اللهم استجب

سبحانك وبحمدك وأستغفرك أنت الله الشافي الكافي الرحمن الرحيم الغفار الغفور القادر القدير المقتدر الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر الخالق البارئ المصور... الواحد الأحد الواجد الماجد الملك المغيث لا إله إلا أنت وحدك لا شريك لك ..لك الملك ولك الحمد وأنت علي كل شيئ قدير ولا حول ولا قوة إلا بك وأستغفرك اللهم بحق أن لك هذه الأسماء وكل الأسماء الحسني وحق إسمك الأعظم الذي تعلمه ولا أعلمه أسألك أن تَشفني شفاءا لا يُغادر سقما وأن تَكفني كل همي وتفرج كل كربي وتكشف البأساء والضراء عني وأن تتولي أمري وتغفر لي ذنبي وأن تشرح لي صدري وأن تُيسر لي أمري وأن تحلل عُقْدَةً  من لساني يفقهوا قولي وأن تغنني بفضلك عمن سواك اللهم أصلحني: حالي وبالي وأعتقني في الدارين وخُذ بيدي يا ربي وأخرجني من الظلمات الي النور بفضلك  وأن ترحم وتغفر لوالديَّ ومن مات من اخوتي وان تغفر لهم أجمعين وكل من مات علي الايمان والتوبة اللهم آمين  //اللهم تقبل/ واستجب//https://download.tvquran.com/download/selections/315/5cca02c11a61a.mp3

المصحف

 تحميل المصحف

القرآن الكريم وورد word doc icon تحميل المصحف الشريف بصيغة pdf تحميل القرآن الكريم مكتوب بصيغة وورد تحميل سورة العاديات مكتوبة pdf

Translate

بحث هذه المدونة الإلكترونية

الجمعة، 27 مايو 2022

مجلد 2. جامع البيان/ الطبري

 

مجلد 2. جامع البيان في تأويل القرآن  محمد بن جرير بن يزيد بن كثير بن غالب الآملي، أبو جعفر الطبري،
[ 224 - 310 هـ ]

يعني : وجدته ، وكما : -
2448 - حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة : " قالوا بَل نَتبع ما ألفينا عليه آباءنا " ، أي : ما وجدنا عليه آباءنا.
2449 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع مثله.
قال أبو جعفر : فمعنى الآية : وإذا قيل لهؤلاء الكفار : كلوا مما أحلّ الله لكم ، ودَعوا خُطوات الشيطان وطريقه ، واعملوا بما أنزل الله على نبيه صلى الله عليه وسلم في كتابه - استكبروا عن الإذعان للحقّ وقالوا : بل نأتم بآبائنا فنتَّبع ما وجدناهم عليه ، من تحليل ما كانوا يُحلُّون ، وتحريم ما كانوا يحرّمون.
* * *
قال الله تعالى ذكره : " أوَ لو كانَ آباؤهم " - يعني : آباء هؤلاء الكفار الذين مضوا على كفرهم بالله العظيم - " لا يعقلون شيئًا " من دين الله وفرائضه ، وأمره ونهيه ، فيُتَّبعون على ما سَلكوا من الطريق ، ويؤتمُّ بهم في أفعالهم - " ولا يَهتدون " لرشد ، فيهتدي بهم غيرهم ، ويَقتدي بهم من طَلب الدين ، وأراد الحق والصواب ؟
يقول تعالى ذكره لهؤلاء الكفار : فكيف أيها الناس تَتَّبعون ما وجدتم عليه

(3/307)


وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (171)

آباءكم فتتركون ما يأمرُكم به ربكم ، وآباؤكم لا يعقلون من أمر الله شيئًا ، ولا هم مصيبون حقًّا ، ولا مدركون رشدًا ؟ وإنما يَتّبع المتبعُ ذا المعرفة بالشيء المستعملَ له في نفسه ، فأما الجاهل فلا يتبعه - فيما هو به جاهل - إلا من لا عقل له ولا تمييز.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لا يَسْمَعُ إِلا دُعَاءً وَنِدَاءً }
قال أبو جعفر : اختلف أهل التأويل في معنى ذلك.
* * *
فقال بعضهم : معنى ذلك : مثل الكافر في قلة فهمه عن الله ما يُتلى عليه في كتابه ، وسُوء قبوله لما يدعى إليه من توحيد الله ويوعظ به مثلُ البهيمة التي تسمع الصوتَ إذا نُعق بها ، ولا تعقلُ ما يقال لها.
* ذكر من قال ذلك :
2450 - حدثنا هناد بن السريّ قال ، حدثنا أبو الأحوص ، عن سماك ، عن عكرمة ، في قوله : " ومثلُ الذين كفروا كمثل الذي ينعق بما لا يَسمع إلا دعاء ونداءً " قال ، مَثلُ البعير أو مثل الحمار ، تدعوه فيسمع الصوت ولا يفقه ما تقول.
2451 - حدثني محمد بن عبد الله بن زريع قال ، حدثنا يوسف بن خالد السمتي قال ، حدثنا نافع بن مالك ، عن عكرمة ، عن ابن عباس في قوله : " كمثل الذي يَنعق بما لا يَسمع " قال ، هو كمثل الشاة ونحو ذلك. (1) .
__________
(1) الخبر : 2451 - هذا خبر منهار الإسناد . أما " محمد بن عبد الله بن زريع " شيخ الطبري فلم أجد ترجمته . والطبري يروي عن " محمد بن عبد الله بن بزيع " ، ولا أستطيع الترجيح بأنه هو ، حرف اسم جده .
وأما " يوسف بن خالد السمتي " : فهو ضعيف جدًا ، قال فيه ابن معين : " كذاب ، زنديق ، لا يكتب حديثه " . ولا يشتغل بمثله . مترجم في التهذيب ، والكبير 4/2/388 ، وابن سعد 7/2/47 ، وابن أبي حاتم 4/2/221 - 222 . و " السمتي " : بفتح السين وسكون الميم ، نسبة إلى السمت والهيئة . قال ابن سعد : " وقيل له : السمتي - للحيته وهيئته وسمته " !!
نافع بن مالك : هو الأصبحي ، أبو سهيل ، وهو عم الإمام مالك بن أنس ، وهو تابعي ثقة . مترجم في التهذيب ، والكبير 4/2/86 ، وابن أبي حاتم 4/1/453 .

(3/308)


2452 - حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : " ومثل الذين كفروا كمثل الذي يَنعِق بما لا يَسمع إلا دعاءً ونداءً " ، كمثل البعير والحمار والشاة ، إن قلت لبعضها " كُلْ " - لا يعلم ما تقول ، غير أنه يسمع صوتك. وكذلك الكافر ، إن أمرته بخير أو نهيته عن شر أو وَعظته ، لم يعقل ما تقول غير أنه يسمع صوتك.
2453 - حدثني القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج قال ، قال ابن عباس : مثل الدابة تنادى فتسمعُ ولا تعقل ما يقال لها. كذلك الكافر ، يسمع الصوت ولا يعقل.
2454 - حدثنا سفيان بن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن خصيف ، عن مجاهد : " كمثل الذي ينعق بما لا يسمع " قال ، مثل الكافر مثل البهيمة تسمع الصوت ولا تعقل.
2455 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : " كمثل الذي ينعِق " ، مثلٌ ضربه الله للكافر يسمع ما يقال له ولا يعقل ، كمثل البهيمة تسمع النعيقَ ولا تعقل.
2456 - حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : " ومثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاءً ونداءً " ، يقول : مثل الكافر كمثل البعير والشاة ، يسمع الصوت ولا يعقل ولا يدري ما عُني به.

(3/309)


2457 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : " كمثل الذي ينعقُ بما لا يسمع إلا دعاءً ونداءً " قال ، هو مثل ضربه الله للكافر. يقول : مَثل هذا الكافر مثل هذه البهيمة التي تسمع الصوت ولا تدري ما يقال لها. فكذلك الكافر لا ينتفع بما يقال له.
2458 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع قال : هو مَثل الكافر ، يسمع الصوت ولا يعقل ما يقال له.
2459 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج قال ، قال ابن جريج : سألت عطاء ثم قلت له : يقال : لا تعقل - يعني البهيمة - إلا أنها تسمع دُعاء الداعي حين ينعِقُ بها ، فهم كذلك لا يَعقلون وهم يسمعون. فقال : كذلك. قال : وقال مجاهد : " الذي ينعِق " ، الراعي " بما لا يسمع " من البهائم.
2460 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : " كمثل الذي ينعق " الراعي " بما لا يسمع " من البهائم.
2461 - حدثني موسى قال ، حدثنا عمرو ، قال حدثنا أسباط ، عن السدي : " كمثل الذي ينعِق بما لا يَسمع إلا دُعاء ونداءً " ، لا يعقل ما يقال له إلا أن تُدعي فتأتي ، أو ينادَى بها فتذهب. وأما " الذي ينعق " ، فهو الراعي الغنم ، كما ينعق الراعي بما لا يسمع ما يقال له ، إلا أن يُدعى أو ينادى. فكذلك محمد صلى الله عليه وسلم ، يدعو من لا يسمع إلا خرير الكلام ، يقول الله : ( صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ ) [سورة البقرة : 18]
* * *
قال أبو جعفر : ومعنى قائلي هذا القول - في تأويلهم ما تأوَّلوا ، على ما حكيت عنهم - : ومثَلُ وَعْظِ الذين كفروا وواعظهم ، كمثل نَعْق الناعق بغنمه

(3/310)


ونعيقِه بها. فأضيف " المثل " إلى الذين كفروا ، وترك ذكر " الوعظ والواعظ " ، لدلالة الكلام على ذلك. كما يقال : " إذا لقيت فلانًا فعظِّمه تعظيمَ السلطان " ، يراد به : كما تعظم السلطانَ ، وكما قال الشاعر :
فَلَسْتُ مُسَلِّمًا مَا دُمْتُ حَيًّا... عَلَى زَيْدٍ بِتَسْلِيمِ الأمِير (1)
يراد به : كما يُسلِّم على الأمير.
وقد يحتمل أن يكون المعنى - على هذا التأويل الذي تأوله هؤلاء - : ومثل الذين كفروا في قلة فهمهم عن الله وعن رسوله ، كمثل المنعوق به من البهائم ، الذي لا يَفقه من الأمر والنهي غير الصوت. وذلك أنه لو قيل له : " اعتلف ، أورِدِ الماء " ، لم يدر ما يقال له غير الصوت الذي يسمعه من قائله. فكذلك الكافر ، مَثله في قلة فهمه لما يؤمر به وينهى عنه - بسوء تدبُّره إياه وقلة نظره وفكره فيه - مَثلُ هذا المنعوق به فيما أمِر به ونُهِي عنه. فيكون المعنى للمنعوق به ، والكلام خارجٌ على الناعق ، كما قال نابغة بني ذبيان :
وَقَدْ خِفْتُ ، حَتَّى مَا تَزِيدُ مَخَافَتِي... عَلَى وَعِلٍ فِي ذِي المَطَارَة عَاقِلِ (2)
والمعنى : حتى مَا تزيدُ مخافة الوعل على مخافتي ، وكما قال الآخر : (3)
__________
(1) مضى تخريج هذا البيت في هذا الجزء : 281 تعليق : 1 ، وهذا القول في تفسير الآية ذكره الفراء في معاني القرآن 1 : 100 .
(2) ديوانه : 90 ، وسيأتي في التفسير 30 : 146 (بولاق) ، ومجاز القرآن : 65 ، ومعاني القرآن للفراء 1 : 99 ، ومشكل القرآن : 151 ، والإنصاف : 164 ، وأمالي بن الشجرى 1 : 52 ، 324 ، وأمال الشريف 1 : 202 ، 216 ، ومعجم ما استعجم : 1238 . وهو من قصيدة مضى منها تخريج بيت في هذا الجزء : 213 . وقوله : " ذي المطارة " (بفتح الميم) ، وهو اسم جبل . وعاقل : قد عقل في رأس الجبل ، لجأ إليه واعتصم به وامتنع . والوعل : تيس الجبل : يتحصن بوزره من الصياد . وقد ذكر البكري أنه رأى لابن الأعرابي أنه يعني بذي المطارة (بضم الميم) ناقته ، وأنها مطارة الفؤاد من النشاط والمرح . ويعني بذلك : ما عليها من الرحل والأداة . يقول : كأني على رحل هذه الناقة وعلى عاقل من الخوف والفرق .
(3) النابغة الجعدي .

(3/311)


كَانَتْ فَرِيضَةُ مَا تَقُولُ ، كَمَا... كَانَ الزِّنَاءُ فَرِيضَةَ الرَّجْمِ (1)
والمعنى : كما كان الرجمُ فريضة الزنا ، فجعل الزنا فريضة الرجم ، لوضوح معنى الكلام عند سامعه ، وكما قال الآخر :
إنّ سِرَاجًا لَكَرِيمٌ مَفْخَرُه... تَحْلَى بِهِ العَيْنُ إذَا مَا تَجْهَرُهْ (2)
والمعنى : يَحلى بالعين ، فجعله تحلى به العين. (3) ونظائر ذلك من كلام العرب أكثرُ من أن تحصى ، مما تُوجِّهه العرب من خبر ما تخبر عنه إلى ما صاحَبَه ، لظهور معنى ذلك عند سامعه ، فتقول : " اعرِض الحوضَ على الناقة " ، وإنما تعرض الناقة على الحوض ، وما أشبه ذلك من كلامها. (4)
* * *
وقال آخرون : معنى ذلك : ومَثل الذين كفروا في دُعائهم آلهتهم وأوثانهم التي لا تسمع ولا تعقل ، كمثل الذي يَنعق بما لا يسمع إلا دُعاءً ونداءً ، وذلك الصدى الذي يسمع صوته ، ولا يفهم به عنه الناعقُ شيئًا.
فتأويل الكلام على قول قائلي ذلك : ومثل الذين كفروا وآلهتهم - في دعائهم إياها وهي لا تفقه ولا تعقل - كمثل الناعق بما لا يسمعه الناعقُ إلا دعاءً ونداءً ، أي : لا يسمع منه الناعق إلا دعاءَه.
* ذكر من قال ذلك :
__________
(1) سيأتي في التفسير 2 : 198 ، 327 (بولاق) ، ومعاني القرآن للفراء 1 : 99 ، 131 ، ومشكل القرآن : 153 ، والإنصاف : 165 ، وأمالي الشريف 1 : 216 ، والصاحبي : 172 ، وسمط اللآلي : 368 ، واللسان (زنا) . وقال الطبري في 2 : 327 ، " يعني : كما كان الرجم الواجب من حد الزنا " .
(2) سيأتي في التفسير : (2 ؛ 198 بولاق) ، ومعاني القرآن للفراء 1 : 99 ، 131 ، وأمالي الشريف 1 : 216 ، واللسان (حلا) . يقال : " ما في الحي أحد تجهره عيني " ، أي تأخذه عيني فيعجبني . وفي حديث صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول علي : " لم يكن قصيرًا ولا طويلا ، وهو إلى الطول أقرب . من رآه جهره " ، أي عظم في عينه .
(3) هذا الذي مضى أكثر من قول الفراء في معاني القرآن 1 : 99 .
(4) هذا من نص كلام أبي عبيدة في مجاز القرآن : 63 - 64 .

(3/312)


2462 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد في قوله : " ومَثل الذين كفروا كمثل الذي يَنعِق بما لا يَسمعُ إلا دعاءً ونداءً " قال ، الرجل الذي يصيح في جَوف الجبال فيجيبه فيها صوت يُراجعه يقال له " الصَّدى " . فمثل آلهة هؤلاء لَهم ، كمثل الذي يُجيبه بهذا الصوت ، لا ينفعه ، لا يَسمع إلا دعاء ونداء. قال : والعرب تسمي ذلك الصدى.
* * *
وقد تحتمل الآية على هذا التأويل وجهًا آخر غير ذلك. وهو أن يكون معناها : ومثل الذين كفروا في دعائهم آلهتهم التي لا تفقه دعاءَهم ، كمثل الناعق بغنم لهُ من حيث لا تسمعُ صوتَه غنمُه ، فلا تنتفع من نَعقِه بشيء ، غير أنه في عَناء من دعاء ونداء ، فكذلك الكافر في دعائه آلهته ، إنما هو في عناء من دعائه إياها وندائه لها ، ولا ينفعه شيء.
* * *
قال أبو جعفر : وأولى التأويل عندي بالآية ، التأويل الأول الذي قاله ابن عباس ومَن وافقه عليه. وهو أن معنى الآية : ومثل وَعظ الكافر وواعظه ، كمثل الناعق بغنمه ونَعيقه ، فإنه يسمع نَعقه ولا يعقل كلامه ، على ما قد بينا قبل.
فأما وَجه جَواز حذف " وعظ " اكتفاء بالمثل منه ، فقد أتينا على البيان عنه في قوله : ( مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا ) [سورة البقرة : 17] ، وفي غيره من نظائره من الآيات ، بما فيه الكفاية عن إعادته. (1) .
* * *
وإنما اخترنا هذا التأويل ، لأن هذه الآية نزلت في اليهود ، وإياهم عَنى الله تعالى ذكره بها ، ولم تكن اليهود أهل أوثان يَعبدونها ، ولا أهل أصنام يُعظمونها ويرجون نَفعها أو دَفع ضرها. ولا وجه - إذ كان ذلك كذلك - لتأويل من
__________
(1) انظر ما سلف 1 : 318 - 328 ، واطلب ذلك في فهرس العربية من الجزاء السالفة .

(3/313)


تأوّل ذلك أنه بمعنى : مَثل الذين كفروا في ندائهم الآلهة ودُعائهم إياها.
* * *
فإن قال قائل : وما دليلك على أنّ المقصود بهذه الآية اليهود ؟
قيل : دليلنا على ذلك مَا قبلها من الآيات وما بعدها ، فإنهم هم المعنيون به. فكان ما بينهما بأن يكون خبرًا عنهم ، أحق وأولى من أن يكون خبرًا عن غيرهم ، حتى تأتي الأدلة واضحةً بانصراف الخبر عنهم إلى غيرهم. هذا ، مع ما ذكرنا من الأخبار عَمن ذكرنا عنه أنها فيهم نزلت ، والرواية التي روينا عن ابن عباس أنّ الآية التي قبل هذه الآية نزلت فيهم. (1) وبما قُلنا من أن هذه الآية معنيّ بها
__________
(1) هذا موضع مشكل في كلام أبي جعفر رضي الله عنه ، كان ينبغي أن يبينه فضل بيان . فإن صدر عبارته قاض بأن كل الآيات التي قبل هذه الآية نزلت في يهود ، وليس كذلك . ثم عاد بعد قليل يقول : " هذا مع الرواية التي رويناها عن ابن عباس أن الآية التي قبل هذه الآية نزلت فيهم " - يعني في يهود . ولو كان الأمر كما يفهم من صدر عبارته ، لم يكن لنصه بعد ذلك على أن الآية التي " قبل هذه الآية " نزلت فيهم ، فيما روي عن ابن عباس - معنى مفهوم .
والظاهر أن أبا جعفر كان أراد أن يقول : إن الآيات السالفة نزلت في اليهود - إلا الآيات الأخيرة من أول قوله : " إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار " إلى قوله : " وإلهكم إله وحد " (163 - 170) ، فهي قد نزلت في كفار العرب ، وذكر ابن عباس أن الآية الأخيرة : (170) نزلت في يهود أيضًا . ثم إن الآيات بعدها هي ولا شك في يهود وأهل الكتاب ، فلذلك حمل معنى الآية هذه أنه مراد به اليهود . فكأنه جعل الآيات من (163 - 169) اعتراضًا في سرد قصة واحدة ، هي قصة يهود .
فإن لم يكن ذلك كذلك ، فلست أدري كيف يتسق كلامه . فهو منذ بدأ في تفسير هذه الآيات من 163 - 169 لم يذكر إلا أهل الشرك وحدهم ، وبين أن المقصود بقوله تعالى : " يا أيها الناس كلوا مما في الأرض حلالا طيبًا " - هم الذين حرموا على أنفسهم البحائر والسوائب والوصائل (ص 300) ، ثم عاد في تأويل قوله تعالى : " وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون " فقال : فهو ما كانوا يحرمون من البحائر والسوائب والوصائل والحوامي (ص 303 ) . واليهود ، كما أنهم لم يكونوا أهل أوثان يعبدونها ، أو أصنام يعظمونها كما قال أبو جعفر ، فهم أيضًا لم يحرموا بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة كما ذكر في تفسير الآيات السالفة . فهذا تناقض منه ر حمه الله - إلا إذا حمل كلامه على استثناء الآيات التي ذكرت أنه فسرها على أنه مراد بها مشركوا العرب الذين حرموا على أنفسهم ما حرموا من البحائر والسوائب والوصائل .
والصواب من القول عندي ، أن هذه الآية تابعة للآيات السالفة ، وأن قصتها شبيهة بقصة ما قبلها في ذكر المشركين الذي قال الله لهم : " يا أيها الناس كلوا مما في الأرض حلالا طيبًا " ، وأن العود إلى قصة أهل الكتاب هو من أول قوله تعالى : " إن الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب " والآيات التي تليها . وانظر ما سيأتي : 317 ، فإنه قد عاد هناك ، فجعل الآية خاصة بالمشركين من أهل الجاهلية ، بذكره ما حرموا على أنفسهم من المطاعم ، وهو تناقض شديد .

(3/314)


اليهود ، كان عطاء يقول :
2463 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج قال ، قال لي عطاء في هذه الآية : هم اليهود الذين أنزل الله فيهم : ( إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلا ) إلى قوله : ( فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ ) [سورة البقرة : 174 - 175].
* * *
وأما قوله : " يَنعِق " ، فإنه : يُصوِّت بالغنم ، " النَّعيق ، والنُّعاق " ، ومنه قول الأخطل :
فَانْعِقْ بِضَأْنِكَ يَا جَرِيرُ ، فَإِنَّمَا... مَنَّتْكَ نَفْسَكَ فِي الخَلاءِ ضَلالا (1)
يعني : صوِّت به.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ (171) }
قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بقوله : " صُمٌّ بُكمٌ عُميٌ " ، هؤلاء الكفارَ الذين مَثلهم كمثل الذي يَنعق بما لا يسمع إلا دُعاءً ونداءً " صُمٌ " عن الحق فهم لا يسمعون - " بُكمٌ " يعني : خُرسٌ عن قيل الحقّ والصواب ، والإقرار بما أمرهم الله أن يقرُّوا به ، وتبيين ما أمرهم الله تعالى ذكره أن يُبينوه من أمر محمد صلى الله عليه وسلم للناس ، فلا ينطقون به ولا يقولونه ، ولا يبينونه للناس - ، " عُميٌّ "
__________
(1) ديوانه : 50 ، ونقائض جرير والأخطل : 81 ، وطبقات فحول الشعراء : 429 ، ومجاز القرآن : 64 ، واللسان (نعق) وقد مضت أبيات منها في 2 : 38 : 39 ، 492 ، 496 ، وهذا الجزء 3 : 294 ، وقد ذكر قبله حروب رهطه بني تغلب ، ثم قال لجرير : إنما أنت راعي غنم ، فصوت بغنمك ، ودع الحروب وذكرها . فلا علم لك ولا لأسلافك بها . وكل ما تحدث به نفسك من ذلك ضلال وباطل .

(3/315)


يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (172)

عن الهدى وطريق الحق فلا يبصرونه ، (1) . كما : -
2464 - حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا يزيد ، عن سعيد ، عن قتادة قوله : " صُمٌ بكم عمي " ، يقول : صم عن الحق فلا يسمعونه ، ولا ينتفعون به ولا يعقلونه ؛ عُمي عن الحق والهدى فلا يبصرونه ؛ بُكم عن الحقّ فلا ينطقون به.
2465 - حدثني موسى بن هارون قال ، حدثنا عمرو بن حماد قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : " صم بكم عمي " يقول : عن الحق.
2466 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو صالح قال ، حدثني معاوية ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : " صم بكم عمي " ، يقول : لا يسمعون الهدى ولا يبصرونه ولا يعقلونه.
* * *
وأما الرفع في قوله : " صم بكم عمي " ، فإنه أتاهُ من قبل الابتداء والاستئناف ، يدل على ذلك قوله : " فهم لا يعقلون " ، كما يقال في الكلام : " هو أصم لا يسمع ، وهو أبكم لا يتكلم " . (2)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (172) }
قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بقوله : " يا أيها الذين آمنوا " ، يا أيها الذين صدَّقوا الله ورسوله ، وأقروا لله بالعبودية ، وأذعنوا له بالطاعة ، كما : -
2467 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا أبو زهير ، عن
__________
(1) انظر تفسير : " صم " " بكم " " عمي " فيما سلف 1 : 328 - 331 . وقد حمل أبو جعفر معنى الآية هنا على أنه عنى به اليهود وأهل الكتاب . وانظر التعليق السالف ص : 314 ، رقم : 1 .
(2) انظر إعرابه في الآية الأخرى فيما سلف 1 : 329 - 330 .

(3/316)


إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (173)

جويبر ، عن الضحاك في قوله : " يا أيها الذين آمنوا " ، يقول : صدَّقوا.
* * *
" كلوا من طيبات ما رَزَقناكم " ، يعني : اطعَموا من حَلال الرزق الذي أحللناهُ لكم ، فطاب لكم بتحليلي إياه لكم ، مما كنتم تحرِّمونَ أنتم ، ولم أكن حرمته عليكم ، من المطاعم والمشارب. " واشكروا لله " ، يقول : وأثنوا على الله بما هو أهله منكم ، على النعم التي رزقكم وَطيَّبها لكم. " إن كنتم إياه تعبدون " ، يقول : إن كنتم منقادين لأمره سامعين مطيعين ، فكلوا مما أباح لكم أكله وحلله وطيَّبه لكم ، ودعوا في تحريمه خطوات الشيطان.
وقد ذكرنا بعض ما كانوا في جاهليتهم يحرِّمونه من المطاعم ، وهو الذي ندبهم إلى أكله ونهاهم عن اعتقاد تحريمه ، إذْ كان تحريمهم إياه في الجاهلية طاعةً منهم للشيطان ، واتباعًا لأهل الكفر منهم بالله من الآباء والأسلاف. ثم بيّن لهم تعالى ذكره ما حرَّم عليهم ، وفصَّله لهم مُفسَّرًا. (1)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ }
قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بذلك : لا تُحرموا على أنفسكم ما لم أحرمه عليكم أيها المؤمنون بالله وبرسوله منَ البحائر والسوائب ونحو ذلك ، بَل كلوا ذلك ، فإني لم أحرم عليكم غير الميتة والدم ولحم الخنزير ، ومَا أهلّ به لغيري.
* * *
ومعنى قوله : " إنما حَرَّم عليكم الميتة " ، ما حرَّم عليكم إلا الميتة.
__________
(1) في المطبوعة : " وفصل لهم " ، والصواب ما أثبت . وهذا الذي قاله هنا برهان آخر على أن أبا جعفر قد اضطرب في قصة هذه الآيات ، فهو قد عاد وجعل بعض الآيات السالفة ، في مشركي العرب في جاهليتهم ، كما ترى ، وهو بين أيضًا في تفسيرة الآية التالية . انظر ص : 314 ، تعليق : 1 .

(3/317)


" وإنما " : حرف واحدٌ ، ولذلك نصبت " الميتة والدم " ، وغير جائز في " الميتة " إذا جعلت " إنما " حرفًا واحدًا - إلا النصب. ولو كانت " إنما " حرفين ، وكانت منفصلة من " إنّ " ، لكانت " الميتة " مرفوعة وما بعدها. وكان تأويل الكلام حينئذ : إنّ الذي حرم الله عليكم من المطاعم الميتةُ والدمُ ولحمُ الخنزير ، لا غير ذلك. (1)
وقد ذُكر عن بعض القراء أنه قرأ ذلك كذلك ، على هذا التأويل. ولست للقراءة به مستجيزًا وإن كان له في التأويل والعربية وَجه مفهومٌ - لاتفاق الحجة من القراء على خلافه. فغيرُ جائز لأحد الاعتراض عليهم فيما نقلوه مجمعين عليه.
* * *
ولو قرئ في " حرّم " بضم الحاء من " حرّم " ، لكان في " الميتة " وجهان من الرفع. أحدهما : من أن الفاعل غير مسمى ، " وإنما " حرفٌ واحد.
والآخر : " إن " و " ما " في معنى حرفين ، و " حرِّم " من صلة " ما " ، " والميتة " خبر " الذي " مرفوع على الخبر. ولست ، وإن كان لذلك أيضًا وجه ، مستجيزًا للقراءة به ، لما ذكرت.
* * *
وأما " الميتة " ، فإن القرأةَ مختلفة في قراءتها. فقرأها بعضهم بالتخفيف ، ومعناه فيها التشديد ، ولكنه يُخففها كما يخفف القائلون في : " هو هيّن ليّن " " الهيْن الليْن " ، (2) كما قال الشاعر : (3)
لَيْسَ مَنْ مَاتَ فَاسْتَرَاحَ بِمَيْتٍ... إِنَّمَا المَيْتُ مَيِّتُ الأحْيَاءِ (4)
__________
(1) انظر تفصيل هذا في معاني القرآن للفراء 1 : 102 - 103 .
(2) في المطبوعة : " القائلون وهو هين لين . . . " ، وكأن الصواب ما أثبت .
(3) هو عدي بن الرعلاء الغساني ، والرعلاء أمه .
(4) الأصمعيات : 5 ، ومعجم الشعراء : 252 ، وتهذيب الألفاظ : 448 ، واللسان (موت) وحماسة ابن الشجرى : 51 ، والخزانة 4 : 187 ، وشرح شواهد المغني : 138 . من أبيات جيدة صادقة ، يقول بعده : إِنَّمَا المَيْتُ مَنْ يَعِيشُ ذَلِيلاً ... كَاسِفًا بَالُهُ قَلِيلَ الرّجَاءِ
فَأُنَاسٌ يُمَصَّصُونَ ثِمَادًا ... وَأُنَاسٌ حُلُوقُهُمْ فِي المَاء
الثماد الماء القليل يبقى في الحفر . وما أصدق ما قال هذا الأبي الحر .

(3/318)


فجمع بين اللغتين في بيت واحد ، في معنى واحد.
وقرأها بعضهم بالتشديد ، وحملوها على الأصل ، وقالوا : إنما هو " مَيْوِت " ، " فيعل " ، من الموت. ولكن " الياء " الساكنة و " الواو " المتحركة لما اجتمعتا ، " والياء " مع سكونها متقدمة ، قلبت " الواو " " ياء " وشددت ، فصارتا " ياء " مشددة ، كما فعلوا ذلك في " سيد وجيد " . قالوا : ومن خففها ، فإنما طلب الخفة. والقراءةُ بها على أصلها الذي هو أصلها أولى.
* * *
قال أبو جعفر : والصواب من القول في ذلك عندي أن التخفيف والتشديد في " ياء " " الميتة " لغتان معروفتان في القراءة وفي كلام العرب ، فبأيهما قرأ ذلك القارئ فمصيب. لأنه لا اختلاف في معنييهما.
* * *
وأما قوله : " وَمَا أهِلَّ به لغير الله " ، فإنه يعني به : وما ذُبح للآلهة والأوثان يُسمى عليه بغير اسمه ، أو قُصد به غيرُه من الأصنام.
وإنما قيل : " وما أهِلَّ به " ، لأنهم كانوا إذا أرادوا ذبح ما قرَّبوه لآلهتهم ، سموا اسم آلهتهم التي قربوا ذلك لها ، وجَهروا بذلك أصْواتَهم ، فجرى ذلك من أمرهم على ذلك ، حتى قيل لكل ذابح ، سمَّى أو لم يُسمِّ ، (1) جهر بالتسمية أو لم يجهر - : " مُهِلٌّ " . فرفعهم أصواتهم بذلك هو " الإهلال " الذي ذكره الله تعالى فقال : " وما أهِلَّ به لغير الله " . ومن ذلك قيل للملبِّي في حَجة أو عمرة " مُهِلّ " ، لرفعه صوته بالتلبية. ومنه " استهلال " الصبي ، إذا صاح عند سقوطه من بَطن أمه ، " واستهلال " المطر ، وهو صوت وُقوعه على الأرض ، كما قال عمرو بن قميئة :
__________
(1) في المطبوعة : " يسمي بذلك أو لم يسم " ، والصواب ما أثبت ، فعل ماض كالذي يليه .

(3/319)


ظَلَمَ البِطَاحَ لَهُ انْهِلالُ حَرِيصَةٍ... فَصَفَا النِّطَافُ لَهُ بُعَيْدَ المُقْلَعِ (1)
واختلف أهل التأويل في ذلك. فقال بعضهم : يعني بقوله : " وما أهِلَّ به لغير الله " ، ما ذبح لغير الله.
* ذكر من قال ذلك :
2468 - حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة : " وما أهِلّ به لغير الله " قال ، ما ذبح لغير الله.
2469 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : " وما أهلّ به لغير الله " قال ، ما ذبح لغير الله مما لم يُسم عليه.
2470 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : " وما أهلّ به لغير الله " ، ما ذبح لغير الله.
2471 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج قال ، قال ابن جريج ، قال ابن عباس في قوله : " وما أهِلّ به لغير الله " قال ، ما أهِلّ به للطواغيت.
2472 - حدثنا سفيان بن وكيع قال ، حدثنا أبو خالد الأحمر ، عن جويبر ، عن الضحاك قال : " وما أُهلّ به لغير الله " قال ، ما أهل به للطواغيت.
2473 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس : " وما أهِلّ به لغير الله " ، يعني : ما أهِل للطواغيت كلّها. يعني : ما ذبح لغير الله من أهل الكفر ، غير اليهود والنصارى.
2474 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا جرير ، عن عطاء في قول الله : " وما أهِلّ به لغير الله " قال ، هو ما ذبح لغير الله.
* * *
__________
(1) سلف تخريج هذا البيت في 1 : 523 - 524 ، وأن صواب نسبته إلى الحادرة الذبياني .

(3/320)


وقال آخرون : معنى ذلك : ما ذكر عليه غير اسم الله.
* ذكر من قال ذلك :
2475 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع قوله : " وما أهلّ به لغير الله " ، يقول : ما ذكر عليه غير اسم الله.
2476 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد - وسألته عن قوله الله : " وما أهلّ به لغير الله " - قال : ما يذبح لآلهتهم ، الأنصابُ التي يعبدونها أو يسمُّون أسماءَها عليها. قال : يقولون : " باسم فلان " ، كما تقول أنت : " باسم الله " قال ، فذلك قوله : " وما أهلّ به لغير الله " .
2477 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، حدثنا حيوة ، عن عقبة بن مسلم التُّجيبي وقيس بن رافع الأشجعي أنهما قالا أحِل لنا ما ذُبح لعيد الكنائس ، وما أهدي لها من خبز أو لحم ، فإنما هو طعام أهل الكتاب. قال حيوة ، قلت : أرأيت قَول الله : " وما أهِلّ به لغير الله " ؟ قال : إنما ذلك المجوسُ وأهلُ الأوثان والمشركون.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ }
قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بقوله : " فمن اضطر " ، فمن حَلَّت به ضَرورة مجاعة إلى ما حرَّمت عليكم من الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل به لغير الله - وهو بالصفة التي وصفنا - فلا إثم عليه في أكله إن أكله.
* * *

(3/321)


وقوله : فمن " اضطر " " افتعل " من " الضّرورة " .
* * *
و " غيرَ بَاغ " نُصِب على الحال مِنْ " مَنْ " ، فكأنه. قيل : فمن اضطرّ لا باغيًا ولا عاديًا فأكله ، فهو له حلال.
* * *
وقد قيل : إن معنى قوله : " فمن اضطر " ، فمن أكره على أكله فأكله ، فلا إثم عليه.
* ذكر من قال ذلك :
2478 - حدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي قال ، حدثنا أبو أحمد الزبيري قال ، حدثنا إسرائيل ، عن سالم الأفطس ، عن مجاهد قوله : " فمن اضطر غيرَ باغ ولا عاد " قال : الرجل يأخذُه العدو فيدعونه إلى معصية الله.
* * *
وأما قوله : " غيرَ بَاغ ولا عَاد " ، فإن أهل التأويل في تأويله مختلفون.
فقال بعضهم : يعني بقوله : " غير باغ " ، غيرَ خارج على الأئمة بسيفه باغيًا عليهم بغير جَور ، ولا عاديًا عليهم بحرب وعدوان ، فمفسدٌ عليهم السبيلَ.
* ذكر من قال ذلك :
2479 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا ابن إدريس قال ، سمعت ليثًا ، عن مجاهد : " فمن اضطر غيرَ بَاغٍ ولا عاد " قال ، غيرَ قاطع سبيل ، ولا مفارق جماعة ، ولا خارج في معصية الله ، فله الرخصة.
2480 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : " فمن اضطر غيرَ باغ ولا عاد " ، يقول : لا قاطعًا للسبيل ، ولا مفارقًا للأئمة ، ولا خارجًا في معصية الله ، فله الرخصة. ومن خرج بَاغيًا أو عاديًا في معصية الله ، فلا رخصة له وإن اضطُرَّ إليه.
2481 - حدثنا هناد بن السري قال ، حدثنا شريك ، عن سالم ، عن سعيد : " غير باغ ولا عاد " قال ، هو الذي يقطع الطريق ، فليس له رخصة

(3/322)


إذا جاع أن يأكل الميتة ، وإذا عطش أن يشربَ الخمر.
2482 - حدثني المثنى قال ، حدثنا سويد بن نصر قال : أخبرنا ابن المبارك ، عن شريك ، عن سالم - يعني الأفطس - عن سعيد في قوله : " فمن اضطُر غير باغ ولا عاد " قال ، الباغي العادي الذي يقطع الطريق ، فلا رخصة له ولا كرامة.
2483 - حدثني المثنى قال ، حدثنا الحماني قال ، حدثنا شريك ، عن سالم ، عن سعيد في قوله : " فمن اضطُر غير باغ ولا عاد " قال ، إذا خرج في سبيل من سُبُل الله فاضطر إلى شرب الخمر شرب ، وإن اضطر إلى الميتة أكل. وإذا خرج يقطع الطريق ، فلا رخصة له.
2484 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حفص بن غياث ، عن الحجاج ، عن القاسم بن أبي بزة ، عن مجاهد قال : " غيرَ باغ " على الأئمة ، " ولا عاد " قال ، قاطع السبيل.
2485 - حدثنا هناد قال ، حدثنا ابن أبي زائدة ، عن ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : " فمن اضطر غير باغ ولا عاد " قال ، غير قاطع السبيل ، ولا مفارق الأئمة ، ولا خارج في معصية الله فله الرخصة.
2486 - حدثنا هناد قال ، حدثنا أبو معاوية ، عن حجاج ، عن الحكم ، عن مجاهد : " فمن اضطُر غير بَاغ ولا عاد " قال ، غير باغ على الأئمة ، ولا عاد على ابن السبيل.
* * *
وقال آخرون في تأويل قوله : " غيرَ باغ ولا عاد " : غيرَ باغ الحرامَ في أكله ، ولا معتدٍ الذي أبيحَ له منه.
* ذكر من قال ذلك.
2487 - حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا يزيد بن زريع ، عن سعيد ،

(3/323)


عن قتادة قوله : " فمن اضطُرَّ غير باغ ولا عاد " قال ، غير باغ في أكله ، ولا عادٍ : أن يتعدى حلالا إلى حرام ، وهو يجد عنه مَندوحة.
2488 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر ، عن الحسن في قوله : " فمن اضطر غيرَ باغ ولا عاد " قال ، غير باغ فيها ولا معتدٍ فيها بأكلها ، وهو غنيٌّ عنها.
2489 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الرزاق ، عن معمر ، عمن سمع الحسن يقول ذلك.
2490 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال حدثنا أبو تميلة ، (1) عن أبي حمزة ، عن جابر ، عن مجاهد وعكرمة قوله : " فمن اضطر غير باغ ولا عاد " ، " غير باغ " يَبتغيه ، " ولا عادٍ " : يتعدى على ما يُمسك نفسه.
2491 - حدثت عن عمار بن الحسن قال ، حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : " فمن اضطر غير باغ ولا عاد " ، يقول : من غير أن يبتغي حرامًا ويتعداه ، ألا ترى أنه يقول : ( فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ ) [سورة المؤمنون : 7\ سورة المعارج : 31]
2492 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد في قوله : " فمن اضطُرّ غير باغٍ ولا عادٍ " قال ، أن يأكل ذلك بَغيًا وتعديًا عن الحلال إلى الحرام ، ويترك الحلال وهو عنده ، ويتعدى بأكل هذا الحرام. هذا التعدي. ينكر أن يكونا مختلفين ، ويقول : هذا وهذا واحد!
* * *
وقال آخرون تأويل ذلك : فمن اضطر غير باغ في أكله شهوة ، ولا عاد فوق ما لا بُدَّ له منه.
* ذكر من قال ذلك :
2493 - حدثني موسى بن هارون قال ، حدثنا عمرو بن حماد قال ، حدثنا
__________
(1) في المطبوعة : " أبو نميلة " ، والصواب بالتاء . مضت ترجمته برقم : 392 ، 461 .

(3/324)


أسباط ، عن السدي : " فمن اضطر غير باغ ولا عاد " . أمَّا " باغ " ، فيبغي فيه شهوته. وأما " العادي " ، فيتعدى في أكله ، يأكل حتى يشبع ، ولكن يأكل منه قدر ما يُمسك به نفسه حتى يبلغ به حاجته.
* * *
قال أبو جعفر : وأولى هذه الأقوال بتأويل الآية قول من قال : فمن اضطر غير باغ بأكله ما حُرم عليه من أكله ، ولا عاد في أكله ، وله عن ترك أكله - بوجود غيره مما أحله الله له - مندوحة وغنى.
وذلك أن الله تعالى ذكره لم يرخّصْ لأحد في قتل نفسه بحال. وإذ كان ذلك كذلك ، فلا شك أن الخارجَ على الإمام والقاطعَ الطريقَ ، وإن كانا قد أتيا ما حرَّم الله عليهما : من خروج هذا على من خرج عليه ، وسَعي هذا بالإفساد في الأرض ، فغيرُ مبيح لهما فعلهما ما فعلا مما حرّم الله عليهما - ما كان حرّم الله عليهما قبل إتيانهما ما أتيا من ذلك - من قتل أنفسهما. [ورَدُّهما إلى محارم الله عليهما بعد فعلهما ، ما فعلا وإن كان قد حرم عليهما ما كان مرخصا لهما قبل ذلك من فعلهما ، وإن لم نرَ رَدَّهما إلى محارم الله عليهما تحريما ، (1) فغير مرخِّص لهما ما كان عليهما قبل ذلك حرامًا]. فإذ كان ذلك كذلك ، فالواجبُ على قُطاع الطريق والبغاة على الأئمة العادلة ، الأوبةُ إلى طاعة الله ، والرجوعُ إلى ما ألزمهما الله الرجوع إليه ، والتوبةُ من معاصي الله - لا قتلُ أنفسهما بالمجاعة ، فيزدادان إلى إثمهما إثمًا ، وإلى خلافهما أمرَ الله خلافًا. (2)
__________
(1) في المطبوعة : " وإن لم يؤدهما إلى محارم الله عليهما تحريمًا " . وهو تصحيف مفسد قد آذى من أراد أن يفهم عن الطبري ما يقول . و " المحارم " : كل ما حرم الله سبحانه علينا فهو من محارم الله . وانظر التعليق التالي .
(2) هذه الفقرة رد على القول الأول ، قول من ذهب إلى أن " الباغي " هو الخارج على الأئمة ، وأن " العادي " هو قاطع الطريق ، وأنهما لفعلهما ذلك مستثنيان من حكم الآية في الترخيص للمضطر أن يأكل مما حرم الله عليه . ولكن العبارة في الأصل فاسدة ، لا يكاد يكون لها معنى . ولم أستجز أن أدعها في الأصل على ما هي عليه . وهكذا كانت في الأصل :
[بل ذلك من فعلهما ، وإن لم يؤدهما إلى محارم الله عليهما تحريمًا ، فغير مرخص لهما ما كان عليهما قبل ذلك حراما] .
وهو كلام لا يستقيم ، وقد اجتهدت فرأيت أنه سقط من ناسخ كلامه سطر كامل فيما أرجح ، بين قوله : " من قتل أنفسهما " وقوله : " قبل ذلك من فعلهما " فبقيت " قبل " وحدها ، فجاء ناسخ آخر فلم يستبن معنى ما يكتب ، فجعل " قبل " " بل " ، ظنًا منه أن ذلك يقيم المعنى على وجه من الوجوه . فاضطرب الكلام كما ترى اضطرابًا لا يخلص إلى شيء مفهوم . وزاده فسادًا واضطرابًا تصحيف قوله : " وإن لم نر ردهما " بما كتب : " وإن لم يؤدهما " ، فخلص إلى كلام ضرب عليه التخليط ضربًا!
وقد ساق الطبري في هذه الفقرة حجتين لرد قول من قال إن الباغي هو الخارج على الإمام ، وإن العادي هو قاطع السبيل .
فالحجة الأولى : أن الباغي والعادي ، وإن كان كلاهما قد أتى فعلا محرمًا ، فإن إتيان هذا الفعل المحرم ، لا يجعل قتل أنفسهما مباحًا لهما ، إذ هو محرم عليهما قبل إتيانهما ما أتيا من محارم الله عليهما .
والحجة الأخرى : أن الله قد رخص لكل مضطر أن يأكل مما حرم عليه ، فاستثناء الباغي والعادي من رخصة الله للمضطر . لا يعد عنده تحريمًا ، بل هو رد إلى ما كان محرمًا عليهما قبل البغي أو العدوان . ومع ذلك فإن هذا الرد إلى ما كان محرمًا عليهما ، وإن كان قد حرم عليهما ما كان مرخصًا لهما ولكل مضطر قبل البغي والعدوان ، فإنه لا يرخص لهما قتل أنفسهما ، وهو حرام عليهما قبل البغي والعدوان .
وإذن ، فالواجب عليهما أن يتوبا ، لا أن يقتلا أنفسهما بالمجاعة ، فيزدادان إثمًا إلى إثمهما ، وخلافًا إلى خلافهما بالبغي والعدوان أمر الله .

(3/325)


وأما الذي وجَّه تأويل ذلك إلى أنه غيرُ باغ في أكله شهوة ، فأكل ذلك شهوة ، لا لدفع الضرورة المخوف منها الهلاك - مما قد دخل فيما حرمه الله عليه - فهو بمعنى ما قلنا في تأويله ، وإن كان للفظه مخالفًا.
فأما توجيه تأويل قوله : " ولا عاد " ، و لا آكل منه شبعه ، ولكن ما يمسك به نفسه ، فإن ذلك ، بعض معاني الاعتداء في أكله. ولم يخصص الله من معاني الاعتداء في أكله معنى ، فيقال عنى به بعض معانيه.
فإذ كان ذلك كذلك ، فالصواب من القول ما قلنا : من أنه الاعتداء في كل معانيه المحرّمة.
* * *
وأما تأويل قوله : " فلا إثم عليه " ، يقول : من أكل ذلك على الصفة التي وصفنا ، فلا تبعة عليه في أكله ذلك كذلك ولا حَرج.
* * *

(3/326)


القول في تأويل قوله تعالى : { إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (173) }
قال أبو جعفر : يعني بقوله تعالى ذكره : " إنّ الله غَفور رحيم " ، " إنّ الله غَفورٌ " إن أطعتم الله في إسلامكم ، فاجتنبتم أكل ما حرم عليكم ، وتركتم اتباعَ الشيطان فيما كنتم تحرمونه في جاهليتكم - طاعةً منكم للشيطان واقتفاءً منكم خُطواته - مما لم أحرمه عليكم لما سلف منكم ، في كفركم وقبل إسلامكم ، في ذلك من خطأ وذنب ومعصية ، فصافحٌ عنكم ، وتارك عقوبتكم عليه ، " رحيم " بكم إن أطعتموه.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلا }
قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بقوله : " إنّ الذينَ يَكتمون ما أنزل الله من الكتاب " ، أحبارَ اليهود الذين كتموا الناس أمرَ محمد صلى الله عليه وسلم ونبوّته ، وهم يجدونه مكتوبًا عندهم في التوراة ، برُشًى كانوا أُعطوها على ذلك ، كما : -
2494 - حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا يزيد بن زريع قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : " إنّ الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب " الآية كلها ، هم أهل الكتاب ، كتموا ما أنزل الله عليهم وبَين لهم من الحق والهدى ، من بعث محمد صلى الله عليه وسلم وأمره.
2495 - حدثنا المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع في قوله : (إنّ الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب ويَشترون

(3/327)


به ثمنًا قليلا) قال : هم أهل الكتاب ، كتموا ما أنزل الله عليهم من الحق والإسلامَ وشأنَ محمد صلى الله عليه وسلم.
2496 - حدثني موسى بن هارون قال ، حدثنا عمرو قال حدثنا أسباط ، عن السدي : " إن الذين يكتمون مَا أنزل الله منَ الكتاب " ، فهؤلاء اليهود ، كتموا اسم محمد صلى الله عليه وسلم.
2497 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن عكرمة قوله : " إنّ الذين يكتمونَ ما أنزل الله من الكتاب " ، والتي في " آل عمران " ( إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلا ) [سورة آل عمران : 77] نزلتا جميعًا في يهود.
* * *
وأما تأويل قوله : " ويَشترون به ثمنًا قليلا " ، فإنه يعني : يبتاعون به. " والهاء " التي في " به " ، من ذكر " الكتمان " . فمعناه : ابتاعوا بكتمانهم ما كتموا الناس من أمر محمد صلى الله عليه وسلم وأمر نبوَّته ثمنًا قليلا. وذلك أنّ الذي كانوا يُعطَوْن على تحريفهم كتابَ الله وتأويلهِمُوه على غير وجهه ، وكتمانهم الحق في ذلك اليسيرَ من عرض الدنيا ، كما : -
2498 - حدثني موسى بن هارون قال ، حدثنا عمرو قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : " ويشترون به ثمنًا قليلا " قال ، كتموا اسم محمد صلى الله عليه وسلم ، وأخذوا عليه طمعًا قليلا فهو الثمن القليل.
* * *
وقد بينت فيما مضى صفة " اشترائهم " ذلك ، بما أغنى عن إعادته هاهنا.
* * *

(3/328)


إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (174)

القول في تأويل قوله تعالى : { أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلا النَّارَ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (174) }
قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بقوله : " أولئك " ، - هؤلاء الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب في شأن محمد صلى الله عليه وسلم بالخسيس من الرِّشوة يُعطَوْنها ، فيحرِّفون لذلك آيات الله ويغيِّرون معانيها " ما يأكلون في بطونهم " - بأكلهم ما أكلوا من الرُّشى على ذلك والجعالة ، (1) وما أخذوا عليه من الأجر " إلا النار " - يعني : إلا ما يوردهم النار ويُصْليهموها ، كما قال تعالى ذكره : ( إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا ) [سورة النساء : 10] معناه : ما يأكلون في بطونهم إلا ما يوردهم النار بأكلهم. فاستغنى بذكر " النار " وفهم السامعين معنى الكلام ، عن ذكر " ما يوردهم ، أو يدخلهم " . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال جماعة من أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
2499 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : " أولئك مَا يَأكلون في بُطونهم إلا النار " ، يقول : ما أخذوا عليه من الأجر.
* * *
فإن قال قائل : فهل يكون الأكل في غير البطن فيقال : " ما يأكلون في بطونهم " ؟
قيل : قد تقول العرب : " جُعت في غير بطني ، وشَبعتُ في غير بطني " ، فقيل : في بُطونهم لذلك ، كما يقال : " فعل فُلان هذا نفسُه " . وقد بينا ذلك في غير هذا الموضع ، فيما مضى. (2)
__________
(1) الجعل (بضم فسكون) والجعالة (مثلثة الجيم) : أجر مشروط يجعل للقائل أو الفاعل شيئًا .
(2) انظر ما سلف 2 : 272 ، وهذا الجزء 3 : 159 - 160 .

(3/329)


أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ (175)

وأما قوله : " ولا يُكلِّمهمُ الله يَومَ القيامة " ، يقول : ولا يكلمهم بما يحبون ويشتهون ، فأما بما يسُوءهم ويكرَهون ، فإنه سيكلمهم. لأنه قد أخبر تعالى ذكره أنه يقول لهم - إذا قالوا : ( رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ ) الآيتين [سورة المؤمنون : 107 - 108].
* * *
وأما قوله : " ولا يُزكِّيهم " ، فإنه يعني : ولا يطهِّرهم من دَنس ذنوبهم وكفرهم ، (1) " ولهم عذاب أليم " ، يعني : مُوجع (2)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ }
قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بقوله : " أولئك الذين اشترَوُا الضلالة بالهدى " ، أولئك الذين أخذوا الضلالة ، وتركوا الهدى ، وأخذوا ما يوجب لهم عذاب الله يوم القيامة ، وتركوا ما يُوجب لهم غفرانه ورضْوَانه. فاستغنى بذكر " العذاب " و " المغفرة " ، من ذكر السبب الذي يُوجبهما ، لفهم سامعي ذلك لمعناه والمراد منه. وقد بينا نظائر ذلك فيما مضى. (3) وكذلك بينا وجه " اشتروا الضلالة بالهدى " باختلاف المختلفين ، والدلالة الشاهدة بما اخترنا من القول ، فيما مضى قبل ، فكرهنا إعادته. (4)
* * *
__________
(1) انظر ما سلف 1 : 573 - 574 ، وهذا الجزء 3 : 88 .
(2) انظر ما سلف 1 : 283 . ثم 2 : 140 ، 377 ، 506 ، 540 .
(3) انظر ما سلف فهارس مباحث العربية .
(4) انظر ما سلف 1 : 311 - 315 .

(3/330)


القول في تأويل قوله تعالى : { فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ (175) }
قال أبو جعفر : اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك. فقال بعضهم معنى ذلك : فما أجرأهم على العمل الذي يقرِّبُهم إلى النار.
* ذكر من قال ذلك :
2500 - حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة : " فما أصْبَرهم على النار " ، يقول : فما أجرأهم على العمل الذي يقربهم إلى النار.
2501 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : " فما أصْبَرهم على النار " ، يقول : فما أجرأهم عليها.
2502 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عمرو بن عون قال ، حدثنا هشيم ، عن بشر ، عن الحسن في قوله : " فما أصْبرهم على النار " قال ، والله ما لهم عليها من صبر ، ولكن ما أجرأهم على النار.
2503 - حدثنا أحمد بن إسحاق قال ، حدثنا أبو أحمد الزبيري قال ، حدثنا مسعر وحدثني المثنى قال ، حدثنا أبو بكير قال ، حدثنا مسعر ، عن حماد ، عن مجاهد ، أو سعيد بن جبير ، أو بعض أصحابه : " فما أصبرهم على النار " ، ما أجرأهم.
2504 - حدثت عن عمار بن الحسن قال ، حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع قوله : " فما أصبرهم على النار " ، يقول : ما أجرأهم وأصبرهم على النار.
* * *
وقال آخرون : بل معنى ذلك : فما أعملهم بأعمال أهل النار.
* * *

(3/331)


* ذكر من قال ذلك :
2505 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : " فما أصْبرهم على النار " قال ، ما أعملهم بالباطل.
2506 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد مثله.
* * *
واختلفوا في تأويل " ما " التي في قوله : " فما أصبرهم على النار " . فقال بعضهم : هي بمعنى الاستفهام ، وكأنه قال : فما الذي صبَّرهم ؟ أيُّ شيء صبرهم ؟ (1)
* ذكر من قال ذلك :
2507 - حدثني موسى بن هارون قال ، حدثنا عمرو قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : " فما أصبرَهم على النار " ، هذا على وجه الاستفهام. يقول : مَا الذي أصبرهم على النار ؟
2508 - حدثني عباس بن محمد قال ، حدثنا حجاج الأعور قال ، أخبرنا ابن جريج قال ، قال لي عطاء : " فما أصبرهم على النار " قال ، ما يُصبِّرهم على النار ، حين تَركوا الحق واتبعوا الباطل ؟
2509 - حدثنا أبو كريب قال : سُئل أبو بكر بن عياش : " فما أصبرهم على النار " قال ، هذا استفهام ، ولو كانت من الصبر قال : " فما أصبرُهم " ، رفعًا. قال : يقال للرجل : " ما أصبرك " ، ما الذي فعل بك هذا ؟
2510 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد في قوله : " فما أصبرهم على النار " قال ، هذا استفهام. يقول ما هذا الذي صبَّرهم على النار حتى جَرأهم فعملوا بهذا ؟
* * *
__________
(1) وذلك قول أبي عبيدة في مجاز القرآن : 64 .

(3/332)


وقال آخرون : هو تعجُّب. يعني : فما أشد جراءتهم على النار بعَملهم أعمال أهل النار!
* ذكر من قال ذلك :
2511 - حدثنا سفيان بن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن ابن عيينة ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : " فما أصبرهم على النار " قال ، ما أعملهم بأعمال أهل النار!
وهو قول الحسن وقتادة ، وقد ذكرناه قبل. (1)
* * *
فمن قال : هو تعجُّب - وجَّه تأويلَ الكلام إلى : " أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى والعذابَ بالمغفرة " ، فما أشد جراءتهم - بفعلهم ما فعلوا من ذلك - على ما يوجب لهم النار! كما قال تعالى ذكره : ( قُتِلَ الإنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ ) [سورة عبس : 17] ، تعجبًا من كفره بالذي خَلقه وسَوَّى خلقه.
* * *
فأما الذين وجهوا تأويله إلى الاستفهام ، فمعناه : هؤلاء الذين اشتروا الضلالة بالهدى والعذاب بالمغفرة ، فما أصبرهم على النار - والنار لا صبر عليها لأحد - حتى استبدلوها بمغفرة الله فاعتاضوها منها بدلا ؟
* * *
قال أبو جعفر : وأولى هذه الأقوال بتأويل الآية قول من قال : ما أجرأهم على النار ، بمعنى : ما أجرأهم على عَذاب النار وأعملهم بأعمال أهلها. وذلك أنه مسموع من العرب : " ما أصبرَ فلانًا على الله " ، بمعنى : ما أجرأ فلانًا على الله! (2) وإنما يعجب الله خَلقه بإظهار الخبر عن القوم الذين يكتمون ما أنزل الله تبارك وتعالى من أمر محمد صلى الله عليه وسلم ونبوَّته ، واشترائهم بكتمان ذلك ثَمنًا قليلا
__________
(1) انظر ما سلف رقم : 2501 ، 2502 .
(2) انظر خبر ذلك في معاني القرآن للفراء 1 : 103 .

(3/333)


ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (176)

من السحت والرشى التي أعطوها - على وَجه التعجب من تقدمهم على ذلك. (1) مع علمهم بأنّ ذلك موجبٌ لهم سَخط الله وأليم عقابه.
وإنما معنى ذلك : فما أجرأهم علي عذاب النار! ولكن اجتزئ بذكر " النار " من ذكر " عذابها " ، كما يقال : " ما أشبه سخاءك بحاتم " ، بمعنى : ما أشبه سَخاءك بسخاء حاتم ، " وما أشبه شَجاعتك بعنترة " . (2)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (176) }
قال أبو جعفر : أما قوله : " ذلك بأن الله نزل الكتاب بالحق " ، فإنه اختلف في المعنيِّ ب " ذلك " .
* * *
فقال بعضهم : معنيُّ " ذلك " ، فعلُهم هذا الذي يفعلون من جراءتهم على عذاب النار ، في مخالفتهم أمر الله ، وكتمانهم الناسَ ما أنزل الله في كتابه ، وأمرَهم ببيانه لهم من أمر محمد صلى الله عليه وسلم وأمر دينه من أجل أن الله تبارك تعالى " نزل الكتاب بالحق " ، وتنزيله الكتاب بالحق هو خبرُه عنهم في قوله لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : ( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ * خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ) [سورة البقرة : 6 - 7] فهم - مع ما أخبر الله عنهم من أنهم لا يؤمنون - لا يكون منهم غيرُ اشتراء الضلالة بالهدى والعذاب بالمغفرة.
__________
(1) قدم ، وتقدم ، وأقدم ، واستقدم ، كلها بمعنى واحد ، إذا كان جرئيًا فاقتحم .
(2) انظر معاني القرآن للفراء 1 : 103 ، أيضًا .

(3/334)


وقال آخرون : معناه : " ذلك " معلومٌ لهم ، بأن الله نزل الكتاب بالحق ، لأنّا قد أخبرنا في الكتاب أنّ ذلك لهم ، والكتابُ حَق.
كأن قائلي هذا القول كان تأويل الآية عندهم : ذلك العذاب الذي قال الله تعالى ذكره ، فما أصبرهم عليه معلومٌ أنه لهم. لأن الله قد أخبر في مواضع من تنزيله أن النار للكافرين ، وتنزيله حق ، فالخبر عن " ذلك " عندهم مُضمر.
* * *
وقال آخرون : معنى " ذلك " ، أن الله وصف أهل النار ، فقال : " فما أصبرهم على النار " ، ثم قال : هذا العذاب بكفرهم. و " هذا " هاهنا عندهم ، هي التي يجوز مكانها " ذلك " ، (1) كأنه قال : فعلنا ذلك بأن الله نزل الكتاب بالحق فكفروا به. قال : فيكون " ذلك " - إذا كان ذلك معناه - نصبًا ، ويكون رفعًا بالباء.
* * *
قال أبو جعفر : وأولى الأقوال بتأويل الآية عندي : أن الله تعالى ذكره أشار بقوله : " ذلك " ، إلى جميع ما حواه قوله : " إنّ الذين يَكتمونَ مَا أنزلَ الله من الكتاب " ، إلى قوله : " ذلك بأن الله نزل الكتاب بالحق " ، من خبره عن أفعال أحبار اليهود ، وذكره ما أعد لهم تعالى ذكره من العقاب على ذلك ، فقال : هذا الذي فعلته هؤلاء الأحبارُ من اليهود بكتمانهم الناسَ ما كتموا من أمر محمد صلى الله عليه وسلم ونبوته مع علمهم به ، طلبًا منهم لعرَض من الدنيا خسيس - وبخلافهم أمري وطاعتي وذلك - من تركي تطهيرَهم وتزكيتهم وتكليمهم ، وإعدادي لهم العذاب الأليم - بأني أنزلت كتابي بالحق ، فكفروا به واختلفوا فيه.
فيكون في " ذلك " حينئذ وجهان من الإعراب : رفعٌ ونصب. والرفع ب " الباء " ، والنصب بمعنى : فعلت ذلك بأني أنزلت كتابي بالحق ، فكفروا به واختلفوا فيه. وترك ذكر " فكفروا به واختلفوا " ، اجتزاءً بدلالة ما ذكر من الكلام عليه.
* * *
__________
(1) انظر ما سلف 1 : 225 - 227 في بيان " ذلك " ، و " هذا " .

(3/335)


وأما قوله : " وإنّ الذينَ اختلفوا في الكتاب لفي شقاق بعيد " ، يعني بذلك اليهودَ والنصارى. اختلفوا في كتاب الله ، فكفرت اليهودُ بما قصَّ الله فيه من قَصَص عيسى ابن مريم وأمه. وصَدقت النصارى ببعض ذلك ، وكفروا ببعضه ، وكفروا جميعًا بما أنزل الله فيه من الأمر بتصديق محمد صلى الله عليه وسلم. فقال لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : إن هؤلاء الذين اختلفوا فيما أنزلت إليك يا محمد لفي منازعة ومفارقة للحق بعيدة من الرشد والصواب ، كما قال الله تعالى ذكره : ( فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ ) [سورة البقرة : 137] كما :
2512 - حدثني موسى قال ، حدثنا عمرو قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : " وإنّ الذين اختلفوا في الكتاب لفي شقاق بعيد " ، يقول : هم اليهود والنصارى. يقول : هم في عَداوة بعيدة. وقد بَينتُ معنى " الشقاق " ، فيما مضى. (1)
* * *
__________
(1) انظر ما سلف في هذا الجزء 3 : 115 ، 116 .

(3/336)


لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآَتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآَتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (177)

القول في تأويل قوله تعالى : { لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ }
قال أبو جعفر : اختلف أهل التأويل في تأويل قوله ذلك. فقال بعضهم : معنى ذلك : ليس البرَّ الصلاةُ وحدها ، ولكن البرّ الخصال التي أبينها لكم.
2513 - حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : " ليسَ البرّ أن تُولوا وُجُوهكم قِبَل

(3/336)


المشرق والمغرب " ، يعني : الصلاة. يقول : ليس البر أن تصلوا ولا تَعملوا ، فهذا منذ تحوَّل من مكة إلى المدينة ، ونزلت الفرائض ، وحدَّ الحدود. فأمر الله بالفرائض والعمل بها.
2514 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : " ليس البر أن تُولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب " ، ولكنّ البر ما ثبت في القلوب من طاعة الله.
2515 - حدثني القاسم قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد مثله.
2516 - حدثني القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن ابن عباس قال : هذه الآية نزلت بالمدينة : " ليس البر أن تُولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب " ، يعني : الصلاة. يقول : ليس البر أن تصلوا ولا تعملوا غيرَ ذلك. قال ابن جريج ، وقال مجاهد : " ليس البرّ أن تُولوا وجوهكم قبَل المشرق والمغرب " ، يعني السجود ، ولكن البر ما ثبت في القلب من طاعة الله.
2517 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثنا أبو تميلة ، (1) عن عبيد بن سليمان ، عن الضحاك بن مزاحم ، أنه قال فيها ، قال يقول : ليس البر أن تصلوا ولا تعملوا غير ذلك. وهذا حين تحوّل من مكة إلى المدينة ، فأنزل الله الفرائض وحدَّ الحدود بالمدينة ، وأمر بالفرائض أن يؤخذ بها.
* * *
وقال آخرون : عنى الله بذلك اليهود والنصارى. وذلك أن اليهود تصلي فتوجِّه قبل المغرب ، والنصارى تصلي فتوَجَّه قبل المشرق ، فأنزل الله فيهم هذه الآية ، يخبرهم فيها أن البرّ غير العمل الذي يعملونه ، ولكنه ما بيناه في هذه الآية
* ذكر من قال ذلك :
__________
(1) في المطبوعة : " أبو نميلة " بالنون ، والصواب ما أثبت . وانظر الأثر رقم : 2490 والتعليق عليه .

(3/337)


2518 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر ، عن قتادة قال : كانت اليهود تصلي قبَل المغرب والنصارى تصلي قبل المشرق ، فنزلت : " ليس البر أن تولوا وُجُوهكم قبل المشرق والمغرب " .
2519 - حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا يزيد بن زريع قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : " ليس البر أن تُولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر " ، ذُكر لنا أن رَجلا سأل نبي الله صلى الله عليه وسلم عن البر فأنزل الله هذه الآية. وذُكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم دعا الرجل فتلاها عليه. وقد كان الرجلُ قبل الفرائض إذا شهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا عبده ورسوله ثم مات على ذلك يُرْجى له ويطمع له في خير ، فأنزل الله : " ليسَ البر أن تولوا وجوهَكم قبل المشرق والمغرب " . وكانت اليهود تَوجَّهت قبل المغرب ، والنصارى قبل المشرق - " ولكن البر من آمنَ بالله واليوم الآخر " الآية.
2520 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع بن أنس قال : كانت اليهود تصلي قبل المغرب ، والنصارى قبل المشرق ، فنزلت : " ليس البر أن تُولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب " .
* * *
قال أبو جعفر : وأولى هذين القولين بتأويل الآية ، القول الذي قاله قتادة والربيع بن أنس : أن يكون عنى بقوله : " ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب " ، اليهودَ والنصارَى. لأن الآيات قبلها مضت بتوبيخهم ولَومهم ، والخبر عنهم وعما أُعدّ لهم من أليم العذاب. وهذا في سياق ما قبلها ، إذْ كان الأمر كذلك ، - " ليس البر " ، - أيها اليهود والنصارى ، أنْ يولي بعضُكم وجهه قبل المشرق وبعضُكم قبل المغرب ، " ولكنّ البر مَنْ آمن بالله واليوم الآخر وَالملائكة والكتاب " الآية.
* * *

(3/338)


فإن قال قائل : فكيف قيل : " ولكن البر من آمن بالله " ، وقد علمت أن " البر " فعل ، و " مَنْ " اسم ، فكيف يكون الفعل هو الإنسان ؟
قيل : إن معنى ذلك غيرَ ما توهمته ، وإنما معناه : ولكنّ البرَّ برُّ من آمن بالله واليوم الآخر ، (1) فوضع " مَنْ " موضع الفعل ، اكتفاءً بدلالته ، ودلالة صلته التي هي له صفةٌ ، مَنْ الفعل المحذوف ، كما تفعله العرب ، فتضع الأسماء مواضع أفعالها التي هي بها مشهورة ، فتقول : " الجود حاتم ، والشجاعة عنترة " ، و " إنما الجود حاتم والشجاعة عنترة " ، ومعناها : الجُود جود حاتم فتستغني بذكر " حاتم " إذ كان معروفًا بالجود ، من إعادة ذكر " الجود " بعد الذي قد ذكرته ، فتضعه موضع " جوده " ، لدلالة الكلام على ما حذفته ، استغناء بما ذكرته عما لم تذكره. (2) كما قيل : ( وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا ) [سورة يوسف : 82] والمعنى : أهل القرية ، وكما قال الشاعر ، وهو ذو الخِرَق الطُّهَوي :
حَسِبْتَ بُغَامَ رَاحِلَتِي عَنَاقًا!... وَمَا هي ، وَيْبَ غَيْرِكَ بالعَنَاقِ (3)
يريد : بُغَامَ عنَاق ، أو صوتَ [عناق] ، (4) كما يقال : " حسبت صياحي أخاك " ، يعني به : حسبتَ صياحي صياحَ أخيك.
* * *
وقد يجوز أن يكون معنى الكلام : ولكن البارَّ مَنْ آمن بالله ، فيكون " البر " مصدرًا وُضع موضعَ الاسم. (5)
* * *
__________
(1) في المطبوعة : " ولكن البر كمن آمن بالله " وهو خطأ محض ، صوابه ما أثبت .
(2) انظر ما سلف : 2 : 61 ، 359 وهذا الجزء 3 : 334 .
(3) سلف تخريجه في هذا الجزء 3 : 103 تعليق : 3 .
(4) الزيادة بين القوسين لا بد منها .
(5) هذا قول أبي عبيدة في مجاز القرآن : 65 ، وذكره الفراء في معاني القرآن 1 : 104 .

(3/339)


القول في تأويل قوله تعالى : { وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ }
قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بقوله : " وآتى المالَ على حُبه " ، وأعطى مَاله في حين محبته إياه ، وضِنِّه به ، وشُحِّه عليه ، (1) . كما : -
2521 - حدثنا أبو كريب وأبو السائب قالا حدثنا ابن إدريس قال ، سمعت ليثًا ، عن زبيد ، عن مرة بن شراحيل البكيلي ، عن عبد الله بن مسعود : " وآتَى المالَ على حُبه " ، أي : يؤتيه وهو صَحيحٌ شحيحٌ ، يأمل العيش ويخشى الفقر. (2)
2522 - حدثنا محمد بن بشار قال ، حدثنا عبد الرحمن - وحدثنا الحسن بن يحيى قال أخبرنا عبد الرزاق - قالا جميعًا ، عن سفيان ، عن زُبيد الياميّ ،
__________
(1) انظر معنى " الإيتاء " فيما سلف 1 : 574/2 : 160 ، 317 .
(2) الخبر : 2521 - ابن إدريس : هو عبد الله بن إدريس بن يزيد الأودي ، مضى في : 438 ، 2030 .
ليث : هو ابن أبي سليم ، مضى في شرح : 1497 .
زبيد - بالباء الموحدة مصغرًا : هو ابن الحارث بن عبد الكريم اليامي ، وهو ثقة ثبت . مترجم في التهذيب ، والكبير 2/1/411 ، وابن سعد 6 : 216 ، وابن أبي حاتم 1/2/623 .
مرة بن شراحيل : وهو الهمداني الكوفي ، من كبار التابعين ، كما مضى توثيقه : 168 ، وهو مترجم في التهذيب 10 : 88 - 89 ، والكبير 4/2/5 ، وابن سعد 6 : 79 ، وابن أبي حاتم 4/1/366 . و " البكيلي " - بفتح الباء الموحدة وكسر الكاف : نسبه إلى " بكيل " ، وهم بطن من همدان . انظرالاشتقاق لابن دريد ، ص : 250 ، 256 ، 312 ، وجمهرة الأنساب لابن حزم ص : 372 - 373 . وكذلك نسب مرة إلى " بكيل " في كتاب ابن أبي حاتم ، وهو الصواب . ووقع في التهذيب بدلها " السكسكي " ؛ وهو تصحيف لا شك فيه ، فإن " السكسك " : هو ابن أشرس بن كندة . وشتان بين همدان وكندة ، إنما يجتمعان بعد بضعة جدود ، في " زيد بن كهلان بن سبأ " . انظر جمهرة الأنساب ، ص : 405 ، وما قبلها .

(3/340)


عن مرة ، عن عبد الله : " وآتى المالَ على حُبه " قال ، وأنت صحيح ، تأمل العيش ، وتخشى الفقر. (1)
2523 - حدثنا محمد بن المثنى قال ، حدثنا محمد بن جعفر قال ، حدثنا شعبة ، عن زبيد اليامي ، عن عبد الله أنه قال في هذه الآية : " وآتى المال على حبه " قال ، وأنت حريصٌ شحيحٌ ، تأمل الغنى ، وتخشى الفقر.
2524 - حدثنا أحمد بن نعمة المصري قال ، حدثنا أبو صالح قال ، حدثنا الليث قال ، حدثنا إبراهيم بن أعين ، عن شعبة بن الحجاج ، عن زبيد اليامي ، عن مرة الهمداني قال ، قال عبد الله بن مسعود في قول الله : " وآتى المال على حبه ذوي القربى " ، قال : حريصًا شحيحًا ، يأمل الغنى ويَخشى الفقر. (2)
__________
(1) الخبر : 2522 - عبد الرحمن : هو ابن مهدي الإمام . وسفيان هو الثوري . فالطبري يرويه من طريق ابن مهدي . ومن طريق عبد الرزاق - كلاهما عن سفيان .
والخبر في تفسير عبد الرزاق ، ص : 15 ، وفيه : " وأنت صحيح شحيح " ، بزيادة " شحيح " .
(2) الخبر : 2524 - شيخ الطبري " أحمد بن نعمة المصري " : لم أجد له ترجمة . أبو صالح : هو عبد الله بن صالح ، كاتب الليث . الليث : هو ابن سعد إمام أهل مصر .
إبراهيم بن أعين الشيباني البصري ، نزل مصر : ضعيف : قال البخاري : " فيه نظر في إسناده " . وقال أبو حاتم : " هذا شيخ بصري ، ضعيف الحديث ، منكر الحديث وقع إلى مصر " . مترجم في التهذيب وفرق بينه وبين " إبراهيم بن أعين " آخر ثقة . وترجم ابن أبي حاتم 1/1/87 ثلاث تراجم . والبخاري 1/1/272 ترجمة واحدة .
وهذه الأسانيد الثلاثة : 2521 - 2523 ، لخبر موقوف اللفظ على ابن مسعود . وهو في الحقيقة مرفوع حكمًا ، إذ مثل هذا لا يعرف بالرأي . وسيأتي معناه موقوفًا عليه أيضًا : 2529 ، 2531 . وكذلك رواه الحاكم 2 : 272 ، من رواية منصور ، عن زبيد ، عن مرة ، عن ابن مسعود ، موقوفًا . وقال : " هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ، ولم يخرجاه " . ووافقه الذهبي . ونسبه السيوطي 1 : 170 - 171 لابن المبارك ، ووكيع ، وغيرهما . ثم ذكر أنه رواه الحاكم أيضًا " عن ابن مسعود ، مرفوعًا " . وكذلك نقل ابن كثير 1 : 388 أن الحاكم رواه مرفوعًا . ولم أجده مرفوعًا في المستدرك . ثم ذكر ابن كثير الرواية الموقوفة ، وزعم أنها أصح .
وهذا المعنى ثابت أيضًا في حديث مرفوع صحيح ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم - وقد سئل : أي الصدقة أعظم أجرًا ؟ - فقال : " أن تصدق وأنت صحيح شحيح ، تخشى الفقر وتأمل البقاء ، ولا تمهل حتى إذا بلغت الحلقوم قلت : لفلان كذا ، وقد كان لفلان " . رواه أحمد في المسند : 7159 ، 7401 . ورواه البخاري ومسلم وأبو داود ، كما بينا هناك .

(3/341)


2525 - حدثنا أبو كريب ويعقوب بن إبراهيم قالا حدثنا هشيم قال ، أخبرنا إسماعيل بن سالم ، عن الشعبي ، سمعته يُسْأل : هل على الرجل حَق في ماله سوى الزكاة ؟ قال : نعم! وتلا هذه الآية : " وآتى المالَ على حُبه ذَوي القربى واليتامى والمساكينَ وابنَ السبيل والسائلين وفي الرقاب وأقام الصلاة وآتى الزكاة " .
2526 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا سُويد بن عمرو الكلبي قال ، حدثنا حمّاد بن سلمة قال ، أخبرنا أبو حمزة قال ، قلت للشعبي : إذا زكَّى الرجلُ ماله ، أيطيبُ له ماله ؟ فقرا هذه الآية : " ليس البر أنْ تُولوا وجوهَكم قبل المشرق والمغرب " إلى " وآتى المال على حُبه " إلى آخرها ، ثم قال : حدثتني فاطمة بنت قيس أنها قالت : يا رسول الله ، إنّ لي سبعين مثقالا من ذَهَب. فقال : اجعليها في قَرَابتك. (1)
2527 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا يحيى بن آدم ، عن شريك قال ، حدثنا أبو حمزة ، فيما أعلم - عن عامر ، عن فاطمة بنت قيس أنها سمعته يقول : إنّ في المال لحقًّا سوَى الزكاة. (2)
2528 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال ، حدثنا ابن علية ، عن أبي حيان
__________
(1) الحديث : 2526 - سويد بن عمرو الكلبي : ثقة من شيوخ أحمد . مترجم في التهذيب ، والكبير 2/2/149 ، وابن أبي حاتم 2/1/239 .
أبو حمزة : هو ميمون الأعور القصاب ، وهو ضعيف جدًا . مترجم في التهذيب ، والكبير 4/1/343 ، وابن أبي حاتم 4/1/235 - 236 .
وهذا الحديث بهذا السياق لم أجده في موضع آخر . وقد روى قريب من معناه ، بإسناد آخر أشد ضعفًا . فروى الدارقطني في سننه ، ص : 205 ، من طريق أبي بكر الهذلي ، عن شعيب بن الحبحاب ، عن الشعبي ، عن فاطمة بنت قيس ، قالت : " أتيت النبي صلى الله عليه وسلم بطوق فيه سبعون مثقالا من ذهب ، فقلت : يا رسول الله ، خذ منه الفريضة ، فأخذ منه مثقالا وثلاثة أرباع مثقال " . وقال الدارقطني : " أبو بكر الهذلي : متروك ، ولم يأت به غيره " . وقد مضى بيان ضعف الهذلي هذا : 597 .
(2) الحديث : 2527 - شريك : هو ابن عبد الله بن أبي شريك ، النخعي القاضي ، وهو ثقة . مترجم في التهذيب ، والكبير 2/2/238 ، وابن أبي حاتم 2/1/365 - 367 .
وقوله : " عن فاطمة بنت قيس : أنها سمعت " : يعني النبي صلى الله عليه وسلم . كما هو ظاهر من سياق القول ، ومن الروايات الأخر . وسيأتي الحديث أيضًا : 2530 - وتخريجه هناك ، إن شاء الله .

(3/342)


قال ، حدثني مزاحم بن زفر قال ، كنت جالسًا عند عطاء فأتاه أعرابي فقال له : إن لي إبلا فهل عليّ فيها حقٌّ بعد الصدقة ؟ قال : نعم! قال : ماذا ؟ قال : عَاريَّة الدلو ، وطُروق الفحل ، والحلَب. (1)
2529 - حدثني موسى بن هارون قال : حدثنا عمرو بن حماد قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي ، ذكره عن مرة الهمداني في : " وآتى المالَ على حُبه " قال : قال عبد الله بن مسعود : تُعطيه وأنت صحيحٌ شحيحٌ ، تطيل الأمل ، وتخاف الفقر. وذكر أيضًا عن السدي أن هذا شيء واجبٌ في المال ، حق على صاحب المال أن يفعله ، سوى الذي عليه من الزكاة.
2530 - حدثنا الربيع بن سليمان قال ، حدثنا أسد قال ، حدثنا سويد بن عبد الله ، عن أبي حمزة ، عن عامر ، عن فاطمة بنت قيس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " في المال حق سوى الزكاة ، وتلا هذه الآية : " ليس البر " إلى آخر الآية. (2)
__________
(1) في المطبوعة : " عارية الذلول " ، وهو خطأ . في حديث عبد الله مسعود : " كنا نعد الماعون على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم : عارية الدلو والقدر " ، وفي حديث أبي هريرة أنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم : " فما حق الإبل ؟ قال : تعطى الكريمة ، وتمنح الغزيرة ، وتفقر الظهر ، وتطرق الفحل ، وتسقى اللبن " . وفي حديث عبيد بن عمير قال قال رجل : يا رسول الله ، ما حق الإبل - فذكره نحوه - زاد : " وإعارة دلوها " . (سنن أبي داود 2 : 167 ، 168 باب حقوق المال) .
وطرق الفحل الناقة يطرقها طرقًا وطروقًا : قعا عليها وضربها . وإطراق الفحل : إعارته للضراب . والحلب (بفتحتين) : اللبن المحلوب ، سمي بمصدره من : حلب الناقة يحلبهَا وحلبًا وحلابًا .
(2) الحديث : 2530 - أسد : هو ابن موسى ، الذي يقال له " أسد السنة " . مضى في : 23 . سويد بن عبد الله هكذا ثبت في المطبوعة . وعندي أنه خطأ ، صواب " شريك بن عبد الله " ، الذي مضى في الإسناد السابق : 2527 . فإن الحديث معروف أنه من رواية شريك . ثم ليس في الرواة - الذين رأينا تراجمهم - من يسمى " سويد بن عبد الله " إلا رجلا له شأن لا بهذا الإسناد ، لم يعرف إلا بخبر آخر منكر ، وهو مترجم في لسان الميزان .
وهذا الحديث تكرار للحديث : 2527 بأطول منه قليلا . ورواه أيضًا الدارمي 1 : 385 ، عن محمد بن الطفيل . والترمذي 2 : 22 ، من طريق الأسود بن عامر ، وعن الدارمي عن محمد بن الطفيل . وابن ماجه : 1789 ، من طريق يحيى بن آدم . والبيهقي في السنن الكبرى 4 : 84 ، من طريق شاذان - كلهم عن شريك ، بهذا الإسناد ، مطولا ومختصرًا .
قال الترمذي : " هذا حديث ليس إسناده بذاك . أبو ميمون الأعور يضعف " .
وقال البيهقي : " فهذا حديث يعرف بأبي حمزة ميمون الأعور ، كوفي ، وقد جرحه أحمد بن حنبل ويحيى بن معين ، فمن بعدهما من حفاظ الحديث " .
ونقل ابن كثير 1 : 389 - 390 أنه رواه أيضًا ابن أبي حاتم ، عن يحيى بن عبد الحميد . ورواه ابن مردويه ، من حديث آدم بن أبي إياس ، ويحيى بن عبد الحميد - كلاهما عن شريك ، ثم ذكر أنه أخرجه ابن ماجه ، والترمذي .
ووقع لفظ الحديث في ابن ماجه مغلوطًا ، بنقيض معناه . بلفظ : " ليس في المال حق سوى الزكاة " !
وهذا خطأ قديم في بعض نسخ ابن ماجه . وحاول بعض العلماء الاستدلال على صحة هذا اللفظ عند ابن ماجه ، كما في التلخيص الحبير للحافظ ابن حجر ، ص 177 ، وشرح الجامع الصغير للمناوي : 7641 .
ولكن رواية الطبري الماضية : 2527 - وهي من طريق يحيى بن آدم ، التي رواه منها ابن ماجه : تدل على أن اللفظ الصحيح هو ما في سائر الروايات .
ويؤيد ذلك أن ابن كثير نسب الحديث للترمذي وابن ماجه ، معًا ، ولم يفرق بين روايتهما ، وكذلك صنع النابلسي في ذخائر المواريث : 11699 ، إذ نسبه إليهما حديثًا واحدًا .
ويؤيد أيضًا أن البيهقي ، بعد أن رواه قال : " والذي يرويه أصحابنا في التعاليق : ليس في المال حق سوى الزكاة - فلست أحفظ فيه إسنادًا . والذي رويت في معناه ما قدمت ذكره " . ولو كان في ابن ماجه على هذا اللفظ ، لما قال ذلك ، إن شاء الله .

(3/343)


2531 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا جرير ، عن منصور ، عن زبيد اليامي ، عن مرة بن شراحيل ، عن عبد الله في قوله : " وآتى المالَ على حُبه " قال ، أن يعطي الرجلُ وهو صحيح شحيحٌ به ، يأمل العيش ويخاف الفقر.
* * *
قال أبو جعفر : فتأويل الآية : وأعطى المال - وهو له محب ، حريصٌ على جمعه ، شحيح به - ذَوي قَرابته فوصل به أرحامهم.
وإنما قلت عنى بقوله : " ذوي القرْبى " ، ذوي قرابة مؤدِّي المال على حُبه ، للخبر الذي رَوَى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من أمره فاطمةُ بنت قيس
2532 - وقوله صلى الله عليه وسلم حين سئل : أيُّ الصَّدقة أفضَل ؟ قال : جُهْد المُقِلّ على ذي القَرَابة الكاشح. (1)
* * *
__________
(1) الحديث : 2532 - معناه ثابت من حديث أبي هريرة . رواه أحمد في المسند : 8687 (2 : 358 حلبي) : " عن أبي هريرة : أنه قال : يا رسول الله أي الصدقة أفضل ؟ قال : جهد المقل ، وابدأ بمن تعول " .
وذكره المنذري في الترغيب والترهيب 2 : 28 ، وقال : " رواه أبو داود ، وابن خزيمة في صحيحه ، والحاكم ، وقال : صحيح على شرط مسلم " .
وروى الحاكم في المستدرك 1 : 406 ، عن أم كلثوم بنت عقبة ، قالت : " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أفضل الصدقة على ذي الرحم الكاشح " . وقال الحاكم : " هذا حديث صحيح على شرط مسلم ، ولم يخرجاه " ، ووافقه الذهبي .
وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد 3 : 116 ، وقال : " رواه الطبراني في الكبير ، ورجاله رجال الصحيح " ، وذكر قبله أحاديث أخر بنحوه .
والكاشح : المبغض : قال ابن الأثير : " العدو الذي يضمر عداوته ، ويطوي عليهما كشحه ، أي باطنه " .
والكاشح الذي يضمر لك العداوة ، كأنه يطويها في كشحه . وهو ما بين الخاصرة إلى الضلع ، أو يعرض عنك بوجهه ويوليك كشحه .

(3/344)


وأما " اليتامى " " والمساكين " ، فقد بينا معانيهما فيما مضى. (1)
* * *
وأما " ابن السبيل " ، فإنه المجتاز بالرَّجل. ثم اختلف أهل العلم في صفته. فقال بعضهم : هو الضيفُ من ذلك.
* ذكر من قال ذلك :
2533 - حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : " وابن السبيل " قال ، هو الضيف قال : قد ذُكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان يقول : " من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خَيرًا أو ليسكت. قال : وكان يَقول : حَق الضيافة ثلاثُ ليال ، فكل شيء أضافه بَعد ذَلك صدقة. (2)
* * *
__________
(1) انظر ما سلف في معنى " مسكين " 2 : 137 ، 293 ، ومعنى : " ذي القربى " ، و " اليتامى " 2 : 292 .
(2) الحديث : 2533 - هو حديث مرسل ، يقول قتادة - وهو تابعي - : " قد ذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان يقول . . " ، فذكره .
و " سعيد " الذي يروي عن قتادة : هو سعيد بن أبي عروبة . و " يزيد " الراوي عنه : هو يزيد بن زريع .
والحديث ثبت معناه ضمن حديث رواه مسلم 2 : 45 ، من حديث أبي شريح العدوي الخزاعي : " من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه جائزته ، قالوا : وما جائزته يا رسول الله ؟ قال : يومه وليلته ، والضيافة ثلاثة أيام ، فما كان وراء ذلك فهو صدقة عليه ، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرًا أو ليصمت " . ورواه أيضًا أحمد ، وسائر أصحاب الكتب الستة ، كما في الفتح الكبير 3 : 231 .

(3/345)


وقال بعضهم : هو المسافر يمر عليك.
* ذكر من قال ذلك :
2534 - حدثنا سفيان بن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن جابر ، عن أبي جعفر : " وابن السبيل " قال ، المجتاز من أرض إلى أرض.
2535 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الرزاق ، عن معمر ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد وقتادة في قوله : " وابن السبيل " قال ، الذي يمر عليك وهو مسافر.
2536 - حدثني المثنى قال ، حدثنا سويد بن نصر قال ، أخبرنا ابن المبارك ، عمن ذكره ، عن ابن جريج عن مجاهد وقتادة مثله.
* * *
وإنما قيل للمسافر " ابن السبيل " ، لملازمته الطريق - والطريق هو " السبيل " - فقيل لملازمته إياه في سفره : " ابنه " ، كما يقال لطير الماء " ابن الماء " لملازمته إياه ، وللرجل الذي أتت عليه الدهور " ابن الأيام والليالي والأزمنة " ، ومنه قول ذي الرمة :
وَرَدْتُ اعْتِسَافًا وَالثُّرَيَّا كَأَنَّهَا... عَلَى قِمَّةِ الرَّأْسِ ابْنُ مَاءٍ مُحَلِّقُ (1)
* * *
__________
(1) ديوابنه : 401 ، وهو متعلق ببيت قبله : وَمَاءٍ قَدِيمِ العَهْدِ بالناسِ جنٍ ... كَأَنَّ الدَّبَى مَاءَ الغَضَا فِيهِ يَبْصُقُ
الآجن المتغير . والدبى : صغار الجراد . والغضى : شجر . كأن الجراد رعته ، فبصقت فيه رعيها فهو أصفر أسود . والاعتساف : الاقتحام والسير على غير هدى . والمحلق : العالي المرتفع . وابن الماء : هو طير الغرانيق ، يعرف بالكركي ، والإوز العراقي ، وهو أبيض الصدر ، أحمر المنقار ، أصفر العين . يقول الأقيشر ، يصف مجلس شراب : كَأَنَّهُنَّ وأَيْدِي الشَّرْبِ مُعْمَلَةٌ ... إِذَا تَلأْلأَْنَ فِي أَيْدِي الغَرَانِيقِ
بَنَاتُ ماءِ ، تُرى بيضًا جَاجِئُها ... حُمْرًا مَنَاقِرُهَا ، صُفْرَ الحَمَالِيقِ
والثريا : نجوم كثيرة مجتمعة ، سميت بالمفرد . جعلها " على قمة " ، وذلك في جوف الليل ، ترى بيضاء زاهرة .

(3/346)


وأما قوله : " والسائلين " ، فإنه يعني به : المستطعمين الطالبين ، كما : -
2537 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا ابن إدريس ، عن حصين ، عن عكرمة في قوله : " والسائلين " قال ، الذي يسألك.
* * *
وأما قوله : " وفي الرقاب " ، فإنه يعني بذلك : وفي فك الرقاب من العبودة ، وهم المكاتبون الذين يسعون في فك رقابهم من العبودة ، (1) بأداء كتاباتهم التي فارقوا عليها سادَاتهم.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا }
قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بقوله : " وأقامَ الصلاة " ، أدام العمل بها بحدودها ، وبقوله " وآتى الزكاة " ، أعطاها على مَا فَرضها الله عليه. (2)
* * *
__________
(1) العبودة والعبودية واحد ، ولا فعل له عند أبي عبيد . وقال اللحياني فعله " عبد " على زنة " كرم " .
(2) انظر معنى " إقامة الصلاة " و " إيتاء الزكاة " فيما سلف 1 : 572 - 574 ، ومواضع أخرى ، اطلبها في فهرس اللغة .

(3/347)


فإن قال قائل : وهل من حقٍّ يجب في مال إيتاؤه فرضًا غير الزكاة ؟
قيل : قد اختلف أهل التأويل في ذلك :
فقال بعضهم : فيه حقوقٌ تجبُ سوى الزكاة واعتلُّوا لقولهم ذلك بهذه الآية ، وقالوا : لما قال الله تبارك وتعالى : " وآتَى المالَ على حُبه ذَوي القربى " ، ومن سمى الله معهم ، ثم قال بعد : " وأقامَ الصلاةَ وآتى الزكاة " ، علمنا أن المالَ - الذي وَصَف المؤمنين به أنهم يُؤتونه ذَوي القربى ، ومن سمَّى معهم - غيرُ الزكاة التي ذكر أنهم يؤتونها. لأن ذلك لو كان مالا واحدًا لم يكن لتكريره معنى مفهوم. قالوا : فلما كان غيرَ جائز أن يقول تعالى ذكره قولا لا معنى له ، علمنا أنّ حكم المال الأول غيرُ الزكاة ، وأن الزكاة التي ذكرها بعد غيره. قالوا : وبعد ، فقد أبان تأويل أهل التأويل صحة ما قلنا في ذلك.
وقال آخرون : بل المال الأول هو الزكاة ، ولكن الله وصَف إيتاء المؤمنين مَنْ آتوه ذلك ، في أول الآية. فعرَّف عباده - بوصفه ما وصف من أمرهم - المواضعَ التي يجب عليهم أن يضَعوا فيها زكواتهم ، ثم دلّهم بقوله بعد ذلك : " وآتى الزكاة " ، أن المال الذي آتاه القومُ هو الزكاة المفروضةُ كانت عليهم ، إذ كان أهلُ سُهمانها هم الذين أخبرَ في أول الآية أن القوم آتوهم أموالهم.
* * *
وأما قوله : " والموفون بَعهدهم إذا عاهدوا " ، فإن يعني تعالى ذكره : والذين لا ينقضون عَهد الله بعد المعاهدة ، ولكن يوفُون به ويتمُّونه على ما عاهدوا عليه من عاهدوه عليه. كما : -
2538 - حدثت عن عمار بن الحسن قال ، حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع بن أنس في قوله : " والموفون بعهدهم إذا عاهدوا " قال ، فمن أعطى عهدَ الله ثم نقضه ، فالله ينتقم منه. ومن أعطى ذمة النبي صلى الله عليه

(3/348)


وسلم ثم غَدر بها ، فالنبي صلى الله عليه وسلم خصمه يومَ القيامة.
* * *
وقد بينت " العهد " فيما مضى ، بما أغنى عن إعادته هاهنا. (1)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ }
قال أبو جعفر : وقد بينا تأويل " الصبر " فيما مضى قبل. (2)
فمعنى الكلام : والمانعين أنفسهم - في البأساء والضراء وحين البأس - مما يكرهه الله لَهم ، الحابسيها على ما أمرهم به من طاعته. ثم قال أهل التأويل في معنى " البأساء والضراء " بما : -
2539 - حدثني به الحسين بن عمرو بن محمد العنقزيّ (3) قال ، حدثني أبي - وحدثني موسى قال ، حدثنا عمرو بن حماد - قالا جميعًا ، حدثنا أسباط عن السدي ، عن مرة الهمداني ، عن ابن مسعود أنه قال : أما البأساءُ فالفقر ، وأما الضراء فالسقم .
2540 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي - وحدثني المثنى قال ، حدثنا الحماني - قالا جميعًا ، حدثنا شريك ، عن السدي ، عن مرة ، عن عبد الله في قوله : " والصابرين في البأساء والضراء " قال ، البأساء الجوع ، والضراء المرضُ.
2541 - حدثنا أحمد بن إسحاق قال ، حدثنا أبو أحمد قال ، حدثنا شريك ، عن السدي ، عن مرة عن عبد الله قال : البأساء الحاجة ، والضراءُ المرضُ.
2542 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال حدثنا سعيد ، عن قتادة قال :
__________
(1) انظر ما سلف 1 : 410 - 415 ، 557 / ثم هذا الجزء 3 : 20 .
(2) انظر ما سلف 2 : 10 - 11 ، 124 / ثم هذا الجزء 3 : 214 .
(3) في المطبوعة " العبقري " ، والصواب ما أثبته ، وقد ترجم له فيما سلف رقم : 1625 .

(3/349)


كنا نُحدِّث أن البأساء البؤس والفقر ، وأن الضراء السُّقم. وقد قال النبي أيوب صلى الله عليه وسلم( أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ) [سورة الأنبياء : 83].
2543 - حدثت عن عمار بن الحسن قال ، حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع في قوله : " والصابرين في البأساء والضراء " قال ، البؤس : الفاقة والفقر ، والضراء : في النفس ، من وَجع أو مرَض يصيبه في جسده.
2544 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : " البأساء والضراء " قال ، البأساء : البؤس ، والضراء : الزمانة في الجسد.
2545 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو نعيم قال ، حدثنا عبيد ، عن الضحاك قال : " البأساء والضراء " ، المرض. (1)
2546 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج : " والصابرين في البأساء والضراء " قال ، البأساء : البؤس والفقر ، والضراء : السقم والوجع.
2547 - حدثنا أحمد بن إسحاق قال ، حدثنا أبو أحمد قال ، حدثنا عبيد بن الطفيل قال : سمعت الضحاك بن مزاحم يقول في هذه الآية : " والصابرين في البأساء والضراء " ، أما البأساء : الفقر ، والضراء : المرض. (2)
* * *
قال أبو جعفر : وأما أهل العربية : فإنهم اختلفوا في ذلك. فقال بعضهم :
__________
(1) الأثر : 2545 - أخشى أن يكون قد سقط من هذا الأثر شيء . وهو تفسير " البأساء " ، وذكر " الضراء " قبل قوله : " المرض " ، وسيأتي على الصواب في الأثر الذي يليه .
(2) الخبر : 2547 - عبيد بن الطفيل : كنيته : " أبو سيدان " ، بكسر السين المهملة وسكون الياء التحتية ثم دال مهملة ، كما سيأتي باسمه وكنيته : 2555 . وهو الغطفاني ، يروي عنه أيضًا وكيع ، وأبو نعيم الفضل بن دكين ، قال أبو حاتم : " صالح ، لا بأس به " . وهو مترجم في التقريب ، والخلاصة وابن أبي حاتم 2/2/409 .

(3/350)


" البأساء والضراء " ، مصدر جاء على " فعلاء " ليس له " أفعل " لأنه اسم ، كما قد جاء " أفعل " في الأسماء ليس له " فعلاء " ، نحو " أحمد " . وقد قالوا في الصفة " أفعل " ، ولم يجيء له " فعلاء " ، فقالوا : " أنت من ذلك أوْجل " ، ولم يقولوا : " وجلاء " .
وقال بعضهم : هو اسم للفعل. فإن " البأساء " ، البؤس ، " والضراء " الضر. وهو اسم يقع إن شئت لمؤنث ، وإن شئت لمذكر ، كما قال زهير :
فَتُنْتَجْ لَكُمْ غِلْمَانَ أَشْأَمَ ، كُلُّهُمْ... كَأَحْمَرِ عَادٍ ، ثُمَّ تُرْضِعْ فَتَفْطِمِ (1)
يعني فتنتج لكم غلمان شؤم.
وقال بعضهم : لو كان ذلك اسمًا يجوز صرفه إلى مذكر ومؤنث ، لجازَ إجراء " أفعل " في النكرة ، ولكنه اسم قام مقام المصدر. والدليل على ذلك قوله : " لئن طَلبت نُصرتهم لتجدنَّهم غير أبعدَ " ، (2) بغير إجراء. وقال : إنما كان اسما للمصدر ، لأنه إذا ذُكر علم أنه يُراد به المصدر.
وقال غيره : لو كان ذلك مصدرًا فوقع بتأنيث ، لم يقع بتذكير ، ولو وَقَع
__________
(1) ديوانه : 20 ، من معلقته الفريدة . وهي من أبياته في صفة الحرب ، التي قال في بدئها ، قبل هذا البيت : وَمَا الحَرْبُ إِلاَّ مَا عَلِمْتُمْ وَذُقْتُمُ ... وَمَا هُوَ عَنْهَا بِالحَدِيث المُرَجَّمِ
مَتَى تَبْعَثُوهَا ، تَبْعَثُوهَا ذَمِيمَةً ، ... وتَضْرَ ، إذا ضَرَّيْتُمُوهَا فَتَضْرَمِ
فَتَعْرُكَكُم عَرْكَ الرَّحَا بِثِفَالِهَا ... وَتلْقَحْ كِشافًا ، ثم تُنْتَجْ فَتُتْئِمِ
يقول : إن الحرب تلقح كما تلقح الناقة ، فتأتي بتوأمين في بطن . وقوله : " أحمر عاد " يعني أحمر ثمود ، فأخطأ ولم يبال أيهما قال . وأحمر ثمود ، هو قدار ، عاقر ناقة الله فأهلكهم ربهم بما فعلوا . يقول : إن الحرب ترضع مشائيمها وتقوم عليهم حتى تفطمهم بعد أن يبلغوا السعي لأنفسهم في الشر .
(2) يقال " فلان غير أبعد " ، أي لا خير فيه . ويقال : " ما عند فلان أبعد " أي لا طائل عنده . قال رجل لابنه : " إن غدوت على المربد ربحت عنا ، أو رجعت بغير أبعد " ، أي بغير منفعة .

(3/351)


بتذكير ، لم يقع بتأنيث. لأن من سُمي ب " أفعل " لم يصرف إلى " فُعلى " ، ومن سُمي ب " فُعلى " لم يصرف إلى " أفعل " ، لأن كل اسم يبقى بهيئته لا يصرف إلى غيره ، ولكنهما لغتان. فإذا وقع بالتذكير ، كان بأمر " أشأم " ، وإذا وقع " البأساء والضراء " ، (1) وقع : الخلة البأساء ، والخلة الضراء. وإن كان لم يُبن على " الضراء " ، " الأضر " ، ولا على " الأشأم " ، " الشأماء " . لأنه لم يُردْ من تأنيثه التذكير ، ولا من تذكيره التأنيث ، كما قالوا : " امرأة حسناء " ، ولم يقولوا : " رجل أحسن " . وقالوا : " رجل أمرد " ، ولم يقولوا : " امرأة مرداء " . فإذا قيل : " الخصلة الضراء " و " الأمر الأشأم " ، دل على المصدر ، ولم يحتج إلى أن يكون اسمًا ، وإن كان قد كَفَى من المصدر.
وهذا قول مخالفٌ تأويلَ من ذكرنا تأويله من أهل العلم في تأويل " البأساء والضراء " ، وإن كان صحيحًا على مذهب العربية. وذلك أن أهل التأويل تأولوا " البأساء " بمعنى : البؤس ، " والضراء " بمعنى : الضر في الجسد. وذلك من تأويلهم مبني على أنهم وجَّهوا " البأساءَ والضراء " إلى أسماء الأفعال ، دون صفات الأسماء ونعوتها. فالذي هو أولى ب " البأساء والضراء " ، على قول أهل التأويل ، أن تكون " البأساء والضراء " أسماء أفعال ، فتكون " البأساء " اسمًا " للبؤس " ، و " الضراء " اسمًا " للضر " .
* * *
وأما " الصابرين " فنصبٌ ، وهو من نعت " مَن " على وجه المدح. (2) لأن من شأن العرب - إذا تطاولت صفةُ الواحد - الاعتراضُ بالمدح والذم بالنصب أحيانًا ، وبالرفع أحيانًا ، (3) كما قال الشاعر : (4)
__________
(1) يعني : إذا وقع بالتأنيث : وقع بمعنى : الخلة البأساء والخلة الضراء .
(2) يريد " من " في قوله تعالى : " ولكن البر من آمن . . . "
(3) انظر ما سلف 1 : 329 .
(4) لم أعرف قائله .

(3/352)


إلَى المَلِكِ القَرْمِ وَابْنِ الهُمَامِ... وَلَيْثَ الكَتِيبَةِ فِي المُزْدَحَمْ (1) وَذَا الرَّأْيِ حِينَ تُغَمُّ الأمُورُ... بِذَاتِ الصَّلِيلِ وذَاتِ اللُّجُمْ (2)
فنصب " ليث الكتيبة " وذا " الرأي " على المدح ، والاسم قبلهما مخفُوضٌ لأنه من صفة واحد ، ومنه قول الآخر : (3)
فَلَيْتَ الَّتِي فِيهَا النُّجُومُ تَوَاضَعَت... عَلَى كُلِّ غَثٍّ مِنْهُمُ وسَمِينِ (4) غيُوثَ الوَرَى فِي كُلِّ مَحْلٍ وَأَزْمَةٍ... أُسُودَ الشَّرَى يَحْمِينَ كُلَّ عَرِينِ (5)
* * *
وقد زعم بعضهم أن قوله : (6) " والصابرين في البأساء " ، نصبٌ عطفًا على " السائلين " .
__________
(1) معاني القرآن للفراء 1 : 105 ، والإنصاف : 195 ، وأمالي الشريف 1 : 205 ، وخزانة الأدب 1 : 216 . والقرم . السيد المعظم المقدم في المعرفة وتجارب الأمور . والمزدحم : حومة القتال حيث يزدحم الكماة . يمدحه بالجرأة في القتال .
(2) وغم الأمر يغم (بالبناء للمجهول) : استعجم وأظلم ، وصار المرء منه في لبس لا يهتدي لصوابه . والصليل : صوت الحديد . يعني بذات الصليل كتيبة من الرجالة يصل حديد بيضها وشكتها وسلاحها . وذات اللجم : كتيبة من الفرسان . يذكر ثباته واجتماع نفسه ورأيه حين تطيش العقول في صليل السيوف وكر الخيول في معركة الموت . فقوله : " بذات الصليل " متعلق بقوله : " تغم الأمور " .
(3) لم أعرف قائلهما .
(4) معاني القرآن للفراء 1 : 106 ، وأمالي الشريف 1 : 206 . وقوله : " تواضعت " ، هو عندي " تفاعل " من قولهم : وضع الباني الحجر توضيعًا : نضد بعضه على بعض . ومنه التوضع : وهو خياطة الجبة بعد وضع القطن . ومنه أيضًا : وضعت النعامة بيضها : إذا رثدته ووضعت بعضه فوق بعض ، وهو بيض موضع : منضود بعضه على بعض . يقول : ليت السماء قد انضمت على جميعهم ، فكانوا من نجومها . وقوله : " غث منهم وسمين " ، مدح ، يعني : ليس فيهم غث ، فغثهم حقيق بأن يكون من أهل العلاء .
(5) المحل : الجدب والقحط . ورواية الفراء والشريف : " ولزبة " . والأزمة والأزبة واللزبة ، بمعنى واحد : وهي شدة السنة والقحط . وروايتهما أيضًا : " غيوث الحيا " . والحيا : الخصب ، ويسمى المطر حيا ، لأنه سبب الخصب . والثرى : موضع تأوي إليه الأسود .
(6) هذا القول ذكره الفراء في معاني القرآن 1 : 108 ، ورده .

(3/353)


كأن معنى الكلام كان عنده : وآتى المال على حبه ذَوي القربَى واليتامَى والمساكين ، وابنَ السبيل والسائلينَ والصابرين في البأساء والضراء. وظاهرُ كتاب الله يدلّ على خطأ هذا القول ، وذلك أنّ " الصابرين في البأساء والضراء " ، هم أهل الزمانة في الأبدان ، وأهلُ الإقتار في الأموال. وقد مضى وصف القوم بإيتاء - مَنْ كان ذلك صفته - المالَ في قوله : " والمساكينَ وابنَ السبيل والسائلين " ، وأهل الفاقة والفقر ، هم أهل " البأساء والضراء " ، لأن من لم يكن من أهل الضراء ذا بأساء ، لم يكن ممن له قبولُ الصدقة ، وإنما له قبولها إذا كان جامعًا إلى ضرائه بأساء ، وإذا جمع إليها بأساء ، كان من أهل المسكنة الذين قد دخلوا في جملة " المساكين " الذين قد مضى ذكرهم قبل قوله : " والصابرين في البأساء " . وإذا كان كذلك ، ثم نصب " الصابرين في البأساء " بقوله " وآتى المال على حبه " ، كان الكلام تكريرًا بغير فائدة معنى. كأنه قيل : وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامَى والمساكينَ. والله يتعالى عن أن يكون ذلك في خطابه عبادَه. ولكن معنى ذلك : ولكنّ البر مَن آمن بالله واليوم الآخر ، والموفون بعهدهم إذا عاهدوا ، والصابرين في البأساء والضراء. " والموفون " رفعٌ لأنه من صفة " مَنْ " ، و " مَنْ " رفعٌ ، فهو معرب بإعرابه. " والصابرين " نصب - وإن كان من صفته - على وجه المدح الذي وصفنا قبل.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { وَحِينَ الْبَأْسِ }
قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بقوله : " وحين البأس " ، والصابرين في وقت البأس ، وذلك وَقت شدة القتال في الحرب ، كما : -
2548 - حدثني الحسين بن عمرو بن محمد العنقزيّ قال ، حدثنا أبي قال ،

(3/354)


حدثنا أسباط ، عن السدي ، عن مرة ، عن عبد الله في قول الله : " وحين البأس " قال ، حين القتال. (1)
2549 - حدثني موسى قال ، حدثنا عمرو قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي ، عن مرة ، عن عبد الله مثله.
2550 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : " وحين البأس " القتال.
2551 - حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا يزيد ، عن سعيد ، عن قتادة قوله : " وحين البأس " ، أي عندَ مواطن القتال.
2552 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، حدثنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر ، عن قتادة : " وحين البأس " ، القتال.
2553 - حدثت عن عمار بن الحسن قال ، حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع ، " وحين البأس " ، عند لقاء العدو.
2554 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو نعيم قال ، حدثنا عبيدة ، عن الضحاك : " وحين البأس " ، القتال
2555 - حدثنا أحمد بن إسحاق قال ، حدثنا أبو أحمد قال ، حدثنا عبيد بن الطفيل أبو سيدان قال ، سمعت الضحاك بن مزاحم يقول في قوله : " وحين البأس " قال ، القتال. (2)
* * *
__________
(1) الأثر : 2548 - في المطبوعة : " العبقري " ، وقد مضى مرارا خطأ ، وصححناه . وانظر ترجمته في رقم : 1625 .
(2) الخبران : 2554 - 2555 أبو نعيم في أولهما ؛ هو الفضل بن دكين . وأبو أحمد في ثانيهما : هو الزبيري ، محمد بن عبد الله بن الزبير . وباقي الإسناد ، مضى في : 2547 .

(3/355)


القول في تأويل قوله تعالى : { أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (177) }
قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بقوله : " أولئك الذين صدقوا " ، من آمن بالله واليوم الآخر ، ونعتهم النعتَ الذي نعتهم به في هذه الآية. يقول : فمن فعل هذه الأشياء ، فهم الذين صدقوا الله في إيمانهم ، وحققوا قولهم بأفعالهم - لا مَنْ ولَّى وجهه قبل المشرق والمغرب وهو يخالف الله في أمره ، وينقض عهده وميثاقه ، ويكتم الناسَ بَيانَ ما أمره الله ببيانه ، ويكذِّب رسله.
* * *
وأما قوله : " وأولئك هُم المتقون " ، فإنه يعني : وأولئك الذين اتقوا عقابَ الله ، فتجنَّبوا عصيانه ، وحَذِروا وعده ، فلم يتعدَّوا حدوده. وخافوه ، فقاموا بأداء فرائضه.
* * *
وبمثل الذي قلنا في قوله : " أولئك الذين صَدقوا " ، كان الربيع بن أنس يقول :
2556 - حدثت عن عمار بن الحسن قال ، حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : " أولئك الذين صدقوا " قال ، فتكلموا بكلام الإيمان ، فكانت حقيقتُه العمل ، صَدقوا الله. قال : وكان الحسن يقول : هذا كلام الإيمان ، وحقيقتُه العمل ، فإن لم يكن مع القول عملٌ فلا شيء.
* * *

(3/356)


يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ (178)

القول في تأويل قوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأنْثَى بِالأنْثَى }
قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بقوله : " كتب عليكم القصاص في القتلى " ، فُرض عليكم.
* * *
فإن قال قائل : أفرضٌ على وليّ القتيل القصاصُ من قاتل وَليّه ؟
قيل : لا ولكنه مباح له ذلك ، والعفو ، وأخذُ الدية.
فإن قال قائل : وكيف قال : " كتب عليكم القصاص " ؟
قيل : إن معنى ذلك على خلاف ما ذهبتَ إليه ، وإنما معناه : يا أيها الذين آمنوا كُتب عليكم القصَاص في القتلى الحرّ بالحرّ والعبدُ بالعبد والأنثى بالأنثى ، أي أن الحر إذا قتل الحرَّ ، فَدم القاتل كفءٌ لدم القتيل ، والقصاصُ منه دون غيره من الناس ، فلا تجاوزوا بالقتل إلى غيره ممن لم يقتل ، فإنه حرام عليكم أن تقتلوا بقتيلكم غيرَ قاتله.
والفرض الذي فرضَ الله علينا في القصاص ، هو ما وصفتُ من ترك المجاوزة بالقصاص قَتلَ القاتل بقتيله إلى غيره ، لا أنه وجب علينا القصاص فرضًا وجُوب فرضِ الصلاة والصيام ، حتى لا يكون لنا تركه. ولو كان ذلك فرضًا لا يجوز لنا تركه ، لم يكن لقوله : " فَمن عُفي لهُ من أخيه شيء " ، معنى مفهوم. لأنه لا عفو بعد القصاص فيقال : " فمن عفي له من أخيه شيء " .
* * *
وقد قيل : إن معنى القصاص في هذه الآية ، مقاصَّة ديات بعض القتلى بديات بعض. وذلك أن الآية عندهم نزلت في حِزبين تحاربوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقتل بعضهم بعضًا ، فأُمِر النبيُّ صلى الله عليه وسلم أن يُصْلح بينهم بأن تَسقط ديات نساء أحد الحزبين بديات نساء الآخرين ، ودياتُ رجالهم

(3/357)


بديات رجالهم ، وديات عبيدهم بديات عبيدهم ، قصاصًا. فذلك عندهم مَعنى " القصاص " في هذه الآية.
* * *
فإن قال قائل : فإنه تعالى ذكره قال : " كُتب عليكم القصَاص في القتلى الحر بالحرّ والعبدُ بالعبد والأنثى بالأنثى " ، فما لنا أن نقتص للحر إلا من الحر ، ولا للأنثى إلا من الأنثى ؟
قيل : بل لنا أن نقتص للحر من العبد ، وللأنثى من الذكر بقول الله تعالى ذكره : ( وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا ) [سورة الإسراء : 33] ، وبالنقل المستفيض عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال :
2557 - المسلمون تتكافأ دماؤهم. (1)
* * *
فإن قال : فإذ كان ذلك ، فما وجه تأويل هذه الآية ؟
قيل : اختلف أهلُ التأويل في ذلك. فقال بعضهم : نزلت هذه الآية في قوم كانوا إذا قتل الرجل منهم عَبد قوم آخرين ، لم يرضوا من قتيلهم بدم قاتله ، من أجل أنه عَبد ، حتى يقتلوا به سَيّده. وإذا قتلت المرأة من غيرهم رجلا لم يرضوا من دم صاحبهم بالمرأة القاتلة ، حتى يقتلوا رجلا من رهط المرأة وعشيرتها. فأنزل الله هذه الآية ، فأعلمهم أن الذي فُرض لهم من القصاص أن يقتلوا بالرجل الرجلَ القاتل دون غيره ، وبالأنثى الأنثى القاتلة دون غيرها من الرجال ، وبالعبد العبدَ القاتلَ دون غيره من الأحرار ، فنهاهم أن يتعدَّوا القاتل إلى غيره في القصاص.
* ذكر من قال ذلك :
2558 - حدثني محمد بن المثنى قال ، حدثنا أبو الوليد - وحدثني المثنى
__________
(1) الحديث : 2557 - رواه الطبري هنا معلقًا ، دون إسناد . وقد رواه أحمد في المسند : 6797 ، من حديث عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده - وهو عبد الله بن عمرو بن العاص : " المسلمون تكافأ داؤهم ، ويسعى بذمتهم أدناهم ، وهم يد على من سواهم " . ورواه بنحوه أيضًا ابن ماجه : 2685 . ورواه أحمد ، بألفاظ مختلفة ، مطولا ومختصرًا : 6692 ، 6970 ، 7012 .

(3/358)


قال ، حدثنا الحجاج - قالا حدثنا حماد ، عن داود بن أبي هند ، عن الشعبي في قوله : " الحر بالحرّ والعبدُ بالعبد والأنثى بالأنثى " قال ، نزلت قي قبيلتين من قبائل العرب اقتتلتا قتال عُمِّيَّة ، فقالوا : نقتل بعبدنا فلانَ ابن فلان ، وبفلانة فلانَ بن فلان ، فأنزل الله : " الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى " . (1)
2559 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : " كتب عليكم القصَاص في القتلى الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى " قال ، كان أهل الجاهلية فيهم بَغْيٌ وطاعة للشيطان ، فكان الحيّ إذا كان فيهم عُدة ومَنعة ، فقيل عبدُ قوم آخرين عبدًا لهم ، قالوا : لا نقتل به إلا حرًّا! تعززًا ، لفضلهم على غيرهم في أنفسهم. وإذا قُتلت لهم امرأة قتلتها امرأةُ قوم آخرين قالوا : لا نقتل بها إلا رجلا! فأنزل الله هذه الآية يخبرهم أنّ العبدَ بالعبد والأنثى بالأنثى ، فنهاهم عن البغي. ثم أنزل الله تعالى ذكره في سورة المائدة بعد ذلك فقال : ( وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأنْفَ بِالأنْفِ وَالأذُنَ بِالأذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ ) [سورة المائدة : 45].
2560 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : " كتب عليكم القصاص في القتلى " قال ، لم يكن لمن قبلنا ديةٌ ، إنما هُو القتل ، أو العفوُ إلى أهله. فنزلت هذه الآية في قوم كانوا أكثر من غيرهم ، فكانوا إذا قتل من الحيّ الكثير عبدٌ قالوا : لا نقتل به إلا حُرًّا. وإذا قتلت منهم امرأة قالوا : لا نقتل بها إلا رجلا. فأنزل الله : " الحرّ بالحرّ والعبدُ بالعبد والأنثى بالأنثى " .
__________
(1) العمية (بضم العين أو كسرها ، وتشديد الميم وتشديد الياء) : الغواية والكبر واللجاجة في الباطل والفتنة والضلالة . وفي الحديث : " من قاتل تحت راية عمية ، يغضب لعصبة ، أو ينصر عصبة ، أو يدعو لعصبة ، فقتل ، قتل قتلة جاهلية " . وقال أحمد بن حنبل : هو الأمر الأعمى للعصبية ، لا تستبين ما وجهه .

(3/359)


2561 - حدثني محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا المعتمر قال ، سمعت داود ، عن عامر في هذه الآية : " كتب عليكم القصَاص في القتلى الحر بالحرّ والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى " قال ، إنما ذلك في قتال عُمية ، (1) إذا أصيب من هؤلاء عبدٌ ومن هؤلاء عبدٌ ، تكافآ ، وفي المرأتين كذلك ، وفي الحرّين كذلك. هذا معناه إن شاء الله.
2562 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد قال ، دخل في قول الله تعالى ذكره : " الحر بالحر " ، الرجل بالمرأة ، والمرأةُ بالرجل. وقال عطاء : ليس بينهما فَضل.
* * *
وقال آخرون : بل نزلت هذه الآية في فريقين كان بينهم قتالٌ على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقتل من كلا الفريقين جماعةٌ من الرجال والنساء ، فأُمِر النبي صلى الله عليه وسلم أن يُصلح بينهم ، بأن يجعل ديات النساء من كل واحد من الفريقين قصاصًا بديات النساء من الفريق الآخر ، وديات الرجال بالرجال ، وديات العبيد بالعبيد ، فذلك معنى قوله : " كتب عليكم القصاص في القتلى " .
* ذكر من قال ذلك :
2563 - حدثنا موسى بن هارون قال : حدثنا عمرو بن حماد قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي قوله : " كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر والعبدُ بالعبد والأنثى بالأنثى " قال ، اقتتل أهل ملتين من العرب ، أحدهما مسلم والآخر معاهد ، في بعض ما يكون بين العرب من الأمر ، فأصلح بينهم النبيُّ صلى الله عليه وسلم - وقد كانوا قَتلوا الأحرار والعبيد والنساء - على أن يؤدِّي الحرُّ ديةَ الحر ، والعبد دية العبد ، والأنثى دية الأنثى ، فقاصَّهم بعضَهم من بعض.
2564 - حدثني المثنى قال ، حدثنا سويد بن نصر قال ، أخبرنا عبد الله
__________
(1) سلف شرح " عمية " في ص : 359 ، تعليق : 1 .

(3/360)


بن المبارك ، عن سفيان ، عن السدي ، عن أبي مالك قال : كان بين حيين من الأنصار قتالٌ ، كان لأحدهما على الآخر الطَّوْلُ (1) فكأنهم طلبوا الفضْل. فجاء النبي صلى الله عليه وسلم ليصلح بينهم ، فنزلت هذه الآية : " الحرُّ بالحرِّ والعبدُ بالعبد والأنثى بالأنثى " ، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم الحر بالحر ، والعبد بالعبد ، والأنثى بالأنثى .
2566 - حدثنا المثنى قال ، حدثنا سويد بن نصر قال ، أخبرنا ابن المبارك ، عن شعبة ، عن أبي بشر قال : سمعت الشعبي يقول في هذه الآية : " كتب عليكم القصاص في القتلى " قال ، نزلت في قتال عُمية. قال شعبة : كأنه في صلح. قال : اصطلحوا على هذا.
2567 - حدثنا محمد بن بشار قال ، حدثنا محمد بن جعفر قال ، حدثنا شعبة عن أبي بشر قال : سمعت الشعبي يقول في هذه الآية : " كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى " قال ، نزلت في قتال عُمية " ، (2) قال : كان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم.
* * *
وقال آخرون : بل ذلك أمرٌ من الله تعالى ذكره بمقاصَّة دية الحرّ ودية العبد ، ودية الذكر ودية الأنثى ، في قتل العمد - إن اقتُصَّ للقتيل من القاتل ، والتراجع بالفضل والزيادة بين ديتي القتيل والمقتص منه.
* ذكر من قال ذلك :
2568 - حدثت عن عمار بن الحسن قال ، حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع قوله : " يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر والعبدُ بالعبد والأنثى بالأنثى " قال ، حُدِّثنا عن علي بن أبي طالب أنه
__________
(1) الطول : الفضل والعلو .
(2) سلف شرح " عمية " في ص : 359 ، تعليق : 1 .

(3/361)


كان يقول : أيما حُرّ قتل عبدًا فهو قَوَدٌ به ، فإن شاء موالي العبد أن يقتلوا الحر قتلوه ، وقاصُّوهم بثمن العبد من دية الحرّ ، وأدَّوا إلى أولياء الحرّ بقية ديته. وإن عبدٌ قتل حرًّا فهو به قَودٌ ، فإن شاء أولياء الحرّ قتلوا العبد وقاصُّوهم بثمن العبد ، وأخذوا بقية دية الحرّ ، وإن شاءوا أخذوا الدية كلها واستحيَوُا العبد. وأيُّ حرّ قتل امرأة فهو بها قَوَدٌ ، فإن شاء أولياء المرأة قَتلوه وأدّوا نصفَ الدية إلى أولياء الحرّ. وإن امرأة قتلتْ حُرًّا فهي به قَوَدٌ ، فإن شاء أولياء الحر قتلوها وأخذوا نصف الدية ، وإن شاءوا أخذوا الدية كلها واستحيوها ، وإن شَاءوا عفوْا.
2569 - حدثنا محمد بن بشار قال ، حدثنا هشام بن عبد الملك قال ، حدثنا حماد بن سلمة ، عن قتادة ، عن الحسن : أن عليًّا قال في رجل قتل امرأته ، قال : إن شاءوا قَتلوه وغَرِموا نصف الدية.
2570 - حدثنا محمد بن بشار قال ، حدثنا يحيى ، عن سعيد ، عن عوف ، عن الحسن قال : لا يُقتل الرجل بالمرأة ، حتى يُعطوا نصف الدية.
2571 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا جرير ، عن مغيرة ، عن سماك ، عن الشعبي ، قال ، في رجل قَتل امرأته عمدًا ، فأتوا به عليًّا فقال : إن شئتم فاقتلوه ، ورُدُّوا فضل دية الرجل على دية المرأة.
* * *
وقال آخرون : بل نزلت هذه الآية في حال مَا نزلت ، والقومُ لا يقتلون الرجل بالمرأة ، ولكنهم كانوا يقتلون الرجل بالرجل ، والمرأة بالمرأة ، حتى سَوَّى الله بين حكم جميعهم بقوله : ( وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ ) [سورة المائدة : 45] ، فجعل جميعَهم قَوَدَ بعضهم ببعض.
* ذكر من قال ذلك :
2572 - حدثنا المثنى قال ، حدثنا أبو صالح قال ، حدثني معاوية بن صالح ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قوله : " والأنثى بالأنثى " ،

(3/362)


وذلك أنهم كانوا لا يقتلون الرجل بالمرأة ، ولكن يقتلون الرجل بالرجل والمرأة بالمرأة ، فأنزل الله تعالى : " النفس بالنفس " ، فجعل الأحرار في القصاص سَواءً فيما بينهم ، في العمد رجالهم ونساؤُهم ، في النفس وما دون النفس. وجعل العبيد مستوين فيما بينهم في العمد ، في النفس وما دون النفس ، رجالهم ونساؤُهم.
* * *
قال أبو جعفر : (1) فإذ كان مُختلَفًا الاختلافُ الذي وصفتُ ، فيما نزلت فيه هذه الآية ، فالواجب علينا استعمالها ، فيما دلت عليه من الحُكم ، بالخبر القاطع العذرَ. وقد تظاهرت الأخبار عن رَسول الله صلى الله عليه وسلم بالنقل العامِّ : أن نفس الرجل الحر قَوَدٌ قصَاصًا بنفس المرأة الحرة. فإذ كان ذلك كذلك ، وكانت الأمَّة مختلفة في التراجع بفضل مَا بين دية الرجل والمرأة - على ما قد بَيَّنا من قول عليّ وغيره - كان واضحًا (2) فسادُ قول من قال بالقصاص في ذلك. والتراجع بفضل ما بين الديتين ، بإجماع جميع أهل الإسلام : على أن حرامًا على الرجل أن يتلف من جَسده عضوًا بعوض يأخذه على إتلافه ، فدعْ جميعَه وعلى أن حرامًا على غيره إتلاف شيء منه - مثل الذي حُرِّم من ذلك - بعوَض يُعطيه عليه. (3) فالواجب أن تكون نفسُ الرجل الحر بنفس المرأة الحرة قَوَدًا.
وإذ كان ذلك كذلك ، كان بيّنًا بذلك أنه لم يرد بقوله تعالى ذكره : " الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى " أن لا يقادَ العبدُ بالحرّ ، وأن لا تُقتل الأنثى بالذكر ولا الذكر بالأنثى. وإذْ كان ذلك كذلك ، كان بيِّنًا أن الآية معنيٌّ بها أحد المعنيين الآخرين. إمّا قولنا : من أنْ لا يُتَعدَّى بالقصاص إلى غير القاتل والجاني ، فيؤخذ بالأنثى الذكر وبالعبد الحر. وإمّا القول الآخر : وهو أن تكون
__________
(1) قوله : " فإذا كان مختلف " هو تمام قوله في رد السؤال في ص : 358 س : 11 . " قيل : اختلف أهل التأويل في ذلك . . " .
(2) في المطبوعة : " وكان واضحًا " ، والصواب حذف الواو .
(3) سياق العبارة : " كان واضحًا فساد من قال بالقصاص . . . بإجماع جميع أهل الإسلام على أن حرامًا على الرجل . . . وعلى أن حرامًا على غيره . . . " .

(3/363)


الآية نزلت في قوم بأعيانهم خاصة أمِرَ النبي صلى الله عليه وسلم أن يجعل ديات قتلاهم قصَاصًا بعضها من بعض ، كما قاله السدي ومن ذكرنا قوله.
وقد أجمع الجميع - لا خلاف بينهم - على أن المقاصَّة في الحقوق غير واجبة ، وأجمعوا على أن الله لم يقض في ذلك قضاء ثم نَسخه. وإذ كان كذلك ، وكان قوله تعالى ذكره : " كُتب عليكم القصَاص " ينبئ عن أنه فَرضٌ ، كان معلومًا أن القول خلافُ ما قاله قائل هذه المقالة. لأن ما كان فرضًا على أهل الحقوق أن يفعلوه ، فلا خيارَ لهم فيه. والجميع مجمعون على أنّ لأهل الحقوق الخيارَ في مقاصَّتهم حقوقهم بعضَها من بعض. فإذْ تبيَّنَ فسادُ هذا الوجه الذي ذكرنا ، فالصحيح من القول في ذلك هو ما قلنا.
* * *
فإن قال قائل : إذْ ذكرتَ أن معنى قوله : " كتب عليكم القصاص " - بمعنى : فُرض عليكم القصاص : لا يعرف (1) لقول القائل : " كتب " معنًى إلا معنى : خط ذلك ، فرسم خطًّا وكتابًا ، فما برهانك على أن معنى قوله : " كتب " فُرِض ؟
قيل : إن ذلك في كلام العرب موجودٌ ، وفي أشعارهم مستفيض ، ومنه قول الشاعر : (2)
كُتِبَ القَتْلُ وَالقِتَالُ عَلَيْنَا... وَعَلَى المُحْصَنَاتِ جَرُّ الذُّيُولِ (3)
__________
(1) في المطبوعة : " ولا يعرف . . . " والصواب حذف الواو . والسياق : فإن قال قائل . . - لا يعرف " وما بينهما فصل . والذي ذكره في معنى " كتب " قد سلف في ص : 357 .
(2) هو عمر بن أبي ربيعة ، أو عبد الله بن الزبير الأسدي .
(3) ديوان عمر : 421 ، والبيان والتبيين 2 : 236 ، والكامل 2 : 154 ، وتاريخ الطبري 7 : 158 ، وأنساب الأشراف 5 : 264 ، والأغاني 9 : 229 . ولهذا الشعر خبر . وذلك أن مصعب بن الزبير ، لما خرج إلى المختار بن أبي عبيد الثقفي المتنبئ فظفر به وقتله ، كان فيمن أخذ امرأته عمرة بنت النعمان بن بشير ، فلما سألها عنه قالت : رحمة الله عليه ، إن كان عبدًا من عباد الله الصالحين : فكتب مصعب إلى أخيه عبد الله إنها تزعم أنه نبي! فأمر بقتلها . وقتلها الذي تولى قتلها قتلا فظيعًا ، فاستنكره الناس ، وقالوا فيه ، وممن عمر : إِنَّ مِنْ أَعْجَبِ العَجَائِبِ عِنْدي ... قَتْلُ بيضاءَ حُرَّةٍ عُطْبُولِ
قُتِلَتْ هكذا عَلَى غَيْرِ جُرْم ... إِنَّ لِلهِ دَرَّهَا من قَتِيلِ
كُتِبَ القتل . . . ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

(3/364)


وقولُ نَابغةَ بني جعدة :
يَا بِنْتَ عَمِّي ، كِتَابُ اللهِ أَخْرَجَنِي... عَنْكُم ، فَهَلْ أَمْنَعَنَّ اللهَ مَا فَعَلا! (1)
وذلك أكثر في أشعارهم وكلامهم من أن يحصى. غير أن ذلك ، وإن كان بمعنى : فُرض ، فإنه عندي مأخوذ من " الكتاب " الذي هو رسمٌ وخَط. وذلك أن الله تعالى ذكره قد كتب جميعَ ما فرَض على عباده وما هم عاملوه في اللوح المحفوظ ، فقال تعالى ذكره في القرآن : ( بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ ) [سورة البروج : 21 - 22] وقال : ( إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ ) [سورة الواقعة : 77 - 78]. فقد تبين بذلك أن كل ما فرضه علينا ، ففي اللوح المحفوظ مكتوبٌ.
فمعنى قوله : - إذ كان ذلك كذلك - " كُتب عليكم القصاص " ، كتب عليكم في اللوح المحفوظ القصَاصُ في القتلى ، فَرضًا ، أن لا تقتلوا بالمقتول غير قاتله.
* * *
وأما " القصاص " فإنه من قول القائل : " قاصصتُ فلانًا حقّي قِبَلهُ من حَقه قبلي ، قصاصًا ومُقاصَّة " . فقتل القاتل بالذي قتله " قصاص " ، لأنه مفعول به مثلُ الذي فعَل بمن قتله ، وإن كان أحد الفعلين عُدوانًا والآخر حَقًّا. فهما وإن اختلفا من هذا الوجه ، فهما متفقان في أن كل واحد قد فعَل بصاحبه مثل
__________
(1) اللسان (كتب) وأساس البلاغة (كتب) ، والمقاييس 5 : 159 ، ويروي " يا ابنة عمي " ، وفي الأساس : " أخرني " ، فأخشى أن تكون خطأ من ناسخ .

(3/365)


الذي فعل صاحبه به. وجعل فعل وَليّ القتيل الأوّل إذا قتل قاتل وليه - قصاصًا ، إذ كان بسبب قتله استحق قتلَ من قتله ، فكأن وليّه المقتول هو الذي وَلى قَتل قاتله ، فاقتص منه.
* * *
وأما " القتلى " فإنها جمع " قتيل " كما " الصرعى " جمع " صريع " ، والجرحى جمع " جريح " . وإنما يجمع " الفعيل " على " الفعلى " ، إذا كان صفة للموصوف به ، بمعنى الزمانة والضرر الذي لا يقدر معه صاحبه على البراح من موضعه ومصرعه ، (1) نحو القتلى في معاركهم ، والصرعى في مواضعهم ، والجرحى ، وما أشبه ذلك.
* * *
فتأويل الكلام إذًا : فُرض عليكم ، أيها المؤمنون ، القصاصُ في القتلى : أن يُقتص الحر بالحرّ ، والعبد بالعبد ، والأنثى بالأنثى. ثم ترك ذكر " أن يقتص " اكتفاءً بدلالة قوله : " كُتب عليكم القصاص " عليه.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ }
قال أبو جعفر : اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك.
فقال بعضهم : تأويله : فمن تُرك له من القتل ظلمًا ، من الواجب كان لأخيه عليه من القصَاص - وهو الشيء الذي قال الله : " فمن عُفي له من أخيه شيء " - فاتباعٌ من العافي للقاتل بالواجب له قبَله من الدية ، وأداءٌ من المعفوِّ عنه ذلك إليه بإحسان.
* ذكر من قال ذلك :
__________
(1) انظر ما سلف في تفسير " أسرى " 2 : 311 .

(3/366)


2573 - حدثنا أبو كريب وأحمد بن حماد الدولابي قالا حدثنا سفيان بن عيينة ، عن عمرو ، عن مجاهد ، عن ابن عباس : " فمن عفي له من أخيه شيء " ، فالعفو : أن يقبل الدية في العمد. واتباع بالمعروف : أن يطلب هذا بمعروف ، ويؤدِّي هذا بإحسان.
2574 - حدثني المثنى قال ، حدثنا حجاج بن المنهال قال ، حدثنا حماد بن سلمة قال ، حدثنا عمرو بن دينار ، عن جابر بن زيد ، عن ابن عباس أنه قال في قوله : " فمن عُفي له من أخيه شيءٌ فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان " ، فقال : هو العمد ، يرضى أهله بالدية ، واتباع بالمعروف : أُمر به الطالب وأداء إليه بإحسان من المطلوب.
2575 - حدثنا محمد بن علي بن الحسن بن شقيق قال ، حدثنا أبي - وحدثني المثنى قال ، حدثنا سويد بن نصر - قالا جميعًا ، أخبرنا ابن المبارك ، عن محمد بن مسلم ، عن عمرو بن دينار ، عن مجاهد ، عن ابن عباس قال ، الذي يقبل الدية ، ذلك منه عفوٌ واتباعٌ بالمعروف ، ويؤدِّي إليه الذي عُفي له من أخيه بإحسان. (1)
2576 - حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : " فمن عُفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف وأداءٌ إليه بإحسان " ، وهي الدية : أن يحسن الطالبُ الطلبَ وأداء إليه بإحسان : وهو أن يحسن المطلوبُ الأداءَ.
2577 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : " فمن عُفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف
__________
(1) الخبر : 2575 - محمد بن علي بن الحسن بن شقيق ، شيخ الطبري ، مضت الرواية عنه أيضًا : 1591 . وسيأتي أيضًا : 2594 . ووقع في المطبوعة هنا " سفيان " بدل " شقيق " . وهو خطأ وتصحيف . فلا يوجد في الرواة من يسمى " محمد بن علي بن الحسن بن سفيان " ، ولا باسم أبيه .

(3/367)


وأداء إليه بإحسان " ، والعَفُوُّ : الذي يعفو عن الدم ويَأخذ الدية.
2578 - حدثنا سفيان قال ، حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : " فمن عُفي له من أخيه شيء " قال ، الدية.
2579 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن يزيد ، عن إبراهيم ، عن الحسن : " وأداء إليه بإحسان " قال ، على هذا الطالب أن يطلبَ بالمعروف ، وعلى هذا المطلوب أن يؤدي بإحسان.
2580 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : " فمن عُفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف " ، والعفوُّ : الذي يعفو عن الدم ، ويأخذ الدية.
2581 - حدثني محمد بن المثنى قال ، حدثنا أبو الوليد قال ، حدثنا حماد ، عن داود بن أبي هند ، عن الشعبي في قوله : " فمن عُفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان " قال ، هو العمد ، يرضى أهله بالدية.
2582 - حدثني المثنى قال ، حدثنا الحجاج قال ، حدثنا حماد ، عن داود ، عن الشعبي مثله.
2583 - حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : " فمن عُفي له من أخيه شَيء فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان " ، يقول : قُتل عمدًا فعُفي عنه ، وقبلت منه الدية. يقول : " فاتباع بالمعروف " ، فأمر المتبع أن يتبع بالمعروف ، وأمرَ المؤدِّي أن يؤدي بإحسان ، والعمد قَوَدٌ إليه قصاص ، لا عَقل فيه ، (1) إلا أن يرضَوا بالدية. فإن رضوا بالدية ، فمئة خَلِفَة. (2) فإن قالوا : لا نرضى إلا بكذا وكذا. فذاك لهم.
__________
(1) العقل : الدية ، سميت عقلا ، لأن الدية كانت عند العرب في الجاهلية إبلا ، لأنها كانت أموالهم . فكان القاتل يسوق الدية إلى فناء ورثة المقتول ، فيعقلها بالعقل ويسلمها إلى أوليائه .
(2) الخلفة (بفتح الخاء وكسر اللام) : الحامل من النوق . وليس لها جمع من لفظها ، بل يقال هي " مخاض " ، كما يقال : امرأة ونساء .

(3/368)


2584 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : " فاتباعٌ بالمعروف وأداء إليه بإحسان " قال ، يتبع به الطالبُ بالمعروف ، ويؤدي المطلوب بإحسان.
2585 - حدثت عن عمار قال ، حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع ، في قوله : " فمن عُفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان " ، يقول : فمن قتل عمدًا فعفي عنه ، وأخذت منه الدية ، يقول : " فاتباع بالمعروف " ، أمِر صاحبُ الدية التي يأخذها أن يتبع بالمعروف ، وأمِر المؤدِّي أن يؤدي بإحسان.
2586 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج قال ، قلت لعطاء : قوله : " فمن عُفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان " قال ، ذلك إذا أخذ الدية ، فهو عفوٌ.
2587 - حدثنا الحسن قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج قال ، أخبرني القاسم بن أبي بزة ، عن مجاهد قال : إذا قبل الدية فقد عفا عن القصاص ، فذلك قوله : " فمن عُفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان " ، قال ابن جريج : وأخبرني الأعرج ، عن مجاهد مثل ذلك ، وزاد فيه : - فإذا قبل الدية فإن عليه أن يتبع بالمعروف ، وعلى الذي عُفى عنه أن يُؤدي بإحسان.
2588 - حدثنا المثنى قال ، حدثنا مسلم بن إبراهيم قال ، حدثنا أبو عقيل قال ، قال الحسن : أخذ الدية عفوٌ حَسن.
2589 - حدثنا يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد : " وأداء إليه بإحسان " قال ، أنتَ أيها المعفوُّ عنه.
2590 - حدثني محمد بن سعد ، قال : حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : " فمن عفي له من أخيه شيء فاتباع

(3/369)


بالمعروف وأداء إليه بإحسان " ، وهو الدية ، أن يحسن الطالب وأداء إليه بإحسان : هو أن يُحسن المطلوب الأداء.
* * *
وقال آخرون معنى قوله : " فمن عُفي " ، فمن فَضَل له فضل ، وبقيتْ له بقية. وقالوا : معنى قوله : " من أخيه شيء " : من دية أخيه شيء ، أو من أرْش جراحته ، (1) فاتباع منه القاتلَ أو الجارحَ الذي بَقي ذلك قبله - بمعروف ، وأداء من القاتل أو الجارح إليه ما بقي قبله له من ذلك بإحسان.
وهذا قول من زعم أن الآية نزلت - أعني قوله : " يا أيها الذين آمنوا كُتب عَليكم القصاص في القتلى " - في الذين تحاربوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأُمِر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يُصلح بينهم ، فيقاصَّ ديات بعضهم من بعض ، ويُردّ بعضُهم على بعض بفضل إن بَقي لهم قبل الآخرين. وأحسب أن قائلي هذا القول وَجَّهوا تأويل " العفو " - في هذا الموضع - إلى : الكثرة من قول الله تعالى ذكره : ( حَتَّى عَفَوْا ) [سورة الأعراف : 95]. فكأنّ معنى الكلام عندهم : فمن كثر له قبَل أخيه القاتل.
* ذكر من قال ذلك :
2591 - حدثني موسى بن هارون قال ، حدثنا عمرو بن حماد قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : " فمنَ عُفي له من أخيه شيء " ، يقول : بقي له من دية أخيه شَيءٌ أو من أرش جراحته ، فليتبع بمعروف ، وليؤدِّ الآخرُ إليه بإحسان.
* * *
والواجب على تأويل القول الذي روينا عن علي والحسن - في قوله : " كُتب عليكم القصاص " أنه بمعنى : مُقاصّة دية النفس الذكَر من دية نَفس الأنثى ، والعبد من الحر ، والتراجع بفضل ما بين ديتي أنفسهما - أن يكون معنى قوله :
__________
(1) الأرش : دية الجنايات والجراحات كالشجة ونحوها .

(3/370)


" فمنْ عُفي له من أخيه شيء " ، فمن عُفي له من الواجب لأخيه عليه - من قصَاص دية أحدهما بدية نفس الآخر ، إلى الرِّضى بدية نفس المقتول ، فاتباع من الوليّ بالمعروف ، وأداء من القاتل إليه ذلك بإحسان.
* * *
قال أبو جعفر : وأولى الأقوال عندي بالصواب في قوله : " فمن عُفي له من أخيه شيء " : فمن صُفح له - من الواجب كان لأخيه عليه من القود - عن شيء من الواجب ، على دية يأخذها منه ، فاتباعٌ بالمعروف من العافي عن الدم ، الراضي بالدية من دم وليه وأداء إليه - من القاتل - ذلك بإحسان. لما قد بينا من العلل فيما مضى قبل : من أنّ معنى قول الله تعالى ذكره : " كُتب عليكم القصاص " ، إنما هو القصَاص من النفوس القاتلة أو الجارحة أو الشاجَّة عمدًا. كذلك " العفو " أيضًا عن ذلك.
وأما معنى قَوله : " فاتباع بالمعروف " ، فإنه يعني : فاتباع على ما أوجبه الله لهُ من الحقّ قبَل قاتل وليه ، من غير أن يزداد عليه ما ليس له عليه - في أسنان الفرائض أو غير ذلك (1) - أو يكلفه ما لم يوجبه الله له عليه ، كما : -
2592 - حدثني بشر بن معاذ قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قال : بلغنا عن نبي الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " من زاد أو ازداد بعيرًا " - يعني في إبل الديات وفرائضها - فمن أمر الجاهلية. (2)
* * *
وأما إحسان الآخر في الأداء ، فهو أداءُ ما لَزِمه بقتله لولي القتيل ، على
__________
(1) الفرائض جمع فريضة : وهو البعير المأخوذ في الزكاة ، سمى فريضة لأنه فرض واجب على رب المال ، ثم اتسع فيه حتى سمى البعير فريضة في غير الزكاة .
(2) الحديث : 2592 - هذا حديث مرسل ، إذ يرويه " قتادة " ، وهو تابعي . ولم أجده في مكان آخر ولا ذكره السيوطي .

(3/371)


ما ألزمه الله وأوجبه عليه ، من غير أن يبخسه حقًّا له قبله بسبب ذلك ، أو يحوجه إلى اقتضاءٍ ومطالبة.
* * *
فإن قال لنا قائل : وكيف قيل : " فاتباعٌ بالمعروف وأداء إليه بإحسان " ، ولم يَقل فاتباعًا بالمعروف وأداءً إليه بإحسان ، كما قال : ( فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ ) [سورة محمد : 4] ؟ قيل : لو كان التنزيل جاء بالنصب ، وكان : فاتباعًا بالمعروف وأداءً إليه بإحسان - كان جائزًا في العربية صحيحًا ، على وجْه الأمر ، كما يقال : " ضربًا ضَربًا وإذا لقيت فلانًا فتبجيلا وتعظيمًا " ، غير أنه جاءَ رفعًا ، وهو أفصح في كلام العرب من نصبه. وكذلك ذلك في كل ما كان نظيرًا له ، مما يكون فرضًا عامًّا - فيمن قد فعل ، وفيمن لم يفعل إذا فعل - لا ندبًا وحثًّا. ورفعه على معنى : فمن عفي له من أخيه شيء ، فالأمر فيه : اتباعٌ بالمعروف وأداءٌ إليه بإحسان ، أو فالقضاء والحكم فيه : اتباع بالمعروف.
وقد قال بعض أهل العربية : رفع ذلك على معنى : فمن عفي له من أخيه شيء ، فعليه اتباعٌ بالمعروف. وهذا مذهب ، والأول الذي قلناه هو وجه الكلام. وكذلك كلّ ما كان من نظائر ذلك في القرآن ، فإن رفعَه على الوجه الذي قُلناه. وذلك مثل قوله : ( وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ ) [سورة المائدة : 95] ، وقوله : ( فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ ) [سورة البقرة : 229]. وأما قوله : ( فَضَرْبَ الرِّقَابِ ) ، فإن الصواب فيه النصب ، وهو وجه الكلام ، لأنه على وجه الحثّ من الله تعالى ذكره عبادَه على القتل عند لقاء العدو ، كما يقال : " إذا لقيتم العدو فتكبيرًا وتهليلا " ، على وجه الحضّ على التكبير ، لا على وجه الإيجاب والإلزام. (1)
* * *
__________
(1) انظر معاني القرآن للفراء 1 : 109 - 110 .

(3/372)


القول في تأويل قوله تعالى : { ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ }
قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بقوله : " ذلك " ، هذا (1) الذي حكمت به وسَننته لكم ، من إباحتي لكم - أيتها الأمة - العفوَ عن القصاص من قاتل قتيلكم ، على دية تأخذونها فتملكونها ملككم سائر أموالكم التي كنت مَنعتها مَن قبلكم من الأمم السالفة " تخفيف من ربكم " ، يقول : تخفيف مني لكم مما كنت ثَقَّلته على غيركم ، بتحريم ذلك عليهم " ورحمة " ، مني لكم. كما : -
2593 - حدثنا أبو كريب وأحمد بن حماد الدولابي قالا حدثنا سفيان ، عن عمرو بن دينار ، عن مجاهد ، عن ابن عباس قال : كان في بني إسرائيل القصاصُ ولم تكن فيهم الدية ، فقال الله في هذه الآية : " كُتب عليكم القصاصُ في القتلى الحر بالحر " إلى قوله : " فمَن عُفي له من أخيه شيء " ، فالعفو : أن يقبل الدية في العمد " ذلك تخفيف من ربكم " . يقول : خفف عنكم ما كان على مَنْ كان قبلكم : أن يطلب هذا بمعروف ، ويؤدي هذا بإحسان. (2)
__________
(1) انظر " ذلك " بمعنى " هذا " 1 : 235 - 237 / ثم هذا الجزء 3 : 335 .
(2) الحديث : 2593 - أحمد بن حماد بن سعيد بن مسلم الأنصاري الرازي الدولابي : هو والد " أبي بشر محمد بن أحمد الدولابي " صاحب كتاب الكنى والأسماء . وقد رفعنا نسبه نقلا عن تذكرة الحفاظ 2 : 291في ترجمة ابنه الحافظ . وأحمد بن حماد هذا : ثقة ، ترجمه ابن أبي حاتم1/1/49 ، فلم يذكر فيه جرحًا ، وذكر أن أباه أبا حاتم سمع منه .
سفيان : هو ابن عيينة .
والحديث رواه عبد الرزاق في تفسيره ، ص : 16 ، بنحوه . بإسنادين : عن معمر ، عن أبي نجيح ، عن مجاهد . وعن ابن عيينة - كالإسناد هنا إلى مجاهد - عن ابن عباس .
ورواه البخاري 12 : 183 (فتح) ، عن قتيبة بن سعيد ، عن سفيان . بهذا الإسناد .
وذكره السيوطي1 : 173 ، وزاد نسبته لسعيد بن منصور ، وابن أبي شيبة ، والنسائي ، وابن أبي حاتم ، وابن حبان ، وغيرهم .
وذكره ابن كثير 1 : 394 ، من رواية سعيد بن منصور ، عن سفيان . ثم قال : " وقد رواه غير واحد عن عمرو . وأخرجه ابن حبان في صحيحه عن عمرو بن دينار " . فقد سها - رحمه الله - عن أن البخاري رواه في صحيحه ، فنسبه لصحيح ابن حبان ، ولم يذكر البخاري .

(3/373)


2594 - حدثنا محمد بن علي بن الحسن بن شقيق قال ، حدثنا أبي قال ، حدثنا عبد الله بن المبارك ، عن محمد بن مسلم ، عن عمرو بن دينار ، عن مجاهد ، عن ابن عباس قال : كان مَنْ قبلكم يقتلون القاتل بالقتيل ، لا تقبل منهم الدّية ، فأنزل الله : " يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر " إلى آخر الآية ، " ذلك تخفيفٌ من ربكم " ، يقول : خفف عنكم ، وكان على مَنْ قبلكم أنّ الدية لم تكن تقبل ، فالذي يَقبل الدية ذلك منه عَفوٌ.
2595 - حدثني المثنى قال ، حدثنا الحجاج بن المنهال قال ، حدثنا حماد بن سلمة قال ، أخبرنا عمرو بن دينار ، عن جابر بن زيد ، عن ابن عباس : " ذلك تخفيف من ربكم ورحمة " - مما كان على بني إسرائيل ، يعني : من تحريم الدية عليهم.
2596 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، عن ابن عباس قال : كان على بني إسرائيل قصاص في القتل ، ليس بينهم دية في نَفس ولا جَرْح ، وذلك قول الله : ( وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ ) الآية كلها [سورة المائدة : 45] ، وخفف الله عن أمة محمد صلى الله عليه وسلم ، فقبل منهم الدية في النفس وفي الجراحة ، وذلك قوله تعالى : " ذلك تخفيفٌ من ربكم " بينكم.
2597 - حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : " ذلك تخفيف من ربكم ورحمة " ، وإنما هي رحمة رَحم الله بها هذه الأمة ، أطعمهم الدية ، وأحلَّها لهم ، ولم تحلَّ لأحد قبلهم. فكان أهل التوراة إنما هو القصاص أو العفو ، وليس بينهما أرْش ، وكان أهل الإنجيل إنما هو عفوٌ ، أمروا به. فجعل الله لهذه الأمة القوَد والعفو والدية إن شاءوا ، أحلها لهم ، ولم تكن لأمة قبلهم.
2598 - حدثت عن عمار بن الحسن قال ، حدثنا ابن أبي جعفر ، عن

(3/374)


أبيه ، عن الربيع بمثله سواء ، غير أنه قال : ليس بينهما شيء.
2599 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : " كتب عليكم القصاص في القتلى " قال ، لم يكن لمن قبلنا دية ، إنما هو القتل أو العفو إلى أهله. فنزلت هذه الآية في قوم كانوا أكثرَ من غيرهم.
2600 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج قال ، وأخبرني عمرو بن دينار ، عن ابن عباس قال : إنّ بني إسرائيل كان كتب عليهم القصاص ، وخفف عن هذه الأمة - وتلا عمرو بن دينار : " ذلك تخفيف من رَبكم ورحمة " .
* * *
وأما على قول من قال : القصاص في هذه الآية معناه : قصاصُ الديات بعضها من بعض ، على ما قاله السدي ، فإنه ينبغي أن يكون تأويله : هذا الذي فعلتُ بكم أيها المؤمنون من قصاص ديات قَتلى بعضكم بديات بعض ، وترك إيجاب القوَد على الباقين منكم بقتيله الذي قَتله وأخذه بديته تخفيفٌ منّي عنكم ثِقْلَ ما كان عليكُم من حكمي عليكم بالقوَد أو الدية ، ورحمة مني لكم.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ (178) }
قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بقوله : " فمن اعتدى بعد ذلك " ، فمن تجاوز ما جَعله الله له بعدَ أخذه الدّية ، اعتداءً وظلمًا إلى ما لم يُجعل له من قتل قاتِل وليه وسفك دمه ، فله بفعله ذلك وتعدِّيه إلى ما قد حرمته عليه ، عذابٌ أليم.

(3/375)


وقد بينت معنى " الاعتداء " فيما مضى بما أغنى عن إعادته. (1) وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
2601 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : " فمن اعتدى بعد ذلك " ، فقتل ، " فله عذابٌ أليم " .
2602 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : " فمن اعتدى " ، بعد أخذ الدية ، " فله عذاب أليم " .
2603 - حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا يزيد بن زريع ، عن سعيد ، عن قتادة قوله : " فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم " ، يقول : فمن اعتدى بعد أخذه الدية فقتل ، فله عذاب أليم. قال : وذُكِر لنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول : " لا أعافي رجلا قَتل بَعد أخذه الدية. (2)
__________
(1) انظر ما سلف 2 : 307 .
(2) الحديث : 2603 - وهذا رواه أيضًا قتادة - التابعي - مرفوعًا ، فهو مرسل . وكذلك ذكره السيوطي 1 : 173 ، عن قتادة ، ونسبه للطبري وابن المنذر فقط .
وقد روى المرفوع منه - عبد الرزاق في تفسيره ، ص : 16 ، عن معمر ، عن قتادة مرسلا أيضًا .
ثم ذكر السيوطي اللفظ المرفوع ، ونسبه لسمويه في فوائده ، عن سمره . وقد قصر فيه جدًا ، كما قصر في الجامع الصغير : 9701 ، إذ ذكره أيضًا ، ونسبه للطيالسي - فقط - عن جابر ، يعني جابر بن عبد الله .
وحديث الطيالسي - عن جابر - : هو في مسنده : 1763 ، عن حماد بن سلمة ، عن مطر الوراق ، عن رجل ، عن جابر ، فذكره مرفوعًا .
وقد رواه أحمد في المسند : 14968 ، عن عفان ، عن حماد بن سلمة : " أخبرنا مطر ، عن رجل ، أحسبه الحسن ، عن جابر بن عبد الله " . وكذلك رواه أبو داود في السنن : 4507 ، عن موسى بن إسماعيل ، عن حماد بن سلمة ، به .
فتقصير السيوطي : أن نسبه للطيالسي وحده ، وهو في أحد الكتب الستة ومسند أحمد .
وعلى كل حال ، فحديث جابر ضعيف ، لأن إسناده رجلا مبهمًا ، أو رجل شك فيه مطر الوراق .
وحديث الحسن عن سمرة ، ذكره أيضًا ابن كثير 1 : 395 قال ، " وقال سعيد بن أبي عروبة ، عن قتادة ، عن الحسن ، عن سمرة . . . " ، فذكره مرفوعًا .
فهذا إسناد يمكن أن يكون صحيحًا ، لو علمنا إسناده إلى سعيد بن أبي عروبة ، ومن الذي رواه من طريقه ؟ إذا لم أجده بعد طول البحث . ولو وجدناه لكان وصلا لهذا المرسل الذي رواه الطبري من طريق سعيد بن أبي عروبة عن قتادة .

(3/376)


2604 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : " فمن اعتدى بعد ذلك " قال ، هو القتل بعد أخذ الدية. يقول : من قتل بعد أنْ يأخذ الدية فعليه القتلُ ، لا تُقبلُ منه الدية. (1)
2605 - حدثت عن عمار بن الحسن قال ، حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع قوله : " فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم " ، يقول : فمن اعتدى بعد أخذه الديةَ ، فله عذاب أليم.
2606 - حدثنا سفيان بن وكيع قال ، حدثني أبي ، عن يزيد بن إبراهيم ، عن الحسن قال ، كان الرجل إذا قتل قتيلا في الجاهلية فرَّ إلى قومه ، فيجيء قومه فيصالحون عنه بالدية قال ، فيخرج الفارُّ وقد أمن على نفسه قال ، فيُقتل ثم يُرْمى إليه بالدية ، فذلك " الاعتداء " .
2607 - حدثني المثنى قال ، حدثنا مسلم بن إبراهيم قال ، حدثنا أبو عقيل قال ، سمعت الحسن في هذه الآية : " فمن عُفي لهُ من دم أخيه شيء " قال ، القاتلُ إذا طُلب فلم يُقدر عليه ، وأُخِذ من أوليائه الدية ، ثم أمن ، فأخِذ فقُتِل. قال الحسن : ما أكل عُدوانٌ.
2608 - حدثني المثنى قال ، حدثنا مسلم قال ، حدثنا القاسم قال ، حدثنا هارون بن سليمان قال ، قلت لعكرمة : من قتل بعد أخذه الدية ؟ قال : إذًا يُقتل! أما سمعت الله يقول : " فمن اعتدى بعدَ ذلك فله عذابٌ أليم " ؟
2609 - حدثني موسى بن هارون قال ، حدثنا عمرو قال ، حدثنا أسباط ،
__________
(1) الخبر : 2604 - رواه الطبري من طريق عبد الرزاق . وهو في تفسيره ، ص 16 ، بهذا الإسناد .

(3/377)


عن السدي : " فمن اعتدى بعد ذلك " ، بعد مَا يأخذ الدية ، فيقتل " فلا عذابٌ أليم " .
2610 - حدثني محمد بن سعد قال ، حدثنى أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : " فمن اعتدى بعد ذلك " ، يقول : فمن اعتدى بعد أخذه الدية ، فله عذاب أليم.
2611 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد في قوله : " فمن اعتدى بعد ذلك فله عذابٌ أليم " قال ، أخذ العَقْل ، ثم قَتل بعد أخذ العقل قاتلَ قتيله ، فله عذاب أليم.
* * *
واختلفوا في معنى " العذاب الأليم " الذي جعله الله لمن اعتدى بعد أخذه الدية من قاتل وليِّه.
فقال بعضهم : ذلك " العذابُ " هو القتلُ بمن قتله بعد أخذ الدية منه ، وعفوه عن القصاص منه بدم وليِّه.
* ذكر من قال ذلك :
2612 - حدثني يعقوب بن إبراهيم الدورقي قال ، حدثنا هشيم قال ، أخبرنا جويبر ، عن الضحاك في قوله : " فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم " قال ، يقتل ، وهو العذاب الأليم يقول : العذاب المُوجع.
2613 - حدثني يعقوب قال ، حدثني هشيم قال ، حدثنا أبو إسحاق ، عن سعيد بن جبير أنه قال ذلك.
2614 - حدثني المثنى قال ، حدثنا مسلم بن إبراهيم قال ، حدثنا القاسم قال ، حدثنا هارون بن سليمان ، عن عكرمة : " فمن اعتدى بعد ذلك فله عذابٌ أليم " قال ، القتلُ.
* * *
وقال بعضهم : ذلك " العذابُ " عقوبة يعاقبه بها السلطان على قدر ما يَرَى من عقوبته.

(3/378)


* ذكر من قال ذلك :
2615 - حدثني القاسم بن الحسن قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج قال ، قال ابن جريج ، أخبرني إسماعيل بن أمية ، عن الليث غير أنه لم ينسبه ، وقال : ثقة : أن النبي صلى الله عليه وسلم أوجبَ بقسَمٍ أو غيره أن لا يُعفي عن رَجل عَفا عن الدم وأخذ الدية ، ثم عَدا فَقتل ، قال ابن جريج : وأخبرني عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز قال : في كتاب لعمرَ عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ، و " الاعتداء " الذي ذكر الله : أنّ الرجل يأخذ العقلَ أو يقتصُّ ، أو يقضي السلطان فيما بين الجراح ، ثم يعتدي بعضُهم من بعد أن يستوعبَ حقه. فمن فعل ذلك فقد اعتدى ، والحكم فيه إلى السلطان بالذي يرى فيه من العقوبة قال : ولو عفا عنه ، لم يكن لأحد من طلبة الحق أن [يعفو] (1) لأن هذا من الأمر الذي أنزل الله فيه قوله : ( فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ ) [سورة النساء : 59]. (2)
2616 - حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا عبد الواحد بن زياد ، عن يونس ،
__________
(1) الذي بين القوسين ، هكذا في الأصل . وصوابه فيما أرجح " أن يقتله " . ولم أجد الخبر ، ولا كتاب عمر الذي ذكره .
(2) الحديث : 2615 - هو في الحقيقة حديثان ، رواهما ابن جريج ، ولم أجدهما في مكان آخر . ولكني لا أسيغ لفظهما أن يكون من ألفاظ النبوة ، ولا عليه شيء من نورها . وهو بألفاظ الفقهاء أشبه!
فأولهما : رواه ابن جريج ، عن إسماعيل بن أمية ، عن رجل اسمه " الليث " : " غير أنه لم ينسبه " - فلا أعرف من " الليث " هذا ؟ وأما إسماعيل بن أمية : فإنه ثقة ، يروي عن التابعين . مترجم في التهذيب . والكبير 1/51/34 ، وابن أبي حاتم 1/1/159 ، ونسب قريش : 182 ، وجمهرة الأنساب لابن حزم : 74 .
وثانيهما : رواه ابن جريج ، عن عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز ، عن " كتاب لعمر عن النبي صلى الله عليه وسلم " . والظاهر أنه يريد كتابًا لعمر بن عبد العزيز . ومن المحتمل أن يكون كتابًا لعمر بن الخطاب .
وعبد العزيز بن أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز : ثقة ، وثقه ابن معين وغيره . مترجم في التهذيب . وابن أبي حاتم 2/2/389 .

(3/379)


عن الحسن : في رجل قُتل فأخذت منه الدية ، ثم إن وليَّه قَتل به القاتل. قال الحسن : تؤخذ منه الدية التي أخذ ، ولا يُقتل به. (1)
* * *
قال أبو جعفر : وأولى التأويلين بقوله : " فمن اعتدى بعد ذلك فله عذابٌ أليم " ، تأويلُ من قال : فمن اعتدى بعد أخذه الدية ، فَقتلَ قاتلَ وليه ، فله عذاب أليم في عاجل الدنيا ، وهو القتل. لأن الله تعالى جعل لكل وليِّ قتيلٍ قُتل ظلمًا ، سلطانًا على قاتل وليه ، فقال تعالى ذكره( وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ ) [سورة الإسراء : 33]. فإذ كان ذلك كذلك : وكان الجميع من أهل العلم مجمعين على أن من قَتل قاتلَ وليه بعد عفوه عنه وأخذِه منه دية قتيله ، أنه بقتله إياه له ظالم في قتله - كان بَيِّنًا أن لا يولِّي من قَتله ظُلمًا كذلك ، السلطانَ عليه في القصاص والعفو وأخذ الدية ، أيّ ذلك شاء. (2) وَإذا كان ذلك كذلك ، كان معلومًا أن ذلك عذابُه ، لأن من أقيم عليه حدُّه في الدنيا ، كان ذلك عقوبته من ذنبه ، ولم يكن به متَّبَعًا في الآخرة ، على ما قد ثبت به الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. (3)
__________
(1) الخبر : 2616 - بشر بن معاذ ، شيخ الطبري ، مضى في : 352 . ونزيد هنا أنه ثقة معروف ، مترجم في التهذيب ، وابن أبي حاتم 1/1/368 ، وذكر أن أباه كتب عنه ، وأنه سئل عنه ، فقال : " صالح الحديث صدوق " . وهو يروي عن قدماء الشيوخ ، مثل " حماد بن زيد " المتوفى سنة 179 ، وعبد الواحد بن زياد ، شيخه هنا ، المتوفى تلك السنة .
عبد الواحد بن زياد العبدي البصري : أحد الأعلام الثقات . مترجم في التهذيب ، والصغير للبخاري : 202 ، وذكر أنه مات سنة 179 ، وابن أبي حاتم 3/1/20 - 21 ، وابن سعد 7/2/44 .
يونس : هو ابن عبيد بن دينار العبدي ، وهو ثقة ، من أوثق أصحاب الحسن وأثبتهم . مترجم في التهذيب . والكبير 4/2/402 ، والصغير : 160 ، وابن سعد 7/2/23 - 24 ، وابن ابي حاتم 4/2/242 .
(2) في هذه العبارة غموض ، وأخشى أن يكون قد سقط من الكلام شيء ، ولكن المعنى العام ظاهر .
(3) كالذي رواه البخاري من حديث عبادة بن الصامت قال : " بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم في رهط فقال : أبايعكم على أن لا تشركوا بالله شيئًا ، ولا تسرقوا ، ولا تقتلوا أولادكم ، ولا تأتوا ببهتان تفترونه بين أيديكم وأرجلكم ، ولا تعصوني في معروف . فمن وفى منكم فأجره على الله ، ومن أصاب من ذلك شيئًا فأخذ به في الدنيا ، فهو كفارة له وطهور ، ومن ستره الله فذلك إلى الله ، إن شاء عذبه وإن شاء غفر له " (البخاري : كتاب الحدود 8 : 162) .

(3/380)


وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (179) كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (180)

وأما ما قاله ابن جريج : من أن حكم من قَتل قاتل وَليِّه بعد عفوه عنه ، وأخذِه دية وليِّه المقتول - إلى الإمام دُون أولياء المقتول ، فقولٌ خلافٌ لما دلَّ عليه ظاهرُ كتاب الله ، وأجمع عليه علماء الأمة. وذلك أنّ الله جعل لوليّ كل مقتول ظلمًا السلطانَ دون غيره ، من غير أن يخصّ من ذلك قتيلا دون قتيل. فسواءٌ كان ذلك قتيلَ وليّ من قتله أو غيره. ومن خص من ذلك شيئًا سئل البرهان عليه من أصلٍ أو نظير ، وعُكِس عليه القول فيه ، ثم لن يقول في شيء من ذلك قولا إلا ألزم في الآخر مثله. ثم في إجماع الحجة على خلاف ما قاله في ذلك ، مكتفًى في الاستشهاد على فساده بغيره.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الألْبَابِ }
قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بقوله : " ولكم في القصَاص حَياةٌ يا أولي الألباب " ، ولكم يا أولي العقول ، فيما فرضتُ عليكم وأوجبتُ لبعضكم على بعض ، من القصاص في النفوس والجراح والشجاج ، مَا مَنع به بعضكم من قتل بعض ، وقَدَع بعضكم عن بعض ، فحييتم بذلك ، فكان لكم في حكمي بينكم بذلك حياة. (1)
* * *
واختلف أهل التأويل في معنى ذلك.
فقال بعضهم في ذلك نحو الذي قلنا فيه.
* ذكر من قال ذلك :
__________
(1) قدعه يقدعه قدعًا : كفه . ومنه : " اقدعوا هذه الأنفس فإنها طلعة " ، أي كفوها عما تشتهي وتريد .

(3/381)


2617 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : " ولكم في القصَاص حياةٌ يا أولي الألباب " قال ، نكالٌ ، تَناهٍ.
2618 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا ابن أبي زائدة ، عن ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : " ولكم في القصاص حياة " قال ، نكالٌ ، تَناهٍ.
2619 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد مثله.
2620 - حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا يزيد ، عن سعيد ، عن قتادة : " ولكم في القصاص حياة " ، جعل الله هذا القصاص حياة ، ونكالا وعظةً لأهل السفه والجهل من الناس. وكم من رجل قد هَمّ بداهية ، لولا مخافة القصاص لوقع بها ، ولكن الله حَجز بالقصاص بعضهم عن بعض ؛ وما أمر الله بأمر قط إلا وهو أمر صلاح في الدنيا والآخرة ، ولا نهي الله عن أمر قط إلا وهو أمر فساد في الدنيا والدين ، والله أعلم بالذي يُصلح خَلقه.
2621 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : " ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب " قال ، قد جعل الله في القصاص حياة ، إذا ذكره الظالم المتعدي كفّ عن القتل.
2622 - حدثت عن عمار بن الحسن قال ، حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع قوله : " ولكم في القصاص حياة " الآية ، يقول : جعل الله هذا القصاص حياة وعبرة لكم. كم من رجل قد هَمّ بداهية فمنعه مخافة القصاص أن يقع بها! وإن الله قد حجز عباده بعضهم عن بعض بالقصاص.
2623 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد قوله : " ولكم في القصاص حياة " قال ، نكالٌ ، تناهٍ. قال ابن جريج : حَياةٌ. مَنعةٌ.

(3/382)


2624 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد في قوله : " ولكم في القصاص حياة " قال ، حياةٌ ، بقية. (1) إذا خاف هذا أن يُقتل بي كفّ عني ، لعله يكون عدوًّا لي يريد قتلي ، فيذكر أن يُقْتَل في القصاص ، فيخشى أن يقتل بي ، فيكفَّ بالقصاص الذي خافَ أن يقتل ، لولا ذلك قتل هذا.
2625 - حدثت عن يعلى بن عبيد قال ، حدثنا إسماعيل ، عن أبي صالح في قوله : " ولكم في القصاص حياة " قال ، بقاء.
* * *
وقال آخرون : معنى ذلك : ولكم في القصاص من القاتل بقاء لغيره ، لأنه لا يقتل بالمقتول غيرُ قاتله في حكم الله. وكانوا في الجاهلية يقتلون بالأنثى الذكر ، وبالعبد الحرّ.
* ذكر من قال ذلك :
2626 - حدثني موسى بن هارون قال ، حدثنا عمرو بن حماد قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : " ولكم في القصاص حياة " ، يقول : بقاء ، لا يقتل إلا القاتل بجنايته.
* * *
وأما تأويل قوله : " يا أولي الألباب " ، فإنه : يا أولي العقول. " والألباب " جمع " اللب " ، و " اللب " العقل.
* * *
وخص الله تعالى ذكره بالخطاب أهلَ العقول ، لأنهم هم الذين يعقلون عن الله أمره ونهيه ، ويتدبّرون آياته وحججه دونَ غيرهم.
* * *
__________
(1) بقية : أي إبقاء . وأخشى أن تكون " تقية " بالتاء ، أي اتقاء ، كما يدل عليه سائر الأثر . وكلتاهما صحيحة المعنى .

(3/383)


القول في تأويل قوله تعالى : { لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (179) }
قال أبو جعفر : وتأويل قوله : " لعلكم تتقون " ، أي تتقون القصاص ، فتنتَهون عن القتل ، كما : -
269 - حدثني به يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد في قوله : " لعلكم تتقون " قال ، لعلك تَتقي أن تقتله ، فتقتل به.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (180) }
قال أبو جعفر : يعني بقوله تعالى ذكره : " كُتب عليكم " ، فُرض عليكم ، أيها المؤمنون ، الوصية إذا حضر أحدكم الموتُ إن تَرَك خَيرًا - والخير : المال للوالدين والأقربين الذين لا يرثونه ، بالمعروف : وهو مَا أذن الله فيه وأجازه في الوصية مما لم يجاوز الثلث ، ولم يتعمّد الموصي ظُلم وَرَثته حقًّا على المتقين يعني بذلك : فرض عليكم هذا وأوجبه ، وجعله حقًّا واجبًا على من اتقى الله فأطاعه أن يعمل به.
* * *
فإن قال قائل : أوَفرضٌ على الرجل ذي المال أن يُوصى لوالديه وأقربيه الذين لا يرثونه ؟
قيل : نعم.

(3/384)


فإن قال : فإن هو فرَّط في ذلك فلم يوص لهم ، أيكون مضيِّعًا فرضًا يَحْرَج بتضييعه ؟
قيل : نعم.
فإن قال : وما الدلالة على ذلك ؟
قيل : قول الله تعالى ذكره : " كُتبَ عليكم إذا حَضر أحدكم الموتُ إن تَرَك خيرًا الوصيَّةُ للوالدين والأقربين " ، فأعلم أنه قد كتبه علينا وفرَضه ، كما قال : ( كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ ) [سورة البقرة : 183] ، ولا خلاف بين الجميع أن تارك الصيام وهو عليه قادر ، مضيع بتركه فرضًا لله عليه. فكذلك هو بترك الوصية لوالديه وأقربيه ولهُ ما يوصي لهم فيه ، مُضِيعٌ فَرْضَ الله عز وجل.
فإن قال : فإنك قد علمت أن جماعة من أهل العلم قالوا : الوصيةُ للوالدين والأقربين منسوخةٌ بآية الميراث ؟
قيل له : وخالفهم جماعةٌ غيرهم فقالوا : هي محكمةٌ غيرُ منسوخة. وإذا كان في نسخ ذلك تنازع بين أهل العلم ، لم يكن لنا القضاءُ عليه بأنه منسوخٌ إلا بحجة يجب التسليم لها ، إذ كان غير مستحيل اجتماعُ حكمُ هذه الآية وحكمُ آية المواريث في حال واحدةٍ على صحة ، بغير مدافعةِ حكم إحداهما حُكمَ الأخرى - وكان الناسخ والمنسوخ هما المعنيان اللذان لا يجوز اجتماع حكمهما على صحة في حالة واحدة ، لنفي أحدهما صَاحبه.
وبما قلنا في ذلك قال جماعة من المتقدمين والمتأخرين.
* ذكر من قال ذلك :
2628 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال ، حدثنا هشيم ، عن جويبر ، عن الضحاك أنه كان يقول : من مات ولم يُوص لذوي قرابته. فقد ختم عمله بمعصية.
2629 - حدثني سَلم بن جنادة. (1) قال ، حدثنا أبو معاوية عن الأعمش ،
__________
(1) في المطبوعة : " سالم بن جنادة " . وهو خطأ . وقد مضى مرارًا ، وانظر ترجمته في رقم : 48 .

(3/385)


عن مسلم ، عن مسروق : أنه حضر رجلا فوصَّى بأشياء لا تنبغي ، فقال له مسروق : إنّ الله قد قسم بينكم فَأحسن القَسْم ، وإنه من يرغب برأيه عن رَأي الله يُضِلّه ، أوصِ لذي قرابتك ممن لا يرثك ، ثم دع المال على ما قسمه الله عليه.
2630 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا أبو تميلة يحيى بن واضح قال ، حدثنا عبيد ، عن الضحاك قال : لا تجوز وصية لوارث ، ولا يُوصي إلا لذي قرابة ، فإن أوصَى لغير ذي قرابة فقد عمل بمعصية ؛ إلا أن لا يكون قرابة ، فيوصي لفقراء المسلمين.
2631 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا جرير ، عن مغيرة قال : العجبُ لأبي العالية أعتقته امرأة من بني رياح وأوصى بماله لبني هاشم!
2632 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا جرير ، عن رجل ، عن الشعبي قال : لم يكن له [مَوَال] ، ولا كرامة. (1)
2633 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال ، حدثنا ابن علية قال ، حدثنا
__________
(1) في المطبوعة : " لم يكن له حال ولا كرامة " . وهو خطأ بلا شك عندي . فإن هذا الخبر تعليق على الخبر السالف الذي تعجب فيه المغيرة من فعل أبي العالية : أعتقته امرأة من بني رياح ، وأوصى بماله لبني هاشم! فرد الشعبي تعجب المغيرة فقال : إن أبا العالية لا موالي له ، ولا كرامة لأحد .
وخبر ذلك أن أبا العالية اشترته امرأة ، ثم ذهبت به إلى المسجد ، فقبضت على يده . فقالت : اللهم اذخره عندك ذخيرة ، اشهدوا يا أهل المسجد أنه سائبة لله ، ليس لأحد عليه سبيل إلا سبيل معروف . قال أبو العالية : والسائبة يضع نفسه حيث شاء . (ابن سعد 7/1/81) .
والسائبة : العبد يعتق على أن لا ولاء له . واختلف الفقهاء في ميراث السائبة ، إذا ترك ميراثًا : أيرثه معتقه ، أم لا يحل له أن يرزأ من ماله شيئًا ؟ قيل : لما هلك أبو العالية أتى مولاه بميراثه ، فقال : هو سائبة! وأبى أن يأخذه . وفي حديث عمر : " السائبة والصدقة ليومهما " قال أبو عبيدة : أي ليوم القيامة ، واليوم الذي كان أعتق سائبته وتصدق بصدقة فيه . يقول : فلا يرجع إلى الانتفاع بشيء منها بعد ذلك في الدنيا . وانظر ترجمة سالم مولى أبي حذيفة (ابن سعد 3/1/60) فقد كان سائبة ، وقتل يوم اليمامة في عهد أبي بكر ، فأرسل أبو بكر ماله لمولاته فأبت أن تقبله ، فجعله عمر في بيت المال .
فهذا ما أراد الشعبي أن يقول : إن أبا العالية سائبة ، فهو لا موالي له ، وماله يضعه حيث شاء ، ولا كراهة في ذلك لأحد من الموالي ، لأن ذلك هو حكم السائبة .
هذا ما رأيت في تصحيح هذه الجملة ، ولم أجدها في مكان آخر ، فأسأل الله أن أكون قد بلغت التوفيق ، وجنبت الزلل .

(3/386)


أيوب ، عن محمد قال : قال عبد الله بن معمر في الوصية : من سمَّى ، جعلناها حَيثُ سَمَّي - ومن قال : حيثُ أمرَ الله ، جعلناها في قرابته.
2634 - حدثني محمد بن عبد الأعلى الصنعاني قال ، حدثنا المعتمر قال ، حدثنا عمران بن حُدير (1) قال : قلت لأبي مجلز : الوصية على كل مسلم واجبةٌ ؟ قال : على من تركَ خيرًا.
2635 - حدثنا سوّار بن عبد الله قال ، حدثنا عبد الملك بن الصباح قال ، حدثنا عمران بن حدير (2) قال : قلت للاحق بن حُميد : الوصية حق على كل مسلم ؟ قال : هي حق على من ترك خيرًا.
* * *
واختلف أهل العلم في حكم هذه الآية.
فقال بعضهم : لم ينسخ الله شيئًا من حكمها ، وإنما هي آية ظاهرُها ظاهرُ عموم في كل والد ووالدة والقريب ، والمرادُ بها في الحكم البعضُ منهم دون الجميع ، وهو من لا يرث منهم الميت دون من يَرث. وذلك قول من ذكرت قوله ، وقول جماعة آخرين غيرهم مَعهم.
ذكر قول من لم يُذْكَر قولُه منهم في ذلك :
2636 - حدثنا محمد بن بشار قال ، حدثنا معاذ بن هشام قال ، حدثني أبي ، عن قتادة ، عن جابر بن زيد : في رجل أوصى لغير ذي قرابة وله قرابةٌ محتاجون ، قال : يُرَدّ ثلثا الثلث عليهم ، وثلث الثلث لمن أوصى له به.
2637 - حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا معاذ قال ، حدثنا أبي ، عن قتادة ، عن الحسن وجابر بن زيد وعبد الملك بن يعلى أنهم قالوا - في الرجل يُوصي لغير ذي
__________
(1) في المطبوعة : " عمران بن جرير " ، وهو خطأ ، والصواب ما أثبت . وهو عمران بن حدير السدوسي أبو عبيده البصري ، صلى على جنازة خلف أنس . روى عن أبي مجلز ، وأبي قلابة ، وغيرهما وعنه
وأبو مجلز ، هو لاحق بن حميد ، المذكور في الإسناد التالي .
(2) في المطبوعة : " عمران بن جرير " ، وهو خطأ ، والصواب ما أثبت . وهو عمران بن حدير السدوسي أبو عبيده البصري ، صلى على جنازة خلف أنس . روى عن أبي مجلز ، وأبي قلابة ، وغيرهما وعنه
وأبو مجلز ، هو لاحق بن حميد ، المذكور في الإسناد التالي .

(3/387)


قرابته وله قرابة ممن لا يرثه قال ، كانوا يجعلون ثُلثي الثلث لذوي القرابة ، وثلث الثلث لمن أوصى له به.
2638 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال ، حدثنا هشيم قال ، أخبرنا حميد ، عن الحسن أنه كان يقول : إذا أوصى الرجل لغير ذي قرابته بثُلثه فلهم ثلث الثلث ، وثلثا الثلث لقرابته.
2639 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال أخبرنا معمر ، عن ابن طاوس ، عن أبيه قال : من أوصى لقوم وسماهم ، وترك ذوي قرابته محتاجين ، انتُزِعتْ منهم وَرُدَّتْ إلى ذوي قرابته.
* * *
وقال آخرون : بل هي آية قد كان الحكم بها واجبًا وعُمل به بُرهة ، ثم نَسخ الله منها بآية المواريث الوصيةَ لوالدي المُوصِي وأقربائه الذين يرثونه ، وأقرّ فرضَ الوصية لمن كان منهم لا يرثه.
* ذكر من قال ذلك :
2640 - حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا يزيد بن زريع قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة في قوله : " كُتب عليكم إذا حَضر أحدكم الموت إن تَرك خيرًا الوصيةُ للوالدين والأقربين " ، فجعلت الوصية للوالدين والأقربين ، ثم نُسخ ذلك بعد ذلك ، فجعل لهما نصيبٌ مفروضٌ ، فصارت الوصية لذوي القرابة الذين لا يرثون ، وجُعل للوالدين نصيبٌ معلوم ، ولا تجوز وصية لوارث.
2641 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : " إذ تَرَك خيرًا الوصية للوالدين والأقربين " قال ، نسخ الوالدان منها ، وترك الأقربون ممن لا يرث.
2642 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قوله : " إن تَرَك خيرًا الوصية للوالدين

(3/388)


والأقربين " قال ، نَسخ من يَرث ، ولم ينسخ الأقربين الذين لا يرثون.
2643 - حدثنا يحيى بن نصر قال ، حدثنا يحيى بن حسان قال ، حدثنا سفيان ، عن ابن طاوس ، عن أبيه قال : كانت الوصية قبلَ الميراث للوالدين والأقربين ، فلما نزل الميراث ، نَسخ الميراثُ من يرث ، وبقي من لا يرث. فمن أوصَى لذي قَرابته لم تجز وصيتُه. (1) .
2644 - حدثني المثنى قال ، حدثنا سُويد بن نصر قال ، أخبرنا ابن المبارك ، عن إسماعيل المكي ، عن الحسن في قوله : " إن ترك خيرًا الوصية للوالدين والأقربين " قال ، نَسخ الوالدين وأثبتَ الأقربين الذين يُحرَمون فلا يرثون.
2645 - حدثني المثنى قال ، حدثنا سويد قال ، أخبرنا ابن المبارك ، عن مبارك بن فضالة ، عن الحسن في هذه الآية : " الوصية للوالدين والأقربين " قال ، للوالدين منسوخة ، والوصيةُ للقرابة وإن كانوا أغنياءَ.
2646 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثني معاوية بن صالح ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قوله : " إن تَرَك خيرًا الوصية للوالدين والأقربين " ، فكان لا يرث مع الوالدين غيرُهم ، إلا وصية إن كانت للأقربين ،
__________
(1) الخبر : 2643 - يحيى بن نصر ، شيخ الطبري : لم أعرف من هو ؟ ولم أجد في الرواة من يدعي بهذا ، إلا رجلا قديمًا لم يدركه الطبري ، وهو " يحيى " بن نصر بن حاجب القرسي " ، مات سنة 215 قبل أن يولد أبو جعفر . وهو مترجم في ابن أبي حاتم 4/2/193 ، وتاريخ بغداد 14 : 159 - 160 ، ولسان الميزان 6 : 278 - 279 .
وفي تاريخ بغداد 14 : 225 - 226 ترجمة " يحيى بن أبي نصر ، أبو سعد الهروي " ، واسم أبيه منصور بن الحسن " . وهذا توفي سنة 287 . ولكن يبعد أن يسمع من " يحيى بن حسان " المتوفى سنة 208 .
وفي التهذيب 11 : 292 - 293 ترجمة ثالثة : " يحيى بن النضر بن عبد الله الأصبهاني الدقاق " ، يروي عن أبي داود الطيالسي ، ويروي عنه أبو بكر بن أبي داود السجستاني . وهو مترجم أيضًا في تاريخ إصبهان 2 : 257 - 258 . فهذا من هذه الطبعة . ومن المحتمل جدًا أن يكون هو الذي روى عنه الطبري هنا .
وأما شيخه " يحيى بن حسان " : فهو التنيسي البكري ، وهو ثقة . مترجم في التهذيب ، والكبير 4/2/269 ، والصغير : 229 ، وابن أبي حاتم 4/2/135 .

(3/389)


فأنزل الله بعد هذا : ( وَلأبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأمِّهِ الثُّلُثُ ) [سورة النساء : 11] ، فبين الله سبحانه ميراث الوالدين ، وأقرّ وصية الأقربين في ثلث مال الميت.
2647 - حدثني علي بن داود قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثني معاوية بن صالح ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قوله : " إن ترَك خيرًا الوصيةُ للوالدين والأقربين " ، فنسخ من الوصية الوالدين ، وأثبت الوصية للأقربين الذين لا يرثون.
2648 - حدثت عن عمار قال ، حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع قوله : " كتب عليكم إذا حَضر أحدكم الموتُ إنْ تَرك خيرًا الوصية للوالدين والأقربين بالمعروف " قال ، كان هذا من قبل أن تُنزل " سورة النساء " ، فلما نزلت آية الميراث نَسخَ شأنَ الوَالدين ، فألحقهما بأهل الميراث ، وصارت الوصية لأهل القرابة الذين لا يرثون.
2649 - حدثني المثنى قال ، حدثنا الحجاج بن المنهال قال ، حدثنا حماد بن سلمة قال ، أخبرنا عطاء بن أبي ميمونة قال : سألت مسلم بن يَسار ، والعلاء بن زياد عن قول الله تبارك وتعالى : " إن ترك خيرًا الوصيةُ للوالدين والأقربين " ، قالا في القرابة.
2650 - حدثني المثنى قال ، حدثنا الحجاج قال ، حدثنا حماد ، عن إياس بن معاوية قال : في القرابة.
* * *
وقال آخرون : بل نَسخ الله ذلك كله وفرضَ الفرائض والمواريث ، فلا وصية تجب لأحد على أحد قريبٍ ولا بعيدٍ.
* ذكر من قال ذلك :
2651 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله :

(3/390)


" إن تَرَك خيرًا الوصية للوَالدين والأقربين " الآية ، قال : فنسخ الله ذلك كله وفرضَ الفرائض.
2652 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال ، حدثنا ابن علية ، عن يونس ، عن ابن سيرين ، عن ابن عباس : أنه قام فخطب الناس هاهنا ، فقرأ عليهم " سورة البقرة " ليبين لهم منها ، فأتى على هذه الآية : " إن ترك خيرًا الوصية الوالدين والأقربين " قال ، نُسخت هذه.
2653 - حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : " إن ترك خيرًا الوصية للوالدين والأقربين " ، نسخت الفرائضُ التي للوالدين والأقربين الوصيةَ.
2654 - حدثني محمد بن بشار قال ، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي قال ، حدثنا سفيان ، عن جهضم ، عن عبد الله بن بدر قال ، سمعت ابن عمر يقول في قوله : " إن تَرَك خيرًا الوصيةُ للوالدين والأقربين " قال ، نسختها آيةُ الميراث. قال ابن بشار : قال عبد الرحمن : فسألت جهضمًا عنه فلم يحفظه.
2655 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا يحيى بن واضح قال ، حدثنا الحسين بن واقد ، عن يزيد النحوي ، عن عكرمة والحسن البصري قالا " إن تَرَك خيرًا الوصية للوالدين والأقربين " ، فكانت الوصية كذلك حتى نسختها آية الميراث.
2656 - حدثني أحمد بن المقدام قال ، حدثنا المعتمر قال ، سمعت أبي قال ، زعم قتادة ، عن شريح في هذه الآية : " إن ترك خيرًا الوصية للوالدين والأقربين " قال ، كان الرجل يُوصي بماله كله ، حتى نزلت آية الميراث.
2657 - حدثنا أحمد بن المقدام قال ، حدثنا المعتمر قال ، سمعت أبي قال ، زعم قتادة : أنه نسختْ آيتا المواريث في " سُورة النساء " ، الآيةَ في " سُورة البقرة " في شأن الوصية.
2658 - حدثني محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى ،

(3/391)


عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله : " إن تَرك خيرًا الوصيةُ للوالدين والأقربين " قال ، كان الميراث للوَلد ، والوصية للوالدين والأقربين ، وهي منسوخة.
2659 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد قال : كان الميراث للولد ، والوصية للوالدين والأقربين ، وهي منسوخة ، نسختها آيةٌ في " سورة النساء " : ( يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ ) [سورة النساء : 11]
2660 - حدثني موسى بن هارون قال ، حدثنا عمرو بن حماد قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : " كُتب عليكم إذا حَضر أحدكم الموت إن ترك خيرًا الوصيةُ للوالدين والأقربين " ، أما الوالدان والأقربون ، فيوم نزلت هذه الآية كان الناس ليس لهم ميراث معلومٌ ، إنما يُوصي الرجل لوالده ولأهله فيقسم بينهم ، حتى نسختها " النساء " ، فقال : ( يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ ) .
2661 - حدثني يعقوب قال ، حدثنا ابن علية قال ، حدثنا أيوب ، عن نافع : أن ابن عمر لم يُوصِ ، وقال : أمّا مالي ، فالله أعلمُ ما كنت أصنع فيه في الحياة ، وأما رِباعي فما أحب أن يَشْرَك ولدي فيها أحد.
2662 - حدثني محمد بن خلف العسقلاني قال ، حدثنا محمد بن يوسف قال ، حدثنا سفيان ، عن نسير بن ذعلوق قال ، قال عروة - يعني ابن ثابت - لربيع بن خُثيم : (1) أوْصِ لي بمصحفك. قال : فنظر إلى أبيه فقال : ( وَأُولُو الأرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ ) [سورة الأنفال : 75].
2663 - حدثنا علي بن سهل قال ، حدثنا يزيد ، عن سفيان ، عن الحسن بن عبد الله ، عن إبراهيم قال : ذكرنا له أن زيدًا وطلحة كانا يشدِّدان في الوصية ، فقال : ما كان عَليهما أن يفعلا مات النبي صلى الله عليه وسلم ولم يُوصِ ، وأوصَى أبو بكر ، أيِّ ذلك فعلتَ فحسنٌ.
__________
(1) في المطبوعة : " بن خثيم " ، وأثبت ما في التهذيب ، وانظر ترجمته .

(3/392)


2664 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا الثوري ، عن الحسن بن عبد الله ، عن إبراهيم قال : ذكر عنده طلحة وزيد فذكر مثله.
* * *
وأما " الخير " الذي إذا تركه تاركٌ وجب عليه الوصية فيه لوالديه وأقرَبيه الذين لا يرثون ، فهو : المال ، كما : -
2665 - حدثني المثنى بن إبراهيم قال ، حدثنا عبد الله بن صالح ، عن معاوية بن صالح ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قوله : " إن تَرك خيرًا " ، يعني مالا.
2666 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله : " إن ترك خيرًا " ، مالا.
2667 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة (1) قال ، حدثنا شبل ، عن أبي نجيح ، عن مجاهد : " إن تَرَك خيرًا " ، كان يقول : الخير في القرآن كله : المال ، ( لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ ) [سورة العاديات : 8] ، الخير : المال - ( إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي ) [سورة ص : 32] ، المال - ( فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا ) [سورة النور : 33] ، المال و( إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ ) ، المالُ.
2668 - حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة : " إن ترك خيرًا الوصية " ، أي : مالا. (2)
2669 - حدثني موسى بن هارون قال ، حدثنا عمرو بن حماد قال ، حدثنا
__________
(1) في المطبوعة : " أبو جعفر " والصواب " أبو حذيفة " ، وهو إسناد دائر في التفسير أقربه آنفًا رقم : 2659 .
(2) الأثر : 2668 - في المطبوعة : " حدثنا بشر بن معاذ قال حدثنا سعيد " أسقط " حدثنا يزيد " ، وهو إسناد دائر في التفسير أقربه آنفًا رقم : 2640 .

(3/393)


أسباط عن السدي : " إن تَرك خيرًا الوصية " ، أما " خيرًا " ، فالمالُ.
2670 - حدثت عن عمار بن الحسن قال ، حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : " إن ترك خيرًا " قال ، إن ترك مالا.
2671 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قوله : " إن ترك خيرًا " قال ، الخيرُ المال.
2672 - حدثني المثنى قال ، حدثنا سويد قال ، أخبرنا ابن المبارك ، عن الحسن بن يحيى ، عن الضحاك في قوله : " إن ترك خيرًا الوصية " قال ، المال. ألا ترى أنه يقول : قال شعيب لقومه : ( إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ ) [سورة هود : 84] يعني الغني.
2673 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، أخبرنا محمد بن عمرو اليافعي ، عن ابن جريج ، عن عطاء بن أبي رباح ، تلا " كُتب عليكم إذا حَضر أحدكم الموتُ إن ترك خيرًا " ، قال عطاء : الخير فيما يُرى المال.
* * *
ثم اختلفوا في مبلغ المال الذي إذا تركه الرجل كان ممن لزمه حكم هذه الآية.
فقال بعضهم : ذلك ألف درهم.
* ذكر من قال ذلك :
2674 - حدثني المثنى قال ، حدثنا الحجاج بن المنهال قال ، حدثنا همام بن يحيى ، عن قتادة في هذه الآية : " إن تَرَك خيرًا الوصية " قال ، الخيرُ ألف فما فوقه.
2675 - حدثني المثنى قال ، حدثنا الحجاج قال ، حدثنا حماد قال ، أخبرنا هشام بن عروة ، عن عروة : أن علي بن أبي طالب دخل على ابن عم لهُ يعوده ، فقال : إنّي أريد أن أوصي. فقال علي : لا توص ، فإنك لم تترك خيرًا فتوصي.
قال : وكان ترك من السبعمئة إلى التسعمئة.

(3/394)


2676 - حدثني يونس بن عبد الأعلى قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، حدثني عثمان بن الحكم الحزامي (1) وابن أبي الزناد ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن علي بن أبي طالب : أنه دخل على رجل مريض ، فذكر لهُ الوصية ، فقال : لا تُوص ، إنما قال الله : " إن تَرك خيرًا " ، وأنت لم تترك خيرًا. قال ابن أبي الزناد فيه : فدع مَالك لبنيك.
2677 - حدثنا محمد بن بشار قال ، حدثنا عبد الرحمن قال ، حدثنا سفيان ، عن منصور بن صفية ، عن عبد الله بن عيينة - أو : عتبة ، الشك مني - : أنّ رجلا أراد أن يوصي وله ولد كثير ، وترك أربعمئة دينار ، فقالت عائشة : ما أرى فيه فضلا.
2678 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه قال : دخل عليٌّ علَى مولى لهم في الموت وله سبعمئة درهم ، أو ستمئة درهم ، فقال : ألا أوصي ؟ فقال : لا! إنما قال الله : " إن ترك خيرًا " ، وليس لك كثير مال.
* * *
وقال بعضهم : ذلك ما بين الخمسمئة درهم إلى الألف.
* ذكر من قال ذلك :
2679 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر ، عن قتادة ، عن أبان بن إبراهيم النخعيّ في قوله : " إن ترك خيرًا " قال ، ألف درهم إلى خمسمئة.
* * *
وقال بعضهم : الوصية واجبة من قليل المال وكثيره.
* ذكر من قال ذلك :
__________
(1) ضبطه في الخلاصة " بكسر المهملة " وفي التهذيب والميزان " الجذامي " بجيم مضمومة ، ثم ذال معجمة .

(3/395)


فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (181)

2680 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر ، عن الزهري قال : جعل الله الوصية حقًّا ، مما قل منه أو كثر.
* * *
قال أبو جعفر : وأولى هذه الأقوال بالصواب في تأويل قوله : " كُتبَ عَليكم إذا حَضر أحدكم الموت إن ترك خيرًا الوصية " ما قال الزهري. لأن قليلَ المال وكثيره يقع عليه " خيرٌ " ، ولم يحدّ الله ذلك بحدٍّ ، ولا خص منه شيئًا فيجوز أن يحال ظاهر إلى باطن. فكلّ من حضرته منيَّته وعنده مالٌ قلّ ذلك أو كثر ، فواجبٌ عليه أن يوصي منه لمن لا يرثه من آبائه وأمهاته وأقربائه الذين لا يرثونه بمعروف ، كما قال الله جل ذكره وأمرَ به.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ }
قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بذلك : فمن غيَّر ما أوصَى به الموصِي - من وصيته بالمعروف لوالديه أو أقربيه الذين لا يرثونه - بعد ما سمع الوصية ، فإنما إثم التبديل على من بَدَّل وصيته.
* * *
فإن قال لنا قائل : وعلامَ عادت " الهاء " التي في قوله : " فمن بدّله " ؟
قيل : على محذوف من الكلام يدل عليه الظاهر. وذلك هو أمر الميت ، وإيصاؤه إلى من أوصَى إليه ، بما أوصَى به ، لمن أوْصَى له.
ومعنى الكلام : " كُتب عليكم إذا حَضر أحدكم الموت إن ترك خيرًا الوصية للوالدين والأقربين بالمعروف حقًّا عَلى المتقين " ، فأوصوا لهم ، فمن بدل ما أوصيتم به لهم بعد ما سَمعكم توصون لَهم ، فإنما إثم ما فعل من ذلك عليه دونكم.

(3/396)


وإنما قلنا إن " الهاء " في قوله : " فمن بدله " عائدة على محذوف من الكلام يدل عليه الظاهرُ ، لأن قوله : " كُتب عليكم إذا حَضر أحدكم الموتُ إن ترك خيرًا الوصية " من قول الله ، وأنّ تبديل المبدِّل إنما يكون لوصية الموصِي. فأما أمرُ الله بالوصية فلا يقدر هو ولا غيره أن يبدِّله ، فيجوز أن تكون " الهاء " في قوله : " فمن بدله " عائده على " الوصية " .
وأما " الهاء " في قوله : " بعد ما سمعه " ، فعائدة على " الهاء " الأولى في قوله : " فمن بَدَّله " .
وأما " الهاء " التي في قوله : " فإنما إثمه " ، فإنها مكنيُّ " التبديل " ، كأنه قال : فإنما إثم ما بدَّل من ذلك على الذين يبدلونه.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
2681 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : " فمن بدَّله بَعد ما سمعه " قال ، الوصية.
2682 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد مثله.
2683 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو صالح قال ، حدثني معاوية بن صالح ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس في قوله : " فمن بدَّله بعد ما سمعه فإنما إثمه على الذين يبدِّلونه " ، وقد وقعَ أجر الموصي على الله وبَرئ من إثمه ، وإن كان أوصى في ضِرَارٍ لم تجز وصيته ، كما قال الله : ( غَيْرَ مُضَارٍّ ) [سورة النساء : 12]
2684 - حدثنا الحسين بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : " فمن بدَّله بعد ما سمعه " ، قال : من بدّل الوصية بعد ما سمعها ، فإثم ما بدَّل عليه.

(3/397)


2685 - حدثني موسى بن هارون قال ، حدثنا : عمرو بن حماد قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : " فمن بدَّله بعد ما سمعه فإنما إثمه على الذين يبدلونه " ، فمن بدَّل الوصية التي أوصى بها ، وكانت بمعروف ، فإنما إثمها على من بدَّلها. إنه قد ظلم.
2686 - حدثني المثنى قال ، حدثنا حجاج بن المنهال قال ، حدثنا حماد ، عن قتادة : أن عطاء بن أبي رباح قال في قوله : " فمن بدَّله بعد ما سمعه فإنما إثمه على الذين يبدّلونه " ، قال : يُمضَى كما قال.
2687 - حدثنا سفيان بن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن يزيد بن إبراهيم ، عن الحسن : " فمن بدّله بعد ما سمعه " ، قال : من بدل وصية بعد ما سمعها.
2688 - حدثني المثنى قال ، حدثنا حجاج قال ، حدثنا يزيد بن إبراهيم ، عن الحسن في هذه الآية : " فمن بدّله بعد ما سمعه فإنما إثمه على الذين يبدِّلونه " ، قال : هذا في الوصية ، من بدَّلها من بعد ما سمعها ، فإنما إثمه على من بَدَّله.
2689 - حدثنا ابن بشار وابن المثنى قالا حدثنا معاذ بن هشام قال ، حدثني أبي ، عن قتادة ، عن عطاء وسالم بن عبد الله وسليمان بن يسار أنهم قالوا : تُمضى الوصية لمن أوصَى له به إلى هاهنا انتهى حديث ابن المثنى ، وزاد ابن بشار في حديثه قال قتادة : وقال عبد الله بن معمر : أعجبُ إليّ لو أوْصى لذوي قرابته ، وما يعجبني أن أنزعه ممن أوصَى له به. قال قتادة : وأعجبه إليّ لمن أوصى له به ، قال الله عز وجل : " فمن بدَّله بعدَ ما سمعه فإنما إثمه على الذين يبدّلونه " .
* * *

(3/398)


القول في تأويل قوله تعالى : { إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (181) }
قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بذلك : " إن الله سميع " لوصيتكم التي أمرتكم أن تُوصوا بها لآبائكم وأمهاتكم وأقربائكم حين توصون بها ، أتعدلون فيها على ما أذِنت لكم من فعل ذلك بالمعروف ، أم تَحيفون فتميلون عن الحق وتجورون عن القصد ؟ " عليمٌ " بما تخفيه صدوركم من الميل إلى الحق ، والعدل ، أم الجور والحيْف.
* * *

(3/399)


فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (182)

القول في تأويل قوله تعالى : { فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (182) }
قال أبو جعفر : اختلف أهل التأويل في تأويل هذه الآية.
فقال بعضهم : تأويلها : فمن حضر مريضًا وهو يوصي عند إشرافه على الموت ، فخاف أن يخطئ في وصيته فيفعل ما ليس له ، أو أن يعمد جورًا فيها فيأمر بما ليس له الأمر به ، فلا حرج على من حَضره فسمع ذلك منه أنْ يصلح بينه وبين وَرَثته ، بأن يأمره بالعدل في وصيته ، وأن ينهاهم عن مَنعه مما أذن الله له فيه وأباحه له.
* ذكر من قال ذلك :
2690 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : " فمن خَافَ من مُوص جَنفًا أو إثمًا فأصلح بينهم فلا إثم عليه " ، قال : هذا حين يُحْضَر الرجلُ وهو يموت ، فإذا

(3/399)


أسرف أمروه بالعدل ، وإذا قصَّر قالوا : افعل كذا ، أعطِ فلانًا كذا.
2691 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد قوله : " فمن خَافَ من مُوص جَنفا أو إثما " ، قال : هذا حين يُحْضَر الرجلُ وهو في الموت ، فإذا أشرف على الجور أمروه بالعدل ، (1) وإذا قصر عن حق قالوا : افعل كذا ، أعط فلانًا كذا.
* * *
وقال آخرون : بل معنى ذلك : فمن خافَ - من أولياء ميت ، (2) أو وَالِي أمر المسلمين - من مُوص جنفا في وصيته التي أوصى بها الميت ، فأصلح بين وَرَثته وبين الموصى لهم بما أوصَى لهم به ، فرد الوصية إلى العدل والحقّ ، فلا حرج ولا إثم.
* ذكر من قال ذلك :
2692 - حدثني المثنى ، حدثنا أبو صالح كاتب الليث ، حدثني معاوية بن صالح ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس في قوله : " فمن خاف من مُوص جَنفًا " - يعني : إثْمًا - يقول : إذا أخطأ الميت في وصيته أو حاف فيها ، فليس على الأولياء حرجٌ أن يردوا خطأه إلى الصواب.
2693 - حدثنا الحسن بن يحيى ، (3) حدثنا عبد الرزاق ، أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : " فمن خافَ من مُوص جَنفًا أو إثمًا " ، قال : هو الرجل يُوصي
__________
(1) في المطبوعة : " فإذا أشرف على الموت أمروه بالعدل " ، وهو لا يستقيم مع سياق الخبر ، ولا مع الخبر الذي قبله عن مجاهد أيضًا . ورجحت أن يكون الناسخ صحف " الجور " فجعلها " الموت " أو سها أو سبق قلمه . أو لعله أخطأ وصحف وزاد ، وأن أصل عبارته كالسياق قبله : " فإذا أسرف أمروه بالعدل " . وكلاهما جائز ، وصواب في المعنى .
(2) في المطبوعة : " أوصياء ميت " ، وهما سواء .
(3) في المطبوعة : " الحسن بن عيسى " وهو خطأ صرف ، وهو إسناد دائر في التفسير أقربه إلينا رقم : 2684 .

(3/400)


فيحيف في وصيته ، فيردها الوليّ إلى الحقّ والعدل. (1)
2694 - حدثنا بشر بن معاذ ، حدثنا يزيد بن زريع ، عن سعيد ، عن قتادة قوله : " فمن خاف من مُوص جَنفًا أو إثمًا " ، وكان قتادة يقول : من أوصى بجورٍ أو حيْف في وصيته فردها وَليّ المتوفى أو إمام من أئمة المسلمين ، إلى كتاب الله وإلى العدل ، فذاك له.
2695 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الرحمن بن سعد وابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : " فمن خَافَ من مُوص جَنفًا أو إثمًا " ، فمن أوصى بوصية بجور ، فردَّه الوصيُّ إلى الحق بعد موته ، فلا إثم عليه - قال عبد الرحمن في حديثه : " فاصلح بينهم " ، يقول : رده الوصيّ إلى الحق بعد موته ، فلا إثم عليه.
2696 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا قبيصة ، عن سفيان ، عن أبيه ، عن إبراهيم : " فمن خافَ من مُوص جَنفًا أو إثمًا فأصْلح بينهم " ، قال : رده إلى الحق.
2697 - حدثنا أحمد بن إسحاق قال ، حدثنا أبو أحمد الزبيري قال ، حدثنا إسرائيل ، عن سعيد بن مسروق ، عن إبراهيم قال ، سألته عن رجل أوصى بأكثر من الثلث ؟ قال : اردُدها. ثم قرأ : " فمن خاف من مُوص جَنفًا أو إثمًا " .
2698 - حدثنا عمرو بن علي قال ، حدثنا خالد بن يزيد صاحب اللؤلؤ قال ، حدثنا أبو جعفر الرازي ، عن الربيع بن أنس : " فمن خاف من مُوص جَنفًا أو إثمًا فأصلح بينهم فلا إثم عليه " ، قال : رده الوصي إلى الحق بعد موته ، فلا إثم على الوصي.
* * *
وقال بعضهم : بل معنى ذلك : فمن خاف من موص جنفًا أو إثمًا في عطيته
__________
(1) في المطبوعة : " الوالي " ، والصواب ما أثبت ، أي ولي الميت .

(3/401)


عند حضور أجله بعضَ ورثته دون بعض ، فلا إثم على من أصلح بينهم يعني : بين الورثة.
* ذكر من قال ذلك :
2699 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثنا حجاج ، عن ابن جريج قال : قلت لعطاء قوله : " فمن خاف من موص جَنفًا أو إثمًا " ، قال : الرجل يحيف أو يأثم عند موته ، فيعطي ورثته بعضَهم دون بعض ، يقول الله : فلا إثم على المصلح بينهم. فقلت لعطاء : أله أن يُعطي وارثه عند الموت ، إنما هي وصية ، ولا وصية لوارث ؟ قال : ذلك فيما يَقسم بينهم.
* * *
وقال آخرون : معنى ذلك : فمن خاف من مُوص جنفًا أو إثمًا في وصيته لمن لا يرثه ، بما يرجع نفعه على من يَرثه ، فأصلح بينَ وَرَثته ، فلا إثم عليه.
* ذكر من قال ذلك :
2700 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج قال ، قال ابن جريج ، أخبرني ابن طاوس ، عن أبيه أنه كان يَقول : جَنفُه وإثمه ، أنْ يوصي الرجل لبني ابنه ليكونَ المالُ لأبيهم ، وتوصي المرأة لزوج ابنتها ليكون المال لابنتها ؛ وذو الوارث الكثير والمالُ قليل ، فيوصي بثلث ماله كله ، فيصلح بينهم الموصَى إليه أو الأمير. قلت : أفي حياته أم بعد موته ؟ قال : ما سمعنا أحدًا يقول إلا بعد موته ، وإنه ليوعظ عند ذلك.
2701 - حدثني الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا ابن عيينة ، عن ابن طاوس ، عن أبيه في قوله : " فمن خافَ من موص جَنفًا أو إثمًا فأصلح بينهم " ، قال : هو الرجل يوصي لولد ابنته.
* * *
وقال آخرون : بل معنى ذلك : فمن خاف من موص لآبائه وأقربائه جَنفًا على بعضهم لبعض ، فأصلح بين الآباء والأقرباء ، فلا إثم عليه.
* ذكر من قال ذلك :

(3/402)


2702 - حدثني موسى بن هارون قال ، حدثنا عمرو بن حماد قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : " فمن خافَ من مُوص جَنفًا أو إثمًا فأصلح بينهم فلا إثم عليه " . أما " جنفًا " : فخطأ في وصيته ، وأما " إثمًا " : فعمدًا يَعمد في وصيته الظلم. فإن هذا أعظمُ لأجره أن لا يُنفذها ، ولكن يصلح بينهم على ما يرى أنه الحق ، ينقص بعضًا ويزيد بعضًا. قال : ونزلت هذه الآية في الوالدين والأقربين.
2703 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد في قوله : " فمن خافَ من مُوص جَنفًا أو إثمًا فأصلح بينهم فلا إثم عليه " ، قال : " الجنَف " أن يحيف لبعضهم على بعض في الوصية ، " والإثم " أن يكون قد أثم في أبويه بعضهم على بعض ، " فأصلح بينهم " الموصَى إليه بين الوالدين والأقربين - الابن والبنون هُم " الأقربون " - فلا إثم عليه. فهذا الموصَى الذي أوْصى إليه بذلك ، وجعل إليه ، فرأى هذا قد أجنفَ لهذا على هذا ، فأصلح بينهم فلا إثم عليه ، فعجز الموصِي أن يوصي كما أمره الله تعالى ، وعجز الموصَى إليه أن يصلح ، فانتزع الله تعالى ذكره ذلك منهم ، ففرضَ الفرائض.
* * *
قال أبو جعفر : وأولى الأقوال في تأويل الآية أن يكون تأويلها : فمن خاف من مُوصٍ جَنفًا أو إثمًا وهو أن يميل إلى غير الحق خطأ منه ، أو يتعمد إثمًا في وصيته ، بأن يوصي لوالديه وأقربيه الذين لا يرثونه بأكثر مما يجوز له أن يوصي لهم به من ماله ، وغير ما أذن الله له به مما جاوز الثلث أو بالثلث كله ، وفي المال قلة ، وفي الوَرَثة كثرةٌ فلا بأس على من حضره أن يصلح بين الذين يُوصَى لهم ، وبين ورثة الميت ، وبين الميت ، بأن يأمرَ الميت في ذلك بالمعروف ويعرِّفه ما أباح الله له في ذلك وأذن له فيه من الوصية في ماله ، وينهاه أن يجاوز في وصيته المعروف الذي قال الله تعالى ذكره في كتابه : " كُتب عليكم إذا حضر أحدكم الموتُ إن ترك خيرًا الوصية للوالدين والأقربين بالمعروف " ، وذلك هو " الإصلاح " الذي

(3/403)


قال الله تعالى ذكره : " فأصلح بينهم فلا إثم عليه " . وكذلك لمن كان في المال فَضْل وكثرةٌ وفي الورثة قِلة ، فأراد أن يقتصر في وصيته لوالديه وأقربيه عن ثلثه ، فأصلح من حَضرَه بينه وبين ورثته وبين والديه وأقربيه الذين يريد أن يوصى لهم ، بأن يأمر المريض أن يزيد في وصيته لهم ، ويبلغ بها ما رَخّص الله فيه من الثلث. فذلك أيضًا هو من الإصلاح بينهم بالمعروف.
وإنما اخترنا هذا القول ، لأن الله تعالى ذكره قال : " فمن خَاف من موص جَنفًا أو إثمًا " ، يعني بذلك : فمن خاف من موص أن يَجْنَف أو يَأثم. فخوفُ الجنف والإثم من الموصي ، إنما هو كائن قبل وقوع الجنف والإثم ، فأما بعد وجوده منه ، فلا وجه للخوف منه بأن يَجنف أو يأثم ، بل تلك حال مَنْ قد جَنفَ أو أثم ، ولوْ كان ذلك معناه لقيل : فمن تبيّن من مُوص جَنفًا أو إثمًا - أو أيقن أو علم - ولم يقل : فمن خَافَ منه جَنفًا.
* * *
فإن أشكل ما قلنا من ذلك على بعض الناس فقال : فما وجه الإصلاح حينئذ ، والإصلاح إنما يكون بين المختلفين في الشيء ؟
قيل : إنّ ذلك وإن كان من معاني الإصلاح ، فمن الإصلاح الإصلاحُ بين الفريقين ، (1) فيما كان مخوفًا حدوثُ الاختلاف بينهم فيه ، بما يؤمن معه حُدوث الاختلاف. لأن " الإصلاح " ، إنما هو الفعل الذي يكون معه إصلاحُ ذات البين ، فسواء كان ذلك الفعل الذي يكون معه إصلاح ذات البين - قبلَ وقوع الاختلاف أو بعد وقوعه.
فإن قال قائل : فكيف قيل : " فأصلح بينهم " ، ولم يجر للورثة ولا للمختلفين ، أو المخوف اختلافهم ، ذكرٌ ؟
__________
(1) في المطبوعة : " فمن الإصلاح بين الفريقين . . " ، والصواب زيادة ، " الإصلاح " ، كما يدل عليه السياق .

(3/404)


قيل : بل قد جرى ذكر الذين أمر تعالى ذكره بالوصية لهم ، وهم والدا المُوصي وأقربوه ، والذين أمروا بالوصية في قوله : " كُتب عليكم إذا حَضر أحدكم الموتُ إن تَركَ خيرًا الوصية للوالدين والأقربين بالمعروف " ، ثم قال تعالى ذكره : " فمن خافَ من مُوص " - لمن أمرته بالوصية له - " جَنفًا أو إثمًا فأصلح بينهم " - وبين من أمرته بالوصية له - " فلا إثم عليه " . والإصلاح بينه وبينهم ، هو إصلاح بينهم وبين ورثة الموصي.
* * *
قال أبو جعفر : وقد قرئ قوله : " فمنْ خَافَ منْ مُوص " بالتخفيف في " الصاد " والتسكين في " الواو " - وبتحريك " الواو " وتشديد " الصاد " .
فمن قرأ ذلك بتخفيف " الصاد " وتسكين " الواو " ، فإنما قرأه بلغة من قال : " أوصيتُ فلانًا بكذا " .
ومن قرأ بتحريك " الواو " وتشديد " الصاد " ، قرأه بلغة من يقول : " وصَّيت فلانًا بكذا " . وهما لغتان للعرب مشهورتان : " وصَّيتك ، وأوصيتك " (1)
وأما " الجنف " ، فهو الجورُ والعدول عن الحق في كلام العرب ، ومنه قول الشاعر : (2)
هُمُ المَوْلَى وَإِنْ جَنَفُوا عَلَيْنَا... وَإِنَّا مِنْ لِقَائِهِمُ لَزُورُ (3)
يقال منه : " جَنف الرجل على صاحبه يَجنَف " - إذا مال عليه وجَار - " جَنفًا " .
* * *
__________
(1) انظر تفسير (وصى) فيما سلف من هذا الجزء 3 : 93 - 96 .
(2) هو عامر الخصفي ، من بني خصفة بن قيس عيلان .
(3) مجاز القرآن لأبي عبيدة : 66 ، 67 ، ومشكل القرآن : 219 ، واللسان (جنف) (ولي) . والمولى : ابن العم ، وأقام المفرد مقام الجمع ، وأراد " المولى " ، قال أبو عبيدة هو كقوله تعالى : (ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا) وزور جمع أزور : وهو المائل عن الشيء . يقول : هم أبناء عمنا ، ونحن نكره أن نلاقيهم فنقاتلهم ، لما لهم من حق الرحم .

(3/405)


فمعنى الكلام من خاف من موص جَنفًا له بموضع الوصية ، وميلا عن الصواب فيها ، وجورًا عن القصد أو إثمًا بتعمده ذلك على علم منه بخطأ ما يأتي من ذلك ، فأصلح بينهم ، فلا إثم عليه.
* * *
وبمثل الذي قلنا في معنى " الجنف " " والإثم " ، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
2704 - حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس في قوله : " فمن خاف من موص جَنفًا " ، يعني بالجنف : الخطأ.
2705 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا جابر بن نوح ، عن عبد الملك ، عن عطاء : " فمن خاف من موص جَنفًا " ، قال : ميلا.
2706 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال ، حدثنا هشيم قال ، أخبرنا عبد الملك ، عن عطاء مثله.
2707 - حدثنا عمرو بن علي قال ، حدثنا خالد بن الحارث ويزيد بن هارون قالا حدثنا عبد الملك ، عن عطاء مثله.
2708 - حدثني يعقوب قال ، حدثنا هشيم قال ، أخبرنا جويبر ، عن الضحاك قال : الجنفُ الخطأ ، والإثم العمد.
2709 - حدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي قال ، حدثنا [أبو أحمد] الزبيري قال ، حدثنا هشيم ، عن جويبر ، عن عطاء مثله.
2710 - حدثني موسى قال ، حدثنا عمرو قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : " فمن خاف من مُوص جَنفًا أو إثمًا " ، أما " جَنفًا " فخطأ في وصيته ، وأما " إثمًا " : فعمدًا ، يعمد في وصيته الظلم. (1)
2711 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ،
__________
(1) الأثر : 2710 - مضى رقم : 2702 مطولا .

(3/406)


عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : " فمن خَافَ من مُوص جنفًا أو إثمًا " ، قال : خطأً أو عمدًا. (1)
2712 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الرحمن بن سعد وابن أبي جعفر ، عن أبي جعفر ، عن الربيع : " فمن خَاف من مُوص جَنفًا أو إثمًا " ، قال : الجنف الخطأ ، والإثم العمد.
2713 - حدثنا عمرو بن علي قال ، حدثنا خالد بن يزيد صاحب اللؤلؤ قال ، حدثنا أبو جعفر ، عن الربيع بن أنس مثله.
2714 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا قبيصة ، عن سفيان ، عن أبيه ، عن إبراهيم : " فمن خاف من مُوص جَنفًا أو إثمًا " ، قال : الجنف : الخطأ ، والإثم العمد.
2715 - حدثنا أحمد بن إسحاق قال ، حدثنا أبو أحمد قال ، حدثنا فضيل بن مرزوق ، عن عطية : " فمن خاف من مُوص جَنفًا " ، قال : خطأ ، " أو إثمًا " متعمدًا.
2716 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الرزاق ، عن ابن عيينة ، عن ابن طاوس ، عن أبيه : " فمن خَافَ من مُوص جَنفًا " ، قال : ميلا.
2717 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد في قوله : " جَنفًا " حَيْفًا ، " والإثم " ميله لبعض على بعض. وكلّه يصير إلى واحد ، كما يكون " عفوًّا غَفورًا " و " غَفورًا رَحيمًا " .
2718 - حدثنا القاسم قال حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن
__________
(1) الأثر : 2711 - كان في المطبوعة : " فمن خاف من موص جنفًا " قال : جنفًا إثما " ، وهي عبارة مضطربة فاسدة ، فلم أستجز تركها على فسادها ونقلت قول مجاهد الذي أخرجه سفيان بن عيينة وعبد بن حميد فيما نقله السيوطي في الدر المنثور 1 : 175 .

(3/407)


جريج قال ، قال ابن عباس : الجنف " الخطأ ، والإثم : العمد.
2719 - حدثت عن الحسين بن الفرج قال ، حدثنا الفضل بن خالد قال ، حدثنا عبيد بن سليمان ، عن الضحاك قال : الجنف الخطأ ، والإثم العمد. (1)
* * *
وأما قوله : " إنّ الله غَفورٌ رَحيم " ، فإنه يعني : والله غَفورٌ للموصي (2) فيما كان حدَّث به نفسه من الجنف والإثم ، إذا تَرَك أن يأثم ويَجنف في وصيته ، فتجاوزَ له عما كان حدَّث به نفسه من الجور ، إذ لم يُمْضِ ذلك فيُغْفِل أن يؤاخذه به (3) " رحيمٌ " بالمصلح بينَ المُوصي وبين من أراد أن يَحيف عليه لغيره ، أو يَأثَم فيه له.
* * *
__________
(1) الخبر : 2719 - الحسين بن الفرج الخياط البغدادي : شيخ لا يعبأ بروايته ، قال فيه ابن معين : " كذاب ، صاحب سكر ، شاطر " ؛ مترجم في ابن أبي حاتم 1/2/62 - 63 ، وتاريخ إصبهان 1 : 266 - 267 ، وتاريخ بغداد 8 : 84 - 86 ، ولسان الميزان 2 : 307 . والطبري يروي عنه في التفسير كثيرًا بإسناد مجهول ، يقول : " حدثت عن الحسين بن الفرج " . ولعل ذلك من أجل ضعف حديثه ، فلا يصل الإسناد إليه . وصرح في بعض مرات في التاريخ باسم من حدثه عنه ، انظر التاريخ 1 : 30 ، 42 .
ويقع اسمه في المطبوعة على الصواب ، كما في 2898 . وكثيرًا ما يقع خطأ مصفحًا : " الحسن بن الفرج " ، كما في هذا الموضع ، وكما في : 2750 . ومن ذلك ما مضى : 691 ، وقلت هناك : " لم أعرف من هو ؟ " . فيصحح في ذاك الموضع ، وحيثما جاء في التفسير .
الفضل بن خالد : مضت ترجمته : 691 .
(2) كان في المطبوعة : " غفور رحيم للموصى . . " ، وليس صوابًا ، وسياق عبارته دال على صواب ما أثبتنا .
(3) في المطبوعة : " فيفعل أن يؤاخذه به " ، ولعل الصواب ما أثبت .

(3/408)


يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183)

القول في تأويل قوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183) }
قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بقوله : " يا أيها الذين آمنوا " ، يا أيها الذين آمنوا بالله ورسوله وصدقوا بهما وأقرُّوا. (1)
ويعني بقوله : " كتب عليكم الصيام " ، فرض عليكم الصيام. (2)
و " الصيام " مصدر ، من قول القائل : " صُمت عن كذا وكذا " - يعني : كففت عنه - " أصوم عَنه صوْمًا وصيامًا " . ومعنى " الصيام " ، الكف عما أمر الله بالكف عنه. ومن ذلك قيل : " صَامت الخيل " ، إذا كفت عن السير ، ومنه قول نابغة بني ذبيان :
خَيْلٌ صِيَامٌ ، وخَيْلٌ غَيْرُ صَائِمَةٍ... تَحْتَ العَجَاجِ ، وأُخْرَى تَعْلُكُ اللُّجُمَا (3)
ومنه قول الله تعالى ذكره : ( إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا ) [سورة مريم : 26] يعني : صمتًا عن الكلام.
* * *
وقوله : " كما كُتب على الذين من قبلكم " ، يعني فرض عليكم مثل الذي فرض على الذين منْ قبلكم.
* * *
__________
(1) انظر تفسير " الإيمان " فيما سلف 1 : 234 - 235 ، والمراجع في فهرس اللغة .
(2) انظر تفسير " كتب " فيما سلف في هذا الجزء 3 : 357 ، 364 ، 365 .
(3) ديوانه : 106 (زيادات) واللسان (علك) (صام) . ولكنه من قصيدته التي أولها : بَانَتْ سُعَادُ وَأَمْسَى حَبْلُهَا انْجَذَمَا
وقد فسر " صامت الخليل " بأنها الإمساك عن السير ، وعبارة اللغة ، " صام الفرس " إذا قام في آريه لا يعتلف ، أو قام ساكنًا لا يطعم شيئًا . وقال أبو عبيدة : كل ممسك عن طعام أو كلام أو سير ، فهو صائم . والعجاج : الغبار الذي يثور ، يعني أنها في المعركة لا تقر . وعلك الفرس لجامه : لاكه وحركه في فيه .

(3/409)


قال أبو جعفر : ثم اختلف أهل التأويل في الذين عنى الله بقوله : " كما كُتبَ على الذين من قبلكم " ، وفي المعنى الذي وَقعَ فيه التشبيه بين فرضِ صَومنا وصوم الذين من قبلنا.
فقال بعضهم : الذين أخبرنا الله عن الصوم الذي فرضه علينا ، أنه كمثل الذي كان عليهم ، هم النصارى. وقالوا : التشبيه الذي شَبه من أجله أحدَهما بصاحبه ، هو اتفاقهما في الوقت والمقدار الذي هو لازم لنا اليوم فرضُه.
* ذكر من قال ذلك :
2720 - حدثت عن يحيى بن زياد ، عن محمد بن أبان [القرشي] ، عن أبي أمية الطنافسي ، عن الشعبي أنه قال : لو صُمت السنة كلها لأفطرت اليوم الذي يشك فيه فيقال : من شعبان ، ويقال : من رمضان. وذلك أن النصارى فُرض عليهم شهر رَمضان كما فرض علينا فحوَّلوه إلى الفصل. وذلك أنهم كانوا ربما صاموه في القيظ يعدون ثلاثين يومًا. (1) ثم جاء بعدهم قرن فأخذوا بالثقة من أنفسهم ، فصاموا قبل الثلاثين يومًا وبعدها يومًا. ثم لم يزل الآخر يُستن سنّة القرن الذي قبله حَتى صارت إلى خمسين. (2) فذلك قوله : " كتبَ عليكم الصيام كما كتبَ عَلى الذين من قَبلكم " ، (3)
* * *
__________
(1) في معاني القرآن للفراء : " فعدوه ثلاثين يومًا " .
(2) في معاني القرآن : " يستن سنة الأول حتى صارت . . " .
(3) الخبر : 2720 - يحيى بن زياد أبو زكرياء : هو الفراء الإمام النحوي ، وهو ثقة معروف مترجم في التهذيب . وتاريخ بغداد 14 : 149 - 155 . وفي دواوين كثيرة .
محمد بن ابان : نقل أخي السيد محمود محمد شاكر أن هذا الخبر مذكور في كتاب " معاني القرآن " للفراء رواه عن " محمد بن أبان القرشي " . ومحمد بن أبان القرشي : هو " محمد بن أبان بن صالح بن عمير " ، مولى لقريش . ترجمه البخاري في الكبير 1/1/34 ، برقم 50 . وقال : " يتكلمون في حفظه " وذكر في الصغير مرتين ، ص : 188 ، 214 . وقال في أولاهما : " يتكلمون في حفظ محمد بن أبان ، لا يعتمد عليه " . وقال في الضعفاء ، ص : 30 " ليس بالقوي " .
وكذلك ترجمه ابن أبي حاتم 3/2/199 ، برقم : 1119 ، وروى تضعيفه عن يحيى بن معين .
والراجح عندي أنه هو الذي روى عنه الفراء ، فإن ابن أبي حاتم ذكر من الرواة عن القرشي هذا - أبا داود الطيالسي ، وهو من طبقة الفراء .
وأما ترجمته في التهذيب 9 : 2 - 3 فإنها مختلة مضطربة ، خلط فيها بين هذا وبين " محمد بن أبان الواسطي " ، وشتان بينهما . والواسطي مترجم عند البخاري ، برقم : 48 ، وعند ابن ابي حاتم ، برقم : 1121 . وكلاهما لم يذكر فيه جرحًا .
" عن أبي أمية الطنافسي " : كذا ثبت هنا . وليس لأبي أمية الطنافسي ترجمة ولا ذكر ، فيما رأينا من المراجع . وإنما المترجم ابنه " عبيد بن أبي أمية " . وهو الذي يروي عن الشعبي . وهو مترجم في التهذيب وابن أبي حاتم 2/2/401 .
وهذا الخبر في معاني القرآن للفراء 1 : 111 ، ونقله السيوطي 1 : 176 ، ولم ينسبه لغير الطبري . ولكنه اختصره جدًا . +كأنه تلخيص لا نقل .

(3/410)


وقال آخرون : بل التشبيه إنما هو من أجل أنّ صومهم كان من العشاء الآخرة إلى العشاء الآخرة. وذلك كان فرضُ الله جَل ثناؤه على المؤمنين في أول ما افترض عليهم الصوم. ووافق قائلو هذا القول القائلي القولَ الأوَّلَ : أن الذين عَنى الله جل ثناؤه بقوله : " كما كُتبَ على الذين من قبلكم " ، النصارى.
* ذكر من قال ذلك :
2721 - حدثني موسى بن هارون قال ، حدثنا عمرو بن حماد قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : " يا أيها الذين آمنوا كُتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم " ، أما الذين من قبلنا : فالنصارى ، كتب عليهم رمضان ، وكتب عليهم أن لا يأكلوا ولا يشربوا بعد النوم ، ولا ينكحوا النساءَ شهر رمضان. فاشتد على النصارى صيامُ رمَضان ، وجعل يُقَلَّبُ عليهم في الشتاء والصيف. فلما رأوا ذلك اجتمعوا فجعلوا صيامًا في الفصل بين الشتاء والصيف ، وقالوا : نزيد عشرين يومًا نكفّر بها ما صنعنا! فجعلوا صيامهم خمسين. فلم يزل المسلمون على ذلك يَصنعون كما تصنع النصارى ، حتى كان من أمر أبي قيس بن صرمة وعمر بن الخطاب ، ما كان ، (1) فأحل الله لهم الأكل والشرب والجماعَ إلى طُلوع الفجر.
__________
(1) سيأتي خبر أبي صرمة وعمر في الآثار رقم : 2935 - 2952 .

(3/411)


2722 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : " كتب عليكم الصيامُ كما كتب على الذين من قبلكم " ، قال : كتب عليهم الصوم من العتمة إلى العتمة.
* * *
وقال آخرون : الذين عَنى الله جل ثناؤه بقوله : " كما كتب على الذين من قبلكم " ، أهل الكتاب.
* ذكر من قال ذلك :
2723 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : " يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم " ، أهل الكتاب.
* * *
وقال بعضهم : بل ذلك كان على الناس كلهم.
* ذكر من قال ذلك :
2724 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : " كتب عليكم الصيامُ كما كتب على الذين من قبلكم " ، قال : كتب شهرُ رمضان على الناس ، كما كُتب على الذين من قبلهم. قال : وقد كتب الله على الناس قبل أن ينزل رمضانُ صَوْمَ ثلاثة أيام من كل شهر.
2725 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : " يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم " ، رمضانُ ، كتبه الله على من كان قَبلهم.
* * *
قال أبو جعفر : وأولى هذه الأقوال بالصواب قول من قال : معنى الآية :
يا أيها الذين آمنوا فُرض عليكم الصيام كما فرض على الذين من قبلكم من أهل الكتاب ، " أيامًا معدودات " ، وهي شهر رمضان كله. لأن مَن بعدَ إبراهيم

(3/412)


أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (184)

صلى الله عليه وسلم كان مأمورًا باتباع إبراهيم ، وذلك أن الله جل ثناؤه كان جَعله للناس إمامًا ، وقد أخبرنا الله عز وجل أن دينه كان الحنيفيةَ المسلمةَ ، فأمر نبينا صلى الله عليه وسلم بمثل الذي أمر به مَنْ قبله من الأنبياء.
وأما التشبيه ، فإنما وقع على الوقت. وذلك أن مَنْ كان قبلنا إنما كان فرِض عليهم شهر رمضان ، مثل الذي فُرض علينا سواء.
* * *
وأما تأويل قوله : " لعلكم تَتقون " ، فإنه يعني به : لتتقوا أكل الطعام وشرب الشراب وجماع النساء فيه. (1) يقول : فرضت عليكم الصوم والكفّ عما تكونون بترك الكف عنه مفطرين ، لتتقوا ما يُفطركم في وقت صومكم.
* * *
وبمثل الذي قُلنا في ذلك قال جماعة من أهل التأويل :
* ذكر من قال ذلك :
2726 - حدثني موسى قال ، حدثنا عمرو قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : أما قوله : " لعلكم تتقون " ، يقول : فتتقون من الطعامِ والشرابِ والنساءِ مثل ما اتقوا - يعني : مثل الذي اتقى النصارى قبلكم.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ }
قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره ، كتب عليكم أيها الذين آمنوا - الصيامُ أيامًا معدودات.
ونصبَ " أيامًا " بمضمر من الفعل ، كأنه قيل : كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قَبلكم ، أن تصوموا أيامًا معدودات ، كما يقال : " أعجبني الضربُ ، زيدًا " .
* * *
__________
(1) انظرتفسير " لعل " بمعنى " لكي " 1 : 364 ، 365 / ثم 2 : 69 ، 161 ، واطلبه في الفهرس أيضًا .

(3/413)


وقوله : " كما كتب على الذين من قبلكم " من الصيام ، كأنه قيل : كتب عليكم الذي هو مثل الذي كتب على الذين من قبلكم : أن تصوموا أيامًا معدودات.
* * *
ثم اختلف أهل التأويل فيما عَنى الله جل وعز بقوله : " أيامًا معدودات " .
فقال بعضهم : " الأيام المعدودات " ، صومُ ثلاثة أيام من كل شهر. قال : وكان ذلك الذي فُرض على الناس من الصيام قبل أن يُفرض عليهم شهرُ رمضان.
* ذكر من قال ذلك :
2727 - حدثنا المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن عطاء قال : كان عليهم الصيامُ ثلاثة أيام من كل شهر ، ولم يُسمِّ الشهرَ أيامًا معدودات. قال : وكان هذا صيام الناس قبل ، ثم فرض الله عز وجل على الناس شهرَ رمصان.
2728 - حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : " يا أيها الذين آمنوا كُتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون " ، وكان ثلاثةَ أيام من كل شهر ، ثم نسخ ذلك بالذي أنزل من صيام رمضان. فهذا الصوم الأول ، من العتمة.
2729 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا يونس بن بكير قال ، حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله بن عتبة. عن عمرو بن مرة ، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى ، عن معاذ بن جبل : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم المدينة فصامَ يومَ عاشوراء وثلاثة أيام من كل شهر ، ثم أنزل الله جل وعزّ فرضَ شهر رمضان ، فأنزل الله : " يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قَبلكم " حتى بلغ : " وَعلى الذين يُطيقونه فدية طعامُ مِسكين " . (1)
__________
(1) الحديث : 2729 - يونس بن بكير : مضت ترجمته ، في : 1605 . ووقع في المطبوعة هنا " بشر بن بكير " ، وهو خطأ واضح . وسيأتي هذا الحديث بهذا الإسناد - بأطول مما هنا - على الصواب ، برقم : 2733 .
عبد الرحمن بن عبد الله بن عتبة : هو المسعودي ، وهو ثقة ، تكلموا فيه بأنه تغير في آخر حياته قبل موته بسنة أو سنتين . مات سنة 160 . مترجم في التهذيب . وابن سعد 6 : 254 ، وابن أبي حاتم 2/2/250 - 252 .
وهذا الحديث قطعة من حديث مطول ، في أحوال الصلاة ، وفي أحوال الصيام . مضت قطعة صغيرة منه ، في شأن الصلاة إلى بيت المقدس : 2156 ، من طريق أبي داود الطيالسي ، عن المسعودي .
ورواه أحمد في المسند بطوله 5 : 246 - 247 (حلبي) ، عن أبي النضر ، يزيد بن هارون - كلاهما عن المسعودي . وكذلك رواه أبو داود السجستاني : 507 ، من طريق أبي داود الطيالسي ، ويزيد بن هارون .
وروى الحاكم في المستدرك 2 : 274 ، شطره الذي في أحوال الصيام ، من طريق أبي النضر ، عن المسعودي . وقال : " هذا حديث صحيح الإسناد ، ولم يخرجاه " . ووافقه الذهبي .
ونقله ابن كثير 1 : 402 - 404 ، كاملا ، عن رواية المسند . بإسنادها . وذكره السيوطي ، كاملا أيضًا 1 : 175 - 176 ، وزاد نسبته لابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والبيهقي في سننه .

(3/414)


2730 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر ، عن قتادة قال : قد كتب الله تعالى ذكره على الناس ، قَبل أن ينزل رمضان ، صومَ ثلاثة أيام من كل شهر.
* * *
وقال آخرون : بل الأيام الثلاثةُ التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصومُها قبل أن يفرض رمضان ، كان تَطوعًا صوْمهُنّ ، وإنما عنى الله جل وعز بقوله : " كتب عليكم الصيامُ كما كتب على الذين من قبلكم أيامًا معدودات " ، أيامَ شَهر رمضان ، لا الأيامَ التي كان يصومهن قبل وُجوب فرض صَوم شهر رمضان.
* ذكر من قال ذلك :
2731 - حدثنا محمد بن المثنى قال ، حدثنا محمد بن جعفر ، عن شعبة ، عن عمرو بن مرة ، قال ، حدثنا أصحابنا : أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قدم عليهم أمرَهم بصيام ثلاثة أيام من كل شهر تطوعًا لا فريضةً. قال : ثم نزل صيام رمضان - قال أبو موسى : قوله : " قال عمرو بن مرة : حدثنا أصحابنا "

(3/415)


يريد ابن أبي ليلى ، كأنّ ابنَ أبي ليلى القائلُ : " حدثنا أصحابنا " . (1)
2732 - حدثنا ابن المثنى قال ، حدثنا أبو داود قال ، حدثنا شعبة قال ، سمعت عمرو بن مرة قال ، سمعت ابن أبي ليلى ، فذكر نحوه.
* * *
__________
(1) الحديث : 2731 - وهذه قطعة من الحديث السابق ، الطويل ، الذي أشرنا إليه في : 2729 ، ولكنه هنا مروي من طريق آخر ، طريق شعبة عن عمرو بن مرة . ويقول هنا عمرو بن مرة " حدثنا أصحابنا : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم " ، إلخ . فلو أخذ هذا على ظاهره ، لكان مرسلا . فلذلك فسره أبو موسى - وهو محمد بن المثنى شيخ الطبري - بأن الذي قال هذا هو عبد الرحمن بن أبي ليلى . ثم تلاه المثنى بالرواية بعده : 2732 ، عن أبي داود - وهو الطيالسي - عن شعبة " قال : سمعت عمرو بن مرة ، قال : سمعت ابن أبي ليلى " . وهذا هو الإسناد الذي أشرنا آنفًا إلى رواية الطبري قطعة أخرى من الحديث ، به ، في : 2156 .
والظاهر أن ابن المثنى سمع الحديث من محمد بن جعفر مرتين أو أكثر ، إحداها على هذا الوجه الذي هنا ، وبعضها على الوجه الواضح الصريح ، بذكر ابن أبي ليلى .
فقد روى الحديث - كله - أبو داود السجستاني في السنن : 506 ، بإسنادين ، أحدهما إسناد الطبري هذا ، أعني عن محمد بن المثنى . فقال أبو داود : " حدثنا عمرو بن مرزوق ، أخبرنا شعبة ، عن عمرو بن مرة ، قال : سمعت ابن أبي ليلى - ح - وحدثنا ابن المثنى ، حدثنا محمد بن جعفر ، عن شعبة ، عن عمرو بن مرة ، سمعت ابن أبي ليلى ، قال ، أحيلت الصلاة ثلاثة أحوال ، وحدثنا أصحابنا : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال . . . " .
فأعاد في الإسناد الثاني - في طريق شعبة - قول عمرو بن مرة : " سمعت ابن أبي ليلى " . ولعله أراد بهذه الإعادة ، التي فيها التصريح باسم ابن أبي ليلى ، رفع التوهم أن يظن أن تلك الرواية التي لم يصرح فيها محمد بن جعفر باسم " ابن أبي ليلى " تعلل هذه الرواية الصريحة .
أو يؤيد هذا قول الطبري - عقب الحديث - : " قال أبو موسى : قوله " قال عمرو بن مرة حدثنا أصحابنا " - يريد ابن أبي ليلى ، كأن ابن أبي ليلى القائل : حدثنا أصحابنا " . وأبو موسى : هو محمد بن المثنى نفسه ، شيخ الطبري وأبي داود . فحين حدث بالرواية المبهمة - التي في الطبري هنا - فسرها بالرواية الأخرى الموضحة ، وصرح في تفسيره بأن القائل " حدثنا أصحابنا " هو ابن أبي ليلى ، لا عمرو بن مرة . تحرزًا من إيهام أن الإسناد يكون مرسلا إذا كان القائل ذلك هو عمرو بن مرة .
وقد عقب الطبري على ذلك ، بالإسناد من طريق أبي داود الطيالسي ، الذي فيه التصريح بسماع عمرو بن مرة ذلك من ابن أبي ليلى : 2732 .
وقول ابن أبي ليلى " حدثنا أصحابنا " - يريد به الصحابة ، مثل معاذ وغيره . وابن أبي ليلى من كبار التابعين . ويؤيد هذا رواية البخاري 4 : 164 (فتح) ، قطعة من الحديث نفسه المطول ، رواية معلقة بصيغة الجزم . فقال : " وقال ابن نمير : حدثنا الأعمش ، حدثنا عمرو بن مرة ، حدثنا ابن أبي ليلى حدثنا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم " . وقال الحافظ : " وصله أبو نعيم في المستخرج ، والبيهقي من طريقه . . . وهذا الحديث أخرجه أبو داود ، من طريق شعبة والمسعودي ، عن الأعمش مطولا ، في الأذان ، والقبلة ، والصيام . واختلف في إسناده اختلافًا كثيرًا . وطيق ابن نمير هذه أرجحها " .

(3/415)


قال أبو جعفر : وقد ذكرنا قول من قال : عنى بقوله : " كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم " ، شهرَ رمضان.
* * *
وأولى ذلك بالصواب عندي قولُ من قال : عنى الله جل ثناؤه بقوله : " (أيامًا معدودات) ، أيامَ شهر رمضان. وذلك أنه لم يأت خبرٌ تَقوم به حُجة بأنّ صومًا فُرِض على أهل الإسلام غيرَ صوم شهر رمضان ، ثم نسخ بصوم شهر رمضان ، وأن الله تعالى قَد بيَّن في سياق الآية ، (1) أنّ الصيامَ الذي أوجبه جل ثناؤه علينا هو صيام شهر رمضان دون غيره من الأوقات ، بإبانته ، عن الأيام التي أخبر أنه كتب علينا صومَها بقوله : " شهرُ رَمضان الذي أنزلَ فيه القرآن " . فمن ادعى أن صومًا كان قد لزم المسلمين فرضُه غير صوم شهر رمضان الذين هم مجمعون على وجوب فرض صومه - ثم نسخ ذلك - سئل البرهانَ على ذلك من خبر تقوم به حُجة ، إذ كان لا يعلم ذلك إلا بخبر يقطع العذرَ.
وإذ كان الأمر في ذلك على ما وصفنا للذي بينا ، فتأويل الآية : كتب عليكم أيها المؤمنون الصيامُ كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون ، أيامًا معدودات هي شهر رمضان. وجائز أيضًا أن يكون معناه : " كتب عليكم الصيام " ، كتب عليكم شهر رمضان.
* * *
وأما " المعدودات " : فهي التي تعدّ مبالغها وساعاتُ أوقاتها. ويعني بقوله : " معدودات " ، مُحْصَيَاتٍ.
* * *
__________
(1) في المطبوعة : " وبأن الله تعالى . . . " ، وهو خطأ . ليس معطوفًا على قوله : " بأن صومًا . . " بل هو عطف على قوله : " وذلك أنه لم يأت خبر . . . "

(3/417)


القول في تأويل قوله تعالى : { فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ }
قال أبو جعفر : يعني بقوله جل ثناؤه : " فمن كان منكم مريضًا " ، (1) من كان منكم مريضًا ، ممن كلِّف صَومه أو كان صحيحًا غير مريض وكان على سَفر ، " فعدة من أيام أخر " ، يقول : فعليه صوم عدة الأيام التي أفطرها في مرضه أو في سفره ، " من أيام أخر " ، يعني : من أيام أخر غير أيام مرضه أو سفره.
* * *
والرفع في قوله : " فعدةٌ منْ أيام أخر " ، نظير الرفع في قوله : " فاتباع بالمعروف " . وقد مضى بيان ذلك هنالك بما أغنى عن إعادته. (2)
* * *
وأما قوله : " وَعلى الذين يُطيقونه فديةٌ طَعامُ مسكين " ، فإنّ قراءة كافة المسلمين : " وعلى الذين يُطيقونه " ، وعلى ذلك خطوط مصاحفهم. وهي القراءة التي لا يجوز لأحد من أهل الإسلام خلافُها ، لنقل جميعهم تصويبَ ذلك قرنًا عن قرن.
وكان ابن عباس يقرؤها فيما روي عنه : " وعلى الذين يُطوَّقونه " . (3)
* * *
ثم اختلف قُرّاء ذلك : " وَعلى الذين يُطيقونه " في معناه.
فقال بعضهم : كان ذلك في أول ما فرض الصوم ، وكان من أطاقه من المقيمين صامَه إن شاء ، وإن شاء أفطره وَافتدى ، فأطعم لكل يوم أفطره مسكينًا ، حتى نُسخ ذلك.
* ذكر من قال ذلك :
__________
(1) نص هذا الجزء من الآية لم يكن في المطبوعة ، وأثبته على نهجه في التفسير .
(2) انظر ما سلف في هذا الجزء 3 : 373 .
(3) انظر رفض هذه القراءة فيما سيأتي : 438 .

(3/418)


2733 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا يونس بن بكير قال ، حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله بن عتبة ، عن عمرو بن مرة ، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى ، عن معاذ بن جبل قال : " إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم المدينة فصامَ يوم عاشوراء وثلاثة أيام من كل شهر ، ثم إنّ الله جل وعز فرض شهر رَمضان ، فأنزل الله تعالى ذكره : " يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام " حتى بلغ " وعلى الذين يطيقونه فديةٌ طعام مسكين " ، فكان من شاء صامَ ، ومن شاء أفطر وأطعمَ مسكينًا. ثم إن الله عز وجل أوجب الصيام على الصحيح المقيم ، وثبت الإطعام للكبير الذي لا يستطيع الصوم ، فأنزل الله عز وجل : " فمن شَهد منكم الشهر فليصمه ومن كان مريضًا أو عَلى سفر " إلى آخر الآية. (1)
2734 - حدثنا محمد بن المثنى قال ، حدثنا محمد بن جعفر ، عن شعبة ، عن عمرو بن مرة ، قال حَدثنا أصحابنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قدم عليهم أمرهم بصيام ثلاثة أيام من كل شهر تطوعًا غيرَ فريضة. قال : ثم نزل صيام رمضان. قال : وكانوا قومًا لم يتعودوا الصيام. قال : وكان يشتد عليهم الصوم. قال : فكان من لم يصم أطعمَ مسكينًا ، ثم نزلت هذه الآية : " فمن شهد منكم فليصمه ومن كان مريضًا أو على سفر فعدة من أيام أخر " ، فكانت الرخصة للمريض والمسافر ، وأمرنا بالصيام. قال محمد بن المثنى قوله : " قال عمرو : حدثنا أصحابنا " ، يريد ابنَ أبي ليلى. كأن ابن أبي ليلى القائل : " حدثنا أصحابنا " .
2735 - حدثنا ابن المثنى قال ، حدثنا أبو داود قال ، حدثنا شعبة قال ، سمعت عمرو بن مرة قال ، سمعت ابن أبي ليلى فذكر نحوه. (2)
__________
(1) الحديث : 2733 - هو قطعة من الحديث الذي خرجناه في : 2729 - أطول من الرواية الماضية .
(2) الحديثان : 2734 ، 2735 - وهذان أيضًا قطعتان من الحديث الذي أشرنا إليه في : 2731 ، 2732 ، وقد صرح الطبري في أولهما - هنا - باسم " محمد بن المثنى " ، الذي ذكره هناك بكنيته " قال أبو موسى " .

(3/419)


2736 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا جرير ، عن منصور ، عن إبراهيم ، عن علقمة في قوله : " وَعلى الذين يُطيقونه فديةٌ طعامُ مسكين " ، قال : كان من شاء صام ، ومن شاء أفطر وأطعم نصف صاع مسكينًا ، فنسخها : " شهرُ رَمَضَان " إلى قوله : " فمن شَهد منكم الشهر فليصمه " .
2737 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا جرير ، عن مغيرة ، عن إبراهيم ، بنحوه - وزاد فيه ، قال : فنسختها هذه الآية ، وصارت الآية الأولى للشيخ الذي لا يستطيع الصوم ، يتصدق مكانَ كل يوم على مسكين نصفَ صاع.
2738 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا يحيى بن واضح أبو تميلة قال ، حدثنا الحسين ، عن يزيد النحوي ، عن عكرمة والحسن البصري قوله : " وَعلى الذين يُطيقونه فديةٌ طعامُ مسكين " ، فكان من شاء منهم أن يصومَ صَام ، ومن شاء منهم أن يَفتدي بطعام مسكين افتدى وتَمَّ له صومه. ثم قال : " فمن شَهد منكم الشهرَ فليصمه " ، ثم استثنى من ذلك فقال : " ومنْ كان مريضًا أوْ عَلى سفر فعدةٌ من أيام أخر " .
2739 - حدثنا أبو هشام الرفاعي قال ، حدثنا ابن إدريس قال : سألت الأعمش عن قوله : " وعلى الذين يُطيقونه فديةٌ طعامُ مسكين " ، فحدثنا عن إبراهيم ، عن علقمة. قال : نسختها : " فمن شَهد منكم الشهر فليصمه " . (1)
2740 - حدثنا عمر بن المثنى قال ، حدثنا عبد الوهاب قال ، حدثنا عبد الله ، عن نافع ، عن ابن عمر قال : نَسَخت هذه الآية - يعني : " وَعلى الذين يُطيقونه فديةٌ طعامُ مسكين " - التي بَعدها : " فمن شَهد منكم الشهرَ فَليصمه ومن كان
__________
(1) الأثر : 2739 - أبو هشام الرفاعي محمد بن يزيد بن محمد بن كثير بن رفاعة العجلي ، قاضي بغداد ، روى عن عبد الله بن إدريس وحفص بن غياث ، روى عنه مسلم والترمذي وابن ماجه وغيرهم . ذكره ابن حبان في الثقات ، وقال : يخطئ ويخالف . وقال ابن أبي حاتم . سالت أبي عنه فقال : ضعيف يتكلمون فيه ، وله كتاب في القراءات ، مات سنة 248 .

(3/420)


مريضًا أو على سَفر فعدة من أيام أخر " . (1)
2741 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا ابن إدريس قال ، سمعت الأعمش ، عن إبراهيم ، عن علقمة في قوله : " وعلى الذين يطيقونه فدية طعامُ مسكين " ، قال : نسختها : " فمن شهد منكم الشهر فليصمه " .
2742 - حدثنا الوليد بن شجاع أبو همام قال ، حدثنا علي بن مُسهر ، عن عاصم ، عن الشعبي قال : نزلت هذه الآية : " وعلى الذين يُطيقونه فديةٌ طعامُ مسكين " ، كان الرجل يُفطر فيتصدق عن كل يوم على مسكين طعامًا ، ثم نزلت هذه الآية : " فمن شهد منكم الشهر فليصمه ومن كان مريضًا أو على سفر فعدةٌ من أيام أخر " ، فلم تنزل الرّخصةُ إلا للمريض والمسافر.
2743 - حدثنا هناد بن السري قال ، حدثنا علي بن مسهر ، عن عاصم ،
__________
(1) الحديث : 2740 - عمر بن المثنى : هكذا في المطبوعة ، وأنا أرجح أن يكون صوابه " محمد بن المثنى " شيخ الطبري الذي يروي عنه كثيرًا . ولم أجد من يسمى " عمر بن المثنى " إلا رجلا واحدًا ، ذكر في التهذيب ولسان الميزان على أنه من التابعين . ثم لم أجترئ على تصحيحه هنا ، لاحتمال أن يكون من شيوخ الطبري الذين لم نجد تراجمهم .
عبد الوهاب : هو ابن عمر المجيد الثقفي ، مضت ترجمته في : 2029 .
عبد الله : هو ابن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب ، عرف بلقب " العمري " ، وهو ثقة ، مترجم في التهذيب ، وابن أبي حاتم 2/2/109 - 110 .
ومن المحتمل أن يكون في المطبوعة خطأ ، وأن يكون صوابه " عبيد الله " بالتصغير ، وهو أخو عبد الله أكبر منه وأوثق عند أئمة الجرح والتعديل ، وهو أحد الفقهاء السبعة ، مترجم في التهذيب . وابن أبي حاتم 2/2/326 - 327 . وهو وأخوه يشتركان في كثير من الشيوخ ، منهم " نافع مولى ابن عمر " .
وإنما ظننت هذا الاحتمال ، لأن الحديث مروي من حديث " عبيد الله " ، كما سنذكر ، إن شاء الله :
فرواه البيهقي في السنن الكبرى 4 : 200 ، من طريق عبد الوهاب الثقفي ، " عن عبيد الله بن عمر ، عن نافع ، عن ابن عمر " .
ورواه البخاري مختصرا 4 : 164 ، و 8 : 136 ، من طريق عبد الأعلى ، وهو ابن عبد الأعلى عن عبيد الله ، عن نافع ، عن ابن عمر .
ورواه البيهقي أيضًا من أحد طريقي البخاري .
والحديث صحيح بكل حال . وذكره السيوطي 1 : 178 ، وزاد نسبته إلى وكيع ، وسعيد بن منصور وابن أبي شيبة في المصنف ، وابن المنذر .

(3/421)


عن الشعبي قال : نزلت هذه الآية للناس عامة : " وعلى الذين يُطيقونه فديةٌ طعامُ مسكين " ، وكان الرجل يفطر ويتصدق بطعامه على مسكين ، ثم نزلت هذه الآية : " ومن كان مريضًا أو على سفر فعدة من أيام أخر " ، قال : فلم تنزل الرخصة إلا للمريض والمسافر.
2744 - حدثنا هناد قال ، حدثنا وكيع ، عن ابن أبي ليلى قال : دخلت على عطاء وهو يأكل في شهر رمضان ، فقال : إني شيخ كبيرٌ ، إن الصومَ نزل ، فكان من شاء صام ، ومن شاء أفطر وأطعم مسكينًا ، حتى نزلت هذه الآية : " فمن شَهد منكم الشهر فليصمه ومَنْ كان مريضًا أو على سفر فعدة من أيام أخر " ، فوجب الصوم على كل أحد ، إلا مريض أو مسافر أو شيخ كبير مثلي يَفتدي.
2745 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو صالح قال ، حدثني الليث قال ، أخبرني يونس ، عن ابن شهاب قال : قال الله : " يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيامُ كما كتب عَلى الذين منْ قبلكم " ، قال ابن شهاب : كتب الله الصيام علينا ، فكان من شاء افتدى ممن يطيق الصيامَ من صحيح أو مريض أو مسافر ، ولم يكن عليه غير ذلك. فلما أوجب الله على من شهد الشهرَ الصيامَ ، فمن كان صحيحًا يُطيقه وضع عنه الفدية ، وكان من كان على سفر أو كان مريضًا فعدة من أيام أخر. قال : وبقيت الفديةُ التي كانت تُقبل قبل ذلك للكبير الذي لا يُطيق الصيام ، والذي يعرض له العطشُ أو العلة التي لا يستطيع معها الصيام.
2746 - حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قال ، جعل الله في الصوم الأوّل فدية طعام مسكين ، فمن شاء من مسافر أو مقيم أن يُطعم مسكينًا ويفطر ، كان ذلك رخصةً له. فأنزل الله في الصوم الآخِر : " فعدة من أيام أخر " ، ولم يذكر الله في الصوم الآخر فدية طعام مسكين ، فنُسِخت الفدية ، وَثبت في الصوم الآخر :

(3/422)


" يُريد الله بكم اليسرَ ولا يُريد بكم العسر " ، وهو الإفطار في السفر ، وجعله عدةً من أيام أخَر.
2747 - حدثني أحمد بن عبد الرحمن بن وهب قال ، أخبرني عمي عبد الله بن وهب قال ، أخبرني عمرو بن الحارث قال ، بكَيْر بن عبد الله ، عن يزيد مولى سلمة بن الأكوع ، عن سلمة بن الأكوع أنه قال : كنا في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم من شاء صام ، ومن شاء أفطر وافتدى بطعام مسكين ، حتى أنزلت : " فمن شهد منكم الشهر فليصمه " . (1)
2748 - حدثني المثنى قال ، حدثنا سويد قال ، أخبرنا ابن المبارك ، عن عاصم الأحول ، عن الشعبي في قوله : " وعلى الذين يُطيقونه فدية طعامُ مسكين " ،
__________
(1) الحديث : 2747 - أحمد بن عبد الرحمن بن وهب ، المصري ، ابن أخي عبد الله بن وهب ثقة من شيوخ مسلم وابن خزيمة . تكلم فيه بعضهم فلم ينصفه . وأهل بلده أعرف به . فقال ابن أبي حاتم : " سألت محمد بن عبد الحكم عنه ؟ فقال : ثقة ، ما رأينا إلا خيرًا ، قلت : سمع من عمه ؟ قال : إي والله " . مترجم في التهذيب ، وابن أبي حاتم 1/1/59 - 60 .
" بكير بن عبد الله بن الأشج " المدني نزيل مصر : تابعي ثقة ، قال ابن وهب : " ما ذكر مالك بن أنس بكير بن الأشج إلا قال : كان من العلماء " . مترجم في التهذيب ، والكبير 1/2/113 ، وابن أبي حاتم 1/1/403 - 404 .
" بكير " : بالتصغير . ووقع في المطبوعة " بكر " بغير الياء ، وهو خطأ . فليس لبكر بن عبد الله المزني رواية في هذا الحديث . والحديث حديث " بكير بن عبد الله " .
يزيد مولى سلمة بن الأكوع : هو يزيد بن أبي عبيد الحجازي ، وهو تابعي ثقة . مترجم في التهذيب ، والكبير 4/2/348 - 349 ، وابن أبي حاتم 4/2/280 .
وقال البخاري في الصحيح - بعد روايته هذا الحديث - : " مات بكير قبل يزيد " . وهو كما قال ، فإن بكير بن عبد الله مات سنة 127 ، وقيل غير ذلك ، إلى سنة 127 . وأما يزيد مولى سلمة فإنه مات سنة 146 أو 147 . فسمع عمرو بن الحارث هذا الحديث من بكير عن يزيد - في حياة يزيد .
والحديث رواه مسلم 1 : 315 ، عن عمرو بن سواد العامري ، عن ابن وهب ، بهذا الإسناد . وكذلك رواه البيهقي 4 : 200 ، من طريق بحر بن نصر ، عن ابن وهب .
ورواه البخاري 8 : 136 ، ومسلم 1 : 315 ، والبيهقي 4 : 200 - كلهم من حديث قتيبة بن سعيد ، عن بكر بن مضر ، عن عمرو بن الحارث ، عن بكير .
وذكره السيوطي 1 : 177 - 178 ، وزاد نسبته للدارمي ، وابن خزيمة ، وابن حبان ، والحاكم ، وغيرهم .

(3/423)


قال : كانت للناس كلهم : فلما نزلت : " فمن شهد منكم الشهر فليصمه " ، أمِروا بالصوم والقضاء ، فقال : " ومن كان مريضًا أو على سفر فعدة من أيام أخر " .
2749 - حدثنا هناد قال ، حدثنا علي بن مسهر ، عن الأعمش ، عن إبراهيم في قوله : " وعلى الذين يُطيقونه فديةٌ طعامُ مسكين " ، قال : نسختها الآية التي بعدها : وأن تصوموا خيرٌ لكم إنْ كنتم تعلمون.
2750 - حدثنا هناد قال ، حدثنا وكيع ، عن محمد بن سليمان ، عن ابن سيرين ، عن عبيدة : " وَعلى الذين يُطيقونه فديةٌ طعامُ مسكين " ، قال : نسختها الآية التي تليها : " فمن شَهد منكم الشهر فليصمه " .
2751 - حدثت عن الحسين بن الفرج قال ، حدثنا الفضل بن خالد قال ، حدثنا عبيد بن سليمان ، عن الضحاك قوله : " كتب عليكم الصيام " الآية ، فُرض الصوم من العتمة إلى مثلها من القابلة ، فإذا صلى الرجل العتمة حَرُم عليه الطعام والجماع إلى مثلها من القابلة. ثم نزل الصوم الآخِر بإحلال الطعام والجماع بالليل كله ، وهو قوله : ( وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأسْوَدِ ) إلى قوله : ( ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ ) ، وأحل الجماع أيضًا فقال : ( أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ ) ، وكان في الصوم الأول الفدية ، فمن شاء من مسافر أو مقيم أن يُطعم مسكينًا ويفطرَ فعل ذلك ، ولم يذكر الله تعالى ذكره في الصوم الآخر الفديةَ ، وقال : " فعدةٌ من أيام أخر " ، فنسخ هذا الصومُ الآخِرُ الفديةَ. (1)
* * *
وقال آخرون : بل كان قوله : " وَعلى الذينَ يُطيقونه فدية طعامُ مسكين " ، حُكمًا خاصًّا للشيخ الكبير والعجوز الذين يُطيقان الصوم ، كان مرخصًا لهما
__________
(1) الخبر : 2751 - " الحسين بن الفرج " : ثبت في المطبوعة هنا " الحسن " . وهو خطأ ، كما بينا في : 2719 .

(3/424)


أن يَفديا صومهما بإطعام مسكين ويفطرا ، ثم نسخ ذلك بقوله : " فمن شَهد منكم الشهرَ فليصمه " ، فلزمهما من الصوم مثل الذي لزم الشاب إلا أن يعجزا عن الصوم ، فيكون ذلك الحكم الذي كان لهما قبلَ النسخ ثابتًا لهما حينئذ بحاله.
* ذكر من قال ذلك.
2752 - حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا يزيد بن زريع قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة ، عن عَزْرة ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : كان الشيخُ الكبير والعجوزُ الكبيرةُ وهما يطيقان الصوم ، رُخص لهما أن يفطرَا إن شاءا ويطعما لكلّ يوم مسكينًا ، ثم نَسخَ ذلك بعد ذلك : " فمن شَهد منكم الشهر فليصمه ومَنْ كان مريضًا أو عَلى سفر فعدةٌ من أيام أخر " ، وثبت للشيخ الكبير والعجوز الكبيرة ، إذا كانا لا يطيقان الصوم ، وللحبلى والمرضع إذا خافتا.
2753 - حدثني المثنى قال ، حدثنا سويد قال ، أخبرنا ابن المبارك ، عن سعيد ، عن قتادة ، عن عروة عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : " وَعلى الذين يُطيقونه " ، قال : الشيخ الكبير ، والعجوز الكبيرة ، ثم ذكر مثل حديث بشر عن يزيد. (1)
__________
(1) الحديثان : 2752 - 2753 - سعيد : هو ابن أبي عروبة .
عزرة - بفتح العين والراء بينهما زاي ساكنة : هو ابن عبد الرحمن بن زرارة الخزاعي ، وهو ثقة . مترجم في التهذيب ، والكبير 4/1/65 ، وابن أبي حاتم 3/2/21 - 22 .
ووقع في المطبوعة هنا ، وفي سنن أبي المطبوعة " عروة " بدل " عزرة " ، وهو تصحيف . والتصويب من السنن مخطوطة الشيخ عابد السندي ، ومن السنن الكبرى للبيهقي .
والحديث رواه أبو داود : 2318 (2 : 266 عون المعبود) ، من طريق ابن أبي عدي ، عن سعيد ، عن قتادة ، بهذا الإسناد ، نحوه .
ورواه البيهقي في السنن الكبرى 4 : 230 ، من طريق روح بن عبادة ، ومن طريق مكي بن إبراهيم - كلاهما عن سعيد بن أبي عروبة ، به .
ثم رواه من طريق أبي داود في السنن ، قال : " عن سعيد ، فذكره " . يعني بهذا الإسناد . فلو كانت رواية أبي داود من طريق " عروة " لذكر ذلك ، ولم يحل إسناد أبي داود على إسناده السابق الذي فيه " عن عزرة " .
وذكره السيوطي 1 : 177 - وزاد نسبته لسعيد بن منصور ، وعبد بن حميد ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم .
وروى البخاري 8 : 135 ، نحو معناه ، من طريق عمرو بن دينار ، عن عطاء ، عن ابن عباس وكذلك رواه النسائي 1 : 318 - 319 ، من طريق عمرو بن دينار .

(3/425)


2754 - حدثنا محمد بن بشار قال ، حدثنا معاذ بن هشام قال ، حدثني أبي ، عن قتادة ، عن عكرمة قال : كان الشيخ والعجوز لهما الرخصة أن يفطرا ويُطعما بقوله : " وعلى الذين يطيقونه فديةٌ طعامُ مسكين " . قال : فكانت لهم الرخصة ، ثم نسخت بهذه الآية : " فمن شهد منكم الشهر فليصمه " ، فنسخت الرخصة عن الشيخ والعجوز إذا كانا يطيقان الصوم ، وبقيت الحاملُ والمرضعُ أن يفطرَا ويُطعما.
2755 - حدثني المثنى قال ، حدثنا حجاج بن المنهال قال ، حدثنا همام بن يحيى قال ، سمعت قتادة يقول في قوله : " وعلى الذين يطيقونه فديةٌ طعامُ مسكين " ، قال : كان فيها رخصة للشيخ الكبير والعجوز الكبيرة وهما يطيقان الصومَ أن يطعما مكانَ كل يوم مسكينًا ويفطرا ، ثم نسخ ذلك بالآية التي بعدها فقال : " شهرُ رَمضَانَ " إلى قوله : " فعدةٌ من أيام أخر " ، فنسختها هذه الآية. فكان أهل العلم يُرَوْن ويرجُون الرخصةَ تثبت للشيخ الكبير والعجوز الكبيرة إذا لم يطيقا الصومَ أن يفطرا ويُطعما عن كل يوم مسكينًا ، وللحبلى إذا خشيت على ما في بطنها ، وللمرضع إذا ما خشيت على ولدها.
2756 - حدثت عن عمار بن الحسن قال ، حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع في قوله : " وَعلى الذين يطيقونه فدية طعامُ مسكين " ، فكان الشيخ والعجوز يطيقان صوم رمضان ، فأحل الله لهما أن يفطراه إن أرادا ذلك ، وعليهما الفدية لكل يَوم يفطرانه طعامُ مسكين ، فأنزل الله بعد ذلك : " شهرُ

(3/426)


رَمضانَ الذي أنزل فيه القرآن " ، إلى قوله : " فعدةٌ من أيام أخر " .
* * *
وقال آخرون ممن قرأ ذلك : " وَعلى الذين يُطيقونه " ، لم ينسخ ذلك ولا شيء منه ، وهو حكم مثبتٌ من لَدُنْ نزلت هذه الآية إلى قيام الساعة ، وقالوا : إنما تأويل ذلك : وعلى الذين يطيقونه - في حال شبابهم وَحداثتهم ، وفي حال صحتهم وقوتهم - إذا مَرضوا وكبروا فعجزوا من الكبر عن الصوم ، فدية طعام مسكين لا أنَّ القوم كان رُخِّص لهم في الإفطار - وهم على الصوم قادرون - إذا افتدوا.
* ذكر من قال ذلك :
2757 - حدثني موسى بن هارون قال ، حدثنا عمرو بن حماد قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : " وَعلى الذين يطيقونه فديةٌ طعامُ مسكين " ، قال : أما الذين يطيقونه ، فالرجل كان يطيقه وقد صام قَبل ذلك ، ثم يعرض له الوَجع أو العطش أو المرض الطويل ، أو المرأة المرضعُ لا تستطيع أن تصوم ، فإن أولئك عليهم مكانَ كل يوم إطعام مسكين ، فإن أطعم مسكينًا فهو خيرٌ له ، ومن تكلف الصيام فصامه فهو خيرٌ له.
2758 - حدثنا هناد قال ، حدثنا عبدة ، عن سعيد بن أبي عروبة ، عن قتادة ، عن عَزْرَة ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : إذا خَافت الحاملُ على نفسها ، والمرضع على ولدها في رمضان ، قال : يفطران ويطعمان مكانَ كل يوم مسكينًا ، ولا يقضيان صومًا. (1)
__________
(1) الخبر : 2758 - هناد : هو ابن السري ، مضت ترجمته : 2058 . وعبدة : هو ابن سليمان الكلابي ، مضت ترجمته : 2323 . وهذا الخبر في معنى الحديثين الماضيين : 2751 ، 2752 ، من رواية سعيد بن أبي عروبة ، عن قتادة ، عن عزرة ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس . وذانك حديثان ، لأنهما إخبار من ابن عباس عن نسخ الفدية وجواز الإفطار عامة ، وإثباتهما في حق الشيخ الكبير ومن ذكر معه هناك . وأما هذا فإنه فتوى من ابن عباس .
ووقع هنا في المطبوعة " عروة " بدل " عزرة " ، كما كان في ذينك الحديثين . فأثبتنا الصواب هنا كما أثبتناه هناك .

(3/427)


2759 - حدثنا هناد قال ، حدثنا عبدة ، ... ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : أنه رَأى أمَّ ولدٍ له حاملا أو مُرضعًا ، فقال : أنت بمنزلة الذي لا يُطيقه ، عليك أن تطعمي مكانَ كل يوم مسكينُا ، ولا قَضَاء عليك. (1)
2760 - حدثنا هناد قال ، حدثنا عبدة ، عن سعيد ، عن نافع ، عن علي بن ثابت ، عن نافع ، عن ابن عمر ، مثل قول ابن عباس في الحامل والمرضع. (2)
__________
(1) الخبر : 2759 - وهذا الخبر كسابقه ، فتوى أخرى من ابن عباس لأم ولده ، بمعنى التي قبلها . ولكن وقع هنا في المطبوعة سقط في الإسناد ، بين " عبدة " و " سعيد بن جبير " نرجع أن صوابه كالإسناد السابق . ولكن لم نستجز أن نثبته عن غير ثبت ، فوضعنا أصفارًا موضع السقط .
ويدل على صحة هذا السقط : أن الدارقطني روى هذا الخبر ، في سننه ، ص : 250 ، من طريق روح ، وهو ابن عبادة : " حدثنا سعيد ، عن قتادة ، عن عزرة ، عن سعيد بن جبير : أن ابن عباس قال لأم ولد له . . " . ثم قال الدارقطني عقبه : " إسناد صحيح " .
وذكره السيوطي 1 : 179 ، وزاد نسبته لعبد بن حميد .
(2) الخبر : 2760 - وهذا إسناد صحيح ، موقوف على ابن عمر .
علي بن ثابت بن عمرو بن أخطب البصري الأنصاري : ثقة ، ترجمه ابن أبي حاتم 3/1/177 ، ولم أجد ترجمته في موضع آخر . وملخص ما قال : روى عن نافع ، ومحمد بن يزيد ، ومحمد بن زياد . روى عنه سعيد بن أبي عروبة ، وعمران القطان ، وحماد بن سلمة ، وسويد بن إبراهيم . ثم روى عن أحمد بن حنبل ، قال : " علي بن ثابت بن أبي زيد الأنصاري : ثقة ، حدث عنه سعيد بن أبي عروبة ، وحماد زيد ، وأخوه عزرة بن ثابت ، وأخوه محمد بن ثابت " . ثم ذكر ابن أبي حاتم ، أنه سأل أباه " عن علي بن ثابت ، أخي عزرة ومحمد ابني ثابت ؟ فقال : لا بأس به " .
ووجدت البخاري ذكره في الكبير 1/1/50 ، والصغير ، ص : 171 ، في ترجمة أخيه محمد بن ثابت " .
وجدهم " عمرو بن أخطب الأنصاري " ، كنيته : أبو زيد ، وقد اشتهر بكنيته . ترجمه ابن سعد 7/17 - 18 ، قال : " وله مسجد ينسب إليه بالبصرة " .
وبقية الإسناد - قبل علي بن ثابت وبعده - ثقات معروفون ، كما هو ظاهر .
ولم يذكر الطبري لفظ خبر ابن عمر :
وذكره السيوطي 1 : 179 ، عن نافع : " قال : أرسلت إحدى بنات ابن عمر تسأله عن صوم رمضان وهي حامل ؟ قال : تفطر وتطعم كل يوم مسكينًا " ، ونسبه لعبد بن حميد ، وابن أبي حاتم ، والدارقطني .
والدارقطني رواه ص : 250 ، بإسنادين : من طريق حماد ، عن أيوب ، عن نافع عن ابن عمر : " أن امرأته سألته وهي حبلى ؟ فقال : أفطري وأطعمي عن كل يوم مسكينًا ، ولا تقضي " .
ثم رواه من طريق أبي أسامة ، عن عبيد الله ، عن نافع قال : " كانت بنت لابن عمر تحت رجل من قريش ، وكانت حاملا ، فأصابها عطش في رمضان ، فأمرها ابن عمر أن تفطر وتطعم عن كل يوم مسكينًا " .

(3/428)


2761 - حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قال : ذُكر لنا أن ابن عباس قال ، لأم ولد له حبلى أو مرضع : أنت بمنزلة الذين لا يطيقونه ، عليك الفداءُ ولا صومَ عليك. هذا إذا خافت على نفسها.
2762 - حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : " وَعلى الذين يطيقونه فدية طعامُ مسكين " ، هو الشيخ الكبير كان يُطيق صومَ شهر رمضان وهو شاب ، فكبر وهو لا يستطيع صومَه ، فليتصدق على مسكين واحد لكل يوم أفطرَه ، حين يُفطر وحينَ يَتسحَّر.
2763 - حدثنا هناد قال ، حدثنا عبدة ، عن منصور ، عن مجاهد ، عن ابن عباس نحوه - غير أنه لم يقل : حين يُفطر وحين يَتسحر.
2764 - حدثنا هناد قال ، حدثنا حاتم بن إسماعيل ، عن عبد الرحمن بن حرملة ، عن سعيد بن المسيب أنه قال في قول الله تعالى ذكره : " فديةٌ طعامُ مسكين " ، قال : هو الكبير الذي كان يصوم فكبر وعجز عنه ، وهي الحامل التي ليس عليها الصيام. فعلى كل واحد منهما طعامُ مسكين : مُدٌّ من حنطة لكلّ يوم حتى يمضيَ رَمضان.
* * *
وقرأ ذلك آخرون : " وَعَلَى الَّذِينَ يُطَوَّقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ " ، وقالوا : إنه الشيخ الكبير والمرأة العجوز اللذان قد كبرا عن الصوم ، فهما يكلفان الصوم ولا يطيقانه ، فلهما أن يفطرا ويطعما مكانَ كلّ يوم أفطراه مسكينًا. وقالوا : الآية ثابتة الحكم منذ أنزلت ، لم تنسخ ، وأنكروا قول من قال : إنها منسوخة.
* ذكر من قال ذلك :
2765 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم ، حدثنا ابن جريج ،

(3/429)


عن عطاء ، عن ابن عباس أنه كان يقرؤها : " يُطوَّقونه " .
2766 - حدثنا هناد قال ، حدثنا علي بن مسهر ، عن عصام ، عن عكرمة ، عن ابن عباس أنه كان يقرأ : " وَعلى الذين يُطوقونه فديةٌ طعامُ مسكين " ، قال : فكان يقول : هي للناس اليوم قائمة.
2767 - حدثنا هناد قال ، حدثنا وكيع ، عن سفيان ، عن منصور ، عن مجاهد ، عن ابن عباس أنه كان يقرؤها : " وَعلى الذين يُطوَّقونه فديةٌ طعامُ مسكين " ، قال : وكان يقول : هي للناس اليوم قائمة.
2768 - حدثنا هناد قال ، حدثنا قبيصة ، عن سفيان ، عن منصور ، عن مجاهد ، عن ابن عباس أنه كان يقرؤها : " وعلى الذين يُطوَّقونه " ، ويقول : هو الشيخ الكبير يُفطر ويُطعِم عنه.
2769 - حدثنا محمد بن بشار قال ، حدثنا عبد الوهاب قال ، حدثنا أيوب ، عن عكرمة أنه قال في هذه الآية : " وعلى الذين يُطوَّقونه " ، - وكذلك كان يقرؤها - : إنها ليست منسوخة ، كلِّف الشيخُ الكبير أن يُفطر ويطعم مكان كل يوم مسكينًا.
2770 - حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا محمد بن جعفر قال ، حدثنا شعبة ، عن أبي بشر ، عن سعيد بن جبير أنه قرأ : " وعلى الذين يُطوَّقونه " .
2771 - حدثنا هناد قال ، حدثنا وكيع ، عن عمران بن حدَير ، عن عكرمة قال : " الذين يُطيقونه " يصومونه ، ولكن الذين " يُطوَّقونه " ، يعجزون عنه.
2772 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا ابن جريج قال ، حدثني محمد بن عباد بن جعفر ، عن أبي عمرو مولى عائشة ، أن عائشة كانت تقرأ : " يُطوَّقونه " .
2773 - حدثنا الحسن قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا ابن جريج ، عن عطاء أنه كان يقرؤها " يطوَّقونه " . قال ابن جريج : وكان مجاهد يقرؤها كذلك.

(3/430)


2774 - حدثنا حميد بن مسعدة قال حدثنا بشر بن المفضل قال : حدثنا خالد ، عن عكرمة : " وعلى الذين يُطيقونه " قال ، قال ابن عباس : هو الشيخُ الكبير. (1)
2775 - حدثنا إسماعيل بن موسى السديّ قال ، أخبرنا شريك ، عن سالم ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : " وعلى الذين يُطوَّقونه " قال : يَتجشمونه يَتكلفونه. (2)
2776 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا ابن إدريس ، عن مسلم الملائي ، عن مجاهد ، عن ابن عباس في قوله : " وعلى الذين يُطيقونه فدية طعامُ مسكين " ، قال : الشيخ الكبير الذي لا يُطيق فيفطر ويُطعم كل يوم مسكينًا.
2777 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد وعطاء ، عن ابن عباس في قول الله : " وَعلى الذين يُطيقونه " ، قال : يُكلَّفونه ، فديةٌ طعامُ مسكين واحد. قال : فهذه آية منسوخةٌ لا يرخص فيها إلا للكبير الذي لا يُطيق الصيام ، أو مريض يعلم أنه لا يُشفى.
2778 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن عمرو بن دينار ، عن عطاء ، عن ابن عباس قال : " الذين يطيقونه " ، يتكلَّفونه ، فديةٌ طعام مسكين واحد ، ولم يُرخَّص هذا إلا للشيخ الذي لا يُطيق الصوم ، أو المريض الذي يعلم أنه لا يشفى - هذا عن مجاهد.
2779 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن
__________
(1) الأثر : 2774 - أخشى أن يكون الصواب هنا : " يطوقونه " .
(2) الأثر : 2775 - إسماعيل بن موسى السدي الفزاري ، قيل : هو ابن بنت السدي الكبير إسماعيل بن عبد الرحمن ، مات سنة 245 .

(3/431)


ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، عن ابن عباس أنه كان يقول : ليست بمنسوخة.
2780 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو صالح قال ، حدثني معاوية ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس في قوله : " وَعلى الذين يُطيقونه فديةٌ طعامُ مسكين " ، يقول : من لم يطق الصوم إلا على جَهد ، فله أن يفطر ويطعم كل يوم مسكينًا ، والحاملُ والمرضعُ والشيخُ الكبيرُ والذي به سُقمٌ دائم.
2781 - حدثنا هناد قال ، حدثنا عبيدة ، عن منصور ، عن مجاهد ، عن ابن عباس في قول الله تعالى ذكره : " وعلى الذين يطيقونه فديةٌ طعامُ مسكين " ، قال : هو الشيخ الكبير ، والمرء الذي كان يصومُ في شبابه فلما كبر عجز عن الصوم قبل أن يموتَ ، فهو يطعم كل يوم مسكينًا - قال هناد : قال عبيدة : قيل لمنصور : الذي يطعم كل يوم نصف صاعٍ ؟ قال : نعم. (1)
2782 - حدثنا هناد قال ، حدثنا مروان بن معاوية ، عن عثمان بن الأسود قال : سألتُ مجاهدًا عن امرأة لي وافقَ تاسعها شهرَ رَمضان ، ووافق حرًّا شديدًا ، فأمرني أن تُفطر وتُطعم. قال : وقال مجاهد : وتلك الرخصة أيضًا في المسافر والمريض ، فإن الله يقول : " وعلى الذين يُطيقونه فديةٌ طعامُ مسكين " .
2783 - حدثنا هناد قال ، حدثنا أبو معاوية ، عن عاصم ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : الحاملُ والمرضعُ والشيخُ الكبير الذي لا يستطيع الصوم ، يفطرون في رمضان ، ويطعمون عن كل يوم مسكينًا ، ثم قرأ : " وعلى الذينَ
__________
(1) الخبر : 2781 - عبيدة ، بفتح العين : هو ابن حميد ، بضم الحاء ، بن صهيب الحذاء ، وهو ثقة ، وثقه ابن معين وغيره ، وأخرج له البخاري في الصحيح . مترجم في التهذيب ، والصغير للبخاري ، ص : 212 ، وابن سعد 7/2/72 - 73 ، وابن أبي حاتم 3/1/92 - 93 ، وتاريخ بغداد 11 : 120 - 123 .

(3/432)


يُطيقونه فديةٌ طعامُ مسكين " . (1)
2784 - حدثنا علي بن سَعيد الكندي قال ، حدثنا حفص ، عن حجاج ، عن أبي إسحاق ، عن الحارث ، عن علي في قوله : " وعلى الذين يُطيقونه فديةٌ طعام مسكين " ، قال : الشيخ الكبير الذي لا يستطيع الصوَم ، يُفطر ويطعم مكانَ كل يوم مسكينًا. (2)
2785 - حدثني المثنى قال ، حدثنا الحجاج قال ، حدثنا حماد ، عن عمرو بن دينار ، عن عطاء ، عن ابن عباس قال : " وعلى الذين يُطيقونه فديةٌ طعامُ مسكين " ، قال : هم الذين يتكلفونه ولا يطيقونه ، الشيخُ والشيخة.
2786 - حدثني المثنى قال ، حدثنا الحجاج قال ، حدثنا حَماد ، عن الحجاج ، عن أبي إسحاق ، عن الحارث ، عن علي قال : هو الشيخُ والشيخة.
2787 - حدثني المثنى قال ، حدثنا حجاج قال ، حدثنا حماد ، عن عمران بن حُدير ، عن عكرمة أنه كان يقرؤها : " وَعلى الذين يُطيقونه " فأفطروا.
2788 - حدثني المثنى قال ، حدثنا سويد قال ، أخبرنا ابن المبارك ، عن عاصم ، عمن حدثه عن ابن عباس قال : هي مثبتةٌ للكبير والمرضع والحامل ، وعلى الذين يُطيقونَ الصيام.
2789 - حدثنا المثنى قال ، حدثنا سويد قال ، حدثنا ابن المبارك ، عن ابن جريج قال : قلت لعطاء : ما قوله : " وعلى الذين يطيقونه " ؟ قال : بلغنا أن الكبير إذا لم يستطع الصوم يفتدي من كل يوم بمسكين. قلت : الكبيرُ الذي
__________
(1) الأثر 2783 - أبو معاوية الضرير محمد بن خازم التميمي السعدي . قال ابن سعد : " كان ثقة كثير الحديث ، يدلس ، كان مرجئا . مات سنة 193 .
(2) الأثر 2784 - في المطبوعة : " علي بن سعد " . علي بن سعيد بن مسروق الكندي أبو الحسن الكوفي روى عن حفص بن غياث وابن المبارك وغيرهما . وروى عنه الترمذي والنسائي وأبو حاتم ، قال أبو حاتم : صدوق ، وذكره ابن حبان في الثقات ، توفي سنة 249 .

(3/433)


لا يستطيعُ الصوم ، أو الذي لا يستطيعه إلا بالجهد ؟ قال : بل الكبير الذي لا يستطيعه بجهد ولا بشيء ، فأما مَن استطاع بجهد فليصمه ، ولا عذر له في تركه.
2790 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج قال : أخبرني عبد الله بن أبي يزيد : " وَعلى الذين يُطيقونه " الآية ، كأنه يعني الشيخَ الكبير - قال ابن جريج : وأخبرني ابن طاوس ، عن أبيه أنه كان يقول : نزلت في الكبير الذي لا يَستطيع صيامَ رمضان ، فيفتدي من كل يوم بطعام مسكين. قلت له : كم طعامه ؟ قال : لا أدري ، غير أنه قال : طعام يوم.
2791 - حدثني المثنى قال ، حدثنا سويد قال ، أخبرنا ابن المبارك ، عن الحسن بن يحيى ، عن الضحاك في قوله : " فديةٌ طعامُ مسكين " ، قال : الشيخ الكبير الذي لا يطيق الصومَ ، يفطر ويطعم كل يوم مسكينًا.
* * *
قال أبو جعفر : وأولى هذه الأقوال بتأويل الآية قول من قال : " وَعلى الذين يُطيقونه فديةٌ طعامُ مسكين " ، منسوخٌ بقول الله تعالى ذكره : " فمن شَهد منكم الشهر فَليصمه " .
لأن " الهاء " التي في قوله : " وَعلى الذين يُطيقونه " ، من ذكر " الصيام " ومعناه : وعلى الذين يطيقون الصيام فدية طعامُ مسكين. فإذْ كان ذلك كذلك ، وكان الجميعُ من أهل الإسلام مجمعينَ على أن من كان مُطيقًا من الرجال الأصحاء المقيمين غير المسافرين صوْمَ شهر رمضان ، فغير جائز له الإفطار فيه والافتداء منه بطعام مسكين - كان معلومًا أنّ الآية منسوخةٌ.
هذا ، مع ما يؤيد هذا القول من الأخبار التي ذكرناها آنفًا عن مُعاذ بن جبل ، وابن عمر ، وسلمة بن الأكوع : من أنهم كانوا - بعد نزول هذه الآية على عَهد رسول الله صلى الله عليه وسلم - في صوم شهر رمضان بالخيار بين صومه

(3/434)


وسُقوط الفدية عنهم ، وبين الإفطار والافتداء من إفطاره بإطعام مسكين لكل يوم ؛ وأنهم كانوا يفعلون ذلك حتى نزلت : " فمن شهد منكم الشهر فليصمه " ، فألزموا فرضَ صومه ، وبطل الخيار والفديةُ.
* * *
فإن قال قائل : وكيف تدَّعي إجماعًا من أهل الإسلام على أنّ من أطاق صومه وهو بالصفة التي وصفت ، فغير جائز له إلا صومُه وقد علمت قول من قال : الحامل والمرضعُ إذا خافتا على أولادهما ، لهما الإفطار ، وإن أطاقتا الصوم بأبدانهما ، مع الخبر الذي رُوي في ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، الذي :
2792 - حدثنا به هناد بن السري قال ، حدثنا قبيصة ، عن سفيان ، عن أيوب ، عن أبي قلابة ، عن أنس قال : أتيتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم وهو يَتغدَّى ، فقال : " تعالَ أحدِّثك ، إن الله وَضع عن المسافر والحامل والمرضع الصومَ وشَطرَ الصلاة " ؟ (1)
__________
(1) الحديث : 2792 - قبيصة : هو ابن عقبة السوائي ، مضت ترجمته : 489 ، وأشرنا هناك إلى الكلام في روايته عن سفيان الثوري ، وأنه غير مقبول ، ونزيد هنا أن الشيخين أخرجا له في الصحيحين من روايته عن الثوري ، كما في كتاب رجال الصحيحين ، ص : 422 .
أبو قلابة - بكسر القاف وتخفيف اللام : هو عبد الله بن زيد الجرمي - بفتح الجيم وسكون الراء - أحد الأعلام الحفاظ من التابعين . مترجم في التهذيب ، وابن سعد 7/1/133 - 135 . وابن أبي حاتم 2/2/57 - 58 ، ورجال الصحيحين : 251 ، وتذكرة الحفاظ 1 : 88 - 89 .
أنس - في هذا الحديث فقط : هو أنس بن مالك الكعبي ، من بني كعب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة بن معاوية بن بكر بن هوزان . وهو صحابي ليس له رواية عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا هذا الحديث الواحد . وبعضهم يذكر في نسبته " القشيري " يذهبون إلى أن " قشيرًا " هو ابن كعب بن ربيعة . وهذا هو الثابت في بعض كتب الأنساب ، مثل الاشتقاق لابن دريد ، ص : 181 ، وجمهرة الأنساب لابن حزم ، ص : 271 ، 272 ، وقلدهم الحافظ في التهذيب . ولكن البخاري قال في ترجمته في التاريخ الكبير 1/2/30 : " وكعب إخوة قشير " . وقال ابن أبي حاتم في ترجمته 1/2/286 : " من بني عبد الله بن كعب ، وكعب أخو قشير " . وفي رواية أبي داود لهذا الحديث - كما سيأتي في التخريج إن شاء الله - : " عن أنس بن مالك ، رجل من بني عبد الله بن كعب ، إخوة بني قشير " . وقال الحافظ في الإصابة 1 : 73 " وهذا هو الصواب ، وبذلك جزم البخاري في ترجمته . وعلى هذا فهو كعبي ، لا قشيري ولأن قشيرًا هو ابن كعب ، ولكعب ابن اسمه عبد الله . فهو من إخوة قشير ، لا من قشير نفسه " .
و " أنس بن مالك " - في الرواة ، خمسة نفر : " أنس بن مالك " بن النضر الأنصاري خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم . وهو المراد في أكثر الأحاديث عند إطلاق اسم " أنس " . ثم " أنس بن مالك الكعبي " - هذا الذي هنا . وهذان صحابيان . و " أنس بن مالك بن أبي عامر الأصبحي " ، " والد الإمام " مالك بن أنس " ، وهو تابعي . ثم " أنس بن مالك الصيرفي " ، شيخ خلاد بن يحيى . و " أنس بن مالك " شيخ لأبي داود الطيالسي . وهذان متأخران ، يرويان عن التابعين . وقد ترجم ابن أبي حاتم لهؤلاء الخمسة . وترجم البخاري في الكبير الثلاثة الأول فقط . وذكرهم كلهم ابن الجوزي في تلقيح فهوم أهل الأثر ، ص : 320 . وقال في شأن " الكعبي " هذا ، وأشار إلى حدجيثه الذي هنا - : روى هذا الحديث الثوري ، عن أيوب ، عن أبي قلابة ، عن أنس [يعني الكعبي] . وعند الثوري بهذا الإسناد عن أنس الأنصاري أحاديث " .
وهذا حق . ولذلك كان إطلاق اسم " أنس " هنا غير مستساغ ممن أطلقه ، سواء أكان الطبري أم أحد شيوخ الإسناد ، لما فيه من الإيهام .
والحديث رواه البخاري في الكبير 1/2/30 ، عن قبيصة - شيخ هناد في هذا الإسناد - وعن محمد بن يوسف ، كلاهما عن الثوري ، به . موجزًا كعادته . وصرح في الإسناد بأنه " عن أنس بن مالك الكعبي " .
ورواه النسائي 1 : 315 - 316 ، عن عمر بن محمد بن الحسن - هو ابن التل - عن أبيه ، عن الثوري ، به ، بلفظ : " إن الله وضع عن المسافر ، يعني نصف الصلاة ، والصوم ، وعن الحامل والمرضع " .
ورواه أحمد في المسند 5 : 29 (حلبي) عن ابن علية ، عن أيوب ، قال : " كان أبو قلابة حدثني بهذ الحديث ، ثم قال لي : هل لك في الذي حدثنيه ؟ قال : فدلني عليه ، فأتيته ، فقال : حدثني قريب لي يقال له أني بن مالك . . " . فذكره بقصة في أوله .
ففي هذه الرواية أن بين أبي قلابة وأنس الكعبي رجلا مبهمًا هو الذي حدثه به عنه .
وكذلك ذكر البخاري أن بينهما رجلا : فرواه عقب ذاك ، عن يحيى بن موسى ، عن عبد الرزاق عن معمر ، عن أيوب ، عن أبي قلابة " عن رجل من بني عامر : أن رجلا يقال له أنس حدثه : أنه قدم المدينى - نحوه " .
وأنا أرى ترجيح رواية قبيصة ومحمد بن يوسف ، التي ليس فيها الرجل المبهم ، وقد تابعهما عليها محمد بن الحسن التل . فإن الثوري أحفظ من معمر ومن ابن علية معًا ، وهو المقدم على من خالفه في الحفظ والإتقان .
وللحديث إسناد آخر ، من وجه آخر . رواه أبو هلال محمد بن سليم الراسبي ، عن عبد الله بن سوادة ، عن أنس الكعبي ، وهو إسناد جيد ، بل صحيح ، وأبو هلال الراسبي : ثقة لا بأس به . وعبد الله بن سوادة بن حنظلة القشيري : ثقة أيضًا .
فرواه أحمد في المسند 4 : 347 (حلبي) ، عن وكيع ، وعن عفان . ورواه عقبة ابنه عبد الله عن شيبان . ورواه أحمد أيضًا 5 : 29 (حلبي) ، عن عبد الصمد . ورواه ابن سعد في الطبقات 7/1/30 ، عن وكيع وعفان . ورواه أبو داود : 2408 ، عن شيبان بن فروخ . ورواه الترمذي 2 : 42 ، عن أبي كريب ويوسف بن عيسى ، عن وكيع . ورواه ابن ماجه : 1667 ، عن أبي بكر بن أبي شيبة وعلي بن محمد ، عن وكيع . ورواه البيهقي 4 : 231 ، من طريق عبيد الله بن موسى ، وأبي نعيم . كل هؤلاء وكيع ، وعفان ، وشيبان ، وعبد الصمد ، وعبيد الله بن موسى ، وأبو نعيم - رووه عن أبي هلال الراسبي ، عن عبد الله بن سوادة ، عن أنس الكعبي ، به مطولا ، في قصة .
وهذا إسناد متصل بالسماع ، لأن ابن سعد قال عقب روايته : " قال عفان في الحديث كله : حدثنا قال : حدثنا ، إلى آخره " . فهذا نص على سماع كل شيخ ممن قبله إلى الصحابي .
وقال الترمذي : " حديث أنس بن مالك الكعبي : حديث حسن . ولا نعرف لأنس بن مالك هذا ، عن النبي صلى الله عليه وسلم - غير هذا الحديث الواحد " . ونقل الحافظ في التهذيب 1 : 379 ، عن الترمذي أنه " صححه " . ولكن الذي في أيدينا من نسخ الترمذي قوله " حديث حسن " فقط . فتستفاد زيادة تصحيحه من نقل الحافظ .

(3/435)


قيل : إنّا لم ندَّع إجماعًا في الحامل والمرضع ، وإنما ادعينا في الرجال الذين

(3/436)


وصفنا صفتهم. فأما الحامل والمرضع ، فإنما علمنا أنهنّ غير معنيات بقوله : (وعلى الذين يطيقونه) وخلا الرجال أن يكونوا معنيين به ، (1) لأنهن لو كن معنيات بذلك دون غيرهن من الرجال ، لقيل : وعلى اللواتي يُطقنه فدية طعامُ مسكين ، لأن ذلك كلام العرب ، إذا أفرد الكلامُ بالخبر عنهنّ دُون الرجال. فلما قيل : " وعلى الذين يُطيقونه " ، كان معلومًا أنّ المعنيَّ به الرجالُ دون النساء ، أو الرجالُ والنساء. فلما صحّ بإجماع الجميع - على أنّ من أطاق من الرجال المقيمين الأصحاء صومُ شهر رمضان ، فغيرُ مرخص له في الإفطار والافتداء ، فخرج الرجال من أن يكونوا معنيين بالآية ، وعُلم أن النساء لم يُردن بها لما وصفنا : من أن الخبر عن النساء إذا انفرد الكلامُ بالخبر عنهن : " وعلى اللواتي يطقنه " ، والتنزيل بغير ذلك.
وأما الخبر الذي روي عن النبي صلى الله عليه وسلم ، فإنه إن كان صحيحًا ، فإنما معناه : أنه وضَع عن الحامل والمرضع الصومَ ما دامتا عاجزتين عنه ، حتى تُطيقا فتقضيا ، كما وُضع عن المسافر في سفره ، حتى يقيم فيقضيه - لا أنهما أُمِرتا بالفدية والإفطار بغير وجوب قضاء ، ولو كان في قول النبي صلى الله عليه وسلم : " إن الله وضع عن المسافر والمرضع والحامل الصوم " ، دلالةٌ على أنه صلى الله عليه وسلم إنما عنى أن الله تعالى ذكره وضع عنهم بقوله : " وعلى الذين يُطيقونه
__________
(1) " خلا الرجال " أي خرجوا من قولهم : " أنا منك خلاء ، وخلي " ، أي بريء منك . ويقال : " هو خلو من هذا الأمر " أي خارج ، أو خال منه .

(3/437)


فدية طعامُ مسكين " ، لوجب أن لا يكون على المسافر إذا أفطر في سفره قضاء ، وأن لا يلزمه بإفطاره ذلك إلا الفدية ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد جمع بين حُكمه وبين حكم الحامل والمرضع. وذلك قولٌ ، إن قاله قائلٌ ، خلافٌ لظاهر كتاب الله ، ولما أجمع عليه جميع أهل الإسلام.
* * *
وقد زعم بعض أهل العربية من أهل البصرة أنّ معنى قوله : " وعلى الذين يطيقونه " ، وعلى الذين يطيقون الطعام. وذلك لتأويل أهل العلم مخالفٌ.
* * *
وأما قراءة من قرأ ذلك : " وعلى الذين يُطوَّقونه " فقراءة لمصاحف أهل الإسلام خلافٌ ، وغير جائز لأحد من أهل الإسلام الاعتراض بالرأي على ما نقله المسلمون وِرَاثة عن نبيهم صلى الله عليه وسلم نقلا ظاهرًا قاطعًا للعذر. لأن ما جاءت به الحجة من الدين ، هو الحق الذي لا شك فيه أنه من عند الله. ولا يُعترض على ما قد ثَبت وقامت به حُجة أنه من عند الله ، بالآراء والظنون والأقوال الشاذة.
* * *
وأما معنى " الفدية " فإنه : الجزاء ، من قولك : " فديت هذا بهذا " ، أي جزيته به ، وأعطيته بدلا منه.
* * *
ومعنى الكلام : وعلى الذين يُطيقون الصيام جزاءُ طعام مسكين ، لكلّ يوم أفطرَه من أيام صيامه الذي كتب عليه.
* * *
وأما قوