قال : يقارن بعضهم بعضا.
القول في تأويل قوله تعالى : { فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ
كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (54) فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ
فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ (55) }
يقول تعالى ذكره : فاستخفّ فرعون خلقا من قومه من القبط ، بقوله الذي أخبر الله
تبارك وتعالى عنه أنه قال لهم ، فقبلوا ذلك منه فأطاعوه ، وكذّبوا موسى ، قال الله
: وإنما أطاعوا فاستجابوا لما دعاهم إليه عدوّ الله من تصديقه ، وتكذيب موسى ،
لأنهم كانوا قوما عن طاعة الله خارجين بخذلانه إياهم ، وطبعه على قلوبهم. يقول
الله تبارك وتعالى : ( فَلَمَّا آسَفُونَا ) يعني بقوله : آسفونا : أغضبونا.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
(21/621)
فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلًا لِلْآَخِرِينَ (56) وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ (57)
* ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : ثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ،
قوله( فَلَمَّا آسَفُونَا ) يقول : أسخطونا.
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ،
عن ابن عباس ، ( فَلَمَّا آسَفُونَا ) يقول : لما أغضبونا.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث ، قال :
ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد( فَلَمَّا
آسَفُونَا ) : أغضبونا.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : ( فَلَمَّا
آسَفُونَا ) قال : أغضبوا ربهم.
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة( فَلَمَّا آسَفُونَا
) قال : أغضبونا.
حدثنا محمد ، قال : ثنا أحمد ، قال : ثنا أسباط ، عن السديّ( فَلَمَّا آسَفُونَا )
قال : أغضبونا ، وهو على قول يعقوب : ( يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ ) قال : يا
حَزني على يوسف.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : ( فَلَمَّا
آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ ) قال : أغضبونا ، وقوله : ( انْتَقَمْنَا
مِنْهُمْ ) يقول : انتقمنا منهم بعاجل العذاب الذي عجلناه لهم ، فأغرقناهم جميعا
في البحر.
القول في تأويل قوله تعالى : { فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلا لِلآخِرِينَ (56)
وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ (57) }
اختلفت القرّاء في قراءة ذلك ، فقرأته عامة قرّاء الكوفة غير عاصم
(21/622)
" فَجَعَلْنَاهُمْ سُلُفًا "
بضم السين واللام ، توجيها ذلك منهم إلى جمع سليف من الناس ، وهو المتقدّم أمام
القوم. وحكى الفرّاء أنه سمع القاسم بن معن يذكر أنه سمع العرب تقول : مضى سليف من
الناس. وقرأته عامة قرّاء المدينة والبصرة وعاصم : ( فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا )
بفتح السين واللام.
وإذا قرئ كذلك احتمل أن يكون مرادا به الجماعة والواحد والذكر والأنثى ، لأنه يقال
للقوم : أنتم لنا سلف ، وقد يجمع فيقال : هم أسلاف; ومنه الخبر الذي روي عن رسول
الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم أنه قال : " يَذْهَبُ الصَّالِحُونَ
أسْلافًا " .
وكان حُميد الأعرج يقرأ ذلك : " فَجَعَلْنَاهُمْ سُلَفًا " بضم السين
وفتح اللام ، توجيها منه ذلك إلى جمع سلفة من الناس ، مثل أمة منهم وقطعة.
وأولى القراءات في ذلك بالصواب قراءة من قرأه بفتح السين واللام ، لأنها اللغة
الجوداء ، والكلام المعروف عند العرب ، وأحقّ اللغات أن يقرأ بها كتاب الله من
لغات العرب أفصحها وأشهرها فيهم. فتأويل الكلام إذن : فجعلنا هؤلاء الذين أغرقناهم
من قوم فرعون في البحر مقدّمة يتقدمون إلى النار ، كفار قومك يا محمد من قريش ،
وكفار قومك لهم بالأثر.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث ، قال :
ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : (
فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلا لِلآخِرِينَ ) قال : قوم فرعون كفارهم سلفا
لكفار أمة محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا
) في النار.
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر : ( فَجَعَلْنَاهُمْ
(21/623)
سَلَفًا ) قال : سلفا إلى النار.
وقوله : ( وَمَثَلا لِلآخِرِينَ ) يقول : وعبرة وعظة يتعظ بهم مَنْ بعدهم من الأمم
، فينتهوا عن الكفر بالله. وبمثل الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث ، قال :
ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، مجاهد( وَمَثَلا
لِلآخِرِينَ ) قال : عبرة لمن بعدهم.
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا أبو ثور ، عن معمر ، عن قتادة( وَمَثَلا
لِلآخِرِينَ ) : أي عظة للآخرين.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( وَمَثَلا لِلآخِرِينَ )
: أي عظة لمن بعدهم.
حدثنا محمد ، قال : ثنا أحمد ، قال : ثنا أسباط ، عن السديّ( فَجَعَلْنَاهُمْ
سَلَفًا وَمَثَلا ) قال : عبرة.
وقوله : ( وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلا ) يقول تعالى ذكره : ولما شبه
الله عيسى في إحداثه وإنشائه إياه من غير فحل بآدم ، فمثله به بأنه خلقه من تراب
من غير فحل ، إذا قومك يا محمد من ذلك يضجون ويقولون : ما يريد محمد منا إلا أن
نتخذه إلها نعبده ، كما عبدت النصارى المسيح.
واختلف أهل التأويل في تأويل ذلك ، فقال بعضهم بنحو الذي قلنا فيه.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال ثنا أبو عاصم ، قال ثنا عيسى; وحدثني الحارث ، قال : ثنا
الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قول الله عزّ
وجلّ : ( إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ ) قال : يضجون; قال : قالت قريش : إنما
يريد محمد أن نعبده كما عبد قوم عيسى عيسى.
(21/624)
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن
ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، قال : لما ذُكر عيسى ابن مريم جزعت قريش من ذلك ،
وقالوا : يا محمد ما ذكرت عيسى ابن مريم (1) وقالوا : ما يريد محمد إلا أن نصنع به
كما صنعت النصارى بعيسى ابن مريم ، فقال الله عزّ وجلّ : ( مَا ضَرَبُوهُ لَكَ
إِلا جَدَلا ).
حدثنا بشر ، قال ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قال : لما ذكر عيسى في
القرآن قال مشركو قريش : يا محمد ما أردت إلى ذكر عيسى ؟ قال : وقالوا : إنما يريد
أن نحبه كما أحبَّت النصارى عيسى.
وقال آخرون : بل عنى بذلك قول الله عزّ وجلّ( إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ
دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ ) قيل المشركين عند
نزولها : قد رضينا بأن تكون آلهتنا مع عيسى وعُزَير والملائكة ، لأن كل هؤلاء مما
يعبد من دون الله ، قال الله عزّ وجلّ : ( وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلا
إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ ) وقالوا : أآلهتنا خير أم هو ؟.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، ثنا أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن
عباس : ( وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ
) قال : يعني قريشا لما قيل لهم( إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ
حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ ) فقالت له قريش : فما ابن مريم ؟ قال
: ذاك عبد الله ورسوله ، فقالوا : والله ما يريد هذا إلا أن نتخذه ربا كما اتخذت
النصارى عيسى ابن مريم ربا ، فقال الله عزّ وجلّ : ( مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلا
جَدَلا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ ).
واختلفت القرّاء في قراءة قوله : ( يَصُدُّونَ ) فقرأته عامة قرّاء المدينة ،
وجماعة من قرّاء الكوفة : " يصُدُّونَ " بضم الصاد. وقرأ ذلك بعض قرّاء
الكوفة
__________
(1) كذا في الأصل ، ولم يتم الكلام ؛ ولعله اكتفى بدلالة ما بعده عليه .
(21/625)
والبصرة( يَصُدُّونَ ) بكسر الصاد.
واختلف أهل العلم بكلام العرب في فرق ما بين ذلك إذا قُرئ بضم الصاد ، وإذا قُرئ
بكسرها ، فقال بعض نحوييّ البصرة ، ووافقه عليه بعض الكوفيين : هما لغتان بمعنى
واحد ، مثل يشُدّ ويشِدّ ، ويَنُمُّ ويَنِمّ من النميمة. وقال آخر : منهم من كسر
الصاد فمجازها يضجون ، ومن ضمها فمجازها يعدلون. وقال بعض من كسرها : فإنه أراد
يضجون ، ومن ضمها فإنه أراد الصدود عن الحقّ.
وحُدثت عن الفرّاء قال : ثني أبو بكر بن عياش ، أن عاصما ترك يصدّون من قراءة أبي
عبد الرحمن ، وقرأ يصدّون ، قال : قال أبو بكر. حدثني عاصم ، عن أبي رزين ، عن أبي
يحيى ، أن ابن عباس لقي ابن أخي عبيد بن عمير ، فقال : إن عمك لعربيّ ، فما له
يُلحن في قوله : " إذَا قُومُكَ مِنْهُ يَصُدُّونَ " ، وإنما هي(
يَصُدُّونَ ).
والصواب من القول في ذلك أنهما قراءتان معروفتان ، ولغتان مشهورتان بمعنى واحد ،
ولم نجد أهل التأويل فرقوا بين معنى ذلك إذا قرئ بالضم والكسر ، ولو كان مختلفا
معناه ، لقد كان الاختلاف في تأويله بين أهله موجودا وجود اختلاف القراءة فيه
باختلاف اللغتين ، ولكن لما لم يكن مختلف المعنى لم يختلفوا في أن تأويله : يضجون
ويجزعون ، فبأي القراءتين قرأ القارئ فمصيب.
* ذكر ما قلنا في تأويل ذلك :
حدثني عليّ ، قال : ثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ،
قوله : ( إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ ) قال : يضجون.
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ،
عن ابن عباس( إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ ) يقول : يضجون.
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا يحيى بن واضح ، قال : ثنا أبو حمزة ، عن
(21/626)
وَقَالُوا أَآَلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ (58) إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ (59) وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلَائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ (60)
المُغيرة الضبيّ ، عن الصعب بن عثمان
قال : كان ابن عباس يقرأ( إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ ) ، وكان يفسرها يقول
: يضجون.
ابن بشار ، قال : ثنا عبد الرحمن ، قال : ثنا سفيان ، عن عاصم ، عن أبي رزين ، عن
ابن عباس( إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ ) قال : يضجون.
حدثنا ابن المثنى ، قال : ثنا ابن أبي عدي ، عن شعبة عن عاصم عن أبي رزين ، عن ابن
عباس بمثله.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث ، قال :
ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح عن مجاهد ، في قول الله عزّ
وجلّ : ( إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ ) قال : يضجون.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ
يَصِدُّونَ ) : أي يجزعون ويضجون.
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن عاصم بن أبي النجود ، عن
أبي صالح ، عن ابن عباس أنه قرأها( يَصُدُّونَ ) : أي يضجون ، وقرأ عليّ رضي الله
عنه( يَصُدُّونَ ).
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : ثنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول
، في قوله : ( إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ ) قال : يضجون.
حدثنا محمد ، قال : ثنا أحمد ، قال : ثنا أسباط ، عن السديّ( إِذَا قَوْمُكَ
مِنْهُ يَصِدُّونَ ) قال : يضجون.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا
ضَرَبُوهُ لَكَ إِلا جَدَلا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ (58) إِنْ هُوَ إِلا
عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ (59)
وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الأرْضِ يَخْلُفُونَ (60) }
(21/627)
يقول تعالى ذكره : وقال مشركو قومك يا
محمد : آلهتنا التي نعبدها خير ؟ أم محمد فنعبد محمدا ؟ ونترك آلهتنا ؟.
وذُكر أن ذلك في قراءة أبيّ بن كعب : " أآلهتنا خير أم هذا " .
* ذكر الرواية بذلك : حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور عن معمر ، عن
قتادة أن في حرف أبي بن كعب " وقالوا أآلهتنا خير أم هذا " يعنون محمدا
صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم.
وقال آخرون : بل عنى بذلك : آلهتنا خير أم عيسى ؟.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن الحسين ، قال : ثنا أحمد بن المفضل ، قال : ثنا أسباط ، عن السديّ ،
في قوله : ( وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلا جَدَلا
بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ ) قال : خاصموه ، فقالوا : يزعم أن كلّ من عبد من دون
الله في النار ، فنحن نرضى أن تكون آلهتنا مع عيسى وعُزير والملائكة هؤلاء قد
عُبدوا من دون الله ، قال : فأنزل الله براءة عيسى.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، فى قوله : (
أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ ) قال : عبد هؤلاء عيسى ، ونحن نعبد الملائكة.
وقوله : ( مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلا جَدَلا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ ).... إلى(
فِي الأرْضِ يَخْلُفُونَ ). وقوله تعالى ذكره : ( مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلا جَدَلا
) يقول تعالى ذكره : ما مثلوا لك هذا المثل يا محمد ولا قالوا لك هذا القول إلا
جدلا وخصومة يخاصمونك به( بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ ) يقول جلّ ثناؤه : ما بقومك
يا محمد هؤلاء المشركين في محاجتهم إياك بما يحاجونك به طلب الحق( بَلْ هُمْ
قَوْمٌ خَصِمُونَ ) يلتمسون الخصومة بالباطل.
(21/628)
وذُكر عن النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ
وَسَلَّم أنه قال : " ما ضل قوم عن الحق إلا أوتوا الجدل " .
* ذكر الرواية ذلك : حدثنا ابن المثنى ، قال : ثنا يعلى ، قال : ثنا الحجاج بن
دينار ، عن أبي غالب عن أبي أمامة قال : قال رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ
وَسَلَّم : " ما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أوتوا الجدل ، وقرأ : ( مَا
ضَرَبُوهُ لَكَ إِلا جَدَلا )... الآية.
حدثني موسى بن عبد الرحمن الكندي وأبو كُرَيب قالا ثنا محمد بن بشر ، قال : ثنا
حجاج بن دينار ، عن أبي أُمامة " أن رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم
، خرج على الناس وهم يتنازعون في القرآن ، فغضب غضبا شديدًا ، حتى كأنما صبّ على
وجهه الخلّ ، ثم قال صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم : " لا تَضْرِبُوا
كِتَابَ الله بَعْضَهُ بِبَعْضٍ ، فإنَّهُ ما ضَلَّ قَوْمٌ قَطُّ إلا أُوتُوا
الجَدَلَ " ، ثم تلا( مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلا جَدَلا بَلْ هُمْ قَوْمٌ
خَصِمُونَ ).
وقوله : ( إِنْ هُوَ إِلا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ ) يقول تعالى ذكره : فما
عيسى إلا عبد من عبادنا ، أنعمنا عليه بالتوفيق والإيمان ، وجعلناه مثلا لبني
إسرائيل ، يقول : وجعلناه آية لبني إسرائيل ، وحجة لنا عليهم بإرسالناه إليهم
بالدعاء إلينا ، وليس هو كما تقول النصارى من أنه ابن الله تعالى ، تعالى الله عن
ذلك.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة : ( إِنْ هُوَ إِلا عَبْدٌ
أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ ) يعني بذلك عيسى ابن مريم ، ما عدا ذلك عيسى ابن مريم ، إن
كان إلا عبدا أنعم الله عليه.
وبنحو الذي قلنا أيضا في قوله : ( وَجَعَلْنَاهُ مَثَلا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ )
قالوا.
(21/629)
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن قتادة( مَثَلا لِبَنِي
إِسْرَائِيلَ ) أحسبه قال : آية لبني إسرائيل.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( وَجَعَلْنَاهُ مَثَلا
لِبَنِي إِسْرَائِيلَ ) أي آية.
قوله : ( وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الأرْضِ يَخْلُفُونَ
) يقول تعالى ذكره : ولو نشاء معشر بني آدم أهلكناكم ، فأفنينا جميعكم ، وجعلنا
بدلا منكم في الأرض ملائكة يخلفونكم فيها يعبدونني وذلك نحو قوله تعالى ذكره : (
إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكَانَ اللَّهُ
عَلَى ذَلِكَ قَدِيرًا ) وكما قال : ( إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ
مِنْ بَعْدِكُمْ مَا يَشَاءُ ) .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل ، غير أن منهم من قال : معناه : يخلف
بعضهم بعضا.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : ثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ،
قوله : ( وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الأرْضِ يَخْلُفُونَ
) يقول : يخلف بعضهم بعضا.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث ، قال :
ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : (
لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الأرْضِ يَخْلُفُونَ ) قال : يعمرون الأرض
بدلا منكم.
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، في قوله : (
مَلائِكَةً فِي الأرْضِ يَخْلُفُونَ ) قال : يخلف بعضهم بعضا ، مكان بني آدم.
(21/630)
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال :
ثنا سعيد ، عن قتادة( وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الأرْضِ
يَخْلُفُونَ ) لو شاء الله لجعل في الأرض ملائكة يخلف بعضهم بعضا.
حدثنا محمد ، قال : ثنا أحمد ، قال : ثنا أسباط ، عن السديّ( وَلَوْ نَشَاءُ
لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الأرْضِ يَخْلُفُونَ ) قال : خلفا منكم.
(21/631)
وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلَا تَمْتَرُنَّ بِهَا وَاتَّبِعُونِ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (61) وَلَا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطَانُ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (62)
القول في تأويل قوله تعالى : {
وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلا تَمْتَرُنَّ بِهَا وَاتَّبِعُونِ هَذَا
صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (61) وَلا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطَانُ إِنَّهُ لَكُمْ
عَدُوٌّ مُبِينٌ (62) }
اختلف أهل التأويل في الهاء التي في قوله : ( وَإِنَّهُ ) وما المعنيّ بها ، ومن
ذكر ما هي ، فقال بعضهم : هي من ذكر عيسى ، وهي عائدة عليه. وقالوا : معنى الكلام
: وإن عيسى ظهوره علم يعلم به مجيء الساعة ، لأن ظهوره من أشراطها ونزوله إلى
الأرض دليل على فناء الدنيا ، وإقبال الآخرة.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا عبد الرحمن ، قال : ثنا سفيان ، عن عاصم ، عن أبي رزين
، عن يحيى ، عن ابن عباس ، ( وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ ) قال : خروج عيسى
ابن مريم.
حدثنا ابن المثنى ، قال : ثنا ابن أبي عدي ، عن شعبة ، عن عاصم ، عن أبي رزين ، عن
ابن عباس بمثله ، إلا أنه قال : نزول عيسى ابن مريم.
حدثني محمد بن إسماعيل الأحمسيّ ، قال : ثنا غالب بن قائد ، قال : ثنا قيس ، عن
عاصم ، عن أبي رزين ، عن ابن عباس ، أنه كان يقرأ " وَإِنَّهُ
(21/631)
لَعَلَمٌ للسَّاعَةِ " قال : نزول
عيسى ابن مريم.
حدثنا أبو كُرَيب ، قال : ثنا ابن عطية ، عن فضيل بن مرزوق ، عن جابر ، قال : كان
ابن عباس يقول : ما أدري علم الناس بتفسير هذه الآية ، أم لم يفطنوا لها ؟ "
وَإِنَّهُ لَعَلَمٌ للسَّاعَةِ " قال : نزول عيسى ابن مريم.
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ،
عن ابن عباس : " وَإِنَّهُ لَعَلْمٌ للسَّاعَةِ " قال : نزول عيسى ابن
مريم.
حدثني يعقوب ، قال : ثنا هشيم ، قال : أخبرنا حصين ، عن أبي مالك وعوف عن الحسن
أنهما قالا في قوله : ( وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ ) قالا نزول عيسى ابن مريم
وقرأها أحدهما " وَإِنَّهُ لَعَلْمٌ للسَّاعَةِ " .
حدثنا محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث ، قال :
ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : (
وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ ) قال : آية للساعة خروج عيسى ابن مريم قبل يوم
القيامة.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة " وَإِنَّهُ
لَعَلَمٌ للسَّاعَةِ " قال : نزول عيسى ابن مريم علم للساعة : القيامة.
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، في قوله :
" وَإِنَّهُ لَعَلَمٌ للسَّاعَةِ " قال : نزول عيسى ابن مريم علم
للساعة.
حدثنا محمد ، قال : ثنا أحمد ، قال : ثنا أسباط ، عن السديّ( وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ
لِلسَّاعَةِ ) قال : خروج عيسى ابن مريم قبل يوم القيامة.
حدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك
يقول في قوله : ( وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ ) يعني خروج عيسى ابن مريم
ونزوله من السماء قبل يوم القيامة.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : ( وَإِنَّهُ
لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ ) قال : نزول عيسى ابن مريم علم للساعة حين ينزل.
وقال آخرون : الهاء التي في قوله : ( وَإنَّهُ ) من ذكر القرآن ، وقالوا : معنى
(21/632)
الكلام : وإن هذا القرآن لعلم للساعة
يعلمكم بقيامها ، ويخبركم عنها وعن أهوالها.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قال : كان الحسن يقول :
" وَإِنَّهُ لَعَلَمٌ للسَّاعَةِ " هذا القرآن.
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة قال : كان ناس
يقولون : القرآن علم للساعة. واجتمعت قرّاء الأمصار في قراءة قوله : ( وَإِنَّهُ
لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ ) على كسر العين من العلم. ورُوي عن ابن عباس ما ذكرت عنه في
فتحها ، وعن قتادة والضحاك.
والصواب من القراءة في ذلك : الكسر في العين ، لإجماع الحجة من القرّاء عليه.
وقد ذكر أن ذلك في قراءة أُبيّ ، وإنه لذكر للساعة ، فذلك مصحح قراءة الذين قرءوا
بكسر العين من قوله : ( لَعِلْمٌ ).
وقوله : ( فَلا تَمْتَرُنَّ بِهَا ) يقول : فلا تشكنّ فيها وفي مجيئها أيها الناس.
كما حدثنا محمد ، قال : ثنا أحمد ، قال : ثنا أسباط ، عن السديّ( فَلا تَمْتَرُنَّ
بِهَا ) قال : تشكون فيها.
وقوله : ( وَاتَّبِعُونَ ) يقول تعالى ذكره : وأطيعون فاعملوا بما أمرتكم به ،
وانتهوا عما نهيتكم عنه ، ( هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ ) يقول : اتباعكم إياي أيها
الناس في أمري ونهي صراط مستقيم ، يقول : طريق لا اعوجاج فيه ، بل هو قويم.
وقوله : ( وَلا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطَانُ ) يقول جلّ ثناؤه : ولا يعدلنكم
الشيطان عن طاعتي فيما آمركم وأنهاكم ، فتخالفوه إلى غيره ، وتجوروا عن الصراط
المستقيم فتضلوا( إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ) يقول : إن الشيطان لكم عدوّ
يدعوكم إلى ما فيه هلاككم ، ويصدّكم عن قصد السبيل ، ليوردكم المهالك ، مبين قد
أبان لكم عداوته ، بامتناعه من السجود لأبيكم آدم ، وإدلائه بالغرور حتى أخرجه من
(21/633)
وَلَمَّا جَاءَ عِيسَى بِالْبَيِّنَاتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (63) إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (64)
الجنة حسدًا وبغيًا.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلَمَّا جَاءَ عِيسَى بِالْبَيِّنَاتِ قَالَ قَدْ
جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلأبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ
فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (63) إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ
فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (64) }
يقول تعالى ذكره : ولم جاء عيسى بني إسرائيل بالبينات ، يعني بالواضحات من الأدلة.
وقيل : عُني بالبيِّنات : الإنجيل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( وَلَمَّا جَاءَ عِيسَى
بِالْبَيِّنَاتِ ) أي بالإنجيل. وقوله : ( قَالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ )
قيل : عُني بالحكمة في هذا الموضع : النبوّة.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد ، قال : ثنا أحمد ، قال : ثنا أسباط ، عن السديّ( قَالَ قَدْ جِئْتُكُمْ
بِالْحِكْمَةِ ) قال : النبوّة.
وقد بيَّنت معنى الحكمة فيما مضى من كتابنا هذا بشواهده ، وذكرت اختلاف المختلفين
في تأويله ، فأغنى ذلك عن إعادته.
وقوله : ( وَلأبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ ) يقول : ولأبين
لكم معشر بني إسرائيل بعض الذي تختلفون فيه من أحكام التوراة.
كما حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث ،
قال : ثنا الحسن قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ،
(21/634)
عن مجاهد ، قوله : ( وَلأبَيِّنَ
لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ ) قال : من تبديل التوراة.
وقد قيل : معنى البعض في هذا الموضع بمعنى الكلّ ، وجعلوا ذلك نظير قول لبيد?
تَرَّاكُ أمْكِنَةٍ إذَا لَمْ أرْضَهَا... أوْ يَعْتَلِقْ بَعْضَ النُّفوسِ
حِمامُها (1)
قالوا : الموت لا يعتلق بعض النفوس ، وإنما المعنى : أو يعتلق النفوس حمامها ،
وليس لما قال هذا القائل كبير معنى ، لأن عيسى إنما قال لهم : ( وَلأبَيِّنَ
لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ ) ، لأنه قد كان بينهم اختلاف كثير في
أسباب دينهم ودنياهم ، فقال لهم : أبين لكم بعض ذلك ، وهو أمر دينهم دون ما هم فيه
مختلفون من أمر دنياهم ، فلذلك خص ما أخبرهم أنه يبينه لهم. وأما قول لبيد :
" أو يعتلق بعض النفوس " ، فإنه إنما قال ذلك أيضا كذلك ، لأنه أراد :
أو يعتلق نفسه حمامها ، فنفسه من بين النفوس لا شكّ أنها بعض لا كل.
وقوله : ( فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ ) يقول : فاتقوا ربكم أيها الناس
بطاعته ، وخافوه باجتناب معاصيه ، وأطيعون فيما أمرتكم به من اتقاء الله واتباع
أمره ، وقبول نصيحتي لكم.
وقوله : ( إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ ) يقول : إن الله
الذي يستوجب
__________
(1) البيت للبيد ( مجاز القرآن لأبي عبيدة . الورقة 221 ) أنشده عند قوله تعالى :
( لأبين لكم بعض الذي تختلفون فيه ) قال : البعض هاهنا : كله . قال لبيد : "
تراك ... البيت " . وفي شرح الزوزني للمعلقات السبع ( ص 116 ) يقول : إني
تراك أماكن إذا لم أرضها إلا أن يرتبط نفسي حمامها ، فلا يمكنها البراح . وأراد
ببعض النفوس هنا : نفسه . هذا أوجه الأقوال وأحسنها . ومن جعل بعض النفوس بمعنى كل
النفوس ، فقد أخطأ لأن بعضا لا يفيد العموم والاستيعاب . وتحرير المعنى : إني لا
أترك الأماكن أجتويها وأقلبها ، إلا أن أموت . وقال التبريزي في شرح القصائد العشر
، ( ص 160 ) يقول : أترك الأمكنة إذا رأيت فيها ما يكره إلا أن يدركني الموت .
وأراد بالنفوس نفسه ، ويعتلق : يحبس . والحمام : الموت . ويقال القدر . وقوله أو
يعتلق مجزوم عطفا على قوله : إذا لم أرضها . ا هـ .
(21/635)
فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ (65) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (66)
علينا إفراده بالألوهية وإخلاص الطاعة
له ، ربي وربكم جميعا ، فاعبدوه وحده ، لا تشكروا معه في عبادته شيئا ، فإنه لا
يصلح ، ولا ينبغي أن يُعبد شيء سواه.
وقوله : ( هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ ) يقول : هذا الذي أمرتكم به من اتقاء الله
وطاعتي ، وإفراد الله بالألوهة ، هو الطريق المستقيم ، وهو دين الله الذي لا يقبل
من أحد من عباده غيره.
القول في تأويل قوله تعالى : { فَاخْتَلَفَ الأحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ
لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ (65) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلا
السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (66) }
اختلف أهل التأويل في المعنيين بالأحزاب ، الذين ذكرهم الله فى هذا الموضع ، فقال
بعضهم : عنى بذلك : الجماعة التي تناظرت في أمر عيسى ، واختلفت فيه.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، في قوله : (
فَاخْتَلَفَ الأحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ ) قال : هم الأربعة الذين أخرجهم بنو
إسرائيل يقولون في عيسى. وقال آخرون : بل هم اليهود والنصارى.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد ، قال : ثنا أحمد ، قال : ثنا أسباط ، عن السديّ ، في قوله : (
فَاخْتَلَفَ الأحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ ) قال : اليهود والنصارى. والصواب من
القول في ذلك أن يقال : معنى ذلك : فاختلف الفرق المختلفون في عيسى ابن مريم من
بين من دعاهم عيسى إلى ما دعاهم إليه من اتقاء الله والعمل بطاعته ، وهم اليهود
والنصارى ، ومن اختلف فيه من
(21/636)
الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ (67) يَا عِبَادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (68)
النصارى ، لأن جميعهم كانوا أحزابا
مبتسلين (1) مختلفي الأهواء مع بيانه لهم أمر نفسه ، وقوله لهم : ( إِنَّ اللَّهَ
هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ ).
وقوله : ( فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ ) يقول تعالى
ذكره فالوادي السائل من القيح والصديد في جهنم للذين كفروا بالله ، الذين قالوا في
عيسى ابن مريم بخلاف ما وصف عيسى به نفسه في هذه الآية( مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ
أَلِيمٍ ) يقول : من عذاب يوم مؤلم ، ووصف اليوم بالإيلام ، إذ كان العذاب الذي
يؤلمهم فيه ، وذلك يوم القيامة.
كما حدثنا محمد ، قال : ثنا أحمد ، قال : ثنا أسباط ، عن السديّ( مِنْ عَذَابِ
يَوْمٍ أَلِيمٍ ) قال : من عذاب يوم القيامة.
وقوله : ( هَلْ يَنْظُرُونَ إِلا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً ) يقول :
هل ينظر هؤلاء الأحزاب المختلفون في عيسى ابن مريم ، القائلون فيه الباطل من القول
، إلا الساعة التي فيها تقوم القيامة فجأة( وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ ) يقول : وهم لا
يعلمون بمجيئها.
القول في تأويل قوله تعالى : { الأخِلاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ
إِلا الْمُتَّقِينَ (67) يَا عِبَادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا
أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (68) }
يقول تعالى ذكره : المتخالون يوم القيامة على معاصي الله في الدنيا ، بعضهم لبعض
عدوّ ، يتبرأ بعضهم من بعض ، إلا الذين كانوا تخالّوا فيها على تقوى الله.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
__________
(1) كذا في الأصل . ولعل الصواب " متبسلين " بتقديم التاء على الباء .
قال في اللسان : تبسل الرجل : عبس من الغضب أو الشجاعة أما ابتسل الرجل بتقديم
الباء ، فمعناه : أخذ على رقيته أجرا . ا هـ .
(21/637)
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث ، قال :
ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله : (
الأخِلاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلا الْمُتَّقِينَ ) فكلّ
خُلَّةٍ على معصية الله في الدنيا متعادون.
حدثني عليّ ، قال : ثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ،
قوله( الأخِلاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلا الْمُتَّقِينَ )
فكلّ خُلَّةٍ هي عداوة إلا خلة المتقين.
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن أبي إسحاق ، أن عليا رضي
الله عنه قال : خليلان مؤمنان ، وخليلان كافران ، فمات أحد المؤمنين فقال : يا ربّ
إن فلانا كان يأمرني بطاعتك وطاعة رسولك ، ويأمرني بالخير ، وينهاني عن الشرّ
ويخبرني أني ملاقيك يا ربّ فلا تضله بعدي واهده كما هديتني وأكرمه كما أكرمتني ،
فإذا مات خليله المؤمن جمع بينهما فيقول : ليثن أحدكما على صاحبه فيقول : يا ربّ
إنه كان يأمرني بطاعتك وطاعة رسولك ، ويأمرني بالخير ، وينهاني عن الشرّ ، ويخبرني
أني ملاقيك ، فيقول : نعم الخليل ، ونعم الأخ ، ونعم الصاحب; قال : ويموت أحد
الكافرين فيقول : يا ربّ إن فلانا كان ينهاني عن طاعتك وطاعة رسولك ، ويأمرني
بالشرّ ، وينهاني عن الخير ، ويخبرني أني غير ملاقيك ، فيقول : بئس الأخ ، وبئس
الخليل ، وبئس الصاحب.
وقوله : ( يَا عِبَادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ
) وفي هذا الكلام محذوف استغنى بدلالة ما ذكر عليه. ومعنى الكلام : الأخلاء يومئذ
بعضهم لبعض عدو إلا المتقين ، فإنهم يقال لهم : يا عبادي لا خوف عليكم اليوم من
عقابي ، فإني قد أمنتكم منه برضاي عنكم ، ولا أنتم تحزنون على فراق الدنيا فإن
الذي قدمتم عليه خير لكم مما فارقتموه منها.
وذُكر أن الناس ينادون هذا النداء يوم القيامة ، فيطمع فيها من ليس من
(21/638)
الَّذِينَ آَمَنُوا بِآَيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ (69) ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ (70)
أهلها حتى يسمع قوله : ( الَّذِينَ
آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ ) فييأس منها عند ذلك.
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، قال : ثنا
المعتمر ، عن أبيه ، قال سمعت أن الناس حين يبعثون ليس منهم أحد إلا فزع ، فينادي
مناد : يا عباد الله لا خوف عليكم اليوم ولا أنتم تحزنون ، فيرجوها الناس كلهم ،
قال : فيتبعها( الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ ) قال :
فييأس الناس منها غير المسلمين.
القول في تأويل قوله تعالى : { الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا
مُسْلِمِينَ (69) ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ (70)
}
وقوله : ( الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا ) يقول تعالى ذكره : يا عبادي الذين
آمنوا وهم الذين صدقوا بكتاب الله ورسله ، وعملوا بما جاءتهم به رسلهم ، وكانوا
مسلمين ، يقول : وكانوا أهل خضوع لله بقلوبهم ، وقبول منهم لما جاءتهم به رسلهم عن
ربهم على دين إبراهيم خليل الرحمن صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم ، حنفاء لا يهود
ولا نصارى ، ولا أهل أوثان.
وقوله : ( ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ ) يقول جلّ
ثناؤه : ادخلوا الجنة أنتم أيها المؤمنون وأزواجكم مغبوطين بكرامة الله ، مسرورين
بما أعطاكم اليوم ربكم.
وقد اختلف أهل التأويل في تأويل قوله : ( تُحْبَرُونَ ) وقد ذكرنا ما قد قيل في
ذلك فيما مضى ، وبيَّنا الصحيح من القول فيه عندنا بما أغنى عن إعادته في هذا
الموضع ، غير أنا نذكر بعض ما لم يُذكر هنالك من أقوال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( ادْخُلُوا الْجَنَّةَ
أَنْتُمْ
(21/639)
يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (71)
وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ ) : أي
تَنْعَمون.
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، في قوله : (
تُحْبَرُونَ ) قال : تنعمون.
حدثنا محمد ، قال : ثنا أحمد ، قال : ثنا أسباط ، عن السديّ ، في قوله : (
تُحْبَرُونَ ) قال : تكرمون.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : ( أَنْتُمْ
وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ ) قال : تنعمون.
القول في تأويل قوله تعالى : { يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ
وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأنْفُسُ وَتَلَذُّ الأعْيُنُ وَأَنْتُمْ
فِيهَا خَالِدُونَ (71) }
يقول تعالى ذكره : يُطاف على هؤلاء الذين آمنوا بآياته في الدنيا إذا دخلوا الجنة
في الآخرة بصحاف من ذهب ، وهي جمع للكثير من الصَّحْفة ، والصَّحْفة : القصعة.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد ، قال : ثنا أحمد ، قال : ثنا أسباط ، عن السديّ( يُطَافُ عَلَيْهِمْ
بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ ) قال : القصاع.
حدثنا أبو كريب ، قال : ثنا يمان ، عن أشعث بن إسحاق ، عن جعفر ، عن شعبة ، قال :
" إنّ أدنى أهل الجنة منزلة ، من له قصر فيه سبعون ألف خادم ، في يد كل خادم
صحفة سوى ما في يد صاحبها ، لو فتح بابه فضافه أهل الدنيا لأوسعهم " .
(21/640)
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا يعقوب
القميّ ، جعفر ، عن سعيد ، قال : " إن أخسّ أهل الجنة منزلا من له سبعون ألف
خادم ، مع كل خادم صحفة من ذهب ، لو نزل به جميع أهل الأرض لأوسعهم ، لا يستعين
عليهم بشيء من غيره ، وذلك في قول الله تبارك وتعالى : ( لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ
فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ ) ولهم( وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأنْفُسُ وَتَلَذُّ
الأعْيُنُ ) " .
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، عن أبي أيوب الأزدي ،
عن عبد الله بن عمرو ، قال : " ما أحد من أهل الجنة إلا يسعى عليه ألف غلام ،
كلّ غلام على عمل ما عليه صاحبه " .
وقوله : ( وَأَكْوَابٍ ) وهي جمع كوب ، والكوب : الإبريق المستدير الرأس ، الذي لا
أذن له ولا خرطوم ، وإياه عنى الأعشى بقوله?
صَرِيفِيَّةٌ طَيِّبٌ طَعْمُهَا... لَهَا زَبَدٌ بَيْنَ كُوب وَدَنّ (1)
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد ، قال حدثنا أحمد ، قال : ثنا أسباط ، عن السديّ( وَأَكْوَابٍ ) قال :
الأكواب التي ليست لها آذان.
ومعنى الكلام : يطاف عليهم فيها بالطعام في صحاف من ذهب ، وبالشرب في أكواب من ذهب
، فاستغنى بذكر الصحاف والأكواب من ذكر الطعام والشراب ، الذي يكون فيها لمعرفة
السامعين بمعناه " وَفِيهَا مَا تَشْتَهِي (2) الأنْفُسُ وَتَلَذُّ الأعْيُنُ
" يقول تعالى ذكره :
__________
(1) البيت لأعشى بن قيس بني ثعلبة ( ديوانه طبع القاهرة ص 17) وصريفية ، منسوبة
إلى صريفون : موضع بالعراق مشهور بجودة خمره . وقيل نسبت إلى الصريف وهو اللبن
ساعة يحلب جعلها صريفية لأنها أخذت من الدن ساعتئذ أحضرت ، كأنها أخذت قبل أن تمزج
. والزبد . ما يعلوها عند تحريكها من الدن إلى الكوب من الفقاقيع . والكوب : الكوز
الذي لا عروة له . أو هو الكوز المستدير الرأس الذي لا أذن له .
(2) قراءة مشهورة متواترة بحذف الهاء .
(21/641)
لكم في الجنة ما تشتهي نفوسكم أيها
المؤمنون ، وتلذّ أعينكم( وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ) يقول : وأنتم فيها ماكثون
، لا تخرجون منها أبدا.
كما حدثنا بشر ، قال : ثنا عبد الرحمن ، قال : ثنا سفيان ، عن علقمة بن مرثد ، عن
ابن سابط أن رجلا قال : يا رسول الله إني أُحِبُّ الخَيْلَ ، فهل في الجنة خيل ؟
فقال : " إنْ يُدْخِلْكَ الجَنَّةَ إنْ شاءَ ، فَلا تَشاءُ أنْ تَرْكَبَ فَرَسًا
مِنْ يَاقُوتَةٍ حَمْرَاءَ تَطيرُ بِكَ فِي أيّ الجَنَّة شِئْتَ إلا فَعَلَتْ
" ، فقال أعرابيّ : يا رسول الله إني أحبّ الإبلَ ، فهل في الجنة إبل ؟ فقال
: " يا أعرابيّ إنْ يُدْخِلْكَ اللهُ الجَنَّةَ إنْ شاءَ اللهُ ، فَفِيها ما
اشْتَهَتْ نَفْسُكَ ، وَلَذَّتْ عَيْنَاك " .
حدثنا الحسن بن عرفة ، قال : ثنا عمر بن عبد الرحمن الأبار ، عن محمد بن سعد
الأنصاري ، عن أبي ظبية السلفي ، قال : إن السرب من أهل الجنة لتظلهم السحابة ،
قال : فتقول : ما أُمْطِرُكُمْ ؟ قال : فما يدعو داع من القوم بشيء إلا أمطرتهم ،
حتى إن القائل منهم ليقول : أمطرينا كواعب أترابا.
حدثنا ابن عرفة ، قال : ثنا مروان بن معاوية ، عن عليّ بن أبي الوليد ، قال : قيل
لمجاهد في الجنة سماع ؟ قال : إن فيها لشجرا يقال له العيص ، له سماع لم يسمع
السامعون إلى مثله.
حدثني موسى بن عبد الرحمن ، قال : ثنا زيد بن حباب ، قال : أخبرنا معاوية بن صالح
، قال : ثني سليمان بن عامر ، قال : سمعت أبا أمامة ، يقول : " إن الرجل من
أهل الجنة ليشتهي الطائر وهو يطير ، فيقع متفلقا نضيجا في كفه ، فيأكل منه حتى
تنتهي نفسه ، ثم يطير ، ويشتهي الشراب ، فيقع الإبريق في يده ، ويشرب منه ما يريد
، ثم يرجع إلى مكانه.
واختلفت القرّاء في قراءة قوله : ( وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأنْفُسُ ) فقرأته
عامة قرّاء المدينة والشام : ( مَا تَشْتَهِيهِ ) بزيادة هاء ، وكذلك ذلك في
مصاحفهم. وقرأ ذلك عامة قرّاء العراق " تَشْتَهِي " بغير هاء ، وكذلك هو
في مصاحفهم.
والصواب من القول في ذلك أنهما قراءتان مشهورتان بمعنى واحد ،
(21/642)
وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (72) لَكُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْهَا تَأْكُلُونَ (73)
فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا
كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (72) لَكُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْهَا تَأْكُلُونَ
(73) }
يقول تعالى ذكره : يقال لهم : وهذه الجنة التي أورثكموها الله عن أهل النار الذين
أدخلهم جهنم بما كنتم في الدنيا تعملون من الخيرات.
( لَكُمْ فِيهَا ) يقول : لكم في الجنة فاكهة كثيرة من كلّ نوع( مِنْهَا
تَأْكُلُونَ ) يقول : من الفاكهة تأكلون ما اشتهيتم.
(21/643)
إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ (74) لَا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (75) وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ (76)
القول في تأويل قوله تعالى : { إِنَّ
الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ (74) لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ
وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (75) وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ
الظَّالِمِينَ (76) }
يقول تعالى ذكره( إِنَّ الْمُجْرِمِينَ ) وهم الذين اجترموا في الدنيا الكفر بالله
، فاجترموا به في الآخرة( فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ ) يقول : هم فيه
ماكثون.
لا يفتر عنهم ، يقول : لا يخفف عنهم العذاب وأصل الفتور : الضعف( وَهُمْ فِيهِ
مُبْلِسُونَ ) يقول : وهم في عذاب جهنم مبلسون ، والهاء في فيه من ذكر العذاب.
ويذكر أن ذلك في قراءة عبد الله : " وَهُمْ فِيهَا مُبْلِسُونَ "
والمعنى : وهم في جهنم مبلسون ، والمبلس في هذا الموضع : هو الآيس من النجاة الذي
قد قنط فاستسلم للعذاب والبلاء.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
(21/643)
وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ (77) لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ (78)
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( وَهُمْ فِيهِ
مُبْلِسُونَ ) : أي مستسلمون.
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، قوله : ( وَهُمْ
فِيهِ مُبْلِسُونَ ) قال : آيسون.
وقال آخرون بما حدثنا محمد ، قال : ثنا أحمد ، قال : ثنا أسباط ، عن السديّ(
وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ ) متغير حالهم.
وقد بينَّا فيما مضى معنى الإبلاس بشواهده ، وذكر المختلفين فيه بما أغنى عن
إعادته في هذا الموضع.
وقوله : ( وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ ) يقول تعالى
ذكره : وما ظلمنا هؤلاء المجرمين بفعلنا بهم ما أخبرناكم أيها الناس أنا فعلنا بهم
من التعذيب بعذاب جهنم( وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ ) بعبادتهم في الدنيا
غير من كان عليهم عبادته ، وكفرهم بالله ، وجحودهم توحيده.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ
قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ (77) لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ
أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ (78) }
يقول تعالى ذكره : ونادى هؤلاء المجرمون بعد ما أدخلهم الله جهنم ، فنالهم فيها من
البلاء ما نالهم ، مالكا خازن جهنم( يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ ) قال
: ليمتنا ربك ، فيفرغ من إماتتنا ، فذكر أن مالكا لا يجيبهم في وقت قيلهم له ذلك ،
ويدعهم ألف عام بعد ذلك ، ثم يجيبهم ، فيقول لهم : ( إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ ).
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا عبد الرحمن ، قال : ثنا سفيان ، عن عطاء بن
(21/640)
السائب ، عن أبي الحسن ، عن ابن عباس(
وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ ) فأجابهم بعد ألف سنة(
إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ ).
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا جرير ، عن عطاء بن السائب ، عن رجل من جيرانه يقال له
الحسن ، عن نوف في قوله : ( وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ )
قال : يتركهم مئة سنة مما تعدون ، ثم يناديهم فيقول : يا أهل النار إنكم ماكثون.
حدثنا محمد بن بشار ، قال : ثنا ابن أبي عدي ، عن سعيد ، عن قتادة ، عن عبد الله
بن عمرو ، قال : ( وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ ) قال :
فخلى عنهم أربعين عاما لا يجيبهم ، ثم أجابهم : ( إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ ) : قالوا(
رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ ) فخلى عنهم
مثلي الدنيا ، ثم أجابهم : ( اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ ) قال : فوالله
ما نبس القوم بعد الكلمة ، إن كان إلا الزفيرُ والشهيق.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، عن أبي أيوب الأزدي ،
عن عبد الله بن عمرو ، قال : إن أهل جهنم يدعون مالكا أربعين عاما فلا يجيبهم ، ثم
يقول : ( إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ ) ، ثم ينادون ربهم( رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا
فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ ) فيدعهم أو يخلي عنهم مثل الدنيا ، ثم يردّ
عليهم( اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ ) قال : فما نبس القوم بعد ذلك بكلمة
إن كان إلا الزفير والشهيق في نار جهنم.
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا حكام ، عن عمرو ، عن عطاء ، عن الحسن ، عن نوف(
وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ ) قال : يتركهم مئة سنة مما
تعدّون ، ثم ناداهم فاستجابوا له ، فقال : إنكم ماكثون.
حدثنا محمد ، قال : ثنا أحمد ، قال : ثنا أسباط عن السديّ ، في قوله : (
وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ ) قال : مالك خازن النار ، قال
: فمكثوا ألف سنة مما تعدون ، قال : فأجابهم بعد ألف عام : إنكم ماكثون.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قول الله تعالى ذكره
: ( وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ ) قال : يميتنا ، القضاء
ههنا
(21/645)
أَمْ أَبْرَمُوا أَمْرًا فَإِنَّا مُبْرِمُونَ (79) أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ (80)
الموت ، فأجابهم( إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ
).
وقوله : ( لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ ) يقول : لقد أرسلنا إليكم يا معشر قريش
رسولنا محمدا بالحق.
كما حدثني محمد ، قال : ثنا أحمد ، قال : ثنا أسباط ، عن السديّ ، ( لَقَدْ
جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ ) ، قال : الذي جاء به محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ
وَسَلَّم( وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ ) يقول تعالى ذكره : ولكن
أكثرهم لما جاء به محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم من الحق كارهون.
القول في تأويل قوله تعالى : { أَمْ أَبْرَمُوا أَمْرًا فَإِنَّا مُبْرِمُونَ (79)
أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا
لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ (80) }
يقول تعالى ذكره : أم أبرم هؤلاء المشركون من قريش أمرا فأحكموه ، يكيدون به الحقّ
الذي جئناهم به ، فإنا محكمون لهم ما يخزيهم ، ويذلهم من النكال.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث ، قال :
ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : ( أَمْ
أَبْرَمُوا أَمْرًا فَإِنَّا مُبْرِمُونَ ) قال : مجمعون : إن كادوا شرّا كدنا
مثله.
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، في قوله : (
أَمْ أَبْرَمُوا أَمْرًا فَإِنَّا مُبْرِمُونَ ) قال : أم أجمعوا أمرا فإنا
مجمعون.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله :
(21/646)
( أَمْ أَبْرَمُوا أَمْرًا فَإِنَّا
مُبْرِمُونَ ) قال : أم أحكموا أمرا فإنا محكمون لأمرنا.
وقوله : ( أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ ) يقول :
أم يظنّ هؤلاء المشركون بالله أنا لا نسمع ما أخفوا عن الناس من منطقهم ، وتشاوروا
بينهم وتناجوا به دون غيرهم ، فلا نعاقبهم عليه لخفائه علينا.
وقوله : ( بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ ) يقول تعالى ذكره : بل نحن
نعلم ما تناجوا به بينهم ، وأخفوه عن الناس من سرّ كلامهم ، وحفظتنا لديهم ، يعني
عندهم يكتبون ما نطقوا به من منطق ، وتكلموا به من كلامهم.
وذكر أن هذه الآية نزلت في نفر ثلاثة تدارءوا في سماع الله تبارك وتعالى كلام
عباده.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني عمرو بن سعيد بن يسار القرشيّ ، قال : ثنا أبو قتيبة ، قال : ثنا عاصم بن
محمد العمريّ ، عن محمد بن كعب القرظي ، قال : بينا ثلاثة بين الكعبة وأستارها ،
قرشيان وثقفي ، أو ثقفيان وقرشيّ ، فقال واحد من الثلاثة : أترون الله يسمع كلامنا
؟ فقال الأول : إذا جهرتم سمع ، وإذا أسررتم لم يسمع ، قال الثاني : إن كان يسمع
إذا أعلنتم ، فإنه يسمع إذا أسررتم ، قال : فنزلت( أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا
نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ ).
وبنحو الذي قلنا في معنى قوله : ( بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ ) قال
أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد ، قال : ثنا أحمد ، قال : ثنا أسباط ، عن السديّ( بَلَى وَرُسُلُنَا
لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ ) قال : الحفَظة.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد. عن قتادة( بَلَى وَرُسُلُنَا
لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ ) : أي عندهم.
(21/647)
قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ (81) سُبْحَانَ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (82)
القول في تأويل قوله تعالى : { قُلْ
إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ (81) سُبْحَانَ
رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (82) }
اختلف أهل التأويل في تأويل قوله : ( قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا
أَوَّلُ الْعَابِدِينَ ) فقال بعضهم : في معنى ذلك : قل يا محمد إن كان للرحمن ولد
في قولكم وزعمكم أيها المشركون ، فأنا أوّل المؤمنين بالله في تكذيبكم ، والجاحدين
ما قلتم من أن له ولدا.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث ، قال :
ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد( قُلْ إِنْ كَانَ
لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ ) كما تقولون( فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ ) المؤمنين
بالله ، فقولوا ما شئتم.
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد
، في قوله : ( فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ ) قال : قل إن كان لله ولد في قولكم
، فأنا أول من عبد الله ووحده وكذّبكم.
وقال آخرون : بل معنى ذلك : قل ما كان للرحمن ولد ، فأنا أول العابدين له بذلك.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : ثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ،
قوله : ( قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ )
يقول : لم يكن للرحمن ولد فأنا أول الشاهدين.
وقال آخرون : بل معنى ذلك نفي ، ومعنى إن الجحد ، وتأويل ذلك ما كان ذلك ، ولا
ينبغي أن يكون.
(21/648)
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : ( قُلْ إِنْ
كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ ) قال قتادة : وهذه كلمة
من كلام العرب( إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ ) : أي إن ذلك لم يكن ، ولا ينبغي.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : ( قُلْ إِنْ
كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ ) قال : هذا الإنكاف (1)
ما كان للرحمن ولد ، نكف الله أن يكون له ولد ، وإن مثل " ما " إنما هي
: ما كان للرحمن ولد ، ليس للرحمن ولد ، مثل قوله : ( وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ
لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ ) إنما هي : ما كان مكرهم لتزول منه الجبال ، فالذي
أنزل الله من كتابه وقضاه من قضائه أثبت من الجبال ، و " إن " هي "
ما " إن كان ما كان تقول العرب : إن كان ، وما كان الذي تقول. وفي قوله : (
فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ ) أول من يعبد الله بالإيمان والتصديق أنه ليس
للرحمن ولد على هذا أعبد الله.
حدثني ابن عبد الرحيم البرقي ، قال : ثنا عمرو بن أبي سلمة ، قال : سألت ابن محمد
، عن قول الله : ( إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ ) قال : ما كان.
حدثني ابن عبد الرحيم البرقي ، قال : ثنا عمرو ، قال : سألت زيد بن أسلم ، عن قول
الله : ( قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ ) قال : هذا قول العرب معروف ، إن
كان : ما كان ، إن كان هذا الأمر قط ، ثم قال : وقوله : وإن كان : ما كان.
وقال آخرون : معنى " إن " في هذا الموضع معنى المجازاة ، قالوا : وتأويل
الكلام : لو كان للرحمن ولد ، كنت أوّل من عبده بذلك.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد ، قال : ثنا أحمد ، قال : ثنا أسباط ، عن السديّ( قُلْ إِنْ كَانَ
__________
(1) في النهاية لابن الأثير : إنكاف الله من سوء : أي تنزيهه وتقديسه . وأنكفته :
نزهته .
(21/649)
لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ
الْعَابِدِينَ ) قال : لو كان له ولد كنت أول من عبده بأن له ولدا ، ولكن لا ولد
له.
وقال آخرون : معنى ذلك : قل إن كان للرحمن ولد ، فأنا أوّل الآنفين ذلك ، ووجهوا
معنى العابدين إلى المنكرين الآبين ، من قول العرب : قد عبِد فلان من هذا الأمر
إذا أنف منه وغضب وأباه ، فهو يعبد عبدا ، كما قال الشاعر?
ألا هَوِيَتْ أُمُّ الوَلِيدِ وأصْبَحَتْ... لِمَا أبْصَرَتْ فِي الرأس مِنِّي
تَعَبَّدُ (1)
وكما قال الآخر?
مَتى ما يَشأْ ذُو الودّ يَصْرِمْ خَلِيلَهُ... وَيَعْبَدْ عَلَيْهْ لا محَالَةَ
ظالِمَا (2)
وقد حدثني يونس بن عبد الأعلى ، قال : أخبرنا ابن وهب ، ثني قال : ابن أبي ذئب ،
عن أبي قسيط ، عن بعجة بن زيد الجهني ، أن امرأة منهم دخلت على زوجها ، وهو رجل
منهم أيضا ، فولدت له في ستة أشهر ، فذكر ذلك لعثمان بن عفان رضي الله عنه فأمر
بها أن تُرجم ، فدخل عليه عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه فقال : إن الله تبارك
وتعالى يقول في كتابه : ( وَحَمْلُهُ
__________
(1) هذا شاهد لم أقف على قائله . استشهد به المؤلف عند قوله تعالى : ( فأنا أول
العابدين ) . قال أبو عبيدة في تفسير الآية ( مجاز القرآن الورقة 221 ) : مجازها
إن كان للرحمن ولد : إن في موضع ( ما ) في قول بعضهم : ما كان للرحمن ولد . والفاء
: مجازها مجاز الواو . يريد : ما كان وأنا أول العابدين . وقال آخرون : مجازها :
إن كان في قولكم للرحمن ولد ، فأنا أول العابدين : أي الكافرين بذاك ، والجاحدين
لما قلتم . وهو من عبدت تعبد . ا هـ . أي من باب علم يعلم . بمعنى أنف أو غضب أو
كره الشيء . وتعبد في البيت : بمعنى تأنف أو تغضب ، وهو كعبد بمعنى أنف وغضب قال
في ( اللسان : عبد ) : وتعبد : كعبد .
(2) وهذا الشاهد أيضا لم أقف على قائله ، وهو بمعنى الشاهد الذي قبله ، استشهد به
المؤلف على الآية نفسها ، يريد أن قول الشاعر : يعبد عليه هو مضارع عبد عليه كعلم
: إذا غضب عليه . وفي ( اللسان : عبد ) والعبد ( كسبب) طول الغضب . قال الفراء :
عبد عليه ، وأحن عليه ، أي غضب . وقال الغنوي : العبد : الحزن والوجد . قال
الفرزدق . أولَئِكَ قَوْمِي إنْ هَجَوْتِي هَجَوْتُهُم ... وَأَعْبَدُ أنْ أهْجُو
كُلَيْبا بِدَارِمِ
أعبد : أي آنف . ا هـ .
(21/650)
وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا ) وقال
: ( وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ ) قال : فوالله ما عبِد عثمان أن بعث إليها تردّ.
قال يونس ، قال ابن وهب : عبد : استنكف.
وأولى الأقوال في ذلك عندي بالصواب قول من قال : معنى : ( إنْ ) الشرط الذي يقتضي
الجزاء على ما ذكرناه عن السديّ ، وذلك أن " إن " لا تعدو في هذا الموضع
أحد معنيين : إما أن يكون الحرف الذي هو بمعنى الشرط الذي يطلب الجزاء ، أو تكون
بمعنى الجحد ، وهب إذا وجهت إلى الجحد لم يكن للكلام كبير معنى ، لأنه يصير بمعنى
: قل ما كان للرحمن ولد ، وإذا صار بذلك المعنى أوهم أهل الجهل من أهل الشرك بالله
أنه إنما نفى بذلك عن الله عزّ وجلّ أن يكون له ولد قبل بعض الأوقات ، ثم أحدث له
الولد بعد أن لم يكن ، مع أنه لو كان ذلك معناه لقدر الذين أمر الله نبيَّهُ محمدا
صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم أن يقول لهم : ما كان للرحمن ولد ، فأنا أول العابدين
أن يقولوا له صدقت ، وهو كما قلت ، ونحن لم نزعم أنه لم يزل له ولد. وإنما قلنا :
لم يكن له ولد ، ثم خلق الجنّ فصاهرهم ، فحدث له منهم ولد ، كما أخبر الله عنهم
أنهم كانوا يقولونه ، ولم يكن الله تعالى ذكره ليحتجّ لنبيه صَلَّى الله عَلَيْهِ
وَسَلَّم وعلى مكذبيه من الحجة بما يقدرون على الطعن فيه ، وإذ كان في توجيهنا
" إن " إلى معنى الجحد ما ذكرنا ، فالذي هو أشبه المعنيين بها الشرط.
وإذ كان ذلك كذلك ، فبينة صحة ما نقول من أن معنى الكلام : قل يا محمد لمشركي قومك
الزاعمين أن الملائكة بنات الله : إن كان للرحمن ولد فأنا أول عابديه بذلك منكم ،
ولكنه لا ولد له ، فأنا أعبده بأنه لا ولد له ، ولا ينبغي أن يكون له.
وإذا وجه الكلام إلى ما قلنا من هذا الوجه لم يكن على وجه الشكّ ، ولكن على وجه
الإلطاف من الكلام وحسن الخطاب ، كما قال جلّ ثناؤه( قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ
إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ ).
وقد علم أن الحقّ معه ، وأن مخالفيه في الضلال المبين.
وقوله : ( سُبْحَانَ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ ) يقول تعالى ذكره تبرئة
وتنزيها
(21/651)
فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (83) وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (84)
لمالك السموات والأرض ومالك العرش
المحيط بذلك كله ، وما في ذلك من خلق مما يصفه به هؤلاء المشركون من الكذب ،
ويضيفون إليه من الولد وغير ذلك من الأشياء التي لا ينبغي أن تضاف إليه.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : ( رَبِّ
الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ ) : أي يكذّبون.
القول في تأويل قوله تعالى : { فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا
يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (83) وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي
الأرْضِ إِلَهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (84) }
يقول تعالى ذكره : فذر يا محمد هؤلاء المفترين على الله ، الواصفة بأن له ولدا
يخوضوا في باطلهم ، ويلعبوا في دنياهم( حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي
يُوعَدُونَ ) وذلك يوم يصليهم الله بفريتهم عليه جهنم ، وهو يوم القيامة.
كما حدثنا محمد ، قال : ثنا أحمد ، قال : ثنا أسباط ، عن السديّ( حَتَّى يُلاقُوا
يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ ) قال : يوم القيامة.
وقوله : ( وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الأرْضِ إِلَهٌ ) يقول
تعالى ذكره : والله الذي له الألوهة في السماء معبود ، وفي الأرض معبود كما هو في
السماء معبود ، لا شيء سواه تصلح عبادته; يقول تعالى ذكره : فأفردوا لمن هذه صفته
العبادة ، ولا تشركوا به شيئا غيره.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
(21/652)
وَتَبَارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (85) وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (86)
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، في قوله : (
وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الأرْضِ إِلَهٌ ) قال : يُعبد في
السماء ، ويُعبد في الأرض.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، في قوله : ( وَهُوَ
الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الأرْضِ إِلَهٌ ) أي يُعبد في السماء وفي
الأرض.
وقوله : ( وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ ) يقول : وهو الحكيم في تدبير خلقه ،
وتسخيرهم لما يشاء ، العليم بمصالحهم.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَتَبَارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ
وَالأرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ
(85) }
يقول تعالى ذكره ، وتبارك الذي له سلطان السموات السبع والأرض ، وما بينهما من الأشياء
كلها ، جار على جميع ذلك حكمه ، ماض فيهم قضاؤه. يقول : فكيف يكون له شريكا من كان
في سلطانه وحكمه فيه نافذ.( وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ ) يقول : وعنده علم
الساعة التي تقوم فيها القيامة ، ويُحشر فيها الخلق من قبورهم لموقف الحساب.
قوله : ( وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ) يقول : وإليه أيها الناس تردّون من بعد مماتكم
، فتصيرون إليه ، فيجازي المحسن بإحسانه ، والمسيء بإساءته.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ
الشَّفَاعَةَ إِلا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (86) }
(21/653)
اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك ، فقال
بعضهم : معنى ذلك : ولا يملك عيسى وعُزير والملائكة الذين يعبدهم هؤلاء المشركون
بالساعة ، الشفاعة عند الله لأحد ، إلا من شهد بالحقّ ، فوحد الله وأطاعه ، بتوحيد
علم منه وصحة بما جاءت به رسله.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث ، قال :
ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : ( وَلا
يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ ) قال : عيسى ، وعُزير ،
والملائكة.
قوله : ( إِلا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ ) قال : كلمة الإخلاص ، وهم يعلمون أن الله
حقّ ، وعيسى وعُزير والملائكة يقول : لا يشفع عيسى وعُزير والملائكة إلا من شهد
بالحقّ ، وهو يعلم الحقّ.
وقال آخرون : عني بذلك : ولا تملك الآلهة التي يدعوها المشركون ويعبدونها من دون
الله الشفاعة إلا عيسى وعُزير وذووهما ، والملائكة الذين شهدوا بالحقّ ، فأقروا به
وهم يعلمون حقيقة ما شهدوا به.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ
يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ
يَعْلَمُونَ ) : الملائكة وعيسى وعُزير ، قد عُبِدوا من دون الله ولهم شفاعة عند
الله ومنزلة.
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة( إِلا مَنْ شَهِدَ
بِالْحَقِّ ) قال : الملائكة وعيسى ابن مريم وعُزير ، فإن لهم عند الله شهادة.
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال : إن الله تعالى ذكره أخبر أنه لا يملك
الذين يعبدهم المشركون من دون الله الشفاعة عنده لأحد ، إلا من شهد
(21/654)
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (87) وَقِيلِهِ يَا رَبِّ إِنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ لَا يُؤْمِنُونَ (88)
بالحقّ ، وشهادته بالحقّ : هو إقراره
بتوحيد الله ، يعني بذلك : إلا من آمن بالله ، وهم يعلمون حقيقة توحيده ، ولم يخصص
بأن الذي لا يملك ملك الشفاعة منهم بعض من كان يعبد من دون الله ، فذلك على جميع
من كان تعبد قريش من دون الله يوم نزلت هذه الآية وغيرهم ، وقد كان فيهم من يعبد
من دون الله الآلهة ، وكان فيهم من يعبد من دونه الملائكة وغيرهم ، فجميع أولئك
داخلون في قوله : ولا يملك الذين يدعو قريش وسائر العرب من دون الله الشفاعة عند
الله. ثم استثنى جلّ ثناؤه بقوله : ( إِلا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ
يَعْلَمُونَ ) وهم الذين يشهدون شهادة الحقّ فيوحدون الله ، ويخلصون له الوحدانية
، على علم منهم ويقين بذلك ، أنهم يملكون الشفاعة عنده بإذنه لهم بها ، كما قال
جلّ ثناؤه : ( وَلا يَشْفَعُونَ إِلا لِمَنِ ارْتَضَى ) فأثبت جلّ ثناؤه للملائكة
وعيسى وعُزير ملكهم من الشفاعة ما نفاه عن الآلهة والأوثان باستثنائه الذي
استثناه.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ
لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (87) وَقِيلِهِ يَا رَبِّ إِنَّ هَؤُلاءِ
قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ (88) }
يقول تعالى ذكره : ولئن سألت يا محمد هؤلاء المشركين بالله من قومك : من خلقهم ؟
ليقولنّ : الله خلقنا.
( فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ ) فأي وجه يصرفون عن عبادة الذي خلقهم ، ويحرمون إصابة
الحقّ في عبادته.
وقوله : ( وَقِيلِهِ يَا رَبِّ إِنَّ هَؤُلاءِ قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ ) اختلفت
القرّاء في قراءة قوله :
( وَقِيلِهِ ) فقرأته عامة قرّاء المدينة ومكة والبصرة " وَقِيلَهُ "
بالنصب. وإذا قرئ كذلك ذلك ، كان له وجهان في التأويل : أحدهما العطف على قوله : (
أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ ) ونسمع قيله يا رب.
والثاني : أن يضمر له ناصب ، فيكون معناه حينئذ : وقال قوله : ( يَا رَبِّ إِنَّ
هَؤُلاءِ قَوْمٌ لا
(21/655)
فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلَامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (89)
يُؤْمِنُونَ ) وشكا محمد شكواه إلى
ربه. وقرأته عامة قرّاء الكوفة( وقِيلِهِ ) بالخفض على معنى : وعنده علم الساعة ،
وعلم قيله.
والصواب من القول في ذلك أنهما قراءتان مشهورتان في قراءة الأمصار صحيحتا المعنى
فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب. فتأويل الكلام إذن : وقال محمد قيله شاكيا إلى ربه
تبارك وتعالى قومه الذين كذّبوه ، وما يلقى منهم : يا ربّ إن هؤلاء الذين أمرتني
بإنذارهم وأرسلتني إليهم لدعائهم إليك ، قوم لا يؤمنون.
كما حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث ،
قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله
: ( وَقِيلِهِ يَارَبِّ إِنَّ هَؤُلاءِ قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ ) قال : فأبرّ الله
عزّ وجلّ قول محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : ( وَقِيلِهِ
يَارَبِّ إِنَّ هَؤُلاءِ قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ ) قال : هذا قول نبيكم عليه الصلاة
والسلام يشكو قومه إلى ربه.
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة( وَقِيلِهِ
يَارَبِّ ) قال : هو قول النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم( إِنَّ هَؤُلاءِ
قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ ).
القول في تأويل قوله تعالى : { فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلامٌ فَسَوْفَ
يَعْلَمُونَ (89) }
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم ، جوابا له عن دعائه
إياه إذ قال : " يا ربّ إن هؤلاء قوم لا يؤمنون " ( فَاصْفَحْ عَنْهُمْ
) يا محمد ، وأعرض عن أذاهم( وَقُلْ ) لهم( سَلام ) عليكم ورفع سلام بضمير عليكم
أو لكم.
واختلف القرّاء في قراءة قوله : ( فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ ) فقرأ ذلك عامة قرّاء
(21/656)
المدينة " فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ
" بالتاء على وجه الخطاب ، بمعنى : أمر الله عزّ وجلّ نبيه صَلَّى الله
عَلَيْهِ وَسَلَّم أن يقول ذلك للمشركين ، مع قوله : ( سَلام ) وقرأته عامة قرّاء
الكوفة وبعض قرّاء مكة( فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ ) بالياء على وجه الخبر ، وأنه وعيد
من الله للمشركين ، فتأويله على هذه القراءة : ( فَاصْفَحْ عَنْهُمْ ) يا محمد(
وَقُلْ سَلام ). ثم ابتدأ تعالى ذكره الوعيد لهم ، فقال( فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ )
ما يلقون من البلاء والنكال والعذاب على كفرهم ، ثم نسخ الله جلّ ثناؤه هذه الآية
، وأمر نبيَّه صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم بقتالهم.
كما حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة(
فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلامٌ ) قال : اصفح عنهم ، ثم أمره بقتالهم.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قال الله تبارك وتعالى
يعزّي نبيه صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم( فاصفح عنهم وقل سلام فسوف يعلمون ).
آخر تفسير سورة الزخرف
(21/657)
حم (1) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ (3) فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (4) أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (5) رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (6)
سورة الدخان
القول في تأويل قوله تعالى : { حم (1) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا
أَنزلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ (3) فِيهَا
يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (4) أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا
مُرْسِلِينَ (5) رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (6) }
قد تقدم بياننا في معنى قوله(حم وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ ) وقوله(إِنَّا
أَنزلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ) أقسم جلّ ثناؤه بهذا الكتاب ، أنه أنزله في
ليلة مباركة.
واختلف أهل التأويل في تلك الليلة ، أيّ ليلة من ليالي السنة هي ؟ فقال بعضهم : هي
ليلة القدر.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة(إِنَّا أَنزلْنَاهُ فِي
لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ) : ليلة القدر ، ونزلت صحف إبراهيم في أوّل ليلة من رمضان ،
ونزلت التوراة لستّ ليال مضت من رمضان ، ونزل الزَّبور لستّ عشرة مضت من رمضان ،
ونزل الإنجيل لثمان عشرة مضت من رمضان ، ونزل الفُرقَان لأربع وعشرين مضت من
رمضان.
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، في قوله(فِي
لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ) قال : هي ليلة القدر.
(22/7)
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ،
قال : قال ابن زيد ، في قوله عزّ وجلّ(إِنَّا أَنزلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ
مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ) قال : تلك الليلة ليلة القدر ، أنزل الله
هذا القرآن من أمّ الكتاب في ليلة القدر ، ثم أنزله على الأنبياء (1) في الليالي
والأيام ، وفي غير ليلة القدر.
وقال آخرون : بل هي ليلة النصف من شعبان.
والصواب من القول في ذلك قول من قال : عنى بها ليلة القدر ، لأن الله جلّ ثناؤه
أخبر أن ذلك كذلك لقوله تعالى( إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ ) خلَقْنا بهذا الكتاب
الذي أنزلناه في الليلة المباركة عقوبتنا أن تحلّ بمن كفر منهم ، فلم ينب إلى
توحيدنا ، وإفراد الألوهة لنا.
وقوله( فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ ) اختلف أهل التأويل في هذه الليلة
التي يُفرق فيها كلّ أمر حكيم ، نحو اختلافهم في الليلة المباركة ، وذلك أن الهاء
التي في قوله(فِيهَا) عائدة على الليلة المباركة ، فقال بعضهم : هي ليلة القدر ،
يقضي فيها أمر السنة كلها من يموت ، ومن يولد ، ومن يعزّ ، ومن يذل ، وسائر أمور
السنة.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا مجاهد بن موسى ، قال : ثنا يزيد ، قال : أخبرنا ربيعة بن كلثوم ، قال : كنت
عند الحسن ، فقال له رجل : يا أبا سعيد ، ليلة القدر في كلّ رمضان ؟ قال : إي
والله ، إنها لفي كلّ رمضان ، وإنها الليلة التي يُفرق فيها كل أمر حكيم ، فيها
يقضي الله كلّ أجل وأمل ورزق إلى مثلها.
حدثني يعقوب ، قال : ثنا ابن علية ، قال : ثنا ربيعة بن كلثوم ، قال : قال رجل للحسن
وأنا أسمع : أرأيت ليلة القدر ، أفي كل رمضان هي ؟ قال :
__________
(1) في فتح القدير للشوكاني (4 : 554) : " وقال قتادة : أنزل القرآن كله في
ليلة القدر من أم الكتاب ، وهو اللوح المحفوظ ، إلى بيت العزة في سماء الدنيا ، ثم
أنزله الله على نبيه صلى الله عليه وسلم في الليالي والأيام ، في ثلاث وعشرين سنة
" .
(22/8)
نعم والله الذي لا إله إلا هو ، إنها
لفي كل رمضان ، وإنها الليلة التي يُفرق فيها كل أمر حكيم ، يقضي الله كلّ أجل
وخلق ورزق إلى مثلها.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال عبد الحميد بن سالم ، عن عمر مولى
غفرة ، قال : يقال : ينسخ لملك الموت من يموت ليلة القدر إلى مثلها ، وذلك لأن
الله عزّ وجلّ يقول : ( إِنَّا أَنزلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ ) وقال(
فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ ) قال : فتجد الرجل ينكح النساء ، ويغرس
الغرس واسمه في الأموات.
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا عبد الرحمن ، قال : ثنا سفيان ، عن سلمة ، عن أبي مالك
، في قوله : ( فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ ) قال : أمر السنة إلى السنة
ما كان من خلق أو رزق أو أجل أو مصيبة ، أو نحو هذا.
قال : ثنا سفيان ، عن حبيب ، عن هلال بن يساف ، قال : كان يقال : انتظروا القضاء
في شهر رمضان.
حدثنا الفضل بن الصباح ، قال : ثنا محمد بن فضيل ، عن حصين ، عن سعيد بن عبيدة عن
أبي عبد الرحمن في قوله( فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ ) قال : يدبر أمر
السنة في ليلة القدر.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث ، قال :
ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله( فِيهَا
يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ ) قال : في ليلة القدر كل أمر يكون في السنة إلى
السنة : الحياة والموت ، يقدر فيها المعايش والمصائب كلها.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( إِنَّا أَنزلْنَاهُ فِي
لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ ) ليلة القدر( فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ )
كُنَّا نُحدَّثُ أنه يُفْرق فيها أمر السنة إلى السنة.
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، قال : هي ليلة
القدر فيها يُقضى ما يكون من السنة إلى السنة.
(22/9)
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا جرير ، عن
منصور ، قال : سألت مجاهدا فقلت : أرأيت دعاء أحدنا يقول : اللهمّ إن كان اسمي في
السعداء ، فأثبته فيهم ، وإن كان في الأشقياء فامحه منهم ، واجعله بالسعداء ، فقال
: حسن ، ثم لقيته بعد ذلك بحول أو أكثر من ذلك ، فسألته عن هذا الدعاء ، قال : (
إِنَّا أَنزلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ فِيهَا
يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ ) قال : يقضى في ليلة القدر ما يكون في السنة من
رزق أو مصيبة ، ثم يقدّم ما يشاء ، ويؤخر ما يشاء فأما كتاب السعادة والشقاء فهو
ثابت لا يغير.
وقال آخرون : بل هي ليلة النصف من شعبان.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا الفضل بن الصباح ، والحسن بن عرفة ، قالا ثنا الحسن بن إسماعيل البجلي ، عن
محمد بن سوقة ، عن عكرمة في قول الله تبارك وتعالى( فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ
حَكِيمٍ ) قال : في ليلة النصف من شعبان ، يبرم فيه أمر السنة ، وتنسخ الأحياء من
الأموات ، ويكتب الحاج فلا يزاد فيهم أحد ، ولا ينقص منهم أحد.
حدثني عبيد بن آدم بن أبي إياس ، قال : ثنا أبي ، قال : ثنا الليث ، عن عقيل بن
خالد ، عن ابن شهاب ، عن عثمان بن محمد بن المُغيرة بن الأخنس ، قال : قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم : " تُقْطَعُ الآجالُ مِنْ شَعْبان إلى شَعْبانَ حتى
إن الرَّجُلَ لَيَنْكِحُ وَيُولَدُ لَهْ وَقَدْ خَرَجَ اسمُهُ فِي المَوْتَى
" .
حدثني محمد بن معمر ، قال : ثنا أبو هشام ، قال : ثنا عبد الواحد ، قال : ثنا
عثمان بن حكيم ، قال : ثنا سعيد بن جبير ، قال : قال ابن عباس : إن الرجل ليمشي في
الناس وقد رُفع في الأموات ، قال : ثم قرأ هذه الآية( إِنَّا أَنزلْنَاهُ فِي
لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ
حَكِيمٍ ) قال : ثم قال : يفرق فيها أمر الدنيا من السنة إلى السنة.
وأولى القولين في ذلك بالصواب قول من قال : ذلك ليلة القدر لما قد
(22/10)
رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (7)
تقدّم من بياننا عن أن المعني بقوله(
إِنَّا أَنزلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ ) ليلة القدر ، والهاء في
قوله(فِيهَا) من ذكر الليلة المباركة.
وعنى بقوله( فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ ) في هذه الليلة المباركة
يُقْضَى ويُفْصَل كلّ أمر أحكمه الله تعالى في تلك السنة إلى مثلها من السنة
الأخرى ، ووضع حكيم موضع محكم ، كما قال : ( الم تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ
الْحَكِيمِ ) يعني : المحكم.
وقوله( أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ ) يقول تعالى ذكره : في
هذه الليلة المباركة يُفْرق كلّ أمر حكيم ، أمرا من عندنا.
واختلف أهل العربية في وجه نصب قوله(أمْرًا) فقال بعض نحويي (1) الكوفة : نصب على
(2) إنا أنزلناه أمرا ورحمة على الحال. وقال بعض نحويي (3) البصرة : نصب على معنى
يفرق كل أمر فرقا وأمرا. قال : وكذلك قوله( رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ ) قال : ويجوز
أن تنصب الرحمة بوقوع مرسلين عليها ، فجعل الرحمة للنبيّ صلى الله عليه وسلم.
وقوله( إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ ) يقول تعالى ذكره : إنا كنا مرسلي رسولنا محمد
صلى الله عليه وسلم إلى عبادنا رحمة من ربك يا محمد( إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ
الْعَلِيمُ ) يقول : إن الله تبارك وتعالى هو السميع لما يقول هؤلاء المشركون فيما
أنزلنا من كتابنا ، وأرسلنا من رسلنا إليهم ، وغير ذلك من منطقهم ومنطق غيرهم ،
العليم بما تنطوي عليه ضمائرهم ، وغير ذلك من أمورهم وأمور غيرهم.
القول في تأويل قوله تعالى : { رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا
إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (7) لا إِلَهَ إِلا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ
__________
(1) في الأصل بدون نقطتين.
(2) كذا في الأصل. ولعل لفظة " على " زيادة من الناسخ.
(3) في الأصل بدون نقطتين.
(22/11)
لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آَبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (8) بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ (9)
رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ
الأوَّلِينَ (8) بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ (9) }
اختلف القرّاء في قراءة قوله( رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ ) فقرأته عامة قرّاء
المدينة والبصرة " رَبُّ السَّمَوَاتِ " بالرفع على إتباع إعراب الربّ
إعراب السميع العليم. وقرأته عامة قرّاء الكوفة وبعض المكيين " ربَّ
السمَوَاتِ " خفضا ردّ على الرب في قوله جلّ جلاله( رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ ).
والصواب من القول في ذلك أنهما قراءتان معروفتان صحيحتا المعنى ، فبأيتهما قرأ
القارئ فمصيب.
ويعني بقوله( رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا ) يقول تعالى ذكره
الذي أنزل هذا الكتاب يا محمد عليك ، وأرسلك إلى هؤلاء المشركين رحمة من ربك ،
مالك السموات السبع والأرض وما بينهما من الأشياء كلها.
وقوله( إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ ) يقول : إن كنتم توقنون بحقيقة ما أخبرتكم من أن
ربكم ربّ السموات والأرض ، فإن الذي أخبرتكم أن الله هو الذي هذه الصفات صفاته ،
وأن هذا القرآن تنزيله ، ومحمدا صلى الله عليه وسلم رسوله حق يقين ، فأيقنوا به
كما أيقنتم بما توقنون من حقائق الأشياء غيره.
وقوله( لا إِلَهَ إِلا هُوَ ) يقول : لا معبود لكم أيها الناس غير ربّ السموات
والأرض وما بينهما ، فلا تعبدوا غيره ، فإنه لا تصلح العبادة لغيره ، ولا تنبغي
لشيء سواه ، يحيي ويميت ، يقول : هو الذي يحيي ما يشاء ، ويميت ما يشاء مما كان
حيا.
وقوله( رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الأوَّلِينَ ) يقول : هو مالككم ومالك من مضى
قبلكم من آبائكم الأوّلين ، يقول : فهذا الذي هذه صفته ، هو الربّ فاعبدوه دون
آلهتكم التي لا تقدر على ضرّ ولا نفع.
وقوله( بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ ) يقول تعالى ذكره ما هم بموقنين بحقيقة
ما يقال لهم ويخبرون من هذه الأخبار ، يعني بذلك مشركي قريش ، ولكنهم
(22/12)
فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ (10) يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ (11) رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ (12)
في شكّ منه ، فهم يلهون بشكهم في الذي
يخبرون به من ذلك.
القول في تأويل قوله تعالى : { فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ
مُبِينٍ (10) يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ (11) رَبَّنَا اكْشِفْ
عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ (12) }
يعني تعالى ذكره بقوله( فَارْتَقِبْ ) فانتظر يا محمد بهؤلاء المشركين من قومك
الذين هم في شكّ يلعبون ، وإنما هو افتعل ، من رقبته : إذا انتظرته وحرسته.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال ثنا سعيد ، عن قتادة( فَارْتَقِبْ ) : أي
فانتظر.
وقوله( يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ ) اختلف أهل التأويل في هذا
الذي أمر الله عزّ وجلّ نبيه صلى الله عليه وسلم أن يرتقبه ، وأخبره أن السماء
تأتي فيه بدخان مبين : أي يوم هو ، ومتى هو ؟ وفي معنى الدخان الذي ذُكر في هذا الموضع
، فقال بعضهم : ذلك حين دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم على قريش ربه تبارك
وتعالى أن يأخذهم بسنين كسني يوسف ، فأخذوا بالمجاعة ، قالوا : وعنى بالدخان ما
كان يصيبهم حينئذ في أبصارهم من شدّة الجوع من الظلمة كهيئة الدخان.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني عيسى بن عثمان بن عيسى الرملي ، قال : ثنا يحيى بن عيسى ، عن الأعمش ، عن
مسلم ، عن مسروق ، قال : دخلنا المسجد ، فإذا رجل يقص على أصحابه. ويقول : (
يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ ) تدرون ما ذلك
(22/13)
الدخان ؟ ذلك دخان يأتي يوم القيامة ،
فيأخذ أسماع المنافقين وأبصارهم ، ويأخذ المؤمنين منه شبه الزكام ؟ قال : فأتينا
ابن مسعود ، فذكرنا ذلك له وكان مضطجعا ، ففزع ، فقعد فقال : إن الله عزّ وجلّ قال
لنبيه صلى الله عليه وسلم( قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا
أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ ) إن من العلم أن يقول الرجل لما لا يعلم : الله
أعلم ، سأحدثكم عن ذلك ، إن قريشا لما أبطأت عن الإسلام ، واستعصت على رسول الله
صلى الله عليه وسلم دعا عليهم بسنين كسني يوسف ، فأصابهم من الجهد والجوع حتى
أكلوا العظام والميتة ، وجعلوا يرفعون أبصارهم إلى السماء فلا يرون إلا الدخان.
قال الله تبارك وتعالى( يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ يَغْشَى
النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ ) فقالوا( رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ
إِنَّا مُؤْمِنُونَ ) قال الله جل ثناؤه( إِنَّا كَاشِفُوا الْعَذَابِ قَلِيلا
إِنَّكُمْ عَائِدُونَ يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا
مُنْتَقِمُونَ ) قال : فعادوا يوم بدر فانتقم الله منهم.
حدثني عبد الله بن محمد الزهريّ ، قال : ثنا مالك بن سُعَير ، قال : ثنا الأعمش ،
عن مسلم ، عن مسروق قال : كان في المسجد رجل يذكر الناس ، فذكر نحو حديث عيسى ، عن
يحيى بن عيسى ، إلا أنه قال : فانتقم يوم بدر ، فهي البطشة الكبرى.
حدثنا ابن حميد ، وعمرو بن عبد الحميد ، قالا ثنا جرير ، عن منصور ، عن أبي الضحى
مسلم بن صبيح ، عن مسروق ، قال : كنا عند عبد الله بن مسعود جلوسا وهو مضطجع بيننا
، فأتاه رجل فقال : يا أبا عبد الرحمن : إن قاصا عند أبواب كندة يقص ويزعم أن آية
الدخان تجيء فتأخذ بأنفاس الكفار ، ويأخذ المؤمنين منه كهيئة الزكام ، فقام عبد
الله وجلس وهو غضبان ، فقال : يا أيها الناس اتقوا الله ، فمن علم شيئا فليقل بما
يعلم ، ومن لا يعلم فليقل : الله أعلم.
وقال عمرو : فإنه أعلم لأحدكم أن يقول لما لا يعلم الله أعلم ، وما على أحدكم أن
يقول لما لا يعلم : لا أعلم ، فإن الله عزّ وجلّ يقول لنبيه محمد صلى الله
(22/14)
عليه وسلم( قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ
عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ ) إن النبيّ صلى الله
عليه وسلم لما رأى من الناس إدبارا ، قال : " اللهمّ سبعا كسبع يوسف " ،
فأخذتهم سنة حصَّت كل شيء ، حتى أكلوا الجلود والميتة والجيف ، ينظر أحدهم إلى
السماء فيرى دخانا من الجوع ، فأتاه أبو سفيان بن حرب فقال : يا محمد إنك جئت تأمر
بالطاعة وبصلة الرحم ، وإن قومك قد هلكوا ، فادع الله لهم ، قال الله عزّ وجلّ(
فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ )... إلى قوله(
إِنَّكُمْ عَائِدُونَ ) قال : فكُشف عنهم( يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى
إِنَّا مُنْتَقِمُونَ ) فالبطشة يوم بدر ، وقد مضت آية الروم وآية الدخان ،
والبطشة واللزام.
حدثني أبو السائب ، قال : ثنا أبو معاوية ، عن الأعمش ، عن مسلم ، عن مسروق قال :
قال عبد الله : خمس قد مضين : الدخان ، واللزام ، والبطشة ، والقمر ، والروم.
حدثنا أبو كُرَيب ، قال : " ثنا أبو بكر بن عياش ، عن عاصم ، قال : شهدت
جنازة فيها زيد بن عليّ فأنشأ يحدّث يومئذ ، فقال : إن الدخان يجيء قبل يوم
القيامة ، فيأخذ بأنف المؤمن الزكام ، ويأخذ بمسامع الكافر ، قال : قلت رحمك الله
، إن صاحبنا عبد الله قد قال غير هذا ، قال : إن الدخان قد مضى وقرأ هذه الآية(
فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ يَغْشَى النَّاسَ هَذَا
عَذَابٌ أَلِيمٌ ) قال : أصاب الناس جهد حتى جعل الرجل يرى ما بينه وبين السماء
دخانا ، فذلك قوله( فَارْتَقِبْ ) وكذا قرأ عبد الله إلى قوله( مُؤْمِنُونَ ) قال(
إِنَّا كَاشِفُوا الْعَذَابِ قَلِيلا ) قلت لزيد فعادوا ، فأعاد الله عليهم بدرا ،
فذلك قوله( وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا ) فذلك يوم بدر ، قال : فقبل والله ، قال عاصم
، فقال رجل يردّ عليه ، فقال زيد رحمة الله عليه : أما إن رسول الله صلى الله عليه
وسلم قد قال : " إنَّكُمْ سَيَجِيئُكُمْ رُوَاةٌ ، فَمَا وَافَقَ القُرآن
فَخُذُوا بِهِ ، ومَا كانَ غيرَ ذلكَ فَدَعُوهُ " .
حدثنا ابن المثنى ، قال : ثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا داود ، عن عامر ،
(22/15)
عن ابن مسعود أنه قال : البطشة الكبرى
يوم بدر ، وقد مضى الدخان.
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا ابن أبي عديّ ، عن عوف ، قال : سمعت أبا العالية يقول
: إن الدخان قد مضى.
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، عن عمرو ، عن مغيرة ، عن إبراهيم ، قال : مضى
الدخان لسنين أصابتهم.
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : ثنا ابن علية ، قال : ثنا أيوب ، عن محمد ، قال :
نُبئت أن ابن مسعود كان يقول : قد مضى الدخان ، كان سنين كسني يوسف.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث ، قال :
ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد( يَوْمَ تَأْتِي
السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ ) قال : الجدب وإمساك المطر عن كفار قريش ، إلى
قوله( إِنَّا مُؤْمِنُونَ .
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( يَوْمَ تَأْتِي
السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ ) قال : كان ابن مسعود يقول : قد مضى الدخان ، وكان
سنين كسني يوسف( يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ ) .
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك
يقول في قوله( يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ ) قد مضى شأن الدخان.
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا جرير ، عن مغيرة ، عن إبراهيم ، عن عبد الله( يَوْمَ
نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى ) قال : يوم بدر.
وقال آخرون : الدخان آية من آيات الله ، مرسلة على عباده قبل مجيء الساعة ، فيدخل
في أسماع أهل الكفر به ، ويعتري أهل الإيمان به كهيئة الزكام ، قالوا : ولم يأت
بعد ، وهو آت.
(22/16)
* ذكر من قال ذلك :
حدثني واصل بن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن فضيل ، عن الوليد بن جميع ، عن عبد
الملك بن المُغيرة ، عن عبد الرحمن بن البيلمان ، عن ابن عمر ، قال : يخرج الدخان
، فيأخذ المؤمن كهيئة الزكمة ، ويدخل في مسامع الكافر والمنافق ، حتى يكون كالرأس
الحنيذ.
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : ثنا ابن علية ، عن ابن جريج ، عن عبد الله بن أبي
مليكة ، قال : غدوت على ابن عباس ذات يوم ، فقال : ما نمت الليلة حتى أصبحت ، قلت
: لمَ ؟ قال : قالوا : طلع الكوكب ذو الذنب ، فخشيت أن يكون الدخان قد طرق ، فما
نمت حتى أصبحت.
حدثنا محمد بن بزيع ، قال : ثنا بشر بن المفضل ، عن عوف ، قال : قال الحسن : إن
الدخان قد بقي من الآيات ، فإذا جاء الدخان نفخ الكافر حتى يخرج من كلّ سمع من
مسامعه ، ويأخذ المؤمن كزكمة.
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا عثمان ، يعني ابن الهيثم ، قال : ثنا عوف ، عن الحسن
بنحوه.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، عن الحسن ، عن أبي سعيد
، قال : يهيج الدخان بالناس. فأما المؤمن فيأخذه منه كهيئة الزكمة. وأما الكافر
فيهيجه حتى يخرج من كلّ مسمع منه قال : وكان بعض أهل العلم يقول : فما مَثل الأرض
يومئذ إلا كمَثل بيت أوقد فيه ليس فيه خصاصة.
حدثني عصام بن روّاد بن الجراح ، قال : ثني أبي ، قال : ثنا سفيان بن سعيد الثوري
، قال : ثنا منصور بن المعتمر ، عن رِبْعِيِّ بن حَرَاش ، قال : سمعت حُذيفة بن
اليمان يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أوَّلُ الآيات الدَّجالُ
، وَنزول عِيسى بن مَرْيَمَ ، وَنَارٌ تَخْرُجُ مِنْ قَعْرِ عَدْنِ أَبْيَنَ
تَسُوقُ النَّاسَ إلى المَحْشَر تَقِيلُ مَعَهُمْ إذَا قالوا ، والدُّخان " ،
قال حُذيفة : يا رسول الله
(22/17)
وما الدخان ؟ فتلا رسول الله صلى الله
عليه وسلم الآية( يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ يَغْشَى النَّاسَ
هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ ) يَمْلأ ما بَينَ المَشْرقِ والمَغْرِب يَمْكُثُ
أرْبَعِينَ يَوْما وَلَيْلَةً أمَّا المُؤْمِنُ فَيُصِيبُهُ مِنْهُ كَهَيْئَةِ
الزُّكامِ. وأمَّا الكَافِرُ فَيَكُونُ بِمَنزلَةِ السَّكْرانِ يَخْرُجُ مِنْ
مَنْخِريْهِ وأُذُنَيْهِ ودُبُرِهِ " .
حدثني محمد بن عوف ، قال : ثنا محمد بن إسماعيل بن عياش ، قال : ثني أبي ، قال :
ثني ضمضم بن زرعة ، عن شريح بن عبيد ، عن أبي مالك الأشعريّ ، قال : قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم : " إنَّ رَبَّكُمْ أنْذَرَكُمْ ثَلاثا : الدُّخانُ
يَأْخُذ المُؤْمِنَ كالزَّكْمَةِ ، ويَأْخُذُ الكَافِرَ فَيَنْتَفِخَ حتى يَخْرُجَ
مِنْ كُلّ مَسْمَعٍ مِنْهُ ، والثَّانِيَة الدَّابَّةُ ، والثَّالِثَة الدَّجَّالُ
" .
وأولى القولين بالصواب في ذلك ما رُوي عن ابن مسعود من أن الدخان الذي أمر الله
نبيه صلى الله عليه وسلم أن يرتقبه ، هو ما أصاب قومه من الجهد بدعائه عليهم ، على
ما وصفه ابن مسعود من ذلك إن لم يكن خبر حُذيفة الذي ذكرناه عنه عن رسول الله صلى
الله عليه وسلم صحيحا ، وإن كان صحيحا ، فرسول الله صلى الله عليه وسلم أعلم بما
أنزل الله عليه ، وليس لأحد مع قوله الذي يصح عنه قول.
وإنما لم أشهد له بالصحة ، لأن محمد بن خلف العسقلانيّ حدثني أنه سأل روّادا عن
هذا الحديث ، هل سمعه من سفيان ؟ فقال له : لا فقلت له : فقرأته عليه ، فقال : لا
فقلت له : فقرئ عليه وأنت حاضر فأقرّ به ، فقال : لا فقلت : فمن أين جئت به ؟ قال
: جاءني به قوم فعرضوه عليّ وقالوا لي : اسمعه منا فقرءوه عليّ ، ثم ذهبوا ،
فحدّثوا به عني ، أو كما قال; فلما ذكرت من ذلك لم أشهد له بالصحة ، وإنما قلت :
القول الذي قاله عبد الله بن مسعود هو أولى بتأويل الآية ، لأن الله جلّ ثناؤه
توعَّد بالدخان مشركي قريش وأن قوله لنبيه صلى الله عليه وسلم( فَارْتَقِبْ يَوْمَ
تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ ) في سياق خطاب الله كفار قريش وتقريعه
إياهم بشركهم بقوله( لا إِلَهَ إِلا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ
آبَائِكُمُ الأوَّلِينَ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ )
(22/18)
أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرَى وَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ (13) ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقَالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ (14) إِنَّا كَاشِفُوا الْعَذَابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عَائِدُونَ (15)
ثم أتبع ذلك قوله لنبيه عليه الصلاة
والسلام( فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ ) أمرًا منه له
بالصبر إلى أن يأتيهم بأسه وتهديدًا للمشركين فهو بأن يكون إذ كان وعيدا لهم قد
أحله بهم أشبه من أن يكون أخره عنهم لغيرهم.
وبعد ، فإنه غير منكر أن يكون أحلّ بالكفار الذين توعدهم بهذا الوعيد ما توعدهم ،
ويكون مُحِلا فيما يستأنف بعد بآخرين دخانا على ما جاءت به الأخبار عن رسول الله
صلى الله عليه وسلم عندنا كذلك ، لأن الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد
تظاهرت بأن ذلك كائن ، فإنه قد كان ما رَوَى عنه عبد الله بن مسعود ، فكلا الخبرين
اللذين رُويا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم صحيح.
وإن كان تأويل الآية في هذا الموضع ما قلنا ، فإذ كان الذي قلنا في ذلك أولى
التأويلين ، فبين أن معناه : فانتظر يا محمد لمشركي قومك يوم تأتيهم السماء من
البلاء الذي يحل بهم على كفرهم بمثل الدخان المبين لمن تأمله أنه دخان.( يغشَى
الناس ) : يقول : يغشى أبصارهم من الجهد الذي يصيبهم.( هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ )
يعني أنهم يقولون مما نالهم من ذلك الكرب والجهد : هذا عذاب أليم. وهو الموجع ،
وترك من الكلام(يقولون) استغناء بمعرفة السامعين معناه من ذكرها.
وقوله( رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ ) يعني أن الكافرين الذين يصيبهم ذلك
الجهد يضرعون إلى ربهم بمسألتهم إياه كشف ذلك الجهد عنهم ، ويقولون : إنك إن كشفته
آمنا بك وعبدناك من دون كلّ معبود سواك ، كما أخبر عنهم جل ثناؤه( رَبَّنَا
اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ ) .
القول في تأويل قوله تعالى : { أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرَى وَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ
مُبِينٌ (13) ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقَالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ (14) إِنَّا
كَاشِفُوا الْعَذَابِ قَلِيلا إِنَّكُمْ عَائِدُونَ (15) }
(22/19)
يقول تعالى ذكره : من أيّ وجه لهؤلاء
المشركين التذكر من بعد نزول البلاء بهم ، وقد تولوا عن رسولنا حين جاءهم مدبرين
عنه ، لا يتذكرون بما يُتلى عليهم من كتابنا ، ولا يتعظون بما يعظهم به من حججنا ،
ويقولون : إنما هو مجنون عُلِّم هذا (1) الكلام.
وبنحو الذي قلنا في تأويل قوله( أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرَى ) قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : ثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، في
قوله( أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرَى ) يقول : كيف لهم.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث ، قال :
ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد( أَنَّى لَهُمُ
الذِّكْرَى ) بعد وقوع هذا البلاء.
وبنحو الذي قلنا أيضا في قوله( ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقَالُوا مُعَلَّمٌ
مَجْنُونٌ ) قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث ، قال :
ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد( ثُمَّ
تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقَالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ ) قال : تولوا عن محمد عليه
الصلاة والسلام ، وقالوا : معلم مجنون.
وقوله( إِنَّا كَاشِفُوا الْعَذَابِ قَلِيلا إِنَّكُمْ عَائِدُونَ ) يقول تعالى
ذكره لهؤلاء المشركين الذين أخبر عنهم أنهم يستغيثون به من الدخان النازل والعذاب
الحالّ بهم من الجهد ، وأخبر عنهم أنهم يعاهدونه أنه( إن كشف العذاب عنهم آمنوا )
إنا كاشفوا العذاب : يعني الضرّ النازل بهم بالخصب الذي نحدثه لهم( قَلِيلا
إِنَّكُمْ
__________
(1) في الأصل : " على " في موضع " علم " . وهو تحريف من
الناسخ .
(22/20)
يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ (16) وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجَاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ (17) أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (18)
عَائِدُونَ ) يقول : إنكم أيها
المشركون إذا كَشَفْتُ عنكم ما بكم من ضرّ لم تفوا بما تعدون وتعاهدون عليه ربكم
من الإيمان ، ولكنكم تعودون في ضلالتكم وغيكم ، وما كنتم قبل أن يكشف عنكم.
وكان قتادة يقول : معناه : إنكم عائدون في عذاب الله.
حدثنا بذلك ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر عنه. وأما الذين قالوا :
عنى بقوله : ( يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ ) الدخان نفسه ، فإنهم
قالوا في هذا الموضع : عنى بالعذاب الذي قال( إِنَّا كَاشِفُوا الْعَذَابِ ) :
الدخان.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( إِنَّا كَاشِفُوا
الْعَذَابِ قَلِيلا ) يعني الدخان.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله( إِنَّا
كَاشِفُوا الْعَذَابِ قَلِيلا ) قال : قد فعل ، كشف الدخان حين كان.
قوله( إِنَّكُمْ عَائِدُونَ ) قال : كُشِف عنهم فعادوا.
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة( إِنَّكُمْ
عَائِدُونَ ) إلى عذاب الله.
القول في تأويل قوله تعالى : { يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا
مُنْتَقِمُونَ (16) وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجَاءَهُمْ
رَسُولٌ كَرِيمٌ (17) أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ
أَمِينٌ (18) }
يقول تعالى ذكره : إنكم أيها المشركون إن كشفت عنكم العذاب النازل بكم ، والضرّ
الحالّ بكم ، ثم عدتم في كفركم ، ونقضتم عهدكم الذي عاهدتم
(22/21)
ربكم ، انتقمت منكم يوم أبطش بكم بطشتي
الكبرى في عاجل الدنيا ، فأهلككم ، وكشف الله عنهم ، فعادوا ، فبطش بهم جلّ ثناؤه
بطشته الكبرى في الدنيا ، فأهلكهم قتلا بالسيف.
وقد اختلف أهل التأويل في البطشة الكبرى ، فقال بعضهم : هي بطشة الله بمشركي قريش
يوم بدر.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن المثنى ، قال : ثني ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا داود ، عن عامر ، عن ابن
مسعود ، أنه قال : البطشة الكبرى : يوم بدر.
حدثني عبد الله بن محمد الزهري ، قال : ثنا مالك بن سعير ، قال : ثنا الأعمش ، عن
مسلم ، عن مسروق قال : يوم بدر ، البطشة الكبرى.
حدثني يعقوب ، قال : ثنا ابن علية ، قال : ثنا أيوب ، عن محمد ، قال : نبئت أن ابن
مسعود كان يقول : ( يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى ) يوم بدر.
حدثني يعقوب ، قال : ثنا ابن علية ، عن ليث ، عن مجاهد( يَوْمَ نَبْطِشُ
الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى ) قال : يوم بدر.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث ، قال :
ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله( يَوْمَ
نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى ) قال : يوم بدر.
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا ابن أبي عديّ ، عن عوف قال : سمعت أبا العالية في هذه
الآية( يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى ) قال : يوم بدر.
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ،
عن ابن عباس ، قوله( يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى ) قال : يعني يوم
بدر.
حدثنا أبو كُرَيب ، قال : ثنا عثام بن عليّ ، عن الأعمش ، عن إبراهيم ،
(22/22)
قال : قلت : ما البطشة الكبرى ؟ فقال :
يوم القيامة ، فقلت : إن عبد الله كان يقول : يوم بدر; قال. فبلغني أنه سُئل بعد
ذلك فقال : يوم بدر.
حدثنا أبو كُرَيب وأبو السائب قالا ثنا ابن إدريس ، عن الأعمش ، عن إبراهيم ،
بنحوه.
حدثنا بشر ، ثنا يزيد قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، عن أبي الخليل ، عن مجاهد ، عن
أبيّ بن كعب ، قال : يوم بدر.
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك
يقول في قوله( يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى ) يوم بدر.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد فى قوله( يَوْمَ نَبْطِشُ
الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى ) قال : هذا يوم بدر.
وقال آخرون : بل هي بطشة الله بأعدائه يوم القيامة.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : ثنا ابن علية ، قال : ثنا خالد الحذّاء ، عن عكرمة
، قال : قال ابن عباس : قال ابن مسعود : البطشة الكبرى : يوم بدر ، وأنا أقول : هي
يوم القيامة.
حدثنا أبو كُرَيب وأبو السائب ، قالا ثنا ابن إدريس ، قال : ثنا الأعمش ، عن
إبراهيم ، قال : مرّ بي عكرمة ، فسألته عن البطشة الكبرى فقال : يوم القيامة; قال
: قلت : إن عبد الله بن مسعود كان يقول : يوم بدر ، وأخبرني من سأله بعد ذلك فقال
: يوم بدر.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، في قوله( يَوْمَ
نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى ) قال قتادة عن الحسن : إنه يوم القيامة.
وقد بينَّا الصواب في ذلك فيما مضى ، والعلة التي من أجلها اخترنا ما اخترنا من
القول فيه.
(22/23)
وقوله( وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ
قَوْمَ فِرْعَوْنَ ) يعني تعالى ذكره : ولقد اختبرنا وابتلينا يا محمد قبل مشركي
قومك مثال هؤلاء قوم فرعون من القبط( وَجَاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ ) يقول : وجاءهم
رسول من عندنا أرسلناه إليهم ، وهو موسى بن عمران صلوات الله عليه.
كما حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله( وَلَقَدْ
فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجَاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ ) يعني موسى.
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، في قوله(
رَسُولٌ كَرِيمٌ ) قال : موسى عليه السلام ، ووصفه جل ثناؤه بالكرم ، لأنه كان
كريما عليه ، رفيعا عنده مكانه ، وقد يجوز أن يكون وصفه بذلك ، لأنه كان في قومه
شريفا وسيطا.
وقوله( أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ ) يقول تعالى ذكره : وجاء قوم فرعون
رسول من الله كريم عليه بأن ادفعوا إليّ ، ومعنى " أدوا " : ادفعوا إليّ
فأرسلوا معي واتبعون ، وهو نحو قوله( أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ )
فأن في قوله( أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ ) نصب ، وعباد الله نصب بقوله(أَدُّوا) وقد
تأوله قوم : أن أدّوا إليّ يا عباد الله ، فعلى هذا التأويل عباد الله نصب على
النداء.
وبنحو الذي قلنا في تأويل( أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ ) قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ،
عن ابن عباس ، قوله( وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجَاءَهُمْ
رَسُولٌ كَرِيمٌ أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ
أَمِينٌ ) قال : يقول : اتبعوني إلى ما أدعوكم إليه من الحق.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : يقول : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث
، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله(
أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ ) قال : أرسلوا معي بني إسرائيل.
(22/24)
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن
ثور ، عن معمر ، عن قتادة( أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ ) قال : بني
إسرائيل.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ
عِبَادَ اللَّهِ ) يعني به بني إسرائيل ، قال لفرعون : علام تحبس هؤلاء القوم ،
قوما أحرارا اتخذتهم عبيدا ، خلّ سبيلهم.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله( أَنْ أَدُّوا
إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ ) قال : يقول : أرسل عباد الله معي ، يعني بني إسرائيل ،
وقرأ( فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلا تُعَذِّبْهُمْ ) قال : ذلك
قوله( أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ ) قال : ردّهم إلينا.
وقوله( إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ ) يقول : إني لكم أيها القوم رسول من الله
أرسلني إليكم لا يدرككم بأسه على كفركم به ، (أمين) : يقول : أمين على وحيه
ورسالته التي أوعدنيها إليكم.
(22/25)
وَأَنْ لَا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ إِنِّي آَتِيكُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (19) وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ (20) وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ (21)
القول في تأويل قوله تعالى : { وَأَنْ
لا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (19) وَإِنِّي
عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ (20) وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي
فَاعْتَزِلُونِ (21) }
يقول تعالى ذكره : وجاءهم رسول كريم ، أن أدّوا إلي عباد الله ، وبأن لا تعلوا على
الله.
وعنى بقوله( وَأَنْ لا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ ) أن لا تطغوا وتبغوا على ربكم ،
فتكفروا به وتعصوه ، فتخالفوا أمره( إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ ) يقول :
إني آتيكم بحجة على حقيقة ما أدعوكم إليه ، وبرهان على صحته ، مبين لمن تأملها
وتدبرها أنها حجة لي على صحة ما أقول لكم.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
(22/25)
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله( وَأَنْ لا
تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ ) : أي لا تبغوا على الله( إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطَانٍ
مُبِينٍ ) : أي بعذر مبين.
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، بنحوه.
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ،
عن ابن عباس ، قوله( وَأَنْ لا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ ) يقول : لا تفتروا على
الله.
وقوله( وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ ) يقول : وإني
اعتصمت بربي وربكم ، واستجرت به منكم أن ترجمون.
واختلف أهل التأويل في معنى الرجم الذي استعاذ موسى نبيّ الله عليه السلام بربه
منه ، فقال بعضهم : هو الشتم باللسان.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ،
عن ابن عباس ، قوله( وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ ) قال
: يعني رجم القول.
حدثني ابن المثنى ، قال : ثنا عثمان بن عمر بن فارس ، قال : ثنا شعبة ، عن إسماعيل
بن أبي خالد ، عن أبي صالح ، في قوله( وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ
تَرْجُمُونِ ) قال : الرجم : بالقول.
حدثنا أبو هشام الرفاعي ، قال : ثنا يحيى بن يمان ، قال : ثنا سفيان ، عن إسماعيل
، عن أبي صالح( وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ ) قال : أن
تقولوا هو ساحر.
(22/26)
فَدَعَا رَبَّهُ أَنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ (22) فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلًا إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (23) وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ (24)
وقال آخرون : بل هو الرجم بالحجارة.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( وَإِنِّي عُذْتُ
بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ ) : أي أن ترجمون بالحجارة.
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة( أَنْ تَرْجُمُونِ
) قال : أن ترجمون بالحجارة.
وقال آخرون : بل عنى بقوله( أَنْ تَرْجُمُونِ ) : أن تقتلوني.
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب ما دلّ عليه ظاهر الكلام ، وهو أن موسى عليه السلام
استعاذ بالله من أن يرجُمه فرعون وقومه ، والرجم قد يكون قولا باللسان ، وفعلا
باليد. والصواب أن يقال : استعاذ موسى بربه من كل معاني رجمهم الذي يصل منه إلى
المرجوم أذًى ومكروه ، شتما كان ذلك باللسان ، أو رجما بالحجارة باليد.
وقوله( وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ ) يقول تعالى ذكره مخبرا عن قيل
نبيه موسى عليه السلام لفرعون وقومه : وإن أنتم أيها القوم لم تصدّقوني على ما
جئتكم به من عند ربي ، فاعتزلون : يقول : فخلوا سبيلي غير مرجوم باللسان ولا
باليد.
كما حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة( وَإِنْ
لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ ) : أي فخلُّوا سبيلي.
القول في تأويل قوله تعالى : { فَدَعَا رَبَّهُ أَنَّ هَؤُلاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ
(22) فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلا إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (23) وَاتْرُكِ الْبَحْرَ
رَهْوًا إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ (24) }
يقول تعالى ذكره : فدعا موسى ربه إذ كذّبوه ولم يؤمنوا به ، ولم يؤدّ
(22/27)
إليه عباد الله ، وهموا بقتله بأن
هؤلاء ، يعني فرعون وقومه( قَوْمٌ مُجْرِمُونَ ) يعني : أنهم مشركون بالله كافرون.
وقوله( فَأَسْرِ بِعِبَادِي ) وَفِي الكلام محذوف استغني بدلالة ما ذُكر عليه منه
، وهو : فأجابه ربه بأن قال له : فأسر إذ كان الأمر كذلك بعبادي ، وهم بنو إسرائيل
، وإنما معنى الكلام : فأسر بعبادي الذين صدّقوك وآمنوا بك ، واتبعوك دون الذين
كذّبوك منهم ، وأبَوْا قبول ما جئتهم به من النصيحة منك ، وكان الذين كانوا بهذه
الصِّفَة يومئذ بني إسرائيل. وقال : ( فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلا ) لأن معنى ذلك
: سر بهم بليل قبل الصباح.
وقوله( إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ ) يقول : إن فرعون وقومه من القبط متبعوكم إذا
شخصتم عن بلدهم وأرضهم في آثاركم.
وقوله( وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا ) يقول : وإذا قطعت البحر أنت وأصحابُك ، فاتركه
ساكنا على حاله التي كان عليها حين دخلته. وقيل : إن الله تعالى ذكره قال لموسى
هذا القول بعد ما قطع البحر ببني إسرائيل فإذ كان ذلك كذلك ، ففي الكلام محذوف ،
وهو : فسرَى موسى بعبادي ليلا وقطع بهم البحر ، فقلنا له بعد ما قطعه ، وأراد ردّ
البحر إلى هيئته التي كان عليها قبل انفلاقه : اتركْه رَهْوًا.
* ذكر من قال ما ذكرنا من أن الله عزّ وجلّ قال لموسى صلى الله عليه وسلم هذا
القول بعد ما قطع البحر بقومه :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله( فَدَعَا رَبَّهُ
أَنَّ هَؤُلاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ ) حتى بلغ( إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ ) قال
: لما خرج آخر بني إسرائيل أراد نبي الله صلى الله عليه وسلم أن يضرب البحر بعصاه
، حتى يعود كما كان مخافة آل فرعون أن يدركوهم ، فقيل له( وَاتْرُكِ الْبَحْرَ
رَهْوًا إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ ).
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، قال :
(22/28)
لما قطع البحر ، عطف ليضرب البحر بعصاه
ليلتئم ، وخاف أن يتبعه فرعون وجنوده ، فقيل له : ( وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا )
كما هو( إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ ).
واختلف أهل التأويل في معنى الرهْو ، فقال بعضهم : معناه : اتركه على هيئته وحاله
التي كان عليها.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : ثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ،
قوله( وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا ) يقول : سَمْتا.
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال ثني أبي ، عن أبيه ، عن
ابن عباس ، قوله( وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ ) قال
: الرهو : أن يترك كما كان ، فإنهم لن يخلُصوا من ورائه.
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : ثنا ابن علية ، قال : أخبرنا حميد ، عن إسحاق ، عن
عبد الله بن الحارث ، عن أبيه ، أن ابن عباس سأل كعبا عن قول الله( وَاتْرُكِ
الْبَحْرَ رَهْوًا ) قال : طريقا.
وقال آخرون : بل معناه : اتركه سَهْلا.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا حكام ، عن أبي جعفر ، عن الربيع ، قوله( وَاتْرُكِ
الْبَحْرَ رَهْوًا ) قال : سهلا.
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال ثني أبي ، عن أبيه ، عن
ابن عباس ، قوله( وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا ) قال : يقال : الرهو : السهل.
حدثنا ابن المثنى ، قال : ثنا حرميّ بن عُمارة قال : ثنا شعبة ، قال : أخبرني
عمارة ، عن الضحاك بن مُزاحم ، فى قول الله عزّ وجلّ( وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا
) قال : دَمثا.
(22/29)
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ
يقول : عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله( وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا ) قال
: سهلا دمثا.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله( وَاتْرُكِ
الْبَحْرَ رَهْوًا ) قال : هو السهل.
وقال آخرون : بل معناه : واتركه يبسا جددا.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن المثنى ، قال : ثني عبيد الله بن معاذ ، قال : ثني أبي ، عن شعبة ،
عن سماك ، عن عكرمة ، في قوله( وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا ) قال : جددا.
حدثنا محمد بن المثنى ، قال : ثني عبيد الله بن معاذ ، قال : ثنا أبي ، عن شعبة ،
عن سماك ، عن عكرمة في قوله( وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا ) قال : يابسا كهيئته
بعد أن ضربه ، يقول : لا تأمره يرجع ، اتركه حتى يدخل آخرهم.
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد
، في قوله(رَهوًا) قال : طريقا يَبَسا.
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة( وَاتْرُكِ
الْبَحْرَ رَهْوًا ) كما هو طريقا يابسا.
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال معناه : اتركه على هيئته كما هو على
الحال التي كان عليها حين سلَكْته ، وذلك أن الرهو في كلام العرب : السكون ، كما
قال الشاعر :
كأنَّما أهْلُ حُجْرٍ يَنْظُرُونَ مَتَى... يَرَوْنَنِي خارِجا طَيْرٌ
يَنَادِيد... طَيرٌ رأَتْ بازِيا نَضْحُ الدّماءِ بِهِ... وأُمُّهُ خَرَجَتْ
رَهْوًا إلى عِيد (1)
__________
(1) هذا بيت من قصيدة للراعي ، مدح بها سعد بن عبد الرحمن بن عتاب بن أسيد ، عدتها
سبعة وخمسون بيتا . وقوله " ذات آثارة " أي رب ناقة ذات سمن . والأثارة
، بفتح الهمزة : شحم متصل بشحم آخر ، ويقال هي بقية من الشحم العتيق ، يقال : سمنت
الناقة على أثارة ، أي على بقية شحم . وأكمته : غلفه ، جمع كمام ، وهو جمع كم بكسر
الكاف ، وهو غطاء النور وغلافه . وقفارًا وقفارة : وصف للنبات : أي رعته خاليًا
لها من مزاحمة غيرها في رعيه . وأصله من قولهم طعام قفار : أي أكل بلا إدام . (
انظر خزانة الأدب الكبرى للبغدادي 4 : 251 ) واستشهد بالبيت أبو عبيدة في مجاز
القرآن ( الورقة 222 ) . عند قوله تعالى : " أو أثارة من علم " أي بقية
من شحم أكلت عليه . ومن قال : " أثرة " فهو مصدر أثره يأثره : يذكره .
وفي ( اللسان : أثر ) : وأثرة العلم وأثرته وأثارته ، بقية منه تؤثر فتذكر . وقال
الزجاج أثاره : في معنى علامة . ويجوز أن يكون على معنى بقية من علم ونسب البيت
للشماخ.
(22/30)
كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (25) وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ (26) وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ (27) كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آَخَرِينَ (28)
يعني على سكون ، وإذا كان ذلك معناه
كان لا شكّ أنه متروك سهلا دَمِثا ، وطريقا يَبَسا لأن بني إسرائيل قطعوه حين
قطعوه ، وهو كذلك ، فإذا ترك البحر رهوا كما كان حين قطعه موسى ساكنا لم يُهج كان
لا شكّ أنه بالصفة التي وصفت.
وقوله( إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ ) يقول : إن فرعون وقومه جند ، الله مغرقهم
في البحر.
القول في تأويل قوله تعالى : { كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (25)
وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ (26) وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ (27)
كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ (28) }
يقول تعالى ذكره : كم ترك فرعون وقومه من القبط بعد مهلكهم وتغريق الله إياهم من
بساتين وأشجار ، وهي الجنات ، وعيون ، يعني : ومنابع ما كان ينفجر في جنانهم وزروع
قائمة في مزارعهم( وَمَقَامٍ كَرِيمٍ ) يقول : وموضع كانوا يقومونه شريف كريم.
ثم اختلف أهل التأويل في معنى وصف الله ذلك المقام بالكرم ، فقال بعضهم : وصفه
بذلك لشرفه ، وذلك أنه مَقام الملوك والأمراء ، قالوا : وإنما أريد به المنابر.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني جعفر بن ابنة إسحاق الأزرق ، قال : ثنا سعيد بن محمد الثقفي ،
(22/31)
قال : ثنا إسماعيل بن إبراهيم بن
مُهاجر ، عن أبيه ، عن مجاهد ، في قوله( وَمَقَامٍ كَرِيمٍ ) قال : المنابر.
حدثني زكريا بن يحيى بن أبي زائدة ، قال : ثنا عبد الله بن داود الواسطي ، قال :
ثنا شريك ، عن سالم الأفطس ، عن سعيد بن جُبير ، في قوله( وَمَقَامٍ كَرِيمٍ ) قال
: المنابر.
وقال آخرون : وصف ذلك المقام بالكرم لحسنه وبهجته.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله( وَمَقَامٍ
كَرِيمٍ ) : أي حسن.
وقوله( وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ ) يقول تعالى ذكره : وأخرجوا من نعمة
كانوا فيها فاكهين متفكهين ناعمين.
واختلفت القرّاء في قراءة قوله( فَاكِهِينَ ) فقرأته عامة قرّاء الأمصار خلا أبي
جعفر القارئ( فَاكِهِينَ ) على المعنى الذي وصفت. وقرأه أبو رجاء العُطاردي والحسن
وأبو جعفر المدنيّ( فَكِهينَ ) بمعنى : أشِرِين بَطِرين.
والصواب من القراءة عندي في ذلك ، القراءة التي عليها قرّاء الأمصار ، وهي(
فَاكِهِينَ ) بالألف بمعنى ناعمين.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا
فَاكِهِينَ ) : ناعمين ، قال : إي والله ، أخرجه الله من جناته وعيونه وزروعه حتى
ورّطه في البحر.
وقوله( كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ ) يقول تعالى ذكره : هكذا كما
وصفت لكم أيها الناس فعلنا بهؤلاء الذي ذكرتُ لكم أمرهم ، الذين كذّبوا
(22/32)
فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ (29) وَلَقَدْ نَجَّيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ الْعَذَابِ الْمُهِينِ (30) مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كَانَ عَالِيًا مِنَ الْمُسْرِفِينَ (31)
رسولنا موسى صلى الله عليه وسلم.
وقوله( وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ ) يقول تعالى ذكره وأورثنا جناتهم
وعيونهم وزروعهم ومقَاماتهم وما كانوا فيه من النعمة عنهم قوما آخرين بعد مهلكهم ،
وقيل : عُنِي بالقوم الآخرين بنو إسرائيل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة قوله( كَذَلِكَ
وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ ) يعني بني إسرائيل.
القول في تأويل قوله تعالى : { فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالأرْضُ
وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ (29) وَلَقَدْ نَجَّيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ
الْعَذَابِ الْمُهِينِ (30) مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كَانَ عَالِيًا مِنَ
الْمُسْرِفِينَ (31) }
يقول تعالى ذكره : فما بكت على هؤلاء الذين غرّقهم الله في البحر ، وهم فرعون
وقومه ، السماء والأرض ، وقيل : إن بكاء السماء حمرة أطرافها.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن إسماعيل الأحمسيّ ، قال : ثنا عبد الرحمن بن أبي حماد ، عن الحكم بن
ظهير ، عن السديّ قال : لما قتل الحسين بن عليّ رضوان الله عليهما بكت السماء عليه
، وبكاؤها حمرتها.
حدثني عليّ بن سهل ، قال : ثنا حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن عطاء في قوله( فَمَا
بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالأرْضُ ) قال : بكاؤها حمرة أطرافها.
وقيل : إنما قيل( فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالأرْضُ ) لأن المؤمن إذا
مات ، بكت عليه السماء والأرض أربعين صباحا ، ولم تبكيا على فرعون وقومه ، لأنه
(22/33)
لم يكن لهم عمل يَصعْد إلى الله صالح ،
فتبكي عليهم السماء ، ولا مسجد في الأرض ، فتبكي عليهم الأرض.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا أبو كُرَيب ، قال : ثنا طلق بن غنام ، عن زائدة ، عن منصور ، عن المنهال ،
عن سعيد بن جُبير ، قال : أتى ابن عباس رجل ، فقال : يا أبا عباس أرأيت قول الله
تبارك وتعالى( فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالأرْضُ وَمَا كَانُوا
مُنْظَرِينَ ) فهل تبكي السماء والأرض على أحد ؟ قال : نعم إنه ليس أحد من الخلائق
إلا له باب في السماء منه ينزل رزقه ، وفيه يصعد عمله ، فإذا مات المؤمن فأغلق
بابه من السماء الذي كان يصعد فيه عمله ، وينزل منه رزقه ، بكى عليه; وإذا فقده
مُصَلاه من الأرض التي كان يصلي فيها ، ويذكر الله فيها بكت عليه ، وإن قوم فرعون
لم يكن لهم في الأرض آثار صالحة ، ولم يكن يصعد إلى السماء منهم خير ، قال : فلم
تبك عليهم السماء والأرض.
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا عبد الرحمن ويحيى قالا ثنا سفيان ، عن منصور ، عن
مجاهد ، قال : كان يقال : تبكي الأرض على المؤمن أربعين صباحًا.
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا عبد الرحمن ، قال : ثنا سفيان ، عن أبي يحيى القَتَّات
، عن مجاهد ، عن ابن عباس بمثله.
حدثني يحيى بن طلحة ، قال : ثنا فضيل بن عياض ، عن منصور ، عن مجاهد ، قال : حُدثت
أن المؤمن إذا مات بكت عليه الأرض أربعين صباحا.
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا يعقوب بن إسحاق الحضرمي ، قال : ثنا بكير بن أبي
السميط ، قال : ثنا قتادة ، عن سعيد بن جُبير أنه كان يقول : إن بقاع الأرض التي
كان يصعد عمله منها إلى السماء تبكي عليه بعد موته ، يعني المؤمن.
(22/34)
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا حكام ، عن
عمرو ، عن منصور ، عن المنهال ، عن سعيد بن جُبير ، عن ابن عباس( فَمَا بَكَتْ
عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالأرْضُ ) قال : إنه ليس أحد إلا له باب في السماء ينزل
فيه رزقه ويصعد فيه عمله ، فإذا فُقِد بكت عليه مواضعه التي كان يسجد عليها ، وإن
قوم فرعون لم يكن لهم في الأرض عمل صالح يقبل منهم ، فيصعد إلى الله عزّ وجلّ ،
فقال مجاهد : تبكي الأرض على المؤمن أربعين صباحا.
حدثنا ابن حُميد ، قال : ثنا جرير ، عن منصور ، عن مجاهد قال : كان يقال : إن
المؤمن إذا مات بكت عليه الأرض أربعين صباحا.
حدثنا يحيى بن طلحة ، قال : ثنا عيسى بن يونس ، عن صفوان بن عمرو ، عن شريح بن
عبيد الحضرمي ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إنَّ الإسْلامَ
بَدَأ غَرِيبا وَسَيَعُودُ غَرِيبا ، ألا لا غُرْبَةَ عَلى المُؤْمِن ، ما ماتَ
مُؤْمِنٌ فِي غُرْبَةٍ غَابَتْ عَنْهُ فِيهَا بَوَاكِيهِ إلا بَكَتْ عَلَيْهِ
السَّماءُ والأرْضُ " ، ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم( فَمَا بَكَتْ
عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالأرْضُ ) ، ثم قال : " إنَّهُما لا يَبْكِيانِ على الكافر
" .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ،
عن ابن عباس ، قوله( فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالأرْضُ )... الآية ،
قال : ذلك أنه ليس على الأرض مؤمن يموت إلا بكى عليه ما كان يصلي فيه من المساجد
حين يفقده ، وإلا بكى عليه من السماء الموضعُ الذي كان يرفع منه كلامه ، فذلك لأهل
معصيته : ( فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالأرْضُ وَمَا كَانُوا
مُنْظَرِينَ ) لأنهما يبكيان على أولياء الله.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله( فَمَا بَكَتْ
عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالأرْضُ ) (1) .
__________
(1) في الأصل : " لم يذكر لهذا السند تفسير عن قتادة والذي في الدر المنثور
عنه قال : هم كانوا أهون على الله من ذلك. وقال : وكنا نحدث أن المؤمن تبكي عليه
بقاعه التي يصلي فيها من الأرض ومصعد عمله من السماء " .
(22/35)
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ
يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله( فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ
السَّمَاءُ وَالأرْضُ ) يقول : لا تبكي السماء والأرض على الكافر ، وتبكي على
المؤمن الصالح معالمُه من الأرض ومقرُّ عمله من السماء.
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، في قوله( فَمَا
بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالأرْضُ ) قال : بقاع المؤمن التي كان يصلي عليها
من الأرض تبكي عليه إذا مات ، وبقاعه من السماء التي كان يرفع فيها عمله.
حدثنا ابن حُمَيد ، قال : ثنا جرير ، عن منصور ، عن المنهال ، عن سعيد بن جُبَير ،
قال : سُئل ابن عباس : هل تبكي السماء والأرض على أحد ؟ فقال : نعم إنه ليس أحد ،
من الخلق إلا له باب في السماء يصعد فيه عمله ، وينزل منه رزقه ، فإذا مات بكى
عليه مكانه من الأرض الذي كان يذكر الله فيه ويصلي فيه ، وبكى عليه بابه الذي كان
يصعد فيه عمله ، وينزل منه رزقه. وأما قوم فرعون ، فلم يكن لهم آثار صالحة ، ولم
يصعد إلى السماء منهم خير ، فلم تبك عليهم السماء والأرض.
وقوله( وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ ) يقول : وما كانوا مؤخرين بالعقوبة التي حلَّت
بهم ، ولكنهم عوجلوا بها إذ أسخطوا ربهم عزّ وجلّ عليهم( وَلَقَدْ نَجَّيْنَا
بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ الْعَذَابِ الْمُهِينِ ) : يقول تعالى ذكره : ولقد
نجَّينا بني إسرائيل من العذاب الذي كان فرعون وقومه يعذّبونَهُم به ، المهين يعني
المذلّ لهم.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( وَلَقَدْ نَجَّيْنَا
بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ الْعَذَابِ الْمُهِينِ ) بقتل أبنائهم ، واستحياء نسائهم.
(22/36)
وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ (32) وَآَتَيْنَاهُمْ مِنَ الْآَيَاتِ مَا فِيهِ بَلَاءٌ مُبِينٌ (33)
وقوله( مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كَانَ
عَالِيًا مِنَ الْمُسْرِفِينَ ) يقول تعالى ذكره : ولقد نجينا بني إسرائيل من
العذاب من فرعون ، فقوله( مِنْ فِرْعَوْنَ ) مكرّرة على قوله( مِنَ الْعَذَابِ
الْمُهِينِ ) مبدلة من الأولى. ويعني بقوله( إِنَّهُ كَانَ عَالِيًا مِنَ
الْمُسْرِفِينَ ) إنه كان جبارا مستعليًا مستكبرًا على ربه ، ( مِنَ
الْمُسْرِفِينَ ) يعني : من المتجاوزين ما ليس لهم تجاوزه. وإنما يعني جل ثناؤه
أنه كان ذا اعتداء في كفره ، واستكبار على ربه جلّ ثناؤه.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى
الْعَالَمِينَ (32) وَآتَيْنَاهُمْ مِنَ الآيَاتِ مَا فِيهِ بَلاءٌ مُبِينٌ (33) }
يقول تعالى ذكره : ولقد اخترنا بني إسرائيل على علم منا بهم على عالمي أهل زمانهم
يومئذ ، وذلك زمان موسى صلوات الله وسلامه عليه.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ
عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ ) : أي اختيروا على أهل زمانهم ذلك ، ولكلّ زمان
عالم.
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، في قوله(
وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ ) قال : عالم ذلك
الزمان.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث ، قال :
ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله(
وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ ) قال : على من هم بين
ظَهْرَانِيهِ.
قوله( وَآتَيْنَاهُمْ مِنَ الآيَاتِ مَا فِيهِ بَلاءٌ مُبِينٌ ) يقول تعالى ذكره :
(22/37)
وأعطيناهم من العِبر والعِظات ما فيه
اختبار يبين لمن تأمله أنه اختبار اختبرهم الله به.
واختلف أهل التأويل في ذلك البلاء ، فقال بعضهم : ابتلاهم بنعمه عندهم.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله( وَآتَيْنَاهُمْ
مِنَ الآيَاتِ مَا فِيهِ بَلاءٌ مُبِينٌ ) أنجاهم الله من عدوّهم ، ثم أقطعهم
البحر ، وظلَّل عليهم الغمام ، وأنزل عليهم المنّ والسلوى.
وقال آخرون : بل ابتلاهم بالرخاء والشدّة.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله( وَآتَيْنَاهُمْ
مِنَ الآيَاتِ مَا فِيهِ بَلاءٌ مُبِينٌ ) ، وقرأ( وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ
وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ ) وقال : بلاء مبين لمن آمن بها
وكفر بها ، بلوى نبتليهم بها ، نمحصهم بلوى اختبار ، نختبرهم بالخير والشرّ ،
نختبرهم لننظر فيما أتاهم من الآيات من يؤمن بها ، وينتفع بها ويضيعها.
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال : إن الله أخبر أنه آتى بني إسرائيل من
الآيات ما فيه ابتلاؤهم واختبارهم ، وقد يكون الابتلاء والاختبار بالرخاء ، ويكون
بالشدّة ، ولم يضع لنا دليلا من خبر ولا عقل ، أنه عنى بعض ذلك دون بعض ، وقد كان
الله اختبرهم بالمعنيين كليهما جميعا. وجائز أن يكون عنى اختباره إياهم بهما ،
فإذا كان الأمر على ما وصفنا ، فالصواب من القول فيه أن نقول كما قال جل ثناؤه إنه
اختبرهم.
(22/38)
إِنَّ هَؤُلَاءِ لَيَقُولُونَ (34) إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ (35) فَأْتُوا بِآَبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (36) أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ (37)
القول في تأويل قوله تعالى : { إِنَّ
هَؤُلاءِ لَيَقُولُونَ (34) إِنْ هِيَ إِلا مَوْتَتُنَا الأولَى وَمَا نَحْنُ
بِمُنْشَرِينَ (35) فَأْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (36) }
يقول تعالى ذكره مخبرًا عن قيل مشركي قريش لنبي الله صلى الله عليه وسلم : إن
هؤلاء المشركين من قومك يا محمد( لَيَقُولُونَ إِنْ هِيَ إِلا مَوْتَتُنَا الأولَى
) التي نموتها ، وهي الموتة الأولى( وَمَا نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ ) بعد مماتنا ،
ولا بمبعوثين تكذيبا منهم بالبعث والثواب والعقاب.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( إِنَّ هَؤُلاءِ
لَيَقُولُونَ إِنْ هِيَ إِلا مَوْتَتُنَا الأولَى وَمَا نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ )
قال : قد قال مشركو العرب( وَمَا نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ ) أي : بمبعوثين.
وقوله( فَأْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ) يقول تعالى ذكره : قالوا
لمحمد صلى الله عليه وسلم : فأتوا بآبائنا الذين قد ماتوا إن كنتم صادقين ، أن
الله باعثنا من بعد بلانا في قبورنا ، ومحيينا من بعد مماتنا ، وخوطب صلى الله
عليه وسلم هو وحده خطاب الجميع ، كما قيل : ( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا
طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ ) وكما قال( رَبِّ ارْجِعُونِ ) وقد بيَّنت ذلك في غير
موضع من كتابنا.
القول في تأويل قوله تعالى : { أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ
مِنْ قَبْلِهِمْ أَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ (37) }
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : أهؤلاء المشركون يا محمد من قومك
خير ، أم قوم تُبَّع ، يعني تُبَّعا الحِمْيريّ.
(22/39)
وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ (38)
كما حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا
أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء
جميعا ، عن ابن نجيح ، عن مجاهد ، في قول الله عزّ وجلّ( أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ
قَوْمُ تُبَّعٍ ) قال : الحميريّ.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ
قَوْمُ تُبَّعٍ ) ذُكر لنا أن تبعا كان رجلا من حمير ، سار بالجيوش حتى حير الحيرة
، ثم أتى سمرقند فهدمها. وذُكر لنا أنه كان إذا كَتَب كَتَب باسم الذي تسمَّى وملك
برّا وبحرا وصحا وريحا. وذُكر لنا أن كعبا كان يقول : نُعِتَ نَعْتَ الرَّجُلِ
الصَّالح ذمّ الله قومَه ولم يذمه. وكانت عائشة تقول : لا تسبوا تُبَّعا ، فإنه
كان رجلا صالحا.
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، قال : قالت
عائشة : كان تبَّع رجلا صالحا. وقال كعب : ذمّ الله قومه ولم يذمه.
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن تميم بن عبد الرحمن ، عن
سعيد بن جبير ، أن تُبَّعا كسا البيت ، ونهى سعيد عن سبه.
وقوله( وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ) يقول تعالى ذكره : أهؤلاء المشركون من قريش
خير أم قوم تبع والذين من قبلهم من الأمم الكافرة بربها ، يقول : فليس هؤلاء بخير
من أولئك ، فنصفح عنهم ، ولا نهلكهم ، وهم بالله كافرون ، كما كان الذين أهلكناهم
من الأمم من قبلهم كفارا.
وقوله( إِنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ ) يقول : إن قوم تبَّع والذين من قبلهم من
الأمم الذين أهلكناهم إنما أهلكناهم لإجرامهم ، وكفرهم بربهم. وقيل : إنهم كانوا
مجرمين ، فكُسرت ألف " إن " على وجه الابتداء ، وفيها معنى الشرط
استغناء بدلالة الكلام على معناها.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ وَمَا
بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ (38) مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلا بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ
أَكْثَرَهُمْ
(22/40)
مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (39)
لا يَعْلَمُونَ (39) }
يقول تعالى ذكره : ( وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ ) السبع والأرضين
وما بينهما من الخلق لعبا. وقوله( مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلا بِالْحَقِّ ) يقول : ما
خلقنا السموات والأرض إلا بالحقّ الذي لا يصلح التدبير إلا به.
وإنما يعني بذلك تعالى ذكره التنبيه على صحة البعث والمجازاة ، يقول تعالى ذكره :
لم نخلق الخلق عبثا بأن نحدثهم فنحييهم ما أردنا ، ثم نفنيهم من غير الامتحان
بالطاعة والأمر والنهي ، وغير مجازاة المطيع على طاعته ، والعاصي على المعصية ،
ولكن خلقنا ذلك لنبتلي من أردنا امتحانه من خلقنا بما شئنا من امتحانه من الأمر
والنهي( لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ
أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى ) .
( وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ ) يقول تعالى ذكره : ولكن أكثر هؤلاء
المشركين بالله لا يعلمون أن الله خلق ذلك لهم ، فهم لا يخافون على ما يأتون من
سخط الله عقوبة ، ولا يرجون على خير إن فعلوه ثوابا لتكذيبهم بالمعاد.
(22/41)
إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ (40) يَوْمَ لَا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئًا وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (41) إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللَّهُ إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (42)
القول في تأويل قوله تعالى : { إِنَّ
يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ (40) يَوْمَ لا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ
مَوْلًى شَيْئًا وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (41) إِلا مَنْ رَحِمَ اللَّهُ إِنَّهُ
هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (42) }
يقول تعالى ذكره : إن يوم فصل الله القضاء بين خلقه بما أسلفوا في دنياهم من خير
أو شرّ يجزي به المحسن بالإحسان ، والمسيء بالإساءة(ميقاتهم أجمعين) : يقول :
ميقات اجتماعهم أجمعين.
كما حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله( إِنَّ يَوْمَ
الْفَصْلِ مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ ) يوم يُفْصَل فيه بين الناس بأعمالهم.
(22/41)
وقوله( يَوْمَ لا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ
مَوْلًى شَيْئًا ) يقول : لا يدفع ابن عمّ عن ابن عمّ ، ولا صاحب عن صاحبه شيئا من
عقوبة الله التي حلَّت بهم من الله( وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ ) يقول : ولا ينصر
بعضهم بعضا ، فيستعيذوا ممن نالهم بعقوبة كما كانوا يفعلونه في الدنيا.
كما حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله( يَوْمَ لا
يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئًا )... الآية ، انقطعت الأسباب يومئذ يا ابن
آدم ، وصار الناس إلى أعمالهم ، فمن أصاب يومئذ خيرا سعد به آخر ما عليه ، ومن
أصاب يومئذ شرّا شقي به آخر ما عليه.
وقوله( إِلا مَنْ رَحِمَ اللَّهُ ) اختلف أهل العربية في موضع " مَنْ "
في قوله : ( إِلا مَنْ رَحِمَ اللَّهُ ) فقال بعض نحويي البصرة : إلا من رحم الله
، فجعله بدلا من الاسم المضمر في ينصرون ، وإن شئت جعلته مبتدأ وأضمرت خبره ، يريد
به : إلا من رحم الله فيغني عنه. وقال بعض نحويي الكوفة قوله( إِلا مَنْ رَحِمَ
اللَّهُ ) قال : المؤمنون يشفع بعضهم في بعض ، فإن شئت فاجعل " مَنْ "
في موضع رفع ، كأنك قلت : لا يقوم أحد إلا فلان ، وإن شئت جعلته نصبا على
الاستثناء والانقطاع عن أوّل الكلام ، يريد : اللهمّ إلا من رحم الله.
وقال آخرون منهم : معناه لا يغني مولى عن مولى شيئا ، إلا من أذن الله له أن يشفع;
قال : لا يكون بدلا مما في ينصرون ، لأن إلا محقق ، والأوّل منفيّ ، والبدل لا
يكون إلا بمعنى الأوّل. قال : وكذلك لا يجوز أن يكون مستأنفا ، لأنه لا يستأنف
بالاستثناء.
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يكون في موضع رفع بمعنى : يوم لا يغني مولى عن
مولى شيئا إلا من رحم الله منهم ، فإنه يغني عنه بأن يشفع له عند ربه.
وقوله( إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ) يقول جلّ ثناؤه واصفا نفسه : إن الله
هو العزيز في انتقامه من أعدائه ، الرحيم بأوليائه ، وأهل طاعته.
(22/42)
إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ (43) طَعَامُ الْأَثِيمِ (44) كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ (45) كَغَلْيِ الْحَمِيمِ (46)
القول في تأويل قوله تعالى : { إِنَّ
شَجَرَةَ الزَّقُّومِ (43) طَعَامُ الأثِيمِ (44) كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي
الْبُطُونِ (45) كَغَلْيِ الْحَمِيمِ (46) }
يقول تعالى ذكره : ( إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ ) التي أخبر أنها تَنْبتُ في أصل
الجحيم ، التي جعلها طعاما لأهل الجحيم ، ثمرها فى الجحيم طعام الآثم في الدنيا
بربه ، والأثيم : ذو الإثم ، والإثم من أثم يأثم فهو أثيم. وعنى به في هذا الموضع
: الذي إثمه الكفر بربه دون غيره من الآثام.
وقد حدثنا محمد بن بشار ، قال : ثنا عبد الرحمن ، قال : ثنا سفيان ، عن الأعمش ،
عن إبراهيم ، عن همام بن الحارث ، أن أبا الدرداء كان يُقرئ رجلا( إِنَّ شَجَرَةَ
الزَّقُّومِ طَعَامُ الأثِيمِ ) فقال : طعام اليتيم ، فقال أبو الدرداء : قل إن
شجرة الزقوم طعام الفاجر.
حدثنا أبو كُرَيب ، قال : ثنا يحيى بن عيسى عن الأعمش ، عن أبي يحيى ، عن مجاهد ،
عن ابن عباس قال : " لو أن قطرة من زقوم جهنم أنزلت إلى الدنيا ، لأفسدت على
الناس معايشهم " .
حدثني أبو السائب ، قال : ثنا أبو معاوية ، عن الأعمش ، عن إبراهيم ، عن همام ،
قال : كان أبو الدرداء يُقْرئ رجلا( إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ طَعَامُ الأثِيمِ
) قال : فجعل الرجل يقول : إن شجرة الزقوم طعام اليتيم; قال : فلما أكثر عليه أبو
الدرداء ، فرآه لا يفهم ، قال : إن شجرة الزقوم طعام الفاجر.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : ( إِنَّ
شَجَرَةَ الزَّقُّومِ طَعَامُ الأثِيمِ ) قال : أبو جهل.
وقوله( كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ ) يقول تعالى ذكره : إن شجرة الزقوم
التي جعل ثمرتها طعام الكافر في جهنم ، كالرصاص أو الفضة ، أو ما يُذاب فى النار
إذا أُذيب بها ، فتناهت حرارته ، وشدّت حميته في شدّة السواد.
وقد بينَّا معنى المهل فيما مضى بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع من
(22/43)
الشواهد ، وذكَر اختلاف أهل التأويل
فيه ، غير أنا نذكر من أقوال أهل العلم في هذا الموضع ما لم نذكره هناك.
حدثنا سليمان بن عبد الجبار ، قال : ثنا محمد بن الصلت ، قال : ثنا أبو كدينة ، عن
قابوس ، عن أبيه ، قال : سألت ابن عباس ، عن قول الله جلّ ثناؤه( كَالمُهْلِ ) قال
: كدرديّ الزيت.
حدثني عليّ بن سهل ، قال : ثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن
عباس ، قوله( كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ ) يقول : أسود كمهل الزيت.
حدثنا أبو كُرَيب وأبو السائب ويعقوب بن إبراهيم ، قالوا : ثنا ابن إدريس ، قال :
سمعت مطرفا ، عن عطية بن سعد ، عن ابن عباس ، في قوله : ( كَالمُهْلِ ) ماء غليظ
كدرديّ الزيت.
حدثني يحيى بن طلحة ، قال : ثنا عبد الصمد ، قال : ثنا شعبة ، قال : ثنا ابن إدريس
، قال : سمعت مطرفا ، عن عطية بن سعد ، عن ابن عباس ، في قوله( كَالمُهْلِ ) قال :
كدرديّ الزيت.
حدثنا ابن المثنى ، قال : ثنا عبد الصمد ، قال : ثنا شعبة ، قال : ثنا خليد ، عن
الحسن ، عن ابن عباس ، أنه رأى فضة قد أُذيبت ، فقال : هذا المهل.
حدثنا أبو كُرَيب ، قال : ثنا أبو معاوية ، قال : ثنا عمرو بن ميمون عن أبيه ، عن
عبد الله في قوله : ( كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ ) قال : دخل عبد الله بيت
المال ، فأخرج بقايا كانت فيه ، فأوقد عليها النار حتى تلألأت ، قال : أين السائل
عن المهل ، هذا المهل.
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا ابن أبي عديّ : وحدثنا محمد بن المثنى ، قال : ثنا
خالد بن الحارث ، عن عوف ، عن الحسن ، قال : بلغني أن ابن مسعود سُئل عن المهل
الذي يقولون يوم القيامة شراب أهل النار ، وهو على بيت المال ،
(22/44)
قال : فدعا بذهب وفضة فأذابهما ، فقال
: هذا أشبه شيء في الدنيا بالمهل الذي هو لون السماء يوم القيامة ، وشراب أهل
النار ، غير أن ذلك هو أشدّ حرّا من هذا. لفظ الحديث لابن بشار وحديث ابن المثنى
نحوه.
حدثنا أبو كُرَيب وأبو السائب ، قالا ثنا ابن إدريس ، قال : أخبرنا أشعث ، عن
الحسن ، قال : كان من كلامه أن عبد الله بن مسعود رجل أكرمه الله بصحبة محمد صلى
الله عليه وسلم ، فإن عمر رضي الله عنه استعمله على بيت المال ، قال : فعمد إلى
فضة كثيرة مكسرة ، فخدّ لها أُخدودا ، ثم أمر بحطب جزل فأوقد عليها ، حتى إذا
امَّاعت وتزبدت وعادت ألوانا ، قال : انظروا من بالباب ، فأُدخل القوم فقال لهم :
هذا أشبه ما رأينا في الدنيا بالمُهْل.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله( إِنَّ شَجَرَةَ
الزَّقُّومِ طَعَامُ الأثِيمِ )... الآية ، ذُكر لنا أن ابن مسعود أُهديت له سقاية
من ذهب وفضة ، فأمر بأخدود فخدّت في الأرض ، ثم قُذِف فيها من جزل الحطب ، ثم قذفت
فيها تلك السقاية ، حتى إذا أزبدت وانماعت قال لغلامه : ادع من بحضرتنا من أهل
الكوفة ، فدعا رهطا ، فلما دخلوا قال : أترون هذا ؟ قالوا نعم ، قال : ما رأينا في
الدنيا شبيها للمهل أدنى من الذهب والفضة حين أزبد وانماع.
حدثنا أبو هشام الرفاعي ، قال : ثنا ابن يمان ، قال : ثنا سفيان ، عن الأعمش ، عن
عبد الله بن سفيان الأسديّ ، قال : أذاب عبد الله بن مسعود فضة ، ثم قال : من أراد
أن ينظر إلى المهل فلينظر إلى هذا.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، عن قابوس ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، في قوله( يَوْمَ
تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ ) قال : كدُرديّ الزيت.
حدثني يحيى بن طلحة قال : ثنا شريك ، عن سالم ، عن سعيد : (كالمُهْلِ) قال : كدردي
الزيت.
حدثنا ابن المثنى ، قال : ثنا يعمر بن بشر ، قال : ثنا ابن المبارك ، قال :
(22/45)
خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَى سَوَاءِ الْجَحِيمِ (47) ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ (48)
ثنا أبو الصباح ، قال : سمعت يزيد بن
أبي سمية يقول : سمعت ابن عمر يقول : هل تدرون ما المهل ؟ المهل مهل الزيت ، يعني
آخره.
قال : ثنا إبراهيم أبو إسحاق الطالقاني ، قال : ثنا ابن المبارك ، قال : أخبرنا
أبو الصباح الأيلي ، عن يزيد بن أبي سمية ، عن ابن عمر بمثله.
حدثنا أبو كُرَيب ، قال : ثنا رشدين بن سعد ، عن عمرو بن الحارث ، عن درّاج أبي
السمح ، عن أبي الهيثم ، عن أبي سعيد ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم في قوله : (
بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ ) " كعَكر الزيت ، فإذا قرّبه إلى وجهه ، سقطت فروة وجهه
فيه " .
قال : ثنا محمد بن المثنى ، قال : ثنا يعمر بن بشر ، قال : أخبرنا ابن المبارك ،
قال : أخبرنا رشدين بن سعد ، قال : ثني عمرو بن الحارث ، عن أبي السمح ، عن أبي
الهيثم ، عن أبي سعيد الخُدْريّ ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، مثله.
وقوله( فِي الْبُطُونِ ) اختلفت القرّاء في قراءة ذلك ، فقرأته عامة قرّاء المدينة
والبصرة والكوفة " تَغْلِي " بالتاء ، بمعنى أن شجرة الزقوم تغلي في
بطونهم ، فأنثوا تغلي لتأنيث الشجرة. وقرأ ذلك بعض قرّاء أهل الكوفة(يَغْلِي)
بمعنى : طعام الأثيم يغلي ، أو المهل يغلي ، فذكَّره بعضهم لتذكير الطعام ، ووجه
معناه إلى أن الطعام هو الذي يغلي في بطونهم وبعضهم لتذكير المهل ، ووجهه إلى أنه
صفة للمهل الذي يغلي.
والصواب من القول في ذلك أنهما قراءتان معروفتان صحيحتا المعنى ، فبأيتهما قرأ
القارئ فمصيب( كَغَلْيِ الْحَمِيمِ ) يقول : يغلي ذلك في بطون هؤلاء الأشقياء كغلي
الماء المحموم ، وهو المسخن الذي قد أوقد عليه حتى تناهت شدّة حرّه ، وقيل : حميم
وهو محموم ، لأنه مصروف من مفعول إلى فعيل ، كما يقال : قتيل من مقتول.
القول في تأويل قوله تعالى : { خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَى سَوَاءِ
(22/46)
الْجَحِيمِ (47) ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ
رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ (48) }
يقول تعالى ذكره : (خُذُوهُ) يعني هذا الأثيم بربه ، الذي أخبر جلّ ثناؤه أن له
شجرة الزقوم طعام(فاعْتلُوهُ) يقول تعالى ذكره : فادفعوه وسوقوه ، يقال منه : عتله
يعتله عتلا إذا ساقه بالدفع والجذب; ومنه قول الفرزدق :
ليْسَ الكِرَامُ بِنَاحِلِيكَ أبَاهُمُ... حتى تُرَدّ إلى عَطِيَّةَ تُعْتِلُ (1)
أي تُساق دَفْعا وسحبا.
وقوله( إِلَى سَوَاءِ الْجَحِيمِ ) : إلى وسط الجحيم. ومعنى الكلام : يقال يوم
القيامة : خذوا هذا الأثيم فسوقوه دفعا في ظهره ، وسحبا إلى وسط النار.
وبنحو الذي قلنا في معنى قوله : (فاعْتلُوهُ) قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثني عيسى; وحدثني الحارث ، قال :
ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد قوله( خُذُوهُ
فَاعْتِلُوهُ إِلَى سَوَاءِ الْجَحِيمِ ) قال : خذوه فادفعوه.
وفي قوله(فاعْتلُوهُ) لغتان : كسر التاء ، وهي قراءة بعض قرّاء أهل المدينة وبعض
أهل مكة (2) .
والصواب من القراءة في ذلك عندنا أنهما لغتان معروفتان في العرب ، يقال
__________
(1) البيت في ديوان الفرزدق (طبعة الصاوي بالقاهرة ص 722 ) وناحليك : معطيك .
وموضع الشاهد في البيت قوله " تعتل " . قال في (اللسان : عتل) : وفي
التنزيل " خذوه فاعتلوه إلى سواء الجحيم " قرأ عاصم وحمزة والكسائي وأبو
عمرو " فاعتلوه " بكسر التاء ؛ وقرأ ابن كثير ونافع وابن عامر ويعقوب :
" فاعتلوه " بضم التاء. قال الأزهري : وهما لغتان فصيحتان. ومعناه :
خذوه فاقصفوه كما يقصف الحطب. والعتل : الدفع والإرهاق بالسوق العنيف. ا هـ.
(2) لم يذكر الثانية ، وهي ضم التاء ، وبها قرئ ، ولعله اكتفى عن ذلك ؛ بما ذكره
في السطر الذي بعده.
(22/47)
ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ (49) إِنَّ هَذَا مَا كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ (50)
منه : عتل يعتِل ويعتُل ، فبأيتهما قرأ
القارئ فمصيب.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال. ثنا سعيد ، عن قتادة( إِلَى سَوَاءِ الْجَحِيمِ
) : إلى وَسَط النار.
وقوله( ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ ) يقول تعالى ذكره
: ثم صبوا على رأس هذا الأثيم من عذاب الحميم ، يعني : من الماء المسخن الذي وصفنا
صفته ، وهو الماء الذي قال الله( يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ
) وقد بيَّنت صفته هنالك.
القول في تأويل قوله تعالى : { ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ (49)
إِنَّ هَذَا مَا كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ (50) }
يقول تعالى ذكره : يقال لهذا الأثيم الشقيّ : ذق هذا العذاب الذي تعذّب به اليوم(
إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ ) في قومك( الكَرِيمُ ) عليهم.
وذُكر أن هذه الآيات نزلت في أبي جهل بن هشام.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ
رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ ) نزلت في عدوّ الله أبي جهل لقي النبيّ صلى
الله عليه وسلم ، فأخذه فهزه ، ثم قال : أولى لك يا أبا جهل فأولى ، ثم أولى لك
فأولى ، ذق إنك أنت العزيز الكريم ، وذلك أنه قال : أيوعدني محمد ، والله لأنا
أعزّ من مشى بين جبليها. وفيه نزلت( وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا )
وفيه نزلت( كَلا لا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ ) وقال قتادة : نزلت في أبي
جهل وأصحابه الذين قتل الله تبارك وتعالى يوم بدر( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ
بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ ).
(22/48)
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن
ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، قال : نزلت في أبي جهل( خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ ) قال
قتادة ، قال أبو جهل : ما بين جبليها رجل أعزّ ولا أكرم مني ، فقال الله عزّ وجلّ
: ( ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ ) .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله( خُذُوهُ
فَاعْتِلُوهُ إِلَى سَوَاءِ الْجَحِيمِ ) قال : هذا لأبي جهل.
فإن قال قائل : وكيف قيل وهو يهان بالعذاب الذي ذكره الله ، ويذلّ بالعتل إلى سواء
الجحيم : إنك أنت العزيز الكريم ؟ قيل : إن قوله( إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ
الْكَرِيمُ ) غير وصف من قائل ذلك له بالعزّة والكرم ، ولكنه تقريع منه له بما كان
يصف به نفسه في الدنيا ، وتوبيخ له بذلك على وجه الحكاية ، لأنه كان في الدنيا
يقول : إنك أنت العزيز الكريم ، فقيل له في الآخرة ، إذ عذّب بما عُذّب به في
النار : ذُق هذا الهوان اليوم ، فإنك كنت تزعم إنك أنت العزيز الكريم ، وإنك أنت
الذليل المهين ، فأين الذي كنت تقول وتدّعي من العزّ والكرم ، هلا تمتنع من العذاب
بعزّتك.
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا صفوان بن عيسى; قال ثنا ابن عجلان عن سعيد المقبري ،
عن أبي هريرة قال : قال كعب : لله ثلاثة أثواب : اتَّزر بالعزّ ، وتَسَربل الرحمة
، وارتدى الكبرياء تعالى ذكره ، فمن تعزّز بغير ما أعزّه الله فذاك الذي يقال : ذق
إنك أنت العزيز الكريم ، ومن رحم الناس فذاك الذي سربل الله سرباله الذي ينبغي له
ومن تكبر فذاك الذي نازع الله رداءه إن الله تعالى ذكره يقول : " لا ينبغي
لمن نازعني ردائي أن أدخله الجنة " جلّ وعزّ.
وأجمعت قرّاء الأمصار جميعا على كسر الألف من قوله : ( ذُقْ إنَّكَ ) على وجه
الابتداء. وحكاية قول هذا القائل : إني أنا العزيز الكريم. وقرأ ذلك بعض
المتأخرين( ذُقْ أَنَّكَ ) بفتح الألف على إعمال قوله(ذُقْ) في قوله : (أنَّكَ)
كأنك معنى الكلام عنده : ذق هذا القول الذي قلته في الدنيا.
(22/49)
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ (51) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (52) يَلْبَسُونَ مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَقَابِلِينَ (53)
والصواب من القراءة في ذلك عندنا كسر
الألف من(إنَّكَ) على المعنى الذي ذكرت لقارئه ، لإجماع الحجة من القرّاء عليه ،
وشذوذ ما خالفه ، (1) وكفى دليلا على خطأ قراءة خلافها ، ما مضت عليه الأئمة من
المتقدمين والمتأخرين ، مع بُعدها من الصحة في المعنى وفراقها تأويل أهل التأويل.
وقوله( إِنَّ هَذَا مَا كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ ) يقول تعالى ذكره : يقال له :
إنَّ هذا العذاب الذي تعذّب به اليوم ، هو العذاب الذي كنتم في الدنيا تَشُكُّون ،
فتختصمون فيه ، ولا توقنون به فقد لقيتموه ، فذوقوه.
القول في تأويل قوله تعالى : { إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ (51) فِي
جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (52) يَلْبَسُونَ مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَقَابِلِينَ
(53) }
يقول تعالى ذكره : إن الذين اتقوا الله بأداء طاعته ، واجتناب معاصيه في موضع
إقامة ، آمنين في ذلك الموضع مما كان يخاف منه في مقامات الدنيا من الأوصاب والعلل
والأنصاب والأحزان.
واختلفت القرّاء في قراءة قوله( فِي مَقَامٍ أَمِينٍ ) فقرأته عامة قرّاء المدينة(
فِي مُقَامٍ أَمِينٍ ) بضم الميم ، بمعنى : في إقامة أمين من الظعن (2) . وقرأته
عامة قرّاء المصرين : الكوفة والبصرة(في مَقامٍ) بفتح الميم على المعنى الذي وصفنا
، وتوجيها إلى أنهم في مكان وموضع أمين.
والصواب من القول في ذلك أنهما قراءتان مستفيضتان في قراءة الأمصار صحيحتا المعنى
، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
__________
(1) قوله وشذوذ ما خالفه ، هذا غير صحيح لأن الإمام الكسائي قرأ بفتح الهمز ، وهي
قراءة سبعية متواترة مشهورة وليست شاذة
(2) ما فوق الخط ليس في الأصل.
(22/50)
كَذَلِكَ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (54) يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ آَمِنِينَ (55) لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (56) فَضْلًا مِنْ رَبِّكَ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (57)
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله( إِنَّ
الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ ) إيْ والله ، أمين من الشيطان والأنصاب
والأحزان.
وقوله( فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ) الجنات والعيون ترجمة عن المقام الأمين ، والمقام
الأمين : هو الجنات والعيون ، والجنات : البساتين ، والعيون : عيون الماء المطرد
في أصول أشجار الجنات.
وقوله( يَلْبَسُونَ مِنْ سُنْدُسٍ ) يقول : يلبس هؤلاء المتقون في هذه الجنات من
سندس ، وهو ما رقّ من الديباج وإستبرق : وهو ما غلظ من الديباج.
كما حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، عن عكرمة ، في
قوله( مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ ) قال : الإستبرق : الديباج الغليظ.
وقيل : ( يَلْبَسُونَ مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ ) ولم يقل لباسا ، استغناء
بدلالة الكلام على معناه.
وقوله( مُتَقَابِلِينَ ) يعني أنهم في الجنة يقابل بعضهم بعضا بالوجوه ، ولا ينظر
بعضهم في قفا بعض.
وقد ذكرنا الرواية بذلك فما مضى ، فأغنى ذلك عن إعادته.
القول في تأويل قوله تعالى : { كَذَلِكَ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (54)
يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ آمِنِينَ (55) لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ
إِلا الْمَوْتَةَ الأولَى وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (56) فَضْلا مِنْ
رَبِّكَ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (57) }
يقول تعالى ذكره : كما أعطينا هؤلاء المتقين في الآخرة من الكرامة بإدخالناهم
(22/51)
الجنات ، وإلباسناهم فيها السندس
والإستبرق ، كذلك أكرمناهم بأن زوّجناهم أيضا فيها حورا من النساء ، وهن النقيات
البياض ، واحدتهنّ : حَوْراء.
وكان مجاهد يقول في معنى الحُور ، ما حدثني به محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم
، قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن
ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله( وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ ) قال : أنكحناهم
حورا. قال : والحُور : اللاتي يحار فيهنّ الطرف بادٍ مُخُّ سوقهنّ من وراء ثيابهنّ
، ويرى الناظر وجهه في كبد إحداهنّ كالمرآة من رقة الجلد ، وصفاء اللون. وهذا الذي
قاله مجاهد من أن الحور إنما معناها : أنه يحار فيها الطرف ، قول لا معنى له في
كلام العرب ، لأن الحُور إنما هو جمع حوراء ، كالحمر جمع حمراء ، والسود : جمع
سوداء ، والحوراء إنما هي فعلاء من الحور وهو نقاء البياض ، كما قيل للنقيّ البياض
من الطعام الحُوَّارِيُّ. وقد بينَّا معنى ذلك بشواهده فيما مضى قبل.
وبنحو الذي قلنا في معنى ذلك قال سائر أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله( كَذَلِكَ
وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ ) قال : بيضاء عيناء ، قال : وفي قراءة ابن مسعود(
بعِيس عِين ) .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، في قوله(
بِحُورٍ عِينٍ ) قال : بيض عين ، قال : وفي حرف ابن مسعود( بعِيس عِين ). وقرأ ابن
مسعود هذه ، يعني أن معنى الحور غير الذي ذهب إليه مجاهد ، لأن العيس عند العرب
جمع عيساء ، وهي البيضاء من الإبل ، كما قال الأعشى :
وَمَهْمَهٍ نَازِحٍ تَعْوِي الذّئابُ بِهِ... كَلَّفْتُ أَعْيَسَ تَحْتَ الرَّحْلِ
نَعَّابا (1)
__________
(1) البيت : لأعشى بني قيس بن ثعلبة (ديوانه طبع القاهرة 1361 ) والرواية فيه :
" قفر مساربه " في موضع " تعوي الذئاب به " والمهمه : الصحراء
، ونازح : بعيد . وقفر : خال من النبات والإنس . ومساربه مسالكه . وأعيس : حمل
أبيض يخالطه شقرة أو ظلمة . والرحل : الخشب يشد على الجمل ليركب فوقه . ونعاب : من
نعبت الإبل : إذا مدت أعناقها في سيرها . وقيل هو أن يحرك البعير رأسه إذا أسرع
(اللسان : نعب) . ومحل الشاهد في البيت عند المؤلف أن العيس عند العرب جمع أعيس ،
وعيساء ، وهي الناقة البيضاء ، كما جاء في شعر الأعشى : الأعيس : الجمل الأبيض.
(22/52)
يعني بالأعيس : جملا أبيض. فأما العين
فإنها جمع عيناء ، وهي العظيمة العينين من النساء.
وقوله( يَدْعُونَ فِيهَا )... الآية ، يقول : يدعو هؤلاء المتقون في الجنة بكلّ
نوع من فواكه الجنة اشتهوه ، آمنين فيها من انقطاع ذلك عنهم ونفاده وفنائه ، ومن
غائلة أذاه ومكروهه ، يقول : ليست تلك الفاكهة هنالك كفاكهة الدنيا التي نأكلها ،
وهم يخافون مكروه عاقبتها ، وغبّ أذاها مع نفادها من عندهم ، وعدمها في بعض
الأزمنة والأوقات.
وكان قتادة يوجه تأويل قوله : (آمِنِينَ) إلى ما حدثنا به بشر ، قال : ثنا يزيد ،
قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ آمِنِينَ ) أمنوا
من الموت والأوصاب والشيطان.
وقوله : ( لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلا الْمَوْتَةَ الأولَى ) يقول تعالى
ذكره : لا يذوق هؤلاء المتقون في الجنة الموت بعد الموتة الأولى التي ذاقوها في
الدنيا.
وكان بعض أهل العربية يوجه " إلا " في هذا الموضع إلى أنها في معنى سوى
، ويقول : معنى الكلام : لا يذوقون فيها الموت سوى الموتة الأولى ، ويمثله بقوله
تعالى ذكره : ( وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلا مَا
قَدْ سَلَفَ ) بمعنى : سوى ما قد فعل آباؤكم ، وليس للذي قال من ذلك عندي وجه
مفهوم ، لأن الأغلب من قول القائل : لا أذوق اليوم الطعام إلا الطعام الذي ذقته
قبل اليوم أنه يريد الخبر عن قائله أن عنده طعاما في ذلك اليوم ذائقه وطاعمه دون
سائر الأطعمة غيره.
وإذ كان ذلك الأغلب من معناه وجب أن يكون قد أثبت
(22/53)
بقوله( إِلا الْمَوْتَةَ الأولَى )
موتة من نوع الأولى هم ذائقوها ، ومعلوم أن ذلك ليس كذلك ، لأن الله عزّ وجلّ قد
آمَن أهل الجنة في الجنة إذا هم دخلوها من الموت ، ولكن ذلك كما وصفت من معناه.
وإنما جاز أن توضع " إلا " في موضع " بعد " لتقارب معنييهما
في هذا الموضع وذلك أن القائل إذا قال : لا أكلم اليوم رجلا إلا رجلا بعد رجل عند
عمرو قد أوجب على نفسه أن لا يكلم ذلك اليوم رجلا بعد كلام الرجل الذي عند عمرو.
وكذلك إذا قال : لا أكلم اليوم رجلا بعد رجل عند عمرو ، قد أوجب على نفسه أن لا
يكلم ذلك اليوم رجلا إلا رجلا عند عمرو ، فبعد ، وإلا متقاربتا المعنى في هذا
الموضع. ومن شأن العرب أن تضع الكلمة مكان غيرها إذا تقارب معنياهما ، وذلك كوضعهم
الرجاء مكان الخوف لما في معنى الرجاء من الخوف ، لأن الرجاء ليس بيقين ، وإنما هو
طمع ، وقد يصدق ويكذب كما الخوف يصدق أحيانا ويكذب ، فقال في ذلك أبو ذُؤَيْب :
إذا لَسَعَتْهُ الدَّبْرُ لَمْ يَرْجُ لَسْعَها... وَخَالَفهَا فِي بَيْتِ نُوبٍ
عَوَامِلُ (1)
فقال : لم يرج لسعها ، ومعناه في ذلك : لم يخف لسعها ، وكوضعهم الظنّ موضع العلم
الذي لم يدرك من قِبل العيان ، وإنما أدرك استدلالا أو خبرا ، كما قال الشاعر :
فَقُلْتُ لَهُمْ ظُنُّوا بألْفَيْ مُدَجَّجٍ... سَرَاتُهُمُ في الفَارِسِيّ
المُسَرَّدِ (2)
__________
(1) البيت لأبي ذؤيب . وهو شاهد على أن لم يرج : أي لم يخف . وقد سبق الاستشهاد به
في هذا التفسير ، وتقدم الكلام عليه مفصلا (انظره في 5 : 264 من هذه الطبعة) . وفي
قافيته : " عواسل " في موضع عوامل. وكلتاهما صحيحة.
(2) البيت لدريد بن الصمة الجشمي . (اللسان : ظنن) . قال : الجوهري : الظن معروف .
وقد يوضع موضع العلم . قال دريد ابن الصمة : " فقلت لهم ظنوا... " البيت
: أي استيقنوا ، وإنما يخوف عدوه باليقين لا بالشك . والشاهد في البيت عند المؤلف
أن العلم قد يوضع في موضع الظن ، كما أن الرجاء قد يوضع موضع الخوف.
(22/54)
فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (58) فَارْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ (59)
بمعنى : أيقنوا بألفي مدجَّج واعلموا ،
فوضع الظنّ موضع اليقين ، إذ لم يكن المقول لهم ذلك قد عاينوا ألفي مدجج ، ولا
رأوهم ، وإن ما أخبرهم به هذا المخبر ، فقال لهم ظنوا العلم بما لم يعاين من فعل
القلب ، فوضع أحدهما موضع الآخر لتقارب معنييهما في نظائر لما ذكرت يكثر إحصاؤها ،
كما يتقارب معنى الكلمتين في بعض المعاني ، وهما مختلفتا المعنى في أشياء أخر ،
فتضع العرب إحداهما مكان صاحبتها في الموضع الذي يتقارب معنياهما فيه.
فكذلك قوله( لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلا الْمَوْتَةَ الأولَى ) وضعت
" إلا " في موضع " بعد " لما نصف من تقارب معنى " إلا
" ، و " بعد " في هذا الموضع ، وكذلك( وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ
آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلا مَا قَدْ سَلَفَ ) إنما معناه : بعد الذي سلف
منكم في الجاهلية ، فأما إذا وجهت " إلا " في هذا الموضع إلى معنى سوى ،
فإنما هو ترجمة عن المكان ، وبيان عنها بما هو أشدّ التباسًا على من أراد علم
معناها منها.
وقوله( وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ فَضْلا مِنْ رَبِّكَ ) يقول تعالى ذكره :
ووقى هؤلاء المتقين ربهم يومئذ عذاب النار تفضلا يا محمد من ربك عليهم ، وإحسانًا
منه عليهم بذلك ، ولم يعاقبهم بجرم سلف منهم في الدنيا ، ولولا تفضله عليهم بصفحه
لهم عن العقوبة لهم على ما سلف منهم من ذلك ، لم يقهم عذاب الجحيم ، ولكن كان
ينالهم ويصيبهم ألمه ومكروهه.
وقوله( ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ) يقول تعالى ذكره : هذا الذي أعطينا
هؤلاء المتقين في الآخرة من الكرامة التي وصفت في هذه الآيات ، هو الفوز العظيم :
يقول : هو الظفر العظيم بما كانوا يطلبون من إدراكه في الدنيا بأعمالهم وطاعتهم
لربهم ، واتقائهم إياه ، فيما امتحنهم به من الطاعات والفرائض ، واجتناب المحارم.
القول في تأويل قوله تعالى : { فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ
(22/55)
يَتَذَكَّرُونَ (58) فَارْتَقِبْ
إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ (59) }
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : فإنما سهَّلنا قراءة هذا القرآن
الذي أنزلناه إليك يا محمد بلسانك ، ليتذكر هؤلاء المشركون الذين أرسلناك إليهم
بعبره وحُججه ، ويتَّعظوا بعظاته ، ويتفكَّروا في آياته إذا أنت تتلوه عليهم ،
فينيبوا إلى طاعة ربهم ، ويذعنوا للحقّ عند تبينهموه.
كما حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله( فَإِنَّمَا
يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ ) : أي هذا القرآن( لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ) .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله( فَإِنَّمَا
يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ ) قال : القرآن ، ويسَّرناه : أطلق به لسانه.
وقوله( فَارْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ ) يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى
الله عليه وسلم : فانتظر أنت يا محمد الفتح من ربك ، والنصر على هؤلاء المشركين
بالله من قومك من قريش ، إنهم منتظرون عند أنفسهم قهرك وغلبتك بصدّهم عما أتيتهم
به من الحق من أراد قبوله واتباعك عليه.
وبنحو الذي قلنا في تأويل قوله( فَارْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ ) قال أهل
التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( فَارْتَقِبْ إِنَّهُمْ
مُرْتَقِبُونَ ) : أي فانتظر إنهم منتظرون.
آخر تفسير سورة الدخان
(22/56)
حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (2) إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآَيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ (3) وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آَيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (4)
تفسير سورة الجاثية بسم الله الرحمن
الرحيم
القول في تأويل قوله تعالى : { حم (1) تَنزيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ
الْحَكِيمِ (2) إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ لآيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ (3) }
قد تقدم بياننا في معنى قوله(حم) . وأما قوله : ( تَنزيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ
) فإن معناه : هذا تنزيل القرآن من عند الله(العَزِيزِ) في انتقامه من
أعدائه(الحَكِيمِ) في تدبيره أمر خلقه.
وقوله : ( إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ لآيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ ) يقول
تعالى ذكره : إن في السموات السبع اللاتي منهنّ نزول الغيث ، والأرض التي منها
خروج الخلق أيها الناس( لآيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ ) يقول : لأدلة وحججا للمصدّقين
بالحجج إذا تبيَّنوها ورأوها.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ
آيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (4) }
يقول تعالى ذكره : وفى خلق الله إياكم أيها الناس ، وخلقه ما تفرّق في الأرض من
دابة تدّب عليها من غير جنسكم( آيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ ) يعني : حججا وأدلة
لقوم يوقنون بحقائق الأشياء ، فيقرّون بها ، ويعلمون صحتها.
(22/59)
واختلفت القرّاء في قراءة قوله : (
آيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ ) وفي التي بعد ذلك فقرأ ذلك عامة قرّاء المدينة
والبصرة وبعض قرّاء الكوفة(آياتٌ) رفعا على الابتداء ، وترك ردّها على قوله(
لآيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ ) ، وقرأته عامة قرّاء الكوفة(آياتٍ) خفضا بتأويل النصب
ردّا على قوله( لآيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ ).
وزعم قارئو ذلك كذلك من المتأخرين أنهم اختاروا قراءته كذلك ، لأنه في قراءة أُبيّ
في الآيات الثلاثة(لآياتٍ) باللام فجعلوا دخول اللام في ذلك في قراءته دليلا لهم
على صحة قراءة جميعه بالخفض ، وليس الذي اعتمدوا عليه من الحجة في ذلك بحجة ، لأنه
لا رواية بذلك عن أبيّ صحيحة ، وأبيّ لو صحت به عنه رواية ، ثم لم يُعلم كيف كانت
قراءته بالخفض أو بالرفع لم يكن الحكم عليه بأنه كان يقرؤه خفضا ، بأولى من الحكم
عليه بأنه كان يقرؤه رفعا ، إذ كانت العرب قد تدخل اللام في خبر المعطوف على جملة
كلام تامّ قد عملت في ابتدائها " إن " ، مع ابتدائهم إياه ، كما قال
حُمَيد بن ثَور الهِلاليّ :
إنَّ الخِلافَةَ بَعْدَهُمْ لَذَميمَةٌ... وَخَلائِفٌ طُرُفٌ لَمِمَّا أحْقِرُ (1)
فأدخل اللام في خبر مبتدأ بعد جملة خبر قد عملت فيه " إن " إذ كان
__________
(1) لم أجد البيت في ديوان حميد بن ثور الهلالي طبعة دار الكتب المصرية . والخلاف
الطرف : هم الذين خلفوا بعد آبائهم القدماء . يقول : إن الخلافة بعد الخلفاء
الأولين صارت ذميمة ، والخلفاء المحدثون محتقرون في عيني ، لأنهم لا يسلكون مسلك
آبائهم . والشاهد في البيت أن الشاعر استأنف بالواو جملة من مبتدأ وخبر مرفوعين
بعد الجملة الأولى التي مبتدؤها منصوب بأن ، وذلك كما في الآية : " إن في السموات
والأرض لآيات للمؤمنين وفي خلقكم وما يبث من دابة آيات لقوم يوقنون " . ا .
هـ . وقال الفراء في معاني القرآن (الورقة 299) قوله " وفي خلقكم وما يبث من
دابة آيات " : تقرأ الآيات بالخفض ، على تأويل النصب ، يرد على قوله "
إن في السموات والأرض لآيات " . ويقوي الخفض فيها أنها في قراءة عبد الله بن
مسعود : لآيات . وفي قراءة أُبي لآيات. والرفع قراءة الناس على الاستئناف فيما بعد
أن . والعرب تقول : إن لي عليك مالا ، وعلى أخيك مال كثير ، فينصبون الثاني
ويرفعونه وفي قراءة عبد الله : " وفي اختلاف الليل والنهار " فهذه تقوي
خفض الاختلاف . ولو رفع رافع فقال : " واختلاف الليل والنهار آيات "
أيضا ، يجعل الاختلاف آيات ، ولم نسمعه من أحد من القراء . قال : ولو رفع رافع
الآيات وفيها اللام ، كان صوابا. قال : أنشدني الكسائي " إن الخلافة.. "
البيت.
(22/60)
وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آَيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (5)
الكلام ، وإن ابتدئ منويا فيه إن.
والصواب من القول في ذلك إن كان الأمر على ما وصفنا أن يقال : إن الخفض في هذه
الأحرف والرفع قراءتان مستفيضتان في قراءة الأمصار قد قرأ بهما علماء من القرّاء
صحيحتا المعنى ، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنزلَ
اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا
وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (5) }
يقول تبارك وتعالى( وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ ) أيها الناس ، وتعاقبهما
عليكم ، هذا بظلمته وسواده وهذا بنوره وضيائه( وَمَا أَنزلَ اللَّهُ مِنَ
السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ ) وهو الغيث الذي به تخرج الأرض أرزاق العباد وأقواتهم ،
وإحيائه الأرض بعد موتها : يقول : فأنبت ما أنزل من السماء من الغيْث ميت الأرض ،
حتى اهتزّت بالنبات والزرع من بعد موتها ، يعني : من بعد جدوبها وقحوطها ومصيرها
دائرة لا نبت فيها ولا زرع.
وقوله( وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ ) يقول : وفي تصريفه الرياح لكم شمالا مرّة ،
وجنوبا أخرى ، وصبًّا أحيانا ، ودبورا أخرى لمنافعكم.
وقد قيل : عنى بتصريفها بالرحمة مرّة ، وبالعذاب أخرى.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، في قوله(
وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ ) قال : تصريفها إن شاء جعلها رحمة; وإن شاء جعلها عذابا.
وقوله( آيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ) يقول تعالى ذكره : في ذلك أدلة وحجج لله على
خلقه ، لقوم يعقلون عن الله حججه ، ويفهمون عنه ما وعظهم به من
(22/61)
تِلْكَ آَيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآَيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ (6) وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (7) يَسْمَعُ آَيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (8)
الآيات والعبر.
القول في تأويل قوله تعالى : { تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ
بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ (6) }
يقول تعالى ذكره : هذه الآيات والحجج يا محمد من ربك على خلقه نتلوها عليك بالحقّ
: يقول : نخبرك عنها بالحقّ لا بالباطل ، كما يخبر مشركو قومك عن آلهتهم بالباطل ،
أنها تقرّبهم إلى الله زُلْفَى ، فبأيّ حديث بعد الله وآياته تؤمنون : يقول تعالى
ذكره للمشركين به : فبأيّ حديث أيها القوم بعد حديث الله هذا الذي يتلوه عليكم ،
وبعد حجه عليكم وأدلته التي دلكم بها على وحدانيته من أنه لا ربّ لكم سواه ،
تصدّقون ، إن كنتم كذّبتم لحديثه وآياته. وهذا التأويل على مذهب قراءة من
قرأ(تُؤْمِنُونَ) على وجه الخطاب من الله بهذا الكلام للمشركين ، وذلك قراءة عامة
قرّاء الكوفيين.
وأما على قراءة من قرأه(يُؤْمِنُونَ) بالياء ، فإن معناه : فبأيّ حديث يا محمد بعد
حديث الله الذي يتلوه عليك وآياته هذه التي نبه هؤلاء المشركين عليها ، وذكرهم بها
، يؤمن هؤلاء المشركون ، وهي قراءة عامة قرّاء أهل المدينة والبصرة ، ولكلتا
القراءتين وجه صحيح ، وتأويل مفهوم ، فبأية القراءتين قرأ ذلك القارئ فمصيب عندنا
، وإن كنت أميل إلى قراءته بالياء إذ كانت في سياق آيات قد مضين قبلها على وجه
الخبر ، وذلك قوله : ( لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ ) و( لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ).
القول في تأويل قوله تعالى : { وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (7) يَسْمَعُ
آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ
يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (8) }
(22/62)
وَإِذَا عَلِمَ مِنْ آَيَاتِنَا شَيْئًا اتَّخَذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (9)
يقول تعالى ذكره : الوادي السائل من
صديد أهل جهنم ، لكلّ كذّاب ذي إثم بربه ، مفتر عليه( يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ
تُتْلَى عَلَيْهِ ) يقول : يسمع آيات كتاب الله تُقرأ عليه( ثُمَّ يُصِرُّ ) على
كفره وإثمه فيقيم عليه غير تائب منه ، ولا راجع عنه( مُسْتَكْبِرًا ) على ربه أن
يذعن لأمره ونهيه( كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا ) يقول : كأن لم يسمع ما تلي عليه من
آيات الله بإصراره على كفره( فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ) يقول : فبشر يا محمد
هذا الأفَّاك الأثيم الذي هذه صفته بعذاب من الله له.(أليم) : يعني موجع في نار
جهنم يوم القيامة.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَإِذَا عَلِمَ مِنْ آيَاتِنَا شَيْئًا اتَّخَذَهَا
هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (9) }
يقول تعالى ذكره : (وَإِذَا عَلِمَ) هذا الأفاك الأثيم(مِنْ) آيات الله( شَيْئًا
اتَّخَذَهَا هُزُوًا ) : يقول : اتخذ تلك الآيات التي علمها هزوا ، يسخر منها ،
وذلك كفعل أبي جهل حين نزلت( إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ طَعَامُ الأثِيمِ ) إذ
دعا بتمر وزبد فقال : تزقموا من هذا ، ما يعدكم محمد إلا شهدا ، وما أشبه ذلك من
أفعالهم.
وقوله( أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ ) يقول تعالى ذكره : هؤلاء الذين يفعلون
هذا الفعل ، وهم الذين يسمعون آيات الله تُتلى عليهم ثم يصرّون على كفرهم
استكبارًا ، ويتخذون آيات الله التي علموها هزوا ، لهم يوم القيامة من الله عذاب
مهين يهينهم ويذلهم في نار جهنم ، بما كانوا في الدنيا يستكبرون عن طاعة الله
واتباع آياته ، وإنما قال تعالى ذكره(أُولَئِكَ) فجمع. وقد جرى الكلام قبل ذلك (1)
ردّا للكلام إلى معنى الكلّ في قوله( وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ ).
__________
(1) لعله : وقد جرى الكلام قبل ذلك على الإفراد ، ردا. إلخ...
(22/63)
مِنْ وَرَائِهِمْ جَهَنَّمُ وَلَا يُغْنِي عَنْهُمْ مَا كَسَبُوا شَيْئًا وَلَا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (10) هَذَا هُدًى وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآَيَاتِ رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (11) اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (12)
القول في تأويل قوله تعالى : { مِنْ
وَرَائِهِمْ جَهَنَّمُ وَلا يُغْنِي عَنْهُمْ مَا كَسَبُوا شَيْئًا وَلا مَا
اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (10) }
يقول تعالى ذكره : ومن وراء هؤلاء المستهزئين بآيات الله ، يعني من بين أيديهم.
وقد بينَّا العلة التي من أجلها قيل لما أمامك ، هو وَرَاءك ، فيما مضى بما أغنى
عن إعادته; يقول : من بين أيديهم نار جهنم هم واردوها ، ولا يغنيهم ما كسبوا شيئًا
: يقول : ولا يغني عنهم من عذاب جهنم إذا هم عُذّبوا به ما كسبوا في الدنيا من مال
وولد شيئا.
وقوله : ( وَلا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ ) يقول : ولا
آلهتهم التي عبدوها من دون الله ، ورؤساؤهم ، وهم الذين أطاعوهم في الكفر بالله ،
واتخذوهم نُصراء في الدنيا ، تغني عنهم يومئذ من عذاب جهنم شيئا.( وَلَهُمْ
عَذَابٌ عَظِيمٌ ) يقول : ولهم من الله يومئذ عذاب في جهنم عظيم.
القول في تأويل قوله تعالى : { هَذَا هُدًى وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ
رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (11) }
يقول تعالى ذكره : هذا القرآن الذي أنزلناه على محمد هدى : يقول : بيان ودليل على
الحقّ ، يهدي إلى صراط مستقيم ، من اتبعه وعمل بما فيه( وَالَّذِينَ كَفَرُوا
بِآيَاتِ رَبِّهِمْ ) يقول : والذين جحدوا ما في القرآن من الآيات الدالات على
الحقّ ، ولم يصدقوا بها ، ويعملوا بها ، لهم عذاب أليم يوم القيامة موجع.
القول في تأويل قوله تعالى : { اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ
لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ
وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (12) }
(22/64)
وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (13)
يقول تعالى ذكره : الله أيها القوم ،
الذي لا تنبغي الألوهة إلا له ، الذي أنعم عليكم هذه النعم ، التي بيَّنها لكم في
هذه الآيات ، وهو أنه( سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ ) السفن(فيه بأمره)
لمعايشكم وتصرّفكم في البلاد لطلب فضله فيها ، ولتشكروا ربكم على تسخيره ذلك لكم
فتعبدوه وتطيعوه فيما يأمركم به ، وينهاكم عنه.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي
الأرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (13) }
يقول تعالى ذكره : ( وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ ) من شمس وقمر ونجوم(
وَمَا فِي الأرْضِ ) من دابة وشجر وجبل وجماد وسفن لمنافعكم ومصالحكم( جَمِيعًا
مِنْهُ ). يقول تعالى ذكره : جميع ما ذكرت لكم أيها الناس من هذه النعم ، نعم
عليكم من الله أنعم بها عليكم ، وفضل منه تفضّل به عليكم ، فإياه فاحمدوا لا غيره
، لأنه لم يشركه في إنعام هذه النعم عليكم شريك ، بل تفرّد بإنعامها عليكم وجميعها
منه ، ومن نعمه فلا تجعلوا له في شكركم له شريكا بل أفردوه بالشكر والعبادة ،
وأخلصوا له الألوهة ، فإنه لا إله لكم سواه.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ،
عن ابن عباس قوله( وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ
جَمِيعًا مِنْهُ ) يقول : كل شيء هو من الله ، وذلك الاسم فيه اسم من أسمائه ،
فذلك جميعا منه ، ولا ينازعه فيه المنازعون ، واستيقن أنه كذلك.
وقوله( إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ) يقول تعالى ذكره : إن
في
(22/65)
تسخير الله لكم ما أنبأكم أيها الناس أنه سخره لكم فى هاتين الآيتين(لآيَاتٍ) يقول : لعلامات ودلالات على أنه لا إله لكم غيره ، الذي أنعم عليكم هذه النعم ، وسخر لكم هذه الأشياء التي لا يقدر على تسخيرها غيره لقوم يتفكرون في آيات الله وحججه وأدلته ، فيعتبرون بها ويتعظون إذا تدبروها ، وفكَّروا فيها.
(22/66)
قُلْ لِلَّذِينَ آَمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لَا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ لِيَجْزِيَ قَوْمًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (14)
القول في تأويل قوله تعالى : { قُلْ
لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ
لِيَجْزِيَ قَوْمًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (14) }
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : قل يا محمد للذين صدّقوا الله
واتبعوك ، يغفروا للذين لا يخافون بأس الله ووقائعه ونقمه إذا هم نالوهم بالأذى
والمكروه( لِيَجْزِيَ قَوْمًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ) يقول : ليجزي الله
هؤلاء الذين يؤذونهم من المشركين في الآخرة ، فيصيبهم عذابه بما كانوا فى الدنيا
يكسبون من الإثم ، ثم بأذاهم أهل الإيمان بالله.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ،
عن ابن عباس ، قوله( قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ
أَيَّامَ اللَّهِ لِيَجْزِيَ قَوْمًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ) قال : كان نبي
الله صلى الله عليه وسلم يعرض عن المشركين إذا آذوه ، وكانوا يستهزئون به ،
ويكذّبونه ، فأمره الله عزّ وجلّ أن يقاتل المشركين كافَّة ، فكان هذا من المنسوخ.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن
مجاهد ، في قول الله( لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ ) قال : لا
يُبالون نِعم الله ، أو نِقم الله.
حدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي
(22/66)
نجيح ، عن مجاهد( لا يَرْجُونَ
أَيَّامَ اللَّهِ ) قال : لا يُبالون نِعم الله. وهذه الآية منسوخة بأمر الله
بقتال المشركين. وإنما قُلنا : هي منسوخة لإجماع أهل التأويل على أن ذلك كذلك.
* ذكر من قال ذلك :
وقد ذكرنا الرواية في ذلك عن ابن عباس ، حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا
سعيد ، عن قتادة في قوله( قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا
يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ ) قال : نسختها ما في الأنفال( فَإِمَّا
تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ
يَذَّكَّرُونَ ) وفي براءة( قَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا
يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً ) أمر بقتالهم حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن
محمدًا رسول الله.
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، في قوله( قُلْ
لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ ) قال :
نسختها( فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ ) .
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك
يقول في قوله( قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ
أَيَّامَ اللَّهِ ) قال : هذا منسوخ ، أمر الله بقتالهم في سورة براءة.
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا حكام ، قال : ثنا عنبسة عمن ذكره عن أبي صالح( قُلْ
لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ ) قال :
نسختها التي في الحج(أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا) .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله( قُلْ
لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ ) قال :
هؤلاء المشركون ، قال : وقد نسخ هذا وفرض جهادهم والغلظة عليهم.
وجزم قوله(يَغْفِرُوا) تشبيها له بالجزاء والشرط وليس به ، ولكن لظهوره في الكلام
على مثاله ، فعرّب تعريبه ، وقد مضى البيان عنه قبل.
واختلفت القرّاء في قراءة قوله( لِيَجْزِيَ قَوْمًا ) فقرأه بعض قرّاء المدينة
والبصرة والكوفة : (لِيَجْزِي) بالياء على وجه الخبر عن الله أنه يجزيهم ويثيبهم
(22/67)
مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (15)
وقرأ ذلك بعض عامة قرّاء الكوفيين
" لنجزي " بالنون على وجه الخبر من الله عن نفسه. وذُكر عن أبي جعفر
القارئ أنه كان يقرؤه( لِيُجْزَى قَوْمًا ) على مذهب ما لم يسمّ فاعله ، وهو على
مذهب كلام العرب لحن ، (1) إلا أن يكون أراد : ليجزي الجزاء قوما ، بإضمار الجزاء
، وجعله مرفوعا( لِيُجْزِي ) فيكون وجها من القراءة ، وإن كان بعيدا (2) .
والصواب من القول في ذلك عندنا أن قراءته بالياء والنون على ما ذكرت من قراءة
الأمصار جائزة بأيّ تينك القراءتين قرأ القارئ. فأما قراءته على ما ذكرت عن أبي
جعفر ، فغير (3) جائزة عندي لمعنيين : أحدهما : أنه خلاف لما عليه الحجة من
القرّاء ، وغير جائز عندي خلاف ما جاءت به مستفيضا فيهم. والثاني بعدها من الصحة
فى العربية إلا على استكراه الكلام على غير المعروف من وجهه.
القول في تأويل قوله تعالى : { مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ
فَعَلَيْهَا ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (15) }
يقول تعالى ذكره : من عمل من عباد الله بطاعته فانتهى إلى أمره ، وانزجر لنهيه ،
فلنفسه عمل ذلك الصالح من العمل ، وطلب خلاصها من عذاب الله ، أطاع ربه لا لغير
ذلك ، لأنه لا ينفع ذلك غيره ، والله عن عمل كل عامل غنيّ( وَمَنْ أَسَاءَ
فَعَلَيْهَا ) يقول : ومن أساء عمله في الدنيا بمعصيته فيها ربه ، وخلافه فيها
أمره ونهيه ، فعلى نفسه جنى ، لأنه أوبقها بذلك ، وأكسبها به سخطه ، ولم يضرّ أحدا
سوى نفسه( ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ ) يقول : ثم أنتم أيها الناس أجمعون
إلى ربكم تصيرون من بعد مماتكم ، فيجازى المحسن منكم بإحسانه ،
__________
(1) ليس كلام العرب حجة على القراءة ولكن القراءة حجة على كلامهم.
(2) يجوز أن يكون الفاعل نائب فاعل هو قوله تعالى (بما كانوا يكسبون).
(3) قوله : فغير جائزة ، هذا خطأ لأن القراءة عشرية صحيحة متواترة في قوة السبعة.
(22/68)
وَلَقَدْ آَتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (16) وَآَتَيْنَاهُمْ بَيِّنَاتٍ مِنَ الْأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (17)
والمسيء بإساءته ، فمن ورد عليه منكم
بعمل صالح ، جوزي من الثواب صالحا ، ومن ورد عليه منكم بعمل سيئ جوزي من الثواب
سيئا.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ
وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ
عَلَى الْعَالَمِينَ (16) }
يقول تعالى ذكره( وَلَقَدْ آتَيْنَا ) يا محمد( بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ )
يعني التوراة والإنجيل ، (والحُكْمَ) يعني الفهم بالكتاب ، والعلم بالسنن التي لم
تنزل فى الكتاب ، ( وَالنُّبُوَّةَ ) يقول : وجعلنا منهم أنبياء ورسُلا إلى الخلق
، ( وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ ) يقول : وأطعمناهم من طيبات أرزاقنا ،
وذلك ما أطعمهم من المنّ والسلوى( وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ ) يقول :
وفضلناهم على عالمي أهل زمانهم في أيام فرعون وعهده في ناحيتهم بمصر والشام.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَآتَيْنَاهُمْ بَيِّنَاتٍ مِنَ الأمْرِ فَمَا
اخْتَلَفُوا إِلا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ إِنَّ
رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ
يَخْتَلِفُونَ (17) }
يقول تعالى ذكره : وأعطينا بني إسرائيل واضحات من أمرنا بتنزيلنا إليهم التوراة
فيها تفصيل كل شيء( فَمَا اخْتَلَفُوا إِلا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ
بَغْيًا بَيْنَهُمْ ) طلبا للرياسات ، وتركا منهم لبيان الله تبارك وتعالى في
تنزيله.
وقوله( إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا
فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ) يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : إن ربك يا
محمد يقضي بين المختلفين من بني إسرائيل بغيا بينهم يوم القيامة ، فيما كانوا فيه
في الدنيا يختلفون بعد العلم
(22/69)
ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (18) إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ (19)
الذي آتاهم ، والبيان الذي جاءهم منه ،
فيفلج المحقّ حينئذ على المبطل بفصل الحكم بينهم.
القول في تأويل قوله تعالى : { ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الأمْرِ
فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ (18) إِنَّهُمْ
لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ
أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ (19) }
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : ثم جعلناك يا محمد من بعد الذي
آتينا بني إسرائيل ، الذين وصفت لك صفتهم( عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الأمْرِ ) يقول :
على طريقة وسنة ومنهاج من أمرنا الذي أمرنا به من قبلك من رسلنا( فاتَّبِعْها )
يقول : فاتبع تلك الشريعة التي جعلناها لك( وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا
يَعْلَمُونَ ) يقول : ولا تتبع ما دعاك إليه الجاهلون بالله ، الذين لا يعرفون
الحقّ من الباطل ، فتعمل به ، فتهلك إن عملت به.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ،
عن ابن عباس( ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الأمْرِ فَاتَّبِعْهَا ) قال
: يقول على هدى من الأمر وبيِّنة.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله( ثُمَّ
جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الأمْرِ فَاتَّبِعْهَا ) والشريعة : الفرائض
والحدود والأمر والنهي فاتبعها( وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا
يَعْلَمُونَ ).
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله( ثُمَّ
(22/70)
هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (20) أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (21)
جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ
الأمْرِ ) قال : الشريعة : الدين. وقرأ( شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى
بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ) قال : فنوح أوّلهم وأنت آخرهم.
وقوله( إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا ) يقول تعالى ذكره :
إن هؤلاء الجاهلين بربهم ، الذين يدعونك يا محمد إلى اتباع أهوائهم ، لن يغنوا عنك
إن أنت اتبعت أهواءهم ، وخالفت شريعة ربك التي شرعها لك من عقاب الله شيئا ،
فيدفعوه عنك إن هو عاقبك ، وينقذوك منه.
وقوله( وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ) يقول : وإن
الظالمين بعضهم أنصار بعض ، وأعوانهم على الإيمان بالله وأهل طاعته( وَاللَّهُ
وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ ) يقول تعالى ذكره : والله يلي من اتقاه بأداء فرائضه ،
واجتناب معاصيه بكفايته ، ودفاع من أراده بسوء ، يقول جلّ ثناؤه لنبيه عليه الصلاة
والسلام فكن من المتقين ، يكفك الله ما بغاك وكادك به هؤلاء المشركون ، فإنه وليّ
من اتقاه ، ولا يعظم عليك خلاف من خالف أمره وإن كثر عددهم ، لأنهم لن يضرّوك ما
كان الله وليك وناصرك.
القول في تأويل قوله تعالى : { هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ
لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (20) أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ
نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ
وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (21) }
يقول تعالى ذكره( هَذَا ) الكتاب الذي أنزلناه إليك يا محمد( بَصَائِرَ لِلنَّاسِ
) يُبْصِرُون به الحقّ من الباطل ، ويعرفون به سبيل الرشاد ، والبصائر : جمع
بصيرة.
(22/71)
وبنحو الذي قلنا في ذلك كان ابن زيد
يقول.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله( هَذَا
بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ ) قال : القرآن. قال : هذا كله إنما هو في
القلب. قال : والسمع والبصر في القلب. وقرأ( فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأبْصَارُ
وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ ) وليس ببصر الدنيا ولا
بسمعها.
وقوله : ( وَهُدًى ) يقول : ورشاد( وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ ) بحقيقة صحة
هذا القرآن ، وأنه تنزيل من الله العزيز الحكيم. وخصّ جلّ ثناؤه الموقنين بأنه لهم
بصائر وهدى ورحمة ، لأنهم الذين انتفعوا به دون من كذب به من أهل الكفر ، فكان
عليه عمى وله حزنا.
وقوله( أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ ) يقول تعالى ذكره : أم
ظنّ الذين اجترحوا السيئات من الأعمال في الدنيا ، وكذّبوا رسل الله ، وخالفوا أمر
ربهم ، وعبدوا غيره ، أن نجعلهم في الآخرة ، كالذين آمنوا بالله وصدّقوا رسله
وعملوا الصالحات ، فأطاعوا الله ، وأخلصوا له العبادة دون ما سواه من الأنداد
والآلهة ، كلا ما كان الله ليفعل ذلك ، لقد ميز بين الفريقين ، فجعل حزب الإيمان
في الجنة ، وحزب الكفر في السعير.
كما حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( أَمْ حَسِبَ
الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ )... الآية ، لعمري لقد تفرّق القوم في
الدنيا ، وتفرّقوا عند الموت ، فتباينوا في المصير.
وقوله( سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ ) اختلفت القرّاء في قراءة قوله(سَوَاء)
فقرأت ذلك عامة قرّاء المدينة والبصرة وبعض قرّاء الكوفة(سَوَاءٌ) بالرفع ، على أن
الخبر متناه عندهم عند قوله( كَالَّذِينَ آمَنُوا ) وجعلوا خبر قوله( أَنْ
نَجْعَلَهُمْ قَوْلُهُ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ) ، ثم
ابتدءوا الخبر عن استواء حال محيا المؤمن ومماته ، ومحيا الكافر ومماته ، فرفعوا
قوله : (سَوَاءٌ) على وجه الابتداء بهذا
(22/72)
المعنى ، وإلى هذا المعنى وجه تأويل
ذلك جماعة من أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث ، قال :
ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله( سَوَاءً
مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ ) قال : المؤمن في الدنيا والآخرة مؤمن ، والكافر في
الدنيا والآخرة كافر.
حدثنا أبو كُرَيب ، قال : ثنا الحسن ، عن شيبان ، عن ليث ، في قوله( سَوَاءً مَحْيَاهُمْ
وَمَمَاتُهُمْ ) قال : بعث المؤمن مؤمنا حيا وميتا ، والكافر كافرًا حيًا وميتًا.
وقد يحتمل الكلام إذا قُرئ سواء رفعا وجها آخر غير هذا المعنى الذي ذكرناه عن
مجاهد وليث ، وهو أن يوجه إلى : أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم والمؤمنين
سواء في الحياة والموت ، بمعنى : أنهم لا يستوون ، ثم يرفع سواء على هذا المعنى ،
إذ كان لا ينصرف ، كما يقال : مررت برجل خير منك أبوه ، وحسبك أخوه ، فرفع حسبك ،
وخير إذ كانا في مذهب الأسماء ، ولو وقع موقعهما فعل في لفظ اسم لم يكن إلا نصبا ،
فكذلك قوله : (سواءٌ). وقرأ ذلك عامة قرّاء الكوفة(سَوَاءٌ) نصبا ، بمعنى : أحسبوا
أن نجعلهم والذين آمنوا وعملوا الصالحات سواء.
والصواب من القول في ذلك عندي أنهما قراءتان معروفتان في قراءة الأمصار قد قرأ
بكلّ واحدة منهما أهل العلم بالقرآن صحيحتا المعنى ، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب.
واختلف أهل العربية في وجه نصب قوله(سَوَاءٌ) ورفعه ، فقال بعض نحويي البصرة(
سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ ) رفع. وقال بعضهم : إن المحيا والممات للكفار
كله ، قال( أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ
كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ) ثم قال سواء محيا الكفار ومماتهم
: أي محياهم محيا سواء ،
(22/73)
ومماتهم ممات سواء ، فرفع السواء على
الابتداء. قال : ومن فَسَّر المحيا والممات للكفار والمؤمنين ، فقد يجوز في هذا
المعنى نصب السواء ورفعه ، لأن من جعل السواء مستويا ، فينبغي له في القياس أن
يُجريه على ما قبله ، لأنه صفة ، ومن جعله الاستواء ، فينبغي له أن يرفعه لأنه اسم
، إلا أن ينصب المحيا والممات على البدل ، وينصب السواء على الاستواء ، وإن شاء
رفع السواء إذا كان في معنى مستو ، كما تقول : مررت برجل خير منك أبوه ، لأنه صفة
لا يصرف والرفع أجود.
وقال بعض نحويي الكوفة قوله( سَوَاءً مَحْيَاهُمْ ) بنصب سواء وبرفعه ، والمحيا
والممات في موضع رفع بمنزلة ، قوله : رأيت القوم سواء صغارهم وكبارهم بنصب سواء
لأنه يجعله فعلا لما عاد على الناس من ذكرهم ، قال : وربما جعلت العرب سواء في
مذهب اسم بمنزلة حسبك ، فيقولون : رأيت قومك سواء صغارهم وكبارهم. فيكون كقولك :
مررت برجل حسبك أبوه ، قال : ولو جعلت مكان سواء مستو لم يرفع ، ولكن نجعله متبعا
لما قبله ، مخالفا لسواء ، لأن مستو من صفة القوم ، ولأن سواء كالمصدر ، والمصدر
اسم. قال : ولو نصبت المحيا والممات كان وجها ، يريد أن نجعلهم سواء في محياهم
ومماتهم.
وقال آخرون منهم : المعنى : أنه لا يساوي من اجترح السيئات المؤمن في الحياة ، ولا
الممات ، على أنه وقع موقع الخبر ، فكان خبرا لجعلنا ، قال : والنصب للأخبار كما
تقول : جعلت إخوتك سواء ، صغيرهم وكبيرهم ، ويجوز أن يرفع ، لأن سواء لا ينصرف.
وقال : من قال : ( أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ
نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ) فجعل كالذين الخبر
استأنف بسواء ورفع ما بعدها ، وأن نصب المحيا والممات نصب سواء لا غير ، وقد تقدّم
بياننا الصواب من القول في ذلك.
وقوله( سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ ) يقول تعالى ذكره : بئس الحكم الذي حسبوا أنا نجعل
الذين اجترحوا السيئات والذين آمنوا وعملوا الصالحات ، سواء محياهم ومماتهم.
(22/74)
وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (22)
القول في تأويل قوله تعالى : {
وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ
بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (22) }
يقول تعالى ذكره : ( وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ بِالْحَقِّ ) للعدل
والحقّ ، لا لما حسب هؤلاء الجاهلون بالله ، من أنه يجعل من اجترح السيئات ، فعصاه
وخالف أمره ، كالذين آمنوا وعملوا الصالحات ، في المحيا والممات ، إذ كان ذلك من
فعل غير أهل العدل والإنصاف ، يقول جلّ ثناؤه : فلم يخلق الله السموات والأرض
للظلم والجور ، ولكنا خلقناهما للحقّ والعدل. ومن الحق أن نخالف بين حكم المسيء
والمحسن ، في العاجل والآجل.
وقوله( وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ ) يقول تعالى ذكره : وليثيب الله
كلّ عامل بما عمل من عمل خلق السموات والأرض ، المحسن بالإحسان ، والمسيء بما هو
أهله ، لا لنبخس المحسن ثواب إحسانه ، ونحمل عليه جرم غيره ، فنعاقبه ، أو نجعل
للمسيء ثواب إحسان غيره فنكرمه ، ولكن لنجزي كلا بما كسبت يداه ، وهم لا يُظلمون
جزاء أعمالهم.
(22/75)
أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (23)
القول في تأويل قوله تعالى : {
أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ
وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ
يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (23) }
اختلف أهل التأويل في تأويل قوله( أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ )
فقال بعضهم : معنى ذلك : أفرأيت من اتخذ دينه بهواه ، فلا يهوى شيئا إلا ركبه ،
لأنه لا يؤمن بالله ، ولا يحرِّم ما حَرَّمَ ، ولا يحلل ما حَللَ ، إنما دينه ما
هويته نفسه يعمل به.
(22/75)
* ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : ثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، في
قوله( أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ ) قال : ذلك الكافر اتخذ دينه
بغير هدى من الله ولا برهان.
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، في قوله(
أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ ) قال : لا يهوي شيئا إلا ركبه لا
يخاف الله.
وقال آخرون : بل معنى ذلك : أفرأيت من اتخذ معبوده ما هويت عبادته نفسه من شيء.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا يعقوب ، عن جعفر ، عن سعيد ، قال : كانت قريش تعبد
العُزّى ، وهو حجر أبيض ، حينا من الدهر ، فإذا وجدوا ما هو أحسن منه طرحوا الأوّل
وعبدوا الآخر ، فأنزل الله( أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ ) .
وأولى التأويلين في ذلك بالصواب قول من قال : معنى ذلك : أفرأيت يا محمد من اتخذ
معبوده هواه ، فيعبد ما هوي من شيء دون إله الحقّ الذي له الألوهة من كلّ شيء ،
لأن ذلك هو الظاهر من معناه دون غيره.
وقوله( وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ ) يقول تعالى ذكره : وخذله عن محجة
الطريق ، وسبيل الرشاد في سابق علمه على علم منه بأنه لا يهتدي ، ولو جاءته كل
آية.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : ثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس(
وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ ) يقول : أضله الله في سابق علمه.
وقوله( وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ ) يقول تعالى ذكره : وطَبَع على سمعه
أن
(22/76)
وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ (24)
يسمع مواعظ الله وآي كتابه ، فيعتبر
بها ويتدبرها ، ويتفكر فيها ، فيعقل ما فيها من النور والبيان والهدى.
وقوله( وَقَلْبِهِ ) يقول : وطبع أيضًا على قلبه ، فلا يعقل به شيئا ، ولا يعي به
حقا.
وقوله( وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً ) يقول : وجعل على بصره غشاوة أن يبصر
به حجج الله ، فيستدّل بها على وحدانيته ، ويعلم بها أن لا إله غيره.
واختلفت القرّاء في قراءة قوله( وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً ) فقرأته عامة
قرّاء المدينة والبصرة وبعض قرّاء الكوفة( غِشَاوَةً ) بكسر الغين وإثبات الألف
فيها على أنها اسم ، وقرأ ذلك عامة قرّاء الكوفة(غَشْوَةً) بمعنى : أنه غشاه شيئا
في دفعة واحدة ، ومرّة واحدة ، بفتح الغين بغير ألف ، وهما عندي قراءتان صحيحتان
فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب.
وقوله( فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ ) يقول تعالى ذكره : فمن يوفِّقه
لإصابة الحقّ ، وإبصار محجة الرشد بعد إضلال الله إياه( أَفَلا تَذَكَّرُونَ )
أيها الناس ، فتعلموا أن من فعل الله به ما وصفنا ، فلن يهتدي أبدا ، ولن يجد
لنفسه وليا مرشدا.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَقَالُوا مَا هِيَ إِلا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا
نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلا الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ
عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلا يَظُنُّونَ (24) }
يقول تعالى ذكره : وقال هؤلاء المشركون الذين تقدّم خبره عنهم : ما حياة إلا
حياتنا الدنيا التي نحن فيها لا حياة سواها تكذيبا منهم بالبعث بعد الممات.
كما حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( وَقَالُوا مَا هِيَ
إِلا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا ) : أي لعمري هذا قول مشركي العرب.
(22/77)
وقوله( نَمُوتُ وَنَحْيَا ) نموت نحن
ونحيا وتحيا أبناؤنا بعدنا ، فجعلوا حياة أبنائهم بعدهم حياة لهم ، لأنهم منهم
وبعضهم ، فكأنهم بحياتهم أحياء ، وذلك نظير قول الناس : ما مات من خلف ابنا مثل
فلان ، لأنه بحياة ذكره به ، كأنه حيّ غير ميت ، وقد يحتمل وجها آخر ، وهو أن يكون
معناه : نحيا ونموت على وجه تقديم الحياة قبل الممات ، كما يقال : قمت وقعدت ،
بمعنى : قعدت وقمت; والعرب تفعل ذلك في الواو خاصة إذا أرادوا الخبر عن شيئين
أنهما كانا أو يكونان ، ولم تقصد الخبر عن كون أحدهما قبل الآخر ، تقدم المتأخر
حدوثا على المتقدم حدوثه منهما أحيانا ، فهذا من ذلك ، لأنه لم يقصد فيه إلى الخبر
عن كون الحياة قبل الممات ، فقدّم ذكر الممات قبل ذكر الحياة ، إذ كان القصد إلى
الخبر عن أنهم يكونون مرّة أحياء وأخرى أمواتا.
وقوله( وَمَا يُهْلِكُنَا إِلا الدَّهْرُ ) يقول تعالى ذكره مخبرًا عن هؤلاء المشركين
أنهم قالوا : وما يهلكنا فيفنينا إلا مرّ الليالي والأيام وطول العمر ، إنكارًا
منهم أن يكون لهم ربّ يفنيهم ويهلكهم.
وقد ذُكر أنها في قراءة عبد الله(وَمَا يُهْلِكُنَا إِلا دَهْرٌ يَمُرُّ).
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث ، قال :
ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد( وَمَا
يُهْلِكُنَا إِلا الدَّهْرُ ) قال : الزمان.
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، في قوله( وَمَا
يُهْلِكُنَا إِلا الدَّهْرُ ) قال ذلك مشركو قريش( وَمَا يُهْلِكُنَا إِلا
الدَّهْرُ ) : إلا العمر.
وذُكر أن هذه الآية نزلت من أجل أن أهل الشرك كانوا يقولون : الذي يهلكنا ويفنينا
الدهر والزمان ، ثم يسبون ما يفنيهم ويهلكهم ، وهم يرون أنهم
(22/78)
يسبون بذلك الدهر والزمان ، فقال الله
عزّ وجلّ لهم : أنا الذي أفنيكم وأهلككم ، لا الدهر والزمان ، ولا علم لكم بذلك.
* ذكر الرواية بذلك عمن قاله :
حدثنا أبو كُرَيب ، قال : ثنا ابن عيينة ، عن الزهريّ ، عن سعيد بن المسيب ، عن
أبي هريرة ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم ، قال : " كانَ أهْلُ
الجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ : إنَّمَا يُهْلِكُنَا اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ ، وَهُوَ
الَّذِي يُهْلِكُنَا وَيُمِيتُنَا وَيُحْيِينا ، فقال الله في كتابه : ( وَقَالُوا
مَا هِيَ إِلا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلا
الدَّهْرُ ) قال : فَيَسُبُّونَ الدَّهْرَ ، فَقَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى
: يُؤْذِينِي ابْنُ آدَمَ يَسُبُّ الدَّهْرَ وأنا الدَّهْرُ ، بِيَدِي الأمْرُ ،
أُقَلِّبُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ " .
حدثنا عمران بن بكار الكُلاعي ، قال : ثنا أبو روح ، قال : ثنا سفيان بن عيينة ،
عن الزهريّ ، عن سعيد بن المسيب ، عن أبي هريرة ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم ،
نحوه.
حدثني يونس بن عبد الأعلى ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : ثني يونس بن يزيد ، عن
ابن شهاب ، قال : أخبرني أبو سلمة بن عبد الرحمن ، قال; قال أبو هريرة ، سمعت رسول
الله صلى الله عليه وسلم قال : " قال الله تعالى : يَسُبُّ ابْنُ آدَمَ
الدَّهْرَ ، وأنا الدَّهْرُ ، بِيَدِي اللَّيْلُ والنَّهَارُ " .
حدثنا ابن حُمَيد ، قال : ثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن العلاء بن عبد الرحمن ، عن
أبيه عن أبي هريرة أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال : " يَقُولُ اللَّهُ
اسْتَقْرَضْتُ عَبْدِي فَلَمْ يُعْطِني ، وَسَبَّنِي عَبْدي يَقُولُ :
وَادَهْرَاهُ ، وأنا الدَّهْرُ " .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، عن الزهريّ ، عن
أبي هريرة ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم " إنَّ اللَّهَ قالَ : لا
يَقُولَنَّ أَحَدُكُمْ : يا خَيْبَةَ الدَّهْرِ ، فإنّي أنا الدَّهْرُ ، أُقَلِّبُ
لَيْلَهُ وَنَهَارهُ ، وَإذَا شِئْتُ قَبَضْتُهُما " .
(22/79)
وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ مَا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتُوا بِآَبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (25) قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (26)
حدثني يعقوب ، قال : ثنا ابن علية ، عن
هشام ، عن أبي هريرة قال : " لا تَسُبُّوا الدَّهْرَ ، فإنَّ اللَّهَ هُوَ
الدَّهْرُ " ( وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلا يَظُنُّونَ
) يقول تعالى ذكره : وما لهؤلاء المشركين القائلين : ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت
ونحيا ، وما يهلكنا إلا الدهر ، بما يقولون من ذلك من علم : يعني من يقين علم ،
لأنهم يقولون ذلك تخرّصا بغير خبر أتاهم من الله ، ولا برهان عندهم بحقيقته( إِنْ
هُمْ إِلا يَظُنُّونَ ) يقول جلّ ثناؤه : ما هم إلا في ظنّ من ذلك ، وشكّ يخبر
عنهم أنهم في حيرة من اعتقادهم حقيقة ما ينطقون من ذلك بألسنتهم.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ
مَا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلا أَنْ قَالُوا ائْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ
صَادِقِينَ (25) }
يقول تعالى ذكره : وإذا تُتلى على هؤلاء المشركين المكذّبين بالبعث آياتنا ، بأن الله
باعث خلقه من بعد مماتهم ، فجامعهم يوم القيامة عنده للثواب والعقاب(بَيِّنَاتٍ)
يعني : واضحات جليات ، تنفي الشكّ عن قلب أهل التصديق بالله في ذلك( مَا كَانَ
حُجَّتَهُمْ إِلا أَنْ قَالُوا ائْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ )
يقول جل ثناؤه : لم يكن لهم حجة على رسولنا الذي يتلو ذلك عليهم إلا قولهم له :
ائتنا بآبائنا الذين قد هلكوا أحياء ، وانشرهم لنا إن كنت صادقا فيما تتلو علينا
وتخبرنا ، حتى نصدّق بحقيقة ما تقول بأن الله باعثنا من بعد مماتنا ، ومحيينا من
بعد فنائنا.
القول في تأويل قوله تعالى : { قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ
يَجْمَعُكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ
النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (26) }
(22/80)
وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ (27) وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (28)
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله
عليه وسلم قل يا محمد لهؤلاء المشركين المكذّبين بالبعث ، القائلين لك ائتنا
بآبائنا إن كنت صادقا : الله أيها المشركون يحييكم ما شاء أن يحييكم في الدنيا ،
ثم يميتكم فيها إذا شاء ، ثم يجمعكم إلى يوم القيامة ، يعني أنه يجمعكم جميعا
أوّلكم وآخركم ، وصغيركم وكبيركم( إلى يوم القيامة ) يقول : ليوم القيامة ، يعني
أنه يجمعكم جميعا أحياء ليوم القيامة( لا رَيْبَ فِيهِ ) يقول : لا شكّ فيه ، يقول
: فلا تشكوا في ذلك ، فإن الأمر كما وصفت لكم( وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا
يَعْلَمُونَ ) يقول : ولكن أكثر الناس الذين هم أهل تكذيب بالبعث ، لا يعلمون
حقيقة ذلك ، وأن الله محييهم من بعد مماتهم.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَيَوْمَ
تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ (27) }
يقول تعالى ذكره : ولله سلطان السموات السبع والأرض ، دون ما تدعون له شريكا ،
وتعبدونه من دونه ، والذي تدعونه من دونه من الآلهة والأنداد في مُلكه وسلطانه ،
جارٍ عليه حكمه ، فكيف يكون ما كان كذلك له شريكا ، أم كيف تعبدونه ، وتتركون
عبادة مالككم ، ومالك ما تعبدونه من دونه( وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ ) يقول
تعالى ذكره : ويوم تجيء الساعة التي يُنْشِر الله فيها الموتى من قبورهم ، ويجمعهم
لموقف العرض( يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ ) : يقول : يغبن فيها الذين أبطلوا في
الدنيا في أقوالهم ودعواهم لله شريكا ، وعبادتهم آلهة دونه بأن يفوز بمنازلهم من
الجنة المحقون ، ويبدّلوا بها منازل من النار كانت للمحقين.
فجعلت لهم بمنازلهم من الجنة ، ذلك هو الخسران المبين.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ
تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (28) }
(22/81)
يقول تعالى ذكره : وترى يا محمد يوم
تقوم الساعة أهل كل ملة ودين جاثية : يقول : مجتمعة مستوفزة على ركبها من هول ذلك
اليوم.
كما حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث ،
قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله :
( وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً ) قال على الركب مستوفِزِين.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله( وَتَرَى كُلَّ
أُمَّةٍ جَاثِيَةً ) قال : هذا يوم القيامة جاثية على ركبهم.
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ ، يقول : ثنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك
يقول ، في قوله( وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً ) يقول : على الركب عند الحساب.
وقوله(كل أمة تدعى إلى كتابها) يقول : كل أهل ملة ودين تُدعى إلى كتابها الذي أملت
على حفظتها.
كما حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله( كُلُّ
أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا ) يعلمون أنه ستدعى أُمة قبل أُمة ، وقوم قبل
قوم ، ورجل قبل رجل. ذُكر لنا أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم كان يقول : "
يُمَثَّلُ لِكُلِّ أُمَّةٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كَانَتْ تَعْبُدُ مِنْ حَجَرٍ
، أَوْ وَثَنٍ أَوْ خَشَبَةٍ ، أَوْ دَابَّةٍ ، ثُمَّ يُقَالُ : مَنْ كَانَ يَعْبُدُ
شَيْئًا فَلْيَتْبَعْهُ ، فَتَكُونُ ، أوْ تُجْعَلُ تِلْكَ الأوْثَانُ قَادَةً
إِلَى النَّارِ حَتَّى تَقْذِفَهُمْ فِيهَا ، فَتَبْقَى أُمَّةُ مُحَمَّدٍ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَهْلُ الْكِتَابِ ، فَيَقُولُ لِلْيَهُودِ : مَا
كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ ؟ فَيَقُولُونَ : كُنَّا نَعْبُدُ اللَّهَ وَعُزَيْرًا إِلا
قَلِيلا مِنْهُمْ ، فَيُقَالُ لَهَا : أَمَّا عُزَيْرٌ فَلَيْسَ مِنْكُمْ
وَلَسْتُمْ مِنْهُ ، فَيُؤْخَذُ بِهِمْ ذَاتَ الشِّمَالِ ، فَيَنْطَلِقُونَ وَلا
يَسْتَطِيعُونَ مُكُوثًا ، ثُمَّ يُدْعَى بِالنَّصَارَى ، فَيُقَالُ لَهُمْ : مَا
كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ ؟ فَيَقُولُونَ : كُنَّا نَعْبُدُ اللَّهَ وَالْمَسِيحَ إِلا
قَلِيلا مِنْهُمْ فَيُقَالُ : أَمَّا عِيسَى فَلَيْسَ مِنْكُمْ وَلَسْتُمْ مِنْهُ
، فَيُؤْخَذُ بِهِمْ ذَاتَ الشِّمَالِ ، فَيَنْطَلِقُونَ وَلا يَسْتَطِيعُونَ
مُكُوثًا ، وَتَبْقَى أُمَّةُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ،
فَيُقَالُ لَهُمْ : مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ ؟ فَيَقُولُونَ : كُنَّا نَعْبُدُ
اللَّهَ وَحْدَهُ ، وَإِنَّمَا فَارَقْنَا هَؤُلاءِ فِي الدُّنْيَا مَخَافَةَ
يَوْمِنَا هَذَا ، فَيُؤْذَنُ لِلْمُؤْمِنِينَ فِي السُّجُودِ ، فَيَسْجُدُ
الْمُؤْمِنُونَ ، وَبَيْنَ كُلِّ مُؤْمِنٍ مُنَافِقٌ ، فَيَقْسُو
(22/82)
هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (29) فَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (30)
ظَهْرُ الْمُنَافِقُ عَنِ السُّجُودِ ،
وَيَجْعَلُ اللَّهُ سُجُودَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَيْهِ تَوْبِيخًا وَصَغَارًا
وَحَسْرَةً وَنَدَامَةً " .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، عن الزهريّ ، عن
عطاء بن يزيد الليثي ، عن أبي هريرة ، قال : " قال الناس : يا رسول الله هل
نَرَى رَبَّنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ ؟ قَالَ : " هَلْ تُضَامُّونَ فِي
الشَّمْسِ لَيْسَ دُونَهَا سَحَابٌ ، قَالُوا : لا يَا رَسُولَ اللَّّهِ ، قَالَ :
" هَلْ تُضَارُّونَ فِي الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ لَيْسَ دُونَهُ سَحَابٌ
؟ " قَالُوا : لا يَا رَسُولَ اللَّهِ ، قَالَ : فَإِنَّكُمْ تَرَوْنَهُ
يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ يَجْمَعُ اللًّهُ النَّاسَ فَيَقُولُ : مَنْ كَانَ يَعْبُدُ
شَيْئًا فَلْيَتْبَعْهُ ، فَيَتْبَعُ مَنْ كَانَ يَعْبُدُ الْقَمَرَ الْقَمَرَ ،
وَمَنْ كَانَ يَعْبُدُ الشَّمْسَ الشَّمْسَ ، وَيَتْبَعُ مَنْ كَانَ يَعْبُدُ
الطَّوَاغِيتَ الطَّوَاغِيتَ ، وَتَبْقَى هَذِهِ الأمَّةُ فِيهَا مُنَافِقُوهَا ،
فَيَأْتِيهِمْ رَبُّهُمْ فِي صُورَةٍ ، وَيُضْرَبُ جِسْرٌ عَلَى جَهَنَّمَ قَالَ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " فَأَكُونُ أَوَّلَ مَنْ
يُجِيزُ ، وَدَعْوَةُ الرُّسُلِ يَوْمَئِذٍ : اللَّهُمَّ سَلِّمْ ، اللَّهُمَّ
سَلِّمْ وَبِهَا كَلالِيبُ كَشَوْكِ السَّعْدَانِ هَلْ رَأَيْتُمْ شَوْكَ
السَّعْدَانِ ؟ قَالُوا : نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ : فَإِنَّهَا مِثْلُ
شَوْكِ السَّعْدَانِ غَيْرَ أَنَّهُ لا يَعْلَمُ أَحَدٌ قَدْرَ عِظَمِهَا إِلا
اللَّهُ وَيَخْطَفُ النَّاسَ بِأَعْمَالِهِمْ ، فَمِنْهُمْ الْمُوبَقُ بِعَمَلِهِ
، وَمِنْهُمْ الْمُخَرْدِلُ ثُمَّ يَنْجُو " ، ثم ذكر الحديث بطوله.
وقوله( الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ) يقول تعالى ذكره : كلّ
أُمة تُدعى إلى كتابها ، يقال لها : اليوم تجزون : أي تثابون وتعطون أجور ما كنتم
في الدنيا من جزاء الأعمال تعملون بالإحسان الإحسانَ ، وبالإساءة جزاءها.
القول في تأويل قوله تعالى : { هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ
إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (29) فَأَمَّا الَّذِينَ
آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ذَلِكَ
هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (30) }
يقول تعالى ذكره : لكلّ أمة دعيت في القيامة إلى كتابها الذي أملت على
(22/83)
حفظتها في الدنيا( الْيَوْمَ
تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ) فلا تجزعوا من ثوابناكم على ذلك ، فإنكم
ينطق عليكم إن أنكرتموه بالحق فاقرءوه( إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ
تَعْمَلُونَ ) يقول : إنا كنا نستكتب حفظتنا أعمالكم ، فتثبتها في الكتب وتكتبها.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا أبو كُرَيب ، قال : ثنا طلق بن غنام ، عن زائدة ، عن عطاء بن مقسم ، عن ابن
عباس( هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ ) قال : هو أمّ الكتاب فيه
أعمال بني آدم( إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ) قال : نعم
، الملائكة يستنسخون أعمال بني آدم.
حدثنا ابن حُميد ، قال : ثنا يعقوب القمي ، قال : ثني أخي عيسى بن عبد الله بن
ثابت الثُّمالي ، عن ابن عباس ، قال : " إن الله خلق النون وهي الدواة ، وخلق
القلم ، فقال : اكتب ، قال : ما أكتب ، قال : اكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة من
عمل معمول ، برّ أو فجور ، أو رزق مقسوم ، حلال أو حرام ، ثم ألزم كلّ شيء من ذلك
شأنه دخوله في الدنيا ، ومقامه فيها كم ، وخروجه منه كيف ، ثم جعل على العباد حفظة
، وعلى الكتاب خزانا ، فالحفظة ينسخون كلّ يوم من الخزان عمل ذلك اليوم ، فإذا فني
الرزق وانقطع الأثر ، وانقضى الأجل ، أتت الحفظة الخزنة يطلبون عمل ذلك اليوم ،
فتقول لهم الخزنة : ما نجد لصاحبكم عندنا شيئا ، فترجع الحفظة ، فيجدونهم قد ماتوا
، قال : فقال ابن عباس : ألستم قوما عربا تسمعون الحفظة يقولون( إِنَّا كُنَّا
نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ) وهل يكون الاستنساخ إلا من أصل " .
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا حكام ، عن عمرو ، عن عطاء ، عن الحكم ، عن مقسم ، عن
ابن عباس( هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ ) قال : الكتاب :
الذكر( إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ) قال : نستنسخ
الأعمال.
وقال آخرون في ذلك ما حدثنا الحسن بن عرفة ، قال : ثنا النضر بن
(22/84)
وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أَفَلَمْ تَكُنْ آَيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنْتُمْ قَوْمًا مُجْرِمِينَ (31)
إسماعيل ، عن أبي سنان الشيبانيّ ، عن
عطاء بن أبي رباح ، عن أبي عبد الرحمن السلميّ ، عن عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه
أنه قال : إن لله ملائكة ينزلون في كل يوم بشيء يكتبون فيه أعمال بني آدم.
وقوله( فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُدْخِلُهُمْ
رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ) يقول تعالى ذكره : فأما الذين آمنوا بالله في الدنيا
فوحدوه ، ولم يشركوا به شيئا ، وعملوا الصالحات : يقول : وعملوا بما أمرهم الله به
، وانتهوا عما نهاهم الله عنه( فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ) يعني في
جنته برحمته.
وقوله( ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ ) يقول : دخولهم في رحمة الله يومئذ هو
الظفر بما كانوا يطلبونه ، وإدراك ما كانوا يسعون في الدنيا له ، المبين غايتهم
فيها ، أنه هو الفوز.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أَفَلَمْ تَكُنْ
آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنْتُمْ قَوْمًا مُجْرِمِينَ
(31) }
يقول تعالى ذكره : وأما الذين جحدوا وحدانية الله ، وأبوا إفراده في الدنيا
بالألوهة ، فيقال لهم : ألم تكن آياتي في الدنيا تُتلى عليكم.
فإن قال قائل : أوليست أمَّا تجاب بالفاء ، فأين هي ؟ فإن الجواب أن يقال : هي
الفاء التي في قوله( أَفَلَمْ ). وإنما وجه الكلام في العربية لو نطق به على بيانه
، وأصله أن يقال : وأما الذين كفروا ، فألم تكن آياتي تتلى عليكم ، لأن معنى
الكلام : وأما الذين كفروا فيقال لهم ألم ، فموضع الفاء في ابتداء المحذوف الذي هو
مطلوب في الكلام ، فلما حُذفت يقال : وجاءت ألف استفهام ، حكمها أن تكون مبتدأة
بها ، ابتدئ بها ، وجعلت الفاء بعدها.
وقد تُسقط العرب الفاء التي هي جواب " أما " في مثل هذا الموضع أحيانا
إذا أسقطوا الفعل الذي هو في محل جواب أمَّا كما قال جلّ ثناؤه( فَأَمَّا
الَّذِينَ اسْوَدَّتْ
(22/85)
وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لَا رَيْبَ فِيهَا قُلْتُمْ مَا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ (32)
وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ
إِيمَانِكُمْ ) فحذفت الفاء ، إذ كان الفعل الذي هو في جواب أمَّا محذوفا ، وهو
فيقال ، وذلك أن معنى الكلام : فأما الذين اسودّت وجوههم فيقال لهم : أكفرتم ،
فلما أسقطت ، يقال الذي به تتصل الفاء سقطت الفاء التي هي جواب أمَّا.
وقوله(فَاسْتَكْبَرْتُمْ) يقول : فاستكبرتم عن استماعها والإيمان بها( وَكُنْتُمْ
قَوْمًا مُجْرِمِينَ ) يقول : وكنتم قوما تكسبون الآثام والكفر بالله ، ولا
تصدّقون بمعاد ، ولا تؤمنون بثواب ولا عقاب.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ
وَالسَّاعَةُ لا رَيْبَ فِيهَا قُلْتُمْ مَا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ
إِلا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ (32) }
يقول تعالى ذكره : ويقال لهم حينئذ : ( وَإِذَا قِيلَ لَكُمُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ
) الذي وعد عباده ، أنه محييهم من بعد مماتهم ، وباعثهم من قبورهم( حَقٌّ
وَالسَّاعَةُ ) التي أخبرهم أنه يقيمها لحشرهم ، وجمعهم للحساب والثواب على الطاعة
، والعقاب على المعصية ، آتية( لا رَيْبَ فِيهَا ) يقول : لا شكَ فيها ، يعني في
الساعة ، والهاء في قوله( فِيهَا ) من ذكر الساعة. ومعنى الكلام : والساعة لا ريب
في قيامها ، فاتقوا الله وآمنوا بالله ورسوله ، واعملوا لما ينجيكم من عقاب الله
فيها( قُلْتُمْ مَا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ ) تكذيبا منكم بوعد الله جلّ ثناؤه ،
وردًا لخبره ، وإنكارًا لقُدرته على إحيائكم من بعد مماتكم.
وقوله( إِنْ نَظُنُّ إِلا ظَنًّا ) يقول : وقلتم ما نظنّ أن الساعة آتية إلا ظنا(
وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ ) أنها جائية ، ولا أنها كائنة.
واختلفت القرّاء في قراءة قوله( وَالسَّاعَةُ لا رَيْبَ فِيهَا ) فقرأت ذلك عامة
قرّاء المدينة والبصرة وبعض قرّاء الكوفة و( السَّاعَةُ ) رفعا على الابتداء.
وقرأته
(22/86)
عامة قرّاء الكوفة " وَالسَّاعَةَ
" نصبا عطفا بها على قوله( إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ ).
والصواب من القول في ذلك عندنا ، أنهما قراءتان مستفيضتان في قراءة الأمصار صحيحتا
المخرج في العربية متقاربتا المعنى ، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب.
(22/87)
وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (33) وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (34)
القول في تأويل قوله تعالى : { وَبَدَا
لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ
(33) }
يقول تعالى ذكره : وبدا لهؤلاء الذين كانوا في الدنيا يكفرون بآيات الله سيئات ما
عملوا في الدنيا من الأعمال ، يقول : ظهر لهم هنالك قبائحها وشرارها لما قرءوا كتب
أعمالهم التي كانت الحفظة تنسخها في الدنيا( وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ
يَسْتَهْزِئُونَ ) يقول : وحاق بهم من عذاب الله حينئذ ما كانوا به يستهزئون إذ
قيل لهم : إن الله مُحِلُّهُ بمن كذب به على سيئات ما في الدنيا عملوا من الأعمال.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ
لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ
(34) }
يقول تعالى ذكره : وقيل لهؤلاء الكفرة الذين وصف صفتهم : اليوم نترككم في عذاب
جهنم ، كما تركتم العمل للقاء ربكم يومكم هذا.
كما حدثني عليّ ، قال : ثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس
، قوله( وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْسَاكُمْ ) نترككم. وقوله( وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ )
يقول : ومأواكم التي تأوون إليها نار جهنم ، ( وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ )
يقول : وما لكم من مستنقذ ينقذكم اليوم من عذاب الله ، ولا منتصر ينتصر لكم ممن
يعذّبكم ، فيستنقذ لكم منه.
(22/87)
ذَلِكُمْ بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آَيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا وَغَرَّتْكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ لَا يُخْرَجُونَ مِنْهَا وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (35) فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (36) وَلَهُ الْكِبْرِيَاءُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (37)
القول في تأويل قوله تعالى : {
ذَلِكُمْ بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا وَغَرَّتْكُمُ
الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ لا يُخْرَجُونَ مِنْهَا وَلا هُمْ
يُسْتَعْتَبُونَ (35) }
يقول تعالى ذكره : يقال لهم : هذا الذي حلّ بكم من عذاب الله اليوم(بِأَنَّكُمْ)
في الدنيا( اتَّخَذْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا ) ، وهي حججه وأدلته وآي كتابه
التي أنزلها على رسوله صلى الله عليه وسلم(هُزُوًا) يعني سخرية تسخرون منها(
وَغَرَّتْكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا ) يقول : وخدعتكم زينة الحياة الدنيا. فآثرتموها
على العمل لما ينجيكم اليوم من عذاب الله ، يقول تعالى ذكره : ( فَالْيَوْمَ لا
يُخْرَجُونَ مِنْهَا مِنَ النَّارِ وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ ) يقول : ولا هم
يردّون إلى الدنيا ليتوبوا ويراجعوا الإنابة مما عوقبوا عليه.
القول في تأويل قوله تعالى : { فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَرَبِّ
الأرْضِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (36) وَلَهُ الْكِبْرِيَاءُ فِي السَّمَاوَاتِ
وَالأرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (37) }
يقول تعالى ذكره( فَلِلَّهِ الْحَمْدُ ) على نِعمه وأياديه عند خلقه ، فإياه
فاحمدوا أيها الناس ، فإن كلّ ما بكم من نعمة فمنه دون ما تعبدون من دونه من آلهة
ووثن ، ودون ما تتخذونه من دونه ربا ، وتشركون به معه( رَبِّ السَّمَاوَاتِ
وَرَبِّ الأرْضِ ) يقول : مالك السموات السبع ، ومالك الأرضين السبع و( رَبِّ
الْعَالَمِينَ ) يقول : مالك جميع ما فيهنّ من أصناف الخلق ، وله الكبرياء في
السموات والأرض يقول : وله العظمة والسلطان في السموات والأرض دون ما سواه من
الآلهة والأنداد( وَهُوَ الْعَزِيزُ ) في نقمته من أعدائه ، القاهر كل ما دونه ،
ولا يقهره شيء( الْحَكِيمُ ) في تدبيره خلقه وتصريفه إياهم فيما شاء كيف شاء ، والله
أعلم.
آخر تفسير سورة الجاثية
(22/88)
حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (2) غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ (3) مَا يُجَادِلُ فِي آَيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلَادِ (4) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزَابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ (5) وَكَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ (6) الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آَمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (7) رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آَبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (8) وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (9) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ (10) قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ (11) ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ (12) هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آَيَاتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقًا وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ (13) فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (14) رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ (15) يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ (16) الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (17) وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآَزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ (18) يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ (19) وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (20) أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآَثَارًا فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ (21) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَكَفَرُوا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ (22) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآَيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ (23) إِلَى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ (24) فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا اقْتُلُوا أَبْنَاءَ الَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِسَاءَهُمْ وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ (25) وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ (26) وَقَالَ مُوسَى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لَا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ (27) وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آَلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ (28) يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ (29) وَقَالَ الَّذِي آَمَنَ يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ (30) مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ (31) وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ (32) يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (33) وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ (34) الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آَيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آَمَنُوا كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ (35) وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ (36) أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبَابٍ (37) وَقَالَ الَّذِي آَمَنَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ (38) يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآَخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ (39) مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ (40) وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ (41) تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ (42) لَا جَرَمَ أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآَخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اللَّهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ (43) فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (44) فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآَلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ (45) النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آَلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ (46) وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيبًا مِنَ النَّارِ (47) قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيهَا إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ (48) وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِنَ الْعَذَابِ (49) قَالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا بَلَى قَالُوا فَادْعُوا وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ (50) إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آَمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ (51) يَوْمَ لَا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (52) وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى الْهُدَى وَأَوْرَثْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ (53) هُدًى وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ (54) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ (55) إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آَيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (56) لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (57) وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَلَا الْمُسِيءُ قَلِيلًا مَا تَتَذَكَّرُونَ (58) إِنَّ السَّاعَةَ لَآَتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ (59) وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ (60) اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ (61) ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (62) كَذَلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كَانُوا بِآَيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (63) اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَارًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (64) هُوَ الْحَيُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (65) قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَمَّا جَاءَنِيَ الْبَيِّنَاتُ مِنْ رَبِّي وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (66) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخًا وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلًا مُسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (67) هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ فَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (68) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آَيَاتِ اللَّهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ (69) الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتَابِ وَبِمَا أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (70) إِذِ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلَاسِلُ يُسْحَبُونَ (71) فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ (72) ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ (73) مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُو مِنْ قَبْلُ شَيْئًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكَافِرِينَ (74) ذَلِكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ (75) ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (76) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ (77) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآَيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ فَإِذَا جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْمُبْطِلُونَ (78) اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعَامَ لِتَرْكَبُوا مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (79) وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْهَا حَاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (80) وَيُرِيكُمْ آَيَاتِهِ فَأَيَّ آَيَاتِ اللَّهِ تُنْكِرُونَ (81) أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآَثَارًا فِي الْأَرْضِ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (82) فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (83) فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آَمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ (84) فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ (85)
تفسير سورة الأحقاف بسم الله الرحمن
الرحيم
القول في تأويل قوله تعالى : { حم (1) تَنزيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ
الْحَكِيمِ (2) مَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلا
بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ
(3) }
قد تقدم بياننا في معنى قوله( حم تَنزيلُ الْكِتَابِ ) بما أغنى عن إعادته في هذا
الموضع.
وقوله( وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلا بِالْحَقِّ
) يقول تعالى ذكره : ما أحدثنا السموات والأرض فأوجدناهما خلقا مصنوعا ، وما
بينهما من أصناف العالم إلا بالحقّ ، يعني : إلا لإقامة الحقّ والعدل في الخلق.
وقوله( وَأَجَلٌ مُسَمًّى ) يقول : وإلا بأجل لكل ذلك معلوم عنده يفنيه إذا هو
بلغه ، ويعدمه بعد أن كان موجودا بإيجاده إياه.
وقوله( وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ ) يقول تعالى ذكره :
والذين جحدوا وحدانية الله عن إنذار الله إياهم معرضون ، لا يتعظون به ، ولا
يتفكرون فيعتبرون.
القول في تأويل قوله تعالى : { قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ
اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الأرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي
السَّمَاوَاتِ اِئْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ
إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (4) }
(22/89)
يقول تعالى ذكره : قل يا محمد لهؤلاء
المشركين بالله من قومك : أرأيتم أيها القوم الآلهة والأوثان التي تعبدون من دون
الله ، أروني أيّ شيء خلقوا من الأرض ، فإن ربي خلق الأرض كلها ، فدعوتموها من أجل
خلقها ما خلقت من ذلك آلهة وأربابا ، فيكون لكم بذلك في عبادتكم إياها حجة ، فإن
من حجتي على عبادتي إلهي ، وإفرادي له الألوهة ، أنه خلق الأرض فابتدعها من غير
أصل.
وقوله( أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ ) يقول تعالى ذكره : أم لآلهتكم التي
تعبدونها أيها الناس ، شرك مع الله في السموات السبع ، فيكون لكم أيضًا بذلك حجة
في عبادتكموها ، فإن من حجتي على إفرادي العبادة لربي ، أنه لا شريك له في خلقها ،
وأنه المنفرد بخلقها دون كلّ ما سواه.
وقوله( اِئْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا ) يقول تعالى ذكره : بكتاب جاء من
عند الله من قبل هذا القرآن الذي أُنزل عليّ ، بأن ما تعبدون من الآلهة والأوثان
خلقوا من الأرض شيئًا ، أو أن لهم مع الله شركًا في السموات ، فيكون ذلك حجة لكم
على عبادتكم إياها ، لأنها إذا صحّ لها ذلك صحت لها الشركة في النِّعم التي أنتم
فيها ، ووجب لها عليكم الشكر ، واستحقت منكم الخدمة ، لأن ذلك لا يقدر أن يخلقه
إلا الله.
وقوله( أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ ) اختلفت القرّاء في قراءة ذلك ، فقرأته عامة
قرّاء الحجاز والعراق( أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ ) بالألف ، بمعنى : أو ائتوني
ببقية من علم. ورُوي عن أبي عبد الرحمن السلميّ أنه كان يقرؤه " أَوْ
أَثَرَةٍ مِنْ عِلْمٍ " ، بمعنى : أو خاصة من علم أوتيتموه ، وأوثرتم به على
غيركم ، والقراءة التي لا أستجيز غيرها( أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ ) بالألف ،
لإجماع قرّاء الأمصار عليها.
واختلف أهل التأويل في تأويلها ، فقال بعضهم : معناه : أو ائتوني بعلم بأن آلهتكم
خَلَقت من الأرض شيئا ، وأن لها شرك في السموات من قبل الخطّ الذي تخطونه في الأرض
، فإنكم معشر العرب أهل عيافة وزجر وكهانة.
(22/92)
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر بن آدم ، قال : ثنا أبو عاصم ، عن سفيان ، عن صفوان بن سليم ، عن أبي
سلمة ، عن ابن عباس( أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ ) قال : خط كان يخطه العرب في
الأرض.
حدثنا أبو كُرَيْب ، قال : قال أَبو بكر : يعني ابن عياش : الخط : هو العيافة.
وقال آخرون : بل معنى ذلك : أو خاصة من علم.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتاده( أَوْ أَثَارَةٍ
مِنْ عِلْمٍ ) قال : أو خاصة من علم.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ
عِلْمٍ ) قال : أي خاصة من علم.
حدثنا عبد الوارث بن عبد الصمد بن عبد الوارث ، قال : ثني أبي ، عن الحسين ، عن
قتادة( أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ ) قال : خاصة من علم.
وقال آخرون : بل معنى ذلك : أو علم تُشيرونه فتستخرجونه.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن الحسن ، في قوله : (
أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ ) قال : أثارة شيء يستخرجونه فِطْرة.
وقال آخرون : بل معنى ذلك : أو تأثرون ذلك علمًا عن أحد ممن قبلكم ؟
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ؛
(22/93)
وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن قال :
ثنا ورقاء جميعًا ، عن ابن أَبي نجيح ، عن مجاهد( أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ )
قال : أحد يأثر علما.
وقال آخرون : بل معنى ذلك : أو ببينة من الأمر.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ،
عن ابن عباس( أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ ) يقول : ببينة من الأمر.
وقال آخرون : بل معنى ذلك : ببقية من علم.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا أبو كُريب ، قال : سُئل أَبو بكر ، يعني ابن عياش عن( أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ
) قال : بقية من علم.
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال : الأثارة : البقية من علم ، لأن ذلك هو
المعروف من كلام العرب ، وهي مصدر من قول القائل : أثر الشيء أثارة ، مثل سمج
سماجة ، وقبح قباحة ، كما قال راعي الإبل :
وذاتِ أثارةٍ أكَلَتْ عَلَيْها... [ نَبَاتًا فِي أكمِتِهِ قَفَارا] (1)
يعني : وذات بقية من شحم ، فأما من قرأه(أَوْ أَثَرَةٍ) فإنه جعله أثرة من الأثر ،
__________
(1) هذا بيت من قصيدة للراعي ، مدح بها سعد بن عبد الرحمن بن عتاب بن أسيد ، عدتها
سبعة وخمسون بيتا . وقوله " ذات آثارة " أي رب ناقة ذات سمن . والأثارة
، بفتح الهمزة : شحم متصل بشحم آخر ، ويقال هي بقية من الشحم العتيق ، يقال : سمنت
الناقة على أثارة ، أي على بقية شحم . وأكمته : غلفه ، جمع كمام ، وهو جمع كم بكسر
الكاف ، وهو غطاء النور وغلافه . وقفارًا وقفارة : وصف للنبات : أي رعته خاليًا
لها من مزاحمة غيرها في رعيه . وأصله من قولهم طعام قفار : أي أكل بلا إدام . (
انظر خزانة الأدب الكبرى للبغدادي 4 : 251 ) واستشهد بالبيت أبو عبيدة في مجاز
القرآن ( الورقة 222 ) . عند قوله تعالى : " أو أثارة من علم " أي بقية
من شحم أكلت عليه . ومن قال : " أثرة " فهو مصدر أثره يأثره : يذكره .
وفي ( اللسان : أثر ) : وأثرة العلم وأثرته وأثارته ، بقية منه تؤثر فتذكر . وقال
الزجاج أثاره : في معنى علامة . ويجوز أن يكون على معنى بقية من علم ونسب البيت
للشماخ.
(22/94)
وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ (5)
كما قيل : قترة وغبرة. وقد ذُكر عن
بعضهم أنه قرأه(أَوْ أَثْرَةٍ) بسكون الثاء ، مثل الرجفة والخطفة ، وإذا وجه ذلك
إلى ما قلنا فيه من أنه بقية من علم ، جاز أن تكون تلك البقية من علم الخط ، ومن
علم استثير من كُتب الأوّلين ، ومن خاصة علم كانوا أوثروا به. وقد رُوي عن رسول
الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم في ذلك خبر بأنه تأوّله أنه بمعنى الخط ،
سنذكره إن شاء الله تعالى ، فتأويل الكلام إذن : ائتوني أيها القوم بكتاب من قبل
هذا الكتاب ، بتحقيق ما سألتكم تحقيقه من الحجة على دعواكم ما تدّعون لآلهتكم ، أو
ببقية من علم يوصل بها إلى علم صحة ما تقولون من ذلك( إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ )
في دعواكم لها ما تدّعون ، فإن الدعوى إذا لم يكن معها حجة لم تُغن عن المدّعي
شيئًا.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ
مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ
غَافِلُونَ (5) }
يقول تعالى ذكره : وأيّ عبد أضلّ من عبد يدعو من دون الله آلهة لا تستجيب له إلى
يوم القيامة : يقول : لا تُجيب دعاءه أبدا ، لأنها حجر أو خشب أو نحو ذلك.
وقوله : ( وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ ) يقول تعالى ذكره : وآلهتهم التي
يدعونهم عن دعائهم إياهم في غفلة ، لأنها لا تسمع ولا تنطق ، ولا تعقل. وإنما عنى
بوصفها بالغفلة ، تمثيلها بالإنسان الساهي عما يقال له ، إذ كانت لا تفهم مما يقال
لها شيئًا ، كما لا يفهم الغافل عن الشيء ما غفل عنه. وإنما هذا توبيخ من الله
لهؤلاء المشركين لسوء رأيهم ، وقُبح اختيارهم في عبادتهم ، من لا يعقل شيئًا ولا
يفهم ، وتركهم عبادة من جميع ما بهم من نعمته ، ومن به استغاثتهم عندما ينزل بهم
من الحوائج والمصائب.
وقيل : من لا يستجيب له ، فأخرج ذكر الآلهة وهي جماد مخرج ذكر بني آدم ، ومن له
الاختيار والتمييز ،
(22/95)
إذ كانت قد مثلتها عبدتها بالملوك والأمراء التي تخدم في خدمتهم إياها ، فأجرى الكلام في ذلك على نحو ما كان جاريًا فيه عندهم.
(22/96)
وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ (6) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (7) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلَا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئًا هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ كَفَى بِهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (8)
القول في تأويل قوله تعالى : { وَإِذَا
حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ
(6) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا
لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (7) }
يقول تعالى ذكره : وإذا جُمع الناس يوم القيامة لموقف الحساب ، كانت هذه الآلهة
التي يدعونها في الدنيا لهم أعداء ، لأنهم يتبرءون منهم( وَكَانُوا
بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ ) يقول تعالى ذكره : وكانت آلهتهم التي يعبدونها في
الدنيا بعبادتهم جاحدين ، لأنهم يقولون يوم القيامة : ما أمرناهم بعبادتنا ، ولا شعرنا
بعبادتهم إيانا ، تبرأنا إليك منهم يا ربنا.
وقوله( وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ ) يقول تعالى ذكره : وإذا
يقرأ على هؤلاء المشركين بالله من قومك آياتنا ، يعني حججنا التي احتججناها عليهم
، فيما أنزلناه من كتابنا على محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم(بَيِّنَاتٍ)
يعني واضحات نيرات( قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ ) يقول
تعالى ذكره : قال الذين جحدوا وحدانية الله ، وكذّبوا رسوله للحقّ لما جاءهم من
عند الله ، فأنزل على رسوله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم( هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ
) يعنون هذا القرآن خداع يخدعنا ، ويأخذ بقلوب من سمعه فعل السحر(مبين) يقول :
يُبين لمن تأمله ممن سمعه أنه سحر مبين.
القول في تأويل قوله تعالى : { أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ
افْتَرَيْتُهُ فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئًا هُوَ أَعْلَمُ بِمَا
تُفِيضُونَ فِيهِ كَفَى بِهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَهُوَ الْغَفُورُ
الرَّحِيمُ (8) }
يقول تعالى ذكره : أم يقولون هؤلاء المشركون بالله من قريش ، افترى
(22/96)
قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ (9)
محمد هذا القرآن ، فاختلقه وتخرّصه
كذبا ، قل لهم يا محمد إن افتريته وتخرّصته على الله كذبا( فَلا تَمْلِكُونَ لِي )
يقول : فلا تغنون عني من الله إن عاقبني على افترائي إياه ، وتخرّصي عليه شيئًا ،
ولا تقدرون أن تدفعوا عني سوءا إن أصابني به.
وقوله( هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ ) يقول : ربي أعلم من كل شيء سواه
بما تقولون بينكم في هذا القرآن والهاء من قوله( تُفِيضُونَ فِيهِ ) من ذكر
القرآن.
وبنحو الذي قلنا في معنى قوله( تُفِيضُونَ فِيهِ ) قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث ، قال :
ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعًا ، عن ابن أَبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله(
إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ ) قال : تقولون.
وقوله( كَفَى بِهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ ) يقول : كفى بالله شاهدا علي
وعليكم بما تقولون من تكذبيكم لي فيما جئتكم به من عند الله الغفور الرحيم لهم ،
بأن لا يعذبهم عليها بعد توبتهم منها.
القول في تأويل قوله تعالى : { قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ وَمَا
أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلا مَا يُوحَى إِلَيَّ
وَمَا أَنَا إِلا نَذِيرٌ مُبِينٌ (9) }
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم : قل يا محمد لمشركي
قومك من قريش( مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ ) يعني : ما كنت أول رسل الله
التي أرسلها إلى خلقه ، قد كان من قبلي له رسل كثيرة أرسلت إلى أمم قبلكم; يقال
منه : هو بدع في هذا الأمر ، وبديع فيه ، إذا كان فيه أوّل. ومن البدع قول عديّ بن
زيد.
(22/97)
فَلا أنا بِدْعٌ مِنْ حَوَادِث
تَعْتَرِي... رِجَلا عَرَتْ مِنْ بَعْدِ بُؤْسَى وَأَسعد (1)
ومن البديع قول الأحوص :
فَخَرَتْ فانْتَمَتْ فقُلْتُ انْظُرِيني... ليسَ جَهْلٌ أتَيتُه بِبَدِيع (2)
يعني بأوّل ، يقال : هو بدع من قوم أبداع.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : ثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ،
قوله( مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ ) يقول : لست بأوّل الرسل.
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ،
عن ابن عباس ، قوله( مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ ) قال : يقول : ما كنت
أوّل رسول أُرسل.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث ، قال :
ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعًا ، عن ابن أَبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله( مَا
كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ ) قال : ما كنت أوّلهم.
حدثنا ابن حُمَيد ، قال : ثنا عبد الوهاب بن معاوية ، عن أَبي هبيرة ،
__________
(1) البيت لعدي بن زيد ( شعراء النصرانية 465 ) وروايته فيه : فلست بمن يخشى حوادث
تعتري ... رجالا فبادوا بعد بؤس وأسعد
وليس فيه شاهد على هذه الرواية ؛ وقد استشهد به المؤلف على أنه يقال : هو بدع في
هذا الأمر ، على معنى ما كنت أول الناس فيه وقوله تعالى : " قل ما كنت بدعا
من الرسل " : معناه ما كنت أول من أرسل ، قد أرسل قبلي رسل كثير .
(2) يقول الأحوص : فخرت علي وانتسبت إلى آبائها . فقلت : كفي ، وليس جهلك علي
ببديع ولا غريب ، فقد عهدت مثله من أمثالك في النساء . والبيت من شواهد أبي عبيدة
في مجاز القرآن ( الورقة 222 - 1 ) استشهد به على أن البديع بمعنى البدع ، وذلك
عند تفسير قوله تعالى : " قل ما كنت بدعا من الرسل " .
(22/98)
قال : سألت قتادة( قُلْ مَا كُنْتُ
بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ ) قال : أي قد كانت قبلي رسل.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله( قُلْ مَا كُنْتُ
بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ ) يقول : أي إن الرسل قد كانت قبلي.
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، في قوله(
بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ ) قال : قد كانت قبله رسل.
وقوله( وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ ) اختلف أهل التأويل في تأويله
، فقال بعضهم : عنى به رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم وقيل له : قل
للمؤمنين بك ما أدري ما يفعل بي ولا بكم يوم القيامة ، وإلام نصير هنالك ، قالوا
ثم بين الله لنبيه محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم وللمؤمنين به حالهم في
الآخرة ، فقيل له( إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا لِيَغْفِرَ لَكَ
اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ ) وقال : ( لِيُدْخِلَ
الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ
خَالِدِينَ فِيهَا وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ ).
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا عليّ ، قال : ثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ،
قوله( وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ ) فأنزل الله بعد هذا(
لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ ).
حدثنا ابن حُمَيد ، قال : ثنا يحيى بن واضح ، عن الحسين ، عن يزيد ، عن عكرمة
والحسن البصري قالا قال في حم الأحقاف( وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا
بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلا مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلا نَذِيرٌ مُبِينٌ
) فنسختها الآية التي في سورة الفتح( إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا
لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ )... الآية ، فخرج نبي الله صَلَّى الله عَلَيْهِ
وَسَلَّم حين نزلت هذه الآية ، فبشرهم بأنه غفر له ما تقدّم من ذنبه وما تأخر ،
فقال له رجال من المؤمنين : هنيئا لك يا نبي الله ، قد علمنا ما يفعل بك ، فماذا
يُفعل بنا ؟ فأنزل الله عزّ وجلّ في سورة
(22/99)
الأحزاب ، فقال( وَبَشِّرِ
الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلا كَبِيرًا ) وقال( لِيُدْخِلَ
الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ
خَالِدِينَ فِيهَا وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَكَانَ ذَلِكَ عِنْدَ
اللَّهِ فَوْزًا عَظِيمًا وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ
وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ )... الآية ، فبين الله
ما يفعل به وبهم.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( وَمَا أَدْرِي مَا
يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ ) ثم درى أو علم من رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ
وَسَلَّم بعد ذلك ما يفعل به ، يقول( إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا
لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ ).
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، في قوله( وَمَا
أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ ) قال : قد بين له أنه قد غفر من ذنبه ما
تقدم وما تأخر.
وقال آخرون : بل ذلك أمر من الله جلّ ثناؤه نبيه عليه الصلاة والسلام أن يقوله
للمشركين من قومه ويعلم أنه لا يدري إلام يصير أمره وأمرهم في الدنيا ، أيصير أمره
معهم أن يقتلوه أو يخرجوه من بينهم ، أو يؤمنوا به فيتبعوه ، وأمرهم إلى الهلاك ،
كما أهلكت الأمم المكذّبة رسلها من قبلهم أو إلى التصديق له فيما جاءهم به من عند
الله.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حُمَيد ، قال : ثنا يحيى بن واضح ، قال : ثنا أبو بكر الهذليّ ، عن
الحسن ، في قوله( وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ ) فقال : أما في
الآخرة فمعاذ الله ، قد علم أنه في الجنة حين أخذ ميثاقه في الرسل ، ولكن قال :
وما أدري ما يفعل بي ولا بكم في الدنيا ، أخرج كما أخرجت الأنبياء قبلي أو أُقتل
كما قُتلت الأنبياء من قبلي ، ولا أدري ما يفعل بي ولا بكم ، أمتي المكذّبة ، أم
أمتي المصدّقة ، أم أمتي المرمية بالحجارة من السماء قذفا ، أم مخسوف بها خسفا ،
ثم أوحي إليه : ( وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ ) يقول
أحطت لك بالعرب
(22/100)
أن لا يقتلوك ، فعرف أنه لا يُقتل.
ثم أنزل الله عزّ وجلّ : ( هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ
الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا ) يقول
: أشهد لك على نفسه أنه سيظهر دينك على الأديان ، ثم قال له في أمته : ( وَمَا
كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ
مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ) فأخبره الله ما يصنع به ، وما يصنع بأمته.
وقال آخرون : بل معنى ذلك : وما أدري ما يفترض عليّ وعليكم ، أو ينزل من حكم ،
وليس يعني ما أدري ما يفعل بي ولا بكم غدا في المعاد من ثواب الله من أطاعه ،
وعقابه من كذّبه.
وقال آخرون : إنما أمر أن يقول هذا في أمر كان ينتظره من قِبَل الله عزّ وجلّ في
غير الثواب والعقاب.
وأولى الأقوال في ذلك بالصحة وأشبهها بما دلّ عليه التنزيل ، القول الذي قاله
الحسن البصري ، الذي رواه عنه أَبو بكر الهُذَليّ.
وإنما قلنا ذلك أولاها بالصواب لأن الخطاب من مبتدأ هذه السورة إلى هذه الآية ،
والخبر خرج من الله عزّ وجلّ خطابا للمشركين وخبرا عنهم ، وتوبيخا لهم ، واحتجاجا
من الله تعالى ذكره لنبيه صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم عليهم.
فإذا كان ذلك كذلك ، فمعلوم أن هذه الآية أيضًا سبيلها سبيل ما قبلها وما بعدها في
أنها احتجاج عليهم ، وتوبيخ لهم ، أو خبر عنهم. وإذا كان ذلك كذلك ، فمحال أن يقال
للنبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم : قل للمشركين ما أدري ما يفعل بي ولا بكم في
الآخرة ، وآيات كتاب الله عزّ وجلّ في تنزيله ووحيه إليه متتابعة بأن المشركين في
النار مخلدون ، والمؤمنون به في الجنان منعمون ، وبذلك يرهبهم مرّة ، ويرغبهم أخرى
، ولو قال لهم ذلك ، لقالوا له : فعلام نتبعك إذن وأنت لا تدري إلى أيّ حال تصير
غدا في القيامة ، إلى خفض ودعة ، أم إلى شدّة وعذاب; وإنما اتباعنا إياك إن
اتبعناك ، وتصديقنا بما تدعونا إليه ، رغبة في نعمة ، وكرامة نصيبها ، أو رهبة من
عقوبة ، وعذاب نهرب منه ، ولكن
(22/101)
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآَمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (10)
ذلك كما قال الحسن ، ثم بين الله لنبيه
صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم ما هو فاعل به ، وبمن كذب بما جاء به من قومه
وغيرهم.
وقوله( إِنْ أَتَّبِعُ إِلا مَا يُوحَى إِلَيَّ ) يقول تعالى ذكره : قل لهم ما
أتبع فيما آمركم به ، وفيما أفعله من فعل إلا وحي الله الذي يوحيه إليّ ، ( وَمَا
أَنَا إِلا نَذِيرٌ مُبِينٌ ) يقول : وما أنا لكم إلا نذير ، أنذركم عقاب الله على
كفركم به مبين : يقول : قد أبان لكم إنذاره ، وأظهر لكم دعاءه إلى ما فيه نصيحتكم
، يقول : فكذلك أنا.
القول في تأويل قوله تعالى : { قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ
وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ
فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (10)
}
يقول تعالى ذكره : قل يا محمد لهؤلاء المشركين القائلين لهذا القرآن لما جاءهم هذا
سحر مبين(أَرَأَيْتُمْ) أيها القوم(إِنْ كَانَ) هذا القرآن(مِنْ عِنْدِ اللَّهِ)
أنزله عليّ(وَكَفَرْتُمْ) أنتم(بِهِ) يقول : وكذّبتم أنتم به.
وقوله( وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ ) اختلف أهل
التأويل في تأويل ذلك ، فقال بعضهم : معناه : وشهد شاهد من بني إسرائيل ، وهو موسى
بن عمران عليه السلام على مثله ، يعني على مثل القرآن ، قالوا : ومثل القرآن الذي
شهد عليه موسى بالتصديق التوراة.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن المثنى ، قال : ثنا عبد الوهاب ، قال : ثنا داود ، عن عامر ، عن مسروق
في هذه الآية : ( وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ )
فخاصم به الذين كفروا من أهل مكة ، التوراة مثل القرآن ، وموسى مثل محمد صَلَّى
الله عَلَيْهِ وَسَلَّم.
حدثنا محمد بن المثنى ، قال : ثنا عبد الأعلى ، قال : سئل داود ، عن قوله :
(22/102)
( قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ
عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ )... الآية ، قال داود ، قال عامر ، قال مسروق :
والله ما نزلت في عبد الله بن سلام ، ما أنزلت إلا بمكة ، وما أسلم عبد الله إلا
بالمدينة ، ولكنها خصومة خاصم محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم بها قومه ، قال
: فنزلت( قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ
وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ
وَاسْتَكْبَرْتُمْ ) قال : فالتوراة مثل القرآن ، وموسى مثل محمد صَلَّى الله
عَلَيْهِ وَسَلَّم ، فآمنوا بالتوراة وبرسولهم ، وكفرتم.
حدثنا أبو كُرَيب ، قال : ثنا ابن إدريس ، قال : سمعت داود بن أبي هند ، عن
الشعبيّ ، قال : أناس يزعمون أن شاهدا من بني إسرائيل على مثله عبد الله بن سلام ،
وإنما أسلم عبد الله بن سلام بالمدينة; وقد أخبرني مسروق أن آل حم ، إنما نزلت
بمكة ، وإنما كانت محاجة رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم قومه ، فقال : (
أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ) يعني القرآن( وَكَفَرْتُمْ بِهِ
وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ ) موسى ومحمد
عليهما الصلاة والسلام على الفرقان.
حدثني أبو السائب ، قال : ثنا ابن إدريس ، عن داود ، عن الشعبيّ ، قال : إن ناسا
يزعمون أن الشاهد على مثله : عبد الله بن سلام ، وأنا أعلم بذلك ، وإنما أسلم عبد
الله بالمدينة ، وقد أخبرني مسروق أن آل حم إنما نزلت بمكة ، وإنما كانت محاجة
رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم لقومه ، فقال : ( قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ
كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ) يعني الفرقان( وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي
إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ ) فمثل التوراة الفرقان ، التوراة شهد عليها موسى ،
ومحمد على الفرقان صلى الله عليهما وسلم.
حدثني يعقوب ، قال : ثنا ابن علية ، قال : أخبرنا داود ، عن الشعبيّ. عن مسروق ،
في قوله( قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ) الآية ، قال : كان
إسلام ابن سلام بالمدينة ونزلت هذه السورة بمكة إنما كانت خصومة بين محمد عليه
الصلاة والسلام وبين قومه ، فقال : ( قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ
اللَّهِ
(22/103)
وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ
مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ ) قال : التوراة مثل الفرقان ، وموسى مثل
محمد ، فآمن به واستكبرتم ، ثم قال : آمن هذا الذي من بني إسرائيل بنبيه وكتابه ،
واستكبرتم أنتم ، فكذّبتم أنتم نبيكم وكتابكم ، ( إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي )...
إلى قوله( هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ ) .
وقال آخرون : عنى بقوله( وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ
) عبد الله بن سلام ، قالوا : ومعنى الكلام وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثل هذا
القرآن بالتصديق. قالوا : ومثل القرآن التوراة.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : ثنا عبد الله بن يوسف التَّنِّيسي ، قال : سمعت مالك بن أنس
يحدّث عن أَبي النضر ، عن عامر بن سعد بن أبي وقَّاص ، عن أبيه ، قال : ما سمعت
رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم يقول لأحد يمشي على الأرض إنه من أهل
الجنة إلا لعبد الله بن سلام; قال : وفيه نزلت( وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي
إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ ) .
حدثنا الحسين بن عليّ الصُّدائي ، قال : ثنا أبو داود الطيالسي ، قال : ثنا شعيب
بن صفوان ، قال : ثنا عبد الملك بن عمير ، أن محمد بن يوسف بن عبد الله بن سلام ،
قال : قال عبد الله : أنزل فيّ( قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ
)... إلى قوله( فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ ) .
حدثني عليّ بن سعد بن مسروق الكنديّ ، قال : ثنا أبو محمد بن يحيى بن يعلى ، عن عبد
الملك بن عمير ، عن ابن أخي عبد الله بن سلام ، قال : قال عبد الله بن سلام : نزلت
فيّ( وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ
وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ) .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ،
عن ابن عباس ، قوله( قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ )... الآية
، قال : كان رجل من أهل الكتاب آمن بمحمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم ،
(22/104)
فقال : إنا نجده في التوراة ، وكان
أفضل رجل منهم ، وأعلمهم بالكتاب ، فخاصمت اليهود النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ
وَسَلَّم ، فقال : " أترضون أن يحكم بيني وبينكم عبد الله بن سلام " ؟
" أتؤمنون " ؟ قالوا : نعم ، فأرسل إلى عبد الله بن سلام ، فقال :
" أتشهد أني رسول الله مكتوبا في التوراة والإنجيل " ، قال : نعم ،
فأعرضت اليهود ، وأسلم عبد الله بن سلام ، فهو الذي قال الله جلّ ثناؤه عنه(
وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ
وَاسْتَكْبَرْتُمْ ) يقول : فآمن عبد الله بن سلام.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أَبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني
الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعًا ، عن ابن أَبي نجيح ، عن مجاهد
، في قوله( وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ ) قال : عبد
الله بن سلام.
حدثنا بِشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ
كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ )... الآية ، كنا نحدّث أنه عبد الله بن سلام آمن بكتاب
الله وبرسوله وبالإسلام ، وكان من أحبار اليهود.
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، في قوله(
وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ ) ؟ قال : هو عبد الله
بن سلام.
حُدثت عن الحسين قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول
في قوله : ( وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ ) الشاهد :
عبد الله بن سلام ، وكان من الأحبار من علماء بني إسرائيل ، وبعث رسول الله صَلَّى
الله عَلَيْهِ وَسَلَّم إلى اليهود ، فأتوه ، فسألهم فقال : " أتَعْلَمُون
أنّي رسُولُ الله تجدُونَنِي مَكْتُوبًا عِنْدَكُمْ في التَوْراة " ؟ قالوا :
لا نعلم ما تقول ، وإنا بما جئت به كافرون ، فقال : " أيَّ رجل عَبْدُ الله
بْنُ سَلام عنْدَكُمْ " ؟ قالوا : عالمنا وخيرنا ، قال : " أتَرْضوْن
بهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ " ؟ قالوا : نعم ، فأرسل رسول الله صَلَّى الله
عَلَيْهِ وَسَلَّم إلى عبد الله بن سلام ، فجاءه فقال : " ما شَهادَتُكَ يا
ابْنَ
(22/105)
سَلام " ؟ قال : أشهد أنك رسول
الله ، وأن كتابك جاء من عند الله ، فآمن وكفروا ، يقول الله تبارك وتعالى(
فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ ) .
حدثنا محمد بن بشار ، قال : ثنا محمد بن جعفر ، قال : ثنا عوف ، عن الحسن ، قال :
بلغني أنه لما أراد عبد الله بن سلام أن يسلم قال : يا رسول الله ، قد علمت اليهود
أني من علمائهم ، وأن أَبي كان من علمائهم ، وإني أشهد أنك رسول الله ، وأنهم
يجدونك مكتوبًا عندهم في التوراة ، فأرسل إلى فلان وفلان ، ومن سماه من اليهود ،
وأخبئني في بيتك ، وسلهم عني ، وعن أبي ، فإنهم سيحدثونك أني أعلمهم ، وأن أَبي من
أعلمهم ، وإني سأخرج إليهم ، فأشهد أنك رسول الله ، وأنهم يجدونك مكتوبا عندهم في
التوراة ، وأنك بُعثت بالهدى ودين الحقّ ، قال : ففعل رسول الله صَلَّى الله
عَلَيْهِ وَسَلَّم ، فخبأه في بيته وأرسل إلى اليهود ، فدخلوا عليه ، فقال رسول
الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم : " ما عبد الله بن سلام فيكم " ؟
قالوا : أعلمنا نفسا. وأعلمنا أبا. فقال رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم
: " أرأيْتُمْ إنْ أسْلَمَ تُسْلِمُونَ " ؟ قالوا : لا يسلم ، ثلاث مرار
، فدعاه فخرج ، ثم قال : أشهد أنك رسول الله ، وأنهم يجدونك مكتوبا عندهم في
التوراة ، وأنك بُعِثْتَ بالهدى ودين الحقّ ، فقالت اليهود : ما كنا نخشاك على هذا
يا عبد الله بن سلام ، قال : فخرجوا كفارا ، فأنزل الله عزّ وجلّ في ذلك( قُلْ
أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ
مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ ) .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله( وَشَهِدَ
شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ ) قال
: هذا عبد الله بن سلام ، شهد أن رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم وكتابه
حق ، وهو في التوراة حقّ ، فآمن واستكبرتم.
حدثني أبو شرحبيل الحمصي ، قال : ثنا أبو المغيرة ، قال : ثنا صفوان بن عمرو ، عن
عبد الرحمن بن جُبير بن نفير ، عن أبيه ، عن عوف بن مالك
(22/106)
الأشجعي ، قال : انطلق النبيّ صَلَّى
الله عَلَيْهِ وَسَلَّم وأنا معه ، حتى دخلنا كنيسة اليهود بالمدينة يوم عيد لهم ،
فكرهوا دخولنا عليهم ، فقال لهم رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم "
يا مَعْشَرَ اليَهُودِ أَرُوني اثْنَي عَشَرَ رَجُلا يَشْهَدُونَ إِنَّهُ لا إلَهَ
إلا هُو ، وأنَّ مُحَمَّدا رَسُولُ الله ، يُحْبطُ الله عَنْ كُلِّ يَهُودِيّ
تَحْتَ أدِيمِ السَّماءِ الغَضَبَ الَّذِي غَضِب عَلَيْهِ " ، قال : فأسكتوا
فما أجابه منهم أحد ، ثم ثلَّث فلم يجبه أحد ، فانصرف وأنا معه ، حتى إذا كدنا أن
نخرج نادى رجل من خلفنا : كما أنت يا محمد ، قال : فأقبل ، فقال ذلك الرجل : أيّ
رجل تَعلموني فيكم يا معشر اليهود ، قالوا : والله ما نعلم أنه كان فينا رجل أعلم
بكتاب الله ، ولا أفقه منك ، ولا من أبيك ، ولا من جدّك قبل أبيك ، قال : فإني
أشهد بالله أنه النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم الذي تجدونه في التوراة
والإنجيل ، قالوا كذبت ، ثم ردّوا عليه قوله وقالوا له شرّا ، فقال لهم رسول الله
صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم : " كَذَبْتُمْ لَنْ نَقْبَلَ قَوْلَكُمْ ،
أما آنفا فَتَثْنُونَ عَلَيْهِ مِنَ الخَيْرِ ما أثْنَيْتُمْ ، وأمَّا إذْ آمَن
كَذَّبْتُمُوهُ وَقُلْتُمْ ما قُلْتُمْ ، فَلَنْ نَقْبَلَ قَوْلَكُمْ " ، قال
: فخرجنا ونحن ثلاثة : رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم ، وأنا ، وعبد
الله بن سلام ، فأنزل الله فيه : ( قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ
اللَّهِ )... الآية .
والصواب من القول في ذلك عندنا أن الذي قاله مسروق في تأويل ذلك أشبه بظاهر التنزيل
، لأن قوله( قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ
وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ ) في سياق توبيخ الله
تعالى ذكره مشركي قريش ، واحتجاجا عليهم لنبيه صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم ،
وهذه الآية نظيرة سائر الآيات قبلها ، ولم يجر لأهل الكتاب ولا لليهود قبل ذلك ذكر
، فتوجه هذه الآية إلى أنها فيهم نزلت ، ولا دلّ على انصراف الكلام عن قصص الذين
تقدّم الخبر عنهم معنى ، غير أن الأخبار قد وردت عن جماعة من أصحاب رسول الله
صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم بأن ذلك عنى به عبد الله بن سلام وعليه أكثر أهل
التأويل ، وهم كانوا أعلم بمعاني القرآن ، والسبب الذي فيه نزل ، وما أريد به.
فتأويل الكلام إذ كان ذلك كذلك ، وشهد عبد الله بن سلام ، وهو الشاهد من بني
(22/107)
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آَمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ (11)
إسرائيل على مثله ، يعني على مثل
القرآن ، وهو التوراة ، وذلك شهادته أن محمدا مكتوب في التوراة أنه نبيّ تجده
اليهود مكتوبا عندهم في التوراة ، كما هو مكتوب في القرآن أنه نبيّ.
وقوله( فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ ) يقول : فآمن عبد الله بن سلام ، وصدّق بمحمد
صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم ، وبما جاء به من عند الله ، واستكبرتم أنتم على
الإيمان بما آمن به عبد الله بن سلام معشر اليهود( إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي
الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ) يقول : إن الله لا يوفِّق لإصابة الحقّ ، وهدى الطريق
المستقيم ، القوم الكافرين الذين ظلموا أنفسهم بإيجابهم لها سخط الله بكفرهم به.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا
لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ
فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ (11) }
يقول تعالى ذكره : وقال الذين جحدوا نبوة محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم من
يهود بني إسرائيل للذين آمنوا به ، لو كان تصديقكم محمدا على ما جاءكم به خيرا ،
ما سبقتمونا إلى التصديق به ، وهذا التأويل على مذهب من تأوّل قوله( وَشَهِدَ
شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ ) أنه معنيّ به عبد الله بن سلام
، فأما على تأويل من تأوّل أنه عُني به مشركو قريش ، فإنه ينبغي أن يوجه تأويل
قوله( وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا
سَبَقُونَا إِلَيْهِ ) أنه عُني به مشركو قريش وكذلك كان يتأوّله قتادة ، وفي
تأويله إياه كذلك ترك منه تأويله ، قوله( وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي
إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ ) أنه معني به عبد الله بن سلام.
* ذكر الرواية عنه ذلك :
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة( وَقَالَ
الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا
إِلَيْهِ ) قال : قال ذاك أناس من المشركين : نحن أعزّ ، ونحن ، ونحن ، فلو كان
خيرا ما سبقنا إليه فلان
(22/108)
وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً وَهَذَا كِتَابٌ مُصَدِّقٌ لِسَانًا عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ (12)
وفلان ، فإن الله يختصّ برحمته من
يشاء.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( وَقَالَ الَّذِينَ
كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ ) قال :
قد قال ذلك قائلون من الناس ، كانوا أعزّ منهم في الجاهلية ، قالوا : والله لو كان
هذا خيرا ما سبقنا إليه بنو فلان وبنو فلان ، يختص الله برحمته من يشاء ، ويكرم الله
برحمته من يشاء ، تبارك وتعالى.
وقوله( وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ ) يقول تعالى ذكره : وإذ لم يبصروا بمحمد وبما
جاء به من عند الله من الهدى ، فيرشدوا به الطريق المستقيم( فَسَيَقُولُونَ هَذَا
إِفْكٌ قَدِيمٌ ) يقول : فسيقولون هذا القرآن الذي جاء به محمد صَلَّى الله
عَلَيْهِ وَسَلَّم أكاذيب من أخبار الأوّلين قديمة ، كما قال جل ثناؤه مخبرًا عنهم
، ( وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الأوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ
بُكْرَةً وَأَصِيلا ) .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا
وَرَحْمَةً وَهَذَا كِتَابٌ مُصَدِّقٌ لِسَانًا عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ الَّذِينَ
ظَلَمُوا وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ (12) }
يقول تعالى ذكره : ومن قبل هذا الكتاب ، كتاب موسى ، وهو التوراة ، إماما لبني
إسرائيل يأتمون به ، ورحمة لهم أنزلناه عليهم. وخرج الكلام مخرج الخبر عن الكتاب
بغير ذكر تمام الخبر اكتفاء بدلالة الكلام على تمامه; وتمامه : ومن قبله كتاب موسى
إماما ورحمة أنزلناه عليه ، وهذا كتاب أنزلناه لسانا عربيا.
اختلف في تأويل ذلك ، وفي المعنى الناصب( لِسَانًا عَرَبِيًّا ) أهل العربية ،
فقال بعض نحويي البصرة : نصب اللسان والعربي ، لأنه من صفة الكتاب ، فانتصب على
الحال ، أو على فعل مضمر ، كأنه قال : أعني لسانا عربيا. قال : وقال بعضهم على
مصدق جعل الكتاب مصدق اللسان ، فعلى قول من جعل اللسان نصبا على الحال ، وجعله من
صفة الكتاب ، ينبغي أن يكون تأويل
(22/109)
الكلام ، وهذا كتاب بلسان عربيّ مصدّق
التوراة كتاب موسى ، بأن محمدا لله رسول ، وأن ما جاء به من عند الله حقّ.
وأما القول الثاني الذي حكيناه عن بعضهم ، أنه جعل الناصب للسان مصدّق ، فقول لا
معنى له ، لأن ذلك يصير إذا يؤوّل كذلك إلى أن الذي يصدق القرآن نفسه ، ولا معنى
لأن يقال : وهذا كتاب يصدّق نفسه ، لأن اللسان العربيّ هو هذا الكتاب ، إلا أن
يجعل اللسان العربيّ محمدا عليه الصلاة والسلام ، ويوجه تأويله إلى : وهذا كتاب
وهو القرآن يصدّق محمدا ، وهو اللسان العربيّ ، فيكون ذلك وجها من التأويل.
وقال بعض نحويي الكوفة : قوله : ( لِسَانًا عَرَبِيًّا ) من نعت الكتاب ، وإنما
نُصب لأنه أريد به : وهذا كتاب يصدّق التوراة والإنجيل لسانا عربيا ، فخرج لسانا
عربيا من يصدّق ، لأنه فعل ، كما تقول : مررت برجل يقوم محسنا ، ومررت برجل قائم
محسنا ، قال : ولو رفع لسان عربيّ جاز على النعت للكتاب.
وقد ذُكر أن ذلك في قراءة ابن مسعود " وهذا كتاب مصدّق لما بين يديه لسانا
عربيا ، فعلى هذه القراءة يتوجه النصب في قوله( لِسَانًا عَرَبِيًّا ) من وجهين :
أحدهما على ما بيَّنت من أن يكون اللسان خارجا من قوله(مصَدّقٌ) والآخر : أن يكون
قطعا من الهاء التي في بين يديه.
والصواب من القول في ذلك عندي أن يكون منصوبا على أنه حال مما في مصدّق من ذكر
الكتاب ، لأن قوله : (مصَدّقٌ) فعل ، فتأويل الكلام إذ كان ذلك كذلك : وهذا القرآن
يصدق كتاب موسى بأن محمدا نبي مرسل لسانا عربيا.
وقوله( لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا ) يقول : لينذر هذا الكتاب الذي أنزلناه إلى
محمد عليه الصلاة والسلام الذين ظلموا أنفسهم بكفرهم بالله بعبادتهم غيره.
وقوله( وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ ) يقول : وهو بشرى للذين أطاعوا الله فأحسنوا في
إيمانهم وطاعتهم إياه في الدنيا ، فحسن الجزاء من الله لهم في الآخرة على طاعتهم
إياه. وفي قوله(وبُشْرى) وجهان من الإعراب : الرفع على العطف
(22/110)
إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (13) أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (14)
على الكتاب بمعنى : وهذا كتاب مصدّق
وبشرى للمحسنين. والنصب على معنى : لينذر الذين ظلموا ويبشر ، فإذا جعل مكان يبشر
وبُشرى أو وبشارة ، نصبت كما تقول أتيتك لأزورك وكرامة لك ، وقضاء لحقك ، بمعنى
لأزورك وأكرمك ، وأقضي حقك ، فتنصب الكرامة والقضاء بمعنى مضمر.
واختلفت القرّاء في قراءة(لِيُنْذِرَ) فقرأ ذلك عامة قرّاء الحجاز "
لِتُنْذِرَ " بالتاء بمعنى : لتنذر أنت يا محمد ، وقرأته عامة قرّاء العراق
بالياء بمعنى : لينذر الكتاب ، وبأي القراءتين قرأ ذلك القارئ فمصيب.
القول في تأويل قوله تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ
اسْتَقَامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (13) أُولَئِكَ
أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (14) }
يقول تعالى ذكره : ( إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ) الذي لا إله
غيره( ثُمَّ اسْتَقَامُوا ) على تصديقهم بذلك فلم يخلطوه بشرك ، ولم يخالفوا الله
في أمره ونهيه( فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ ) من فزع يوم القيامة وأهواله( وَلا هُمْ
يَحْزَنُونَ ) على ما خلفوا وراءهم بعد مماتهم.
وقوله( أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ ) يقول تعالى ذكره : هؤلاء الذين قالوا هذا
القول ، واستقاموا أهل الجنة وسكانها( خَالِدِينَ فِيهَا ) يقول : ماكثين فيها
أبدا( جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) يقول : ثوابا منا لهم آتيناهم ذلك على
أعمالهم الصالحة التي كانوا في الدنيا يعملونها.
(22/111)
وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (15)
القول في تأويل قوله تعالى : { وَوَصَّيْنَا الإنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي
(22/111)
إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ
الْمُسْلِمِينَ (15) }
يقول تعالى ذكره : ووصينا ابن آدم بوالديه الحسن في صحبته إياهما أيام حياتهما ،
والبرّ بهما في حياتهما وبعد مماتهما.
واختلفت القرّاء في قراءة قوله(حُسنا) فقرأته عامة قرّاء المدينة والبصرة "
حُسنا " بضمّ الحاء على التأويل الذي وصف. وقرأ ذلك عامة قرّاء
الكوفة(إحْسانا) بالألف ، بمعنى : ووصيناه بالإحسان إليهما ، وبأيّ ذلك قرأ القارئ
فمصيب ، لتقارب معاني ذلك ، واستفاضة القراءة بكل واحدة منهما في القرّاء.
وقوله( حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا ) يقول تعالى ذكره :
ووصينا الإنسان بوالديه إحسانا برّا بهما ، لما كان منهما إليه حملا ووليدا وناشئا
، ثم وصف جلّ ثناؤه ما لديه من نعمة أمه ، وما لاقت منه في حال حمله ووضعه ، ونبهه
على الواجب لها عليه من البرّ ، واستحقاقها عليه من الكرامة وجميل الصحبة ، فقال :
( حَمَلَتْهُ أُمُّهُ ) يعني في بطنها كرها ، يعني مشقة ، ( وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا
) يقول : وولدته كرها يعني مشقة.
كما حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا
وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا ) يقول : حملته مشقة ، ووضعته مشقة.
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة والحسن ، في قوله(
حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا ) قالا حملته في مشقة ، ووضعته
في مشقة.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث ، قال :
ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أَبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله(
حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا ) قال : مشقة عليها.
اختلف القرّاء في قراءة قوله(كُرْها) فقرأته عامة قراء المدينة والبصرة
(22/112)
" كَرها " بفتح الكاف.
وقرأته عامة قرّاء الكوفة(كُرها) بضمها ، وقد بينت اختلاف المختلفين في ذلك قبل
إذا فتح وإذا ضمّ في سورة البقرة بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع.
والصواب من القول في ذلك عندي أنهما قراءتان معروفتان ، متقاربتا المعنى ،
فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب.
وقوله( وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا ) يقول تعالى ذكره : وحمل أمه
إياه جنينا في بطنها ، وفصالها إياه من الرضاع ، وفطمها إياه ، شرب اللبن ثلاثون
شهرا.
واختلفت القرّاء في قراءة قوله(وَفِصَالُهُ) ، فقرأ ذلك عامة قرّاء الأمصار غير
الحسن البصري : (وحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ) بمعنى : فاصلته أمه فصالا ومفاصلة. وذُكر
عن الحسن البصري أنه كان يقرؤه : " وحَمْلُهُ وَفَصْلُهُ " بفتح الفاء
بغير ألف ، بمعنى : وفصل أمه إياه.
والصواب من القول في ذلك عندنا ، ما عليه قرّاء الأمصار ، لإجماع الحجة من القراء
عليه ، وشذوذ ما خالف.
وقوله( حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ ) اختلف أهل التأويل في مبلغ حد ذلك من
السنين ، فقال بعضهم : هو ثلاث وثلاثون سنة.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا أبو كُرَيب ، قال : ثنا ابن إدريس ، قال : سمعت عبد الله بن عثمان بن خثيم ،
عن مجاهد ، عن ابن عباس ، قال : أشدّه : ثلاث وثلاثون سنة ، واستواؤه أربعون سنة ،
والعذر الذي أعذر الله فيه إلى ابن آدم ستون.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة( حَتَّى إِذَا
بَلَغَ أَشُدَّهُ ) قال : ثلاثا وثلاثين.
وقال آخرون : هو بلوغ الحلم.
(22/113)
* ذكر من قال ذلك :
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : ثنا هشيم ، قال : أخبرنا مجالد ، عن الشعبيّ ، قال
: الأشدّ : الحلم إذا كتبت له الحسنات ، وكتبت عليه السيئات.
وقد بيَّنا فيما مضى الأشدّ جمع شدّ ، وأنه تناهي قوّته واستوائه. وإذا كان ذلك
كذلك ، كان الثلاث والثلاثون به أشبه من الحلم ، لأن المرء لا يبلغ في حال حُلمه
كمال قواه ، ونهاية شدّته ، فإن العرب إذا ذكرت مثل هذا من الكلام ، فعطفت ببعض
على بعض جعلت كلا الوقتين قريبا أحدهما من صاحبه ، كما قال جلّ ثناؤه : ( إِنَّ
رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ )
ولا تكاد تقول أنا أعلم أنك تقوم قريبا من ساعة من الليل وكله ، ولا أخذت قليلا من
مال أو كله ، ولكن تقول : أخذت عامة مالي أو كله ، فكذلك ذلك في قوله( حَتَّى
إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً ) لا شك أن نسق الأربعين على
الثلاث والثلاثين أحسن وأشبه ، إذ كان يراد بذلك تقريب أحدهما من الآخر من النسق
على الخمس عشرة أو الثمان عشرة.
وقوله( وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً ) ذلك حين تكاملت حجة الله عليه ، وسير عنه
جهالة شبابه وعرف الواجب لله من الحق في بر والديه.
كما حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( وَبَلَغَ
أَرْبَعِينَ سَنَةً ) وقد مضى من سيئ عمله.
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة( وَبَلَغَ
أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي ) حتى بلغ( مِنَ الْمُسْلِمِينَ ) وقد
مضى من سيئ عمله ما مضى.
وقوله( قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ
عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ ) يقول تعالى ذكره : قال هذا الإنسان الذي هداه الله
لرشده ، وعرف حقّ الله عليه فيما ألزمه من برّ والديه( رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ
نِعْمَتَكَ ) يقول : أغرني بشكر نعمتك التي أنعمت عليّ في تعريفك إياي توحيدك
وهدايتك
(22/114)
أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ (16)
لي للإقرار بذلك ، والعمل بطاعتك(
وَعَلَى وَالِدَيَّ ) من قبلي ، وغير ذلك من نعمتك علينا ، وألهمني ذلك. وأصله من
وزعت الرجل على كذا : إذا دفعته عليه.
وكان ابن زيد يقول في ذلك ما حدثني به يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال
ابن زيد ، في قوله( أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ ) قال : اجعلني أشكر
نعمتك ، وهذا الذي قاله ابن زيد في قوله( رَبِّ أَوْزِعْنِي ) وإن كان يئول إليه
معنى الكلمة ، فليس بمعنى الإيزاع على الصحة.
وقوله( وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ ) يقول تعالى ذكره : أوزعني أن أعمل
صالحا من الأعمال التي ترضاها ، وذلك العمل بطاعته وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم
.
وقوله( وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي ) يقول : وأصلح لي أموري في ذرّيتي الذين
وهبتهم ، بأن تجعلهم هداة للإيمان بك ، واتباع مرضاتك ، والعمل بطاعتك ، فوصفه (1)
جل ثناؤه بالبرّ بالآباء والأمهات والبنين والبنات. وذُكر أن هذه الآية نزلت في
أبي بكر الصديق رضي الله عنه .
وقوله( إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ ) يقول تعالى ذكره
مخبرا عن قيل هذا الإنسان.( إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ ) يقول : تبت من ذنوبي التي
سلفت مني في سالف أيامي إليك( وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ ) يقول : وإني من
الخاضعين لك بالطاعة ، المستسلمين لأمرك ونهيك ، المنقادين لحكمك.
القول في تأويل قوله تعالى : { أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ
مَا عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ
الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ (16) }
__________
(1) لعله فوصاه .
(22/115)
يقول تعالى ذكره : هؤلاء الذين هذه
الصفة صفتهم ، هم الذين يُتقبل عنهم أحسن ما عملوا في الدنيا من صالحات الأعمال ،
فيجازيهم به ، ويثيبهم عليه( وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ ) يقول : ويصفح لهم
عن سيئات أعمالهم التي عملوها في الدنيا ، فلا يعاقبهم عليها( فِي أَصْحَابِ
الْجَنَّةِ ) يقول : نفعل ذلك بهم فعلنا مثل ذلك في أصحاب الجنة وأهلها الذين هم
أهلها.
كما حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : ثنا المعتمر بن سليمان ، عن الحكم بن أبان ،
عن الغطريف ، عن جابر بن زيد ، عن ابن عباس. عن النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ
وَسَلَّم عن الروح الأمين ، قال : " يؤتي بحسنات العبد وسيئاته ، فيقتص بعضها
ببعض ، فإن بقيت حسنة وسع الله له في الجنة - قال : فدخلت على يزداد ، فحدث بمثل
هذا الحديث ، قال : قلت : فإن ذهبت الحسنة ؟ قال : ( أُولَئِكَ الَّذِينَ
نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ
)... الآية .
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا جرير ، عن ليث ، عن مجاهد ، قال : دعا أبو بكر عمر رضي
الله عنهما ، فقال له : إني أوصيك بوصية أن تحفظها : إن لله في الليل حقا لا يقبله
بالنهار ، وبالنهار حقا لا يقبله بالليل ، إنه ليس لأحد نافلة حتى يؤدّي الفريضة ،
إنه إنما ثقُلت موازين من ثقُلت موازينه يوم القيامة باتباعهم الحقّ في الدنيا ،
وثقُل ذلك عليهم ، وحقّ لميزان لا يوضع فيه إلا الحقّ أن يثقل ، وخفَّت موازين من
خفَّت موازينه يوم القيامة ، لاتباعهم الباطل في الدنيا ، وخفته عليهم ، وحقّ
لميزان لا يوضع فيه إلا الباطل أن يخف.
ألم تر أن الله ذكر أهل الجنة بأحسن أعمالهم ، فيقول قائل : أين يبلغ عملي من عمل
هؤلاء ، وذلك أن الله عزّ وجلّ تجاوز عن أسوأ أعمالهم فلم يبده ، ألم تر أن الله
ذكر أهل النار بأسوأ أعمالهم حتى يقول قائل : أنا خير عملا من هؤلاء ، وذلك بأن
الله ردّ عليهم أحسن أعمالهم ، ألم تر أن الله عزّ وجلّ أنزل أية الشدّة عند آية
الرخاء ، وآية الرخاء عند آية الشدّة ، ليكون المؤمن راغبا راهبا ، لئلا يُلقي
(22/116)
وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ وَيْلَكَ آَمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ مَا هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (17)
بيده إلى التهلكة ، ولا يتمنى على الله
أمنية يتمنى على الله فيها غير الحقّ.
واختلفت القراء في قراءة قوله( أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ
مَا عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ ) فقرأ ذلك عامة قرّاء المدينة والبصرة وبعض قرّاء
الكوفة(يُتَقَبَّلُ وَيُتَجَاوَزُ) بضم الياء منهما ، على ما لم يسمّ فاعله ،
ورفع(أحْسَنُ). وقرأ ذلك عامة قراء الكوفة(نَتَقَبَّلُ ، وَنَتَجَاوَزُ) بالنون
وفتحها ، ونصب(أحسنَ) على معنى إخبار الله جلّ ثناؤه عن نفسه أنه يفعل ذلك بهم ،
وردّا للكلام على قوله( وَوَصَّيْنَا الإنْسَانَ ) ونحن نتقبل منهم أحسن ما عملوا
ونتجاوز ، وهما قراءتان معروفتان صحيحتا المعنى ، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب.
وقوله( وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ ) يقول : وعدهم الله هذا
الوعد ، وعد الحقّ لا شك فيه أنه موفّ لهم به ، الذي كانوا إياه في الدنيا يعدهم
الله تعالى ، ونصب قوله( وَعْدَ الصِّدْقِ ) لأنه مصدر خارج من قوله( نَتَقَبَّلُ
عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ ) ، وإنما أخرج
من هذا الكلام مصدر وعد وعدا ، لأن قوله( يَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ - وَيَتَجاوَز ُ)
وعد من الله لهم ، فقال : وعد الصدق ، على ذلك المعنى.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا
أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي وَهُمَا
يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ مَا
هَذَا إِلا أَسَاطِيرُ الأوَّلِينَ (17) }
وهذا نعت من الله تعالى ذكره نعت ضالّ به كافر ، وبوالديه عاقّ ، وهما مجتهدان في
نصيحته ودعائه إلى الله ، فلا يزيده دعاؤهما إياه إلى الحقّ ، ونصيحتهما له إلا
عتوًا وتمرّدا على الله ، وتماديا في جهله ، يقول الله جلّ ثناؤه( وَالَّذِي قَالَ
لِوَالِدَيْهِ ) أن دعواه إلى الإيمان بالله ، والإقرار ببعث الله خلقه من قبورهم
، ومجازاته إياهم بأعمالهم(أُفٍّ لَكُمَا) يقول : قذرا لكما ونتنا( أَتَعِدَانِنِي
أَنْ
(22/117)
أُخْرَجَ ) يقول أتعدانني أن أخرج من
قبري من بعد فنائي وبلائي فيه حيا.
كما حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( أَتَعِدَانِنِي أَنْ
أُخْرَجَ ) أن أبعث بعد الموت.
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، في قوله(
أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ ) قال : يعني البعث بعد الموت.
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ،
عن ابن عباس ، قوله( وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا أَتَعِدَانِنِي
)... إلى آخر الآية; قال : الذي قال هذا ابن لأبي بكر رضي الله عنه ، قال : (
أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ ) أتعدانني أن أبعث بعد الموت.
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا هوذة ، قال : ثنا عوف ، عن الحسن ، في قوله( وَالَّذِي
قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ ) قال : هو
الكافر الفاجر العاقّ لوالديه ، المكذب بالبعث.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قال : ثم نعت عبد سوء
عاقا لوالديه فاجرا فقال : ( وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا )...
إلى قوله( أَسَاطِيرُ الأوَّلِينَ ) .
وقوله( وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي ) يقول : أتعدانني أن أبعث ، وقد
مضت قرون من الأمم قبلي ، فهلكوا ، فلم يبعث منهم أحدا ، ولو كنت مبعوثا بعد وفاتي
كما تقولان ، لكان قد بعث من هلك قبلي من القرون( وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ
) يقول تعالى ذكره ووالداه يستصرخان الله عليه ، ويستغيثانه عليه أن يؤمن بالله ،
ويقرّ بالبعث ويقولان له : ( وَيْلَكَ آمِنْ ) ، أي صدّق بوعد الله ، وأقر أنك
مبعوث من بعد وفاتك ، إن وعد الله الذي وعد خلقه أنه باعثهم من قبورهم ، ومخرجهم
منها إلى موقف الحساب لمجازاتهم بأعمالهم حقّ لا شكّ فيه ، فيقول عدوّ الله مجيبا
لوالديه ، وردًّا عليهما نصيحتهما ، وتكذيبا بوعد الله : ما هذا الذي تقولان لي
وتدعواني إليه من التصديق بأني مبعوث من بعد وفاتي من
(22/118)
أُولَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ (18) وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (19)
قبري ، إلا ما سطره الأوّلون من الناس
من الأباطيل ، فكتبوه ، فأصبتماه أنتما فصدّقتما.
القول في تأويل قوله تعالى : { أُولَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ
فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالإنْسِ إِنَّهُمْ
كَانُوا خَاسِرِينَ (18) وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ
أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (19) }
يقول تعالى ذكره : هؤلاء الذين هذه الصفة صفتهم ، الذين وجب عليهم عذاب الله ،
وحلَّت بهم عقوبته وسخطه ، فيمن حلّ به عذاب الله على مثل الذي حلّ بهؤلاء من
الأمم الذين مضوا قبلهم من الجنّ والإنس ، الذين كذّبوا رسل الله ، وعتوا عن أمر
ربهم.
وقوله(إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ) يقول تعالى ذكره : إنهم كانوا المغبونين
ببيعهم الهدى بالضلال والنعيم بالعقاب. 2
حدثنا محمد بن بشار ، قال : ثنا معاذ بن هشام ، قال : ثنا أبي ، عن قتادة ، عن
الحسن ، قال : الجنّ لا يموتون ، قال قتادة : فقلت( أُولَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ
عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ )... الآية.
وقوله( وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا ) يقول تعالى ذكره : ولكلّ هؤلاء
الفريقين : فريق الإيمان بالله واليوم الآخر ، والبرّ بالوالدين ، وفريق الكفر
بالله واليوم الآخر ، وعقوق الوالدين اللذين وصف صفتهم ربنا عزّ وجلّ في هذه
الآيات منازل ومراتب عند الله يوم القيامة ، مما عملوا ، يعني من عملهم الذي عملوه
في الدنيا من صالح وحسن وسيىء يجازيهم الله به.
وقد حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله( وَلِكُلٍّ
دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا ) قال : درج أهل النار يذهب سفالا ودرج أهل الجنة يذهب
علوا( وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ ) يقول جلّ ثناؤه : وليعطى جميعهم
(22/119)
وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ (20)
أجور أعمالهم التي عملوها في الدنيا ،
المحسن منهم بإحسانه ما وعد الله من الكرامة ، والمسيء منهم بإساءته ما أعدّه من
الجزاء( وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ ) يقول : وجميعهم لا يظلمون : لا يجازى المسيء منهم
إلا عقوبة على ذنبه ، لا على ما لم يعمل ، ولا يحمل عليه ذنب غيره ، ولا يبخس
المحسن منهم ثوابَ إحسانه.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى
النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا
وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ
تَسْتَكْبِرُونَ فِي الأرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ (20)
}
يقول تعالى ذكره : ( وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِاللَّهِ عَلَى النَّارِ
) يقال لهم( أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا
وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا ) فيها.
كما حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله( وَيَوْمَ
يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ ) قرأ يزيد حتى بلغ( وَبِمَا كُنْتُمْ
تَفْسُقُونَ ) تعلمون والله أن أقواما يشترطون حسناتهم استبقى رجل طيباته إن
استطاع ، ولا قوّة إلا بالله. ذُكر أن عمر بن الخطاب كان يقول : لو شئت كنت أطيبكم
طعاما ، وألينكم لباسا ، ولكني أستبقي طيباتي. وذُكر لنا أنه لما قدم الشأم ، صنع
له طعام لم ير قبله مثله ، قال : هذا لنا ، فما لفقراء المسلمين الذين ماتوا وهم
لا يشبعون من خبز الشعير ؟ قال خالد بن الوليد : لهم الجنة ، فاغرورقت عينا عمر ،
وقال : لئن كان حظنا في الحطام ، وذهبوا - قال أبو جعفر فيما أرى أنا - بالجنة ،
لقد باينونا بونا بعيدا.
وذُكر لنا " أن نبيّ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم دخل على أهل الصفة
مكانا يجتمع - فيه فقراء المسلمين ، وهم يرقَعون ثيابهم بالأدَم ، ما يجدون لها
رقاعا ، قال : أنتم اليوم خير ، أو يوم يغدو أحدكم في حلة ، ويروح في أُخرى ،
ويغدى عليه بحفنة ، ويُراح عليه بأخرى ، ويستر بيته كما تستر الكعبة. قالوا : نحن
يومئذ
(22/120)
خير ، قال : " بل أنتم اليوم خير
" .
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قال : حدثنا صاحب لنا
عن أبي هريرة ، قال : إنما كان طعامنا مع النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم
الأسودين : الماء ، والتمر ، والله ما كنا نرى سمراءكم هذه ، ولا ندري ما هي.
قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، عن أبي بردة بن عبد الله بن قيس الأشعريّ ، عن أبيه ،
قال : أي بنيّ لو شهدتنا مع رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم ونحن مع
نبينا إذا أصابتنا السماء ، حسبت أن ريحنا ريح الضأن ، إنما كان لباسنا الصوف.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قول الله عزّ وجلّ(
أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا )... إلى آخر الآية ، ثم
قرأ( مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ
أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ ) وقرأ( مَنْ كَانَ يُرِيدُ
حَرْثَ الآخِرَةِ نزدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا
نُؤْتِهِ مِنْهَا ) وقرأ( مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا
مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ )... إلى آخر الآية ، وقال : هؤلاء الذين أذهبوا
طيباتهم في حياتهم الدنيا.
واختلفت القرّاء في قراءة قوله( أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ ) ، فقرأته عامة
قرّاء الأمصار(أَذْهَبْتُمْ) بغير استفهام ، سوى أبي جعفر القارئ ، فإنه قرأه
بالاستفهام ، والعرب تستفهم بالتوبيخ ، وتترك الاستفهام فيه ، فتقول : أذهبت ففعلت
كذا وكذا ، وذهبت ففعلت وفعلت. وأعجب القراءتين إليّ ترك الاستفهام فيه ، لإجماع
الحجة من القرّاء عليه ، ولأنه أفصح اللغتين.
وقوله( فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ ) يقول تعالى ذكره : يقال لهم :
فاليوم أيها الكافرون الذين أذهبوا طيباتهم في حياتهم الدنيا تجزون : أي تثابون
عذاب الهون ، يعني عذاب الهوان ، وذلك عذاب النار الذي يهينهم. كما حدثنا محمد بن
عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى;
(22/121)
وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد( عَذَابَ الْهُونِ ) قال : الهوان( بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الأرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ ) يقول : بما كنتم تتكبرون في الدنيا على ظهر الأرض على ربكم ، فتأبون أن تخلصوا له العبادة ، وأن تذعنوا لأمره ونهيه بغير الحقّ ، أي بغير ما أباح لكم ربكم ، وأذن لكم به( وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ ) يقول : بما كنتم فيها تخالفون طاعته فتعصونه.
(22/122)
وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقَافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (21)
القول في تأويل قوله تعالى : {
وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالأحْقَافِ وَقَدْ خَلَتِ
النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلا تَعْبُدُوا إِلا اللَّهَ
إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (21) }
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم : واذكر يا محمد لقومك
الرّادّين عليك ما جئتهم به من الحقّ هودا أخا عاد ، فإن الله بعثك إليهم كالذي
بعثه إلى عاد ، فخوّفهم أن يحلّ بهم من نقمة الله على كفرهم ما حلّ بهم إذ كذّبوا
رسولنا هودًا إليهم ، إذ أنذر قومه عادا بالأحقاف. والأحقاف : جمع حقف وهو من
الرمل ما استطال ، ولم يبلغ أن يكون جبلا وإياه عنى الأعشى :
فَباتَ إلى أرْطاةِ حِقْفٍ تَلُفُّهُ... خَرِيقُ شَمالٍ يَتْرُكُ الوَجْهَ أقْتَما
(1)
واختلف أهل التأويل في الموضع الذي به هذه الأحقاف ، فقال بعضهم : هي جبل بالشام.
__________
(1) البيت لأعشى بني قيس بن ثعلبة ( ديوانه طبعة القاهرة 295 ) وفي روايته :
" يلوذ " في موضع " فبات " : من قصيدة يمدح بها إياس بن قبيصة
الطائي ، أو قيس بن معد يكرب ، والضمير في فبات راجع إلى الثور الوحشي الذي شبه به
ناقته ، في أبيات سابقة . والأرطي : شجر ضخم ينبت في الرمل. واحدته : أرطأة . ما
اعوج وانعطف ، وجمعه : أحقاف . وهو موضع الشاهد في البيت . والخريق : الريح
الشديدة الهبوب . والشمال : ريح باردة تهب من ناحية الشام . يقول : يلجأ هذا الثور
إلى أرطأة في منعرج رمل ، تعصف من حوله ريح شمالية هوجاء ، فتترك وجهه أغبر قاتمًا
.
(22/122)
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ،
عن ابن عباس : ( وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالأحْقَافِ ) قال
: الأحقاف : جبل بالشام.
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك
يقول في قوله( إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالأحْقَافِ ) جبل يسمى الأحقاف.
وقال آخرون : بل هي واد بين عُمان ومهرة.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي عن أبيه ، عن
ابن عباس( وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالأحْقَافِ ) قال :
فقال : الأحقاف الذي أنذر هود قومه واد بين عمان ومهرة.
حدثنا ابن حُمَيد ، قال : ثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، قال : كانت منازل عاد
وجماعتهم ، حيث بعث الله إليهم هودا الأحقاف : الرمل فيما بين عُمان إلى
حَضْرَمَوْتَ ، فاليمن كله ، وكانوا مع ذلك قد فشَوْا في الأرض كلها ، قهروا أهلها
بفضل قوّتهم التي آتاهم الله.
وقال آخرون : هي أرض.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا عبد الرحمن ، قال : ثنا سفيان ، عن منصور ، عن مجاهد ،
قال : الأحقاف : الأرض.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن
مجاهد( إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالأحْقَافِ ) قال : حشاف أو كلمة تشبهها ، قال
أبو موسى : يقولون مستحشف.
(22/123)
حدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال
: ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد( إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ
بِالأحْقَافِ ) حِشاف من حِسْمَى.
وقال آخرون : هي رمال مُشْرفة على البحر بالشِّحْر.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتاده ، قوله( وَاذْكُرْ أَخَا
عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالأحْقَافِ ) ذُكر لنا أن عادا كانوا حيا باليمن
أهل رمل مشرفين على البحر بأرض يقال لها الشِّحْر.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، في قوله(
وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالأحْقَافِ ) قال : بلغَنَا أنهم
كانوا على أرض يقال لها الشحر ، مشرفين على البحر ، وكانوا أهل رمل.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرنا عمرو بن الحارث ، عن سعيد بن
أبي هلال ، عن عمرو بن عبد الله ، عن قتادة ، أنه قال : كان مساكن عاد بالشِّحْر.
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال : أن الله تبارك وتعالى أخبر أن عادا أنذرهم
أخوهم هود بالأحقاف ، والأحقاف ما وصفت من الرمال المستطيلة المشرفة ، كما قال
العَجَّاج :
بات إلى أرْطاةِ حقْف أحْقَفا (1)
__________
(1) لم أجد البيت في ديوان العجاج المطبوع . والذي في ( اللسان : حقف ) : واحقوقف
الرمل : إذا طال واعوج . واحقوقف الهلال : اعوج . وكل ما طال واعوج فقد احقوقف ،
كظهر البعير ، وشخص القمر ، قال العجاج : ناج طواه الأين مما وجفا ... طي الليالي
زلفا فزلفا
* سماوة الهلال حتى احقوقفا *
والمؤلف ساق هذا البيت شاهدًا على أن الأحقاف : الرمال المستطيلة المشرفة ، كما
قال العجاج : " بات ... إلخ " . وأصله من شواهد أبي عبيدة في مجاز
القرآن ( الورقة 222 ) قال : " إذ أنذر قومه بالأحقاف " : أحقاف الرمال
. قال العجاج ... البيت . أقول : ولست على يقين من صحة هذا الشاهد ، فإن أكثر
ألفاظه من ألفاظ الشاهد الذي قبله ، فلعله اضطرب في أفواه الرواة وتداخل مع سابقه
.
(22/124)
وكما حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن
وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله( وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ
بِالأحْقَافِ ) قال : الأحقاف : الرمل الذي يكون كهيئة الجبل تدعوه العرب الحقف ،
ولا يكون أحقافا إلا من الرمل ، قال : وأخو عاد هود. وجائز أن يكون ذلك جبلا
بالشأم. وجائز أن يكون واديا بين عمان وحضرموت. وجائز أن يكون الشحر وليس في العلم
به أداء فرض ، ولا في الجهل به تضييع واجب ، وأين كان فصفته ما وصفنا من أنهم
كانوا قوما منازلهم الرمال المستعلية المستطيلة.
وقوله( وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلا
تَعْبُدُوا إِلا اللَّهَ ) يقول تعالى ذكره : وقد مضت الرسل بإنذار أممها( مِنْ
بَيْنِ يَدَيْهِ ) يعني : من قبل هود ومن خلفه ، يعني : ومن بعد هود. وقد ذُكر أن
ذلك في قراءة عبد الله(وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ
بَعْدِهِ) ، ( أَلا تَعْبُدُوا إِلا اللَّهَ ) يقول : لا تشركوا مع الله شيئا في
عبادتكم إياه ، ولكن أخلصوا له العبادة ، وأفردوا له الألوهة ، إنه لا إله غيره ،
وكانوا فيما ذُكر أهل أوثان يعبدونها من دون الله.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك
يقول في قوله( وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلا
تَعْبُدُوا إِلا اللَّهَ ) قال : لن يبعث الله رسولا إلا بأن يعبد الله.
وقوله( إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ) يقول تعالى ذكره مخبرا
عن قيل هود لقومه : إني أخاف عليكم أيها القوم بعبادتكم غير الله عذاب الله في يوم
عظيم وذلك يوم يعظم هوله ، وهو يوم القيامة.
(22/125)
قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ آَلِهَتِنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (22) قَالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَأُبَلِّغُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ (23)
القول في تأويل قوله تعالى : { قَالُوا
أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ آلِهَتِنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ
مِنَ الصَّادِقِينَ (22) }
يقول تعالى ذكره : قالت عاد لهود ، إذ قال لهم لا تعبدوا إلا الله : إني أخاف
عليكم عذاب يوم عظيم ، أجئتنا يا هود لتصرفنا عن عبادة آلهتنا إلى عبادة ما تدعونا
إليه ، وإلى اتباعك على قولك.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله( أَجِئْتَنَا
لِتَأْفِكَنَا عَنْ آلِهَتِنَا ) قال : لتزيلنا ، وقرأ( إِنْ كَادَ لَيُضِلُّنَا
عَنْ آلِهَتِنَا لَوْلا أَنْ صَبَرْنَا عَلَيْهَا ) قال : تضلنا وتزيلنا وتأفكنا(
فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا ) من العذاب على عبادتنا ما نعبد من الآلهة( إِنْ
كُنْتُ ) من أهل الصدق في قوله وعداته.
القول في تأويل قوله تعالى : { قَالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ
وَأُبَلِّغُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ
(23) }
يقول تعالى ذكره : قال هود لقومه عاد : ( إِنَّمَا الْعِلْمُ ) بوقت مجيء ما أعدكم
به من عذاب الله على كفركم به عند الله ، لا أعلم من ذلك إلا ما علمني(
وَأُبَلِّغُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ ) يقول : وإنما أنا رسول إليكم من الله ،
مبلغ أبلغكم عنه ما أرسلني به من الرسالة( وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا
تَجْهَلُونَ ) مواضع حظوظ أنفسكم ، فلا تعرفون ما عليها من المضرّة بعبادتكم غير
الله ، وفي استعجال عذابه.
القول في تأويل قوله تعالى : { فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ
أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ
بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ
(22/126)
فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ (24)
أَلِيمٌ (24) }
يقول تعالى ذكره : فلما جاءهم عذاب الله الذي استعجلوه ، فرأوه سحابا عارضا في
ناحية من نواحي السماء( مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ ) والعرب تسمي السحاب الذي
يُرَى في بعض أقطار السماء عشيا ، ثم يصبح من الغد قد استوى ، وحبا بعضه إلى بعض
عارضا ، وذلك لعرضه في بعض أرجاء السماء حين نشأ ، كما قال الأعشى :
يا من يَرَى عارضا قَدْ بِتُّ أرْمُقُهُ... كأنَّمَا الْبَرْقُ في حافاتِهِ
الشُّعَلُ (1)
( قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا ) ظنا منهم برؤيتهم إياه أن غيثا قد أتاهم
يَحيون به ، فقالوا : هذا الذي كان هودٌ يعدنا ، وهو الغيث.
كما حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله( فَلَمَّا
رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ )... الآية ، وذُكر لنا أنهم حبس
عنهم المطر زمانا ، فلما رأوا العذاب مقبلا( قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا )
. وذُكر لنا أنهم قالوا : كذب هود كذب هود; فلما خرج نبيّ الله صَلَّى الله
عَلَيْهِ وَسَلَّم الله فشامه ، قال : ( بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ
فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ ) .
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، قال : ساق الله السحابة السوداء
التي اختار قَيْلُ ابن عنز بما فيها من النقمة إلى عاد ، حتى تخرج عليهم من واد
لهم يقال له المغيث ، فلما رأوها استبشروا( قَالُوا هَذَا عَارِضٌ
__________
(1) البيت لأعشى بن قيس بن ثعلبة ( ديوانه طبعه القاهرة 57 ) وفي روايته : "
أرقبه " في موضع " أرمقه " ، وهما بمعنى أنظر إليه . واليت شاهد
على أن معنى العارض السحاب المعترض في السماء . قال في ( اللسان : عرض ) والعارض :
السحاب الذي يعترض في أفق السماء . وفي التنزيل في قصة قوم عاد : " فلما رأوه
عارضا مستقبل أوديتهم قالوا هذا عارض ممطرنا " أي قالوا : هذا الذي وعدنا به
سحاب فيه الغيث . أ هـ . وقال أبو عبيدة في مجاز القرآن : ( الورقة 222 ) والعارض
من السحاب : الذي يرى في قطر من أقطار السماء من العشى ، ثم يصبح وقد حبا حتى
استوى .
(22/127)
مُمْطِرُنَا ) : يقول الله عزّ وجلّ :
( بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ ) .
وقوله( بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ ) يقول تعالى ذكره مخبرا عن قيل نبيه
صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم هود لقومه لما قالوا له عند رؤيتهم عارض العذاب ،
قد عرض لهم في السماء هذا عارض ممطرنا نحيا به ، ما هو بعارض غيث ، ولكنه عارض
عذاب لكم ، بل هو ما استعجلتم به : أي هو العذاب الذي استعجلتم به ، فقلتم : (
فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ )( رِيحٌ فِيهَا
عَذَابٌ أَلِيمٌ ) والريح مكرّرة على ما في قوله( هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ )
كأنه قيل : بل هو ريح فيها عذاب أليم.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن المثنى ، قال : ثنا محمد بن جعفر ، قال : ثنا شعبة ، عن أبي إسحاق ،
عن عمرو بن ميمون ، قال : كان هود جلدا في قومه ، وإنه كان قاعدا في قومه ، فجاء
سحاب مكفهرّ ، ( قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا فَقَالَ بَلْ هُوَ مَا
اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ ) قال : فجاءت ريح فجعلت تلقي
الفسطاط ، وتجيء بالرجل الغائب فتلقيه.
حدثني يحيى بن إبراهيم المسعوديّ ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن جدّه ، قال : قال
سليمان ، ثنا أبو إسحاق ، عن عمرو بن ميمون ، قال : لقد كانت الريح تحمل الظعينة
فترفعها حتى تُرى كأنها جرادة.
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ،
عن ابن عباس ، قوله( فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ )...
إلى آخر الآية ، قال : هي الريح إذا أثارت سحابا ، ( قَالُوا هَذَا عَارِضٌ
مُمْطِرُنَا ) ، فقال نبيهم : بل ريح فيها عذاب أليم.
(22/128)
تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (25)
القول في تأويل قوله تعالى : { تُدَمِّرُ
كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لا يُرَى إِلا مَسَاكِنُهُمْ
كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (25) }
وقوله( تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا ) : يقول تعالى ذكره : تخرّب كل
شيء ، وترمي بعضه على بعض فتهلكه ، كما قال جرير
وكانَ لَكُمْ كَبَكْرِ ثَمُود لَمَّا... رَغا ظُهْرًا فَدَمَّرَهُمْ دَمارًا (1)
يعني بقوله : دمرهم : ألقى بعضهم على بعض صَرْعى هَلكَى.
وإنما عنى بقوله( تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا ) مما أرسلت بهلاكه ،
لأنها لم تدمر هودا ومن كان آمن به.
حدثنا أبو كُرَيب ، قال : ثنا طلق ، عن زائدة ، عن الأعمش ، عن المنهال ، عن سعيد
بن جبير ، عن ابن عباس ، قال : ما أرسل الله على عادٍ من الريح إلا قدر خاتمي هذا
، فنزع خاتمه.
وقوله( فَأَصْبَحُوا لا يُرَى إِلا مَسَاكِنُهُمْ ) يقول : فأصبح قوم هود وقد
هلكوا وفنوا ، فلا يُرى في بلادهم شيء إلا مساكنهم التي كانوا يسكنونها.
واختلفت القرّاء في قراءة قوله( فَأَصْبَحُوا لا يُرَى إِلا مَسَاكِنُهُمْ ) فقرأ
ذلك عامة قرّاء المدينة والبصرة( لا تَرَى إلا مَساكِنَهُمْ) بالتاء نصبا ، بمعنى
: فأصبحوا لا ترى أنت يا محمد إلا مساكنهم وقرأ ذلك عامة قراء الكوفة( لا يُرَى
إِلا مَسَاكِنُهُمْ ) بالياء في(يُرى) ، ورفع المساكن ، بمعنى : ما وصفت قبل أنه
لا
__________
(1) البيت ليس لجرير كما ورد في الأصل ، وإنما هو للفرذدق ، من قصيدة في ديوانه
يرد بها على جرير ويناقضه وهي في ديوانه ( طبعة الصاوي 442 ) ، وأول القصيدة :
جَرَّ المُخْزِيات عَلَى كُلَيْبٍ ... جرير ثم ما منع الذمارًا
وكانَ لَهُمْ كَبَكْرِ ثَمُودَ لَمَّا ... رَغا ظُهْرا فَدَمَّرَهُمْ دَمارًا
أي جلب على قومه الدمار والخراب
(22/129)
وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (26)
يرى في بلادهم شيء إلا مساكنهم.
وروى الحسن البصري( لا تُرَى) بالتاء ، وبأيّ القراءتين اللتين ذكرت من قراءة أهل
المدينة والكوفة قرأ ذلك القارئ فمصيب وهو القراءة برفع المساكن إذا قُرئ
قوله(يُرى) بالياء وضمها وبنصب المساكن إذا قرئ قوله : " ترى " بالتاء
وفتحها ، وأما التي حُكيت عن الحسن ، فهي قبيحة في العربية وإن كانت جائزة ، وإنما
قبحت لأن العرب تذكِّر الأفعال التي قبل إلا وإن كانت الأسماء التي بعدها أسماء
إناث ، فتقول : ما قام إلا أختك ، ما جاءني إلا جاريتك ، ولا يكادون يقولون : ما
جاءتني إلا جاريتك ، وذلك أن المحذوف قبل إلا أحد ، أو شيء واحد ، وشيء يذكر
فعلهما العرب ، وإن عنى بهما المؤنث ، فتقول : إن جاءك منهنّ أحد فأكرمه ، ولا
يقولون : إن جاءتك ، وكان الفرّاء يجيزها على الاستكراه ، ويذكر أن المفضل أنشده :
وَنارُنا لَمْ تُرَ نارًا مِثْلُها... قَدْ عَلِمَتْ ذاكَ مَعَدّ أكْرَمَا (1)
فأنث فعل مثل لأنه للنار ، قال : وأجود الكلام أن تقول : ما رئي مثلها.
وقوله( كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ ) يقول تعالى ذكره : كما جزينا
عادا بكفرهم بالله من العقاب في عاجل الدنيا ، فأهلكناهم بعذابنا ، كذلك نجزي
القوم الكافرين بالله من خلقنا ، إذ تمادوا في غيهم وطَغَوا على ربهم.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ
فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى
عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا
__________
(1) البيت من شواهد الفراء في معاني القرآن ( الورقة 301 ) استشهد به عند قوله
تعالى : " فأصبحوا لا ترى إلا مساكنهم " فقال إنها قرئت بالتاء أو
بالياء مضمومة ( مع بناء الفعل للمجهول ) . ووصف القراءة بالتاء المضمومة بأن فيها
قبحًا ؛ قال : لأن العرب إذا جعلت فعل المؤنث قبل إلا ذكروه ، فقالوا : لم يقم إلا
جاريتك ، وما قام إلا جاريتك ، ولا يكادون يقولون : ما قامت إلا جاريتك ، وذلك أن
المتروك ( المستثنى منه ) أحد أو شيء ، فأحد إذا كانت لمؤنث أو مذكر فعلها مذكر ؛
ألا ترى أنك تقول : إن قام أحد منهن فاضربه ، ولا تقول : إن قامت إلا مستكرها ،
وهو على ذلك جائز ؛ قال : أنشدني المفضل : " ونارنا ... البيت " . فأنت
فعل مؤنث ، لأنه للنار ؛ وأجود الكلام أن تقول : ما رؤى مثلها . قلت : وقوله
" أكرما " نعت لنارا .
(22/130)
أَبْصَارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ
مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا
كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (26) }
يقول تعالى ذكره لكفار قريش : ولقد مكنَّا أيها القوم عادا الذين أهلكناهم بكفرهم
فيما لم نمكنكم فيه من الدنيا ، وأعطيناهم منها الذي لم نعطكم منهم من كثرة
الأموال ، وبسطة الأجسام ، وشدّة الأبدان.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : ثني أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ،
قوله( وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ ) يقول : لم
نمكنكم.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله( وَلَقَدْ
مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ ) : أنبأكم أنه أعطى القوم ما لم
يعطكم.
وقوله( وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا ) يسمعون به مواعظ ربهم ، وأبصارا يبصرون بها
حجج الله ، وأفئدة يعقلون بها ما يسرّهم وينفعهم( فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ
سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصَارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ ) يقول : فلم
ينفعهم ما أعطاهم من السمع والبصر والفؤاد إذ لم يستعملوها فيما أعطوها له ، ولم
يعملوها فيما ينجيهم من عقاب الله ، ولكنهم استعملوها فيما يقرّبهم من سخطه( إِذْ
كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ) يقول : إذ كانوا يكذّبون بحجج الله وهم
رُسله ، وينكرون نبوّتهم( وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ) يقول
: وعاد عليهم ما استهزءوا به ، ونزل بهم ما سخروا به ، فاستعجلوا به من العذاب ،
وهذا وعيد من الله جلّ ثناؤه لقريش ، يقول لهم : فاحذروا أن يحلّ بكم من العذاب
على كفركم بالله وتكذيبكم رسله ، ما حلّ بعاد ، وبادروا بالتوبة قبل النقمة.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِنَ
(22/131)
وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرَى وَصَرَّفْنَا الْآَيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (27) فَلَوْلَا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْبَانًا آَلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ وَمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (28)
الْقُرَى وَصَرَّفْنَا الآيَاتِ
لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (27) فَلَوْلا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ
دُونِ اللَّهِ قُرْبَانًا آلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ
وَمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (28) }
يقول تعالى ذكره لكفار قريش محذّرهم بأسه وسطوته ، أن يحلّ بهم على كفرهم(
وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا ) أيها القوم من القُرَى ما حول قريتكم ، كحجر ثمود وأرض
سدوم ومأرب ونحوها ، فأنذرنا أهلها بالمَثُلات ، وخرّبنا ديارها ، فجعلناها خاوية
على عروشها.
وقوله : ( وَصَرَّفْنَا الآيَاتِ ) يقول : ووعظناهم بأنواع العظات ، وذكرناهم
بضروب من الذِّكْر والحجج ، وبيَّنا لهم ذلك.
كما حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله(
وَصَرَّفْنَا الآيَاتِ ) قال بيَّناها( لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ) يقول ليرجعوا
عما كانوا عليه مقيمين من الكفر بالله وآياته. وفي الكلام متروك ترك ذكره استغناء
بدلالة الكلام عليه ، وهو : فأبوا إلا الإقامة على كفرهم ، والتمادي في غيهم ،
فأهلكناهم ، فلن ينصرهم منا ناصر ؛ يقول جلّ ثناؤه : فلولا نصر هؤلاء الذين
أهلكناهم من الأمم الخالية قبلهم أوثانهم وآلهتهم التي اتخذوا عبادتها قربانا
يتقرّبون بها فيما زعموا إلى ربهم منا إذ جاءهم بأسنا ، فتنقذهم من عذابنا إن كانت
تشفع لهم عند ربهم كما يزعمون.
وهذا احتجاج من الله لنبيه محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم على مُشركي قومه ،
يقول لهم : لو كانت آلهتكم التي تعبدون من دون الله تغني عنكم شيئا ، أو تنفعكم
عند الله كما تزعمون أنكم إنما تعبدونها ، لتقرّبكم إلى الله زلفى ، لأغنت عمن كان
قبلكم من الأمم التي أهلكتها بعبادتهم إياها ، فدفعت عنها العذاب إذا نزل ، أو
لشفعت لهم عند ربهم ، فقد كانوا من عبادتها على مثل الذي عليه أنتم ، ولكنها ضرتهم
ولم تنفعهم.
يقول تعالى ذكره : ( بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ ) يقول : بل تركتهم آلهتهم التي كانوا
يعبدونها ، فأخذت غير طريقهم ،
(22/132)
لأن عبدتها هلكت ، وكانت هي حجارة أو
نحاسا ، فلم يصبها ما أصابهم ودعوها ، فلم تجبهم ، ولم تغثهم ، وذلك ضلالها عنهم ،
وذلك إفكهم ، يقول عزّ وجلّ هذه الآلهة التي ضلَّت عن هؤلاء الذين كانوا يعبدونها
من دون الله عند نزول بأس الله بهم ، وفي حال طمعهم فيها أن تغيثهم ، فخذلتهم ، هو
إفكهم : يقول : هو كذبهم الذي كانوا يكذّبون ، ويقولون به هؤلاء آلهتنا وما كانوا
يفترون ، يقول : وهو الذي كانوا يفترون ، فيقولون : هي تقرّبنا إلى الله زُلفى ،
وهي شفعاؤنا عند الله. وأخرج الكلام مخرج الفعل ، والمعنيّ المفعول به ، فقيل :
وذلك إفكهم ، والمعنيّ فيه : المأفوك به لأن الإفك إنما هو فعل الآفك ، والآلهة
مأفوك بها. وقد مضى البيان عن نظائر ذلك قبل ، قال : وكذلك قوله( وَمَا كَانُوا
يَفْتَرُونَ ) .
واختلفت القرّاء في قراءة قوله( وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ ) فقرأته عامة قرّاء الأمصار
، وذلك إفكهم بكسر الألف وسكون الفاء وضم الكاف بالمعنى الذي بيَّنا.
وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما في ذلك ما حدثني أحمد بن يوسف ، قال : ثنا القاسم
، قال : ثنا هشيم ، عن عوف ، عمن حدثه ، عن ابن عباس ، أنه كان يقرؤها(وَذَلِكَ
أَفْكُهُمْ) يعني بفتح الألف والكاف وقال : أضلهم. فمن قرأ القراءة الأولى التي
عليها قرّاء الأمصار ، فالهاء والميم في موضع خفض. ومن قرأ هذه القراءة التي
ذكرناها عن ابن عباس فالهاء والميم في موضع نصب ، وذلك أن معنى الكلام على ذلك ،
وذلك صرفهم عن الإيمان بالله.
والصواب من القراءة في ذلك عندنا ، القراءة التي عليها قراءة الأمصار لإجماع الحجة
عليها.
(22/133)
وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآَنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ (29)
القول في تأويل قوله تعالى : { وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ (29) }
(22/133)
يقول تعالى ذكره مقرّعا كفار قريش
بكفرهم بما آمنت به الجنّ( وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ ) يا محمد( نَفَرًا مِنَ
الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ ) ذكر أنهم صرفوا إلى رسول الله صَلَّى الله
عَلَيْهِ وَسَلَّم بالحادث الذي حدث من رَجْمِهم بالشهب.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حُمَيد ، قال : ثنا جرير ، عن مغيرة ، عن زياد ، عن سعيد بن جُبير ، قال
: " كانت الجن تستمع ، فلما رُجِموا قالوا : إن هذا الذي حدث في السماء لشيء
حدث في الأرض ، فذهبوا يطلبون حتى رأوا النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم
خارجا من سوق عكاظ يصلي بأصحابه الفجر ، فذهبوا إلى قومهم " .
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن أيوب ، عن سعيد بن
جُبير ، قال : " ولما بعث النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم حُرِست
السماء ، فقال الشيطان : ما حُرِست إلا لأمر قد حدث في الأرض فبعث سراياه في الأرض
، فوجدوا النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم قائما يصلي صلاة الفجر بأصحابه
بنَخْلة ، وهو يقرأ. فاستمعوا حتى إذا فرغ( وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ
)... إلى قوله( مُسْتَقِيمٍ ) " .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ،
عن ابن عباس ، قوله( وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ
يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ )... إلى آخر الآية ، قال : لم تكن السماء تحرس في
الفترة بين عيسى ومحمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم ، وكانوا يقعدون مقاعد
للسمع; فلما بعث الله محمدا صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم حرست السماء حرسا شديدا
، ورُجِمت الشياطين ، فأنكروا ذلك ، وقالوا : ( لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ
فِي الأرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا ) فقال إبليس : لقد حدث في
الأرض حدث ، واجتمعت إليه الجنّ ، فقال : تفرّقوا في الأرض ، فأخبروني ما هذا
الخبر الذي حدث في السماء ، وكان أوّل بعث ركب من أهل نصيبين ، وهي أشراف الجنّ
وساداتهم ، فبعثهم إلى
(22/134)
تهامة ، فاندفعوا حتى بلغوا الوادي ،
وادي نخلة ، فوجدوا نبيّ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم يصلي صلاة الغداة
ببطن نخلة ، فاستمعوا; فلما سمعوه يتلو القرآن ، قالوا : أنصتوا ، ولم يكن نبيّ
الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم علم أنهم استمعوا إليه وهو يقرأ القرآن; فلما
قضى ولوا إلى قومهم منذرين .
واختلف أهل التأويل في مبلغ عدد النفر الذين قال الله( وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ
نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ ) فقال بعضهم : كانوا سبعة نفر.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا أبو كُرَيب ، قال : ثنا عبد الحميد ، قال : ثنا النضر بن عربيّ ، عن عكرمة ،
عن ابن عباس( وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ
الْقُرْآنَ )... الآية ، قال : كانوا سبعة نفر من أهل نصيبين ، فجعلهم رسول الله
صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم رسلا إلى قومهم.
وقال آخرون : بل كانوا تسعة. نفر.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا يحيى ، عن سفيان ، عن عاصم ، عن زِرّ( وَإِذْ
صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ ) قال : كانوا
تسعة نفر فيهم زَوْبعة.
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا أبو احمد ، قال : ثنا سفيان ، عن عاصم ، عن زِرّ بن
حبيش ، قال : " أنزل على النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم وهو ببطن نخلة
، ( فَلَمَّا حَضَرُوهُ ) قال : كانوا تسعة أحدهم زَوْبَعَة " .
وقوله( فَلَمَّا حَضَرُوهُ ) يقول : فلما حضر هؤلاء النفر من الجنّ الذين صرفهم
الله إلى رسوله نبيّ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم .
واختلف أهل العلم في صفة حضورهم رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم ، فقال
بعضهم : حضروا رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم ، يتعرّفون الأمر الذي
(22/135)
حدث من قبله ما حدث في السماء ، ورسول
الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم لا يشعر بمكانهم ، كما قد ذكرنا عن ابن عباس
قبل.
وكما حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا هوذة ، قال : ثنا عوف ، عن الحسن ، في قوله( وَإِذْ
صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ ) قال : ما شعر بهم رسول الله صَلَّى
الله عَلَيْهِ وَسَلَّم حتى جاءوا ، فأوحى الله عزّ وجلّ إليه فيهم ، وأخبر عنهم.
وقال آخرون : بل أمر نبيّ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم أن يقرأ عليهم
القرآن ، وأنهم جمعوا له بعد أن تقدّم الله إليه بإنذارهم ، وأمره بقراءة القرآن
عليهم.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله( وَإِذْ صَرَفْنَا
إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ ) قال : " ذكر لنا
أنهم صرفُوا إليه من نِينَوَى ، قال : فإن نبيّ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ
وَسَلَّم ، قال : إني أمرت أن أقرأ القرآن على الجنّ ، فأيكم يتبعني " ؟
فأطرقوا ، ثم استتبعهم فأطرقوا ، ثم استتبعهم الثالثة فأطرقوا ، فقال رجل : يا
رسول الله إنك لذو بدئه ، (1) فاتبعه عبد الله بن مسعود ، فدخل رسول الله صَلَّى
الله عَلَيْهِ وَسَلَّم شعبا يقال له شعب الحجون. قال : وخطّ نبي الله صَلَّى الله
عَلَيْهِ وَسَلَّم على عبد الله خطا ليثبته به ، قال : فجعلت تهوي بي وأرى أمثال
النسور تمشي في دفوفها ، وسمعت لغطا شديدا ، حتى خفت على نبيّ الله صَلَّى الله
عَلَيْهِ وَسَلَّم ، ثم تلا القرآن; فلما رجع نبيّ الله قلت : يا نبيّ الله ما
اللغط الذي سمعت ؟ قال : اجتمعوا إليّ في قتيل كان بينهم ، فقُضي بينهم بالحقّ .
وذُكر لنا أن ابن مسعود لما قَدِم الكوفة رأى شيوخا شُمطا من الزُّط ، فراعوه ،
قال : من هؤلاء ؟ قالوا : هؤلاء نفر من الأعاجم ، قال : ما أريت للذين قرأ عليهم
النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم الإسلام من الجنّ شبها أدنى
__________
(1) في ابن كثير " لذو ندبة " ، وكأن الرجل يتعجب من نشاط رسول الله صلى
الله عليه وسلم وإسراعه لما ندب أصحابه إليه فأحجموا . ولعله مأخوذ من قولهم
" رجل ندب " أي خفيف سريع في الحاجة .
(22/136)
من هؤلاء.
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، أن نبيّ الله
صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم ذهب وابن مسعود ليلة دعا الجنّ ، فخطَّ النبيّ
صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم على ابن مسعود خطا ، ثم قال له : لا تخرج منه ثم
ذهب النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم إلى الجنّ ، فقرأ عليهم القرآن ، ثم رجع
إلى ابن مسعود فقال : وهل رأيت شيئا ؟ قال : سمعت لغَطا شديدا ، قال : إن الجنّ
تدارأت في قتيل قُتل بينها ، فقُضِي بينهم بالحقّ ، وسألوه الزاد ، فقال : وكل عظم
لكم عرق ، وكلّ روث لكم خُضْرة. قالوا : يا رسول الله تقذّرها الناس علينا ، فنهى
النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم أن يستنجي بأحدهما; فلما قدم ابن مسعود
الكوفة رأى الزُّطّ ، وهم قوم طوال سود ، فأفزعوه ، فقال : أظَهَرُوا ؟ فقيل له :
إن هؤلاء قوم من الزُّطّ ، فقال ما أشبههم بالنفر الذين صُرِفوا إلى النبيّ صَلَّى
الله عَلَيْهِ وَسَلَّم .
قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر. عن يحيى بن أبي كثير ، عن عبد الله بن عمرو بن
غَيلان الثقفيّ أنه قال لابن مسعود : " حُدثت أنك كنت مع رسول الله صَلَّى
الله عَلَيْهِ وَسَلَّم ليلة وفد الجنّ ، قال : أجَل ، قال : فكيف كان ؟ فذكر
الحديث كله. وذُكِر أن النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم خطّ عليه خطا وقال :
ولا تبرح منها ، فذكر أن مثل العجاجة السوداء غشيت رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ
وَسَلَّم ، فذُعِر ثلاث مرّات ، حتى إذا كان قريبا من الصبح ، أتاني رسول الله
صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم ، فقال : أنِمْتَ ؟ قلت : لا والله ، ولقد هممت
مرارا أن أستغيث بالناس حتى سمعتك تقرعهم بعصاك تقول : واجلسوا ، قال : ولو خرجتَ
لم آمن أن يختطفك بعضهم ، ثم قال : وهل رأيت شيئا ؟ قال : نعم رأيت رجالا سودا
مستشعري ثياب بيض ، قال : أولئك جنّ نصيبين ، سألوني المتاع ، والمتاع الزاد ،
فمتعتهم بكلّ عظم حائل أو بعرة أو روثة ، فقلت : يا رسول الله ، وما يغني ذلك عنهم
؟ قال : إِنَّهُمْ لَنْ يَجِدوُا عَظْما إلا وَجَدُوا عَلَيْهِ لَحْمَه يَوْمَ
أُكِل ،
(22/137)
وَلا رَوْثَةً إلا وَجَدُوا فِيها
حَبَّها يَوْمَ أُكِلَتْ ، فَلا يَسْتَنْقِيَنَّ أحَدٌ مِنْكُمْ إذَا خَرَجَ مِنَ
الخَلاءِ بعَظْمٍ وَلا بَعْرَةٍ وَلا رَوْثَةٍ " .
حدثني محمد بن عبد الله بن عبد الحكم ، قال : أخبرنا أبو زُرْعة وهب بن راشد ، قال
: قال يونس ، قال ابن شهاب : أخبرني أبو عثمان بن شبة الخزاعي ، وكان من أهل الشام
" أن ابن مسعود قال : قال رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم لأصحابه
وهو بمكة : مَنْ أَحَبَّ منْكُمْ أنْ يَحْضُرَ أمْرَ الجنّ اللَّيْلَةَ
فَلْيَفْعَلْ " . فلم يحضر منهم أحد غيري ، قال : فانطلقنا حتى إذا كنا بأعلى
مكة ، خطّ لي برجله خطا ، ثم أمرني أن أجلس فيه ، ثم انطلق حتى قام فافتتح القرآن
، فغشيته أسودة كبيرة حالت بيني وبينه حتى ما أسمع صوته ، ثم طفقوا يتقطعون مثل
قطع السحاب ذاهبين ، حتى بقي منهم رهط ، ففرغ رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ
وَسَلَّم مع الفجر ، فانطلق متبرّزا ، ثم أتاني فقال : وما فَعَلَ الرَّهْطُ ؟ قلت
: هم أولئك يا رسول الله ، فأخذ عظما أو روثا أو جمجمة فأعطاهم إياه زادا ، ثم نهى
أن يستطيب أحد بعظم أو روث " .
حدثني أحمد بن عبد الرحمن بن وهب ، قال : ثنا عمي عبد الله بن وهب ، قال : أخبرني
يونس ، عن ابن شهاب ، عن أبي عثمان بن شبة الخزاعي ، وكان من أهل الشأم ، أن عبد
الله بن مسعود قال : قال رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم ، فذكر مثله
سواء ، إلا أنه قال : فأعطاهم روثا أو عظما زادا ، ولم يذكر الجمجمة.
حدثني أحمد بن عبد الرحمن بن وهب ، قال : ثني عمي ، قال : أخبرني يونس ، عن
الزهريّ ، عن عبيد الله بن عبد الله ، أن ابن مسعود ، قال : سمعت رسول الله صَلَّى
الله عَلَيْهِ وَسَلَّم يقول : " بِتُّ اللًّيْلَةَ أقْرأُ عَلى الجِنّ
رُبُعا بالحَجُونِِ " .
واختلفوا في الموضع الذي تلا عليهم رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم فيه
القرآن ، فقال عبد الله بن مسعود قرأ عليهم بالحَجون ، وقد ذكرنا الرواية عنه
(22/138)
بذلك.
وقال آخرون : قرأ عليهم بنخلة ، وقد ذكرنا بعض من قال ذلك ، ونذكر من لم نذكره.
حدثنا أبو كُرَيب ، قال : ثنا خلاد ، عن زهير بن معاوية ، عن جابر الجعفي ، عن
عكرمة ، عن ابن عباس " أن النفر الذين أتوا رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ
وَسَلَّم من جنّ نصيبين أتوه وهو بنخلة " .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال ثنا عيسى; وحدثني الحارث ، قال : ثنا
الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد( وَإِذْ صَرَفْنَا
إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ ) قال : لقيهم بنخلة ليلتئذ. وقوله( فَلَمَّا
حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا ) يقول تعالى ذكره : فلما حضروا القرآن ورسول الله
صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم يقرأ ، قال بعضهم لبعض : أنصتوا لنستمع القرآن.
كما حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا يحيى ، عن سفيان ، عن عاصم ، عن زِرّ( فَلَمَّا
حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا ) قالوا : صَهْ.
قال : ثنا أبو أحمد ، قال : ثنا سفيان ، عن عاصم ، عن زِرّ بن حُبَيْش ، مثله.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، في قوله( فَلَمَّا
حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا ) قد علم القوم أنهم لن يعقلوا حتى ينصتوا.
وقوله( فَلَمَّا قُضِيَ ) يقول : فلما فرغ رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ
وَسَلَّم من القراءة وتلاوة القرآن.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثنى عمي ، قال : ثني أبي ،
(22/139)
قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ (30)
عن أبيه ، عن ابن عباس ، ( فَلَمَّا
قُضِيَ ) يقول : فلما فرغ من الصلاة.( وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ ) .
وقوله( وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ ) يقول : انصرفوا منذرين عذاب الله
على الكفر به.
وذُكر عن ابن عباس أن رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم جعلهم رسلا إلى
قومهم.
حدثنا بذلك أبو كُرَيب ، قالا ثنا عبد الحميد الحِمَّانيّ ، قال : ثنا النضر ، عن
عكرمة ، عن ابن عباس. وهذا القول خلاف القول الذي روي عنه أنه قال : لم يكن نبيّ
الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم علم أنهم استمعوا إليه وهو يقرأ القرآن ، لأنه
محال أن يرسلهم إلى آخرين إلا بعد علمه بمكانهم ، إلا أن يقال : لم يعلم بمكانهم
في حال استماعهم للقرآن ، ثم علم بعد قبل انصرافهم إلى قومهم ، فأرسلهم رسلا حينئذ
إلى قومهم ، وليس ذلك في الخبر الذي روي.
القول في تأويل قوله تعالى : { قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا
أُنزلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى
الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ (30) }
يقول تعالى ذكره مخبرًا عن قيل هؤلاء الذين صُرفوا إلى رسول الله صَلَّى الله
عَلَيْهِ وَسَلَّم من الجن لقومهم لما انصرفوا إليهم من عند رسول الله صَلَّى الله
عَلَيْهِ وَسَلَّم : ( يَا قَوْمَنَا مِنَ الْجِنِّ إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا
أُنزلَ مِنْ بَعْدِ كِتَابٌ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ ) يقول :
يصدق ما قبله من كتب الله التي أنزلها على رُسله (1) .
وقوله( يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ ) يقول : يرشد إلى الصواب ، ويدّل على ما فيه لله
رضا( وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ ) يقول : وإلى طريق لا اعوجاج فيه ، وهو
الإسلام.
__________
(1)
في الأصل : رسوله : ولعله تحريف من النسخ .
(22/140)
يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآَمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (31) وَمَنْ لَا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءُ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (32)
وكان قتادة يقول في ذلك ما حدثنا بشر ،
قال : ثنا سعيد عن قتادة أنه قرأ( قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا
كِتَابًا أُنزلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي
إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ ) فقال : ما أسرع ما عقل القوم ، ذُكر
لنا أنهم صُرِفوا إليه من نينوى.
القول في تأويل قوله تعالى : { يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا
بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (31)
وَمَنْ لا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الأرْضِ وَلَيْسَ لَهُ
مِنْ دُونِهِ أَولِيَاءُ أُولَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (32) }
يقول تعالى ذكره مخبرا عن قيل هؤلاء النفر من الجنّ( يَا قَوْمَنَا مِنَ الْجِنِّ
أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ ) قالوا : أجيبوا رسول الله محمدا إلى ما يدعوكم إليه
من طاعة الله( وَآمِنُوا بِهِ ) يقول : وصدّقوه فيما جاءكم به وقومه من أمر الله
ونهيه ، وغير ذلك مما دعاكم إلى التصديق به( يَغْفِرْ لَكُمْ ) يقول : يتغمد لكم
ربكم من ذنوبكم فيسترها لكم ولا يفضحكم بها في الآخرة بعقوبته إياكم عليها(
وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ ) يقول : وينقذكم من عذاب موجع إذا أنتم تبتم
من ذنوبكم ، وأنبتم من كفركم إلى الإيمان بالله وبداعيه.
وقوله( وَمَنْ لا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الأرْضِ ) يقول
تعالى ذكره مخبرا عن قيل هؤلاء النفر لقومهم : ومن لا يجب أيُّها القوم رسول الله
صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم محمدا ، وداعيه إلى ما بعثه بالدعاء إليه من توحيده
، والعمل بطاعته( فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الأرْضِ ) يقول : فليس بمعجز ربه بهربه
، إذا أراد عقوبته على تكذيبه داعيه ، وتركه تصديقه وإن ذهب في الأرض هاربا ، لأنه
حيث كان فهو في سلطانه وقبضته( وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَولِيَاءُ ) يقول :
وليس لمن لم يحب داعي الله من دون ربه نُصراء ينصرونه من الله إذا عاقبه ربه على
كفره به وتكذيبه داعيه.
(22/141)
أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (33)
وقوله( أُولَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ )
يقول : هؤلاء الذين لم يجيبوا داعي الله فيصدّقوا به ، وبما دعاهم إليه من توحيد
الله ، والعمل بطاعته في جور عن قصد السبيل ، وأخذ على غير استقامة ، ( مُبِينٍ )
: يقول : يبين لمن تأمله أنه ضلال ، وأخذ على غير قصد.
القول في تأويل قوله تعالى : { أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ
السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ
يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (33) }
يقول تعالى ذكره : أولم ينظر هؤلاء المنكرون إحياء الله خلقه من بعد وفاتهم ،
وبعثه إياهم من قبورهم بعد بلائهم ، القائلون لآبائهم وأمهاتهم( أفّ لكما أتعدانني
أن أخرج وقد خلَت القرون من قبلي ) فلم يبعثوا بأبصار قلوبهم ، فيروا ويعلموا أن
الله الذي خلق السموات السبع والأرض ، فابتدعهنّ من غير شيء ، ولم يعي بإنشائهنّ ،
فيعجز عن اختراعهنّ وإحداثهنّ( بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى )
فيخرجهم من بعد بلائهم في قبورهم أحياء كهيئتهم قبل وفاتهم.
واختلف أهل العربية في وجه دخول الباء في قوله( بِقَادِرٍ ) فقال بعض نحويي البصرة
: هذه الباء كالباء في قوله( كَفَى بِاللَّهِ ) وهو مثل( تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ )
وقال بعض نحويي الكوفة : دخلت هذه الباء للمَ; قال : والعرب تدخلها مع الجحود إذا
كانت رافعة لما قبلها ، وتدخلها إذا وقع عليها فعل يحتاج إلى اسمين مثل قولك : ما
أظنك بقائم ، وما أظنّ أنك بقائم ، وما كنت بقائم ، فإذا خلعت الباء نصبت الذي
كانت تعمل فيه ، بما تعمل فيه من الفعل ، قال : ولو ألقيت الباء من قادر في هذا
الموضع رفع ، لأنه خبر لأن ، قال : وأنشدني بعضهم :
فَمَا رَجَعَتْ بخائِبَةٍ رِكابٌ... حَكِيمُ بنُ المُسيِّبِ مُنْتهَاها (1)
__________
(1) البيت من شواهد الفراء في معاني القرآن ( الورقة 303 ) قال : وقوله تعالى :
" أو لم يروا أن الله الذي خلق السموات والأرض بقادر " : دخلت الباء للم
. والعرب تدخلها مع الجحود إذا كانت رافعة لما قبلها ، أو يدخلونها إذا وقع عليها
فعل محتاج إلى اسمين مثل قولك : ما أظنك بقائم ، وما أظن بقائم ، وما كنت بقائم ،
فإذا خلعت الباء ، نصبت الذي كانت تعمل فيه بما تعمل فيه من الفعل . ولو ألقيت
الباء من " قادر " في هذا الموضع رفع ، لأنه خبر لأن ، وأنشدني بعضهم :
" فما رجعت بخائبة ... البيت " . فادخل الباء في فعل لو ألقيت منه ، نصب
بالفعل لا بالباء . يقاس على هذا ما أشبهه ؛ وقد ذكر عن بعض القراء أنه قرأ "
يقدر " مكان " بقادر " ، كما قرأ حمزة : " وما أنت بهادي
العمي " ، وقراءة العوام " بهاد العمي " . أ هـ .
(22/142)
فأدخل الباء في فعل لو ألقيت منه نصب
بالفعل لا بالباء ، يقاس على هذا ما أشبهه.
وقال بعض من أنكر قول البصريّ الذي ذكرنا قوله : هذه الباء دخلت للجحد ، لأن
المجحود في المعنى وإن كان قد حال بينهما بأنّ( أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ
الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ
عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى ) قال : فإنَّ اسم يَرَوْا وما بعدها في صلتها ،
ولا تدخل فيه الباء ، ولكن معناه جحد ، فدخلت للمعنى.
وحُكي عن البصريّ أنه كان يأبى إدخال إلا وأن النحويين من أهل الكوفة يجيزونه ،
ويقولون : ما ظننت أن زيدا إلا قائما ، وما ظننت أن زيدا بعالم. وينشد :
وَلَسْتُ بِحالِفٍ لَوَلَدْتُ مِنْهُمْ... عَلى عَمِّيَّةٍ إلا زِيادًا (1)
قال : فأدخل إلا بعد جواب اليمين ، قال : فأما " كَفَى بِاللّهِ " ، فهذه
لم تدخل إلا لمعنى صحيح ، وهي للتعجب ، كما تقول لظَرُفَ بزيد. قال : وأما(
تَنْبُتُ بالدهن ) فأجمعوا على أنها صلة. وأشبه الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال
: دخلت الباء في قوله(بقادِرٍ) للجَحْد ، لما ذكرنا لقائلي ذلك من العلل.
__________
(1) هذا بيت لم ينسبه المؤلف ، ونقله عن بعض النحويين . وليس في معاني القرآن
للفراء . وهو موضع خلاف بين البصريين والكوفيين . فالبصريون يأبون دخول ( إلا )
بعد جواب اليمين ، والكوفيون يجيزونه ويستشهدون بالبيت على ذلك ، كما قال المؤلف .
(22/143)
وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (34)
واختلفت القرّاء في قراءة قوله(
بِقَادِرٍ ) فقرأ ذلك عامة قرّاء الأمصار ، عن أبي إسحاق والجَحْدريّ والأعرج(
بقادِرٍ ) وهي الصحيحة عندنا لإجماع قرّاء الأمصار عليها. وأما الآخرون الذين
ذكرتهم فإنهم فيما ذُكر عنهم كانوا يقرءون ذلك " يقدر " بالياء. وقد
ذُكر أنه في قراءة عبد الله بن مسعود( أنَّ الله الَّذِي خَلَقَ السَّمَواتِ
والأرْضَ قَادِرٌ ) بغير باء ، ففي ذلك حجة لمن قرأه " بقادِرٍ " بالباء
والألف. وقوله( بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) يقول تعالى ذكره : بلى
، يقدر الذي خلق السموات والأرض على إحياء الموتى : أي الذي خلق ذلك على كلّ شيء
شاء خلقه ، وأراد فعله ، ذو قدرة لا يعجزه شيء أراده ، ولا يُعييه شيء أراد فعله ،
فيعييه إنشاء الخلق بعد الفناء ، لأن من عجز عن ذلك فضعيف ، فلا ينبغي أن يكون
إلها من كان عما أراد ضعيفا.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى
النَّارِ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا
الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (34) }
يقول تعالى ذكره : ويوم يعرض هؤلاء المكذّبون بالبعث ، وثواب الله عباده على
أعمالهم الصالحة ، وعقابه إياهم على أعمالهم السيئة ، على النار ، نار جهنم ، يقال
لهم حينئذ : أليس هذا العذاب الذي تعذّبونه اليوم ، وقد كنتم تكذّبون به في الدنيا
بالحقّ ، توبيخا من الله لهم على تكذيبهم به ، كان في الدنيا( قَالُوا بَلَى
وَرَبِّنَا ) يقول : فيجيب هؤلاء الكفرة من فورهم بذلك ، بأن يقولوا بلى هو الحق
والله قال : ( فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ ) يقول : فقال لهم
المقرّر بذلك : فذوقوا عذاب النار الآن بما كنتم تجحدونه في الدنيا ، وتنكرونه ،
وتأبون الإقرار إذا دُعيتم إلى التصديق به.
القول في تأويل قوله تعالى : { فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ
(22/144)
فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ بَلَاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ (35)
مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِلْ
لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلا سَاعَةً
مِنْ نَهَارٍ بَلاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ (35) }
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم ، مثبته على المضيّ لما
قلَّده من عبْء الرسالة ، وثقل أحمال النبوّة صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم ،
وآمره بالائتساء في العزم على النفوذ لذلك بأولي العزم من قبله من رسله الذين
صبروا على عظيم ما لَقُوا فيه من قومهم من المكاره ، ونالهم فيه منهم من الأذى
والشدائد( فَاصْبِرْ ) يا محمد على ما أصابك في الله من أذى مكذّبيك من قومك الذين
أرسلناك إليهم بالإنذار( كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ ) على
القيام بأمر الله ، والانتهاء إلى طاعته من رسله الذين لم ينههم عن النفوذ لأمره ،
ما نالهم فيه من شدّة. وقيل : إن أولي العزم منهم ، كانوا الذين امتُحِنوا في ذات
الله في الدنيا بِالمحَن ، فلم تزدهم المحن إلا جدّا في أمر الله ، كنوح وإبراهيم
وموسى ومن أشبههم.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : ثنى ثوابة بن مسعود ، عن عطاء
الخُراسانيّ ، أنه قال( فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ )
نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ
أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ ) كنا نحدث أن إبراهيم كان منهم.
وكان ابن زيد يقول في ذلك ما حدثني به يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال
ابن زيد ، في قوله( فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ ) قال
: كلّ الرسل كانوا أولي عزم لم يتخذ الله رسولا إلا كان ذا عزم ، فاصبر كما صبروا.
(22/145)
حدثنا ابن سنان القزّاز ، قال : ثنا
عبد الله بن رجاء ، قال : ثنا إسرائيل ، عن سالم ، عن سعيد بن جُبير ، في قوله(
فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ ) قال : سماه الله من
شدته العزم.
وقوله( وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ ) يقول : ولا تستعجل عليهم بالعذاب ، يقول : لا
تعجل بمسألتك ربك ذلك لهم فإن ذلك نازل بهم لا محالة( كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ
مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ ) يقول : كأنهم يوم
يرون عذاب الله الذي يعدهم أنه منزله بهم ، لم يلبثوا في الدنيا إلا ساعة من نهار
، لأنه ينسيهم شدّة ما ينزل بهم من عذابه ، قدر ما كانوا في الدنيا لبثوا ، ومبلغ
ما فيها مكثوا من السنين والشهور ، كما قال جل ثناؤه.( قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي
الأرْضِ عَدَدَ سِنِينَ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ
الْعَادِّينَ ) .
وقوله( بَلاغٌ ) فيه وجهان : أحدهما أن يكون معناه : لم يلبثوا إلا ساعة من نهار
ذلك لبث بلاغ ، بمعنى : ذلك بلاغ لهم في الدنيا إلى أجلهم ، ثم حذفت ذلك لبث ، وهي
مرادة في الكلام اكتفاء بدلالة ما ذكر من الكلام عليها. والآخر : أن يكون معناه :
هذا القرآن والتذكير بلاغ لهم وكفاية ، إن فكَّروا واعتبروا فتذكروا.
وقوله( فَهَلْ يُهْلَكُ إِلا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ ) يقول تعالى ذكره : فهل
يهلك الله بعذابه إذا أنزله إلا القوم الذين خالفوا أمره ، وخرجوا عن طاعته وكفروا
به. ومعنى الكلام : وما يهلك الله إلا القوم الفاسقين وبنحو الذي قلنا في ذلك قال
أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، في قوله( فَهَلْ
يُهْلَكُ إِلا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ ) تعلموا ما يهلك على الله إلا هالك ولى
الإسلام ظهرَه أو منافق صدّق بلسانه وخالف بعمله. ذُكر لنا أن نبيّ الله صَلَّى
الله عَلَيْهِ وَسَلَّم كان يقول : " أَيُّمَا عَبْدٍ مِنْ أُمَّتِي هَمَّ
بِحَسَنَةٍ كُتِبَتْ لَهُ وَاحِدَةٌ ، وَإِنْ عَملها كُتِبَتْ لَهُ
(22/146)
عَشْرُ أَمْثَالِهَا. وَأَيُّمَا
عَبْدٍ هَمَّ بِسَيِّئَةٍ لَمْ تُكْتَبْ عَلَيْهِ ، فَإِنْ عَمِلَهَا كُتِبَتْ
سَيِّئَةً وَاحِدَةً ، ثُمَّ كَانَ يَتْبَعُهَا ، وَيَمْحُوهَا اللَّهُ وَلا
يَهْلِكُ إلا هَالِكٌ " .
آخر تفسير سورة الأحقاف
(22/147)
الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ (1) وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآَمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ (2)
تفسير سورة محمد
بسم الله الرحمن الرحيم
القول في تأويل قوله تعالى : { الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ
أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ (1) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ
وَآمَنُوا بِمَا نزلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ
عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ (2) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : الذين جحدوا توحيد الله وعبدوا غيره وصدّوا من
أراد عبادتَه والإقرار بوحدانيته ، وتصديق نبيه محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ
وَسَلَّم عن الذي أراد من الإسلام والإقرار والتصديق( أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ )
يقول : جعل الله أعمالهم ضلالا على غير هدى وغير رشاد ، لأنها عملت في سبيل
الشيطان وهي على غير استقامة( وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ )
يقول تعالى ذكره : والذين صدّقوا الله وعملوا بطاعته ، واتبعوا أمره ونهيه(
وَآمَنُوا بِمَا نزلَ عَلَى مُحَمَّدٍ ) يقول : وصدّقوا بالكتاب الذي أنزل الله
على محمد( وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ ) يقول
: يقول : محا الله عنهم بفعلهم ذلك سيئ ما عملوا من الأعمال ، فلم يؤاخذهم به ،
ولم يعاقبهم عليه(وأصلح بالهم) يقول : وأصلح شأنهم وحالهم في الدنيا عند أوليائه ،
وفي الآخرة بأن أورثهم نعيم الأبد والخلود الدائم في جنانه.
وذُكر أنه عنى بقوله( الَّذِينَ كَفَرُوا )... الآية أهل مكة ، ( وَالَّذِينَ
آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ )... الآية ، أهل المدينة.
(22/151)
ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ (3)
* ذكر من قال ذلك :
حدثني إسحاق بن وهب الواسطي ، قال : ثنا عبيد الله بن موسى ، قال : خبرنا إسرائيل
، عن أبي يحيى القتات ، عن مجاهد ، عن عبد الله بن عباس ، في قوله( الَّذِينَ
كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ) قال : نزلت في أهل مكة( وَالَّذِينَ
آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ) قال : الأنصار.
وبنحو الذي قلنا في معنى قوله( وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ ) قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني إسحاق بن وهب الواسطي ، قال : ثنا عبيد الله بن موسى ، قال : ثنا إسرائيل ،
عن أبي يحيى القتات ، عن مجاهد ، عن عبد الله بن عباس( وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ ) قال
: أمرهم.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث ، قال :
ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد( وَأَصْلَحَ
بَالَهُمْ ) قال : شأنهم.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ )
قال : أصلح حالهم.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : ثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة(
وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ ) قال : حالهم.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله( وَأَصْلَحَ
بَالَهُمْ ) قال حالهم. والبال : كالمصدر مثل الشأن لا يعرف منه فعل ، ولا تكاد
العرب تجمعه إلا في ضرورة شعر ، فإذا جمعوه قالوا بالات.
القول في تأويل قوله تعالى : { ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا
الْبَاطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ
كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ (3) }
(22/152)
فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ (4)
يقول تعالى ذكره : هذا الذي فعلنا
بهذين الفريقين من إضلالنا أعمال الكافرين ، وتكفيرنا عن الذين آمنوا وعملوا
الصالحات ، جزاء منا لكلّ فريق منهم على فعله. أما الكافرون فأضللنا أعمالهم ،
وجعلناها على غير استقامة وهدى ، بأنهم اتبعوا الشيطان فأطاعوه ، وهو الباطل.
كما حدثني زكريا بن يحيى بن أبي زائدة ، وعباس بن محمد ، قالا ثنا حجاج بن محمد ،
قال : قال ابن جُرَيج : أخبرني خالد أنه سمع مجاهدا يقول( ذَلِكَ بِأَنَّ
الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ ) قال : الباطل : الشيطان. وأما
المؤمنون فكفّرنا عنهم سيئاتهم ، وأصلحنا لهم حالهم بأنهم اتبعوا الحقّ الذي جاءهم
من ربهم ، وهو محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم ، وما جاءهم به من عند ربه من
النور والبرهان( كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ ) يقول عزّ
وجلّ : كما بينت لكم أيها الناس فعلي بفريق الكفر والإيمان ، كذلك نمثل للناس
الأمثال ، ونشبه لهم الأشباه ، فنلحق بكل قوم من الأمثال أشكالا.
القول في تأويل قوله تعالى : { فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ
الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا
بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ
اللَّهُ لانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ
قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ (4) }
يقول تعالى ذكره لفريق الإيمان به وبرسوله : ( فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ
كَفَرُوا ) بالله ورسوله من أهل الحرب ، فاضربوا رقابهم.
وقوله( حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ ) يقول : حتى إذا
غلبتموهم وقهرتم من لم تضربوا رقبته منهم ، فصاروا في أيديكم أسرى( فَشُدُّوا
الْوَثَاقَ ) يقول : فشدّوهم في الوثاق كيلا يقتلوكم ، فيهربوا منكم.
(22/153)
وقوله( فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ
وَإِمَّا فِدَاءً ) يقول : فإذا أسرتموهم بعد الإثخان ، فإما أن تمنوا عليهم بعد
ذلك بإطلاقكم إياهم من الأسر ، وتحرروهم بغير عوض ولا فدية ، وإما أن يفادوكم فداء
بأن يعطوكم من أنفسهم عوضا حتى تطلقوهم ، وتخلوا لهم السبيل.
واختلف أهل العلم في قوله( حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ
فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً ) فقال بعضهم : هو منسوخ نسخه قوله(
فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ ) وقوله( فَإِمَّا
تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ ) .
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حُمَيد وابن عيسى الدامغانيّ ، قالا ثنا ابن المبارك ، عن ابن جُرَيج
أنه كان يقول ، في قوله( فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً ) نسخها قوله(
فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ ) .
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا عبد الرحمن ، قال : ثنا سفيان ، عن السديّ( فَإِمَّا
مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً ) قال : نسخها( فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ
وَجَدْتُمُوهُمْ ) .
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة( فَإِمَّا
مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً ) نسخها قوله( فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي
الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ ) .
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله( فَإِذا لَقِيتُمُ
الَّذِينَ كَفَرُوا ) إلى قوله( وَإِمَّا فِدَاءً ) كان المسلمون إذا لقوا
المشركين قاتلوهم ، فإذا أسروا منهم أسيرا ، فليس لهم إلا أن يُفادوه ، أو يمنوا
عليه ، ثم يرسلوه ، فنسخ ذلك بعد قوله( فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ
فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ ) : أي عظ بهم من سواهم من الناس لعلهم يذّكرون.
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن عبد الكريم
(22/154)
الجزري ، قال : كتب إلى أبي بكر رضي
الله عنه في أسير أُسر ، فذكر أنهم التمسوه بفداء كذا وكذا ، فقال أبو بكر :
اقتلوه ، لقتلُ رجل من المشركين ، أحبّ إليّ من كذا وكذا.
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ،
عن ابن عباس ، قوله( فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ
)... إلى آخر الآية ، قال : الفداء منسوخ ، نسختها : ( فَإِذَا انْسَلَخَ
الأشْهُرُ الْحُرُمُ )... إلى( كُلَّ مَرْصَدٍ ) قال : فلم يبق لأحد من المشركين
عهد ولا حرمة بعد براءة ، وانسلاخ الأشهر الحرم.
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك
يقول في قوله( فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً ) هذا منسوخ ، نسخه قوله :
( فَإِذَا انْسَلَخَ الأشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ
وَجَدْتُمُوهُمْ ) فلم يبق لأحد من المشركين عهد ولاذمة بعد براءة.
وقال آخرون : هي محكمة وليست بمنسوخة ، وقالوا : لا يحوز قتل الأسير ، وإنما يجوز
المن عليه والفداء.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن المثنى ، قال : ثنا أبو عتاب سهل بن حماد ، قال : ثنا خالد بن جعفر ، عن
الحسن ، قال : أتى الحجاج بأسارى ، فدفع إلى ابن عمر رجلا يقتله ، فقال ابن عمر :
ليس بهذا أُمرنا ، قال الله عزّ وجلّ( حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا
الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً ) قال : (1) البكاء بين يديه
فقال الحسن : لو كان هذا وأصحابه لابتدروا إليهم.
حدثنا ابن حميد وابن عيسى الدامغانيّ ، قالا ثنا ابن المبارك ، عن ابن
__________
(1) لعله سقط من الأصل هنا كلمة أو نحوها ، مثل اشتد أو علا ، أو ارتفع أي ارتفع :
بكاء الأسرى بين يدي الحجاج .
(22/155)
جُرَيج ، عن عطاء أنه كان يكره قتل
المشرك صبرا ، قال : ويتلو هذه الآية( فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً )
.
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن الحسن ، قال : لا تقتل
الأسارى إلا في الحرب يهيب بهم العدوّ.
قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، قال : كان عمر بن عبد العزيز يفديهم الرجل بالرجل ،
وكان الحسن يكره أن يفادى بالمال.
قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن رجل من أهل الشأم ممن كان يحرس عمر بن عبد
العزيز ، وهو من بني أسد ، قال : ما رأيت عمر رحمه الله قتل أسيرا إلا واحدا من الترك
كان جيء بأسارى من الترك ، فأمر بهم أن يُسترقوا ، فقال رجل ممن جاء بهم : يا أمير
المومنين ، لو كنت رأيت هذا لأحدهم وهو يقتل المسلمين لكثر بكاؤك عليهم ، فقال عمر
: فدونك فاقتله ، فقام إليه فقتله.
والصواب من القول عندنا في ذلك أن هذه الآية محكمة غير منسوخة ، وذلك أن صفة
الناسخ والمنسوخ ما قد بيَّنا في غير موضع في كتابنا إنه ما لم يجز اجتماع حكميهما
في حال واحدة ، أو ما قامت الحجة بأن أحدهما ناسخ الآخر ، وغير مستنكر أن يكون جعل
الخيار في المنّ والفداء والقتل إلى الرسول صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم ، وإلى
القائمين بعده بأمر الأمة ، وإن لم يكن القتل مذكورا في هذه الآية ، لأنه قد أذن
بقتلهم في آية أخرى ، وذلك قوله( فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ
وَجَدْتُمُوهُمْ ) ... الآية ، بل ذلك كذلك ، لأن رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ
وَسَلَّم كذلك كان يفعل فيمن صار أسيرا في يده من أهل الحرب ، فيقتل بعضا ، ويفادي
ببعض ، ويمنّ على بعض ، مثل يوم بدر قتل عقبة بن أبي مُعَيْطٍ وقد أتي به أسيرا ،
وقتل بني قُرَيظة ، وقد نزلوا على حكم سعد ، وصاروا في يده سلما ، وهو على فدائهم
، والمنّ عليهم قادر ، وفادى بجماعة أسارى المشركين الذين أُسروا ببدر ، ومنّ على
ثمامة بن أثال الحنفيّ ، وهو أسير في يده ، ولم يزل ذلك ثابتا من سيره في أهل
الحرب من لدن أذن الله له بحربهم ، إلى أن قبضه
(22/156)
إليه صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم
دائما ذلك فيهم ، وإنما ذكر جلّ ثناؤه في هذه الآية المنّ والفداء في الأسارى ،
فخصّ ذكرهما فيها ، لأن الأمر بقتلهما والإذن منه بذلك قد كان تقدم في سائر آي
تنزيله مكرّرا ، فأعلم نبيه صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم بما ذكر في هذه الآية
من المنّ والفداء ما له فيهم مع القتل.
وقوله( حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ) يقول تعالى ذكره : فإذا لقيتم
الذين كفروا فاضربوا رقابهم ، وافعلوا بأسراهم ما بيَّنت لكم ، حتى تضع الحرب
آثامها وأثقال أهلها ، المشركين بالله بأن يتوبوا إلى الله من شركهم ، فيؤمنوا به
وبرسوله ، ويطيعوه في أمره ونهيه ، فذلك وضع الحرب أوزارها ، وقيل : ( حَتَّى
تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ) والمعنى : حتى تلقي الحرب أوزار أهلها. وقيل :
معنى ذلك : حتى يضع المحارب أوزاره.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى : وحدثني الحارث ، قال
: ثنا الحسن ، قال : ثنا ووقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله( حَتَّى
تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ) قال : حتى يخرج عيسى ابن مريم ، فيسلم كلّ يهودي
ونصرانيّ وصاحب ملة ، وتأمن الشاة من الذئب ، ولا تقرض فأرة جِرابا ، وتذهب
العداوة من الأشياء كلها ، ذلك ظهور الإسلام على الدين كله ، وينعم الرجل المسلم
حتى تقطر رجله دما إذا وضعها.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله( حَتَّى تَضَعَ
الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ) حتى لا يكون شرك.
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة( حَتَّى تَضَعَ
الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ) قال : حتى لا يكون شرك.
ذكر من قال : عني بالحرب في هذا الموضع : المحاربون.
(22/157)
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن
ثور عن معمر ، عن قتادة( حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ) قال الحرب : من
كان يقاتلهم سماهم حربا.
وقوله( ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانْتَصَرَ مِنْهُمْ ) يقول تعالى ذكره :
هذا الذي أمرتكم به أيها المؤمنون من قتل المشركين إذا لقيتموهم في حرب ، وشدّهم
وثاقا بعد قهرهم ، وأسرهم ، والمنّ والفداء( حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا
) هو الحق الذي ألزمكم ربكم ولو يشاء ربكم ، ويريد لانتصر من هؤلاء المشركين الذين
بين هذا الحكم فيهم بعقوبة منه لهم عاجلة ، وكفاكم ذلك كله ، ولكنه تعالى ذكره كره
الانتصار منهم ، وعقوبتهم عاجلا إلا بأيديكم أيها المؤمنون( لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ
بِبَعْضٍ ) يقول : ليختبركم بهم ، فيعلم المجاهدين منكم والصابرين ، ويبلوهم بكم ،
فيعاقب بأيديكم من شاء منهم ، ويتعظ من شاء منهم بمن أهلك بأيديكم من شاء منهم حتى
ينيب إلى الحقّ.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ
لانْتَصَرَ مِنْهُمْ ) إي والله بجنوده الكثيرة كلّ خلقه له جند ، ولو سلط أضعف
خلقه لكان جندا.
وقوله( وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ) اختلفت القرّاء في قراءة ذلك ،
فقرأته عامة قراء الحجاز والكوفة( وَالَّذِينَ قَاتَلُوا ) بمعنى : حاربوا
المشركين ، وجاهدوهم ، بالألف; وكان الحسن البصري فيما ذُكر عنه يقرأه( قُتِّلُوا
) بضم القاف وتشديد التاء ، بمعنى : أنه قتلهم المشركون بعضهم بعد بعض ، غير أنه
لم يُسمّ الفاعلون. وذُكر عن الجحدريّ عاصم أنه كان يقرأه( وَالَّذِينَ قَتَلُوا )
بفتح القاف وتخفيف التاء ، بمعنى : والذين قتلوا المشركون بالله. وكان أبو عمرو
يقرأه( قُتِلُوا ) بضم القاف وتخفيف التاء بمعنى : والذين - - قتلهم المشركون ، ثم
أسقط الفاعلين ، فجعلهم لم يسمّ فاعل ذلك بهم.
(22/158)
سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ (5) وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ (6) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ (7)
وأولى القراءات بالصواب قراءة من قرأه(
وَالَّذِينَ قَاتَلُوا ) لاتفاق الحجة من القرّاء ، وإن كان لجميعها وجوه مفهومة.
وإذ كان ذلك أولى القراءات عندنا بالصواب ، فتأويل الكلام : والذين قاتلوا منكم
أيها المؤمنون أعداء الله من الكفار في دين الله ، وفي نصرة ما بعث به رسوله محمدا
صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم من الهدى ، فجاهدوهم في ذلك( فَلَنْ يُضِلَّ
أَعْمَالَهُمْ ) فلن يجعل الله أعمالهم التي عملوها في الدنيا ضلالا عليهم كما
أضلّ أعمال الكافرين.
وذُكر أن هذه الآية عُنِي بها أهل أحد.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( وَالَّذِينَ قُتِلُوا
فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ ) ذُكر لنا أن هذه الآية أُنزلت
يوم أُحد ورسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم في الشِّعْب ، وقد فَشَت فيهم
الجراحات والقتل ، وقد نادى المشركون يومئذ : اُعْلُ هُبَلْ ، فنادى المسلمون :
الله أعلى وأجلّ ، فنادى المشركون : يوم بيوم ، إن الحرب سجال ، إن لنا عُزَّى ،
ولا عُزَّى لكم ، قال رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم : " اللهُ
مَوْلانا وَلا مَوْلَى لَكُمْ. إنَّ القَتْلَى مُخْتَلِفَةٌ ، أمَّا قَتْلانا
فأَحْيَاءٌ يُرْزَقُونَ ، وأمَّا قَتْلاكم فَفِي النَّارِ يُعَذَّبُونَ " .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة( وَالَّذِينَ
قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ ) قال : الذين قُتلوا
يوم أُحد.
القول في تأويل قوله تعالى : { سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ (5)
وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ (6) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ (7) }
يقول تعالى ذكره : سيوفق الله تعالى ذكره للعمل بما يرضى ويحبّ ، هؤلاء
(22/159)
الذين قاتلوا في سبيله ، ( وَيُصْلِحُ
بَالَهُمْ ) ويصلح أمرهم وحالهم في الدنيا والآخرة( وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ
عَرَّفَهَا لَهُمْ ) يقول : ويُدخلهم الله جنته عرّفها ، يقول : عرّفها وبيَّنها
لهم ، حتى إن الرجل ليأتي منزله منها إذا دخلها كما كان يأتي منزله في الدنيا ، لا
يشكل عليه ذلك.
كما حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، عن أبي سعيد
الخُدريّ ، قال : " إذا نجَّى الله المؤمنين من النار حُبسوا على قنطرة بين
الجنة والنار ، فاقتصّ بعضهم من بعض مظالم كثيرة كانت بينهم في الدنيا ، ثم يُؤذن
لهم بالدخول في الجنة ، قال : فما كان المؤمن بأدلَّ بمنزله في الدنيا منه بمنزله
في الجنة حين يدخلها " .
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله( وَيُدْخِلُهُمُ
الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ ) قال : أي منازلهم فيها.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث ، قال :
ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله(
وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ ) قال : يهتدي أهلها إلى بيوتهم
ومساكنهم ، وحيث قسم الله لهم لا يخطئون ، كأنهم سكانها منذ خلقوا لا يستدلون
عليها أحدا.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله( وَيُدْخِلُهُمُ
الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ ) قال : بلغنا عن غير واحد قال : يدخل أهل الجنة
الجنة ، ولهم أعرف بمنازلهم فيها من منازلهم في الدنيا التي يختلفون إليها في عمر
الدنيا; قال : فتلك قول الله جلّ ثناؤه( وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا
لَهُمْ ).
وقوله( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ )
يقول تعالى ذكره : يا أيها الذين صدّقوا الله ورسوله ، إن تنصروا الله ينصركم
بنصركم رسوله محمدا صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم على أعدائه من أهل الكفر به
وجهادكم إياهم معه لتكون كلمته العُليا ينصركم عليهم ، ويظفركم بهم ، فإنه ناصر
دينه وأولياءه.
(22/160)
وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ (8) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ (9)
كما حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال
: ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله( إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ ) لأنه حقّ
على الله أن يعطي من سأله ، وينصر من نصره.
وقوله( وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ ) يقول : ويقوّكم عليهم ، ويجرّئكم ، حتى لا
تولوا عنهم ، وإن كثر عددهم ، وقلّ عددكم.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَهُمْ وَأَضَلَّ
أَعْمَالَهُمْ (8) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنزلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ
أَعْمَالَهُمْ (9) }
يقول تعالى ذكره : ( وَالَّذِينَ كَفَرُوا ) بالله ، فجحدوا توحيده( فَتَعْسًا
لَهُمْ ) يقول : فخزيا لهم وشقاء وبلاء.
كما حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد ، في قوله( وَالَّذِينَ
كَفَرُوا فَتَعْسًا لَهُمْ ) قال : شقاء لهم.
وقوله( وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ ) يقول وجعل أعمالهم معمولة على غير هدى ولا استقامة
، لأنها عملت في طاعة الشيطان ، لا في طاعة الرحمن.
وبنحو الذي قلنا فى ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثي يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله( وَأَضَلَّ
أَعْمَالَهُمْ ) قال : الضلالة التي أضلهم الله لم يهدهم كما هَدى الآخرين ، فإن
الضلالة التي أخبرك الله : يضلّ من يشاء ، ويهدي من يشاء; قال : وهؤلاء ممن جعل
عمله ضلالا وردّ قوله( وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ ) على قوله( فَتَعْسًا لَهُمْ )
وهو فعل ماض ، والتعس اسم ، لأن التعس وإن كان اسما ففي معنى الفعل لما فيه من
معنى الدعاء ، فهو بمعنى : أتعسهم الله ، فلذلك صلح ردّ أضلّ عليه ، لأن الدعاء
يجري مجرى الأمر والنهي ، وكذلك قوله( حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا
(22/161)
أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا (10)
الْوَثَاقَ ) مردودة على أمر مضمر ناصب
لضرب.
وقوله( ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنزلَ اللَّهُ ) يقول يعالي ذكره : هذا
الذي فعلنا بهم من الإتعاس وإضلال الأعمال من أجل أنهم كرهوا كتابنا الذي أنزلناه
إلى نبينا محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم وسخطوه ، فكذّبوا به ، وقالوا : هو
سحر مبين.
وقوله( فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ ) يقول : فأبطل أعمالهم التي عملوها في الدنيا ،
وذلك عبادتهم الآلهة ، لم ينفعهم الله بها في الدنيا ولا في الآخرة ، بل أوبقهم
بها ، فأصلاهم سعيرا ، وهذا حكم الله جلّ جلاله في جميع من كفر به من أجناس الأمم
، كما قال قتادة.
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة في قوله(
فَتَعْسًا لَهُمْ ) قال : هي عامة للكفار.
القول في تأويل قوله تعالى : { أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأرْضِ فَيَنْظُرُوا
كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ
وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا (10) }
يقول تعالى ذكره : أفلم يَسِر هؤلاء المكذّبون محمدا صَلَّى الله عَلَيْهِ
وَسَلَّم المنكرو ما أنزلنا عليه من الكتاب في الأرض سفرا ، وإنما هذا توبيخ من
الله لهم ، لأنهم قد كانوا يسافرون إلى الشام ، فيرون نقمة الله التي أحلَّها بأهل
حجر ثمود ، ويرون في سفرهم إلى اليمن ما أحلّ الله بسَبَأ ، فقال لنبيه عليه
الصلاة والسلام وللمؤمنين به : أفلم يسِر هؤلاء المشركون سفرا في البلاد فينظروا
كيف كان عاقبة تكذيب الذين من قبلهم من الأمم المكذّبة رسلها الرّادّة نصائحها ألم
نهلكها فندمِّر عليها منازلها ونخرِّبها ، فيتعظوا بذلك ، ويحذروا أن يفعل الله
ذلك بهم في تكذيبهم إياه ، فينيبوا إلى طاعة الله في تصديقك ، ثم توعَّدهم جل
ثناؤه ، وأخبرهم إن هم أقاموا على تكذيبهم رسوله ، أنه مُحِلّ
(22/162)
ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آَمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ (11)
بهم من العذاب ما أحلّ بالذين كانوا من
قبلهم من الأمم ، فقال : ( وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا ) يقول : وللكافرين من
قريش المكذبي رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم من العذاب العاجل ، أمثال
عاقبة تكذيب الأمم الذين كانوا من قبلهم رسلهم على تكذيبهم رسوله محمدا صَلَّى
الله عَلَيْهِ وَسَلَّم.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث ، قال :
ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله(
وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا ) قال : مثل ما دُمَرت به القرون الأولى وعيد من
الله لهم.
القول في تأويل قوله تعالى : { ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا
وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لا مَوْلَى لَهُمْ (11) }
(22/163)
إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ (12)
القول في تأويل قوله تعالى : { إِنَّ
اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي
مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا
تَأْكُلُ الأنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ (12) }
يقول تعالى ذكره : هذا الفعل الذي فعلنا بهذين الفريقين : فريق الإيمان ، وفريق
الكفر ، من نُصرتنا فريق الإيمان بالله ، وتثبيتنا أقدامهم ، وتدميرنا على فريق
الكفر( بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا ) يقول : من أجل أن الله وليّ
من آمن به ، وأطاع رسوله.
كما حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث ،
قال : ثنا الحسن قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله(
ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا ) قال : وليهم.
وقد ذُكر لنا أن ذلك في قراءة عبد الله( ذلك بأنَّ الله ولِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا)
(22/163)
وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلَا نَاصِرَ لَهُمْ (13)
و " أن " التي في المائدة
التي هي في مصاحفنا( إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ )(إنَّمَا
مَوْلاكُمْ اللَّهُ) في قراءته.
وقوله( وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لا مَوْلَى لَهُمْ ) يقول : وبأن الكافرين بالله لا
وليّ لهم ، ولا ناصر.
وقوله( إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ
جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ ) يقول تعالى ذكره : إن الله له
الألوهة التي لا تنبغي لغيره ، يُدخل الذين آمنوا بالله وبرسوله بساتين تجري من
تحت أشجارها الأنهار ، يفعل ذلك بهم تكرمة على إيمانهم به وبرسوله.
وقوله( وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ
الأنْعَامُ ) يقول جل ثناؤه : والذين جحدوا توحيد الله ، وكذّبوا رسوله صَلَّى
الله عَلَيْهِ وَسَلَّم يتمتعون في هذه الدنيا بحطامها ورياشها وزينتها الفانية
الدارسة ، ويأكلون فيها غير مفكِّرين في المعاد ، ولا معتبرين بما وضع الله لخلقه
من الحجج المؤدّية لهم إلى علم توحيد الله ومعرفة صدق رسله ، فمثلهم في أكلهم ما
يأكلون فيها من غير علم منهم بذلك ، وغير معرفة ، مثل الأنعام من البهائم المسخرة
التي لا همة لها إلا في الاعتلاف دون غيره( وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ ) يقول جلّ
ثناؤه : والنار نار جهنم مسكن لهم ، ومأوى ، إليها يصيرون من بعد مماتهم.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً
مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلا نَاصِرَ لَهُمْ (13) }
يقول تعالى ذكره : وكم يا محمد من قرية هي أشد قوة من قريتك ، يقول أهلها أشدّ
بأسا ، وأكثر جمعا ، وأعدّ عديدا من أهل قريتك ، وهي مكة ، وأخرج الخبر عن القرية
، والمراد به أهلها.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
(22/164)
أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ (14)
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله( وَكَأَيِّنْ مِنْ
قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ
أَهْلَكْنَاهُمْ ) قال : هي مكة.
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة في قوله(
وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ ) قال : قريته
مكة.
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا المعتمر بن سليمان ، عن أبيه ، عن حبيش ، عن
عكرمة ، عن ابن عباس " أن نبيّ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم ، لما خرج
من مكة إلى الغار ، أراه قال : التفت إلى مكة ، فقال : أَنْتِ أحَبُّ بِلادِ الله
إلى الله ، وأنْتِ أحَبُّ بِلادِ الله إليَّ ، فَلَوْ أنَّ المُشْركِينَ لَمْ
يُخْرِجُوني لَمْ أخْرُجْ مِنْكِ ، فَأعْتَى الأعْداءِ مَنْ عَتا على الله في
حَرَمِهِ ، أوْ قَتَلَ غيرَ قاتِلِهِ ، أوْ قَتَلَ بذُحُول الجاهِلِيَّةِ " ،
فأنزل الله تبارك وتعالى : ( وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ
قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلا نَاصِرَ لَهُمْ ) وقال جل
ثناؤه : أخرجتك ، فأخرج الخبر عن القرية ، فلذلك أُنِّث ، ثم قال : أهلكناهم ، لأن
المعنى في قوله أخرجتك ، ما وصفت من أنه أريد به أهل القرية ، فأخرج الخبر مرّة
على اللفظ ، ومرّة على المعنى .
وقوله( فَلا نَاصِرَ لَهُمْ ) فيه وجهان من التأويل : أحدهما أن يكون معناه ، وإن
كان قد نصب الناصر بالتبرئة ، فلم يكن لهم ناصر ، وذلك أن العرب قد تضمر كان
أحيانا في مثل هذا. والآخر أن يكون معناه : فلا ناصر لهم الآن من عذاب الله
ينصرهم.
القول في تأويل قوله تعالى : { أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ
زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ (14) }
يقول تعالى ذكره : ( أَفَمَنْ كَانَ ) على برهان وحجة وبيان( مِنْ ) أمر
(22/165)
مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آَسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ (15)
( رَبِّهِ ) والعلم بوحدانيته ، فهو
يعبده على بصيرة منه ، بأن له رَبًّا يجازيه على طاعته إياه الجنة ، وعلى إساءته
ومعصيته إياه النار ، ( كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ ) يقول : كمن حسَّن له
الشيطان قبيح عمله وسيئه ، فأراه جميلا فهو على العمل به مقيم( وَاتَّبَعُوا
أَهْوَاءَهُمْ ) يقول : واتبعوا ما دعتهم إليه أنفسهم من معصية الله ، وعبادة
الأوثان من غير أن يكون عندهم بما يعملون من ذلك برهان وحجة. وقيل : إن الذي عني
بقوله : ( أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ ) نبينا عليه الصلاة
والسلام ، وإن الذي عُنِي بقوله : ( كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ ) هم
المشركون.
القول في تأويل قوله تعالى : { مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ
فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ
يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ
مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ
رَبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ
أَمْعَاءَهُمْ (15) }
يقول تعالى ذكره : صفة الجنة التي وعدها المتقون ، وهم الذين اتقوا في الدنيا
عقابه بأداء فرائضه ، واجتناب معاصيه( فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ )
يقول تعالى ذكره في هذه الجنة التي : ذكرها أنهار من ماء غير متغير الريح ، يقال
منه : قد أسن ماء هذه البئر : إذا تغيرت ريح مائها فأنتنت ، فهو يأسَن أسَنًا ،
وكذلك يُقال للرجل إذا أصابته ريح منتنة : قد أَسِن فهو يأْسَن. وأما إذا أَجَنَ
الماء وتغير ، فإنه يقال له : أسِن فهو يأسَن ، ويأسن أسونا ، وماء أسن.
وبنحو الذي قلنا في معنى قوله( مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ ) قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني علي ، قال : ثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن
(22/166)
ابن عباس ، في قوله( فِيهَا أَنْهَارٌ
مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ ) يقول : غير متغير.
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، في قوله(
أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ ) قال : من ماء غير مُنْتن.
حدثني عيسى بن عمرو ، قال : أخبرنا إبراهيم بن محمد ، قال : ثنا مصعب بن سلام ، عن
سعد بن طريف ، قال : سألت أبا إسحاق عن( مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ ) قال : سألت عنها
الحارث ، فحدثني أن الماء الذي غير آسن تسنيم ، قال : بلغني أنه لا تمسه يد ، وأنه
يجيء الماء هكذا حتى يدخل فى فيه. وقوله( وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ
يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ ) يقول تعالى ذكره : وفيها أنهار من لبن لم يتغير طعمه لأنه
لم يحلب من حيوان فيتغير طعمه بالخروج من الضروع ، ولكنه خلقه الله ابتداء في
الأنهار ، فهو بهيئته لم يتغير عما خلقه عليه.
وقوله( وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ ) يقول : وفيها أنهار من
خمر لذة للشاربين يلتذّون بشربها.
كما حدثني عيسى ، قال : ثنا إبراهيم بن محمد ، قال : ثنا مصعب ، عن سعد بن طريف ،
قال : سألت عنها الحارث ، فقال : لم تدسه المجوس ، ولم ينفخ فيه الشيطان ، ولم
تؤذها شمس ، ولكنها فوحاء (1) قال : قلت لعكرمة : ما الفوحاء : قال : الصفراء.
وكما حدثني سعد بن عبد الله بن عبد الحكم ، قال : ثنا حفص بن عمر ، قال : ثنا
الحكم بن أبان ، عن عكرمة ، في قوله( مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ ) قال
: لم يحلب ، وخُفِضت اللذة على النعت للخمر ، ولو جاءت رفعا على النعت للأنهار جاز
، أو نصبا على يتلذّذ بها لذة ، كما يقال : هذا لك هبة. كان جائزا ; فأما القراءة
فلا أستجيزها فيها إلا خفضا لإجماع الحجة من القرّاء عليها.
__________
(1) في اللسان : الفوح : وجدانك الريح الطيبة . فاحت ريح المسك تفوح وتفيح ، فوحا
وفيحا . وفوحانا فيحانا : انتشرت رائحته .
(22/167)
وقوله( وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ
مُصَفًّى ) يقول : وفيها أنهار من عسل قد صُفِّي من القَذى ، وما يكون في عسل أهل
الدنيا قبل التصفية ، إنما أعلم تعالى ذكره عباده بوصفه ذلك العسل بأنه مصفى أنه
خلق في الأنهار ابتداء سائلا جاريا سيل الماء واللبن المخلوقين فيها ، فهو من أجل
ذلك مصفًّى ، قد صفاه الله من الأقذاء التي تكون في عسل أهل الدنيا الذي لا يصفو
من الأقذاء إلا بعد التصفية ، لأنه كان في شمع فصُفي منه.
وقوله( وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ ) يقول تعالى ذكره : ولهؤلاء
المتقين في هذه الجنة من هذه الأنهار التي ذكرنا من جميع الثمرات التي تكون على
الأشجار( وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ ) يقول : وعفو من الله لهم عن ذنوبهم التي
أذنبوها في الدنيا ، ثم تابوا منها ، وصَفْحٌ منه لهم عن العقوبة عليها.
وقوله( كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ ) يقول تعالى ذكره : أمَّن هو في هذه
الجنة التي صفتها ما وصفنا ، كمن هو خالد في النار. وابتُدئ الكلام بصفة الجنة ،
فقيل : مثل الجنة التي وعد المتقون ، ولم يقل : أمَّن هو في الجنة. ثم قيل بعد
انقضاء الخبر عن الجنة وصفتها( كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ ) . وإنما قيل
ذلك كذلك ، استغناء بمعرفة السامع معنى الكلام ، ولدلالة قوله( كَمَنْ هُوَ
خَالِدٌ فِي النَّارِ ) على معنى قوله( مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ
).
وقوله( وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا ) يقول تعالى ذكره : وسُقي هؤلاء الذين هم خلود في
النار ماء قد انتهى حرّه فقطع ذلك الماء من شدّة حرّه أمعاءهم.
كما حدثني محمد بن خلف العَسْقلانيّ ، قال : ثنا حَيْوة بن شُريح الحِمصِيّ ، قال
: ثنا بقية ، عن صفوان بن عمرو ، قال : ثني عبيد الله بن بشر ، عن أبي أُمامة
الباهلي ، عن رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم ، وقوله( وَيُسْقَى مِنْ
مَاءٍ صَدِيدٍ يَتَجَرَّعُهُ ) قال : يُقَرَّبُ إِلَيْهِ فَيَتَكَرَّهُهُ ، فإذَا
أُدْنِيَ مِنْهُ شَوَى وَجْهَهُ ، وَوَقَعَتْ فَرْوَةُ رأْسِهِ ، فإذَا شَرِبَ
قَطَّعَ أمْعاءَهُ حتى يَخْرُجَ مِنْ دُبُرِهِ. قال : يقول الله( وَسُقُوا مَاءً
حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ ) يقول الله عزّ وجلّ
(22/168)
وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آَنِفًا أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ (16)
( يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ
الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا ) .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا
خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا
أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ
(16) }
يقول تعالى ذكره : ومن هؤلاء الكفار يا محمد( مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ ) وهو
المنافِق ، فيستمع ما تقول فلا يعيه ولا يفهمه ، تهاونا منه بما تتلو عليه من كتاب
ربك ، تغافلا عما تقوله ، وتدعو إليه من الإيمان ، ( حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ
عِنْدِكَ ) قالوا إعلاما منهم لمن حضر معهم مجلسك من أهل العلم بكتاب الله ،
وتلاوتك عليهم ما تلوت ، وقيلك لهم ما قلت إنهم لن يُصْغوا أسماعهم لقولك وتلاوتك(
مَاذَا قَالَ ) لنا محمد( آنِفًا ) ؟ . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله( وَمِنْهُمْ مَنْ
يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ ) هؤلاء المنافقون ، دخل
رجلان : رجل ممن عقل عن الله وانتفع بما سمع ورجل لم يعقل عن الله ، فلم ينتفع بما
سمع ، كان يقال : الناس ثلاثة : فسامع عامل ، وسامع غافل ، وسامع تارك.
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة( وَمِنْهُمْ مَنْ
يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ ) قال : هم المنافقون. وكان يقال : الناس ثلاثة : سامع فعامل
، وسامع فغافل ، وسامع فتارك.
حدثنا أبو كُرَيب ، قال : ثنا يحيى بن آدم ، قال : ثنا شريك ، عن عثمان أبي
اليقظان ، عن يحيى بن الجزّار ، أو سعيد بن جُبير ، عن ابن عباس ، في قوله( حَتَّى
إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ
آنِفًا ) قال ابن عباس : أنا منهم ، وقد سُئِلت فيمن سُئِل.
(22/169)
وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآَتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ (17) فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَاءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ (18)
حدثنا يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ،
قال : قال ابن زيد في قوله( وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا
خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ )... إلى آخر الآية ، قال : هؤلاء المنافقون ، والذين
أُوتُوا العلم : الصحابة رضي الله عنهم.
وقوله( أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ ) يقول تعالى ذكره :
هؤلاء الذين هذه صفتهم هم القوم الذين ختم الله على قلوبهم ، فهم لا يهتدون للحقّ
الذي بعث الله به رسوله عليه الصلاة والسلام( وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ ) يقول :
ورفضوا أمر الله ، واتبعوا ما دعتهم إليه أنفسهم ، فهم لا يرجعون مما هم عليه إلى
حقيقة ولا برهان ، وسوّى جلّ ثناؤه بين صفة هؤلاء المنافقين وبين المشركين ، في أن
جميعهم إنما يتبعون فيما هم عليه من فراقهم دين الله ، الذي ابتعث به محمدا صَلَّى
الله عَلَيْهِ وَسَلَّم أهواءهم ، فقال في هؤلاء المنافقين : ( أُولَئِكَ
الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ ) وقال في
أهل الكفر به من أهل الشرك ، ( كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا
أَهْوَاءَهُمْ ).
القول في تأويل قوله تعالى : { وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ
تَقْوَاهُمْ (17) فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً
فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَاءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ (18) }
يقول تعالى ذكره : وأما الذين وفَّقهم الله لاتباع الحقّ ، وشرح صدورهم للإيمان به
وبرسوله من الذين استمعوا إليك يا محمد ، فإن ما تلوته عليهم ، وسمعوه منك(
زَادَهُمْ هُدًى ) يقول : زادهم الله بذلك إيمانا إلى إيمانهم ، وبيانا لحقيقة ما
جئتهم به من عند الله إلى البيان الذي كان عندهم. وقد ذُكر أن الذي تلا عليهم رسول
الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم من القرآن ، فقال أهل النفاق منهم لأهل
الإيمان ، ماذا قال آنفا ، وزاد الله أهل الهدى منهم هدى ، كان بعض ما أنزل الله من
القرآن ينسخ بعض ما قد كان الحكم مضى به قبل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثنى أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني
(22/170)
أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله(
وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ ) قال : لما أنزل
الله القرآن آمنوا به ، فكان هدى ، فلما تبين الناسخ والمنسوخ زادهم هدى.
وقوله( وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ ) يقول تعالى ذكره : وأعطى الله هؤلاء المهتدين
تقواهم ، وذلك استعماله إياهم تقواهم إياه.
وقوله( فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ
جَاءَ أَشْرَاطُهَا ) يقول تعالى ذكره : فهل ينظر هؤلاء المكذّبون بآيات الله من
أهل الكفر والنفاق إلا الساعة التي وعد الله خلقه بعثهم فيها من قبورهم أحياء ، أن
تجيئهم فجأة لا يشعرون بمجيئها. والمعنى : هل ينظرون إلا الساعة ، هل ينظرون إلا
أن تأتيهم بغتة. و( أَنْ ) من قوله( إِلا أَنْ ) في موضع نصب بالردّ على الساعة ،
وعلى فتح الألف من( أَنْ تَأْتِيَهُمُ ) ونصب( تأتيهم ) بها قراءة أهل الكوفة.
وقد حُدثت عن الفرّاء ، قال : حدثني أبو جعفر الرُّؤاسيّ ، قال : قلت لأبي عمرو بن
العلاء : ما هذه الفاء التي في قوله( فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا ) قال : جواب
الجزاء ، قال : قلت : إنها إن تأتيهم ، قال : فقال : معاذ الله ، إنما هي "
إنْ تَأْتِهِمْ " ; قال الفرّاء : فظننت أنه أخذها عن أهل مكة ، لأنه قرأ ،
قال الفرّاء : وهي أيضا في بعض مصاحف الكوفيين بسنة واحدة " تَأْتِهِمْ
" ولم يقرأ بها أحد منهم.
وتأويل الكلام على قراءة من قرأ ذلك بكسر ألف " إن " وجزم " تأتهم
" فهل ينظرون إلا الساعة ؟ فيجعل الخبر عن انتظار هؤلاء الكفار الساعة
متناهيا عند قوله( إِلا السَّاعَةَ ) ، ثم يُبْتدأ الكلام فيقال : إن تأتهم الساعة
بغتة فقد جاء أشراطها ، فتكون الفاء من قوله( فَقَدْ جَاءَ ) بجواب الجزاء.
وقوله( فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا ) يقول : فقد جاء هؤلاء الكافرين بالله الساعة
وأدلتها ومقدماتها ، وواحد الأشراط : شرط ، كما قال جرير :
(22/171)
تَرَى شَرَطَ المِعْزَى مُهورَ
نِسائِهم... وفي شُرَطِ المِعْزَى لهُنَّ مُهُورُ (1)
ويُروَى : " ترى قَزَم المِعْزَى " ، يقال منه : أشرط فلان نفسه : إذا
علمها بعلامة ، كما قال أوس بن حجر :
فأَشْرَطَ فيها نَفْسَهُ وَهْوَ مُعْصِمٌ... وألْقَى بأسْبابٍ لَهُ وَتَوَكَّلا
(2)
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ،
عن ابن عباس( فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا ) يعني : أشراط الساعة.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله( فَهَلْ
يَنْظُرُونَ إِلا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً ) قد دنت الساعة ودنا من
الله فراغ العباد.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله( فَقَدْ جَاءَ
أَشْرَاطُهَا ) قال : أشراطها : آياتها.
__________
(1) البيت لجرير بن الخطفي الشاعر الإسلامي ( ديوانه 226 ) وفي روايته : "
وفي قزم المعزي لهن مهور " . وهو من شواهد أبي عبيدة في مجاز القرآن ( الورقة
223 ) قال عند قوله تعالى : " فقد جاء أشراطها " : أعلامها . وإنما سمي
الشرط فيما نرى ، أنهم أعلموا أنفسهم . وأشراط المال صغار الغنم وشراره . وقال جرير
: " ترى شرط ... البيت " . وفي ( اللسان : شرط) : والشرط ( بالتحريك ) :
رذال الواحد والجمع والمذكر والمؤنث في ذلك سواء . قال جرير : تساق من المعزى مهور
نسائهم ... ومن شرط المعزى لهن مهور
وشرط الناس : خشارتهم+ .
(2) البيت لأوس بن حجر ( اللسان : شرط ) قال : الأصمعي : أشراط الساعة علاماتها .
قال : ومنه الاشتراط الذي يشترط الناس بعضهم على بعض ، أي هي علامات يجعلونها
بينهم . ولهذا سميت الشرط ، لأنهم جعلوا لأنفسهم علامة يعرفون بها . وحكى الخطابي
عن بعض أهل اللغة أنه أنكر هذا التفسير وقال : أشراط الساعة : ما تنكره الناس من
صغار أمورها ، قبل أن تقوم الساعة . وشرط السلطان : نخبة أصحابه الذين يقدمهم على
غيرهم من جنده . وقول أوس بن حجر " فأشرط فيها ... البيت " أي جعل نفسه
علمًا لهذا الأمر.
(22/172)
فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ (19)
وقوله( فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا
جَاءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ ) يقول تعالى ذكره : فمن أيّ وجه لهؤلاء المكذّبين بآيات
الله ذكرى ما قد ضيَّعوا وفرّطوا فيه من طاعة الله إذا جاءتهم الساعة ، يقول : ليس
ذلك بوقت ينفعهم التذكر والندم ، لأنه وقت مجازاة لا وقت استعتاب ولا استعمال.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله( فَأَنَّى لَهُمْ
إِذَا جَاءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ ) يقول : إذا جاءتهم الساعة أنى لهم أن يتذكروا
ويعرفوا ويعقلوا ؟.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة( فَأَنَّى
لَهُمْ إِذَا جَاءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ ) قال : أنى لهم أن يتذكروا أو يتوبوا إذا
جاءتهم الساعة.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله( فَأَنَّى
لَهُمْ إِذَا جَاءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ ) قال : الساعة ، لا ينفعهم عند الساعة
ذكراهم ، والذكرى في موضع رفع بقوله( فَأَنَّى لَهُمْ ) لأن تأويل الكلام : فأنى
لهم ذكراهم إذا جاءتهم الساعة.
القول في تأويل قوله تعالى : { فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ
وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ
مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ (19) }
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم : فاعلم يا محمد أنه لا
معبود تنبغي أو تصلح له الألوهة ، ويجوز لك وللخلق عبادته ، إلا الله الذي هو خالق
الخلق ، ومالك كل شيء ، يدين له بالربوبية كل ما دونه( وَاسْتَغْفِرْ
(22/173)
لِذَنْبِكَ ) وسل ربك غفران سالف ذنوبك
وحادثها ، وذنوب أهل الإيمان بك من الرجال والنساء( وَاللَّهُ يَعْلَمُ
مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ ) يقول : فإن الله يعلم متصرفكم فيما تتصرّفون فيه
في يقظتكم من الأعمال ، ومثواكم إذا ثويتم في مضاجعكم للنوم ليلا لا يخفى عليه شيء
من ذلك ، وهو مجازيكم على جميع ذلك.
وقد حدثنا أبو كُريب ، قال : ثنا عثمان بن سعيد ، قال : ثنا إبراهيم بن سليمان ،
عن عاصم الأحول ، عن عبد الله بن سرجس ، قال : " أكلت مع رسول الله صَلَّى
الله عَلَيْهِ وَسَلَّم ، فقلت : غفر الله لك يا رسول الله ، فقال رجل من القوم :
أستغفر لك يا رسول الله ، قال : نَعَمْ وَلَكَ ، ثم قرأ( وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ
وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ) .
(22/174)
وَيَقُولُ الَّذِينَ آَمَنُوا لَوْلَا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلَى لَهُمْ (20) طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ (21)
القول في تأويل قوله تعالى : {
وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلا نزلَتْ سُورَةٌ فَإِذَا أُنزلَتْ سُورَةٌ
مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ
يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلَى
لَهُمْ (20) طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ فَإِذَا عَزَمَ الأمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا
اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ (21) }
يقول تعالى ذكره : ويقول الذين صدّقوا الله ورسوله : هلا نزلت سورة من الله تأمرنا
بجهاد أعداء الله من الكفار( فَإِذَا أُنزلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ ) يعني : أنها
محكمة بالبيان والفرائض. وذُكر أن ذلك في قراءة عبد الله( فَإِذَا أُنزلَتْ
سُورَةٌ مُحْدَثَةٌ ) .
وقوله( وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ ) يقول : وذُكر فيها الأمر بقتال المشركين.
وكان قتادة يقول في ذلك ما حدثني بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن
قتادة ، قوله( وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلا نزلَتْ
(22/174)
سُورَةٌ فَإِذَا أُنزلَتْ سُورَةٌ
مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ ) قال : كلّ سورة ذُكر فيها الجهاد فهي
محكمة ، وهي أشدّ القرآن على المنافقين.
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة( وَذُكِرَ فِيهَا
الْقِتَالُ ) قال كل سورة ذُكر فيها القتال فهي محكمة.
وقوله( رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ) يقول : رأيت الذين في قلوبهم
شك في دين الله وضعف( يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ ) يا محمد ، ( نَظَرَ الْمَغْشِيِّ
عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ ) ، خوفا أن تغزيهم وتأمرهم بالجهاد مع المسلمين ، فهم
خوفا من ذلك وتجبنا عن لقاء العدوّ ينظرون إليك نظر المغشيّ عليه الذي قد صرع.
وإنما عنى بقوله( مِنَ الْمَوْتِ ) من خوف الموت ، وكان هذا فعل أهل النفاق.
كالذي حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله(
يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ ) قال : هؤلاء
المنافقون طبع الله على قلوبهم ، فلا يفقهون ما يقول النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ
وَسَلَّم.
وقوله( فَأَوْلَى لَهُمْ ) يقول تعالى ذكره : فأولى لهؤلاء الذين في قلوبهم مرض.
وقوله( فَأَوْلَى لَهُمْ ) وعيد توعَّد الله به هؤلاء المنافقين.
كما حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة(
فَأَوْلَى لَهُمْ ) قال : هذه وعيد ، فأولى لهم ، ثم انقطع الكلام فقال : (
طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ ).
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله( فَأَوْلَى لَهُمْ
) قال : وعيد كما تسمعون.
وقوله( طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ ) وهذا خبر من الله تعالى ذكره عن قيل هؤلاء
المنافقين من قبل أن تنزل سورة محكمة ، ويذكر فيها القتال ، وأنهم إذا قيل لهم :
إن الله مفترض عليكم الجهاد ، قالوا : سمع وطاعة ، فقال الله عزّ وجلّ
(22/175)
لهم( فَإِذَا أُنزلَتْ سُورَةٌ ) وفرض
القتال فيها عليهم ، فشقّ ذلك عليهم ، وكرهوه( طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ ) قبل
وجوب الفرض عليكم ، فإذا عزم الأمر كرهتموه وشقّ عليكم.
وقوله( طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ ) مرفوع بمضمر ، وهو قولكم قبل نزول فرض
القتال( طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ ).
ورُوي عن ابن عباس بإسناد غير مرتضى أنه قال : قال الله تعالى( فَأَوْلَى لَهُمْ )
ثم قال للذين آمنوا منهم( طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ ) فعلى هذا القول تمام
الوعيد فأولى ، ثم يستأنف بعد ، فيقال لهم( طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ ) فتكون
الطاعة مرفوعة بقوله( لهم ).
وكان مجاهد يقول في ذلك كما حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا
عيسى; وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح
، عن مجاهد( طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ ) قال : أمر الله بذلك المنافقين.
وقوله( فَإِذَا عَزَمَ الأمْرُ ) يقول : فإذا وجب القتال وجاء أمر الله بفرض ذلك
كرهتموه.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث ، قال :
ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد( فَإِذَا عَزَمَ
الأمْرُ ) قال : إذا جد الأمر ، هكذا قال محمد بن عمرو في حديثه ، عن أبي عاصم ،
وقال الحارث في حديثه ، عن الحسن يقول : جدّ الأمر.
وقوله( فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ ) يقول تعالى ذكره : فلو
(22/176)
فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ (22) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ (23)
صدقوا الله ما وعدوه قبل نزول السورة
بالقتال بقولهم : إذ قيل لهم : إن الله سيأمركم بالقتال طاعة ، فَوَفَّوا له بذلك
، لكان خيرا لهم في عاجل دنياهم ، وآجل معادهم.
كما حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( فَإِذَا عَزَمَ
الأمْرُ ) يقول : طواعيه الله ورسوله ، وقول معروف عند حقائق الأمور خير لهم.
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن مَعمر ، عن قتادة يقول : طاعة الله
وقول بالمعروف عند حقائق الأمور خير لهم.
القول في تأويل قوله تعالى : { فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ
تُفْسِدُوا فِي الأرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ (22) أُولَئِكَ الَّذِينَ
لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ (23) }
يقول تعالى ذكره لهؤلاء الذين وصف أنهم إذا نزلت سورة محكمة ، وذُكر فيها القتال
نظروا إلى رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم نظر المغشيّ عليه( فَهَلْ
عَسَيْتُمْ ) أيها القوم ، يقول : فلعلكم إن توليتم عن تنزيل الله جلّ ثناؤه ،
وفارقتم أحكام كتابه ، وأدبرتم عن محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم وعما جاءكم
به( أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأرْضِ ) يقول : أن تعصوا الله في الأرض ، فتكفروا به ،
وتسفكوا فيها الدماء( وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ ) وتعودوا لما كنتم عليه في
جاهليتكم من التشتت والتفرّق بعد ما قد جمعكم الله بالإسلام ، وألَّف به بين
قلوبكم.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله( فَهَلْ
عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ )... الآية. يقول : فهل عسيتم كيف رأيتم القوم حين
تولوا عن كتاب الله ، ألم يسفكوا الدم الحرام ، وقطَّعوا الأرحام ، وعَصَوا
الرحمن.
(22/177)
أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا (24) إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ (25)
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن
ثور ، عن معمر ، عن قتادة( فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا
فِي الأرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ ) قال : فعلوا.
حدثني محمد بن عبد الرحيم البرقي ، قال : ثنا ابن أبي مريم ، قال : أخبرنا محمد بن
جعفر وسليمان بن بلال ، قالا ثنا معاوية بن أبي المزرّد المديني ، عن سعيد بن يسار
، عن أبي هريرة ، عن رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم أنه قال : "
خَلَقَ اللّهُ الخَلْقَ ، فَلَمَّا فَرغ مِنْهُمْ تَعَلَّقَتِ الرَّحِمُ بِحَقْوِ
الرَّحْمَنِ فَقالَ مَهْ : فَقالَتْ : هَذَا مَقامُ العائِذِ بِكَ مِنَ
القَطِيعَةِ ، قالَ : أَفمَا تَرْضَيْنَ أَنْ أَقْطَعَ مَنْ قَطَعَكِ ، وَأصِلَ
مَنْ وَصَلَكِ ؟ قالَتْ : نَعَمْ ، قالَ : فَذلكِ لَكِ " .
قال سليمان في حديثه : قال أبو هريرة : اقرءوا إن شئتم( فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ
تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ ) وقد
تأوّله بعضهم : فهل عسيتم إن توليتم أمور الناس أن تفسدوا في الأرض بمعنى الولاية
، وأجمعت القرّاء غير نافع على فتح السين من عَسَيتم ، وكان نافع يكسرها عَسِيتم.
والصواب عندنا قراءة ذلك بفتح السين لإجماع الحجة من القرّاء عليها ، وأنه لم يسمع
في الكلام : عَسِيَ أخوك يقوم ، بكسر السين وفتح الياء; ولو كان صوابا كسرها إذا
اتصل بها مكنّى ، جاءت بالكسر مع غير المكنّى ، وفي إجماعهم على فتحها مع الاسم
الظاهر ، الدليل الواضح على أنها كذلك مع المكنّى ، وإن التي تَلِي عسيتم مكسورة ،
وهي حرف حزاء ، و " أن " التي مع تفسدوا في موضع نصب بعسيتم.
وقوله( أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ ) يقول تعالى ذكره : هؤلاء الذين
يفعلون هذا ، يعني الذين يفسدون ويقطعون الأرحام الذين لعنهم الله ، فأبعدهم من
رحمته فأصمهم ، يقول : فسلبهم فَهْمَ ما يسمعون بآذانهم من مواعظ الله في تنزيله(
وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ ) يقول : وسلبهم عقولهم ، فلا يتبيَّنون حُجج الله ، ولا
يتذكَّرون ما يرون من عبره وأدلته.
القول في تأويل قوله تعالى : { أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى
(22/178)
قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا (24) إِنَّ
الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ
الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ (25) }
يقول تعالى ذكره : أفلا يتدبر هؤلاء المنافقون مواعظ الله التي يعظهم بها في آي
القرآن الذي أنزله على نبيه عليه الصلاة والسلام ، ويتفكَّرون في حُججه التي
بيَّنها لهم في تنزيله فيعلموا بها خطأ ما هم عليه مقيمون( أَمْ عَلَى قُلُوبٍ
أَقْفَالُهَا ) يقول : أم أقفل الله على قلوبهم فلا يعقلون ما أنزل الله في كتابه
من المواعظ والعِبَر.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله( أَفَلا
يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا ) إذا والله يجدون في
القرآن زاجرا عن معصية الله ، لو تدبره القوم فعقلوه ، ولكنهم أخذوا بالمتشابه
فهلكوا عند ذلك.
حدثنا إسماعيل بن حفص الأيلي ، قال : ثنا الوليد بن مسلم ، عن ثور بن يزيد ، عن
خالد بن مَعدان ، قال : ما من آدميّ إلا وله أربع أعين : عينان في رأسه لدنياه ،
وما يصلحه من معيشته ، وعينان في قلبه لدينه ، وما وعد الله من الغيب ، فإذا أراد
الله بعبد خيرا أبصرت عيناه اللتان في قلبه ، وإذا أراد الله به غير ذلك طَمسَ
عليهما ، فذلك قوله( أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا ).
حدثنا ابن حُمَيد ، قال : ثنا يحيى بن واضح ، قال : ثنا ثور بن يزيد ، قال : ثنا
خالد بن معدان ، قال : ما من الناس أحد إلا وله أربع أعين ، عينان في وجهه لمعيشته
، وعينان في قلبه ، وما من أحد إلا وله شيطان متبطن فقار ظهره ، عاطف عنقه على
عنقه ، فاغر فاه إلى ثمرة قلبه ، فإذا أراد الله بعبد خيرا أبصرت عيناه اللتان في
قلبه ما وعد الله من الغيب ، فعمل به ، وهما غيب ،
(22/179)
فعمل بالغيب ، وإذا أراد الله بعبد
شرّا تركه ، ثم قرأ( أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا ).
حدثنا ابن حُميد ، قال : ثنا الحكم ، قال : ثنا عمرو ، عن ثور ، عن خالد بن
مَعدَان بنحوه ، إلا أنه قال : ترك القلب على ما فيه.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، قال : ثنا حماد بن زيد ، قال : ثنا
هشام بن عروة ، عن أبيه قال : " تلا رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم
يوما( أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا ) فقال
شاب من أهل اليمن : بل عليها أقفالها ، حتى يكون الله عزّ وجلّ يفتحها أو يفرجها ،
فما زال الشاب في نفس عمر رضي الله عنه حتى ولي فاستعان به " .
وقوله( إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ
لَهُمُ الْهُدَى ) يقول الله عزّ وجلّ إن الذين رجعوا القهقرى على أعقابهم كفارا
بالله من بعد ما تبين لهم الحقّ وقصد السبيل ، فعرفوا واضح الحجة ، ثم آثروا
الضلال على الهدى عنادا لأمر الله تعالى ذكره من بعد العلم.
كما حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله( إِنَّ
الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ
الْهُدَى ) هم أعداء الله أهل الكتاب ، يعرفون بعث محمد نبيّ الله صَلَّى الله
عَلَيْهِ وَسَلَّم وأصحابه عندهم ، ثم يكفرون به.
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة( مِنْ بَعْدِ مَا
تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى ) إنهم يجدونه مكتوبا عندهم.
وقال آخرون : عنى بذلك أهل النفاق.
* ذكر من قال ذلك :
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك
يقول في قوله( إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ )... إلى قوله(
فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ ) هم أهل النفاق.
(22/180)
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ،
قال : ثنى عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله( إِنَّ الَّذِينَ
ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ )... إلى( إِسْرَارَهُمْ ) هم أهل النفاق. وهذه
الصفة بصفة أهل النفاق عندنا ، أشبه منها بصفة أهل الكتاب ، وذلك أن الله عزّ وجلّ
أخبر أن ردّتهم كانت بقيلهم( لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نزلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ
فِي بَعْضِ الأمْرِ ) ولو كانت من صفة أهل الكتاب ، لكان في وصفهم بتكذيب محمد
صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم الكفاية من الخبر عنهم بأنهم إنما ارتدّوا من أجل
قيلهم ما قالوا.
وقوله( الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ ) يقول تعالى ذكره : الشيطان
زين لهم ارتدادهم على أدبارهم ، من بعد ما تبين لهم الهدى.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة( الشَّيْطَانُ
سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ ) يقول : زين لهم.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( سَوَّلَ لَهُمْ ) يقول :
زين لهم.
وقوله( وَأَمْلَى لَهُمْ ) يقول : ومدّ الله لهم في آجالهم مُلاوة من الدهر ،
ومعنى الكلام : الشيطان سوّل لهم ، والله أملى لهم.
واختلفت القرّاء في قراءة ذلك ، فقرأته عامة قرّاء الحجاز والكوفة( وَأَمْلَى
لَهُمْ ) بفتح الألف منها بمعنى : وأملى الله لهم. وقرأ ذلك بعض أهل المدينة
والبصرة( وَأُمْلِيَ لَهُمْ ) على وجه ما لم يسمّ فاعله. وقرأ مجاهد فيما ذُكر
عنه( وَأُمْلِي ) بضم الألف وإرسال الياء على وجه الخبر من الله جلّ ثناؤه عن نفسه
أنه يفعل ذلك بهم.
وأولى هذه القراءات بالصواب ، التي عليها عامة قرّاء الحجاز والكوفة من
(22/181)
ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ (26) فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ (27)
فتح الألف في ذلك ، لأنها القراءة
المستفيضة في قراءة الأمصار ، وإن كان يجمعها مذهب تتقارب معانيها فيه.
القول في تأويل قوله تعالى : { ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا
مَا نزلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الأمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ
إِسْرَارَهُمْ (26) }
يقول تعالى ذكره : أملى الله لهؤلاء المنافقين وتركهم ، والشيطان سول لهم ، فلم
يوفقهم للهدى من أجل أنهم( قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نزلَ اللَّهُ ) من
الأمر بقتال أهل الشرك به من المنافقين : ( سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الأمْرِ )
الذي هو خلاف لأمر الله تبارك وتعالى ، وأمر رسوله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم.
كما حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ
قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نزلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الأمْرِ )
فهؤلاء المنافقون( وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ ) يقول تعالى ذكره : والله
يعلم إسرار هذين الحزبين المتظاهرين من أهل النفاق ، على خلاف أمر الله وأمر رسوله
، إذ يتسارّون فيما بينهم بالكفر بالله ومعصية الرسول ، ولا يخفى عليه ذلك ولا
غيره من الأمور كلها.
واختلفت القرّاء في قراءة ذلك ، فقرأته عامة قرّاء أهل المدينة والبصرة(
أَسْرَارَهُمْ ) بفتح الألف من أسرارهم على وجه جماع سرّ. وقرأ ذلك عامة قرّاء
الكوفة( إِسْرَارَهُمْ ) بكسر الألف على أنه مصدر من أسررت إسرارا.
والصواب من القول في ذلك عندنا أنهما قراءتان معروفتان صحيحتا المعنى ، فبأيتهما
قرأ القارئ فمصيب.
القول في تأويل قوله تعالى : { فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ
يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ (27) ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا
أَسْخَطَ
(22/182)
ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ (28) أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ (29)
اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ
فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ (28) }
يقول تعالى ذكره : والله يعلم إسرار هؤلاء المنافقين ، فكيف لا يعلم حالهم إذا توفتهم
الملائكة ، وهم يضربون وجوههم وأدبارهم ، يقول : فحالهم أيضا لا يخفى عليه في ذلك
الوقت ويعني بالأدبار : الأعجاز ، وقد ذكرنا الرواية في ذلك فيما مضى قبل.
وقوله( ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ ) يقول تعالى ذكره :
تفعل الملائكة هذا الذي وصفت بهؤلاء المنافقين من أجل أنهم اتبعوا ما أسخط الله ،
فأغضبه عليهم من طاعة الشيطان( وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ ) يقول : وكرهوا ما يرضيه
عنهم من قتال الكفار به ، بعد ما افترضه عليهم.
وقوله( فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ ) يقول : فأبطل الله ثواب أعمالهم وأذهبه ، لأنها
عملت في غير رضاه ولا محبته ، فبطلت ، ولم تنفع عاملها.
القول في تأويل قوله تعالى : { أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ
لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ (29) وَلَوْ نَشَاءُ لأرَيْنَاكَهُمْ
فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ
وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ (30) }
(22/183)
وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ (30)
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلَوْ
نَشَاءُ لأرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي
لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ (30) }
يقول تعالى ذكره : أحسب هؤلاء المنافقون الذين في قلوبهم شكّ في دينهم ، وضعف في
يقينهم ، فهم حيارى في معرفة الحقّ أن لن يُخرج الله ما في قلوبهم من الأضغان على
المؤمنين ، فيبديه لهم ويظهره ، حتى يعرفوا نفاقهم ، وحيرتهم في دينهم( وَلَوْ
نَشَاءُ لأرَيْنَاكَهُمْ ) يقول تعالى : ولو نشاء يا محمد لعرّفناك هؤلاء
المنافقين حتى تعرفهم من قول القائل : سأريك ما أصنع ، بمعنى سأعلمك.
(22/183)
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل
التأويل.
وقوله : (فلعرفتهم بسيماهم) يقول : فلتعرفهم بعلامات النفاق الظاهرة منهم في فحوى
كلامهم وظاهر أفعالهم ثم إن الله تعالى ذكره عرفه إياهم.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ،
عن ابن عباس ، قوله( أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ
يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ )... إلى آخر الآية ، قال : هم أهل النفاق ، وقد
عرّفه إياهم في براءة ، فقال : ( وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا
وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ ) ، وقال : ( فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا
وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا ) .
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك
يقول في قوله( أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ )... الآية ، هم أهل
النفاق( فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ
) فعرّفه الله إياهم في سوره براءة ، فقال : ( وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ
مَاتَ أَبَدًا ) ، وقال( قل لهم لن تَنْفِرُوا (1) معي أبدا ولن تقاتلوا معي عدوا
) .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله( أَمْ حَسِبَ
الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ ) قال
: هؤلاء المنافقون ، قال : والذي أسروا من النفاق هو الكفر.
قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله( وَلَوْ نَشَاءُ
لأرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ ) قال : هؤلاء المنافقون ، قال :
وقد أراه الله إياهم ، وأمر بهم أن يخرجوا من المسجد ، قال : فأبوا إلا أن تمسكوا
بلا إله إلا الله; فلما أبوا إلا أن تمسكوا بلا إله إلا إلله حُقِنت دماؤهم ،
ونكحوا ونوكحوا بها.
__________
(1) التلاوة " لن تخرجوا "
(22/184)
وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ (31) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ (32)
وقوله( وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ
الْقَوْلِ ) يقول : ولتعرفنّ هؤلاء المنافقين في معنى قولهم نحوه.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله( فِي لَحْنِ
الْقَوْلِ ) قال قولهم : ( وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ ) لا يخفى عليه
العامل منكم بطاعته ، والمخالف ذلك ، وهو مجازي جميعكم عليها.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ
الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ (31) إِنَّ
الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ
بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا
وَسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ (32) }
يقول تعالى ذكره لأهل الإيمان به من أصحاب رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ
وَسَلَّم( وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ ) أيها المؤمنون بالقتل ، وجهاد أعداء الله( حَتَّى
نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ ) يقول : حتى يعلم حزبي وأوليائي أهل الجهاد في
الله منكم ، وأهل الصبر على قتال أعدائه ، فيظهر ذلك لهم ، ويعرف ذوو البصائر منكم
في دينه من ذوي الشكّ والحيرة فيه وأهل الإيمان من أهل النفاق ونبلو أخباركم ،
فنعرف الصادق منكم من الكاذب.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : ثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس ،
قوله( حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ ) ، وقوله(
وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ ) ونحو هذا قال : أخبر
الله سبحانه المؤمنين أن الدنيا دار بلاء ، وأنه مبتليهم فيها ، وأمرهم بالصبر ،
وبشَّرهم فقال : ( وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ ) ثم أخبرهم أنه هكذا فعل بأنبيائه ،
وصفوته لتطيب أنفسهم ،
(22/185)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ (33) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ مَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ (34)
فقال : ( مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ
وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا ) فالبأساء : الفقر ، والضّراء : السقم ، وزُلزلوا
بالفتن وأذى الناس إياهم.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله(
وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ )
قال : نختبركم ، البلوى : الاختبار. وقرأ( الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا
أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ ) قال : لا يختبرون( وَلَقَدْ فَتَنَّا
الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ) ... الآية .
واختلفت القرّاء في قراءة قوله( وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ
الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ ) ، فقرأ ذلك
عامة قرّاء الأمصار بالنون( نبلو ) و( نعلم ) ، ونبلو على وجه الخبر من الله جلّ
جلاله عن نفسه ، سوى عاصم فإنه قرأ جميع ذلك بالياء والنون هي القراءة عندنا
لإجماع الحجة من القراء عليها ، وإن كان للأخرى وجه صحيح.
وقوله( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ) يقول تعالى
ذكره : إن الذين جحدوا توحيد الله ، وصدوا الناس عن دينه الذي ابتعث به رسله(
وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى ) يقول :
وخالفوا رسوله محمدا صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم ، فحاربوه وآذَوه من بعد ما
علموا أنه نبيّ مبعوث ، ورسول مرسل ، وعرفوا الطريق الواضح بمعرفته ، وأنه لله
رسول.
وقوله( لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا ) لأن الله بالغ أمره ، وناصر رسوله ،
ومُظهره على من عاداه وخالفه( وَسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ ) يقول : وسيذهب أعمالهم
التي عملوها في الدنيا فلا ينفعهم بها في الدنيا ولا الآخرة ، ويبطلها إلا مما
يضرهم.
القول في تأويل قوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ
وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ (33) إِنَّ الَّذِينَ
كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ مَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ
يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ (34) }
(22/186)
فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ (35)
يقول تعالى ذكره : ( يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا ) بالله ورسوله( أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ ) في
أمرهما ونهيهما( وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ ) يقول : ولا تبطلوا بمعصيتكم
إياهما ، وكفركم بربكم ثواب أعمالكم فإن الكفر بالله يحبط السالف من العمل الصالح.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله( يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا
أَعْمَالَكُمْ )... الآية ، من استطاع منكم أن لا يبطل عملا صالحا عمله بعمل سيئ
فليفعل ، ولا قوة إلا بالله ، فإن الخير ينسخ الشر ، وإن الشر ينسخ الخير ، وإن
ملاك الأعمال خواتيمها.
وقوله( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ مَاتُوا
وَهُمْ كُفَّارٌ ) يقول تعالى ذكره : إن الذين أنكروا توحيد الله ، وصدوا من أراد
الإيمان بالله وبرسوله عن ذلك ، ففتنوهم عنه ، وحالوا بينهم وبين ما أرادوا من ذلك
، ثم ماتوا وهم كفار : يقول : ثم ماتوا وهم على ذلك من كفرهم( فَلَنْ يَغْفِرَ
اللَّهُ لَهُمْ ) يقول : فلن يعفو الله عما صنع من ذلك ، ولكنه يعاقبه عليه ،
ويفضحه به على رءوس الأشهاد.
القول في تأويل قوله تعالى : { فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ
الأعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ (35) }
يقول تعالى ذكره : فلا تضعفوا أيها المؤمنون بالله عن جهاد المشركين وتجبُنوا عن
قتالهم. كما حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى;
(22/187)
وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن قال :
ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد( فَلا تَهِنُوا ) قال : لا تضعفوا.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله( فَلا تَهِنُوا
) لا تضعف أنت.
وقوله( وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الأعْلَوْنَ ) يقول : لا تضعفوا
عنهم وتدعوهم إلى الصلح والمسالمة ، وأنتم القاهرون لهم والعالون عليهم( وَاللَّهُ
مَعَكُمْ ) يقول : والله معكم بالنصر لكم عليهم.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل ، غير أنهم اختلفوا في معنى قوله(
وَأَنْتُمُ الأعْلَوْنَ ) فقال بعضهم : معناه : وأنتم أولى بالله منهم. وقال بعضهم
: مثل الذي قلنا فيه.
ذكر من قال ذلك ، وقال معنى قوله( وَأَنْتُمُ الأعْلَوْنَ ) أنتم أولى بالله منهم.
حدثني أحمد بن المقدام ، قال : ثنا المعتمر ، قال : سمعت أبي يحدّث ، عن قتادة ،
في قوله( فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ ) قال : أي لا تكونوا أولى
الطائفتين تصرع.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( فَلا تَهِنُوا
وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ ) قال : لا تكونوا أولى الطائفتين صرعت لصاحبتها ،
ودعتها إلى الموادعة ، وأنتم أولى بالله منهم والله معكم.
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة( فَلا تَهِنُوا
وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ ) قال : لا تكونوا أولى الطائفتين صرعت إلى صاحبتها(
وَأَنْتُمُ الأعْلَوْنَ ) قال : يقول : وأنتم أولى بالله منهم ذكر من قال معنى
قوله( وَأَنْتُمُ الأعْلَوْنَ ) : أنتم الغالبون الأعزّ منهم.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى;
(22/188)
وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال
: ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نحيح ، عن مجاهد ، قوله( وَأَنْتُمُ الأعْلَوْنَ )
قال : الغالبون مثل يوم أُحد ، تكون عليهم الدائرة.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، فى قوله( فَلا تَهِنُوا
وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الأعْلَوْنَ ) قال : هذا منسوخ ، قال :
نسخه القتال والجهاد ، يقول : لا تضعف أنت وتدعوهم أنت إلى السلم وأنت الأعلى ،
قال : وهذا حين كانت العهود والهدنة فيما بينه وبين المشركين قبل أن يكون القتال ،
يقول : لا تهن فتضعف ، فيرى أنك تدعو. إلى السلم وأنت فوقه ، وأعزّ منه(
وَأَنْتُمُ الأعْلَوْنَ ) أنتم أعزّ منهم ، ثم جاء القتال بعد فنسخ هذا أجمع ،
فأمره بجهادهم والغلظة عليهم. وقد قيل : عنى بقوله( وَأَنْتُمُ الأعْلَوْنَ )
وأنتم الغالبون آخر الأمر ، وإن غلبوكم في بعض الأوقات ، وقهروكم في بعض الحروب.
وقوله( فَلا تَهِنُوا ) جزم بالنهي ، وفي قوله( وَتَدْعُوا ) وجهان : أحدهما الجزم
على العطف على تهنوا ، فيكون معنى الكلام : فلا تهنوا ولا تدعوا إلى السلم ،
والآخر النصب على الصرف.
وقوله( وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ ) يقول : ولن يظلمكم أجور أعمالكم فينقصكم
ثوابها ، من قولهم : وترت الرجل إذا قتلت له قتيلا فأخذت له مالا غصبا.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ،
عن ابن عباس ، قوله يقول( وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ ) يقول : لن يظلمكم
أجور أعمالكم.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى;
(22/189)
إِنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلَا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ (36) إِنْ يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ (37)
وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال
: ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله( وَلَنْ يَتِرَكُمْ
أَعْمَالَكُمْ ) قال : لن ينقصكم.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( وَلَنْ يَتِرَكُمْ
أَعْمَالَكُمْ ) : أي لن يظلمكم أعمالكم.
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، مثله.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله( وَلَنْ
يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ ) قال : لن يظلمكم ، أعمالكم ذلك يتركم.
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك
يقول في قوله( وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ ) قال : لن يظلمكم أعمالكم.
القول في تأويل قوله تعالى : { إِنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ
وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلا يَسْأَلْكُمْ
أَمْوَالَكُمْ (36) إِنْ يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ
(37) }
يقول تعالى ذكره : حاضا عباده المؤمنين على جهاد أعدائه ، والنفقة في سبيله ، وبذل
مهجتهم في قتال أهل الكفر به : قاتلوا أيها المؤمنون أعداء الله وأعداءكم من أهل
الكفر ، ولا تدعكم الرغبة في الحياة إلى ترك قتالهم ، فإنما الحياة الدنيا لعب ولهو
، إلا ما كان منها لله من عمل في سبيله ، وطلب رضاه. فأما ما عدا ذلك فإنما هو لعب
ولهو ، يضمحلّ فيذهب ويندرس فيمرّ ، أو إثم يبقى على صاحبه عاره وخزيه( وَإِنْ
تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ ) يقول : وإن تعملوا في هذه الدنيا
التي ما كان فيها مما هو لها ، فلعب ولهو ، فتؤمنوا به وتتقوه بأداء فرائضه ،
واجتناب معاصيه ، وهو الذي يبقى لكم منها ، ولا يبطل بطول اللهو واللعب ، ثم يؤتكم
ربكم عليه أجوركم ، فيعوّضكم منه ما هو خير لكم
(22/190)
هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ (38)
منه يوم فقركم ، وحاجتكم إلى أعمالكم( وَلا
يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ ) يقول : ولا يسألكم ربكم أموالكم ، ولكنه يكلفكم
توحيده ، وخلع ما سواه من الأنداد ، وإفراد الألوهية والطاعة له( إن يسألكموها ) :
يقول جلّ ثناؤه : إن يسألكم ربكم أموالكم( فيحفكم ) يقول : فيجهدكم بالمسألة ،
ويلحّ عليكم بطلبها منكم فيلحف ، تبخلوا : يقول : تبخلوا بها وتمنعوها إياه ، ضنا
منكم بها ، ولكنه علم ذلك منكم ، ومن ضيق أنفسكم فلم يسألكموها.
وقوله( وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ ) يقول : ويخرج جلّ ثناؤه لو سألكم أموالكم
بمسألته ذلك منكم أضغانكم قال : قد علم الله أن في مسألته المال خروج الأضغان.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله( فَيُحْفِكُمْ
تَبْخَلُوا ) قال : الإحفاء : أن تأخذ كل شيء بيديك (1) .
القول في تأويل قوله تعالى : { هَا أَنْتُمْ هَؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي
سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ
عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا
يَسْتَبْدِ لْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ (38) }
يقول تعالى ذكره للمؤمنين : ( ها أنْتُمْ ) أيها الناس( هَؤُلاءِ تُدْعَوْنَ
لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ) يقول : تدعون إلى النفقة في جهاد أعداء الله
ونُصرة دينه( فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ ) بالنفقة فيه ، وأدخلت " ها "
في موضعين ، لأن العرب إذا أرادت التقريب جعلت المكنّى بين " ها " وبين
" ذا " ، فقالت : ها أنت ذا قائما ، لأن التقريب جواب الكلام ، فربما
أعادت " ها " مع " ذا " ، وربما اجتزأت بالأولى ، وقد حُذفت
الثانية ، ولا يقدّمون أنتم قبل " ها " ، لأن ها
__________
(1) في ( اللسان : حفا ) : أحفى فلان فلانا : إذا برج به في الإلحاف عليه ، أو
سأله فأكثر عليه في الطلب .
(22/191)
جواب فلا تقرب بها بعد الكلمة.
وقال بعض نحويي البصرة : جعل التنبيه في موضعين للتوكيد.
وقوله( وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ ) يقول تعالى ذكره :
ومن يبخل بالنفقة في سبيل الله ، فإنما يبخل عن بخل نفسه ، لأن نفسه لو كانت جوادا
لم تبخل بالنفقة في سبيل الله ، ولكن كانت تجود بها( وَاللَّهُ الْغَنِيُّ
وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ ) يقول تعالى ذكره : ولا حاجة لله أيها الناس إلى أموالكم
ولا نفقاتكم ، لأنه الغنيّ عن خلقه والخلق الفقراء إليه ، وأنتم من خلقه ، فأنتم
الفقراء إليه ، وإنما حضكم على النفقة في سبيله ، ليُكسبكم بذلك الجزيل من ثوابه.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله( هَا أَنْتُمْ
هَؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ
وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ
وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ ) قال : ليس بالله تعالى ذكره إليكم حاجة وأنتم أحوج
إليه.
وقوله تعالى ذكره : ( وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ) يقول
تعالى ذكره : وإن تتولوا أيها الناس عن هذا الدين الذي جاءكم. به محمد صَلَّى الله
عَلَيْهِ وَسَلَّم ، فترتدّوا راجعين عنه( يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ) يقول
: يهلككم ثم يجيء بقوم آخرين غيركم بدلا منكم يصدّقون به ، ويعملون بشرائعه( ثُمَّ
لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ ) يقول : ثم لا يبخلوا بما أُمروا به من النفقة في
سبيل الله ، ولا يضيعون شيئا من حدود دينهم ، ولكنهم يقومون بذلك كله على ما
يُؤمرون به.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( وَإِنْ تَتَوَلَّوْا
(22/192)
يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ )
يقول : إن توليتم عن كتابي وطاعتي أستبدل قوما غيركم. قادر والله ربنا على ذلك على
أن يهلكهم ، ويأتي من بعدهم من هو خير منهم.
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة( وَإِنْ
تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ) قال : إن تولوا عن طاعة الله.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله( وَإِنْ
تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ) (1) .
وذُكر أنه عنى بقوله( يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ) : العجم من عجم فارس.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن بزيع البغدادي أبو سعيد ، قال : ثنا إسحاق بن منصور ، عن مسلم بن خالد ،
عن العلاء بن عبد الرحمن ، عن أبيه ، عن أبي هريرة ، قال : " لما نزلت(
وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا
أَمْثَالَكُمْ ) كان سلمان إلى جنب رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم ،
فقالوا : يا رسول الله من هؤلاء القوم الذين إن تولينا استبدلوا بنا ، قال : فضرب
النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم على منكب سلمان ، فقال : من هذا وقومه ،
والذي نفسي بيده لَوْ أنَّ الدّينَ تَعَلَّقَ بالثُّرَيَّا لَنالَتْهُ رِجالٌ من
أهْل فارِس " .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرني مسلم بن خالد ، عن العلاء بن
عبد الرحمن ، عن أبيه ، عن أبي هريرة " أن رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ
وَسَلَّم تلا هذه الآية( وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ
ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ ) قالوا : يا رسول الله من هؤلاء الذين إن
تولَّينا استبدلوا بنا ، ثم لا يكونوا أمثالنا ، فضرب على فخذ سلمان قال : هَذَا
وَقَوْمُهُ ، وَلَوْ كانَ الدِّينُ عِنْدَ الثُّرَيَّا لَتنَاولَهُ رِجالٌ مِنَ
الفُرْسِ " .
__________
(1) لم يأت بالتأويل هنا ، اكتفاء بدلالة ما قبله عليه ، لأن الرواية في الحديثين
عن يونس بن عبد الأعلى .
(22/193)
حدثنا أحمد بن الحسن الترمذيّ ، قال :
ثنا عبد الله بن الوليد العَدَني ، قال : ثنا مسلم بن خالد ، عن العلاء ، عن أبيه
، عن أبي هريرة ، قال : " نزلت هذه الآية وسلمان الفارسيّ إلي جنب رسول الله
صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم تحكّ ركبته ركبته( وَإِنْ تَتَوَلَّوْا
يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ ) قالوا : يا
رسول الله ومن الذين إن تولينا استبدلوا بنا ثم لا يكونوا أمثالنا ، قال : فضرب
فخذ سلمان ثم قال : هَذَا وَقَوْمُهُ " .
وقال : مجاهد في ذلك ما حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا
عيسى; وحدثني الحارث قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ،
عن مجاهد( يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ) من شاء.
وقال آخرون : هم أهل اليمن.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عوف الطائيّ ، قال : ثنا أبو المغيرة ، قال : ثنا صفوان بن عمرو ،
قال : ثنا راشد بن سعد وعبد الرحمن بن جُبير وشريح بن عبيد ، في قوله( وَإِنْ
تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ )
قال : أهل اليمن.
آخر تفسير سورة محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم.
(22/194)
إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا (1) لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (2) وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا (3)
تفسير سورة الفتح
بسم الله الرحمن الرحيم
القول في تأويل قوله تعالى : { إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا (1)
لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ
نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (2) وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ
نَصْرًا عَزِيزًا (3) }
يعني بقوله تعالى ذكره لنبيه محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم( إِنَّا
فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا ) يقول : إنا حكمنا لك يا محمد حكما لمن سمعه أو
بلغه على من خالفك وناصبك من كفار قومك ، وقضينا لك عليهم بالنصر والظفر ، لتشكر
ربك ، وتحمده على نعمته بقضائه لك عليهم ، وفتحه ما فتح لك ، ولتسبحه وتستغفره ،
فيغفر لك بفعالك ذلك ربك ، ما تقدّم من ذنبك قبل فتحه لك ما فتح ، وما تأخَّر بعد
فتحه لك ذلك ما شكرته واستغفرته.
وإنما اخترنا هذا القول في تأويل هذه الآية لدلالة قول الله عزّ وجلّ( إِذَا جَاءَ
نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ
أَفْوَاجًا فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا )
على صحته ، إذ أمره تعالى ذكره أن يسبح بحمد ربه إذا جاءه نصر الله وفتح مكة ، وأن
يستغفره ، وأعلمه أنه توّاب على من فعل ذلك ، ففي ذلك بيان واضح أن قوله تعالى
ذكره( لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ )
إنما هو خبر من الله جلّ ثناؤه نبيه عليه الصلاة والسلام عن جزائه له على شكره له
، على النعمة التي أنعم بها عليه من إظهاره له ما فتح ، لأن جزاء الله تعالى عباده
على أعمالهم دون غيرها.
(22/197)
وبعد ففي صحة الخبر عنه صَلَّى الله
عَلَيْهِ وَسَلَّم " أنه كان يقوم حتى ترِم قدماه ، فقيل له : يا رسول الله
تفعل هذا وقد غفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر ؟ فقال : أفَلا أكُونُ عَبْدًا
شَكُورًا ؟ " ، الدلالة الواضحة على أن الذي قلنا من ذلك هو الصحيح من القول
، وأن الله تبارك وتعالى ، إنما وعد نبيه محمدا صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم
غفران ذنوبه المتقدمة ، فتح ما فتح عليه ، وبعده على شكره له ، على نعمه التي
أنعمها عليه.
وكذلك كان يقول صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم : " إنّي لأسْتَغْفِرُ الله
وأتُوبُ إلَيْهِ فِي كُلّ يَوْمٍ مِئَةَ مَرةٍ " ولو كان القول في ذلك أنه من
خبر الله تعالى نبيه أنه قد غفر له ما تقدّم من ذنبه وما تأخر على غير الوجه الذي
ذكرنا ، لم يكن لأمره إياه بالاستغفار بعد هذه الآية ، ولا لاستغفار نبيّ الله
صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم ربه جلّ جلاله من ذنوبه بعدها معنى يعقل ، إذ
الاستغفار معناه : طلب العبد من ربه عزّ وجلّ غفران ذنوبه ، فإذا لم يكن ذنوب تغفر
لم يكن لمسألته إياه غفرانها معنى ، لأنه من المحال أن يقال : اللهمّ اغفر لي ذنبا
لم أعمله.
وقد تأوّل ذلك بعضهم بمعنى : ليغفر لك ما تقدّم من ذنبك قبل الرسالة ، وما تأخر
إلى الوقت الذي قال : ( إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا لِيَغْفِرَ لَكَ
اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ ). وأما الفتح الذي وعد الله
جلّ ثناؤه نبيه صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم هذه العدة على شكره إياه عليه ،
فإنه فيما ذُكر الهدنة التي جرت بين رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم وبين
مشركي قريش بالحديبية.
وذُكر أن هذه السورة أُنزلت على رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم منصرفه
عن الحديبية بعد الهدنة التي جرَت بينه وبين قومه.
وبنحو الذي قلنا في معنى قوله( إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا ) قال أهل
التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : ثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، قوله(
إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا ) قال : قضينا لك قضاء مبينا.
(22/198)
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال :
ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : ( إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا ) والفتح
: القضاء.
ذكر الرواية عمن قال : هذه السورة نزلت على رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ
وَسَلَّم في الوقت الذي ذكرت.
حدثنا حميد بن مسعدة ، قال : ثنا بشر بن المفضل ، قال : ثنا داود ، عن عامر(
إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا ) قال : الحديبية.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث ، قال :
ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قول الله(
إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا ) قال : نحرُه بالحديبية وحَلْقُه.
حدثنا محمد بن عبد الله بن بزيع ، قال : ثنا أبو بحر ، قال : ثنا شعبة ، قال : ثنا
جامع بن شدّاد ، عن عبد الرحمن بن أبي علقمة ، قال : سمعت عبد الله بن مسعود يقول
" لما أقبلنا من الحُديبية أعرسنا فنمنا ، فلم نستيقظ إلا بالشمس قد طلعت ،
فاستيقظنا ورسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم نائم ، قال : فقلنا أيقظوه ،
فاستيقظ رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم فقال : افْعَلُوا كمَا كُنْتُمْ
تَفْعَلُونَ ، فكذلك من نام أو نسي قال : وفقدنا ناقة رسول الله صَلَّى الله
عَلَيْهِ وَسَلَّم ، فوجدناها قد تعلَّق خطامها بشجرة ، فأتيته بها ، فركب فبينا
نحن نسير ، إذ أتاه الوحي ، قال : وكان إذا أتاه اشتدّ عليه; فلما سري عنه أخبرنا
أنه أُنزل عليه( إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا ) " .
حدثنا أحمد بن المقدام ، قال : ثنا المعتمر ، قال : سمعت أبي يحدّث عن قتادة ، عن
أنس بن مالك ، قال : " لما رجعنا من غزوة الحديبية ، وقد حيل بيننا وبين
نسكنا ، قال : فنحن بين الحزن والكآبة ، قال : فأنزل الله عزّ وجلّ : ( إِنَّا
فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ
ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا
مُسْتَقِيمًا ) ، أو كما شاء الله ، فقال نبيّ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم
: لَقَدْ أُنزلَتْ عَليَّ آيَةٌ أحَبُّ إلي مِنَ الدُّنْيَا جَمِيعا " .
(22/199)
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا ابن أبي
عديّ ، عن سعيد بن أبي عروبة ، عن قتادة ، عن أنس بن مالك ، في قوله( إِنَّا
فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا ) قال : نزلت على النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ
وَسَلَّم مرجعه من الحديبية ، وقد حيل بينهم وبين نسكهم ، فنحر الهدي بالحديبية ،
وأصحابه مخالطو الكآبة والحزن ، فقال : لَقَدْ أُنزلَتْ عَلي آيَةٌ أحَبُّ إليَّ
مِنَ الدُّنْيَا جَمِيعا ، فَقَرَأَ( إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا
لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ )... إلى
قوله( عَزِيزًا ) فقال أصحابه هنيئا لك يا رسول الله قد بين الله لنا ماذا يفعل بك
، فماذا يفعل بنا ، فأنزل الله هذه الآية بعدها( لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ
وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا
)... إلى قوله( وَكَانَ ذَلِكَ عِنْدَ اللَّهِ فَوْزًا عَظِيمًا ).
حدثنا ابن المثنى ، قال : ثنا أبو داود ، قال : ثنا همام ، قال : ثنا قتادة ، عن
أنس ، قال : أُنزلت هذه الآية ، فذكر نحوه.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، عن أنس بنحوه ، غير أنه
قال في حديثه : " فَقال رجل من القوم : هنيئا لك مريئا يا رسول الله ، وقال
أيضا : فبين الله ماذا يفعل بنبيه عليه الصلاة والسلام ، وماذا يفعل بهم " .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، قال : "
ونزلت على النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم( لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا
تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ ) مرجعه من الحديبية ، فقال النبيّ
صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم : لَقَدْ نزلَتْ عَليَّ آيَةٌ أحَبُّ إليَّ مِمَّا
عَلى الأرْضِ ، ثم قرأها عليهم ، فقالوا : هنيئا مريئا يا نبيّ الله ، قد بين الله
تعالى ذكره لك ماذا يفعل بك ، فماذا يفعل بنا ؟ فنزلت عليه( لِيُدْخِلَ
الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ )...
إلى قوله( فَوْزًا عَظِيمًا ) " .
حدثنا ابن بشار وابن المثنى ، قالا ثنا محمد بن جعفر ، قال : ثنا شعبة ، عن قتادة
، عن عكرمة ، قال : لما نزلت هذه الآية( إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا
(22/200)
لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ
مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ
صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا ) قالوا : هنيئا مريئا لك يا رسول الله ، فماذا لنا ؟
فنزلت( لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ
تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ ).
حدثنا محمد بن المثنى ، قال : ثنا محمد بن جعفر ، قال : ثنا شعبة ، قال : سمعت
قتادة يحدّث عن أنس في هذه الآية( إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا ) قال :
الحديبية.
حدثنا ابن المثنى ، قال : ثنا يحيى بن حماد ، قال : ثنا أبو عوانة ، عن الأعمش ،
عن أبي سفيان ، عن جابر قال : ما كنا نعدّ فتح مكة إلا يوم الحديبية.
حدثنا أبو كُريب ، قال : ثنا يعلى بن عبيد ، عن عبد العزيز بن سياه ، عن حبيب بن
أبي ثابت ، عن أبي وائل ، قال : تكلم سهل بن حنيف يوم صفِّين ، فقال : يا أيها
الناس اتهموا أنفسكم ، لقد رأيتنا يوم الحديبية ، يعني الصلح الذي كان بين رسول
الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم وبين المشركين ، ولو نرى قتالا لقاتلنا ، فجاء
عمر إلى رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم ، فقال : يا رسول الله ، ألسنا
على حق وهم على باطل ؟ أليس قتلانا في الجنة وقتلاهم في النار ؟ قال : بَلى ، قال
: ففيم نعطى الدنية في ديننا ، ونرجع ولما يحكم الله بيننا وبينهم ؟ فقال : يا
ابْنَ الخَطَّابِ ، إنّي رَسُولُ الله ، وَلَنْ يُضَيَّعَنِي أَبَدًا " ، قال
: فرجع وهو متغيظ ، فلم يصبر حتى أتى أبا بكر ، فقال : يا أبا بكر ألسنا على حقّ
وهم على باطل ؟ أليس قتلانا في الجنة ، وقتلاهم في النار ؟ قال : بلى ، قال : ففيم
نعطي الدنية في ديننا ، ونرجع ولمَّا يحكم الله بيننا وبينهم ؟ فقال : يا ابن الخطاب
إنه رسول الله ، لَن يضيعه الله أبدأ ، قال : فنزلت سورة الفتح ، فأرسل رسول الله
صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم إلى عمر ، فأقرأه إياها ، فقال : يا رسول الله ،
أوفتح هو ؟ قال : نَعَمْ " .
حدثني يحيى بن إبراهيم المسعودي ، قال : ثنا أبي ، عن أبيه ، عن جدّه ،
(22/201)
عن الأعمش ، عن أبي سفيان ، عن جابر ،
قال : ما كنا نعد الفتح إلا يوم الحديبية.
حدثنا ابن وكيع ، قال : ثنا أبي ، عن إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن البراء ، قال :
تعدّون أنتم الفتح فتح مكة ، وقد كان فتح مكة فتحا ، ونحن نعدّ الفتح بيعة الرضوان
يوم الحديبية ، كنا مع رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم خمس عشرة مِئة ،
والحديبية : بئر.
حدثني موسى بن سهل الرملي ، ثنا محمد بن عيسى ، قال : ثنا مُجَمع بن يعقوب
الأنصاري ، قال : سمعت أبي يحدّث عن عمه عبد الرحمن بن يزيد ، عن عمه مجمِّع بن
جارية الأنصاري ، وكان أحد القرّاء الذين قرءوا القرآن ، قال : " شهدنا
الحديبية مع رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم ، فلما انصرفنا عنها ، إذا
الناس يهزّون الأباعر ، فقال بعض الناس لبعض : ما للناس ، قالوا : أوحي إلى رسول
الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم( إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا
لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ) فقال رجل : أوَفتح هو يا رسول الله ؟ قال : نَعَمْ ،
والَذِّي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنَّهُ لَفَتْحٌ ، قال : فَقُسِّمَت خيبر على أهل
الحديبية ، لم يدخل معهم فيها أحد إلا من شهد الحديبية ، وكان الجيش ألفا وخمسمائة
، فيهم ثلاث مئة فارس ، فقسمها رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم على
ثمانية عشر سهما ، فأعطى الفارس سهمين ، وأعطى الراجل سهما " .
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا جرير ، عن مغيرة ، عن الشعبيّ ، قال : " نزلت(
إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا ) بالحديبية ، وأصاب في تلك الغزوة ما لم
يصبه في غزوة ، أصاب أن بُويع بيعة الرضوان ، وغفر له ما تقدّم من ذنبه وما تأخر ،
وظهرت الروم على فارس ، وبلغ الهَدْيُ مَحِله ، وأطعموا نخل خبير ، وفرح المؤمنون
بتصديق النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم ، وبظهور الروم على فارس " .
وقوله تعالى( وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ ) بإظهاره إياك على عدوّك ، ورفعه
ذكرك في الدنيا ، وغفرانه ذنوبك في الآخرة( وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا )
يقول : ويرشدك
(22/202)
هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (4)
طريقا من الدين لا اعوجاج فيه ، يستقيم
بك إلى رضا ربك( وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا ) يقول : وينصرك على سائر
أعدائك ، ومن ناوأك نصرا ، لا يغلبه غالب ، ولا يدفعه دافع ، للبأس الذي يؤيدك
الله به ، وبالظفر الذي يمدّك به.
القول في تأويل قوله تعالى : { هُوَ الَّذِي أَنزلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ
الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ
السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (4) }
يعني جلّ ذكره بقوله( هُوَ الَّذِي أَنزلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ
الْمُؤْمِنِينَ ) الله أنزل السكون والطمأنينة في قلوب المؤمنين بالله ورسوله إلى
الإيمان ، والحقّ الذي بعثك الله به يا محمد. وقد مضى ذكر اختلاف أهل التأويل في
معنى السكينة قبل ، والصحيح من القول في ذلك بالشواهد المغنية ، عن إعادتها في هذا
الموضع.
( لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ ) يقول : ليزدادوا بتصديقهم بما جدّد
الله من الفرائض التي ألزمهموها ، التي لم تكن لهم لازمة( إيمانا مع إيمانهم )
يقول : ليزدادوا إلى إيمانهم بالفرائض التي كانت لهم لازمة قبل ذلك.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : ثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، في
قوله( هُوَ الَّذِي أَنزلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ ) قال :
السكينة : الرحمة( لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ ) قال : إن الله جلّ
ثناؤه بعث نبيه محمدا صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم بشهادة أن لا إله إلا الله ،
فلما صدّقوا بها زادهم الصلاة ، فلما صدّقوا بها زادهم الصيام ، فلما صدّقوا به زادهم
الزكاة ، فلما صدّقوا بها زادهم الحجّ ، ثم أكمل لهم دينهم ، فقال( الْيَوْمَ
أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي ) قال ابن عباس :
فأوثق إيمان أهل الأرض وأهل
(22/203)
لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَكَانَ ذَلِكَ عِنْدَ اللَّهِ فَوْزًا عَظِيمًا (5)
السموات وأصدقه وأكمله شهادة أن لا إله
إلا الله.
وقوله( وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ ) يقول تعالى ذكره : ولله جنود
السموات والأرض أنصار ينتقم بهم ممن يشاء من أعدائه( وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا
حَكِيمًا ) يقول تعالى ذكره : ولم يزل الله ذا علم بما هو كائن قبل كونه ، وما
خلقه عاملوه ، حكيما في تدبيره.
القول في تأويل قوله تعالى : { لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ
جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَيُكَفِّرَ
عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَكَانَ ذَلِكَ عِنْدَ اللَّهِ فَوْزًا عَظِيمًا (5) }
يقول تعالى ذكره : إنا فتحنا لك فتحا مبينا ، لتشكر ربك ، وتحمده على ذلك ، فيغفر
لك ما تقدّم من ذنبك وما تأخر ، وليحمد ربهم المؤمنون بالله ، ويشكروه على إنعامه
عليهم بما أنعم به عليهم من الفتح الذي فتحه ، وقضاه بينهم وبين أعدائهم من
المشركين ، بإظهاره إياهم عليهم ، فيدخلهم بذلك جنات تجري من تحتها الأنهار ،
ماكثين فيها إلى غير نهاية وليكفر عنهم سيئ أعمالهم بالحسنات التي يعملونها شكرا
منهم لربهم على ما قضى لهم ، وأنعم عليهم به( وَكَانَ ذَلِكَ عِنْدَ اللَّهِ
فَوْزًا عَظِيمًا ) يقول تعالى ذكره : وكان ما وعدهم الله به من هذه العدة ، وذلك
إدخالهم جنات تجري من تحتها الأنهار ، وتكفيره سيئاتهم بحسنات أعمالهم التي يعملونها
عند الله لهم( فَوْزًا عَظِيمًا ) يقول : ظفرا منهم بما كانوا تأمَّلوه ويسعون له
، ونجاة مما كانوا يحذرونه من عذاب الله عظيما. قد تقدم ذكر الرواية أن هذه الآية
نزلت لما قال المؤمنون لرسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم ، أو تلا عليهم
قول الله عزّ وجلّ( إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا لِيَغْفِرَ لَكَ
اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ ) هذا لك يا رسول الله ،
فماذا لنا ؟ تبيينا من الله لهم ما هو فاعل بهم.
حدثنا عليّ ، قال : ثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن
(22/204)
وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (6) وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (7)
ابن عباس ، في قوله( لِيُدْخِلَ
الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ )...
إلى قوله( وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ ) فأعلم الله سبحانه نبيه عليه
الصلاة والسلام.
قوله( لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ) على اللام من قوله(
لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ ) بتأويل تكرير الكلام(
إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ) ، إنا فتحنا لك
ليدخل المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار ، ولذلك لم تدخل الواو التي
تدخل في الكلام للعطف ، فلم يقل : وليدخل المؤمنين.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ
وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ
عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ
وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (6) وَلِلَّهِ جُنُودُ
السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (7) }
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم : إنا فتحنا لك فتحا
مبينا ليغفر لك الله ، وليدخل المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار ،
وليعذّب المنافقين والمنافقات ، بفتح الله لك يا محمد ، ما فتح لك من نصرك على
مشركي قريش ، فيكبتوا لذلك ويحزنوا ، ويخيب رجاؤهم الذي كانوا يرجون من رؤيتهم في
أهل الإيمان بك من الضعف والوهن والتولي عنك في عاجل الدنيا ، وصلي النار والخلود
فيها في آجل الآخرة( وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ ) يقول : وليعذب كذلك أيضا
المشركين والمشركات( الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ) أنه لن ينصرك ، وأهل الإيمان بك على
أعدائك ، ولن يظهر كلمته فيجعلها العليا على كلمة الكافرين به ، وذلك كان السوء من
ظنونهم التي ذكرها الله في هذا الموضع ، يقول تعالى ذكره : على المنافقين
والمنافقات ، والمشركين والمشركات الذين ظنوا هذا الظن دائرة السوء ، يعني دائرة
العذاب تدور عليهم به.
(22/205)
إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (8) لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (9)
واختلفت القرّاء في قراءة ذلك ، فقرأته
عامة قرّاء الكوفة( دَائِرَةُ السَّوْءِ ) بفتح السين. وقرأ بعض قرّاء البصرة(
دائِرَةُ السُّوءِ ) بضم السين. وكان الفرّاء يقول : الفتح أفشى في السين; قال :
وقلما تقول العرب دائرة السُّوء بضم السين ، والفتح في السين أعجب إليّ من الضم ،
لأن العرب تقول : هو رجل سَوْء ، بفتح السين; ولا تقول : هو رجل سُوء.
وقوله( وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ) يقول : ونالهم الله بغضب منه ، ولعنهم :
يقول : وأبعدهم فأقصاهم من رحمته( وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ ) يقول : وأعدّ لهم
جهنم يصلونها يوم القيامة( وَسَاءَتْ مَصِيرًا ) يقول : وساءت جهنم منزلا يصير
إليه هؤلاء المنافقون والمنافقات ، والمشركون والمشركات.
وقوله( وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ ) يقول جلّ ثناؤه : ولله جنود
السماوات والأرض أنصارا على أعدائه ، إن أمرهم بإهلاكهم أهلكوهم ، وسارعوا إلى ذلك
بالطاعة منهم له( وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا ) يقول تعالى ذكره : ولم يزل الله
ذا عزّة ، لا يغلبه غالب ، ولا يمتنع عليه مما أراده به ممتنع ، لعظم سلطانه
وقدرته ، حكيم في تدبيره خلقه.
القول في تأويل قوله تعالى : { إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا
وَنَذِيرًا (8) لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ
وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلا (9) }
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم( إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ
) يا محمد( شَاهِدًا ) على أمتك بما أجابوك فيما دعوتهم إليه ، مما أرسلتك به
إليهم من الرسالة ، ومبشرا لهم بالجنة إن أجابوك إلى ما دعوتهم إليه من الدين
القيم ، ونذيرا لهم عذاب الله إن هم تولَّوْا عما جئتهم به من عند ربك.
ثم اختلفت القرّاء في قراءة قوله( لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ
وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ ) فقرأ جميع ذلك عامة قرّاء الأمصار
خلا أبي جعفر المدني وأبي
(22/206)
عمرو بن العلاء بالتاء( لِتُؤْمِنُوا -
وَتُعَزِّرُوهُ - وَتُوَقِّرُوهُ - وَتُسَبِّحُوهُ ) بمعنى : لتؤمنوا بالله ورسوله
أنتم أيها الناس وقرأ ذلك أبو جعفر وأبو عمرو كله بالياء( لِيُؤْمِنُوا -
وَيُعَزِّرُوهُ - وَيُوَقِّرُوهُ - وَيُسَبِّحُوهُ ) بمعنى : إنا أرسلناك شاهدا
إلى الخلق ليؤمنوا بالله ورسوله ويعزّروه.
والصواب من القول في ذلك : أن يقال : إنهما قراءتان معروفتان صحيحتا المعنى ،
فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله( إِنَّا
أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا ) يقول : شاهدا على أمته على أنه
قد بلغهم ومبشرا بالجنة لمن أطاع الله ، ونذيرا من النار.
وقوله( وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ ) اختلف أهل التأويل في تأويله ، فقال بعضهم
: تجلوه ، وتعظموه.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ،
عن ابن عباس( وَتُعَزِّرُوهُ ) يعني : الإجلال( وَتُوَقِّرُوهُ ) يعني : التعظيم.
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك
يقول في قوله( وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ ) كل هذا تعظيم وإجلال.
وقال آخرون : معنى قوله( وَتُعَزِّرُوهُ ) : وينصروه ، ومعنى( وَتُوَقِّرُوهُ )
ويفخموه.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( وَتُعَزِّرُوهُ ) :
(22/207)
ينصروه( وَتُوَقِّرُوهُ ) ) أمر الله
بتسويده وتفخيمه.
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، في قوله(
وَتُعَزِّرُوهُ ) قال : ينصروه ، ويوقروه : أي ليعظموه.
حدثني أبو هريرة الضُّبَعيّ ، قال : ثنا حرميّ ، عن شعبة ، عن أبي بشر ، جعفر بن
أبي وحشية ، عن عكرِمة( وَتُعَزِّرُوهُ ) قال : يقاتلون معه بالسيف.
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : ثني هشيم ، عن أبي بشر ، عن عكرِمة ، مثله.
حدثني أحمد بن الوليد ، قال : ثنا عثمان بن عمر ، عن سعيد ، عن أبي بشر ، عن عكرمة
، بنحوه.
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا يحيى ومحمد بن جعفر ، قالا ثنا شعبة ، عن أبي بشر ، عن
عكرِمة ، مثله.
وقال آخرون : معنى ذلك : ويعظموه.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله( وَتُعَزِّرُوهُ
وَتُوَقِّرُوهُ ) قال : الطاعة لله.
وهذه الأقوال متقاربات المعنى ، وإن اختلفت ألفاظ أهلها بها. ومعنى التعزير في هذا
الموضع : التقوية بالنُّصرة والمعونة ، ولا يكون ذلك إلا بالطاعة والتعظيم
والإجلال.
وقد بيَّنا معنى ذلك بشواهده فيما مضى بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع.
فأما التوقير : فهو التعظيم والإجلال والتفخيم.
وقوله( وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلا ) يقول : وتصلوا له يعني لله بالغدوات
(22/208)
والعشيات.
والهاء في قوله( وَتُسَبِّحُوهُ ) من ذكر الله وحده دون الرسول. وقد ذُكر أن ذلك
في بعض القراءات : ( وَيُسَبِحُوا الله بُكْرَةً وَأَصِيلا ).
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً
وَأَصِيلا ) في بعض القراءة( ويسبحوا الله بكرة وأصيلا ).
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة في بعض الحروف(
وَيُسَبِحُوا الله بُكْرَةً وَأَصِيلا ).
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك
يقول في قوله : ( وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلا ) يقول : يسبحون الله رجع إلى
نفسه.
(22/209)
إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (10)
القول في تأويل قوله تعالى : { إِنَّ
الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ
أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى
بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (10) }
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم : ( إِنَّ الَّذِينَ
يُبَايِعُونَكَ ) بالحديبية من أصحابك على أن لا يفرّوا عند لقاء العدوّ ، ولا
يولُّوهم الأدبار( إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ ) يقول : إنما يبايعون ببيعتهم
إياك الله ، لأن الله ضمن لهم الجنة بوفائهم له بذلك.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث ، قال :
ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ،
(22/209)
عن مجاهد قوله( إِنَّ الَّذِينَ
يُبَايِعُونَكَ ) قال : يوم الحديبية.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله( إِنَّ الَّذِينَ
يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ
فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ ) وهم الذين بايعوا يوم
الحديبية.
وفي قوله( يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ ) وجهان من التأويل : أحدهما : يد الله
فوق أيديهم عند البيعة ، لأنهم كانوا يبايعون الله ببيعتهم نبيه صَلَّى الله
عَلَيْهِ وَسَلَّم ; والآخر : قوّة الله فوق قوّتهم في نصرة رسوله صَلَّى الله
عَلَيْهِ وَسَلَّم ، لأنهم إنما بايعوا رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم
على نُصرته على العدو.
وقوله( فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ ) يقول تعالى ذكره : فمن
نكث بيعته إياك يا محمد ، ونقضها فلم ينصرك على أعدائك ، وخالف ما وعد ربه(
فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ ) يقول : فإنما ينقض بيعته ، لأنه بفعله ذلك
يخرج ممن وعده الله الحنة بوفائه بالبيعة ، فلم يضرّ بنكثه غير نفسه ، ولم ينكث
إلا عليها ، فأما رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم فإن الله تبارك وتعالى
ناصره على أعدائه ، نكث الناكث منهم ، أو وفى ببيعته.
وقوله( وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ )... الآية ، يقول تعالى
ذكره : ومن أوفى بما عاهد الله عليه من الصبر عند لقاء العدوّ في سبيل الله ونُصرة
نبيه صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم على أعدائه( فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا )
يقول : فسيعطيه الله ثوابا عظيما ، وذلك أن يُدخله الجنة جزاء له على وفائه بما
عاهد عليه الله ، ووثق لرسوله على الصبر معه عند البأس بالمؤكدة من الأيمان.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا
عَظِيمًا ) وهي الجنة.
(22/210)
سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا بَلْ كَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (11)
القول في تأويل قوله تعالى : {
سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الأعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا
وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي
قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ
بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا بَلْ كَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ
خَبِيرًا (11) }
يقول تعالى ذكره لنييه محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم : سيقول لك يا محمد الذين
خلفهم الله في أهليهم عن صحبتك ، والخروج معك في سفرك الذي سافرت ، ومسيرك الذي
سرت إلى مكة معتمرا ، زائرا بيت الله الحرام إذا انصرفت إليهم ، فعاتبتهم على
التخلف عنك ، شغلتنا عن الخروج معك معالجة أموالنا ، وإصلاح معايشنا وأهلونا ،
فاستغفر لنا ربنا لتخلُّفنا عنك ، قال الله جل ثناؤه مكذبهم في قيلهم ذلك : يقول
هؤلاء الأعراب المخلَّفون عنك بألسنتهم ما ليس في قلوبهم ، وذلك مسألتهم رسول الله
صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم الاستغفار لهم ، يقول : يسألونه بغير توبة منهم ولا
ندم على ما سلف منهم من معصية الله في تخلفهم عن صحبة رسول الله صَلَّى الله
عَلَيْهِ وَسَلَّم والمسير معه( قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا ) يقول
تعالى ذكره لنبيه : قل لهؤلاء الأعراب الذين يسألونك أن تستغفر لهم لتخلفهم عنك :
إن أنا استغفرت لكم أيها القوم ، ثم أراد الله هلاككم أو هلاك أموالكم وأهليكم ،
أو أراد بكم نفعا بتثميره أموالكم وإصلاحه لكم أهليكم ، فمن ذا الذي يقدر على دفع
ما أراد الله بكم من خير أو شرّ ، والله لا يعازّه أحد ، ولا يغالبه غالب.
وقوله( بَلْ كَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا ) يقول تعالى ذكره : ما
الأمر كما يظن هؤلاء المنافقون من الأعراب أن الله لا يعلم ما هم عليها منطوون من
النفاق ، بل لم يزل الله بما يعملون من خير وشرّ خبيرا ، لا تخفى عليه شيء من
أعمال خلقه ، سرّها وعلانيتها ، وهو محصيها عليهم حتى يجازيهم بها ، وكان رسول
الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم فيما ذُكر عنه حين أراد المسير إلى مكة عام
الحُديبية معتمرا
(22/211)
بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْمًا بُورًا (12)
استنفر العرب ومن حول مدينته من أهل
البوادي والأعراب ليخرجوا معه حذرا من قومه قريش أن يعرضوا له الحرب ، أو يصدّوه
عن البيت ، وأحرم هو صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم بالعمرة ، وساق معه الهدي ،
ليعلم الناس أنه لا يريد حربا ، فتثاقل عنه كثير من الأعراب ، وتخلَّفوا خلافه فهم
الذين عَنَى الله تبارك وتعالى بقوله( سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ
الأعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا )... الآية.
وكالذي قلنا في ذلك قال أهل العلم بسير رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم
ومغازيه ، منهم ابن إسحاق.
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة عن ابن إسحاق بذلك. حدثنا محمد بن عمرو ، قال :
ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا
ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله( سَيَقُولُ لَكَ
الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الأعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا ) قال :
أعراب المدينة : جهينة ومزينة ، استتبعهم لخروجه إلى مكة ، قالوا : نذهب معه إلى
قوم قد جاءوه ، فقتلوا أصحابه فنقاتلهم ! فاعتلوا بالشغل.
واختلفت القرّاء في قراءة قوله( إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا ) فقرأته قرّاء
المدينة والبصرة وبعض قرّاء الكوفة( ضَرًّا ) بفتح الضاد ، بمعنى : الضّر الذي هو
خلاف النفع. وقرأ ذلك عامة قرّاء الكوفيين( ضُرّا ) بضم الضاد ، بمعنى البؤس
والسَّقم.
وأعجب القراءتين إليّ الفتح في الضاد في هذا الموضع بقوله( أَوْ أَرَادَ بِكُمْ
نَفْعًا ) ، فمعلوم أن خلاف النفع الضرّ ، وإن كانت الأخرى صحيحا معناها.
القول في تأويل قوله تعالى : { بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ
وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ
وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْمًا بُورًا (12) }
(22/212)
يقول تعالى ذكره لهؤلاء الأعراب
المعتذرين إلى رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم عند منصرَفه من سفره إليهم
بقولهم( شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا ) ما تخلفتم خلاف رسول الله صَلَّى
الله عَلَيْهِ وَسَلَّم حين شخص عنكم ، وقعدتم عن صحبته من أجل شغلكم بأموالكم
وأهليكم ، بل تخلفتم بعده في منازلكم ، ظنا منكم أن رسول الله صَلَّى الله
عَلَيْهِ وَسَلَّم ومن معه من أصحابه سيهلكون ، فلا يرجعون إليكم أبدا باستئصال
العدوّ إياهم وزيِّن ذلك في قلوبكم ، وحسَّن الشيطان ذلك في قلوبكم ، وصححه عندكم
حتى حسُن عندكم التخلف عنه ، فقعدتم عن صحبته( وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ )
يقول : وظننتم أن الله لن ينصر محمدا صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم وأصحابه
المؤمنين على أعدائهم ، وأن العدوّ سيقهرونهم ويغلبونهم فيقتلونهم.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله( سَيَقُولُ لَكَ
الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الأعْرَابِ )... إلى قوله( وَكُنْتُمْ قَوْمًا بُورًا ) قال
: ظنوا بنبيّ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم وأصحابه أنهم لن يرجعوا من وجههم
ذلك ، وأنهم سيهلكون ، فذلك الذي خلفهم عن نبيّ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ
وَسَلَّم.
وقوله( وَكُنْتُمْ قَوْمًا بُورًا ) يقول : وكنتم قوما هَلْكى لا يصلحون لشيء من
خير. وقيل : إن البور في لغة أذرعات : الفاسد; فأما عند العرب فإنه لا شيء. ومنه
قول أبي الدرداء : فأصبح ما جمعوا بُوْرا أي ذاهبا قد صار باطلا لا شيء منه; ومنه
قول حسان بن ثابت :
لا يَنْفَعُ الطُّولُ مِن نُوك القُلوب وقدْ... يَهْدِي الإلَهُ سَبِيلَ المَعْشَر
البُورِ (1)
__________
(1) البيت لحسان بن ثابت يهجو قوما بأن طول أجسامهم لا خير فيه ما داموا ذوى نوك
أي حمق . والبور : الهلكى . قال في ( اللسان : بور ) ورجل بور وكذلك الاثنان
والجمع والمؤنث . وفي التنزيل : " وكنتم قومًا بورا " قال : وقد يكون
بور هنا جمع بائر ، مثل حول وحائل . وحكى الأخفش عن بعضهم أنه لغة وليس بجمع لبائر
، كما يقال : أنت بشر ، وأنتم بشر . قال : وقال الفراء في قوله " وكنتم قوما
بورا " : البور : مصدر يكون واحد وجمعا . وفي معاني القرآن ( الورقة 305 ) عن
ابن عباس قال : البور في لغة أزد عمان : الفاسد ، " وكنتم قوما بورا " :
قوما فاسدين . والبور في كلام العرب : " لا شيء " . ويقال أصبحت أعمالهم
بورا ، ومساكنهم قبورا .
(22/213)
وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَعِيرًا (13) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (14)
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل
التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله( وَكُنْتُمْ
قَوْمًا بُورًا ) قال : فاسدين. وحدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال
ابن زيد ، في قوله( وَكُنْتُمْ قَوْمًا بُورًا ) قال : البور الذي ليس فيه من
الخير شيء.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث ، قال :
ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله(
وَكُنْتُمْ قَوْمًا بُورًا ) قال : هالكين.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ
فَإِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَعِيرًا (13) وَلِلَّهِ مُلْكُ
السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ
وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (14) }
يقول تعالى ذكره لهؤلاء المنافقين من الأعراب ، ومن لم يؤمن أيها الأعراب بالله
ورسوله منكم ومن غيركم ، فيصدّقه على ما أخبر به ، ويقرّ بما جاء به من الحقّ من
عند ربه ، فإنا أعددنا لهم جميعا سعيرا من النار تستعر عليهم في جهنم إذا وردوها
يوم القيامة; يقال من ذلك : سعرت النار : إذا أوقدتها ، فأنا أسعرها سعرا; ويقال :
سعرتها أيضا إذا حرّكتها. وإنما قيل للمِسْعر مِسْعر ، لأنه يحرّك به النار ، ومنه
قولهم : إنه لمِسْعر حرب : يراد به موقدها ومهيجها.
وقوله( وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ ) يقول تعالى ذكره : ولله سلطان
السموات والأرض ، فلا أحد يقدر أيها المنافقون على دفعه عما أراد بكم من تعذيب على
نفاقكم إن أصررتم عليه أو منعه من عفوه عنكم إن عفا ، إن أنتم
(22/214)
سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا بَلْ كَانُوا لَا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلًا (15)
تبتم من نفاقكم وكفركم ، وهذا من الله
جلّ ثناؤه حثّ لهؤلاء الأعراب المتخلفين عن رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ
وَسَلَّم على التوبة والمراجعة إلى أمر الله في طاعة رسوله صَلَّى الله عَلَيْهِ
وَسَلَّم ، يقول لهم : بادروا بالتوبة من تخلفكم عن رسول الله صَلَّى الله
عَلَيْهِ وَسَلَّم ، فإن الله يغفر للتائبين( وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا )
يقول : ولم يزل الله ذا عفو عن عقوبة التائبين إليه من ذنوبهم ومعاصيهم من عباده ،
وذا رحمة بهم أن يعاقبهم على ذنوبهم بعد توبتهم منها.
القول في تأويل قوله تعالى : { سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ
إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ
يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ
مِنْ قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا بَلْ كَانُوا لا يَفْقَهُونَ إِلا
قَلِيلا (15) }
يقول تعالى ذكره لنييه محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم : سيقول يا محمد
المخلفون في أهليهم عن صحبتك إذا سرت معتمرا تريد بيت الله الحرام ، إذا انطلقت
أنت ومن صحبك في سفرك ذلك إلى ما أفاء الله عليك وعليهم من الغنيمة(
لِتَأْخُذُوهَا ) وذلك ما كان الله وعد أهل الحديبية من غنائم خيبر( ذَرُونَا
نَتَّبِعْكُمْ ) إلى خيبر ، فنشهد معكم قتال أهلها( يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا
كَلامَ اللَّهِ ) يقول : يريدون أن يغيروا وعد الله الذي وعد أهل الحديبية ، وذلك
أن الله جعل غنائم خيبر لهم ، ووعدهم ذلك عوضا من غنائم أهل مكة إذا انصرفوا عنهم
على صلح ، ولم يصيبوا منهم شيئا.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث ، قال :
ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قال : رجع ،
يعني رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم عن مكة ،
(22/215)
فوعده الله مغانم كثيرة ، فعجلت له
خيبر ، فقال المخلفون( ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ
اللَّهِ ) وهي المغانم ليأخذوها ، التي قال الله جلّ ثناؤه( إِذَا انْطَلَقْتُمْ
إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ) وعرض عليهم قتال قوم أولي بأس شديد.
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن رجل من أصحابه ، عن مقسم
قال : لما وعدهم الله أن يفتح عليهم خيبر ، وكان الله قد وعدها من شهد الحديبية لم
يعط أحدا غيرهم منها شيئا ، فلما علم المنافقون أنها الغنيمة قالوا( ذَرُونَا
نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ ) يقول : ما وعدهم.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( سَيَقُولُ
الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ ).... الآية ، وهم الذين تخلفوا عن رسول الله
صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم من الحديبية. ذُكر لنا أن المشركين لما صدّوا رسول
الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم من الحديبية عن المسجد الحرام والهدي ، قال
المقداد : يا نبيّ الله ، إنا والله لا نقول كالملأ من بني إسرائيل إذ قالوا
لنبيهم( فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَا هُنَا قَاعِدُونَ ) ولكن
نقول : اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون; فلما سمع ذلك أصحاب نبيّ الله
صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم تبايعوا على ما قال; فلما رأى ذلك نبيّ الله صَلَّى
الله عَلَيْهِ وَسَلَّم صالح قريشا ، ورجع من عامه ذلك " .
وقال آخرون : بل عنى بقوله( يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ ) إرادتهم
الخروج مع نبيّ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم في غزوه ، وقد قال الله تبارك
وتعالى( فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ
عَدُوًّا ).
* ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : ( سَيَقُولُ
الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا
نَتَّبِعْكُمْ )... الآية ، قال الله عزّ وجلّ حين رجع من غزوه ، (
فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَنْ
تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا ) .... الآية يريدون أن يبدّلوا
(22/216)
كلام الله : أرادوا أن يغيروا كلام
الله الذي قال لنبيه صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم ويخرجوا معه وأبى الله ذلك
عليهم ونبيه صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم.
وهذا الذي قاله ابن زيد قول لا وجه له ، لأن قول الله عزّ وجلّ( فَاسْتَأْذَنُوكَ
لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ
عَدُوًّا ) إنما نزل على رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم مُنْصَرَفَه من
تَبوك ، وعُنِي به الذين تخلَّفوا عنه حين توجه إلى تبوك لغزو الروم ، ولا اختلاف
بين أهل العلم بمغازي رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم أن تبوك كانت بعد
فتح خيبر وبعد فتح مكة أيضا ، فكيف يجوز أن يكون الأمر على ما وصفنا معنيا بقول
الله( يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ ) وهو خبر عن المتخلفين عن
المسير مع رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم ، إذ شخص معتمرا يريد البيت ،
فصدّه المشركون عن البيت ، الذين تخلَّفوا عنه في غزوة تبوك ، وغزوة تبوك لم تكن
كانت يوم نزلت هذه الآية ، ولا كان أُوحِيَ إلى رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ
وَسَلَّم قوله( فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ
أَبَدًا وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا ).
فإذ كان ذلك كذلك ، فالصواب من القول في ذلك : ما قاله مجاهد وقتادة على ما قد
بيَّنا.
واختلفت القرّاء في قراءة قوله( يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ )
فقرأ ذلك عامة قرّاء المدينة والبصرة ، وبعض قرّاء الكوفة( كَلامَ اللهِ ) على وجه
المصدر ، بإثبات الألف. وقرأ ذلك عامة قرّاء الكوفة( كَلِمَ اللهِ ) بغير ألف ،
بمعنى جمع كلمة ، وهما عندنا قراءتان مستفيضتان في قراءة الأمصار ، متقاربتا
المعنى ، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب ، وإن كنتُ إلى قراءته بالألف أَمْيل.
وقوله( قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ ) يقول
تعالى ذكره لنبيه محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم : قل لهؤلاء المخلفين عن
المسير معك يا محمد : لن تتبعونا إلى خيبر إذا أردنا السير إليهم لقتالهم(
كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ ) يقول : هكذا قال الله لنا من قبل
مَرْجِعنا إليكم ، إن غنيمة خيبر لمن شهد الحديبية معنا ،
(22/217)
ولستم ممن شهدها ، فليس لكم أن
تَتَّبعونا إلى خيبر ، لأن غنيمتها لغيركم.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله( كَذَلِكُمْ قَالَ
اللَّهُ مِنْ قَبْلُ ) أي إنما جعلت الغنيمة لأهل الجهاد ، وإنما كانت غنيمة خيبر
لمن شهد الحديبية ليس لغيرهم فيها نصيب.
وقوله( فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا ) أن نصيب معكم مغنما إن نحن شهدنا
معكم ، فلذلك تمنعوننا من الخروج معكم.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله( فَسَيَقُولُونَ
بَلْ تَحْسُدُونَنَا ) أن نصيب معكم غنائم.
وقوله( بَلْ كَانُوا لا يَفْقَهُونَ إِلا قَلِيلا ) يقول تعالى ذكره لنبيه صَلَّى
الله عَلَيْهِ وَسَلَّم وأصحابه : ما الأمر كما يقول هؤلاء المنافقون من الأعراب
من أنكم إنما تمنعونهم من اتباعكم حسدا منكم لهم على أن يصيبوا معكم من العدوّ
مغنما ، بل كانوا لا يفقهون عن الله ما لهم وعليهم من أمر الدين إلا قليلا يسيرا ،
ولو عقلوا ذلك ما قالوا لرسول الله والمؤمنين به ، وقد أخبروهم عن الله تعالى ذكره
أنه حرمهم غنائم خيبر ، إنما تمنعوننا من صحبتكم إليها لأنكم تحسدوننا.
(22/218)
قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (16)
القول في تأويل قوله تعالى : { قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الأعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (16) }
(22/218)
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صَلَّى
الله عَلَيْهِ وَسَلَّم( قُلْ ) يا محمد( لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الأعْرَابِ ) عن
المسير معك ، ( سَتُدْعَوْنَ إِلَى ) قتال( قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ ) في القتال(
شَدِيدٍ ).
واختلف أهل التأويل في هؤلاء الذين أخبر الله عزّ وجلّ عنهم أن هؤلاء المخلفين من
الأعراب يُدْعَوْن إلى قتالهم ، فقال بعضهم : هم أهل فارس.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، عن محمد بن إسحاق ، عن عبد الله بن أبي نجيح ،
عن عطاء بن أبي رباح ، عن ابن عباس( أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ ) أهل فارس.
حدثنا إسماعيل بن موسى الفزاريّ ، قال : أخبرنا داود بن الزبرقان ، عن ثابت
البُنَانيّ ، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى ، في قوله( سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ
أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ ) قال : فارس والروم.
قال : أخبرنا داود ، عن سعيد ، عن الحسن ، مثله.
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، قال : قال الحسن
، في قوله( سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ ) قال : هم فارس
والروم.
حدثنا محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث ، قال :
ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله( أُولِي
بَأْسٍ شَدِيدٍ ) قال : هم فارس.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( سَتُدْعَوْنَ إِلَى
قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ ) قال : قال الحسن : دُعُوا إلى فارس والروم.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله( سَتُدْعَوْنَ
إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ ) قال : فارس والروم.
(22/219)
وقال آخرون : هم هَوازن بحُنين.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : ثنا هشيم ، قال : أخبرنا أبو بشر ، عن سعيد بن
جبير وعكرمة ، في قوله( سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ ) قال :
هوازن.
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا محمد بن جعفر ، قال : ثنا شعبة ، عن أبي بشر ، عن سعيد
بن جُبير وعكرمة في هذه الآية( سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ )
قال : هوازن وثقيف.
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة( أُولِي بَأْسٍ
شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ ) قال : هي هَوازن وغَطَفان يوم حُنين.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ
مِنَ الأعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ ) فدعوا يوم
حُنين إلى هوازن وثقيف فمنهم من أحسن الإجابة ورغب في الجهاد.
وقال آخرون : بل هم بنو حنيفة.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن الزهري( أُولِي بَأْسٍ
شَدِيدٍ ) قال بنو حنيفة مع مُسَيلمة الكذّاب.
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا محمد بن جعفر ، قال : ثنا شعبة ، عن هشيم ، عن أبي بشر
، عن سعيد بن جُبير وعكرِمة أنهما كانا يزيدان فيه هوازن وبني حنيفة.
وقال آخرون : لم تأت هذه الآية بعد.
(22/220)
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن الزهري ، عن أبي هريرة(
سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ ) لم تأت هذه الآية.
وقال آخرون : هم الروم.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عوف ، قال : ثنا أبو المغيرة ، قال : ثنا صفوان بن عمرو ، قال : ثنا
الفرج بن محمد الكلاعي ، عن كعب ، قال( أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ ) قال : الروم.
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال : إن الله تعالى ذكره أخبر عن هؤلاء
المخلَّفين من الأعراب أنهم سيدعون إلى قتال قوم أولي بأس في القتال ، ونجدة في
الحروب ، ولم يوضع لنا الدليل من خبر ولا عقل على أن المعنيَّ بذلك هوازن ، ولا
بنو حنيفة ولا فارس ولا الروم ، ولا أعيان بأعيانهم ، وجائز أن يكون عني بذلك بعض
هذه الأجناس ، وجائز أن يكون عُنِي بهم غيرهم ، ولا قول فيه أصحّ من أن يُقال كما
قال الله جلّ ثناؤه : إنهم سيدعون إلى قوم أولي بأس شديد.
وقوله( تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ ) يقول تعالى ذكره للمخلَّفين من
الأعراب تقاتلون هؤلاء الذين تُدعون إلى قتالهم ، أو يسلمون من غير حرب ولا قتال.
وقد ذُكر أن ذلك في بعض القراءات( تُقَاتِلُونَهُمْ أوْ يَسْلِمُوا ) ، وعلى هذه
القراءة وإن كانت على خلاف مصاحف أهل الأمصار ، وخلافا لما عليه الحجة من القرّاء
، وغير جائز عندي القراءة بها لذلك تأويل ذلك : تقاتلونهم أبدا إلا أن يسلموا ، أو
حتى يسلموا.
وقوله( فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا ) يقول تعالى ذكره فإن
تطيعوا الله في إجابتكم إياه إذا دعاكم إلى قتال هؤلاء القوم الأولي البأس الشديد
، فتجيبوا إلى قتالهم والجهاد مع المؤمنين( يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا )
يقول : يعطكم الله على إجابتكم إياه إلى حربهم الجنة ، وهي الأجر الحسن( وَإِنْ
تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ ) يقول : وإن تعصوا ربكم فتدبروا عن
طاعته وتخالفوا أمره ،
(22/221)
لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذَابًا أَلِيمًا (17)
فتتركوا قتال الأولي البأس الشديد إذا
دُعيتم إلى قتالهم( كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ ) يقول : كما عصيتموه في أمره
إياكم بالمسير مع رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم إلى مكة ، من قبل أن
تُدعَوا إلى قتال أولي البأس الشديد( يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا ) يعني :
وجيعا ، وذلك عذاب النار على عصيانكم إياه ، وترككم جهادهم وقتالهم مع المؤمنين.
القول في تأويل قوله تعالى : { لَيْسَ عَلَى الأعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الأعْرَجِ
حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ
يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ
يُعَذِّبْهُ عَذَابًا أَلِيمًا (17) }
يقول تعالى ذكره : ليس على الأعمى منكم أيها الناس ضيق ، ولا على الأعرج ضيق ، ولا
على المريض ضيق أن يتخلفوا عن الجهاد مع المؤمنين ، وشهود الحرب معهم إذا هم لقوا
عدوّهم ، للعلل التي بهم ، والأسباب التي تمنعهم من شهودها.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة( لَيْسَ عَلَى
الأعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الأعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ ) .
قال : هذا كله في الجهاد.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قال : ثُمَّ عذر الله
أهل العذر من الناس ، فقال : ( لَيْسَ عَلَى الأعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الأعْرَجِ
حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ ).
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله( لَيْسَ عَلَى
الأعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الأعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ )
(22/222)
لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا (18) وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (19)
قال : في الجهاد في سبيل الله.
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك
يقول في قوله( لَيْسَ عَلَى الأعْمَى حَرَجٌ )... الآية ، يعني في القتال.
وقوله( وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ
تَحْتِهَا الأنْهَارُ ) يقول تعالى ذكره : ومن يُطع الله ورسوله فيجيب إلى حرب
أعداء الله من أهل الشرك ، وإلى القتال مع المؤمنين ابتغاء وجه الله إذا دعي إلى
ذلك ، يُدخله الله يوم القيامة جنَّات تجري من تحتها الأنهار( وَمَنْ يَتَوَلَّ )
يقول : ومن يعص الله ورسوله ، فيتخلَّف عن قتال أهل الشرك بالله إذا دعي إليه ،
ولم يستجب لدعاء الله ورسوله يعذّبه عذابا موجعا ، وذلك عذاب جهنم يوم القيامة.
القول في تأويل قوله تعالى : { لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ
يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزلَ
السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا (18) وَمَغَانِمَ
كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (19) }
يقول تعالى ذكره : لقد رضي الله يا محمد عن المؤمنين( إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ
الشَّجَرَةِ ) يعني بيعة أصحاب رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم وسول الله
بالحديبية حين بايعوه على مناجزة قريش الحرب ، وعلى أن لا يفرّوا ، ولا يولوهم
الدبر تحت الشجرة ، وكانت بيعتهم إياه هنالك فيما ذكر تحت شجرة.
وكان سبب هذه البيعة ما قيل : إن رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم كان
أرسل عثمان بن عفان رضي الله عنه برسالته إلى الملإ من قريش ، فأبطأ عثمان عليه
بعض الإبطاء ، فظنّ أنه قد قتل ، فدعا أصحابه إلى تجديد البيعة على حربهم على ما
وصفت ، فبايعوه على ذلك ، وهذه البيعة التي تسمى بيعة الرضوان ،
(22/223)
وكان الذين بايعوه هذه البيعة فيما
ذُكر في قول بعضهم : ألفا وأربع مئة ، وفي قول بعضهم : ألفا وخمس مئة ، وفي قول
بعضهم : ألفا وثلاث مئة.
ذكر الرواية بما وصفنا من سبب هذه البيعة :
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، عن محمد بن إسحاق ، قال : ثني بعض أهل العلم أن
رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم دعا خراش بن أمية الخزاعي ، فبعثه إلى
قريش بمكة ، وحمله على جمل له يقال له الثعلب ، ليبلغ أشرافهم عنه ما جاء له ،
وذلك حين نزل الحديبية ، فعقروا به جمل رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم ،
وأرادوا قتله ، فمنعه الأحابيش فخلوا سبيله ، حتى أتى رسول الله صَلَّى الله
عَلَيْهِ وَسَلَّم .
قال : ثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، قال : فحدثني من لا أتهم ، عن عكرِمة مولى ابن
عباس : " أن رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم دعا عمر بن الخطاب
ليبعثه إلى مكة ، فيبلغ عنه أشراف قريش ما جاء له ، فقال : يا رسول الله إني أخاف
قريشا على نفسي ، وليس بمكة من بني عديّ بن كعب أحد يمنعني ، وقد عرفت قريش عداوتي
إياها ، وغلظتي عليهم ، ولكني أدلك على رجل هو أعزّ بها مني عثمان بن عفان ، فدعا
رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم عثمان ، فبعثه إلى أبي سفيان وأشراف قريش
يخبرهم أنه لم يأت لحرب ، وإنما جاء زائرا لهذا البيت ، معظما لحرمته ، فخرج عثمان
إلى مكة ، فلقيه أبان بن سعيد بن العاص حين دخل مكة أو قبل أن يدخلها ، فنزل عن
دابته ، فحمله بين يديه ، ثم ردفه وأجاره حتى بلغ رسالة رسول الله صَلَّى الله
عَلَيْهِ وَسَلَّم ، فانطلق عثمان حتى أتى أبا سفيان وعظماء قريش ، فبلغهم عن رسول
الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم ما أرسله به ، فقالوا لعثمان حين فرغ من رسالة
رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم : إن شئت أن تطوف بالبيت فطف به ، قال :
ما كنت لأفعل حتى يطوف به رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم ، فاحتبسته
قريش عندها ، فبلغ رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم والمسلمين أن عثمان قد
قُتل " .
(22/224)
قال : ثنا سلمة ، عن محمد بن إسحاق ،
قال : فحدثني عبد الله بن أبي بكر " أن رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ
وَسَلَّم حين بلغه أن عثمان قد قتل ، قال : لا نَبْرَحُ حتى نُناجِزَ القَوْمَ ،
ودعا الناس إلى البيعة ، فكانت بيعة الرضوان تحت الشجرة ، فكان الناس يقولون :
بايعهم رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم على الموت فكان جابر بن عبد الله
يقول : إن رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم لم يبايعنا على الموت ، ولكنه
بايعنا على أن لا نفر ، فبايع رسول الله الناسُ ، ولم يتخلف عنه أحد من المسلمين
حضرها إلا الجد بن قيس أخو بني سلمة ، كان جابر بن عبد الله يقول : لكأني أنظر
إليه لاصقا بإبط ناقته ، قد اختبأ إليها ، يستتر بها من الناس ، ثم أتى رسول الله صَلَّى
الله عَلَيْهِ وَسَلَّم أن الذي ذُكر من أمر عثمان باطل " .
حدثنا محمد بن عمارة الأسديّ ، قال : ثنا عبيد الله بن موسى ، قال : أخبرنا موسى
بن عبيدة ، عن إياس بن سلمة ، قال : قال سلمة : " بينما نحن قائلون زمن
الحديبية ، نادى منادي رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم : أيها الناس
البيعة البيعة ، نزل روح القدس صلوات الله عليه ، قال : فثرنا إلى رسول الله
صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم ، وهو تحت شجرة سمرة ، قال : فبايعناه ، وذلك قول
الله( لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ
الشَّجَرَةِ ).
جدثنا عبد الحميد بن بيان اليشكري ، قال : ثنا محمد بن يزيد ، عن إسماعيل ، عن
عامر ، قال : كان أوّل من بايع بيعة الرضوان رجل من بني أسد يقال له أبو سنان بن
وهب.
حدثنا ابن المثنى ، قال : ثنا يحيى بن حماد ، قال : ثنا همام ، عن قتادة ، عن سعيد
بن المسيب ، قال : كان جدّي يقال له حَزْن ، وكان ممن بايع تحت الشجرة ، فأتيناها
من قابل ، فعُمِّيت علينا.
حدثنا ابن المثنى ، قال : ثنا يحيى بن حماد ، قال : ثني يونس ، قال : أخبرنا ابن
وهب ، قال : أخبرني عمرو بن الحارث ، عن بُكير بن الأشجّ " أنه
(22/225)
بلغه أن الناس بايعوا رسول الله صَلَّى
الله عَلَيْهِ وَسَلَّم على الموت ، فقال رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم
: عَلَى ما اسْتَطَعْتُمْ . والشجرة التي بُويع تحتها بفج نحو مكة ، وزعموا أن عمر
بن الخطاب رضي الله عنه مرّ بذلك المكان بعد أن ذهبت الشجرة ، فقال : أين كانت ،
فجعل بعضهم يقول هنا ، وبعضهم يقول : ههنا ، فلما كثر اختلافهم قال : سيروا هذا
التكلف فذهبت الشجرة وكانت سمرة إما ذهب بها سيل ، وإما شيء سوى ذلك " .
* ذكر عدد الذين بايعوا هذه البيعة :
وقد ذكرنا اختلاف المختلفين في عددهم ، ونذكر الروايات عن قائلي المقالات التي
ذكرناها إن شاء الله تعالى.
* ذكر من قال : عددهم ألف وأربع مئة :
حدثني يحيى بن إبراهيم المسعودي ، قال : ثنا أبي ، عن أبيه ، عن جده ، عن الأعمش ،
عن أبي سفيان عن جابر ، قال : " كنا يوم الحُديبية ألفا وأربع مئة ، فبايعنا
رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم على أن لا نفرّ ، ولم نبايعه على الموت ،
قال : فبايعناه كلنا إلا الجدَّ بن قيس اختبأ تحت إبط ناقته " .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، أخبرني القاسم بن عبد
الله بن عمرو ، عن محمد بن المنكدر ، عن جابر بن عبد الله " أنهم كانوا يوم
الحُديبية أربع عشرة مئة ، فبايعنا رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم وعمر
آخذ بيده تحت
(22/226)
الشجرة ، وهي سمرة ، فبايعنا غير الجدّ
بن قيس الأنصاريّ ، اختبأ تحت إبط بعيره ، قال جابر : بايعنا رسول الله صَلَّى
الله عَلَيْهِ وَسَلَّم على أن لا نفرّ ولم نبايعه على الموت " .
حدثنا يوسف بن موسى القطان ، قال : ثنا هشام بن عبد الملك وسعيد بن شرحبيل المصري
، قالا ثنا ليث بن سعد المصري قال : ثنا أبو الزبير ، عن جابر ، قال : " كنا
يوم الحديبية ألفا وأربع مئة ، فبايعناه وعمر آخذ بيده تحت الشجرة وهي سمرة ،
فبايعناه على أن لا نفرّ ، ولم نبايعه على الموت ، يعني النبيّ صَلَّى الله
عَلَيْهِ وَسَلَّم.
حدثنا ابن بشار وابن المثنى ، قالا ثنا ابن أبي عديّ ، عن سعيد ، عن قتادة ، عن
سعيد بن المسيب ، أنه قيل له : " إن جابر بن عبد الله يقول : إن أصحاب الشجرة
كانوا ألفا وخمس مئة ، قال سعيد : نسي جابر هو قال لي كانوا ألفا وأربع مئة "
.
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، قال : ثني محمد بن إسحاق ، عن الأعمش ، عن أبي
سفيان ، عن جابر قال : كنا أصحاب الحُديبية أربع عشرة مئة.
* ذكر من قال : كان عدتهم ألفا وخمس مئة وخمسة وعشرين :
حدثنا محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ،
عن ابن عباس( لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ
تَحْتَ الشَّجَرَةِ ) قال : كان أهل البيعة تحت الشجرة ألفا وخمس مئة وخمسة
وعشرين.
حدثني بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قال : " الذين
بايعوا رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم تحت الشجرة ، فجعلت لهم مغانم
خيبر كانوا يومئذ خمس عشرة مئة ، وبايعوا على أن لا يفرّوا عنه " .
* ذكر من قال : كانوا ألفا وثلاث مئة :
حدثنا ابن المثنى ، قال : ثنا أبو داود ، قال : ثنا شعبة ، عن عمرو بن مرّة ، قال
: سمعت عبد الله بن أبي أوفى يقول : " كانوا يوم الشجرة ألفا وثلاث مئة ،
وكانت أسلم يومئذ من المهاجرين " .
وقوله( فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ ) يقول تعالى ذكره : فعلم ربك يا محمد ما في
قلوب المؤمنين من أصحابك إذ يبايعونك تحت الشجرة ، من صدق النية ، والوفاء بما
يبايعونك عليه ، والصبر معك( فَأَنزلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ ) يقول :
(22/227)
فأنزل الطمأنينة ، والثبات على ما هم
عليه من دينهم وحُسن بصيرتهم بالحقّ الذي هداهم الله له.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله( فَعَلِمَ مَا فِي
قُلُوبِهِمْ فَأَنزلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ ) : أي الصبر والوقار.
وقوله( وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا ) يقول : وعوّضهم في العاجل مما رجوا الظفر
به من غنائم أهل مكة بقتالهم أهلها فتحا قريبا ، وذلك فيما قيل : فتح خيبر.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن المثنى ، قال : ثنا محمد بن جعفر ، قال : ثنا شعبة ، عن الحكم ، عن ابن
أبي ليلى( وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا ) قال : خيبر.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا
قَرِيبًا ) وهي خيبر.
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، قوله(
وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا ) قال : بلغني أنها خيبر.
وقوله( وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا ) يقول تعالى ذكره : وأثاب الله
هؤلاء الذين بايعوا رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم تحت الشجرة ، مع ما
أكرمهم به من رضاه عنهم ، وإنزاله السكينة عليهم ، وإثابته إياهم فتحا قريبا ، معه
مغانم كثيرة يأخذونها من أموال يهود خيبر ، فإن الله جعل ذلك خاصة لأهل بيعة
الرضوان دون غيرهم.
وقوله( وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا ) يقول : وكان الله ذا عزّة في انتقامه
ممن انتقم من أعدائه ، حكيما في تدبيره خلقه وتصريفه إياهم فيما شاء من قضائه.
(22/228)
وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ وَلِتَكُونَ آَيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (20) وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا (21)
القول في تأويل قوله تعالى : {
وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ
وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ
وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (20) وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا
قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا (21) }
يقول تعالى ذكره لأهل بيعة الرضوان : ( وَعَدَكُمُ اللَّهُ ) أيها القوم(
مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا ).
اختلف أهل التأويل في هذه المغانم التي ذكر الله أنه وعدها هؤلاء القوم أيّ
المغانم هي ؟ ، فقال بعضهم : هي كل مغنم غنمها الله المؤمنين به من أموال أهل
الشرك من لدن أنزل هذه الآية على لسان نبيه صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ; وحدثني الحارث ، قال
: ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله(
وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا ) قال : المغانم الكثيرة
التي وعدوا : ما يأخذونها إلى اليوم.
وعلى هذا التأويل يحتمل الكلام أن يكون مرادا بالمغانم الثانية المغانم الأولى ،
ويكون معناه عند ذلك ، فأثابهم فتحا قريبا ، ومغانم كثيرة يأخذونها ، وعدكم الله
أيها القوم هذه المغانم التي تأخذونها ، وأنتم إليها واصلون عدة ، فجعل لكم الفتح
القريب من فتح خيبر. ويُحتمل أن تكون الثانية غير الأولى ، وتكون الأولى من غنائم
خيبر ، والغنائم الثانية التي وعدهموها من غنائم سائر أهل الشرك سواهم.
وقال آخرون : هذه المغانم التي وعد الله هؤلاء القوم هي مغانم خيبر.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله
(22/229)
( وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ
كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا ) قال : يوم خيبر ، قال : كان أبي يقول ذلك.
وقوله( فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ ) اختلف أهل التأويل في التي عجلت لهم ، فقال
جماعة : غنائم خيبر والمؤخرة سائر فتوح المسلمين بعد ذلك الوقت إلى قيام الساعة.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثناء عيسى; وحدثني الحارث ، قال
: ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد( فَعَجَّلَ
لَكُمْ هَذِهِ ) قال : عجل لكم خيبر.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله( فَعَجَّلَ لَكُمْ
هَذِهِ ) وهي خيبر.
وقال آخرون : بل عنى بذلك الصلح الذي كان بين رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ
وَسَلَّم وبين قريش.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ،
عن ابن عباس( فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ ) قال : الصلح.
وأولى الأقوال في تأويل ذلك بالصواب ما قاله مجاهد ، وهو أن الذي أثابهم الله من
مسيرهم ذلك مع الفتح القريب المغانم الكثيرة من مغانم خيبر ، وذلك أن المسلمين لم
يغنموا بعد الحديبية غنيمة ، ولم يفتحوا فتحا أقرب من بيعتهم رسول الله صَلَّى
الله عَلَيْهِ وَسَلَّم بالحديبية إليها من فتح خيبر وغنائمها.
وأما قوله( وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً ) فهي سائر المغانم التي
غنمهموها الله بعد خيبر ، كغنائم هوازن ، وغطفان ، وفارس ، والروم.
وإنما قلنا ذلك كذلك دون غنائم خيبر ، لأن الله أخبر أنه عجل لهم هذه
(22/230)
التي أثابهم من مسيرهم الذي ساروه مع
رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم إلى مكة ، ولما علم من صحة نيتهم في قتال
أهلها ، إذ بايعوا رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم ، على أن لا يفرّوا
عنه ، ولا شكّ أن التي عجلت لهم غير التي لم تُعجَّل لهم.
وقوله( وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ ) يقول تعالى ذكره لأهل بيعة الرضوان :
وكفّ الله أيدي المشركين عنكم.
ثم اختلف أهل التأويل في الذين كفَّت أيديهم عنهم من هم ؟ فقال بعضهم : هم اليهود
كفّ الله أيديهم عن عيال الذين ساروا من المدينة مع رسول الله صَلَّى الله
عَلَيْهِ وَسَلَّم إلى مكة.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( وَكَفَّ أَيْدِيَ
النَّاسِ عَنْكُمْ ) : عن بيوتهم ، وعن عيالهم بالمدينة حين ساروا إلى الحديبية
وإلى خيبر ، وكانت خيبر في ذلك الوجه.
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، في قوله(
وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ ) قال : كف أيدي الناس عن عيالهم بالمدينة.
وقال آخرون : بل عني بذلك أيدي قريش إذ حبسهم الله عنهم ، فلم يقدروا له على
مكروه.
والذي قاله قتادة في ذلك عندي أشبه بتأويل الآية ، وذلك أن كفّ الله أيدي المشركين
من أهل مكة عن أهل الحُديبية قد ذكره الله بعد هذه الآية في قوله( وَهُوَ الَّذِي
كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ ) فعلم
بذلك أن الكفّ الذي ذكره الله تعالى في قوله( وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ
) غير الكفّ الذي ذكر الله بعد هذه الآية في قوله( وَهُوَ الَّذِي كَفَّ
أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ ).
(22/231)
وقوله( وَلِتَكُونَ آيَةً
لِلْمُؤْمِنِينَ ) يقول : وليكون كفه تعالى ذكره أيديهم عن عيالهم آية وعبرة
للمؤمنين به فيعلموا أن الله هو المتولي حياطَتهم وكلاءتهم في مشهدهم ومغيبهم ،
ويتقوا الله في أنفسهم وأموالهم وأهليهم بالحفظ وحُسن الولاية ما كانوا مقيمين على
طاعته ، منتهين إلى أمره ونهيه.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة( وَلِتَكُونَ
آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ ) يقول : وذلك آية للمؤمنين ، كفّ أيدي الناس عن عيالهم(
وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا ) يقول : ويسدّدكم أيها المؤمنون طريقا
واضحا لا اعوجاج فيه ، فيبينه لكم ، وهو أن تثقوا في أموركم كلها بربكم ، فتتوكلوا
عليه في جميعها ، ليحوطكم حياطته إياكم في مسيركم إلى مكة مع رسول الله صَلَّى
الله عَلَيْهِ وَسَلَّم في أنفسكم وأهليكم وأموالكم ، فقد رأيتم أثر فعل الله بكم
، إذ وثقتم في مسيركم هذا.
وقوله( وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا ) يقول
تعالى ذكره ووعدكم أيها القوم ربكم فتح بلدة أخرى لم تقدروا على فتحها ، قد أحاط
الله بها لكم حتى يفتحها لكم.
واختلف أهل التأويل في هذه البلدة الأخرى ، والقرية الأخرى التي وعدهم فتحها ،
التي أخبرهم أنه محيط بها ، فقال بعضهم : هي أرض فارس والروم ، وما يفتحه المسلمون
من البلاد إلى قيام الساعة.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن المثنى ، قال : ثنا عبد الرحمن بن مهديّ ، قال : ثنا شعبة ، عن سِماك
الحنفيّ ، قال : سمعت ابن عباس يقول( وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا ) فارس
والروم.
(22/232)
قال : ثنا محمد بن جعفر ، قال : ثنا
شعبة ، عن الحكم ، عن ابن أبي ليلى أنه قال في هذه الآية( وَأُخْرَى لَمْ
تَقْدِرُوا عَلَيْهَا ) قال : فارس والروم.
حدثني موسى بن عبد الرحمن المسروقي ، قال : ثنا زيد بن حباب ، قال : ثنا شعبة بن
الحَجاج ، عن الحكم ، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى مثله.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله( وَأُخْرَى لَمْ
تَقْدِرُوا عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا ) قال : حدّث عن الحسن ، قال :
هي فارس والروم.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث ، قال :
ثنا الحسن. قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله( وَأُخْرَى
لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا ) ما فتحوا حتى اليوم.
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا جرير ، عن منصور ، عن الحكم ، عن عبد الرحمن بن أبي
ليلى ، في قوله
(22/233)
وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (22)
( وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا
) قال : فارس والروم.
وقال آخرون : بل هي خيبر.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثنى أبي ، عن أبيه ،
عن ابن عباس( وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا )... الآية ، قال : هي خيبر.
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ ، يقول : أخبرنا عبيد بن سليمان ، قال :
سمعت الضحاك ، يقول في قوله( وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ
اللَّهُ بِهَا ) يعني خيبر ، بعثهم رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم يومئذ
، فقال : ولا تُمَثِّلُوا وَلا تَغُلُّوا ، ولا تَقْتُلُوا وَلِيدًا.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله( وَأُخْرَى لَمْ
تَقْدِرُوا عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا ) قال : خيبر ، قال : لم يكونوا
يذكرونها ولا يرجونها حتى أخبرهم الله بها.
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، عن ابن إسحاق( وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا
عَلَيْهَا ) يعني أهل خيبر. وقال آخرون : بل هي مكة.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( وَأُخْرَى لَمْ
تَقْدِرُوا عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا ) كنا نحدّث أنها مكة.
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة( وَأُخْرَى لَمْ
تَقْدِرُوا عَلَيْهَا ) قال : بلغنا أنها مكة.
وهذا القول الذي قاله قتادة أشبه بما دلّ عليه ظاهر التنزيل ، وذلك أن الله أخبر
هؤلاء الذين بايعوا رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم تحت الشجرة ، أنه
محيط بقرية لم يقدروا عليها ، ومعقولٌ أنه لا يقال لقوم لم يقدروا على هذه المدينة
، إلا أن يكونوا قد راموها فتعذّرت عليهم ، فأما وهم لم يروموها فتتعذّر عليهم فلا
يقال : إنهم لم يقدروا عليها.
فإذ كان ذلك كذلك ، وكان معلوما أن رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم لم
يقصد قبل نزول هذه الآية عليه خيبر لحرب ، ولا وجه إليها لقتال أهلها جيشا ولا
سرية ، علم أن المعنيَّ بقوله( وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا ) غيرها ،
وأنها هي التي قد عالجها ورامها ، فتعذّرت فكانت مكة وأهلها كذلك ، وأخبر الله
تعالى ذكره نبيه صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم والمؤمنين أنه أحاط بها وبأهلها ،
وأنه فاتحها عليهم ، وكان الله على كلّ ما يشاء من الأشياء ذا قُدرة ، لا يتعذّر
عليه شيء شاءه.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا
الأدْبَارَ ثُمَّ لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا (22) سُنَّةَ اللَّهِ
الَّتِي قَدْ خَلَتْ
(22/234)
سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا (23)
مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ
اللَّهِ تَبْدِيلا (23) }
يقول تعالى ذكره للمؤمنين به من أهل بيعة الرضوان : ( وَلَوْ قَاتَلَكُمُ
الَّذِينَ كَفَرُوا ) بالله أيها المؤمنون بمكة( لَوَلَّوُا الأدْبَارَ ) يقول :
لانهزموا عنكم ، فولوكم أعجازهم ، وكذلك يفعل المنهزم من قرنه في الحرب( ثُمَّ لا
يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا ) يقول : ثم لا يجد هؤلاء الكفار المنهزمون عنكم
، المولوكم الأدبار ، وليا يواليهم على حربكم ، ولا نصيرا ينصرهم عليكم ، لأن الله
تعالى ذكره معكم ، ولن يغلب حزب الله ناصره.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة قوله( وَلَوْ قَاتَلَكُمُ
الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الأدْبَارَ ) يعني كفار قريش ، قال الله( ثم لا
يجدون وليا ولا نصيرا ) ينصرهم من الله.
وقوله( سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ ) يقول تعالى ذكره : لو
قاتلكم هؤلاء الكفار من قريش ، لخذلهم الله حتى يهزمهم عنكم خذلانه أمثالهم من أهل
الكفر به ، الذين قاتلوا أولياءه من الأمم الذين مضوا قبلهم. وأخرج قوله( سُنَّةَ
اللَّهِ ) نصبا من غير لفظه ، وذلك أن في قوله( لَوَلَّوُا الأدْبَارَ ثُمَّ لا
يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا ) معنى سننت فيهم الهزيمة والخذلان ، فلذلك قيل
: ( سُنَّةَ اللَّهِ ) مصدرا من معنى الكلام لا من لفظه ، وقد يجوز أن تكون تفسيرا
لما قبلها من الكلام.
وقوله( وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلا ) يقول جلّ ثناؤه لنبيه محمد
صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم : ولن تجد يا محمد لسنة الله التي سنها في خلقه
تغييرا ، بل ذلك دائم للإحسان جزاءه من الإحسان ، وللإساءة والكفر العقاب والنكال.
(22/235)
وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا (24)
القول في تأويل قوله تعالى : { وَهُوَ
الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ
مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ
بَصِيرًا (24) }
يقول تعالى ذكره لرسوله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم : والذين بايعوا بيعة
الرضوان : ( وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ ) يعني أن الله كفّ أيدي
المشركين الذين كانوا خرجوا على عسكر رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم ،
بالحديبية يلتمسون غِرَّتَهُمْ ليصيبوا منهم ، فبعث رسول الله صَلَّى الله
عَلَيْهِ وَسَلَّم فأتى بهم أسرى ، فخلى عنهم رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ
وَسَلَّم ، ومنّ عليهم ولم يقتلهم فقال الله للمؤمنين : وهو الذي كفّ أيدي هؤلاء
المشركين عنكم ، وأيديكم عنهم ببطن مكة ، من بعد أن أظفركم عليهم.
وبنحو الذي قلنا في ذلك جاءت الآثار
* ذكر الرواية بذلك :
حدثنا محمد بن عليّ بن الحسن بن شقيق ، قال : سمعت أبي يقول : أخبرنا الحسين بن
واقد ، قال : ثني ثابت البناني ، عن عبد الله بن مغفل ، أن رسول الله صَلَّى الله
عَلَيْهِ وَسَلَّم كان جالسا في أصل شجرة بالحُدَيبية ، وعلى ظهره غصن من أغصان
الشجرة فرفعتها عن ظهره ، وعليّ بن أبي طالب رضي الله عنه بين يديه وسهيل بن عمرو
، وهو صاحب المشركين ، فقال رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم لعليّ :
اكْتُبْ : بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ، فأمسك سُهَيل بيده ، فقال : ما
نعرف الرحمن ، اكتب في قضيتنا ما نعرف. فقال رسول الله : اكْتُبْ باسْمِكَ
اللَّهُم ، فكتب ، فقال : هذا ما صالح محمد رسول الله أهل مكة ، فأمسك سُهَيل بيده
، فقال : لقد ظلمناك إن كنت رسولا اكتب في قضيتنا ما نعرف قال : اكتب هذا ما صالح
عليه محمد بن عبد الله بن عبد المطلب وأنا رسول الله ، فخرج علينا ثلاثون شابا
(22/236)
عليهم السلاح ، فثاروا في وجوهنا ،
فدعا عليهم رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم ، فأخذ الله بأبصارهم ، فقمنا
إليهم فأخذناهم ، فقال لهم رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم : هَلْ
خرَجْتُم فِي أمان أحَدٍ ، قال : فخلى عنهم ، قال : فأنزل الله( وَهُوَ الَّذِي
كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ
بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ ) .
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا يحيى بن واضح ، قال : ثنا الحسين بن واقد ، عن ثابت ،
عن عبد الله بن مغفل ، قال : كنا مع النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم
بالحُديبية في أصل الشجرة التي قال الله في القرآن ، وكان غصن من أغصان تلك الشجرة
على ظهر النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم ، فرفعته عن ظهره ، ثم ذكر نحو حديث
محمد بن عليّ ، عن أبيه.
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، عن محمد بن إسحاق قال : ثني من لا أتهم - عن
عكرمة ، مولى ابن عباس ، أن قريشا كانوا بعثوا أربعين رجلا منهم أو خمسين ،
وأمروهم أن يطيفوا بعسكر رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم ، ليصيبوا من
أصحابه أحدا ، فأخذوا أخذا ، فأُتي بهم رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم ،
فعفا عنهم ، وخلى سبيلهم ، وقد كانوا رموا في عسكر رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ
وَسَلَّم بالحجارة والنبل. قال ابن حميد ، قال سلمة ، قال ابن إسحاق : ففي ذلك
قال( وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ )...
الآية .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث ، قال :
ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قال : أقبل
معتمرا نبيّ الله ، فأخذ أصحابه ناسا من أهل الحرم غافلين ، فأرسلهم النبيّ صَلَّى
الله عَلَيْهِ وَسَلَّم ، فذلك الإظفار ببطن مكة.
حدثنا محمد بن سنان القزّاز ، قال : ثنا عبيد الله ابن عائشة ، قال : ثنا
(22/237)
حماد بن سلمة ، عن ثابت ، عن أنس بن
مالك أن ثمانين رجلا من أهل مكة ، هبطوا على رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ
وَسَلَّم وأصحابه من جبل التنعيم عند صلاة الفجر ليقتلوهم ، فأخذهم رسول الله
صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم فأعتقهم ، فأنزل الله( وَهُوَ الَّذِي كَفَّ
أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ )... إلى آخر الآية .
وكان قتادة يقول في ذلك ما حدثنا به بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن
قتادة ، قوله : ( وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ
عَنْهُمْ )... الآية ، قال : بطن مكة الحديبية (1) يقال له رهم : اطلع الثنية من
الحديبية ، فرماه المشركون بسهم فقتلوه ، فبعث رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ
وَسَلَّم خيلا فأتوه باثني عشر فارسا من الكفار ، فقال لهم نبيّ الله صَلَّى الله
عَلَيْهِ وَسَلَّم : هل لكم عليّ عهد ؟ هل لكم عليّ ذمة ، قالوا : لا فأرسلهم ،
فأنزل الله في ذلك القرآن( وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ
وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ )... إلى قوله( بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا ).
وقال آخرون في ذلك : ما حدثنا به ابن حميد ، قال : ثنا يعقوب القُمِّيّ ، عن جعفر
، عن ابن أبزى ، قال : لما خرج النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم بالهدي ،
وانتهى إلى ذي الحليفة ، قال له عمر : يا نبيّ الله ، تدخل على قوم لك حرب بغير
سلاح ولا كراع ، قال : فبعث إلى المدينة فلم يدع بها كراعا ولا سلاحا إلا حمله;
فلما دنا من مكة منعوه أن يدخل ، فسار حتى أتى منى ، فنزل بمِنى ، فأتاه عينه أن
عكرِمة بن أبي جهل قد خرج علينا في خمس مئة ، فقال لخالد بن الوليد : يا خالد هذا
ابن عمك قد أتاك في الخيل ، فقال خالد : أنا سيف الله وسيف رسوله ، فيومئذ سمي سيف
الله ، يا رسول الله ، ارم بي حيث شئت ، فبعثه على خيل ، فلقي عكرمة في الشعب
فهزمه حتى أدخله حيطان
__________
(1) لعل فيه سقطا . وفي ابن كثير عن قتادة : " ذكر لنا أن رجلا يقال له ابن
زنيم اطلع على الثنية إلخ " .
(22/238)
هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (25)
مكة ، ثم عاد في الثانية فهزمه حتى
أدخله حيطان مكة ، ثم عاد في الثالثة حتى أدخله حيطان مكة ، فأنزل الله( وَهُوَ
الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ )... إلى قوله(
عَذَابًا أَلِيمًا ) قال : فكفّ الله النبيّ عنهم من بعد أن أظفره عليهم لبقايا من
المسلمين كانوا بقوا فيها من بعد أن أظفره عليهم كراهية أن تطأهم الخيل بغير علم.
وقوله( وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا ) يقول تعالى ذكره : وكان الله
بأعمالكم وأعمالهم بصيرا لا يخفى عليه منها شيء.
القول في تأويل قوله تعالى : { هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ
الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلا
رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ
فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي
رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا
مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (25) }
يقول تعالى ذكره : هؤلاء المشركون من قريش هم الذين جحدوا توحيد الله ، وصدوكم
أيها المؤمنون بالله عن دخول المسجد الحرام ، وصدوا الهدي معكوفا : يقول : محبوسًا
عن أن يبلغ محله. فموضع " أن " نصب لتعلقه إن شئت بمعكوف ، وإن شئت
بصدّوا. وكان بعض نحويي البصرة يقول في ذلك : وصدّوا الهدي معكوفا كراهية أن يبلغ
محله.
وعنى بقوله تعالى ذكره : ( أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ ) أن يبلغ محلّ نحره ، وذلك
دخول الحرم ، والموضع الذي إذا صار إليه حلّ نحره ، وكان رسول الله صَلَّى الله
عَلَيْهِ وَسَلَّم ساق معه حين خرج إلى مكة في سَفرته تلك سبعين بدنة.
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، قال : ثني محمد بن إسحاق ، عن محمد بن مسلم
الزهري ، عن عروة بن الزبير ، عن المِسْوَر بن مخرمة ومروان بن الحكم أنهما حدّثاه
، قالا خرج رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم عام الحُديبية
(22/239)
يريد زيارة البيت ، لا يريد قتالا وساق
الهَدي معه سبعين بدنة وكان الناس سبعَ مئة رجل ، فكانت كلّ بدنة عن عشرة .
وبنحو الذي قلنا في معنى قوله( هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ
الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ ) قال أهل
التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله( هُمُ الَّذِينَ
كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا ) : أي
محبوسا( أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ ) وأقبل نبيّ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم
وأصحابه معتمرين في ذي القعدة ، ومعهم الهدي ، حتى إذا كانوا بالحُديبية ، صدّهم
المشركون ، فصالحهم نبيّ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم على أن يرجع من عامه
ذلك ، ثم يرجع من العام المقبل ، فيكون بمكة ثلاث ليال ، ولا يدخلها إلا بسلاح
الراكب ، ولا يخرج بأحد من أهلها ، فنحروا الهدي ، وحلقوا ، وقصَّروا ، حتى إذا
كان من العام المقبل ، أقبل نبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم وأصحابه حتى دخلوا
مكة معتمرين في ذي القعدة ، فأقام بها ثلاث ليال ، وكان المشركون قد فجروا عليه
حين ردّوه ، فأقصه الله منهم فأدخله مكة في ذلك الشهر الذي كانوا ردّوه فيه ،
فأنزل الله( الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ
) .
حدثني محمد بن عمارة الأسديّ وأحمد بن منصور الرمادي ، واللفظ لابن عمارة ، قالا
حدثنا عبيد الله بن موسى ، قال : أخبرنا موسى بن عبيدة ، عن إياس من سَلمة بن
الأكوع ، عن أبيه ، قال : بعثت قريش سُهَيل بن عمرو ، وحويطب بن عبد العُزَّى ،
وحفص بن فلان إلى النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم ليصالحوه فلما رآهم رسول
الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم فيهم سُهَيل بن عمرو ، قال : قد سهَّل الله
لكم من أمركم ، القوم ماتُّون إليكم بأرحامهم وسائلوكم الصلح ، فابعثوا الهَدي ،
وأظهروا التلبية ، لعلّ ذلك يلين قلوبهم ، فلبوا من نواحي العسكر حتى ارتجَّت
أصواتهم بالتَّلبية ، فجاءوا فسألوه الصلح; قال : فبينما الناس قد توادعوا
(22/240)
وفي المسلمين ناس من المشركين ، قال :
فقيل به أبو سفيان; قال : وإذا الوادي يسيل بالرجال; قال : قال إياس ، قال سلمة :
فجئت بستة من المشركين متسلحين أسوقهم ، لا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرّا ، فأتيت
بهم النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم ، فلم يسلب ولم يقتل وعفا; قال : فشددنا
على من في أيدي المشركين منا ، فما تركنا في أيديهم منا رجلا إلا استنقذناه; قال :
وغلبنا على من في أيدينا منهم; ثم إن قريشا بعثوا سُهَيل بن عمرو ، وحويطبا ،
فولوا صلحهم ، وبعث النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم عليا في صلحه; فكتب عليّ
بينهم : بسم الله الرحمن الرحيم ، هذا ما صالح عليه محمد رسول الله صَلَّى الله
عَلَيْهِ وَسَلَّم قريشا ، صالحهم على أنه لا إهلال ولا امتلال ، وعلى أنه من
قَدِم مكة من أصحاب محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم حاجا أو معتمرا ، أو يبتغي
من فضل الله ، فهو آمن على دمه وماله; ومن قدم المدينة من قريش مجتازا إلى مصر أو
إلى الشام يبتغي من فضل الله ، فهو آمن على دمه وماله; وعلى أنه من جاء محمدا
صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم من قريش فهو إليهم رُدّ ، ومن جاءهم من أصحاب محمد
فهو لهم. فاشتدّ ذلك على المسلمين ، فقال رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم
: مَنْ جَاءَهُمْ مِنَّا فأَبْعَدَهُ اللّهُ ، وَمَنْ جاءنَا مِنْهُمْ فَرَدَدْناه
إلَيْهِم فَعَلِم اللّهُ الإسْلامَ من نفسه ، جَعَلَ لَهُ مَخْرَجا. فصالحوه على
أنه يعتمر في عام قابل في هذا الشهر ، لا يدخل علينا بخيل ولا سلاح ، إلا ما يحمل
المسافر في قِرابه ، يثوي فينا ثلاث ليال ، وعلى أن هذا الهَدْي حيثما حبسناه
محلَّه لا يقدمه علينا. فقال لهم رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم : نَحْن
نَسُوقُهُ وأنْتُمْ تَرُدونَ وُجُوهَهُ ، فسار رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ
وَسَلَّم مع الهدي وسار الناس " .
حدثني محمد بن عمارة ، قال : ثنا عبيد الله بن موسى ، قال : أخبرنا موسى ، قال :
أخبرني أبو مُرّة مولى أمّ هانئ ، عن ابن عمر ، قال : " كان الهدي دون الجبال
التي تطلع على وادي الثنية عرض له المشركون ، فردُوا وجوهه; قال : فنحر النبيّ
صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم الهدي حين حبسوه ، وهي الحُديبية ، وحلق ، وتأسّى
حين به أُناس حين رأوه حلق ، وتربَّص آخرون ، فقالوا : لعلنا نطوف
(22/241)
بالبيت ، فقال رسول الله : رَحِمَ
اللّهُ المُحَلِّقِينَ ، قيل : والمقصرين ، قال : رَحِمَ اللّهُ المحَلِّقِينَ ،
قيل : والمقصرين ، قال : والمُقَصِّرينَ " .
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا الحكم بن بشير ، قال : ثنا عمر بن ذَرّ الهمداني ، عن
مجاهد " أن النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم اعتمر ثلاث عمر ، كلها في
ذي القعدة ، يرجع في كلها إلى المدينة ، منها العمرة التي صدّ فيها الهدي ، فنحره
في محله ، عند الشجرة ، وشارطوه أن يأتي في العام المقبل معتمرا ، فيدخل مكة ،
فيطوف بالبيت ثلاثة أيام ، ثم يخرج ، ولا يحبسون عنه أحدا قدم معه ، ولا يخرج من
مكة بأحد كان فيها قبل قدومه من المسلمين; فلما كان من العام المقبل دخل مكة ،
فأقام بها ثلاثا يطوف بالبيت ; فلما كان اليوم الثالث قريبا من الظهر ، أرسلوا
إليه : إن قومك قد آذاهم مقامك ، فنُودي في الناس : لا تغرب الشمس وفيها أحد من
المسلمين قَدم مع رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم " .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن الزهريّ ، عن عروة بن
الزبير ، عن المسور بن مخرمة ، قال : خرج النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم
زمن الحُديبية في بضع عشرة مئة من أصحابه ، حتى إذا كانوا بذي الحليفة قلَّد الهدي
وأشعره ، وأحرم بالعمرة ، وبعث بين يديه عينا له من خُزاعة يخبره عن قريش ، وسار
النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم ، حتى إذا كان بغدير الأشطاط قريبا من قُعَيقعان
، أتاه عينه الخزاعيّ ، فقال. إني تركت كعب بن لؤيّ وعامر بن لؤيّ قد جمعوا لك
الأحابيش ، وجمعوا لك جموعا ، وهم مقاتلوك وصادّوك عن البيت ، فقال رسول الله
صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم : أشيرُوا عَليَّ ، أتَرَوْنَ أنْ نَمِيلَ على
ذَرَارِي هَؤُلاءِ الَّذِينَ أعانُوهُمْ فَنُصِيبَهُمْ ، فإنْ قَعَدُوا قَعَدُوا
مَوْتُورِينَ مَحْزُونِينَ وإنْ لَحُّوا تَكُنْ عُنُقا قَطَعَها الله ؟ أمْ
تَرَوْنَ أنَّا نَؤُمُّ الْبَيْتَ ، فَمنْ صَدّنا عَنْهُ قاتَلْناهُ ؟ " فقام
أبو بكر رضي الله عنه فقال : يا رسول الله : إنا لم نأتِ
(22/242)
لقتال أحد ، ولكن من حالَ بيننا وبين
البيت قاتلناه ; فقال النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم : فَروّحُوا إذًا;
وكان أبو هريرة يقول : ما رأيت أحدا قطّ كان أكثر مُشاورة لأصحابه من النبيّ
صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم ، فراحوا حتى إذا كانوا ببعض الطريق ، قال النبيّ
صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم : إنَّ خالدَ بنَ الوَلِيدِ بالغَمِيم في خَيْل
لِقُرَيْشٍ طَلِيعَةً ، فخُذُوا ذَاتَ الْيمِينِ ، فوالله ما شعر بهم خالد حتى إذا
هو بقُتْرة الجيش ، فانطلق يركض نذيرا لقريش ، وسار النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم
، حتى إذا كان بالثنية التي يُهْبط عليهم منها ، بركت به راحلته; فقال الناس :
حَلْ حَلْ ، (1) فقال : ما حَلْ ؟ فقالوا : خَلأتِ القَصْواء ، (2) فقال النبيّ
صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم : ما خَلأتْ ومَا ذَاكَ لَهَا بخُلُقٍ ، ولَكِنَّها
حَبَسَها حابِسُ الفِيل ، ثم قال : والَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لا يَسألُونِي
خُطَّةً يُعَظِّمُونَ بِها حُرُماتِ اللّهِ إلا أعْطَيْتُهُمْ إيَّاها ، ثم زُجِرت
فوثبت فعدل عنهم حتى نزل بأقصى الحُديبية على ثمد قليل الماء ، إنما يتبرّضه الناس
تبرّضا ، فلم يلبث الناس أن نزحوه ، فشُكِي إلى رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ
وَسَلَّم العطش ، فنزع سهما من كنانته ، ثم أمرهم أن يجعلوه فيه ، فوالله ما زال
يجيش لهم بالرِّيّ حتى صدروا عنه ، فبينما هم كذلك جاء بُدَيل بن ورقاء الخزاعي في
نفر من خُزاعة ، وكانوا عَيبة نصح رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم من أهل
تهامة ، فقال : إني تركت كعب بن لُؤَيّ ، وعامر بن لُؤَيّ ، قد نزلوا أعداد مياه
الحُديبية معهم العوْذ المطافيل ، وهم مقاتلوك وصادّوك عن البيت ، فقال النبيّ
صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم : " إنَّا لَمْ نأْتِ لِقِتالِ أَحَدٍ ، وَلَكِنَّا
جِئْنا مُعْتَمِرِينَ ، وَإنَّ قُرَيْشا قَدْ نَهَكَتْهُمُ الحَرْبُ ، وأَضَرَّتْ
بِهمْ ، فإنْ شاءُوا مادَدْناهُمْ مُدَّةً ، ويُخْلُوا بَيْنِي وَبَينَ النَّاسِ ،
فإنْ أظْهَرَ فإنْ شاءوا أنْ يَدْخُلُوا فيما دَخَلَ فِيهِ النَّاسُ فَعَلُوا ،
وَإلا فَقَدْ جَمُّوا وَإنْ هُمْ أَبَوْا فَوَالَّذي نَفْسِي بِيَدِهِ
لأقاتِلنَّهُمْ عَلى أمْرِي هَذَا حتى تَنْفَرِدَ سالِفَتي ، أوْ لَيُنْفِذَن
اللّه أمْرَهُ فقال بديل : سنبلغهم ما تقول ، فانطلق حتى أتى قريشا ، فقال : إنا
جئناكم من عند هذا الرجل ، وسمعناه يقول قولا فإن شئتم أن نعرضه عليكم فعلنا; قال
سفهاؤهم : لا حاجة لنا في أن تحدّثنا عنه بشيء ، وقال ذوو الرأي منهم : هات ما
سمعته; يقول : قال سمعته يقول كذا وكذا ، فحدثهم بما قال النبيّ صَلَّى الله
عَلَيْهِ وَسَلَّم ، فقام عُروة بن مسعود الثقفي ، فقال : أيْ قوم ، ألستم بالولد
؟ قالوا : بلى; قال : أولست بالوالد ؟ قالوا : بلى ، قال : فهل أنتم تتهموني ؟
قالوا : لا قال : ألستم تعلمون أني استنفرت أهل عكاظ ، فلما بلحوا عليّ جئتكم
بأهلي وولدي ومن أطاعني ؟ قالوا : بلى; قال : فإن هذا الرجل قد عرض عليكم خطة رشد
فاقبلوها ، ودعوني آته; فقالوا : ائته ، فأتاه ، فجعل يكلم النبيّ صَلَّى الله
عَلَيْهِ وَسَلَّم ، فقال النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم نحوا من مقالته
لبُديل; فقال عروة عند ذلك : أي محمد ، أرأيت إن استأصلت قومك ، فهل سمعت بأحد من
العرب اجتاح أصله قبلك ؟ وإن تكن الأخرى فوالله إني لأرى وجوها وأوباشا من الناس
خليقا أن يفرّوا ويدعوك ، فقال أبو بكر : امصُصْ بظر اللات ، واللاتُ : طاغية ثقيف
الذي كانوا يعبدون ، أنحن نفرّ وندعه ؟ فقال : من هذا ؟ فقالوا : أبو بكر ، فقال :
أما والذي نفسي بيده لولا يد كانت لك عندي لم أجزك بها لأجبتك ; وجعل يكلم النبيّ
صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم ، فكلما كلمه أخذ بلحيته ، والمغيرة بن شعبة قائم
على رأس النبيّ ومعه السيف ، وعليه المغفر; فكلما أهوى عروة إلى لحية رسول الله
صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم ، ضرب يده بنصل السيف ، وقال : أخِّر يدك عن لحيته
، فرفع رأسه فقال : من هذا ؟ قالوا : المغيرة بن شعبة ، قال : أي غُدَرُ أولست
أسعى في غدرتك. وكان المُغيرة بن شعبة صحب قوما في الجاهلية ، فقتلهم وأخذ أموالهم
، ثم جاء فأسلم ، فقال النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم : أمَّا الإسْلامُ
فَقَدْ قَبِلْناهُ ، وأمَّا المَالُ فإنَّه مَالُ غَدْرٍ لا حاجَةَ لنَا فِيهِ.
وإن عُروة جعل يرمق أصحاب النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم بعينه ، فوالله إن
تنخم النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم نخامة إلا وقعت في كفّ رجل منهم ، فدلك
بها وجهه وجلده ، وإذا أمرهم ابتدروا أمره ، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وَضوئه ،
وإذا تكلم خفضوا أصواتهم عنده ، وما يحدّون النظر إليه تعظيما له ، فرجع عروة إلى
أصحابه ، فقال أي قوم ، والله لقد وفدت على الملوك ، ووفدت على قيصر وكسرى
والنجاشيّ ، والله ما رأيت مَلِكا قطّ يعظمه أصحابه ما يعظم أصحاب محمد محمدا ; والله
إن تنخم نخامة إلا وقعت في كفّ رجل منهم فدلك بها وجهه وجلده ، وإذا أمرهم ابتدروا
أمره ، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وَضوئه ، وإذا تكلموا عنده خفوا أصواتهم ، وما
يحدّون النظر إليه تعظيما له ، وإنه قد عرض عليكم خطة رشد فاقبلوها.
فقال رجل من كنانة : دعوني آته ، فقالوا : ائته; فلما أشرف على النبيّ صَلَّى الله
عَلَيْهِ وَسَلَّم وأصحابه ، قال النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم : "
هذا فلان ، وهو من قوم يعظمون البدن ، فابعثوها له ، فبعثت له ، واستقبله قوم
يلبون; فلما رأى ذلك قال سبحان الله ، ما ينبغي لهؤلاء أن يصدوا عن البيت ، فقام
رجل منهم يقال له مِكْرز بن حفص ، فقال : دعوني آته ، فقالوا ائته ، فلما أشرف على
النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم وأصحابه ، قال النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ
وَسَلَّم : هَذَا مِكْرِز بْنُ حَفْصٍ ، وَهُوَ رَجُلٌ فَاجِرٌ ؛ فجاء فجعل يكلم
النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم ، فبينما هو يكلمه ، إذ جاء سُهَيل بن عمرو
، قال أيوب ، قال عكرِمة : إنه لما جاء سُهَيل ، قال النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ
وَسَلَّم : قد سهل لكم من أمركم. قال الزهري. فجاء سهيل بن عمرو ، فقال : هات نكتب
بيننا وبينك كتابا; فدعا الكاتب فقال النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم :
اكْتُبْ : بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ، فقال : ما الرحمن ؟ فوالله ما
أدري ما هو ، ولكن اكتب : باسمك اللهم كما كنت تكتب ، فقال المسلمون : والله لا
نكتبها إلا بسم الله الرحمن الرحيم ، فقال النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم :
اكْتُبْ : باسْمِكَ اللَّهُمَّ ثم قال : اكْتُبْ : هَذَا ما قاضَى عَلَيْهِ
مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ ، فقال سهيل : والله لو كنا نعلم أنك رسول الله ما
صددناك عن البيت ، ولا قاتلناك ، ولكن اكتب : محمد بن عبد الله ، فقال النبيّ
صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم : وَاللّهِ إنّي لَرَسُولُ اللّهِ وَإِنْ
__________
(1) حل حل : زجر للإبل وحث لها لتسير .
(2) خلأت الناقة تخلأ ( كفتح ) : وقفت عن السير . والخلاء في الإبل : كالحران في
الخيل ( اللسان : خلأ ) .
(22/243)
كَذَبْتُمُوني ، وَلَكِن اكْتُبْ
مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ; قال الزهري : وذلك لقوله : وَاللّهِ لا يَسألُوني
خُطَّةً يُعَظِّمُونَ بِها حُرُماتِ اللهِ إلا أعْطَيْتُهُمْ إيَّاها; فقال النبيّ
صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم : عَلى أنْ تُخَلُّوا بَيْنَنا وَبيْنَ البَيْتِ ،
فَنَطُوفُ بِهِ; قال سُهيل : والله لا تتحدّث العرب أنا أُخِذنا ضغطة ، ولكن لك من
العام المقبل ، فكتب فقال سهيل ، وعلى أنه لا يأتيك منا رجل إن كان على دينك إلا
رددته إلينا ، فقال المسلمون : سبحان الله ، وكيف يُرد إلى المشركين وقد جاء مسلما
؟ فبينما هم كذلك ، إذا جاء أبو جَنْدل بن سُهيل بن عمرو يرسُف في قيوده ، قد خرج
من أسفل مكة حتى رمى بنفسه بين أظهر المسلمين ، فقال سهيل : هذا يا محمد أوّل من
أقاضيك عليه أن تردّه إلينا ، فقال النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم :
فَأَجِرْهُ لي ، فقال : ما أنا بمجيره لك ، قال : بلى فافعل ، قال : ما أنا بفاعل;
قال صاحبه مِكْرز وسهيل إلى جنبه : قد أجرناه لك; فقال أبو جندل أي معاشر المسلمين
، أأرُدّ إلى المشركين وقد جئتُ مسلما ؟ ألا ترون ما قد لقيت ؟ كان قد عُذّب عذابا
شديدا في الله.
قال عمر بن الخطاب : والله ما شككت منذ أسلمت إلا يومئذ ، فأتيت النبيّ صَلَّى
الله عَلَيْهِ وَسَلَّم ، فقلت : ألسنا على الحقّ وعدوّنا على الباطل ؟ قال : بلى
، قلت : فِلم نعطَى الدنية في ديننا إذا ؟ قال : إنّي رَسُولُ اللّهِ ، وَلَسْتُ
أَعْصِيه وَهُوَ ناصري ، قلت : ألست تحدِّثنا أنا سنأتي البيت ، فنطوف به ؟ قال :
بَلى ، قال : فأخبرتك أنك تأتيه العام ؟ قلت : لا قال : فإنِّكَ آتِيهِ وَمتطَوّفٌ
به; قال : ثم أتيت أبا بكر ، فقلت : أليس هذا نبيّ الله حقا ؟ قال : بلى ، قلت :
ألسنا على الحقّ وعدوّنا على الباطل ؟ قال : بلى ، قلت : فلِم نعطَى الدنية في
ديننا إذا ؟ قال أيها الرجل إنه رسول الله ، وليس يعصِي ربه ، فاستمسك بغرزه حتى
تموت ، فوالله إنه لعلى الحقّ; قلت : أوليس كان يحدثنا أنا سنأتي البيت ونطوف به ؟
قال : بلى ، أفأخبرك أنك تأتيه العام ؟ قال : لا قال : فإنك آتيه ومتطوّف به. قال
الزُّهري : قال عمر : فعملت لذلك أعمالا فلما فرغ من قصته ،
(22/246)
قال النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ
وَسَلَّم لأصحابه : قُومُوا فانحَروا ثم احْلِقُوا ، قال : فوالله ما قام منا رجل
حتى قال ذلك ثلاث مرّات ; فلما لم يقم منهم أحد ، قام فدخل على أم سلمة ، فذكر لها
ما لقي من الناس ، فقالت أُمُّ سلمة : يا رسول الله أتحبّ ذلك ؟ اخرج ، ثم لا تكلم
أحدا منهم كلمة حتى تنحر بدنك ، وتدعو حالقك فيحلقك ، فقام فخرج فلم يكلم أحدا
منهم كلمة ، حتى نحر بدنه ، ودعا حالقه فحلقه; فلما رأوا ذلك قاموا فنحروا ، وجعل
بعضهم يحلق بعضا ، حتى كاد بعضهم يقتل بعضا غما; ثم جاءه نسوة مؤمنات ، فأنزل الله
عزّ وجلّ عليه( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ
مُهَاجِرَاتٍ ) حتى بلغ( بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ ) قال : فطلق عمر يومئذ امرأتين
كانتا له في الشرك; قال : فنهاهم أن يردوهن ، وأمرهم أن يردّوا الصداق حينئذ; قال
رجل للزهريّ : أمن أجل الفروج ؟ قال : نعم ، فتزوّج إحداهما معاوية بن أبي سفيان ،
والأخرى صفوان بن أمية ، ثم رجع النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم إلى المدينة
، فجاءه أبو بصير ، رجل من قريش ، وهو مسلم ، فأرسل في طلبه رجلان ، فقالا العهد
الذي جعلت لنا ، فدفعه إلى الرجلين ، فخرجا به ، حتى إذا بلغا ذا الحليفة ، فنزلوا
يأكلون من تمر لهم ، فقال أبو بصير لأحد الرجلين : والله إني لأرى سيفك هذا يا
فلان جيدا ، فاستله الآخر فقال : والله إنه لجيد ، لقد جربت به وجربت; فقال أبو
بصير : أرني أنظر إليه فأمكنه منه ، فضربه به حتى برد وفرّ الآخر حتى أتى المدينة
، فدخل المسجد يعدو ، فقال النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم : رأى هَذَا
ذُعْرًا ، فقال : والله قتل صاحبي ، وإني والله لمقتول ، فجاء أبو بصير فقال : قد
والله أوفى الله ذمتك ورددتني إليهم ، ثم أغاثني الله منهم ، فقال النبيّ صَلَّى
الله عَلَيْهِ وَسَلَّم : وَيْلُ أمِّهِ مِسْعَرُ حَرْب لَوْ كانَ لَهُ أحَدٌ ؛
فلما سمع عرف أنه سيردّه إليهم; قال : فخَرج حتى أتى سيف البحر ، وتفلَّت أبو جندل
بن سهيل بن عمرو ، فلحق بأبي بصير ، فجعل لا يخرج من قريش رجل قد أسلم إلا لحق بأبي
بصير ، حتى اجتمعت منهم عصابة ، فوالله ما يسمعون بعير خرجت لقريش إلى الشأم إلا
اعترضوا لهم فقتلوهم ، وأخذوا أموالهم ، فأرسلت قريش إلى النبيّ صَلَّى الله
عَلَيْهِ وَسَلَّم يناشدونه الله والرحم لما أرسل إليهم ، فمن أتاه فهو آمن فأنزل
الله( وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ ) حتى
بلغ( حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ ) وكانت حميتهم أنهم لم يقرّوا أنه نبيّ ، ولم
يقرّوا ببسم الله الرحمن الرحيم ، وحالوا بينهم وبين البيت " .
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : ثنا يحيى بن سعيد ، قال : ثنا عبد الله بن المبارك
، قال : أخبرنا معمر ، عن الزهريّ ، عن عروة ، عن المسور بن مخرمة ، ومروان بن
الحكم ، قالا خرج رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم زمن الحُديبية في بضع
عشرة مئة ، ثم ذكر نحوه ، إلا أنه قال في حديثه ، قال الزهريّ ، فحدثني القاسم بن
محمد ، أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال : فأتيت النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ
وَسَلَّم ، فقلت : ألست برسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم ؟ قال : بَلى ،
قال أيضا : وخرج أبو بصير والذين أسلموا من الذين رَدّ رسول الله صَلَّى الله
عَلَيْهِ وَسَلَّم حتى لحقوا بالساحل على طريق عير قريش ، فقتلوا من فيها من
الكفار وتغنَّموها; فلما رأى ذلك كفار قريش ، ركب نفر منهم إلى رسول الله صَلَّى
الله عَلَيْهِ وَسَلَّم ، فقالوا له : إنها لا تغني مدتك شيئا ، ونحن نقتل وتُنهب
أمولنا ، وإنا نسألك أن تدخل هؤلاء في الذين أسلموا منا في صلحك وتمنعهم ، وتحجز
عنا قتالهم ، ففعل ذلك رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم ، فأنزل الله : (
وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ ) ، ثم ساق
الحديث إلى آخره " ، نحو حديث ابن عبد الأعلى.
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن محمد بن مسلم بن شهاب
الزهريّ ، عن عروة بن الزبير ، عن المسور بن مخرمة ، ومروان بن الحكم أنهما حدّثاه
، قالا " خرج رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم عام الحُديبية ، يريد
زيارة البيت ، لا يريد قتالا وساق معه هديه سبعين بدنة ، حتى إذا كان بعسفان لقيه
بشر بن سفيان الكعبي ، فقال له : يا رسول الله هذه قريش قد سمعت بمسيرك ، فخرجوا
معهم العوذُ المطافيلُ قد لبسوا جلود النمور ،
(22/247)
ونزلوا بذي طوى يعاهدون الله ، لا
تدخلها عليهم أبدا ، وهذا خالد بن الوليد في خيلهم ، قد قدموها إلى كراع الغميم;
قال : فقال صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم : يا وَيْحَ قُرَيْشٍ لَقَدْ
أهْلَكَتْهُمُ الحَرْبُ ، ماذَا عَلَيْهمْ لَوْ خَلُّوا بَيْنِي وَبَينَ سائِرِ
العَرب فإنْ هُمْ أصابُونِي كانَ ذلكَ الَّذِي أرَادُوا ، وَإنْ أظْهَرَنِي اللّهُ
عَلَيْهِم دَخَلُوا فِي الإسْلامِ دَاخِرِينَ " ثم ذكر نحو حديث معمر بزيادات
فيه كثيرة ، على حديث معمر تركت ذكرها.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله( وَالْهَدْيَ
مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ ) قال : كان الهدي بذي طوى ، والحُديبية خارجة
من الحرم ، نزلها رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم حين غِوَّرت قريش عليه
الماء.
وقوله( وَلَوْلا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ
أَنْ تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ ) يقول تعالى
ذكره : ولولا رجال من أهل الإيمان ونساء منهم أيها المؤمنون بالله أن تطئوهم
بخيلكم ورجلكم لم تعلموهم بمكة ، وقد حبسهم المشركون بها عنكم ، فلا يستطيعون من
أجل ذلك الخروج إليكم فتقتلوهم.
كما حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله( وَلَوْلا
رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ )... حتى بلغ( بِغَيْرِ عِلْمٍ ) هذا
حين رد محمد وأصحابه أن يدخلوا مكة ، فكان بها رجال مؤمنون ونساء مؤمنات ، فكره
الله أن يؤذوا أو يوطئوا بغير علم ، فتصيبكم منهم معرّة بغير علم.
واختلف أهل التأويل في المعرّة التي عناها الله في هذا الموضع ، فقال بعضهم : عني
بها الإثم.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله( وَلَوْلا
رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ
فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ
(22/249)
مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ ) قال : إثم
بغير علم.
وقال آخرون : عني بها غرم الدية.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، عن ابن إسحاق( فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ
مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ ) فتخرجوا ديته ، فأما إثم فلم يحسبه عليهم. والمعرّة :
هي المفعلة من العرّ ، وهو الجرب وإنما المعنى : فتصيبكم من قبلهم معرّة تعرّون
بها ، يلزمكم من أجلها كفَّارة قتل الخطأ ، وذلك عتق رقبة مؤمنة ، من أطاق ذلك ،
ومن لم يطق فصيام شهرين .
وإنما اخترت هذا القول دون القول الذي قاله ابن إسحاق ، لأن الله إنما أوجب على
قاتل المؤمن في دار الحرب إذا لم يكن هاجر منها ، ولم يكن قاتله علم إيمانه
الكفارة دون الدية ، فقال( فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ
مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ ) لم يوجب على قاتله خطأ ديته ، فلذلك
قلنا : عني بالمعرّة في هذا الموضع الكفارة ، و( أن ) من قوله( أَنْ تَطَئُوهُمْ )
في موضع رفع ردًا على الرجال ، لأن معنى الكلام : ولولا أن تطئوا رجالا مؤمنين
ونساء مؤمنات لم تعلموهم ، فتصيبكم منهم معرّة بغير علم لأذن الله لكم أيها
المؤمنون في دخول مكة ، ولكنه حال بينكم وبين ذلك( لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ
مَنْ يَشَاءُ ) يقول : ليدخل الله في الإسلام من أهل مكة من يشاء قبل أن تدخلوها ،
وحذف جواب لولا استغناء بدلالة الكلام عليه.
وقوله( لَوْ تَزَيَّلُوا ) يقول : لو تميز الذين في مشركي مكة من الرجال المؤمنين
والنساء المؤمنات الذين لم تعلموهم منهم ، ففارقوهم وخرجوا من بين أظهرهم(
لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا ) يقول : لقتلنا من
بقي فيها بالسيف ، أو لأهلكناهم ببعض ما يؤلمهم من عذابنا العاجل.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
(22/250)
إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (26)
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله( لَوْ تَزَيَّلُوا
)... الآية ، إن الله يدفع بالمؤمنين عن الكفار.
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمع الضحاك
يقول في قوله( لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ ) يعني
أهل مكة كان فيهم مؤمنون مستضعفون : يقول الله لولا أولئك المستضعفون لو قد
تزيَّلوا ، لعذّبنا الذين كفروا منهم عذابا أليما.
حدثنا يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله( لَوْ
تَزَيَّلُوا ) لو تفرّقوا ، فتفرّق المؤمن من الكافر ، لعذّبنا الذين كفروا منهم
عذابا أليما.
القول في تأويل قوله تعالى : { إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ
الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنزلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى
رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا
أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (26) }
يعني تعالى ذكره بقوله( إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ
الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ ) حين جعل سُهيل بن عمرو في قلبه الحمية ،
فامتنع إن يكتب في كتاب المقاضاة الذي كتب بين يدي رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ
وَسَلَّم والمشركين : بسم الله الرحمن الرحيم ، وأن يكتب فيه : محمد رسول الله ،
وامتنع هو وقومه من دخول رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم عامه ذلك.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن
(22/251)
الزهريّ ، قال : كانت حميتهم التي ذكر
الله ، إذ جعل الذين كفروا في قلوبهم الحمية ، حمية الجاهلية ، أنهم لم يقرّوا
" بسم الله الرحمن الرحيم " وحالوا بينهم وبين البيت.
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : ثنا يحيى بن سعيد ، قال : ثنا عبد الله بن المبارك
، عن معمر ، عن الزهري بنحوه.
حدثني عمرو بن محمد العثماني ، قال : ثنا إسماعيل بن أبي أويس ، قال : ثني أخي ،
عن سليمان ، عن يحيى بن سعيد ، عن ابن شهاب ، عن سعيد بن المسيب ، أن أبا هريرة
أخبره أن رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم قال : " أمِرْتُ أنْ
أُقَاتِلَ النَّاسَ حتى يَقُولُوا لا إلَهَ إلا اللّهُ ، فَمَنْ قال لا إلَه إلا
اللّهُ فَقَدْ عَصَمَ مِنِّي مالَهُ وَنَفْسَهُ إلا بِحَقِّهِ وَحِسابُهُ على الله
" . وأنزل الله في كتابه ، فذكر قوما استكبروا فقال : ( إِنَّهُمْ كَانُوا
إِذَا قِيلَ لَهُمْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ ) وقال الله( إِذْ
جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ
الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنزلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى
الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا
وَأَهْلَهَا ) وهي لا إله إلا الله محمد رسول الله ، استكبر عنها المشركون يوم
الحُدَيبية ، يوم كاتبهم رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم على قضية
المدّة.
و " إذ " من قوله( إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا ) من صلة قوله :
لعذّبنا. وتأويل الكلام : لعذّبنا الذين كفروا منهم عذابا أليما ، حين جعل الذين
كفروا في قلوبهم الحمية ، والحمية فعيلة من قول القائل : حمى فلان أنفه حمية
ومحمية; ومنه قول المتلمس :
ألا إنَّنِي مِنْهُمْ وَعِرْضِي عِرْضُهُمْ... كَذا الرأس يَحْمي أنْفَهُ أنْ
يُكشَمَّا (1)
__________
(1) البيت للمتلمس جرير بن عبد المسيح ( شعراء النصرانية 338 ) وكشم أنفه يكشمه (
كيضربه ) كشما : قطعه مستأصلا له . ويقال : حمى فلان أنفه يحميه حمية ومحمية .
وفلان ذو حمية منكرة : إذا كان ذا غضب وأنفة . وقد استشهد به المؤلف عند قوله
تعالى " إذ جعل الذين كفروا في قلوبهم الحمية حمية الجاهلية " وهي مصدر
على فعلية ، بمعنى الأنفة .
(22/252)
يعني بقوله : " يحمي " :
يمنع. وقال( حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ ) لأن الذي فعلوا من ذلك كان جميعه من أخلاق
أهل الكفر ، ولم يكن شيء منه مما أذن الله لهم به ، ولا أحد من رسله.
وقوله( فَأَنزلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ )
يقول تعالى ذكره فأنزل الله الصبر والطمأنينة والوقار على رسوله وعلى المؤمنين ،
إذ حمى الذين كفروا حمية الجاهلية ، ومنعوهم من الطواف بالبيت ، وأبوا أن يكتبوا
في الكتاب بينه وبينهم بسم الله الرحمن الرحيم ، ومحمد رسول الله( وَأَلْزَمَهُمْ
كَلِمَةَ التَّقْوَى ) يقال : ألزمهم قول لا إله إلا الله التي يتقون بها النار ،
وأليم العذاب.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل على اختلاف في ذلك منهم ، ورُوي به الخبر
عن رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم.
* ذكر قائلي ذلك بما قلنا فيه ، والخبر الذي ذكرناه عن رسول الله صَلَّى الله
عَلَيْهِ وَسَلَّم :
حدثنا الحسن بن قزعة الباهلي ، قال : ثنا سفيان بن حبيب ، قال : ثنا شعبة ، عن ثور
بن أبي فاختة ، عن أبيه ، عن الطفيل ، عن أبيه ، سمع رسول الله صَلَّى الله
عَلَيْهِ وَسَلَّم يقول( وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى ) قال : " لا
إلَه إلا اللّهُ " .
حدثني محمد بن خالد بن خِداش العَتَكِيّ ، قال : سمعت سالما ، سمع شعبة ، سمعَ
سَلَمة بن كهيل ، سمع عبَايَة ، سمع عليا رضي الله عنه في قوله( وَأَلْزَمَهُمْ
كَلِمَةَ التَّقْوَى ) قال : لا إله إلا الله.
حدثني ابن بشار ، قال : ثنا يحيى وعبد الرحمن ، قالا ثنا سفيان ، عن سلمة ، عن
عباية بن ربعي ، عن علي رضي الله عنه ، في قوله( وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ
التَّقْوَى ) قال : لا إله إلا الله ، والله أكبر.
حدثني محمد بن عيسى الدامغاني ، قال ثنا ابن المبارك ، عن سفيان وشعبة ، عن سلمة
بن كهيل ، عن رجل ، عن عليّ رضي الله عنه قال : لا
(22/253)
إله إلا الله ، والله أكبر.
حدثنا ابن المثنى ، قال : ثنا وهب بن جرير ، عن شعبة ، عن سلمة ، عن عباية ، عن
رجل من بني تميم عن عليّ رضي الله عنه( وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى ) قال
: لا إله إلا الله.
حدثني عليّ ، قال ثنا أبو صالح. قال ثنا معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله(
وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى ) يقول : شهادة أن لا إله إلا الله ، فهي كلمة
التقوى ، يقول : فهي رأس التقوى.
حدثنا ابن المثنى ، قال : ثنا محمد بن جعفر ، قال : ثنا شعبة ، قال : سمعت أبا
إسحاق ، يحدّث عن عمرو بن ميمون أنه كان يقول في هذه الآية( وَأَلْزَمَهُمْ
كَلِمَةَ التَّقْوَى ) قال : لا إله إلا الله.
حدثني محمد بن عيسى ، قال : أخبرنا ابن المبارك ، قال : أخبرني سفيان ، عن أبي
إسحاق ، عن عمرو بن ميمون ، مثله.
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا عبد الرحمن ، قال : ثنا سفيان ، عن أبي إسحاق ، عن
عمرو بن ميمون( وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى ) قال : لا إله إلا الله.
حدثنا سفيان ، عن منصور ، عن مجاهد( وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى ) قال :
لا إله إلا الله.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ
التَّقْوَى ) وهي : شهادة إن لا إله إلا الله.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله( وَأَلْزَمَهُمْ
كَلِمَةَ التَّقْوَى ) قال : هي لا إله إلا الله.
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول
في قوله( وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى ) هي لا إله إلا الله.
(22/254)
حدثني سعد بن عبد الله بن عبد الحكم ،
قال : ثنا حفص بن عمر ، قال : ثنا الحكم بن أبان ، عن عكرِمة ، في قوله(
وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى ) قال : شهادة أن لا إله إلا الله.
حدثني ابن البرقيّ ، قال : ثنا عمرو بن أبي سلمة ، عن سعيد بن عبد العزيز ، عن
عطاء الخراسانيّ( وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى ) قال : لا إله إلا الله
محمد رسول الله.
حدثني الصواريّ محمد بن إسماعيل ، قال : ثنا محمد بن سوار ، قال : ثنا سفيان بن
عيينة ، عن يزيد بن أبي خالد المكي ، عن عليّ الأزدي ، قال : كنت مع ابن عمر بين
مكة ومنى بالمأزمين ، فسمع الناس يقولون : لا إله إلا الله ، والله أكبر ، فقال :
هي هي ، فقلت : ما هي ؟ قال( وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى ) الإخلاص(
وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا ).
وقال آخرون : بل : هي كلمة التقوى ، الإخلاص.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ بن الحسين الأزديّ ، قال : ثنا يحيى بن يمان ، عن ابن جُرَيج ، عن
مجاهد( وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى ) قال : الإخلاص.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال
: ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد( كَلِمَةَ
التَّقْوَى ) كلمة الإخلاص.
وقال آخرون : هي قوله : بسم الله الرحمن الرحيم.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عيسى ، قال : ثنا ابن المبارك ، عن معمر ، عن الزهريّ ، في قوله(
وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى ) قال : بسم الله الرحمن الرحيم.
وقال آخرون : هي قول لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك وله
(22/255)
لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آَمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا (27)
الحمد ، وهو على كل شيء قدير.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا أبو كُرَيب ، قال : ثنا ابن يمان ، قال : أخبرنا ابن جُرَيج ، عن مجاهد
وعطاء( وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى ) قال : أحدهما الإخلاص ، وقال الآخر :
كلمة التقوى : لا إله إلا الله وحده لا شريك له له المُلك وله الحمد ، وهو على كلّ
شيء قدير.
وقوله( وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا ) يقول تعالى ذكره : وكان رسول الله
صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم : والمؤمنون أحقّ بكلمة التقوى من المشركين وأهلها
: يقول : وكان رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم والمؤمنون أهل كلمة التقوى
دون المشركين.
وذُكر أنها في قراءة عبد الله( وكانُوا أهْلَها وأحَقَّ بها ).
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا
وَأَهْلَهَا ) وكان المسلمون أحقّ بها ، وكانوا أهلها : أي التوحيد ، وشهادة أن لا
إله إلا الله ، وأن محمدا عبده ورسوله.
وقوله( وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا ) يقول تعالى ذكره : ولم يزل الله
بكل شيء ذا علم ، لا يخفى عليه شيء هو كائن ، ولعلمه أيها الناس بما يحدث من
دخولكم مكة وبها رجال مؤمنون ، ونساء مؤمنات لم تعلموهم ، لم يأذن لكم بدخولكم مكة
في سفرتكم هذه.
القول في تأويل قوله تعالى : { لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا
بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ
مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ
(22/256)
وَمُقَصِّرِينَ لا تَخَافُونَ فَعَلِمَ
مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا (27) }
يقول تعالى ذكره : لقد صدق الله رسوله محمدا رؤياه التي أراها إياه أنه يدخل هو
وأصحابه بيت الله الحرام آمنين ، لا يخافون أهل الشرك ، مقصِّرا بعضهم رأسه ،
ومحلِّقا بعضهم.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ،
عن ابن عباس( لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ
لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ ) قال هو دخول
محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم البيت والمؤمنون ، محلقين رءوسهم ومقصرين.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث ، قال :
ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله(
الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ ) قال : أُرِيَ بالحُديبية أنه يدخل مكة وأصحابه محلقين ،
فقال أصحابه حين نحر بالحُديبية : أين رؤيا محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم ؟
حدثنا بشر ، قال ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ
رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ ) قال : رأى رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ
وَسَلَّم أنه يطوف بالبيت وأصحابه ، فصدّق الله رؤياه ، فقال( لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ
الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ )... حتى بلغ( لا تَخَافُونَ ).
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، في قوله( لَقَدْ
صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ ) قال : أُري في المنام أنهم
يدخلون
(22/257)
المسجد الحرام ، وأنهم آمنون محلِّقين
رءوسهم ومقصِّرين.
حدثنا يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله( لَقَدْ صَدَقَ
اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ ). . إلى آخر الآية. قال : قال لهم النبي
صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم : " إنّي قَدْ رأيْتُ أنَّكُمْ سَتَدْخُلُونَ
المَسْجِدَ الحَرَام مُحَلِّقِينَ رُءوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ " فلما نزل
بالحُديبية ولم يدخل ذلك العام طعن المنافقون في ذلك ، فقالوا : أين رؤياه ؟ فقال
الله( لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ ) فقرأ حتى بلغ( وَمُقَصِّرِينَ
لا تَخَافُونَ ) إني لم أره يدخلها هذا العام ، وليكوننّ ذلك " .
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، عن ابن إسحاق( لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ
الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ )... إلى قوله( إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ ) لرؤيا رسول
الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم التي أريها أنه سيدخل مكة آمنا لا يخاف ، يقول
: محلقين ومقصرين لا تخافون.
وقوله( فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا ) يقول تعالى ذكره : فعلم الله جلّ ثناؤه ما
لم تعلموا ، وذلك علمه تعالى ذكره بما بمكة من الرجال والنساء المؤمنين ، الذين لم
يعلمهم المؤمنون ، ولو دخلوها في ذلك العام لوطئوهم بالخيل والرَّجل ، فأصابتهم
منهم معرّة بغير علم ، فردّهم الله عن مكة من أجل ذلك.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله( فَعَلِمَ مَا لَمْ
تَعْلَمُوا ) قال : ردّه لمكان من بين أظهرهم من المؤمنين والمؤمنات ، وأخره ليدخل
الله في رحمته من يشاء من يريد أن يهديه.
وقوله( فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا ) اختلف أهل التأويل في الفتح
القريب ، الذي جعله الله للمؤمنين دون دخولهم المسجد الحرام محلِّقين رءوسهم
(22/258)
ومقصِّرين ، فقال بعضهم : هو الصلح
الذي جرى بين رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم وبين مشركي قريش.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث ، قال :
ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله( مِنْ
دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا ) قال : النحر بالحُديبية ، ورجعوا فافتتحوا خيبر ،
ثم اعتمر بعد ذلك ، فكان تصديق رؤياه في السنة القابلة.
حدثنا ابن حُمَيد ، قال : ثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن الزهريّ ، قوله( فَجَعَلَ
مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا ) يعني : صلح الحُديبية ، وما فتح في الإسلام
فتح كان أعظم منه ، إنما كان القتال حيث ألتقى الناس; فلما كانت الهدنة وضعت الحرب
، وأمن الناس كلهم بعضهم بعضا ، فالتقَوا فتفاوضوا في الحديث والمنازعة ، فلم يكلم
أحد بالإسلام يعقل شيئا إلا دخل فيه ، فلقد دخل في تينك السنتين في الإسلام مثل من
كان في الإسلام قبل ذلك وأكثر.
حدثنا ابن حُمَيد ، قال : ثنا سلمة ، عن ابن إسحاق( فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ
فَتْحًا قَرِيبًا ) قال : صلح الحُديبية.
وقال آخرون : عنى بالفتح القريب في هذا الموضع : فتح خيبر.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله( فَجَعَلَ مِنْ
دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا ) قال : خيبر حين رجعوا من الحُديبية ، فتحها الله
عليهم ، فقسمها على أهل الحديبية كلهم إلا رجلا واحدا من الأنصار ، يقال له : أبو
دجانة سماك بن خرشة ، كان قد شهد الحديبية وغاب عن خَيبر.
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال : إن الله أخبر أنه جعل لرسوله والذين كانوا
معه من أهل بيعة الرضوان فتحا قريبا من دون دخولهم المسجد
(22/259)
هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا (28)
الحرام ، ودون تصديقه رؤيا رسول الله
صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم وكان صلح الحُديبية وفتح خيبر دون ذلك ، ولم يخصص
الله تعالى ذكره خبره ذلك عن فتح من ذلك دون فتح ، بل عمّ ذلك ، وذلك كله فتح جعله
الله من دون ذلك.
والصواب أن يعمه كما عمه ، فيقال : جعل إلله من دون تصديقه رويا رسول الله صَلَّى
الله عَلَيْهِ وَسَلَّم بدخوله وأصحابه المسجد الحرام محلِّقين رءوسهم ومقصِّرين ،
لا يخافون المشركين صلح الحُديبية وفتح خيبر.
القول في تأويل قوله تعالى : { هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى
وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا
(28) مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ
رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلا مِنَ
اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ
مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ
شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ
لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا
الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا (29) }
(22/260)
مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآَزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا (29)
القول في تأويل قوله تعالى : {
مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ
رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلا مِنَ
اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ
مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ
فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ
بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ
مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا (29) }
يعني تعالى ذكره بقوله( هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ
الْحَقِّ ) الذي أرسل رسوله محمدا صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم بالبيان الواضح ،
وَدِين الحَق ، وهو الإسلام; الذي أرسله داعيا خلقه إليه( لِيُظْهِرَهُ عَلَى
الدِّينِ كُلِّهِ ) يقول : ليبطل به الملل كلها ، حتى لا يكون دين سواه ، وذلك كان
كذلك حتى ينزل عيسى ابن مريم ، فيقتل الدجال ، فحينئذ تبطل الأديان كلها ، غير دين
الله الذي بعث به محمدا صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم ، ويظهر الإسلام على
الأديان كلها.
(22/260)
وقوله( وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا )
يقول جلّ ثناؤه لنبيه صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم : أشهدك يا محمد ربك على نفسه
، أنه سيظهر الدين الذي بعثك به( وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا ) يقول : وحسبك به
شاهدا.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حُمَيد ، قال. ثنا يحيى بن واضح ، قال : ثنا أبو بكر الهُذَليّ ، عن
الحسن( هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ
عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا ) يقول : أشهد لك على نفسه أنه
سيظهر دينك على الدين كله ، وهذا إعلام من الله تعالى نبيه صَلَّى الله عَلَيْهِ
وَسَلَّم ، والذين كرهوا الصلح يوم الحديبية من أصحابه ، أن الله فاتح عليهم مكة
وغيرها من البلدان ، مسليهم بذلك عما نالهم من الكآبة والحزن ، بانصرافهم عن مكة
قبل دخولهموها ، وقبل طوافهم بالبيت.
وقوله( مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ
رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ ) يقول تعالى ذكره : محمد رسول الله وأتباعه من أصحابه الذين
هم معه على دينه ، ( أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ ) ، غليظة عليهم قلوبهم ، قليلة
بهم رحمتهم( رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ ) يقول : رقيقة قلوب بعضهم لبعض ، لينة أنفسهم
لهم ، هينة عليهم لهم.
كما حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( رُحَمَاءُ
بَيْنَهُمْ ) ألقى الله في قلوبهم الرحمة ، بعضهم لبعض( تَرَاهُمْ رُكَّعًا
سُجَّدًا ) يقول : تراهم ركعا أحيانا لله في صلاتهم سجدا أحيانا( يَبْتَغُونَ
فَضْلا مِنَ اللَّهِ ) يقول : يلتمسون بركوعهم وسجودهم وشدّتهم على الكفار ورحمة
بعضهم بعضا ، فضلا من الله ، وذلك رحمته إياهم ، بأن يتفضل عليهم ، فيُدخلهم جنته(
وَرِضْوَانًا )يقول : وأن يرضى عنهم ربهم.
وقوله( سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ) يقول : علامتهم في
وجوههم من أثر السجود في صلاتهم.
(22/261)
ثم اختلف أهل التأويل في السيما الذي
عناه الله في هذا الموضع ، فقال بعضهم : ذلك علامة يجعلها الله في وجوه المؤمنين
يوم القيامة ، يعرفون بها لما كان من سجودهم له في الدنيا.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ،
عن ابن عباس( سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ) قال : صلاتهم
تبدو في وجوههم يوم القيامة.
حدثنا ابن حُمَيد ، قال : ثنا يحيى بن واضح ، قال : ثنا عبيد الله العتكي ، عن
خالد الحنفي ، قوله( سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ) قال :
يعرف ذلك يوم القيامة في وجوههم من أثر سجودهم في الدنيا ، وهو كقوله( تَعْرِفُ
فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ ).
حدثني عبيد بن أسباط بن محمد ، قال : ثنا أبي ، عن فضيل بن مروزق ، عن عطية ، في
قوله( سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ) قال : مواضع السجود من
وجوههم يوم القيامة أشد وجوههم بياضا.
حدثنا محمد بن عمارة ، قال : ثنا عبيد الله بن موسى ، قال : أخبرنا ابن فضيل ، عن
فضيل ، عن عطية ، بنحوه.
حدثني أبو السائب ، قال : ثنا ابن فضيل ، عن فضيل ، عن عطية ، بنحوه.
حدثنا مجاهد بن موسى ، قال : ثنا يزيد ، قال : أخبرنا فضيل ، عن عطية ، مثله.
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا المعتمر ، قال : سمعت شبيبا يقول عن مقاتل بن
حيان ، قال : ( سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ) قال : النور
يوم القيامة.
(22/262)
حدثنا ابن سنان القزاز ، قال : ثنا هارون بن إسماعيل ، قال : قال عليّ بن المبارك : سمعت غير واحد عن الحسن ، في قوله
(22/263)
( سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ
أَثَرِ السُّجُودِ ) قال : بياضا في وجوههم يوم القيامة.
وقال آخرون : بل ذلك سيما الإسلام وَسمْته وخشوعه ، وعنى بذلك أنه يرى من ذلك
عليهم في الدنيا.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا عليّ ، قال : ثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، في
قوله( سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ ) قال : السَّمْت الحَسَن.
قال : ثنا مجاهد ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا الحسن بن معاوية ، عن الحكم ، عن
مجاهد ، عن ابن عباس ، في قوله( سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ
السُّجُودِ ) قال : أما إنه ليس بالذي ترون ، ولكنه سيما الإسلام وسَحْنته وسَمته
وخشوعه.
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا أبو عامر ، قال : ثنا سفيان ، عن حميد الأعرج ، عن
مجاهد( سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ) قال : الخشوع
والتواضع.
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا مؤمل ، قال : ثنا سفيان ، عن حميد الأعرج ، عن مجاهد ،
مثله.
قال : ثنا أبو عامر ، قال : ثنا سفيان ، عن منصور ، عن مجاهد( سِيمَاهُمْ فِي
وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ) قال : الخشوع.
حدثنا محمد بن المثنى ، قال : ثنا محمد بن جعفر ، عن شعبة ، عن الحكم ، عن مجاهد ،
في هذه الآية( سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ) قال :
السَّحْنة.
حدثنا ابن حُمَيد ، قال : ثنا جرير ، عن منصور ، عن مجاهد ، في قوله( سِيمَاهُمْ
فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ) قال : هو الخشوع ، فقلت : هو أثر السجود
، فقال : إنه يكون بين عينيه مثل ركبة العنز وهو كما شاء الله.
وقال آخرون : ذلك أثر يكون في وجوه المصلين ، مثل أثر السهر ، الذي يظهر في الوجه
مثل الكلف والتهيج والصفرة ، وأشبه ذلك مما يظهره السهر والتعب في الوجه ، ووجهوا
التأويل في ذلك إلى أنه سيما في الدنيا.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا أبو كُرَيب ، قال : ثنا ابن يمان ، عن سفيان ، عن رجل ، عن الحسن(
سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ) قال : الصفرة.
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا المعتمر ، عن أبيه ، قال : زعم الشيخ الذي كان
يقصّ في عُسر ، وقرأ( سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ) فزعم
أنه السهر يرى في وجوههم.
حدثنا ابن حُمَيد ، قال : ثنا يعقوب القمِّيُّ ، عن حفص ، عن شَمِر بن عَطية ، في
قوله( سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ ) قال : تهيج في الوجه من سهر الليل.
وقال آخرون : ذلك آثار ترى في الوجه من ثرى الأرض ، أو نَدَى الطَّهُور.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا حوثرة بن محمد المنقري ، قال : ثنا حماد بن مسعدة; وحدثنا ابن حُمَيد ، قال
: ثنا حرير جميعا عن ثعلبة بن سهيل ، عن جعفر بن أبي المُغيرة ، عن سعيد بن جُبير
، في قوله( سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ) قال : ثرى الأرض
، وندى الطَّهُور.
حدثنا ابن سنان القزّاز ، قال : ثنا هارون بن إسماعيل ، قال : ثناء عليّ بن
المبارك ، قال : ثنا مالك بن دينار ، قال : سمعت عكرِمة يقول( سِيمَاهُمْ فِي
وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ) قال : هو أثر التراب.
(22/264)
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال
: إن الله تعالى ذكره أخبرنا أن سيما هؤلاء القوم الذين وصف صفتهم في وجوههم من
أثر السجود ، ولم يخصّ ذلك على وقت دون وقت. وإذ كان ذلك كذلك ، فذلك على كلّ
الأوقات ، فكان سيماهم الذي كانوا يعرفون به في الدنيا أثر الإسلام ، وذلك خشوعه
وهديه وزهده وسمته ، وآثار أداء فرائضه وتطوّعِه ، وفي الآخرة ما أخبر أنهم يعرفون
به ، وذلك الغرّة في الوجه والتحجيل في الأيدي والأرجل من أثر الوضوء ، وبياض
الوجوه من أثر السجود.
وبنحو الذي قلنا في معنى السيما قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( سِيمَاهُمْ فِي
وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ) يقول : علامتهم أو أعلمتهم الصلاة.
وقوله( ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ ) يقول : هذه الصفة التي وصفت لكم من
صفة أتباع محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم الذين معه صفتهم في التوراة.
وقوله( وَمَثَلُهُمْ فِي الإنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ ) يقول : وصفتهم
في إنجيل عيسى صفة زرع أخرج شطأه ، وهو فراخه ، يقال منه : قد أشطأ الزرع : إذا
فرَّخ فهو يشطّي إشطاء ، وإنما مثلهم بالزرع المشطئ ، لأنهم ابتدءوا في الدخول في
الإسلام ، وهم عدد قليلون ، ثم جعلوا يتزايدون ، ويدخل فيه الجماعة بعدهم ، ثم
الجماعة بعد الجماعة ، حتى كثر عددهم ، كما يحدث في أصل الزرع الفرخ منه ، ثم
الفرخ بعده حتى يكثر وينمي.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : ثنا أبو صالح ، قال : ثنا معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ،
قوله( مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ ) أصحابه مثلهم ، يعني نعتهم
(22/265)
مكتوبا في التوراة والإنجيل قبل أن
يخلق السموات والأرض.
حدثنا ابن حُمَيد ، قال : ثنا يحيى بن واضح ، قالة : ثنا عبيد ، عن الضحاك(
مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ )...
إلى قوله( ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ ) ثم قال( وَمَثَلُهُمْ فِي
الإنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ )... الآية.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ذلك( مَثَلُهُمْ فِي
التَّوْرَاةِ ) : أي هذا المثل في التوراة( وَمَثَلُهُمْ فِي الإنْجِيلِ كَزَرْعٍ
أَخْرَجَ شَطْأَهُ ) فهذا مثل أصحاب رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم في
الإنجيل.
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، في قوله(
سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ) قال( ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي
التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ ).
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك
يقول في قوله( سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ
مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ ) يعني السيما في الوجوه مثلهم في التوراة ، وليس
بمثلهم في الإنجيل ، ثم قال عزّ وجلّ : ( وَمَثَلُهُمْ فِي الإنْجِيلِ كَزَرْعٍ
أَخْرَجَ شَطْأَهُ )... الآية ، هذا مثلهم في الإنجيل.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله( سِيمَاهُمْ فِي
وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ
وَمَثَلُهُمْ فِي الإنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ ).
حدثني عمرو بن عبد الحميد ، قال : ثنا مروان بن معاوية ، عن جُويبر ، عن الضحاك في
قول الله : ( مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ )... الآية ، قال :
هذا مثلهم في التوراة ، ومثل آخر في الإنجيل( كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ
فَآزَرَهُ ) الآية.
(22/266)
وقال آخرون : هذان المَثَلان في
التوراة والإنجيل مثلهم.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث ، قال :
ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله(
ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ ) والإنجيل واحد.
وأولى القولين في ذلك بالصواب قول من قال : مثلهم في التوراة ، غير مثَلهم في
الإنجيل ، وإن الخبر عن مثلهم في التوراة متناه عند قوله( ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي
التَّوْرَاةِ ) وذلك أن القول لو كان كما قال مجاهد من أن مثلهم في التوراة
والإنجيل واحد ، لكان التنزيل : ومثلهم في الإنجيل ، وكزرع أخرج شطأه ، فكان
تمثيلهم بالزرع معطوفا على قوله( سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ
السُّجُودِ ) حتى يكون ذلك خبرا عن أن ذلك مَثلهم في التوراة والإنجيل ، وفي مجيء
الكلام بغير واو في قوله( كَزَرْعٍ ) دليل بَيِّن على صحة ما قُلْنا ، وأن قولهم(
وَمَثَلُهُمْ فِي الإنْجِيلِ ) خبر مبتدأ عن صفتهم التي هي في الإنجيل دون ما في
التوراة منها.
وبنحو الذي قلنا في قوله( أَخْرَجَ شَطْأَهُ ) قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني يحيى بن إبراهيم المسعوديّ ، قال : ثنا أبي ، عن أبيه ، عن جدّه ، عن الأعمش
، عن خيثمة ، قال : بينا عبد الله يقرئ رجلا عند غروب الشمس ، إذ مرّ بهذه الآية( كَزَرْعٍ
أَخْرَجَ شَطْأَهُ ) قال : أنتم الزرع ، وقد دنا حصادكم.
قال : ثنا يعقوب بن إبراهيم ، قال : ثنا ابن علية ، عن حُمَيد الطويل ، قال : قرأ
أنس بن مالك : ( كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ ) قال : تدرون ما شطأه ؟
قال : نباته.
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ،
عن ابن عباس ، قوله( ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي
الإنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ ) قال : سنبله حين يتسلع نباته عن حباته.
(22/267)
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال :
ثنا سعيد ، عن قتادة( وَمَثَلُهُمْ فِي الإنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ )
قال : هذا مثل أصحاب محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم في الإنجيل ، قيل لهم :
إنه سيخرج قوم ينبتون نبات الزرع ، منهم قوم يأمرون بالمعروف ، وينهوْن عن المنكر.
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة والزهريّ(
كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ ) قالا أخرج نباته.
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك
يقول في قوله( وَمَثَلُهُمْ فِي الإنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ ) يعني :
أصحاب محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم ، يكونون قليلا ثم يزدادون ويكثرون
ويستغلظون.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله( كَزَرْعٍ
أَخْرَجَ شَطْأَهُ ) أولاده ، ثم كثرت أولاده.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث ، قال :
ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله(
كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ ) قال : ما يخرج بجنب الحقلة فيتمّ وينمي.
وقوله( فَآزَرَهُ ) يقول : فقوّاه : أي قوى الزرعَ شطأه وأعانه ، وهو من الموازرة
التي بمعنى المعاونة( فَاسْتَغْلَظَ ) يقول : فغلظ الزرع( فَاسْتَوَى عَلَى
سُوقِهِ ) والسوق : جمع ساق ، وساق الزرع والشجر : حاملته.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ،
عن ابن عباس( فآزَرَهُ ) يقول : نباته مع التفافه حين يسنبل
(22/268)
( ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ
وَمَثَلُهُمْ فِي الإنْجِيلِ ) فهو مثل ضربه لأهل الكتاب إذا خرج قوم ينبتون كما
ينبت الزرع فيبلغ فيهم رجال يأمرون بالمعروف ، وينهون عن المنكر ، ثم يغلظون ، فهم
أولئك الذين كانوا معهم. وهو مَثل ضربه الله لمحمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم
يقول : بعث الله النبيّ وحده ، ثم اجتمع إليه ناس قليل يؤمنون به ، ثم يكون القليل
كثيرا ، ويستغلظون ، ويغيظ الله بهم الكفار.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث ، قال :
ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله(
فَآزَرَهُ ) قال : فشدّه وأعانه.
وقوله( عَلَى سُوقِهِ ) قال : أصوله.
حدثني ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة والزهري(
فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ ) يقول : فتلاحق.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله( فَآزَرَهُ )
اجتمع ذلك فالتفتّ; قال : وكذلك المؤمنون خرجوا وهم قليل ضعفاء ، فلم يزل الله
يزيد فيهم ، ويؤيدهم بالإسلام ، كما أيَّد هذا الزرع بأولاده ، فآزره ، فكان مثلا
للمؤمنين.
حدثني عمرو بن عبد الحميد ، قال : ثنا مروان بن معاوية ، عن جُوَيبر ، عن الضحاك(
كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ )
يقول : حبّ برّ نثر متفرّقا ، فتنبت كلّ حبة واحدة ، ثم أنبتت كل واحدة منها ، حتى
استغلظ فاستوى على سوقه; قال : يقول : كان أصحاب محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ
وَسَلَّم قليلا ثم كثروا ، ثم استغلظوا( لِيَغِيظَ ) الله( بِهِمُ الْكُفَّارَ ).
وقوله( يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ ) يقول تعالى ذكره :
يعجب هذا الزرعُ الذي استغلظ فاستوى على سوقه في تمامه وحُسن نباته ، وبلوغه
وانتهائه الذين زرعوه( لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ ) يقول : فكذلك مثل محمد
صَلَّى الله
(22/269)
عَلَيْهِ وَسَلَّم وأصحابه ، واجتماع
عددهم حتى كثروا ونموا ، وغلظ أمرهم كهذا الزرع الذي وصف جلّ ثناؤه صفته ، ثم قال(
لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ ) فدلّ ذلك على متروك من الكلام ، وهو أن الله تعالى
فعل ذلك بمحمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم وأصحابه ليغيظ بهم الكفار.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ،
عن ابن عباس( لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ ) يقول الله : مثلهم كمثل زرع أخرج
شطأه فآزَره ، فاستغلظ ، فاستوى على سوقه ، حتى بلغ أحسن النبات ، يُعْجِب الزرّاع
من كثرته ، وحُسن نباته.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله( يُعْجِبُ
الزُّرَّاعَ ) قال : يعجب الزرّاع حُسنه( لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ )
بالمؤمنين ، لكثرتهم ، فهذا مثلهم في الإنجيل.
وقوله( وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ
مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا ) يقول تعالى ذكره : وعد الله الذين صدّقوا الله
ورسوله( وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ) يقول : وعملوا بما أمرهم الله به من فرائضه
التي أوجبها عليهم.
وقوله( مِنْهُمْ ) يعني : من الشطء الذي أخرجه الزرع ، وهم الداخلون في الإسلام
بعد الزرع الذي وصف ربنا تبارك وتعالى صفته. والهاء والميم في قوله( مِنْهُمْ )
عائد على معنى الشطء لا على لفظه ، ولذلك جمع فقيل : " منهم " ، ولم يقل
" منه " . وإنما جمع الشطء لأنه أريد به من يدخل في دين محمد صَلَّى
الله عَلَيْهِ وَسَلَّم إلى يوم القيامة بعد الجماعة الذين وصف الله صفتهم بقوله(
وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ
رُكَّعًا سُجَّدًا ).
وقوله( وَمَغْفِرَةً ) يعني : عفوا عما مضى من ذنوبهم ، وسيئ أعمالهم
(22/270)
بحسنها. وقوله( وَأَجْرًا عَظِيمًا )
يعني : وثوابا جزيلا وذلك الجنة.
آخر تفسير سورة الفتح
(22/271)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (1)
تفسير سورة الحجرات بسم الله الرحمن
الرحيم
القول في تأويل قوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا
بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ
عَلِيمٌ (1) }
يعني تعالى ذكره بقوله( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ) : يا أيها الذين أقرّوا
بوحدانية الله ، وبنبوّة نبيه محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم( لا تُقَدِّمُوا
بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ) يقول : لا تعجلوا بقضاء أمر في حروبكم أو
دينكم ، قبل أن يقضي الله لكم فيه ورسوله ، فتقضوا بخلاف أمر الله وأمر رسوله ،
محكيّ عن العرب فلان يقدّم بين يدي إمامه ، بمعنى يعجل بالأمر والنهي دونه.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل وإن اختلفت ألفاظهم بالبيان عن معناه.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا عليّ ، قال : ثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، في
قوله( لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ) يقول : لا تقولوا خلاف
الكتاب والسنة.
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ،
عن ابن عباس ، في قوله( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ
يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ )... الآية قال : نهوا أن يتكلموا بين يدي كلامه.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث ، قال :
ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن
(22/272)
أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله( يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ )
قال : لا تفتاتوا على رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم بشيء حتى يقضيه
الله على لسانه.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ) ذُكر لنا أن ناسا
كانوا يقولون : لو أنزل في كذا لوضع كذا وكذا ، قال : فكره الله عزّ وجلّ ذلك ،
وقدم فيه.
وقال الحسن : أناس من المسلمين ذبحوا قبل صلاة رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ
وَسَلَّم يوم النحر ، فأمرهم نبيّ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم أن يعيدوا
ذبحا آخر.
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، في قوله( يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ )
قال : إن أُناسا كانوا يقولون : لو أنزل في كذا ، لو أنزل في كذا ، وقال الحسن :
هم قوم نحروا قبل أن يصلي النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم ، فأمرهم النبيّ
صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم أن يعيدوا الذبح.
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك
يقول في قوله( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ
اللَّهِ وَرَسُولِهِ ) يعني بذلك في القتال ، وكان (1) من أمورهم لا يصلح أن يقضى
إلا بأمره ما كان من شرائع دينهم.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله جلّ ثناؤه : (
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ
) قال : لا تقطعوا الأمر دون الله ورسوله.
وحدثنا ابن حُمَيد ، قال : ثنا مهران ، عن سفيان( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
__________
(1) كذا في الأصل ، ولعل الصواب : وكل ما كان ... الخ .
(22/276)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ (2)
لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ
وَرَسُولِهِ ) قال : لا تقضوا أمرا دون رسول الله ، وبضم التاء من قوله( لا
تُقَدِّمُوا ) قرأ قرّاء الأمصار ، وهي القراءة التي لا أستجيز القراءة بخلافها ،
لإجماع الحجة من القرّاء عليها ، وقد حكي عن العرب قدّمت في كذا ، وتقدّمت في كذا
، فعلى هذه اللغة لو كان قيل : ( لا تَقَدَّمُوا ) بفتح التاء (1) كان جائزا.
وقوله( وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ) يقول : وخافوا الله
أيها الذين آمنوا في قولكم ، أن تقولوا ما لم يأذن لكم به الله ولا رسوله ، وفي
غير ذلك من أموركم ، وراقبوه ، إن الله سميع لما تقولون ، عليم بما تريدون بقولكم
إذا قلتم ، لا يخفى عليه شيء من ضمائر صدوركم ، وغير ذلك من أموركم وأمور غيركم.
القول في تأويل قوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا
أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ
كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا
تَشْعُرُونَ (2) }
يقول تعالى ذكره : يا أيها الذين صدّقوا الله ورسوله ، لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت
رسول الله تتجهموه بالكلام ، وتغلظون له في الخطاب( وَلا تَجْهَرُوا لَهُ
بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ ) يقول : ولا تنادوه كما ينادي بعضكم
بعضا : يا محمد ، يا محمد ، يا نبيّ الله ، يا نبيّ الله ، يا رسول الله.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث ، قال :
ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن
__________
(1) والدال مشددة وهي قراءة مشهورة ليعقوب الحضرمي .
(22/277)
أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله( وَلا
تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ ) ، قال لا تنادُوه
نداء ، ولكن قولا لينًا يا رسول الله.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله( وَلا تَجْهَرُوا
لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ ) كانوا يجهرون له بالكلام ،
ويرفعون أصواتهم ، فوعظهم الله ، ونهاهم عن ذلك.
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، كانوا يرفعون ،
ويجهرون عند النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم ، فوعظوا ، ونهوا عن ذلك.
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك
يقول في قوله( لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ )... الآية ،
هو كقوله : ( لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ
بَعْضًا ) نهاهم الله أن ينادوه كما ينادي بعضهم بعضا وأمرهم أن يشرّفوه ويعظِّموه
، ويدعوه إذا دعوه باسم النبوّة.
حدثنا أبو كُرَيب ، قال : ثنا زيد بن حباب ، قال : ثنا أبو ثابت بن ثابت قيس بن
الشماس ، قال : ثني عمي إسماعيل بن محمد بن ثابت بن شماس ، عن أبيه ، قال : لما
نزلت هذه الآية( لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا
تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ ) قال : قعد ثابت في الطريق يبكي ، قال : فمرّ به
عاصم بن عديّ من بني العَجلان ، فقال : ما يُبكيك يا ثابت ؟ قال : لهذه الآية ،
أتخوّف أن تكون نزلت فيّ ، وأنا صيت رفيع الصوت قال : فمضى عاصم بن عديّ إلى رسول
الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم ، قال : وغلبه البكاء ، قال : فأتى امرأته
جميلة ابنة عبد الله بن أَبيّ ابن سلول ، فقال لها : إذا دخلتُ بيت فرسي ، فشدّي
على الضبة بمسمار ، فضربته بمسمار حتى إذا خرج عطفه وقال : لا أخرج حتى يتوفاني
الله ، أو يرضى عني رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم; قال : وأتى عاصم
رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم فأخبره
(22/278)
خبره ، فقال : اذْهَبْ فادْعُهُ لي ،
فجاء عاصم إلى المكان ، فلم يجده ، فجاء إلى أهله ، فوجده في بيت الفرس ، فقال له
: إن رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم يدعوك ، فقال : اكسر الضَّبة ، قال
: فخرجا فأتيا نبيّ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم ، فقال له رسول الله
صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم : ما يُبكِيكَ يا ثابِتُ ؟ فقال : أنا صيت ،
وأتخوّف أن تكون هذه الآية نزلت فيّ( لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ
النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ ) فقال له رسول الله صَلَّى الله
عَلَيْهِ وَسَلَّم : أما تَرْضَى أنْ تَعيش حَمِيدًا ، وَتُقْتَلَ شَهِيدًا ،
وَتَدْخُلَ الجَنَّةَ ؟ فقال : رضيت ببُشرى الله ورسوله ، لا أرفع صوتي أبدا على
رسول الله ، فأنزل الله( إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ
اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى )...
الآية.
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا يعقوب ، عن حفص ، عن شمر بن عطية ، قال : جاء ثابت بن
قيس بن الشماس إلى رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم وهو محزون ، فقال : يا
ثابت ما الذي أرى بك ؟ فقال : آية قرأتها الليلة ، فأخشى أن يكون قد حَبِط عملي(
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ
النَّبِيِّ ) وكان في أُذنه صمم ، فقال : يا نبيّ الله أخشى أن أكون قد رفعت صوتي
، وجهرت لك بالقول ، وأن أكون قد حبط عملي ، وأنا لا أشعر : فقال النبيّ صَلَّى
الله عَلَيْهِ وَسَلَّم : " امْشِ على الأرْضِ نَشِيطا فإنَّكَ مِنْ أهْلِ
الجَنَّةِ " .
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : ثنا ابن علية ، قال : ثنا أيوب ، عن عكرِمة ، قال
: لما نزلت( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ
صَوْتِ النَّبِيِّ )... الآية ، قال ثابت بن قيس : فأنا كنت أرفع صوتي فوق صوت
النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم ، وأجهر له بالقول ، فأنا من أهل النار ،
فقعد في بيته ، فتفقده رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم ، وسأل عنه ، فقال
رجل : إنه لجاري ، ولئن شئت لأعلمنّ لك علمه ، فقال : نعم ، فأتاه فقال : إن
(22/279)
رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ
وَسَلَّم قد تفقدك ، وسأل عنك ، فقال : نزلت هذه الآية( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ )... الآية وأنا
كنت أرفع صوتي فوق صوت رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم ، وأجهر له بالقول
، فأنا من أهل النار ، فرجع إلى رسول الله فأخبره ، فقال : بَلْ هُوَ مِنْ أهْلِ
الجَنَّةِ; فلما كان يوم اليمامة انهزم الناس ، فقال : أفّ لهؤلاء وما يعبدون ،
وأفّ لهؤلاء وما يصنعون ، يا معشر الأنصار خلوا لي بشيء لعلي أصلى بحرّها ساعة قال
: ورجل قائم على ثلمة ، فقَتل وقُتل.
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن الزُّهريّ ، أن ثابت بن
قيس بن شماس ، قال : لما نزلت( لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ
النَّبِيِّ ) قال : يا نبيّ الله ، لقد خشيت أن أكون قد هلكت ، نهانا الله أن نرفع
أصواتنا فوق صوتك ، وإني امرؤ جهير الصوت ، ونهى الله المرء أن يحبّ أن يُحمد بما
لم يفعل ، فأجدني أحبّ أن أُحمد; ونهى الله عن الخُيَلاء وأجدني أحبّ الجمال; قال
: فقال له رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم : يا ثابت أما تَرْضَى أنْ
تَعِيشَ حَمِيدًا ، وَتُقْتَلَ شَهِيدًا ، وَتَدْخُلَ الجَنَّةَ ؟ فعاش حميدا ،
وقُتل شهيدا يوم مُسَيلمة.
حدثني عليّ بن سهل ، قال : ثنا مؤمل ، قال : ثنا نافع بن عمر بن جميل الجمحي ، قال
: ثني ابن أَبي مليكة ، عن الزبير ، قال : " قدم وفد أراه قال تميم ، على
النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم ، منهم الأقرع بن حابس ، فكلم أبو بكر
النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم أن يستعمله على قومه ، قال : فقال عمر : لا
تفعل يا رسول الله ، قال : فتكلما حتى ارتفعت أصواتهما عند النبيّ صَلَّى الله
عَلَيْهِ وَسَلَّم ، قال : فقال أبو بكر لعمر : ما أردت إلا خلافي ، قال : ما أردت
خلافك. قال : ونزل القرآن( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا
أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ )... إلى قوله( وَأَجْرٌ عَظِيمٌ ) قال :
فما حدّث عمر النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم بعد ذلك ، فَيُسْمِعَ النبي
صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم ، قال : وما
(22/280)
إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (3)
ذكر ابن الزبير جدّه ، يعني أبا بكر.
وقوله( أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ ) يقول : أن لا تحبط أعمالكم فتذهب باطلة لا
ثواب لكم عليها ، ولا جزاء برفعكم أصواتكم فوق صوت نبيكم ، وجهركم له بالقول كجهر
بعضكم لبعض.
وقد اختلف أهل العربية في معنى ذلك ، فقال بعض نحويي الكوفة : معناه : لا تحبط
أعمالكم. قال : وفيه الجزم والرفع إذا وضعت " لا " مكان " أن
" . قال : وهي في قراءة عبد الله( فَتَحْبَطْ أَعْمَالُكُمْ ) وهو دليل على
جواز الجزم ، وقال بعض نحويي البصرة : قال : أن تحبط أعمالكم : أي مخافة أن تحبط
أعمالكم وقد يقال : أسند الحائط أن يميل.
وقوله( وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ ) يقول : وأنتم لا تعلمون ولا تدرون.
القول في تأويل قوله تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ
رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى
لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (3) }
يقول تعالى ذكره : إن الذين يكفون رفع أصواتهم عند رسول الله ، وأصل الغضّ : الكفّ
في لين. ومنه : غضّ البصر ، وهو كفه عن النظر ، كما قال جرير :
فَغُضَّ الطَّرْفَ إنَّكَ مِنْ نُمَيْر... فَلا كَعْبا بَلَغتَ وَلا كِلابا (1)
__________
(1) البيت لجرير بن الخطفي ، من قصيدة يهجو بها الراعي النميري الشاعر . ( ديوانه
64 ) يقول له . غض نظرك أي كف بصرك ذلا ومهانة . وهذا موضع الشاهد عند قوله تعالى
" يغضون أصواتهم عند رسول الله " وهو من ذلك . قال في " اللسان :
غض " : وغض طرفه وبصره ، يغضه غضا وغضاضا ( ككتاب ) وغضاضة ( كسحابة ) فهو
مغضوض وغضيض " كفه وخفضه وكسره ، وقيل : هو إذا دانى بين جفونه ونظر . وقيل :
الغضيض : الطرف المسترخي الأجفان . وفي الحديث " كان إذا فرح غض طرفه "
، أي كسره وأطرق ، ولم يفتح عينيه . وإنما كان يفعل ذلك ، ليكون أبعد من الأشر
والمرح . أ هـ . وكعب وكلاب : حيان من تميم .
(22/281)
إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (4)
وقوله( أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ
اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى ) يقول تعالى ذكره : هؤلاء الذين يغضون أصواتهم
عند رسول الله ، هم الذين اختبر الله قلوبهم بامتحانه إياها ، فاصطفاها وأخلصها
للتقوى ، يعني لاتقائه بأداء طاعته ، واجتناب معاصيه ، كما يمتحن الذهب بالنار ،
فيخلص جيدها ، ويبطل خبثها (1) .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث ، قال :
ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله(
امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ ) قال : أخلص.
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، في قوله(
امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ ) قال : أخلص الله قلوبهم فيما أحبّ.
وقوله( لَهُمْ مَغْفِرَةٌ ) يقول : لهم من الله عفو عن ذنوبهم السالفة ، وصفح منه
عنها لهم( وَأَجْرٌ عَظِيمٌ ) يقول : وثواب جزيل ، وهو الجنة.
القول في تأويل قوله تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ
الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ 4 وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى
تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5) }
__________
(1) الضمير في جيدها وخبثها : راجع إلى الذهب ، لأنها مؤنثة ، وقد تذكر .
(22/282)
وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5)
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلَوْ
أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَاللَّهُ
غَفُورٌ رَحِيمٌ (5) }
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم : إن الذين ينادونك يا
محمد من وراء حجراتك ، والحجرات : جمع حجرة ، والثلاث : حُجَر ، ثم تجمع الحجر
فيقال : حجرات وحُجْرات ، وقد تجمع بعض العرب الحجر :
(22/282)
حَجرات بفتح الجيم ، وكذلك كلّ جمع كان
من ثلاثة إلى عشرة على فُعَلٍ يجمعونه على فعَلات بفتح ثانيه ، والرفع أفصح وأجود;
ومنه قول الشاعر :
أما كانَ عَبَّادٌ كَفِيئا لِدَارِم... بَلى ، وَلأبْياتٍ بِها الحُجُرَات (1)
يقول : بلى ولبني هاشم.
وذُكر أن هذه الآية والتي بعدها نزلت في قوم من الأعراب جاءوا ينادون رسول الله
صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم من وراء حجراته : يا محمد اخرج إلينا.
* ذكر الرواية بذلك :
حدثنا أبو عمار المروزي ، والحسن بن الحارث ، قالا ثنا الفضل بن موسى ، عن الحسين
بن واقد ، عن أبي إسحاق ، عن البرّاء في قوله( إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ
وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ ) قال : جاء رجل إلى النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم ،
فقال : يا محمد إنّ حمدي زين ، وإن ذمِّي شين ، فقال : " ذَاكَ اللّهُ
تَباركَ وتَعَالى " .
حدثنا ابن حُمَيد ، قال : ثنا يحيى بن واضح ، قال : ثنا الحسين ، عن أبي إسحاق ،
عن البراء بمثله ، إلا أنه قال : ذاكم الله عزّ وجلّ.
__________
(1) في كتاب الكامل للمبرد ( طبعة الحلبي 85 ) : يقال : فلان كفاء فلان ، وكفيء
فلان ، وكفء فلان ؛ أي : عديله. ويروى أن الفرزدق بلغه أن رجلا من الحبطات بن عمرو
بن تميم خطب امرأة من بني دارم بن مالك بن حنظلة بن مالك بن زيد مناة بن تميم ،
فقال الفرزدق : بَنُو دَارِمٍ أكْفاؤُهُمْ آلُ مِسْمَعٍ ... وتنكح في أكفائها
الحَبِطاتُ
( آل مسمع بيت بكر بن وائل في الإسلام ، وهم من بني قيس بن ثعلبة بن عكابة ) قال :
فقال رجل من الحبطات : " أما كان عباد كفيئا ... " البيت . يعني بني
هاشم ( يريد أبيات بني هاشم ) من قول الله عز وجل : " إن الذين ينادونك من
وراء الحجرات " . والشاهد في البيت قوله " الحجرات " بضم الحاء
والجيم ، وهي جمع حجرة ، وتجمع الحجرة وما شابهها على حجرات بضمتين ، وبضم ففتح ،
وبضم فسكون . ويرى المؤلف أن الجمع الأول أفصح وأجود . أ هـ .
(22/283)
حدثنا الحسن بن عرفة ، قال : ثنا
المعتمر بن سليمان التيمي ، قال : سمعت داود الطُّفاوي يقول : سمعت أبا مسلم
البجلي يحدث عن زيد بن أرقم ، قال : جاء أناس من العرب إلى النبيّ صَلَّى الله
عَلَيْهِ وَسَلَّم ، فقال بعضهم لبعض : انطلقوا بنا إلى هذا الرجل ، فإن يكن نبيا
فنحن أسعد الناس به ، وإن يكن ملِكا نعش في جناحه; قال : فأتيت النبيّ صَلَّى الله
عَلَيْهِ وَسَلَّم ، فأخبرته بذلك ، قال : ثم جاءوا إلى حجر النبي صَلَّى الله
عَلَيْهِ وَسَلَّم ، فجعلوا ينادونه. يا محمد ، فأنزل الله على نبيه صَلَّى الله
عَلَيْهِ وَسَلَّم( إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ
أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ ) قال : فأخذ نبيّ الله بأذني فمدّها ، فجعل يقول :
" قَدْ صَدَّقَ اللّهُ قَوْلَكَ يا زَيْدُ ، قَدْ صَدَّقَ اللّهُ قَوْلَكَ يا
زَيْدُ " .
حدثنا الحسن بن أبي يحيى المقدمي ، قال : ثنا عفان ، قال : ثنا وُهَيب ، قال : ثنا
موسى بن عقبة ، عن أبي سَلَمة ، قال : ثني الأقرع بن حابس التميميّ أنه أتى النبيّ
صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم ، فناداه ، فقال : يا محمد إن مدحي زين ، وإن شتمي
شين; فخرج إليه النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم فقال : وَيْلَكَ ذَلِكَ اللّهُ
، فأنزل الله( إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ )...
الآية.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث ، قال :
ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله( إِنَّ
الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ ) : أعراب بني تميم.
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة " أن رجلا
جاء إلى النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم ، فناداه من وراء الحُجَر ، فقال :
يا محمد إنّ مدحي زين ، وإنّ شتمي شَيْن; فخرج إليه النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ
وَسَلَّم ، فقال : وَيْلَكَ ذلكَ اللّهُ ، فأنزل الله( إِنَّ الَّذِينَ
يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ ).
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة قوله( إِنَّ الَّذِينَ
يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ )... الآية ، ذُكر لنا أن رجلا جعل ينادي
يا
(22/284)
نبيّ الله يا محمد ، فخرج إليه النبيّ
صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم ، فقال : ما شأنُكَ ؟ فقال : والله إنّ حمده لزين ،
وإنّ ذمَّه لَشَيْن ، فقال نبيّ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم : ذَاكُمُ
اللّهُ ، فأدبر الرجل ، وذُكر لنا أن الرجل كان شاعرا.
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا مهران ، عن سفيان ، عن حبيب بن أبي عمرة ، قال : كان
بشر بن غالب ولَبيد بن عُطارد ، أو بشر بن عُطارد ولبيد بن غالب ، وهما عند الحجاج
جالسان ، يقول بشر بن غالب للبيد بن عطارد نزلت في قومك بني تميم( إِنَّ الَّذِينَ
يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ ) فذكرت ذلك لسعيد بن جُبير ، فقال : أما
إنه لو علم بآخر الآية ، أجابه( يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا ) قالوا :
أسلمنا ، ولم يقاتلك بنو أسد.
حدثنا ابن حُمَيد ، قال : ثنا مهران ، عن المبارك بن فضالة ، عن الحسن ، قال :
" أتى أعرابيّ إلى النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم من وراء حجراته ،
فقال : يا محمد ، يا محمد; فخرج إليه النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم فقال :
مالك ؟ مالك ؟ ، فقال : تعلم أنّ مدحي لزين ، وأن ذمِّي لشين ، فقال النبيّ صَلَّى
الله عَلَيْهِ وَسَلَّم : ذَاكُمُ اللّهُ ، فنزلت( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ ) " .
واختلفت القرّاء في قراءة قوله( مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ ) فقرأته قرّاء الأمصار
بضمّ الحاء والجيم من الحُجُرات ، سوى أبي جعفر القارئ ، فإنه قرأ بضم الحاء وفتح
الجيم على ما وصفت من جمع الحُجرة حُجَر ، ثم جمع الحُجْر : حُجُرات " .
والصواب من القراءة عندنا الضم في الحرفين كليهما لما وصفت قبل.
وقوله( أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ ) يقول : أكثرهم جهال بدين الله ، واللازم لهم
من حقك وتعظيمك.
وقوله( وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا
لَهُمْ ) يقول تعالى ذكره : ولو أن هؤلاء الذين ينادونك يا محمد من وراء الحجرات
صبروا فلم ينادوك حتى تخرج إليهم إذا خرجت ، لكان خيرا لهم عند الله ، لأن الله قد
أمرهم بتوقيرك وتعظيمك ، فهم بتركهم نداءك تاركون ما قد نهاهم الله عنه ، (
وَاللَّهُ
(22/285)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ (6)
غَفُورٌ رَحِيمٌ ) يقول تعالى ذكره :
الله ذو عفو عمن ناداك من وراء الحجاب ، إن هو تاب من معصية الله بندائك كذلك ،
وراجع أمر الله في ذلك ، وفي غيره; رحيم به أن يعاقبه على ذنبه ذلك من بعد توبته
منه.
القول في تأويل قوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ
فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا
عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ (6) }
يقول تعالى ذكره : يا أيها الذين صدّقوا الله ورسوله( إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ
بِنَبَإٍ ) عن قوم( فَتَبَيَّنُوا ).
واختلفت القرّاء في قراءة قوله( فَتَبَيَّنُوا ) فقرأ ذلك عامة قراء أهل المدينة(
فَتَثَبَّتُوا ) بالثاء ، وذُكر أنها في مصحف عبد الله منقوطة بالثاء. وقرأ ذلك
بعض القرّاء فتبيَّنوا بالباء ، بمعنى : أمهلوا حتى تعرفوا صحته ، لا تعجلوا
بقبوله ، وكذلك معنى( فَتَثَبَّتُوا ).
والصواب من القول في ذلك أنهما قراءتان معروفتان متقاربتا المعنى ، فبأيتهما قرأ
القارئ فمصيب.
وذُكر أن هذه الآية نزلت في الوليد بن عقبة بن أبي مُعَيط.
* ذكر السبب الذي من أجله قيل ذلك :
حدثنا أبو كُريب ، قال : ثنا جعفر بن عون ، عن موسى بن عبيدة ، عن ثابت موْلى أمّ
سلمة ، عن أمّ سلمة ، قالت : " بعث رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم
رجلا في صدقات بني المصطلق بعد الوقعة ، فسمع بذلك القوم ، فتلقوه يعظمون أمر رسول
الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم ، قال : فحدّثه الشيطان أنهم يريدون قتله ،
قالت : فرجع إلى رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم ، فقال : إن بني المصطلق
قد منعوا صدقاتهم ، فغضب رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم والمسلمون قال :
فبلغ القوم رجوعه قال : فأتوا رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم فصفوا
(22/286)
له حين صلى الظهر فقالوا : نعوذ بالله
من سخط الله وسخط رسوله بعثت إلينا رجلا مصدّقا ، فسررنا بذلك ، وقرّت به أعيننا ،
ثم إنه رجع من بعض الطريق ، فخشينا أن يكون ذلك غضبا من الله ومن رسوله ، فلم
يزالوا يكلمونه حتى جاء بلال ، وأذّن بصلاة العصر; قال : ونزلت( يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا
قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ ).
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ،
عن ابن عباس ، قوله( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ
بِنَبَإٍ ). . . الآية ، قال : كان رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم بعث
الوليد بن عقبة بن أبي معيط ، ثم أحد بني عمرو بن أمية ، ثم أحد بني أبي معيط إلى
بني المصطلق ، ليأخذ منهم الصدقات ، وإنه لما أتاهم الخبر فرحوا ، وخرجوا
ليَتَلَقَّوْا رسول رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم ، وإنه لما حدّث
الوليد أنهم خرجوا يتلقونه ، رجع إلى رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم ،
فقال : يا رسول الله إن بني المصطلق قد منعوا الصدقة ، فغضب رسول الله صَلَّى الله
عَلَيْهِ وَسَلَّم غضبا شديدا ، فبينما هو يحدّث نفسه أن يغزوهم ، إذ أتاه الوفد ،
فقالوا : يا رسول الله ، إنا حدّثنا أن رسولك رجع من نصف الطريق ، وإنا خشينا أن
يكون إنما ردّه كتاب جاءه منك لغضب غضبته علينا ، وإنا نعوذ بالله من غضبه وغضب
رسوله ، فأنزل الله عذرهم في الكتاب ، فقال( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ
جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ
فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ ).
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال
: ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد " في
قوله( إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ ) قال : الوليد بن عقبة بن أبي معيط ، بعثه
نبيّ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم إلى بني المصطلق ، ليصدّقهم ، فتلقوه
بالهدية فرجع إلى محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم ، فقال : إن بني المصطلق
جمعت
(22/287)
لتقاتلك " .
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله( يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ )... حتى بلغ( بِجَهَالَةٍ )
وهو ابن أبي معيط الوليد بن عقبة ، بعثه نبيّ لله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم
مصدّقا إلى بني المصطلق ، فلما أبصروه أقبلوا نحوه ، فهابهم ، فرجع إلى رسول الله
صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم ، فأخبره أنهم قد ارتدّوا عن الإسلام ، فبعث نبيّ
الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم خالد بن الوليد ، وأمره أن يتثبَّت ولا يعجل ،
فانطلق حتى أتاهم ليلا فبعث عيونه; فلما جاءوا أخبروا خالدا أنهم مستمسكون
بالإسلام ، وسمعوا أذانهم وصلاتهم ، فلما أصبحوا أتاهم خالد ، فرأى الذي يعجبه ،
فرجع إلى نبيّ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم ، فأخبره الخبر ، فأنزل الله
عزّ وجلّ ما تسمعون ، فكان نبيّ الله يقول : التَّبَيُّنُ مِنَ اللّهِ ،
والعَجَلَةُ مِنَ الشَّيْطان " .
حدثنا بن عبد الأعلى ، قال : ثنا أبن ثور ، عن معمر ، عن قتادة( يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ ) فذكر نحوه.
حدثنا محمد بن بشار ، قال : ثنا عبد الرحمن ، قال : ثنا سفيان ، عن هلال الوزّان ،
عن ابن أبي ليلى ، في قوله( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ
فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا ) قال : نزلت في الوليد بن عقبة بن أبي معيط.
حدثنا ابن حُمَيد ، قال : ثنا مهران ، عن سفيان ، عن حُمَيد ، عن هلال الأنصاري ،
عن عبد الرحمن بن أبي لَيلى( إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ ) قال : نزلت في
الوليد بن عقبة حين أُرسل إلى بني المصطلق.
قال : ثنا سلمة ، قال : ثنا محمد بن إسحاق ، عن يزيد بن رومان ، أن رسول الله
صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم بعث إلى بني المصطلق بعد إسلامهم ، الوليد بن أبي
معيط; فلما سمعوا به ركبوا إليه; فلما سمع بهم خافهم فرجع إلى رسول الله صلى الله
، فأخبره أن القوم قد هَموا بقتله ، ومنعوا ما قِبَلهم من صدقاتهم ، فأكثر
المسلمون في ذكر غزوهم حتى همّ رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم بأن
يغزوهم ، فبينما هم في ذلك قَدِم وفدهم على رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ
(22/288)
وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ (7) فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (8)
وَسَلَّم ، فقالوا : يا رسول الله
سمعنا برسولك حين بعثته إلينا ، فخرجنا إليه لنكرمه ، ولنؤدّي إليه ما قبلنا من
الصدقة ، فاستمرّ راجعا ، فبلغنا أنه يزعم لرسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ
وَسَلَّم أنا خرجنا إليه لنقاتله ، و والله ما خرجنا لذلك; فأنزل الله في الوليد
بن عقبة وفيهم : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ
بِنَبَإٍ )... الآية.
قال : (1) بعث رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم رجلا من أصحابه إلى قوم
يصدقهم ، فأتاهم الرجل ، وكان بينه وبينهم إحنة في الجاهلية; فلما أتاهم رحبوا به
، وأقرّوا بالزكاة ، وأعطوا ما عليهم من الحقّ ، فرجع الرجل إلى رسول الله صَلَّى
الله عَلَيْهِ وَسَلَّم ، فقال : يا رسول الله ، منع بنو فلان الصدقة ، ورَجعوا عن
الإسلام ، فغضب رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم ، وبعث إليهم فأتوْه فقال
: أمَنَعْتُمُ الزَّكاةَ ، وَطَرَدْتُمْ رَسُولي ؟ " فقالوا : والله ما فعلنا
، وإنا لنعلم أنك رسول الله ، ولا بدّ لنا ، ولا منعنا حقّ الله في أموالنا ، فلم
يصدقهم رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم ، فأنزل الله هذه الآية ، فعذرهم.
وقوله( أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ ) يقول تعالى ذكره : فتبيَّنوا لئلا
تصيبوا قوما برآء مما قذفوا به بجناية بجهالة منكم( فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا
فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ ) يقول : فتندموا على إصابتكم إياهم بالجناية التي تصيبونهم
بها.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ
يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الأمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ
إِلَيْكُمُ الإيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ
وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ (7) فَضْلا مِنَ
اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (8) }
يقول تعالى ذكره : لأصحاب نبيّ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم : واعلموا أيها
__________
(1) يظهر أن هذا بدء رواية أخرى ، أوردها في الدر عن جابر .
(22/289)
المؤمنون بالله ورسوله ، ( أَنَّ
فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ ) فاتقوا الله أن تقولوا الباطل ، وتفتروا الكذب ، فإن
الله يخبره أخباركم ، ويعرّفه أنباءكم ، ويقوّمه على الصواب في أموره.
وقوله( لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الأمْرِ لَعَنِتُّمْ ) يقول تعالى ذكره
: لو كان رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم يعمل في الأمور بآرائكم ويقبل
منكم ما تقولون له فيطيعكم( لَعَنِتُّمْ ) يقول : لنالكم عنت ، يعني الشدّة
والمشقة في كثير من الأمور بطاعته إياكم لو أطاعكم لأنه كان يخطئ في أفعاله كما لو
قبل من الوليد بن عقبة قوله في بني المصطلق : إنهم قد ارتدّوا ، ومنعوا الصدقة ،
وجمعوا الجموع لغزو المسلمين ، فغزاهم فقتل منهم ، وأصاب من دمائهم وأموالهم ، كان
قد قتل ، وقتلتم من لا يحلّ له ولا لكم قتله ، وأخذ وأخذتم من المال ما لا يحلّ له
ولكم أخذه من أموال قوم مسلمين ، فنالكم من الله بذلك عنت( وَلَكِنَّ اللَّهَ
حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإيمَانَ ) بالله ورسوله ، فأنتم تطيعون رسول الله ، وتأتمون
به فيقيكم الله بذلك من العنت ما لو لم تطيعوه وتتبعوه ، وكان يطيعكم لنالكم
وأصابكم.
وقوله( وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ ) يقول : وحسن الإيمان في قلوبكم فآمنتم(
وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ ) بالله( وَالْفُسُوقَ ) يعني الكذب ، (
وَالْعِصْيَانَ ) يعني ركوب ما نهى الله عنه في خلاف أمر رسول الله صَلَّى الله
عَلَيْهِ وَسَلَّم ، وتضييع ما أمر الله به( أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ ) يقول
: هؤلاء الذين حبَّب الله إليهم الإيمان ، وزيَّنه في قلوبهم ، وكرّه إليهم الكفر
والفسوق والعصيان أولئك هم الراشدون السالكون طريق الحق.
وقوله( فَضْلا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً ) يقول : ولكن الله حبَّب إليكم الإيمان ،
وأنعم عليكم هذه النعمة التي عدّها فضلا منه ، وإحسانا ونعمة منه أنعمها عليكم(
وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ) يقول : والله ذو علم بالمحسن منكم من المسيء ، ومن هو
لنعم الله وفضله أهل ، ومن هو لذلك غير أهل ، وحكمة في تدبيره خلقه ،
(22/290)
وصرفه إياهم فيما شاء من قضائه.
وبنحو الذي قلنا في تأويل قوله( وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ
يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الأمْرِ لَعَنِتُّمْ ) قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( وَاعْلَمُوا أَنَّ
فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ )... حتى بلغ( لَعَنِتُّمْ ) هؤلاء أصحاب نبيّ الله
صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم ، لو أطاعهم نبيّ الله في كثير من الأمر لعنتم ،
فأنتم والله أسخف رأيا ، وأطيش عقولا اتهم رجل رأيه ، وانتصح كتاب الله ، وكذلك
كما قلنا أيضا في تأويل قوله( وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإيمَانَ )
قالوا .
* ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله( حَبَّبَ
إِلَيْكُمُ الإيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ ) قال : حببه إليهم وحسَّنه في
قلوبهم.
وبنحو الذي قلنا في تأويل قوله( وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ
وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ فَضْلا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً )
قالوا أيضا.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : ( وَكَرَّهَ
إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ ) قال : الكذب والعصيان; قال : عصيان النبيّ
صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم( أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ ) من أين كان هذا ؟
قال : فضل من الله ونعمة; قال : والمنافقون سماهم الله أجمعين في القرآن الكاذبين;
قال :
(22/291)
وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (9)
والفاسق : الكاذب في كتاب الله كله.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ
اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأخْرَى
فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ
فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ
الْمُقْسِطِينَ (9) }
يقول تعالى ذكره : وإن طائفتان من أهل الإيمان اقتتلوا ، فأصلحوا أيها المؤمنون
بينهما بالدعاء إلى حكم كتاب الله ، والرضا بما فيه لهما وعليهما ، وذلك هو
الإصلاح بينهما بالعدل( فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأخْرَى ) يقول : فإن
أبَت إحدى هاتين الطائفتين الإجابة إلى حكم كتاب الله له ، وعليه وتعدّت ما جعل
الله عدلا بين خلقه ، وأجابت الأخرى منهما( فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي ) يقول :
فقاتلوا التي تعتدي ، وتأبى الإجابة إلى حكم الله( حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ
اللَّهِ ) يقول : حتى ترجع إلى حكم الله الذي حكم في كتابه بين خلقه( فَإِنْ
فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ ) يقول : فإن رجعت الباغية بعد
قتالكم إياهم إلى الرضا بحكم الله في كتابه ، فأصلحوا بينها وبين الطائفة الأخرى
التي قاتلتها بالعدل : يعني بالإنصاف بينهما ، وذلك حكم الله في كتابه الذي جعله
عدلا بين خلقه.
وينحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : ثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ،
قوله( وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا
بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي
تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ ) فإن الله سبحانه أمر النبيّ صَلَّى
الله عَلَيْهِ وَسَلَّم والمؤمنين إذا اقتتلت طائفتان من المؤمنين أن يدعوهم إلى
حكم الله ، وينصف بعضهم من بعض ، فإن أجابوا حكم فيهم
(22/292)
بكتاب الله ، حتى ينصف المظلوم من
الظالم ، فمن أبى منهم أن يجيب فهو باغ ، فحقّ على إمام المؤمنين أن يجاهدهم
ويقاتلهم ، حتى يفيئوا إلى أمر الله ، ويقرّوا بحكم الله.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله( وَإِنْ
طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا )... إلى آخر الآية ، قال : هذا أمر
من الله أمر به الوُلاة كهيئة ما تكون العصبة بين الناس ، وأمرهم أن يصلحوا بينهما
، فإن أبوْا قاتل الفئة الباغية ، حتى ترجع إلى أمر الله ، فإذا رجعت أصلحوا
بينهما ، وأخبروهم أن المؤمنين إخوة ، فأصلحوا بين أخويكم; قال : ولا يقاتل الفئة
الباغية إلا الإمام.
وذُكر أن هذه الآية نزلت في طائفتين من الأوس والخزرج اقتتلتا في بعض ما تنازعتا
فيه ، مما سأذكره إن شاء الله تعالى.
* ذكر الرواية بذلك :
حدثني محمد بن عبد الأعلى ، قال : ثنا معتمر بن سليمان ، عن أبيه ، عن أنس ، قال :
قيل للنبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم : لو أتيت عبد الله بن أُبيّ ، قال :
فانطلق إليه وركب حمارا ، وانطلق المسلمون ، وهي أرض سبخة; فلما أتاه رسول الله
صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم قال : إليك عني ، فوالله لقد آذاني نتن حمارك ،
فقال رجل من الأنصار : والله لنتن حمار رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم
أطيب ريحا منك ، قال : فغضب لعبد الله بن أُبيّ رجل من قومه قال : فغضب لكل واحد
منهما أصحابه ، قال : فكان بينهم ضرب بالجريد والأيدي والنعال ، فبلغنا أنه نزلت
فيهم( وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا
بَيْنَهُمَا ).
حدثني أبو حُصين عبد الله بن أحمد بن يونس ، قال : ثنا عبثر ، قال : ثني حصين ، عن
أبي مالك في قوله( وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا
فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا ) قال : رجلان اقتتلا فغضب لذا قومه ، ولذا قومه ،
فاجتمعوا
(22/293)
حتى اضربوا بالنعال حتى كاد يكون بينهم
قتال ، فأنزل الله هذه الآية.
حدثنا أبو كُرَيب ، قال : ثنا هشيم ، عن حصين ، عن أبي مالك ، في قوله( وَإِنْ
طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا ) قال : كان بينهم قتال بغير سلاح.
حدثني يعقوب ، قال : ثنا هشيم ، قال : أخبرنا حصين ، عن أبي مالك ، في قوله(
وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا )
قال : كانا حيين من أحياء الأنصار ، كان بينهما تنازع بغير سلاح.
حدثنا ابن حُمَيد ، قال : أخبرنا جرير ، عن منصور ، عن سعيد بن جُبير ، عن ابن
عباس ، في قوله( وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا
فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا ) قال : كان قتالهم بالنعال والعصيّ ، فأمرهم أن يصلحوا
بينهم.
قال : ثنا مهران ، قال : ثنا المُبارك بن فَضَالة ، عن الحسن( وَإِنْ طَائِفَتَانِ
مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا ) قال : كانت تكون الخصومة بين الحيين ، فيدعوهم
إلى الحكم ، فيأبَوْن أن يجيبوا فأنزل الله : ( وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ
الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا
عَلَى الأخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ
) يقول : ادفعوهم إلى الحكم ، فكان قتالهم الدفع.
قال : ثنا مهران ، قال : ثنا سفيان ، عن السديّ( وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ
الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا ) قال : كانت امرأة من
الأنصار يقال لها أم زيد ، تحت رجل ، فكان بينها وبين زوجها شيء ، فرقاها إلى علية
، فقال لهم : احفظوا ، فبلغ ذلك قومها ، فجاءوا وجاء قومه ، فاقتتلوا بالأيدي
والنعال فبلغ ذلك النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم ، فجاء ليصلح بينهم ، فنزل
القرآن( وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا
فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأخْرَى ) قال : تبغي : لا ترضى بصلح رسول الله
صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم ، أو بقضاء رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ
وَسَلَّم.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث ، قال :
ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ،
(22/294)
عن مجاهد ، قوله( وَإِنْ طَائِفَتَانِ
مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا ) قال : الأوس والخزرج اقتتلوا بالعصيّ بينهم.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( وَإِنْ طَائِفَتَانِ
مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا )... الآية ، ذُكر لنا أنها نزلت في رجلين من
الأنصار كانت بينهما مدارأة في حقّ بينهما ، فقال أحدهما للآخر : لآخذنه عنوة
لكثرة عشيرته ، وأن الآخر دعاه ليحاكمه إلى نبيّ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ
وَسَلَّم ، فأبى أن يتبعه ، فلم يزل الأمر حتى تدافعوا ، وحتى تناول بعضهم بعضا
بالأيدي والنعال ، ولم يكن قتال بالسيوف ، فأمر الله أن تُقاتل حتى تفيء إلى أمر
الله ، كتاب الله ، وإلى حكم نبيه صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم; وليست كما
تأوّلها أهل الشبهات ، وأهل البدع ، وأهل الفراء على الله وعلى كتابه ، أنه المؤمن
يحلّ لك قتله ، فوالله لقد عظَّم الله حُرمة المؤمن حتى نهاك أن تظنّ بأخيك إلا
خيرا ، فقال( إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ )... الآية.
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن الحسن ، أن قوما من
المسلمين كان بينهم تنازع حتى اضطربوا بالنعال والأيدي ، فأنزل الله فيهم( وَإِنْ
طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا ) قال قتادة : كان رجلان بينهما حقّ
، فتدارءا فيه ، فقال أحدهما : لآخذنَّه عنوة ، لكثرة عشيرته; وقال الآخر : بيني
وبينك رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم ، فتنازعا حتى كان بينهما ضرب
بالنعال والأيدي.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، قال : ثني عبد الله بن
عباس ، قال : قال زيد ، في قول الله تعالى : ( وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ
الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا ) ، وذلك الرجلان يقتتلان من
أهل الإسلام ، أو النفر والنفر ، أو القبيلة والقبيلة; فأمر الله أئمة المسلمين أن
يقضوا بينهم بالحقّ الذي أنزله في كتابه : إما القصاص والقود ، وإمَّا العقل
والعير ، وإمَّا العفو ، ( فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأخْرَى ) بعد ذلك
كان المسلمون مع المظلوم على
(22/295)
الظالم ، حتى يفيء إلى أمر الله ،
ويرضى به.
حدثنا ابن البرقي ، قال : ثنا ابن أبي مريم ، قال : أخبرنا نافع بن يزيد ، قال :
أخبرنا ابن جُرَيج ، قال : ثني ابن شهاب وغيره : يزيد في الحديث بعضهم على بعض ،
قال : " جلس رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم في مجلس فيه عبد الله
بن رواحة ، وعبد الله بن أُبيّ بن سلول : فلما ذهب رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ
وَسَلَّم قال عبد الله بن أُبيّ بن سلول : لقد آذانا بول حماره ، وسدّ علينا الروح
، وكان بينه وبين ابن رواحة شيء حتى خرجوا بالسلاح ، فأتى رسول الله صَلَّى الله
عَلَيْهِ وَسَلَّم ، فأتاهم ، فحجز بينهم ، فلذلك يقول عبد الله بن أُبيّ :
مَتى ما يَكُنْ مَوْلاكَ خَصْمَكَ جاهدا... تُظَلَّم وَيَصْرَعْكَ الَّذينَ
تُصَارِعُ (1)
قال : فأنزلت فيهم هذه الآية( وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ
اقْتَتَلُوا ).
وقوله( وَأَقْسِطُوا ) يقول تعالى ذكره : واعدلوا أيها المؤمنون في حكمكم بين من
حكمتم بينهم بأن لا تتجاوزوا في أحكامكم حكم الله وحكم رسوله( إِنَّ اللَّهَ
يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ) يقول : إن الله يحب العادلين في أحكامهم ، القاضين بين
خلقه بالقسط.
__________
(1) البيت لعبد الله بن أبي بن سلول ، كما عزاه المؤلف . وقد وردت قصيدة ابن سلول
هذه في السيرة لابن هشام الطبعة الأولى بمطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده
بالقاهرة 2 : 236 ، 237 . وورد في أثنائها البيت ومعه بيت آخر ، رواه ابن هشام عن
غير ابن إسحاق وهما : متى ما يكن مولاك خصمك لا تزل ... تذل ويصرعك الذين تصارع
وهل ينهض البازي بغير جناحه ... وإن جذ يوما ريشه فهو واقع
وكان النبي صلى الله عليه وسلم ركب حمارًا ، قاصدًا إلى سعد بن عبادة يعوده من شكو
أصابه ، فمر بطريقه بأطم ابن سلول ، فنزل يسلم عليه ، وتلا عنده شيئا من القرآن .
فكلم رسول الله كلامًا خشنًا ، ونهاه أن يغشى مجالس الأنصار ، ويعرض عليهم القرآن
. وكان ابن رواحة حاضرًا ، فتلطف برسول الله صلى الله عليه وسلم وقال : بلى فاغشنا
به ، وائتنا في مجالسنا ودورنا وبيوتنا ، هو والله مما نحب ، ومما أكرمنا الله به
، وهدانا له ، فقال ابن أبي حين رأى من خلاف قومه ما رأى ... البيتين .
(22/296)
إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (10) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (11)
القول في تأويل قوله تعالى : {
إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا
اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (10) }
يقول تعالى ذكره لأهل الإيمان به( إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ ) في الدين(
فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ ) إذا اقتتلا بأن تحملوهما على حكم الله وحكم
رسوله. ومعنى الأخوين في هذا الموضع : كل مقتتلين من أهل الإيمان ، وبالتثنية قرأ
ذلك قرّاء الأمصار. وذُكر عن ابن سيرين أنه قرأ بين إخوانكم بالنون على مذهب الجمع
، وذلك من جهة العربية صحيح ، غير أنه خلاف لما عليه قرّاء الأمصار ، فلا أحب
القراءة بها( وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ) يقول تعالى ذكره :
وخافوا الله أيها الناس بأداء فرائضه عليكم في الإصلاح بين المقتتلين من أهل
الإيمان بالعدل ، وفي غير ذلك من فرائضه ، واجتناب معاصيه ، ليرحمكم ربكم ، فيصفح
لكم عن سالف إجرامكم إذا أنتم أطعتموه ، واتبعتم أمره ونهيه ، واتقيتموه بطاعته.
القول في تأويل قوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَومٌ
مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ
عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلا
تَنَابَزُوا بِالألْقَابِ بِئْسَ الاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإيمَانِ وَمَنْ لَمْ
يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (11) }
يقول تعالى ذكره : يا أيها الذين صدّقوا الله ورسوله ، لا يهزأ قوم مؤمنون من قوم
مؤمنين( عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ ) يقول : المهزوء منهم خير من
الهازئين( وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ ) يقول : ولا يهزأ نساء مؤمنات من نساء
مؤمنات ، عسى المهزوء منهنّ أن يكنّ خيرا من الهازئات.
واختلف أهل التأويل في السخرية التي نهى الله عنها المؤمنين في هذه الآية ،
(22/297)
فقال بعضهم : هي سخرية الغنيّ من
الفقير ، نهي أن يسخر من الفقير لفقره.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث ، قال :
ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد( لا يَسْخَرْ
قَومٌ مِنْ قَوْمٍ ) قال : لا يهزأ قوم بقوم أن يسأل رجل فقير غنيا ، أو فقيرا ،
وإن تفضل رجل عليه بشيء فلا يستهزئ به.
وقال آخرون : بل ذلك نهي من الله من ستر عليه من أهل الإيمان أن يسخر ممن كشف في
الدنيا ستره منهم.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله( يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا
مِنْهُمْ وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ ) قال :
ربما عثر على المرء عند خطيئته عسى أن يكونوا خيرا منهم ، وإن كان ظهر على عثرته
هذه ، وسترت أنت على عثرتك ، لعلّ هذه التي ظهرت خير له في الآخرة عند الله ، وهذه
التي سترت أنت عليها شرّ لك ، ما يدريك لعله ما يغفر لك; قال : فنهي الرجل عن ذلك
، فقال( لا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ )
وقال في النساء مثل ذلك.
والصواب من القول في ذلك عندي أن يقال : إن الله عمّ بنهيه المؤمنين عن أن يسخر
بعضهم من بعض جميع معاني السخرية ، فلا يحلّ لمؤمن أن يسخر من مؤمن لا لفقره ، ولا
لذنب ركبه ، ولا لغير ذلك.
وقوله( وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ ) يقول تعالى ذكره : ولا يغتب بعضكم بعضا
أيها المؤمنون ، ولا يطعن بعضكم على بعض; وقال : ( وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ )
فجعل اللامز أخاه لامزا نفسه ، لأن المؤمنين كرجل واحد فيما يلزم بعضهم لبعض من
تحسين أمره ، وطلب صلاحه ، ومحبته الخير. ولذلك رُوي الخبر عن
(22/298)
رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ
وَسَلَّم أنه قال : " المُؤْمِنُونَ كالجَسَدِ الواحِد إذَا اشْتَكَى مِنْهُ
عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سائِرُ جَسَدِهِ بالحُمَّى والسَّهَر " . وهذا نظير
قوله( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ
بِالْبَاطِلِ إِلا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلا تَقْتُلُوا
أَنْفُسَكُمْ ) بمعنى : ولا يقتل بعضكم بعضا.
وبنحو الذي قلنا في معنى ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث ، قال :
ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله(
وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ ) قال : لا تطعنوا.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله( وَلا تَلْمِزُوا
أَنْفُسَكُمْ ) يقول : ولا يطعن بعضكم على بعض.
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، مثله.
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ،
عن ابن عباس ، قوله( وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ ) يقول : لا يطعن بعضكم على
بعض.
قوله( وَلا تَنَابَزُوا بِالألْقَابِ ) يقول : ولا تداعوا بالألقاب; والنبز واللقب
بمعنى واحد ، يُجمع النبز : أنبازا ، واللقب : ألقابا.
واختلف أهل التأويل في الألقاب التي نهى الله عن التنابز بها في هذه الآية ، فقال
بعضهم : عنى بها الألقاب التي يكره النبز بها الملقَّب ، وقالوا : إنما نزلت هذه
الآية في قوم كانت لهم أسماء في الجاهلية ، فلما أسلموا نهوا أن يدعو بعضهم بعضا
بما يكره من أسمائه التي كان يدعى بها في الجاهلية.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا حميد بن مسعدة ، قال : ثنا بشر بن المفضل ، قال : ثنا داود ،
(22/299)
عن عامر ، قال : قال أبو جبيرة بن
الضحاك : فينا نزلت هذه الآية في بني سلمة ، قدِم رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ
وَسَلَّم ، وما منا رجل إلا وله اسمان أو ثلاثة ، فكان إذا دعا الرجل بالاسم ،
قلنا : يا رسول الله إنه يغضب من هذا ، فنزلت هذه الآية( وَلا تَنَابَزُوا
بِالألْقَابِ )... الآية كلها.
حدثني محمد بن المثنى ، قال : ثنا عبد الوهاب ، قال : ثنا داود ، عن عامر ، عن أبي
جُبيرة بن الضحاك ، قال : كان أهل الجاهلية يسمون الرجل بالأسماء ، فدعا النبيّ
صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم رجلا باسم من تلك الأسماء ، فقالوا : يا رسول الله
إنه يغضب من هذا ، فأنزل الله( وَلا تَنَابَزُوا بِالألْقَابِ بِئْسَ الاسْمُ
الْفُسُوقُ بَعْدَ الإيمَانِ ).
حدثنا ابن المثنى ، قال : ثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا داود ، عن عامر ، قال :
ثني أبو جُبيرة بن الضحاك ، فذكر عن النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم ، نحوه.
حدثني يعقوب ، قال : ثنا ابن عُلَية ، قال : أخبرنا داود عن الشعبيّ ، قال : ثني
أبو جبيرة بن الضحاك ، قال : نزلت في بني سلمة( وَلا تَنَابَزُوا بِالألْقَابِ )
قال : قَدِم رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم وليس منا رجل إلا وله اسمان
أو ثلاثة ، فكان يدعو الرجل ، فتقول أمه : إنه يغضب من هذا قال ، فنزلت( وَلا
تَنَابَزُوا بِالألْقَابِ ). وقال مرّة : كان إذا دعا باسم من هذا ، قيل : يا رسول
الله إنه يغضب من هذا ، فنزلت الآية.
وقال آخرون : بل ذلك قوم الرجل المسلم للرجل المسلم : يا فاسق ، يا زان.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا هناد بن السري ، قال : ثنا أبو الأحوص ، عن حصين ، قال : سألت عكرِمة ، عن
قول الله( وَلا تَنَابَزُوا بِالألْقَابِ ) قال : هو قول الرجل للرجل : يا منافق ،
يا كافر.
(22/300)
حدثنا يعقوب بن إبراهيم ، قال : ثنا
هشيم ، قال أخبرنا حصين ، عن عكرِمة ، في قوله( وَلا تَنَابَزُوا بِالألْقَابِ )
قال : هو قول الرجل للرجل : يا فاسق ، يا منافق.
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا مهران ، عن سفيان ، عن حصين ، عن عكرِمة( وَلا
تَنَابَزُوا بِالألْقَابِ ) قال : يا فاسق ، يا كافر.
قال : ثنا مهران ، عن سفيان ، عن خصيف ، عن مجاهد أو عكرِمة( وَلا تَنَابَزُوا
بِالألْقَابِ ) قال : يقول الرجل للرجل : يا فاسق ، يا كافر.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث ، قال :
ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله( وَلا
تَنَابَزُوا بِالألْقَابِ ) قال : دُعي رجل بالكفر وهو مسلم.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله( وَلا تَنَابَزُوا
بِالألْقَابِ ) يقول الرجل : لا تقل لأخيك المسلم : ذاك فاسق ، ذاك منافق ، نهى الله
المسلم عن ذلك وقدّم فيه.
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة( وَلا تَنَابَزُوا
بِالألْقَابِ ) يقول : لا يقولنّ لأخيه المسلم : يا فاسق ، يا منافق.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله( وَلا
تَنَابَزُوا بِالألْقَابِ ) قال : تسميته بالأعمال السيئة بعد الإسلام زان فاسق.
وقال آخرون : بل ذلك تسمية الرجل الرجل بالكفر بعد الإسلام ، والفسوق والأعمال
القبيحة بعد التوبة.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ،
عن ابن عباس( وَلا تَنَابَزُوا بِالألْقَابِ بِئْسَ الاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ
الإيمَانِ )... الآية ، قال : التنابز بالألقاب أن يكون الرجل عمل السيئات
(22/301)
ثم تاب منها ، وراجع الحقّ ، فنهى الله
أن يعير بما سلف من عمله.
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، قال : قال الحسن : كان
اليهودي والنصرانيّ يسلم ، فيلقب فيقال له : يا يهوديّ ، يا نصراني ، فنهوا عن
ذلك.
والذي هو أولى الأقوال في تأويل ذلك عندي بالصواب أن يقال : إن الله تعالى ذكره
نهى المؤمنين أن يتنابزوا بالألقاب ؛ والتنابز بالألقاب : هو دعاء المرء صاحبه بما
يكرهه من اسم أو صفة ، وعمّ الله بنهية ذلك ، ولم يخصص به بعض الألقاب دون بعض ،
فغير جائز لأحد من المسلمين أن ينبز أخاه باسم يكرهه ، أو صفة يكرهها. وإذا كان
ذلك كذلك صحت الأقوال التي قالها أهل التأويل في ذلك التي ذكرناها كلها ، ولم يكن
بعض ذلك أولى بالصواب من بعض ، لأن كلّ ذلك مما نهى الله المسلمين أن ينبز بعضهم
بعضا.
وقوله( بِئْسَ الاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإيمَانِ ) يقول تعالى ذكره : ومن فعل
ما نهينا عنه ، وتقدّم على معصيتنا بعد إيمانه ، فسخر من المؤمنين ، ولمز أخاه
المؤمن ، ونبزه بالألقاب ، فهو فاسق( بِئْسَ الاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإيمَانِ
) يقول : فلا تفعلوا فتستحقوا إن فعلتموه أن تسموا فساقا ، بئس الاسم الفسوق ،
وترك ذكر ما وصفنا من الكلام ، اكتفاء بدلالة قوله( بِئْسَ الاسْمُ الْفُسُوقُ )
عليه.
وكان ابن زيد يقول في ذلك ما حدثنا به يونس بن عبد الأعلى ، قال : أخبرنا ابن وهب
، قال : قال ابن زيد ، وقرأ( بِئْسَ الاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإيمَانِ ) قال :
بئس الاسم الفسوق حين تسميه بالفسق بعد الإسلام ، وهو على الإسلام. قال : وأهل هذا
الرأي هم المعتزلة ، قالوا : لا نكفره كما كفره أهل الأهواء ، ولا نقول له مؤمن
كما قالت الجماعة ، ولكنا نسميه باسمه إن كان سارقا فهو سارق ، وإن كان خائنا سموه
خائنا; وإن كان زانيا سموه زانيا قال : فاعتزلوا الفريقين أهل الأهواء وأهل
الجماعة ، فلا بقول هؤلاء قالوا ، ولا بقول هؤلاء ، فسموا بذلك المعتزلة.
(22/302)
فوجه ابن زيد تأويل قوله( بِئْسَ
الاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإيمَانِ ) إلى من دعي فاسقا ، وهو تائب من فسقه ،
فبئس الاسم ذلك له من أسمائه... وغير ذلك من التأويل أولى بالكلام ، وذلك أن الله
تقدّم بالنهي عما تقدّم بالنهي عنه في أوّل هذه الآية ، فالذي هو أولى أن يختمها
بالوعيد لمن تقدّم على بغيه ، أو بقبيح ركوبه ما ركب مما نهى عنه ، لا أن يخبر عن
قُبح ما كان التائب أتاه قبل توبته ، إذ كانت الآية لم تفتتح بالخبر عن ركوبه ما
كان ركب قبل التوبة من القبيح ، فيختم آخرها بالوعيد عليه أو بالقبيح.
وقوله( وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ) يقول تعالى ذكره :
ومن لم يتب من نبزه أخاه بما نهى الله عن نبزه به من الألقاب ، أو لمزه إياه ، أو
سخريته منه ، فأولئك هم الذين ظلموا أنفسهم ، فأكسبوها عقاب الله بركوبهم ما نهاهم
عنه.
وكان ابن زيد يقول في ذلك ما حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن
زيد ، في قوله( وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ) قال : ومن لم
يتب من ذلك الفسوق فأولئك هم الظالمون.
(22/303)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ (12)
القول في تأويل قوله تعالى : { يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ
الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ
أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا
اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ (12) }
يقول تعالى ذكره : يا أيها الذين صدّقوا الله ورسوله ، لا تقربوا كثيرا من الظنّ
بالمؤمنين ، وذلك إن تظنوا بهم سوءا ، فإن الظانّ غير محقّ ، وقال جلّ ثناؤه : (
اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ ) ولم يقل : الظنّ كله ، إذ كان قد أذن
للمؤمنين
(22/303)
أن يظن بعضهم ببعض الخير ، فقال : (
لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ
خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ ) فأذن الله جلّ ثناؤه للمؤمنين أن يظنّ
بعضهم ببعض الخير وأن يقولوه ، وإن لم يكونوا من قيله فيهم على يقين.
وبنحو الذي قلنا في معنى ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : ثني أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ،
قوله( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ ) يقول
: نهى الله المؤمن أن يظنّ بالمؤمن شرّا.
وقوله( إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ ) يقول : إن ظنّ المؤمن بالمؤمن الشرّ لا
الخير إثم ، لأن الله قد نهاه عنه ، ففعل ما نهى الله عنه إثم.
وقوله( وَلا تَجَسَّسُوا ) يقول : ولا يتتبع بعضكم عورة بعض ، ولا يبحث عن سرائره
، يبتغي بذلك الظهور على عيوبه ، ولكن اقنعوا بما ظهر لكم من أمره ، وبه فحمدوا أو
ذموا ، لا على ما لا تعلمونه من سرائره.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : ثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ،
قوله( وَلا تَجَسَّسُوا ) يقول : نهى الله المؤمن أن يتتبع عورات المؤمن.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث ، قال :
ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله( وَلا
تَجَسَّسُوا ) قال : خذوا ما ظهر لكم ودعوا ما ستر الله.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله( يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ
إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا ) هل تدرون ما التجسس أو التجسيس ؟ هو أن تتبع ، أو تبتغي
عيب أخيك لتطلع على سرّه.
(22/304)
حدثنا ابن حُمَيد ، قال : ثنا مهران ،
عن سفيان( وَلا تَجَسَّسُوا ) قال : البحث.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله( يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ
إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا ) قال : حتى أنظر في ذلك وأسأل عنه ، حتى أعرف حقّ هو ،
أم باطل ؟; قال : فسماه الله تجسسا ، قال : يتجسس كما يتجسس الكلاب ، وقرأ قول
الله( وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا ) وقوله( وَلا يَغْتَبْ
بَعْضُكُمْ بَعْضًا ) يقول : ولا يقل بعضكم في بعض بظهر الغيب ما يكره المقول فيه
ذلك أن يقال له في وجهه.
وبنحو الذي قلنا في ذلك جاء الأثر عن رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم
وقال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك ، والأثر عن رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم :
حدثني يزيد بن مخلد الواسطيّ ، قال : ثنا خالد بن عبد الله الطحان ، عن عبد الرحمن
بن إسحاق ، عن العلاء بن عبد الرحمن ، عن أبيه ، عن أبي هريرة ، قال : " سُئل
رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم عن الغيبة ، فقال : هُوَ أنْ تَقُولَ
لأخِيكَ ما فِيهِ ، فإنْ كُنْتَ صَادِقا فَقَدِ اغْتَبْتَهُ ، وَإنْ كُنْتَ كاذِبا
فَقَدْ بَهَتَّهُ " .
حدثنا محمد بن عبد الله بن بزيع ، قال : ثنا بشر بن المفضل ، قال : ثنا عبد الرحمن
بن إسحاق ، عن العلاء بن عبد الرحمن ، عن أبيه ، عن أبي هريرة ، عن النبي صَلَّى
الله عَلَيْهِ وَسَلَّم ، بنحوه.
حدثنا ابن المثنى ، قال : ثنا محمد بن جعفر ، قال : ثنا شعبة ، قال : سمعت العلاء
يحدّث ، عن أبيه ، عن أبي هريرة ، عن النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم قال :
" هَلْ تَدْرُونَ ما الغيبة ؟ قال : قالوا الله ورسوله أعلم; قال : ذِكْرُكَ
أخاكَ بِمَا لَيْسَ فِيه ، قال : أرأيت إن كان في أخي ما أقول له; قال : إنْ كان
فِيه ما تَقُولُ
(22/305)
فَقَدِ اغْتَبْتَهُ ، وَإنْ لَمْ
يَكُنْ فِيهِ ما تَقُولُ فَقَدْ بَهَتَّهُ " .
حدثنا ابن المثنى ، قال : ثنا سعيد بن الربيع ، قال : ثنا شعبة ، عن العباس ، عن
رجل سمع ابن عمر يقول : " إذا ذكرت الرجل بما فيه ، فقد اغتبته ، وإذا ذكرته
بما ليس فيه فقد بَهَتَّهُ " . وقال شعبة مرّة أخرى : " وإذا ذكرته بما
ليس فيه ، فهي فِرْية قال أبو موسى : هو عباس الجَريريّ.
حدثنا ابن المثنى ، قال : ثنا ابن أبي عديّ ، عن شعبة ، عن سليمان ، عن عبد الله
بن مرّة ، عن مسروق قال : إذا ذكرت الرجل بأسوأِ ما فيه فقد اغتبته ، وإذا ذكرته
بما ليس فيه فقد بهته.
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا عبد الرحمن ، قال : ثنا سفيان ، عن الأعمش ، عن أبي
الضحى ، عن مسروق ، قال : إذا قلت في الرجل ما ليس فيه فقد بَهَته.
حدثنا أبو كُرَيب ، قال : ثنا عمر بن عبيد ، عن الأعمش ، عن أبي الضحى ، عن مسروق
، قال الغيبَة : أن يقول للرجل أسوأ ما يعلم فيه ، والبهتان : أن يقول ما ليس فيه.
حدثنا يونس بن عبد الأعلى ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرني معاوية بن صالح ،
عن كثير بن الحارث ، عن القاسم ، مولى معاوية ، قال : سمعت ابن أمّ عبد يقول : ما
التقم أحد لقمة أشرّ من اغتياب المؤمن ، إن قال فيه ما يعلم فقد اغتابه ، وإن قاله
فيه ما لا يعلم فقد بَهَتَه.
حدثنا أبو السائب ، قال : ثنا أبو معاوية ، عن الأعمش ، عن مسلم ، عن مسروق ، قال
: إذا ذكرت الرجل بما فيه فقد اغتبته ، وإذا ذكرته بما ليس فيه فذلك البهتان.
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا المعتمر ، قال : سمعت يونس ، عن الحسن أنه قال
في الغيبة : أن تذكر من أخيك ما تعلم فيه من مساوئ أعماله ، فإذا ذكرته بما ليس
فيه فذلك البهتان.
(22/306)
حدثنا ابن أبي الشوارب ، قال : ثنا عبد
الواحد بن زياد ، قال : ثنا سليمان الشيبانيّ ، قال : ثنا حسان بن المخارق "
أن امرأة دخلت على عائشة; فلما قامت لتخرج أشارت عائشة بيدها إلى النبيّ صَلَّى
الله عَلَيْهِ وَسَلَّم ، أي أنها قصيرة ، فقال النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ
وَسَلَّم : اغْتَبْتِها " .
حدثنا ابن المثنى ، قال : ثنا أبو داود ، قال : ثنا شعبة ، عن أبي إسحاق ، قال :
لو مرّ بك أقطع ، فقلت : ذاك الأقطع ، كانت منك غيبة; قال : وسمعت معاوية بن قرة
يقول ذلك.
حدثنا ابن المثنى ، قال : ثنا محمد بن جعفر ، قال : ثنا شعبة ، قال : سمعت معاوية
بن قُرة يقول : لو مرّ بك رجل أقطع ، فقلت له : إنه أقطع كنت قد اغتبته ، قال :
فذكرت ذلك لأبي إسحاق الهمداني فقال : صدق.
حدثني جابر بن الكرديّ ، قال : ثنا ابن أبي أويس ، قال : ثني أخي أبو بكر ، عن
حماد بن أبي حميد ، عن موسى بن وردان ، عن أبي هريرة " أن رجلا قام عند رسول
الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم ، فرأوا في قيامه عجزا ، فقالوا : يا رسول
الله ما أعجز فلانا ، فقال رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم : أكَلْتُم
أخاكُمْ واغَتَبْتُمُوه " .
حدثنا أبو كُرَيب ، قال : ثنا عثمان بن سعيد ، قال : ثنا حبان بن عليّ العنزيّ عن
مثنى بن صباح ، عن عمرو بن شعيب ، عن معاذ بن جبل ، قال : " كنا مع رسول الله
صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم ، فذكر القوم رجلا فقالوا : ما يأكل إلا ما أطعم ،
وما يرحل إلا ما رحل له ، وما أضعفه; فقال رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ
وَسَلَّم : اغْتَبْتُمْ أخاكُمْ ، فقالوا يا رسول الله وغيبته أن نحدّث بما فيه ؟
قال : بحَسْبِكُمْ أنْ تُحَدِّثُوا عن أخِيكُمْ ما فِيه " .
حدثنا أبو كُرَيب ، قال : ثنا خالد بن محمد ، عن محمد بن جعفر ، عن العلاء ، عن
أبيه ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم : "
إذَا ذَكَرْتَ أخاكَ بما يَكْرَهُ فإنْ كانَ فِيهِ ما تَقُولُ فَقَدِ اغْتَبْتَهُ
، وَإنْ لَمْ يَكُنْ
(22/307)
فِيهِ ما تَقُولُ فَقَدْ بَهَتَّهُ
" .
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قال : " كنا نحدّث
أن الغيبة أن تذكر أخاك بما يشينه ، وتعيبه بما فيه ، وإن كذبت عليه فذلك البهتان
" .
وقوله( أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا
فَكَرِهْتُمُوهُ ) يقول تعالى ذكره للمؤمنين أيحبّ أحدكم أيها القوم أن يأكل لحم
أخيه بعد مماته ميتا ، فإن لم تحبوا ذلك وكرهتموه ، لأن الله حرّم ذلك عليكم ،
فكذلك لا تحبوا أن تغتابوه في حياته ، فاكرهوا غيبته حيا ، كما كرهتم لحمه ميتا ،
فإن الله حرّم غيبته حيا ، كما حرم أكل لحمه ميتا.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : ثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ،
قوله( وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ
لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا ) قال : حرّم الله على المؤمن أن يغتاب المؤمن بشيء ، كما
حرّم المَيْتة.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث ، قال :
ثنا الحسن قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : ( أَيُحِبُّ
أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا ) قالوا : نكره ذلك ، قال :
فكذلك فاتقوا الله.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ
أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ ) يقول : كما أنت كاره لو
وجدت جيفة مدوّدة أن تأكل منها ، فكذلك فاكره غيبته وهو حيّ.
وقوله( وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ ) يقول تعالى ذكره :
فاتقوا الله أيها الناس ، فخافوا عقوبته بانتهائكم عما نهاكم عنه من ظنّ أحدكم
بأخيه المؤمن
(22/308)
يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (13)
ظنّ السوء ، وتتبع عوراته ، والتجسس
عما ستر عنه من أمره ، واغتيابه بما يكرهه ، تريدون به شينه وعيبه ، وغير ذلك من
الأمور التي نهاكم عنها ربكم( إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ ) يقول : إن الله
راجع لعبده إلى ما يحبه إذا رجع العبد لربه إلى ما يحبه منه ، رحيم به بأن يعاقبه
على ذنب أذنبه بعد توبته منه.
واختلفت القرّاء في قراءة قوله( لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا ) فقرأته عامة قرّاء
المدينة بالتثقيل( مَيِّتا ) ، وقرأته عامة قرّاء الكوفة والبصرة( مَيْتا )
بالتخفيف ، وهما قراءتان عندنا معروفتان متقاربتا المعنى ، فبأيتهما قرأ القارئ
فمصيب.
القول في تأويل قوله تعالى : { يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ
ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ
أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (13) }
يقول تعالى ذكره : يا أيها الناس إنا أنشأنا خلقكم من ماء ذكر من الرجال ، وماء
أنثى من النساء.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا أبو هشام ، قال : ثنا عبيد الله بن موسى ، قال : أخبرنا عثمان بن الأسود ،
عن مجاهد ، قال : خلق الله الولد من ماء الرجل وماء المرأة ، وقد قال تبارك
وتعالى( يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى ).
حدثنا ابن حُمَيد ، قال : ثنا مهران ، قال : ثنا عثمان بن الأسود ، عن مجاهد ،
قوله( إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى ) قال : ما خلق الله الولد إلا
من نطفة الرجل والمرأة جميعا ، لأن الله يقول( خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ
وَأُنْثَى ).
وقوله( وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ ) يقول : وجعلناكم متناسبين ، فبعضكم
يناسب بعضا نسبا بعيدا ، وبعضكم يناسب بعضا نسبا قريبًا; فالمناسب
(22/309)
النسب البعيد من لم ينسبه أهل الشعوب ،
وذلك إذا قيل للرجل من العرب : من أيّ شعب أنت ؟ قال : أنا من مضر ، أو من ربيعة.
وأما أهل المناسبة القريبة أهل القبائل ، وهم كتميم من مضر ، وبكر من ربيعة ،
وأقرب القبائل الأفخاذ وهما كشيبان من بكر ودارم من تميم ، ونحو ذلك ، ومن الشَّعْب
قول ابن أحمر الباهلي :
مِن شَعْبِ هَمْدانَ أوْ سَعْدِ العَشِيرَة أوْ... خَوْلانَ أو مَذْحِجٍ هَاجُوا
لَهُ طَرَبا (1)
وبنحو الذي قلنا في معنى قوله( وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ ) قال أهل
التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا أبو كُرَيب ، قال : ثنا أبو بكر بن عياش ، قال : ثنا أبو حُصين ، عن سعيد بن
جبير ، عن ابن عباس( وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ ) قال : الشعوب :
الجُمَّاع والقبائل : البطون.
حدثنا خلاد بن أسلم ، قال : ثنا أبو بكر بن عياش ، عن أبي حصين ، عن سعيد بن
جُبَير ، عن ابن عباس ، في قوله( وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ ) قال :
الشعوب : الجُمَّاع. قال خلاد ، قال أبو بكر : القبائل العظام ، مثل بني تميم ،
والقبائل : الأفخاذ.
حدثنا أبو كُرَيب ، قال : ثنا ابن عطية ، قال : ثنا إسرائيل ، عن أبي حصين ، عن
سعيد بن جُبَير( وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ ) قال : الشعوب : الجمهور ،
والقبائل : الأفخاذ.
__________
(1) البيت لابن أحمر الباهلي ، كما نسبه المؤلف . والشاهد فيه كلمة " الشعب
" ، وهو الفرع الكبير من الأصل ، يجمع عددا من القبائل ، كما أوضحه المؤلف .
وقال النويري في ( نهاية الأرب 2 : 284 ) الشعب : هو الذي يجمع القبائل ، وتتشعب
منه . وفي مجاز القرآن لأبي عبيد ( الورقة 225 - 1 ) : " وجعلناكم شعوبا
وقبائل لتعارفوا " : يقال : من أي شعب أنت ؟ فتقول : من مضر ، من ربيعة ،
والقبائل دون ذلك . قال ابن أحمر " من شعب همدان ... البيت " .
(22/310)
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو
عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا
، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله( شُعُوبًا ) قال : النسب البعيد.(
وَقَبَائِلَ ) دون ذلك.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( وَجَعَلْنَاكُمْ
شُعُوبًا وَقَبَائِلَ ) قال : الشعوب : النسب البعيد ، والقبائل كقوله : فلان من
بني فلان ، وفلان من بني فلان.
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة.(
وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا ) قال : هو النسب البعيد. قال : والقبائل : كما تسمعه
يقال : فلان من بني فلان.
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك
يقول في قوله( وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا ) قال : أما الشعوب : فالنسب البعيد.
وقال بعضهم : الشعوب : الأفخاذ.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا عبد الرحمن ، قال : ثنا سفيان ، عن أبي حصين ، عن سعيد
بن جُبير( وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ ) قال : الشعوب : الأفخاذ ،
والقبائل : القبائل.
وقال آخرون : الشعوب : البطون ، والقبائل : الأفخاذ.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني يحيى بن طلحة ، قال : ثنا أبو بكر بن عياش ، عن أبي حصين ، عن سعيد بن جُبير
، عن ابن عباس( وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ ) قال : الشعوب : البطون ،
والقبائل : الأفخاذ الكبار.
وقال آخرون : الشعوب : الأنساب.
(22/311)
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثنى أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ،
عن ابن عباس : ( وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ ) قال : الشعوب : الأنساب.
وقوله( لِتَعَارَفُوا ) يقول : ليعرف بعضكم بعضا في النسب ، يقول تعالى ذكره :
إنما جعلنا هذه الشعوب والقبائل لكم أيها الناس ، ليعرف بعضكم بعضا في قرب القرابة
منه وبعده ، لا لفضيلة لكم في ذلك ، وقُربة تقرّبكم إلى الله ، بل أكرمكم عند الله
أتقاكم.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث ، قال :
ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد( وَقَبَائِلَ
لِتَعَارَفُوا ) قال : جعلنا هذا لتعارفوا ، فلان بن فلان من كذا وكذا.
وقوله( إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ) يقول تعالى ذكره : إن
أكرمكم أيها الناس عند ربكم ، أشدّكم اتقاء له بأداء فرائضه واجتناب معاصيه ، لا
أعظمكم بيتا ولا أكثركم عشيرة.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : ثني ابن لهيعة ، عن
(22/312)
قَالَتِ الْأَعْرَابُ آَمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (14)
الحارث بن يزيد ، عن عليّ بن رباح ، عن
عقبة بن عامر ، عن رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم قال : " النَّاسُ
لآدَمَ وَحَوَّاءَ كَطَفِّ الصَّاعِ لَمْ يَمْلأوهُ ، إنَّ اللّهُ لا يسألُكُمْ
عَنْ أحْسابِكُمْ وَلا عَنْ أنْسابِكُمْ يَوْمَ القِيامَةِ ، إن أكْرَمَكُمْ
عِنْدَ اللّهِ أتْقاكُمْ " .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : ثني ابن لهيعة ، عن الحارث بن يزيد ،
عن عليّ بن رباح ، عن عقبة بن عامر ، أن رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم
قال : " إنَّ أنْسابِكُمْ هَذِهِ لَيْسَتْ بِمَسابٍّ عَلى أحَدٍ ، وإنَّمَا
أنْتُمْ وَلَدُ آدَمَ طَفَّ الصَّاعِ لَمْ تَمْلأوهُ ، لَيْسَ لأحَدٍ على أحَدٍ
فضْلٌ إلا بِديْنٍ أوْ عَمَلٍ صالِحٍ حَسْبُ الرَّجُل أنْ يَكُونَ فاحِشا بَذيًّا
بَخِيلا جَبانا " .
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : ثنا ابن علية ، عن ابن جُرَيْج ، قال : سمعت عطاء
يقول : قال ابن عباس : " ثلاث آيات جحدهنّ الناس : الإذن كله ، وقال : (
إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ) وقال الناس أكرمكم : أعظمكم
بيتا; وقال عطاء : نسيت الثالثة " .
وقوله( إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ) يقول تعالى ذكره : إن الله أيها الناس ذو
علم بأتقاكم عند الله وأكرمكم عنده ، ذو خبرة بكم وبمصالحكم ، وغير ذلك من أموركم
، لا تخفى عليه خافية.
القول في تأويل قوله تعالى : { قَالَتِ الأعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا
وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ
تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ
اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (14) }
يقول تعالى ذكره : قالت الأعراب : صدّقنا بالله ورسوله ، فنحن مؤمنون ، قال الله
لنبيه محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم : قل يا محمد لهم( لَمْ تُؤْمِنُوا )
ولستم مؤمنين( وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا ).
وذُكر أن هذه الآية نزلت في أعراب من بني أسد.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث ، قال :
ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، جميعا ، عن ابن
(22/313)
أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله(
قَالَتِ الأعْرَابُ آمَنَّا ) قال : أعراب بنى أسد بن خُزَيمة.
واختلف أهل التأويل في السبب الذي من أجله قيل للنبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ
وَسَلَّم : قل لهؤلاء الأعراب : قولوا أسلمنا ، ولا تقولوا آمنا ، فقال بعضهم :
إنما أمر النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم بذلك ، لأن القوم كانوا صدّقوا
بألسنتهم ، ولم يصدّقوا قولهم بفعلهم ، فقيل لهم : قولوا أسلمنا ، لأن الإسلام قول
، والإيمان قول وعمل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن الزهري( قَالَتِ
الأعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا ) قال : إن
الإسلام : الكلمة ، والإيمان : العمل.
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، وأخبرني الزهريّ ، عن عامر
بن سعد ، عن أبيه ، قال : أعطى النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم رجالا ولم
يعط رجلا منهم شيئا ، فقال سعد : يا رسول الله أعطيت فلانا وفلانا ، ولم تعط فلانا
شيئا ، وهو مؤمن ، فقال النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم : أو مُسْلِمٌ ؟ حتى
أعادها سعد ثلاثا ، والنبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم يقول : أوْ مُسْلِمٌ ،
ثم قال النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم إني أُعْطِي رِجالا وأَدَعُ مَنْ هُوَ
أحَبُّ إليَّ مِنْهُمْ ، لا أُعْطِيه شَيْئا مَخافَةَ أنْ يُكَبُّوا فِي النَّارِ
عَلى وُجُوهِهِمْ " .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله( قَالَتِ
الأعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا ) قال : لم يصدّقوا إيمانهم بأعمالهم ،
فردّ الله ذلك عليهم( قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا ) ،
وأخبرهم أن المؤمنين الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا ، وجاهدوا بأموالهم
وأنفسهم في سبيل الله ، أولئك هم الصادقون ، صدّقوا إيمانهم بأعمالهم; فمن قال
منهم : أنا مؤمن فقد صدق; قال : وأما من انتحل الإيمان بالكلام ولم يعمل فقد كذب ،
وليس بصادق.
(22/314)
حدثنا ابن حُمَيد ، قال : ثنا مهران ،
عن سفيان ، عن مُغيرة ، عن إبراهيم( وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا ) قال : هو
الإسلام.
وقال آخرون : إنما أمر النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم بقيل ذلك لهم ، لأنهم
أرادوا أن يتسموا بأسماء المهاجرين قبل أن يهاجروا ، فأعلمهم الله أن لهم أسماء
الأعراب ، لا أسماء المهاجرين.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثنى أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ،
عن ابن عباس ، قوله( قَالَتِ الأعْرَابُ آمَنَّا )... الآية ، وذلك أنهم أرادوا أن
يتسَمَّوا باسم الهجرة ، ولا يتسَمَّوا بأسمائهم التي سماهم الله ، وكان ذلك في
أول الهجرة قبل أن تنزل المواريث لهم.
وقال آخرون : قيل لهم ذلك لأنهم منوا على رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم
بإسلامهم ، فقال الله لنبيه صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم : قل لهم لم تؤمنوا ،
ولكن استسلمتم خوف السباء والقتل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله( قَالَتِ
الأعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا ) ولعمري ما عمت هذه الآية الأعراب ، إن
من الأعراب من يؤمن بالله واليوم الآخر ، ولكن إنما أنزلت في حيّ من أحياء الأعراب
امتنوا بإسلامهم على نبيّ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم ، فقالوا : أسلمنا ،
ولم نقاتلك ، كما قاتلك بنو فلان وبنو فلان ، فقال الله : ( لا تقولوا آمنا. . . )
، ( وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا ) حتى بلغ( فِي قُلُوبِكُمْ ) .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة( لَمْ
تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا ) قال : لم تعمّ هذه الآية الأعراب ، إن
من الأعراب من يؤمن بالله واليوم الآخر ، ويتخذ ما ينفق قربات عند الله ، ولكنها
في طوائف
(22/315)
من الأعراب.
حدثنا ابن حُمَيد ، قال : ثنا مهران ، عن سفيان ، عن رَباح ، عن أبي معروف ، عن
سعيد بن جُبَير( قَالَتِ الأعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ
قُولُوا أَسْلَمْنَا ) قال : استسلمنا لخوف السباء والقتل.
حدثنا ابن حُمَيد ، قال : ثنا مهران ، عن سفيان ، عن رجل ، عن مجاهد( قُولُوا
أَسْلَمْنَا ) قال : استسلمنا.
حدثنا يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، وقرأ قول الله( قُلْ
لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا ) استسلمنا : دخلنا في السلم ،
وتركنا المحاربة والقتال بقولهم : لا إله إلا الله ، وقال قال رسول الله صَلَّى
الله عَلَيْهِ وَسَلَّم : " أُمِرْتُ أنْ أُقاتِل النَّاس حتى يَقُولُوا لا
إلَهَ إلا اللّهُ ، فإذَا قالُوا لا إلَهَ إلا اللّهُ ، عَصَمُوا مِنِّي
دِماءَهُمْ وأمْوَالهُمْ إلا بِحَقِّها وَحِسابُهُمْ على اللّهِ " .
وأولى الأقوال بالصواب في تأويل ذلك القول الذي ذكرناه عن الزهريّ ، وهو أن الله
تقدّم إلى هؤلاء الأعراب الذين دخلوا في الملة إقرارا منهم بالقول ، ولم يحققوا
قولهم بعملهم أن يقولوا بالإطلاق آمنا دون تقييد قولهم بذلك بأن يقولوا آمنا بالله
ورسوله ، ولكن أمرهم أن يقولوا القول الذي لا يشكل على سامعيه والذي قائله فيه
محقّ ، وهو أن يقولوا أسلمنا ، بمعنى : دخلنا في الملة والأموال ، والشهادة الحق
(1) .
قوله( وَلَمَّا يَدْخُلِ الإيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ ) يقول تعالى ذكره : ولما يدخل
العلم بشرائع الإيمان ، وحقائق معانيه في قلوبكم.
وقوله( وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ
شَيْئًا ) يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم : قل لهؤلاء
الأعراب القائلين آمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبهم ، إن تطيعوا الله ورسوله أيها
القوم ، فتأتمروا لأمره وأمر رسوله ،
__________
(1) لعله دخلنا في الملة لحفظ الأنفس والأموال بالشهادة ... إلخ .
(22/316)
وتعملوا بما فرض عليكم ، وتنتهوا عما
نهاكم عنه ، ( لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا ) يقول : لا يظلمكم من
أجور أعمالكم شيئا ولا ينقصكم من ثوابها شيئا.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث ، قال :
ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله( لا
يَلِتْكُمْ ) لا ينقصكم.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله( لا يَلِتْكُمْ
مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا ) يقول : لن يظلمكم من أعمالكم شيئا.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في( وَإِنْ تُطِيعُوا
اللَّهَ وَرَسُولَهُ ) قال : إن تصدقوا إيمانكم بأعمالكم يقبل ذلك منكم.
وقرأت قرّاء الأمصار( لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ ) بغير همز ولا ألف ، سوى
أبي عمرو ، فإنه قرأ ذلك( لا يَأْلَتْكُمْ ) بألف اعتبارا منه في ذلك بقوله( وَمَا
أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ ) فمن قال : ألت ، قال : يألت.
وأما الآخرون فإنهم جعلوا ذلك من لات يليت ، كما قال رُؤبةُ بن العجاج :
وَلَيْلَةٍ ذَاتِ نَدًى سَرَيت... ولَمْ يَلِتْنِي عَنْ سُرَاها لَيْتُ (1)
والصواب من القراءة عندنا في ذلك ، ما عليه قرّاء المدينة والكوفة( لا يَلِتْكُمْ
) بغير ألف ولا همز ، على لغة من قال : لات يليت ، لعلتين : إحداهما : إجماع الحجة
من القرّاء عليها. والثانية أنها في المصحف بغير ألف ، ولا تسقط الهمزة في مثل هذا
الموضع ، لأنها ساكنة ، والهمزة إذا سكنت ثبتت ، كما يقال :
__________
(1) البيتان نسبهما المؤلف إلى رؤبة بن العجاج ، ولم أجدهما في ديوانه ولا في
ديوان أبيه العجاج . وأوردهما صاحب اللسان في ( حنن ) محمد ونسبهما على أبي
الفقعسي . وقد استشهد بهما المؤلف مرة قبل هذه في ( 15 : 2 ) من هذه المطبوعة ،
عند أول سورة الإسراء . وشرحناهما شرحًا مفصلا يناسب هذه المقام ، فراجعهما ثمة .
(22/317)
إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (15)
تأمرون وتأكلون ، وإنما تسقط إذا سكن
ما قبلها ، ولا يحمل حرف في القرآن إذا أتى بلغة على آخر جاء بلغة خلافها إذا كانت
اللغتان معروفتين في كلام العرب. وقد ذكرنا أن ألت ولات لغتان معروفتان من كلامهم.
وقوله( إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) يقول تعالى ذكره : إن الله ذو عفو أيها
الأعراب لمن أطاعه ، وتاب إليه من سالف ذنوبه ، فأطيعوه ، وانتهوا إلى أمره ونهيه
، يغفر لكم ذنوبكم ، رحيم بخلقه التائبين إليه أن يعاقبهم بعد توبتهم من ذنوبهم
على ما تابوا منه ، فتوبوا إليه يرحمكم.
كما حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( إِنَّ اللَّهَ
غَفُورٌ رَحِيمٌ ) غفور للذنوب الكثيرة أو الكبيرة ، شكّ يزيد ، رحيم بعباده.
القول في تأويل قوله تعالى : { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا
بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ
وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (15) }
يقول تعالى ذكره للأعراب الذين قالوا آمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبهم : إنما
المؤمنون أيها القوم الذين صدّقوا الله ورسوله ، ثم لم يرتابوا ، يقول : ثم لم
يشكوا في وحدانية الله ، ولا في نبوّة نبيه صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم ، وألزم
نفسه طاعة الله وطاعة رسوله ، والعمل بما وجب عليه من فرائض الله بغير شكّ منه في
وجوب ذلك عليه( وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ )
يقول : جاهدوا المشركين بإنفاق أموالهم ، وبذل مُهجِهم في جهادهم ، على ما أمرهم
الله به من جهادهم ، وذلك سبيله لتكون كلمة الله العليا ، وكلمة الذين كفروا
السفلى.
وقوله( أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ ) يقول : هؤلاء الذين يفعلون ذلك هم الصادقون
في قولهم : إنا مؤمنون ، لا من دخل في الملة خوف السيف ليحقن دمه وماله.
(22/318)
قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (16) يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (17)
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل
التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله( أُولَئِكَ هُمُ
الصَّادِقُونَ ) قال : صدّقوا إيمانهم بأعمالهم.
القول في تأويل قوله تعالى : { قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ وَاللَّهُ
يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ
عَلِيم (16) }
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم( قُلْ ) يا محمد لهؤلاء
الأعراب القائلين آمنا ولمَّا يدخل الإيمان في قلوبهم : ( أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ
) أيها القوم بدينكم ، يعني بطاعتكم ربكم( وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي
السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ ) يقول : والله الذي تعلِّمونه أنكم مؤمنون ،
علام جميع ما في السموات السبع والأرضين السبع ، لا يخفى عليه منه شيء ، فكيف
تعلمونه بدينكم ، والذي أنتم عليه من الإيمان ، وهو لا يخفى عليه خافية ، في سماء
ولا أرض ، فيخفى عليه ما أنتم عليه من الدين( وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ )
يقول : والله بكلّ ما كان ، وما هو كائن ، وبما يكون ذو علم. وإنما هذا تقدّم من
الله إلى هؤلاء الأعراب بالنهي ، عن أن يكذّبوا ويقولوا غير الذي هم عليه في
دينهم. يقول : الله محيط بكلّ شيء عالم به ، فاحذروا أن تقولوا خلاف ما يعلم من
ضمائر صدوركم ، فينالكم عقوبته ، فإنه لا يخفى عليه شيء.
القول في تأويل قوله تعالى : { يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا
تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ
لِلإيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (17) }
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم : يمنّ عليك هؤلاء
(22/319)
الأعراب يا محمد أن أسلموا( قُلْ لا
تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ
لِلإيمَانِ ) يقول : بل الله يمن عليكم أيها القوم أن وفقكم للإيمان به وبرسوله(
إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ) يقول : إن كنتم صادقين في قولكم آمنا ، فإن الله هو
الذي منّ عليكم بأن هداكم له ، فلا تمنوا عليّ بإسلامكم.
وذُكر أن هؤلاء الأعراب من بني أسد ، امتنوا على رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ
وَسَلَّم ، فقالوا : آمنا من غير قتال ، ولم نقاتلك كما قاتلك غيرنا ، فأنزل الله
فيهم هذه الآيات.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا محمد بن جعفر ، قال : ثنا شعبة ، عن أبي بشر ، عن سعيد
بن جُبَير في هذه الآية( يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا ) أهم بنو أسد ؟ قال
: قد قيل ذلك.
حدثنا ابن المثنى ، قال : ثنا سهل بن يوسف ، قال : ثنا شعبة ، عن أبي بشر ، قال :
قلت لسعيد بن جُبَير( يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا ) أهم بنو أسد ؟ قال :
يزعمون ذاك.
حدثنا ابن حُمَيد ، قال : ثنا مهران ، عن سفيان ، عن حبيب بن أبي عمرة ، قال : كان
بشر بن غالب ولبيد بن عطارد ، أو بشر بن عطارد ، ولبيد بن غالب عند الحجاج جالسين
، فقال بشر بن غالب للبيد بن عطارد : نزلت في قومك بني تميم( إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ
مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ ) فذكرت ذلك لسعيد بن جُبَير ، فقال : إنه لو علم بآخر
الآية أجابه( يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا ) قالوا أسلمنا ولم تقاتلك بنو
أسد.
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة( لا تَمُنُّوا )
أنا أسلمنا بغير قتال لم نقاتلك كما قاتلك بنو فلان وبنو فلان ، فقال الله لنبيه
صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم : ( قُلْ ) لهم( لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ
بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ
(22/320)
إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (18)
عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإيمَانِ
).
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله( يَمُنُّونَ
عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ ) قال : فهذه
الآيات نزلت في الأعراب.
القول في تأويل قوله تعالى : { إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ
وَالأرْضِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (18) }
يقول تعالى ذكره : إن الله أيها الأعراب لا يخفى عليه الصادق منكم من الكاذب ، ومن
الداخل منكم في ملة الإسلام رغبة فيه ، ومن الداخل فيه رهبة من رسولنا محمد صَلَّى
الله عَلَيْهِ وَسَلَّم وجنده ، فلا تعلمونا دينكم وضمائر صدوركم ، فإن الله يعلم
ما تكنه ضمائر صدوركم ، وتحدّثون به أنفسكم ، ويعلم ما غاب عنكم ، فاستسرّ في
خبايا السموات والأرض ، لا يخفى عليه شيء من ذلك( وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا
تَعْمَلُونَ ) يقول : والله ذو بصر بأعمالكم التي تعملونها ، أجهرا تعملون أم سرّا
، طاعة تعملون أو معصية ؟ وهو مجازيكم على جميع ذلك ، إن خيرا فخير ، وان شرّا
فشرّ وكُفُؤه.
و( أنْ ) في قوله( يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا ) في موضع نصب بوقوع يمنون
عليها ، وذكر أن ذلك في قراءة عبد الله( يَمُنُّونَ عَلَيْكَ إِسْلامَهُمْ ) ،
وذلك دليل على صحة ما قلنا ، ولو قيل : هي نصب بمعنى : يمنون عليك لأن أسلموا ،
لكان وجها يتجه. وقال بعض أهل العربية : هي في موضع خفض. بمعنى : لأن أسلموا.
وأما( أن ) التي في قوله( بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ ) فإنها
في موضع نصب بسقوط الصلة لأن معنى الكلام : بل الله يمنّ عليكم بأن هداكم للإيمان.
آخر تفسير سورة الحجرات
(22/321)
ق وَالْقُرْآَنِ الْمَجِيدِ (1) بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ (2)
تفسير سورة ق بسم الله الرحمن الرحيم
القول في تأويل قوله تعالى : { ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ (1) بَلْ عَجِبُوا أَنْ
جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ (2) }
اختلف أهل التأويل في قوله : (ق) ، فقال بعضهم : هو اسم من أسماء الله تعالى أقسم
به.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني علي بن داود ، قال : ثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن
عباس في قوله : (ق) و(ن) وأشباه هذا ، فإنه قسم أقسمه الله ، وهو اسم من أسماء
الله.
وقال آخرون : هو اسم من أسماء القرآن.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، في قوله(ق) قال
: اسم من أسماء القرآن.
وقال آخرون : (ق) اسم الجبل المحيط بالأرض ، وقد تقدّم بياننا في تأويل حروف
المعجم التي في أوائل سور القرآن بما فيه الكفاية عن إعادته في هذا الموضع.
وقوله( وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ ) يقول : والقرآن الكريم.
(22/325)
كما حدثنا أبو كُرَيب ، قال : ثنا يحيى
بن يمان ، عن أشعث بن إسحاق ، عن جعفر بن أبي المغيرة ، عن سعيد بن جُبير( ق
وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ ) قال : الكريم.
واختلف أهل العربية في موضع جواب هذا القسم ، فقال بعض نحويِّي البصرة( ق
وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ ) قسم على قوله( قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الأرْضُ
مِنْهُمْ ) وقال بعض نحويِّي أهل الكوفة : فيها المعنى الذي أقسم به ، وقال : ذكر
أنها قضى والله ، وقال : يقال : إن قاف جبل محيط بالأرض ، فإن يكن كذلك فكأنه في
موضع رفع : أي هو قاف والله; قال : وكان ينبغي لرفعه أن يظهر لأنه اسم وليس بهجاء;
قال : ولعلّ القاف وحدها ذكرت من اسمه ، كما قال الشاعر :
قُلْت لَها قفي لَنَا قالَتْ قاف (1)
ذُكرت القاف إرادة القاف من الوقف : أي إني واقفة.
وهذا القول الثاني عندنا أولى القولين بالصواب ، لأنه لا يعرف في أجوبة الأيمان قد
، وإنما تجاب الأيمان إذا أجيبت بأحد الحروف الأربعة : اللام ، وإن ، وما ، ولا أو
بترك جوابها فيكون ساقطا.
وقوله( بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ ) يقول تعالى ذكره لنبيه
محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم ما كذّبك يا محمد مشركو قومك أن لا يكونوا
عالمين بأنك صادق محقّ ، ولكنهم كذّبوك تعجبا من أن جاءهم منذر ينذرهم
__________
(1) في ( اللسان : وقف ) غير منسوب . وقوله * قلت لها قفي قالت قاف *
بسكون الكاف الفاء : إنما أراد : قد وقفت فاكتفى بذكر القاف . قال ابن جني : ولو
نقل هذا الشاعر إلينا شيئا من جملة الحال ، فقال مع قوله : قالت قاف ، وأمسكت زمام
بعيرها ، أو عاجته عليها ، لكان أبين ، لما كانوا عليه ، وأدل على أنها أرادت قفي
لنا ، أي يقول لي قفي لنا! متعجبة منه . وهو إذا شاهدها وقد وقفت علم أن قولها :
قاف إجابة لقوله ، وتعجب منه في قوله قفي لنا . أ هـ . وفي معاني القرآن للفراء (
الورقة 308 ) أورد البيت ثم قال : ذكرت القاف من الوقت ، أي إني واقفة . أ هـ .
(22/326)
أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ (3) قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ (4)
عقاب الله منهم ، يعني بشرا منهم من
بني آدم ، ولم يأتهم مَلك برسالة من عند الله.
وقوله( فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ ) يقول تعالى ذكره : فقال
المكذّبون بالله ورسوله من قريش إذ جاءهم منذر منهم( هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ ) : أي
مجيء رحل منا من بني آدم برسالة الله إلينا ، ( هَلا (1) أُنزلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ
فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا ) .
القول في تأويل قوله تعالى : { أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ
بَعِيدٌ (3) قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الأرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنَا كِتَابٌ
حَفِيظٌ (4) }
يقول القائل : لم يجر للبعث ذكر ، فيخبر عن هؤلاء القوم بكفرهم ما دعوا إليه من
ذلك ، فما وجه الخبر عنهم بإنكارهم ما لم يدعوا إليه ، وجوابهم عما لم يسألوا عنه.
قيل : قد اختلف أهل العربية في ذلك ، فنذكر ما قالوا في ذلك ، ثم نتبعه البيان إن
شاء الله تعالى ، فقال في ذلك بعض نحويِّي البصرة قال( أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا
تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ ) ، لم يذكر أنه راجع ، وذلك والله أعلم لأنه كان
على جواب ، كأنه قيل لهم : إنكم ترجعون ، فقالوا( أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا
تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ ) وقال بعض نحويِّي الكوفة قوله : ( أَئِذَا
مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ) كلام لم يظهر قبله ، ما يكون هذا جوابا له ، ولكن
معناه مضمر ، إنما كان والله أعلم : ( ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ ) لَتُبْعثنّ بعد
الموت ، فقالوا : أإذا كنا ترابا بُعثنا ؟ جحدوا البعث ، ثم قالوا( ذَلِكَ رَجْعٌ
بَعِيدٌ ) جحدوه أصلا قوله( بَعِيدٌ ) كما تقول للرجل يخطئ في المسألة ، لقد ذهبت
مذهبا بعيدا من الصواب : أي أخطأت.
والصواب من القول في ذلك عندنا ، أن في هذا الكلام متروكا استغني
__________
(1) التلاوة " لولا " . أ هـ . مصححه .
(22/327)
بدلالة ما ذُكر عليه من ذكره ، وذلك أن
الله دلّ بخبره عن تكذيب هؤلاء المشركين الذين ابتدأ هذه السورة بالخبر عن تكذيبهم
رسوله محمدا صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم بقوله( بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ
مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ ) على وعيده إياهم
على تكذيبهم محمدا صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم ، فكأنه قال لهم : إذ قالوا
منكرين رسالة الله رسوله محمدا صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم( هَذَا شَيْءٌ
عَجِيبٌ ) ستعلمون أيها القوم إذا أنتم بُعثتم يوم القيامة ما يكون حالكم في
تكذيبكم محمدا صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم ، وإنكاركم نبوّته ، فقالوا مجيبين
رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم( أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا )
نعلم ذلك ، ونرى ما تعدنا على تكذيبك( ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ ) : أي أن ذلك غير
كائن ، ولسنا راجعين أحياء بعد مماتنا ، فاستغني بدلالة قوله( بَلْ عَجِبُوا أَنْ
جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ ) فقال الكافرون( هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ ) من ذكر ما
ذكرت من الخبر عن وعيدهم.
وفيما حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : ثنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك
يقول في قوله( أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ ) قالوا :
كيف يحيينا الله ، وقد صرنا عظاما ورفاتا ، وضللنا في الأرض ، دلالة على صحة ما
قلنا من أنهم أنكروا البعث إذا توعِّدوا به.
وقوله( قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الأرْضُ مِنْهُمْ ) يقول تعالى ذكره : قد
علمنا ما تأكل الأرض من أجسامهم بعد مماتهم ، وعندنا كتاب بما تأكل الأرض وتفني من
أجسامهم ، ولهم كتاب مكتوب مع علمنا بذلك ، حافظ لذلك كله ، وسماه الله تعالى
حفيظا ، لأنه لا يدرس ما كتب فيه ، ولا يتغير ولا يتبدل.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، فال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ،
عن ابن عباس ، قوله( قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الأرْضُ مِنْهُمْ ) يقول : ما
تأكل الأرض من لحومهم وأبشارهم وعظامهم وأشعارهم.
(22/328)
بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ (5) أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ (6)
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو
عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن قال : ثنا ورقاء جميعا ،
عن ابن أبي نَجيح ، عن مجاهد ، قوله( مَا تَنْقُصُ الأرْضُ مِنْهُمْ ) قال : من
عظامهم.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، في قوله( قَدْ
عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الأرْضُ مِنْهُمْ ) يقول : ما تأكل الأرض منهم.
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة( قَدْ عَلِمْنَا
مَا تَنْقُصُ الأرْضُ مِنْهُمْ ) قال : يعني الموت ، يقول : من يموت منهم ، أو قال
: ما تأكل الأرض منهم إذا ماتوا.
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك
يقول ، قال الله( قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الأرْضُ مِنْهُمْ ) يقول : ما أكلت
الأرض منهم ونحن عالمون به ، وهم عندي مع علمي فيهم في كتاب حفيظ.
القول في تأويل قوله تعالى : { بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ
فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ (5) أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ
بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ (6) }
يقول تعالى ذكره : ما أصاب هؤلاء المشركون القائلون( أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا
تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ ) في قيلهم هذا( بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ ) ،
وهو القرآن( لَمَّا جَاءَهُمْ ) من الله.
كالذي حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( بَلْ كَذَّبُوا
بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ ) أي كذّبوا بالقرآن( فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ )
يقول : فهم في أمر مختلط عليهم ملتبس ، لا يعرفون حقه من باطله ، يقال (1) قد
__________
(1) زيادة لربط الكلام ، ونظن أنها سقطت من قلم الناسخ .
(22/329)
مرج أمر الناس إذا اختلط وأهمل.
وقد اختلفت عبارات أهل التأويل في تأويلها ، وإن كانت متقاربات المعاني ، فقال
بعضهم : معناها : فهم في أمر منكر; وقال : المريج : هو الشيء المنكر.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن خالد بن خداش ، قال : ثني سلم بن قُتيبة ، عن وهب بن حبيب الآمدي ،
عن أبي حمزة ، عن ابن عباس أنه سُئل عن قوله( أَمْرٍ مَرِيجٍ ) قال : المريج :
الشيء المنكر; أما سمعت قول الشاعر :
فَجالَتْ والْتَمَسَتْ بهِ حَشاها... فَخَرَّ كأنَّهُ خُوطٌ مَرِيجُ (1)
وقال آخرون : بل معنى ذلك : في أمر مختلف.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : ثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ،
قوله( فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ ) في قول : مختلف.
وقال آخرون : بل معناه : في أمر ضلالة.
__________
(1) البيت للداخل بن حرام الهذلي ، كما في شرح أشعار الهذليين للسكري طبعة أوربا ،
ص 269 وليس لأبي ذؤيب ، كما قال أبو عبيدة في مجاز القرآن ( الورقة 225 ب ) .
والضمير في جالت للبقرة . وفي به إلى السهم الذي وصفه . ويروي : فراغت : في موضع
" فجالت " . أي حادت عن السهم . والحشا : حشوة الجوف . وخر : سقط . وخوط
: غصن أو قضيب . ومريج : أي قد طرح وترك ، يقال : مرج إذا وقع فترك . ويقال مريج :
قلق ، يقال مرج الخاتم في يدي ، أي انسل يمرج مرحبا أي قلق وتقلقل واضطرب ومرج ، وفي
( اللسان : مرج ) المرج بالتحريك : مصدر قولك : مرج الخاتم في يدي مرجا : أي قلق .
وفي التنزيل " فهم في أمر مريج " يقول : في ضلال . وقال أبو إسحاق : في
أمر مختلف ، ملتبس عليهم ، يقولون للنبي صلى الله عليه وسلم مرة : ساحر . ومرة
شاعر ، ومرة معلم مجنون . وهذا الدليل على أن قوله " مريج " ملتبس عليهم
. أ هـ . وفي مجاز القرآن لأبي عبيدة ( الورقة 225 ب ) مريج مختلط ؛ يقال قد مرج
أمر الناس : اختلط وأهمل . وقال أبو ذؤيب ( كذا ) " فخر كأنه خوط مريج "
أي سهم . أ هـ .
(22/330)
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ،
عن ابن عباس( فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ ) قال : هم في أمر ضلالة.
وقال آخرون : بل معناه : في أمر مُلْتبِس.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا أبو كُرَيب ، قال : ثنا يحيى بن يمان ، عن أشعث بن إسحاق ، عن جعفر بن أبي
المغيرة ، عن سعيد بن جُبَير ، في قوله( فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ ) قال :
مُلْتَبِسٍ.
حدثنا محمد بن عمرو ، قال أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث ، قال : ثنا
الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله( أَمْرٍ
مَرِيجٍ ) قال : ملتبس.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله( فَهُمْ فِي
أَمْرٍ مَرِيجٍ ) ملتبس عليهم أمره.
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، قال : والتبس عليه دينه.
وقال آخرون : بل هو المختلط.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله( فِي أَمْرٍ
مَرِيجٍ ) قال : المريج : المختلط.
وإنما قلت : هذه العبارات وإن اختلفت الفاظها فهي في المعنى متقاربات ، لأن الشيء
مختلف ملتبس ، معناه مشكل. وإذا كان كذلك كان منكرا ، لأن المعروف واضح بين ، وإذا
كان غير معروف كان لا شكّ ضلالة ، لأن الهدى بين لا لبس فيه.
(22/331)
وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (7) تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (8)
وقوله( أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى
السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا ) يقول تعالى ذكره :
أفلم ينظر هؤلاء المكذّبون بالبعث بعد الموت المنُكرون قُدرتنا على إحيائهم بعد
بلائهم( إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا ) فسوّيناها سقفا محفوظا
، وزيناها بالنجوم( وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ ) يعني : وما لها من صدوع وفُتوق.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث ، قال :
ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله( مِنْ
فُرُوجٍ ) قال : شَقّ.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله( وَمَا لَهَا
مِنْ فُرُوجٍ ) قلت له ، يعني ابن زيد : الفروج : الشيء المتبرئ بعضه من بعض ، قال
: نعم.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَالأرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا
رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (7) تَبْصِرَةً
وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (8) }
وقوله( وَالأرْضَ مَدَدْنَاهَا ) يقول : والأرض بسطناها( وَأَلْقَيْنَا فِيهَا
رَوَاسِيَ ) يقول : وجعلنا فيها جبالا ثوابت ، رست في الأرض ، ( وَأَنْبَتْنَا
فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ ) يقول تعالى ذكره : وأنبتنا في الأرض من كلّ
نوع من نبات حسن ، وهو البهيج.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا عليّ ، قال : ثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية بن صالح ، عن
(22/332)
وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ (9) وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ (10) رِزْقًا لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ (11)
عليّ ، عن ابن عباس ، قوله( بَهِيجٍ )
يقول : حسن.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله( وَأَلْقَيْنَا
فِيهَا رَوَاسِيَ ) والرواسي الجبال( وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ
بَهِيجٍ ) : أي من كلّ زوج حسن.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قلت لابن زيد( البَهِيج ) : هو الحسن
المنظر ؟ قال نعم.
وقوله( تَبْصِرَةً ) يقول : فعلنا ذلك تبصرة لكم أيها الناس نبصركم بها قدرة ربكم
على ما يشاء ، ( وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ ) يقول : وتذكيرا من الله عظمته
وسلطانه ، وتنبيها على وحدانيته( لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ ) يقول : لكل عبد رجع إلى
الإيمان بالله ، والعمل بطاعته.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة قوله( تَبْصِرَة ) نعمة
من الله يبصرها العباد( وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ ) : أي بقلبه إلى الله.
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، في قوله(
تَبْصِرَةً وَذِكْرَى ) قال : تبصرة من الله.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث ، قال :
ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله(
تَبْصِرَةً ) قال : بصيرة.
حدثنا ابن حُمَيد قال : ثنا مهران ، عن سفيان ، عن جابر ، عن عطاء ومجاهد( لِكُلِّ
عَبْدٍ مُنِيبٍ ) قالا مجيب.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَنزلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا
(22/333)
فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ
الْحَصِيدِ (9) وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ (10) رِزْقًا
لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ (11) }
يقول تعالى ذكره( وَنزلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً ) مطرا مباركا ، فأنبتنا به
بساتين أشجارا ، وحبّ الزرع المحصود من البرّ والشعير ، وسائر أنواع الحبوب.
كما حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( وَحَبَّ الْحَصِيدِ
) هذا البرّ والشعير.
حدثني ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة( وَحَبَّ
الْحَصِيدِ ) قال : هو البرّ والشعير.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال ثنا عيسى; وحدثني الحارث ، قال :
ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد( وَحَبَّ
الْحَصِيدِ ) قال : الحِنطة.
وكان بعض أهل العربية يقول في قوله( وَحَبَّ الْحَصِيدِ ) الحبّ هو الحصيد ، وهو
مما أضيف إلى نفسه مثل قوله( إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ ).
وقوله( وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ ) يقول : وأنبتنا بالماء الذي أنزلنا من السماء
النخل طوالا والباسق : هو الطويل يقال للجبل الطويل : حبل باسق ، كما قال أبو نوفل
لابن هُبَيرة :
يا بْنَ الَّذِينَ بِفَضْلِهِمْ... بَسَقَتْ عَلى قَيْسٍ فَزَارَهْ (1)
__________
(1) البيت من شواهد أبي عبيدة في مجاز القرآن ( الورقة 225 ب ) قال : "
والنخل باسقات " : طوال . يقال جبل باسق ، وحسب باسق ، قال أبو نوفل لابن
هبيرة : " يا بن الذين ... " البيت . وفي اللسان : بسق ( بسق الشيء يبسق
بسوقًا : تم طوله ) . وفي التنزيل : " والنخل باسقات " الفراء : باسقات
: طوالا ، فهن طوال النخل ، وبسق على قومه : علاهم في الفضل . وأنشد ابن بري لأبي
نوفل : " يا بن الذين ... البيت " . أ هـ .
(22/334)
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل
التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : ثنا أبو صالح قال : ثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس ، قوله(
باسِقاتٍ ) يقول : طوال.
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ،
عن ابن عباس ، قوله( وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ ) قال : النخل الطوال.
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : ثنا هشيم ، عن إسماعيل بن أبي خالد ، عن عبد الله
بن شدّاد في قوله( وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ ) قال : بسُوقها : طولها في إقامة.
حدثنا هناد ، قال : ثنا أبو الأحوص ، عن سماك ، عن عكرِمة ، في قوله( وَالنَّخْلَ
بَاسِقَاتٍ ) الباسقات : الطوال.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث ، قال :
ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله( باسِقاتٍ
) قال : الطوال.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ
) قال : بسوقها طولها.
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة( وَالنَّخْلَ
بَاسِقَاتٍ ) قال : يعني طولها.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله( وَالنَّخْلَ
بَاسِقَاتٍ ) قال : البسوق : الطول.
وقوله( لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ ) يقول : لهذا النخل الباسقات طلع وهو الكُفُرَّى ،
نضيد : يقول : منضود بعضه على بعض متراكب.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
(22/335)
كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ (12) وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوطٍ (13) وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ (14)
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن
ابن عباس( لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ ) قال : يقول بعضه على بعض.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث ، قال :
ثنا الحسن ، لها : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله( نَضِيدٌ
) قال : المنضَّد.
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة( لَهَا طَلْعٌ
نَضِيدٌ ) يقول : بعضه على بعض.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ )
ينضد بعضه على بعض.
وقوله( رِزْقًا لِلْعِبَادِ ) يقول : أنبتنا بهذا الماء الذي أنزلناه من السماء
هذه الجنات ، والحبّ والنخل قوتا للعباد ، بعضها غذاء ، وبعضها فاكهة ومتاعا.
وقوله( وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا ) يقول تعالى ذكره وأحيينا بهذا الماء
الذي أنزلناه من السماء بلدة ميتا قد أجدبت وقحطت ، فلا زرع فيها ولا نبت.
وقوله( كَذَلِكَ الْخُرُوجُ ) يقول تعالى ذكره : كما أنبتنا بهذا الماء هذه الأرض
الميتة ، فأحييناها به ، فأخرجنا نباتها وزرعها ، كذلك نخرجكم يوم القيامة أحياء
من قبوركم من بعد بلائكم فيها بما ينزل عليها من الماء.
القول في تأويل قوله تعالى : { كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ
الرَّسِّ وَثَمُودُ (12) وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوطٍ (13) وَأَصْحَابُ
الأيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ (14) }
يقول تعالى ذكره( كذَّبتْ ) قبل هؤلاء المشركين الذين كذّبوا محمدا
(22/336)
صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم من
قومه( قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسِّ ) وقد مضى ذكرنا قبل أمر أصحاب الرسّ ،
وأنهم قوم رسُّوا نبيهم في بئر.
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا مهران ، عن سفيان ، عن أبي بكر ، عن عكرمة بذلك.
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك
يقول في قوله( أَصْحَابُ الرَّسِّ ) والرس : بئر قُتل فيها صاحب يس.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث ، قال :
ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله(
أَصْحَابُ الرَّسِّ ) قال : بئر.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرنا عمرو بن الحارث ، عن سعيد بن
أبي هلال ، عن عمرو بن عبد الله ، عن قتادة أنه قال : إن أصحاب الأيكة ، "
والأيكة : الشجر الملتفّ " ، وأصحاب الرّسّ كانتا أمتين ، فبعث الله إليهم
نبيا واحدا شعيبا ، وعذّبهما الله بعذابين( وَثمُودُ ، وَعادٌ وَفِرْعَوْنُ ،
وَإِخْوَانُ لُوطٍ ، وأصْحابُ الأيْكَةِ ) وهم قوم شعيب ، وقد مضى خبرهم قبل(
وَقَوْمُ تُبَّعٍ ).
وكان قوم تُبَّعٍ أهل أوثان يعبدونها ، فيما حدثنا به ابن حُمَيد ، قال : ثنا سلمة
، عن ابن إسحاق.
وكان من خبره وخبر قومه ، ما حدثنا به مجاهد بن موسى ، قال : ثنا يزيد ، قال :
أخبرنا عمران بن حُدَير ، عن أبي مجلز ، عن ابن عباس ، أنه سأل عبد الله بن سلام ،
عن تُبَّع ما كان ؟ فقال : إن تبعا كان رجلا من العرب ، وإنه ظهر على الناس ،
فاختار فِتية من الأخيار فاستبطنهم واستدخلهم ، حتى أخذ منهم وبايعهم ، وإن قومه
استكبروا ذلك وقالوا : قد ترك دينكم ، وبايع الفِتية; فلما فشا ذلك ، قال للفتية ،
فقال الفتية : بيننا وبينهم النار تُحْرِق الكاذب ،
(22/337)
وينجو منها الصادق ، ففعلوا ، فعلق
الفتية مصاحفهم في أعناقهم ، ثم غدوا إلى النار ، فلما ذهبوا أن يدخلوها ، سفعت
النار في (1) وجوههم ، فنكصوا عنها ، فقال لهم تبَّع : لتدخلنها; فلما دخلوها
أفرجت عنهم حتى قطعوها ، وأنه قال لقومه ادخلوها; فلما ذهبوا يدخلونها سفعت النار
وجوههم ، فنكصوا عنها ، فقال لهم تبَّع : لتدخلنها ، فلما دخلوها أفرجت عنهم ، حتى
إذا توسطوا أحاطت بهم ، فأحرقتهم ، فأسلم تُبع ، وكان تُبَّع رجلا صالحا.
حدثنا ابن حُمَيد ، قال : ثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن أبي مالك بن ثعلبة بن أبي
مالك القرظي ، قال : سمعت إبراهيم بن محمد القرظي ، قال : سمعت إبراهيم بن محمد بن
طلحة بن عبد الله يحدّث " أن تبعا لما دنا من اليمن ليدخلها ، حالت حِمْيَر
بينه وبين ذلك ، وقالوا لا تدخلها علينا ، وقد فارقت ديننا فدعاهم إلى دينه ، وقال
: إنه دين خير من دينكم ، قالوا : فحاكمنا إلى النار ، قال نعم ، قال : وكانت في
اليمن فيما يزعم أهل اليمن نار تحكم فيما بينهم فيما يختلفون فيه ، تأكل الظالم
ولا تضرّ المظلوم ، فلما قالوا ذلك لتبَّع ، قال : أنصفتم ، فخرج قومه بأوثانهم ،
وما يتقرّبون به في دينهم قال : وخرج الحبران بمصاحفهما في أعناقهما متقلديهما ،
حتى قعدوا للنار عند مخرجها التي تخرج منه ، فخرجت للنار إليهم ، فلما أقبلت نحوهم
حادوا عنها وهابوها ، فرموهم من حضرهم من الناس ، وأمروهم بالصبر لها ، فصبروا حتى
غشيتهم فأكلت الأوثان وما قرّبوا معها ، ومن حمل ذلك من رجال حِمْيَر وخرج الحبران
بمصاحفهما في أعناقهما ، تعرق جباههما لم تضرّهما ، فأطبقت حِمْيَر ، عند ذلك على
دينه ، فمن هنالك وغير ذلك كان أصل اليهودية باليمن " .
حدثنا ابن حُمَيد ، قال : ثنا سلمة ، عن ابن إسحاق عن بعض أصحابه أن الحَبرين ،
ومن خرج معهما من حِمْيَر ، إنما اتبعوا النار ليردّوها ، وقالوا :
__________
(1) كذا في الأصل ، وسيجيء نظيره قريبًا بإسقاط ( في ) من الكلام . ولعله زاد ( في
) على التضمين .
(22/338)
من ردّها فهو أولى بالحقّ فدنا منهم
رجال من حمير بأوثانهم ليردُّوها ، فدنت منهم لتأكلهم ، فحادوا فلم يستطيعوا ردّها
، ودنا منها الحبران بعد ذلك وجعلا يتلوان التوراة ، وتنكص حتى ردّاها إلى مخرجها
الذي خرجت منه ، فأطبقت عند ذلك على دينهما ، وكان رئام بيتا لهم يعظمونه ،
وينحرون عنده ، ويكلمون منه ، إذ كانوا على شركهم ، فقال الحبران لتبَّع إنما هو
شيطان يعينهم ويلعب بهم ، فخلّ بيننا وبينه ، قال : فشأنكما به فاستخرجا منه فيما
يزعم أهل اليمن كلبا أسود ، فذبحاه ، ثم هدما ذلك البيت ، فبقاياه اليوم باليمن
كما ذُكر لي " .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن لهيعة ، عن عمرو بن جابر
الخضرميّ ، حدثه قال : سمعت سهل بن سعد الساعدي ، يحدّث عن النبيّ صَلَّى الله
عَلَيْهِ وَسَلَّم أنه قال : " لا تَلْعَنُوا تُبَّعا فإنَّهُ كانَ قَدْ
أسْلَمَ " .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرني ابن لهيعة ، عن الحارث بن يزيد
أن شعيب بن زرعة المعافريّ ، حدثه ، قال : سمعت عبد الله بن عمرو بن العاص وقال له
رجل : إن حِمْيَر تزعم أن تبعا منهم ، فقال : نعم والذي نفسي بيده ، وإنه في العرب
كالأنف بين العينين. وقد كان منهم سبعون ملكا.
وقوله( كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ ) يقول تعالى ذكره : كلّ هؤلاء
الذين ذكرناهم كذّبوا رسل الله الذين أرسلهم( فَحَقَّ وَعِيدِ ) يقول : فوجب لهم
الوعيد الذي وعدناهم على كفرهم بالله ، وحل بهم العذاب والنقمة. وإنما وصف ربنا
جلّ ثناؤه ما وصف في هذه الآية من إحلاله عقوبته بهؤلاء المكذّبين الرسل ترهيبا
منه بذلك مشركي قريش وإعلاما منه لهم أنهم إن لم ينيبوا من تكذيبهم رسوله محمدا
صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم ، أنه محلّ بهم من العذاب ، مثل الذي أحلّ بهم.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى;
(22/339)
أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ (15)
وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال
: ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله( فَحَقَّ وَعِيدِ ) قال :
ما أهلكوا به تخويفا لهؤلاء.
القول في تأويل قوله تعالى : { أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الأوَّلِ بَلْ هُمْ فِي
لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ (15) }
(22/340)
وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (16)
القول في تأويل قوله تعالى : {
وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ
أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (16) }
وهذا تقريع من الله لمشركي قريش الذين قالوا : ( أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا
تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ ) يقول لهم جلّ ثناؤه : أفعيينا بابتداع الخلق
الأول الذي خلقناه ، ولم يكن شيئا فنعيا بإعادتهم خلقا جديدا بعد بلائهم في التراب
، وبعد فنائهم; يقول : ليس يعيينا ذلك ، بل نحن عليه قادرون.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : ثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ،
قوله( أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الأوَّلِ ) يقول : لم يعينا الخلق الأوّل.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث ، قال :
ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله(
أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الأوَّلِ ) يقول : أفعيي علينا حين أنشأناكم خلقا جديدا
، فتمتروا بالبعث.
حدثنا ابن حُمَيد ، قال : ثنا مهران ، عن سفيان ، عن عطاء بن السائب ، عن أبي
ميسرة( أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الأوَّلِ ) قال : إنا خلقناكم.
وقوله( بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ ) يقول تعالى ذكره : ما يشكّ
هؤلاء المشركون المكذّبون بالبعث أنا لم نعي بالخلق الأوّل ، ولكنهم في شكّ من
قُدرتنا على أن نخلقهم خلقا جديدا بعد فنائهم ، وبَلائهم في قبورهم.
(22/340)
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل
التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : ثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ،
قوله( بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ ) يقول : في شكّ من البعث.
حدثنا ابن حُمَيد ، قال : ثنا مهران ، عن سفيان ، عن عطاء بن السائب ، عن أبي
ميسرة( بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ ) قال : الكفار( مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ ) قال : أن
يخلقوا من بعد الموت .
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله( بَلْ هُمْ فِي
لَبْسٍ ) : أي شكّ والخلق الجديد : البعث بعد الموت ، فصار الناس فيه رجلين :
مكذّب ، ومصدّق.
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، في قوله( فِي
لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ ) قال : البعث من بعد الموت.
وقوله( وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ )
يقول تعالى ذكره : ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما تحدِّث به نفسه ، فلا يخفى علينا
سرائره وضمائر قلبه( وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ ) يقول :
ونحن أقرب للإنسان من حبل العاتق; والوريد : عرق بين الحلقوم والعلباوين ، والحبل
: هو الوريد ، فأضيف إلى نفسه لاختلاف لفظ اسميه.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : ثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ،
قوله( وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ ) يقول : عرق العنق.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى;
(22/341)
إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ (17) مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (18)
وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال
: ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد( حَبْلِ الْوَرِيدِ ) قال : الذي
يكون في الحلق.
وقد اختلف أهل العربية في معنى قوله( وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ
الْوَرِيدِ ) فقال بعضهم : معناه : نحن أملك به ، وأقرب إليه في المقدرة عليه.
وقال آخرون : بل معنى ذلك( وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ )
بالعلم بما تُوَسْوس به نفسه.
القول في تأويل قوله تعالى : { إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ
وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ (17) مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلا لَدَيْهِ رَقِيبٌ
عَتِيدٌ (18) }
يقول تعالى ذكره : ونحن أقرب إلى الإنسان من وريد حلقه ، حين يتلقى الملَكان ،
وهما المتلقيان( عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ ) وقيل : عنى بالقعيد
: الرصد.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث ، قال :
ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله( قَعِيدٌ
) قال : رَصَد.
واختلف أهل العربية في وجه توحيد قعيد ، وقد ذُكر من قبل متلقيان ، فقال بعض نحويي
البصرة : قيل : ( عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ ) ولم يقل : عن
اليمين قعيد ، وعن الشمال قعيد ، أي أحدهما ، ثم استغنى ، كما قال : (
نُخْرِجُكُمْ طِفْلا ) ثم استغنى بالواحد عن الجمع ، كما قال : ( فَإِنْ طِبْنَ
لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا ) . وقال بعض نحويي الكوفة( قَعِيدٌ ) يريد :
قعودا عن اليمين وعن الشمال ، فجعل فعيل جمعا ، كما يجعل الرسول للقوم وللاثنين ،
قال الله
(22/342)
عزّ وجل : ( إِنَّا رَسُولُ رَبِّ
الْعَالَمِينَ ) لموسى وأخيه ، وقال الشاعر :
أَلِكْنِي إلَيْها وَخَيْرُ الرَّسو... ل أعْلَمُهُمْ بِنَوَاحي الخَبَرْ (1)
فجعل الرسول للجمع ، فهذا وجه وإن شئت جعلت القعيد واحدا اكتفاء به من صاحبه ، كما
قال الشاعر :
نَحْنُ بِمَا عِنْدَنَا وأنْتَ بِمَا... عِنْدَك رَاضٍ والرَّأيُ مُخْتَلِفُ (2)
ومنه قول الفَرَزدق :
إنّي ضَمِنْتُ لِمَنْ أتانِي ما جَنى... وأَبي فَكانَ وكُنْتُ غَيرَ غَدُورِ (3)
ولم يقل : غَدُورَيْن.
__________
(1) البيت لأبي ذؤيب ( اللسان : رسل ) وروايته فيه كرواية المؤلف هنا ، وقد نقلها
المؤلف عن معاني القرآن للفراء ( الورقة 309 ) وفي ( اللسان : ألك ) : بخبر الرسول
. وأعلمهم بهمزة المتكلم في المضارع . وقال في رسل : وفي التنزيل العزيز "
إنا رسول رب العالمين " ولم يقل رسل لأن فعولا وفعيلا يستوي فيهما المذكر
والمؤنث ، والواحد والجمع مثل عدو وصديق . وقول أبي ذؤيب " ألكني إليها ....
البيت " أراد بالرسول : الرسل ، فوضع الواحد موضع الجمع ، وقولهم : كثر
الدينار والدرهم لا يريدون به الدينار بعينه ، إنما يريدون كثرة الدنانير والدراهم
. وفي ( اللسان : ألك ) : ألكني : أي أبلغ رسالتي ، من الألوك والمألكة ، وهي
الرسالة . وقال الفراء في معاني القرآن عند قوله تعالى " عن اليمين وعن
الشمال قعيد " : لم يقل قعيدان : وروي عن ابن عباس قال : قعيدان ، عن اليمين
عن الشمال ، يريد قعود ( بضم القاف ) وجعل القعيد جمعا ، كما تجعل الرسول للقوم
وللاثنين ، كما قال الله : " إنا رسولا رب العالمين " لموسى وأخيه ،
وقال الشاعر : " ألكني إليها .... البيت " . أ هـ .
(2) البيت لقيس ابن الخطيم ، وقد تقدم الاستشهاد به ( 10 : 122 ) من هذه الطبعة
شرحناه هناك شرحًا مفسرًا فارجع إليه ثمة . ( وانظر الكتاب لسيبويه 1 : 38 ) .
(3) البيت للفرزدق ( الكتاب لسيبويه طبعة مصر 1 : 38 ) وهو من شواهد النحويين في
باب التنازع ، فإن قوله كان وكنت يطلب الخبر وهو قوله " غير غدور " .
والأصل : وكنت غير غدور . والعرب تحذف في مثل هذا خبر أحد العاملين ، اكتفاء
بدلالة خبره على المحذوف . وعند البصريين أن الخبر الموجود هو خبر الثاني لا الأول
فقد حذف خبره ، وهو ظاهر في الشاهد الذي قبل هذا ، " نحن بما عندنا ...
" إلخ ( وقال الفراء في معاني القرآن الورقة 309 ومثله ) أي مثل الشاهد الذي
قبله ، قول الفرزدق : " إني ضمنت ... البيت " ، ولم يقل غدورين . وقد
نقل المؤلف كلامه .
(22/343)
وقوله( مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلا
لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ ) يقول تعالى ذكره : ما يلفظ الإنسان من قول فيتكلم به ،
إلا عندما يلفظ به من قول رقيب عَتيد ، يعني حافظ يحفظه ، عتيد مُعَدُّ.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا عبد الرحمن ، قال : ثنا سفيان ، عن منصور ، عن مجاهد(
عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ ) فال : عن اليمين الذي يكتب الحسنات ،
وعن الشمال الذي يكتب السيئات.
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا عبد الرحمن ، قال : ثنا سفيان ، عن الأعمش ، عن
إبراهيم التيميّ ، في قوله( إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ
وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ ) قال : صاحب اليمين أمِير أو أمين على صاحب الشمال ،
فإذا عمل العبد سيئة قال صاحب اليمين لصاحب الشمال : أمسك لعله يتوب.
حدثنا ابن حُمَيد ، قال : ثنا حكام ، قال : ثنا عمرو ، عن منصور ، عن مجاهد( إِذْ
يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ ) قال
ملك عن يمينه ، وآخر عن يساره ، فأما الذي عن يمينه فيكتب الخير ، وأما الذي عن
شماله فيكتب الشرّ.
قال : ثنا جرير ، عن منصور ، عن مجاهد ، قال : مع كل إنسان مَلكان : ملك عن يمينه
، وملك عن يساره; قال : فأما الذي عن يمينه ، فيكتب الخير ، وأما الذي عن يساره
فيكتب الشرّ.
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ،
عن ابن عباس ، قوله( وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ
بِهِ نَفْسُهُ )... إلى( عَتِيدٌ ) قال : جعل الله على ابن آدم حافظين في الليل ،
وحافظين في النهار ، يحفظان عليه عمله ، ويكتبان أثره.
(22/344)
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال :
ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله( إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ
وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ ) ، حتى بلغ( عَتِيدٌ ) قال الحسن وقتادة( مَا يَلْفِظُ
مِنْ قَوْلٍ ) أي ما يتكلم به من شيء إلا كتب عليه. وكان عكرِمة يقول : إنما ذلك
في الخير والشرّ يكتبان عليه.
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتاده ، قال : تلا
الحسن( عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ ) قال : فقال : يا ابن آدم
بُسِطت لك صحيفة ، ووكل بك ملَكان كريمان ، أحدهما عن يمينك ، والآخر عن شمالك;
فأما الذي عن يمينك فيحفظ حسناتك ; وأما الذي عن شمالك فيحفظ سيئاتك ، فاعمل بما
شئت أقلل أو أكثر ، حتى إذا متّ طويت صحيفتك ، فجعلت في عنقك معك في قبرك ، حتى
تخرج يوما القيامة ، فعند ذلك يقول( وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ
فِي عُنُقِهِ )... حتى بلغ( حَسِيبا ) عدل والله عليك من جعلك حسيب نفسك.
حدثنا ابن حُمَيد ، قال : ثنا مهران ، عن سفيان ، عن منصور ، عن مجاهد( عَنِ
الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ ) قال : كاتب الحسنات عن يمينه ، وكاتب
السيئات عن شماله.
قال : ثنا مهران ، عن سفيان ، قال : بلغني أن كاتب الحسنات أمير على كاتب السيئات
، فإذا أذنب قال له. لا تعجل لعله يستغفر.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله( مَا يَلْفِظُ
مِنْ قَوْلٍ إِلا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ ) قال : جعل معه من يكتب كلّ ما لفظ به
، وهو معه رقيب.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرني عمرو بن الحارث ، عن هشام
الحمصي ، أنه بلغه أن الرجل إذا عمل سيئة قال كاتب اليمين لصاحب الشمال : اكتب ،
فيقول : لا بل أنت اكتب ، فيمتنعان ، فينادي مناد : يا صاحب الشمال اكتب ما ترك
صاحب اليمين.
(22/345)
وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ (19) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ (20)
القول في تأويل قوله تعالى : {
وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ (19)
وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ (20) }
وفي قوله( وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ) وجهان من التأويل ، أحدهما :
وجاءت سكرة الموت وهي شدّته وغلبته على فهم الإنسان ، كالسكرة من النوم أو الشراب
بالحقّ من أمر الآخرة ، فتبينه الإنسان حتى تثبته وعرفه. والثاني : وجاءت سكرة
الموت بحقيقة الموت.
وقد ذُكر عن أبي بكر الصدّيق رضي الله عنه أنه كان يقرأ( وَجاءَتْ سَكْرَةُ الحَقّ
بالمَوْتِ ).
* ذكر الرواية بذلك :
حدثنا محمد بن المثنى ، قال : ثنا محمد بن جعفر ، قال : ثنا شعبة ، عن واصل ، عن
أبي وائل ، قال : لما كان أبو بكر رضي الله عنه يقضي ، قالت عائشة رضي الله عنها
هذا ، كما قال الشاعر :
إذَا حَشْرَجَتْ يَوْما وَضَاقَ بِها الصَّدْرُ (1)
فقال أبو بكر رضي الله عنه : لا تقولي ذلك ، ولكنه كما قال الله عزّ وجلّ : (
وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ ) (2)
. وقد ذُكر أن
__________
(1) هذا عجز بيت ، وصدره كما في ( اللسان : حشرج ) * لعمرك ما يغني الثراء ولا
الغنى *
قال : الحشرجة : تردد صوت النفس وهو الغرغرة في الصدور . وفي حديث عائشة ودخلت على
أبيها - رضي الله عنهما - عند موته ، فأنشدت : " لعمرك ... البيت " فقال
: ليس كذلك ، ولكن : " وجاء سكرة الحق بالموت " . وهي قراءة منسوبة إليه
وقال الفراء في معاني القرآن ( الورقة 309 ) عند قوله تعالى : " وجاءت سكرة
الموت بالحق " : وفي قراءة عبد الله ( ابن مسعود ) وإن شئت جعلت السكرة هي
الموت ، أضفتها إلى نفسها كأنك قلت : جاءت سكرة الحق بالموت أ هـ . قلت : ض وهذا
البيت لحاتم الطائي ، وروايته في ديوانه ( لندن سنة 1872 ص 39 ) : أماوِيَّ ما
يُغْنِي الثَّرَاءُ عنِ الفَتَى ... إذا حَشْرَجَتْ يوْما وَضَاقَ بها الصَّدْرُ
(2) لعله سكرة الحق بالموت فإنها قراءة الصديق رضي الله عنه إلا أن تكون القراءة
الأخرى رويت عنه أيضًا .
(22/346)
وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ (21) لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ (22)
ذلك كذلك في قراءة ابن مسعود. ولقراءة
من قرأ ذلك كذلك من التأويل وجهان :
أحدهما : وجاءت سكرة الله بالموت ، فيكون الحقّ هو الله تعالى ذكره. والثاني : أن
تكون السكرة هي الموت أُضيفت إلى نفسها ، كما قيل : ( إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ
الْيَقِينِ ) . ويكون تأويل الكلام : وجاءت السكرةُ الحق بالموت.
وقوله( ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ ) يقول : هذه السكرة التي جاءتك أيها
الإنسان بالحقّ هو الشيء الذي كنت تهرب منه ، وعنه تروغ.
وقوله( وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ ) قد تقدّم بياننا عن معنى
الصُّور ، وكيف النفخ فيه بذكر اختلاف المختلفين. والذي هو أولى الأقوال عندنا فيه
بالصواب ، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع.
وقوله( ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ ) يقول : هذا اليوم الذي ينفخ فيه هو يوم الوعيد
الذي وعده الله الكفار أن يعذّبهم فيه.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ
(21) لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ
فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ (22) }
يقول تعالى ذكره : وجاءت يوم ينفخ في الصور كلّ نفس ربها ، معها سائق يسوقها إلى
الله ، وشهيد يشهد عليها بما عملت في الدنيا من خير أو شرّ.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حُمَيد ، قال : ثنا مهران ، عن إسماعيل بن أبي خالد ، عن
(22/347)
يحيى بن رافع مولى لثقيف ، قال : سمعت
عثمان بن عفان رضي الله عنه يخطب ، فقرأ هذه الآية( وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ
مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ ) قال : سائق يسوقها إلى الله ، وشاهد يشهد عليها بما
عملت.
قال : ثنا حكام ، عن إسماعيل ، عن أبي عيسى ، قال : سمعت عثمان بن عفان رضي الله
عنه يخطب ، فقرأ هذه الآية( وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ )
قال : السائق يسوقها إلى أمر الله ، والشهيد يشهد عليها بما عملت.
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ،
عن ابن عباس ، قوله( وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ ) قال :
السائق من الملائكة ، والشهيد : شاهد عليه من نفسه.
حدثنا ابن حُمَيد ، قال : ثنا سفيان ، عن مهران ، عن خَصِيف ، عن مجاهد( سَائِقٌ
وَشَهِيدٌ ) سائق يسوقها إلى أمر الله ، وشاهد يشهد عليها بما عملت.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث ، قال :
ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد( سَائِقٌ
وَشَهِيدٌ ) سائق يسوقها إلى أمر الله ، وشاهد يشهد عليها بما عملت.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث قال :
ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله(
سَائِقٌ وَشَهِيدٌ ) قال : المَلَكان : كاتب ، وشهيد.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله( وَجَاءَتْ كُلُّ
نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ ) قال : سائق يسوقها إلى ربها ، وشاهد يشهد
عليها بعملها.
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا سليمان بن حرب ، قال : ثنا أبو هلال ،
(22/348)
قال : ثنا قتادة في قوله( وَجَاءَتْ
كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ ) قال : سائق يسوقها إلى حسابها ، وشاهد
يشهد عليها بما عملت.
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن الحسن( مَعَهَا سَائِقٌ
وَشَهِيدٌ ) قال : سائق يسوقها ، وشاهد يشهد عليها بعملها.
حدثنا ابن حُمَيد ، قال : ثنا مهران ، عن أبي جعفر ، عن الربيع بن أنس( سَائِقٌ
وَشَهِيدٌ ) قال : سائق يسوقها ، وشاهد يشهد عليها بعملها.
وحُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك
يقول في قوله( وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ ) السائق من
الملائكة ، والشاهد من أنفسهم : الأيدي والأرجل ، والملائكة أيضا شهداء عليهم.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله( سَائِقٌ
وَشَهِيدٌ ) قال : مَلك وكِّل به يحصي عليه عمله ، ومَلك يسوقه إلى محشره حتى
يوافي محشره يوم القيامة.
واختلف أهل التأويل في المعنيّ بهذه الآيات; فقال بعضهم : عنى بها النبيّ صَلَّى
الله عَلَيْهِ وَسَلَّم. وقال بعضهم : عنى أهل الشرك ، وقال بعضهم : عنى بها كلّ
أحد.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب قال : ثني يعقوب بن عبد الرحمن الزهريّ ، قال :
سألت زيد بن أسلم ، عن قوله الله( وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ )...
الآية ، إلى قوله( سَائِقٌ وَشَهِيدٌ ) ، فقلت له : من يراد بهذا ؟ فقال رسول الله
صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم ، فقلت له رسول الله ؟ فقال : ما تنكر ؟ قال الله
عزّ وجلّ : ( أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى وَوَجَدَكَ ضَالا فَهَدَى ) قال :
ثم سألت صالح بن كيسان عنها ، فقال لي : هل سألت أحدا ؟ فقلت : نعم ،
(22/349)
قد سألت عنها زيد بن أسلم ، فقال : ما
قال لك ؟ فقلت : بل تخبرني ما تقول ، فقال : لأخبرنك برأيي الذي عليه رأيي ،
فأخبرني ما قال لك ؟ قلت : قال : يراد بهذا رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ
وَسَلَّم ، فقال : وما علم زيد ؟ والله ما سن عالية ، ولا لسان فصيح ، ولا معرفة
بكلام العرب ، إنما يُراد بهذا الكافر ، ثم قال : اقرأ ما بعدها يدلك على ذلك ،
قال : ثم سألت حسين بن عبد الله بن عبيد الله بن عباس ، فقال لي مثل ما قال صالح :
هل سألت أحدا فأخبرني به ؟ قلت : إني قد سألت زيد بن أسلم وصالح بن كيسان ، فقال
لي : ما قالا لك ؟ قلت : بل تخبرني بقولك ، قال : لأخبرنك بقولي ، فأخبرته بالذي
قالا لي ، قال : أخالفهما جميعا ، يريد بها البرّ والفاجر ، قال الله : (
وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ
فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ ) قال : فانكشف الغطاء
عن البرّ والفاجر ، فرأى كلّ ما يصير إليه.
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك
يقول في قوله( وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ ) يعني المشركين.
وأولى الأقوال في ذلك عندي بالصواب قول من قال : عنى بها البرّ والفاجر ، لأن الله
أتبع هذه الآيات قوله( وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ
بِهِ نَفْسُهُ ) والإنسان في هذا الموضع بمعنى : الناس كلهم ، غير مخصوص منهم بعض
دون بعض. فمعلوم إذا كان ذلك كذلك أن معنى قوله( وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ
بِالْحَقِّ ) وجاءتك أيها الإنسان سكرة الموت بالحقّ( ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ
تَحِيدُ ) وإذا كان ذلك كذلك كانت بينة صحة ما قلنا.
وقوله( لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا ) يقول تعالى ذكره : يقال له : لقد
كنت في غفلة من هذا الذي عاينت اليوم أيها الإنسان من الأهوال والشدائد(
فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ ) يقول : فجلينا ذلك لك ، وأظهرناه لعينيك ، حتى
رأيته وعاينته ، فزالت الغفلة عنك.
(22/350)
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل
التأويل ، وإن اختلفوا في المقول ذلك له ، فقال بعضهم : المقول ذلك له الكافر.
وقال آخرون : هو نبيّ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم.
وقال آخرون : هو جميع الخلق من الجنّ والإنس.
* ذكر من قال : هو الكافر :
حدثني علي ، قال : ثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ،
قوله( لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ ) وذلك
الكافر.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث ، قال :
ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله(
فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ ) قال : للكافر يوم القيامة.
حدثنا ابن حُمَيد ، قال : ثنا مهران ، عن سفيان( فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ )
قال : في الكافر.
* ذكر من قال : هو نبيّ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله( لَقَدْ كُنْتَ
فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا ) قال : هذا رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم ،
قال : لقد كنت في غفلة من هذا الأمر يا محمد ، كنت مع القوم في جاهليتهم.(
فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ ).
وعلى هذا التأويل الذي قاله ابن زيد يجب أن يكون هذا الكلام خطابا من الله لرسوله
صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم أنه كان فى غفلة في الجاهلية من هذا الدين الذي
بعثه به ، فكشف عنه غطاءه الذي كان عليه في الجاهلية ، فنفذ بصره بالإيمان
وتبيَّنه حتى تقرّر ذلك عنده ، فصار حادّ البصر به.
* ذكر من قال : هو جميع الخلق من الجنّ والإنس :
(22/351)
وَقَالَ قَرِينُهُ هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ (23) أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ (24) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ (25)
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ،
قال : ثني يعقوب بن عبد الرحمن الزهريّ ، قال : سألت عن ذلك الحسين بن عبد الله بن
عبيد الله بن عباس ، فقال : يريد به البرّ والفاجر ، ( فَكَشَفْنَا عَنْكَ
غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ ) قال : وكُشِف الغطاء عن البرّ والفاجر ،
فرأى كلّ ما يصير إليه.
وبنحو الذي قلنا في معنى قوله( فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ ) قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ،
عن ابن عباس ، قوله( فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ ) قال : الحياة بعد الموت.
حدثنا بشر قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله( لَقَدْ كُنْتَ فِي
غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ ) قال : عاين الآخرة.
وقوله( فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ ) يقول : فأنت اليوم نافذ البصر ، عالم بما
كنت عنه في الدنيا في غفلة ، وهو من قولهم : فلان بصير بهذا الأمر : إذا كان ذا
علم به ، وله بهذا الأمر بصر : أي علم.
وقد رُوي عن الضحاك إنه قال : معنى ذلك( فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ ) لسان
الميزان ، وأحسبه أراد بذلك أن معرفته وعلمه بما أسلف في الدنيا شاهد عدل عليه ،
فشبَّه بصره بذلك بلسان الميزان الذي يعدل به الحقّ في الوزن ، ويعرف مبلغه الواجب
لأهله عما زاد على ذلك أو نقص ، فكذلك علم من وافي القيامة بما اكتسب في الدنيا
شاهد عليه كلسان الميزان.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَقَالَ قَرِينُهُ هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ (23)
أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ (24) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ
مُعْتَدٍ مُرِيبٍ (25) }
(22/352)
يقول تعالى ذكره : وقال قرين هذا
الإنسان الذي جاء به يوم القيامة معه سائق وشهيد.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( وَقَالَ قَرِينُهُ هَذَا
مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ ) الملك.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله( وَقَالَ
قَرِينُهُ هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ )... إلى آخر الآية ، قال : هذا سائقه الذي
وُكِّل به ، وقرأ( وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ ).
وقوله( هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ ) يقول تعالى ذكره مخبرا عن قيل قَرينِ هذا
الإنسان عند موافاته ربه به ، ربّ هذا ما لديّ عتيد : يقول : هذا الذي هو عندي
معدّ محفوظ.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله( هَذَا مَا
لَدَيَّ عَتِيدٌ ) قال : والعتيد : الذي قد أخذه ، وجاء به السائق والحافظ معه
جميعا.
وقوله( أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ ) فيه متروك استغني بدلالة
الظاهر عليه منه ، وهو : يقال ألقيا في جهنم ، أو قال تعالى : ألقيا ، فأخرج الأمر
للقرين ، وهو بلفظ واحد مخرج خطاب الاثنين. وفي ذلك وجهان من التأويل : أحدهما :
أن يكون القرين بمعنى الاثنين ، كالرسول ، والاسم الذي يكون بلفظ الواحد في الواحد
، والتثنية والجمع ، فردّ قوله( أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ ) إلى المعنى. والثاني :
أن يكون كما كان بعض أهل العربية يقول ، وهو أن العرب تأمر الواحد والجماعة
(22/353)
بما تأمر به الاثنين ، فتقول للرجل
ويلك أرجلاها وازجراها ، وذكر أنه سَمِعها من العرب; قال : وأنشدني بعضهم :
فَقُلْتُ لصَاحِبي لا تَحْبسانا... بنزعِ أُصُولِهِ واجْتَزَّ شيحا (1)
قال : وأنشدني أبو ثروان :
فإنْ تَزْجُرانِي يا بْنَ عَفَّان أنزجِرْ... وَإنْ تَدَعانِي أحْمِ عِرْضا
مُمنَعَّا (2)
قال : فيروى أن ذلك منهم أن الرجل أدنى أعوانه في إبله وغنمه اثنان ، وكذلك الرفقة
أدنى ما تكون ثلاثة ، فجرى كلام الواحد على صاحبيه ، وقال : ألا ترى
__________
(1) البيت لمضرس بن ربعي الفقعسي الأسدي ، وليس ليزيد بن الطثرية كما نسبه الكسائي
وثعلب إليه ، وأخذه عنه الجوهري في الصحاح . قاله ياقوت فيما كتبه على الصحاح .
وفي روايته : " لحاطبي " في موضع لصاحبي ، وقوله : " لا تحبسانا
" ، فإن العرب ربما خاطبت الواحد بلفظ الاثنين ( انظر شرح شواهد الشافية لعبد
القادر البغدادي طبع القاهرة ) . وقال الفراء في معاني القرآن ( الورقة 309 عند
قوله تعالى " ألقيا في جهنم " . العرب تأمر الواحد والقوم بما يؤمر به
الاثنان ، فيقولان للرجل قوما عنا . وسمعت بعضهم يقول : ويحك ارحلاها وازجراها .
وأنشدني بعضهم " فقلت لصاحبي ... البيت " . قال : ويروى : واجدز يريد :
واجتز . أ هـ .
(2) وهذا البيت أيضًا من شواهد الفراء في معاني القرآن ( الورقة 309 ) على ما تقدم
في نظيره من أن العرب قد تخاطب القوم والواحد بما تخاطب به الاثنين ، قال بعد أن
أنشد البيت : ونرى أن ذلك منهم أن الرجل أدنى أعوانه في إبله وغنمه اثنان ، وكذلك
الرفقة أدنى ما يكونون ثلاثة ، فجرى كلام الواحد على صاحبيه . أ هـ .
وقال في ( اللسان : جزر ) إن العرب ربما خاطبت الواحد بلفظ الاثنين ، كما قال سويد
بن كراع العكلي : تقول ابنة العوفي ليلي ألا ترى ... إلى ابن كراع لا يزال مفزعا
مخافة هذين الأميرين سهدت ... رقادي وغشتني بياضا مقزعا
فإن أنتما أحكمتماني فازجرا ... أراهط تؤذي من الناس رضعا
وإن تزجراني ... البيت .
قال : وهذا يدل على أنه خاطب اثنين : سعيد بن عثمان ، ومن ينوب عنه ، أو يحضر معه
. وقوله فإن أنتما أحكمتماني : دليل أيضا على أنه يخاطب اثنين . وقوله : أحكمتماني
: أي منعتماني من هجائه . واصله من أحكمت الدابة : إذا جعلت فيها حكمة اللجام
وقوله : " وإن تدعاني " أي إن تركتماني حميت عرضي ممن يؤذيني . وإن
زجرتماني انزجرت وصبرت . والرضع : جمع راضع ، وهو اللئيم . أ هـ . وعلى هذا لا
يكون في البيت شاهد للفراء ، ولا للمؤلف .
(22/354)
الشعراء أكثر قيلا يا صاحبيّ يا خليليّ
، وقال امرؤ القَيس :
خَلِيلَيَّ مُرَّا بِي على أُمّ جُنْدَبِ... نُقَضِّ لُباناتِ الفُؤَادِ
المُعَذَّبِ (1)
ثم قال :
أَلمْ تَرَ أنّي كُلَّما جِئْتُ طارِفا... وَجَدْتُ بِها طِيْبات وَإنْ لَّمْ
تَطَيَّبِ (2)
فرجع إلى الواحد ، وأوّل الكلام اثنان; قال : وأنشدني بعضهم :
خَلِيلَي قُوما في عَطالَةَ فانْظُرَا... أنارٌ تَرَى مِنْ ذِي أبانَيْنِ أَمْ
بَرْقا (3)
وبعضهم يروي : أنارا نرى.
( كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ ) يعني : كل جاحد وحدانية الله عنيد ، وهو العاند عن
الحقّ وسبيل الهدى.
وقوله( مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ ) كان قتادة يقول في الخير في هذا الموضع : هو
__________
(1) هذا البيت مطلع قصيدة لامرئ القيس قالها في زوجته أم جندب من طيئ ( مختار
الشعر الجاهلي بشرح مصطفى السقا طبعة الحلبي ص 43 ) والشاهد فيه أن يخاطب خليله ،
بلفظ التثنية ، لأنهم كانوا ثلاثة في سفر . وبعد هذا المطلع قوله : فإنكما إن
تنظراني ساعة ... من الدهر تنفعني لدى أم جندب
(2) وهذا البيت هو ثالث البيتين في القصيدة ، وهو لامرئ القيس أيضًا . قال الفراء
بعد كلامه الذي سبق في الشاهد الذي قبله : ثم قال : ألم تر ، فرجع إلى الواحد ،
وأول كلامه اثنان . قلت : وكلام الفراء بناء على روايته في البيت . وهناك رواية
أخرى في قوله " ألم تر " وهي : " ألم تريا " بصيغة الخطاب
للمثنى ، وهما رفيقاه ، و شاهد عليها في البيت . وهي رواية الأعلم الشنتمري في
شرحه للأشعار الستة ، وأثبتها شارح مختار الشعر الجاهلي .
(3) البيت لسويد بن كراع العكلي عن ( التاج : عطل ) وعطالة : جبل لبني تميم وذو
وأبانين : أي المكان الذي فيه الجبلان : أبان الأبيض ، وهو لبني جريد من بني فزارة
خاصة ، والأسود لبني والبة من بني الحارث بن ثعلبة بن دودان بن أسد ، ويشركهم فيه
فزارة . وبين الجبلين نحو فرسخ ، ووادي الرمة يقطع بينهما . قاله البكري في ( معجم
ما استعجم ص 95 ) . وقال الفراء بعد أن روى البيت : بعضهم يرويه : " أنارا
ترى " . أ هـ . وعلى هذه الرواية الأخيرة لا يكون في البيت شاهد على ما أراده
المؤلف من أن العرب تخاطب الواحد بما تخاطب به المثنى . وقوله " من ذى أبانين
" هذه رواية الطبري في الأصل ، وهي تختلف عن رواية الفراء في معاني القرآن (
309 ) وهي : " من نحو بابين " . قال في التاج : وبابين - مثنى - موضع
بالبحرين
(22/355)
الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ فَأَلْقِيَاهُ فِي الْعَذَابِ الشَّدِيدِ (26) قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلَكِنْ كَانَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ (27) قَالَ لَا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ (28)
الزكاة المفروضة.
حدثنا بذلك بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة.
والصواب من القول في ذلك عندي أنه كلّ حق وجب لله ، أو لآدمي فى ماله ، والخير في
هذا الموضع هو المال.
وإنما قلنا ذلك هو الصواب من القول ، لأن الله تعالى ذكره عمّ بقوله( مَنَّاعٍ
لِلْخَيْرِ ) عنه أنه يمنع الخير ولم يخصص منه شيئا دون شيء ، فذلك على كلّ خير
يمكن منعه طالبه.
وقوله( مُعْتَدٍ ) يقول : معتد على الناس بلسانه بالبذاء والفحش في المنطق ، وبيده
بالسطوة والبطش ظلما.
كما حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة : معتد في منطقه
وسيرته وأمره.
وقوله( مُرِيبٍ ) يعني : شاكّ في وحدانية الله وقُدرته على ما يشاء.
كما حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله( مُرِيبٍ ) :
أي شاكّ.
القول في تأويل قوله تعالى : { الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ
فَأَلْقِيَاهُ فِي الْعَذَابِ الشَّدِيدِ (26) }
يقول تعالى ذكره : الذي أشرك بالله فعبد معه معبودا آخر من خلقه( فَأَلْقِيَاهُ
فِي الْعَذَابِ الشَّدِيدِ ) يقول : فألقياه في عذاب جهنم الشديد.
القول في تأويل قوله تعالى : { قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ
وَلَكِنْ كَانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ (27) قَالَ لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ
قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ (28) }
(22/356)
يقول تعالى ذكره : قال قرين هذا
الإنسان الكفار المناع للخير ، وهو شيطانه الذي كان موكلا به في الدنيا.
كما حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه
، عن ابن عباس قوله( قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ ) قال : قرينه
شيطانه.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث ، قال :
ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله( قَالَ
قَرِينُهُ ) قال : الشيطان قُيِّض له.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله( الَّذِي جَعَلَ
مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ ) هو المشرك( قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا
أَطْغَيْتُهُ ) قال : قرينه الشيطان.
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة( قَالَ قَرِينُهُ
رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ ) قال : قرينه : الشيطان.
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك
يقول في قوله( قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ ) قال : قرينه : شيطانه.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في
(22/357)
قوله( قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا
أَطْغَيْتُهُ ) قال : قرينه من الجنّ : ربنا ما أطغيته ، تبرأ منه.
وقوله( رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ ) يقول : ما أنا جعلته طاغيا متعدّيا إلى ما ليس
له ، وإنما يعني بذلك الكفر بالله( وَلَكِنْ كَانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ ) يقول :
ولكن كان في طريق جائر عن سبيل الهدى جورا بعيدا. وإنما أخبر تعالى ذكره هذا الخبر
، عن قول قرين الكافر له يوم القيامة ، إعلاما منه عباده ، تبرأ بعضهم من بعض يوم
القيامة.
كما حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله( رَبَّنَا
مَا أَطْغَيْتُهُ ) قال : تبرأ منه.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني عبد الله بن أبي زياد ، قال : ثنا عبد الله بن أبي بكر ، قال : ثنا جعفر ،
قال : سمعت أبا عمران يقول في قوله( رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ ) تبرأ منه.
وقوله( لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ ) يقول تعالى ذكره : قال الله لهؤلاء المشركين
الذين وصف صفتهم ، وصفة قرنائهم من الشياطين( لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ ) اليوم(
وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ ) في الدنيا قبل اختصامكم هذا ، بالوعيد
لمن كفر بي ، وعصاني ، وخالف أمري ونهيي في كتبي ، وعلى ألسن رسلي.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني عبد الله بن أبي زياد ، قال : ثنا عبد الله بن أبي بكر ، قال : ثنا جعفر ،
قال : سمعت أبا عمران يقول في قوله( وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ )
قال : بالقرآن.
حدثني عليّ ، قال : ثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، في
قوله( لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ ) قال : إنهم اعتذروا بغير عذر ، فأبطل الله حجتهم
، وردّ عليهم قولهم.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله( لا
تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ ) قال : يقول : قد
أمرتكم ونهيتكم ، قال : هذا ابن آدم وقرينه من الجن.
حدثنا ابن حُمَيد ، قال : ثنا مهران ، عن أبي جعفر ، عن الربيع ، قال : قلت لأبي
العالية( لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ ) قال
أبو جعفر الطبريّ : أحسبه قال : هم أهل الشرك ، وقال في آية أخرى( ثُمَّ إِنَّكُمْ
يَوْمَ
(22/358)
مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (29) يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ (30)
الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ
تَخْتَصِمُونَ ) فهم أهل القبلة.
القول في تأويل قوله تعالى : { مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا
بِظَلامٍ لِلْعَبِيدِ (29) يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلأتِ وَتَقُولُ
هَلْ مِنْ مَزِيدٍ (30) }
يقول تعالى ذكره مخبرا عن قيله للمشركين وقرنائهم من الجنّ يوم القيامة ، إذ تبرأ
بعضهم من بعض : ما يغير القول الذي قلته لكم فى الدنيا ، وهو قوله( لأمْلأنَّ
جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ ) ولا قضائي الذي قضيته فيهم
فيها.
كما حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث ،
قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله(
مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ ) قد قضيت ما أنا قاض.
حدثنا ابن حُمَيد ، قال : ثنا حكام ، عن عنبسة ، عن محمد بن عبد الرحمن ، عن
القاسم بن أبي بزّة ، عن مجاهد ، في قوله( مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ ) قال
: قد قضيت ما أنا قاض.
وقوله( وَمَا أَنَا بِظَلامٍ لِلْعَبِيدِ ) يقول : ولا أنا بمعاقب أحدا من خلقي
بجرم غيره ، ولا حامل على أحد منهم ذنب غيره فمعذّبه به.
وقوله( يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ ) يقول : وما أنا بظلام للعبيد في( يَوْمَ
نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلأتِ ) وذلك يوم القيامة ، ويوم نقول من صلة ظلام.
وقال تعالى ذكره لجهنم يوم القيامة : ( هَلِ امْتَلأتِ ) ؟ لما سبق من وعده إياها
بأنه يملأها من الجِنَّة والناس أجمعين.
أما قوله( هَلْ مِنْ مَزِيدٍ ) فإن أهل التأويل اختلفوا في تأويله ، فقال بعضهم :
معناه : ما من مزيد. قالوا : وإنما يقول الله لها : هل امتلأت بعد أن يضع قدمه
فيها ، فينزوي بعضها إلى بعض ، وتقول : قطِ قطِ ، من تضايقها;
(22/359)
فإذا قال لها وقد صارت كذلك : هل
امتلأت ؟ قالت حينئذ : هل من مزيد : أي ما من مزيد ، لشدّة امتلائها ، وتضايق
بعضها إلى بعض.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ،
عن ابن عباس ، قوله( يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلأتِ وَتَقُولُ هَلْ
مِنْ مَزِيدٍ ) قال ابن عباس : " إن الله الملك تبارك وتعالى قد سبقت كلمته(
لأمْلأنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ ) فلما بعث الناس
وأحضروا ، وسيق أعداء الله إلى النار زمرا ، جعلوا يقتحمون في جهنم فوجا فوجا ، لا
يلقى في جهنم شيء إلا ذهب فيها ، ولا يملأها شيء ، قالت : ألستَ قد أقسمت لتملأني
من الجِنَّة والناس أجمعين ؟ فوضع قدمه ، فقالت حين وضع قدمه فيها : قدِ قدِ ،
فإني قد امتلأت ، فليس لي مزيد ، ولم يكن يملأها شيء ، حتى وَجَدَتْ مسّ ما وُضع
عليها ، فتضايقت حين جعل عليها ما جعل ، فامتلأت فما فيها موضع إبرة " .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث ، قال :
ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله(
وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ ) قال : وعدها الله ليملأنها ، فقال : هلا وفيتك ؟
قالت : وهل من مَسلك.
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ ، يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك
يقول فى قوله( يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلأتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ
مَزِيدٍ ) كان ابن عباس يقول : " إن الله الملك ، قد سبقت منه كلمة(
لأمْلأنَّ جَهَنَّمَ ) لا يلقى فيها شيء إلا ذهب فيها ، لا يملأها شيء ، حتى إذا
لم يبق من أهلها أحد إلا دخلها ، وهي لا يملأها شيء ، أتاها الربّ فوضع قدمه عليها
، ثم قال لها : هل امتلأت يا جهنم ؟ فتقول : قطِ قطِ; قد امتلأت ، ملأتني من الجنّ
والإنس فليس في مزيد; قال ابن عباس : ولم يكن يملأها شيء حتى وجدت
(22/360)
مسّ قدم الله تعالى ذكره ، فتضايقت ،
فما فيها موضع إبرة " .
وقال آخرون : بل معنى ذلك : زدني ، إنما هو هل من مزيد ، بمعنى الاستزادة.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حُمَيد ، قال : ثنا يحيى بن واضح ، قال : ثنا الحسين بن ثابت ، عن أنس ،
قال : " يلقى في جهنم وتقول : هل من مزيد ثلاثا ، حتى يضع قدمه فيها ، فينزوي
بعضها إلى بعض ، فتقول : قطِ قطِ ، ثلاثا " .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله( يَوْمَ نَقُولُ
لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلأتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ ) لأنها قد امتلأت ، وهل
من مزيد : هل بقي أحد ؟ قال : هذان الوجهان في هذا ، والله أعلم ، قال : قالوا هذا
وهذا.
وأولى القولين في ذلك عندي بالصواب قول من قال : هو بمعنى الاستزادة ، هل من شيء
أزداده ؟
وإنما قلنا ذلك أولى القولين بالصواب لصحة الخبر عن رسول الله صَلَّى الله
عَلَيْهِ وَسَلَّم بما حدثني أحمد بن المقدام العجلي ، قال : ثنا محمد بن عبد
الرحمن الطفاويّ ، قال : ثنا أيوب ، عن محمد ، عن أبي هُريرة ، أن رسول الله
صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم قال : " إِذَا كانَ يَوْمُ القِيامَةِ ، لَمْ
يَظْلِمِ اللّهُ أحَدًا مِنْ خَلْقِهِ شَيْئا ، وَيُلْقِي فِي النَّارِ ، تَقُولُ
هَلْ مِنْ مَزِيدٍ ، حتى يَضَعَ عَلَيْها قَدَمَهُ ، فَهنالكَ يَمْلأها ،
وَيُزْوَى بَعْضُها إلى بَعْضٍ وَتَقُولُ : قَطْ قَطْ " .
حدثنا أحمد بن المقدام ، قال : ثنا المعتمر بن سليمان ، قال : سمعت أبي يحدّث عن
قتادة ، عن أنس ، قال : " ما تزال جهنم تقول : هل من مزيد ؟ حتى يضع الله
عليها قدمه ، فتقول : قدِ قدِ ، وما يزال في الجنة فضل حتى ينشئ الله خلقا ،
فيُسكنه فضول الجنة " .
(22/361)
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : ثنا
ابن علية ، قال : أخبرنا أيوب وهشام بن حسان ، عن محمد بن سيرين ، عن أبي هُريرة ،
قال : " اختصمت الجنة والنار ، فقالت الجنة : ما لي إنما يدخلني فقراء الناس
وسقطهم; وقالت النار : ما لي إنما يدخلني الجبارون والمتكبرون ، فقال : أنت رحمتي
أصيب بك من أشاء ، وأنت عذابي أصيب بك من أشاء ، ولكل واحدة منكما ملؤها. فأما
الجنة فإن الله ينشئ لها من خلقه ما شاء. وأما النار فيُلقون فيها وتقول : هل من
مزيد ؟ ويلقون فيها وتقول هل من مزيد ، حتى يضع فيها قدمه ، فهناك تملأ ويزوى
بعضها إلى بعض ، وتقول : قط ، قط " (1) .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن ثور ، عن محمد بن سيرين
، عن أبي هريرة أن النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم قال : " احْتَجَّت
الجَنَّةُ والنَّارُ ، فَقالَتِ الجَنَّةُ : مالي لا يَدخُلُنِي إلا فُقَرَاءُ
النَّاسِ ؟ وَقالَتِ النَّارُ : مالي لا يَدْخُلُنِي إلا الجَبَّارُون والمُتَكَبِّرُونَ
؟ فَقالَ للنَّار : أنْت عَذَابِي أُصِيبُ بِكِ مَنْ أشاءُ; وَقالَ للْجَنَّةِ :
أنْتِ رَحْمَتِي أُصِيبُ بِكِ مَنْ أشاءُ ، وَلِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْكُما
مِلْؤُها; فأمَّا الجَنَّةُ فإنَّ الله عَزَّ وَجَلَّ يُنْشِئُ لَهَا ما شاء;
وأمَّا النَّارَ فَيُلْقَوْنَ فِيها وَتَقُولُ : هَلْ مِنْ مَزِيدٍ ، حتى يَضَعَ
قَدمَهُ فيها ، هُنالكَ تَمْتَلِئ ، وَيَنزوي بَعْضُها إلى بَعْضٍ ، وَتَقُولُ :
قَطْ ، قَطْ " .
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، عن أنس ، قال : قال
رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم : " لا تَزَالُ جَهَنَّمُ يُلْقَى
فِيها وَتَقُولُ : هَلْ مِنْ مَزِيدٍ حتى يَضَعَ رَبُّ العَالمِينَ قَدَمَهُ ،
فَيَنزوِي بَعْضُها إلى بَعْضٍ وَتَقُولُ : قَدْ ، قَدْ ، بِعِزَّتِك وكَرَمِكَ ،
وَلا يَزَالُ فِي الجَنَّة فَضْلٌ حتى يُنْشئ اللّهُ لَهَا خَلْقا فَيُسْكِنَهُمْ
فَضْلَ الجَنَّةِ " .
حدثنا ابن المثنى ، قال : ثنا عبد الصمد ، قال : ثنا أبان العطار ، قال : ثنا
قتادة ، عن أنس ، أن رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم ، قال : " لا
تَزَالُ جَهَنَّمُ
__________
(1) قط قط ، وتقدم قبله : قد قد . وهما بمعنى : كفى كفى .
(22/362)
وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ (31) هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ (32) مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ (33)
تَقُول هَلْ مِنْ مَزِيدٍ حتى يَضَعَ
رَبُّ العَالمِينَ فيها قَدَمَه ، فَيَنزوِي بَعْضُها إلى بَعْض ، فَتَقُولُ :
بِعِزَّتِكَ قَطْ ، قَطْ; وَما يَزَالُ فِي الجَنَّةِ فَضْلٌ حتى يُنْشِئَ اللّهُ
خَلْقا فَيُسْكِنَه في فَضْلِ الجَنَّةِ " .
قال : ثنا عمرو بن عاصم الكلابي ، قال : ثنا المعتمر ، عن أبيه ، قال : ثنا قتادة
، عن أنس ، قال : ما تزال جهنم تقول : هل من مزيد فذكر نحوه " غير أنه قال :
أو كما قال.
حدثنا زياد بن أيوب ، قال : ثنا عبد الوهاب بن عطاء الخفاف ، عن سعيد ، عن قتادة ،
عن أنس ، عن النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم ، قال : " احْتَجَّتِ
الجَنَّةُ والنَّارُ ، فَقالَتِ النَّارُ : يَدْخُلُنِي الجَبَّارُونَ
والمُتَكَبِّرُونَ; وَقالَتِ الجنَّةُ : يَدخُلُنِي الفُقَرَاءُ وَالمَساكِينُ;
فأَوْحَى اللّهُ عَزَّ وَجَلَّ إلى الجَنَّة : أنْتِ رَحْمَتِي أُصِيبُ بِكِ مَنْ
أشاءُ; وأَوْحَى إلى النَّار : أنْتِ عَذَابِي أُصِيبُ بِكِ مَنْ أشاءُ ، وَلِكُلّ
وَاحِدَةٍ مِنْكُما مِلْؤُها; فأمَّا النَّارُ فَتَقُولُ : هَلْ مِنْ مَزِيدٍ ؟
حتى يَضَعَ قَدَمَهُ فِيها ، فَتَقُولُ : قَطْ قَطْ " . ففي قول النبي صَلَّى
الله عَلَيْهِ وَسَلَّم : " لا تَزَالُ جَهَنَّمُ تَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ
" دليل واضح على أن ذلك بمعنى الاستزادة لا بمعنى النفي ، لأن قوله : "
لا تزال " دليل على اتصال قول بعد قول.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ
بَعِيدٍ (31) هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ (32) مَنْ خَشِيَ
الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ (33) }
يعني تعالى ذكره بقوله( وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ )
وأُدنيت الجنة وقرّبت للذين اتقوا ربهم ، فخافوا عقوبته بأداء فرائضه ، واجتناب
معاصيه.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله
(22/363)
( وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ
لِلْمُتَّقِينَ ) يقول : وأدنيت( غَيْرَ بَعِيدٍ ) .
وقوله( هَذَا مَا تُوعَدُونَ ) يقول : قال لهم : هذا الذي توعدون أيها المتقون ،
أن تدخلوها وتسكنوها وقوله( لِكُلِّ أَوَّابٍ ) يعني : لكل راجع من معصية الله إلى
طاعته ، تائب من ذنوبه.
وقد اختلف أهل التأويل في معنى ذلك ، فقال بعضهم : هو المسبح ، وقال بعضهم : هو
التائب ، وقد ذكرنا اختلافهم في ذلك فيما مضى بما أغنى عن إعادته ، غير أنا نذكر
في هذا الموضع ما لم نذكره هنالك.
حدثني سليمان بن عبد الجبار ، قال : ثنا محمد بن الصلت ، قال : ثنا أبو كدينة ، عن
عطاء ، عن سعيد بن جُبَير ، عن ابن عباس( لِكُلِّ أَوَّابٍ ) قال : لكلّ مسبح.
حدثنا ابن حُمَيد ، قال : ثنا مهران ، عن سفيان ، عن مسلم الأعور ، عن مجاهد ، قال
: الأوّاب : المسبح.
حدثنا الحسن بن عرفة ، قال : ثني يحيى بن عبد الملك بن أبي غنية ، قال : ثني أبي ،
عن الحكم بن عتيبة في قول الله( لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ ) قال : هو الذاكر الله
في الخلاء.
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا مهران ، عن سفيان ، عن يونس بن خباب ، عن مجاهد(
لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ ) قال : الذي يذكر ذنوبه فيستغفر منها.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله( هَذَا مَا
تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ ). قال : ثنا مهران ، عن خارجة ، عن عيسى الحناط ، عن
الشعبيّ ، قال : هو الذي يذكر ذنوبه في خلاء فيستغفر منها( حَفِيظٍ ) : أي مطيع
لله كثير الصلاة.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله( لِكُلِّ
أَوَّابٍ حَفِيظٍ ) قال : الأوّاب : التوّاب الذي يئوب إلى طاعة الله ويرجع
(22/364)
إليها.
حدثنا ابن حُمَيد ، قال : ثنا جرير ، عن منصور ، عن يونس بن خباب في قوله( لِكُلِّ
أَوَّابٍ حَفِيظٍ ) قال : الرجل يذكر ذنوبه ، فيستغفر الله لها.
وقوله( حَفِيظٍ ) اختلف أهل التأويل في تأويله ، فقال بعضهم : حفظ ذنوبه حتى تاب
منها.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حُمَيد ، قال : ثنا مهران ، عن أبي سنان ، عن أبي إسحاق ، عن التميمي ،
قال : سألت ابن عباس ، عن الأوّاب الحفيظ ، قال : حفظ ذنوبه حتى رجع عنها.
وقال آخرون : معناه : أنه حفيظ على فرائض الله وما ائتمنه عليه.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( حَفِيظٍ ) قال : حفيظ
لما استودعه الله من حقه ونعمته.
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال : إن الله تعالى ذكره وصف هذا التائب
الأوّاب بأنه حفيظ ، ولم يخصّ به على حفظ نوع من أنواع الطاعات دون نوع ، فالواجب
أن يعمّ كما عمّ جلّ ثناؤه ، فيقال : هو حفيظ لكلّ ما قرّبه إلى ربه من الفرائض
والطاعات والذنوب التي سلَفت منه للتوبة منها والاستغفار.
وقوله( مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ ) يقول : من خاف الله في الدنيا من
قبل أن يلقاه ، فأطاعه ، واتبع أمره.
وفي( مَن ) في قوله( مَنْ خَشِيَ ) وجهان من الإعراب : الخفض على إتباعه كلّ في
قوله( لِكُلِّ أَوَّابٍ ) والرفع على الاستئناف ، وهو مراد به الجزاء من خشي
الرحمن بالغيب ، قيل له ادخل الجنة; فيكون حينئذ قوله( ادْخُلُوهَا
(22/365)
ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ (34) لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ (35)
بِسَلامٍ ) جوابا للجزاء أضمر قبله
القول ، وحمل فعلا للجميع ، لأن( مَن ) قد تكون في مذهب الجميع.
وقوله( وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ ) يقول : وجاء الله بقلب تائب من ذنوبه ، راجع
مما يكرهه الله إلى ما يرضيه.
كما حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله( وَجَاءَ
بِقَلْبٍ مُنِيبٍ ) : أي منيب إلى ربه مُقْبل.
القول في تأويل قوله تعالى : { ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ
(34) لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ (35) }
(22/366)
وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشًا فَنَقَّبُوا فِي الْبِلَادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ (36)
القول في تأويل قوله تعالى : { وَكَمْ
أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشًا فَنَقَّبُوا
فِي الْبِلادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ (36) }
يعني تعالى ذكره بقوله( ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ ) ادخلوا هذه الجنة بأمان من الهمّ
والغضب والعذاب ، وما كنتم تَلقَونه في الدنيا من المكاره.
كما حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله( ادْخُلُوهَا
بِسَلامٍ ) قال : سَلِموا من عذاب الله ، وسلَّم عليهم.
وقوله( ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ ) يقول : هذا الذي وصفت لكم أيها الناس صفته من
إدخالي الجنة من أدخله ، هو يوم دخول الناس الجنة ، ماكثين فيها إلى غير نهاية.
كما حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ
) خلدوا والله ، فلا يموتون ، وأقاموا فلا يَظْعُنون ، ونَعِمُوا فلا يبأسون.
وقوله( لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا ) يقول : لهؤلاء المتقين ما يريدون في هذه
الجنة التي أزلفت لهم من كل ما تشتهيه نفوسهم ، وتلذّه عيونهم.
وقوله( وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ ) يقول : وعندنا لهم على ما أعطيناهم من هذه
(22/366)
الكرامة التي وصف جلّ ثناؤه صفتها مزيد
يزيدهم إياه. وقيل : إن ذلك المزيد : النظر إلي الله جلّ ئناؤه.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني أحمد بن سهيل الواسطي ، قال : ثنا قُرةُ بن عيسى ، قال : ثنا النضر بن عربيّ
عن جده ، عن أنس ، " إن الله عزّ وجلّ إذا أسكن أهل الجنة الجنة ، وأهل النار
النار ، هبط إلى مَرْج من الجنة أفيح ، فمدّ بينه وبين خلقه حُجُبا من لؤلؤ ،
وحُجُبا من نور ثم وُضعت منابر النور وسُرُرُ النور وكراسيّ النور ، ثم أُذِن لرجل
على الله عزّ وجلّ بين يديه أمثال الجبال من النور يُسْمَع دَويّ تسبيح الملائكة
معه ، وصفْقُ أجنحتهم فمدّ أهل الجنة أعناقهم ، فقيل : من هذا الذي قد أُذن له على
الله ؟ فقيل : هذا المجعول بيده ، والمُعَلَّم الأسماء ، والذي أُمرت الملائكة
فسجدت له ، والذي له أبيحت الجنة ، آدم عليه السلام ، قد أُذِن له على الله تعالى;
قال : ثم يؤذَن لرجل آخر بين يديه أمثال الجبال من النور ، يُسْمع دَوِيّ تسبيح
الملائكة معه ، وصفْقُ أجنحتهم; فمدّ أهل الجنة أعناقهم ، فقيل : من هذا الذي قد
أُذِن له على الله ؟ فقيل : هذا الذي اتخذه الله خليلا وجعل عليه النار بَرْدا وسلاما
، إبراهيم قد أُذن له على الله. قال : ثم أُذِن لرجل آخر على الله ، بين يديه
أمثال الجبال من النور يُسْمع دوي تسبيح الملائكة معه ، وصَفْق أجنحتهم; فمدّ أهل
الجنة أعناقهم ، فقيل : من هذا الذي قد أُذن له على الله ؟ فقيل : هذا الذي اصطفاه
الله برسالته (1) وقرّبه نجيا ، وكلَّمه [كلاما] (2) موسى عليه السلام ، قد أُذِن
له على الله. قال : ثم يُؤذن لرجل آخر معه مثلُ جميع مواكب النبيين قبله ، بين
يديه أمثال الجبال ، [من النور] (3) يسمع دَوِي تسبيح الملائكة معه ، وصَفْق
أجنحتهم; فمدّ أهل الجنة أعناقهم ، فقيل : من هذا الذي قد أُذِن له على الله ؟
فقيل : هذا أوّل شافع ، وأوّل مشفَّع ، وأكثر
__________
(1) كذا في الدر المنثور للسيوطي ( 6 : 108 ) نقلا عن المؤلف . وفي الأصل برسالاته
، وقد سقط من الأصل بعض عبارات ضرورية وضعناها بين هذين المعقوفين .
(2) كذا في الدر المنثور للسيوطي ( 6 : 108 ) نقلا عن المؤلف . وقد سقط من الأصل
بعض عبارات ضرورية وضعناها بين هذين المعقوفين .
(3) كذا في الدر المنثور للسيوطي ( 6 : 108 ) نقلا عن المؤلف . وقد سقط من الأصل
بعض عبارات ضرورية وضعناها بين هذين المعقوفين .
(22/367)
الناس واردة ، وسيد ولد آدم; وأوّل من
تنشقّ عن ذُؤابتيه الأرض ، وصاحب لواء الحمد ، أحمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم
، قد أُذِن له على الله. قال : فجلس النبيون على منابر النور ، [والصدّيقون على
سُرُر النور; والشهداء على كراسيّ النور] (1) وجلس سائر الناس على كُثْبان المسك الأذفر
الأبيض ، ثم ناداهم الربّ تعالى من وراء الحُجب : مَرْحَبًا بعبادي وزوّاري
وجيراني ووفدي. يا ملائكتي ، انهضوا إلى عبادي ، فأطعموهم. قال : فقرّبت إليهم من
لحوم طير ، كأنها البُخت لا ريش لها ولا عظم ، فأكلوا ، قال : ثم ناداهم الربّ من
وراء الحجاب : مرحبا بعبادي وزوّاري وجيراني ووفدي ، أكلوا اسقوهم. قال : فنهض
إليهم غلمان كأنهم اللؤلؤ المكنون بأباريق الذهب والفضة بأشربة مختلفة لذيذة ، لذة
آخرها كلذّة أوّلها ، لا يُصَدّعون عنها ولا يُنزفون; ثم ناداهم الربّ من وراء
الحُجب : مرحبا بعبادي وزوّاري وجيراني ووفدي ، أكلوا وشربوا ، فَكِّهوهم. قال :
فيقرب إليهم على أطباق مكلَّلة بالياقوت والمرجان; ومن الرُّطَب الذي سَمَّى الله
، أشدّ بياضا من اللبن ، وأطيب عذوبة من العسل. قال : فأكلوا ثم ناداهم الربّ من
وراء الحجب : مرحبا بعبادي وزوّاري وجيراني ووفدي ، أكلوا وشربوا ، وفُكِّهوا;
اكسوهم; قال ففتحت لهم ثمار الجنة بحلل مصقولة بنور الرحمن فألبسوها. قال : ثم
ناداهم الربّ تبارك وتعالى من وراء الحجب : مرحبا بعبادي وزواري وجيراني ووفدي;
أكلوا; وشربوا; وفُكِّهوا; وكُسُوا طَيِّبوهم. قال : فهاجت عليهم ريح يقال لها
المُثيرة ، بأباريق المسك [الأبيض] (2) الأذفر ، فنفحت على وجوههم من غير غُبار
ولا قَتام. قال : ثم ناداهم الربّ عز وجل من وراء الحُجب : مرحبا بعبادي وزوّاري
وجيراني ووفدي ، أكلوا وشربوا وفكهوا ، وكسوا وطُيِّبوا ، وعزتي لأتجلينّ لهم حتى
ينظروا إليّ قال : فذلك انتهاء العطاء وفضل المزيد; قال : فتجلى لهم الربّ عزّ
وجلّ ، ثم قال : السلام عليكم عبادي ، انظروا إليّ فقد رضيت عنكم. قال : فتداعت
قصور الجنة وشجرها ، سبحانك أربع مرّات ، وخرّ القوم سجدا; قال : فناداهم الربّ
تبارك وتعالى : عبادي ارفعوا رءوسكم فإنها ليست بدار عمل ، ولا دار نَصَب إنما هي
دار جزاء وثواب ، وعزّتي وجلالي ما خلقتها إلا من أجلكم ، وما من ساعة ذكرتموني
فيها في دار الدنيا ، إلا ذكرتكم فوق عرشي " .
حدثنا عليّ بن الحسين بن أبجر ، قال : ثنا عمر بن يونس اليمامي ، قال : ثنا جهضم
بن عبد الله بن أبي الطفيل قال : ثني أبو طيبة ، عن معاوية العبسيّ ، عن عثمان بن
عمير ، عن أنس بن مالك ، قال : قال رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم :
" أتانِي جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلامُ فِي كَفِّه مِرْآةٌ بَيْضَاءُ ، فِيها
نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ فَقُلْتُ : يا جِبْرِيلُ ما هَذِهِ ؟ قالَ : هَذِهِ الجُمُعَةُ
، قُلْتُ : فَمَا هَذِهِ النُّكْتَةُ السَّوْدَاءُ فِيها ؟ قالَ : هِيَ السَّاعَةُ
تَقُومُ يَوْمَ الجُمُعَةِ وَهُوَ سَيِّدُ الأيَّامِ عِنْدَنا ، وَنَحْنُ
نَدْعُوهُ فِي الآخِرَةِ يَوْمَ الْمَزِيدِ; قُلْتٌ : وَلِمَ تَدْعُونَ يَوْمَ
المَزِيدِ قالَ : إنَّ رَبَّكَ تَبارَكَ وَتَعالى اتَّخَذَ فِي الجَنَّةِ وَاديا
أفْيَحَ مِنْ مِسْكٍ أبْيَضَ ، فإذَا كانَ يَوْمُ الجُمُعَةِ نزلَ مِنْ عِلِّيِّين
على كُرْسِيِّه ، ثُمَّ حَفَّ الكُرْسِيَّ بِمنَابِرَ مِنْ نُورٍ ، ثُمَّ جَاءَ
النَّبِيُّونَ حتى يَجْلِسُوا عَلَيْها ثُمَّ تَجِيءُ أهلُ الجَنَّةِ حتى
يَجْلِسُوا على الكُثُبِ فَيَتَجَلَّى لَهمْ رَبُّهُمْ عَزَّ وَجَلَّ حتى
يَنْظُرُوا إلى وَجْهِهِ وَهُوَ يَقُولُ : أنا الَّذِي صَدَقْتُكُم عِدَتِي ،
وأتْمَمْتُ عَلَيْكُم نِعْمَتِي ، فَهَذَا مَحلُّ كَرَامَتِي ، فَسَلُونِي ، فَيَسألُونهُ
الرِّضَا ، فَيَقُولُ : رِضَايَ أحَلَّكُمْ دَارِي وأنالَكُم كَرَامَتِي ،
فَسَلُونِي ، فَيَسأَلُونهُ حتى تَنْتَهِيَ رَغْبتهُمْ ، فَيُفْتَحُ لَهُمْ عِنْدَ
ذلكَ ما لا عين رأَتْ ، وَلا أُذُنٌ سَمعَتْ ، وَلا خَطَر على قَلْبِ بَشَرٍ ، إلى
مِقْدَارٍ مُنْصَرَف النَّاسِ مِنَ الجُمُعَة حتى يَصْعَدَ على كُرْسِيِّه
فَيَصْعَدُ مَعَهُ الصدّيقُونَ والشُّهَدَاءُ ، وَتَرْجِعُ أهْلُ الجَنَّةِ إلى
غُرَفِهِمْ دُرَّةً بَيْضَاءَ ، لا نَظْمَ فِيها ولا فَصْمَ ، أوْ ياقُوتَةً
حَمْرَاءَ ، أوْ زَبْرَجَدَةً خَضْرَاءَ ، مِنْها غُرَفُها وأبْوَابُها ،
فَلَيْسُوا إلى شَيْءٍ أحْوَجَ مِنْهُمْ إلى يَوْمِ الجُمُعَةِ ، لِيَزْدَادُوا
مِنْهُ كَرَامَةً ، وَلِيَزْدَادُوا نَظَرًا إلى وَجْهِهِ ، وَلِذَلكَ دُعِيَ
يَوْمَ المَزِيدِ " .
__________
(1) كذا في الدر المنثور للسيوطي ( 6 : 108 ) نقلا عن المؤلف . وقد سقط من الأصل
بعض عبارات ضرورية وضعناها بين هذين المعقوفين .
(2) كذا في الدر المنثور للسيوطي ( 6 : 108 ) نقلا عن المؤلف . وقد سقط من الأصل
بعض عبارات ضرورية وضعناها بين هذين المعقوفين .
(22/368)
حدثنا ابن حُمَيد ، قال : ثنا جرير ،
عن ليث بن أبي سليم ، عن عثمان بن عمير ، عن أنس بن مالك ، عن النبيّ صَلَّى الله
عَلَيْهِ وَسَلَّم ، نحو حديث عليّ بن الحسين.
حدثنا الربيع بن سليمان ، قال : ثنا أسد بن موسى ، قال : ثنا يعقوب بن إبراهيم ،
عن صالح بن حيان ، عن أبي بُرَيدة ، عن أنس بن مالك ، عن النبيّ صَلَّى الله
عَلَيْهِ وَسَلَّم بنحوه.
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : ثنا ابن علية ، قال : أخبرنا ابن عون ، عن محمد ،
قال : حدثنا ، أو قال : " قالوا : إن أدنى أهل الجنة منزلة ، الذي يقال له
تمنّ ، ويذكِّره أصحابه فيتمنى ، ويذكره أصحابه فيقال له ذلك ومثله معه. قال : قال
ابن عمر : ذلك لك وعشرة أمثاله ، وعند الله مزيد " .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرنا عمرو بن الحارث أن درّاجا أبا
السَّمْح ، حدثه عن أبي الهَيثم ، عن أبي سعيد الخُدريّ ، أنه قال عن رسول الله
صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم : " إنَّ الرَّجُلَ فِي الجَنَّةِ لَيَتَّكِئَ
سَبْعِينَ سَنَةً قَبْل أنْ يَتَحَوَّلَ ثُمَّ تأْتِيهِ امْرأتُهُ فَتَضْربُ على
مَنْكِبَيْهِ ، فَيَنْطُرُ وَجْهَهُ فِي خَدّها أصْفَى مِنْ المِرْآةِ ، وإنَّ
أدْنَى لُؤْلُؤْةٍ عَلَيْها لَتُضِيءُ ما بَينَ المَشْرِقِ وَالمَغْرِبِ ،
فَتُسَلِّمُ عَلَيْهِ ، فَيرُدُّ السَّلامَ ، وَيَسألُها مَنْ أَنْتِ ؟ فَتَقُولُ
: أنا مِنَ المَزِيدِ وَإنَّهُ لَيَكُونُ عَلَيْها سَبْعُونَ ثَوْبا أدْناها
مِثْلُ النُّعْمَانِ مِنْ طُوبى فَيَنْفُذُها بَصَرُهُ حتى يَرَى مُخَّ ساقِها
مِنْ وَرَاءِ ذلكَ ، وَإنَّ عَلَيْها مِن التِّيجانِ ، وَإنَّ أدْنَى لُؤْلُؤْةٍ
فِيها لَتُضِيءُ ما بَينَ المَشْرِقِ وَالمَغْرِبِ " .
وقوله( وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ ) يقول تعالى ذكره : وكثيرا
أهلكنا قبل هؤلاء المشركين من قريش من القرون ، ( هُمْ أَشَدَّ ) من قريش الذين
كذّبوا محمدا( بَطْشًا فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ ) يقول : فَخَرَّقُوا (1)
البلادَ فساروا فيها ، فطافوا
__________
(1) " قوله فخرقوا البلاد ... الخ " : هذا من كلام الفراء في معاني
القرآن ، ص 310 ، وفي المطبوعة : خربوا في البلاد . تحريف .
(22/370)
وتوغَّلوا إلى الأقاصي منها; قال امرؤ
القَيس :
لقَدْ نَقَّبْتُ فِي الآفاقِ حتَّى... رَضِيتُ مِنَ الغَنِيمَةِ بالإياب (1)
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : ثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس(
فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ ) قال : أثَّروا.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث ، قال :
ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله(
فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ ) قال : يقول : عملوا في البلاد ذاك النقْب.
* ذكر من قال ذلك :
وقوله( هَلْ مِنْ مَحِيصٍ ) يقول جلّ ثناؤه : فهل كان لهم بتنقبهم في البلاد من
معدل عن الموت; ومَنْجي من الهلاك إذ جاءهم أمرنا.
وأضمرت كان في هذا الموضع ، كما أضمرت في قوله( وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ
أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلا
نَاصِرَ لَهُمْ ) بمعنى : فلم يكن لهم ناصر عند إهلاكهم. وقرأت القرّاء قوله(
فَنَقَّبُوا ) بالتشديد وفتح القاف على وجه الخبر
__________
(1) البيت لامرئ القيس بن حجر ( مختار الشعر الجاهلي بشرح مصطفى السقا ، طبعة
الحلبي ص 80 ) وفي روايته " وقد طوفت " . مكان " لقت نقبت " .
ورواية أبي عبيدة في مجاز القرآن ( الورقة 226 ) كرواية المؤلف . قال : عند قوله
تعالى : " فنقبوا في البلاد " : طافوا وتباعدوا قال امرؤ القيس "
لقد نقبت ... البيت " . وفي " اللسان : نقب ( ونقب في الأرض : ذهب ) وفي
التنزيل العزيز " فنقبوا في البلاد هل من محيص " قال الفراء : قرأ
الفراء : فنقبوا مشددا . يقول خرقوا البلاد ، فساروا فيها طلبا للمهرب فهل كان لهم
محيص من الموت ؟ قال : ومن قرأ : فنقبوا بكسر القاف ، فإنه كالوعيد ، أي اذهبوا في
البلاد وجيئوا . وقال الزجاج : فنقبوا : طوفوا فتشوا . قال : وقرأ الحسن : فنقبوا
بالتخفيف . قال امرؤ القيس : " وقد نقبت ... البيت " أي ضربت في البلاد
: أقبلت وأدبرت أ . هـ .
(22/371)
إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ (37)
عنهم. وذُكر عن يحيى بن يعمر أنه كان
يقرأ ذلك( فَنَقِبُوا ) بكسر القاف على وجه التهديد والوعيد : أي طوّفوا في البلاد
، وتردّدوا فيها ، فإنكم لن تفوتونا بأنفسكم.
وبنحو الذي قلنا في تأويل قوله( مِنْ مَحِيصٍ ) قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( وَكَمْ أَهْلَكْنَا
قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ )... حتى بلغ( هَلْ مِنْ مَحِيصٍ ) قد حاص الفَجرة فوجدوا
أمر الله مُتَّبِعا.
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، قوله(
فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ ) قال : حاص أعداء الله ، فوجدوا أمر
الله لهم مُدْرِكا.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله( هَلْ مِنْ
مَحِيصٍ ) قال : هل من منجي.
القول في تأويل قوله تعالى : { إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ
قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ (37) }
يقول تعالى ذكره : إن في إهلاكنا القرون التي أهلكناها من قبل قريش( لَذِكْرَى )
يُتذَكَّر بها( لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ ) يعني : لمن كان له عقل من هذه الأمة ،
فينتهي عن الفعل الذي كانوا يفعلونه من كفرهم بربهم ، خوفا من أن يحلّ بهم مثل
الذي حل بهم من العذاب.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله( إِنَّ
(22/372)
فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ
لَهُ قَلْبٌ ) : أي من هذه الأمة ، يعني بذلك القلبِ : القلبَ الحيّ.
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة( لِمَنْ كَانَ
لَهُ قَلْبٌ ) قال : من كان له قلب من هذه الأمة.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله( لِمَنْ كَانَ
لَهُ قَلْبٌ ) قال : قلب يعقل ما قد سمع من الأحاديث التي ضرب الله بها من عصاه من
الأمم. والقلب في هذا الموضع : العقل. وهو من قولهم : ما لفلان قلب ، وما قلبه معه
: أي ما عقله معه. وأين ذهب قلبك ؟ يعني أين ذهب عقلك.
وقوله( أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ ) يقول : أو أصغى لإخبارنا إياه عن
هذه القرون التي أهلكناها بسمعه ، فيسمع الخبر عنهم ، كيف فعلنا بهم حين كفروا
بربهم ، وعصوْا رسله( وَهُوَ شَهِيدٌ ) يقول : وهو متفهم لما يخبرُ به عنهم شاهد
له بقلبه ، غير غافل عنه ولا ساه.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل ، وإن اختلفت الفاظهم فيه.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ،
عن ابن عباس ، قوله( إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ
أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ ) يقول : إن استمع الذكر وشهد أمره ، قال في ذلك
: يجزيه إن عقله (1) .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى : وحدثني الحارث ، قال
: ثنا الحسن قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله( أَوْ
أَلْقَى السَّمْعَ ) قال : وهو لا يحدّث نفسه ، شاهد القلب.
__________
(1) كذا في الأصل ، ولعل صواب العبارة : فإن ذلك يجزيه إن عقله .
(22/373)
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ
، يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله( أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ
وَهُوَ شَهِيدٌ ) قال : العرب تقول : ألقى فلان سمعه : أي استمع بأذنيه ، وهو شاهد
، يقول : غير غائب.
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا مهران ، عن سفيان( إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ
كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ ) قال : يسمع ما يقول ،
وقلبه في غير ما يسمع.
وقال آخرون : عنى بالشهيد في هذا الموضع : الشهادة.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ
وَهُوَ شَهِيدٌ ) يعني بذلك أهل الكتاب ، وهو شهيد على ما يقرأ في كتاب الله من
بعث محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم.
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة( أَوْ أَلْقَى
السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ ) على ما في يده من كتاب الله أنه يجد النبيّ صَلَّى
الله عَلَيْهِ وَسَلَّم مكتوبا.
قال : ثنا ابن ثور ، قال : قال معمر ، وقال الحسن : هو منافق استمع القول ولم
ينتفع.
حدثنا أحمد بن هشام ، قال : ثنا عبيد الله بن موسى ، قال : أخبرنا إسرائيل ، عن
السديّ ، عن أبي صالح في قوله( أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ ) قال :
المؤمن يسمع القرآن ، وهو شهيد على ذلك.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله( أَوْ أَلْقَى
السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ ) قال : ألقى السمع يسمع ما قد كان مما لم يعاين من
الأحاديث عن الأمم التي قد مضت ، كيف عذّبهم الله وصنع بهم حين عَصوا رسله.
(22/374)
وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ (38)
القول في تأويل قوله تعالى : {
وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ
أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ (38) }
يقول تعالى ذكره : ولقد خلقنا السموات السبع والأرض وما بينهما من الخلائق في ستة
أيام ، وما مسنا من إعياء.
كما حدثنا ابن حُمَيد ، قال : ثنا مهران ، عن أبي سنان ، عن أبي بكر ، قال : جاءت
اليهود إلى النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم ، فقالوا : يا محمد أخبرنا ما
خلق الله من الخلق في هذه الأيام الستة ؟ فقال : " خَلَقَ اللّهُ الأرْضَ
يَوْمَ الأحَدِ وَالاثْنَيْنِ ، وَخَلقَ الجِبالَ يَوْمَ الثُّلاثاءِ ، وَخَلَقَ
المَدائِنَ والأقْوَاتَ والأنهارَ وعُمْرانها وَخَرَابها يَوْمَ الأرْبِعاءِ ،
وَخَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالمَلائِكَةَ يَوْمَ الخَمِيس إلى ثَلاثِ ساعاتٍ ، يعْنِي
مِنْ يَوْمِ الجُمُعَةِ ، وَخَلَقَ فِي أوَّلِ الثَّلاثِ السَّاعاتِ الآجالَ ، وفي
الثَّانِيَةِ الآفَة ، وفي الثَّالِثَةِ آدَمَ ، قالوا : صدقت إن أتممت ، فعرف
النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم ما يريدون ، فغضب ، فأنزل الله( وَمَا
مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ ). "
قال ثنا مهران ، عن سفيان( وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ ) قال : من سآمة.
حدثني عليّ ، قال : ثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ،
قوله( وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ ) يقول : من إزحاف (1) .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه; عن
ابن عباس : ( وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ ) يقول : وما مسنا من نَصَب.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث ، قال :
ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ،
__________
(1) الإزحاف : الإعياء ، وهو بمعنى اللغوب ( اللسان : زحف ) .
(22/375)
فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ (39) وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ (40)
عن مجاهد ، قوله( وَمَا مَسَّنَا مِنْ
لُغُوبٍ ) قال : نصب.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله( وَلَقَدْ
خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ )... الآية ، أكذب الله اليهود والنصارى وأهل
الفرى على الله ، وذلك أنهم قالوا : إن الله خلق السموات والأرض في ستة أيام ، ثم
استراح يوم السابع ، وذلك عندهم يوم السبت ، وهم يسمونه يوم الراحة.
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، في قوله( مِنْ
لُغُوبٍ ) قالت اليهود : إن الله خلق السموات والأرض في ستة أيام ، ففرغ من الخلق
يوم الجمعة ، واستراح يوم السبت ، فأكذبهم الله ، وقال( وَمَا مَسَّنَا مِنْ
لُغُوبٍ ) .
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك
يقول في قوله( وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي
سِتَّةِ أَيَّامٍ ) كان مقدار كلّ ألف سنة مما تعدّون.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله( وَمَا مَسَّنَا
مِنْ لُغُوبٍ ) قال : لم يَمَسَّنا في ذلك عناء ، ذلك اللغوب.
القول في تأويل قوله تعالى : { فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ
رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ (39) وَمِنَ اللَّيْلِ
فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ (40) }
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم : فاصبر يا محمد على ما
يقول هؤلاء اليهود ، وما يفترون على الله ، ويكذبون عليه ، فإن الله لهم
بالمِرصاد( وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ ) يقول : وصلّ
بحمد ربك صلاة الصبح قبل طلوع الشمس وصلاة العصر قبل الغروب.
كما حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( وَسَبِّحْ
(22/376)
بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ
الشَّمْسِ ) لصلاة الفجر ، وقبل غروبها : العصر.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله( وَسَبِّحْ
بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ ) قبل طلوع الشمس
: الصبح ، وقبل الغروب : العصر.
وقوله( وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ ) اختلف أهل التأويل في التسبيح الذي أمر به
من الليل ، فقال بعضهم : عني به صلاة العَتمة.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله( وَمِنَ
اللَّيْلِ ) قال : العَتَمة وقال آخرون : هي الصلاة بالليل في أيّ وقت صلى.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمارة الأسدي ، قال : ثنا عبيد الله بن موسى ، قال : أخبرنا إسرائيل
، عن أبي يحيى ، عن مجاهد( وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ ) قال : من الليل كله.
والقول الذي قاله مجاهد في ذلك أقرب إلى الصواب ، وذلك أن الله جلّ ثناؤه قال(
وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ ) فلم يَحُدَّ وقتا من الليل دون وقت. وإذا كان ذلك
كذلك كان على جميع ساعات الليل. وإذا كان الأمر في ذلك على ما وصفنا ، فهو بأن
يكون أمرا بصلاة المغرب والعشاء ، أشبه منه بأن يكون أمرا بصلاة العَتَمة ، لأنهما
يصلَّيان ليلا.
وقوله( وَأَدْبَارَ السُّجُودِ ) يقول : سبح بحمد ربك أدبار السجود من صلاتك.
واختلف أهل التأويل في معنى التسبيح الذي أمر الله نبيه أن يسبحه أدبار السجود ،
فقال بعضهم : عُنِي به الصلاة ، قالوا : وهما الركعتان اللتان يصليان بعد صلاة
المغرب.
(22/377)
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حُمَيد ، قال : ثنا حكام ، قال : ثنا عنبسة ، عن أبي إسحاق ، عن الحارث
، قال : سألت عليا ، عن أديار السجود ، فقال : الركعتان بعد المغرب.
حدثني يعقوب ، قال : ثنا ابن عُلَية ، قال : ثنا ابن جُرَيج ، عن مجاهد ، قال :
قال عليّ رضي الله عنه( أَدْبَارَ السُّجُودِ ) : الركعتان بعد المغرب.
حدثنا أبو كُرَيب ، قال : ثنا مصعب بن سلام ، عن الأجلح ، عن أبي إسحاق ، عن
الحارث. قال : سمعت عليا رضي الله عنه يقول( أَدْبَارَ السُّجُودِ ) : الركعتان
بعد المغرب.
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا سفيان ، عن
(22/378)
أبي إسحاق ، عن الحارث ، عن عليّ رضي
الله عنه ، في قوله( وَأَدْبَارَ السُّجُودِ ) قال : الركعتان بعد المغرب.
قال : ثنا يحيى ، قال : ثنا سفيان ، عن أبي إسحاق ، عن الحارث ، عن عاصم بن ضمرة ،
عن الحسن بن عليّ رضي الله عنهما ، قال( أَدْبَارَ السُّجُودِ ) : الركعتان بعد
المغرب.
حدثني عليّ بن سهل ، قال : ثنا مؤمل ، قال : ثنا حماد ، قال : ثنا عليّ بن زيد ،
عن أوس بن خالد ، عن أبي هريرة ، قال : أدبار السجود : ركعتان بعد صلاة المغرب.
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا عبد الرحمن ، قال : ثنا سفيان ، عن علوان بن أبي مالك
، عن الشعبيّ ، قال : ( أَدْبَارَ السُّجُودِ ) الركعتان بعد المغرب.
حدثنا ابن حُمَيد ، قال : ثنا مهران ، عن سفيان ، عن جابر ، عن عكرِمة ، عن ابن
عباس وإبراهيم بن مهاجر ، عن مجاهد( أَدْبَارَ السُّجُودِ ) : الركعتان بعد
المغرب.
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا عبد الرحمن ، قال : ثنا سفيان ، عن إبراهيم بن مهاجر ،
عن إبراهيم ، مثله.
حدثنا ابن المثنى. قال : ثنا محمد بن جعفر ، قال : ثنا شعبة ، عن إبراهيم بن مهاجر
، عن إبراهيم في هذه الآية( وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ
) - ( وَإِدْبَارَ النُّجُومِ ) قال : الركعتان قبل الصبح ، والركعتان بعد المغرب
، قال شعبة : لا أدري أيتهما أدبار السجود ، ولا أدري أيتهما إدبار النجوم.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث ، قال :
ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله(
وَأَدْبَارَ السُّجُودِ ) قال : كان مجاهد يقول : ركعتان بعد المغرب.
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ،
عن ابن عباس ، قوله( وَأَدْبَارَ السُّجُودِ ) قال : هما السجدتان بعد صلاة
المغرب.
حدثنا أبو كُرَيب ، قال : ثنا أبو فضيل ، عن رشدين بن كُرَيب ، عن أبيه ، عن ابن
عباس ، قال : قال لي رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم : " يا ابْنَ
عَبَّاس رَكْعَتانِ بَعْدَ المَغْرِب أدْبارَ السُّجُود " .
حدثني محمد بن عبد الله بن عبد الحكم ، قال : أخبرنا أبو زرعة ، وهبة الله بن راشد
، قال : أخبرنا حيوة بن شريح ، قال : أخبرنا أبو صخر ، أنه سمع أبا معاوية البجلي
من أهل الكوفة يقول : سمعت أبا الصهباء البكريّ يقول : سألت عليّ بن أبي طالب رضي
الله عنه عن( أَدْبَارَ السُّجُودِ ) قال : هما ركعتان بعد المغرب.
حدثني سعيد بن عمرو السكوني ، قال : ثنا بقية ، قال : ثنا جرير ، قال : ثنا حمير
بن يزيد الرحبي ، عن كُرَيب بن يزيد الرحبي; قال : وكان جبير بن نفير يمشي إليه ،
قال : كان إذا صلى الركعتين قبل الفجر ، والركعتين
(22/379)
بعد المغرب أخفّ ، وفسَّر إدبار النجوم
، وأدبار السجود.
حدثنا ابن حُمَيد ، قال : ثنا مهران ، عن عيسى بن يزيد ، عن أبي إسحاق الهمداني ،
عن الحسن( وَأَدْبَارَ السُّجُودِ ) : الركعتان بعد المغرب.
حدثنا ابن حُمَيد ، قال : ثنا حكام ، قال : ثنا عنبسة ، عن المُغيرة ، عن إبراهيم
، قال : كان يقال( أَدْبَارَ السُّجُودِ ) : الركعتان بعد المغرب.
قال : ثنا عنبسة ، عن إبراهيم بن مهاجر ، عن مجاهد( وَأَدْبَارَ السُّجُودِ ) :
الركعتان بعد المغرب.
قال : ثنا جرير ، عن عطاء ، قال : قال عليّ : أدبار السجود : الركعتان بعد المغرب.
حدثنا ابن البرّ ، قال : ثنا عمرو بن أبي سلمة ، قال : سُئل الأوزاعيّ عن الركعتين
بعد المغرب ، قال : هما في كتاب الله( فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ ).
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا ابن أبي عديّ ، عن حُمَيد ، عن الحسن ، عن عليّ رضي
الله عنه في قوله( وَأَدْبَارَ السُّجُودِ ) قال : الركعتان بعد المغرب.
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة( وَأَدْبَارَ
السُّجُودِ ) قال : ركعتان بعد المغرب.
وقال آخرون : عنى بقوله( وَأَدْبَارَ السُّجُودِ ) : التسبيح في أدبار الصلوات
المكتوبات ، دون الصلاة بعدها.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : ثنا ابن علية ، قال : ثنا ابن أبي نجيح ، عن مجاهد
، قال : قال ابن عباس في( فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ ) قال : هو التسبيح
بعد الصلاة.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى;
(22/380)
وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ (41) يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ (42)
وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال
: ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله( وَأَدْبَارَ
السُّجُودِ ) قال : كان ابن عباس يقول : التسبيح. قال ابن عمرو : في حديثه في إثر
الصلوات كلها. وقال الحارث في حديثه في دُبر الصلاة كلها.
وقال آخرون : هي النوافل في أدبار المكتوبات.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يونس بن عبد الأعلى ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن
زيد ، في قوله( وَأَدْبَارَ السُّجُودِ ) : النوافل.
وأولى الأقوال في ذلك بالصحة ، قول من قال : هما الركعتان بعد المغرب ، لإجماع
الحجة من أهل التأويل على ذلك ، ولولا ما ذكرت من إجماعها عليه ، لرأيت أن القول
في ذلك ما قاله ابن زيد ، لأن الله جلّ ثناؤه لم يخصص بذلك صلاة دون صلاة ، بل عمّ
أدبار الصلوات كلها ، فقال : وأدبار السجود ، ولم تقم بأنه معنيّ به : دبر صلاة
دون صلاة ، حجة يجب التسليم لها من خبر ولا عقل.
واختلفت القرّاء في قراءة قوله( وَأَدْبَارَ السُّجُودِ ) فقرأته عامة قرّاء
الحجاز والكوفة ، سوى عاصم والكسائي( وإدْبارِ السُّجُودِ ) بكسر الألف ، على أنه
مصدر أدبر يُدبر إدبارا. وقرأه عاصم والكسائي وأبو عمرو( وأدْبارَ ) بفتح الألف
على مذهب جمع دبر وأدبار.
والصواب عندي الفتح على جمع دبر.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِي الْمُنَادِي مِنْ
مَكَانٍ قَرِيبٍ (41) يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذَلِكَ يَوْمُ
الْخُرُوجِ (42) }
(22/381)
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صَلَّى
الله عَلَيْهِ وَسَلَّم : واستمع يا محمد صيحة يوم القيامة ، يوم ينادي بها
منادينا من موضع قريب.
وذُكر أنه ينادي بها من صخرة بيت المقدس.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ بن سهل ، قال : ثنا الوليد بن مسلم ، عن سعيد بن بشر ، عن قتادة ، عن
كعب ، قال : ( وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِي الْمُنَادِي مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ )
قال مَلك قائم على صخرة بيت المقدس ينادي : أيتها العظام البالية والأوصال
المتقطعة; إن الله يأمركن أن تجتمعن لفصل القضاء.
حدثنا بشر; قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد; عن قتادة( وَاسْتَمِعْ يَوْمَ
يُنَادِي الْمُنَادِي مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ ) قال : كنا نحدّث أنه ينادي من بيت
المقدس من الصخرة ، وهي أوسط الأرض.
وحُدّثنا أن كعبا قال : هي أقرب الأرض إلى السماء بثمانية عشر ميلا.
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة( يَوْمَ يُنَادِي
الْمُنَادِي مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ ) قال : بلغني أنه ينادي من الصخرة التي في بيت
المقدس.
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ،
عن ابن عباس ، قوله( وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِي الْمُنَادِي مِنْ مَكَانٍ
قَرِيبٍ ) قال : هي الصيحة.
حدثني عليّ بن سهل ، قال : ثنا الوليد بن مسلم ، قال : ثني بعض أصحابنا ، عن
الأغرّ ، عن مسلم بن حيان ، عن ابن بُريدة ، عن أبيه بُريدة ، قال : مَلك قائم على
صخرة بيت المقدس ، واضع أصبعيه في أذُنيه ينادي ، قال : قلتُ : بماذا ينادي ؟ قال
: يقول يا أيها الناس هلموا إلى الحساب; قال : فيقبلون كما قال الله( كَأَنَّهُمْ
جَرَادٌ مُنْتَشِرٌ ).
(22/382)
إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ (43) يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعًا ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ (44) نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآَنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ (45)
وقوله( يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ
بِالْحَقِّ ) يقول تعالى ذكره : يوم يسمع الخلائق صيحة البعث من القبور بالحق ،
يعني بالأمر بالإجابة لله إلى موقف الحساب.
وقوله( ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ ) يقول تعالى ذكره. يوم خروج أهل القبور من
قبورهم.
القول في تأويل قوله تعالى : { إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا
الْمَصِيرُ (43) يَوْمَ تَشَقَّقُ الأرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعًا ذَلِكَ حَشْرٌ
عَلَيْنَا يَسِيرٌ (44) }
يقول تعالى ذكره : إنا نحن نُحيي الموتى ونميت الأحياء ، وإلينا مصير جميعهم يوم
القيامة( تَشَقَّقُ الأرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعًا ) يقول جلّ ثناؤه وإلينا مصيرهم يوم
تشقَّق الأرض ، فاليوم من صلة مصير.
وقوله( تَشَقَّقُ الأرْضُ عَنْهُمْ ) يقول : تصدّع الأرض عنهم. وقوله( سِرَاعًا )
ونُصبت سراعا على الحال من الهاء والميم فى قوله عنهم. والمعنى : يوم تشقَّق الأرض
عنهم فيخرجون منها سراعا ، فاكتفى بدلالة قوله( يَوْمَ تَشَقَّقُ الأرْضُ عَنْهُمْ
) على ذلك من ذكره.
قوله( ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ ) يقول : جمعهم ذلك جمع في موقف الحساب ،
علينا يسير سهل.
القول في تأويل قوله تعالى : { نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ وَمَا أَنْتَ
عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ (45) }
يقول تعالى ذكره : نحن يا محمد أعلم بما يقول هؤلاء المشركون بالله من فريتهم على
الله ، وتكذيبهم بآياته ، وإنكارهم قُدرة الله على البعث بعد الموت.
(22/383)
( وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ
) يقول : وما أنت عليهم بمسلط.
كما حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم. قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ،
قال : ثنا الحسن قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد( وَمَا
أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ ) قال : لا تتجبر عليهم.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله( وَمَا أَنْتَ
عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ ) فإن الله عزّ وجلّ كره الجبرية ، ونهى عنها ، وقدّم فيها.
وقال الفرّاء : وضع الجبار في موضع السلطان من الجبرية; وقال : أنشدني المفضل :
وَيَوْمَ الحَزْنِ إذْ حَشَدَتْ مَعَدّ... وكانَ النَّاسُ إلا نَحْنُ دِينا
عَصَيْنا عَزْمَةَ الجَبَّارِ حَتَّى... صَبَحْنا الجَوْفَ ألْفا مُعْلَمِينا (1)
ويروى : " الجوف " وقال : أراد بالجبار : المنذر لولايته.
قال : وقيل : إن معنى قوله( وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ ) لم تُبعث
لتجْبُرَهم على الإسلام ، إنما بعثت مذكِّرا ، فذكِّر. وقال : العرب لا تقول فعال
من أفعلت ، لا يقولون : هذا خراج ، يريدون : مُخْرِج ، ولا يقولون : دخَال ،
يريدون : مُدْخِل ، إنما يقولون : فعال ، من فعلت; ويقولون : خراج ، من
__________
(1) البيتان من شواهد الفراء في معاني القرآن ( الورقة 310 ) رواهما عن المفضل ،
ولم أجدهما في المفضليات . والبيت الأول قد سبق استشهاد المؤلف به عند قوله تعالى
: " إن الدين عند الله الإسلام " ( 2 : 211 ) من هذه الطبعة . والشاهد
هنا في البيت الثاني في كلمة " الجبار " يريد به الملك المسلط . وقال
الفراء : وقوله " وما أنت عليهم بجبار " : يقول : لست عليهم بمسلط . جعل
الجبار في موضع السلطان من الجبرية . قال : أنشدني المفضل : " ويوم الحزن ...
البيتين " . قال : وقال الكلبي بإسناده : " لست عليهم بجبار " يقول
: لم تبعث لتجبرهم على الإسلام والهدى إنما بعثت مذكرًا فذكر ، وذلك قبل أن يؤمر
بقتالهم . والعرب لا تقول فعال من أفعلت ، لا يقولون هذا إخراج ولا دخال ، يريدون
مدخل ولا مخرج من أدخلت وأخرجت ؛ إنما يقولون دخال من دخلت وفعال من فعلت وقد قالت
العرب : دراك من أدركت ، وهو شاذ . فإن حملت الجبار على هذا المعنى فهو وجه . وقد
سمعت بعض العرب يقول جبره على الأمر ، يريد أجبره . فالجبار : من هذه اللغة صحيح ،
يراد به : يقهرهم ويجبرهم .
(22/384)
خرجت; ودخال : من دخلت; وقتَّال ، من
قتلت. قال : وقد قالت العرب في حرف واحد : درّاك ، من أدركت ، وهو شاذّ.
قال : فإن قلت الجبار على هذا المعنى ، فهو وجه. قال : وقد سمعت بعض العرب يقول :
جبره على الأمر ، يريد : أجبره ، فالجبار من هذه اللغة صحيح ، يراد به : يقهرهم
ويجبرهم.
وقوله( فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ ) يقول تعالى ذكره : فذكر يا
محمد بهذا القرآن الذي أنزلته إليه من يخاف الوعيد الذي أوعدته من عصاني وخالف
أمري.
حدثني نصر بن عبد الرحمن الأوديّ ، قال : ثنا حكام الرازي ، عن أيوب ، عن عمرو
الملائي ، عن ابن عباس ، قال : قالوا يا رسول الله لو خوّفتنا ؟ فنزلت( فَذَكِّرْ
بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ ).
حدثنا ابن حُمَيد ، قال : ثنا حكام ، عن أيوب بن سيار أبي عبد الرحمن ، عن عمرو بن
قيس ، قال : قالوا : يا رسول الله ، لو ذكَّرتنا ، فذكر مثله.
آخر تفسير سورة ق
(22/385)
وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا (1) فَالْحَامِلَاتِ وِقْرًا (2) فَالْجَارِيَاتِ يُسْرًا (3) فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا (4) إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ (5) وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ (6)
تفسير سورة الذاريات بسم الله الرحمن
الرحيم
القول في تأويل قوله تعالى : { وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا (1) فَالْحَامِلاتِ
وِقْرًا (2) فَالْجَارِيَاتِ يُسْرًا (3) فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا (4) إِنَّمَا
تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ (5) وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ (6) }
يقول تعالى ذكره( وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا ) يقول : والرياح التي تذرو التراب ذروا
، يقال : ذرت الريح التراب وأذرت.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا هنَّاد بن السَّريّ ، قال : ثنا أبو الأحوص ، عن سماك ، عن خالد بن عُرعرة ،
قال : قام رجل إلى عليّ رضي الله عنه ، فقال : ما الذاريات ذروا ، فقال : هي
الريح.
حدثنا ابن المثنى ، قال : ثنا محمد بن جعفر ، قال : ثنا شعبة ، عن سِماك ، قال :
سمعت خالد بن عرعرة ، قال : سمعت عليا رضي الله عنه وقد خرج إلى الرحبة ، وعليه
بُرْدان ، فقالوا : لو أن رجلا سأل وسمع القوم ، قال : فقام ابن الكواء ، فقال :
ما الذاريات ذَرْوا ؟ فقال : هي الرياح.
حدثني محمد بن عبد الله بن عبيد الهلالي ومحمد بن بشار ، قالا ثنا محمد بن خالد بن
عثمة ، قال : ثنا موسى بن يعقوب الزمعي ، قال : ثنا أبو الحويرث ، عن محمد بن
جُبَير بن مطعم ، أخبره ، قال : سمعت عليا رضي الله عنه يخطب الناس ، فقام عبد
الله بن الكوّاء ، فقال : يا أمير
(22/386)
المؤمنين ، أخبرني عن قول الله تبارك
وتعالى : ( وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا ) قال : هي الرياح.
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا يحيى ، عن سفيان ، عن حبيب بن أبي ثابت ، عن أبي
الطفيل ، قال : سُئل عليّ بن أبي طالب ، رضي الله عنه ، عن الذاريات ذَرْوا ، فقال
: الريح.
حدثنا ابن حُميد ، قال : ثنا مهران ، عن سفيان ، عن حبيب بن أبي ثابت ، عن أبي
الطُّفيل ، عن علي( وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا ) قال : الريح.
قال مهران : حُدِّثنا عن سماك ، عن خالد بن عرعرة ، قال : سألت عليا رضي الله عنه
عن( وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا ) فقال : الريح.
حدثنا ابن المثنى ، قال : ثنا محمد بن جعفر ، قال : ثنا شعبة ، عن القاسم بن أبي
بَزّة ، قال : سمعت أبا الطفيل ، قال : سمعت عليا رضي الله عنه يقول : لا يسألوني
عن كتاب ناطق ، ولا سنة ماضية ، إلا حدّثتكم ، فسأله ابن الكوّاء عن الذاريات ،
فقال : هي الرياح.
حدثنا أبو كُرَيب ، قال : ثنا طلق ، عن زائدة ، عن عاصم ، عن عليّ بن ربيعة ، قال
: سأل ابن الكوّاء عليا رضي الله عنه ، فقال : ( وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا ) قال :
هي الريح.
حدثنا ابن حُمَيد ، قال : ثنا جرير ، عن عبد الله بن رفيع ، عن أبي الطفيل ، قال :
قال ابن الكوّاء لعلي رضي الله عنه : ما الذاريات ذَرْوا ؟ قال : الريح.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : ثني يحيى بن أيوب ، عن أبي صخرة ، عن
أبي معاوية البجليّ ، عن أبي الصهباء البكريّ ، عن عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه
، قال وهو على المنبر : لا يسألني أحد عن آية من كتاب الله إلا أخبرته ، فقام ابن
الكوّاء ، وأراد أن يسأله عما سأل عنه
(22/390)
صبيغٌ عمر بن الخطاب رضي الله عنه ،
فقال : ما الذاريات ذروا ؟ قال عليّ : الرياح.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، أن رجلا سأل عليا عن
الذاريات ، فقال : هي الرياح.
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن وهب بن عبد الله ، عن
أبي الطفيل ، قال سأل ابن الكوّاء عليا ، فقال : ما الذاريات ذروا ؟ قال : الرياح.
حدثنا يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله(
وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا ) قال : كان ابن عباس يقول : هي الرياح.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث ، قال :
ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله(
وَالذَّارِيَاتِ ) قال : الرياح.
وقوله( فَالْحَامِلاتِ وِقْرًا ) يقول : فالسحاب التي تحمل وقرها من الماء.
وقوله( فَالْجَارِيَاتِ يُسْرًا ) يقول : فالسفن التي تجري في البحار سهلا يسيرا(
فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا ) يقول : فالملائكة التي تقسم أمر الله في خلقه.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا هناد ، قال : ثنا أبو الأحوص ، عن سماك ، عن خالد بن عرعرة ، قال : قام رجل
إلى عليّ رضي الله عنه فقال : ما الجاريات يسرا ؟ قال : هي السفن; قال : فما
الحاملات وقرا ؟ قال : هي السحاب; قال : فما المقسمات أمرا ؟ قال : هي الملائكة.
حدثنا ابن المثنى ، قال : ثنا محمد بن جعفر ، قال : ثنا شعبة ، عن
(22/391)
سماك ، قال : سمعت خالد بن عرعرة ، قال
: سمعت عليا رضي الله عنه وقيل له : ما الحاملات وقرًا ؟ قال : هي السحاب; قال :
فما الجاريات يُسرًا ؟ قال : هي السفن; قال : فما المقسِّمات أمرًا ؟ قال : هي
الملائكة.
حدثنا ابن حُمَيد ، قال : ثنا مهران ، عن سفيان ، عن سماك ، عن خالد بن عرعرة ، عن
عليّ بنحوه.
حدثني محمد بن عبد الله بن عبيد الله الهلالي ومحمد بن بشار ، قالا ثنا محمد بن
خالد بن عثمة ، قال : ثنا موسى الزمعي ، قال : ثني أبو الحُوَيرث ، عن محمد بن
جُبير بن مطعم أخبره ، قال : سمعت عليا يخطب الناس ، فقام عبد الله بن الكوّاء
فقال : يا أمير المؤمنين ، أخبرني عن قول الله تبارك وتعالى( فَالْحَامِلاتِ
وِقْرًا ) قال : هي السحاب( فَالْجَارِيَاتِ يُسْرًا ) قال : هي السفن(
فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا ) قال : الملائكة.
حدثنا ابن المثنى ، قال : ثنا محمد بن جعفر ، قال : ثنا شعبة ، عن القاسم بن أبي
بزّة ، قال : سمعت أبا الطفيل ، قال : سمعت عليا رضي الله عنه فذكر نحوه.
حدثنا ابن حُميد ، قال : ثنا جرير ، عن عبد العزيز بن رفيع ، عن أبي الطفيل ، قال
: قال ابن الكوّاء لعليّ ، فذكر نحوه.
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن وهب بن عبد الله ، عن
أبي الطُّفيل ، قال : شهدت عليا رضي الله عنه ، وقام إليه ابن الكوّاء ، فذكر
نحوه.
حدثنا أبو كُرَيب ، قال : ثنا طَلْق بن غنام ، عن زائدة ، عن عاصم ، عن عليّ بن
ربيعة ، قال : سأل ابن الكوّاء عليا ، فذكر نحوه.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : ثني يحيى بن أيوب ، عن أبي صخر ، عن
أبي معاوية البجليّ ، عن أبي الصهباء البكريّ ، عن عليّ بن
(22/392)
أبي طالب رضي الله عنه ، نحوه.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، أن رجلا سأل عليا ،
فذكر نحوه.
حدثنا ابن حُميد ، قال : ثنا مهران ، عن سفيان ، عن حبيب بن أبي ثابت ، عن أبي
الطفيل ، عن عليّ مثله.
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا يحيى ، عن سفيان ، عن حبيب بن أبي ثابت ، عن أبي
الطفيل ، قال : سُئل فذكر مثله.
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ،
عن ابن عباس ، قوله( فَالْحَامِلاتِ وِقْرًا ) قال : السحاب ، قوله(
فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا ) قال : الملائكة.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث ، قال :
ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد( فَالْحَامِلاتِ
وِقْرًا ) قال : السحاب تحمل المطر ، ( فَالْجَارِيَاتِ يُسْرًا ) قال : السفن(
فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا ) قال : الملائكة ينزلها بأمره على من يشاء.
قوله( إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ ) يقول تعالى ذكره : إن الذي توعدون أيها
الناس من قيام الساعة ، وبعث الموتى من قبورهم لصادق ، يقول : لكائن حقّ يقين.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث ، قال :
ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله( إِنَّمَا
تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ ) والمعنى : لصدق ،
(22/393)
فوضع الاسم مكان المصدر( وَإِنَّ
الدِّينَ لَوَاقِعٌ ) يقول : وإن الحساب والثواب والعقاب لواجب ، والله مجاز عباده
بأعمالهم.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث ، قال :
ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله( وَإِنَّ
الدِّينَ لَوَاقِعٌ ) قال : الحساب.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله( إِنَّمَا
تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ ) وذلك يوم القيامة ، يوم يُدان
الناس فيه بأعمالهم.
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة( وَإِنَّ الدِّينَ
لَوَاقِعٌ ) قال : يوم يدين الله العباد بأعمالهم.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله( وَإِنَّ
الدِّينَ لَوَاقِعٌ ) قال : لكائن.
(22/394)
وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ (7) إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ (8) يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ (9)
القول في تأويل قوله تعالى : {
وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ (7) إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ (8) يُؤْفَكُ
عَنْهُ مَنْ أُفِكَ (9) }
يقول تعالى ذكره : والسماء ذات الخَلْق الحسن. وعنى بقوله( ذَاتِ الْحُبُكِ ) :
ذات الطرائق ، وتكسير كل شيء : حُبُكُه ، وهو جمع حِباك وحَبيكة; يقال لتكسير
الشعرة الجعدة : حُبك; وللرملة إذا مرّت بها الريح الساكنة ، والماء القائم ،
والدرع من الحديد لها : حُبُك; ومنه قول الراجز :
(22/394)
كأنَّمَا جَلَّلَهَا الحَوَّاكُ...
طِنْفِسَةً فِي وَشْيِها حِباكُ أذْهَبها الخُفُوقُ والدّرَاكُ (1) *وبنحو الذي
قلنا في ذلك قال أهل التأويل ، وإن اختلفت ألفاظ قائليه فيه.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني أبو حصين عبد الله بن أحمد بن يونس ، قال : ثنا عَبَثْر ، قال : ثنا حصين ،
عن عكرِمة ، عن ابن عباس ، قوله( وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ ) قال : ذات
الخَلْق الحسن.
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا عبد الرحمن ، قال : ثنا سفيان ، عن عطاء بن السائب ، عن
سعيد بن جبير ، عن ابن عباس( وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ ) قال : حُسنها
واستواؤها.
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا حكام ، عن عمرو ، عن عطاء ، عن سعيد بن جبير(
وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ ) قال : حبكها : حسنها واستواؤها.
قال : ثنا حكام ، قال : ثنا عمرو ، عن عمر بن سعيد بن مسروق أخي سفيان ، عن خصيف ،
عن سعيد بن جبير( وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ ) قال : ذات الزينة.
__________
(1) الراجز يصف ظهر أتان من حمر الوحش بأن فيه وشيا ورقما وخطوطا وطرائق ، فكأن
حائكا . وهو الذي ينسج الثياب ألبسها طنفسة موشاة فيها خطوط مستقيمة ذات ألوان .
ومعنى البيت الثالث : أن الخطوط في ظهرها تلوح كأنها مذهبة عند تحركها ومتابعتها
السير . والشاهد في هذه الأبيات قوله " حباك " والحباك : الخط في الرمل
أو في الثوب أو في الشعر ، وجمعه حبك بضمتين . ومثله الحبيكة ، وجمعها حبائك . واستشهد
المؤلف بهذه الأبيات الثلاثة من مشطور الرجز ، عند قوله تعالى : " والسماء
ذات الحبك " وهي طرائق الضوء ترى في السماء في غياب القمر ، وهي ما تسمى
المجرة . أو هي الأفلاك تدور فيها الكواكب . والبيت الثالث جاء في الأصل محرفًا
هكذا : * أذهبها الحقوق الدين الداك *
وقد بحثنا عنه كثيرًا ، فلم نجده ، ثم أصلحناه على ما ترى . والخفوق : الحركة
والاضطراب . والدراك : السير المتتابع .
(22/395)
حدثنا محمد بن عبد الله بن بزيع ، قال
: ثنا بشر بن المفضل ، عن عوف ، عن الحسن ، قوله( وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ )
قال : حبكت بالخلق الحسن ، حبكت بالنجوم.
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا هوذة ، قال : ثنا عوف ، عن الحسن ، في قوله(
وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ ) قال : حبكت بالخلق الحسن ، حبكت بالنجوم.
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا عثمان بن الهيثم ، قال : ثنا عوف ، عن الحسن ، في
قوله( وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ ) قال : ذات الخلق الحسن ، حبكت بالنجوم.
حدثني يعقوب ، قال : ثنا ابن علية ، قال : ثنا عمران بن حُدَير ، قال : سُئل
عكرِمة ، عن قوله( وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ ) قال : ذات الخلْق الحسن ، ألم
تر إلى النساج إذا نسج الثوب قال : ما أحسن ما حبكه.
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : ثنا ابن عُلَية ، قال : ثنا أيوب ، عن أبي قلابة ،
عن رجل من أصحاب النبيَ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم عن النبي صَلَّى الله
عَلَيْهِ وَسَلَّم قال : " إنَّ مِنْ وَرَائِكُمْ الكَذَّاب المُضِلَّ ،
وَإنَّ رأسَهُ مِنْ وَرَائِهِ حُبُكٌ حُبُكٌ " يعني بالحبك : الجعودة .
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا مهران ، عن سفيان ، عن عطاء بن السائب ، عن سعيد بن
جُبَير ، عن ابن عباس( وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ ) قال : استواؤها : حسنها.
قال : ثنا مهران ، عن عليّ بن جعفر ، عن الربيع بن أنس( وَالسَّمَاءِ ذَاتِ
الْحُبُكِ ) قال : ذات الخَلْق الحسن.
قال : ثنا مهران ، عن سعيد ، عن قتادة ، قال : حُبُكها نجومها. وكان ابن عباس
يقول( الْحُبُكِ ) ذات الخَلْق الحسن.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله
(22/396)
( وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ ) : أي
ذات الخَلْق الحسن. وكان الحسن يقول : حبكها : نجومها.
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا محمد بن ثور; عن معمر; عن قتادة( ذَاتِ
الْحُبُكِ ) قال : ذات الخَلْق الحسن.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث ، قال :
ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله(
وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ ) قال : المتقن البنيان.
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك
يقول في قوله( وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ ) يقول : ذات الزينة ، ويقال أيضا.
حبكها مثل حبك الرمل ، ومثل حبك الدرع ، ومثل حبك الماء إذا ضربته الريح ، فنسجته
طرائق.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله( ذَاتِ
الْحُبُكِ ) قال : الشدة حُبِكَتْ شُدَّت. وقرأ قول الله تبارك وتعالى( وَبَنَيْنَا
فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا ).
حدثني عليّ ، قال : ثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ،
قوله( وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ ) قال : ذات الخَلْق الحسن; ويقال : ذات
الزينة.
وقيل : عنى بذلك السماء السابعة.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا عبد الرحمن بن مهدي وأبو داود ، قالا ثنا عمران القطان
، عن قتادة ، عن سالم بن أبي الجعد ، عن معدان بن أبي طلحة ، عن عمرو البكاليّ ،
عن عبد الله بن عمرو( وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ ) قال : السماء السابعة.
(22/397)
حدثني القاسم بن بشير بن معروف ، قال :
ثنا أبو داود ، قال : ثنا عمران القطان ، عن قتادة ، عن سالم بن أبي الجعد ، عن
معدان ، عن عمرو البكاليّ ، هكذا قال القاسم ، عن عبد الله بن عمرو نحوه.
وقوله( إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ ) يقول : إنكم أيها الناس لفي قول مختلف
في هذا القرآن ، فمن مصدّق به ومكذّب.
كما حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة( إِنَّكُمْ
لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ ) قال : مصدق بهذا القرآن ومكذّب.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله( إِنَّكُمْ
لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ ) قال : يتخرّصون يقولون : هذا سحر ، ويقولون : هذا
أساطير ، فبأي قولهم يؤخذ ، قتل الخرَّاصون هذا الرجل ، لا بدّ له من أن يكون فيه
أحد هؤلاء ، فما لكم لا تأخذون أحد هؤلاء ، وقد رميتموه بأقاويل شتى ، فبأيّ هذا
القول تأخذون ، فهو قول مختلف. قال : فذكر أنه تخرّص منهم ليس لهم بذلك علم قالوا
: فما منع هذا القرآن أن ينزل باللسان الذي نزلت به الكتب من قبلك ، فقال الله :
أعجميّ وعربيّ ؟ لو جعلنا هذا القرآن أعجميا لقلتم نحن عرب وهذا القرآن أعجميّ ،
فكيف يجتمعان.
وقوله( يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ ) يقول : يصرف عن الإيمان بهذا القرآن من صرف
، ويدفع عنه من يُدْفع ، فيُحْرَمه.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث ، قال :
ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله( يُؤْفَكُ
عَنْهُ مَنْ أُفِكَ ) قال ابن عمرو في حديثه : يوفي ، أو يُؤْفَن ، أو كلمة
تشبهها. وقال الحارث : يُؤْفَن ، بغير شك.
(22/398)
قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ (10) الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ (11) يَسْأَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ (12) يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ (13)
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن
ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، عن الحسن( يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ ) قال : يُصرف
عنه من صُرف.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ
أُفِكَ ) فالمأفوك عنه اليوم ، يعني كتابَ الله.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله( يُؤْفَكُ
عَنْهُ مَنْ أُفِكَ ) قال : يُؤْفَك عنه المشركون.
القول في تأويل قوله تعالى : { قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ (10) الَّذِينَ هُمْ فِي
غَمْرَةٍ سَاهُونَ (11) يَسْأَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ (12) يَوْمَ هُمْ
عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ (13) }
يقول تعالى ذكره : لُعِن المتكهنون الذين يتخرّصون الكذب والباطل فيتظننونه.
واختلف أهل التأويل في الذين عُنُوا بقوله( قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ ) فقال بعضهم :
عُنِي به المرتابون.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : ثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ،
قوله( قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ ) يقول : لعن المُرتابون.
وقال آخرون في ذلك بالذي قلنا فيه.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ،
عن ابن عباس ، قوله( قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ ) قال : الكهنة.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى;
(22/399)
وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال
: ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد( قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ ) قال :
الذين يتخرّصون الكذب كقوله في عبس( قُتِلَ الإنْسَانُ ) ، وقد حدثني كل واحد
منهما بالإسناد الذي ذكرت عنه ، عن مجاهد ، قوله( قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ ) قال :
الذين يقولون : لا نُبْعَث ولا يُوقِنون.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ )
: أهل الظنون.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله( قُتِلَ
الْخَرَّاصُونَ ) قال : القوم الذين كانوا يتخرّصون الكذب على رسول الله صَلَّى
الله عَلَيْهِ وَسَلَّم ، قالت طائفة : إنما هو ساحر ، والذي جاء به سحر. وقالت
طائفة : إنما هو شاعر ، والذي جاء به شعر; وقالت طائفه : إنما هو كاهن ، والذي جاء
به كهانة; وقالت طائفة( أَسَاطِيرُ الأوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى
عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلا ) يتخرّصون على رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم.
وقوله( الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ ) يقول تعالى ذكره : الذين هم في
غمرة الضلالة وغَلَبتها عليهم متمادون ، وعن الحقّ الذي بعث الله به محمدا صَلَّى
الله عَلَيْهِ وَسَلَّم ساهون ، قد لَهُوا عنه.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل وإن اختلفت ألفاظهم في البيان عنه.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : ثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ،
قوله( الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ ) يقول : في ضلالتهم يتمادَون.
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ،
عن ابن عباس ، قوله( الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ ) قال :
(22/400)
في غفلة لاهون.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( الَّذِينَ هُمْ فِي
غَمْرَةٍ سَاهُونَ ) يقول : في غمرة وشُبهة.
حدثنا ابن حُميد ، قال : ثنا مهران ، عن سفيان( غَمْرَةٍ سَاهُونَ ) قال : في
غفلة.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله( فِي غَمْرَةٍ
سَاهُونَ ) قال : ساهون عما أتاهم ، وعما نزل عليهم ، وعما أمرهم الله تبارك
وتعالى ، وقرأ قول الله جلّ ثناؤه( بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هَذَا )...
الآية ، وقال : ألا ترى الشيء إذا أخذته ثم غمرته في الماء.
حدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن
مجاهد( فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ ) : قلبه في كِنانة.
وقوله( يَسْأَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ ) يقول تعالى ذكره : يسأل هؤلاء
الخرّاصون الذين وصف صفتهم متى يوم المجازاة والحساب ، ويوم يُدينُ الله العباد
بأعمالهم.
كما حدثنا يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله( أَيَّانَ
يَوْمُ الدِّينِ ) قال : الذين كانوا يجحدون أنهم يُدانون ، أو يُبعثون.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث ، قال :
ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نحيح ، عن مجاهد ، قوله(
يَسْأَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ ) قال : يقولون : متى يوم الدين ، أو يكون
يوم الدين.
وقوله( يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ ) يقول تعالى ذكره : يوم هم على
نار جهنم يفتنون.
واختلف أهل التأويل في معنى قوله( يُفْتَنُونَ ) في هذا الموضع ، فقال
(22/401)
بعضهم. عني به أنهم يعذّبون بالإحراق
بالنار.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : ثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، في
قوله( يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ ) يقول : يعذّبون.
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ،
عن ابن عباس ، قوله( يَسْأَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ يَوْمَ هُمْ عَلَى
النَّارِ يُفْتَنُونَ ) قال : فتنتهم أنهم سألوا عن يوم الدين وهم موقوفون على
النار( ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ )
فقالوا حين وقفوا : ( يَا وَيْلَنَا هَذَا يَوْمُ الدِّينِ ) ، وقال الله تبارك
وتعالى( هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ ).
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث ، قال :
ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد قوله(
يُفْتَنُونَ ) قال : كما يفتن الذهب في النار.
حدثني يعقوب ، قال : ثني هشيم ، قال : أخبرنا حصين ، عن عكرِمة ، في قوله( يَوْمَ
هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ ) قال : يعذّبون في النار يحرقون فيها ، ألم تر
أن الذهب إذا ألقي في النار قيل فتن.
حدثني سليمان بن عبد الجبار ، قال : ثنا محمد بن الصلت ، قال : ثنا أبو كدينة ، عن
حصين ، عن عكرِمة( يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ ) قال : يعذّبون.
حدثنا يحيى بن طلحة اليربوعي ، قال : ثنا فضيل بن عياض ، عن منصور ، عن مجاهد(
يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ ) يقول : يُنْضَجون بالنار.
حدثنا ابن حُميد ، قال : ثنا مهران ، عن سفيان ، عن الحصين ، عن عكرمة( يَوْمَ
هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ ) قال : يحرقون.
(22/402)
حدثنا ابن حُميد ، قال : ثنا مهران ،
عن سفيان( يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ ) يقول : يحرقون.
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك
يقول في( يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ ) قال : يطبخون ، كما يفتن الذهب
بالنار.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله( يَوْمَ هُمْ
عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ ) قال : يحرقون بالنار.
حدثنا ابن حُميد ، قال : ثنا جرير ، عن منصور ، عن مجاهد( يَوْمَ هُمْ عَلَى
النَّارِ يُفْتَنُونَ ) قال : يحرقون.
وقال آخرون : بل عنى بذلك أنهم يكذبون.
* ذكر من قال ذلك :
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك
يقول في قوله( يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ ) يقول : يطبخون ، ويقال
أيضا( يُفْتَنُونَ ) يكذّبون كل هذا يقال.
واختلف أهل العربية في وجه نصب اليوم في قوله( يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ
يُفْتَنُونَ ) فقال بعض نحويي البصرة : نصبت على الوقت والمعنى في( أَيَّانَ
يَوْمُ الدِّينِ ) : أي متى يوم الدين ، فقيل لهم : في( يَوْمَ هُمْ عَلَى
النَّارِ يُفْتَنُونَ ) ، لأن ذلك اليوم يوم طويل فيه الحساب ، وفيه فتنتهم على
النار.
وقال بعض نحويي الكوفة : إنما نصبت( يَوْمِهِمْ ) لأنك أضفته إلى شيئين ، وإذا
أضيف اليوم والليلة إلى اسم له فعل ، وارتفعا نصب اليوم ، وإن كان في موضع خفض أو
رفع إذا أضيف إلى فَعَلَ أو يَفْعَلُ أو إذا كان كذلك ، (1) ورفعه في موضع الرفع ،
................
__________
(1) كذا في معاني القرآن للفراء . وفي الأصل : وإذا قال .
(22/403)
ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (14) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (15) آَخِذِينَ مَا آَتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ (16)
................... وخفضه في موضع
الخفض يجوز : فلو (1) قيل( يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ ) فرفع يومُ ،
لكان وجها ، ولم يقرأ به أحد من القرّاء.
وقال آخر منهم : إنها نصب( يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ ) لأنه إضافة
غير محضة فنصب ، والتأويل رفع ، ولو رفع لجاز لأنك تقول : متى يومك ؟ فتقول : يوم
الخميس ، ويوم الجمعة ، والرفع الوجه ، لأنه اسم قابل اسما فهذا الوجه.
وأولى القولين بالصواب في تأويل قوله( يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ )
قول من قال : يعذّبون بالإحراق ، لأن الفتنة أصلها الاختبار ، وإنما يقال : فتنت
الذهب بالنار : إذا طبختها بها لتعرف جودتها ، فكذلك قوله( يَوْمَ هُمْ عَلَى
النَّارِ يُفْتَنُونَ ) يحرقون بها كما يحرق الذهب بها ، وأما النصب في اليوم
فلأنها إضافة غير محضة على ما وصفنا من قول قائل ذلك.
القول في تأويل قوله تعالى : { ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ
تَسْتَعْجِلُونَ (14) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (15) آخِذِينَ
مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ (16) }
يعني تعالى ذكره بقوله( ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ ) يقال لهم : ذوقوا فتنتكم وترك يقال
لهم لدلالة الكلام عليها.
ويعني بقوله( فِتْنَتَكُمْ ) : عذابكم وحريقكم.
واختلف أهل التأويل في ذلك ، فقال بعضهم بالذي قلنا فيه.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث ، قال :
ثنا الحسن ، قال : تنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ،
__________
(1) كذا في معاني القرآن . وفي الأصل : يقول : لو قيل .
(22/404)
عن مجاهد ، قوله( فِتْنَتَكُمْ ) قال :
حريقكم.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ )
: ذوقوا عذابكم( هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ ) .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، في قوله(
ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ ) يقول : يوم يعذّبون ، فيقول : ذوقوا عذابكم.
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك
يقول في قوله( ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ ) يقول : حريقكم.
حدثنا ابن حُميد ، قال : تنا مهران ، عن سفيان( ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ ) يقول :
احتراقكم.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله( ذُوقُوا
فِتْنَتَكُمْ ) قال : ذوقوا عذابكم.
وقال آخرون : عني بذلك : ذوقوا تعذيبكم أو كذبكم.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ،
عن ابن عباس ، قوله( ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ ) يقول : تكذيبكم.
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك
يقول في قوله( ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ ) يقول : حريقكم ، ويقال : كذبكم.
وقوله( هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ ) يقول تعالى ذكره : يقال لهم
: هذا العذاب الذي توفونه اليوم ، هو العذاب الذي كنتم به تستعجلون في الدنيا.
وقوله( إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ) يقول تعالى ذكره : إن الذين
اتقوا الله بطاعته ، واجتناب معاصيه في الدنيا في بساتين وعيون ماء في الآخرة.
(22/405)
كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ (17) وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (18) وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (19)
وقوله( آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ
رَبُّهُمْ ) يقول تعالى ذكره : عاملين ما أمرهم به ربهم مؤدّين فرائضه.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حُميد ، قال : ثنا مهران ، عن سفيان ، عن أبي عمر ، عن مسلم البطين ، عن
ابن عباس ، في قوله( آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ ) قال : الفرائض.
وقوله( إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ ) يقول : إنهم كانوا قبل أن
يفرض عليهم الفرائض محسنين ، يقول : كانوا لله قبل ذلك مطيعين.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حُميد ، قال : ثنا مهران ، عن سفيان ، عن أبي عمر ، عن مسلم البطين ، عن
ابن عباس( إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ ) قال : قبل الفرائض
محسنين يعملون.
القول في تأويل قوله تعالى : { كَانُوا قَلِيلا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ
(17) وَبِالأسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (18) وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ
لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (19) }
اختلف أهل التأويل في تأويل قوله( كَانُوا قَلِيلا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ
) قال بعضهم : معناه كانوا قليلا من الليل لا يهجعون ، وقالوا : " ما "
بمعنى الجحد.
(22/406)
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن بشار وابن المثنى ، قالا ثنا يحيى بن سعيد وابن أبي عديّ ، عن سعيد بن
أبي عروبة ، عن قتادة ، عن أنس بن مالك( كَانُوا قَلِيلا مِنَ اللَّيْلِ مَا
يَهْجَعُونَ ) قال : يتيقظون يصلون ما بين هاتين الصلاتين ، ما بين المغرب
والعشاء.
حدثني زريق بن الشحب ، قال : ثنا عبد الوهاب بن عطاء ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة
، عن أنس ، بنحوه.
حدثنا ابن بشار وابن المثنى ، قالا ثنا أبو داود ، قال : ثنا بكير بن أبي السمط ،
عن قتادة ، عن محمد بن عليّ ، في قوله( كَانُوا قَلِيلا مِنَ اللَّيْلِ مَا
يَهْجَعُونَ ) قال : كانوا لا ينامون حتى يصلوا العتمة.
قالا ثنا محمد بن جعفر ، قال : ثنا شعبة ، عن قتادة ، عن مطرف ، في قوله( كَانُوا
قَلِيلا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ ) قال : قلّ ليلة أتت عليهم إلا صلوا
فيها.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قال : قال مطرف بن عبد
الله في قوله : ( كَانُوا قَلِيلا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ ) قل ليلة تأتي
عليهم لا يصلون فيها لله. إما من أوّلها ، وإما من وسطها.
حدثنا أبو كُرَيب ، قال : ثنا ابن يمان ، قال : ثنا ابن أبي ليلى ، عن المنهال ،
عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس( كَانُوا قَلِيلا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ )
قال لم يكن يمضي عليهم ليلة إلا يأخذون منها ولو شيئا.
قال : ثنا ابن يمان ، عن أبي جعفر الرازي ، عن الربيع بن أنس ، عن أبي العالية ،
قال : كانوا يصيبون فيها حظا.
حدثني عليّ بن سعيد الكنديّ ، قال : ثنا حفص بن عاصم ، عن أبي العالية ، في قوله(
كَانُوا قَلِيلا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ ) قال : لا ينامون بين
(22/407)
المغرب والعشاء.
حدثنا ابن حُميد ، قال : ثنا حكام ومهران ، عن أبي جعفر ، عن الربيع( كَانُوا
قَلِيلا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ ) قال : كانوا يصيبون من الليل حظا.
حدثني يعقوب ، قال : ثنا ابن علية ، عن سعيد بن أبي عروبة ، عن مطرّف ، في قوله(
كَانُوا قَلِيلا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ ) قال : قلّ ليلة أتت عليهم
هجعوها كلها.
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة( كَانُوا قَلِيلا
مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ ) قال : كان لهم قليل من الليل ما يهجعون ، كانوا
يصلونه.
حدثني يعقوب ، قال : ثنا ابن علية ، قال : سمعت ابن أبي نجيح ، يقول في قوله(
كَانُوا قَلِيلا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ ) قال : كانوا قليلا ما ينامون
ليلة حتى الصباح.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث ، قال :
ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله(
كَانُوا قَلِيلا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ ) قال : قليل ما يرقدون ليلة حتى
الصباح لا يتهجدون.
وقال آخرون : بل معنى ذلك : كانوا قليلا من الليل يهجعون ، ووجهوا " ما
" - التي في قوله( مَا يَهْجَعُونَ ) إلى أنها صلة.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن المثنى ، قال : ثنا محمد بن جعفر ، قال : ثنا شعبة ، عن قتادة ، في
قوله( كَانُوا قَلِيلا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ ) قال : قال الحسن : كابدوا
قيام الليل.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قال : كان
(22/408)
الحسن يقول : لا ينامون منه إلا قليلا.
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : ثنا ابن علية ، عن بعض أصحابنا ، عن الحسن ، في
قوله( كَانُوا قَلِيلا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ ) قال : لا ينامون من الليل
إلا أقله.
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا عبد الوهاب ، قال : ثنا عوف ، عن سعيد بن أبي الحسن ،
في قوله( كَانُوا قَلِيلا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ ) قال : قلَّ ليلة أتت
عليهم هجوعا.
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قال : قال
الأحنف بن قيس ، في قوله( كَانُوا قَلِيلا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ ) قال :
كانوا لا ينامون إلا قليلا.
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا أبو داود ، قال : ثنا الحكم بن عطية ، عن قتادة ، قال :
قال الأحنف بن قَيس ، وقرأ هذه الآية( كَانُوا قَلِيلا مِنَ اللَّيْلِ مَا
يَهْجَعُونَ ) قال : لست من أهل هذه الآية.
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا ابن أبي عديّ ، عن سعيد ، عن قتادة ، عن الحسن ، في
قوله( كَانُوا قَلِيلا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ ) قال : قيام الليل.
حدثنا أبو كُريب ، قال : ثنا ابن يمان ، عن سفيان ، عن يونس ، عن الحسن ، قال :
نشطوا فمدّوا إلى السحر.
حدثنا ابن حُميد ، قال : ثنا مهران ، عن سفيان ، عن يونس بن عبيد ، عن الحسن ، قال
: مدّوا في الصلاة ونشطوا ، حتى كان الاستغفار بسحر.
قال : ثنا مهران ، عن سعيد بن أبي عروبة ، عن قتادة ، عن الحسن قال : كانوا لا
ينامون من الليل إلا قليلا.
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، في قوله( كَانُوا قَلِيلا
مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ ) قال : كان الحسن والزهري يقولان : كانوا كثيرا
(22/409)
من الليل ما يصلون. وقد يجوز أن تكون
" ما " . على هذا التأويل في موضع رفع ، ويكون تأويل الكلام : كانوا
قليلا من الليل هجوعهم; وأما من جعل " ما " صلة ، فإنه لا موضع لها;
ويكون تأويل الكلام على مذهبه كانوا يهجعون قليل الليل ، وإذا كانت " ما
" صلة كان القليل منصوبا بيهجعون.
حدثنا ابن حُميد ، قال : ثنا جرير ، عن منصور ، عن إبراهيم( كَانُوا قَلِيلا مِنَ
اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ ) قال : ما ينامون.
وقال آخرون : بل معنى ذلك : كانوا يصلون العتمة ، وعلى هذا التأويل( مَا ) في معنى
الجحد.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن بشار وابن المثنى ، قالا ثنا محمد بن جعفر ، قال : ثنا شعبة ، عن قتادة
، في قوله( كَانُوا قَلِيلا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ ) قال : قال رجل من
أهل مكة : سماه قتادة ، قال : صلاة العتمة.
وقال آخرون : بل معنى ذلك : كان هؤلاء المحسنون قبل أن تفرض عليهم الفرائض قليلا
من الناس ، وقالوا الكلام بعد قوله( إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ
) كانوا قليلا مستأنف بقوله( مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ ) فالواجب أن تكون
" ما " على هذا التأويل بمعنى الجحد.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حُميد ، قال : ثنا يحيى بن واضح ، قال : ثنا عبيد ، عن الضحاك ، في
قوله( كَانُوا قَلِيلا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ ) يقول : إن المحسنين كانوا
قليلا ثم ابتدئ فقيل( مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ وَبِالأسْحَارِ هُمْ
يَسْتَغْفِرُونَ ) كما قال( وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ
هُمُ الصِّدِّيقُونَ ) ثم قال : ( وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ
أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ ).
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا عبد الرحمن ، قال : ثنا سفيان ، عن الزبير ،
(22/410)
عن الضحاك بن مزاحم( كَانُوا قَلِيلا
مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ ) قال : كانوا من الناس قليلا.
حدثنا أبو كريب ، قال : ثنا ابن يمان ، عن سفيان ، عن الزبير بن عديّ ، عن الضحاك
بن مزاحم ، في قوله( كَانُوا قَلِيلا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ ) قال :
كانوا قليلا من الناس من يفعل ذلك.
حدثنا ابن حُميد ، قال : ثنا مهران ، عن سفيان ، عن الزبير بن عديّ ، عن الضحاك بن
مزاحم( كَانُوا قَلِيلا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ ) قال : كانوا قليلا من
الناس إذ ذاك.
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك
يقول في قوله( كَانُوا قَلِيلا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ ) قال الله( إِنَّ
الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ )... إلى( مُحْسِنِينَ ) كانوا قليلا يقول :
المحسنون كانوا قليلا هذه مفصولة ، ثم استأنف فقال( مِنَ اللَّيْلِ مَا
يَهْجَعُونَ ) .
وأما قوله( يَهْجَعُونَ ) فإنه يعني : ينامون ، والهجوع : النوم.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : ثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس(
كَانُوا قَلِيلا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ ) يقول : ينامون.
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا عبد الرحمن ، قال : ثنا سفيان ، عن منصور ، عن
إبراهيم( كَانُوا قَلِيلا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ ) قال : ينامون.
حدثنا ابن حُميد ، قال : ثنا مهران ، عن سفيان ، عن منصور ، عن إبراهيم ، مثله.
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ ، يقول : ثنا عبيد ، قال : سمعت
(22/411)
الضحاك يقول في قوله( مِنَ اللَّيْلِ
مَا يَهْجَعُونَ ) الهجوع : النوم.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله( كَانُوا
قَلِيلا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ ) قال : كانوا قليلا ما ينامون من الليل ،
قال : ذاك الهجع. قال : والعرب تقول : إذا سافرت اهجع بنا قليلا. قال : وقال رجل
من بني تميم لأبي : يا أبا أسامة صفة لا أجدها فينا ، ذكر الله تبارك وتعالى قوما
فقال : ( كَانُوا قَلِيلا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ ) ونحن والله قليلا من
الليل ما نقوم; قال : فقال أبي طُوبى لمن رقد إذا نعس; وألقى الله إذا استيقظ.
وأولى الأقوال بالصحة في تأويل قوله( كَانُوا قَلِيلا مِنَ اللَّيْلِ مَا
يَهْجَعُونَ ) قول من قال : كانوا قليلا من الليل هجوعهم ، لأن الله تبارك وتعالى
وصفهم بذلك مدحا لهم ، وأثنى عليهم به ، فوصفهم بكثرة العمل ، وسهر الليل ،
ومكابدته فيما يقربهم منه ويرضيه عنهم أولى وأشبه من وصفهم من قلة العمل ، وكثرة
النوم ، مع أن الذي اخترنا في ذلك هو أغلب المعاني على ظاهر التنزيل.
وقوله( وَبِالأسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ) اختلف أهل التأويل في تأويله ، فقال
بعضهم : معناه : وبالأسحار يصلون.
* ذكر من قال ذلك :
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك
يقول في قوله( وَبِالأسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ) يقول : يقومون فيصلون ، يقول
: كانوا يقومون وينامون ، كما قال الله لمحمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم(
إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ
وَنِصْفَهُ ) فهذا نوم ، وهذا قيام( وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ ) كذلك
يقومون ثلثا ونصفا وثلثين : يقول : ينامون ويقومون.
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا مهران ، عن سفيان ، عن جبلة بن سحيم ، عن ابن عمر ،
قوله( وَبِالأسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ) قال : يصلون.
(22/412)
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو
عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا
، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد( وَبِالأسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ) قال :
يصلون.
وقال آخرون : بل عني بذلك أنهم أخروا الاستغفار من ذنوبهم إلى السحر.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حُميد ، قال : ثنا مهران ، عن سفيان ، عن يونس بن عبيد ، عن الحسن ، قال
: مدّوا في الصلاة ونَشطوا ، حتى كان الاستغفار بسحر.
حدثنا يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله( وَبِالأسْحَارِ
هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ) قال : هم المؤمنون ، قال : وبلغنا أن نبيّ الله صَلَّى
الله عَلَيْهِ وَسَلَّم يعقوب حين سألوه أن يستغفر لهم( يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ
لَنَا ذُنُوبَنَا - قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي ) قال : قال بعض أهل
العلم : إنه أخَّر الاستغفار إلى السحر. قال : وذكر بعض أهل العلم أن الساعة التي
تفتح فيها أبواب الجنة : السحر.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : سمعت ابن زيد يقول : السحر : هو السدس
الأخير من الليل.
وقوله( وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ ) يقول تعالى ذكره :
وفي أموال هؤلاء المحسنين الذين وصف صفتهم حقٌّ لسائلهم المحتاج إلى ما في أيديهم
والمحروم.
وبنحو الذي قلنا في معنى السائل ، قال أهل التأويل ، وهم في معنى المحروم مختلفون
، فمن قائل : هو المحارَف الذي ليس له في الإسلام سهم.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حُميد ، قال : ثنا مهران ، عن سفيان ، عن أبي إسحاق ، عن
(22/413)
قيس بن كركم ، عن ابن عباس سألته عن
السائل والمحروم ، قال : السائل : الذي يسأل الناس ، والمحروم : الذي ليس له في
الإسلام سهم وهو محارَف.
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه عن
ابن عباس ، قوله( وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ ) قال :
المحروم : المحارف.
حدثنا سهل بن موسى الرازي ، قال : ثنا وكيع ، عن إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن قيس
بن كركم ، عن ابن عباس ، قال : السائل : السائل. والمحروم : المحارف الذي ليس له
في الإسلام سهم.
حدثنا سهل بن موسى ، قال : ثنا وكيع ، عن سفيان ، عن أبي إسحاق ، عن قيس بن كركم ،
عن ابن عباس ، قال : المحروم : المحارف الذي ليس له في الإسلام سهم.
حدثنا حُميد بن مسعدة ، قال : ثنا يزيد بن زريع ، قال : ثنا شعبة عن أبي إسحاق ،
عن قيس بن كركم ، عن ابن عباس في هذه الآية( لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ ) قال :
السائل : الذي يسأل ، والمحروم : المحارَف.
حدثنا ابن المثنى ، قال : ثنا محمد بن جعفر ، قال : ثنا شعبة ، قال : سمعت أبا
إسحاق يحدّث عن قيس بن كركم ، عن ابن عباس ، بنحوه.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن
مجاهد ، في قول : الله تبارك وتعالى : المحروم ، قال : المحارف.
وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد
، مثله.
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك
يقول في قوله( وَالمَحْرُومِ ) : هو الرجل المحارف الذي لا يكون له مال إلا ذهب ،
قضى الله له ذلك.
(22/414)
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا عبد الرحمن
، قال : ثنا سفيان ، عن أبي إسحاق ، عن قيس بن كركم ، قال : سألت ابن عباس عن
قوله( لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ ) قال : السائل : الذي يسأل ، والمحروم :
المحارف الذي ليس له في الإسلام سهم.
حدثني محمد بن عمرو المقدمي ، قال : ثنا قريش بن أنس ، عن سليمان ، عن قتادة ، عن
سعيد بن المسيب : المحروم : المحارَف.
حدثنا ابن المثنى ، قال : ثنا محمد بن جعفر ، قال : ثنا شعبة ، عن منصور ، عن
إبراهيم ، قال في المحروم : هو المحارف الذي ليس له أحد يعطف عليه ، أو يعطيه
شيئا.
حدثني ابن المثنى ، قال : ثني وهب بن جرير ، قال ثنا شعبة ، عن عاصم ، عن أبي
قلابة ، قال : جاء سيل باليمامة ، فذهب بمال رجل ، فقال رجل من أصحاب النبيّ
صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم : هذا المحروم.
حدثني يعقوب ، قال : ثنا ابن علية ، قال : أخبرنا أيوب ، عن نافع ، قال : المحروم
: المحارف.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : ثني مسلم بن خالد ، عن ابن أبي نجيح ،
عن مجاهد ، عن ابن عباس ، قال : المحروم : المحارف.
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : ثنا هشيم ، قال : أخبرنا حجاج ، عن الوليد بن
العيزار عن سعيد بن جُبير ، عن ابن عباس أنه قال : المحروم : هو المحارف.
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : ثنا هشيم ، عن أبي بشر ، قال : سألت سعيد بن جُبير
، عن المحروم ، فلم يقل فيه شيئا ، فقال عطاء : هو المحدود المحارف.
ومن قائل : هو المتعفف الذي لا يسأل الناس شيئا.
(22/415)
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرني نافع بن يزيد ، عن عمرو بن
الحارث ، عن بكير بن الأشجّ ، عن سعيد بن المسيب ، أنه سُئل عن المحروم فقال :
المحارف. (1)
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله( وَفِي
أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ ) هذان فقيرا أهل الإسلام ، سائل
يسأل في كفِّه ، وفقير معتفِّف ، ولكليهما عليك حقّ يا ابن آدم.
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن الزهري( لِلسَّائِلِ
وَالْمَحْرُومِ ) قال : السائل : الذي يسأل ، والمحروم : المتعفف الذي لا يسأل.
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، قال : قال معمر ، وحدثني الزهريّ ، أن
النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم قال : " لَيْسَ المِسْكينُ الَّذِي
تَرُدُّهُ التَّمرةُ والتَّمْرَتان والأكْلَة والأكْلَتانِ ، قالوا فمن المسكين يا
رسول الله ؟ قال : الَّذِي لا يَجِدُ غِنًى ، وَلا يُعْلَمُ بِحاجَتِهِ
فَيُتَصَدَّقُ عَلَيْهِ فَذلكَ المَحْرُومُ " .
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، في
قوله( لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ ) قال : السائل الذي يسأل بكفه ، والمحروم :
المتعفف ، ولكليهما عليك حقّ يا ابن آدم.
وقائل : هو الذي لا سهم له في الغنيمة.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا عبد الرحمن ، قال : ثنا سفيان ، عن قيس بن مسلم ، عن
الحسن بن محمد ، إن رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم بعث سرية ، فغنموا ،
فجاء قوم يشهدون الغنيمة ، فنزلت هذه الآية : ( وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ
__________
(1) هذا الأثر يناسب القول الأول ، فلعله مؤخر من تقديم .
(22/416)
لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ ) .
حدثنا أبو كُريب ، قال : ثنا ابن أبي زائدة ، عن سفيان ، عن قيس بن مسلم الجدلي ،
عن الحسن بن محمد ، قال : بعثت سرية فغنموا ، ثم جاء قوم من بعدهم ، قال : فنزلت(
لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ ) .
حدثنا ابن المثنى ، قال : ثنا محمد بن جعفر ، قال : ثنا شعبة ، عن الحكم ، عن
إبراهيم أن أناسا قدموا على عليّ رضي الله عنه الكوفة بعد وقعة الجمل ، فقال :
اقسموا لهم ، قال : هذا المحروم.
حدثنا أبو كُريب ، قال : ثنا أبو نعيم ، عن سفيان ، عن قيس بن مسلم ، عن الحسن بن
محمد أن قوما في زمان النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم أصابوا غنيمة ، فجاء
قوم بعد ، فنزلت( وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ ) .
حدثنا ابن حُميد ، قال : ثنا حكام ، قال : ثنا عمرو ، عن منصور ، عن إبراهيم ، قال
: المحروم : الذي لا فيء له في الإسلام ، وهو محارف من الناس.
قال : ثنا جرير ، عن منصور ، عن إبراهيم ، قوله( لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ ) قال
: المحروم : الذي لا يجري عليه شيء من الفيء ، وهو محارف من الناس.
وقائل : هو الذي لا ينمى له مال.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني أبو السائب ، قال : ثنا ابن إدريس ، عن حصين ، قال : سألت عكرِمة ، عن
السائل والمحروم ؟ قال : السائل : الذي يسألك ، والمحروم : الذي لا ينمى له مال.
وقائل : هو الذي قد ذهب ثمره وزرعه.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله( وَفِي
أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ ) قال : المحروم : المصاب ثمره
وزرعه ،
(22/417)
وَفِي الْأَرْضِ آَيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ (20) وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (21) وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ (22)
وقرأ( أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ
أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ ) . . حتى بلغ( بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ ) وقال أصحاب
الجنة : ( إِنَّا لَضَالُّونَ بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ ) .
حدثنا يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرني عبد الله بن عياش ، قال : قال
زيد بن أسلم في قول الله( وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ )
قال ليس ذلك بالزكاة ، ولكن ذلك مما ينفقون من أموالهم بعد إخراج الزكاة ،
والمحروم : الذي يُصاب زرعه أو ثمره أو نسل ماشيته ، فيكون له حقّ على من لم يصبه
ذلك من المسلمين ، كما قال لأصحاب الجنة حين أهلك جنتهم قالوا( بَلْ نَحْنُ
مَحْرُومُونَ ) وقال أيضًا : ( لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا فَظَلْتُمْ
تَفَكَّهُونَ إِنَّا لَمُغْرَمُونَ بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ ).
وكان الشعبي يقول في ذلك ما حدثني يعقوب ، قال : ثنا ابن علية ، عن ابن عون ، قال
: قال الشعبيّ : أعياني أن أعلم ما المحروم.
والصواب من القول في ذلك عندي أنه الذي قد حُرم الرزق واحتاج ، وقد يكون ذلك بذهاب
ماله وثمره ، فصار ممن حرمه الله ذلك ، وقد يكون بسبب تعففه وتركه المسألة ، ويكون
بأنه لا سهم له في الغنيمة لغيبته عن الوقعة ، فلا قول في ذلك أولى بالصواب من أن
تعمّ ، كما قال جلّ ثناؤه( وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ
) .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَفِي الأرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ (20) وَفِي
أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ (21) وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا
تُوعَدُونَ (22) }
يقول تعالى ذكره : وفي الأرض عبر وعظات لأهل اليقين بحقيقة ما عاينوا ورأوا إذا
ساروا فيها.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
(22/418)
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، في قوله( وَفِي
الأرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ ) قال : يقول : معتبر لمن اعتبر.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله( وَفِي الأرْضِ
آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ ) إذا سار في أرض الله رأى عبرا وآيات عظاما.
وقوله( وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ ) اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك ،
فقال بعضهم : معنى ذلك : وفي سبيل الخلاء والبول في أنفسكم عِبرة لكم ، ودليل لكم
على ربكم ، أفلا تبصرون إلى ذلك منكم.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا أحمد بن عبد الصمد الأنصاريّ ، قال : ثنا أبو أُسامة ، عن ابن جُرَيح ، عن
ابن المرتفع ، قال : سمعت ابن الزُّبير يقول : ( وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا
تُبْصِرُونَ ) قال : سبيل الغائط والبول.
حدثنا ابن حُميد ، قال : ثنا مهران ، عن سفيان ، عن ابن جُريج ، عن محمد بن
المرتفع ، عن عبد الله بن الزُّبير( وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ ) قال
: سبيل الخلاء والبول.
وقال آخرون : بل معنى ذلك : وفي تسوية الله تبارك وتعالى مفاصل أبدانكم وجوارحكم
دلالة لكم على أن خلقتم لعبادته.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله( وَفِي
أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ ) ، وقرأ قول الله تبارك وتعالى( وَمِنْ آيَاتِهِ
أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ ) قال :
وفينا آيات كثيرة ، هذا السمع والبصر واللسان والقلب ، لا يدري أحد ما هو أسود أو
أحمر ، وهذا الكلام الذي يتلجلج به ، وهذا القلب أيّ شيء هو ، إنما هو مضغة في
جوفه ،
(22/419)
يجعل الله فيه العقل ، أفيدري أحد ما
ذاك العقل ، وما صفته ، وكيف هو.
والصواب من القول في ذلك أن يقال : معنى ذلك : وفي أنفسكم أيضا أيها الناس آيات
وعِبر تدلُّكم على وحدانية صانعكم ، وأنه لا إله لكم سواه ، إذ كان لا شيء يقدر
على أن يخلق مثل خلقه إياكم( أَفَلا تُبْصِرُونَ ) يقول : أفلا تنظرون في ذلك
فتتفكروا فيه ، فتعلموا حقيقة وحدانية خالقكم.
وقوله( وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ ) يقول تعالى ذكره : وفي السماء : المطر
والثلج اللذان بهما تخرج الأرض رزقكم ، وقوتكم من الطعام والثمار وغير ذلك.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال بعض أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عبد الله بن بزيع ، قال : ثنا النضر ، قال : ثنا جُوَيبر ، عن
الضحاك ، في قوله( وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ ) قال : المطر.
حدثنا أبو كُريب ، قال : ثنا ابن يمان ، عن أشعث ، عن جعفر ، عن سعيد ، في قوله(
وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ ) قال : الثلج ، وكلّ عين ذائبة من
الثلج لا تنقص.
حدثنا يونس بن عبد الأعلى ، قال : ثنا سفيان ، عن عبد الكريم ، عن الحسن ، قال :
في السحاب فيه والله رزقكم ، ولكنكم تحرمونه بخطاياكم وأعمالكم.
قال أخبرنا سفيان ، عن إسماعيل بن أمية ، قال : أحسبه أو غيره " أن رسول الله
صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم سمع رجلا ومطروا ، يقول : ومطرنا ببعض عثانين الأسد
، فقال كَذَبْتَ ، بَلْ هُوَ رِزقُ اللهِ " .
حدثنا ابن حُميد ، قال : ثنا مهران ، عن سفيان ، عن مجاهد( وَفِي السَّمَاءِ
رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ ) قال : رزقكم
(22/420)
المطر.
قال : ثنا مهران ، عن سفيان( وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ ) قال : رزقكم المطر.
وقال آخرون : بل معنى ذلك : ومن عند الله الذي في السماء رزقكم ، وممن تأوّله كذلك
واصل الأحدب.
حدثنا ابن حُميد ، قال : ثنا هارون بن المُغيرة من أهل الرأي ، عن سفيان الثوري ،
قال : قرأ واصل الأحدب هذه الآية( وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ )
فقال : ألا إن رزقي في السماء وأنا أطلبه في الأرض ، فدخل خرِبة فمكث ثلاثا لا
يصيب شيئا ، فلما كان اليوم الثالث إذا هو بدوخلَّة رطب ، وكان له أخ أحسن نية منه
، فدخل معه ، فصارتا دوخلَّتين ، فلم يزل ذلك دأبهما حتى فرّق الموت بينهما.
واختلف أهل التأويل في تأويل ، قوله( وَمَا تُوعَدُونَ ) فقال بعضهم : معنى ذلك :
وما توعدون من خير ، أو شرّ.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حُميد ، قال : ثنا مهران ، عن سفيان ، عن مجاهد( وَمَا تُوعَدُونَ ) قال
: وما توعدون من خير أو شرّ.
حدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد(
وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ ) يقول : الجنة في السماء ، وما
توعدون من خير أو شرّ.
وقال آخرون : بل معنى ذلك : وما توعدون من الجنة والنار.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عبد الله بن بزيع ، قال : ثنا النضر ، قال : أخبرنا جويبر ، عن الضحاك
، في قوله( وَمَا تُوعَدُونَ ) قال : الجنة والنار.
حدثنا ابن حُميد ، قال : ثنا مهران ، عن سفيان ، ( وَمَا تُوعَدُونَ ) من الجنة.
(22/421)
فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ (23)
وأولى القولين بالصواب في ذلك عندي ،
القول الذي قاله مجاهد ، لأن الله عمّ الخبر بقوله( وَمَا تُوعَدُونَ ) عن كلّ ما
وعدنا من خير أو شرّ ، ولم يخصص بذلك بعضا دون بعض ، فهو على عمومه كما عمه الله
جلّ ثناؤه.
القول في تأويل قوله تعالى : { فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالأرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ
مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ (23) }
يقول تعالى ذكره مقسما لخلقه بنفسه : فوربّ السماء والأرض ، إن الذي قلت لكم أيها
الناس : إن في السماء رزقكم وما توعدون لحقّ ، كما حقّ أنكم تنطقون.
وقد حدثنا محمد بن بشار ، قال : ثنا ابن أبي عدي ، عن عوف ، عن الحسن ، في قوله(
فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالأرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ
) قال : بلغني أن رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم قال : " قاتل الله
أقواما أقسم لهم ربهم بنفسه فلم يصدّقوه " وقال الفرّاء : للجمع بين "
ما " و " إنّ " في هذا الموضع وجهان : أحدهما : أن يكون ذلك نظير
جمع العرب بين الشيئين من الأسماء والأدوات ، كقول الشاعر في الأسماء :
مِنَ النَّفَرِ اللائِي الَّذِينَ إذَا هُمُ... يَهابُ اللِّئامُ حَلْقَةَ الباب
قَعْقَعُوا (1)
__________
(1) هذا البيت من شواهد الفراء في معاني القرآن ( الورقة 311 ) على أن العرب قد
تجمع بين الشيئين من الأسماء والأدوات إذا اختلف لفظهما ، مثل اللائي والذين ،
فإنهما بمعنى واحد ، وأحدهما يجزئ عن الآخر ، كما في قوله تعالى " إنه لحق
مثل ما أنكم تنطقون " فقد جمع بين " ما " و " أن " . وقد
نقل المؤلف بقية كلام الفراء في توجيه ذلك الجمع بين اللفظين . واستشهد به
النحويون على مثل ما استشهد به الفراء . وانظر تفصيل الكلام على البيت في خزانة
الأدب الكبرى للبغدادي ( 2 : 529 - 534 ) وقد نسب البيت لأبي الربيس الثعلبي .
وروايته كما في شعره ( في الخزانة 532 ) : من النفر البيض الذين إذا انتموا ...
وهاب الرجال حلقة الباب فعقعوا
يمدح عبد الله بن جعفر بن أبي طالب ، وهو صاحب الناقة التي سرقها أبو الربيس ومدح
صاحبها وروى الجاحظ في البيان والتبيين أن الأبيات التي منها بيت الشاهد قالها
شاعر يمدح بها أسيلم بن الأحنف الأسدي ، قال : وكان ذا بيان وأدب وعقل وجاه ، وهو
الذي يقول فيه الشاعر ... الأبيات . وقال الزبير بن بكار في أنساب قريش : إن أبا
الربيس عباد بن طهفة الثعلبي قال لعبد الله بن عمرو بن عثمان بن عفان ... الأبيات
وفيها البيت : من النفر الشم الذين إذا ابتدوا ... وهاب اللئام حلقة الباب قعقعوا
(22/422)
فجمع بين اللائي والذين ، وأحدهما مجزئ
من الآخر; وكقول الآخر في الأدوات :
ما إنْ رأيْتُ وَلا سَمِعْتُ بِهِ... كالْيَوْمِ طالِيَ أيْنُقٍ جُرْبِ (1)
فجمع بين " ما " و بين " إن " ، وهما جحدان يجزئ أحدهما من
الآخر. وأما الآخر : فهو لو أن ذلك أفرد بما ، لكان خبرا عن أنه حقّ لا كذب ، وليس
ذلك المعنيّ به. وإنما أُريد به : أنه لحقّ كما حقّ أن الآدميّ ناطق. ألا يرى أن
قولك : أحق منطقك ، معناه : أحقّ هو أم كذب ، وأن قولك أحق أنك تنطق معناه
للاستثبات لا لغيره ، فأدخلت " أن " ليفرّق بها بين المعنيين ، قال :
فهذا أعجب الوجهين إليّ.
واختلفت القرّاء في قراءة قوله( مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ ) فقرأ ذلك عامة قرّاء
المدينة والبصرة( مِثْلَ مَا ) نصبا بمعنى : إنه لحقّ حقا يقينا كأنهم وجهوها إلى
مذهب المصدر. وقد يجوز أن يكون نصبها من أجل أن العرب تنصبها إذا رفعت بها الاسم ،
فتقول : مثل من عبد الله ، وعبد الله مثلك ، وأنت مثلُه ، ومثلَهُ رفعا
__________
(1) هذا البيت من كلام دريد بن الصمة فارس جشم ، وكان جاء إلى عمرو بن الشريد
السلمي يخطب إليه ابنته الخنساء ، وكانت تهنأ بالقطران إبلا لأبيها ، فلما رآها
قال أبياتًا يصفها ، ومنها : أخُناس قَدْ هامَ الفُؤَاد بكُمْ ... وأصَابَهُ
تَبْلٌ مِنَ الْحبّ
فلما أخبرها أبوها بما جاء له فارس جشم ، رغبت عنه ، لكبر سنه ، ورغبت في بني
أعمامها .
انظر القصة في ترجمة الخنساء في الأغاني لأبي الفرج ) والشاهد في هذا البيت كما
قال الفراء في معاني القرآن : إن العرب قد تجمع بين الشيئين من الأسماء والأدوات .
إذا اختلف لفظهما ، مثل جمع الشاعر بين " ما " و " إن " في
هذا البيت ، للتوكيد . وكما في قوله تعالى : " إنه لحق مثل ما أنكم تنطقون
" . فما مصدريه ، وكذلك إن حرف يؤول ما بعده مصدر ، وكان في أحدهما غنية عن
الآخر .
(22/423)
هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ (24) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (25) فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ (26)
ونصبا. وقد يجوز أن يكون نصبها على
مذهب المصدر ، إنه لحقّ كنطقكم. وقرأ ذلك عامة قرّاء الكوفة ، وبعض أهل البصرة
رفعا " مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ " على وحه النعت للحقّ.
والصواب من القول في ذلك عندي أنهما قراءتان مستفيضتان في قراءة الأمصار ،
متقاربتا المعنى ، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب.
القول في تأويل قوله تعالى : { هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ
الْمُكْرَمِينَ (24) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلامًا قَالَ سَلامٌ
قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (25) فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ (26) }
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم ، يخبره أنه محلّ بمن
تمادى في غيه ، وأصرّ على كفره ، فلم يتب منه من كفار قومه ، ما أحلّ بمن قبلهم من
الأمم الخالية ، ومذكرا قومه من قريش بإخباره إياهم أخبارهم وقصصهم ، وما فعل بهم
، هل أتاك يا محمد حديث ضيف إبراهيم خليل الرحمن المكرمين.
يعني بقوله( الْمُكْرَمِينَ ) أن إبراهيم عليه السلام وسارة خدماهم بأنفسهما.
وقيل : إنما قيل( الْمُكْرَمِينَ ) كما حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ،
قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن
ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله( ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ ) قال :
أكرمهم إبراهيم ، وأمر أهله لهم بالعجل حينئذ.
وقوله( إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ ) يقول : حين دخل ضيف إبراهيم عليه ، فقالوا له
سلاما : أي أسلموا إسلاما ، قال سلام.
واختلفت القرّاء في قراءة ذلك ، فقرأته عامة قرّاء المدينة والبصرة ، قال
(22/424)
فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ (27) فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ (28) فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ (29)
( سَلامٌ ) بالألف بمعنى قال : إبراهيم
لهم سلام عليكم. وقرأ ذلك عامة قرّاء الكوفة( سِلْمٌ ) بغير ألف ، بمعنى ، قال :
أنتم سلم.
وقوله( قَوْمٌ مُنْكَرُونَ ) يقول : قوم لا نعرفكم ، ورفع " قوم منكرون
" بإضمار أنتم.
وقوله( فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ ) يقول : عدل إلى أهله ورجع. وكان الفرّاء يقول :
الروغ وإن كان على هذا المعنى فإنه لا ينطق به حتى يكون صاحبه مخفيا ذهابه أو
مجيئه ، وقال : ألا ترى أنك تقول قد راغ أهل مكة وأنت تريد رجعوا أو صدروا ، فلو
أخفى راجع رجوعه حسنت فيه راغ ويروغ.
وقوله( فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ ) يقول : فجاء ضيفَه بعجل سمين قد أنضجه شيًا.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله( فَرَاغَ إِلَى
أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ ) قال : كان عامة مال نبيّ الله إبراهيم عليه
السلام البقر.
القول في تأويل قوله تعالى : { فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلا تَأْكُلُونَ
(27) فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ
عَلِيمٍ (28) فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ
عَجُوزٌ عَقِيمٌ (29) }
وقوله( فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلا تَأْكُلُونَ ) ؟ وفي الكلام متروك
استغني بدلالة الظاهر عليه منه وهو فقرّبه إليهم ، فأمسكوا عن أكله ، فقال : ألا
تأكلون ؟ فأوجس منهم ، يقول : فأوجس في نفسه إبراهيم من ضيفه خيفة وأضمرها(
قَالُوا لا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ ) يعني : بإسحاق ، وقال : عليم
بمعنى عالم إذا كبر ، وذكر الفراء أن بعض المشيخة كان يقول : إذا كان للعلم
منتظرًا قيل : إنه لعالم عن قليل وغاية ، وفي السيد سائد ، والكريم كارم.
(22/425)
قال : والذي قال حسن. قال : وهذا أيضا
كلام عربيّ حسن قد قاله الله في عليم وحكيم وميت.
ورُوي عن مجاهد في قوله( بِغُلامٍ عَلِيمٍ ) ما حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا
أَبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء
جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله( بِغُلامٍ عَلِيمٍ ) قال : إسماعيل.
وإنما قلت : عنى به إسحاق ، لأن البشارة كانت بالولد من سارّة ، وإسماعيل لهاجَر
لا لسارّة.
قوله( فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ ) يعنى : سارّة ، وليس ذلك إقبال نقلة
من موضع إلى موضع ، ولا تحوّل من مكان إلى مكان ، وإنما هو كقول القائل : أقبل
يشتمني ، بمعنى : أخذ في شتمي. وقوله( فِي صَرَّةٍ ) يعني : قي صيحة.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : ثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ،
قوله( فِي صَرَّةٍ ) يقول : في صيحة.
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ،
عن ابن عباس ، قوله( فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا )
يعني بالصرّة : الصيحة.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث ، قال :
ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد( فِي صَرَّةٍ )
قال : صيحة.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله( فَأَقْبَلَتِ
امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ ) : أي أقبلت في رنة.
(22/426)
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن
ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، في قوله( صَرَّةٍ ) قال : أقبلت ترنَ. (1)
حدثنا ابن حُمَيد ، قال : ثنا مهران ، عن سفيان ، عن العلاء بن عبد الكريم اليامي
، عن ابن سابَط ، قوله( فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ ) قال : في صيحة.
حدثنا يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله( فَأَقْبَلَتِ
امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ ) قال : الصرّة : الصيحة.
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال; سمعت الضحاك
يقول في قوله( فِي صَرَّةٍ ) يعني : صيحة. وقد قال بعضهم : إنَّ تلك الصيحة أوَّه
مقصورة الألف.
وقوله( فَصَكَّتْ وَجْهَهَا ) اختلف أهل التأويل في معنى صكها ، والموضع الذي
ضربته من وجهها ، فقال بعضهم : معنى صكها : وجهها : لَطْمِها إياه.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : ثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ،
قوله( فَصَكَّتْ وَجْهَهَا ) يقول : لَطَمت.
وقال آخرون : بل ضربت بيدها جبهتها تعجبا.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني موسى بن هارون ، قال : ثنا عمرو بن حماد ، قال : ثنا أسباط ، عن السديّ ،
قال : لما بَشَّر جبريل سارةَ بإسحاق ، ومن وراء إسحاق يعقوب ، ضربت جبهتها عجبا ،
فذلك قوله( فَصَكَّتْ وَجْهَهَا ) .
__________
(1) الرنة : الصيحة الحزينة . ورنت ترن رنينًا ، وأرانت : صاحت .
(22/427)
قَالُوا كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (30)
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو
عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا
، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله( فَصَكَّتْ وَجْهَهَا ) قال : جبهتها.
حدثني ابن حُمَيد ، قال : ثنا مهران ، عن سفيان ، عن العلاء بن عبد الكريم الياميّ
، عن ابن سابط ، قوله( فَصَكَّتْ وَجْهَهَا ) قال : قالت هكذا; وضرب سفيان بيده
على جبهته.
قال : ثنا مهران; عن سفيان( فَصَكَّتْ وَجْهَهَا ) وضعت يدها على جبهتها تعجبا ،
والصكّ عند العرب : هو الضرب. وقد قيل : إن صكها وجهها ، أن جمعت أصابعها ، فضربت
بها جبهتها( وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ ) يقول : وقالت : أتلد ، وحذفت أتلد لدلالة
الكلام عليه ، وبضمير أتلد رفعت عجوز عقيم ، وعني بالعقيم : التي لا تلد.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن المثنى ، قال : ثنا سليمان ، أبو داود ، قال : ثنا شعبة ، عن مشاش ، قال
: سمعت الضحاك يقول في قوله( عَجُوزٌ عَقِيمٌ ) قال : لا تلد.
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : ثنا هشيم ، قال : أخبرنا رجل من أهل خراسان من
الأزد ، يكني أبا ساسان ، قال : سألت الضحاك ، عن قوله( عَقِيمٌ ) قال : التي ليس
لها ولد.
القول في تأويل قوله تعالى : { قَالُوا كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ
الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (30) }
(22/428)
قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (31) قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (32)
القول في تأويل قوله تعالى : { قَالَ
فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (31) قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى
قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (32) }
يقول تعالى ذكره مخبرا عن قيل ضيف إبراهيم لزوجته إذ قالت لهم ،
(22/428)
لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ طِينٍ (33) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ (34) فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (35) فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (36) وَتَرَكْنَا فِيهَا آَيَةً لِلَّذِينَ يَخَافُونَ الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (37)
وقد بشروها بغلام عليم : أتلد عجوز
عقيم( قَالُوا كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكِ ) يقول : هكذا قال ربك : أي كما أخبرناك
وقلنا لك( إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ ) والهاء في قوله : ( إِنَّهُ ) من
ذكر الرب ، هو الحكيم في تدبيره خلقه ، العليم بمصالحهم ، وبما كان ، وبما هو
كائن.
وقوله( قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ ) يقول : قال إبراهيم
لضيفه : فما شأنكم أيها المرسلون( قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ
مُجْرِمِينَ ) قد أجرموا لكفرهم بالله.
القول في تأويل قوله تعالى : { لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ طِينٍ (33)
مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ (34) فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا
مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (35) }
( لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ طِينٍ ) يقول : لنمطر عليهم من السماء
حجارة من طين( مُسَوَّمَةً ) يعني : معلمة.
كما حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه
، عن ابن عباس قوله : ( مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ ) قال :
المسومة : الحجارة المختومة ، يكون الحجر أبيض فيه نقطة سوداء ، أو يكون الحجر
أسود فيه نقطة بيضاء ، فذلك تسويمها عند ربك يا إبراهيم للمسرفين ، يعني للمتعدّين
حدود الله ، الكافرين به من قوم لوط( فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ
الْمُؤْمِنِينَ ) يقول تعالى ذكره : فأخرجنا من كان في قرية سدوم ، قرية قوم لوط
من أهل الإيمان بالله وهم لوط وابنتاه ، وكنى عن القرية بقوله( مَنْ كَانَ فِيهَا
) ولم يجر لها ذلك قبل ذلك.
القول في تأويل قوله تعالى : { فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ
الْمُسْلِمِينَ (36) وَتَرَكْنَا فِيهَا آيَةً لِلَّذِينَ يَخَافُونَ الْعَذَابَ
الألِيمَ (37) }
(22/429)
وَفِي مُوسَى إِذْ أَرْسَلْنَاهُ إِلَى فِرْعَوْنَ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (38) فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقَالَ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (39)
يقول تعالى ذكره : فما وجدنا في تلك
القرية التي أخرجنا منها من كان فيها من المؤمنين غير بيت من المسلمين ، وهو بيت
لوط.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله( فَمَا وَجَدْنَا
فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ) قال : لو كان فيها أكثر من ذلك
لأنجاهم الله ، ليعلموا أن الإيمان عند الله محفوظ لا ضيعة على أهله.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد( فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا
غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ) قال : هؤلاء قوم لوط لم يجدوا فيها غير لوط.
حدثني ابن عوف ، قال : ثنا المعتمر ، قال : ثنا صفوان ، قال : ثنا أبو المثنى
ومسلم أبو الحيل الأشجعيّ قال الله : ( فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ
الْمُسْلِمِينَ ) لوطا وابنتيه ، قال : فحلّ بهم العذاب ، قال الله : (
وَتَرَكْنَا فِيهَا آيَةً لِلَّذِينَ يَخَافُونَ الْعَذَابَ الألِيمَ ) وقوله : (
وَتَرَكْنَا فِيهَا آيَةً لِلَّذِينَ يَخَافُونَ الْعَذَابَ الألِيمَ ) يقول :
وتركنا في هذه القرية التي أخرجنا من كان فيها من المؤمنين آية ، وقال جلّ ثناؤه :
( وَتَرَكْنَا فِيهَا آيَةً ) والمعنى : وتركناها آية لأنها التي ائتفكت بأهلها ،
فهي الآية ، وذلك كقول القائل : ترى في هذا الشيء عبرة وآية; ومعناها : هذا الشيء
آية وعبرة ، كما قال جلّ ثناؤه( لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ
لِلسَّائِلِينَ ). وهم كانوا الآيات وفعلهم ، ويعني بالآية : العظة والعبرة ،
للذين يخافون عذاب الله الأليم في الآخرة.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَفِي مُوسَى إِذْ أَرْسَلْنَاهُ إِلَى فِرْعَوْنَ
بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (38) فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقَالَ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ
(39) }
(22/430)
يقول تعالى ذكره : وفي موسى بن عمران
إذ أرسلناه إلى فرعون بحجة تبين لمن رآها أنها حجة لموسى على حقيقة ما يقول ويدعو
إليه.
كما حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله( إِلَى
فِرْعَوْنَ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ ) يقول : بعذر مبين.
وقوله( فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ ) يقول : فأدبر فرعون كما أرسلنا إليه موسى بقومه من
جنده وأصحابه. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل وإن اختلفت ألفاظ قائليه
فيه.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : ثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ،
قوله( فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ ) يقول لقومه ، أو بقومه ، أنا أشكّ.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث ، قال :
ثنا الحسن قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله( فَتَوَلَّى
بِرُكْنِهِ ) قال : بعضده وأصحابه.
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، في قوله(
فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ ) غلب عدوّ الله على قومه.
حدثنا يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قول الله تبارك
وتعالى( فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ ) قال : بجموعه التي معه ، وقرأ( لَوْ أَنَّ لِي
بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ ) قال : إلى قوة من الناس إلى ركن
أجاهدكم به; قال : وفرعون وجنوده ومن معه ركنه; قال : وما كان مع لوط مؤمن واحد;
قال : وعرض عليهم أن يُنكحهم بناته رجاء أن يكون له منهم عضد يعينه ، أو يدفع عنه
، وقرأ( هَؤُلاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ ) قال : يريد النكاح ، فأبوا
عليه ، وقرأ قول الله تبارك وتعالى : ( لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ
مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ ). أصل الركن : الجانب والناحية التي
يعتمد عليها ويقوى بها.
(22/431)
فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ (40) وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ (41) مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ (42)
وقوله( وَقَالَ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ
) يقول : وقال لموسى : هو ساحر يسحر عيون الناس ، أو مجنون ، به جنة. وكان معمر بن
المثنى يقول : " أو " في هذا الموضع بمعنى الواو التي للموالاة ، لأنهم
قد قالوهما جميعا له ، وأنشد في ذلك بيت جرير الخطفي :
أثَعْلَبَة الفَوَارِس أوْ رِيَاحا... عَدَلَتْ بِهِمْ طُهَيَّةَ والخِشابا (1)
القول في تأويل قوله تعالى : { فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي
الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ (40) }
يقول تعالى ذكره : فأخذنا فرعون وجنوده بالغضب منا والأسف( فَنَبَذْنَاهُمْ فِي
الْيَمِّ ) يقول فألقيناهم في البحر ، فغرقناهم فيه( وَهُوَ مُلِيمٌ ) يقول :
وفرعون مليم ، والمليم : هو الذي قد أتى مَا يُلام عليه من الفعل.
وكان قتادة يقول في ذلك ما حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن
قتادة ، قوله( وَهُوَ مُلِيمٌ ) : أي مليم في نعمة الله.
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، في قوله( وَهُوَ
مُلِيمٌ ) قال : مليم في عباد الله. وذُكر أن ذلك في قراءة عبد الله( فأخَذْنَاهُ
وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُ ).
القول في تأويل قوله تعالى : { وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ
الْعَقِيمَ (41) مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلا جَعَلَتْهُ
كَالرَّمِيمِ (42) }
__________
(1) البيت لجرير بن الخطفي . من قصيدة له يهجو بها الراعي النميري ( ديوانه طبعة
الصاوي 66 ) قال أبو عبيدة في مجاز القرآن ( الورقة 227 - 1 ) عند قوله تعالى : (
وقالوا ساحر أو مجنون ) : أو هاهنا في موضع الواو التي للموالاة ( العطف ) لأنه قد
قالوهما جميعا له قال جرير : " أثعلبة ... البيت " طهية كسمية : حي من
تميم نسبوا إلى أمهم . والخشاب : بنو رزام بن مالك ، وربيعة وكعب بن مالك ، وحنظلة
.
(22/432)
يقول تعالى ذكره( وَفِي عَادٍ ) أيضا ،
وما فعلنا بهم لهم آية وعبرة( إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ )
يعني بالريح العقيم : التي لا تلقح الشجر.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حُمَيد ، قال : ثنا مهران ، عن سفيان ، عن خصيف ، عن عكرِمة ، عن ابن
عباس ، قال : الريح العقيم : الريح الشديدة التي لا تُلْقح شيئا.
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن
عباس ، قوله( الرِّيحَ الْعَقِيمَ ) قال : لا تلقح الشجر ، ولا تثير السحاب.
حدثنا محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث ، قال :
ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، هذا الريح
العقيم ، قال : ليس فيها رحمة ولا نبات ، ولا تلقح نباتا.
حدثنا ابن المثنى ، قال : ثنا سليمان أبو داود ، قال : أخبرنا شعبة ، عن شاس ، قال
: سمعت الضحاك يقول في قوله( الرِّيحَ الْعَقِيمَ ) قال : لا تلقح.
حدثني يعقوب ، قال : ثنا هشيم ، قال : أخبرنا شيخ من أهل خراسان من الأزد ، ويكنى
أبا ساسان ، قال : سألت الضحاك بن مزاحم ، عن قوله( الرِّيحَ الْعَقِيمَ ) قال :
الريح التي ليس فيها بركة ولا تلقح الشجر.
حدثنا محمد بن عبد الله الهلاليّ ، قال : ثنا أبو عليّ الحنفيّ ، قال : ثنا ابن
أبي ذئب ، عن الحارث بن عبد الرحمن ، عن سعيد بن المسيب أنه كان يقول( الرِّيحَ الْعَقِيمَ
) الجنوب.
(22/433)
حدثنا أحمد بن الفرج ، قال : ثنا ابن
أبي فديك ، قال : ثنا ابن أبي ذئب ، عن خاله الحارث بن عبد الرحمن يقول : العقيم :
يعني : الجنوب.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله( وَفِي عَادٍ إِذْ
أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ ) إن من الريح عقيما وعذابا حين ترسل
لا تلقح شيئا ، ومن الريح رحمة يثير الله تبارك وتعالى بها السحاب ، وينزل بها
الغيث. وذُكر لنا أن رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم كان يقول : "
نُصِرْتُ بالصبَا وأُهْلكَتْ عادٌ بالدَّبُور " .
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، عن ابن عباس ، بمثله.
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، في قوله(
الرِّيحَ الْعَقِيمَ ) قال : الريح التي لا تنبت.
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك
يقول في قوله( الرِّيحَ الْعَقِيمَ ) : التي لا تلقح شيئا.
حدثني ابن حمَيد ، قال : ثنا مهران ، عن سفيان ، قال( الرِّيحَ الْعَقِيمَ ) :
التي لا تنبت شيئا.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله( وَفِي عَادٍ إِذْ
أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ ) قال : إن الله تبارك وتعالى يُرسل
الريح بُشرا بين يدي رحمته ، فيحيي به الأصل والشجر ، وهذه لا تلقح ولا تحيى ، هي
عقيم ليس فيها من الخير شيء ، إنما هي عذاب لا تلقح شيئا ، وهذه تلقح ، وقرأ(
وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ ) . وقوله : ( مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ
عَلَيْهِ إِلا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ ) والرميم في كلام العرب : ما يبس من نبات
الأرض وديس.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
(22/434)
وَفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ (43) فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (44)
* ذكر من قال ذلك :
وإن اختلفت ألفاظهم بالعبارة عنه حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني
عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله( مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ
أَتَتْ عَلَيْهِ إِلا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ ) قال : كالشيء الهالك.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث ، قال :
ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله(
كَالرَّمِيمِ ) قال : كالشيء الهالك.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( كَالرَّمِيمِ ) : رميم
الشجر.
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، في قوله( إِلا
جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ ) قال : كرميم الشجر.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا
حَتَّى حِينٍ (43) فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ
وَهُمْ يَنْظُرُونَ (44) }
يقول تعالى ذكره : وفي ثمود أيضا لهم عبرة ومتعظ ، إذ قال لهم ربهم ، يقول :
فتكبروا عن أمر ربهم وعلوا استكبارا عن طاعة الله.
كما حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ،
قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله(
فَعَتَوْا ) قال : علوا.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله( فَعَتَوْا عَنْ
أَمْرِ رَبِّهِمْ ) قال : العاتي : العاصي التارك لأمر الله.
وقوله( فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ ) يقول تعالى ذكره : فأخذتهم صاعقة العذاب
(22/435)
فَمَا اسْتَطَاعُوا مِنْ قِيَامٍ وَمَا كَانُوا مُنْتَصِرِينَ (45) وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (46)
فجأة.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث ، قال :
ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله( فَأَخَذَتْهُمُ
الصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنْظُرُونَ ) وهم ينتظرون ، وذلك أن ثمود وعدت العذاب قبل
نزوله بهم بثلاثة أيام وجعل لنزوله عليهم علامات في تلك الثلاثة ، فظهرت العلامات
التي جعلت لهم الدالة على نزولها في تلك الأيام ، فأصبحوا في اليوم الرابع موقنين
بأن العذاب بهم نازل ، ينتظرون حلوله بهم. وقرأت قراء الأمصار خلا الكسائي(
فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ ) بالألف. وروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه
قرأ ذلك( فأَخَذَتْهُمُ الصَّعْقَةُ ) بغير ألف.
حدثنا ابن حُمَيد ، قال : ثنا مهران ، عن سفيان ، عن السديّ ، عن عمرو بن ميمون
الأودي ، أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قرأ( فأَخَذَتْهُمُ الصَّعْقَةُ ) ، وكذلك
قرأ الكسائيّ : وبالألف نقرأ الصاعقة لإجماع الحجة من القرّاء عليها.
القول في تأويل قوله تعالى : { فَمَا اسْتَطَاعُوا مِنْ قِيَامٍ وَمَا كَانُوا
مُنْتَصِرِينَ (45) وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا
فَاسِقِينَ (46) }
يقول تعالى ذكره : فما استطاعوا من دفاع لما نزل بهم من عذاب الله ، ولا قدروا على
نهوض به.
كما حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله( فَمَا
اسْتَطَاعُوا مِنْ قِيَامٍ ) يقول : ما استطاع القوم نهوضا لعقوبة الله تبارك
وتعالى.
(22/436)
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن
ثور ، عن معمر ، عن قتادة( فَمَا اسْتَطَاعُوا مِنْ قِيَامٍ ) قال : من نهوض.
وكان بعض أهل العربية يقول : معنى قوله( فَمَا اسْتَطَاعُوا مِنْ قِيَامٍ ) : فما قاموا
بها ، قال : لو كانت فما استطاعوا من إقامة ، لكان صوابا ، وطرح الألف منها كقوله(
أَنْبَتَكُمْ مِنَ الأرْضِ نَبَاتًا ).
وقوله( وَمَا كَانُوا مُنْتَصِرِينَ ) يقول : وما كانوا قادرين على أن يستقيدوا
ممن أحل بهم العقوبة التي حلت بهم.
وكان قتادة يقول في تأويل ذلك : ما حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ،
عن قتادة( وَمَا كَانُوا مُنْتَصِرِينَ ) قال : ما كانت عندهم من قوة يمتنعون بها
من الله عزّ وجلّ.
وقوله( وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ ) اختلفت
القرّاء في قراءة قوله( وَقَوْمَ نُوحٍ ) نصبا. ولنصب ذلك وجوه : أحدها : أن يكون
القوم عطفا على الهاء والميم في قوله( فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ ) إذ كان كلّ
عذاب مهلك تسميه العرب صاعقة ، فيكون معنى الكلام حينئذ : فأخذتهم الصاعقة وأخذت
قوم نوح من قبل. والثاني : أن يكون منصوبا بمعنى الكلام ، إذ كان فيما مضى من
أخبار الأمم قبل دلالة على المراد من الكلام ، وأن معناه : أهلكنا هذه الأمم ،
وأهلكنا قوم نوح من قبل. والثالث : أن يضمر له فعلا ناصبًا ، فيكون معنى الكلام :
واذكر لهم قوم نوح ، كما قال( وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ ) ونحو ذلك ،
بمعنى أخبرهم واذكر لهم. وقرأ ذلك عامة قرّاء الكوفة والبصرة( وَقَوْمِ نُوحٍ )
بخفض القوم على معنى : وفي قوم نوح عطفا بالقوم على موسى في قوله( وَفِي مُوسَى
إِذْ أَرْسَلْنَاهُ إِلَى فِرْعَوْنَ ).
والصواب من القول في ذلك أنهما قراءتان معروفتان في قراءة الأمصار ، فبأيتهما قرأ
القارئ فمصيب ، وتأويل ذلك في قراءة من قرأه خفضا وفي قوم نوح لهم أيضا عبرة ، إذ
أهلكناهم من قبل ثمود لما كذّبوا رسولنا نوحا( إِنَّهُمْ
(22/437)
وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ (47) وَالْأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ (48)
كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ ) يقول :
إنهم كانوا مخالفين أمر الله ، خارجين عن طاعته.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا
لَمُوسِعُونَ (47) وَالأرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ (48) }
يقول تعالى ذكره : والسماء رفعناها سقفا بقوة.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : ثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ،
قوله( وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ ) يقول : بقوة.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث ، قال :
ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله( بِأَيْدٍ
) قال : بقوة.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( وَالسَّمَاءَ
بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ ) : أي بقوّة.
حدثنا ابن المثنى ، قال : ثنا محمد بن جعفر ، قال : ثنا شعبة ، عن منصور أنه قال
في هذه الآية( وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ ) قال : بقوة.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله( وَالسَّمَاءَ
بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ ) قال : بقوة.
حدثنا ابن حُمَيد ، قال : ثنا مهران ، عن سفيان( وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا
بِأَيْدٍ ) قال : بقوة.
وقوله( وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ ) يقول : لذو سعة بخلقها وخلق ما شئنا أن نخلقه
وقدرة عليه. ومنه قوله( عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ )
[البقرة : 236] يراد به
(22/438)
وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (49)
القويّ.
وقال ابن زيد في ذلك ما حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ،
في قوله( وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ ) قال : أوسعها جلّ جلاله.
وقوله( وَالأرْضَ فَرَشْنَاهَا ) يقول تعالى ذكره : والأرض جعلناها فراشا للخلق(
فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ ) يقول : فنعم الماهدون لهم نحن.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ
لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (49) }
يقول تعالى ذكره : وخلقنا من كل شيء خلقنا زوجين ، وترك( خَلَقْنا ) الأولى
استغناء بدلالة الكلام عليها.
واختلف في معنى( خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ ) فقال بعضهم : عنى به : ومن كلّ شيء خلقنا
نوعين مختلفين كالشقاء والسعادة والهدى والضلالة ، ونحو ذلك.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : ثنا ابن علية ، قال : ثنا ابن جريج ، قال : قال
مجاهد ، في قوله( وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ ) قال : الكفر
والإيمان ، والشقاوة والسعادة ، والهدى والضلالة ، والليل والنهار ، والسماء
والأرض ، والإنس والجنّ.
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا إبراهيم بن أبي الوزير ، قال : ثنا مروان بن معاوية
الفزاريُّ ، قال : ثنا عوف ، عن الحسن ، في قوله( وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا
زَوْجَيْنِ ) قال : الشمس والقمر.
وقال آخرون : عنى بالزوجين : الذكر والأنثى.
* ذكر من قال ذلك :
(22/439)
فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (50) وَلَا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (51)
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ،
قال : قال ابن زيد ، في قوله( وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ ) قال :
ذكرًا وأنثى ، ذاك الزوجان ، وقرأ( وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ ). قال : امرأته.
وأولى القولين في ذلك قول مجاهد ، وهو أن الله تبارك وتعالى ، خلق لكلّ ما خلق من
خلقه ثانيا له مخالفا في معناه ، فكلّ واحد منهما زوج للآخر ، ولذلك قيل : خلقنا
زوجين. وإنما نبه جلّ ثناؤه بذلك من قوله على قُدرته على خلق ما يشاء خلقه من شيء
، وأنه ليس كالأشياء التي شأنها فعل نوع واحد دون خلافه ، إذ كلّ ما صفته فعل نوع
واحد دون ما عداه كالنار التي شأنها التسخين ، ولا تصلح للتبريد ، وكالثلج الذي
شأنه التبريد ، ولا يصلح للتسخين ، فلا يجوز أن يوصف بالكمال ، وإنما كمال المدح
للقادر على فعل كلّ ما شاء فعله من الأشياء المختلفة والمتفقة.
وقوله( لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ) يقول : لتذكروا وتعتبروا بذلك ، فتعلموا أيها
المشركون بالله أن ربكم الذي يستوجب عليكم العبادة هو الذي يقدر على خلق الشيء
وخلافه ، وابتداع زوجين من كلّ شيء لا ما لا يقدر على ذلك.
القول في تأويل قوله تعالى : { فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ
نَذِيرٌ مُبِينٌ (50) وَلا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ إِنِّي لَكُمْ
مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (51) }
يقول تعالى ذكره : فاهربوا أيها الناس من عقاب الله إلى رحمته بالإيمان به ،
واتباع أمره ، والعمل بطاعته( إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ ) يقول : إني لكم من
الله نذير أنذركم عقابه ، وأخوّفكم عذابه الذي أحله بهؤلاء الأمم الذي قصّ عليكم
قصصهم ، والذي هو مذيقهم في الآخرة.
وقوله( مُبِينٌ ) يقول : يبين لكم نذارته.
(22/440)
وقوله( وَلا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ ) يقول جل ثناؤه : ولا تجعلوا أيها الناس مع معبودكم الذي خلقكم معبودًا آخر سواه ، فإنه لا معبود تصلح له العبادة غيره( إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ ) يقول : إني لكم أيها الناس نذير من عقابه على عبادتكم إلها غيره ، مبين قد أبان لكم النذارة.
(22/441)
كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (52) أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ (53)
القول في تأويل قوله تعالى : {
كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلا قَالُوا سَاحِرٌ
أَوْ مَجْنُونٌ (52) أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ (53) }
يقول تعالى ذكره : كما كذبت قريش نبيها محمدًا صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم ،
وقالت : هو شاعر ، أو ساحر أو مجنون ، كذلك فعلت الأمم المكذّبة رسلها ، الذين
أحلّ الله بهم نقمته ، كقوم نوح وعاد وثمود ، وفرعون وقومه ، ما أتى هؤلاء القوم
الذين ذكرناهم من قبلهم ، يعني من قبل قريش قوم محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ
وَسَلَّم من رسول إلا قالوا : ساحر أو مجنون ، كما قالت قريش لمحمد صَلَّى الله
عَلَيْهِ وَسَلَّم.
وقوله( أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ ) يقول تعالى ذكره : أأوصى
هؤلاء المكذّبين من قريش محمدا صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم على ما جاءهم به من
الحق أوائلهم وآباؤهم الماضون من قبلهم ، بتكذيب محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ
وَسَلَّم ، فقبلوا ذلك عنهم.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة( أَتَوَاصَوْا
بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ ) قال : أوصى أولاهم أخراهم بالتكذيب.
(22/441)
فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ (54) وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ (55)
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال :
ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله( أَتَوَاصَوْا بِهِ ) : أي كان الأوّل قد أوصى الآخر
بالتكذيب.
وقوله( بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ ) يقول تعالى ذكره : ما أوصى هؤلاء المشركون
آخرهم بذلك ، ولكنهم قوم متعدّون طغاة عن أمر ربهم ، لا يأتمرون لأمره ، ولا
ينتهون عما نهاهم عنه.
القول في تأويل قوله تعالى : { فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ (54)
وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ (55) }
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم : فتولّ يا محمد عن
هؤلاء المشركين بالله من قريش ، يقول : فأعرض عنهم حتى يأتيك فيهم أمر الله ، يقال
: ولى فلان عن فلان : إذا أعرض عنه وتركه ، كما قال حصين بن ضمضم :
أمَّا بَنُو عبس فإنَّ هَجِينَهُمْ... وَلَّى فَوَارِسهُ وَأفْلَتَ أَعْوَرا (1)
والأعور في هذا الوضع : الذي عور فلم تقض حاجته ، ولم يصب ما طلب.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حُميد ، قال : ثنا مهران ، عن سفيان ، عن ليث ، عن مجاهد( فَتَوَلَّ
عَنْهُمْ ) قال : فأعرض عنهم.
وقوله( فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ ) يقول جلّ ثناؤه : فما أنت يا محمد بملوم ، لا
يلومك ربك على تفريط كان منك في الإنذار ، فقد أنذرت ، وبلغت ما أرسلت به.
__________
(1) البيت لحصين بن ضمضم . قاله أبو عبيدة في مجاز القرآن ( الورقة 227 ب ) قال
عند قوله تعالى : ( فتول عنهم ) أي أعرض عنهم واتركهم . قال حصين بن ضمضم : "
أما بنو عبس ... البيت " . والأعور : الذي عور فلم يقض حاجته ، ولم يصب ما
طلب ، وليس هو من عور العين .
(22/442)
وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56) مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (57)
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل
التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال
: ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله(
فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ ) قال : محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ
وَسَلَّم.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد. في قوله( فَتَوَلَّ
عَنْهُمْ فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ ) قال : قد بلغت ما أرسلناك به ، فلست بملوم ،
قال : وكيف يلومه ، وقد أدّى ما أمر به.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله( فَتَوَلَّ
عَنْهُمْ فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ ) ذُكر لنا أنها لما نزلت هذه الآية ، اشتدّ على
أصحاب رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم ، ورأوا أن الوحي قد انقطع ، وأن
العذاب قد حضر ، فأنزل الله تبارك وتعالى بعد ذلك : ( وَذَكِّرْ فَإِنَّ
الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ ) .
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : أخبرنا ابن علية ، قال : أخبرنا أيوب ، عن مجاهد ،
قال : خرج عليّ معتجرًا ببرد ، مشتملا بخميصة ، فقال لما نزلت( فَتَوَلَّ عَنْهُمْ
فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ ) أحزننا ذلك وقلنا : أمر رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ
وَسَلَّم أن يتولى عنا حتى نزل( وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ
الْمُؤْمِنِينَ ) .
وقوله( وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ ) يقول : وعظ يا
محمد من أرسلت إليه ، فإن العظة تنفع أهل الإيمان بالله.
كما حدثنا ابن حُمَيد ، قال : ثنا مهران ، عن سفيان ، عن ليث ، عن مجاهد(
وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ ) قال : وعظهم.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإنْسَ إِلا
لِيَعْبُدُونِ (56) مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ
يُطْعِمُونِ (57) }
(22/443)
اختلف أهل التأويل في تأويل قوله(
وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ ) فقال بعضهم : معنى ذلك :
وما خلقت السُّعداء من الجنّ والإنس إلا لعبادتي ، والأشقياء منهم لمعصيتي.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حُمَيد ، قال : ثنا مهران ، عن سفيان ، عن ابن جُرَيج ، عن زيد بن أسلم(
وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ ) قال : ما جبلوا عليه من
الشقاء والسعادة.
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا مؤمل ، قال : ثنا سفيان ، عن ابن جُرَيج ، عن زيد بن
أسلم بنحوه.
حدثني عبد الأعلى بن واصل ، قال : ثنا عبيد الله بن موسى ، قال : أخبرنا سفيان ،
عن ابن جُرَيج ، عن زيد بن أسلم ، بمثله.
حدثنا حُمَيد بن الربيع الخراز ، قال : ثنا ابن يمان ، قال : ثنا ابن جُرَيج ، عن
زيد بن أسلم ، في قوله( وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ )
قال : جَبَلَهم على الشقاء والسعادة.
حدثنا ابن حُمَيد ، قال : ثنا مهران ، عن سفيان( وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ
وَالإنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ ) قال : من خلق للعبادة.
وقال آخرون : بل معنى ذلك. وما خلقت الجنّ والإنس إلا ليذعنوا لي بالعبودة.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : ثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ،
قوله( وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ ) : إلا ليقروا
بالعبودة طوعا وكَرها.
(22/444)
إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (58) فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوبًا مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحَابِهِمْ فَلَا يَسْتَعْجِلُونِ (59)
وأولى القولين في ذلك بالصواب القول
الذي ذكرنا عن ابن عباس ، وهو : ما خلقت الجنّ والإنس إلا لعبادتنا ، والتذلل
لأمرنا.
فإن قال قائل : فكيف كفروا وقد خلقهم للتذلل لأمره ؟ قيل : إنهم قد تذللوا لقضائه
الذي قضاه عليهم ، لأن قضاءه جار عليهم ، لا يقدرون من الامتناع منه إذا نزل بهم ،
وإنما خالفه من كفر به في العمل بما أمره به ، فأما التذلل لقضائه فإنه غير ممتنع
منه.
وقوله( مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ ) يقول تعالى ذكره : ما أريد ممن خلقت من
الجنّ والإنس من رزق يرزقونه خلقي( وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ ) يقول : وما
أريد منهم من قوت أن يقوتوهم ، ومن طعام أن يطعموهم.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا معاذ بن هشام ، قال : ثنا أبي ، عن عمرو بن مالك ، عن
أبي الجوزاء ، عن ابن عباس( مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ
يُطْعِمُونِ ) قال : يطعمون أنفسهم.
القول في تأويل قوله تعالى : { إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ
الْمَتِينُ (58) فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوبًا مِثْلَ ذَنُوبِ
أَصْحَابِهِمْ فَلا يَسْتَعْجِلُونِ (59) }
يقول تعالى ذكره : إن الله هو الرزّاق خلقه ، المتكفل بأقواتهم ، ذو القوّة
المتين.
اختلفت القرّاء في قراءة قوله( المَتِين ) ، فقرأته عامة قرّاء الأمصار خلا يحيى
بن وثاب والأعمش : ( ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ ) رفعا ، بمعنى : ذو القوّة الشديد
، فجعلوا المتين من نعت ذي ، ووجهوه إلى وصف الله به. وقرأه يحيى
(22/445)
والأعمش( المَتِين ) خفضا ، فجعلاه من
نعت القوّة ، وإنما استجاز خفض ذلك من قرأه بالخفض ، ويصيره من نعت القوّة ،
والقوّة مؤنثة ، والمتين في لفظ مذكر ، لأنه ذهب بالقوّة من قوي الحبل (1) والشيء
المبرم : الفتل ، فكأنه قال على هذا المذهب : ذو الحبل القوي. وذكر الفراء أن بعض
العرب أنشده :
لكُلّ دَهْرٍ قَدْ لَبِسْتُ أثْؤُبَا... مِنْ رَبْطَةٍ واليُمْنَةَ المُعصَّبا (2)
فجعل المعصب نعت اليمنة ، وهي مؤنثة في اللفظ ، لأن اليمنة ضرب وصنف من الثياب ،
فذهب بها إليه.
والصواب من القراءة في ذلك عندنا( ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ ) رفعا على أنه من
صفة الله جلّ ثناؤه ، لإجماع الحجة من القرّاء عليه ، وأنه لو كان من نعت القوّة
لكان التأنيث به أولى ، وإن كان للتذكير وجه.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
__________
(1) الذي في الفراء لأنه ذهب بالقوة إلى الحبل الخ .
(2) البيت في ( اللسان : ثوب ) ونسبه إلى معروف بن عبد الرحمن . قال : والثوب :
اللباس واحد الأثواب والثياب ، والجمع : أثوب . وبعض العرب يهمزه ، فيقول : أثؤب ،
لاستثقال الضمة على الواو ، والهمزة أقوى على احتمالها منها . قال معروف ابن عبد
الرحمن : لِكُل دَهْر قَدْ لَبِسْتُ أثْؤُبَا ... حتى اكْتَسَى الرأسُ قنِاعا
أشْيَبا
* أمْلَحَ لا لَذًّا وَلا مُحَبَّبَا *
ولم يذكر البيت الثاني من شاهد المؤلف * من ريطة واليمنة المعصبة *
وفي اللسان : الريطة الملاءة إذا كانت قطعة واحدة ، ولم تكن لفتين أو هي كل ثواب
لين دقيق ، قال الأزهري ولا تكون الريطة إلا بيضاء . واليمنية بضم الياء وسكون
الميم واليمنية بالتحريك : ضرب من برود اليمن قال : " واليمنة المعصبا "
. والبيت من شواهد الفراء في ( معاني القرآن الورقة 313 ) قال عند قوله تعالى : (
إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين ) قال : قرأ يحيى بن وثاب " المتين "
بالخفض ، جعله من نعت القوة ، وإن كانت أنثى في اللفظ ، فإنه ذهب إلى الحبل ، وإلى
الشيء المفتول . أنشدني بعض العرب : " لكل دهر " ... البيتين . فجعل
المعصب نعتا لليمنة ، وهي مؤنثة في اللفظ ، لأن اليمنة ضرب وصنف من الثياب الوشي ،
فذهب إليه . وقرأ الناس : " المتين " رافع ، من صفة الله .
(22/446)
* ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ قال : ثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ،
قوله( ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ ) يقول : الشديد.
وقوله( فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوبًا مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحَابِهِمْ فَلا
يَسْتَعْجِلُونِ ) يقول تعالى ذكره : فإن للذين أشركوا بالله من قريش وغيرهم ذنوبا
، وهي الدلو العظيمة ، وهو السجل أيضا إذا مُلئت أو قاربت الملء ، وإنما أريد
بالذنوب في هذا الموضع : الحظّ والنصيب; ومنه قول علقمة بن عبدة :
وفي كُلّ قَوْمٍ قَدْ خَبَطْتَ بنعمَة... فَحُقَّ لِشَأس مِنْ نَدَاكَ ذَنُوبُ (1)
أي نصيب ، وأصله ما ذكرت; ومنه قول الراجز :
لَنَا ذَنُوبٌ ولَكُمْ ذَنُوبُ... فإن أبَيَتُمْ فَلَنَا الْقَلِيبُ (2)
ومعنى الكلام : فإن للذين ظلموا من عذاب الله نصيبا وحظا نازلا بهم ، مثل نصيب
أصحابهم الذين مضوا من قبلهم من الأمم ، على منهاجهم من العذاب ، فلا يستعجلون به.
__________
(1) البيت من شواهد أبي عبيدة في مجاز القرآن ( الورقة 227 ) قال عند قوله تعالى (
فإن للذين ظلموا ذنوبا مثل ذنوب أصحابهم ) أي نصيبا . قال علقمة بن عبدة "
وفي كل قوم قد خبطت بنائل " ... البيت . وهو من قصيدة مطولة يمدح بها الحارث
بن أبي شمر الغساني ، وكان أسر أخاه شأسا . فرحل يطلب فكه . وقيل مدح بها جبلة بن
الأيهم أو عمرو بن الحارث الأعرج ( انظر مختار الشعر الجاهلي بشرح مصطفى السقا
طبعة الحلبي ص 418 ، 423 ) وقوله " كل قوم " يروى : كل يوم ، وكل حي .
وبنعمة : يروى : بنائل . وأصل الذنوب : الدلو . والمراد : حظ ونصيب . قال أبو
عبيدة : وإنما أصلها من الدلو ، والذنوب والسجل واحد ، وهو مثل الدلو وأقل قليلا .
(2) الذنوب : السجل ، وهو أقل من الدلو . والمراد به هنا ، النصيب والحظ والقليب :
البئر . وقال الفراء في معاني القرآن ( الورقة 313 ) عند قوله تعالى ( فإن للذين
ظلموا ذنوبا ) : الذنوب في كلام العرب : الدلو العظيمة ، ولكن العرب تذهب بها إلى
النصيب والحظ . وبذلك أتى التفسير : فإن الذين ظلموا حظا من العذاب ، كما نزل
بالذين من قبلهم . وقال الشاعر : " لنا ذنوب ... " البيتين . والذنوب
تذكر وتؤنث .
(22/447)
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل
التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : ثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ،
قوله( فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوبًا ) يقول : دلوا.
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ،
عن ابن عباس ، قوله( فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوبًا مِثْلَ ذَنُوبِ
أَصْحَابِهِمْ ) قال : يقول للذين ظلموا عذابا مثل عذاب أصحابهم فلا يستعجلون.
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا محمد بن جعفر ، قال : ثنا شعبة ، عن أبي بشر ، عن سعيد
بن جبير( ذَنُوبًا مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحَابِهِمْ ) فلا يستعجلون : سجلا من العذاب.
قال : ثنا عفان بن مسلم ، قال : ثنا شهاب بن سُريعة ، عن الحسن ، في قوله(
ذَنُوبًا مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحَابِهِمْ ) قال : دلوا مثل دلو أصحابهم.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث ، قال :
ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد( ذَنُوبا ) قال :
سجلا.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله( فَإِنَّ لِلَّذِينَ
ظَلَمُوا ذَنُوبًا ) : سجلا من عذاب الله.
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثني محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، قوله(
فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوبًا مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحَابِهِمْ ) قال : عذابا
مثل عذاب أصحابهم.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله( فَإِنَّ
لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوبًا مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحَابِهِمْ ) قال : يقول ذنوبا من
العذاب ، قال : يقول لهم سجل من عذاب الله ، وقد فعل هذا بأصحابهم من قبلهم ،
(22/448)
فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (60)
فلهم عذاب مثل عذاب أصحابهم فلا
يستعجلون.
حدثنا ابن حُميد ، قال : ثنا مهران ، عن سفيان ، عن منصور ، عن إبراهيم( ذَنُوبًا
مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحَابِهِمْ ) قال : طَرَفا من العذاب.
القول في تأويل قوله تعالى : { فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ
الَّذِي يُوعَدُونَ (60) }
يقول تعالى ذكره : فالوادي السائل في جهنم من قيح وصديد للذين كفروا بالله وجحدوا
وحدانيته من يومهم الذي يوعدون فيه نزول عذاب الله إذا نزل بهم ماذا يلقون فيه من
البلاء والجهد.
آخر تفسير سورة الذاريات
(22/449)
وَالطُّورِ (1) وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ (2) فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ (3) وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ (4) وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ (5) وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ (6) إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ (7) مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ (8)
تفسير سورة الطور بسم الله الرحمن
الرحيم
القول في تأويل قوله تعالى : { وَالطُّورِ (1) وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ (2) فِي رَقٍّ
مَنْشُورٍ (3) وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ (4) وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ (5)
وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ (6) إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ (7) مَا لَهُ مِنْ
دَافِعٍ (8) }
يعني تعالى ذكره بقوله : (والطور) : والجبل الذي يُدعى الطور.
وقد بيَّنت معنى الطور بشواهده ، وذكرنا اختلاف المختلفين فيه فيما مضى بما أغْنى
عن إعادته في هذا الموضع
وقد حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث ،
قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قول
الله تبارك وتعالى : (والطور) قال الجبل بالسُّريانية.
وقوله : (وكتاب مسطور) يقول : وكتاب مكتوب; ومنه قول رُؤْبة :
إني وآياتٍ سُطِرْنَ سَطْرًا (1)
__________
(1) البيت من مشطور الرجز ، وبعده بيت يكمله ( اللسان : سطر ) وهو قوله : * لقائل
يا نصر نصر نصرا *
ولم ينسبهما في اللسان . وقال العيني في فرائد القلائد ، ( شرح مختصر الشواهد ) في
شواهد عطف البيان : " عزاه سيبويه " إلى رؤبة . وقال الصاغاني : "
وليس له " أ . هـ . قلت ومحل الشاهد قوله : " سطرن سطرا " أي خططن
وكتبن . أقسم بالسطور التي خطت وكتبت . ولعله يريد سطور القرآن .
(22/450)
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل
التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث ، قال :
ثنا الحسن. قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله : (
وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ ) قال : صحف.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، في قوله : ( وَكِتَابٍ
مَسْطُورٍ ) والمسطور : المكتوب.
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، في قوله :
(مَسْطُورٍ) قال : مكتوب.
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك
يقول في قوله : (مَسْطُور) قال : مكتوب.
وقوله : ( فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ ) يقول : في ورق منشور.
وقوله : " في " من صلة مسطور ، ومعنى الكلام : وكتاب سطر ، وكُتب في ورق
منشور.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ )
وهو الكتاب.
حدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ،
( فِي رَقٍّ ) قال : الرقّ : الصحيفة.
وقوله : ( وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ ) يقول : والبيت الذي يعمر بكثرة غاشيته وهو
بيت فيما ذُكر في السماء بحيال الكعبة من الأرض ، يدخله كلّ يوم سبعون ألفا من
الملائكة ، ثم لا يعودون فيه أبدا.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
(22/454)
*ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن المثنى ، قال : ثنا ابن أبي عديّ ، عن سعيد ، عن قتادة ، عن أنس بن مالك
، عن مالك بن صعصعة ، رجل من قومه قال : قال نبيُّ الله صلى الله عليه وسلم :
" رفِعَ إليَّ البَيْتُ المَعْمُورُ ، فَقُلْتُ : يا جبريلُ ما هَذَا ؟ قال :
البَيْتُ المَعْمُورُ ، يَدْخُلُهُ كُلَّ يَوْم سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ إذَا
خَرَجوا مِنْهُ لَمْ يَعُودُوا آخِرَ ما عَلَيْهِمْ " .
حدثنا ابن المثنى ، قال : ثنا خالد بن الحارث ، قال : ثنا شعبة ، عن قتاده ، عن
أنس بن مالك ، عن مالك بن صعصعة رجل من قومه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه.
حدثنا هناد بن السريّ ، قال : ثنا أبو الأحوص عن سماك بن حرب ، عن خالد بن عُرعُرة
، أن رجلا قال لعليّ رضي الله عنه : ما البيت المعمور ؟ قال : بيت في السماء يقال
له الضراح ، وهو بحيال الكعبة ، من فوقها حرمته في السماء كحرمة البيت في الأرض ،
يصلي فيه كلّ يوم سبعون ألفا من الملائكة ، ولا يعودون فيه أبدا.
حدثنا ابن المثنى ، قال : ثنا محمد بن جعفر ، قال : ثنا شعبة ، عن سماك بن حرب ،
قال : سمعت خالد بن عرعرة ، قال : سمعت عليا رضي الله عنه ، وخرج إلى الرحبة ،
فقال له ابن الكوّاء أو غيره : ما البيت المعمور ؟ قال : بيت في السماء السادسة
يقال له الضراح ، يدخله كل يوم سبعون ألف مَلَك لا يعودون فيه أبدا.
حدثنا أبو كُرَيب ، قال : ثنا طلق بن غنام ، عن زائدة ، عن عاصم ، عن عليّ بن
ربيعة ، قال : سأل ابن الكوّاء عليا ، رضي الله عنه عن البيت المعمور ، قال : مسجد
في السماء يقال له الضراح ، يدخله كلّ يوم سبعون ألفا من الملائكة ، لا يرجعون فيه
أبدا.
حدثنا ابن حُميد ، قال : ثنا حكام ، عن عنبسة ، عن عبيد المكتب ،
(22/455)
عن أبي الطفيل ، قال : سأل ابن الكوّاء
عليًا عن البيت المعمور ، قال : بيت بحيال البيت العتيق في السماء يدخله كلّ يوم
سبعون ألف مَلك على رسم راياتهم ، يقال له الضراح ، يدخله كلّ يوم سبعون ألفا من
الملائكة ثم لا يرجعون فيه أبدا.
حدثنا ابن حُميد ، قال : ثنا بهرام ، قال : ثنا سفيان ، عن سماك بن حرب ، عن خالد
بن عرعرة ، عن عليّ رضي الله عنه ، قال : سأله رجل عن البيت المعمور ، قال : بيت
في السماء يقال له الضريح قصد البيت ، يدخله كلّ يوم سبعون ألف مَلَك ، ثم لا
يعودون فيه.
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ،
عن ابن عباس ، قوله : ( وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ ) قال : هو بيت حذاء العرش تعمره
الملائكة ، يصلي فيه كل يوم سبعون ألفا من الملائكة ثم لا يعودون إليه.
حدثنا عبد الله بن أحمد بن شبُّويه ، قال : ثنا عليّ بن الحسن ، قال : ثنا حسين ،
قال : سُئل عكرمة وأنا جالس عنده عن البيت المعمور ، قال : بيت في السماء بحيال
الكعبة.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; حدثني الحارث ، قال :
ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله : (
وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ ) قال : بيت في السماء يقال له الضراح.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة(والبيت المعمور) ذكر لما
أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم قال يوما لأصحابه : " هَلْ تَدْرُونَ مَا
البَيْتُ المَعْمُورُ " قالوا : الله ورسوله أعلم ، قال : " فإنَّهُ
مَسْجِدٌ في السَّماء تَحْتَهُ الكَعْبَة لَوْ خَرّ لَخَرّ عَلَيها ، أَوْ عَلَيْه
، يُصَلِّي فِيهِ كُلَّ يَوْمٍ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَك إذَا خَرَجُوا مِنْهُ لَمْ
يَعُودُوا آخرَ مَا عَلَيهِمْ " .
(22/456)
حدُثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ
يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : ( وَالْبَيْتِ
الْمَعْمُورِ ) يزعمون أنه يروح إليه كلّ يوم سبعون ألف مَلك من قبيلة إبليس ، يقال
لهم الجنّ.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : ( وَالْبَيْتِ
الْمَعْمُورِ ) قال : بيت الله الذي في السماء. وقال : قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم : " إنَّ بَيْتَ الله في السماء لَيَدخلُهُ كُلَّ يَوْمٍ طَلَعَتْ
شَمْسُه سَبْعُونَ ألْفَ مَلَك ، ثُمَّ لا يَعُودُونَ فِيهِ أبَدًا بَعْدَ ذَلِك
" .
حدثنا محمد بن مرزوق ، قال : ثنا حجاج ، قال : ثنا حماد ، عن ثابت ، عن أنس ، عن
النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : " البَيْتُ المَعْمُورُ في السَّماءِ
السَّابِعَة يَدخُلُهُ كُلَّ يَوْمٍ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَك ، ثُمَّ لا يَعُودُون
إِلَيهِ حتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ " .
حدثنا محمد بن سِنان القَزّاز ، قال : ثنا موسى بن إسماعيل ، قال : ثنا سليمان عن
ثابت ، عن أنس ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لمّا عَرَجَ بِي
المَلَكُ إلَى السَّماء السَّابِعَة انْتَهَيْتُ إلَى بِنَاء فَقُلْتُ للْمَلَك :
ما هَذَا ؟ قال : هذا بِنَاء بَنَاه اللهُ للمَلائكَةِ يَدخُلُهُ كُلَّ يَوْمٍ
سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَك ، يُقَدِّسُونَ اللهَ ويُسَبِّحُونَهُ ، لا يَعُودُونَ
فِيه " .
وقوله : ( وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ ) يعني بالسقف في هذا الموضع : السماء ،
وجعلها سقفا ، لأنها سماء للأرض ، كسماء البيت الذي هو سقفه.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا هناد بن السريّ ، قال : ثنا أبو الأحوص ، عن سماك ، عن خالد بن عرعرة ، أن
رجلا قال لعليّ رضي الله عنه : ما السقف المرفوع ؟ قال : السماء.
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا عبد الرحمن ، قال : ثنا سفيان ، عن سماك ، عن خالد بن
عُرْعرة ، عن عليّ ، قال : السقف المرفوع : السماء.
(22/457)
حدثنا ابن حُميد ، قال : ثنا مهران ،
قال : ثنا سفيان ، عن سماك بن حرب ، عن خالد بن عُرْعرة ، عن عليّ رضي الله عنه
قال : سأله رجل عن السقف المرفوع ، فقال : السماء.
حدثنا ابن المثنى ، قال : ثنا محمد بن جعفر ، قال : ثنا شعبة ، عن سماك بن حرب ،
قال : سمعت خالد بن عُرْعرة ، قال : سمعت عليًّا يقول : والسقف المرفوع : هو
السماء ، قال : ( وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا وَهُمْ عَنْ
آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ ) .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث ، قال :
ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد(السقف المرفوع) :
قال : السماء.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة(والسقف المرفوع) سقف
السماء.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : ( وَالسَّقْفِ
الْمَرْفُوعِ ) : سقف السماء.
وقوله : ( وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ ) اختلف أهل التأويل في معنى البحر المسجور ،
فقال بعضهم : الموقد. وتأويل ذلك : والبحر الموقد المحميّ.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني يعقوب ، قال : ثنا ابن علية ، عن داود ، عن سعيد بن المسيب ، قال : قال عليّ
رضي الله عنه لرجل من اليهود : أين جهنم ؟ فقال : البحر ، فقال : ما أراه إلا
صادقا ، ( وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ )( وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ ) مخففة.
حدثنا ابن حُميد ، قال : ثنا يعقوب ، عن حفص بن حُميد ، عن شمر بن عطية ، في قوله
: ( وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ ) قال : بمنزلة التنُّور المسجور.
(22/458)
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو
عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث. قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ،
عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد( وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ ) قال : الموقد.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : ( وَالْبَحْرِ
الْمَسْجُورِ ) قال : الموقد ، وقرأ قول الله تعالى : ( وَإِذَا الْبِحَارُ
سُجِّرَتْ ) قال : أوقدت.
وقال آخرون : بل معنى ذلك : وإذا البحار مُلئت ، وقال : المسجور : المملوء.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : ( وَالْبَحْرِ
الْمَسْجُورِ ) الممتلئ.
وقال آخرون : بل المسجور : الذي قد ذهب ماؤه.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي عن أبيه ، عن
ابن عباس في قوله : ( وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ ) قال : سجره حين يذهب ماؤه ويفجر.
وقال آخرون : المسجور : المحبوس.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني علي ، قال : ثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس في
قوله : ( وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ ) يقول : المحبوس.
وأولى الأقوال في ذلك عندي بالصواب قول من قال : معناه : والبحر المملوء المجموع
ماؤه بعضه في بعض ، وذلك أن الأغلب من معاني السجر : الإيقاد ، كما يقال : سجرت
التنور ، بمعنى : أوقدت ، أو الامتلاء على ما
(22/459)
وصفت ، كما قال لبيد :
فتوسطا عُرْضَ السَّريِّ وصدعا... مسجورةً متجاورًا قُلامُها (1)
وكما قال النمر بن تولب العكلي :
إذَا شاءَ طالَعَ مَسْجورةً... تَرَى حَوْلَهَا النَّبْعَ والسَّاسمّا سَقَتْها
رَوَاعِدُ مِنْ صَيّفٍ... وَإنْ مِنْ خَريفٍ فَلَنْ يَعدمَا (2)
فإذا كان ذلك الأغلب من معاني السَّجْر ، وكان البحر غير مُوقَد اليوم ، وكان الله
تعالى ذكره قد وصفه بأنه مسجور ، فبطل عنه إحدى الصفتين ، وهو الإيقاد صحّت الصفة
الأخرى التي هي له اليوم ، وهو الامتلاء ، لأنه كلّ وقت ممتلئ.
وقيل : إن هذا البحر المسجور الذي أقسم به ربنا تبارك وتعالى بحر في السماء تحت
العرش.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حُميد ، قال : ثنا مهران ، عن سفيان ، عن إسماعيل بن أبي خالد ، عن أبي
صالح ، عن عليّ( وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ ) قال : بحر في السماء تحت العرش.0
__________
(1) البيت للبيد من معلقته المشهورة . وقد مر الاستشهاد به عند قوله تعالى في سورة
مريم " قد جعل ربك تحتك سريا " ( 16 : 71 ) فراجعه ثمة .
(2) البيتان للنمر بن تولب العكلي ، كما في خزانة الأدب الكبرى للبغدادي ( 4 : 434
- 42 ) وهما من شواهد أبي عبيدة في مجاز القرآن ( الورقة 228 ب ) عند قوله تعالى
" والبحر المسجور " . والشاعر يصف وعلا . وقوله مسجورة : يريد عينا
كثيرة الماء ، أي مملوءة . والنبع : شجر يتخذ منه القسي . والساسم : قيل هو
الآبنوس . وقيل شجر يشبهه ، ومنابتهما أعالي الجبال . سقتها : أي العين . والرواعد
: جمع راعدة ، وهي السحابة الماطرة ، وفيها صوت الرعد غالبا . والصيف بتشديد الياء
المكسورة : المطر الذي يجيء في الصيف ، والخريف الفصل بين الصيف والشتاء ، يريد
مطر الخريف . يريد الشاعر أن هذا الوعل يشرب من هذه العين المسجورة المملوءة إما
من مطر الصيف وإما من مطر الخريف ، فهو لن يعدم الماء على كل حال . والشاهد في
قوله مسجورة : أي مملوءة .
(22/460)
يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا (9) وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْرًا (10)
قال : ثنا مهران ، قال : وسمعته أنا من
إسماعيل ، قال : ثنا مهران عن سفيان ، عن ليث ، عن مجاهد ، عن عبد الله بن عمرو(
وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ ) قال : بحر تحت العرش.
حدثني محمد بن عمارة ، قال : ثنا عبيد الله بن موسى ، قال : أخبرنا إسماعيل بن أبي
خالد ، عن أبي صالح في قوله : ( وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ ) قال : بحر تحت العرش.
وقوله : ( إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ ) يقول تعالى ذكره لنبيه صلى الله عليه
وسلم : ( إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ ) يا محمد ، لكائن حالّ بالكافرين به
يوم القيامة.
كما حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( إِنَّ عَذَابَ
رَبِّكَ لَوَاقِعٌ ) وقع القسم ها هنا( إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ ) وذلك
يوم القيامة.
وقوله : ( مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ ) يقول : ما لذلك العذاب الواقع بالكافرين من
دافع يدفعه عنهم ، فينقذهم منه إذا وقع.
القول في تأويل قوله تعالى : { يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا (9) وَتَسِيرُ
الْجِبَالُ سَيْرًا (10) }
يقول تعالى ذكره : إن عذاب ربك لواقع( يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا ) فيوم
من صلة واقع ، ويعني بقوله : تمور : تدور وتكفأ. وكان معمر بن المثنى يُنشد بيت
الأعشى :
كأنَّ مشْيتَها مِنْ بَيْتِ جارَتها... مَوْرُ السَّحابَة لا رَيْثٌ ولا عَجًلُ
(1)
فالمور على روايته : التكفي والترهيل في المشية ، وأما غيره فإنه كان يرويه
__________
(1) هذا البيت لأعشى بني قيس بن ثعلبة ( ديوانه طبعة القاهرة 55 ) وهو من شواهد
أبي عبيدة في مجاز القرآن ( الورقة 228 ب ) والرواية فيه : مور السحابة في موضع
" مر السحابة " في رواية الديوان. وقد أنشده شاهدًا على قوله تعالى : (
يوم تمور السماء مورًا ) أي تكفأ ، وهو أن ترهيأ في مشيتها ، أي ترهيأ كما ترهيأ
النخلة العيدانة . وقال في ( اللسان : رهأ ) الرهيأة : الضعف والعجز والتواني ،
والمراة ترهيأ في مشيتها أي تكفأ كما ترهيأ النخلة العيدانة أ . هـ .
(22/461)
مرّ السحابة.
واختلف أهل التأويل في تأويل ذلك ، فقال بعضهم فيه نحو الذي قلنا فيه.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : ثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ،
قوله : ( يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا ) قال : يقول : تحريكا.
حدثنا ابن المثنى وعمرو بن مالك ، قالا حدثنا أبو معاوية الضرير ، عن سفيان بن
عُيينة ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله : ( يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا
) قال : تدور السماء دورا.
حدثنا الحسن بن عليّ الصدائي ، قال : ثنا إبراهيم بن بشار ، قال : ثنا سفيان بن
عيينة قال : أخبروني عن معاوية الضرير ، عني ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد( يَوْمَ
تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا ) قال : تدور دورا.
حدثنا هارون بن حاتم المقري ، قال : ثنا سفيان بن عيينة ، قال : ثني أبو معاوية ،
عني ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد( يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا ) قال :
تدور دورا.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : ( يَوْمَ
تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا ) مورها : تحريكها.
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : ثنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول
في قوله : ( يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا ) يعني : استدارتها وتحريكها لأمر
الله ، وموج بعضها في بعض.
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا مهران ، عن سفيان ، قال : قال الضحاك( يَوْمَ تَمُورُ
السَّمَاءُ مَوْرًا ) قال : تموج بعضها في بعض ، وتحريكها لأمر الله.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : ( يَوْمَ
تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا ) قال : هذا يوم القيامة ، وأما المور : فلا علم لنا
به.
(22/462)
فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (11) الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ (12) يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا (13) هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (14)
وقال آخرون : مورها : تشققها.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ،
عن ابن عباس ، قوله : ( يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا ) قال : يوم تشقَّق
السماء.
وقوله : ( وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْرًا ) يقول : وتسير الجبال عن أماكنها من
الأرض سيرا ، فتصير هباء منبثا.
القول في تأويل قوله تعالى : { فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (11)
الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ (12) يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ
جَهَنَّمَ دَعًّا (13) هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (14)
}
يقول تعالى ذكره : فالوادي الذي يسيل من قيح وصديد في جهنم ، يوم تمور السماء مورا
، وذلك يوم القيامة للمكذّبين بوقوع عذاب الله للكافرين ، يوم تمور السماء مورا.
وكان بعض نحويّي البصرة يقول : أدخلت الفاء في قوله : ( فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ )
لأنه في معنى إذا كان كذا وكذا ، فأشبه المجازاة ، لأن المجازاة يكون خبرها
بالفاء. وقال بعض نحويّي الكوفة : الأوقات تكون كلها جزاء مع الاستقبال ، فهذا من
ذاك ، لأنهم قد شبهوا " إن " وهي أصل الجزاء بحين ، وقال : إن مع يوم
إضمار فعل ، وإن كان التأويل جزاء ، لأن الإعراب يأخذ ظاهر الكلام ، وإن كان
المعنى جزاء.
وقوله : ( الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ ) يقول : الذين هم في فتنة
واختلاط في الدنيا يلعبون ، غافلين عما هم صائرون إليه من عذاب الله في الآخرة.
وقوله : ( يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا ) يقول تعالى ذكره :
فويل
(22/463)
للمكذبين يوم يُدَعُّونَ.
وقوله : ( يَوْمَ يُدَعُّونَ ) ترجمة عن قوله : ( يَوْمَئِذٍ ) وإبدال منه. وعنى
بقوله : ( يُدَعُّونَ ) يدفعون بإرهاق وإزعاج ، يقال منه : دعَعْت في قفاه : إذا
دفعت فيه.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني سليمان بن عبد الجبار ، قال : ثنا أبو كدينة ، عن قابوس ، عن أبيه ، عن ابن
عباس( يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا ) قال : يدفع في أعناقهم
حتى يردوا النار.
حدثني عليّ ، قال : ثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ،
قوله : ( يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا ) يقول : يدفعون.
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ،
عن ابن عباس ، قوله : ( يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا ) قال :
يدفعون فيها دفعا.
حدثنا ابن حُمَيد ، قال : ثنا يحيى بن واضح ، قال : ثنا الحسين ، عن يزيد ، عن
عكرمة( يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا ) يقول : يدفعون إلى نار
جهنم دفعا.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث ، قال :
ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن أبن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله : (
يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ ) قال : يدفعون.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى
نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا ) قال : يزعجون إليها إزعاجا.
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة بنحوه.
(22/464)
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ
، يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : ( يَوْمَ يُدَعُّونَ
إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا ) الدعّ : الدفع والإرهاق.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قول الله : ( يَوْمَ
يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا ) قال : يدفعون دفعا ، وقرأ قول الله
تبارك وتعالى : ( فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ ) قال : يدفعه ، ويغلظ
عليه.
وقوله : ( هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ ) يقول تعالى ذكره
: يقال لهم : هذه النار التي كنتم بها في الدنيا تكذّبون ، فتجحدون أن تردوها ،
وتصلوها ، أو يعاقبكم بها ربكم وترك ذكر يُقال لهم ، اجتزاء بدلالة الكلام عليه.
(22/465)
أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لَا تُبْصِرُونَ (15) اصْلَوْهَا فَاصْبِرُوا أَوْ لَا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (16) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ (17) فَاكِهِينَ بِمَا آَتَاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقَاهُمْ رَبُّهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (18)
القول في تأويل قوله تعالى : { أَفَسِحْرٌ
هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ (15) اصْلَوْهَا فَاصْبِرُوا أَوْ لا
تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (16)
}
يقول تعالى ذكره مخبرا عما يقول لهؤلاء المكذبين الذين وصف صفتهم إذا وردوا جهنم
يوم القيامة : أفسحر أيها القوم هذا الذي وردتموه الآن أم أنتم لا تعاينونه ولا
تبصرونه ؟ وقيل هذا لهم توبيخا لا استفهاما.
وقوله : ( اصْلَوْها ) يقول : ذوقوا حرّ هذه النار التي كنتم بها تكذبون ، وردوها
فاصبروا على ألمها وشدتها ، أو لا تصبروا على ذلك ، سواء عليكم صبرتم أو لم تصبروا(
إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ) يقول : ما تجزون إلا أعمالكم : أي
لا تعاقبون إلا على معصيتكم في الدنيا ربكم وكفركم.
القول في تأويل قوله تعالى : { إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ (17)
فَاكِهِينَ بِمَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقَاهُمْ رَبُّهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ
(18) }
(22/465)
كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (19) مُتَّكِئِينَ عَلَى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (20)
يقول تعالى ذكره : إن الذين اتقوا الله
بأداء فرائضه ، واجتناب معاصيه في جنات : يقول في بساتين ونعيم فيها ، وذلك في
الآخرة.
وقوله : ( فَاكِهِينَ ) يقول : عندهم فاكهة كثيرة ، وذلك نظير قول العرب للرجل
يكون عنده تمر كثير : رجل تامر ، أو يكون عنده لبن كثير ، فيقال : هو لابن ، كما
قال الحُطَيئة :
أَغَرَرْتَني وَزَعمْتَ أنَّك... لابنٌ في الصَّيف تامِرْ (1)
وقوله : ( بِمَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ ) يقول : عندهم فاكهة كثيرة بإعطاء الله إياهم
ذلك( وَوَقَاهُمْ رَبُّهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ ) يقول : ورفع عنهم ربهم عقابه
الذي عذَّب به أهل الجحيم.
القول في تأويل قوله تعالى : { كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ
تَعْمَلُونَ (19) مُتَّكِئِينَ عَلَى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ
عِينٍ (20) }
يقول تعالى ذكره : كلوا واشربوا ، يقال لهؤلاء المتقين في الجنات : كلوا أيها
القوم مما آتاكم ربكم ، واشربوا من شرابها هنيئا ، لا تخافون مما تأكلون وتشربون
فيها أذى ولا غائلة بما كنتم تعملون في الدنيا لله من الأعمال.
وقوله : ( مُتَّكِئِينَ عَلَى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ ) قد جعلت صفوفا ، وترك قوله :
على نمارق ، اكتفاء بدلالة ما ذكر من الكلام عليه.
__________
(1) البيت للحطيئة ( ديوانه 17 ) . واستشهد به المؤلف على أن معنى قوله تعالى (
فاكهين بما آتاهم ربهم ) أي عندهم فاكهة كثيرة ، وهو مثل قوله الحطيئة " لابن
" و " تامر " أي ذو لبن وذو تمر ، أي عندك منهما في الصيف كثير .
وقال السكري في شرح الديوان : يعني أنك غررتني ، وزعمت أنك تطعمني التمر واللبن ،
فقنعت بهما ، فلم تفعل أ . هـ . يمدح بغيضا ويهجو الزبرقان . وقد تقدم الاستشهاد
بالبيت في الجزء ( 23 : 19 ) وشرحناه بأوسع من شرحه هنا ، فراجعه ثمة .
(22/466)
وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ (21)
وقوله : ( وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ
عِينٍ ) يقول تعالى ذكره : وزوّجنا الذكور من هؤلاء المتقين أزواجا بحور عين من
النساء ، يقول الرجل : زوّج هذا الخلف الفرد أو النعل الفرد بهذا الفرد ، بمعنى :
اجعلهما زوجا. وقد بينَّا معنى الزوج فيما مضى بما أغنى عن إعادته ها هنا ،
والحُور : جمع حَوْراء ، وهي الشديدة بياض مقلة العين في شدة سواد الحدقة.
وقد ذكرت اختلاف أهل التأويل في ذلك ، وبيَّنت الصواب فيه عندنا بشواهده المغنية
عن إعادتها في هذا الموضع ، والعين : جمع عَيْنَاء ، وهي العظيمة العَيْن في حُسن
وسعة.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ
ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ
مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ (21) }
اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك ، فقال بعضهم : معناه : والذين آمنوا وأتبعناهم
ذرياتهم بإيمان ، ألحقنا بهم ذرياتهم المؤمنين في الجنة ، وإن كانوا لم يبلغوا
بأعمالهم درجات آبائهم ، تكرمة لآبائهم المؤمنين ، وما ألتنا آباءهم المؤمنين من
أجور أعمالهم من شيء.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا عبد الرحمن ، قال : ثنا شعبة ، عن عمرو بن مرّة ، عن
سعيد بن جُبَير ، عن ابن عباس ، في هذه الآية : (والَّذين آمَنُوا وأتْبَعْناهُم
ذُرّيَّاتِهِمْ بإيمانٍ) فقال : إن الله تبارك وتعالى يرفع للمؤمن ذريته ، وإن
كانوا دونه في العمل ، ليقرّ الله بهم عينه.
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا مؤمل ، قال : ثنا سفيان ، عن عمرو بن مرّة ، عن سعيد
بن جُبَير ، عن ابن عباس ، قال : إن الله تبارك وتعالى ليرفع ذرّية المؤمن
(22/467)
في درجته ، وإن كانوا دونه في العمل ،
ليقرَّ بهم عينه ، ثم قرأ " والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم
ذرياتهم وما ألتناهم من عملهم من شيء " .
حدثنا ابن حُميد ، قال : ثنا مهران ، عن سفيان ، عن عمرو بن مرّة الجملي ، عن سعيد
بن جُبير ، عن ابن عباس ، قال : إن الله تبارك وتعالى ليرفع ذريَّة المؤمن معه في
درجته ، ثم ذكر نحوه ، غير أنه قرأ(وأتْبَعْناهُم ذُرّيَّاتِهِمْ بإيمانٍ
أَلْحَقْنَا بهم ذرّيَّاتِهِمْ).
حدثني موسى بن عبد الرحمن المسروقي ، قال : ثنا محمد بن بشر ، قال : ثنا سفيان بن
سعيد ، عن سماعة ، عن عمرو بن مرّة ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، نحوه.
حدثنا ابن المثنى ، قال : ثنا محمد بن جعفر ، قال : ثنا شعبة ، عن عمرو بن مرّة ،
عن سعيد بن جُبَير عن ابن عباس ، أنه قال في هذه الآية(والَّذِينَ آمَنُوا
وأتْبَعْناهُم ذُرّيَّاتِهِمْ بإيمانٍ) قال : المؤمن ترفع له ذرّيته ، فيلحقون به
، وإن كانوا دونه في العمل.
وقال آخرون : بل معنى ذلك : والذين آمنوا وأتبعناهم ذرّيَّاتهم التي بلغت الإيمان
بإيمانٍ ، ألحقنا بهم ذرياتهم الصغار التي لم تبلغ الإيمان ، وما ألتنا الآباء من
عملهم من شيء.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي عن أبيه ، عن
ابن عباس ، قوله : (والَّذين آمَنُوا وأتْبَعْناهُم ذُرّيَّاتِهِمْ بإيمانٍ
أَلْحَقْنَا بهم ذرّيَّاتِهِمْ) يقول : الذين أدرك ذريتهم الإيمان ، فعملوا بطاعتي
، ألحقتهم بإيمانهم إلى الجنة ، وأولادهم الصغار نلحقهم بهم.
حدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك
يقول في قوله : (والَّذين آمَنُوا وأتْبَعْناهُم ذُرّيَّاتِهِمْ بإيمانٍ
أَلْحَقْنَا
(22/468)
بهم ذرّيَّاتِهِمْ) يقول : من أدرك
ذريته الإيمان ، فعملوا بطاعتي ألحقتهم بآبائهم في الجنة ، وأولادهم الصغار أيضا
على ذلك.
وقال آخرون نحو هذا القول ، غير أنهم جعلوا الهاء والميم في قوله : ( أَلْحَقْنَا
بِهِمْ ) من ذكر الذرّية ، والهاء والميم في قوله : ذرّيتهم الثانية من ذكر الذين.
وقالوا : معنى الكلام : والذين آمنوا واتبعتهم ذرّيتهم الصغار ، وما ألتنا الكبار
من عملهم من شيء.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : (والَّذين
آمَنُوا وأتْبَعْناهُم ذُرّيَّاتِهِمْ بإيمانٍ أَلْحَقْنَا بهم ذرّيَّاتِهِمْ) قال
: أدرك أبناؤهم الأعمال التي عملوا ، فاتبعوهم عليها واتبعتهم ذرّياتهم التي لم
يدركوا الأعمال ، فقال الله جلّ ثناؤه( وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ
شَيْءٍ ) قال : يقول : لم نظلمهم من عملهم من شيء فننقصهم ، فنعطيه ذرّياتهم الذين
ألحقناهم بهم ، الذين لم يبلغوا الأعمال ألحقتهم بالذين قد بلغوا الأعمال.
وقال آخرون : بل معنى ذلك( وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ
بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ ) فأدخلناهم الجنة بعمل آبائهم ،
وما ألتنا الآباء من عملهم من شيء.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا المعتمر بن سليمان ، قال : سمعت داود يحدّث عن
عامر ، أنه قال في هذه الآية(والَّذين آمَنُوا وأتْبَعْناهُم ذُرّيَّاتِهِمْ
بإيمانٍ أَلْحَقْنَا بهم ذرّيَّاتِهِمْ وَمَا أَلَتْنَاهُم مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ
شَيءٍ) فأدخل الله الذرّية بعمل الآباء الجنة ، ولم ينقص الله الآباء من عملهم
شيئا ، قال : فهو قوله : ( وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ ) .
حدثنا ابن المثنى ، قال : ثنا ابن أبي عديّ ، عن داود ، عن سعيد بن جبير
(22/469)
أنه قال في قول الله : (أَلْحَقْنَا
بهم ذرّيَّاتِهِمْ وَمَا أَلَتْنَاهُم مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيءٍ) قال : ألحق
الله ذرياتهم بآبائهم ، ولم ينقص الآباء من أعمالهم ، فيردَّه على أبنائهم.
وقال آخرون : إنما عنى بقوله : " أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ " :
أعطيناهم من الثواب ما أعطينا الآباء.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا عبد الرحمن ، قال : ثنا سفيان ، عن قيس بن مسلم ، قال
: سمعت إبراهيم في قوله : (وأتْبَعْناهُم ذُرّيَّاتِهِمْ بإيمانٍ أَلْحَقْنَا بهم
ذرّيَّاتِهِمْ) قال : أعطوا مثل أجور آبائهم ، ولم ينقص من أجورهم شيئًا.
حدثنا ابن حُمَيد ، قال : ثنا مهران ، عن سفيان ، عن قيس بن مسلم ، عن
إبراهيم(وأتْبَعْناهُم ذُرّيَّاتِهِمْ بإيمانٍ أَلْحَقْنَا بهم ذرّيَّاتِهِمْ) قال
: أعطوا مثل أجورهم ، ولم ينقص من أجورهم.
قال : ثنا حكام ، عن أبي جعفر ، عن الربيع(وأتْبَعْناهُم ذُرّيَّاتِهِمْ بإيمانٍ)
يقول : أعطيناهم من الثواب ما أعطيناهم( وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ
شَيْءٍ ) يقول : ما نقصنا آباءهم شيئا.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتاده ، قوله : (والَّذين
آمَنُوا وأتْبَعْناهُم ذُرّيَّاتِهِمْ) كذلك قالها يزيد(ذُرّيَّاتِهِمْ بإيمانٍ
أَلْحَقْنَا بهم ذرّيَّاتِهِمْ) قال : عملوا بطاعة الله فألحقهم الله بآبائهم.
وأولى هذه الأقوال بالصواب وأشبهها بما دلّ عليه ظاهر التنزيل ، القول الذي ذكرنا
عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، وهو : والذين آمنوا بالله ورسوله ، وأتبعناهم
ذرياتهم الذين أدركوا الإيمان بإيمان ، وآمنوا بالله ورسوله ، ألحقنا بالذين آمنوا
ذريتهم الذين أدركوا الإيمان فآمنوا ، في الجنة فجعلناهم معهم في درجاتهم ، وإن
قصرت أعمالهم عن أعمالهم تكرمة منا لآبائهم ، وما ألتناهم
(22/470)
من أجور عملهم شيئا.
وإنما قلت : ذلك أولى التأويلات به ، لأن ذلك الأغلب من معانيه ، وإن كان للأقوال
الأخر وجوه.
واختلفت القرّاء في قراءة قوله : (وأتْبَعْناهُم ذُرّيَّاتِهِمْ بإيمانٍ
أَلْحَقْنَا بهم ذرّيَّاتِهِمْ) فقرأ ذلك عامه قرّاء المدينة( وَاتَّبَعَتْهُمْ
ذُرِّيَّتُهُمْ ) على التوحيد بإيمان(أَلْحَقْنَا بهم ذرّيَّاتِهِمْ) على الجمع ،
وقرأته قراء الكوفة( وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا
بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ ) كلتيهما بإفراد. وقرأ بعض قرّاء البصرة وهو أبو
عمرو(وأتْبَعْناهُم ذُرّيَّاتِهِمْ بإيمانٍ أَلْحَقْنَا بهم ذرّيَّاتِهِمْ).
والصواب من القول في ذلك أن جميع ذلك قراءات معروفات مستفيضات في قراءة الأمصار ،
متقاربات المعاني ، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب.
وقوله : ( وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ ) يقول تعالى ذكره :
وما ألتنا الآباء ، يعني بقوله : ( وَمَا أَلَتْنَاهُمْ ) : وما نقصناهم من أجور
أعمالهم شيئا ، فنأخذه منهم ، فنجعله لأبنائهم الذين ألحقناهم بهم ، ولكنا
وفَّيناهم أجور أعمالهم ، وألحقنا أبناءهم بدرجاتهم ، تفضلا منا عليهم. والألت في
كلام العرب : النقص والبخس ، وفيه لغة أخرى ، ولم يقرأ بها أحد نعلمه ، ومن الألت
قول الشاعر :
أبْلغْ بني ثُعَل عَنَّي مُغلغَلَةً... جَهْدَ الرّسالة لا ألْتا ولا كَذبا (1)
يعني : لا نُقصان ولا زيادة.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
__________
(1) البيت من شواهد الفراء في معاني القرآن ( الورقة 313 - 314 ) قال : وقوله :
" وما ألتناهم " الألت : النقص . وفيه لغة أخرى : " وما ألتناهم من
عملهم من شيء " . وكذلك هي في قراءة عبد الله ( ابن مسعود ) وأبي بن كعب ،
قال الشاعر : " أبلغ بني ثعل ... البيت " . يقول : لا نقصان ولا زيادة .
وقال الآخر ( نسبه أبو عبيدة إلى رؤبة ) : وليلة ذات ندى سريت ... ولم يلتني عن
سراها ليت
والليت هاهنا : لم يثنني عنها نقص بي ، ولا عجز عنها . وفي ( اللسان : ليت ) :
" ولاته عن وجهه يليته ويلوته لوتا : أي حبسه عن وجهه وصرفه . قال الراجز :
" وليلة ذات ندى ... البيتين " أ . هـ . وقال أبو عبيدة في مجاز القرآن
: " وما ألتناهم " : أي ما نقصناهم ولا حبسنا منه شيئا أ . هـ .
(22/471)
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن بشار قال : ثنا مؤمل قال : ثنا سفيان ، عن عمرو بن مرّة ، عن سعيد بن
جبير ، عن ابن عباس( وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ ) قال : ما
نقصناهم.
حدثني علي قال : ثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن ابن عباس قوله : ( وَمَا
أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ ) يقول : ما نقصناهم.
وحدثني موسى بن عبد الرحمن ، قال : ثنا موسى بن بشر ، قال : ثنا سفيان بن سعيد ،
عن سماعة عن (1) عمرو بن مرّة ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس( وَمَا
أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ ) قال : وما نقصناهم.
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا عبد الرحمن ، قال : ثنا سفيان ، عن ابن أبي نجيح ، عن
مجاهد( وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ ) قال : ما نقصنا الآباء
للأبناء.
حدثنا ابن حُميد ، قال : ثنا مهران ، عن سفيان ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قال
: ما نقصنا الآباء للأبناء ، ( وَمَا أَلَتْنَاهُمْ ) قال : وما نقصناهم.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث ، قال :
ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : ( وَمَا
أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ ) قال : نقصناهم.
حدثنا ابن حُميد ، قال : ثنا حكام ، عن أبي جعفر ، عن الربيع بن أنس( وَمَا
أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ ) يقول : ما نقصنا آباءهم شيئا.
__________
(1) في المطبوعة : عن سماعة بن عمر بن مرة . تحريف .
(22/472)
وَأَمْدَدْنَاهُمْ بِفَاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (22) يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْسًا لَا لَغْوٌ فِيهَا وَلَا تَأْثِيمٌ (23)
قال ثنا مهران ، عن أبي جعفر ، عن
الربيع بن أنس ، مثله.
حدثنا ابن المثنى ، قال : ثنا محمد بن جعفر ، قال : ثنا شعبة ، عن أبي المعلى ، عن
سعيد بن جبير( وَمَا أَلَتْنَاهُمْ ) قال : وما ظلمناهم.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : ( وَمَا
أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ ) يقول : وما ظلمناهم من عملهم من شيء.
حدثني محمد بن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة( وَمَا
أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ ) يقول : وما ظلمناهم.
وحُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك
يقول في قوله : ( وَمَا أَلَتْنَاهُمْ ) يقول : وما ظلمناهم.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : ( وَمَا
أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ ) قال : يقول : لم نظلمهم من عملهم من شيء : لم
ننتقصهم فنعطيه ذرّياتهم الذين ألحقناهم بهم لم يبلغوا الأعمال ألحقهم بالذين قد
بلغوا الأعمال( وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ ) قال : لم يأخذ
عمل الكبار فيجزيه الصغار ، وأدخلهم برحمته ، والكبار عملوا فدخلوا بأعمالهم.
وقوله : ( كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ ) يقول : كلّ نفس بما كسبت وعملت من
خير وشرّ مرتهنة لا يؤاخذ أحد منهم بذنب غيره ، وإنما يعاقب بذنب نفسه.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَأَمْدَدْنَاهُمْ بِفَاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا
يَشْتَهُونَ (22) يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْسًا لا لَغْوٌ فِيهَا وَلا تَأْثِيمٌ
(23) }
(22/473)
يقول تعالى ذكره : وأمددنا هؤلاء الذين
آمنوا بالله ورسوله ، واتبعتهم ذريتهم بإيمان في الجنة ، بفاكهة ولحم مما يشتهون
من اللحمان.
وقوله : ( يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْسًا ) يقول : يتعاطون فيها كأس الشراب ،
ويتداولونها بينهم ، كما قال الأخطل :
نَازَعْتُهُ طَيِّبَ الرَّاح الشَّمول وقَدْ... صَاحَ الدَّجاجُ وحَانَتْ وَقْعَةُ
السَّاري (1)
وقوله( لا لَغْوٌ فِيهَا ) يقول : لا باطل في الجنة ، والهاء في قوله " فيها
" من ذكر الكأس ، ويكون المعنى لما فيها الشراب بمعنى : أن أهلها لا لغو
عندهم فيها ولا تأثيم ، واللغو : الباطل.
وقوله : ( وَلا تَأْثِيمٌ ) يقول : ولا فعل فيها يُؤْثم صاحبه. وقيل : عنى
بالتأثيم : الكذب.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : ثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ،
قوله : ( لا لَغْوٌ فِيهَا ) يقول : لا باطل فيها.
وقوله : ( وَلا تَأْثِيمٌ ) يقول : لا كذب.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث ، قال :
ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : ( لا
لَغْوٌ فِيهَا ) قال : لا يستبون( وَلا تَأْثِيمٌ ) يقول : ولا يؤثمون.
حدثنا بشر ، قال ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : ( لا
__________
(1) البيت للأخطل وهو من شواهد أبي عبيدة في معاني القرآن ( الورقة 229 ) قال :
" يتنازعون فيها كأسا " : يتعاطون أي يتداولون قال الأخطل : "
نازعته ... البيت " أ . هـ . وفي ( اللسان : نزع ) : ومنازعة الكأس :
معاطاتها ؛ قال الله عز وجل ( يتنازعون فيها كأسا لا لغو فيها ولا تأثيم ) : أي
يتعاطون . والأصل فيه : يتجاذبون ، ويقال : نازعني فلان بنانه : أي صافحني .
والمنازعة المصافحة ؛ قال الراعي : ينُازِعْنَنا رَخْصَ البنانِ كأنَّمَا ...
يُنَنازِعْننا هُدّابَ رَيْطٍ مُعَضّدٍ
المنازعة : المجاذبة في الأعيان والمعاني أ . هـ .
(22/474)
وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ (24) وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (25)
لَغْوٌ فِيهَا وَلا تَأْثِيمٌ ) : أي
لا لغو فيها ولا باطل ، إنما كان الباطل في الدنيا مع الشيطان.
وحدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتاده ، في قوله :
( لا لَغْوٌ فِيهَا وَلا تَأْثِيمٌ ) قال : ليس فيها لغو ولا باطل ، إنما كان
اللغو والباطل في الدنيا.
واختلفت القرّاء في قراءة قوله : ( لا لَغْوٌ فِيهَا وَلا تَأْثِيمٌ ) فقرأ ذلك
عامة قرّاء المدينة والكوفة( لا لَغْوٌ فِيهَا وَلا تَأْثِيمٌ ) بالرفع والتنوين
على وجه الخبر ، على أنه ليس في الكأس لغو ولا تأثيم. وقرأه بعض قرّاء البصرة(لا
لَغْوَ فيها وَلا تَأْثِيَمَ) نصبا غير منوّن على وجه التبرئة.
والقول في ذلك عندي أنهما قراءتان معروفتان ، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب ، وإن كان
الرفع والتنوين أعجب القراءتين إليّ لكثرة القراءة بها ، وأنها أصحّ المعنيين.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ
لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ (24) وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (25)
}
(22/475)
قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ (26) فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ (27) إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ (28)
يقول تعالى ذكره : ويطوف على هؤلاء
القوم الذين وصف صفتهم في الجنة غلمان لهم ، كأنهم لؤلؤ في بياضه وصفائه مكنون ،
يعني : مصون في كنّ ، فهو أنقى له ، وأصفى لبياضه. وإنما عنى بذلك أن هؤلاء
الغلمان يطوفون على هؤلاء المؤمنين في الجنة بكئوس الشراب التي وصف جل ثناؤه
صفتها.
وقد حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة قوله : ( وَيَطُوفُ
عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ ) ذُكر لنا أن رجلا
قال : يا نبيّ الله هذا الخادم ، فكيف المخدوم ؟ قال : " والذي نفس محمد ييده
، إن فضل المخدوم على الخادم كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب " .
وحدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، في قوله : (
كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ ) قال : بلغني أنه قيل : يا رسول الله هذا الخادم
مثل اللؤلؤ ، فكيف المخدوم ؟ قال : " والَّذي نَفْسِي بِيَدهِ إنَّ فَضْل ما
بَيْنَهُمَا كفَضْل القَمَر لَيْلَة البَدر على النجوم " .
وقوله : ( وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ ) . . . الآية ، يقول تعالى ذكره :
وأقبل بعض هؤلاء المؤمنين في الجنة على بعض ، يسأل بعضهم بعضا. وقد قيل : إن ذلك
يكون منهم عند البعث من قبورهم.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : ثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس في
قوله : ( وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ ) قال : إذا بعثوا في
النفخة الثانية.
القول في تأويل قوله تعالى : { قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا
مُشْفِقِينَ (26) فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ (27)
إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ (28) }
يقول تعالى ذكره : قال بعضهم لبعض : إنا أيها القوم كنا في أهلنا في الدنيا
مُشفقين خائفين من عذاب الله وجلين أن يعذبنا ربنا اليوم( فَمَنَّ اللَّهُ
عَلَيْنَا ) بفضله( وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ ) يعني : عذاب النار ، يعني
فنجَّانا من النار ، وأدخلنا الجنة.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
(22/476)
فَذَكِّرْ فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلَا مَجْنُونٍ (29) أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ (30) قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ (31)
* ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : ( عَذَابَ
السَّمُومِ ) قال : عذاب النار.
وقوله : ( إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ ) يقول : إنا كنا في الدنيا من قبل
يومنا هذا ندعوه : نعبده مخلصا له الدين ، لا نشرك به شيئا( إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ
) يعني : اللطيف بعباده.
كما حدثنا عليّ ، قال : ثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس
، قوله : ( إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ ) يقول : اللطيف.
وقوله : ( الرَّحِيمِ ) يقول : الرحيم بخلقه أن يعذّبهم بعد توبتهم.
واختلفت القرّاء في قراءة قوله : ( إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ ) فقرأته عامة قراء
المدينة " أَنَّهُ " بفتح الألف ، بمعنى : إنا كنا من قبل ندعوه لأنه
البرّ ، أو بأنه هو البرّ. وقرأ ذلك عامة قرّاء الكوفة والبصرة بالكسر على
الابتداء.
والصواب من القول في ذلك ، أنهما قراءتان معروفتان ، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب.
القول في تأويل قوله تعالى : { فَذَكِّرْ فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ
بِكَاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ (29) أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ
الْمَنُونِ (30) قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ (31)
}
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : فذكر يا محمد من أرسلت إليه من
قومك وغيرهم ، وعظهم بنعم الله عندهم( فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ
وَلا مَجْنُونٍ ) يقول فلست بنعمة الله عليك بكاهن تتكهن ، ولا مجنون له رئيّ يخبر
عنه قومه ما أخبره به ، ولكنك رسول الله ، والله لا يخذلك ، ولكنه 478.
(22/477)
وقوله : ( أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ
نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ ) يقول جلّ ثناؤه : بل يقول المشركون يا محمد
لك : هو شاعر نتربص به حوادث الدهر ، يكفيناه بموت أو حادثة متلفة.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل وإن اختلفت عباراتهم عنه ، فقال بعضهم فيه
كالذي قلنا. وقال بعضهم : هو الموت.
ذكر من قال : عنى بقوله : ( رَيْبَ الْمَنُونِ ) : حوادث الدهر :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ؛ وحدثني الحارث ، قال
: ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : (
رَيْبَ الْمَنُونِ ) قال : حوادث الدهر.
حدثنا ابن حُميد ، قال : ثنا مهران ، عن سفيان ، قال : قال مجاهد( رَيْبَ
الْمَنُونِ ) حوادث الدهر.
ذكر من قال : عنى به الموت : حدثني عليّ ، قال : ثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية
، عن علي ، عن ابن عباس ، قوله : ( رَيْبَ الْمَنُونِ ) يقول : الموت.
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ،
عن ابن عباس ، قوله : ( نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ ) قال : يتربصون به
الموت.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : ( أَمْ
يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ ) قال : قال ذلك قائلون من
الناس : تربصوا بمحمد رسول الله صلى الله عليه وسلم الموت يكفيكموه ، كما كفاكم
شاعر بني فلان وشاعر بني فلان.
(22/478)
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن
ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، في قوله : ( رَيْبَ الْمَنُونِ ) قال : هو الموت ،
نتربص به الموت ، كما مات شاعر بني فلان ، وشاعر بني فلان.
وحدثني سعيد بن يحيى الأموي ، قال : ثني أبي ، قال : ثنا محمد بن إسحاق ، عن عبد
الله بن أبي نجيح ، عن مجاهد ، عن ابن عباس أن قريشا لما اجتمعوا في دار الندوة في
أمر النبي صلى الله عليه وسلم قال قائل منهم : احبسوه في وثاق ، ثم تربصوا به
المنون حتى يهلك كما هلك من قبله من الشعراء زهير والنابغة ، إنما هو كأحدهم ،
فأنزل الله في ذلك من قولهم : ( أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ
الْمَنُونِ ) .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : ( نَتَرَبَّصُ
بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ ) الموت ، وقال الشاعر :
تَرَبَّصْ بِها رَيْبَ المَنُونِ لَعَلَّهَا... سَيَهْلِكُ عَنْها بَعْلها أو
" تُسَرَّحُ " (1)
وقال آخرون : معنى ذلك : ريب الدنيا ، وقالوا : المنون : الموت.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حُميد ، قال : ثنا مهران ، عن أبي سنان( رَيْبَ الْمَنُونِ ) قال : ريب
الدنيا ، والمنون : الموت.
وقوله : ( قُلْ تَرَبَّصُوا ) يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : قل
يا محمد لهؤلاء المشركين الذين يقولون لك : إنك شاعر نتربص بك ريب المنون ، تربصوا
: أي انتظروا وتمهلوا فيّ ريب المنون ، فإني معكم من المتربصين بكم ، حتى يأتي أمر
الله فيكم.
__________
(1) وضعنا كلمة " تسرح " في قافية البيت في مكان " شحيح "
التي جاءت في الأصل خطأ ، فاختل بها معنى البيت ووزنه . على أن رواية الشطر الثاني
كله في اللسان : ربص . وفي تفسير الشوكاني ( 5 : 96 ) وفي البحر المحيط لأبي حيان
( 8 : 151 ) والقرطبي ( 17 : 72 ) مختلفة عن رواية المؤلف . وهو : * تطلق يوما أو
يموت حليلها *
والسراح والتسريح : هو الطلاق ، وفي التنزيل : " فسرحوهن سراحا جميلا "
. ومعنى التربص : الانتظار . وتربص به : انتظر به خيرا أو شرا . وتربص به الشيء :
كذلك . وقال الفراء في معاني القرآن ( الورقة 314 ) " نتربص به ريب المنون
" : أوجاع الدهر ، فيشغل عنكم ، ويتفرق أصحابه ؛ أو عمر آبائه ، فإنا قد
عرفنا أعمارهم أ . هـ .
(22/479)
أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلَامُهُمْ بِهَذَا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ (32) أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لَا يُؤْمِنُونَ (33) فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ (34)
القول في تأويل قوله تعالى : { أَمْ
تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ بِهَذَا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ (32) أَمْ
يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لا يُؤْمِنُونَ (33) فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ
إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ (34) }
يقول تعالى ذكره : أتأمر هؤلاء المشركين أحلامهم بأن يقولوا لمحمد صلى الله عليه
وسلم : هو شاعر ، وأن ما جاء به شعر( أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ ) يقول جلّ ثناؤه
: ما تأمرهم بذلك أحلامهم وعقولهم( بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ ) قد طغوا على ربهم
، فتجاوزوا ما أذن لهم ، وأمرهم به من الإيمان إلى الكفر به.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : ( أَمْ
تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ بِهَذَا ) قال : كانوا يعّون في الجاهلية أهل الأحلام ،
فقال الله : أم تأمرهم أحلامهم بهذا أن يعبدوا أصناما بُكما صما ، ويتركوا عبادة
الله ، فلم تنفعهم أحلامهم حين كانت لدنياهم ، ولم تكن عقولهم في دينهم ، لم
تنفعهم أحلامهم ، وكان بعض أهل المعرفة بكلام العرب من أهل البصرة ، يتأوَّل قوله(
أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ ) : بل تأمرهم.
وبنحو الذي قلنا في تأويل قوله( أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ ) أيضا قال أهل
التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا عبد الرحمن ، قال : ثنا سفيان ، عن عثمان بن الأسود ،
عن مجاهد ، في قوله( أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ ) قال : بل هم قوم طاغون.
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا يحيى ، عن عثمان بن الأسود ، عن مجاهد( أَمْ هُمْ
قَوْمٌ طَاغُونَ ) قال : بل هم قوم طاغون.
(22/480)
أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ (35) أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لَا يُوقِنُونَ (36)
وقوله( أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ )
يقول تعالى ذكره : أم يقول هؤلاء المشركون : تقوّل محمد هذا القرآن وتخلَّقه.
وقوله( بَلْ لا يُؤْمِنُونَ ) يقول جلّ ثناؤه : كذبوا فيما قالوا من ذلك ، بل لا
يؤمنون فيصدّقوا بالحقّ الذي جاءهم من عند ربهم.
وقوله( فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ ) يقول : جلّ ثناؤه : فليأت قائلو ذلك له
من المشركين بقرآن مثله ، فإنهم من أهل لسان محمد صلى الله عليه وسلم ، ولن يتعذر
عليهم أن يأتوا من ذلك بمثل الذي أتى به محمد صلى الله عليه وسلم إن كانوا صادقين
في أن محمدا صلى الله عليه وسلم تقوّله وتخلَّقه.
القول في تأويل قوله تعالى : { أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ
الْخَالِقُونَ (35) أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ بَل لا يُوقِنُونَ (36)
}
يقول تعالى ذكره : أخلق هؤلاء المشركون من غير شيء ، أي من غير آباء ولا أمَّهات ،
فهم كالجماد ، لا يعقلون ولا يفهمون لله حجة ، ولا يعتبرون له بعبرة ، ولا يتعظون
بموعظة. وقد قيل : إن معنى ذلك : أم خلقوا لغير شيء ، كقول القائل : فعلت كذا وكذا
من غير شيء ، بمعنى : لغير شيء.
وقوله : ( أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ ) يقول : أم هم الخالقون هذا الخلق ، فهم لذلك
لا يأتمرون لأمر الله ، ولا ينتهون عما نهاهم عنه ، لأن للخالق الأمر والنهي( أَمْ
خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ ) يقول : أخلقوا السماوات والأرض فيكونوا هم
الخالقين ، وإنما معنى ذلك : لم يخلقوا السموات والأرض ، ( بَل لا يُوقِنُونَ )
يقول : لم يتركوا أن يأتمروا لأمر ربهم ، وينتهوا إلى طاعته فيما أمر ونهى ، لأنهم
خلقوا السموات والأرض ، فكانوا بذلك أربابا ، ولكنهم فعلوا ، لأنهم لا يوقنون
بوعيد الله وما أعدّ لأهل الكفر به من العذاب في الآخرة.
(22/481)
أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُسَيْطِرُونَ (37) أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (38)
القول في تأويل قوله تعالى : { أَمْ
عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُسَيْطِرُونَ (37) أَمْ لَهُمْ
سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (38)
}
يقول تعالى ذكره : أعند هؤلاء المكذّبين بآيات الله خزائن ربك يا محمد ، فهم
لاستغنائهم بذلك عن آيات ربهم معرضون ، أم هم المسيطرون.
اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك ، فقال بعضهم : معناه : أم هم المسلَّطون.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : ثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ،
قوله : ( أَمْ هُمُ الْمُسَيْطِرُونَ ) يقول : المسلَّطون.
وقال آخرون : بل معنى ذلك : أم هم المُنزلونَ.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ،
عن ابن عباس ، قوله : ( أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُسَيْطِرُونَ
) قال : يقول أم هم المنزلون.
وقال آخرون : بل معنى ذلك : أم هم الأرباب ، ومن قال ذلك معمر بن المثنى ، قال :
يقال : سيطرتَ عليّ : أي اتخذتني خولا لك.
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال : معنى ذلك : أم هم الجبَّارون المتسلطون
المستكبرون على الله ، وذلك أن المسيطر في كلام العرب الجبار المتسلط ، ومنه قول
الله : ( لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ ) . يقول : لست عليهم بجبار مسلط.
وقوله : ( أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ ) يقول : أم لهم سلم يرتقون
فيه إلى
(22/482)
أَمْ لَهُ الْبَنَاتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ (39) أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (40) أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (41)
السماء يستمعون عليه الوحي ، فيدعون
أنهم سمعوا هنالك من الله أن الذي هم عليه حقّ ، فهم بذلك متمسكون بما هم عليه.
وقوله : ( فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ ) يقول : فإن كانوا
يدّعون ذلك فليأت من يزعم أنه استمع ذلك ، فسمعه بسلطان مبين ، يعني بحجة تبين
أنها حقّ ، كما أتى محمد صلى الله عليه وسلم بها على حقيقة قوله ، وصدقه فيما
جاءهم به من عند الله. والسُّلَّم في كلام العرب : السبب والمرقاة; ومنه قول ابن
مقبل :
لا تُحرزِ المَرْءَ أَحْجاءُ الْبِلاد وَلا... تُبْنَى لَهُ في السَّمَاواتِ
السَّلاليمُ (1)
ومنه قوله : جعلت فلانا سلما لحاجتي : إذا جعلته سببا لها.
القول في تأويل قوله تعالى : { أَمْ لَهُ الْبَنَاتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ (39)
أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (40) أَمْ عِنْدَهُمُ
الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (41) }
يقول تعالى ذكره للمشركين به من قريش : ألربكم أيها القوم البنات ولكم البنون ؟
ذلك إذن قسمة ضيزي ، وقوله : ( أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ
مُثْقَلُونَ ) يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : أتسأل هؤلاء
المشركين الذين أرسلناك إليهم يا محمد على ما تدعوهم إليه من توحيد الله وطاعته
ثوابا وعوضا من أموالهم ، فهم من ثقل ما حملتهم من الغرم لا يقدرون على إجابتك إلى
ما تدعوهم إليه.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
__________
(1) هذا البيت لتميم بن أبي مقبل ، نسبه إليه أبو عبيد في مجاز القرآن ( الورقة
230 - 1 ) وأحجاء البلاد . نواحيها وأطرافها . قاله في ( اللسان : حجا ) ونسب
البيت لابن مقبل وقد شرحنا البيت وبينا الشاهد فيه ، عند قوله تعالى ( أو سلما في
السماء ) في سورة الأنعام ( 7 : 184 ) من هذه الطبعة ، فراجعه ثمة . وقال أبو
عبيدة والسلم : السبب والمراقاة ، قال ابن مقبل : " لا تحرز المرء ... البيت
" قال : أنت تتخذني سلمًا لحاجتك : أي سببا .
(22/483)
أَمْ يُرِيدُونَ كَيْدًا فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ (42) أَمْ لَهُمْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (43) وَإِنْ يَرَوْا كِسْفًا مِنَ السَّمَاءِ سَاقِطًا يَقُولُوا سَحَابٌ مَرْكُومٌ (44) فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ (45)
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : ( أَمْ
تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ ) يقول : هل سألت هؤلاء
القوم أجرا يُجهدهم ، فلا يستطيعون الإسلام.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله( أَمْ
تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ ) قال : يقول : أسألتَهم
على هذا أجرا ، فأثقلهم الذي يُبْتَغَى أخذُه منهم.
وقوله( أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ ) يقول تعالى ذكره : أم
عندهم علم الغيب فهم يكتبون ذلك للناس ، فينبئونهم بما شاءوا ، ويخبرونهم بما
أرادوا.
القول في تأويل قوله تعالى : { أَمْ يُرِيدُونَ كَيْدًا فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ
الْمَكِيدُونَ (42) أَمْ لَهُمْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا
يُشْرِكُونَ (43) }
يقول تعالى ذكره : بل يريد هؤلاء المشركون يا محمد بك ، وبدين الله كيدا(
فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ ) يقول : فهم المكيدون الممكورُ بهم دونك
، فثق بالله ، وامض لما أمرك به.
وقوله( أَمْ لَهُمْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ ) يقول جلّ ثناؤه : أم لهم معبود يستحق
عليهم العبادة غير الله ، فيجوز لهم عبادته ، يقول : ليس لهم إله غير الله الذي له
العبادة من جميع خلقه( سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ ) يقول : تنزيها لله
عن شركهم وعبادتهم معه غيره.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَإِنْ يَرَوْا كِسْفًا مِنَ السَّمَاءِ سَاقِطًا
يَقُولُوا سَحَابٌ مَرْكُومٌ (44) فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي
فِيهِ يُصْعَقُونَ (45) }
(22/484)
يقول تعالى ذكره : وإن ير هؤلاء
المشركون قطعا من السماء ساقطا ، والكِسْف : جمع كِسفة ، مثل التمر جمع تمرة ،
والسِّدر جمع سِدْرة.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : ثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ،
قوله : ( كِسَفًا ) يقول : قِطعا.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله( وَإِنْ يَرَوْا
كِسْفًا ) يقول : وإن يروا قطعا( مِنَ السَّمَاءِ سَاقِطًا يَقُولُوا سَحَابٌ
مَرْكُومٌ ) يقول جلّ ثناؤه : يقولوا لذلك الكِسْف من السماء الساقط : هذا سحاب
مركوم ، يعني بقوله مركوم : بعضه على بعض.
وإنما عنى بذلك جلّ ثناؤه المشركين من قريش الذين سألوا رسول الله صلى الله عليه
وسلم الآيات ، فقالوا له : ( لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ
الأرْضِ يَنْبُوعًا ) ...إلى قوله( عَلَيْنَا كِسَفًا ) فقال الله لنبيه محمد صلى
الله عليه وسلم : وإن ير هؤلاء المشركون ما سألوا من الآيات ، فعاينوا كِسَفا من
السماء ساقطا ، لم ينتقلوا عما هم عليه من التكذيب ، ولقالوا. إنما هذا سحاب بعضه
فوق بعض ، لأن الله قد حتم عليهم أنهم لا يؤمنون.
كما حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة يقولوا( سَحَابٌ
مَرْكُومٌ ) يقول : لا يصدّقوا بحديث ، ولا يؤمنوا بآية.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله( وَإِنْ يَرَوْا
كِسْفًا مِنَ السَّمَاءِ سَاقِطًا يَقُولُوا سَحَابٌ مَرْكُومٌ ) قال : حين سألوا
الكِسْف قالوا : أسقط علينا كِسْفا من السماء إن كنت من الصادقين; قال : يقول : لو
أنا فعلنا لقالوا : سحاب مركوم.
(22/485)
يَوْمَ لَا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (46) وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذَابًا دُونَ ذَلِكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (47)
وقوله( فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلاقُوا
يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ ) يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه
وسلم : فدع يا محمد هؤلاء المشركين حتى يلاقوا يومهم الذي فيه يهلكون ، وذلك عند
النفخة الأولى.
واختلفت القراء في قراءة قوله : ( فِيهِ يُصْعَقُونَ ) فقرأته عامة قرّاء الأمصار
سوى عاصم بفتح الياء من(يَصْعَقُونَ) ، وقرأه عاصم( يُصْعَقُونَ ) بضم الياء ،
والفتح أعجب القراءتين إلينا ، لأنه أفصح اللغتين وأشهرهما ، وإن كانت الأخرى
جائزة ، وذلك أن العرب تقول : صعق الرجل وصعِق ، وسَعد وسُعد.
وقد بيَّنا معنى الصَّعْق بشواهده ، وما قال فيه أهل التأويل فيما مضى بما أغنى عن
إعادته.
القول في تأويل قوله تعالى : { يَوْمَ لا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا
وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (46) وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذَابًا دُونَ ذَلِكَ
وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (47) }
يعني جلّ ثناؤه بقوله( يَوْمَ لا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا ) يوم
القيامة ، حتى يلاقوا يومهم الذي فيه يصعقون ، ثم بين عن ذلك اليوم أيّ يوم هو ،
فقال : يوم لا يغني عنهم كيدهم شيئًا ، يعني : مَكرهم أنه لا يدفع عنهم من عذاب
الله شيئا ، فاليوم الثاني ترجمة عن الأوّل.
وقوله( وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ ) يقول : ولا هم ينصرهم ناصر ، فيستقيد لهم ممن
عذّبهم وعاقبهم.
وقوله( وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذَابًا دُونَ ذَلِكَ ) اختلف أهل التأويل في
العذاب الذي توعدَ الله به هؤلاء الظلمة من دون يوم الصعقة ، فقال بعضهم : هو عذاب
القبر.
(22/486)
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا إسماعيل بن موسى الفزاري ، قال : أخبرنا شريك ، عن أبي إسحاق ، عن البراء(
عَذَابًا دُونَ ذَلِكَ ) قال : عذاب القبر.
حدثني عليّ ، قال : ثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ،
وقوله( وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذَابًا دُونَ ذَلِكَ ) يقول : عذاب القير
قبل عذاب يوم القيامة.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، أن ابن عباس كان يقول :
إنكم لتجدون عذاب القبر في كتاب الله( وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذَابًا دُونَ
ذَلِكَ ) .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، أن ابن عباس كان
يقول : إن عذاب القبر في القرآن. ثم تلا( وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذَابًا
دُونَ ذَلِكَ ) .
وقال آخرون : عنى بذلك الجوع.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ؛ وحدثني الحارث ، قال
: ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله(
عَذَابًا دُونَ ذَلِكَ ) قال : الجوع.
وقال آخرون : عنى بذلك : المصائب التي تصيبهم في الدنيا من ذهاب الأموال والأولاد.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله( وَإِنَّ
لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذَابًا دُونَ ذَلِكَ ) قال : دون الآخرة في هذه الدنيا ما
يعذّبهم
(22/487)
وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ (48) وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ النُّجُومِ (49)
به من ذهاب الأموال والأولاد ، قال :
فهي للمؤمنين أجر وثواب عند الله ، عدا مصائبهم ومصائب هؤلاء ، عجلهم الله إياها
في الدنيا ، وقرأ( فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ ) ... إلى آخر
الآية.
والصواب من القول في ذلك عندي أن يقال : إن الله تعالى ذكره أخبر أن للذين ظلموا
أنفسهم بكفرهم به عذابا دون يومهم الذي فيه يصعقون ، وذلك يوم القيامة ، فعذاب
القبر دون يوم القيامة ، لأنه في البرزخ ، والجوع الذي أصاب كفار قريش ، والمصائب
التي تصيبهم في أنفسهم وأموالهم وأولادهم دون يوم القيامة ، ولم يخصص الله نوعا من
ذلك أنه لهم دون يوم القيامة دون نوع بل عمّ فقال( وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا
عَذَابًا دُونَ ذَلِكَ ) فكلّ ذلك لهم عذاب ، وذلك لهم دون يوم القيامة ، فتأويل
الكلام : وإن للذين كفروا بالله عذابا من الله دون يوم القيامة( وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ
لا يَعْلَمُونَ ) بأنهم ذائقو ذلك العذاب.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ
بِأَعْيُنِنَا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ (48) وَمِنَ اللَّيْلِ
فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ النُّجُومِ (49) }
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم( وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ ) يا
محمد الذي حكم به عليك ، وامض لأمره ونهيه ، وبلغ رسالاته( فَإِنَّكَ
بِأَعْيُنِنَا ) يقول جلّ ثناؤه : فإنك بمرأى منا نراك ونرى عملك ، ونحن نحوطك
ونحفظك ، فلا يصل إليك من أرادك بسوء من المشركين.
وقوله : ( وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ ) اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك ، فقال
بعضهم : معنى ذلك : إذا قمت من نومك فقل : سبحان الله وبحمده.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا أبو أحمد ، قال : ثنا سفيان ، عن أبي إسحاق ، عن أبي
الأحوص ، في قوله : ( وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ ) قال :
(22/488)
من كل منامة ، يقول حين يريد أن يقوم :
سبحانَك وبحمدك.
حدثنا ابن حُميد ، قال : ثنا مهران ، عن سفيان ، عن أبي إسحاق ، عن أبي الأحوص عوف
بن مالك( وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ ) قال : سبحان الله وبحمده.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله( وَسَبِّحْ
بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ ) قال : إذا قام لصلاة من ليل أو نهار. وقرأ( يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ ) قال : من نوم. ذكره
عن أبيه.
وقال بعضهم : بل معنى ذلك : إذا قمت إلى الصلاة المفروضة فقل : سبحانك اللهمّ
وبحمدك.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حُميد ، قال : ثنا ابن المبارك ، عن جُوَيبر ، عن الضحاك( وَسَبِّحْ
بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ ) قال : إذا قام إلى الصلاة قال : سبحانك اللهمّ
وبحمدك ، وتبارك اسمك ولا إله غيرك.
وَحُدِّثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت
الضحاك يقول في قوله( وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ ) إلى الصلاة
المفروضة.
وأولى القولين في ذلك بالصواب قول من قال : معنى ذلك : وصلّ بحمد ربك حين تقوم من
مَنامك ، وذلك نوم القائلة ، وإنما عنى صلاة الظهر.
وإنما قلت : هذا القول أولى القولين بالصواب ، لأن الجميع مجمعون على أنه غير واجب
أن يقال في الصلاة : سبحانك وبحمدك ، وما روي عن الضحاك عند القيام إلى الصلاة ،
فلو كان القول كما قاله الضحاك لكان فرضا أن يُقال لأن قوله( وَسَبِّحْ بِحَمْدِ
رَبِّكَ ) أمر من الله تعالى بالتسبيح ، وفي إجماع الجميع
(22/489)
على أن ذلك غير واجب الدليل الواضح على
أن القول في ذلك غير الذي قاله الضحاك.
فإن قال قائل : ولعله أريد به الندب والإرشاد. قيل : لا دلالة في الآية على ذلك ،
ولم تقم حجة بأن ذلك معنيّ به ما قاله الضحاك ، فيحمل إجماع الجميع على أن التسبيح
عند القيام إلى الصلاة مما خير المسلمون فيه دليلا لنا على أنه أُريد به الندب
والإرشاد.
وإنما قلنا : عُني به القيام من نوم القائلة ، لأنه لا صلاة تجب فرضا بعد وقت من
أوقات نوم الناس المعروف إلا بعد نوم الليل ، وذلك صلاة الفجر ، أو بعد نوم
القائلة ، وذلك صلاة الظهر; فلما أمر بعد قوله( وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ
تَقُومُ ) بالتسبيح بعد إدبار النجوم ، وذلك ركعتا الفجر بعد قيام الناس من نومها
ليلا عُلِم أن الأمر بالتسبيح بعد القيام من النوم هو أمر بالصلاة التي تجب بعد
قيام من نوم القائلة على ما ذكرنا دون القيام من نوم الليل.
وقوله( وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ ) يقول : ومن الليل فعظم ربك يا محمد بالصلاة
والعبادة ، وذلك صلاة المغرب والعشاء.
وكان ابن زيد يقول في ذلك ما حدثني به يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال
ابن زيد ، في قوله( وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ ) قال : ومن الليل صلاة العشاء(
وَإِدْبَارَ النُّجُومِ ) يعني حين تدبر النجوم للأفول عند إقبال النهار.
وقيل : عُني بذلك ركعتا الفجر.
* ذكر بعض من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثنى أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ،
عن ابن عباس ، قوله( فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ النُّجُومِ ) قال : هما السجدتان قبل
صلاة الغداة.
(22/490)
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال :
ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله( وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ النُّجُومِ
) كنا نحدّث أنهما الركعتان عند طلوع الفجر. قال : وذُكر لنا أن عمر بن الخطاب رضي
الله عنه كان يقول : لهما أحبّ إليّ من حُمْر النَّعَم.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، عن زرارة بن أوفى ، عن
سعيد بن هشام عن عائشة ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في ركعتي الفجر
" هما خيرٌ مِنَ الدُّنْيا جميعا " .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة( وَإِدْبَارَ
النُّجُومِ ) قال : ركعتان قبل صلاة الصبح.
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا ابن أبي عديّ وحماد بن مسعدة قالا ثنا حميد ، عن الحسن
، عن علي ، في قوله( وَإِدْبَارَ النُّجُومِ ) قال : الركعتان قبل صلاة الصبح.
حدثنا ابن حُميد ، قال : ثنا جرير ، عن عطاء ، قال : قال عليّ رضي الله عنه(
إِدْبَارَ النُّجُومِ ) الركعتان قبل الفجر.
وقال آخرون : عنى بالتسبح( إِدْبَارَ النُّجُومِ ) : صلاة الصبح الفريضة.
* ذكر من قال ذلك :
حدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ ، يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك
يقول في قوله( وَإِدْبَارَ النُّجُومِ ) قال : صلاة الغداة.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله( وَإِدْبَارَ
النُّجُومِ ) قال : صلاة الصبح.
وأولى القولين في ذلك عندي بالصواب قول من قال : عنى بها : الصلاة المكتوبة صلاة
الفجر ، وذلك أن الله أمر فقال( وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ
(22/491)
النُّجُومِ ) والركعتان قبل الفريضة
غير واجبتين ، ولم تقم حجة يجب التسليم لها ، أن قوله فسبحه على الندب ، وقد دللنا
في غير موضع من كتبنا على أن أمر الله على الفرض حتى تقوم حجة بأنه مراد به الندب
، أو غير الفرض بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع.
آخر تفسير سورة الطور
(22/492)
وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى (1) مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى (2)
تفسير سورة النجم
بسم الله الرحمن الرحيم
القول في تأويل قوله تعالى : { وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى (1) مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ
وَمَا غَوَى (2) }
اختلف أهل التأويل في تأويل قوله( وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى ) فقال بعضهم : عُنِيَ
بالنجم : الثُّريا وعُنِي بقوله( إِذَا هَوَى : إذا سقط ، قالوا : تأويل الكلام :
والثريا إذا سقطت.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث ، قال :
ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : (
وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى ) قال : إذا سقطت الثريا مع الفجر.
حدثنا ابن حُميد. قال : ثنا مهران ، عن سفيان( وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى ) قال :
الثريا ، وقال مجاهد : ( وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى ) قال : سقوط الثريا.
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ،
عن ابن عباس ، قوله : ( وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى ) قال : إذا انصبّ.
وقال آخرون : معنى ذلك : والقرآن إذا نزل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني زياد بن عبد الله الحساني أبو الخطاب ، قال : ثنا مالك بن
(22/495)
سعير ، قال : ثنا الأعمش ، عن مجاهد ،
في قوله( وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى ) قال : القرآن إذا نزل.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى
مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى ) قال : قال عُتبة بن أبي لهب : كفرتُ بربّ
النجم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أمَا تَخَافُ أنْ يَأكُلَكَ
كَلْبُ اللهِ " قال : فخرج في تجارة إلى اليمن ، فبينما هم قد عرَّسوا ، إذ
سمعَ صوتَ الأسد ، فقال لأصحابه إني مأكول ، فأحدقوا به ، وضرب على أصمخّتهم
فناموا ، فجاء حتى أخذه ، فما سمعوا إلا صوته.
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا محمد بن ثور ، قال : ثنا معمر ، عن قتادة "
أن النبي صلى الله عليه وسلم تلا( وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى ) فقال ابن لأبي لهب
حسبته قال : اسمه عُتبة : كفرت بربّ النجم ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم :
" احْذَرْ لا يأكُلكَ كَلْبُ الله " ; قال : فضرب هامته. قال : وقال ابن
طاوس عن أبيه ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " ألا تَخاف أنْ يُسلِّطَ
اللهُ عَلَيْك كَلْبَهُ ؟ " فخرج ابن أبي لهب مع ناس فى سفر حتى إذا كانوا في
بعض الطريق سمعوا صوت الأسد. فقال : ما هو إلا يريدني ، فاجتمع أصحابه حوله وجعلوه
في وسطهم ، حتى إذا ناموا جاء الأسد فأخذه من بينهم. وكان بعض أهل المعرفة بكلام
العرب من أهل البصرة يقول : عنى بقوله : ( وَالنَّجْمِ ) والنجوم. وقال : ذهب إلى
لفظ الواحد ، وهو في المعنى الجميع ، واستشهد لقوله ذلك بقول راعي الإبل :
فَبَاتَتْ تَعُدُّ النَّجْمَ في مُستَحيرَةٍ... سَريعٌ بِأيْدي الآكلِينَ
جُمُودُها (1)
__________
(1) البيت لراعي الإبل النميري عبيد بن أيوب ( مجاز القرآن لأبي عبيدة الورقة 230
من المصورة 26059) قال عند قوله تعالى ( والنجم إذا هوى ) : قسم ، والنجم : النجوم
، ذهب إلى لفظ الواحد وهو في معنى الجمع ، قال راعي الإبل : " وباتت تعد
النجم ... " البيت . وفي مستحيرة : في إهالة ، جعلها طافية ، لأنها من شحم .
وقال ابن قتيبة في كتاب المعاني الكبير ، طبع الهند .
وقال الراعي وذكر امرأة أضافها : فباتت ... البيت . مستحيرة : جفنة قد تحير فيها
الدسم ، فهي ترى فيها النجوم لصفاء الإهالة ، وأراد بقوله تعد النجم : الثرياء ،
والعرب تسمى الثريا النجم . قال : طلع النجم عشاء ... ابتغى الراعي كساء
وقال التبريزي في شرح حماسة أبي تمام ( 4 : 39 ) قال أبو العلاء : كان بعض الناس
يجعل " تعد " هنا من العدد ، أي أن هذه المرأة تعد النجم في الجفنة
المستحيرة ، أي المملوءة ، لأنها ترى خيال النجوم فيها ، وقد يجوز هذا الوجه ، وقد
يحتمل أن يكون " تعد " في معنى تحسب وتظن ، والمراد أن المرأة تحسب
النجم في الجفنة ، لما تراه من بياض الشحم أ . هـ .
(22/496)
وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4) عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى (5) ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى (6) وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى (7)
والصواب من القول في ذلك عندي ما قاله
مجاهد من أنه عنى بالنجم في هذا الموضع : الثريا ، وذلك أن العرب تدعوها النجم ،
والقول الذي قاله من حكينا عنه من أهل البصرة قول لا نعلم أحدا من أهل التأويل
قاله ، وإن كان له وجه ، فلذلك تركنا القول به.
وقوله : ( مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى ) يقول تعالى ذكره : ما حاد صاحبكم
أيها الناس عن الحقّ ولا زال عنه ، ولكنه على استقامة وسداد.
ويعني بقوله( وَمَا غَوَى ) : وما صار غويًّا ، ولكنه رشيد سديد; يقال : غَوَيَ
يَغْوي من الغيّ ، وهو غاو ، وغَوِيّ يَغْوَى من اللبن (1) إذا بَشِم. وقوله : (
مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ ) جواب قسم والنجم.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلا
وَحْيٌ يُوحَى (4) عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى (5) ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى (6)
وَهُوَ بِالأفُقِ الأعْلَى (7) }
يقول تعالى ذكره : وما ينطق محمد بهذا القرآن عن هواه( إِنْ هُوَ إِلا
__________
(1) في ( اللسان : غوى ) : غوى بالفتح غيا ، وغوى ( بالكسر ) غواية الأخيرة عن أبي
عبيدة : ضل . وفيه : غوى الفصيل والسخلة ، يغوى غوى ( مثل فرح ) : بشم من اللبن أ
. هـ .
(22/497)
وَحْيٌ يُوحَى ) يقول : ما هذا القرآن
إلا وحي من الله يوحيه إليه.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله( وَمَا يَنْطِقُ
عَنِ الْهَوَى ) : أي ما ينطق عن هواه( إِنْ هُوَ إِلا وَحْيٌ يُوحَى ) قال : يوحي
الله تبارك وتعالى إلى جبرائيل ، ويوحي جبريل إلى محمد صلى الله عليه وسلم .
وقيل : عنى بقوله( وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى ) بالهوى.
وقوله( عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى ) : يقول تعالى ذكره : عَلَّم محمدا صلى الله
عليه وسلم هذا القرآن جبريلُ عليه السلام ، وعُنِي بقوله( شَدِيدُ الْقُوَى ) شديد
الأسباب. والقُوى : جمع قوّة. كما الجثى : جمع جثوة ، والحبى : جمع حبوة. ومن
العرب من يقول : القوى : بكسر القاف ، كما تُجمع الرشوة رشا بكسر الراء ، والحبوة
حبا. وقد ذُكر عن العرب أنها تقول : رُشوة بضم الراء ، ورشوة بكسرها ، فيجب أن
يكون جمع من جمع ذلك رشا بكسر الراء على لغة من قال : واحدها رشوة ، وأن يكون جمع
من جمع ذلك بضمّ الراء ، من لغة من ضمّ الراء في واحدها وإن جمع بالكسر من كان
لغته من الضمّ في الواحدة ، أو بالضمّ من كان من لغته الكسر ؛ فإنما هو حمل إحدى
اللغتين على الأخرى.
وبنحو الذي قلنا في تأويل قوله : ( عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى ) قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( عَلَّمَهُ شَدِيدُ
الْقُوَى ) يعني جبريل.
حدثنا ابن حُميد ، قال : ثنا حكام ، عن أبي جعفر ، عن الربيع( عَلَّمَهُ شَدِيدُ
الْقُوَى ) قال : جبرائيل عليه السلام .
حدثنا ابن حُميد ، قال : ثنا مهران ، عن أبي جعفر ، عن الربيع ، مثله.
(22/498)
وقوله : ( ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى )
اختلف أهل التأويل في تأويل قوله : ( ذُو مِرَّةٍ ) فقال بعضهم : معناه : ذو خَلْق
حسن.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : ثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، في
قوله( ذُو مِرَّةٍ ) قال : ذو منظر حسن.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى
) : ذو خَلْق طويل حسن.
وقال آخرون : بل معنى ذلك : ذو قوّة.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث ، قال :
ثني الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد( ذُو مِرَّةٍ
فَاسْتَوَى ) قال : ذو قوة جبريل.
حدثنا ابن حُميد ، قال : ثنا مهران عن سفيان( ذُو مِرَّةٍ ) قال : ذو قوّة.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : ( ذُو مِرَّةٍ
فَاسْتَوَى ) قال : ذو قوّة ، المرّة : القوّة.
حدثنا ابن حُميد ، قال : ثنا حكام عن أبي جعفر عن الربيع( ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى
) جبريل عليه السلام .
وأولى القولين في ذلك بالصواب قول من قال : عنى بالمرّة : صحة الجسم وسلامته من
الآفات والعاهات. والجسم إذا كان كذلك من الإنسان ، كان قويا ، وإنما قلنا إن ذلك
كذلك ، لأن المرة واحدة المرر ، وإنما أُريد به : ذو مرة سوية. وإذا كانت المرّة
صحيحة ، كان الإنسان صحيحا. ومنه
(22/499)
قول النبيّ صلى الله عليه وسلم :
" لا تَحِلُّ الصَّدقَةَ لِغَنِيّ ، وَلا لذي مرةٍ سَويَّ " .
وقوله( فَاسْتَوَى وَهُوَ بِالأفُقِ الأعْلَى ) يقول : فاستوى هذا الشديد القويّ
وصاحبكم محمد بالأفق الأعلى ، وذلك لما أسري برسول الله صلى الله عليه وسلم استوى
هو وجبريل عليهما السلام بمطلع الشمس الأعلى ، وهو الأفق الأعلى ، وعطف بقوله :
" وَهُوَ " على ما في قوله : " فاسْتَوَى " من ذكر محمد صلى
الله عليه وسلم ، والأكثر من كلام العرب إذا أرادوا العطف في مثل هذا الموضع أن
يظهروا كناية المعطوف عليه ، فيقولوا : استوى هو وفلان ، وقلَّما يقولون استوى
وفلان ، وذكر الفرّاء عن بعض العرب أنه أنشده :
ألَمْ تَرَ أنَّ النَّبْعَ يَصْلُبُ عودُهُ... وَلا يَسْتَوي والخِرْوَعُ
المُتَقَصِّفُ (1)
فرد الخروع على " ما " في يستوي من ذكر النبع ، ومنه قوله الله( أَئِذَا
كُنَّا تُرَابًا وَآبَاؤُنَا ) فعطف بالآباء على المكنّى في(كنَّا) من غير إظهار
نحن ، فكذلك قوله( فَاسْتَوَى وَهُوَ ) ، وقد قيل : إن المستوي : هو جبريل ، فإن
كان ذلك كذلك ، فلا مُؤْنة في ذلك ، لأن قوله( وَهُوَ ) من ذكر اسم جبريل ، وكأن
قائل ذلك وجَّه معنى قوله( فَاسْتَوَى ) : أي ارتفع واعتدل.
__________
(1) هذا البيت من شواهد الفراء في معاني القرآن ( الورقة 314 ) وفي روايته "
يخلق " في مكان " يصلب " . والخروع : شجرة لينة الأغصان ، تتقصف
أفنانها للينها ، ومن ثمرها يستخرج زيت الخروع الذي يستعمل في أغراض طبية وصناعية
. والنبع شجر صلب ينبت في أعالي الجبال ، تتخذ من خشبه القسي والسهام . وبينه وبين
الخروع بون بعيد في صلابة العود . واستشهد الفراء بالبيت عند قوله تعالى "
فاستوى وهو بالأفق الأعلى " أي استوى ( هو ) أي جبريل ، وهو أي محمد صلى الله
عليه وسلم بالأفق الأعلى ، وعطف هو البارز على هو المستتر ، فأضمر الاسم في استوى
، ورد عليه هو ، قال : وأكثر كلام العرب أن يقولوا : استوى هو وأبوه ؛ ولا يكادون
يقولون : استوى وأبوه ، وهو جائز لأن في الفعل مضمرا ؛ أنشدني بعضهم : " ألم
تر أن النبع ... البيت " . وقال الله وهو أصدق قيلا : (أئذا كنا ترابا
وآباؤنا ) فرد الآباء على المضمر في كنا ، إلا أنه حسن لما حيل بينهما بالتراب ،
والكلام : أئذا كنا ترابا نحن وآباؤنا أ . هـ .
(22/500)
ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى (8) فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى (9) فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى (10) مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى (11)
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حُميد ، قال : ثنا حكام ، عن أبي جعفر ، عن الربيع( ذُو مِرَّةٍ
فَاسْتَوَى ) جبريل عليه السلام وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( وَهُوَ بِالأفُقِ
الأعْلَى ) والأفق : الذي يأتي منه النهار.
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن الحسن ، في قوله( وَهُوَ
بِالأفُقِ الأعْلَى ) قال : بأفق المشرق الأعلى بينهما.
حدثنا ابن حُميد ، قال : ثنا حكام ، عن أبي جعفر ، عن الربيع( وَهُوَ بِالأفُقِ
الأعْلَى ) يعني جبريل.
قال : ثنا مهران ، عن أبي جعفر ، عن الربيع( وَهُوَ بِالأفُقِ الأعْلَى ) قال :
السماء الأعلى ، يعني جبريل عليه السلام .
القول في تأويل قوله تعالى : { ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى (8) فَكَانَ قَابَ
قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى (9) فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى (10) مَا
كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى (11) }
يقول تعالى ذكره : ثم دنا جبريل من محمد صلى الله عليه وسلم فتدلى إليه ، وهذا من
المؤخِّر الذي معناه القديم ، وإنما هو : ثم تدلى فدنا ، ولكنه حسن تقديم قوله(
دَنَا ) ، إذ كان الدنوّ يدلّ على التدلي والتدلي على الدنوّ ، كما يقال : زارني
فلان فأحسن ، وأحسن إليّ فزارني وشتمني فأساء ، وأساء فشتمني لأن الإساءة هي الشتم
: والشتم هو الإساءة.
(22/501)
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل
التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن الحسن( ثُمَّ دَنَا
فَتَدَلَّى ) قال : جبريل عليه السلام .
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى
) يعني : جبريل.
حدثنا ابن حُميد ، قال : ثنا مهران ، عن أبي جعفر ، عن الربيع( ثُمَّ دَنَا
فَتَدَلَّى ) قال : هو جبريل عليه السلام .
وقال آخرون : بل معنى ذلك : ثم دنا الربّ من محمد صلى الله عليه وسلم فتدلى.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا يحيى بن الأمويّ ، قال : ثنا أبي ، قال : ثنا محمد بن عمرو ، عن أبي سَلَمة
، عن ابن عباس( ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى ) قال : دنا ربه فتدلّى.
حدثنا الربيع ، قال : ثنا ابن وهب ، عن سليمان بن بلال ، عن شريك بن أبي نمر ، قال
: سمعت أنس بن مالك يحدثنا عن ليلة المسرى برسول الله صلى الله عليه وسلم "
أنه عرج جبرائيل برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى السماء السابعة ، ثم علا به
بما لا يعلمه إلا الله ، حتى جاء سدرة المنتهى ، ودنا الجبار ربّ العزة فتدلى حتى
كان منه قاب قوسين أو أدنى ، فأوحى الله إليه ما شاء ، فأوحى الله إليه فيما أوحى
خمسين صلاة على أمته كلّ يوم وليلة ، وذكر الحديث " .
وقوله( فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى ) يقول : فكان جبرائيل من محمد صلى
الله عليه وسلم على قدر قوسين ، أو أدنى من ذلك ، يعني : أو أقرب منه ، يقال : هو
منه قاب قوسين ، وقيب قوسين ، وقيد قوسين ، وقادَ قوسين ، وقَدَى قوسين ، كل ذلك
بمعنى : قدر قوسين.
(22/502)
وقيل : إن معنى قوله( فَكَانَ قَابَ
قَوْسَيْنِ ) أنه كان منه حيث الوتر من القوس.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث ، قال :
ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله( قَابَ
قَوْسَيْنِ ) قال : حيث الوتر من القوس.
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن الحسن( فَكَانَ قَابَ
قَوْسَيْنِ ) قال : قِيد قوسين.
وقال ذلك قتادة.
حدثنا ابن حُميد ، قال : ثنا مهران ، عن سفيان ، عن خصِيف ، عن مجاهد( فَكَانَ
قَابَ قَوْسَيْنِ ) قال : قِيدَ ، أو قدرَ قوسين.
حدثنا أبو كُريب ، قال : ثنا أبو معاوية ، عن إبراهيم بن طهمان ، عن عاصم ، عن
زِرّ ، عن عبد الله فكان قاب قوسين أو أدنى : قال : دنا جبريل عليه السلام منه حتى
كان قدر ذراع أو ذراعين.
حدثنا ابن حُميد ، قال : ثنا حكام ، عن عمرو ، عن عاصم ، عن أبي رزين( قَابَ
قَوْسَيْنِ ) قال : ليست بهذه القوس ، ولكن قدر الذراعين أو أدنى; والقاب : هو
القيد.
واختلف أهل التأويل في المعنيّ بقوله( فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى )
فقال بعضهم : في ذلك ، بنحو الذي قلنا فيه.
حدثنا ابن أبي الشوارب ، قال : ثنا عبد الواحد بن زياد ، قال : ثنا سليمان
الشيباني ، قال : ثنا زرّ بن حُبيش ، قال : قال عبد الله في هذه الآية( فَكَانَ
قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى ) قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "
رأيْتُ جبريلَ
(22/503)
لَهُ سِتُّ مِئةِ جنَاحٍ " .
حدثنا عبد الحميد بن بيان السكري ، قال : ثنا خالد بن عبد الله ، عن الشيباني ، عن
زرّ ، عن ابن مسعود في قوله( فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى ) قال : رأى
جبرائيل ست مئة جناح في صورته.
حدثنا محمد بن عبيد ، قال : ثنا قبيص بن ليث الأسدي ، عن الشيباني ، عن زرّ بن
حبيش ، عن عبد الله بن مسعود( فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى ) قال : رأى
النبيّ صلى الله عليه وسلم جبريل عليه السلام له ستّ مئة جناح.
حدثنا ابن وكيع ، قال : ثنا ابن وهب ، قال : ثنا ابن لهيعة ، عن أبي الأسود ، عن
عروة ، عن عائشة قالت : كان أوّل شأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه رأى في
منامه جبريل عليه السلام بأجياد ، ثم إنه خرج ليقضي حاجته ، فصرخ به جبريل : يا
محمد; فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم يمينا وشمالا فلم ير شيئا ثلاثا; ثم خرج
فرآه ، فدخل في الناس ، ثم خرج ، أو قال : ثم نظر " أنا أشك " ، فرآه ،
فذلك قوله : ( وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى وَمَا
يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى ) ... إلى قوله : ( فَتَدَلَّى ) جبريل إلى محمد صلى الله
عليه وسلم ، ( فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى ) يقول : القاب : نصف
الأصبع. وقال بعضهم : ذراعين كان بينهما.
حدثنا ابن حُميد ، قال : ثنا مهران ، عن سفيان ، عن الشيباني ، عن زرّ بن حبيش ،
عن ابن مسعود( فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى ) قال : له ستّ مئة جناح ،
يعني جبريل عليه السلام .
حدثنا إبراهيم بن سعيد ، قال : ثنا أبو أسامة ، قال : ثنا زكريا ، عن ابن أشوع ،
عن عامر ، عن مسروق ، قال : قلت لعائشة : ما قوله( ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى فَكَانَ
قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى ) فقالت :
إنما ذلك جبريل ، كان يأتيه في صورة الرجال ، وإنه أتاه في هذه المرّة في صورته ،
(22/504)
فسدّ أفق السماء.
وقال آخرون : بل الذي دنا فكان قاب قوسين أو أدنى : جبريل من ربه.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ؛ وحدثني الحارث ، قال
: ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد( فَكَانَ قَابَ
قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى ) قال : الله من جبريل عليه السلام .
وقال آخرون : بل كان الذي كان قاب قوسين أو أدنى : محمد من ربه.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حُميد ، قال : ثنا مهران ، عن موسى بن عبيد الحميري ، عن محمد بن كعب
القرظي ، عن بعض أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم قال : قلنا يا نبيّ الله : هل
رأيت ربك ؟ قال : " لَمْ أرَهُ بعَيْني ، ورأيتُهُ بفُؤَادي مَرَّتَيْن
" ، ثم تلا( ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى ) .
حدثنا خلاد بن أسلم ، قال : أخبرنا النضر ، قال : أخبرنا محمد بن عمرو بن علقمة بن
وقاص الليثيّ ، عن كثير ، عن أنس بن مالك ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم : " لَمَّا عُرِجَ بي ، مَضَى جِبْريل حتى جاءَ الجَنَّةَ ، قالَ :
فَدَخَلْتُ فأُعْطيتُ الكَوْثَر ، ثُمَّ مَضَى حتى جاءَ السِّدْرَةَ المُنْتَهَى ،
فَدَنَا رَبُّكَ فَتَدَلَّى ، فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى ، فَأَوْحَى
إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى " .
وقوله( فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى ) اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك ،
فقال بعضهم : معناه : فأوحى الله إلى عبده محمد وحيه ، وجعلوا قوله : ( مَا
أَوْحَى ) بمعنى المصدر.
(22/505)
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا معاذ بن هشام ، قال : ثنا أبي ، عن قتادة ، عن عكرمة ،
عن ابن عباس ، في قوله( فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى ) قال : عبده محمد
صلى الله عليه وسلم ما أوحى إليه ربه.
وقد يتوجه على هذا التأويل " مَا " للوجهين : أحدهما : أن تكون بمعنى
" الذي " ، فيكون معنى الكلام فأوحى إلى عبده الذي أوحاه إليه ربه.
والآخر : أن يكون بمعنى المصدر.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا معاذ بن هشام قال : ثني أبي ، عن قتادة( فَأَوْحَى
إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى ) ، قال الحسن : جبريل.
حدثنا ابن حُميد ، قال : ثنا مهران ، عن أبي جعفر ، عن الربيع( فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ
مَا أَوْحَى ) قال : على لسان جبريل.
حدثنا ابن حُميد ، قال : ثنا حكام ، عن أبى جعفر ، عن الربيع ، مثله.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله( فَأَوْحَى
إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى ) قال : أوحى جبريل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم
ما أوحى الله إليه.
وأولى القولين في ذلك عندنا بالصواب قول من قال : معنى ذلك : فأوحى جبريل إلى عبده
محمد صلى الله عليه وسلم ما أوحى إليه ربه ، لأن افتتاح الكلام جرى في أوّل السورة
بالخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وعن جبريل عليه السلام ، وقوله(
فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى ) في سياق ذلك ولم يأت ما يدلّ على انصراف
الخبر عنهما ، فيوجه ذلك إلى ما صرف إليه.
وقوله( مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى ) يقول تعالى ذكره : ما كذب فؤاد محمد
محمدا الذي رأى ، ولكنه صدّقه.
(22/506)
واختلف أهل التأويل في الذي رآه فؤاده
فلم يكذبه ، فقال بعضهم : الذي رآه فؤاده رب العالمين ، وقالوا جعل بصره في فؤاده
، فرآه بفؤاده ، ولم يره بعينه.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا سعيد بن يحيى ، قال : ثني عمي سعيد عبد الرحمن بن سعيد ، عن إسرائيل بن يونس
بن أبي إسحاق السبيعي ، عن سماك بن حرب ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، في قوله( مَا
كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى ) قال : رآه بقلبه صلى الله عليه وسلم .
حدثنا خلاد بن أسلم ، قال : أخبرنا النضر بن شميل ، قال : أخبر عباد ، يعني ابن
منصور ، قال : سألت عكرمة ، عن قوله : ( مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى ) قال :
أتريد أن أقول لك قد رآه ، نعم قد رآه ، ثم قد رآه ، ثم قد رآه حتى ينقطع النفس.
حدثنا ابن حُميد ، قال : ثنا يحيى بن واضح ، قال : ثنا عيسى بن عبيد ، قال : سمعت
عكرِمة ، وسُئل هل رأى محمد ربه ، قال نعم ، قد رأى ربه.
قال : ثنا يحيى بن واضح ، قال : ثنا سالم مولى معاوية ، عن عكرمة ، مثله.
حدثنا أحمد بن عيسى التميمي ، قال : ثنا سليمان بن عمرو بن سيار ، قال : ثني أبي ،
عن سعيد بن زربى عن عمرو بن سليمان ، عن عطاء ، عن ابن عباس ، قال : قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم : " رَأَيْتُ ربِّي فِي أَحْسَن صُورَةٍ ، فَقالَ لي : يا
مُحَمَّدُ هَلْ تَدْرِي فِيمَ يَخْتَصِمُ المَلأ الأعْلَى ؟ فَقُلْتُ : لا يا رَبّ
فَوضَعَ يَدَهُ بَيْنَ كَتِفيَّ ، فَوَجَدْتُ بَرْدَهَا بَيْنَ ثَدْيَّ فَعَلِمْت
ما في السَّماء والأرض فَقُلْتُ : يا رَبِّ فِي الدَّرَجَاتِ والكَفَّارَاتِ
وَنَقْلِ الأقْدَامِ إلى الجُمُعات ، وَانْتَظارِ الصَّلاة بعْد الصَّلاة ،
فَقُلْتُ : يَا رَبّ إِنَّكَ اتَّخَذْتَ إبْراهيم خَليلا وكَلَّمْتَ مُوسَى
تَكليما ، وفَعَلْتَ وفَعَلْتَ ؟ فقال : ألمْ أشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ ؟ ألَمْ أضَعْ
عَنْكَ
(22/507)
وِزْرَكَ ؟ ألَمْ أَفْعَلْ بِكَ ؟ ألم
أفْعَلْ. قال : " فَأفْضَى إليًّ بأشْياءَ لَمْ يُؤذَنْ لي أنْ
أُحَدّثكُمُوها; قال : فَذلكَ قَوْلُهُ فِي كِتَابِهِ يُحدّثْكُمُوهُ : ثُمَّ
دَنَا فَتَدَلَّى فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ
مَا أَوْحَى مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى ، " فَجَعَل نُورَ بَصَري فِي
فُؤَادِي ، فَنَظَرْتُ إلَيْهِ بفُؤَادِي " .
حدثني محمد بن عمارة وأحمد بن هشام ، قالا ثنا عبيد الله بن موسى ، قال : أخبرنا
إسرائيل ، عن السديّ ، عن أبي صالح( مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى ) قال : رآه
مرّتين بفؤاده.
حدثنا أبو كُرَيب ، قال : ثنا ابن عطية ، عن قيس ، عن عاصم الأحول ، عن عكرمة ، عن
ابن عباس ، قال : إن الله اصطفى إبراهيم بالخُلَّة ، واصطفى موسى بالكلام ، واصطفى
محمدا بالرؤية صلوات الله عليهم.
حدثنا ابن حُميد ، قال : ثنا مهران ، عن سفيان عن الأعمش ، عن زياد بن الحصين ، عن
أبي العالية عن ابن عباس( مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى ) قال : رآه بفؤاده.
قال : ثنا مهران ، عن سفيان ، عن أبي إسحاق عمن سمع ابن عباس يقول( مَا كَذَبَ
الْفُؤَادُ مَا رَأَى ) قال : رأى محمد ربه.
قال ثنا حكام ، عن أبي جعفر ، عن الربيع( مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ ) فلم يكذّبه( مَا
رَأَى ) قال : رأى ربه.
قال : ثنا مهران ، عن أبي جعفر ، عن الربيع( مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى )
قال رأى محمد ربه بفؤاده.
وقال آخرون : بل الذي رآه فؤاده فلم يكذبه جبريل عليه السلام .
* ذكر من قال ذلك :
حدثني ابن بزيع البغدادي ، قال : ثنا إسحاق بن منصور ، قال : ثنا إسرائيل ، عن أبي
إسحاق ، عن عبد الرحمن بن يزيد ، عن عبد الله( مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى )
قال : رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم جبريل عليه حلتا رفرف قد ملأ
(22/508)
أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى (12) وَلَقَدْ رَآَهُ نَزْلَةً أُخْرَى (13) عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى (14) عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى (15)
ما بين السماء والأرض .
حدثنا إبراهيم بن يعقوب الجوزجانيّ ، قال : ثنا عمرو بن عاصم ، قال : ثنا حماد بن
سلمة ، عن عاصم عن زرّ ، عن عبد الله ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "
رأيْتُ جِبْريلَ عِنْدَ سِدْرَةِ المُنْتَهَى ، لَهُ سِتُّ مئَة جنَاح ، يَنْفضُ
مِنْ رِيشهِ التَّهاويلَ الدُّرَّ والياقُوتَ " .
حدثنا أبو هشام الرفاعي ، وإبراهيم بن يعقوب ، قالا ثنا زيد بن الحباب ، أن الحسين
بن واقد ، حدثه قال : حدثني عاصم بن أبي النجود ، عن أبي وائل ، عن عبد الله ، قال
: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " رأيْتُ جِبْريلَ عِنْدَ سِدْرَةِ
المُنْتَهَى لَهُ سِتُّ مئَة جنَاح " زاد الرفاعيّ في حديثه ، فسألت عاصما عن
الأجنحة ، فلم يخبرني ، فسألت أصحابي ، فقالوا : كلّ جناح ما بين المشرق والمغرب .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، في قوله( مَا
كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى ) قال : رأى جبريل في صورته التي هي صورته ، قال :
وهو الذي رآه نزلة أخرى.
واختلفت القرّاء في قراءة قوله( مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى ) فقرأ ذلك عامة
قرّاء المدينة ومكة والكوفة والبصرة( كَذبَ ) بالتخفيف ، غير عاصم الجحدري وأبي
جعفر القارئ والحسن البصري فإنهم قرءوه " كذب " بالتشديد ، بمعنى : أن
الفؤاد لم يكذب الذي رأى ، ولكنه جعله حقا وصدقا ، وقد يحتمل أن يكون معناه إذا
قرئ كذلك : ما كذّب صاحب الفؤاد ما رأى. وقد بيَّنا معنى من قرأ ذلك بالتخفيف.
والذي هو أولى القراءتين في ذلك عندي بالصواب قراءة من قرأه بالتخفيف لإجماع الحجة
من القرّاء عليه ، والأخرى غير مدفوعة صحتها لصحة معناها.
القول في تأويل قوله تعالى : { أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى (12) وَلَقَدْ
رَآهُ نزلَةً أُخْرَى (13) عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى (14) عِنْدَهَا جَنَّةُ
الْمَأْوَى (15)
(22/509)
إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى (16)
إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى
(16) }
اختلفت القرّاء في قراءة( أَفَتُمَارُونَهُ ) ، فقرأ ذلك عبد الله بن مسعود وعامة
أصحابه " أفَتَمْرُونهُ " بفتح التاء بغير ألف ، وهي قراءة عامة أهل
الكوفة ، ووجهوا تأويله إلى أفتجحدونه.
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : ثنا هشيم ، قال : أخبرنا مغيرة ، عن إبراهيم أنه
كان يقرأ : " أفَتَمْرُونَهُ " بفتح التاء بغير ألف ، يقول : أفتجحدونه;
ومن قرأ( أَفَتُمَارُونَهُ ) قال : أفتجادلونه. وقرأ ذلك عامة قرّاء المدينة ومكة
والبصرة وبعض الكوفيين( أَفَتُمَارُونَهُ ) بضم التاء والألف ، بمعنى :
أفتجادلونه.
والصواب من القول في ذلك : أنهما قراءتان معروفتان صحيحتا المعنى ، وذلك أن
المشركين قد جحدوا أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى ما أراه الله ليلة
أُسري به وجادلوا في ذلك ، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب.
وتأويل الكلام : أفتجادلون أيها المشركون محمدا على ما يرى مما أراه الله من
آياته.
وقوله( وَلَقَدْ رَآهُ نزلَةً أُخْرَى ) يقول : لقد رآه مرّة أخرى.
واختلف أهل التأويل في الذي رأى محمد نزلة أخرى نحو اختلافهم في قوله : ( مَا
كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى ) .
* ذكر بعض ما روي في ذلك من الاختلاف.
* ذكر من قال فيه رأى جبريل عليه السلام :
حدثنا محمد بن المثنى ، قال : ثنا عبد الوهاب الثقفي ، قال : ثنا داود ،
(22/510)
عن عامر ، عن مسروق ، عن عائشة ، أن
عائشة قالت : يا أبا عائشة من زعم أن محمدا رأى ربه فقد أعظم الفرية على الله; قال
: وكنت متكئا ، فجلست ، فقلت : يا أمّ المؤمنين أنظريني ولا تعجليني ، أرأيت قول
الله( وَلَقَدْ رَآهُ نزلَةً أُخْرَى ، وَلَقَدْ رَآهُ بِالأفُقِ الْمُبِينِ ) قال
: إنما هو جبريل رآه مرّة على خلقه وصورته التي خلق عليها ، ورآه مرة أخرى حين هبط
من السماء إلى الأرض سادّا عظم خلقه ما بين السماء والأرض ، قالت : أنا أوّل من
سأل النبيّ صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية ، قال " هو جبريل عليه السلام
" .
حدثنا ابن المثنى ، قال : ثنا ابن أبي عديّ وعبد الأعلى ، عن داود ، عن عامر ، عن
مسروق ، عن عائشة بنحوه.
حدثنا يزيد بن هارون ، قال : أخبرنا داود ، عن الشعبي ، عن مسروق ، قال : كنت عند
عائشة ، فذكر نحوه.
حدثنا ابن وكيع ، قال : ثنا عبد الأعلى ، عن داود ، عن الشعبي ، عن مسروق ، عن
عائشة رضي الله عنها قالت له : يا أبا عائشة ، من زعم أن محمدا رأى ربه فقد أعظم
الفرية على الله ، والله يقول : ( لا تُدْرِكُهُ الأبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ
الأبْصَارَ ) - ( وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلا وَحْيًا
أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ) قال : وكنت متكئًا ، فجلست وقلت : يا أمّ المؤمنين
انتظري ولا تعجلي ألم يقل الله( وَلَقَدْ رَآهُ نزلَةً أُخْرَى ) - ( وَلَقَدْ
رَآهُ بِالأفُقِ الْمُبِينِ ) فقالت : أنا أوّل هذه الأمة سألت رسول الله صلى الله
عليه وسلم عن ذلك ، فقال : " لَمْ أَرَ جبْريلَ عَلى صُورته إلا هاتَيْن
المَرْتَيْن مُنْهَبطا مِنَ السماء سادًّا عِظَم خَلقَه ما بَيْنَ السَّماءِ
والأرض " .
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : ثنا ابن علية ، قال : أخبرنا داود بن أبي هند ، عن
الشعبيّ ، عن مسروق ، قال : كنت متكئا عند عائشة ، فقالت : يا أبا عائشة ، ثم ذكر
نحوه.
حدثنا ابن حُميد ، قال : ثنا مهران ، عن سفيان ، عن أبي إسحاق ، عن عبد الرحمن بن
يزيد ، عن ابن مسعود( وَلَقَدْ رَآهُ نزلَةً أُخْرَى ) قال : رأى جبريل في رفرف
(22/511)
قد ملأ ما بين السماء والأرض.
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا مهران ، عن سفيان ، عن قيس بن وهب ، عن مرّة ، عن ابن
مسعود( وَلَقَدْ رَآهُ نزلَةً أُخْرَى ) قال : رأى جبريل في وبر رجليه كالدرّ ،
مثل القطر على البقل.
حدثني الحسين بن عليّ الصدائي ، قال : ثنا أبو أسامة ، عن سفيان ، عن قيس بن وهب ،
عن مرّة فى قوله( وَلَقَدْ رَآهُ نزلَةً أُخْرَى ) ثم ذكر نحوه.
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا مؤمل ، قال : ثنا سفيان ، عن سلمة بن كهيل ، عن مجاهد(
وَلَقَدْ رَآهُ نزلَةً أُخْرَى ) قال : رأى جبريل في صورته مرّتين.
حدثنا ابن حُميد ، قال : ثنا مهران ، عن سفيان ، عن سلمة بن كهيل الحضرميّ ، عن
مجاهد ، قال : رأى النبيّ صلى الله عليه وسلم جبريل عليه السلام في صورته مرّتين.
حدثنا ابن حُميد ، قال : ثنا مهران ، عن أبي جعفر ، عن الربيع( وَلَقَدْ رَآهُ
نزلَةً أُخْرَى ) قال : جبريل عليه السلام .
حدثنا عبد الحميد بن بيان ، قال : ثنا محمد بن يزيد ، عن إسماعيل ، عن عامر ، قال
: ثني عبد الله بن الحارث بن نوفل ، عن كعب أنه أخبره أن الله تباك وتعالى قسم
رؤيته وكلامه بين موسى ومحمد ، فكلَّمه موسى مرّتين ، ورآه محمد مرّتين ، قال :
فأتى مسروق عائشة ، فقال : يا أمّ المؤمنين ، هل رأى محمد ربه ، فقالت : سبحان
الله لقد قفّ شعري لما قلت : أين أنت من ثلاثة من حدّثك بهنّ فقد كذب ، من أخبرك
أن محمدا رأى ربه فقد كذب ، ثم قرأت
(22/512)
( لا تُدْرِكُهُ الأبْصَارُ وَهُوَ
يُدْرِكُ الأبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ) ، ( وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ
أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ) ومن أخبرك ما
في غد فقد كذب ، ثم تلت آخر سورة لقمان( إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ
وَيُنزلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا
تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ ) ومن أخبرك أن محمدا
كتم شيئا من الوحي فقد كذب ، ثم قرأت( يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزلَ
إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ ) قالت : ولكنه رأى جبريل عليه السلام في صورته مرّتين .
حدثنا موسى بن عبد الرحمن ، قال : ثنا أبو أسامة ، قال : ثني إسماعيل ، عن عامر ،
قال : ثنا عبد الله بن الحارث بن نوفل ، قال : سمعت كعبا ، ثم ذكر نحو حديث عبد
الحميد بن بيان ، غير أنه قال في حديثه فرآه محمد مرّة ، وكلَّمه موسى مرّتين.
* ذكر من قال فيه : رأى ربه عزّ وجلّ.
حدثنا أبو كُرَيب ، قال : ثنا عمرو بن حماد ، قال : ثنا أسباط ، عن سماك عن عكرمة
، عن ابن عباس أنه قال( وَلَقَدْ رَآهُ نزلَةً أُخْرَى ) قال : إن رسول الله صلى
الله عليه وسلم رأى ربه بقلبه ، فقال له رجل عند ذلك : أليس( لا تُدْرِكُهُ
الأبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأبْصَارَ ) ؟ قال له عكرمة : أليس ترى السماء ؟ قال
: بلى ، أفكلها ترى ؟.
حدثنا سعيد بن يحيى ، قال : ثنا أبي ، قال : ثنا محمد بن عمرو ، عن أبي سلمة ، عن
ابن عباس ، في قول الله( وَلَقَدْ رَآهُ نزلَةً أُخْرَى عِنْدَ سِدْرَةِ
الْمُنْتَهَى ) قال : دنا ربه فتدلى ، فكان قاب قوسين أو أدنى ، فأوحى إلى عبده ما
أوحى; قال : قال ابن عباس قد رآه النبيّ صلى الله عليه وسلم .
وقوله( عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى ) يقول تعالى ذكره : ولقد رآه عند سدرة
المنتهى ، فعند من صلة قوله( رَآهُ ) والسدرة : شجرة النبق.
وقيل لها سدرة المنتهى في قول بعض أهل العلم من أهل التأويل ، لأنه إليها ينتهي
علم كلّ عالم.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حُميد ، قال : ثنا يعقوب ، عن حفص بن حميد ، عن شمر ، قال : جاء ابن
عباس إلى كعب الأحبار ، فقال له حدثني عن قول الله( عِنْدَ
(22/513)
سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى عِنْدَهَا
جَنَّةُ الْمَأْوَى ) فقال كعب : إنها سدرة في أصل العرش ، إليها ينتهي علم كلّ
عالم ، مَلك مقرّب ، أو نبيّ مرسل ، ما خلفها غيب ، لا يعلمه إلا الله.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال أخبرني جرير بن حازم ، عن الأعمش ،
عن شمر بن عطية ، عن هلال بن يساف ، قال : سأل ابن عباس كعبا ، عن سدرة المنتهى
وأنا حاضر ، فقال كعب : إنها سدرة على رءوس حملة العرش ، وإليها ينتهي علم الخلائق
، ثم ليس لأحد وراءها علم ، ولذلك سميت سدرة المنتهى ، لانتهاء العلم إليها.
وقال آخرون : قيل لها سدرة المنتهى ، لأنها ينتهي ما يهبط من فوقها ، ويصعد من
تحتها من أمر الله إليها.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمارة ، قال : ثنا سهل بن عامر ، قال : ثنا مالك ، عن الزُّبير ، عن
عديّ ، عن طلحة اليامي ، عن مرّة ، عن عبد الله ، قال : لما أُسري برسول الله صلى
الله عليه وسلم انتهى به إلى سدرة المنتهى وهي في السماء السادسة ، إليها ينتهي من
يعرج من الأرض أو من تحتها ، فيقبض منها ، وإليها ينتهي ما يهبط من فوقها ، فيقبض
فيها.
حدثني جعفر بن محمد المروزي ، قال : ثنا يعلي ، عن الأجلح ، قال : قلت للضحاك :
لِم تسمى سدرة المنتهى ؟ قال : لأنه ينتهي إليها كلّ شيء من أمر الله لا يعدوها.
وقال آخرون : قيل لها : سِدْرة المنتهى ، لأنه ينتهي إليها كلّ من كان على سنة
رسول الله صلى الله عليه وسلم ومنهاجه.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حُميد ، قال : ثنا مهران ، عن أبي جعفر ، عن الربيع( عِنْدَ
(22/514)
سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى ) ، قال : إليها
ينتهي كلّ أحد ، خلا على سنة أحمد ، فلذلك سميت المنتهى.
حدثني عليّ بن سهل ، قال : ثنا حجاج ، قال : ثنا أبو جعفر الرازيّ ، عن الربيع بن
أنس ، عن أبي العالية الرياحي ، عن أبي هُريرة ، أو غيره " شكّ أبو جعفر
الرازيّ " قال : لما أُسري بالنبيّ صلى الله عليه وسلم ، انتهى إلى السدرة ،
فقيل له : هذه السدرة ينتهي إليها كلّ أحد خلا من أمتك على سنتك.
والصواب من القول في ذلك أن يقال : إن معنى المنتهى الانتهاء ، فكأنه قيل : عند
سدرة الانتهاء. وجائز أن يكون قيل لها سدرة المنتهى : لانتهاء علم كلّ عالم من
الخلق إليها ، كما قال كعب. وجائز أن يكون قيل ذلك لها ، لانتهاء ما يصعد من تحتها
، وينزل من فوقها إليها ، كما روي عن عبد الله. وجائز أن يكون قيل ذلك كذلك
لانتهاء كلّ من خلا من الناس على سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم إليها. وجائز
أن يكون قيل لها ذلك لجميع ذلك ، ولا خبر يقطع العذر بأنه قيل ذلك لها لبعض ذلك
دون بعض ، فلا قول فيه أصحّ من القول الذي قال ربنا جَلَّ جلاله ، وهو أنها سدرة
المنتهى.
وبالذي قلنا في أنها شجرة النبق تتابعت الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ،
وقال أهل العلم.
* ذكر ما في ذلك من الآثار ، وقول أهل العلم :
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا ابن أبي عديّ ، عن حميد ، عن أنس بن مالك ، قال : قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم : " انْتَهَيْتُ إلَى السِّدْرَة فإذَا
نَبْقَها مثْلُ الجرار ، وإذَا وَرَقُها مِثْلُ آذَانِ الفِيلَةِ فَلَمَّا غَشيهَا
مِنْ أمر اللهِ ما غَشيهَا ، تَحَوَّلَتْ ياقُوتا وَزُمُرَّدًا وَنَحْوَ ذلكَ
" .
حدثنا محمد بن المثنى ، قال : ثنا ابن أبي عديّ ، عن سعيد عن قتادة ، عن أنس بن
مالك عن مالك بن صعصعة رجل من قومه قال : قال نبيّ الله صلى الله عليه وسلم :
" لَمَّا انْتَهَيْتُ إلى السَّماءِ السَّابِعَة أَتَيْتُ عَلى إبْرَاهيمَ
فَقُلْتُ : يا جبْريلُ مَنْ هَذا ؟
(22/515)
قال : هَذَا أبُوكَ إبْراهِيمُ ،
فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ ، فَقَالَ : مَرْحَبَا بالابن الصَّالحِ والنَّبِيّ
الصَّالِح ، قال : ثُمَّ رُفِعَتْ لي سِدرَةُ المُنْتَهَى فحدّث نبيّ الله أنّ
نبقها مثل قلال هجر ، وأن ورقها مثل آذان الفِيلة " .
وحدثنا ابن المثنى ، قال : ثنا خالد بن الحارث ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، عن
أنس بن مالك عن مالك بن صعصعة رجل من قومه ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم ، بنحوه.
حدثنا ابن المثنى ، قال ثنا معاذ بن هشام ، قال : ثني أبي ، عن قتادة ، قال : ثنا
أنس بن مالك ، عن مالك بن صعصعة ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ، فذكر
نحوه.
حدثنا احمد بن أبي سُرَيج ، قال : ثنا الفضل بن عنبسة ، قال : ثنا حماد بن سلمة ،
عن ثابت البُنَانيّ ، عن أنس بن مالك ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم : "
رَكَبْتُ البُرَاقَ ثُمَّ ذُهِبَ بي إلى سدْرَة المُنتهَى ، فَإِذَا وَرَقُها
كآذَانِ الفِيلَةِ ، وإذَا ثمَرُها كالقلال ; قال : فَلَمَّا غَشِيَها مِنْ أمْرِ
الله ما غَشيَها تَغَيَّرتْ ، فَمَا أحَدٌ يَسْتَطيعُ أنْ يصِفَها مِنْ حُسْنها ،
قال : فأَوْحَى اللهُ إليّ ما أوْحَى " .
حدثنا أحمد بن أبي سريج ، قال : ثنا أبو النضر ، قال ثنا سليمان بن المُغيرة ، عن
أنس ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " عَرَجَ بِي المَلَكُ; قال
: ثُمَّ انتهَيْتُ إلى السِّدْرَةِ وأنا أعْرِفُ أنها سدْرَةٌ ، أعرفُ وَرَقَهَا
وثَمرَهَا; قال : فَلَمَّا غَشِيَها مِنْ أمر اللهِ ما غَشيهَا تَحَوَّلَتْ حتى ما
يسْتَطِيعُ أَحَدٌ أنْ يَصِفَها " .
حدثنا محمد بن سنان القزّاز ، قال : ثنا يونس بن إسماعيل ، قال : ثنا سليمان ، عن
ثابت ، عن أنس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مثله ، إلا أنه قال : " حتى
ما أسْتَطِيعُ أنْ أصِفَها " .
حدثنا عليّ بن سهل ، قال : ثنا حجاج ، قال : ثنا أبو جعفر الرازيّ ، عن الربيع بن
أنس ، عن أبي العالية الرياحي ، عن أبي هريرة أو غيره " شكّ أبو جعفر الرازيّ
" قال : لما أُسريَ بالنبيّ صلى الله عليه وسلم انتهى إلى السدرة ، فقيل له :
(22/516)
هذه السدرة ينتهي إليها كلّ أحد خلا من
أمتك على سنتك ، فإذا هي شجرة يخرج من أصلها أنهار من ماء غير آسن ، وأنهار من لبن
لم يتغير طعمه ، وأنهار من خمر لذّة للشاربين ، وأنهار من عسل مصفى ، وهي شجرة
يسير الراكب في ظلها سبعين عاما لا يقطعها ، والورقة منها تغطي الأمة كلها "
.
وحدثنا ابن حُميد ، قال : ثنا مهران ، عن سفيان ، عن سلمة بن كهيل الحضرميّ ، عن
الحسن العرنيِّ ، أراه عن الهذيل بن شرحبيل ، عن ابن مسعود( سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى
) قال : من صُبْر الجنة عليها أو عليه فضول السندس والإستبرق ، أو جعل عليها فضول.
وحدثنا ابن حُميد مرّة أخرى ، عن مهران ، فقال عن الحسن العُرني ، عن الهذيل ، عن
ابن مسعود " ولم يشكّ فيه " ، وزاد فيه : قال صبر الجنة : يعني وسطها;
وقال أيضا : عليها فضول السندس والإستبرق.
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا عبد الرحمن ، قال : ثنا سفيان ، عن سلمة بن كهيل ، عن
الحسن العرني ، عن الهذيل بن شرحبيل ، عن عبد الله بن مسعود في قوله( سِدْرَةِ
الْمُنْتَهَى ) قال : صبر الجنة عليها السندس والإستبرق.
حدثنا أبو كُرَيب ، قال : ثنا يونس بن بكير ، عن محمد بن إسحاق ، عن يحيى بن عباد
بن عبد الله ، عن أبيه ، عن أسماء بنت أبي بكر ، قالت : سمعت رسول الله صلى الله
عليه وسلم ، وذكر سدرة المنتهى ، فقال : يَسيرُ في ظِلّ الْفَنَن مِنْها مِئَةُ
رَاكِبٍ ، أو قال : يَسْتَظلُّ فِي الفَنَنِ مِنْها مِئَةُ رَاكِبٍ " ، شكّ
يحيى " فِيها فَراشُ الذَّهَبِ ، كانَّ ثمرها القِلالُ " .
حدثنا ابن حُميد ، قال : ثنا مهران ، عن أبي جعفر ، عن الربيع ، عن سدرة المنتهى ،
قال : السدرة : شجرة يسير الراكب في ظلها مئة عام لا يقطعها ، وإن ورقة منها
غَشَّت الأمَّةَ كلها.
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، في قوله( عِنْدَ
سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى ) : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " رُفِعتْ لي
سدْرَةٌ مُنْتهَاها
(22/517)
فِي السَّماءِ السَّابِعَة ، نَبْقُها
مِثْلُ قِلال هَجِرٍ ، وَوَرَقُها مِثْلُ آذان الفيلَة ، يَخْرُجُ مِنْ سَاقِها
نَهْرانِ ظاهِران ، ونَهْرانِ باطِنان ، قال : قُلْتُ لجِبْرِيلَ ما هَذَان
النَّهْرَانِ أرْوَاحٌ (1) قال : أَمَّا النَّهْرَانِ الباطِنان ، فَفِي الجَنَّة
، وأمَّا النَّهْرَانِ الظَّاهرَان : فالنِّيلُ والفراتُ " .
وقوله( عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى ) يقول تعالى ذكره : عند سدرة المنتهى جنة
مأوى الشهداء.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ،
عن ابن عباس ، قوله( عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى ) قال : هي يمين العرش ، وهي
منزل الشهداء.
حدثنا ابن حُميد ، قال : ثنا مهران ، عن سفيان ، عن داود ، عن أبي العالية عن ابن
عباس( عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى ) قال : هو كقوله( فَلَهُمْ جَنَّاتُ
الْمَأْوَى نزلا بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، في قوله(
عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى ) قال : منازل الشهداء.
وقوله( إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى ) يقول تعالى ذكره : ولقد رآه نزلة
أخرى ؛ إذ يغشى السدرة ما يغشى ، فإذ من صلة رآه.
واختلف أهل التأويل في الذي يغشى السدرة ، فقال بعضهم : غَشيَها فرَاش الذهب.
* ذكر من قال ذلك :
__________
(1) كذا في المخطوطة رقم 100 تفسير بدار الكتب المصرية ( ج 22 : 59 ب ) ولعل
الكلمة محرفة ، أو لعلها زائدة من قلم الناسخ .
(22/518)
حدثني محمد بن عمارة ، قال : ثنا سهل
بن عامر ، قال : ثنا مالك ، عن الزبير بن عديّ ، عن طلحة الياميّ ، عن مرّة ، عن
عبد الله( إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى ) قال : غشيها فَرَاش من ذهب.
حدثني أبو السائب ، قال : ثنا أبو معاوية ، عن الأعمش ، عن مسلم أو طلحة "
شكّ الأعمش " عن مسروق في قوله : ( إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى )
قال : غشيها فَراش من ذهب.
حدثنا أبو كُرَيب ، قال : ثنا أبو خالد ، عن جويبر ، عن الضحاك ، عن ابن عباس ،
قال : قال رسول صلى الله عليه وسلم : " رأيتُها بعَيْني سِدْرَةَ المُنْتَهَى
حتى اسْتَثبَتُّها ثُمَّ حالَ دُونَها فَرَاشٌ مِنْ ذَهَبٍ " .
حدثنا ابن وكيع ، قال : ثنا أبو خالد الأحمر ، عن جويبر ، عن الضحاك ، عن ابن
عباس( إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى ) قال : قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم : " رأيتُها حتى اسْتَثبَتُّها ، ثُمَّ حالَ دُونَها فَرَاشُ الذَهَبِ
" .
حدثنا ابن حُمَيد ، قال ثنا جرير ، عن مغيرة ، عن مجاهد وإبراهيم ، في قوله( إِذْ
يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى ) قال : غشيها فراش من ذهب.
حدثنا ابن حُمَيد ، قال ثنا مهران ، عن موسى ، يعني ابن عبيدة ، عن يعقوب بن زيد ،
قال : " سئل النبي صلى الله عليه وسلم : ما رأيتَ يغشى السِّدرة ؟ قال :
رَأيْتُها يَغْشاها فَرَاشٌ مِنْ ذَهَبٍ " .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله( إِذْ يَغْشَى
السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى ) قال : قيل له : يا رسولَ الله ، أيّ شيء رأيت يغشى تلك
السدرة ؟ قال : رَأيْتُها يَغْشاها فَرَاشٌ مِنْ ذَهَبٍ ، ورأيْتُ على كُلّ
وَرَقَةٍ مِنْ وَرَقِها مَلَكا قائما يُسَبِّحُ اللهَ " .
وقال آخرون : الذي غشيها ربّ العزّة وملائكته.
* ذكر من قال ذلك :
(22/519)
مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى (17) لَقَدْ رَأَى مِنْ آَيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى (18)
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ،
قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : ( إِذْ يَغْشَى
السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى ) قال : غشيها الله ، فرأى محمد من آيات ربه الكبرى.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث ، قال :
ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله( إِذْ
يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى ) قال : كان أغصان السدرة لؤلؤًا وياقوتا أو
زبرجدا ، فرآها محمد ، ورأى محمد بقلبه ربه.
حدثنا ابن حُميد ، قال : ثنا مهران ، عن أبي جعفر ، عن الربيع( إِذْ يَغْشَى
السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى ) قال : غشيها نور الربّ ، وغشيتها الملائكة من حُبّ الله
مثل الغربان حين يقعن على الشجر " .
حدثنا ابن حُميد ، قال : ثنا حكام ، عن أبي جعفر ، عن الربيع بنحوه.
حدثنا علي بن سهل ، قال : ثنا حجاج ، قال : ثنا أبو جعفر الرازيّ ، عن الربيع بن
أنس ، عن أبي العالية الرياحي ، عن أبي هريرة أو غيره " شكّ أبو جعفر "
قال : لما أُسري بالنبيّ صلى الله عليه وسلم انتهى إلى السدرة ، قال : فغشيها نور
الخَلاقِ ، وغشيتها الملائكة أمثال الغربان حين يقعن على الشجر ، قال : فكلمه عند
ذلك ، فقال له : سَلْ.
القول في تأويل قوله تعالى : { مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى (17) لَقَدْ رَأَى
مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى (18) }
يقول تعالى ذكره : ما مال بصر محمد يَعْدِل يمينا وشمالا عما رأى ، أي ولا جاوز ما
أمر به قطعا ، يقول : فارتفع عن الحدّ الذي حُدّ له.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
(22/520)
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا أبو أحمد الزبيريّ ، قال : ثنا سفيان ، عن منصور ، عن
مسلم البطين ، عن ابن عباس ، فى قوله( مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى ) قال : ما
زاغ يمينا ولا شمالا ولا طغى ، ولا جاوز ما أُمر به.
حدثنا ابن حُميد ، قال : ثنا مهران ، عن موسى بن عبيدة ، عن محمد بن كعب القرظي(
مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى ) قال رأى جبرائيل في صورة المَلك.
قال : ثنا مهران ، عن سفيان ، عن منصور ، عن مسلم البطين ، عن ابن عباس( مَا زَاغَ
الْبَصَرُ وَمَا طَغَى ) قال : ما زاغ : ذهب يمينا ولا شمالا ولا طغى : ما جاوز.
وقوله( لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى ) يقول تعالى ذكره : لقد رأى
محمد هنالك من أعلام ربه وأدلته الأعلام والأدلة الكبرى.
واختلف أهل التأويل في تلك الآيات الكبرى ، فقال بعضهم : رأى رَفْرفا أخضر قد سدّ
الأفق.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا أبو هشام الرفاعي ، قال : ثنا أبو معاوية ، قال : ثنا الأعمش ، عن إبراهيم ،
عن علقمة ، عن عبد الله( لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى ) قال :
رفرفا أخضر من الجنة قد سدّ الأفق.
حدثني أبو السائب ، قال : ثنا أبو معاوية ، عن الأعمش ، عن إبراهيم ، قال : قال
عبد الله ، فذكر مثله.
حدثنا ابن حُميد ، قال : ثنا مهران ، عن سفيان ، عن الأعمش ، عن إبراهيم ، عن
علقمة ، عن ابن مسعود( مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى ) قال : رفرفا أخضر قد سدّ
الأفق.
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، عن
(22/521)
أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى (19) وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى (20) أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى (21) تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى (22)
الأعمش أن ابن مسعود قال : رأى النبيّ
صلى الله عليه وسلم ، رَفرفا أخضر من الجنة قد سدّ الأفق.
وقال آخرون : رأى جبريل في صورته.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله( لَقَدْ رَأَى
مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى ) قال : جبريل رآه في خلقه الذي يكون به في
السموات ، قدر قوسين من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فيما بينه وبينه.
القول في تأويل قوله تعالى : { أَفَرَأَيْتُمُ اللاتَ وَالْعُزَّى (19) وَمَنَاةَ
الثَّالِثَةَ الأخْرَى (20) أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الأنْثَى (21) تِلْكَ إِذًا
قِسْمَةٌ ضِيزَى (22) }
يقول تعالى ذكره : أفرأيتم أيها المشركون اللات ، وهي من الله ألحقت فيه التاء
فأنثت ، كما قيل عمرو للذكر ، وللأنثى عمرة; وكما قيل للذكر عباس ، ثم قيل للأنثى
عباسة ، فكذلك سمى المشركون أوثانهم بأسماء الله تعالى ذكره ، وتقدّست أسماؤهم ،
فقالوا من الله اللات ، ومن العزيز العُزَّى; وزعموا أنهن بنات الله ، تعالى الله
عما يقولون وافتروا ، فقال جلّ ثناؤه لهم : أفرأيتم أيها الزاعمون أن اللات
والعُزَّى ومناة الثالثة بنات الله( أَلَكُمُ الذَّكَرُ ) يقول : أتختارون لأنفسكم
الذكر من الأولاد وتكرهون لها الأنثى ، وتجعلون( َلَهُ الأنْثَى ) التي لا ترضونها
لأنفسكم ، ولكنكم تقتلونها كراهة منكم لهنّ.
واختلفت القرّاء في قراءة قوله : ( اللاتَ ) فقرأته عامة قرّاء الأمصار بتخفيف
التاء على المعنى الذي وصفتُ. وذُكر أن اللات بيت كان بنخلة تعبده قريش. وقال
بعضهم : كان بالطائف.
* ذكر من قال ذلك :
(22/522)
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال :
ثنا سعيد ، عن قتادة( أَفَرَأَيْتُمُ اللاتَ وَالْعُزَّى ) أما اللات فكان
بالطائف.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله( أَفَرَأَيْتُمُ
اللاتَ وَالْعُزَّى ) قال : اللات بيت كان بنخلة تعبده قريش.
وقرأ ذلك ابن عباس ومجاهد وأبو صالح " اللاتَّ " بتشديد التاء وجعلوه
صفة للوثن الذي عبدوه ، وقالوا : كان رجلا يَلُتّ السويق للحاج; فلما مات عكفوا
على قبره فعبدوه.
* ذكر الخبر بذلك عمن قاله :
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا عبد الرحمن ، قال : ثنا سفيان ، عن منصور ، عن
مجاهد(أفَرأيْتُمُ اللاتَّ والعُزَّى) قال : كان يَلُتّ السويق للحاجِّ ، فعكف على
قبره.
قال : ثنا مؤمل ، قال : ثنا سفيان ، عن منصور ، عن مجاهد(أفَرأيْتُمُ اللاتَّ) قال
: اللات : كان يلتّ السويق للحاجِّ.
حدثنا ابن حُميد ، قال : ثنا مهران ، عن سفيان ، عن منصور ، عن مجاهد "
اللاتَّ " قال : كان يَلُتّ السويق فمات ، فعكفوا على قبره.
حدثنا ابن حُميد ، قال : ثنا جرير ، عن منصور ، عن مجاهد ، في قوله " اللاتَّ
" قال : رجل يلتّ للمشركين السويق ، فمات فعكفوا على قبره.
حدثنا أحمد بن هشام ، قال : ثنا عبيد الله بن موسى ، عن إسرائيل ، عن أبي صالح ،
في قوله " اللاتَّ " قال : اللاتّ : الذي كان يقوم على آلهتهم ، يَلُتّ
لهم السويق ، وكان بالطائف.
حدثني أحمد بن يوسف ، قال : ثنا أبو عبيد ، قال : ثنا عبد الرحمن ، عن أبي الأشهب
، عن أبي الجوزاء عن ابن عباس ، قال : كان يلتّ السويق للحاجّ.
(22/523)
وأولى القراءتين بالصواب عندنا في ذلك
قراءة من قرأه بتخفيف التاء على المعنى الذي وصفت لقارئه كذلك لإجماع الحجة من
قرّاء الأمصار عليه.
وأما العُزَّى فإن أهل التأويل اختلفوا فيها ، فقال بعضهم : كان شجرات يعبدونها.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا مؤمل ، قال : ثنا سفيان ، عن منصور ، عن مجاهد(
وَالْعُزَّى ) قال : العُزَّى : شُجيرات.
وقال آخرون : كانت العُزَّى حَجَرا أبيض.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حُميد ، قال : ثنا يعقوب ، عن جعفر ، عن سعيد بن جُبَير ، قال(
الْعُزَّى ) : حَجَرا أبيض.
وقال آخرون : كان بيتا بالطائف تعبده ثقيف.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله( وَالْعُزَّى )
قال : العزّى : بيت بالطائف تعبده ثقيف.
وقال آخرون : بل كانت ببطن نَخْلة.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ
الأخْرَى ) قال : أما مناةُ فكانت بقُدَيد ، آلهة كانوا يعبدونها ، يعني اللات
والعُزَّى ومَناة.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله( وَمَنَاةَ
الثَّالِثَةَ الأخْرَى ) قال : مناة بيت كان بالمشلِّل يعبده بنو كعب.
(22/524)
واختلف أهل العربية في وجه الوقف على
اللات ومنات ، فكان بعض نحويّي البصرة يقول : إذا سكت قلت اللات ، وكذلك مناة تقول
: مناتْ.
وقال : قال بعضهم : اللاتّ ، فجعله من اللتّ ؛ الذي يلت ولغة للعرب يسكتون على ما
فيه الهاء بالتاء يقولون : رأيت طَلْحتْ ، وكلّ شيء مكتوب بالهاء فإنها تقف عليه
بالتاء ، نحو نعمة ربك وشجرة. وكان بعض نحويّي الكوفة يقف على اللات بالهاء "
أفَرأيْتُمُ اللاة " وكان غيره منهم يقول : الاختيار في كل ما لم يضف أن يكون
بالهاء رحمة من ربي ، وشجرة تخرج ، وما كان مضافا فجائزا بالهاء والتاء ، فالتاء
للإضافة ، والهاء لأنه يفرد ويوقف عليه دون الثاني ، وهذا القول الثالث أفشى
اللغات وأكثرها في العرب وإن كان للأخرى وجه معروف. وكان بعض أهل المعرفة بكلام
العرب من أهل البصرة يقول : اللات والعزّى ومناة الثالثة : أصنام من حجارة كانت في
جوف الكعبة يعبدونها.
وقوله( أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الأنْثَى ) يقول : أتزعمون أن لكم الذكر الذي
ترضونه ، ولله الأنثى التي لا ترضونها لأنفسكم( تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى )
يقول جلّ ثناؤه : قسمتكم هذه قسمة جائرة غير مستوية ، ناقصة غير تامة ، لأنكم
جعلتم لربكم من الولد ما تكرهون لأنفسكم ، وآثرتم أنفسكم بما ترضونه ، والعرب تقول
: ضزته حقه بكسر الضاد ، وضزته بضمها فأنا أضيزه وأضوزه ، وذلك إذا نقصته حقه ومنعته
وحُدثت عن معمر بن المثنى قال : أنشدني الأخفش :
فإنْ تَنْأَ عَنَّا نَنْتَقصْكَ وَإنْ تَغِبْ... فَسَهْمُكَ مَضْئُوزٌ وأنْفُك
رَاغِمُ (1)
__________
(1) رواية البيت في " اللسان ، ضأز " : " وإن تقم " في مكان
" وإن تغب " . قال : ابن الأعرابي تقول العرب : قسمة ضؤزى بالضم والهمز
؛ وضوزى ، بالضم بلا همز ؛ وضئزي ، بالكسر والهمز ؛ وضيزي ، بالكسر ، وترك الهمز ؛
قال : ومعناها كلها الجور . وفي ( اللسان : ضيز ) : ضاز في الحكم : أي جار . وضازه
حقه يضيزه ضيزا : نقصه وبخسه ومنعه . وضزت فلانا أضيزه ضيزا : جرت عليه . وضاز
يضيز : إذا جار . وقد يهمز فيقال : ضأزه يضأزه ضأزا.
وفي التنزيل العزيز : ( تلك إذا قسمة ضيزى ) ، وقسمة ضيزى وضوزى أي جائرة . وقد
نقل المؤلف كلام الفراء بتمامه في معاني القرآن ( الورقة 316 ) ، فنكتفي بالإشارة
إليه . ولخص القرطبي كلام النحويين في ضيزى تلخيصا حسنًا في ( 17 : 103 ) فراجعه
ثمة .
(22/525)
ومن العرب من يقول : ضَيْزى بفتح الضاد
وترك الهمز فيها; ومنهم من يقول : ضأزى بالفتح والهمز ، وضُؤزى بالضم والهمز ، ولم
يقرأ أحد بشيء من هذه اللغات. وأما الضيِّزى بالكسر فإنها فُعلى بضم الفاء ، وإنما
كُسرت الضاد منها كما كسرت من قولهم : قوم بيض وعين ، وهي " فُعْل " لأن
واحدها : بيضاء وعيناء ليؤلفوا بين الجمع والاثنين والواحد ، وكذلك كرهوا ضمّ
الضاد من ضِيزَى ، فتقول : ضُوزَى ، مخافة أن تصير بالواو وهي من الياء. وقال
الفرّاء : إنما قضيت على أوّلها بالضمّ ، لأن النعوت للمؤنث تأتي إما بفتح ، وإما
بضمّ; فالمفتوح : سكْرَى وعطشى; والمضموم : الأنثى والحُبلى; فإذا كان اسما ليس
بنعت كسر أوّله ، كقوله( وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ )
كسر أوّلها ، لأنها اسم ليس بنعت ، وكذلك الشِّعْرَى كسر أوّلها ، لأنها اسم ليس
بنعت.
وبنحو الذي قلنا في تأويل قوله( قِسْمَةٌ ضِيزَى ) قال أهل التأويل ، وإن اختلفت
ألفاظهم بالعبارة عنها ، فقال بعضهم : قِسْمة عَوْجاء.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث ، قال :
ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله( تِلْكَ
إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى ) قال : عوجاء.
وقال آخرون : قسمة جائرة.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ
ضِيزَى ) يقول : قسمة جائرة.
(22/526)
إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآَبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى (23)
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : ثنا
محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة( قِسْمَةٌ ضِيزَى ) قال : قسمة جائرة.
حدثنا محمد بن حفص أبو عبيد الوصائي (1) قال : ثنا ابن حُميد ، قال : ثنا ابن
لهيعة ، عن ابن عمرة ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، في قوله : ( تِلْكَ إِذًا
قِسْمَةٌ ضِيزَى ) قال : تلك إذا قسمة جائرة لا حقّ فيها.
وقال آخرون : قسمة منقوصة.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حُميد ، قال : ثنا مهران ، عن سفيان( تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى )
قال : منقوصة.
وقال آخرون : قسمة مخالفة.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله( تِلْكَ إِذًا
قِسْمَةٌ ضِيزَى ) قال : جعلوا لله تبارك وتعالى بنات ، وجعلوا الملائكة لله بنات
، وعبدوهم ، وقرأ( أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُمْ
بِالْبَنِينَ وَإِذَا بُشِّرَ ) ... الآية ، وقرأ( وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ
) ... إلى آخر الآية ، وقال : دعوا لله ولدا ، كما دعت اليهود والنصارى ، وقرأ(
كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ) قال : والضيزى في كلام العرب :
المخالفة ، وقرأ( إِنْ هِيَ إِلا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ
) .
القول في تأويل قوله تعالى : { إِنْ هِيَ إِلا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ
وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنزلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلا
الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى
(23) }
__________
(1) لم أجده في الخلاصة ، ولا في التاج ولا أعلم على أي شيء نسب .
(22/527)
أَمْ لِلْإِنْسَانِ مَا تَمَنَّى (24) فَلِلَّهِ الْآَخِرَةُ وَالْأُولَى (25) وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى (26)
يقول تعالى ذكره : ما هذه الأسماء التي
سميتموها وهي اللات والعزّى ومناة الثالثة الأخرى ، إلا أسماء سميتموها أنتم
وآباؤكم أيها المشركون بالله ، وآباؤكم من قبلكم ، ما أنزل الله بها ، يعني بهذه
الأسماء ، يقول : لم يبح الله ذلك لكم ، ولا أذن لكم به.
كما حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله( مِنْ
سُلْطَانٍ ) ... إلى آخر الآية.
وقوله( إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلا الظَّنَّ ) يقول تعالى ذكره : ما يتبع هؤلاء
المشركون في هذه الأسماء التي سموا بها آلهتهم إلا الظنّ بأنّ ما يقولون حقّ لا
اليقين( وَمَا تَهْوَى الأنْفُسُ ) يقول : وهوى أنفسهم ، لأنهم لم يأخذوا ذلك عن
وحي جاءهم من الله ، ولا عن رسول الله أخبرهم به ، وإنما اختراق من قِبل أنفسهم ،
أو أخذوه عن آبائهم الذين كانوا من الكفر بالله على مثل ما هم عليه منه.
وقوله( وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى ) يقول : ولقد جاء هؤلاء
المشركين بالله من ربهم البيان مما هم منه على غير يقين ، وذلك تسميتهم اللات
والعزّى ومناة الثالثة بهذه الأسماء وعبادتهم إياها. يقول : لقد جاءهم من ربهم
الهدى في ذلك ، والبيان بالوحي الذي أوحيناه إلى محمد صلى الله عليه وسلم أن
عبادتها لا تنبغي ، وأنه لا تصلح العبادة إلا لله الواحد القهار.
وقال ابن زيد في ذلك ما حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ،
في قوله : ( وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى ) فما انتفعوا به.
القول في تأويل قوله تعالى : { أَمْ لِلإنْسَانِ مَا تَمَنَّى (24) فَلِلَّهِ
الآخِرَةُ وَالأولَى (25) وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لا تُغْنِي
شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ
وَيَرْضَى (26) }
(22/528)
يقول تعالى ذكره : أم اشتهى محمد صلى
الله عليه وسلم ما أعطاه الله من هذه الكرامة التي كرّمه بها من النبوّة والرسالة
، وأنزل الوحي عليه ، وتمنى ذلك ، فأعطاه إياه ربه ، فلله ما في الدار الآخرة
والأولى ، وهي الدنيا ، يعطي من شاء من خلقه ما شاء ، ويحرم من شاء منهم ما شاء.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله( أَمْ
لِلإنْسَانِ مَا تَمَنَّى ) قال : وإن كان محمد تمنى هذا ، فذلك له.
وقوله( وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا )
يقول تعالى ذكره : وكم من ملك في السموات لا تغني : كثير من ملائكة الله ، لا تنفع
شفاعتهم عند الله لمن شفعوا له شيئا ، إلا أن يشفعوا له من بعد أن يأذن الله لهم
بالشفاعة لمن يشاء منهم أن يشفعوا له ويرضى ، يقول : ومن بعد أن يرضى لملائكته
الذين يشفعون له أن يشفعوا له ، فتنفعه حينئذ شفاعتهم ، وإنما هذا توبيخ من الله
تعالى ذكره لعبدة الأوثان والملأ من قريش وغيرهم الذين كانوا يقولون( مَا
نَعْبُدُهُمْ إِلا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى ) فقال الله جلّ ذكره
لهم : ما تنفع شفاعة ملائكتي الذين هم عندي لمن شفعوا له ، إلا من بعد إذني لهم
بالشفاعة له ورضاي ، فكيف بشفاعة من دونهم ، فأعلمهم أن شفاعة ما يعبدون من دونه
غير نافعتهم.
(22/529)
إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلَائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثَى (27) وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا (28) فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (29)
القول في تأويل قوله تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلائِكَةَ تَسْمِيَةَ الأنْثَى (27) وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا (28) فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (29) }
(22/529)
ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَى (30)
يقول تعالى ذكره : إن الذين لا يصدّقون
بالبعث في الدار الآخرة ، وذلك يوم القيامة ليسمون ملائكة الله تسمية الإناث ،
وذلك أنهم كانوا يقولون : هم بنات الله.
وبنحو الذي قلنا في قوله( تَسْمِيَةَ الأنْثَى ) قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث ، قال :
ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله(
تَسْمِيَةَ الأنْثَى ) قال : الإناث.
وقوله( وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ ) يقول تعالى : وما لهم يقولون من تسميتهم
الملائكة تسمية الأنثى من حقيقة علم( إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلا الظَّنَّ ) يقول : ما
يتبعون في ذلك إلا الظنّ ، يعني أنهم إنما يقولون ذلك ظنا بغير علم.
وقوله( وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا ) يقول : وإن الظنّ لا
ينفع من الحق شيئا فيقوم مقامه وقوله( فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ
ذِكْرِنَا ) يقول جلّ ثناؤه لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : فدع من أدبر يا محمد
عن ذكر الله ولم يؤمن به فيوحده.
وقوله( وَلَمْ يُرِدْ إِلا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا ) يقول : ولم يطلب ما عند الله
في الدار الآخرة ، ولكنه طلب زينة الحياة الدنيا ، والتمس البقاء فيها.
القول في تأويل قوله تعالى : { ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ
هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَى (30)
}
يقول تعالى ذكره : هذا الذي يقوله هؤلاء الذين لا يؤمنون بالآخرة في الملائكة من
تسميتهم إياها تسمية الأنثى( مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ ) يقول : ليس لهم علم
إلا هذا الكفر بالله ، والشرك به على وجه الظنّ بغير يقين علم.
وكان ابن زيد يقول في ذلك ، ما حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن
(22/530)
وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى (31) الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى (32)
وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله(
فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلا الْحَيَاةَ
الدُّنْيَا ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ ) قال : يقول ليس لهم علم إلا الذي
هم فيه من الكفر برسول الله ، ومكايدتهم لما جاء من عند الله ، قال : وهؤلاء أهل
الشرك.
وقوله( إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ ) يقول تعالى
ذكره : إن ربك يا محمد هو أعلم بمن جار عن طريقه فى سابق علمه ، فلا يؤمن ، وذلك
الطريق هو الإسلام( وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَى ) يقول : وربك أعلم بمن أصاب
طريقه فسلكه في سياق علمه ، وذلك الطريق أيضا الإسلام.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ
لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا
بِالْحُسْنَى (31) الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلا
اللَّمَمَ }
يقول تعالى ذكره( وَلِلَّهِ ) مُلك( مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ ) من
شيء. وهو يضلّ من يشاء ، وهو أعلم بهم( لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا
عَمِلُوا ) يقول : ليجزي الذين عصوه من خلقه ، فأساءوا بمعصيتهم إياه ، فيثيبهم
بها النار( وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى ) يقول : وليجزي الذين
أطاعوه فأحسنوا بطاعتهم إياه في الدنيا بالحسنى وهي الجنة ، فيثيبهم بها.
وقيل : عُنِي بذلك أهل الشرك والإيمان.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرني عبد الله بن عياش ، قال : قال
زيد بن أسلم في قول الله( لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا
وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا ) المؤمنون.
وقوله( الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإثْمِ ) يقول : الذين يبتعدون عن
كبائر
(22/531)
الإثم التي نهى الله عنها وحرمها عليهم
فلا يقربونها ، وذلك الشرك بالله ، وما قد بيَّناه في قوله( إِنْ تَجْتَنِبُوا
كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ ) .
وقوله( وَالْفَوَاحِشَ ) وهي الزنا وما أشبهه ، مما أوجب الله فيه حدّا.
وقوله( إِلا اللَّمَمَ ) اختلف أهل التأويل في معنى " إلا " في هذا
الموضع ، فقال بعضهم : هي بمعنى الاستثناء المنقطع ، وقالوا : معنى الكلام : الذين
يجتنبون كبائر الإثم والفواحش ، إلا اللمم الذي ألمُّوا به من الإثم والفواحش في
الجاهلية قبل الإسلام ، فإن الله قد عفا لهم عنه ، فلا يؤاخذهم به.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : ثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ،
قوله( الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلا اللَّمَمَ )
يقول : إلا ما قد سلف.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله( الَّذِينَ
يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلا اللَّمَمَ ) قال : المشركون
إنما كانوا بالأمس يعملون معناه ، فانزل الله عزّ وجلّ( إِلا اللَّمَمَ ) ما كان
منهم في الجاهلية. قال : واللمم : الذي ألموا به من تلك الكبائر والفواحش في
الجاهلية قبل الإسلام ، وغفرها لهم حين أسلموا.
حدثني يعقوب ، قال : ثنا ابن علية ، عن ابن عياش ، عن ابن عون ، عن محمد ، قال :
سأل رجل زيد بن ثابت ، عن هذه الآية( الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإثْمِ
وَالْفَوَاحِشَ إِلا اللَّمَمَ ) فقال : حرم الله عليك الفواحش ما ظهر منها وما
بطن.
حدثني يونس بن عبد الأعلى ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرني عبد الله بن عياش
قال : قال زيد بن أسلم في قول الله( الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإثْمِ
وَالْفَوَاحِشَ إِلا اللَّمَمَ ) قال : كبائر الشرك والفواحش : الزنى ، تركوا ذلك
(22/532)
حين دخلوا في الإسلام ، فغفر الله لهم
ما كانوا ألموا به وأصابوا من ذلك قبل الإسلام.
وكان بعض أهل العلم بكلام العرب ممن يوجه تأويل " إلا " في هذا الموضع
إلى هذا الوجه الذي ذكرته عن ابن عباس يقول في تأويل ذلك : لم يؤذن لهم في اللمم ،
وليس هو من الفواحش ، ولا من كبائر الإثم ، وقد يُستثنى الشيء من الشيء ، وليس منه
على ضمير قد كفّ عنه فمجازه ، إلا أن يلمَّ بشيء ليس من الفواحش ولا من الكبائر ،
قال : الشاعر :
وَبَلْدَةٍ ليْسَ بِها أَنِيسُ... إلا اليَعافيرُ وإلا الْعِيسُ (1)
واليعافير : الظباء ، والعيس : الإبل وليسا من الناس ، فكأنه قال : ليس به أنيس ،
غير أن به ظباء وإبلا. وقال بعضهم : اليعفور من الظباء الأحمر ، والأعيس : الأبيض.
وقال بنحو هذا القول جماعة من أهل التأويل.
__________
(1) البيت من شواهد أبي عبيدة في مجاز القرآن ( الورقة 231 ) قال عند قوله تعالى :
( يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم ) : لم يؤذن لهم في اللمم ، وليس هو من
الفواحش ولا من كبائر الإثم ، وقد يستثنى الشيء من الشيء وليس منه على ضمير قد كف
عنه ، فمجازه : إلا أن يلم ملم بشيء ، ليس من الفواحش والكبائر قال : " وبلد
ليس بها أنيس ... البيتين " . واليعافير الظباء ، والعيس : الإبل ، وليسا من
الناس ، فكأنه قال : ليس بها أنيس غير أن بها ظباء وإبلا . وقال بعضهم : اليعفور
من الظباء : الأحمر ، والأعيس : الأبيض من الظباء أ . هـ . وقال العيني في فرائد
القلائد : قاله جران العود النميري ، واسمه عامر بن الحارث . والشاهد في "
إلا اليعافير " فإنه استثناء من قوله أنيس ، على الإبدال ، مع أنه منقطع ،
على لغة بني تميم ، وأهل الحجاز يوجبون النصب " أي في الاستثناء المنقطع
" . وهو جمع يعفور ، وهو ولد البقرة الوحشية ، والعيس جمع عيساء ، وهي الإبل
البيض يخالط بياضها شيء من الشقرة أ . هـ . وقال الفراء في معاني القرآن ( الورقة
316 ) قوله " إلا اللمم " : يقول : إلا المتقارب من صغير الذنوب . قال
وسمعت من بعض العرب : ألم يفعل : في معنى كاد يفعل ، وذكر الكلبي بإسناده أنها
النظرة في غير تعمد ، فهي لمم ، وهي مغفورة ، فإن أعاد النظر فليس بلمم ، هو ذنب أ
. هـ .
(22/533)
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : ثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن الأعمش ، عن أبي
الضحى ، أن ابن مسعود قال : زنى العينين : النظر ، وزنى الشفتين : التقبيل ، وزنى
اليدين : البطش ، وزنى الرجلين : المشي ، ويصدّق ذلك الفرْج أو يكذّبه ، فإن تقدّم
بفرجه كان زانيا ، وإلا فهو اللمم.
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، قال : وأخبرنا ابن طاوس ،
عن أبيه ، عن ابن عباس قال : ما رأيت شيئا أشبه باللمم مما قال أبو هريرة عن النبي
صلى الله عليه وسلم : " إِنَّ اللهَ كَتَبَ عَلَى ابْنِ آدَمَ حَظَّهُ مِنْ
الزِّنى أَدْرَكَهُ ذَلِكَ لا مَحَالَةَ ، فَزِنَى الْعَيْنَينِ النَّظَرُ ،
وَزِنَى اللِّسَانِ المَنْطِقُ ، وَالنَّفْسُ تَتَمَنَّى وَتَشْتَهي ، وَالْفَرْجُ
يُصَدِّقُ ذَلِكَ أَوْ يُكَذِّبُهُ " .
حدثني أبو السائب ، قال : ثنا أبو معاوية ، عن الأعمش ، عن مسلم ، عن مسروق في
قوله( إِلا اللَّمَمَ ) قال : إن تقدم كان زنى ، وإن تأخر كان لَمَمًا.
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : ثنا ابن عُلَية ، قال : ثنا منصور بن عبد الرحمن ،
قال : سألت الشعبيّ ، عن قول الله( يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإثْمِ
وَالْفَوَاحِشَ إِلا اللَّمَمَ ) قال : هو ما دون الزنى ، ثم ذكر لنا عن ابن مسعود
، قال : " زنى العينين : ما نظرت إليه ، وزنى اليد : ما لمستْ ، وزنى الرجل :
ما مشتْ والتحقيق بالفرج.
حدثني محمد بن معمر ، قال : ثنا يعقوب ، قال : ثنا وهيب ، قال : ثنا عبد الله بن
عثمان بن خُثَيم بن عمرو القاريّ ، قال : ثني عبد الرحمن بن نافع الذي يقال له ابن
لُبابة الطائفيّ ، قال : سألت أبا هُريرة عن قول الله( الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ
كَبَائِرَ الإثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلا اللَّمَمَ ) قال : القُبلة ، والغمزة ،
والنظْرة والمباشرة ، إذا مسّ الختان الختان فقد وجب الغسل ، وهو الزنى.
وقال آخرون : بل ذلك استثناء صحيح ، ومعنى الكلام : الذين يجتنبون
(22/534)
كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم إلا أن
يلمّ بها ثم يتوب.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني سليمان بن عبد الجبار ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : أخبرنا زكريا بن إسحاق ،
عن عمرو بن دينار ، عن عطاء ، عن ابن عباس( الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ
الإثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلا اللَّمَمَ ) قال : هو الرجل يلمّ بالفاحشة ثم يتوب;
قال : وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
إِنْ تَغْفِرْ اللَّهُمَّ تَغْفِرْ جَمَّا... وَأَيُّ عَبْدٍ لَكَ لا أَلَمَّا (1)
حدثني ابن المثنى ، قال : ثنا محمد بن جعفر ، قال ثنا شعبة ، عن منصور ، عن مجاهد
، أنه قال في هذه الآية( إِلا اللَّمَمَ ) قال : الذي يلم بالذنب ثم يدعه ، وقال
الشاعر :
إِنْ تَغْفِرْ اللَّهُمَّ تَغْفِرْ جَمَّا... وَأَيُّ عَبْدٍ لَكَ لا أَلَمَّا
حدثني محمد بن عبد الله بن بزيع ، قال : ثنا يونس ، عن الحسن ، عن أبي هُريرة ،
أراه رفعه : ( الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلا
اللَّمَمَ ) قال : اللَّمة من الزنى ، ثم يتوب ولا يعود ، واللَّمة من السرقة ، ثم
يتوب ولا يعود; واللَّمة من شرب الخمر ، ثم يتوب ولا يعود ، قال : فتلك الإلمام.
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا ابن أبي عديّ ، عن عوف ، عن الحسن ،
__________
(1) البيت لأمية بن أبي الصلت ( اللسان : لمم ) قال : والإلمام واللمم : مقاربة
الذنب . وقيل : اللمم : ما دون الكبائر من الذنوب . وفي التنزيل العزيز : الذين
يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم " . وألم الرجل ، من اللمم ، وهو
صغار الذنوب . وقال أمية : " إن تغفر اللهم ... البيتين " . ويقال : هو
مقاربة المعصية من غير مواقعة . وقال الأخفش : اللمم : المقارب من الذنوب . وقال :
ابن بري : الشعر لأمية بن أبي الصلت ، قال : وذكر عبد الرحمن ( ابن أخي الأصمعي )
عن عمه ، عن يعقوب ( ابن السكيت ) عن مسلم بن أبي طرفة الهذلي قال : مر أبو خراش (
الهذلي الشاعر ) يسعى بين الصفا والمروة وهو يقول : لا هم هذا خامس إن تما ...
أتمه الله وقد أتما
إن تغفر اللهم تغفر جما ... وأي عبد لك لا ألما
(22/535)
في قول الله( الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ
كَبَائِرَ الإثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلا اللَّمَمَ ) قال : اللَّمة من الزنى أو
السرقة ، أو شرب الخمر ، ثم لا يعود.
حدثني يعقوب ، قال : ثنا ابن أبي عديّ عن عوف ، عن الحسن ، في قول الله( الَّذِينَ
يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلا اللَّمَمَ ) قال : اللمة من
الزنى ، أو السرقة ، أو شرب الخمر ثم لا يعود.
حدثني يعقوب ، قال : ثنا ابن علية ، عن أبي رجاء ، عن الحسن ، في قوله( الَّذِينَ
يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلا اللَّمَمَ ) قال : قد كان
أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم يقولون : هذا الرجل يصيب اللمة من الزنا ،
واللَّمة من شرب الخمر ، فيخفيها فيتوب منها.
حدثنا ابن حُميد ، قال : ثنا مهران ، عن سفيان ، عن ابن جريج ، عن عطاء ، عن ابن
عباس( إِلا اللَّمَمَ ) يلمّ بها فى الحين ، قلت الزنى ، قال : الزنى ثم يتوب.
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، قال : قال معمر : كان الحسن يقول في
اللَّمم : تكون اللَّمة من الرجل : الفاحشة ثم يتوب.
حدثنا ابن حُميد ، قال : ثنا مهران ، عن سفيان ، عن إسماعيل ، عن أبي صالح ، قال :
الزنى ثم يتوب.
قال : ثنا مهران ، عن أبي جعفر ، عن قتادة ، عن الحسن( إِلا اللَّمَمَ ) قال : أن
يقع الوقعة ثم ينتهي.
حدثنا أبو كُرَيب ، قال : ثنا ابن عيينة ، عن عمرو ، عن عطاء ، عن ابن عباس قال :
اللَّمم : الذي تُلِمُّ المرَّةَ.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، قال : أخبرني يحيى بن
أيوب ، عن المثنى بن الصباح ، عن عمرو بن شعيب ، أن عبد الله بن عمرو بن العاص ،
قال : اللمم : ما دون الشرك.
(22/536)
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا أبو عامر ،
قال : ثنا مرّة ، عن عبد الله بن القاسم ، في قوله( إِلا اللَّمَمَ ) قال :
اللَّمة يلم بها من الذنوب.
حدثنا ابن حُمَيد ، قال : ثنا جرير ، عن منصور ، عن مجاهد ، في قوله( إِلا
اللَّمَمَ ) قال : الرجل يلمّ بالذنب ثم ينزع عنه. قال : وكان أهل الجاهلية يطوفون
بالبيت وهم يقولون :
إِنْ تَغْفِرْ اللَّهُمَّ تَغْفِرْ جَمَّا... وَأَيُّ عَبْدٍ لَكَ لا أَلَمَّا
وقال آخرون ممن وجه معنى " إلا " إلى الاستثناء المنقطع : اللمم : هو
دون حدّ الدنيا وحد الآخرة ، قد تجاوز الله عنه.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حُميد ، قال : ثنا مهران ، عن سفيان ، عن جابر ، عن عطاء ، عن ابن
الزبير( إِلا اللَّمَمَ ) قال : ما بين الحدّين ، حدّ الدنيا ، وعذاب الآخرة.
حدثنا ابن المثنى ، قال : ثنا محمد بن جعفر ، عن شعبة ، عن الحكم ، عن ابن عباس
أنه قال : اللمم : ما دون الحدّين : حدّ الدنيا والآخرة.
حدثنا ابن المثنى ، قال : ثنا ابن أبي عديّ ، عن شعبة ، عن الحكم وقتادة ، عن ابن
عباس بمثله ، إلا أنه قال : حدّ الدنيا ، وحدّ الآخرة.
حدثني يعقوب ، قال : ثنا ابن علية ، قال : أخبرنا شعبة ، عن الحكم بن عُتَيبة ،
قال : قال ابن عباس : اللمم ما دون الحدين ، حد الدنيا وحد الآخرة.
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ،
عن ابن عباس قوله( الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلا
اللَّمَمَ ) قال : كلّ شيء بين الحدّين ، حدّ الدنيا وحدّ الآخرة تكفِّره الصلوات
، وهو اللمم ، وهو دون كل موجب; فأما حدّ الدنيا فكلّ حدّ فرض الله عقوبته في
الدنيا; وأما حدّ الآخرة فكلّ شيء ختمه الله بالنار ، وأخَّر عقوبته إلى الآخرة.
(22/537)
حدثنا ابن حُميد ، قال : ثنا يحيى ،
قال : ثنا الحسين ، عن يزيد ، عن عكرمة ، في قوله : ( إِلا اللَّمَمَ ) يقول : ما
بين الحدين ، كل ذنب ليس فيه حدّ في الدنيا ولا عذاب في الآخرة ، فهو اللمم.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله( الَّذِينَ
يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلا اللَّمَمَ ) واللمم : ما كان
بين الحدّين لم يبلغ حدّ الدنيا ولا حدّ الآخرة موجبة ، قد أوجب الله لأهلها النار
، أو فاحشة يقام عليه الحدّ في الدنيا.
وحدثنا ابن حُميد ، قال : ثنا مهران ، عن أبي جعفر ، عن قتادة ، قال : قال بعضهم :
اللمم : ما بين الحدّين : حدّ الدنيا ، وحدّ الآخرة.
حدثنا أبو كُريب ويعقوب ، قالا ثنا إسماعيل بن إبراهيم ، قال : ثنا سعيد بن أبي
عروبة ، عن قتادة عن ابن عباس ، قال : اللمم : ما بين الحدّين : حدّ الدنيا ، وحدّ
الآخرة.
حدثنا ابن حُميد ، قال : ثنا مهران ، عن سفيان ، قال : قال الضحاك( إِلا اللَّمَمَ
) قال : كلّ شيء بين حدّ الدنيا والآخرة فهو اللمم يغفره الله.
وأولى الأقوال في ذلك عندي بالصواب قول من قال " إلا " بمعنى الاستثناء
المنقطع ، ووجّه معنى الكلام إلى( الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإثْمِ
وَالْفَوَاحِشَ إِلا اللَّمَمَ ) بما دون كبائر الإثم ، ودون الفواحش الموجبة
للحدود في الدنيا ، والعذاب في الآخرة ، فإن ذلك معفوّ لهم عنه ، وذلك عندي نظير
قوله جلّ ثناؤه : ( إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ
عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلا كَرِيمًا ) فوعد جلّ ثناؤه
باجتناب الكبائر ، العفو عما دونها من السيئات ، وهو اللمم الذي قال النبي صلى
الله عليه وسلم : " الْعَينانِ تَزْنِيَانِ ، وَالْيَدَانِ تَزْنِيَانِ ،
وَالرِّجلانِ تَزْنِيَانِ ، وَيُصَدّقُ ذَلِكَ الْفَرْجُ أَوْ يُكَذِّبُهُ "
، وذلك أنه لا حد فيما دون ولوج الفرج في الفرج ، وذلك هو العفو من الله في الدنيا
عن عقوبة العبد عليه ، والله جلّ ثناؤه أكرم من أن يعود فيما قد عفا عنه ، كما
رُوي عن النبيّ صلى الله عليه وسلم واللمم في كلام العرب :
(22/538)
المقاربة للشيء ، ذكر الفرّاء أنه سمع
العرب تقول : ضربه ما لمم القتل (1) يريدون ضربا مقاربا للقتل. قال : وسمعت من آخر
: ألمّ يفعل في معنى : كاد يفعل.
القول في تأويل قوله تعالى : { إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ
بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الأرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ
أُمَّهَاتِكُمْ فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى (32) }
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم( إِنَّ رَبَّكَ ) يا محمد( وَاسِعُ
الْمَغْفِرَةِ ) : واسع عفوه للمذنبين الذين لم تبلغ ذنوبهم الفواحش وكبائر الإثم.
وإنما أعلم جلّ ثناؤه بقوله هذا عباده أنه يغفر اللمم بما وصفنا من الذنوب لمن
اجتنب كبائر الإثم والفواحش.
كما حدثنا يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله( إِنَّ
رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ ) قد غفر ذلك لهم.
وقوله( هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الأرْضِ ) يقول تعالى ذكره :
ربكم أعلم بالمؤمن منكم من الكافر ، والمحسن منكم من المسيء ، والمطيع من العاصي ،
حين ابتدعكم من الأرض ، فأحدثكم منها بخلق أبيكم آدم منها ، وحين أنتم أجنة في
بطون أمهاتكم ، يقول : وحين أنتم حمل لم تولدوا منكم ، وأنفسكم بعدما (2) صرتم
رجالا ونساء.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأول.
__________
(1) هذه العبارة مما رواه الفراء عن العرب ، قال في معاني القرآن : وسمعت العرب
... إلخ ، وما صلته ، يريد ضربا مقاربا للقتل .
(2) كذا وردت هذه العبارة الأخيرة في الأصل ، وهي غامضة من أول قوله " منكم
وأنفسكم ... إلخ " ولعل صوابها : فلا تزكوا أنفسكم بعد ما صرتم رجالا ونساء .
(22/539)
أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى (33) وَأَعْطَى قَلِيلًا وَأَكْدَى (34) أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرَى (35) أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى (36) وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى (37) أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى (38) وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى (39)
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث ، قال :
ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله( هُوَ
أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الأرْضِ ) قال : كنحو قوله( وَهُوَ
أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ ) .
وحدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، فى قوله( إِذْ
أَنْشَأَكُمْ مِنَ الأرْضِ ) قال : حين خلق آدم من الأرض ثم خلقكم من آدم ، وقرأ(
وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ ) .
وقد بيَّنا فيما مضى قبل معنى الجنين ، ولِمَ قيل له جنين ، بما أغنى عن إعادته في
هذا الموضع.
وقوله( فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ ) يقول جل ثناؤه : فلا تشهدوا لأنفسكم بأنها
زكية بريئة من الذنوب والمعاصي.
كما حدثنا ابن حُميد ، قال : ثنا مهران ، عن سفيان ، قال : سمعت زيد بن أسلم يقول(
فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ ) يقول : فلا تبرئوها.
وقوله( هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى ) يقول جلّ ثناؤه : ربك يا محمد أعلم بمن خاف
عقوبة الله فاجتنب معاصيه من عباده.
القول في تأويل قوله تعالى : { أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى (33) وَأَعْطَى
قَلِيلا وَأَكْدَى (34) أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرَى (35) أَمْ لَمْ
يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى (36) وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى (37) أَلا
تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى (38) وَأَنْ لَيْسَ لِلإنْسَانِ إِلا مَا سَعَى
(39) }
يقول تعالى ذكره : أفرأيت يا محمد الذي أدبر عن الإيمان بالله ، وأعرض
(22/540)
عنه وعن دينه ، وأعطى صاحبه قليلا من
ماله ، ثم منعه فلم يعطه ، فبخل عليه.
وذُكر أن هذه الآية نزلت في الوليد بن المغيرة من أجل أنه عاتبه بعض المشركين ،
وكان قد اتبع رسول الله صلى الله عليه وسلم على دينه ، فضمن له الذي عاتبه إن هو
أعطاه شيئا من ماله ، ورجع إلى شركه أن يتحمل عنه عذاب الآخرة ، ففعل ، فأعطى الذي
عاتبه على ذلك بعض ما كان ضمن له ، ثم بخل عليه ومنعه تمام ما ضمن له.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث ، قال :
ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله(
وَأَكْدَى ) قال الوليد بن المغيرة : أعطى قليلا ثم أكدى.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله( أَفَرَأَيْتَ
الَّذِي تَوَلَّى ) ... إلى قوله( فَهُوَ يَرَى ) قال : هذا رجل أسلم ، فلقيه بعض
من يُعَيِّره فقال : أتركت دين الأشياخ وضَلَّلتهم ، وزعمت أنهم في النار ، كان
ينبغي لك أن تنصرهم ، فكيف يفعل بآبائك ، فقال : إني خشيت عذاب الله ، فقال :
أعطني شيئا ، وأنا أحمل كلّ عذاب كان عليك عنك ، فأعطاه شيئا ، فقال زدني ، فتعاسر
حتى أعطاه شيئا ، وكتب له كتابا ، وأشهد له ، فذلك قول الله( أَفَرَأَيْتَ الَّذِي
تَوَلَّى وَأَعْطَى قَلِيلا وَأَكْدَى ) عاسره( أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ
فَهُوَ يَرَى ) نزلت فيه هذه الآية.
وبنحو الذي قلنا في معنى قوله( أَكْدَى ) قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حُميد ، قال : ثنا مهران ، عن أبي سنان الشيباني ، عن ثابت ، عن الضحاك
، عن ابن عباس( أَعْطَى قَلِيلا وَأَكْدَى ) قال : أعطى قليلا ثم انقطع.
(22/541)
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ،
قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله( أَفَرَأَيْتَ
الَّذِي تَوَلَّى وَأَعْطَى قَلِيلا وَأَكْدَى ) يقول : أعطى قليلا ثم انقطع.
حدثنا ابن حُمَيد ، قال : ثنا مهران ، عن سفيان ، عن منصور ، عن مجاهد( وَأَعْطَى
قَلِيلا وَأَكْدَى ) قال : انقطع فلا يُعْطِي شيئا ، ألم تر إلى البئر يقال لها
أكدت.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث ، قال :
ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد( وَأَكْدَى ) :
انقطع عطاؤه.
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن ابن طاوس وقتادة ، في
قوله : ( وَأَكْدَى ) قال : أعطى قليلا ثم قطع ذلك.
قال : ثنا ابن ثور ، قال : ثنا معمر ، عن عكرمة مثل ذلك.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( وَأَكْدَى ) أي بخل
وانقطع عطاؤه.
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك
يقول في قوله( وَأَكْدَى ) يقول : انقطع عطاؤه.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله( وَأَكْدَى )
عاسره ، والعرب تقول : حفر فلان فأكدى ، وذلك إذا بلغ الكدية ، وهو أن يحفر الرجل
في السهل ، ثم يستقبله جبل فيُكْدِي ، يقال : قد أكدى كداء ، وكديت أظفاره وأصابعه
كديا شديدا ، منقوص : إذا غلظت ، وكديت أصابعه : إذا كلت فلم تعمل شيئا ، وكدا
النبت إذا قلّ ريعه يهمز ولا يهمز. وكان بعض أهل العلم بكلام العرب يقول : اشتق
قوله : أكدى ، من كُدْية الركِيَّة ، وهو أن يحفِر حتى ييأس من الماء ، فيُقال
حينئذ
(22/542)
بلغنا كُدْيتها.
وقوله( أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرَى ) يقول تعالى ذكره : أعند هذا
الذي ضمن له صاحبه أن يتحمل عنه عذاب الله في الآخرة علم الغيب ، فهو يرى حقيقة
قوله ، ووفائه بما وعده.
وقوله( أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى ) يقول تعالى ذكره : أم لم يُخَبَّرْ
هذا المضمون له ، أن يتحمل عنه عذاب الله في الآخرة ، بالذي في صحف موسى بن عمران
عليه السلام .
وقوله( وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى ) يقول : وإبراهيم الذي وفى من أرسل إليه ما
أرسل به.
ثم اختلف أهل التأويل في معنى الذي وفى ، فقال بعضهم : وفاؤه بما عهد إليه ربه من
تبليغ رسالاته ، وهو( أَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ) .
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حُميد ، قال : ثنا مهران ، عن سفيان ، عن عطاء ، عن عكرمة ، عن ابن
عباس( وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى ) قال : كانوا قبل إبراهيم يأخذون الوليّ
بالوليّ ، حتى كان إبراهيم ، فبلغ( أَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ) لا
يؤاخذ أحد بذنب غيره.
حدثنا ابن حُميد ، قال : ثنا مهران ، عن سفيان ، عن جابر ، عن مجاهد ، عن عكرمة(
وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى ) قالوا : بلغ هذه الآيات( أَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ
وِزْرَ أُخْرَى ) .
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله( وَإِبْرَاهِيمَ
الَّذِي وَفَّى ) قال : وفّى طاعة الله ، وبلَّغ رسالات ربه إلى خلقه.
وكان عكرمة يقول : وفَّى هؤلاء الآيات العشر( أَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ
أُخْرَى ) ... حتى بلغ( وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الأخْرَى ) .
(22/543)
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن
ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، في قوله( وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى ) وفَّى طاعة
الله ورسالاته إلى خلقه.
حدثني يحيى بن طلحة اليربوعي ، قال : ثنا أبو بكير ، عن أبي حصين ، عن سعيد بن
جبير ، في قوله( وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى ) قال : بلَّغ ما أمر به.
حدثنا ابن حُميد ، قال : ثنا مهران ، عن سفيان( وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى )
قال : بلَّغ.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله( وَإِبْرَاهِيمَ
الَّذِي وَفَّى ) قال : وفى : بلغ رسالات ربه ، بلَّغ ما أُرسل به ، كما يبلغ
الرجل ما أُرسل به.
وقال آخرون : بل وفَّى بما رأى في المنام من ذبح ابنه ، وقالوا قوله( أَلا تَزِرُ
وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ) من المؤخر الذي معناه التقديم; وقالوا : معنى الكلام :
أم لم ينبأ بما في صحف موسى ألا تزر وازرة وزر أخرى ، وبما في صحف إبراهيم الذي
وفى.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي عن أبيه ، عن
ابن عباس في قوله( أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى وَإِبْرَاهِيمَ
الَّذِي وَفَّى ) يقول : إبراهيم الذي استكمل الطاعة فيما فعل بابنه حين رأى
الرؤيا ، والذي في صحف موسى( أَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ) ... إلى آخر
الآية.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرني ابن لهيعة ، عن أبي صخر ، عن
القُرَظَيّ ، وسُئل عن هذه الآية( وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى ) قال : وفى بذبح
ابنه.
وقال آخرون بل معنى ذلك : أنه وفى ربه جميع شرائع الإسلام.
(22/544)
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا عبد الله بن أحمد بن شبَويه ، قال : ثنا عليّ بن الحسن ، قال : ثنا خارجة بن
مُصْعبٍ ، عن داود بن أبي هند ، عن عكرمة عن ابن عباس قال : الإسلام ثلاثون سهما.
وما ابتلي بهذا الدين أحد فأقامه إلا إبراهيم ، قال الله( وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي
وَفَّى ) فكتب الله له براءة من النار.
حدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد(
وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى ) ما فُرِض عليه.
وقال آخرون : وفى بما رُوي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخبر الذي
حدثنا أبو كُرَيب ، قال : ثنا رشدين بن سعد ، قال : ثني زيان بن فائد ، عن سهل بن
معاذ ، عن أنس ، عن أبيه ، قال : كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يقول : "
أَلا أُخْبِرُكُمْ لِمَ سَمَّى اللهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلَهُ الَّذِي وَفَّى ؟
لأنَّهُ كَانَ يَقُولُ كُلَّمَا أَصْبَحَ وَأَمْسَى : ( فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ
تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ... ) حَتَّى خَتَمَ الآيَةَ " .
وقال آخرون : بل وفى ربه عمل يومه.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا أبو كُرَيب ، قال : ثنا الحسن بن عطية ، قال : ثنا إسرائيل ، عن جعفر بن
الزبير عن القاسم ، عن أبي أُمامة ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (
وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى ) قال : " أتدرون ما وَفَّى " ؟ قالوا
الله ورسوله أعلم ، قال : وفَّى عَمَل يَوْمِهِ أرْبَعَ رَكعَات في النَّهارِ
" .
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال : وفى جميع شرائع الإسلام وجميع ما أُمر
به من الطاعة ، لأن الله تعالى ذكره أخبر عنه أنه وفى فعم بالخبر عن توفيته جميع
الطاعة ، ولم يخصص بعضا دون بعض.
فإن قال قائل : فإنه خصّ ذلك بقوله وفي( أَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى )
فإن ذلك مما أخبر الله جل ثناؤه أنه في صحف موسى وإبراهيم ، لا مما خصّ
(22/545)
به الخبر عن أنه وفى. وأما التوفية
فإنها على العموم ، ولو صحّ الخبران اللذان ذكرناهما أو أحدهما عن رسول الله صلى
الله عليه وسلم ، لم نَعْدُ القول به إلى غيره ولكن في إسنادهما نظر يجب التثبت
فيهما من أجله.
وقوله( أَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ) فإن من قوله( أَلا تَزِرُ ) على
التأويل الذي تأوّلناه في موضع خفض ردّا على " ما " التي في قوله( أَمْ
لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى ) يعني بقوله( أَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ
وِزْرَ أُخْرَى ) غيرها ، بل كل آثمة فإنما إثمها عليها.
وقد بيَّنا تأويل ذلك باختلاف أهل العلم فيه فيما مضى قبل.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن عبيد المحاربيّ ، قال : ثنا أبو مالك الجَنْبي ، قال : ثنا إسماعيل
بن أبي خالد ، عن أبي مالك الغفاريّ في قوله( أَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ
أُخْرَى وَأَنْ لَيْسَ لِلإنْسَانِ إِلا مَا سَعَى ) إلى قوله( مِنَ النُّذُرِ
الأولَى ) قال : هذا في صحف إبراهيم وموسى.
وإنما عُني بقوله( أَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ) الذي ضَمِن للوليد بن
المغيرة أن يتحمل عنه عذاب الله يوم القيامة ، يقول : ألم يُخْبَرْ قائل هذا القول
، وضامن هذا الضمان بالذي في صحف موسى وإبراهيم مكتوب : أن لا تأثم آثمة إثم أخرى
غيرها( وَأَنْ لَيْسَ لِلإنْسَانِ إِلا مَا سَعَى ) يقول جلّ ثناؤه : أوَ لم
يُنَبأ أنه لا يُجَازي عامل إلا بعمله ، خيرا كان ذلك أو شرّا.
كما حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله( وَأَنْ
لَيْسَ لِلإنْسَانِ إِلا مَا سَعَى ) ، وقرأ( إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى ) قال :
أعمالكم.
وذُكر عن ابن عباس أنه قال : هذه الآية منسوخة.
حدثني عليّ ، قال : ثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن
(22/546)
وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى (40) ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى (41) وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى (42) وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى (43) وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا (44)
ابن عباس ، قوله( وَأَنْ لَيْسَ
لِلإنْسَانِ إِلا مَا سَعَى ) قال : فأنزل الله بعد هذا( وَالَّذِينَ آمَنُوا
وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ )
فأدخل الأبناء بصلاح الآباء الجنة.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى (40) ثُمَّ
يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الأوْفَى (41) وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى (42)
وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى (43) }
قوله جل ثناؤه( وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى ) يقول تعالى ذكره : وأن عمل كلّ
عامل سوف يراه يوم القيامة ، من ورد القيامة بالجزاء الذي يُجازى عليه ، خيرا كان
أو شرّا ، لا يؤاخذ بعقوبة ذنب غير عامله ، ولا يثاب على صالح عمله عامل غيره.
وإنما عُنِي بذلك : الذي رجع عن إسلامه بضمان صاحبه له أن يتحمل عنه العذاب ، أن
ضمانه ذلك لا ينفعه ، ولا يُغْنِي عنه يوم القيامة شيئا ، لأن كلّ عامل فبعمله
مأخوذ.
وقوله( ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الأوْفَى ) يقول تعالى ذكره : ثم يُثاب بسعيه
ذلك الثواب الأوفى. وإنما قال جل ثناؤه( الأوْفَى ) لأنه أوفى ما وعد خلقه عليه من
الجزاء ، والهاء في قوله( ثُمَّ يُجْزَاهُ ) من ذكر السعي ، وعليه عادت.
وقوله( وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى ) يقول تعالى ذكره لنبيه صلى الله عليه
وسلم : وأن إلى ربك يا محمد انتهاء جميع خلقه ومرجعهم ، وهو المجازي جميعهم
بأعمالهم ، صالحهم وطالحهم ، ومحسنهم ومسيئهم.
وقوله( وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى ) يقول تعالى ذكره : وأن ربك هو أضحك
أهل الجنة في الجنة بدخولهم إياها ، وأبكى أهل النار في النار بدخولهموها ، وأضحك
من شاء من أهل الدنيا ، وأبكى من أراد أن يبكيه منهم.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا (44) }
(22/547)
وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (45) مِنْ نُطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى (46) وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرَى (47) وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَى (48) وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرَى (49) وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الْأُولَى (50) وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَى (51)
القول في تأويل قوله تعالى : { وَأَنَّهُ
(22/547)
خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ
وَالأنْثَى (45) مِنْ نُطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى (46) وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ
الأخْرَى (47) }
يقول تعالى ذكره : وأنه هو أمات من مات من خلقه ، وهو أحيا من حَيا منهم. وعنى
بقوله( أَحْيَا ) نفخ الروح في النطفة الميتة ، فجعلها حية بتصييره الروح فيها.
وقوله( وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأنْثَى مِنْ نُطْفَةٍ إِذَا
تُمْنَى ) يقول تعالى ذكره : وأنه ابتدع إنشاء الزوجين الذكر والأنثى ، وجعلهما
زوجين ، لأن الذكر زوج الأنثى ، والأنثى له زوج فهما زوجان ، يكون كلّ واحد منهما
زوجا للآخر.
وقوله( مِنْ نُطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى ) و " من " من صلة خلق. يقول تعالى
ذكره : خلق ذلك من نطفة إذا أمناه الرجل والمرأة.
وقوله( وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الأخْرَى ) يقول تعالى ذكره : وأن على ربك يا
محمد أن يخلق هذين الزوجين بعد مماتهم ، وبلاهم في قبورهم الخلق الآخر ، وذلك
إعادتهم أحياء خلقًا جديدا ، كما كانوا قبل مماتهم.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَى (48) وَأَنَّهُ
هُوَ رَبُّ الشِّعْرَى (49) وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الأولَى (50) وَثَمُودَ
فَمَا أَبْقَى (51) }
يقول تعالى ذكره : وأن ربك هو أغنى من أغنى من خلقه بالمال وأقناه ، فجعل له قنية
أصول أموال.
واختلف أهل التأويل في تأويله ، فقال بعضهم بالذي قلنا في ذلك.
(22/548)
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمارة الأسديّ ، قال : ثنا عبيد الله بن موسى ، عن السديّ ، عن أبي
صالح ، قوله : ( أَغْنَى وَأَقْنَى ) قال : أغنى المال وأقنى القنية.
وقال آخرون : عُنِي بقوله : ( أَغْنَى ) : أخدم.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا سفيان ، عن ليث ، عن مجاهد ، في
قوله : ( وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَى ) قال : أغنى : مَوَّل ، وأقنى : أخدم.
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : ثنا ابن علية ، عن أبي رجاء ، عن الحسن ، قوله : (
أَغْنَى وَأَقْنَى ) قال : أخدم.
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، في قوله : (
أَغْنَى وَأَقْنَى ) قال : أغنى وأخدم.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة قوله( أَغْنَى وَأَقْنَى
) قال : أعطى وأرضى وأخدم.
وقال آخرون : بل عُني بذلك أنه أغنى من المال واقنى : رضي.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثنى أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ،
عن ابن عباس ، قوله : ( وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَى ) قال : فإنه أغنى
وأرضى.
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا عبد الرحمن ، قال : ثنا سفيان ، عن ليث ، عن مجاهد(
وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَى ) قال : أغنى موّل ، وأقنى : رضّى.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : : ثنا عيسى;
(22/549)
وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال
: ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله( أَغْنَى ) قَال : موّل(
وَأَقْنَى ) قَال : رضي.
حدثني عليّ ، قال : ثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ،
قوله( وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَى ) يقول : أعطاه وأرضاه.
حدثنا ابن حُميد ، قال : ثنا مهران ، عن سفيان ، عن ليث ، عن مجاهد ، مثل حديث ابن
بشار ، عن عبد الرحمن ، عن سفيان.
وقال آخرون : بل عُنِي بذلك أنه أغنى نفسه ، وأفقر خلقه إليه.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا المعتمر بن سليمان ، عن أبيه( وَأَنَّهُ هُوَ
أَغْنَى وَأَقْنَى ) قال : زعم حضرميّ أنه ذكر له أنه أغنى نفسه ، وأفقر الخلائق
إليه.
وقال آخرون : بل عُنِي بذلك أنه أغنى من شاء من خلقه ، وأفقر من شاء.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : ( وَأَنَّهُ
هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَى ) قال : أغنى فأكثر ، وأقنى أقلّ ، وقرأ( يَبْسُطُ
الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ ) .
وقوله : ( وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرَى ) يقول تعالى ذكره : وأن ربك يا محمد
هو ربّ الشِّعْرَي ، يعني بالشعرى : النجم الذي يسمى هذا الأسم ، وهو نجم كان بعض
أهل الجاهلية يعبده من دون الله.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
(22/550)
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ،
عن ابن عباس ، قوله( وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرَى ) قال : هو الكوكب الذي يدعى
الشعرى.
حدثني عليّ بن سهل ، قال : ثنا مؤمل ، قال : ثنا سفيان ، عن خصيف ، عن مجاهد ، في
قوله : ( وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرَى ) قال : الكوكب الذي خَلْف الجوزاء ،
كانوا يعبدونه.
حدثنا ابن حُميد ، قال : ثنا مهران ، عن سفيان ، عن منصور ، عن مجاهد : ( وَأَنَّهُ
هُوَ رَبُّ الشِّعْرَى ) قال : كان يُعبد في الجاهلية.
حدثنا محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث ، قال :
ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله( رَبُّ
الشِّعْرَى ) قال : مرزم الجوزاء.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله( وَأَنَّهُ هُوَ
رَبُّ الشِّعْرَى ) كان حيّ من العرب يعبدون الشِّعْرَى هذا النجم الذي رأيتم ،
قال بشر ، قال : يريد النجم الذي يتبع الجوزاء.
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، في قوله( رَبُّ
الشِّعْرَى ) قال : كان ناس في الجاهلية يعبدون هذا النجم الذي الذي يُقال له
الشِّعْرَى.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله( وَأَنَّهُ هُوَ
رَبُّ الشِّعْرَى ) كانت تُعبد في الجاهلية ، فقال : تعبدون هذه وتتركون ربها ؟
اعبدوا ربها. قال : والشِّعْرَى : النجم الوقاد الذي يتبع الجوزاء ، يقال له
المرزم.
وقوله : ( وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الأولَى ) يعني تعالى ذكره بعاد الأولى : عاد
بن
(22/551)
إرم بن عوص بن سام بن نوح ، وهم الذين
أهلكهم الله بريح صرصر عاتية ، وإياهم عنى بقوله( أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ
رَبُّكَ بِعَادٍ إِرَمَ ) واختلفت القرّاء في قراءة ذلك ، فقرأته عامة قرّاء
المدينة وبعض قرّاء البصرة " عادًا لُولى " بترك الهمز وجزم النون حتى
صارت اللام في الأولى ، كأنها لام مثقلة ، والعرب تفعل ذلك في مثل هذا ، حُكي عنها
سماعا منهم : " قم لان عنا " ، يريد : قم الآن ، جزموا الميم لما حرّكت
اللام التي مع الألف في الآن ، وكذلك تقول : صم اثنين ، يريدون : صُم الاثنين.
وأما عامة قرّاء الكوفة وبعض المكيين ، فإنهم قرأوا ذلك بإظهار النون وكسرها ،
وهمز الأولى على اختلاف في ذلك عن الأعمش ، فروى أصحابه عنه غير القاسم بن معن
موافقة أهل بلده في ذلك. وأما القاسم بن معن فحكى عنه عن الأعمش أنه وافق في
قراءته ذلك قراء المدنيين.
والصواب من القراءة في ذلك عندنا ما ذكرنا من قراءة الكوفيين ، لأن ذلك هو الفصيح
من كلام العرب ، وأن قراءة من كان من أهل السليقة فعلى البيان والتفخيم ، وأن
الإدغام في مثل هذا الحرف وترك البيان إنما يوسع فيه لمن كان ذلك سجيته وطبعه من
أهل البوادي. فأما المولدون فإن حكمهم أن يتحرّوا أفصح القراءات وأعذبها وأثبتها ،
وإن كانت الأخرى جائزة غير مردودة.
وإنما قيل لعاد بن إرم : عاد الأولى ، لأن بني لُقَيم بن هزَّال بن هزل بن عَبِيل
بن ضِدّ بن عاد الأكبر ، كانوا أيام أرسل الله على عاد الأكبر عذابه سكانا بمكة مع
إخوانهم من العمالقة ، ولد عمليق بن لاوذ بن سام بن نوح ، ولم يكونوا مع قومهم من
عاد بأرضهم ، فلم يصبهم من العذاب ما أصاب قومهم ، وهم عاد الآخرة ، ثم هلكوا بعد.
وكان هلاك عاد الآخرة ببغي بعضهم على بعض ، فتفانوا بالقتل فيما حدثنا ابن حُميد ،
قال : ثنا سلمة عن ابن إسحاق ، فيما ذكرنا قيل لعاد الأكبر الذي أهلك الله ذرّيته
بالريح : عاد الأولى ، لأنها أُهلكت قبل عاد الآخرة. وكان ابن
(22/552)
وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَى (52) وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى (53) فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى (54)
زيد يقول : إنما قيل لعاد الأولى لأنها
أوّل الأمم هلاكا.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال قال ابن زيد ، في قوله : ( أَهْلَكَ
عَادًا الأولَى ) قال : يقال : هي من أوّل الأمم.
وقوله : ( وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَى ) يقول تعالى ذكره : ولم يبق الله ثمود فيتركها
على طغيانها وتمردها على ربها مقيمة ، ولكنه عاقبها بكفرها وعتوّها فأهلكها.
واختلفت القرّاء في قراءة ذلك ، فقرأته عامة قرَّاء البصرة وبعض الكوفيين(
وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَى ) بالإجراء إتباعا للمصحف ، إذ كانت الألف مثبتة فيه ،
وقرأه بعض عامة الكوفيين بترك الإجراء. وذُكر أنه في مصحف عبد الله بغير ألف.
والصواب من القول في ذلك أنهما قراءتان معروفتان ، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب
لصحتهما في الإعراب والمعنى. وقد بيَّنا قصة ثمود وسبب هلاكها فيما مضى بما أغنى
عن إعادته.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا هُمْ
أَظْلَمَ وَأَطْغَى (52) وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى (53) فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى
(54) }
يقول تعالى ذكره : وأنه أهلك قوم نوح من قبل عاد وثمود ، إنهم كانوا هم أشدّ ظلما
لأنفسهم ، وأعظم كفرا بربهم ، وأشدّ طغيانا وتمرّدا على الله من الذين أهلكهم من
بعد من الأمم ، وكان طغيانهم الذي وصفهم الله به ، وأنهم كانوا بذلك أكثر طغيانا
من غيرهم من الأمم.
كما حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله( وَقَوْمَ
نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَى ) لم يكن قبيل من
الناس هم أظلم وأطغى من قوم نوح ، دعاهم نبيّ الله صلى الله عليه وسلم نوح ألف سنة
إلا خمسين عاما ، كلما هلك قرن ونشأ قرن دعاهم نبيّ الله حتى ذكر لنا أن الرجل كان
يأخذ
(22/553)
بيد ابنه فيمشي به ، فيقول : يا بنيّ
إن أبي قد مشى بي إلى هذا ، وأنا مثلك يومئذ تتابُعا في الضلالة ، وتكذيبا بأمر
الله.
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، في قوله(
إِنَّهُمْ كَانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَى ) قال : دعاهم نبيّ الله ألف سنة إلا
خمسين عاما.
وقوله : ( وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى ) يقول تعالى : والمخسوف بها ، المقلوب
أعلاها أسفلها ، وهي قرية سَذُوم قوم لوط ، أهوى الله ، فأمر جبريل صلى الله عليه
وسلم ، فرفعها من الأرض السابعة بجناحه ، ثم أهواها مقلوبة.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث ، قال :
ثنا الحسن ، قال ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله(
وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى ) قال : أهواها جبريل ، قال : رفعها إلى السماء ثم
أهواها.
حدثنا ابن حُميد ، قال : ثنا مهران ، عن سفيان ، عن إسماعيل ، عن أبي عيسى يحيى بن
رافع : ( وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى ) قال : قرية لوط حين أهوى بها.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله(
وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى ) قال : قرية لوط.
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، في قوله(
وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى ) قال : هم قوم لوط.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله(
وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى ) قال : قرية لوط أهواها من السماء ، ثم أتبعها ذاك
الصخر ، اقتُلعت من الأرض ، ثم هوى بها في السماء ثم قُلبت.
(22/554)
فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكَ تَتَمَارَى (55) هَذَا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولَى (56) أَزِفَتِ الْآَزِفَةُ (57) لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ (58)
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ،
قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله( وَالْمُؤْتَفِكَةَ
أَهْوَى ) قال : المكذّبين أهلكهم الله.
وقوله : ( فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى ) يقول تعالى ذكره : فغشّى الله المؤتفكة من
الحجارة المنضودة المسومة ما غشاها ، فأمطرها إياه من سجيل.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى
) غشاها صخرا منضودا.
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة( فَغَشَّاهَا مَا
غَشَّى ) قال : الحجارة.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله( فَغَشَّاهَا
مَا غَشَّى ) قال : الحجارة التي رماهم بها من السماء.
القول في تأويل قوله تعالى : { فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكَ تَتَمَارَى (55) هَذَا
نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الأولَى (56) أَزِفَتِ الآزِفَةُ (57) لَيْسَ لَهَا مِنْ
دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ (58) }
يقول : ( فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكَ تَتَمَارَى ) يقول تعالى ذكره : فبأيّ نعمات ربك
يا ابن آدم التي أنعمها عليك ترتاب وتشكّ وتجادل ، والآلاء : جمع إلًى. وفي واحدها
لغات ثلاثة : إليٌّ على مثال عِليٌّ ، وإليَّ على مثال عَليْ ، وألَى على مثال علا
(1) .
__________
(1) في ( اللسان : إلى ) الآلاء : النعم . واحدها ألى ، ( بفتح الهمزة واللام )
وإلى (بكسر فسكون ) وإلى ( بكسر ففتح ) .
(22/555)
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل
التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله( فَبِأَيِّ آلاءِ
رَبِّكَ تَتَمَارَى ) يقول : فبأيّ نِعم الله تتمارى يا ابن آدم.
وحدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة( فَبِأَيِّ آلاءِ
رَبِّكَ تَتَمَارَى ) قال : بأيّ نِعم ربك تتمارَى.
وقوله : ( هَذَا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الأولَى ) اختلف أهل التأويل في معنى قوله
جل ثناؤه لمحمد صلى الله عليه وسلم( هَذَا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الأولَى ) ووصفه
إياه بأنه من النذر الأولى وهو آخرهم ، فقال بعضهم : معنى ذلك : أنه نذير لقومه ،
وكانت النذر الذين قبله نُذرا لقومهم ، كما يقال : هذا واحد من بني آدم ، وواحد من
الناس.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، في قوله( هَذَا
نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الأولَى ) قال : أنذر محمد صلى الله عليه وسلم كما أنذرت
الرسل من قبله.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله( هَذَا نَذِيرٌ
مِنَ النُّذُرِ الأولَى إنما بعث محمد صلى الله عليه وسلم بما بعث الرسل قبله.
حدثنا أبو كُرَيب ، قال : ثنا ابن يمان ، عن شريك ، عن جابر ، عن أبي جعفر( هَذَا
نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الأولَى ) قال : هو محمد صلى الله عليه وسلم .
وقال آخرون : معنى ذلك غير هذا كله ، وقالوا : معناه هذا الذي أنذرتكم به أيها
القوم من الوقائع التي ذكرت لكم أني أوقعتها بالأمم قبلكم من النذر التي أنذرتها
الأمم قبلكم في صحف إبراهيم وموسى.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حُميد. قال : ثنا مهران ، عن سفيان ، عن إسماعيل ، عن
(22/556)
أبي مالك( هَذَا نَذِيرٌ مِنَ
النُّذُرِ الأولَى ) قال : مما أنذروا به قومهم في صحف إبراهيم وموسى.
وهذا الذي ذكرت ، عن أبي مالك أشبه بتأويل الآية ، وذلك أن الله تعالى ذكره ذكر
ذلك في سياق الآيات التي أخبر عنها أنها في صحف إبراهيم وموسى نذير من النُّذر
الأولى التي جاءت الأمم قبلكم كما جاءتكم ، فقوله( هَذَا ) بأن تكون إشارة إلى ما
تقدمها من الكلام أولى وأشبه منه بغير ذلك.
وقوله( أَزِفَتِ الآزِفَةُ ) يقول : ذنت الدانية : وإنما يعني : دنت القيامة
القريبة منكم أيها الناس يقال منه : أزف رَحِيل فلان. إذا دنا وقَرُب ، كما قال
نابغة بنى ذُبيان :
أَزِفَ الترَحُّلُ غَيرَ أنَّ ركابنا... لَمَّا تَزَلْ بِرَحالِنا وكأنْ قَدٍ (1)
وكما قال كعب بن زُهَير :
بانَ الشَّبابُ وأمْسَى الشَّيبُ قَدْ أزِفا... وَلا أرَى لشَبابٍ ذَاهِبٍ خَلَفَا
(2)
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : ثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن
__________
(1) البيت للنابغة الذبياني ( مختار الشعر الجاهلي بشرح مصطفى السقا طبعة الحلبي
183) والرواية فيه " أفد " في مكان " أزف " وكلاهما بمعنى .
قال : أفد : دنا. والركاب : الإبل ، والرحال : واحدها : راحلة . يقول : قرب الترحل
إلا أن الركاب لم تزل ، وكأنها قد زالت ، لقرب وقت الارتحال أ . هـ . وفي ( اللسان
: أزف ) أزف يأزف أزفا وأزوفا : اقترب وكل شيء اقترب فقد أزف أزفا ( كفرح يفرح
فرحا ) أي دنا وأفد . والآزفة : القيامة : لقربها ، وإن استبعد الناس مداها ، قال
الله تعالى : " أزفت الآزفة " يعني القيامة : أي دنت أ . هـ .
(2)
البيت لكعب بن زهير كما قال المؤلف . وبان الشباب : ذهب عنه وتولى . يقول : ليس
بعد زوال الشباب ونضرته وقوته خلف منه إلا الشيب والانحلال والكبر ، ثم الموت .
فإذا ذهب الشباب فقد ذهب العمر في الحقيقة . والبيت كالشاهدين قبله ، على أن معنى
أزف : دنا واقترب .
(22/557)
أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ (59) وَتَضْحَكُونَ وَلَا تَبْكُونَ (60) وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ (61) فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا (62)
ابن عباس( أَزِفَتِ الآزِفَةُ ) من
أسماء يوم القيامة ، عظَّمه الله ، وحذره عباده.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قالا ثنا عيسى; وحدثني الحارث ، قال :
ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله(
أَزِفَتِ الآزِفَةُ ) قال : اقتربت الساعة.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : ( أَزِفَتِ
الآزِفَةُ ) قال : الساعة .( لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ ).
وقوله : ( لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ ) يقول تعالى ذكره : ليس
للآزفة التي قد أزفت ، وهي الساعة التي قد دنت من دون الله كاشف ، يقول : ليس
تنكشف فتقوم إلا بإقامة الله إياها ، وكشفها دون من سواه من خلقه ، لأنه لم يطلع
عليها مَلَكا مقرّبا ، ولا نبيا مرسلا. وقيل : كاشفة ، فأنثت ، وهي بمعنى
الانكشاف; كما قيل : ( فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ ) بمعنى : فهل ترى لهم
من بقاء; وكما قيل : العاقبة وماله من ناهية ، وكما قيل( لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا
كَاذِبَةٌ ) بمعنى تكذيب ، ( وَلا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ )
بمعنى خيانة.
القول في تأويل قوله تعالى : { أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ (59)
وَتَضْحَكُونَ وَلا تَبْكُونَ (60) وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ (61) فَاسْجُدُوا
لِلَّهِ وَاعْبُدُوا (62) }
يقول تعالى ذكره لمشركي قريش : أفمن هذا القرآن أيها الناس تعجبون ، أنْ نزلَ على
محمد صلى الله عليه وسلم ، وتضحكون منه استهزاءً به ، ولا تبكون مما فيه من الوعيد
لأهل معاصي الله ، وأنتم من أهل معاصيه( وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ ) يقول : وأنتم
لاهون عما فيه من العِبر والذكر ، معرضون عن آياته; يقال للرجل : دع عنا سُمودَك ،
يراد به : دع عنا لهوك ، يقال منه : سَمَدَ فلان يَسْمُد سُمُودا.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل وإن اختلفت ألفاظهم بالعبارة
(22/558)
عنه ، فقال بعضهم : غافلون. وقال بعضهم
: مغنون. وقال بعضهم : مُبَرْطمون.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : ثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، عن
عكرمة ، عن ابن عباس ، قوله( سَامِدُونَ ) قال : هو الغناء ، كانوا إذا سمعوا
القرآن تَغَنَّوا ولعبوا ، وهي لغة أهل اليمن ، قال اليماني : اسْمُد.
حدثني عليّ ، قال : ثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ،
قوله : ( سَامِدُونَ ) يقول : لاهون.
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ،
عن ابن عباس ، قوله( وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ ) يقول : لاهون.
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا عبد الرحمن بن مهدي ، قال : ثنا سفيان ، عن أبيه ، عن
عكرمة ، عن ابن عباس ، قال : هي يمانية اسمد تَغَنَّ لنا.
حدثنا أبو كُرَيب ، قال : ثنا الأشجعي ، عن سفيان ، عن أبيه ، عن عكرمة ، عن ابن
عباس ، قال : هو الغناء ، وهي يمانية ، يقولون : اسمد لنا : تغَنَّ لنا .
قال : ثنا عبيد الله الأشجعي ، عن سفيان ، عن حكيم بن الديلم ، عن الضحاك ، عن ابن
عباس( وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ ) قال : كانوا يمرّون على النبي صلى الله عليه وسلم
شامخين ، ألم تروا إلى الفحل في الإبل عَطِنا شامخا (1) .
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا ابن أبى عديّ ، عن سعيد ، عن قتادة ، عن الحسن ، في
قوله : ( وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ ) قال : غافلون.
حدثنا أبو كُرَيب ، قال : ثنا ابن عيينة ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد( وَأَنْتُمْ
سَامِدُونَ ) قال : كانوا يمرّون على النبيّ صلى الله عليه وسلم غضابا
مُبَرْطِمين. وقال
__________
(1) عطنا : أي باركا في عطنه بعد أن شرب . وشامخا : ناصبا رأسه .
(22/559)
عكرِمة : هو الغناء بالحِميرية.
قال : ثنا الأشجعيّ ووكيع ، عن سفيان ، عن ابن أبى نجيح ، عن مجاهد ، قال : هي
الْبَرْطَمة.
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا عبد الرحمن ، قال : ثنا سفيان ، عن ابن أبي نجيح ، عن
مجاهد ، قوله( وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ ) قال : البرطمة.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث ، قال :
ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله(
وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ ) قال : البرطمة.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن
عكرِمة ، عن ابن عباس قال : السامدون : المغَنُّون بالحميرية.
حدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، ثنا ابن أبي نجيح ، عن مجاهد
، قال : كان عكرِمة يقول : السامدون يغنون بالحميرية ، ليس فيه ابن عباس.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتاده قوله( سَامِدُونَ ) : أي
غافلون .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، في قوله(
سَامِدُونَ ) قال : غافلون.
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ ، يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك
يقول في قوله( وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ ) السُّمود : اللهو واللعب.
حدثنا حميد بن مسعدة ، قال : ثنا يزيد بن زريع ، قال : ثنا سفيان بن سعيد ، عن فطر
، عن أبي خالد الوالبيّ ، عن عليّ رضي الله عنه قال : رآهم قياما ينتظرون الإمام ،
فقال : ما لكم سامدون .
(22/560)
حدثني ابن سنان القزاز ، قالا ثنا أبو
عاصم ، عن عمران بن زائدة بن نشيط ، عن أبيه ، عن أبي خالد قال : خرج علينا عليّ
رضي الله عنه ونحن قيام ، فقال : مالي أراكم سامدين.
قال : ثنا أبو عاصم ، قال : أخبرنا سفيان ، عن مطر ، عن زائدة ، عن أبي خالد ،
بمثله .
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا ابن أبي عديّ ، عن سعيد ، عن أبي معشر ، عن إبراهيم ،
في قوله( وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ ) قال : قيام القوم قبل أن يجيء الإمام.
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا عبد الرحمن ، قال : ثنا سفيان ، عن منصور ، عن عمران
الخياط ، عن إبراهيم في القوم ينتظرون الصلاة قياما; قال : كان يقال : ذاك
السُّمود.
حدثنا ابن حُميد ، قال : ثنا مهران ، عن أبي جعفر ، عن ليث والعزرميّ ، عن مجاهد(
وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ ) قال : البرطَمة.
حدثنا ابن حُميد ، قال : ثنا مهران ، عن سفيان ، عن أبيه ، عن عكرمة ، عن ابن
عباس( وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ ) قال : الغناء باليمانية : اسْمُد لنا.
حدثنا يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله( وَأَنْتُمْ
سَامِدُونَ ) قال : السامد : الغافل.
حدثنا ابن حُميد ، قال : ثنا جرير ، عن منصور ، عن إبراهيم ، قال : كانوا يكرهون
أن يقوموا إذا أقام المؤذن للصلاة ، وليس عندهم الإمام ، وكانوا يكرهون أن ينتظروه
قياما ، وكان يقال : ذاك السُّمود ، أو من السُّمود.
وقوله( فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا ) يقول تعالى ذكره : فاسجدوا لله أيها
الناس في صلاتكم دون مَن سواه من الآلهة والأنداد ، وإياه فاعبدوا دون غيره ، فإنه
لا ينبغي أن تكون العبادة إلا له ، فأخلصوا له العبادة والسجود ، ولا تجعلوا له
شريكا في عبادتكم إياه.
آخر تفسير سورة النجم.
(22/561)
اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ (1) وَإِنْ يَرَوْا آَيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ (2)
تفسير سورة القمر بسم الله الرحمن
الرحيم
القول في تأويل قوله تعالى : { اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ (1)
وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ (2) }
يعني تعالى ذكره بقوله( اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ ) : دنت الساعة التي تقوم فيها
القيامة ، وقوله( اقْتَرَبَتِ ) افتعلت من القُرب ، وهذا من الله تعالى ذكره إنذار
لعباده بدنوّ القيامة ، وقرب فناء الدنيا ، وأمر لهم بالاستعداد لأهوال القيامة
قبل هجومها عليهم ، وهم عنها في غفلة ساهون.
وقوله( وَانْشَقَّ الْقَمَرُ ) يقول جلّ ثناؤه : وانفلق القمر ، وكان ذلك فيما
ذُكر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بمكة ، قبل هجرته إلى المدينة ،
وذلك أن كفار أهل مكة سألوه آية ، فآراهم صلى الله عليه وسلم انشقاق القمر ، آية
حجة على صدق قوله ، وحقيقة نبوّته; فلما أراهم أعرضوا وكذبوا ، وقالوا : هذا سحر
مستمرّ ، سحرنا محمد ، فقال الله جلّ ثناؤه( وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا
وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ ) .
وينحو الذي قلنا في ذلك جاءت الآثار ، وقال به أهل التأويل.
* ذكر الآثار المروية بذلك ، والأخيار عمن قاله من أهل التأويل :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة " أن أنس بن مالك
حدثهم أن أهل مكة سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يريهم آية ، فأراهم
انشقاق القمر مرّتين " .
حدثنا ابن المثنى ، قال : ثنا محمد بن جعفر ، قال : ثنا شعبة ، قال :
(22/565)
سمعت قتادة يحدّث ، عن أنس ، قال :
انشق القمر فرقتين.
حدثنا ابن المثنى والحسن بن أبي يحيى المقدسي ، قالا ثنا أبو داود ، قال : ثنا
شعبة ، عن قتادة ، قال : سمعت أنسا يقول : " انشق القمر على عهد رسول الله
صلى الله عليه وسلم " .
حدثني يعقوب الدورقيّ ، قال : ثنا أبو داود ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قال :
سمعت أنسا يقول : فذكر مثله.
حدثنا عليّ بن سهل ، قال : ثنا حجاج بن محمد ، عن شعبة ، عن قتادة ، عن أنس ، قال
: " انشقّ القمر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم مرّتين " .
حدثني محمد بن عبد الله بن بزيع ، قال : ثنا بشر بن المفضل ، قال : ثنا سعيد بن
أبي عروبة ، عن قتادة ، عن أنس بن مالك " أن أهل مكة سألوا رسول الله صلى
الله عليه وسلم أن يريهم آية ، فأراهم القمر شقتين حتى رأوا حراء بينهما " .
حدثني أبو السائب ، قال : ثنا معاوية ، عن الأعمش ، عن إبراهيم ، عن أبى معمر ، عن
عبد الله ، قال : " انشقّ القمر ونحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنى
حتى ذهبت منه فرقة خلف الجبل ، فقال
(22/566)
رسول الله صلى الله عليه وسلم :
اشْهَدُوا " .
حدثني إسحاق بن أبي إسرائيل ، قال : ثنا النضر بن شميل المازنيّ ، قال : أخبرنا
شعبة ، عن سليمان ، قال : سمعت إبراهيم ، عن أبي معمر ، عن عبد الله ، قال "
تفلَّق القمر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فرقتين ، فكانت فرقة على الجبل
، وفرقة من ورائه ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : اللَّهُم اشْهَدْ "
.
حدثنا إسحاق بن أبي إسرائيل ، قال : ثنا النضر ، قال : أخبرنا شعبة ، عن سليمان ،
عن مجاهد ، عن ابن عمر ، مثل حديث إبراهيم في القمر.
حدثني عيسى بن عثمان بن عيسى الرملي ، قال : ثني عمي يحيى بن عيسى ، عن الأعمش ،
عن إبراهيم ، عن رجل ، عن عبد الله ، قال " كنا مع رسول الله صلى الله عليه
وسلم بمنى ، فانشقّ القمر ، فأخذت فرقة خلق الجبل ، فقال رسول الله صلى الله عليه
وسلم : اشْهَدُوا " .
حدثني محمد بن عمارة ، قال : ثنا عمرو بن حماد ، قال : ثنا أسباط ، عن سماك ، عن
إبراهيم ، عن الأسود ، عن عبد الله ، قال : " رأيت الجبل من فرج القمر حين
انشقّ " .
حدثنا الحسن بن يحيى المقدسي ، قال : ثنا يحيى بن حماد ، قال : ثنا أبو عوانة ، عن
المُغيرة ، عن أبي الضحى ، عن مسروق ، عن عبد الله ، قال : " انشقّ القمر على
عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقالت قريش : هذا سحر ابن أبي كَبْشة سحركم
فسلوا السُّفَّار ، فسألوهم ، فقالوا : نعم قد رأيناه ، فأنزل الله تبارك وتعالى :
( اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ ) .
حدثنا ابن حُميد ، قال : ثنا جرير ، عن مغيرة ، عن إبراهيم ، عن عبد الله قال :
" قد مضى انشقاق القمر " .
حدثني أبو السائب ، قال : ثنا أبو معاوية ، عن الأعمش ، عن مسلم ، عن مسروق ، قال
: عبد الله " خمس قد مضين : الدخان ، واللزام ، والبطشة ، والقمر ، والروم
" .
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : ثنا ابن عُلَية ، قال : أخبرنا أيوب ، عن محمد ،
قال : نُبِّئت أن ابن مسعود كان يقول : قد انشقَ القمر.
قال : أخبرنا ابن علية ، قال : أخبرنا عطاء بن السائب ، عن أبي عبد الرحمن
السُلَميّ ، قال : " نزلنا المدائن ، فكنا منها على فرسخ ، فجاءت الجمعة ،
فحضر أبي ، وحضرت معه ، فخطبنا حُذيفة ، فقال : ألا إن الله يقول( اقْتَرَبَتِ
السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ ) ألا وإن الساعة قد اقتربت ، ألا
(22/567)
وإن القمر قد انشقّ ، ألا وإن الدنيا
قد آذنت بفراق ، ألا وإن اليوم المِضمار ، وغدا السباق ، فقلت لأبي : أتستبق الناس
غدا ؟ فقال : يا بنيّ إنك لجاهل ، إنما هو السباق بالأعمال ، ثم جاءت الجمعة
الأخرى ، فحضرنا ، فخطب حُذيفة ، فقال : ألا إن الله تبارك وتعالى يقول(
اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ ) ألا وإن الساعة قد أقتربت ، ألا
وإن القمر قد انشقّ ، ألا وإن الدنيا قد آذنت بفراق ، ألا وإن اليوم المضمار وغدا
السباق ، ألا وإن الغاية النار ، والسابق من سَبق إلى الجنة " .
حدثنا ابن المثنى ، قال : ثنا محمد بن جعفر ، قال : ثنا شعبة ، عن عطاء بن السائب
، عن أبي عبد الرحمن قال : " كنت مع أبي بالمدائن ، قال : فخطب أميرهم ، وكان
عطاء يروي أنه حُذيفة ، فقال في هذه الآية : ( اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ
الْقَمَرُ ) قد اقتربت الساعة وانشقّ القمر ، قد اقتربت الساعة وانشق القمر ،
اليوم المضمار ، وغدا السباق ، والسابق من سبق إلى الجنة ، والغاية النار; قال :
فقلت لأبي : غدا السباق ، قال : فأخبره " .
حدثنا أبو كُرَيب ، قال : ثنا ابن فضيل ، عن حصين ، عن محمد بن جبير بن مطعم ، عن
أبيه ، قال : " انشقّ القمر ، ونحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة
" .
حدثنا ابن حُميد ، قال : ثنا مهران ، عن خارجة ، عن الحصين بن عبد الرحمن ، عن ابن
جُبَير ، عن أبيه( وَانْشَقَّ الْقَمَرُ ) قال : انشقّ ونحن بمكة.
حدثنا محمد بن عسكر ، قال : ثنا عثمان بن صالح وعبد الله بن عبد الحكم ، قالا ثنا
بكر بن مضر ، عن جعفر بن ربيعة ، عن عِرَاك ، (1) عن عبيد الله بن عبد الله بن
عُتبة ، عن ابن عباس ، قال : " انشقّ القمر في عهد رسول الله صلى الله عليه
وسلم " .
حدثنا نصر بن عليّ ، قال : ثنا عبد الأعلى ، قال : ثنا داود بن أبي هند ، عن عليّ
بن أبي طلحة ، عن ابن عباس ، قال : " انشقّ القمر قبل الهجرة ، أو قال : قد
مضى ذاك " .
حدثنا إسحاق بن شاهين ، قال : ثنا خالد بن عبد الله ، عن داود ، عن علي ، عن ابن
عباس بنحوه.
__________
(1) ضبطه في التاج بوزن كتاب .
(22/568)
حدثنا ابن المثنى ، قال : ثنا عبد
الأعلى ، قال : ثنا داود ، عن علي ، عن ابن عباس أنه قال في هذه الآية(
اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ ) قال : ذاك قد مضى كان قبل الهجرة ،
انشقّ حتى رأوا شِقيه.
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ،
عن ابن عباس ، قوله( اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ ) ... إلى قوله(
سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ ) قال : قد مضى ، كان قد انشق القمر على عهد رسول الله صلى
الله عليه وسلم بمكة ، فأعرض المشركون وقالوا : سحر مستمرّ.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث ، قال :
ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله(
اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ ) قال : رأوه منشقا.
حدثنا ابن حُميد ، قال : ثنا مهران ، عن سفيان ، عن منصور وليث عن مجاهد(
اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ ) قال : انفلق القمر فلقتين ، فثبتت
فلقة ، وذهبت فلقة من وراء الجبل ، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم : " اشْهَدُوا
" .
حدثنا ابن حُميد ، قال : ثنا مهران ، عن أبي سنان ، عن ليث ، عن مجاهد "
انشقّ القمر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فصار فرقتين ، فقال النبي صلى
الله عليه وسلم لأبى بكر : اشْهَدْ يا أبا بَكْرٍ فقال المشركون : سحر القمر حتى
انشقّ " .
حدثنا ابن حُميد ، قال : ثنا مهران ، عن أبي سنان ، قال : قدم رجل المدائن فقام
فقال : إن الله تبارك وتعالى يقول( اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ )
وإن القمر قد انشقّ ، وقد آذنت الدنيا بفراق ، اليوم المِضْمار ، وغدا السباق ،
والسابق. من سبق إلى الجنة ، والغاية النار.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ
وَانْشَقَّ الْقَمَرُ ) يحدث الله في خلقه ما يشاء.
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، عن
(22/569)
أنس ، قال : سأل أهل مكة النبيّ صلى
الله عليه وسلم آية ، فانشقّ القمر بمكة مرّتين ، فقال( اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ
وَانْشَقَّ الْقَمَرُ ) .
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك
يقول في قوله( وَانْشَقَّ الْقَمَرُ ) قد مضى ، كان الشقّ على عهد رسول الله صلى
الله عليه وسلم بمكة ، فأعرض عنه المشركون ، وقالوا : سِحْر مستمرّ.
حدثنا ابن حُميد ، قال : ثنا سلمة ، عن عمرو ، عن مغيرة ، عن إبراهيم ، قال : مضى
انشقاق القمر بمكة.
وقوله( وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا ) يقول تعالى ذكره. وإن ير المشركون علامة
تدلهم على حقيقة نبوّة محمد صلى الله عليه وسلم ، ودلالة تدلهم على صدقة فيما
جاءهم به عن ربهم ، يعرضوا عنها ، فيولوا مكذّبين بها مُنكرين أن يكون حقا يقينا ،
ويقولوا تكذيبا منهم بها ، وإنكارا لها أن تكون حقا : هذا سحر سَحَرَنا به محمد
حين خَيَّلَ إلينا أنا نرى القمر منفلقا باثنين بسحره ، وهو سحر مستمرّ ، يعني
يقول : سحر مستمرّ ذاهب ، من قولهم : قد مرّ هذا السحر إذا ذهب.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث ، قال :
ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله( سِحْرٌ
مُسْتَمِرٌّ ) قال : ذاهب.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله( وَإِنْ يَرَوْا
آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ ) قال : إذا رأى أهل الضلالة آية
من آيات الله قالوا : إنما هذا عمل السحر ، يوشك هذا أن يستمرّ ويذهب.
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة( وَيَقُولُوا
سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ ) يقول : ذاهب.
(22/570)
وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ (3) وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنَ الْأَنْبَاءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ (4) حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ (5)
حدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ
يقول : ثنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله( وَيَقُولُوا سِحْرٌ
مُسْتَمِرٌّ ) كما يقول أهل الشرك إذا كُسف القمر يقولون : هذا عمل السحرة.
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا مهران ، عن سفيان ، قوله( سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ ) قال :
حين انشق القمر بفلقتين : فلقة من وراء الجبل ، وذهبت فلقة أخرى ، فقال المشركون
حين رأوا ذلك : سحر مستمرّ.
وكان بعض أهل المعرفة بكلام العرب من أهل البصرة يوجه قوله( مُسْتَمِرٌّ ) إلى أنه
مستفعل من الإمرار من قولهم : قد مرّ الجبل : إذا صلب وقوي واشتدّ وأمررته أنا :
إذا فتلته فتلا شديدا ، ويقول : معنى قوله( وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ ) :
سحر شديد.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ وَكُلُّ
أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ (3) وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنَ الأنْبَاءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ
(4) حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ (5) }
يقول تعالى ذكره : وكذّب هؤلاء المشركون من قريش بآيات الله بعد ما أتتهم حقيقتها
، وعاينوا الدلالة على صحتها برؤيتهم القمر منفلقا فلقتين( وَاتَّبَعُوا
أَهْوَاءَهُمْ ) يقول : وآثروا اتباع ما دعتهم إليه أهواء أنفسهم من تكذيب ذلك على
التصديق بما قد أيقنوا صحته من نبوّة محمد صلى الله عليه وسلم ، وحقيقة ما جاءهم
به من ربهم.
وقوله( وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ ) يقول تعالى ذكره : وكلّ أمر من خير أو شرّ
مستقر قراره ، ومتناه نهايته ، فالخير مستقرّ بأهله في الجنة ، والشرّ مستقرّ
بأهله في النار.
(22/571)
كما حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال
: ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله( وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ ) : أي بأهل الخير
الخير ، وبأهل الشرّ الشرّ.
وقوله( وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنَ الأنْبَاءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ ) يقول تعالى
ذكره : ولقد جاء هؤلاء المشركين من قريش الذين كذّبوا بآيات الله ، واتبعوا
أهواءهم من الأخبار عن الأمم السالفة ، الذين كانوا من تكذيب رسل الله على مثل
الذي هم عليه ، وأحلّ الله بهم من عقوباته ما قصّ في هذا القرآن ما فيه لهم مزدجر
، يعني : ما يردعهم ، ويزجرهم عما هم عليه مقيمون ، من التكذيب بآيات الله ، وهو
مُفْتَعَلٌ من الزَّجْر.
وبنحو الذي قلنا في معنى ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث ، قال :
ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله(
مُزْدَجَرٌ ) قال : مُنتهى.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله( وَلَقَدْ
جَاءَهُمْ مِنَ الأنْبَاءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ ) : أي هذا القرآن.
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا مهران ، عن سفيان( وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنَ الأنْبَاءِ
مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ ) قال : المزدَجَر : المنتهى.
وقوله( حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ ) يعني بالحكمة البالغة : هذا القرآن ، ورُفعت الحكمةُ
ردّا على " ما " التي في قوله( وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنَ الأنْبَاءِ مَا
فِيهِ مُزْدَجَرٌ ) .
وتأويل الكلام : ولقد جاءهم من الأنباء النبأ الذي فيه مزدَجَر ، حكمة بالغة. ولو
رُفعت الحكمة على الاستئناف كان جائزا ، فيكون معنى الكلام حينئذ : ولقد جاءهم من
الأنباء النبأ الذي فيه مزدجر ، ذلك حكمة بالغة ، أو هو حكمة بالغة فتكون الحكمة
كالتفسير لها.
(22/572)
فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلَى شَيْءٍ نُكُرٍ (6)
وقوله( فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ ) وفي
" ما " التي في قوله( فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ ) وجهان : أحدهما أن تكون
بمعنى الجحد ، فيكون إذا وجهت إلى ذلك معنى الكلام ، فليست تغني عنهم النذر ولا
ينتفعون بها ، لإعراضهم عنها وتكذيبهم بها. والآخر : أن تكون بمعنى : أنى ، فيكون
معنى الكلام إذا وجهت إلى ذلك : فأي شيء تُغني عنهم النُّذر. والنُّذر : جمع نذير
، كالجُدُد : جمع جديد ، والحُصُر : جمع حَصير.
القول في تأويل قوله تعالى : { فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُو الدَّاعِي إِلَى
شَيْءٍ نُكُرٍ (6) }
(22/573)
خُشَّعًا أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنْتَشِرٌ (7) مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ (8)
القول في تأويل قوله تعالى : {
خُشَّعًا أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الأجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ
مُنْتَشِرٌ (7) مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِي يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ
عَسِرٌ (8) }
يعني تعالى ذكره بقوله( فَتَوَلَّ عَنْهُمْ ) : فأعرض يا محمد عن هؤلاء المشركين
من قومك ، الذين إن يروا آية يعرضوا ويقولوا : سِحْر مستمرّ ، فإنهم يوم يدعو داعي
الله إلى موقف القيامة ، وذلك هو الشيء النُّكُر( خُشَّعًا أَبْصَارُهُمْ ) يقول :
ذليلة أبصارهم خاشعة ، لا ضرر بها( يَخْرُجُونَ مِنَ الأجْدَاثِ ) وهي جمع جدث ،
وهي القبور ، وإنما وصف جلّ ثناؤه بالخشوع الأبصار دون سائر أجسامهم ، والمراد به
جميع أجسامهم ، لأن أثر ذلة كل ذليل ، وعزّة كل عزيز ، تتبين في ناظريه دون سائر
جسده ، فلذلك خصّ الأبصار بوصفها بالخشوع.
وبنحو الذي قلنا في معنى قوله( خُشَّعًا أَبْصَارُهُمْ ) قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : ( خَاشِعًا
أَبْصَارُهُمْ ) : أي ذليلة أبصارهم.
(22/573)
واختلفت القرّاء في قراءة قوله : (
خَاشِعًا أَبْصَارُهُمْ ) فقرأ ذلك عامة قرّاء المدينة وبعض المكيين الكوفيين(
خُشَّعًا ) بضم الخاء وتشديد الشين ، بمعنى خاشع; وقرأه عامة قرّاء الكوفة وبعض
البصريين( خَاشِعًا أَبْصَارُهُمْ ) بالألف على التوحيد اعتبارا بقراءة عبد الله ،
وذلك أن ذلك في قراءة عبد الله( خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ ) ، وألحقوه وهو بلفظ
الاسم في التوحيد ، إذ كان صفة بحكم فَعَلَ ويَفْعَل في التوحيد إذا تقدّم الأسماء
، كما قال الشاعر :
وشَبابٍ حَسَنٍ أوْجُهُهمْ... مِنْ إيادِ بنِ نزارِ بْنِ مَعَد (1)
فوحد حَسَنا وهو صفة للأوجه ، وهي جمع; وكما قال الآخر :
يَرْمي الفِجاجَ بِها الرُّكبانَ مُعْترِضًا... أعْناقَ بُزَّلِها مُرْخَى لَها
الجُدُلُ (2)
فوحد معترضا ، وهي من صفة الأعناق ، والجمع والتأنيث فيه جائزان على ما بيَّنا.
وقوله( كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنْتَشِرٌ ) يقول تعالى ذكره : يخرجون من قبورهم
كأنهم في انتشارهم وسعيهم إلى موقف الحساب جراد منتَشر.
__________
(1) البيت للحارس بن دوس الإيادي ، ويروى لأبي داود الإيادي ، ( هامش القرطبي 17 :
129 ) والبيت من شواهد الفراء في معاني القرآن ( الورقة 317 ) قال : إذا تقدم
الفعل قبل اسم مؤنث ، وهو له ، أو قبل جمع مؤنث مثل الأنصار والأعمار وما أشبهها
جاز تأنيث الفعل وتذكيره وجمعه ، وقد أتى بذلك في هذا الحرف ، فقرأه ابن عباس :
" خاشعا أبصارهم " حدثني بذلك هشيم وأبو معاوية ، عن وائل بن داود ، عن
مسلم بن يسار ، عن ابن عباس ، أنه قراه " خاشعا " . قال : وحدثني هشيم ،
عن عوف الأعرابي ، عن الحسن وأبي رجاء العطاردي : أن أحدهما قال : " خاشعا
" والآخر : " خشعا " قال الفراء : وهي في قراءة عبد الله ( ابن
مسعود ) : " خاشعة أبصارهم " . وقرأ الناس بعد : " خشعا أبصارهم
" ، وقد قال الشاعر : " وشباب حسن ... " البيت .
(2) وهذا الشاهد كذلك من شواهد الفراء في معاني القرآن ( الورقة 317 ) على أنه إذا
تقدم الفعل وشبهه قبل اسم مؤنث ( جمع تكسير ) مثل الأنصار والأعمار وما أشبهها جاز
تأنيث الفعل وتذكيره وجمعه . وقال الفراء تعليقًا على هذا البيت : الجدل : جمع
الجديل : وهو الزمام . فلو قال معترضات أو معترضة ، لكان صوابا ، ومرخاة ومرخيات أ
. هـ .
(22/574)
كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ (9) فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ (10)
وقوله( مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ )
يقول : مسرعين بنظرهم قِبَلَ داعيهم إلى ذلك الموقف. وقد بيَّنا معنى الإهطاع
بشواهده المغنية عن الإعادة ، ونذكر بعض ما لم نذكره فيما مضى من الرواية.
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا جرير ، عن مغيرة ، عن عثمان بن يسار ، عن تميم بن
حَذْلم قوله : ( مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ ) قال : هو التحميج.
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سفيان ، عن سفيان ، عن أبيه ، عن أبي الضحى(
مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ ) قال : التحميج.
قال : ثنا مهران ، عن سفيان( مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ ) قال : هكذا أبصارهم
شاخصة إلى السماء.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله( مُهْطِعِينَ
إِلَى الدَّاعِ ) : أي عامدين إلى الداعي.
حدثني عليّ ، قال : ثنا أبو صالح ، قال : ثنا معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ،
قوله( مُهْطِعِينَ ) يقول : ناظرين.
وقوله( يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ ) يقول تعالى ذكره : يقول
الكافرون بالله يوم يدع الداعي إلى شيء نكُر : هذا يوم عسر. وإنما وصفوه بالعسر
لشدة أهواله وبَلْباله.
القول في تأويل قوله تعالى : { كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا
عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ (9) فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ
فَانْتَصِرْ (10) }
وهذا وعيد من الله تعالى ذكره ، وتهديد للمشركين من أهل مكة وسائر من أرْسَل إليه
رسولَه محمدا صلى الله عليه وسلم على تكذيبهم إياه ، وتقدم منه إليهم إن هم لم
ينيبوا من تكذيبهم إياه ، أنه محلّ بهم ما أحل بالأمم الذين قصّ قصصهم في هذه
(22/575)
السورة من الهلاك والعذاب ، ومنجّ نبيه
محمدا والمؤمنين به ، كما نجَّى من قبله الرسل وأتباعهم من نقمه التي أحلَّها
بأممهم ، فقال جلّ ثناؤه لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : كذّبت يا محمد قبل هؤلاء
الذين كذّبوك من قومك ، الذين إذا رأوْا آية أعرضوا وقالوا سحر مستمرّ - قوم نوح ،
فكذّبوا عبدنا نوحا إذ أرسلناه إليهم ، كما كذّبتك قريش إذ أتيتهم بالحقّ من عندنا
وقالوا : هو مجنون وازدجر ، وهو افْتُعِل من زجرت ، وكذا تفعل العرب بالحرف إذا
كان أوّله زايا صيروا تاء الافتعال منه دالا من ذلك قولهم : ازدجر من زجرت ،
وازدلف من زلفت ، وازديد من زدت.
واختلف أهل التأويل في المعنى الذي زَجَروه ، فقال بعضهم : كان زجرهم إياه أن
قالوا : استُطِير جنونا.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا يحيى ، عن سفيان ، عن منصور ، عن مجاهد( وَقَالُوا
مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ ) قال : استطير جنونا.
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا مهران ، عن سفيان ، عن منصور ، عن مجاهد ، مثله.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث ، قال :
ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله(
وَازْدُجِرَ ) قال : استُطير جنونا.
حدثنا ابن المثنى ، قال : ثنا محمد بن جعفر ، قال : ثنا شعبة ، عن الحكم ، عن
مجاهد في هذه الآية( وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ ) قال : استعر جنونا.
حدثني موسى بن عبد الرحمن المسروقي ، قال : ثنا زيد بن الحباب ، قال : وأخبرني
شعبة بن الحجاج ، عن الحكم ، عن مجاهد ، مثله.
(22/576)
فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ (11) وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ (12)
وقال آخرون : بل كان زجرهم إياه وعيدهم
له بالشتم والرجم بالقول القبيح.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله( وَقَالُوا
مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ ) قال : اتهموه وزجروه وأوعدوه لئن لم يفعل ليكوننّ من
المرجومين ، وقرأ( لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ
الْمَرْجُومِينَ ) .
وقوله( فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ ) يقول تعالى ذكره : فدعا
نوح ربه : إن قومي قد غلبوني ، تمرّدوا وعتوا ، ولا طاقة لي بهم ، فانتصر منهم
بعقاب من عندك على كفرهم بك.
القول في تأويل قوله تعالى : { فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ
مُنْهَمِرٍ (11) وَفَجَّرْنَا الأرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ
قَدْ قُدِرَ (12) }
يقول تعالى ذكره( فَفَتَحْنَا ) لما دعانا نوح مستغيثا بنا على قومه( أَبْوَابَ
السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ ) وهو المندفق ، كما قال امرؤ القيس في صفة غيث :
رَاحَ تَمْريه الصبا ثُمَّ انْتَحَى... فِيهِ شُؤْبُوبُ جنوبٍ مُنْهَمِرْ (1)
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
__________
(1) البيت لامرئ القيس بن حجر ، من مقطوعة في ثمانية أبيات يصف فيها غيثا : (
مختار الشعر الجاهلي بشرح مصطفى السقا طبعة الحلبي 110 - 111 ) قال شارحه : راح :
عاد السحاب بالمطر آخر النهار . وتمريه : تستدبره ، وأصله من مرى الضرع ، وهو مسحه
باليد ليدر ، والسحاب حين تضربه ريح الصبا الباردة ، يتجمع ويتكاثف ، فيسقط مطرا ،
ثم جاءت الجنوب عندهم محملة بالأمطار من بحر الهند ، فأضافت إلى هذا السحاب شؤبوبا
آخر جنوبيًّا ، فتضاعف المطر وانهمر انهمارًا. أ . هـ . وموضع الشاهد في البيت :
أن المنهمر في قوله تعالى : " بماء منهمر " معناه : المتدفق . الشديد
الانصباب أ . هـ .
(22/577)
وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ (13) تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ (14)
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا مهران ، عن سفيان( بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ ) قال : ينصبّ
انصبابا.
وقوله( وَفَجَّرْنَا الأرْضَ عُيُونًا ) يقول جلّ ثناؤه : وأسلنا الأرض عيون
الماء.
كما حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا مهران ، عن سفيان ، في قوله( وَفَجَّرْنَا الأرْضَ
عُيُونًا ) قال : فجَّرنا الأرض الماءَ وجاء من السماء( فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى
أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ ) يقول تعالى ذكره : فالتقى ماء السماء وماء الأرض على أمر قد
قدره الله وقضاه.
كما حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا مهران ، عن سفيان( فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى
أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ ) قال : ماء السماء وماء الأرض. وإنما قيل : فالتقى الماء على
أمر قد قدر ، والالتقاء لا يكون من واحد ، وإنما يكون من اثنين فصاعدا ، لأن الماء
قد يكون جمعا وواحدا ، وأريد به في هذا الموضع : مياه السماء ومياه الأرض ، فخرج
بلفظ الواحد ومعناه الجمع. وقيل : التقى الماء على أمر قد قُدر ، لأن ذلك كان أمرا
قد قضاه الله في اللوح المحفوظ.
كما حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا مؤمل ، قال : ثنا سفيان ، عن موسى بن عبيدة عن
محمد بن كعب قال : كانت الأقوات قبل الأجساد ، وكان القدر قبل البلاء ، وتلا(
فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ ) .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ (13)
تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ (14) }
يقول تعالى ذكره : وحملنا نوحا إذ التقى الماء على أمر قد قُدر ، على سفينة ذات
ألواح ودُسُر. والدسر : جمع دسار ، وقد يقال في واحدها : دسير ، كما
(22/578)
يقال : حَبِيك وحِباك; والدَّسار :
المسمار الذي تشدّ به السفينة; يقال منه : دسرت السفينة إذا شددتها بمسامير أو
غيرها.
وقد اختلف أهل التأويل في ذلك ، فقال بعضهم في ذلك بنحو الذي قلنا فيه.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، أخبرني ابن لهِيعة ، عن
أبي صخر ، عن القُرَظي ، وسُئل عن هذه الآية( وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ
وَدُسُرٍ ) قال : الدُّسُر : المسامير.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله( وَحَمَلْنَاهُ
عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ ) حدثنا أن دُسُرَها : مساميرها التي شُدَّت بها.
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، في قوله( ذَاتِ
أَلْوَاحٍ ) قال : معاريض السفينة; قال : ودُسُر : قال دُسِرت بمسامير.
حدثنا يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله( وَدُسُرٍ ) قال
: الدسر : المسامير التي دُسرت بها السفينة ، ضُربت فيها ، شُدّت بها.
حدثني عليّ ، قال : ثنا أبو صالح ، قال : 0 ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ،
قوله( وَدُسُرٍ ) يقول : المسامير .
وقال آخرون : بل الدُّسُر : صَدْر السفينة ، قالوا : وإنما وصف بذلك لأنه يدفع
الماء ويدْسُرُه.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : ثنا ابن عُلية ، عن أبي رجاء ، عن
(22/579)
الحسن ، في قوله( وَحَمَلْنَاهُ عَلَى
ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ ) قال : تدسُر الماء بصدرها ، أو قال : بِجُؤْجُئِها.
حدثنا بشر. قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قال : كان الحسن يقول في
قوله( وَدُسُرٍ ) جؤجؤها تدسر به الماء.
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن الحسن أنه قال : تدسر
الماء بصدرها.
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثنى أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ،
عن ابن عباس ، قوله( وَدُسُرٍ ) قال : الدُّسُر : كَلْكَل السفينة.
وقال آخرون : الدسر : عوارض السفينة.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا مهران ، عن سفيان ، عن الحصين ، عن مجاهد( ذَاتِ
أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ ) قال : ألواح : السفينة ودسر عوارضها.
وقال آخرون : الألواح : جانباها ، والدُّسُر : طرفاها.
* ذكر من قال ذلك :
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ ، يقول : ثنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك
يقول في قوله( ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ ) أما الألواح : فجانبا السفينة. وأما
الدُّسُر : فطرفاها وأصلاها.
وقال آخرون : بل الدُّسُر : أضلاع السفينة.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث ، قال :
ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن نجيح ، عن مجاهد ، قوله( وَدُسُرٍ )
قال : أضلاع السفينة.
(22/580)
وقوله( تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا ) يقول
جلّ ثناؤه : تجري السفينة التي حملنا نوحا فيها بمرأى منا ومنظر.
وذُكر عن سفيان في تأويل ذلك ما حدثنا ابن حُمَيد ، قال : ثنا مهران ، عن سفيان ،
في قوله( تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا ) يقول : بأمرنا( جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ ) .
اختلف أهل التأويل في تأويله : فقال بعضهم : تأويله فعلنا ذلك ثوابا لمن كان كُفر
فيه ، بمعنى : كفر بالله فيه.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث ، قال :
ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد( جَزَاءً لِمَنْ
كَانَ كُفِرَ ) قال : كَفَر بالله.
وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد(
جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ ) قال : لمن كان كفر فيه.
ووجه آخرون معنى(مَنْ) إلى معنى(ما) في هذا الموضع ، وقالوا : معنى الكلام : جزاء
لما كان كَفَر من أيادي الله ونعمه عند الذين أهلكهم وغرّقهم من قوم نوح.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله( جَزَاءً لِمَنْ
كَانَ كُفِرَ ) قال : لمن كان كفر نعم الله ، وكفر بأياديه وآلائه ورسله وكتبه ،
فإن ذلك جزاء له.
والصواب من القول من ذلك عندي ما قاله مجاهد ، وهو أن معناه : ففتحنا أبواب السماء
بماء منهمر ، وفجرنا الأرض عيونا ، فغرّقنا قوم نوح ، ونجينا نوحا عقابا من الله
وثوابا للذي جُحد وكُفر ، لأن معنى الكفر : الجحود ، والذي جحد ألوهته ووحدانيته
قوم نوح ، فقال بعضهم لبعض( لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا
(22/581)
وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا آَيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (15) فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (16) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآَنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (17)
تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُوَاعًا وَلا
يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا ) ومن ذهب به إلى هذا التأويل كانت من الله ، كأنه
قيل : عوقبوا للَّه ولكفرهم به. ولو وجَّه مُوَجَّه إلى أنها مراد بها نوح
والمؤمنون به كان مذهبا ، فيكون معنى الكلام حينئذ ، فعلنا ذلك جزاء لنوح ولمن كان
معه في الفلك ، كأنه قيل : غرقناهم لنوح ولصنيعهم بنوح ما صنعوا من كفرهم به.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ
(15) فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (16) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ
لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (17) }
يقول تعالى ذكره : ولقد تركنا السفينة التي حملنا فيها نوحا ومن كان معه آية ،
يعني عِبْرة وعظة لمن بعد قوم نوح من الأمم ليعتبروا ويتعظوا ، فينتهوا عن أن
يسلكوا مسلكهم في الكفر بالله ، وتكذيب رسله ، فيصيبهم مثل ما أصابهم من العقوبة.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله( وَلَقَدْ
تَرَكْنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ ) قال : أبقاها الله بباقَردى من أرض
الجزيرة ، عبرة وآية ، حتى نظرت إليها أوائل هذه الأمة نظرا ، وكم من سفينة كانت
بعدها قد صارت رمادا.
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، في قوله(
وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا آيَةً ) قال : ألقى الله سفينة نوح على الجوديّ حتى أدركها
أوائل هذه الأمة.
قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن مجاهد ، أن الله حين غرّق الأرض ،
(22/582)
جعلت الجبال تشمخ ، فتواضع الجوديّ ،
فرفعه الله على الجبال ، وجعل قرار السفينة عليه.
وقوله( فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ ) يقول : فهل من ذي تذكر يتذكر ما قد فعلنا بهذه
الأمة التي كفرت بربها ، وعصت رسوله نوحا ، وكذبته فيما أتاهم به عن ربهم من
النصيحة ، فيعتبر بهم ، ويحذر أن يَحل به من عذاب الله بكفره بربه ، وتكذيبه رسوله
محمدا صلى الله عليه وسلم ، مثل الذي حلّ بهم ، فينيب إلى التوبة ، ويراجع الطاعة.
وأصل مدّكر : مفتعل من ذكر ، اجتمعت فاء الفعل ، وهي ذال ، وتاء وهي بعد الذال ،
فصيرتا دالا مشدّدة ، وكذلك تفعل العرب فيما كان أوّله ذالا يتبعها تاء الافتعال
يجعلونهما جميعا دالا مشدّدة ، فيقولون : ادّكرت ادكارًا ، وإنما هو اذتكرت
اذتكارا ، وفهل من مذتكر ، ولكن قيل : ادكرت ومدّكر لما قد وصفت ، قد ذُكر عن بعض
بني أسد أنهم يقولون في ذلك مذّكر ، فيقلبون الدال ويعتبرون الدال والتاء ذالا
مشددة ، وذُكر عن الأسود بن يزيد أنه قال : قلت لعبد الله بن مسعود : فهل من مدّكر
، أو مذّكر ، فقال : أقرأني رسول الله صلى الله عليه وسلم : (مُذَّكر) يعنى بذال
مشددة.
وبنحو الذي قلنا في ذلك أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله( فَهَلْ مِنْ
مُدَّكِرٍ ) قال : المدّكر : الذي يتذكر ، وفي كلام العرب : المذكر : المتذكر.
حدثنا ابن حُميد ، قال : ثنا مهران ، عن سفيان( فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ ) قال : فهل
من مذّكر.
وقوله( فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ ) يقول تعالى ذكره : فكيف كان عذابي
لهؤلاء الذين كفروا بربهم من قوم نوح ، وكذّبوا رسوله نوحا ، إذ تمادوا في غيهم
وضلالهم ، وكيف كان إنذاري بما فعلت بهم من العقوبة التي أحللت بهم بكفرهم بربهم ،
وتكذيبهم رسوله نوحا ، صلوات الله عليه ، وهو إنذار لمن كفر من
(22/583)
قومه من قريش ، وتحذير منه لهم ، أن
يحلّ بهم على تماديهم في غيهم ، مثل الذي حلّ بقوم نوح من العذاب.
وقوله( وَنَذَرَ ) يعني : وإنذاري ، وهو مصدر.
وقوله( وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ ) يقول تعالى ذكره : ولقد
سهَّلنا القرآن ، بيَّناه وفصلناه للذكر ، لمن أراد أن يتذكر ويعتبر ويتعظ ،
وهوّناه.
كما حدثنا محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ،
قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله(
يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ ) قال : هوّناه.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله( وَلَقَدْ
يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ ) قال : يسَّرنا : بيَّنا.
وقوله( فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ ) يقول : فهل من معتبر متعظ يتذكر فيعتبر بما فيه من
العبر والذكر.
وقد قال بعضهم في تأويل ذلك : هل من طالب علم أو خير فيُعان عليه ، وذلك قريب
المعنى مما قلناه ، ولكنا اخترنا العبارة التي عبرناها في تأويله ، لأن ذلك هو الأغلب
من معانيه على طاهره.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( وَلَقَدْ يَسَّرْنَا
الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ ) يقول : فهل من طالب خير يُعان
عليه.
حدثنا الحسين بن عليّ الصُّدائيّ ، قال : ثنا يعقوب ، قال : ثني الحارث بن عبيد
الإياديّ قال : سمعت قتادة يقول في قول الله( فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ ) قال : هل من
طالب خير يُعان عليه.
حدثنا عليّ بن سهل ، قال : ثنا ضمرة بن ربيعة أو أيوب بن سويد أو كلاهما ، عن ابن
شَوْذَب ، عن مطر ، في قوله( وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ
(22/584)
كَذَّبَتْ عَادٌ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (18) إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ (19) تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ (20) فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (21)
مِنْ مُدَّكِرٍ ) قال : هل من طالب علم
فيعان عليه.
القول في تأويل قوله تعالى : { كَذَّبَتْ عَادٌ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ
(18) إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي يَوْمِ نَحْسٍ
مُسْتَمِرٍّ (19) تَنزعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ (20)
فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (21) }
يقول تعالى ذكره : كذّبت أيضا عاد نبيهم هودا صلى الله عليه وسلم فيما أتاهم به عن
الله ، كالذي كذّبت قوم نوح ، وكالذي كذّبتم مَعْشر قريش نبيكم محمدا صلى الله
عليه وسلم وعلى جميع رسله ، ( فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ ) يقول : فانظروا
معشر كفرة قريش بالله كيف كان عذابي إياهم ، وعقابي لهم على كفرهم بالله ،
وتكذيبهم رسوله هودا وإنذاري بفعلي بهم ما فعلت من سلك طرائقهم ، وكانوا على مثل
ما كانوا عليه من التمادي في الغيّ والضلالة.
وقوله( إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا ) يقول تعالى ذكره : إنا
بعثنا على عاد إذ تمادوا في طغيانهم وكفرهم بالله ريحا صرصرا ، وهي الشديدة العصوف
في برد ، التي لصوتها صرير ، وهي مأخوذة من شدة صوت هبوبها إذا سمع فيها كهيئة قول
القائل : صرّ ، فقيل منه : صرصر ، كما قيل : فكبكبوا فيها ، من فكبوا ،
ونَهْنَهْتَ من نَهَهْتَ.
وبنحو الذي قلتا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ،
عن ابن عباس ، قوله( رِيحًا صَرْصَرًا ) قال : ريحا باردة.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله( إِنَّا
أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا ) والصَّرصر : الباردة.
(22/585)
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن
ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، قال : الصَّرصر : الباردة.
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا مُعاذ يقول : ثنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول
في قوله( رِيحًا صَرْصَرًا ) باردة.
حدثنا ابن حُميد ، قال : ثنا مهران ، عن سفيان( رِيحًا صَرْصَرًا ) قال : شديد ة ،
والصرصر : الباردة.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله( رِيحًا
صَرْصَرًا ) قال : الصرصر : الشديدة.
وقوله( فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ ) يقول : في يوم شرّ وشؤم لهم.
وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، قال : النَّحْس
: الشؤم.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله( فِي يَوْمِ
نَحْسٍ ) قال النحس : الشرّ( فِي يَوْمِ نَحْسٍ ) في يوم شرّ.
وقد تأوّل ذلك آخرون بمعنى شديد ، ومن تأوّل ذلك كذلك فإنه يجعله من صفة اليوم ،
ومن جعله من صفة اليوم ، فإنه ينبغي أن يكون قراءته بتنوين اليوم ، وكسر الحاء من
النحْس ، فيكون( فِي يَوْمٍ نَحِسٍ ) كما قال جلّ ثناؤه( فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ )
ولا أعلم أحدا قرأ ذلك كذلك في هذا الموضع ، غير أن الرواية التي ذكرت في تأويل
ذلك عمن ذكرت عنه على ما وصفنا تدلّ على أن ذلك كان قراءة.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني
(22/586)
أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله(
فِي يَوْمِ نَحْسٍ ) قال : أيام شداد.
وحُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : ثنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول
في قوله( فِي يَوْمِ نَحْسٍ ) يوم شديد.
وقوله( مُسَتَمِرٍّ ) يقول : في يوم شرّ وشؤم ، استمرّ بهم البلاء والعذاب فيه إلى
أن وافي بهم جهنم.
كما حدثنا بشر ، قال : . ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( فِي يَوْمِ نَحْسٍ
مُسْتَمِرٍّ ) يستمرّ بهم إلى نار جهنم.
وقوله( تَنزعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ ) يقول : تقتلع
الناس ثم ترمي بهم على رءوسهم ، فتندقّ رقابهم ، وتبين من أجسامهم.
كما حدثنا ابن حُميد ، قال : ثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، قال : لما هاجت الريح قام
نفر من عاد سبعة شَماليَّا ، منهم ستة من أشدّ عاد وأجسمها ، منهم عمرو بن
الحُلَيِّ والحارث بن شداد والهلقام وابنا تيقن وخَلَجان بن أسعد ، فأدلجوا العيال
في شعب بين جبلين ، ثم اصطفوا على باب الشعب ليردّوا الريح عمن بالشِّعب من
العِيال ، فجعلت الريح تخفقُهم رجلا رجلا فقالت امرأة من عاد :
ذَهَبَ الدَّهْرُ بعَمْرِو بْ... نِ حُلَيٍّ والهَنيَّاتِ... ثُمَّ بالحارِثِ
والهِلْ... قامِ طَلاعِ الثَّنيَّاتِ... وَالَّذِي سَدَّ عَلَيْنا الرّ... يحَ
أيَّامَ البَلِيَّاتِ (1)
حدثنا العباس بن الوليد البيروتي ، قال : أخبرني أبي ، قال : ثني إسماعيل بن عياش
، عن محمد بن إسحاق قال : لما هبَّت الريح قام سبعة من عاد ، فقالوا : نردّ الريح
، فأتوا فم الشعب الذي يأتي منه الريح ، فوقفوا عليه ، فجعلت
__________
(1) هذه الأبيات لامرأة من عاد قوم هود عليه السلام ( هامش القرطبي 17 : 136 ) .
وقد ذكر المؤلف الأبيات في قصة عاد حينما سلط الله عليهم الريح . والله أعلم بمن
قالها وبمن رواها . وقوله ( علينا ) . زيادة لإصلاح الوزن ، وهي ساقطة من الأصل .
(22/587)
الريح تهبّ ، فتدخل تحت واحد واحد ،
فتقتلعه من الأرض فترمي به على رأسه ، فتندقّ رقبته ، ففعلت ذلك بستة منهم ،
وتركتهم كما قال الله( أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ ) وبقي الخلجان فأتى هودا فقال
: يا هود ما هذا الذي أرى في السحاب كهيئة البخاتيّ ؟ قال : تلك ملائكة ربي ، قال
: ما لي إن أسلمت ؟ قال : تَسْلَم ، قال : أيُقيدني ربك إن أسلمت من هؤلاء ؟ فقال
: ويلك أرأيت ملكا يقيد جنوده ؟ فقال : وعزّته لو فعل ما رضيت. قال : ثم مال إلى
جانب الجبل ، فأخذ بركن منه فهزّه ، فاهتز في يده ، ثم جعل يقول :
لَمْ يَبْقَ إلا الخَلَجانُ نَفْسُهُ... يا لَكَ مِنْ دَهانِي أمْسُهُ... بِثابِتِ
الوَطْءِ شَدِيدٍ وَطْسُهُ... لَوْ لَمْ يَجِئْني جِئْتُهُ أحُسُّهُ (1)
قال : ثم هبت الريح فألحقته بأصحابه.
حدثني محمد بن إبراهيم ، قال : ثنا مسلم بن إبراهيم ، قال : ثنا نوح بن قيس ، قال
: ثنا محمد بن سيف ، عن الحسن ، قال : لما أقبلت الريح قام إليها قوم عاد ، فأخذ
بعضهم بأيدي بعض كما تفعل الأعاجم ، وغمزوا أقدامهم في الأرض وقالوا : يا هود من
يزيل أقدامنا عن الأرض إن كنت صادقا ، فأرسل الله عليهم الريح فصيرتهم كأنهم أعجاز
نخل مُنْقَعر.
حدثني محمد بن إبراهيم ، قال : ثنا مسلم ، قال : ثنا نوح بن قيس ، قال : ثنا أشعث
بن جابر ، عن شهر بن حوشب ، عن أبي هريرة ، قال : إن كان الرجل من قوم عاد ليتخذ
المصراعين من حجارة ، لو اجتمع عليها خمس مئة من هذه الأمة لم يستطيعوا أن يحملوها
، وإن كان الرجل منهم ليغمز قدمه في الأرض ، فتدخل في الأرض ، وقال : كأنهم أعجاز
نخل; ومعنى الكلام : فيتركهم كأنهم أعجاز نخل منقعر ، فترك ذكر فيتركهم استغناء بدلالة
الكلام
__________
(1) وهذان البيتان من الأشعار التي رواها أهل القصص في قصة هلاك عاد قوم هود
بالريح . وقد أوردها الثعلبي المفسر في كتابه قصص الأنبياء المشهور بعرائس المجالس
ص 64 من طبعة الحلبي أ . هـ.
(22/588)
وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآَنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (22) كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ (23) فَقَالُوا أَبَشَرًا مِنَّا وَاحِدًا نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذًا لَفِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ (24)
عليه. وقيل : إنما شبههم بأعجاز نخل
منقعر ، لأن رءوسهم كانت تبين من أجسامهم ، فتذهب لذلك رِقابهم ، وتبقى أجسادهم.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا الحسن بن عرفة ، قال : ثنا خلف بن خليفة ، عن هلال بن خباب عن مجاهد ، في
قوله( كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ ) قال : سقطت رءوسهم كأمثال
الأخبية ، وتفرّدت ، أو وتَفَرّقت أعناقهم وقال " أبو جعفر : أنا أشك "
، فشبهها بأعجاز نخل منقعر.
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ،
عن ابن عباس ، قوله( تَنزعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ )
قال : هم قوم عاد حين صرعتهم الريح ، فكأنهم فلق نخل منقعر( فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي
وَنُذُرِ ) يقول تعالى ذكره : فانظروا يا معشر كفار قريش ، كيف كان عذابي قوم عاد
، إذ كفروا بربهم ، وكذّبوا رسوله ، فإن ذلك سنة الله في أمثالهم ، وكيف كان
إنذاري بهم مَنْ أنذرت.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ
مِنْ مُدَّكِرٍ (22) كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ (23) فَقَالُوا أَبَشَرًا
مِنَّا وَاحِدًا نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذًا لَفِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ (24) }
يقول تعالى ذكره : ولقد سهلنا القرآن وهوّناه لمن أراد التذكر به والاتعاظ( فَهَلْ
مِنْ مُدَّكِرٍ ) يقول : فهل من متعظ ومنزجر بآياته.
وقوله( كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ ) يقول تعالى ذكره : كذّبت ثمود قوم صالح
بنذر الله التي أتتهم من عنده ، فقالوا تكذيبا منهم لصالح رسول ربهم : أبشرا منا
نتبعه نحن الجماعة الكبيرة وهو واحد ؟.
وقوله( إِنَّا إِذًا لَفِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ ) يقول : قالوا : إنا إذًا باتباعنا
صالحا
(22/589)
أَؤُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ (25) سَيَعْلَمُونَ غَدًا مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ (26)
إن اتبعناه وهو بشر منا واحد لفي ضلال
: يعنون : لفي ذهاب عن الصواب وأخذ على غير استقامة وسُعُر : يعنون بالسُّعُر :
جمع سَعير.
وكان قتادة يقول : عني بالسُّعُر : العناء.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله( إِنَّا إِذًا
لَفِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ ) : في عناء وعذاب.
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، في قوله( إِنَّا
إِذًا لَفِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ ) قال : ضلال وعناء.
القول في تأويل قوله تعالى : { أَؤُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ
هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ (25) سَيَعْلَمُونَ غَدًا مَنِ الْكَذَّابُ الأشِرُ (26) }
يقول تعالى ذكره مخبرا عن قيل مكذّبي رسوله صالح صلى الله عليه وسلم من قومه ثمود
: أألقي عليه الذكر من بيننا ، يعنون بذلك : أنزل الوحي وخصّ بالنبوّة من بيننا
وهو واحد منا ، إنكارا منهم أن يكون الله يُرسل رسولا من بني آدم.
وقوله( بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ ) يقول : قالوا : ما ذلك كذلك ، بل هو كذّاب أشر
، يعنون بالأشر : المَرِح ذا التجبر والكبرياء ، والمَرِح من النشاط.
وقد حدثني الحسن بن محمد بن سعيد القرشيّ ، قال : قلت لعبد الرحمن بن أبي حماد :
ما الكذّاب الأشر ؟ قال : الذي لا يبالي ما قال ، وبكسر الشين من الأشر وتخفيف
الراء قرأت قراء الأمصار. وذُكر عن مجاهد أنه كان يقرأه : ( كَذَّابٌ أَشُرٌ ) بضم
الشين وتخفيف الراء ، وذلك في الكلام نظير الحذِر والحذُر والعَجِل والعَجُل.
والصواب من القراءة في ذلك عندنا ، ما عليه قرّاء الأمصار لإجماع الحجة من القرّاء
عليه.
(22/590)
إِنَّا مُرْسِلُو النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ (27)
وقوله( سَيَعْلَمُونَ غَدًا مَنِ
الْكَذَّابُ الأشِرُ ) يقول تعالى ذكره : قال الله لهم : ستعلمون غدا في القيامة
من الكذّاب الأشر منكم معشر ثمود ، ومن رسولنا صالح حين تردون على ربكم ، وهذا التأويل
تأويل من قرأه( سَتَعْلَمُونَ ) بالتاء ، وهي قراءة عامة أهل الكوفة سوى عاصم
والكسائي. أما تأويل ذلك على قراءة من قرأه بالياء ، وهي قراءة عامة قراء أهل
المدينة والبصرة وعاصم والكسائي ، فإنه قال الله( سَيَعْلَمُونَ غَدًا مَنِ
الْكَذَّابُ الأشِرُ ) وترك من الكلام ذكر قال الله ، استغناء بدلالة الكلام عليه.
والصواب من القول في ذلك عندنا أنهما قراءتان معروفتان ، قد قرأ بكل واحدة منهما
علماء من القرّاء ، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب ، لتقارب معنييهما ، وصحتهما في
الإعراب والتأويل .
القول في تأويل قوله تعالى : { إِنَّا مُرْسِلُو النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ
فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ (27) }
(22/591)
وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَاءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ (28)
القول في تأويل قوله تعالى : {
وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَاءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ (28) }
يقول تعالى ذكره : إنا باعثوا الناقة التي سألتها ثمودُ صالحا من الهضبة التي
سألوه بَعثَتها منها آية لهم ، وحجة لصالح على حقيقة نبوّته وصدق قوله.
وقوله( فِتْنَةً لَهُمْ ) يقول : ابتلاء لهم واختبارا ، هل يؤمنون بالله ويتبعون
صالحا ويصدّقونه بما دعاهم إليه من توحيد الله إذا أرسل الناقة ، أم يكذّبونه
ويكفرون بالله ؟
وقوله( فَارْتَقِبْهُمْ ) يقول تعالى ذكره لصالح : إنا مُرسلو الناقة فتنة لهم ،
فانتظرهم ، وتبصَّر ما هم صانعوه بها( وَاصْطَبِرْ ) يقول له : واصطبر على
ارتقابهم ولا تعجل ، وانتظر ما يصنعون بناقة الله وقيل : ( وَاصْطَبِرْ )وأصل
الطاء تاء ، فجعلت طاء ، وإنما هو افتعل من الصبر.
(22/591)
فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَى فَعَقَرَ (29) فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (30) إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَكَانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ (31)
وقوله( وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَاءَ
قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ ) يقول تعالى ذكره : نبئهم : أخبرهم أن الماء قسمة بينهم ،
يوم غبّ الناقة ، وذلك أنها كانت ترد الماء يوما ، وتغبّ يوما ، فقال جلّ ثناؤه
لصالح : أخبر قومك من ثمود أن الماء يوم غبّ الناقة قسمة بينهم ، فكانوا يقتسمون
ذلك يوم غبها ، فيشربون منه ذلك اليوم ، ويتزوّدون فيه منه ليوم ورودها.
وقد وجه تأويل ذلك قوم إلى أن الماء قسمة بينهم وبين الناقة يوما لهم ويوما لها ،
وأنه إنما قيل بينهم ، والمعنى : ما ذكرت عندهم ، لأن العرب إذا أرادت الخبر عن
فعل جماعة بني آدم مختلطا بهم البهائم ، جعلوا الفعل خارجا مخرج فعل جماعة بني آدم
، لتغليبهم فعل بني آدم على فعل البهائم.
وقوله( كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ ) يقول تعالى ذكره : كلّ شرب من ماء يوم غبّ
الناقة ، ومن لبن يوم ورودها محتضر يحتضرونه.
كما حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح
، عن مجاهد ، في قوله( كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ ) قال : يحضرون بهم الماء إذا غابت
، واذا جاءت حضروا اللبن.
حدثني الحارث ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثنا ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد
، في قوله( كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ ) قال : يحضرون بهم الماء إذا غابت ، وإذا
جاءت حضروا اللبن.
القول في تأويل قوله تعالى : { فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَى فَعَقَرَ (29)
فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (30) إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً
وَاحِدَةً فَكَانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ (31) }
يقول تعالى ذكره : فنادت ثمود صاحبهم عاقر الناقة قدار بن سالف ليعقر الناقة حضّا
منهم له على ذلك.
(22/592)
وقوله( فَتَعَاطَى فَعَقَرَ ) يقول :
فتناول الناقة بيده فعقرها.
وقوله( فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ ) يقول جلّ ثناؤه لقريش : فكيف كان عذابي
إياهم معشر قريش حين عذبتهم ألم أهلكهم بالرجفة. ونُذُر : يقول : فكيف كان إنذاري
من أنذرت من الأمم بعدهم بما فعلت بهم وأحللت بهم من العقوبة.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثنى أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ،
عن ابن عباس ، قوله( فَتَعَاطَى فَعَقَرَ ) قال : تناولها بيده( فَكَيْفَ كَانَ
عَذَابِي وَنُذُرِ ) قال : يقال : إنه ولد زنية فهو من التسعة الذين كانوا يُفسدون
في الأرض ، ولا يصلحون ، وهم الذين قالوا لصالح( لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ )
ولنقتلنهم.
وقوله( إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً ) وقد بيَّنا فيما مضى
أمر الصيحة ، وكيف أتتهم ، وذكرنا ما روي في ذلك من الآثار ، فأغنى ذلك عن إعادته
في هذا الموضع.
وقوله( فَكَانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ ) يقول تعالى ذكره فكانوا بهلاكهم
بالصيحة بعد نضارتهم أحياء ، وحسنهم قبل بوارهم كيبس الشجر الذي حظرته بحظير حظرته
بعد حُسن نباته ، وخضرة ورقه قبل يُبسه.
وقد اختلف أهل التأويل في المعنيّ بقوله( كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ ) فقال بعضهم :
عني بذلك : العظام المحترقة ، وكأنهم وجهوا معناه إلى أنه مَثَّلَ هؤلاء القوم بعد
هلاكهم وبلائهم بالشيء الذي أحرقه محرق في حظيرته.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني سليمان بن عبد الجبار ، قال : ثنا محمد بن الصلت ، قال ثنا أبو كُدينة ، قال
: ثنا قابوس ، عن أبيه ، عن ابن عباس( كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ )
(22/593)
قال : كالعظام المحترقة.
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثنى أبي ، عن أبيه ،
عن ابن عباس ، قوله( فَكَانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ ) قال : المحترق . ولا
بيان عندنا في هذا الخبر عن ابن عباس ، كيف كانت قراءته ذلك ، إلا أنا وجهنا معنى
قوله هذا على النحو الذي جاءنا من تأويله قوله( كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ ) إلى أنه
كان يقرأ ذلك كنحو قراءة الأمصار ، وقد يحتمل تأويله ذلك كذلك أن يكون قراءته كانت
بفتح الظاء من المحتظر ، على أن المحتظر نعت للهشيم ، أضيف إلى نعته ، كما قيل : (
إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ ) قد ذُكر عن الحسن وقتادة أنهما كانا يقرآن
ذلك كذلك ، ويتأوّلانه هذا التأويل الذي ذكرناه عن ابن عباس.
حدثني عبد الوارث بن عبد الصمد بن عبد الوارث ، قال : ثني أبي ، عن الحسن ، قال :
كان قتادة يقرأ( كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ ) يقول : المحترق.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله( فَكَانُوا
كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ ) يقول : كهشيم محترق.
وقال آخرون : بل عنى بذلك التراب . الذي يتناثر من الحائط.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بن حميد ، قال : ثنا مهران ، عن يعقوب ، عن جعفر ، عن سعيد بن جبير(
كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ ) قال : التراب الذي يتناثر من الحائط.
وقال آخرون : بل هو حظيرة الراعي للغنم.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا مهران ، عن سفيان ، عن أبي إسحاق وأسنده ، قال(
الْمُحْتَظِرِ ) حظيرة الراعي للغنم.
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال :
(22/594)
وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآَنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (32) كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ (33) إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِبًا إِلَّا آَلَ لُوطٍ نَجَّيْنَاهُمْ بِسَحَرٍ (34) نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنَا كَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ (35)
سمعت الضحاك يقول في قوله( كَهَشِيمِ
الْمُحْتَظِرِ ) المحتظر : الحظيرة تتخذ للغنم فتيبس ، فتصير كهشيم المحتظر ، قال
: هو الشوك الذي تحظر به العرب حول مواشيها من السباع والهشيم : يابس الشجر الذي
فيه شوك ذلك الهشيم.
وقال آخرون : بل عني به هشيم الخيمة ، وهو ما تكسَّر من خشبها.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، عن مجاهد ، في قوله(
كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ ) قال : الرجل يهشِم الخيمة.
وحدثني الحارث ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله(
كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ ) الهشيم : الخيمة.
وقال آخرون : بل هو الورق الذي يتناثر من خشب الحطب.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حُميد ، قال : ثنا مهران ، عن سفيان( كَهَشِيمِ ) قال : الهشيم : إذا
ضربت الحظيرة بالعصا تهشم ذاك الورق فيسقط. والعرب تسمي كل شيء كان رطبا فيبس
هشيما.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ
مِنْ مُدَّكِرٍ (32) كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ (33) إِنَّا أَرْسَلْنَا
عَلَيْهِمْ حَاصِبًا إِلا آلَ لُوطٍ نَجَّيْنَاهُمْ بِسَحَرٍ (34) نِعْمَةً مِنْ
عِنْدِنَا كَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ (35) }
يقول تعالى ذكره : ولقد هوّنا القرآن بيَّناه للذكر : يقول : لمن أراد أن يتذكر به
فيتعظ( فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ ) يقول : فهل من متَّعظ به ومعتبر فيعتبر به ،
فيرتدع عما يكرهه الله منه.
(22/595)
وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ بَطْشَتَنَا فَتَمَارَوْا بِالنُّذُرِ (36) وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ (37)
وقوله( كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ
) يقول تعالى ذكره : كذّبت قوم لوط بآيات الله التي أنذرهم وذكرهم بها.
وقوله( إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِبًا ) يقول تعالى ذكره : إنا أرسلنا
عليهم حجارة.
وقوله( إِلا آلَ لُوطٍ نَجَّيْنَاهُمْ بِسَحَرٍ ) يقول : غير آل لوط الذين صدّقوه
واتبعوه على دينه فإنا نجيناهم من العذاب الذي عذّبنا به قومه الذين كذبوه ،
والحاصب الذي حصبناهم به بسحر : بنعمة من عندنا : يقول : نعمة أنعمناها على لوط
وآله ، وكرامة أكرمناهم بها من عندنا.
وقوله( كَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ ) يقول : وكما أثبنا لوطًا وآله ، وأنعمنا عليه
، فأنجيناهم من عذابنا بطاعتهم إيانا كذلك نثيب من شكرنا على نعمتنا عليه ،
فأطاعنا وانتهى إلى أمرنا ونهينا من جميع خلقنا. وأجرى قوله بسحر ، لأنه نكرة ،
وإذا قالوا : فعلت هذا سحر بغير باء لم يجروه.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ بَطْشَتَنَا فَتَمَارَوْا
بِالنُّذُرِ (36) وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ
فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ (37) }
يقول تعالى ذكره : ولقد أنذر لوط قومه بطشتنا التي بطشناها قبل ذلك( فَتَمَارَوْا
بِالنُّذُرِ ) يقول : فكذّبوا بإنذاره ما أنذرهم من ذلك شكا منهم فيه .
وقوله( فَتَمَارَوْا ) تفاعلوا من المرية.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل :
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله( فَتَمَارَوْا
بِالنُّذُرِ ) لم يصدّقوه ، وقوله( وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ ) يقول جلّ
ثناؤه : ولقد
(22/596)
راود لوطا قومه عن ضيفه الذين نزلوا به
حين أراد الله إهلاكهم( فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ ) يقول : فطمسنا على أعينهم حتى
صيرناها كسائر الوجه لا يرى لها شقّ ، فلم يبصروا ضيفه. والعرب تقول : قد طمست
الريح الأعلام : إذا دفنتها بما تسفي عليها من التراب ، كما قال كعب بن زُهَير :
مِنْ كُلّ نَصَّاخَةِ الذّفْرَى إذَا أعْتَرَقَتْ... عُرْضَتها طامِسُ الأعْلام
مَجْهُولُ (1)
يعني بقوله( طامِسُ الأعْلامِ ) : مندفن الأعلام.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ،
عن ابن عباس ، قوله( وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ
) قال : عمى الله عليهم الملائكة حين دخلوا على لوط.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله( وَلَقَدْ
رَاوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ ) وذُكر لنا أن جبريل عليه
السلام استأذن ربه في عقوبتهم ليلة أتوا لوطا ، وأنهم عالجوا الباب ليدخلوا عليه ،
فصفقهم بجناحه ، وتركهم عميا يتردّدون.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قول الله( وَلَقَدْ
رَاوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ ) قال : هؤلاء قوم لوط حين
راودوه عن ضيفه ، طمس الله أعينهم ، فكان ينهاهم عن عملهم الخبيث الذي كانوا
يعملون ، فقالوا : إنا لا نترك عملنا فإياك أن تُنزل أحدا أو تُضيفه ، أو تدعه
ينزل عليك ، فإنا لا نتركه ولا نترك عملنا. قال : فلما جاءه المرسلون ، خرجت
امرأته الشقية من الشقّ ، فأتتهم فدعتهم ، وقالت لهم : تعالوا فإنه قد جاء قوم
__________
(1) البيت : لكعب بن زهير من لاميته المشهورة " بانت سعاد " التي مدح
بها سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم . وقد شرحناه ثلاث مرات في ( 2 : 402 ، 5
: 123 ، 9 : 157 ) من هذه الطبعة ، فراجعه في أحد هذه المواضع ، أو فيها كلها ،
لزيادة الفائدة .
(22/597)
وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَذَابٌ مُسْتَقِرٌّ (38) فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ (39) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآَنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (40)
لم أر قطّ أحسن وجوها منهم ، ولا أحسن
ثيابًا ، ولا أطيب أرواحا منهم ، قال : فجاءوه يهرعون إليه ، فقال : إن هؤلاء ضيفي
، فاتقوا الله ولا تخزوني في ضيفي ، قالوا : أولم ننهك عن العالمين ؟ أليس قد
تقدمنا إليك وأعذرنا فيما بيننا بينك ؟ قال : هؤلاء بناتي هنّ أطهر لكم فقال له
جبريل عليه السلام : ما يهولك من هؤلاء ؟ قال : أما ترى ما يريدون ؟ فقال : إنا
رسل ربك لن يصلوا إليك ، لا تخف ولا تحزن إنا منجوك وأهلك إلا امرأتك ، لتصنعن هذا
الأمر سرّا ، وليكوننّ فيه بلاء; قال : فنشر جبريل عليه السلام جناحا من أجنحته ،
فاختلس به أبصارهم ، فطمس أعينهم ، فجعلوا يجول بعضهم في بعض ، فذلك قول الله(
فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ ) .
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك
يقول في قوله( وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ ) جاءت الملائكة في صور الرجال ،
وكذلك كانت تجيء ، فرآهم قوم لوط حين دخلوا القرية. وقيل : إنهم نزلوا بلوط ،
فأقبلوا إليهم يريدونهم ، فتلقَّاهم لوط يناشدهم الله أن لا يخزوه في ضيفه ، فأبوا
عليه وجاءوا ليدخلوا عليه ، فقالت الرسل للوط خلّ بينهم وبين الدخول ، فإنا رسل
ربك ، لن يصلوا إليك ، فدخلوا البيت ، وطمس الله على أبصارهم ، فلم يروهم; وقالوا
: قد رأيناهم حين دخلوا البيت ، فأين ذهبوا ؟ فلم يروهم ورجعوا.
وقوله( فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ ) يقول تعالى ذكره : فذوقوا معشر قوم لوط من
سدوم ، عذابي الذي حلّ بكم ، وإنذاري الذي أنذرت به غيركم من الأمم من النكال
والمثلات.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَذَابٌ مُسْتَقِرٌّ
(38) فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ (39) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ
فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (40) }
(22/598)
يقول تعالى ذكره : ولقد صُبِّحَ قوْمُ
لوط بُكْرةً ذكر أن ذلك كان عند طلوع الفجر.
حدثنا ابن حُميد ، قال : ثنا مهران ، عن سفيان( بُكْرَةً ) قال : عند طلوع الفجر.
وقوله( عَذَابِ ) وذلك قلب الأرض بهم ، وتصيير أعلاها أسفلها بهم ، ثم إتباعهم
بحجارة من سجيل منضود.
كما حدثنا ابن حُميد ، قال : ثنا مهران ، عن سفيان( وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً
عَذَابٌ ) قال : حجارة رموا بها.
وقوله( مُسْتَقِرّ ) يقول : استقرّ ذلك العذاب فيهم إلى يوم القيامة حتى يوافوا
عذاب الله الأكبر في جهنم.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ
بُكْرَةً عَذَابٌ مُسْتَقِرٌّ ) يقول : صبحهم عذاب مستقرّ ، استقرّ بهم إلى نار
جهنم.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله( وَلَقَدْ
صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً ) ... الآية ، قال : ثم صبحهم بعد هذا ، يعني بعد أن طمس
الله أعينهم ، فهم من ذلك العذاب إلى يوم القيامة ، قال : وكل قومه كانوا كذلك ،
ألا تسمع قوله حين يقول : ( أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ ) .
حدثنا ابن حُميد ، قال : ثنا مهران ، عن سفيان( مُسْتَقِرّ ) استقرّ.
وقوله( فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ ) يقول تعالى ذكره لهم : فذوقوا معشر قوم لوط
عذابي الذي أحللته بكم ، بكفركم بالله وتكذيبكم رسوله ، وإنذاري بكم الأمم سواكم بما
أنزلته بكم من العقاب.
(22/599)
وَلَقَدْ جَاءَ آَلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ (41) كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا كُلِّهَا فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ (42) أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولَئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ (43) أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ (44) سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ (45)
وقوله( وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ
لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ ) يقول تعالى ذكره : ولقد سهَّلنا القرآن للذكر
لمن أراد التذكر به فهل من متعظ ومعتبر به فينزجر به عما نهاه الله عنه إلى ما
أمره به وأذن له فيه.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلَقَدْ جَاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ (41)
كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كُلِّهَا فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ (42) }
يقول تعالى ذكره : ولقد جاء أتباع فرعون وقومه إنذارنا بالعقوبة بكفرهم بنا
وبرسولنا موسى( كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كُلِّهَا ) يقول جلّ ثناؤه كذّب آل فرعون
بأدلتنا التي جاءتهم من عندنا ، وحججنا التي أتتهم بأنه لا إله إلا الله وحده
كلها( فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ ) يقول تعالى ذكره : فعاقبناهم
بكفرهم بالله عقوبة شديد لا يغلب ، مقتدر على ما يشاء ، غير عاجز ولا ضعيف.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتاده ، قوله( فَأَخَذْنَاهُمْ
أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ ) يقول : عزيز في نقمته إذا انتقم.
القول في تأويل قوله تعالى : { أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولَئِكُمْ أَمْ
لَكُمْ بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ (43) أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ
(44) سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ (45) }
يقول تعالى ذكره لكفار قريش الذين أخبر الله عنهم أنهم( وَإِنْ يَرَوْا آيَةً
يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ ) أكفاركم معشر قريش خير من أولئكم
الذين
(22/600)
أحللت بهم نقمتي من قوم نوح وعاد وثمود
وقوم لوط وآل فرعون ، فهم يأملون أن ينجوا من عذابي ، ونقمي على كفرهم بي ،
وتكذيبهم رسولي. يقول : إنما أنتم في كفركم بالله وتكذيبهم رسوله ، كبعض هذه الأمم
التي وصفت لكم أمرهم ، وعقوبة الله بكم نازلة على كفركم به ، كالذي نزل بهم إن لم
تتوبوا وتنيبوا.
كما حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله(
أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولَئِكُمْ ) : أي من مضى.
حدثنا ابن حُميد ، قال : ثنا يحيى بن واضح ، قال : ثنا الحسن ، عن يزيد النحويّ ،
عن عكرِمة( أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولَئِكُمْ ) يقول : أكفاركم يا معشر قريش
خير من أولئكم الذين مضوا.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله( أَكُفَّارُكُمْ
خَيْرٌ مِنْ أُولَئِكُمْ ) يقول : أكفاركم خير من الكفار الذين عذبناهم على معاصي
الله ، وهؤلاء الكفار خير من أولئك. وقال( أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولَئِكُمْ
) استنفاها.
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال. ثني أبي عن أبيه ، عن
ابن عباس ، قوله( أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولَئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ
فِي الزُّبُرِ ) يقول : ليس كفاركم خيرا من قوم نوح وقوم لوط.
حدثنا ابن حُميد ، قال : ثنا مهران ، عن أبي جعفر ، عن الربيع بن أنس(
أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولَئِكُمْ ) قال : كفار هذه الأمة.
وقوله( أَمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ ) يقول جلّ ثناؤه : أم لكم براءة من
عقاب الله معشر قريش ، أن تصيبكم بكفركم بما جاءكم به الوحي من الله في الزبر ،
وهي الكتب.
كما حدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا
(22/601)
أبو عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في
قوله( الزُّبُرِ ) يقول : الكتب.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله( أَمْ لَكُمْ
بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ ) في كتاب الله براءة مما تخافون.
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا يحيى بن واضح ، قال : ثنا الحسين ، عن يزيد ، عن
عكرمة( أَمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ ) يعني في الكتب.
وقوله( أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ ) يقول تعالى ذكره : أيقول
هؤلاء الكفار من قريش : نحن جميع منتصر ممن قصدنا بسوء ومكروه ، وأراد حربنا
وتفريق جمعنا ، فقال الله جلّ ثناؤه : سيهزم الجمع يعني جمع كفار قريش(
وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ ) يقول : ويولون أدبارهم المؤمنين بالله عن انهزامهم عنه.
وقيل : الدبر فوحد والمراد به الجمع كما يقال ضربنا منهم الرأس : أي ضربنا منهم
الرءوس : إذ كان الواحد يؤدي عن معنى جمعه ، ثم إن الله تعالى ذكره صدّق وعده
المؤمنين به فهزم المشركين به من قريش يوم بدر وولوهم الدُّبر.
كما حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن أيوب قال : لا أعلمه
إلا عن عكرمة أن عمر قال لما نزلت( سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ ) جعلت أقول : أيّ جمع
يهزم ؟ فلما كان يوم بدر رأيت النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم يثب في الدرع
ويقول : ( سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ ) .
حدثنا ابن حُميد ، قال : ثنا مهران ، عن أبي جعفر ، عن الربيع بن أنس( سَيُهْزَمُ
الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ ) قال : يوم بدر.
قال ثنا يحيى بن واضح ، قال : ثنا الحسين ، عن يزيد ، عن عكرِمة ، قوله(
سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ ) يعني جمع بدر( وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ ) .
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله( سَيُهْزَمُ
الْجَمْعُ ) ...الآية ذُكر لنا أن نبيّ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم قال
يوم بدر
(22/602)
بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ (46) إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ (47) يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ (48) إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ (49)
" هزموا وولوا الدبر " .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله( سَيُهْزَمُ
الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ ) قال : هذا يوم بدر.
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : ثنا ابن علية ، قال : ثنا أيوب ، عن عكرِمة ، أن رسول
الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم : " كان يثب في الدرع ويقول : هُزِمَ
الجَمْعُ وَوَلَّوُا الدُّبُرَ " .
حدثني إسحاق بن شاهين ، قال : ثنا خالد بن عبد الله ، عن داود ، عن عليّ بن أبي
طلحة ، عن ابن عباس( سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ ) قال : كان ذلك
يوم بدر. قال : قالوا نحن جمع منتصر ، قال : فنزلت هذه الآية.
القول في تأويل قوله تعالى : { بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى
وَأَمَرُّ (46) إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ (47) يَوْمَ يُسْحَبُونَ
فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ (48) إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ
خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ (49) }
يقول تعالى ذكره : ما الأمر كما يزعم هؤلاء المشركون من أنهم لا يبعثون بعد
مماتهم( بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ ) للبعث والعقاب( وَالسَّاعَةُ أَدْهَى
وَأَمَرُّ ) عليهم من الهزيمة التي يهزمونها عند التقائهم مع المؤمنين ببدر.
حدثنا ابن حُميد ، قال : ثنا جرير ، عن مغيرة ، عن عمرو بن مرّة ، عن شهر بن حوشب
، قال : إن هذه الآية نزلت بهلاك إنما موعدهم الساعة ، ثم قرأ( أَكُفَّارُكُمْ
خَيْرٌ مِنْ أُولَئِكُمْ ) ... إلى قوله( وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ ) .
وقوله( إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ ) يقول تعالى ذكره : إن المجرمين
في ذهاب عن الحقّ ، وأخذ على غير هدى( وَسُعُرٍ ) يقول : في احتراق من شدّة العناء
والنصب في الباطل.
(22/603)
كما حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا
ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، في قوله( فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ ) قال : في عناء.
وقوله( يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ) يقول تعالى ذكره :
يوم يُسحب هؤلاء المجرمون في النار على وجوههم. وقد تأوّل بعضهم قوله( فِي
النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ) إلى النار. وذُكر أن ذلك في قراءة عبد الله( يَوْمَ
يُسْحَبُونَ إِلَى النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ).
وقوله( ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ ) يقول تعالى ذكره : يوم يُسحبون في النار على وجوههم
، يقال لهم : ذوقوا مَسَّ سقَر ، وترك ذكر " يقال لهم " استغناء بدلالة
الكلام عليه من ذكره.
فإن قال قائل : كيف يُذاق مسّ سقر ، أوَله طعم فيُذاق ؟ فإن ذلك مختلف فيه; فقال
بعضهم : قيل ذلك كذلك على مجاز الكلام ، كما يقال : كيف وجدت طعم الضرب وهو مجاز ؟
وقال آخر : ذلك كما يقال : وجدتُ مسّ الحمى يُراد به أوّل ما نالني منها ، وكذلك
وجدت طعم عفوك. وأما سَقَرُ فإنها اسم باب من أبواب جهنم (1) وترك إجراؤها لأنها
اسم لمؤنث معرفة.
وقوله( إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ ) يقول تعالى ذكره : إنا خلقنا
كل شيء بمقدار قدرناه وقضيناه ، وفي هذا بيان ، أن الله جلّ ثناؤه ، توعد هؤلاء
المجرمين على تكذيبهم في القدر مع كفرهم به.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس بن عبد الأعلى ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : ثنا هشام بن سعد ، عن
أبي ثابت ، عن إبراهيم بن محمد ، عن أبيه ، عن ابن
__________
(1) الذي في كتب اللغة ، أنها اسم جهنم .
(22/604)
عباس أنه كان يقول : إني أجد في كتاب
الله قوما يسحبون في النار على وجوههم ، يقال لهم( ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ ) لأنهم
كانوا يكذّبون بالقَدَرِ ، وإني لا أراهم ، فلا أدري أشيء كان قبلنا ، أم شيء فيما
بقي.
حدثنا ابن بشار وابن المثنى ، قالا ثنا عبد الرحمن بن مهدي ، قال : ثنا سفيان ، عن
زياد بن إسماعيل السَّهْمِيّ ، عن محمد بن عباد بن جعفر ، عن أبي هريرة أن مشركي
قريش خاصمت النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم في القَدَر ، فأنزل الله( إِنَّا
كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ ) .
حدثنا ابن بشار وابن المثنى وأبو كُرَيب ، قالوا : ثنا وكيع بن الجرّاح ، قال :
ثنا سفيان ، عن زياد بن إسماعيل السَّهميّ ، عن محمد بن عباد بن جعفر المخزوميّ ،
عن أبي هريرة ، قال : جاء مشركو قريش إلى النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم
يخاصمونه في القَدَرِ ، فنزلت( إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ ) .
حدثنا ابن المثنى ، قال : ثنا أبو عاصم ، عن سفيان ، عن زياد بن إسماعيل السهمي ،
عن محمد بن عباد بن جعفر المخزوميّ ، عن أبى هريرة ، بنحوه .
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : ثنا هشيم ، قال : أخبرنا حصين ، عن سعد بن عبيدة ،
عن أبي عبد الرحمن السُّلَميّ ، قال : ولما نزلت هذه الآية( إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ
خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ ) قال رجل : يا رسول الله ففيم العمل ؟ أفي شيء نستأنفه ، أو
في شيء قد فرغ منه ؟ قال : فقال رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم :
اِعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلقَ لَهُ ، سنُيسِّرُهُ للْيُسْرَى ،
وَسَنُيَسِّرُهُ للعُسْرَى " .
حدثنا ابن أبي الشوارب ، قال : ثنا عبد الواحد بن زياد ، قال : ثنا خصيف ، قال :
سمعت محمد بن كعب القرظيّ يقول : لما تكلم الناس في القَدَرِ نظرت ، فإذا هذه
الآية أنزلت فيهم( إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ ) ... إلى قوله(
خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ ) .
(22/605)
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا أبو عاصم
ويزيد بن هارون ، قالا ثنا سفيان ، عن سالم ، عن محمد بن كعب ، قال : ما نزلت هذه
الآية إلا تعبيرا لأهل القدر( ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ
خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ ) .
حدثنا ابن حُميد ، قال : ثنا مهران ، عن سفيان ، عن سالم بن أبي حفصة ، عن محمد بن
كعب القُرَظي( ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ ) قال : نزلت تعييرا لأهل القَدَرِ.
قال : ثنا مهران ، عن سفيان ، عن زياد بن إسماعيل السَّهمي ، عن محمد بن عباد بن جعفر
المخزوميّ ، عن أبي هريرة ، قال : جاء مشركو قريش إلى النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ
وَسَلَّم يخاصمونه في القدر ، فنزلت( إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ )
.
قال : ثنا مهران ، عن حازم ، عن أسامة ، عن محمد بن كعب القُرَظِيّ مثله.
حدثني عليّ ، قال : ثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ،
قوله( إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ ) قال : خلق الله الخلق كلهم بقدر
، وخلق لهم الخير والشرّ بقدر ، فخير الخير السعادة ، وشرّ الشرّ الشقاء ، بئس
الشرّ الشقاء .
واختلف أهل العربية في وجه نصب قوله( كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ ) فقال
بعض نحويي البصرة : نصب كلّ شيء في لغة من قال : عبد الله ضربته; قال : وهي في
كلام العرب كثير. قال : وقد رفعت كلّ في لغة من رفع ، ورفعت على وجه آخر. قال(
إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ ) فجعل خلقناه من صفة الشيء; وقال غيره
: إنما نصب كل لأن قوله خلقناه فعل ، لقوله(إِنَّا) ، وهو أولى بالتقديم إليه من
المفعول ، فلذلك اختير النصب ، وليس قيل عبد الله في قوله : عبد الله ضربته شيء هو
أولى بالفعل ، وكذلك إنا طعامك ، أكلناه الاختيارُ النصب لأنك تريد : إنا أكلنا
طعامك الأكل ، أولى
(22/606)
بأنا من الطعام. قال : وأما قول من قال : خلقناه وصف للشيء فبعيد ، لأن المعنى : إنا خلقناه كلّ شيء بقدر ، وهذا القول الثاني أولى بالصواب عندي من الأوّل للعلل التي ذكرت لصاحبها.
(22/607)
وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ (50) وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا أَشْيَاعَكُمْ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (51) وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ (52)
القول في تأويل قوله تعالى : { وَمَا
أَمْرُنَا إِلا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ (50) وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا
أَشْيَاعَكُمْ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (51) وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ
(52) }
يقول تعالى ذكره : وما أمرنا للشيء إذا أمرناه وأردنا أن نكوّنه إلا قولة واحدة :
كن فيكون ، لا مراجعة فيها ولا مرادّة( كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ ) يقول جلّ ثناؤه :
فيوجد ما أمرناه وقلنا له : كن كسرعة اللمح بالبصر لا يُبطئ ولا يتأخر ، يقول
تعالى ذكره لمشركي قريش الذين كذّبوا رسوله محمدا صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم :
ولقد أهلكنا أشياعكم معشر قريش من الأمم السالفة والقرون الخالية ، على مثل الذي
أنتم عليه من الكفر بالله ، وتكذيب رسله( فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ ) يقول : فهل من
مُتَّعِظ بذلك منزجر ينزجر به.
كما حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : (
وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا أَشْيَاعَكُمْ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ ) قال : أشياعكم من أهل
الكفر من الأمم الماضية ، يقول : فهل من أحد يتذكر.
وقوله : ( وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ ) يقول تعالى ذكره : وكل شيء
فعله أشياعكم الذين مضوا قبلكم معشر كفَّار قريش في الزُّبر ، يعني في الكتب التي
كتبتها الحفظة عليهم. وقد يحتمل أن يكون مرادا به في أمّ الكتاب.
كما حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : ثنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك
يقول في قوله : ( فِي الزُّبُرِ ) قال : الكُتب.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : ( وَكُلُّ
شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ ) قال : في الكتاب.
(22/607)
وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ (53) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (54) فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ (55)
القول في تأويل قوله تعالى : { وَكُلُّ
صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ (53) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ
(54) فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ (55) }
يقول تعالى ذكره : ( وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ ) من الأشياء( مُسْتَطَرٌ ) يقول :
مُثْبَت في الكتاب مكتوب.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ،
عن ابن عباس ، قوله : ( وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ ) يقول : مكتوب ،
" فإذا أراد الله أن ينزل كتابا نَسَخَتْهُ السَّفَرةُ. قوله : ( وَكُلُّ
صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ ) قال : مكتوب.
حدثنا بشر ، قال : ثنا عبيد الله بن معاذ ، عن أبيه ، عن عمران بن حُدَير ، عن
عكرِمة ، قال : مكتوب في كلّ سطر.
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة( مُسْتَطَرٌ ) قال
: محفوظ مكتوب.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : ( وَكُلُّ
صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ ) أي محفوظ.
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك
يقول( مُسْتَطَرٌ ) قال : مكتوب.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : ( وَكُلُّ
صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ ) قال : مكتوب ، وقرأ( وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي
الأرْضِ إِلا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا
وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ )
(22/608)
وقرأ( وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأرْضِ
وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي
الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ) إنما هو مفتعل من سطرت : إذا كتبت سطرا.
وقوله : ( إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ ) يقول تعالى ذكره : إن
الذين اتقوا عقاب الله بطاعته وأداء فرائضه ، واجتناب معاصيه في بساتين يوم
القيامة ، وأنهار ، ووحد النهر في اللفظ ومعناه الجمع ، كما وحد الدّبر ، ومعناه
الإدبار في قوله : ( يُوَلُّونَ الدُّبُرَ ) وقد قيل : إن معنى ذلك : إن المتقين
في سعة يوم القيامة وضياء ، فوجهوا معنى قوله : ( وَنَهَرٍ ) إلى معنى النهار.
وزعم الفرّاء انه سمع بعض العرب ينشد :
إنْ تَكُ لَيْلِيًّا فإنيّ نَهِرْ... متى أتى الصُّبْحُ فَلا أنْتَظِر (1)
وقوله " نهر " على هذا التأويل مصدر من قولهم : نهرت أنهر نهرا. وعنى
بقوله : " فإني نهر " : أي إني لصاحب نهار : أي لست بصاحب ليلة.
وقوله : ( فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ ) يقول : في مجلس حقّ لا لغو فيه ولا تأثيم( عِنْدَ
مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ ) يقول : عند ذي مُلك مقتدر على ما يشاء ، وهو الله ذو القوّة
المتين ، تبارك وتعالى .
آخر تفسير سورة اقتربت الساعة
__________
(1) البيت : من شواهد الفراء في معاني القرآن ( الورقة 319 ) عند قوله تعالى : (
إن المتقين في جنات ونهر ) قال : في ضياء وسعة وسمعت بعض العرب ينشد : " إن
تك ليليا ... البيت " أ . هـ . وفي ( اللسان : نهر ) : ورجل نهر : صاحب نهار
، على النسب ، كما قالوا : عمل وطعم ، قال : * لست بليلي ولكني نهر *
قال سيبويه : قوله : " بليلي " يدل أن نهر : على النسب ، حتى كأنه قال :
" نهاري " . ورجل نهر : أي صاحب نهار ، بغير فيه . قال : الأزهري .
وسمعت العرب تنشد : " إن تك ليليا ... بيت الشاهد " . قال : ومعنى نهر :
أي صاحب نهار ، لست بصاحب ليل . وهذا الرجز أورده الجوهري : * إن كنت ليليا فإني
نهر *
قال ابن بري : البيت مغير . قال : وصوابه : لَسْتُ بلَيْلِيّ وَلكِنِّي نَهِرْ ...
لا أدْلُج اللَّيْلَ وَلَكِنْ أبْتَكِرْ
(22/609)
الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآَنَ (2) خَلَقَ الْإِنْسَانَ (3) عَلَّمَهُ الْبَيَانَ (4) الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ (5)
تفسير سورة الرحمن
بسم الله الرحمن الرحيم
القول في تأويل قوله تعالى : { الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2) خَلَقَ
الإنْسَانَ (3) عَلَّمَهُ الْبَيَانَ (1) الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ (5) }
يقول تعالى ذكره : الرحمن أيها الناس برحمته إياكم علمكم القرآن. فأنعم بذلك عليكم
، إذ بصَّركم به ما فيه رضا ربكم ، وعرّفكم ما فيه سخطه ، لتطيعوه باتباعكم ما
يرضيه عنكم ، وعملكم بما أمركم به ، وبتجنبكم ما يُسخطه عليكم ، فتستوجبوا بذلك
جزيل ثوابه ، وتنجوا من أليم عقابه.
ورُوي عن قتادة في ذلك ما حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا محمد بن مروان العقيلي ، قال
: ثنا أبو العوام العجلي ، عن قتادة أنه قال : في تفسير( الرَّحْمَنُ عَلَّمَ
الْقُرْآنَ ) قال : نعمة والله عظيمة.
وقوله : ( خَلَقَ الإنْسَانَ ) يقول تعالى ذكره : خلق آدم وهو الإنسان في قول
بعضهم.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، في قوله : ( خَلَقَ
الإنْسَانَ ) قال الإنسان : آدم.
حدثنا ابن حُميد ، قال : ثنا مهران ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( خَلَقَ
الإنْسَانَ ) قال الإنسان : آدم صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم.
وقال آخرون : بل عنى بذلك الناس جميعا ، وإنما وحد في اللفظ لأدائه
(22/7)
عن جنسه ، كما قيل : ( إِنَّ
الإنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ ) ، والقولان كلاهما غير بعيدين من الصواب لاحتمال ظاهر
الكلام إياهما.
وقوله : ( عَلَّمَهُ الْبَيَانَ ) يقول تعالى ذكره : علَّم الإنسان البيان.
ثم اختلف أهل التأويل في المعنيّ بالبيان في هذا الموضع ، فقال بعضهم : عنى به
بيان الحلال والحرام.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : ( عَلَّمَهُ
الْبَيَانَ ) : علمه الله بيان الدنيا والآخرة بين حلاله وحرامه ، ليحتجّ بذلك على
خلقه.
حدثنا ابن حُميد ، قال : ثنا مهران ، عن سفيان ، عن سعيد ، عن قتادة( عَلَّمَهُ
الْبَيَانَ ) الدنيا والآخرة ليحتجّ بذلك عليه.
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا محمد بن مروان قال : ثنا أبو العوّام ، عن قتادة ، في
قوله : ( عَلَّمَهُ الْبَيَانَ ) قال : تَبَيَّنَ له الخيرُ والشرّ ، وما يأتي ،
وما يدع.
وقال آخرون : عنى به الكلام : أي أن الله عزّ وجلّ علم الإنسان البيان.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : ( عَلَّمَهُ
الْبَيَانَ ) قال : البيان : الكلام.
والصواب من القول في ذلك أن يقال : معنى ذلك : أن الله علَّم الإنسان ما به الحاجة
إليه من أمر دينه ودنياه من الحلال والحرام ، والمعايش والمنطق ، وغير ذلك مما به
الحاجة إليه ، لأن الله جلّ ثناؤه لم يخصص بخبره ذلك ، أنه علَّمه من البيان بعضا
دون بعض ، بل عمّ فقال : علَّمه البيان ، فهو كما عمّ جلّ ثناؤه.
(22/8)
وقوله : ( الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ
بِحُسْبَانٍ ) اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك ، فقال بعضهم : معناه : الشمس
والقمر بحسبان ، ومنازل لها يجريان ولا يعدوانها.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن خلف العسقلاني ، قال : ثنا الفريابي ، قال : ثنا إسرائيل ، قال :
قال : ثنا سماك بن حرب ، عن عكرِمة ، عن ابن عباس ، في قوله : ( الشَّمْسُ
وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ ) قال : بحساب ومنازل يرسلان.
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ،
عن ابن عباس ، قوله : ( الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ ) قال : يجريان بعدد
وحساب.
حدثنا ابن حُميد ، قال : ثنا مهران ، عن سفيان ، عن إسماعيل بن أبي خالد ، عن أبي
مالك( الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ ) قال : بحساب ومنازل.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ
بِحُسْبَانٍ ) : أي بحساب وأجل.
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، في قوله : (
الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ ) قال : يجريان في حساب.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : ( الشَّمْسُ
وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ ) قال : يحسب بهما الدهر والزمان لولا الليل والنهار ،
والشمس والقمر لم يدرك أحد كيف يحسب شيئا لو كان الدهر ليلا كله ، كيف يحسب ، أو
نهارا كله كيف يحسب.
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا محمد بن مروان ، قال : ثنا أبو العوّام ، عن قتادة(
الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ ) قال : بحساب وأجل.
وقال آخرون : بل معنى ذلك : أنهما يجريان بقدر.
(22/9)
وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ (6) وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ (7) أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ (8) وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ (9)
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا أبو هشام الرفاعي ، قال : ثنا عبد الله بن داود ، عن أبي الصهباء ، عن
الضحاك ، في قوله : ( الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ ) قال : بقدر يجريان.
وقال آخرون : بل معنى ذلك أنهما يدوران في مثل قطب الرحا.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن خلف العسقلاني ، قال : ثنا محمد بن يوسف ، قال : ثنا إسرائيل ، قال
: ثنا أبو يحيى عن مجاهد ، قال : ثنا محمد بن يوسف ، قال : ثنا ورقاء ، عن ابن أبي
نجيح ، عن مجاهد ، في قوله : ( بِحُسْبَانٍ ) قال : كحسبان الرحا.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ؛ وحدثني الحارث ، قال
: ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله(
بِحُسْبَانٍ ) قال : كحسبان الرحا.
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال : معناه : الشمس والقمر يجريان بحساب
ومنازل ، لأن الحسبان مصدر من قول القائل : حسبته حسابا وحسبانا ، مثل قولهم :
كفرته كفرانا ، وغفرته غُفْرانا . وقد قيل : إنه جمع حساب ، كما الشهبان : جمع
شهاب.
واختلف أهل العربية فيما رفع به الشمس والقمر ، فقال بعضهم : رفعا بحسبان : أي
بحساب ، وأضمر الخبر ، وقال : وأظنّ والله أعلم أنه قال : يجريان بحساب. وقال بعض
من أنكر هذا القول منهم : هذا غلط ، بحسبان يرافع الشمس والقمر أي : هما بحساب ،
قال : والبيان يأتي على هذا : علَّمه البيان أن الشمس والقمر بحسبان ، قال : فلا
يحذف الفعل ويُضمر إلا شاذّا في الكلام.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ
(22/10)
يَسْجُدَانِ (6) وَالسَّمَاءَ
رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ (7) أَلا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ (8)
وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ (9) }
اختلف أهل التأويل في معنى النجم في هذا الموضع ، مع إجماعهم على أن الشجر ما قام
على ساق ، فقال بعضهم : عني بالنجم في هذا الموضع من النبات : ما نجم من الأرض ،
مما ينبسط عليها ، ولم يكن على ساق مثل البقل ونحوه.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : ثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، في
قوله : ( وَالنَّجْمِ ) قال : ما يُبسط على الأرض.
حدثنا ابن حُميد ، قال : ثنا يعقوب ، عن جعفر ، عن سعيد ، في قوله : ( وَالنَّجْمِ
) قال : النجم كل شيء ذهب مع الأرض فرشا ، قال : والعرب تسمي الثبل نجما.
حدثني محمد بن خلف العسقلانيّ ، قال : ثنا رَوّاد بن الجرّاح ، عن شريك ، عن
السديّ( وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ ) قال : النجم : نبات الأرض.
حدثنا ابن حُميد ، قال : ثنا مهران ، عن سفيان( وَالنَّجْمِ ) قال : النجم : الذي
ليس له ساق.
وقال آخرون : عُنِي بالنجم في هذا الموضع : نجم السماء.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ؛ وحدثني الحارث ، قال
: ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن
(22/11)
أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله : (
وَالنَّجْمِ ) قال : نجم السماء.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة قوله : ( وَالنَّجْمِ )
يعني : نجم السماء.
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة( وَالنَّجْمُ
وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ ) قال : إنما يريد النجم.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، عن الحسن ، نحوه.
وأولى القولين في ذلك بالصواب قول من قال : عُنِي بالنجم : ما نجم من الأرض من نبت
لعطف الشجر عليه ، فكان بأن يكون معناه لذلك : ما قام على ساق وما لا يقوم على ساق
يسجدان لله ، بمعنى : أنه تسجد له الأشياء كلها المختلفة الهيئات من خلقه ، أشبه
وأولى بمعنى الكلام من غيره. وأما قوله : ( وَالشَّجَرُ ) فإن الشجر ما قد وصفت
صفته قبل.
وبالذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : ثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله
: ( وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ ) قال : الشجر : كل شيء قام على ساق.
حدثنا ابن حُميد ، قال : ثنا يعقوب ، عن جعفر ، عن سعيد ، في قوله : ( وَالشَّجَرُ
) قال : الشجر : كلّ شيء قام على ساق.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، في قوله : (
وَالشَّجَرُ ) قال : الشجر : شجر الأرض.
حدثنا ابن حُميد ، قال : ثنا مهران ، عن سفيان( وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ ) قال :
الشجر الذي له سُوق.
(22/12)
وأما قوله : ( يَسْجُدَانِ ) فإنه
عُنِي به سجود ظلهما ، كما قال جلّ ثناؤه( وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي
السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ
).
كما حدثنا ابن حُميد ، قال : ثنا تميم بن عبد المؤمن ، عن زبرقان ، عن أبي رزين
وسعيد( وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ ) قالا ظلهما سجودهما.
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا محمد بن مروان ، قال : ثنا أبو العوام ، عن قتادة(
وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ ) : ما نزل من السماء شيئا من خلقه إلا
عَبَّده له طوعا وكرها.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، عن الحسن ، وهو قول
قتادة.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ؛ وحدثني الحارث ، قال
: ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : (
وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ ) قال : يسجد بكرة وعشيا. وقيل : (
وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ ) فثنى وهو خبر عن جمعين .
وقد زعم الفراء أن العرب إذا جمعت الجمعين من غير الناس مثل السدر والنخل ، جعلوا
فعلهما واحدا ، فيقولون الشاء والنعم قد أقبل ، والنخل والسدر قد ارتوى ، قال :
وهذا أكثر كلامهم ، وتثنيته جائزة.
وقوله : ( وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا ) يقول تعالى ذكره : والسماء رفعها فوق الأرض.
وقوله : ( وَوَضَعَ الْمِيزَانَ ) يقول : ووضع العدل بين خلقه في الأرض.
وذُكر أن ذلك في قراءة عبد الله( خَفَضَ المِيزَانَ ) ، والخفض والوضع متقاربا
المعنى في كلام العرب.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
(22/13)
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ؛ وحدثني الحارث ، قال
: ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله : (
وَوَضَعَ الْمِيزَانَ ) قال : العدل.
وقوله : ( أَلا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ ) يقول تعالى ذكره : ألا تظلموا وتبخسوا
في الوزن .
كما حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : ( أَلا
تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ ) : اعدل يا ابن آدم كما تحب أن يعدل عليك ، وأوف كما
تحبّ أن يُوَفى لك ، فإن بالعدل صلاح الناس.
وكان ابن عباس يقول : يا معشر المَوالِي ، إنكم قد وليتم أمرين ، بهما هلك من كان
قبلكم ، هذا المكيال والميزان.
حدثنا عمرو بن عبد الحميد ، قال : ثنا مروان بن معاوية ، عن مغيرة ، عن مسلم ، عن
أبي المغيرة ، قال : سمعت ابن عباس يقول في سُوق المدينة : يا معشر الموالي ، إنكم
قد بُليتم بأمرين أهلك فيهما أمتان من الأمم : المِكْيال ، والميزان.
قال : ثنا مروان ، عن مغيرة ، قال : رأى ابن عباس رجلا يزن قد أرجح ، فقال : أقم
اللسان ، أقم اللسان ، أليس قد قال الله : ( وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ
وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ ).
وقوله : ( وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ ) يقول : وأقيموا لسان الميزان
بالعدل.
وقوله : ( وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ ) يقول تعالى ذكره : ولا تنقصوا الوزن إذا
وزنتم للناس وتظلموهم.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
(22/14)
وَالْأَرْضَ وَضَعَهَا لِلْأَنَامِ (10) فِيهَا فَاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذَاتُ الْأَكْمَامِ (11) وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحَانُ (12)
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا محمد بن
مروان ، قال : ثنا أبو العوّام ، عن قتادة( وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ
الْمِيزَانَ * أَلا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ * وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ
بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ ) قال قتادة ، قال ابن عباس : يا معشر
الموالي إنكم وليتم أمرين بهما هلك من كان قبلكم ، اتقى الله رجل عند ميزانه ،
اتقى الله رجل عند مكياله ، فإنما يعدله شيء يسير ، ولا ينقصه ذلك ، بل يزيده الله
إن شاء الله.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال ، قال ابن زيد ، في قوله : ( وَأَقِيمُوا
الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ ) قال : نقصه إذا نقصه فقد
خَسَّره ، تخسيره نقصه.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَالأرْضَ وَضَعَهَا لِلأنَامِ (10) فِيهَا
فَاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذَاتُ الأكْمَامِ (11) وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ
وَالرَّيْحَانُ (12) }
يقول تعالى ذكره( وَالأرْضَ وَضَعَهَا لِلأنَامِ ) والأرض وطأها للخلق ، وهم
الأنام.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا عليّ ، قال : ثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ،
قوله : ( لِلأنَامِ ) يقول : للخلق.
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثنى أبي ، عن أبيه ،
عن ابن عباس ، قوله : ( وَالأرْضَ وَضَعَهَا لِلأنَامِ ) قال : كلّ شيء فيه الروح.
حدثني يعقوب ، قال : ثنا ابن عُلَية ، قال : أخبرنا أبو رجاء ، عن
(22/15)
الحسن ، في قوله : ( وَالأرْضَ
وَضَعَهَا لِلأنَامِ ) قال : للخلق الجنّ والإنس.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ؛ وحدثني الحارث ، قال
: ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله : (
لِلأنَامِ ) قال : للخلائق.
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة( لِلأنَامِ ) قال
: للخلق.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : ( وَضَعَهَا
لِلأنَامِ ) قال : الأنام : الخلق.
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا محمد بن مروان ، قال : ثنا أبو العوّام ، عن قتادة(
وَالأرْضَ وَضَعَهَا لِلأنَامِ ) قال : للخلق.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، مثله.
وقوله : ( فِيهَا فَاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذَاتُ
(22/16)
الأكْمَامِ ) يقول تعالى ذكره : في
الأرض فاكهة ، والهاء والألف فيها من ذكر الأرض.( وَالنَّخْلُ ذَاتُ الأكْمَامِ )
: والأكمام : جمع كِمّ ، وهو ما تكممت فيه.
واختلف أهل التأويل في معنى ذلك ، فقال : بعضهم : عنى بذلك تكمم النخل في الليف.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني يعقوب ، قال : ثنا ابن علية ، عن أبي رجاء ، قال : سألت الحسن ، عن قوله : (
وَالنَّخْلُ ذَاتُ الأكْمَامِ ) ، فقال : سَعَفة من ليف عُصبَتْ بها.
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة والحسن( ذَاتُ
الأكْمَامِ ) : أكمامها : ليفها.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( وَالنَّخْلُ ذَاتُ
الأكْمَامِ ) : الليف الذي يكون عليها.
وقال آخرون : يعني بالأكمام : الرُّفات.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا محمد بن مروان ، قال : ثنا أبو العوّام ، عن قتادة(
وَالنَّخْلُ ذَاتُ الأكْمَامِ ) ، قال : أكمامها رُفاتها.
وقال آخرون : بل معنى الكلام : والنخل ذات الطلع المتكمم في كمامه.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال ، قال ابن زيد في قوله : ( وَالنَّخْلُ
ذَاتُ الأكْمَامِ ) ، وقيل له : هو الطلع ، قال : نعم ، وهو في كم منه حتى ينفتق
عنه ، قال : والحبّ أيضا في أكمام. وقرأ : ( وَمَا تَخْرُجُ مِنْ ثَمَرَاتٍ مِنْ
أَكْمَامِهَا ).
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال : إن الله وصف النخل بأنها ذات أكمام ، وهي
متكممة في ليفها ، وطلعها متكمم في جُفِّهِ ، ولم يخصص الله الخبر عنها بتكممها في
ليفها ولا تكمم طلعها في جفه ، بل عمّ الخبر عنها بأنها ذات أكمام.
والصواب أن يقال : عني بذلك ذات ليف ، وهي به مُتَكَممة وذات طَلعْ هو في جُفِّه
متكمِّمٌ فيُعَمَّم ، كما عَمَّ جلّ ثناؤه.
وقوله : ( وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحَانُ ) يقول تعالى ذكره : وفيها
الحبّ ، وهو حبّ البُرّ والشعير ذو الورق ، والتبن : هو العَصْف ، وإياه عنى علقمة
بن عَبَدَة :
تَسقِى مَذَانِبَ قَدْ مالَتْ عَصِيفَتُها ... حَدُورَها مِنْ أتِيّ المَاء
مَطْمومُ (1)
__________
(1) هذا الشاهد من شواهد أبي عبيدة في مجاز القرآن ( الورقة 172 من مصورة جامعة
القاهرة رقم 26390 عن نسخة " مراد متلا " . وهذا بعد ان انتهت مراجعنا
على الصورة الأولى رقم 26059 لانتهاء أورقها عند سورة القمر ) أنشده أبو عبيدة عند
قوله تعالى : ( والحب ذو العصف والريحان ) قال : تخرج له عصيفة ، وهي أذنته أعلاه
، وهو الهبود ، وأذنه إنما هي زيادته وكثرته وورقه الذي يتعصف .وهو كما قال علقمة
بن عبدة " تسقى مذانب ... البيت " .
طمها : ملأها لم يبق فيها شيء ، وطم إناءه ملأه . وقال شارح مختار الشعر الجاهلي
426 : المذانب جمع مذنب ، وهو مسيل الماء إلى الأرض ، والجدول يسيل عن الروضة
بمائها إلى ويرها : وعصيفتها : هي الورق الذي يجز فيؤكل ، ثم يسقى أصله ، ليعود
ورقه . وجذورها : الذي انحدر من هذه المذانب واطمأن . الأتي : الجدول . وأراد به
هنا : ما يسيل من الماء في الجدول . والمطموم : المملوء بالماء .
(22/17)
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل
التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : ثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ،
قوله : ( وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحَانُ ) يقول : التبن.
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ،
عن ابن عباس ، قوله : ( وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحَانُ ) قال : العصف :
ورق الزرع الأخضر الذي قطع رءوسه ، فهو يسمى العصف إذا يبس.
حدثنا ابن حُمَيد ، قال : ثنا يعقوب ، عن جعفر ، عن سعيد( وَالْحَبُّ ذُو
الْعَصْفِ ) : البقل من الزرع.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : ( وَالْحَبُّ
ذُو الْعَصْفِ ) ، وعصفه تبنه.
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، قال : العصف :
التبن.
حدثنا ابن حُميد ، قال : ثنا مهران ، عن سفيان ، عن الضحاك( وَالْحَبُّ ذُو
الْعَصْفِ ) ، قال : الحبّ : البّر والشعير ، والعصف : التِّبن.
(22/18)
حدثنا سعيد بن يحيى ، قال : ثنا عبد
الله بن المبارك الخراسانيّ ، عن إسماعيل بن أبي خالد ، عن أبي مالك قوله : (
وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحَانُ ) قال : الحب أول ما ينبت.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ؛ وحدثني الحارث ، قال
: ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : (
وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحَانُ ) قال : العصف : الورق من كل شيء. قال :
يقال للزرع إذا قُطع : عصافة ، وكلّ ورق فهو عصافة.
حدثنا الحسن بن عرفة ، قال : ثني يونس بن محمد ، قال : ثنا عبد الواحد ، قال : ثنا
أبو روق عطية بن الحارث ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : ( وَالْحَبُّ ذُو
الْعَصْفِ ) قال : العصف : التبن.
حدثنا سليمان بن عبد الجبار ، قال : ثنا محمد بن الصلت ، قال : ثنا أبو كُدَينة ،
عن عطاء ، عن سعيد ، عن ابن عباس( ذُو الْعَصْفِ ) قال : العصف : الزرع.
وقال بعضهم : العصف : هو الحب من البرّ والشعير بعينه.
* ذكر من قال ذلك :
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك
يقول في قوله : ( وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحَانُ ) ، أما العصف : فهو
البرّ والشعير.
وأما قوله : ( وَالرَّيْحَانُ ) فإن أهل التأويل اختلفوا في تأويله فقال بعضهم :
هو الرزق.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني زيد بن أخزم الطائي ، قال : ثنا عامر بن مدرك ، قال : ثنا
(22/19)
عتبة بن يقظان ، عن عكرِمة ، عن ابن
عباس ، قال : كلّ ريحان في القرآن فهو رزق.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ؛ وحدثني الحارث ، قال
: ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد(
وَالرَّيْحَانُ ) قال : الرزق.
حدثنا ابن حُميد ، قال : ثنا مهران ، عن سفيان ، عن الضحاك( وَالرَّيْحَانُ ) :
الرزق ، ومنهم من يقول : ريحاننا.
حدثني سليمان بن عبد الجبار ، قال : ثنا محمد بن الصلت ، قال : ثنا أبو كدينة ، عن
عطاء ، عن سعيد بن جُبير ، عن ابن عباس( وَالرَّيْحَانُ ) قال : الريح.
حدثنا الحسن بن عرفة ، قال : ثني يونس بن محمد ، قال : ثنا عبد الواحد ، قال : ثنا
أبو روق عطية بن الحارث ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : ( وَالرَّيْحَانُ )
قال : الرزق والطعام.
وقال آخرون : هو الريحان الذي يشمّ.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ،
عن ابن عباس ، قال : ( الريحان ) ما تنبت الأرض من الريحان.
حدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك
يقول في قوله : ( وَالرَّيْحَانُ ) : أما الريحان فما أنبتت الأرض من ريحان.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، عن الحسن(
وَالرَّيْحَانُ ) قال : ريحانكم هذا ، حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال :
قال ابن زيد في قوله : ( وَالرَّيْحَانُ ) : الرياحين التي توجد ريحها.
(22/20)
وقال آخرون : هو خُضرة الزرع.
حدثني عليّ ، قال : ثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله
: ( وَالرَّيْحَانُ ) يقول : خُضرة الزرع.
وقال آخرون : هو ما قام على ساق.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حُميد ، قال : ثنا يعقوب ، عن جعفر ، عن سعيد ، قال : ( الريحان ) ما
قام على ساق.
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال : عُنِي به الرزق ، وهو الحبّ الذي يؤكل
منه.
وإنما قلنا ذلك أولى الأقوال في ذلك بالصواب ؛ لأن الله جلّ ثناؤه أخبر عن الحبّ
أنه ذو العصف ، وذلك ما وصفنا من الورق الحادث منه ، والتبن إذا يبس ، فالذي هو
أولى بالريحان ، أن يكون حبه الحادث منه ، إذ كان من جنس الشيء الذي منه العصف ،
ومسموع من العرب تقول : خرجنا نطلب رَيْحان الله ورزقه ، ويقال : سبحانَك وريحانَك
: أي ورزقك ، ومنه قول النمر بن تَوْلب :
سَلامُ الإله وَرَيْحانُهُ ... وجَنَّتُهُ وسَماءٌ درَرْ (1)
وذُكر عن بعضهم أنه كان يقول : العصف : المأكول من الحبّ
__________
(1) البيت للنمر بن تولب العكلي ( اللسان : روح ) وبعده :
غَمامٌ يُنَزِّل رِزْقَ العِباد ... فأحْيا البِلادَ وطَابَ الشَّجَرْ
وهو من شواهد أبي عبيدة في مجاز القرآن ( الورقة 172 من المصورة 26390 بجامعة
القاهرة ) قال : والريحان والحب منه الذي يؤكل ، يقال : سبحانك وريحانك : أي رزقك
؛ قال النمر بن تولب " سلام الإله ... البيت " ا هـ. وفي ( اللسان : درر
) : والدرة في الأمطار أن يتبع بعضها بعضا ، وجمعها : درر ، وللسحاب درر : أي صب ،
الجمع : درر ؛ قال النمر بن تولب : ... البيتين . سماء درر أي : ذات درر . ا هـ.
(22/21)
فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (13) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ (14) وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ (15) فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (16)
والريحان : الصحيح الذي لم يؤكل.
واختلفت القراء في قراءة قوله : ( وَالرَّيْحَانُ ) ، فقرأ ذلك عامة قرّاء المدينة
والبصرة وبعض المكيين ، وبعض الكوفيين بالرفع عطفا به على الحبّ ، بمعنى : وفيها
الحبّ ذو العصف ، وفيها الريحان أيضا. وقرأ ذلك عامة قرّاء الكوفيين.(
وَالرَّيْحَانُ ) بالخفض عطفا به على العصف ، بمعنى والحبّ ذو العصف وذو الريحان.
(1)
وأولى القراءتين في ذلك بالصواب : قراءة من قرأه بالخفض للعلة التي بينت في تأويله
، وأنه بمعنى الرزق. وأما الذين قرءوه رفعا ، فإنهم وجَّهوا تأويله فيما أرى إلى
أنه الريحان الذي يشمّ ، فلذلك اختاروا الرفع فيه وكونه خفضا بمعنى : وفيها الحبّ
ذو الورق والتبن ، وذو الرزق المطعوم أولى وأحسن لما قد بيَّناه قبل.
القول في تأويل قوله تعالى : { فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (13)
خَلَقَ الإنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ (14) وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ
مَارِجٍ مِنْ نَارٍ (15) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (16) }
يعني تعالى ذكره بقوله : ( فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ) : فبأيّ
نِعَم ربكما معشر الجنّ والإنس من هذه النعم تكذّبان.
كما حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا عبد الرحمن ، قال : ثنا سهل السراج ، عن الحسن(
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ) : فبأيّ نعمة ربكما تكذّبان.
قال عبد الرحمن ، قال : ثنا سفيان ، عن الأعمش ، عن مجاهد ، عن ابن عباس ، في قوله
: ( فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ) قال : لا بأيتها يا ربّ.
__________
(1) هذا من كلام الفراء في معاني القرآن صفحة 320 من المخطوطة .
(22/22)
حدثنا محمد بن عباد بن موسى وعمرو بن
مالك النضري ، قالا ثنا يحيى بن سليمان الطائفي ، عن إسماعيل بن أمية ، عن نافع ،
عن ابن عمر ، قال : إن رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم قرأ سورة الرحمن ،
أو قُرئت عنده ، فقال " ما لِيَ أسْمَعُ الجنّ أحْسَنَ جَوَابا لِرَبِّها
مِنْكُمْ ؟ " قالوا : ماذا يا رسول الله ؟ قال : " ما أتَيْتُ على
قَوْلِ اللهِ : ( فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ) ؟ إلا قالت الجنّ :
لا بِشَيْءٍ مِنْ نِعْمَةِ رَبِّنا نُكَذّبُ . "
حدثني عليّ ، قال : ثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ،
قوله : ( فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ) يقول : فبأيّ نعمة الله
تكذّبان.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( فَبِأَيِّ آلاءِ
رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ) يقول للجنّ والإنس : بأيّ نِعم الله تكذّبان.
حدثنا ابن حُميد ، قال : ثنا مهران ، عن سفيان ، عن الأعمش وغيره ، عن مجاهد ، عن
ابن عباس أنه كان إذا قرأ( فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ) قال : لا
بأيتها ربنا.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : ( فَبِأَيِّ
آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ) قال : الآلاء : القدرة ، فبأيّ آلائه تكذّب خلقكم
كذا وكذا ، فبأيّ قُدرة الله تكذّبان أيها الثَّقَلان ، الجنّ والإنس.
فإن قال : لنا قائل : وكيف قيل : ( فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ )
فخاطب اثنين ، وإنما ذكر في أول الكلام واحد ، وهو الإنسان ؟ قيل : عاد بالخطاب في
قوله : ( فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ) إلى الإنسان والجانّ ، ويدلّ
على أن ذلك كذلك ما بعد هذا من الكلام ، وهو قوله : ( خَلَقَ الإنْسَانَ مِنْ
صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ * وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ ). وقد قيل
: إنما جعل الكلام خطابا لاثنين ، وقد ابتدئ الخبر عن واحد ، لما قد جرى من فعل
العرب تفعل ذلك ، وهو أن يخاطبوا الواحد بفعل الاثنين ، فيقولون : خلياها يا غلام
، وما أشبه ذلك ، مما قد بيَّناه من كتابنا هذا في غير موضع.
(22/23)
وقوله : ( خَلَقَ الإنْسَانَ مِنْ
صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ ) يقول تعالى ذكره : خلق الله الإنسان وهو آدم من صلصال :
وهو الطين اليابس الذي لم يطبخ ، فإنه من يبسه له صلصلة إذا حرّك ونقر كالفخار ،
يعني أنه من يُبسه وإن لم يكن مطبوخا ، كالذي قد طُبخ بالنار ، فهو يصلصل كما
يصلصل الفخار ، والفخار : هو الذي قد طُبخ من الطين بالنار.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني عبيد الله بن يوسف الجبيريّ ، قال : ثنا محمد بن كثير ، قال : ثنا مسلم ،
يعني الملائي ، عن مجاهد ، عن ابن عباس ، في قوله : ( مِنْ صَلْصَالٍ
كَالْفَخَّارِ ) قال : هو من الطين الذي إذا مطرت السماء فيبست الأرض كأنه خزف
رقاق.
حدثنا أبو كُرَيب ، قال : ثنا عثمان بن سعيد ، قال : ثنا بشر بن عمارة ، عن أبي
روق ، عن الضحاك ، عن ابن عباس ، قال : خلق الله آدم من طين لازب ، واللازب :
اللَّزِج الطيب من بعد حمأ مسنون مُنْتن.
قال : وإنما كان حمأ مسنونا بعد التراب ، قال : فخلق منه آدم بيده ، قال : فمكث
أربعين ليلة جسدا ملقى ، فكان إبليس يأتيه فيضربه برجله فيصلصل فيصوّت ، قال : فهو
قول الله تعالى : ( كَالْفَخَّارِ ) يقول : كالشيء المنفرج الذي ليس بمصمت.
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا محمد بن سعيد وعبد الرحمن ، قالا ثنا سفيان ، عن
الأعمش ، عن مسلم البطين ، عن سعيد بن جُبَير ، عن ابن عباس قال : الصلصال :
التراب المدقق.
(22/24)
حدثني عليّ ، قال : ثنا أبو صالح ، قال
: ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قال : الصلصال : التراب المدقَّق.
حدثني عليّ ، قال : ثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ،
قوله : ( خَلَقَ الإنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ ) يقول : الطين اليابس.
حدثنا هناد ، قال : ثنا أبو الأحوص ، عن سماك ، عن عكرِمة ، في قوله : ( مِنْ
صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ ) قال : الصلصال : طين خُلط برمل فكان كالفخار.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ؛ وحدثني الحارث ، قال
: ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : (
مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ ) والصلصال : التراب اليابس الذي يُسمع له صلصلة فهو
كالفخار ، كما قال الله عزّ وجلّ.
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، في قوله : (
مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ ) ، قال : من طين له صلصلة كان يابسا ، ثم خلق
الإنسان منه.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : ابن زيد في قوله : ( مِنْ صَلْصَالٍ
كَالْفَخَّارِ ) ، قال : يبس آدم في الطين في الجنة ، حتى صار كالصلصال ، وهو
الفخار ، والحمأ المسنون : المنتن الريح.
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا محمد بن مروان ، قال : ثنا أبو العوّام ، عن قتادة(
خَلَقَ الإنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ ) قال : من تراب يابس له صلصلة.
قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا شبيب ، عن عكرِمة ، عن ابن عباس( خَلَقَ
الإنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ ) قال : ما عصر فخرج من بين الأصابع ،
ولو وجه موجه قول صلصال إلى أنه فعلال من قولهم صلّ اللحم : إذا أنتن وتغيرت ريحه
، كما قيل من صرّ الباب صرصر ، وكبكب من كب ، كان وجها ومذهبا.
وقوله : ( وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ ) يقول تعالى ذكره : وخلق
الجانّ من مارج من نار ، وهو ما اختلط بعضه ببعض ، من بين أحمر ، وأصفر
(22/25)
وأخضر من قولهم : مَرج أمر القوم : إذا
اختلط ، ومن قول النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم لعبد الله بن عمرو : "
كَيْفُ بِكَ إذَا كُنْتَ فِي حُثالَةٍ مِنَ النَّاسِ قَدْ مَرِجَتْ عُهُودُهُمْ
وأماناتُهُمْ ! وَذلكَ هُوَ لَهَبُ النَّارِ وَلِسانُهُ " .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا عبد الله بن يوسف الجبيريّ أبو حفص ، قال : ثنا محمد بن كثير ، قال : ثنا
مسلم ، عن مجاهد ، عن ابن عباس ، في قوله : ( مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ ) ، قال :
من أوسطها وأحسنها.
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ،
عن ابن عباس ، قوله : ( وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ ) يقول : خلقه
من لهب النار ، من أحسن النار.
حدثني عليّ ، قال : ثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ،
قوله : ( مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ ) يقول : خالص النار.
حدثنا أبو كُرَيب ، قال : ثنا عثمان بن سعيد ، قال : ثنا بشر بن عمارة ، عن أبي
روق ، عن الضحاك عن ابن عباس ، قال : خلقت الجنّ الذين ذكروا في القرآن من مارج من
نار ، وهو لسان النار الذي يكون في طرفها إذا ألهبت.
حدثنا هناد ، قال : ثنا أبو الأحوص ، عن سماك ، عن عكرِمة ، في قوله : ( مِنْ
مَارِجٍ مِنْ نَارٍ ) ، قال : من أحسن النار.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ؛ وحدثني الحارث ، عن
ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله : ( مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ ) ، قال : اللهب
الأصفر والأخضر ، الذي يعلو النار إذا أوقدت.
وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد
مثله ، إلا أنه قال : والأحمر.
(22/26)
حدثنا ابن حُميد ، قال : ثنا مهران ،
عن سفيان ، عن منصور ، عن مجاهد( وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ ) ،
قال : هو اللهب المنقطع الأحمر.
قال : ثنا مهران ، عن سفيان ، عن الضحاك ، في قوله : ( وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ
مَارِجٍ مِنْ نَارٍ ) ، قال : أحسن النار.
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك
يقول في قوله : ( مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ ) ، قال : من لهب النار.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : ( وَخَلَقَ
الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ ) : أي من لهب النار.
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن الحسن ، في قوله : (
مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ ) قال : من لهب النار.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال قال : ابن زيد ، في قوله : ( وَخَلَقَ
الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ ) قال : المارج : اللهب.
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا محمد بن مروان ، قال : ثنا أبو العوام ، عن قتادة(
وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ ) قال : من لهب من نار.
وقوله : ( فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ) يقول تعالى ذكره : فبأيّ
نعمة ربكما معشر الثقلين من هذه النعم تكذّبان ؟
(22/27)
رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ (17) فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (18) مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ (19) بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَا يَبْغِيَانِ (20) فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (21)
القول في تأويل قوله تعالى : { رَبُّ
الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ (17) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا
تُكَذِّبَانِ (18) مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ (19) بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ
لا يَبْغِيَانِ (20) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (21) }
يقول تعالى ذكره : ذلكم أيها الثقلان( رَبُّ المَشْرقَينِ ) ، يعني بالمشرقين :
مشرق الشمس في الشتاء ، ومشرقها في الصيف.
(23/27)
وقوله : ( وَرَبُّ المَغْرِبَينِ )
يعني : وربّ مغرب الشمس في الشتاء ، ومغربها في الصيف.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حُميد ، قال : ثنا يعقوب القمي ، عن جعفر ، عن ابن أبزى ، قوله : (
رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ ) قال : مشارق الصيف ومغارب الصيف
، مشرقان تجري فيهما الشمس ستون وثلاث مئة في ستين وثلاث مئة بُرْج ، لكلّ برج
مطلع ، لا تطلع يومين من مكان واحد. وفي المغرب ستون وثلاث مئة برج ، لكل برج مغيب
، لا تغيب يومين في برج.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ؛ وحدثني الحارث ، قال
: ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : (
رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ ) قال : مشرق الشتاء ومغربه ،
ومشرق الصيف ومغربه.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : ( رَبُّ
الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ ) فمشرقها في الشتاء ، ومشرقها في الصيف.
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا محمد بن مروان ، قال : ثنا أبو العوّام ، عن قتادة
قوله : ( رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ ) قال : مشرق الشتاء
ومغربه ، ومشرق الصيف ومغربه.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال : ابن زيد ، في قوله : ( رَبُّ
الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ ) قال : أقصر مشرق في السنة ، وأطول مشرق
في السنة ، وأقصر مغرب في السنة ، وأطول مغرب في السنة.
وقوله : ( فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ) يقول : فبأيّ نعم ربكما معشر
الجنّ والإنس من هذه النعم التي أنعم بها عليكم من تسخيره الشمس لكم في هذين
(23/28)
المشرقين والمغربين تجري لكما دائبة
بمرافقكما ، ومصالح دنياكما ومعايشكما تكذّبان.
وقوله : ( مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ ) يقول تعالى ذكره : مرج ربّ
المشرقين وربّ المغربين البحرين يلتقيان ، يعني بقوله : ( مَرَجَ ) : أرسل وخلى ،
من قولهم : مرج فلان دابته : إذا خلاها وتركها.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : ثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ،
قوله : ( مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ ) يقول : أرسل.
واختلف أهل العلم في البحرين اللذين ذكرهما الله جلّ ثناؤه في هذه الآية ، أيّ
البحرين هما ؟ فقال : بعضهم : هما بحران : أحدهما في السماء ، والآخر في الأرض.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حُميد ، قال : ثنا يعقوب ، عن جعفر ، عن ابن أبزى( مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ
يَلْتَقِيَانِ * بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لا يَبْغِيَانِ ) قال : بحر في السماء ،
وبحر في الأرض.
حدثنا أبو كُرَيب ، قال : ثنا ابن يمان ، عن أشعث ، عن جعفر عن سعيد ، في قوله : (
مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ ) قال : بحر في السماء ، وبحر في الأرض.
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ،
عن ابن عباس ، في قوله : ( مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ ) قال : بحر في
السماء والأرض يلتقيان كل عام.
وقال آخرون : عني بذلك بحر فارس وبحر الروم.
(23/29)
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حُميد ، قال : ثنا مهران ، عن سفيان ، عن زياد مولى مصعب ، عن الحسن(
مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ ) قال : بحر الروم ، وبحر فارس واليمن.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : ( مَرَجَ
الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ ) فالبحران : بحر فارس ، وبحر الروم.
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة( مَرَجَ
الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ ) قال : بحر فارس وبحر الروم.
وأولى الأقوال في ذلك عندي بالصواب قول من قال : عُني به بحر السماء ، وبحر الأرض
، وذلك أن الله قال( يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ ) ، واللؤلؤ
والمرجان إنما يخرج من أصداف بحر الأرض عن قطَرْ ماء السماء ، فمعلوم أن ذلك بحر
الأرض وبحر السماء.
وقوله : ( بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لا يَبْغِيَانِ ) ، يقول تعالى ذكره : بينهما حاجز
وبعدٌ ، لا يُفسد أحدهما صاحبه فيبغي بذلك عليه ، وكل شيء كان بين شيئين فهو برزخ
عند العرب ، وما بين الدنيا والآخرة برزخ.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حُميد ، قال : ثنا يعقوب ، عن جعفر ، عن ابن أبزى( بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ
لا يَبْغِيَانِ ) : لا يبغي أحدهما على صاحبه.
قال : ثنا يحيى بن واضح ، قال : ثنا فطر ، عن مجاهد ، قوله : ( بَيْنَهُمَا
بَرْزَخٌ لا يَبْغِيَانِ ) قال : بينهما حاجز من الله ، لا يبغي أحدهما على الآخر.
حدثني عليّ ، قال : ثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ،
قوله : ( بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لا يَبْغِيَانِ ) يقول : حاجز.
(23/30)
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال :
ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : ( بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لا يَبْغِيَانِ ) ، والبرزخ
: هذه الجزيرة ، هذا اليبَس.
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، قال : البرزخ
الذي بينهما : الأرض التي بينهما.
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا محمد بن مروان ، قال : ثنا أبو العوّام ، عن قتادة(
بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لا يَبْغِيَانِ ) قال : حُجِز المالح عن العذب ، والعذب عن
المالح ، والماء عن اليبس ، واليبس عن الماء ، فلا يبغي بعضه على بعض بقوتّه ولطفه
وقُدرته.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : ( مَرَجَ
الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ * بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لا يَبْغِيَانِ ) قال :
منعهما أن يلتقيا بالبرزخ الذي جعل بينهما من الأرض. قال : والبرزخ بعد الأرض الذي
جعل بينهما.
واختلف أهل التأويل في معنى قوله : ( لا يَبْغِيانِ ) فقال بعضهم : معنى ذلك : لا
يبغي أحدهما على صاحبه.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حُميد ، قال : ثنا يعقوب ، عَن جعفر ، عن ابن أبزى( لا يَبْغِيانِ ) :
لا يبغي أحدهما على صاحبه.
قال : ثنا يحيى بن واضح ، قال : ثنا فطر ، عن مجاهد ، مثله.
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا محمد بن مروان ، قال : ثنا أبو العوّام ، عن قتادة
مثله.
وقال آخرون : بل معنى ذلك : أنهما لا يختلطان.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ؛ وحدثني الحارث ، قال
: ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن
(23/31)
يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ (22) فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (23) وَلَهُ الْجَوَارِ الْمُنْشَآَتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ (24) فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (25)
أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : ( لا
يَبْغِيانِ ) قال : لا يختلطان.
وقال آخرون : بل معنى ذلك : لا يبغيان على اليَبَس.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : ( لا يَبْغِيانِ
) : على اليبس ، وما أخذ أحدهما من صاحبه فهو بغي ، فحجز أحدهما عن صاحبه بقدرته
ولطفه وجلاله تبارك وتعالى.
وقال آخرون : بل معناه : لا يبغيان أن يلتقيا.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال ، قال ابن زيد ، في قوله : ( لا
يَبْغِيانِ ) قال : لا يبغي أحدهما أن يلتقي مع صاحبه.
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال : إن الله وصف البحرين اللذين ذكرهما في هذه
الآية أنهما لا يبغيان ، ولم يخصص وصفهما في شيء دون شيء ، بل عمّ الخبر عنهما
بذلك ، فالصواب أن يُعَمَّ كما عمّ جلّ ثناؤه ، فيقال : إنهما لا يبغيان على شيء ،
ولا يبغي أحدهما على صاحبه ، ولا يتجاوزان حدّ الله الذي حدّه لهما.
وقوله : ( فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ) ، يقول تعالى ذكره : فبأيّ
نعم الله ربكما معشر الجنّ والإنس تكذّبان من هذه النعم التي أنعم عليكم من مَرْجه
البحرين ، حتى جعل لكم بذلك حلية تلبسونها كذلك.
القول في تأويل قوله تعالى : { يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ
(22) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (23) وَلَهُ الْجَوَارِي
الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالأعْلامِ (24) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا
تُكَذِّبَانِ (25) }
(23/32)
يقول تعالى ذكره : يخرج من هذين
البحرين اللذين مرجهما الله ، وجعل بينهما برزخا اللؤلؤ والمرجان. واختلف أهل
التأويل في صفة اللؤلؤ والمرجان ، فقال بعضهم : اللؤلؤ : ما عظم من الدر ،
والمرجان : ما صغُر منه.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حُميد ، قال : ثنا مهران ، عن سفيان ، عن جابر ، عن مجاهد ، عن ابن
عباس( اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ ) قال : اللؤلؤ : العظام.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : ( يَخْرُجُ
مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ ) ، أما اللؤلؤ فعظامه ، وأما المرجان
فصغاره ، وإن لله فيهما خزانة دلّ عليها عامة بني آدم ، فأخرجوا متاعا ومنفعة
وزينة ، ويُبلغه إلى أجل.
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، في قوله : (
يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ ) قال : اللؤلؤ الكبار من اللؤلؤ ،
والمرجان : الصغار منه.
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك
يقول في قوله : ( اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ ) ، أما المرجان : فاللؤلؤ الصغار ،
وأما اللؤلؤ : فما عظُم منه.
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ،
عن ابن عباس( يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ ) ، قال : اللؤلؤ :
ما عظُم منه ، والمرجان : اللؤلؤ والصغار.
وحدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد : المرجان : هو اللؤلؤ
الصغار.
وحدثنا عمرو بن سعيد بن بشار القرشي ، قال : ثنا أبو قتيبة ، قال : ثنا عبد الله
بن ميسرة الحراني ، قال : ثني شيخ بمكة من أهل الشأم ، أنه سمع
(23/33)
كعب الأحبار يُسأل عن المرجان ، فقال :
هو البسذ.
قال أبو جعفر : البسذ له شُعَب ، وهو أحسن من اللؤلؤ.
وقال آخرون : المرجان من اللؤلؤ : الكبار ، واللؤلؤ منها : الصغار.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حُميد ، قال : ثنا مهران ، عن سفيان ، عن موسى بن أبي عائشة ، أو قيس بن
وهب ، عن مرّة ، قال : المرجان : اللؤلؤ العظام.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ؛ وحدثني الحارث ، قال
: ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد قوله : المرجان
، قال : ما عظم من اللؤلؤ.
حدثني محمد بن سنان القزاز ، قال : ثنا الحسين بن الحسن الأشقر ، قال : ثنا زُهير
، عن جابر ، عن عبد الله بن يحيى ، عن عليّ وعن عكرِمة ، عن ابن عباس ، قال :
المرجان : عظيم اللؤلؤ.
وقال آخرون : المرجان : جيد اللؤلؤ.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا شريك ، عن موسى بن أبي عائشة ، قال : سألت مرّة عن
اللؤلؤ والمرجان قال : المرجان : جيد اللؤلؤ.
وقال آخرون : المرجان : حجر.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حُميد ، قال : ثنا مهران ، عن سفيان ، عن عطاء بن السائب ، عن عمرو بن
ميمون الأودي عن ابن مسعود ، ( اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ ) قال : المرجان حجر.
والصواب من القول في اللؤلؤ ، أنه هو الذي عرفه الناس مما يخرج
(23/34)
من أصداف البحر من الحبّ ، وأما
المرجان ، فإني رأيت أهل المعرفة بكلام العرب لا يتدافعونه أنه جمع مرجانة ، وأنه
الصغار من اللؤلؤ. قد ذكرنا ما فيه من الاختلاف بين متقدمي أهل العلم ، والله أعلم
بصواب ذلك.
وقد زعم بعض أهل العربية ، أن اللؤلؤ والمرجان يخرج من أحد البحرين ، ولكن قيل :
يخرج منهما ، كما يقال أكلت خبزا ولبنا ، وكما قيل :
وَرأيْتُ زَوْجَكِ فِي الوَغَى مُتَقَلِّدًا سَيْفا وَرُمْحا (1)
وليس ذلك كما ذهب إليه ، بل ذلك كما وصفت من قبل من أن ذلك يخرج من أصداف البحر ،
عن قطر السماء ، فلذلك قيل : ( يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ ) يعني بهما :
البحران.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا عبد الرحمن ، قال : ثنا سفيان ، عن الأعمش ، عن عبد
الله بن عبد الله الرازي ، عن سفيان بن جبير ، عن ابن
__________
(1) البيت من شواهد الفراء في معاني القرآن ( الورقة 323 ). وقد سبق استشهاد
المؤلف به أكثر من مرة ، فارجع إليه في الأجزاء ( 3 : 275 ، 6 : 281 ، 7 : 294 ، 9
: 200 ، 11 : 142 وشرحه مستوفي في الجزأين 3 ، 11 ) . وأنشده الفراء هنا عند قوله
تعالى : ( وحور عين ) وقال : خفضها أصحاب عبد الله ( ابن مسعود ) وهو وجه العربية
، وإن كان أكثر القراء على الرفع ؛ لأنهم هابوا أن يجعلوا الحور العين يطاف بهن ،
فرفعوا على قولك : ولهم حور عين ، أو عندهم حور عين . والخفض على أن يتبع آخر
الكلام بأوله ، وإن لم يحسن في آخره ما حسن في أوله ، أنشدني بعض العرب :
إذا ما الغانيات برزن يوما ... وزججن الحواجب والعيونا
فالعين لا تزجج ، إنما تكحل ، فردها على الحواجب ، لأن المعنى يعرف . وأنشدني آخر
: " ولقيت زوجك في الوغى ... البيت " ، والرمح لا يتقلد ، فرده على
السيف. ا هـ .
(23/35)
عباس ، قال : إن السماء إذا أمطرت ،
فتحت الأصداف أفواهها ، فمنها اللؤلؤ.
حدثني محمد بن إسماعيل الأحمسي ، قال : ثنا أبو يحيى الحماني ، قال : ثنا الأعمش ،
عن عبد الله بن عبد الله ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال : إذا نزل القطر
من السماء ، تفتَّحت الأصداف فكان لؤلؤا.
حدثني عبد الله بن محمد بن عمرو الغزي ، قال : ثنا الفريابي ، قال : ذكر سفيان ،
عن الأعمش ، عن عبد الله بن عبد الله ، عن سعيد بن جَبُيْر ، عن ابن عباس ، قال :
إن السماء إذا أمطرت تفتحت لها الأصداف ، فما وقع فيها من مطر فهو لؤلؤ.
حدثنا محمد بن إسماعيل الفزاري ، قال : أخبرنا محمد بن سوار ، قال : ثنا محمد بن
سليمان الكرخي ابن أخي عبد الرحمن بن الأصبهاني ، عن عبد الرحمن الأصبهاني ، عن
عكرِمة ، قال : ما نزلت قطرة من السماء في البحر إلا كانت بها لؤلؤة أو نبتت بها
عنبرة. فيما يحسب الطبري.
واختلفت القرّاء في قراءة قوله : ( يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ
) ، فقرأته عامة قرّاء المدينة والبصرة : ( يَخْرُجُ ) على وجه ما لم يسمّ فاعله .
وقرأ ذلك عامة قرّاء الكوفة وبعض المكيين بفتح الياء.
والصواب من القول في ذلك أنهما قراءتان معروفتان ، فبأيّتهما قرأ القارئ فمصيب ،
لتقارب معنييهما.
وقوله : ( فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ) ، يقول تعالى ذكره : فبأيّ
نِعم ربكما معشر الثقلين التي أنعم بها عليكم فيما أخرج لكم من منافع هذين البحرين
تكذّبان.
وقوله : ( وَلَهُ الْجَوَارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالأعْلامِ ) ، يقول
تعالى ذكره : ولربّ المشرقين والمغربين الجواري ، وهي السفن الجارية في البحار.
(23/36)
وقوله : ( الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ
) اختلفت القرّاء في قراءة ذلك ، فقرأته عامة قرّاء الكوفة( المُنْشِئاتُ ) بكسر
الشين ، بمعنى : الظاهرات السير اللاتي يقبلن ويدبرن. وقرأ ذلك عامة قرّاء البصرة
والمدينة وبعض الكوفيين( المُنْشَئاتُ ) ، بفتح الشين ، بمعنى المرفوعات القلاع
اللاتي تقبل بهنّ وتدبر.
والصواب من القول في ذلك عندي أنهما قراءتان معروفتان صحيحتا المعنى متقاربتاه ،
فبأيّتهما قرأ القارئ فمصيب.
* ذكر من قال في تأويل ذلك ما ذكرناه فيه :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ؛ وحدثني الحارث قال :
ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : (
الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ ) قال : ما رفع قلعه من السفن فهي منشئات ، وإذا لم
يرفع قلعها فليست بمنشأة.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( وَلَهُ الْجَوَارِ
الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالأعْلامِ ) يعني : السفن.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال ، قال ابن زيد ، في قوله : ( وَلَهُ
الْجَوَارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالأعْلامِ ) : يعني : السفن.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال ، قَال ابن زيد ، في قوله : ( وَلَهُ
الْجَوَارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالأعْلامِ ) قال : السفن.
وقوله : ( كالأعْلام ) يقول : كالجبال ، شبَّه السفن بالجبال ، والعرب تسمي كل جبل
طويل علما ، ومنه قول جرير :
إذا قَطَعْنا عَلَما بَدَا عَلَمُ ................... (1)
__________
(1) البيت من مقطوعة من الرجز لجرير الخطفي ( ديوانه 520 ) وتمامه : * حتى تناهين
بنا إلى الحكم *
يمدح الحكم بن أيوب الثقفي صهر الحجاج وابن عمه . يصف النوق التي حملته إليه ،
ولذلك نرجح روايته " قطعن " بنون جمع النسوة على رواية " قطعنا
" بضمير جماعة الذكور ، وإن كانت جائزة في المعنى . والأعلام : جمع علم : وهو
الجبل الطويل ، سمي علما ، لأن المسافر يجعله علامة وأمارة على الطريق . وأنشده
أبو عبيدة في مجاز القرآن ( الورقة 173 - 1) وقال : كالأعلام : كالجبال ، قال جرير
يصف الإبل : " إذ قطعن ... البيت " .
(23/37)
كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ (26) وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ (27) فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (28) يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ (29) فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (30)
وقوله : ( فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا
تُكَذِّبَانِ ) يقول تعالى ذكره : فبأيّ نعم ربكما معشر الجنّ والإنس التي أنعمها
عليكم ، بإجرائه الجواري المنشئات في البحر جارية بمنافعكم - تكذّبان.
القول في تأويل قوله تعالى : { كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ (26) وَيَبْقَى وَجْهُ
رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإكْرَامِ (27) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ
(28) يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ
(29) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (30) }
يقول تعالى ذكره : كلّ من على ظهر الأرض من جنّ وإنس فإنه هالك ، ويبقى وجه ربك يا
محمد ذو الجلال والإكرام; وذو الجلال والإكرام من نعت الوجه فلذلك رفع ذو. وقد
ذُكر أنها في قراءة عبد الله بالياء ، ( ذي الجَلال والإكْرام ) على أنه من نعت
الربّ وصفته.
وقوله : ( فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ) يقول تعالى ذكره : فبأيّ
نِعَم ربكما معشر الثقلين من هذه النعم تكذّبان.
وقوله : ( يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ ) يقول تعالى ذكره : إليه
يَفْزع بمسألة الحاجات كلّ من في السموات والأرض ، من مَلَك وإنس وجنّ وغيرهم ، لا
غنى بأحد منهم عنه.
كما حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : (
يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ ) ، لا
يستغني عنه أهل السماء ولا أهل الأرض ، يُحْيي حَيا ، ويُمِيت ميتا ، ويربي صغيرا
، ويذلّ
(23/38)
كبيرًا ، وهو مَسْأل حاجات الصالحين ،
ومنتهى شكواهم ، وصريخ الأخيار.
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ،
عن ابن عباس ، قوله : ( يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ كُلَّ يَوْمٍ
هُوَ فِي شَأْنٍ ) قال : يعني مسألة عباده إياه الرزق والموت والحياة ، كلّ يوم هو
في ذلك.
وقوله( كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ ) ، يقول تعالى ذكره : هو كلّ يوم في شأن
خلقه ، فيفرج كرب ذي كرب ، ويرفع قوما ، ويخفض آخرين ، وغير ذلك من شئون خلقه.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حُميد ، قال : ثنا مهران ، عن سفيان ، عن يونس بن خباب ، والأعمش عن
مجاهد ، عن عبيد بن عمير ، ( كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ ) قال : يجيب داعيا ،
ويعطي سائلا أو يفكّ عانيا ، أو يشفي سقيما.
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا أبو أحمد ، قال : ثنا سفيان ، عن منصور ، عن مجاهد ،
عن عبيد بن عمير في قوله : ( كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ ) قال : يفكّ عانيا ،
ويشفي سقيما ، ويجيب داعيا.
وحدثني إسماعيل بن إسرائيل اللآل ، قال : ثنا أيوب بن سويد ، عن سفيان ، عن الأعمش
، عن مجاهد ، في قوله : ( كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ ) قال : من شأنه أن يعطي
سائلا ويفك عانيا ، ويجيب داعيا ، ويشفي سقيما.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ؛ وحدثني الحارث ، قال
: ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله : (
كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ ) قال : كلّ يوم هو يجيب داعيا ، ويكشف كربا ، ويجيب
مضطرًا ، ويغفر ذنبا.
(23/39)
سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَا الثَّقَلَانِ (31) فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (32)
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن
ثور ، عن معمر ، عن الأعمش ، عن مجاهد ، عن عبيد بن عمير( كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي
شَأْنٍ ) يجيب داعيا ، ويعطي سائلا ويفك عانيا ، ويتوب على قوم ، ويغفر.
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا مروان ، قال : ثنا أبو العوّام ، عن قتادة( يَسْأَلُهُ
مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ ) قال : يخلق مخلقا
، ويميت ميتا ، ويحدث أمرا.
حدثني عبد الله بن محمد بن عمرو الغزي ، قال : ثنا إبراهيم بن محمد بن يوسف
الفريابي ، قال : ثنا عمرو بن بكر السكسكي ، قال : ثنا الحارث بن عبدة بن رباح
الغساني ، عن أبيه عبدة بن رباح ، عن منيب بن عبد الله الأزدي ، عن أبيه قال : تلا
رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم هذه الآية( كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ
) فقلنا : يا رسول الله ، وما ذلك الشأن ؟ قال : " يَغْفِرُ ذَنْبَا ،
ويُفَرّجُ كَرْبا ، ويَرْفَعُ أقْوَاما ، وَيَضَعُ آخَرِينَ . "
حدثنا أبو كُرَيب ، قال : ثنا عبيد الله بن موسى ، عن أبي حمزة الثمالي ، عن سعيد
بن جبير ، عن ابن عباس : إن الله خلق لوحا محفوظا من درّة بيضاء ، دفتاه ياقوتة
حمراء ، قلمه نور ، وكتابه نور ، عرضه ما بين السماء والأرض ، ينظر فيه كلّ يوم
ثلاث مئة وستين نظرة ، يخلق بكل نظرة ، ويُحيي ويميت ، ويُعزّ ويُذلّ ، ويفعل ما
يشاء.
وقوله : ( فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ) ، يقول تعالى ذكره : فبأيّ
نِعَم ربكما معشر الجنّ والإنس ، التي أنعم عليكم من صرفه إياكم في مصالحكم ، وما
هو أعلم به منكم من تقليبه إياكم ، فيما هو أنفع لكم تكذّبان.
القول في تأويل قوله تعالى : { سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَا الثَّقَلانِ (31)
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (32) يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإنْسِ
إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ
فَانْفُذُوا لا
(23/40)
يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لَا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ (33) فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (34)
تَنْفُذُونَ إِلا بِسُلْطَانٍ (33)
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (34) }
اختلفت القرّاء في قراءة قوله : ( سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَا الثَّقَلانِ )
فقرأته عامة قرّاء المدينة والبصرة وبعض المكيين(سَنَفَرغُ لَكُمْ ) بالنون. وقرأ
ذلك عامة قرّاء الكوفة( سَيََفرغ لَكُمْ ) بالياء ، وفتحها ردّا على قوله : (
يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ ) ، ولم يقل : يسألنا من في السموات ،
فأتبعوا الخبر الخبر.
والصواب من القول في ذلك عندنا أنهما قراءتان معروفتان متقاربتا المعنى ،
فبأيّتهما قرأ القارئ فمصيب.
وأما تأويله : فإنه وعيد من الله لعباده وتهدد ، كقول القائل الذي يتهدّد غيره
ويتوعده ، ولا شغل له يشغله عن عقابه ، لأتفرغنّ لك ، وسأتفرّغ لك ، بمعنى : سأجدّ
في أمرك وأعاقبك ، وقد يقول القائل للذي لا شغل له : قد فرغت لي ، وقد فرغت لشتمي
: أي أخذت فيه ، وأقبلت عليه ، وكذلك قوله جلّ ثناؤه : (سَنَفْرغُ لَكُمْ ) :
سنحاسبكم ، ونأخذ في أمركم أيها الإنس والجنّ ، فنعاقب أهل المعاصي ، ونثيب أهل
الطاعة.
وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : ثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ،
قوله : ( سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَا الثَّقَلانِ ) ، قال : وَعيد من الله للعباد
، وليس بالله شغل ، وهو فارغ.
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة أنه تلا(
سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَا الثَّقَلانِ ) قال : دنا من الله فراغ لخلقه.
حدثنا ابن حُميد ، قال : ثنا مهران ، عن سفيان ، عن جُويبر ، عن
(23/41)
الضحاك( سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَا
الثَّقَلانِ ) ، قال : وعيد ، وقد يحتمل أن يوجه معنى ذلك إلى : سنفرغ لكم من
وعدناكم ما وعدناكم من الثواب والعقاب.
وقوله : ( فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ) : فبأيّ نعم ربكما معشر
الثقلين التي أنعمها عليكم ، من ثوابه أهل طاعته ، وعقابه أهل معصيته تكذّبان ؟.
وقوله : ( يَامَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا
مِنْ أَقْطَارِ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ فَانْفُذُوا ) : اختلف أهل التأويل في
تأويل قوله : ( إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا ) ، فقال بعضهم : معنى ذلك :
إن استطعتم أن تجوزوا أطراف السموات والأرض ، فتعجزوا ربكم حتى لا يقدر عليكم ؛
فجوزوا ذلك ، فإنكم لا تجوزونه إلا بسلطان من ربكم. قالوا : وإنما هذا قول يقال
لهم يوم القيامة. قالوا : ومعنى الكلام : سنفرغ لكم أيها الثقلان ، فيقال لهم(
يَامَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ
أَقْطَارِ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ فَانْفُذُوا ).
* ذكر من قال ذلك :
حدثني موسى بن عبد الرحمن المسروقيّ ، قال : ثنا أبو أسامة ، عن الأجلح ، قال :
سمعت الضحاك بن مزاحم ، قال : " إذا كان يوم القيامة أمر الله السماء الدنيا
فتشقَّقت بأهلها ، ونزل من فيها من الملائكة ، فأحاطوا بالأرض ومن عليها بالثانية
، ثم بالثالثة ، ثم بالرابعة ، ثم بالخامسة ، ثم بالسادسة ، ثم بالسابعة ، فصفوا صفا
دون صف ، ثم ينزل الملك الأعلى على مجنبِّته اليسرى جهنم ، فإذا رآها أهل الأرض
ندوّا ، فلا يأتون قطرا من أقطار الأرض إلا وجدوا سبعة صفوف من الملائكة ، فيرجعون
إلى المكان الذي كانوا فيه ، فذلك قول الله( إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ
التَّنَادِ * يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ ) ، وذلك قوله : ( وَجَاءَ رَبُّكَ
وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا * وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ ) ، وقوله : (
يَامَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ
أَقْطَارِ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ فَانْفُذُوا لا تَنْفُذُونَ إِلا بِسُلْطَانٍ )
، وذلك قوله : ( وَانْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ *
وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا ) .
(23/42)
وقال آخرون : بل معنى ذلك : أن تنفذوا
من أقطار السموات والأرض ، فانفذوا هاربين من الموت ، فإن الموت مُدرككم ، ولا ينفعكم
هربكم منه.
* ذكر من قال ذلك :
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك
يقول( يَامَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإنْسِ ) .... الآية ، يعني بذلك أنه لا يجيرهم أحد
من الموت ، وأنهم ميتون لا يستطيعون فرارا منه ، ولا محيصا ، لو نفذوا أقطار
السموات والأرض كانوا في سُلطان الله ، ولأخذهم الله بالموت.
وقال آخرون : بل معنى ذلك : إن استطعتم أن تعلموا ما في السموات والأرض فاعلموا.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي عن أبيه ، عن
ابن عباس ، في قوله : ( يَامَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ
تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ فَانْفُذُوا لا تَنْفُذُونَ
إِلا بِسُلْطَانٍ ) يقول : إن استطعتم أن تعلموا ما في السموات والأرض فاعلموه ،
لن تعلموه إلا بسلطان ، يعني البينة من الله جلّ ثناؤه.
وقال آخرون : معنى قوله : ( لا تَنْفُذُونَ ) : لا تخرجون من سلطاني.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : ثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ،
قوله : ( لا تَنْفُذُونَ إِلا بِسُلْطَانٍ ) : يقول : لا تخرجون من سلطاني .
وأما الأقطار فهي جمع قُطْر ، وهي : الأطراف.
كماحدثنا ابن حُميد ، قال : ثنا مهران ، عن سفيان( إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ
(23/43)
تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ
السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ ) قال : من أطرافها.
وقوله جلّ ثناؤه( وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا ) يقول : من
أطرافها.
وأما قوله : ( إلا بسُلْطانٍ ) ، فإن أهل التأويل اختلفوا في معناه ، فقال بعضهم
معناه : إلا ببينة وقد ذكرنا ذلك قبل.
وقال آخرون : معناه : إلا بحجة.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حُميد ، قال : ثنا مهران ، عن سفيان ، عن رجل ، عن عكرِمة( لا
تَنْفُذُونَ إِلا بِسُلْطَانٍ ) قال : كلّ شيء في القرآن سلطان فهو حجة.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ؛ وحدثني الحارث ، قال
: ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله : (
بسُلْطانٍ ) قال : بحجة.
وقال آخرون : بل معنى ذلك : إلا بملك وليس لكم ملك.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن بشار ، قال : ثنا محمد بن مروان ، قال : ثنا أبو العوّام ، عن
قتادة( فَانْفُذُوا لا تَنْفُذُونَ إِلا بِسُلْطَانٍ ) قال : لا تنفذون إلا بملك ،
وليس لكم ملك.
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة( لا تَنْفُذُونَ
إِلا بِسُلْطَانٍ ) قال : إلا بسلطان من الله ، إلا بملكة منه.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( لا تَنْفُذُونَ إِلا
بِسُلْطَانٍ ) ، يقول : إلا بملكة من الله.
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال : معنى ذلك : إلا بحجة وبينة ، لأن ذلك
هو معنى السلطان في كلام العرب ، وقد يدخل الملك في
(23/44)
يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ وَنُحَاسٌ فَلَا تَنْتَصِرَانِ (35) فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (36) فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ (37) فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (38)
ذلك ، لأن الملك حجة.
وقوله : ( فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ) ، يقول تعالى ذكره : فبأيّ
نعم ربكما تكذّبان معشر الثقلين التي أنعمت عليكم - من التسوية بين جميعكم ، لا
يقدرون على خلاف أمر أراده بكم - تكذّبان.
القول في تأويل قوله تعالى : { يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ وَنُحَاسٌ
فَلا تَنْتَصِرَانِ (35) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (36) فَإِذَا
انْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ (37) فَبِأَيِّ آلاءِ
رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (38) }
يقول تعالى ذكره( يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا ) أيها الثقلان يوم القيامة( شُوَاظٌ مِنْ
نَارٍ ) ، وهو لهبها من حيث تشتعل وتؤجَّج بغير دخان كان فيه ومنه قول رُؤْبة بن
العجَّاج :
إنَّ لَهُمْ مِنْ وَقْعِنا أقْياظا ونارُ حَرْب تُسْعِرُ الشُّوَاظا (1)
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : ثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ،
قوله : ( شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ ) ، يقول : لَهَب النار.
__________
(1) البيتان في ديوان العجاج ( طبع ليبسج 81 ) ، وفي مجاز القرآن لأبي عبيدة (
الورقة 173 ) ولم يظهر اسم الشاعر ، قال عند قوله تعالى ( يرسل عليكما شواظ من نار
ونحاس ) : شواظ ( بضم أوله ) وشواظ ( بكسر أوله ) ( ضبط قلم ) : واحد .وهو النار
التي تأجج لا دخان فيها .
قال : " إن لهم من وقعنا " ... البيتين ، وفي ( اللسان : شوظ ) والشواظ
والشوظ ( بضم الأول وكسر الثاني ) : اللهب الذي لا دخان فيه . وقال رؤبة : "
إن لهم ... البيتين " . وفي التنزيل العزيز : ( يرسل عليكما شواظ من نار
ونحاس ) . قال الفراء : أكثر القراء قرءوا شواظ (بالضم) وكسر الحسن الشين ، كما
قالوا لجماعة البقر صوار صوار . ا هـ .
(23/45)
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ،
قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : ( يُرْسَلُ
عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ ) يقول : لهب النار.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ؛ وحدثني الحارث ، قال
: ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : (
شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ ) قال : لهب النار.
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا أبو أحمد الزُّبيري ، قال : ثنا سفيان ، عن منصور ، عن
مجاهد( يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ ) قال : اللهب المتقطع. (1)
حدثنا ابن حُميد ، قال : ثنا حكام ، قال : ثنا عمرو ، عن منصور ، عن مجاهد(
يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ ) قال : الشُّواظ : الأخضر المتقطع من
النار.
قال : ثنا جرير ، عن منصور ، عن مجاهد في قوله : ( يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ
مِنْ نَارٍ ) قال : الشواظ : هذا اللهب الأخضر المتقطع من النار.
قال : ثنا مهران ، عن سفيان ، في قوله : ( يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِنْ
نَارٍ ) قال : الشواظ : اللهب الأخضر المتقطع من النار.
قال : ثنا مهران ، عن سفيان ، عن الضحاك : ( الشُّوََاظُ ) : اللهب.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا
شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ ) : أي لهب من نار.
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة( شُوَاظٌ مِنْ
نَارٍ ) قال : لهب من نار.
__________
(1) المتقطع : كذا في الأصل . وهو كذلك بالشوكاني ( 5 : 134 ) .
(23/46)
وحدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ،
قال ، قال ابن زيد ، في قوله : ( يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ ) قال :
الشواظ : اللهب ، وأما النحاس فالله أعلم بما أراد به.
ذكر من قال ذلك :
وقال آخرون : الشُّواظ : هو الدخان الذي يخرج من اللهب.
* ذكر من قال ذلك :
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك
يقول في قوله : ( شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ ) : الدخان الذي يخرج من اللهب ليس بدخان
الحطب.
واختلفت القرّاء في قراءة قوله : ( شُوَاظٌ ) ، فقرأ ذلك عامة قرّاء المدينة
والكوفة والبصرة ، غير ابن أبي إسحاق(شُوَاظٌ ) بضم الشين ، وقرأ ذلك ابن أبي
إسحاق ، وعبد الله بن كثير( شِوَاظٌ مِنْ نارٍ ) بكسر الشين ، وهما لغتان ، مثل
الصوار من البقر ، والصّوار بكسر الصاد وضمها. وأعجب القراءتين إليّ ضمّ الشين ،
لأنها اللغة المعروفة ، وهي مع ذلك قراءة القرّاء من أهل الأمصار.
وأما قوله : ( ونُحاسٌ ) ، فإن أهل التأويل اختلفوا في المعنيّ به ، فقال بعضهم :
عُنِي به الدخان.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عبيد المحاربي ، قال : ثنا موسى بن عمير ، عن أبي صالح ، عن ابن
عباس ، في قوله : ( وَنُحَاسٌ فَلا تَنْتَصِرَانِ ) قال : النحاس : الدخان.
حدثني عليّ ، قال : ثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس قوله
: ( ونُحاسٌ ) : دخان النار.
حدثنا أبو كُرَيب ، قال : ثنا ابن يمان ، عن أشعث ، عن جعفر ، عن سعيد ، في قوله :
( ونُحاسٌ ) : قال : دخان.
(23/47)
وقال آخرون : عني بالنحاس في هذا
الموضع : الصُّفر.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ،
عن ابن عباس( ونُحاسٌ ) قال : النحاس : الصفر يعذّبون به.
حدثنا ابن حُميد ، قال : ثنا مهران ، عن سفيان ، عن منصور ، عن مجاهد( ونُحاسٌ )
قال : يذاب الصفر من فوق رءوسهم.
قال : ثنا حكام ، عن عمرو ، عن منصور ، عن مجاهد( ونُحاسٌ ) قال : يذاب الصفر
فيصبّ على رأسه.
حدثنا ابن حُميد ، قال : ثنا مهران ، عن سفيان ، ( ونُحاسٌ ) : يذاب الصفر فيصبّ
على رءوسهم.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، ( ونُحاسٌ ) قال :
توعدهما بالصُّفر كما تسمعون أن يعذّبهما به.
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا محمد بن مروان ، قال : ثنا أبو العوّام ، عن قتادة(
يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ وَنُحَاسٌ ) قال : يخوّفهم بالنار
وبالنحاس.
وأولى القولين في ذلك عندي بالصواب قول من قال : عُنِي بالنحاس : الدخان ، وذلك
أنه جلّ ثناؤه ذكر أنه يرسل على هذين الحيَّين شواظ من نار ، وهو النار المحضة
التي لا يخلطها دخان. والذي هو أولى بالكلام أنه توعدهم بنار هذه صفتها أن يُتبع
ذلك الوعد بما هو خلافها من نوعها من العذاب ، دون ما هو من غير جنسها ، وذلك هو
الدخان ، والعرب تسمي الدخان نُحاسا بضم النون ، ونحاسا بكسرها ، والقرّاء مجمعة
على ضمها ، ومن النُّحاس بمعنى الدخان ، قول نابغة بني ذُبيان :
(23/48)
يَضُوءُ كَضَوْء سِرَاج السَّلي ط لْم
يجْعَل اللهُ فيهِ نُحاسا (1)
يعني : دخانا.
وقوله : ( فَلا تَنْتَصِرَانِ ) يقول تعالى ذكره : فلا تنتصران أيها الجنّ والإنس
منه ، إذا هو عاقبكما هذه العقوبة ، ولا تُستنقذان منه.
كما حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة( فَلا
تَنْتَصِرَانِ ) قال : يعني الجنّ والإنس.
قال : وقوله : ( فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ )
يقول تعالى ذكره : فإذا انشقَّت السماء وتفطَّرت ، وذلك يوم القيامة ، فكان لونها
لون البرذون الورد الأحمر.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني سليمان بن عبد الجبار ، قال : ثنا محمد بن الصلت ، قال : ثنا أبو كدينة ، عن
قابوس ، عن أبيه ، عن ابن عباس( فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ ) قال : كالفرس
الورد.
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي عن أبيه ، عن
ابن عباس قوله : ( فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ
) يقول : تغير لونها.
حدثنا عبد الله بن أحمد بن حيوية ، قال : ثنا شهاب بن عباد ، قال :
__________
(1) البيت لنابغة بني جعدة مجاز القرآن ( الورقة 173 - ب ) وحرف الناسخ اسمه ،
فقال كنابغة بني ذبيان في تفسير المؤلف هذا . قال أبو عبيدة عند قوله تعالى :
" ونحاس " : نحاس ونحاس ( بضم أوله وكسره ، ضبط قلم ) والنحاس : الدخان
، قال نابغة بني جعدة " تضيء كضوء .... البيت " وفي أوله : تضيء بالياء
، لا بالواو ، كما كتبه ناسخ التفسير . (وفي اللسان ضوأ) ضاء السراج يضوء ، وأضاء
يضيء. قال : واللغة الثانية هي المختارة . ا ه.
(23/49)
ثنا إبراهيم بن حميد ، عن إسماعيل ابن
أبي خالد عن أبي صالح في قوله : ( وَرْدَةً كَالدِّهَانِ ) قال : كلون البرذون
الورد ، ثم كانت بعد كالدهان.
حدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك
يقول في قوله : ( فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ ) يقول : تتغير السماء فيصير
لونها كلون الدابة الوردة.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( وَرْدَةً كَالدِّهَانِ )
: هي اليوم خضراء كما ترون ، ولونها يوم القيامة لون آخر.
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا محمد بن مروان ، قال : ثنا ابن العوّام ، عن قتادة ،
في قوله : ( فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ ) قال
: هي اليوم خضراء ، ولونها يومئذ الحمرة.
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة( وَرْدَةً
كَالدِّهَانِ ) قال : إنها اليوم خضراء ، وسيكون لها يومئذ لون آخر.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال ، قال ابن زيد ، فى قوله : ( فَكَانَتْ
وَرْدَةً كَالدِّهَانِ ) ، قال : مشرقة كالدهان.
واختلف أهل التأويل في معنى قوله : ( كالدّهانِ ) ، فقال بعضهم : معناه كالدهن
صافية الحمرة مشرقة.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ؛ وحدثني الحارث ، قال
: ثنا الحسن قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : (
وَرْدَةً كَالدِّهَانِ ) قال : كالدهن.
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك
يقول في قوله : ( كالدّهانِ ) يعني : خالصة.
وقال آخرون : عني بذلك : فكانت وردة كالأديم ، وقالوا : الدهان :
(23/50)
فَيَوْمَئِذٍ لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلَا جَانٌّ (39) فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (40)
جماع ، واحدها دهن.
وأولى القولين في ذلك بالصواب قول من قال : عني به الدهن في إشراق لونه ، لأن ذلك
هو المعروف في كلام العرب.
وقوله : ( فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ) يقول تعالى ذكره : فبأيّ
قدرة ربكما معشر الجنّ والإنس - على ما أخبركم بأنه فاعل بكم - تكذّبان.
القول في تأويل قوله تعالى : { فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ
وَلا جَانٌّ (39) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (40) }
(23/51)
يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالْأَقْدَامِ (41) فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (42)
القول في تأويل قوله تعالى : {
يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالأقْدَامِ (41)
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (42) }
يقول تعالى ذكره : فيومئذ لا يسأل الملائكة المجرمين عن ذنوبهم ، لأن الله قد
حفظها عليهم ، ولا يسأل بعضهم عن ذنوب بعض ، ربهم.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ،
عن ابن عباس ، قوله : ( فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا
جَانٌّ ) يقول تعالى ذكره : لا يسألهم عن أعمالهم ، ولا يسأل بعضهم عن بعض وهو مثل
قوله : ( وَلا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ ) ، ومثل قوله لمحمد
صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم( وَلا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ ).
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة في قوله : ( لا
يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ ) قال : حفظ الله عزّ وجلّ عليهم
أعمالهم.
(23/51)
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو
عاصم ، قال : ثنا عيسى ؛ وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا
، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله : ( لا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ
وَلا جَانٌّ ) قال : كان مجاهد يقول : لا يسأل الملائكة عن المجرم يعرفون بسيماهم.
حدثنا محمد بن بشار ، وقال : ثنا محمد بن مروان ، قال : ثنا أبو العوّام عن قتادة(
فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ ) قال : قد كانت مسألة
ثم ختم على ألسنة القوم ، فتتكلم أيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون.
وقوله : ( فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ) يقول تعالى ذكره : فبأيّ نعم
ربكما معشر الثقلين ، - التي أنعم عليكم من عدله فيكم ، أنه لم يعاقب منكم إلا
مجرما - . (1)
وقوله : ( يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ ) يقول تعالى ذكره تعرف الملائكة
المجرمين بعلاماتهم وسيماهم التي يسوّمهم الله بها من اسوداد الوجوه ، وازرقاق
العيون.
كما حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور عن معمر ، عن الحسن ، في قوله : (
يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ ) قال : يعرفون باسوداد الوجوه ، وزُرقة
العيون.
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا محمد بن مروان قال : ثنا أبو العوّام ، عن قتادة(
يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ ) قال : زرق العيون ، سود الوجوه.
وقوله : ( فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالأقْدَامِ ) ، يقول تعالى ذكره : فتأخذهم
الزبانية بنواصيهم وأقدامهم فتسحبهم إلى جهنم ، وتقذفهم فيها
( فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ) يقول تعالى ذكره : فبأيّ نعم ربكما
معشر الجنّ والإنس - التي أنعم عليكم بها من تعريفه ملائكته أهل الإجرام من أهل
الطاعة منكم ، حتى خصوا
__________
(1) لعله سقط من قلم الناسخ كلمة " تكذّبان " ، التي اعتاد المؤلف أن
يختم بها مثل هذا التعبير فيما مضى منقول الله سبحانه ( فبأيّ آلاء ربكما تكذّبان
) ؟
(23/52)
هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ (43) يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آَنٍ (44) فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (45)
بالإذلال والإهانة المجرمين دون غيرهم.
القول في تأويل قوله تعالى : { هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا
الْمُجْرِمُونَ (43) يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ (44) فَبِأَيِّ
آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (45) }
يقول تعالى ذكره : يقال لهؤلاء المجرمين الذين أخبر جلّ ثناؤه أنهم يعرفون يوم
القيامة بسيماهم حين يؤخذ بالنواصي والأقدام : هذه جهنم التي يكذّب بها المجرمون ،
فترك ذكر " يقال " اكتفاء بدلالة الكلام عليه منه ، وذُكر أن ذلك في
قراءة عبد الله( وهذه جهنم التي كنتما بها تكذّبان تصليانها ، لا تموتان فيها ولا
تحييان ). (1)
وقوله : ( يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ ) يقول تعالى ذكره : يطوف
هؤلاء المجرمون الذين وصف صفتهم في جهنم بين أطباقها( وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ ) يقول
: وبين ماء قد أسخن وأغلي حتى انتهى حرّه وأنى طبخه ، وكل شيء قد أدرك وبلغ فقد
أنى ، ومنه قوله : ( غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ ) يعني : إدراكه وبلوغه ، كما قال
: نابغة بني ذُبيان :
ويُخْضَب لِحْيَةٌ غدَرَتْ وخانَتْ بأحمَرَ مِنْ نَجيع الجَوْفِ آني (2)
__________
(1) ذكر الفراء في معاني القرآن ( مصورة الجامعة 24059 صفحة 321 ) قراءة عبد الله
، وزاد فيها بعد قوله : ( تحييان ) : تطوفان . ا هـ . و " تطوفان " : هي
بدء الآية التي بعدها : ( يطوفون بينها .... إلخ ) .
(2) البيت لنابغة بني ذبيان ( مختار الشعر الجاهلي بشرح مصطفى السقا ، طبعة الحلبي
194 ) من قصيدة يهجو بها يزيد بن عمرو بن الصعق الكلابي في قصة ذكرها شارحه في 193
عند بدء القصيدة ، ( وانظر شرح الأعلم ، والوزير أبي بكر البطليوسي على الأشعار
الستة ، والجزء الأول من خزانة الأدب الكبرى ، لعبد القادر البغدادي 204 - 205 )
وقال شارح البيت : نجيع الجوف : الدم الخالص . والآنى : الشديد الحرارة ، وهو الذي
بلغ أناه . ا هـ . وقال أبو عبيدة في مجاز القرآن ( الورقة 173 - ب ) : عند قوله
تعالى : ( وبين حميم آن : بلغ أناه في شدة الحر . ا هـ .
(23/53)
يعني : مدرك.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : ثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس قوله
: ( وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ ) يقول : انتهى حرُّه.
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ،
عن ابن عباس ، قوله : ( وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ ) يقول : غلى حتى انتهى غليه.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ؛ وحدثني الحارث ، قال
: ثنا الحسن قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله : (
وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ ) قال : قد بلغ إناه.
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا يعقوب ، عن جعفر ، عن سعيد ، قال : الآني الذي قد
انتهى حرّه.
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا شبيب ، عن بشر ، عن عكرِمة ، عن
ابن عباس( يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ ) قال : الآني : ما اشتدّ
غليانه ونضجه.
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد قال : سمعت الضحاك يقول
في قوله : ( حَمِيمٍ آنٍ ) : هو الذي قد انتهى غَلْيه.
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا محمد بن مروان ، قال : ثنا أبو العوّام ، عن قتادة(
وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ ) قال : أنى طبخها منذ يوم خلق الله السموات والأرض.
(23/54)
وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ (46) فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (47) ذَوَاتَا أَفْنَانٍ (48) فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (49)
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال :
ثنا سعيد ، عن قتادة( يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ ) يقول : حميم قد
أنى طبخه منذ خلق الله السموات والأرض.
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن الحسن( حَمِيمٍ آنٍ )
يقول : حميم قد آن منتهى حره.
حدثنا ابن حُميد ، قال : ثنا مهران ، عن سفيان( حَمِيمٍ آنٍ ) قال : قد انتهى
حرّه.
وقال بعضهم : عنى بالآني : الحاضر.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال ، قال ابن زيد ، في قوله : ( يَطُوفُونَ
بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ ) قال : يطوفون بينها وبين حميم حاضر ، الآني :
الحاضر.
وقوله : ( فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ) يقول : فبأيّ نعم ربكما معشر
الجنّ والإنس التي أنعمها عليكم - بعقوبته أهل الكفر به ، وتكريمه أهل الإيمان به
- تكذّبان.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ (46)
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (47) ذَوَاتَا أَفْنَانٍ (48) فَبِأَيِّ
آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (49) }
يقول تعالى ذكره : ولمن اتقى الله من عباده - فخاف مقامه بين يديه ، فأطاعه بأداء
فرائضه ، واجتناب معاصيه - جنتان ، يعني بستانين.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل ، وإن اختلفت ألفاظهم في البيان عن تأويله
، غير أن معنى جميعهم يقول إلى هذا.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : ثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ،
قوله : ( وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ ) قال : وعد الله جلّ ثناؤه
(23/55)
المؤمنين الذين خافوا مقامه ، فأدَّوا
فرائضه الجنة.
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ،
عن ابن عباس ، قوله : ( وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ ) يقول : خاف
ثم اتقى ، والخائف : من ركب طاعة الله ، وترك معصيته.
حدثني أبو السائب ، قال : ثنا ابن إدريس ، عن الأعمش ، عن مجاهد ، في قوله : (
وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ ) ، هو الرجل يهم بالذنب ، فيذكر مقام
ربه فينزع.
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا يحيى بن واضح ، قال : ثنا الحسين ، عن منصور ، عن
مجاهد ، قوله : ( وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ ) قال : الرجل يهمّ
بالذنب فيذكر مقامه بين يدي الله فيتركه ، فله جنتان.
قال : ثنا جرير ، عن منصور ، عن مجاهد ، قوله : ( وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ
جَنَّتَانِ ) قال : الرجل يهمّ بالمعصية ، فيذكر الله عزّ وجلّ فيدعها.
قال : ثنا مهران ، عن سفيان ، عن منصور ، عن مجاهد( وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ
رَبِّهِ جَنَّتَانِ ) قال : في الذي إذا همّ بمعصية تركها.
حدثنا نصر بن عليّ ، قال : ثنا إسحاق بن منصور ، عن مجاهد ، قوله : ( وَلِمَنْ
خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ ) قال : هو الرجل يهمّ بمعصية الله تعالى ، ثم
يتركها مخافة الله.
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا عبد الرحمن ، قال : ثنا سفيان ، عن منصور ، عن مجاهد(
وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ ) قال : يذنب الذنب فيذكر مقام ربه
فيدعه.
حدثنا محمد بن المثنى ، قال : ثنا محمد بن جعفر ، قال : ثنا شعبة ، عن منصور ، عن
إبراهيم في هذه الآية( وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ ) قال : إذا
أراد أن يذنب أمسك مخافة الله.
(23/56)
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال :
ثنا سعيد ، عن قتادة قوله : ( وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ ) قال :
إن المؤمنين خافوا ذاكم المقام فعملوا له ، ودانوا له ، وتعبَّدوا بالليل والنهار.
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا محمد بن مروان ، قال : ثنا أبو العوّام ، قال : ثنا
قتادة ، في قوله : ( وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ ) قال : إن لله
مقاما قد خافه المؤمنون.
حدثني محمد بن موسى ، قال : ثنا عبد الله بن الحارث القرشيّ ، قال : ثنا شعبة بن
الحجاج ، قال : ثنا سعيد الجريريّ ، عن محمد بن سعد ، عن أبي الدرداء ، قال ، قال
رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم : ( وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ
جَنَّتَانِ ) قلت : وإن زنى وإن سرق ؟ قال : وإنْ زَنى وسَرقَ وإنْ رَغِمَ أنْف
أبي الدَّرْداء " .
وحدثني زكريا بن يحيى بن أبان المصري ، قال : ثنا ابن أبي مريم ، قال : أخبرنا
محمد بن جعفر ، عن محمد بن أبي حرملة ، عن عطاء بن يسار ، قال : أخبرني أبو
الدرداء أن رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم ، قرأ يوما هذه الآية(
وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ ) ، فقلت : وإن زنى وإن سرق يا رسول
الله ؟ قال : ( وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ ) قال فقلت : يا رسول
الله وإن زنى وإن سرق ؟ قال : ( وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ ) فقلت
: وإن زنى وإن سرق يا رسول الله ؟ فقال : " وَإنْ زَنى وإنْ سَرَقَ رَغْمَ
أنْفِ أبي الدَّرْدَاءِ " .
حدثنا عليّ بن سهل ، قال : ثنا مؤمل ، قال : ثنا حماد بن سلمة ، عن ثابت ، عن أبي
بكر ، عن أبي موسى ، عن أبيه ، قال : حماد لا أعلمه إلا رفعه في قوله : ( وَلِمَنْ
خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ ) قال : جنتان من ذهب للمقرّبين أو قال :
للسابقين ، وجنتان من ورق لأصحاب اليمين.
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا المعتمر ، عن أبيه ، قال : ثنا سيار ، قال : قيل
لأبي الدرداء في هذه الآية( وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ ) فقيل :
(23/57)
وإن زنى وإن سرق ، فقال : وإن زنى وإن
سرق.
وقال : إنه إن خاف مقام ربه لم يزن ولم يسرق.
حدثنا ابن حُميد ، قال : ثنا مهران ، عن ابن المبارك ، عن سعيد الجريريّ ، عن رجل
، عن أبي الدرداء( وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ ) فقال : أبو
الدرداء : وإن زنى وإن سرق ، قال : " نعم ، وإن رغِمَ أنْفُ أبي الدرداء
" .
حدثنا أبو كُرَيب ، قال : ثنا ابن الصلت ، عن عمرو بن ثابت ، عمن ذكره ، عن أبي
وائل ، عن ابن مسعود في قوله : ( وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ ) قال
: وإن زنى وإن سرق.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال ، قال ابن زيد ، في قوله : ( وَلِمَنْ
خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ ) قال : جنتا السابقين ، فقرأ( ذَوَاتَا
أَفْنَانٍ ) ، فقرأ حتى بلغ( كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ ) ، ثم رجع
إلى أصحاب اليمين ، فقال : ( وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ ) ، فذكر فضلهما وما
فيهما.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال ، قال ابن زيد ، في قوله : ( وَلِمَنْ
خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ ) قال : مقامه حين يقوم العباد يوم القيامة ،
وقرأ( يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ ) وقال : ذاك مقام ربك.
وقوله : ( فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ) يقول تعالى ذكره : فبأيّ نعم
ربكما أيها الثقلان - التي أنعم عليكم بإثابته المحسن منكم ما وصف جلّ ثناؤه في
هذه الآيات - تكذّبان.
وقوله : ( ذَوَاتَا أَفْنَانٍ ) يقول : ذواتا ألوان ، واحدها فن ، وهو من قولهم :
افتن فلان في حديثه : إذا أخذ فى فنون منه وضروب.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني الحسين بن يزيد الطحان ، قال : ثنا عبد السلام بن حرب ، عن
(23/58)
عطاء بن السائب ، عن سعيد بن جبير ، عن
ابن عباس في قوله : ( ذَوَاتَا أَفْنَانٍ ) قال : ذواتا ألوان.
حدثنا الفضل بن إسحاق ، قال : ثنا أبو قتيبة ، قال : ثنا عبد الله بن النعمان ، عن
عكرِمة( ذَوَاتَا أَفْنَانٍ ) قال : ظل الأغصان على الحيطان ، قال : وقال الشاعر :
ما هاجَ شَوْقَكَ مِنْ هَدِيل حَمامَة تَدْعُو على فَنن الغُصُونِ حَماما
تَدْعُوا أبا فَرْخَين صَادَفَ ضاريا ذا مِخْلَبين مِنَ الصُّقُّورِ قَطاما (1) .
حدثنا ابن حُميد ، قال : ثنا مهران ، عن سفيان ، عن مجاهد( ذَوَاتَا أَفْنَانٍ )
قال : ذواتا ألوان.
قال : ثنا مهران ، عن أبي سنان( ذَوَاتَا أَفْنَانٍ ) قال : ذواتا ألوان.
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : ثنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول
في قوله : ( ذَوَاتَا أَفْنَانٍ ) يقول : ألوان من الفاكهة .
وقال آخرون : ذواتا أغصان.
* ذكر من قال ذلك :
__________
(1) لم أقف على قائل البيتين وأنشد ابن بري في ( اللسان : هدر ) البيت الأول منهما
، ولم ينسبه قال صاحب اللسان عن ابن سيده في المحكم : الهديل : صوت الحمام ، وخص
بعضهم به وحشها ، كالدباسي والقماري ونحوهما ، هدل يهدل هديلا . وأنشد ابن بري :
.... البيت قال : وقد جاء الهديل في صوت الهدهد . ا هـ . والفنفن الغصن المستقيم
طولا وعرضا . وقيل الغصن : القضيب ، يعني المقضوب ، والفنن : ما تشعب منه . والجمع
: الأفنان ثم والأفانين .
وقال عكرمة في قوله تعالى : ( ذواتا أفنان ) قال : ظل الأغصان على الحيطان . وقال
أبو الهيثم : فسرها بعضهم ذواتا أغصان وفسره بعضهم : ذواتا ألوان ، واحدها حينئذ :
فن ، وفنن. قال أبو منصور : واحد الأفنان ، إذا أردت بها ألوان فن . وإذا أردت بها
الأغصان : فواحدها فنن. اهـ.
وقال في قطم : والقطامي : الصقر ، ويفتح . وصقر قطام ( كسحاب ) وقَطامي وقطامي (
بفتح أوله وضمه ) : لحم . قيس يفتحون ، وسائر العرب يضمون ، وقد غلب عليه اسما ،
وهو مأخوذ من القطم ، وهو المشتهى : اللحم وغيره .ا هـ .
(23/59)
فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ (50) فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (51) فِيهِمَا مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ (52) فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (53)
حدثنا ابن حُميد ، قال : ثنا مهران ،
عن سفيان ، عن رجل من أهل البصرة ، عن مجاهد( ذَوَاتَا أَفْنَانٍ ) قال : ذواتا
أغصان.
وقال آخرون : معنى ذلك : ذواتا أطراف أغصان الشجر.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ،
عن ابن عباس ، قوله : ( ذَوَاتَا أَفْنَانٍ ) يقول : فيما بين أطراف شجرها ، يعني
: يمسّ بعضها بعضا كالمعروشات ، ويقال : ذواتا فضول عن كل شيء.
وقال آخرون : بل عنى بذلك فضلهما وسعتهما على ما سواهما.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : ( ذَوَاتَا
أَفْنَانٍ ) يعني : فضلهما وسعتهما على ما سواهما.
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، في قوله : (
ذَوَاتَا أَفْنَانٍ ) قال : ذواتا فضل على ما سواهما.
وقوله : ( فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ) يقول تعالى ذكره : فبأيّ نعم
ربكما معشر الثقلين التي أنعم عليكما بإثابته هذا الثواب أهل طاعته - تكذّبان.
القول في تأويل قوله تعالى : { فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ (50) فَبِأَيِّ
آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (51) فِيهِمَا مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ (52)
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (53) }
يقول تعالى ذكره في هاتين الجنتين عينا ماء تجريان خلالهما ، فبأيّ آلاء ربكما
تكذّبان.
وقوله : ( فِيهِمَا مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ ) يقول تعالى ذكره : فيهما من
(23/60)
مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ (54) فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (55)
كلّ نوع من الفاكهة ضربان ، فبأي آلاء
ربكما - التي أنعم بها على أهل طاعته من ذلك تكذّبان.
القول في تأويل قوله تعالى : { مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ
إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ (54) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا
تُكَذِّبَانِ (55) }
يقول تعالى ذكره( وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ ) يتنعمون فيهما ، (
مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ ) ، فنصب متكئين على الحال من معنى الكلام الذي قبله ،
لأن الذي قبله بمعنى الخبر عمن خاف مقام ربه أنه في نَعْمة وسرور ، يتنعمون في
الجنتين.
وقوله : ( عَلَى فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ )
يقول تعالى ذكره : بطائن هذه الفرش من غليظ الديباج ، والإستبرق عند العرب : ما
غلظ من الديباج وخشن.
وكان بعض أهل العلم بكلام العرب من أهل البصرة يقول : يسمى المتاع الذي ليس في
صفاقة الديباج ، ولا خفة العَرَقَة إستبرقا.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
** ذكر من قال ذلك :
حدثني عمران بن موسى القزاز ، قال : ثنا عبد الوارث بن سعيد ، قال : ثنا يحيى بن
أبي إسحاق ، قال ، قال لي سالم بن عبد الله : ما الإستبرق ؟ قال ، قلت : ما غلظ من
الديباج وخشن منه.
حدثنا محمد بن بشار قال : ثنا يحيى بن أبي عَرُوبة ، عن قتادة ، عن عكرِمة ، في
قوله : ( إسْتَبْرَق ) قال : الديباج الغليظ.
وحدثنا إسحاق بن زيد الخطابي ، قال : ثنا الفريابيّ ، عن سفيان ، عن
(23/61)
أبي إسحاق ، عن هبيرة بن يريم عن ابن
مسعود في قوله : ( فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ ) قال : قد أخبرتم
بالبطائن ، فكيف لو أخبرتم بالظواهر ؟.
حدثنا الرفاعي ، قال : ثنا ابن اليمان ، عن سفيان ، عن أبي إسحاق ، عن هبيرة ، قال
: هذه البطائن فما ظنكم بالظواهر ؟.
حدثنا أبو هشام الرفاعي ، قال : ثنا أبو داود ، عن يعقوب ، عن جعفر ، عن سعيد ، قال
: قيل له : هذه البطائن من إستبرق فما الظواهر ؟ قال : هذا مما قال الله( فَلا
تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ ). وقد زعم أهل
العربية أن البطانة قد تكون ظهارة ، والظهارة تكون بطانة ، وذلك أن كل واحد منهما
قد يكون وجها . قال : وتقول العرب : هذا ظهر السماء ، وهذا بطن السماء لظاهرها
الذي نراه.
وقوله : ( وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ ) يقول : وثمر الجنتين الذي يجتني قريب
منهم ، لأنهم لا يتعبون بصعود نخلها وشجرها ، لاجتناء ثمرها ، ولكنهم يجتنونها من
قعود بغير عناء.
كما حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : ( وَجَنَى
الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ ) : ثمارهم دانية ، لا يردّ أيديهم عنه بعد ولا شوك. ذُكر
لنا أن نبي الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم قال : " وَالَّذي نَفسِي
بيَدِهِ ، لا يَقْطَعُ رَجُلٌ ثَمَرة مِنَ الجَنَّةِ ، فَتَصِلُ إلى فِيهِ حتى
يُبَدّلَ الله مَكانَها خَيْرا منْها " .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة( وَجَنَى
الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ ) قال : لا يردّ يده بعد ولا شوك.
حدثني عليّ ، قال : ثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ،
قوله : ( وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ ) يقول : ثمارها دانية.
وقوله : ( فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ) يقول تعالى ذكره : فبأيّ
آلاء ربكما معشر الثقلين التي أنعم عليكما - من أثاب أهل طاعته منكم هذا الثواب ،
(23/62)
فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ (56) فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (57)
وأكرمهم هذه الكرامة - تكذّبان.
القول في تأويل قوله تعالى : { فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ
إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ (56) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (57)
}
يقول تعالى ذكره في هذه الفرش التي بطائنها من إستبرق( قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ ) ،
وهنّ النساء اللاتي قد قُصِرَ طرفهنّ على أزواجهنّ ، فلا ينظرن إلى غيرهم من
الرجال.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عبيد المحاربي ، قال : ثني أبي ، عن أبي يحيى ، عن مجاهد في قوله :
( فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ ) قال : قَصُر طرفهنّ عن الرجال ، فلا ينظرن إلا
إلى أزواجهنّ.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ
الطَّرْفِ ) .... الآية ، يقول : قُصِر طرفهنّ على أزواجهنّ ، فلا يردن غيرهم.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال ، قال ابن زيد ، في قوله : ( قَاصِرَاتُ
الطَّرْفِ ) قال : لا ينظرن إلا إلى أزواجهنّ ، تقول : وعزّة ربي وجلاله وجماله ،
إن أرى في الجنة شيئا أحسن منك ، فالحمد لله الذي جعلك زوجي ، وجعلني زوجَك.
وقوله : ( لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ ) يقول : لم يمسهنّ
إنس قبل هؤلاء الذين وصف جلّ ثناؤه صفتهم ، وهم الذين قال فيهم( وَلِمَنْ خَافَ
مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ ). ولا جانّ يقال منه : ما طمث هذا البعيرَ حبلٌ قطّ :
أيِ ما
(23/63)
مَسَّهُ (1) حبل.
وكان بعض أهل العلم بكلام العرب من الكوفيين يقول : الطمث هو النكاح بالتدمية ،
ويقول : الطمث هو الدم ، ويقول : طمثها إذا دماها بالنكاح.
وإنما عنى في هذا الموضع أنه لم يجامعهنّ إنس قبلهم ولا جانّ.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : ثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ،
قوله : ( لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ ) يقول : لم يُدْمِهنّ
إنس ولا جانّ.
حدثنا ابن حُميد ، قال : ثنا مهران ، عن سفيان ، عن إسماعيل ، عن رجل عن عليّ(
لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ ) قال : منذ خلقهنّ.
حدثنا الحسين بن يزيد الطحان ، قال : ثنا أبو معاوية الضرير ، عن مغيرة بن مسلم ،
عن عكرمة ، قال : لا تقل للمرأة طامث ، فإن الطَّمْث هو الجماع ، إن الله يقول(
لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ ).
حدثنا يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال ، قال ابن زيد في قوله : ( لَمْ
يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ ) قال : لَم يَمَسَّهنّ شيء إنسٌ ولا
غيره.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ؛ وحدثني الحارث ، قال
: ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله : (
لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ ) قال : لم يَمَسَّهنّ.
حدثنا عمرو بن عبد الحميد الآملي ، قال : ثنا مروان بن معاوية ، عن عاصم ، قال :
قلت لأبي العالية امرأة طامث ، قال : ما طامث ؟ فقال رجل :
__________
(1) كذا في ( اللسان : طمث ) . وفي الأصل : مشطه ، ولعله تحريف من الناسخ .
(23/64)
كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ (58) فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (59) هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ (60) فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (61)
حائض ، فقال أبو العالية : حائض ، أليس
يقول الله عزّ وجل( لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ ).
فإن قال قائل : وهل يجامع النساء الجنّ ، فيقال : ( لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ
قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ ) ؟ فإن مجاهدا روي عنه ما حدثني به محمد بن عمارة الأسدي
، قال : ثنا سهل بن عامر ، قال : ثنا يحيى بن يَعْلَى الأسلميّ عن عثمان بن الأسود
، عن مجاهد ، قال : إذا جامع الرجل ولم يسمّ ، انطوى الجانّ على إحليله فجامع معه
، فذلك قوله : ( لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ ).
وكان بعض أهل العلم ينتزع بهذه الآية في أن الجنّ يدخلون الجنة.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني أبو حُميد أحمد بن المغيرة الحمصي ، قال : ثني أبو حَيْوة شريح بن يزيد الحضرمي
قال : ثني أرطاة بن المنذر ، قال : سألت ضَمْرة بن حبيب : هل للجنّ من ثواب ؟ قال
: نعم ، ثم نزع بهذه الآية( لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ ) ،
فالإنسيات للإنس ، والجنيات للجنّ.
وقوله : ( فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ) يقول تعالى ذكره : فبأيّ
آلاء ربكما معشر الجنّ والإنس - من هذه النعم التي أنعمها على أهل طاعته تكذّبان.
القول في تأويل قوله تعالى : { كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ (58)
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (59) هَلْ جَزَاءُ الإحْسَانِ إِلا
الإحْسَانُ (60) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (61) }
يقول تعالى ذكره : كأن هؤلاء القاصرات الطرف ، اللواتي هنّ في هاتين الجنتين في
صفائهنّ الياقوت ، الذي يرى السلك الذي فيه من ورائه ، فكذلك يرى مخّ سوقهنّ من
وراء أجسامهنّ ، وفي حسنهنّ الياقوت والمرجان.
(23/65)
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل
التأويل.
ذكر الأثر الذي روي عن رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم بذلك :
حدثني محمد بن حاتم ، قال : ثنا عبيدة ، عن حُميد ، عن عطاء بن السائب ، عن عمرو
بن ميمون ، عن ابن مسعود عن النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم قال : "
إنَّ المَرأةَ مِنْ أهْل الجَنَّة لَيُرَى بَياضُ ساقها مِنْ وَرَاء سَبْعِينَ
حُلَّةً مِنْ حرير ومُخُّها ، وذلكَ أن اللهَ تَبارَكَ وَتَعَالى يَقُولُ : (
كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ ) أمَّا الياقُوتُ فإنَّهُ لَوْ
أدْخَلْتَ فِيهِ سِلْكا ثُمَّ اسْتَصْفَيْتَهُ لرأيْتَهُ مِنْ وَرَائِه " .
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : ثنا ابن علية ، عن عطاء بن السائب ، عن عمرو بن
ميمون ، قال ، قال ابن مسعود : إن المرأة من أهل الجنة لتلبس سبعين حلة من حرير ،
يرى بياض ساقها وحسن ساقها من ورائهنّ ، ذلكم بأن الله يقول( كَأَنَّهُنَّ
الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ ) ، ألا وإنما الياقوت حجر فلو جعلت فيه سلكا ثم
استصفيته ، لنظرت إلى السلك من وراء الحجر.
قال : ثنا ابن علية ، قال : ثنا أبو رجاء ، عن الحسن ، في قوله : ( كَأَنَّهُنَّ
الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ ) ، في بياض المرجان.
حدثنا أبو هشام الرفاعي ، قال : ثنا ابن فضيل ، قال : ثنا عطاء بن السائب ، عن
عمرو بن ميمون ، قال : أخبرنا عبد الله : أن المرأة من أهل الجنة لتلبس سبعين حلة
من حرير ، فيرى بياض ساقها وحسنه ، ومخّ ساقها من وراء ذلك ، وذلك لأن الله قال(
كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ ) ، ألا ترى أن الياقوت حجر ، فإذا أدخلت
فيه سلكا ، رأيت السلك من وراء الحجر.
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا عبد الرحمن ، قال : ثنا سفيان ، عن أبي إسحاق ، عن
عمرو بن ميمون ، قال : " إن المرأة من الحور العين لتلبس سبعين حلة ، فيرى
مخّ ساقها كما يرى الشراب الأحمر في الزجاجة البيضاء " .
حدثني محمد بن عبيد المحاربيّ ، قال : ثنا المطلب بن زياد ، عن
(23/66)
السديّ ، في قوله : ( كَأَنَّهُنَّ
الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ ) قال : صفاء الياقوت وحسن المرجان.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( كَأَنَّهُنَّ
الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ ) صفاء الياقوت في بياض المرجان. ذُكر لنا أن نبيّ
الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم قال : " مَنْ دَخَلَ الجَنَّةَ فَلَهُ
فِيها زَوْجتَان يُرىَ مُخُّ سُوقِهِما مِنْ وَرَاءِ ثِيابِهِما " .
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا محمد بن مروان ، قال : ثنا أبو العوّام ، عن قتادة(
كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ ) قال : شبه بهنّ صفاء الياقوت في بياض
المرجان.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة( كَأَنَّهُنَّ
الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ ) : في صفاء الياقوت وبياض المرجان.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال ، قال ابن زيد ، في قوله : (
كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ ) قال : كأنهن الياقوت في الصفاء ،
والمرجان في البياض ، الصفاء : صفاء الياقوتة ، والبياض : بياض اللؤلؤ.
حدثنا ابن حُميد ، قال : ثنا مهران ، عن سفيان( كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ
وَالْمَرْجَانُ ) قال : في صفاء الياقوت وبياض المرجان.
وقوله : ( فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ) يقول تعالى ذكره : فبأيّ نعم
ربكما التي أنعم عليكم معشر الثقلين - من إثابته أهل طاعته منكم بما وصف في هذه
الآيات - تكذّبان.
وقوله : ( هَلْ جَزَاءُ الإحْسَانِ إِلا الإحْسَانُ ) يقول تعالى ذكره : هل ثواب
خوف مقام الله عزّ وجلّ لمن خافه ، فأحسن فى الدنيا عَمله ، وأطاع ربه ، إلا أن
يحسن إليه في الآخرة ربُّهُ ، بأن يجازيه على إحسانه ذلك في الدنيا ، ما وصف في
هذه الآيات من قوله : ( وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ ) ... إلى
(23/67)
وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ (62) فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (63) مُدْهَامَّتَانِ (64) فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (65) فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ (66) فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (67)
قوله : ( كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ
وَالْمَرْجَانُ ).
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل ، وإن اختلفت ألفاظهم بالعبارة عنه.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا محمد بن مروان ، قال : ثنا أبو العوّام ، عن قتادة(
هَلْ جَزَاءُ الإحْسَانِ إِلا الإحْسَانُ ) قال : عملوا خيرا فجوزوا خيرا.
حدثنا محمد بن عمرو ، قال : ثنا عبيدة بن بكار الأزدي ، قال : ثني محمد بن جابر ،
قال : سمعت محمد بن المنكدر يقول في قول الله جلّ ثناؤه( هَلْ جَزَاءُ الإحْسَانِ
إِلا الإحْسَانُ ) قال : هل جزاء من أنعمت عليه بالإسلام إلا الجنة.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال ، قال ابن زيد ، في قوله : ( هَلْ
جَزَاءُ الإحْسَانِ إِلا الإحْسَانُ ) قال : ألا تراه ذكرهم ومنازلهم وأزواجهم ،
والأنهار التي أعدّها لهم ، وقال : ( هَلْ جَزَاءُ الإحْسَانِ إِلا الإحْسَانُ ) :
حين أحسنوا في هذه الدنيا أحسنا إليهم ، أدخلناهم الجنة.
حدثنا ابن حُميد ، قال : ثنا مهران ، قال : ثنا سفيان ، عن سالم بن أبي حفصة ، عن
أبي يعلى ، عن محمد ابن الحنفية( هَلْ جَزَاءُ الإحْسَانِ إِلا الإحْسَانُ ) قال :
هي مسجَّلة للبرّ والفاجر.
وقوله : ( فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ) يقول : فبأيّ نعم ربكما معشر
الثقلين التي أنعم عليكم - من إثابته المحسن منكم بإحسانه - تكذّبان ؟
القول في تأويل قوله تعالى : { وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ (62) فَبِأَيِّ آلاءِ
رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (63) مُدْهَامَّتَانِ (64) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا
تُكَذِّبَانِ (65) فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ (66) فَبِأَيِّ آلاءِ
رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (67) }
(23/68)
يقول تعالى ذكره : ومن دون هاتين
الجنتين - اللتين وصف الله جلّ ثناؤه صفتهما التي ذكر أنهما لمن خاف مقام ربه -
جنتان.
ثم اختلف أهل التأويل في معنى قوله : ( وَمِنْ دُونِهِمَا ) في هذا الموضع ، فقال
: بعضهم : معنى ذلك : ومن دونهما في الدَّرَج.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن منصور الطوسيّ ، قال : ثنا إسحاق بن سليمان ، قال : ثنا عمرو بن أبي
قيس ، عن ابن أبي ليلى ، عن المنهال بن عمرو ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، في
قوله " وكان عرشه على الماء " قال : كان عرش الله على الماء ، ثم اتخذ
لنفسه جنة ، ثم اتخذ دونها جنة أخرى ، ثم أطبقهما بلؤلؤة واحدة. قال : ( وَمِنْ
دُونِهِمَا جَنَّتَانِ ) وهي التي لا تعلم ، أو قال : وهما التي لا تعلم نفس ما
أخفى لهم من قرّة أعين جزاء بما كانوا يعملون . قال : وهى التي لا تعلم الخلائق ما
فيهما ، أو ما فيها ، يأتيهم كلّ يوم منها أو منهما تحفة.
حدثنا ابن حُميد ، قال : ثنا يعقوب ، عن عنبسة ، عن سالم الأفطس ، عن سعيد بن
جُبَير بنحوه.
وقال آخرون : بل معنى ذلك : ومن دونهما في الفضل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال ، قال ابن زيد ، في قوله : ( وَمِنْ
دُونِهِمَا جَنَّتَانِ ) : هما أدنى من هاتين لأصحاب اليمين.
وقوله( فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ) يقول : فبأيّ نعم ربكما التي
أنعم عليكم - بإثابته أهل الإحسان ما وصف من هاتين الجنتين - تكذّبان ؟
وقوله : ( مُدْهَامَّتَانِ ) يقول تعالى ذكره : مسوادّتان من شدة خضرتهما.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
(23/69)
* ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : ثنا أبو صالح قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله
: ( مُدْهَامَّتَانِ ) يقول : خضراوان.
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ،
عن ابن عباس قوله : ( مُدْهَامَّتَانِ ) قال : خضراوان من الريّ ، ويقال :
ملتفتان.
حدثني موسى بن عبد الرحمن المسروقي ، قال : أخبرنا محمد بن بشر قال : ثنا إسماعيل
بن أبي خالد عن حارثة بن سليمان السلميّ ، قال : سمعت ابن الزبَير وهو يفسر هذه
الآية على المنبر ، وهو يقول : هل تدرون ما( مُدْهَامَّتَانِ ) ؟ خضراوان من
الريّ.
حدثني محمد بن عمارة هو الأسدي ، قال : ثنا عبيد الله بن موسى ، قال : أخبرنا
إسماعيل بن أبي خالد ، عن حارثة بن سليمان ، هكذا قال ، قال ابن الزُّبَير : (
مُدْهَامَّتَانِ ) خضراوان من الريّ.
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : ثنا مروان بن معاوية ، عن إسماعيل بن أبي خالد ،
عن حارثة بن سليمان ، أن ابن الزُّبَير قال : ( مُدْهَامَّتَانِ ) قال : هما
خضراوان من الريّ.
حدثنا الفضل بن الصباح ، قال : ثنا ابن فضيل ، عن عطاء ، عن سعيد بن جُبير عن ابن
عباس : ( مُدْهَامَّتَانِ ) قال : خضراوان.
حدثنا أبو كُرَيب ، قال : ثنا ابن إدريس ، عن أبيه ، عن عطية( مُدْهَامَّتَانِ )
قال : خضراوان من الرِّيّ.
حدثني محمد بن عمارة ، قال : ثنا عبيد الله بن موسى ، قال : أخبرنا إسماعيل بن أبي
خالد ، عن أبي صالح في قوله : ( مُدْهَامَّتَانِ ) ، قال : خضراوان من الريّ.
(23/70)
حدثنا ابن حُميد ، قال : ثنا يعقوب ،
عن عنبسة ، عن سالم الأفطس ، عن سعيد بن جُبير( مُدْهَامَّتَانِ ) قال : علاهما
الريّ من السواد والخضرة.
قال : ثنا حكام ، عن عمرو ، عن عطاء ، عن سعيد بن جُبير( مُدْهَامَّتَانِ ) قال :
خضراوان.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ؛ وحدثني الحارث ، قال
: ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله : (
مُدْهَامَّتَانِ ) قال : مسوادّتان.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : (
مُدْهَامَّتَانِ ) يقول : خضراوان من الريّ ناعمتان.
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، في قوله : (
مُدْهَامَّتَانِ ) قال : خضراوان من الريّ : إذا اشتدت الخضرة ضربت إلى السواد.
حدثني يعقوب ، قال : ثنا ابن علية ، عن أبي رجاء ، عن الحسن ، في قوله : ( مُدْهَامَّتَانِ
) قال : ناعمتان.
حدثنا ابن حُميد ، قال : ثنا مهران ، عن أبي سنان( مُدْهَامَّتَانِ ) قال :
مسوادتّان من الريّ.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال ، قال ابن زيد ، في قوله : ( وَلِمَنْ
خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ ) قال : جنتا السابقين ، فقرأ : ( ذَوَاتَا
أَفْنَانٍ ) ، وقرأ : ( كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ ) ، ثم رجع إلى
أصحاب اليمين ، فقال : ( وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ ) ، فذكر فضلهما وما فيهما
، قال : ( مُدْهَامَّتَانِ ) من الخضرة من شدة خضرتهما ، حتى كادتا تكونان سَوْداوين.
حدثني محمد بن سنان القزاز ، قال : ثنا الحسين بن الحسن الأشقر ، قال : ثنا أبو
كُدَينة ، عن عطاء بن السائب ، عن سعيد بن حُبَير ، عن ابن
(23/71)
عباس ، في قوله : ( مُدْهَامَّتَانِ )
قال : خضراوان.
وقوله : ( فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ) يقول : فبأيّ نِعَم ربكما
التي أنعم عليكم - بإثابته أهل الإحسان ما وصف في هاتين الجنتين - تكذّبان.
وقوله : ( فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ ) يقول تعالى ذكره : في هاتين الجنتين
اللتين من دون الجنتين اللتين هما لمن خاف مقام ربه ، عينان نضاختان ، يعني :
فوّارتان.
واختلف أهل التأويل في المعنى الذي تنضخان به ، فقال بعضهم : تنضخان بالماء.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا هناد بن السريّ ، قال : ثنا أبو الأحوص ، عن سماك ، عن عكرمة ، في قوله : (
فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ ) قال : ينضخان بالماء.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال ، قال ابن زيد ، في قوله : (
نَضَّاخَتَانِ ) قال : تنضخان بالماء.
حدثني عليّ ، قال : ثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ،
قوله( فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ ) يقول : نضاختان بالماء.
وقال آخرون : بل معنى ذلك أنهما ممتلئتان.
* ذكر من قال ذلك :
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : ثنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول
في قوله : ( عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ ) قال : ممتلئتان لا تنقطعان.
وقال آخرون : تنضخان الماء والفاكهة.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا أبو كُرَيب ، قال : ثنا يحيى بن يمان ، عن أشعث ، عن جعفر ، عن
(23/72)
سعيد ، في قوله : ( فِيهِمَا عَيْنَانِ
نَضَّاخَتَانِ ) قال : بالماء والفاكهة.
وقال آخرون : نضاختان بألوان الفاكهة.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حُميد ، قال : ثنا يعقوب القمي ، عن جعفر ، عن سعيد( فِيهِمَا عَيْنَانِ
نَضَّاخَتَانِ ) قال : نضاختان بألوان الفاكهة.
وقال آخرون : نضاختان بالخير.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي عن أبيه ، عن
ابن عباس ، قوله : ( فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ ) يقول : نضاختان بالخير.
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال : عُنِي بذلك أنهما تنضخان بالماء ، لأنه
المعروف بالعيون إذ كانت عيون ماء.
وقوله : ( فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ) يقول تعالى ذكره : فبأيّ
نِعم ربكما التي أنعم عليكم - بإثابته محسنكم هذا الثواب الجزيل - تكذّبان ؟.
(23/73)
فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ (68) فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (69) فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ (70) فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (71)
القول في تأويل قوله تعالى : {
فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ (68) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا
تُكَذِّبَانِ (69) فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ (70) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا
تُكَذِّبَانِ (71) }
يقول تعالى ذكره : وفي هاتين الجنتين المدهامتَّين فاكهة ونخل ورمَّان.
وقد اختلف في المعنى الذي من أجله أعيد ذكر النخل والرمان ؛ وقد ذكر قبل أن فيهما
الفاكهة ، فقال بعضهم : أعيد ذلك لأن النخل والرمان ليسا من الفاكهة.
(23/73)
وقال آخرون : هما من الفاكهة ؛ وقالوا
: قلنا هما من الفاكهة ، لأن العرب تجعلهما من الفاكهة ، قالوا : فإن قيل لنا :
فكيف أعيدا وقد مضى ذكرهما مع ذكر سائر الفواكه ؟ قلنا : ذلك كقوله : ( حَافِظُوا
عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى ) ، فقد أمرهم بالمحافظة على كلّ صلاة
، ثم أعاد العصر تشديدا لها ، كذلك أعيد النخل والرمَّان ترغيبا لأهل الجنة. وقال
: وذلك كقوله : ( أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ
وَمَنْ فِي الأرْضِ ) ، ثم قال( وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ
الْعَذَابُ ) ، وقد ذكرهم في أوّل الكلمة في قوله : ( مَنْ فِي السَّمَوَاتِ
وَمَنْ فِي الأرْضِ ).
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن رجل ، عن سعيد بن جُبير
قال : " نخل الجنة جذوعها من ذهب ، وعروقها من ذهب ، وكرانيفها من زمرد ،
وسعفها كسوة لأهل الجنة ، ورطبها كالدلاء ، أشدّ بياضا من اللبن ، وألين من الزبد
، وأحلى من العسل ، ليس له عَجَم " .
قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن زيد بن أسلم ، عن وهب الذماري ، قال : "
بلغنا أن في الجنة نخلا جذوعها من ذهب ، وكرانيفها من ذهب ، وجريدها من ذهب وسعفها
، كسوة لأهل الجنة ، كأحسن حلل رآها الناس قط ، وشماريخها من ذهب ، وعراجينها من
ذهب ، وثفاريقها من ذهب ، ورطبها أمثال القلال ، أشدّ بياضا من اللبن والفضة ،
وأحلى من العسل والسكر ، وألين من الزُّبد والسَّمْن.
وقوله : ( فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ) يقول : فبأيّ نعم ربكما
تكذّبان ، يقول : فبأيّ نعم ربكما التي أنعمها عليكم - بهذه الكرامة التي أكرم بها
محسنكم - تكذّبان.
وقوله : ( فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ ) يقول تعالى ذكره : في هذه الجنان الأربع
اللواتي اثنتان منهنّ لمن يخاف مقام ربه ، والأخريان منهنّ من دونهما المدهامتان
خيرات الأخلاق ، حسان الوجوه.
(23/74)
حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ (72) فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (73) لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ (74) فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (75)
كما حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال
: ثنا سعيد ، عن قتادة( فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ ) ، يقول : في هذه الجنان
خيرات الأخلاق ، حسان الوجوه.
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، في قوله : (
خَيْرَاتٌ حِسَانٌ ) قال : خيرات في الأخلاق ، حسان في الوجوه.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال ، قال ابن زيد ، في قوله : ( فِيهِنَّ
خَيْرَاتٌ حِسَانٌ ) قال : الخيرات الحسان : الحور العين.
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا محمد بن مروان ، قال : ثنا أبو العوام ، عن قتادة(
فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ ) قال : خيرات الأخلاق ، حسان الوجوه.
حدثنا أبو هشام ، قال : ثنا وكيع ، عن سفيان ، عن جابر ، عن القاسم بن أبي بزّة ،
عن أبي عبيد ، عن مسروق ، عن عبد الله( فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ ) قال : في كل
خيمة زوجة.
حدثنا أحمد بن عبد الرحمن بن وهب ، قال : ثنا محمد بن الفرج الصّدَفيّ الدمياطي عن
عمرو بن هاشم ، عن ابن أبي كريمة ، عن هشام بن حسان ، عن الحسن ، عن أمه ، عن أمّ
سلمة قالت " قلت : يا رسول الله أخبرني عن قوله : ( فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ
حِسَانٌ ) قال : خَيْرَاتُ الأخْلاقِ ، حِسانُ الوُجُوهِ " .
قوله : ( فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ) يقول : فبأيّ نِعم ربكما التي
أنعم عليكما - بما ذكر - تكذّبان.
القول في تأويل قوله تعالى : { حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ (72) فَبِأَيِّ
آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (73) لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا
جَانٌّ (74) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (75) }
يقول تعالى ذكره مخبرا عن هؤلاء الخيرات الحسان ) حُورٌ ) يعني بقوله حور : بِيض ،
وهي جمع حوراء ، والحوراء : البيضاء.
(23/75)
وقد بيَّنا معنى الحور فيما مضى
بشواهده المغنية عن إعادتها في هذا الموضع.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا أبو هشام ، قال : ثنا عبيد الله بن موسى ، قال : أخبرنا إسرائيل ، عن أبي
يحيى القتات ، عن مجاهد( حُورٌ ) قال : بيض.
قال : ثنا أبو نعيم ، عن إسرائيل ، عن مسلم ، عن مجاهد( حُورٌ ) قال : بيض.
قال : ثنا وكيع ، قال : ثنا سفيان ، عن منصور ، عن مجاهد ، ( حُورٌ ) قال :
النساء.
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : حدثنا عبيد قال : سمعت الضحاك يقول
في قوله : ( حُورٌ مَقْصُورَاتٌ ) الحوراء : العَيْناء الحسناء.
حدثنا ابن حُميد ، قال : ثنا مهران ، عن سفيان ، الحور : سواد في بياض.
قال : ثنا جرير ، عن منصور ، عن مجاهد ، في قوله : ( حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي
الْخِيَامِ ) قال : الحور : البيض قلوبهم وأنفسهم وأبصارهم .
وأما قوله : ( مَقْصُورَاتٌ ) ، فإن أهل التأويل اختلفوا في تأويله ، فقال بعضهم :
تأويله ؛ أنهنّ قُصِرْن على أزواجهنّ ، فلا يبغين بهم بدلا ولا يرفعن أطرافهن إلى
غيرهم من الرجال.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا أبو هشام ، قال : ثنا عبيد الله ، قال : أخبرنا إسرائيل ، عن أبي يحيى
القتات ، عن مجاهد : ( مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ ) قال : قُصِر طرفهنّ وأنفسهنّ
على أزواجهنّ.
(23/76)
حدثنا أبو هشام ، قال : ثنا وكيع ، قال
: ثنا سفيان ، عن منصور ، عن مجاهد( مَقْصُورَاتٌ ) ، قال : قُصر طرفهنّ على
أزواجهنّ فلا يردن غيرهم.
حدثنا ابن حُميد ، قال : ثنا مهران ، عن سفيان ، عن منصور ، عن مجاهد ، (
مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ ) قال : قَصَرْن أنفسَهنّ وأبصارهنّ على أزواجهنّ ،
فلا يردن غيرهم.
حدثنا أبو هشام ، قال : ثنا عبيد الله وابن اليمان ، عن أبي جعفر ، عن الربيع(
مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ ) قال : قصرن طرفهنّ على أزواجهنّ.
حدثنا ابن حُميد ، قال : ثنا حكام ، عن عمرو ، عن منصور ، عن مجاهد( مَقْصُورَاتٌ
فِي الْخِيَامِ ) قال : قصرن أنفسهنّ وقلوبهن وأبصارهنّ على أزواجهنّ ، فلا يردن
غيرهم.
حدثنا أبو كُرَيب ، قال : ثنا يحيى بن يمان ، عن سفيان ، عن منصور ، عن مجاهد(
مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ ) قال : قصر طرفهنّ على أزواجهنّ فلا يردن غيرهم.
حدثنا ابن حُميد ، قال : ثنا جرير ، عن منصور عن مجاهد ، قوله : ( مَقْصُورَاتٌ )
قال : مقصورات على أزواجهنّ فلا يردن غيرهم.
وقال آخرون : عُنِي بذلك أنهنّ محبوسات في الحجال.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا أبو كُرَيب ، قال : ثنا ابن يمان ، عن أبي جعفر ، عن الربيع ، عن أبي
العالية( حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ ) قال : محبوسات في الخيام.
حدثنا جعفر بن محمد البزوري ، قال : ثنا عبيد الله بن موسى ، عن أبي جعفر ، عن
الربيع ، بمثله.
حدثنا أبو هشام الرفاعيّ ، قال : ثنا أبو نعيم ، عن إسرائيل ، عن مجاهد ، عن ابن
عباس( مَقْصُورَاتٌ ) قال : محبوسات.
(23/77)
حدثنا أبو كُرَيب ، قال : ثنا ابن يمان
، قال : أخبرنا أبو معشر السندي ، عن محمد بن كعب ، قال : محبوسات في الحِجال.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ؛ وحدثني الحارث ، قال
: ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله : (
مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ ) قال : لا يبرحن الخيام.
حدثني عبيد بن إسماعيل الهباري ، قال : ثنا عثام بن عليّ ، عن إسماعيل ، عن أبي
صالح ، في قوله : ( حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ ) قال : عَذارى الجنة.
حدثنا أبو كُرَيب وأبو هشام قالا ثنا عثام بن عليّ ، عن إسماعيل ، عن أبي صالح ،
مثله.
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك
يقول في قوله : ( مَقْصُورَاتٌ ) قال : المحبوسات في الخيام لا يخرجن منها.
حدثني يعقوب ، قال : ثنا ابن علية ، عن أبي رجاء ، عن الحسن ، في قوله : (
مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ ) قال : محبوسات ، ليس بطوّافات في الطرق.
والصواب من القول في ذلك عندنا أن يقال : إن الله تبارك وتعالى وصفهنّ بأنهن
مقصورات في الخيام ، والقصر : هو الحبس. ولم يخصص وصفهنّ بأنهنّ محبوسات على معنى
من المعنيين اللذين ذكرنا دون الآخر ، بل عمّ وصفهنّ بذلك. والصواب أن يعمّ الخبر
عنهنّ بأنهنّ مقصورات في الخيام على أزواجهنّ ، فلا يردن غيرهم ، كما عمّ ذلك.
وقوله : ( فِي الخِيام ) يعني بالخيام : البيوت ، وقد تسمي العرب هوادج النساء
خياما ؛ ومنه قول لبيد :
(23/78)
شاقَتْكَ ظُعْنُ الحَي يَوْم
تَحَمَّلُوا فَتَكَنَّسُوا قُطُنا تَصِرُّ خِيامُها (1)
وأما في هذه الآية فإنه عُنِيَ بها البيوت.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن المثنى ، قال : ثنا يحيى ، عن سعيد ، قال : ثنا شعبة ، قال : ثنا عبد
الملك بن ميسرة ، عن أبي الأحوص ، عن عبد الله( حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ
) قال : الدر المجوّف.
حدثنا الحسن بن عرفة ، قال : ثنا شبابة ، قال : ثنا شعبة ، عن عبد الملك عن أبي
الأحوص ، عن عبد الله ، مثله.
حدثني يحيى بن طلحة اليربوعيّ ، قال : ثنا فضيل بن عياش ، عن هشام ، عن محمد ، عن
ابن عباس في قوله : ( حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ ) قال : الخيمة لؤلؤة
أربعة فراسخ في أربعة فراسخ ، لها أربعة آلاف مصراع من
__________
(1) هذا البيت للبيد ، قاله أبو عبيدة في مجاز القرآن ( الورقة 174 - 1 )أنشده عند
قوله تعالى : ( حور مقصورات في الخيام ) ، قال : الحوراء : الشديدة بياض العين ،
الشديدة سواد العين . مقصورات : أي خدرت في الخيام . والخيام : البيوت . والهوادج
أيضا : خيام ، قال لبيد :
شاقتك ظعن الحي يوم تحملت ... قد كنست قطنا تصر خيامها
هذه رواية أبي عبيد للبيت . وأما روايته في شرحي الزوزني والتبريزي للمعلقات ، فهي
كرواية المؤلف في " تحملوا " و " تكنست " ، ومعنى شاقتك دعتك
إلى الشوق إليها . والظعن : النساء اللواتي في الهوادج ، وأصله الظعن ، وهو جمع
ظعينة ، وهي المرأة الظاعنة مع زوجها ، ثم يقال لها وهي في بيتها : ظعينة ، وقد
تجمع على الظعائن. وتحملوا ارتحلوا بأحمالهم. وتكنسوا : دخلوا في الهوادج ، وأصله
: دخول الكناس ، والاستكان به . والقطن ؛ جمع قطين ، وهم الجماعة. والقطن أيضا :
الحشم ، والعبيد ، والعيال . والصرير : صوت الباب والرحل وغير ذلك ، يقول : حننت
إلى نساء الحي ، يوم ارتحل الحي ، ودخلوا في الكنس ، أي الهوادج ، وكانت خيامهم
تصر لجدتها ، وتعجلهم في سيرهم . ( انظر شرحي الزوزني والتبريزي على المعلقات ) .
ا هـ .
(23/79)
ذهب.
حدثنا أبو هشام ، قال : ثنا أبو نعيم ، عن إسرائيل ، عن مسلم ، عن مجاهد ، عن ابن
عباس( فِي الخِيامِ ) قال : بيوت اللؤلؤ.
حدثنا محمد بن إسماعيل الأحمسيّ ، قال : ثنا محمد بن عبيد ، قال : ثنا إدريس الأودي
، عن شمر بن عطية ، عن أبي الأحوص ، قال ، قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه :
أتدرون ما حور مقصورات في الخيام ؟ الخيام : درّ مجوّف.
قال : ثنا محمد بن عبيد ، قال : ثنا مسعر ، عن عبد الملك ، عن أبي الأحوص في قوله
: ( حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ ) قال : درّ مجوّف.
وبه عن أبي الأحوص قال : الخيمة : درّة مجوّفة ، فرسخ في فرسخ ، لها أربعة آلاف
مصراع من ذهب.
قال : ثنا أبو داود ، قال : ثنا همام ، عن قتادة ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال :
الخيمة في الجنة من درّة مجوّفة ، فرسخ في فرسخ ، لها أربعة آلاف مصراع.
حدثني أحمد بن المقدام ، قال : ثنا المعتمر ، قال : سمعت أبي يحدّث عن قتادة ، عن
خليد العصريّ قال : لقد ذكر لي أن الخيمة لؤلؤة مجوّفة ، لها سبعون مِصْراعا ، كلّ
ذلك من درّ.
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا عبد الرحمن ، قال : ثنا سفيان ، عن موسى بن أبي عائشة
، عن سعيد بن جُبير أنه قال : الخيام : درّ مجوّف.
قال : ثنا يحيى ، عن سفيان ، عن منصور ، عن مجاهد ، قال : الخيام : درّ مجوّف.
حدثنا أبو هشام الرفاعي ، قال : ثنا وكيع ويعلى عن منصور ، عن مجاهد( في الخيام )
، قال : الدرّ المجوف.
(23/80)
حدثنا ابن حُميد ، قال : ثنا مهران ،
عن سفيان ، عن منصور ، عن مجاهد( فِي الخِيامِ ) قال : خيام : درّ مجوّف.
قال : ثنا مهران ، عن سفيان ، عن منصور ، عن حرب بن بشير ، عن عمرو بن ميمون ، قال
: الخيام : الخيمة : درّة مجوّفة.
حدثنا أبو هشام ، قال : ثنا وكيع ، عن سَلَمة بن نُبَيط ، عن الضحاك ، قال :
الخيمة درّة مجوفة.
حدثنا أبو هشام ، قال : ثنا ابن اليمان ، عن أبي معشر ، عن محمد بن كعب( فِي
الخِيامِ ) : في الحجال. قال : ثنا عبيد الله وابن اليمان ، عن أبي جعفر ، عن
الربيع( فِي الخِيامِ ) قال : في الحجال.
حدثنا ابن حُميد ، قال : ثنا حكام ، عن عمرو بن أبي قيس ، عن منصور ، عن مجاهد(
فِي الخِيامِ ) قال : خيام اللؤلؤ.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ؛ وحدثني الحارث ، قال
: ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد( فِي الخِيامِ
) ، الخيام : اللؤلؤ والفضة ، كما يقال والله أعلم.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : ( حُورٌ
مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ ) ، ذُكر لنا أن ابن عباس كان يقول : الخيمة : درّة
مجوّفة ، فرسخ في فرسخ ، لها أربعة الآف باب من ذهب.
وقال : قتادة : كان يقال : مسكن المؤمن في الجنة ، يسير الراكب الجواد فيه ثلاث
ليال ، وأنهاره وجنانه وما أعدّ الله له من الكرامة.
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، قال ، قال ابن
عباس : الخيمة : درّه مجوّفة ، فرسخ في فرسخ ، لها أربعة آلاف باب من ذهب.
(23/81)
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ،
قال ، قال ابن زيد ، في قوله : ( مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ ) ، قال : يقال :
خيامهم في الجنة من لؤلؤ.
حدثني يعقوب ، قال : ثنا ابن علية ، عن أبي رجاء ، عن الحسن ، في قوله : (
مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ ) قال : الخيام : الدرّ المجوّف.
حدثنا محمد بن المثنى قال : ثني حِرْميّ بن عمارة ، قال : ثنا شعبة ، قال : أخبرني
عمارة ، عن أبي مجلز " أن رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم قال في
قول الله( حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ ) قال : درّ مُجَوَّفٌ " .
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك
يقول كان ابن مسعود يحدّث عن نبي الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم أنه قال :
" هِيَ الدُّرّ المُجَوَّفُ " يعني الخيام في قوله : ( حُورٌ
مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ ).
حدثنا ابن حُميد ، قال : ثنا جرير ، عن منصور ، عن مجاهد ، في قوله : ( حُورٌ
مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ ) قال : في خيام اللؤلؤ.
وقوله : ( فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ) يقول : فبأيّ نعم ربكما التي
أنعم عليكما - من الكرامة ، بإثابة محسنكم هذه الكرامة - تكذّبان.
وقوله : ( لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ ) يقول تعالى ذكره :
لم يمسهنّ بنكاح فيدميهن إنس قبلهم ولا جانّ.
وقرأت قرّاء الأمصار( لَمْ يَطْمِثْهُنَّ ) بكسر الميم في هذا الموضع وفي الذي
قبله. وكان الكسائيّ يكسر إحداهما. ويضمّ الأخرى.
والصواب من القراءة في ذلك ؛ ما عليه قرّاء الأمصار لأنها اللغة الفصيحة ، والكلام
المشهور من كلام العرب.
وقوله : ( فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ) يقول : فبأيّ نِعمَ ربكما
التي أنعم عليكم بها - مما وصف - تكذّبان.
(23/82)
مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ (76) فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (77) تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ (78)
القول في تأويل قوله تعالى : {
مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ (76) فَبِأَيِّ آلاءِ
رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (77) تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالإكْرَامِ
(78) }
يقول تعالى ذكره : ينعم هؤلاء الذين أكرمهم جلّ ثناؤه هذه الكرامة ، التي وصفها في
هذه الآيات ، في الجنتين اللتين وصفهما( مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ
وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ ).
واختلف أهل التأويل في معنى الرفرف ، فقال بعضهم : هي رياض الجنة ، واحدتها :
رفرفة.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا شعبة ، عن أبي بشر ، عن سعيد بن جُبير أنه قال فِي هذه
الآية( مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ ) قال : رياض الجنة.
حدثنا عباس بن محمد ، قال : ثنا أبو نوح ، قال : أخبرنا شعبة ، عن أبي بشر ، عن
سعيد بن جُبير ، مثله.
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : ثنا سعيد بن جُبير ، في قوله : ( مُتَّكِئِينَ
عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ ) قال : الرفرف : رياض الجنة.
وقال آخرون : هي المحابس.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : ثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، في
قوله : ( مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ ) يقول : المحابس.
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي. قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن
ابن عباس ، قوله : ( مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ ) : قال : الرفرف فضول
المحابس والبسط.==
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق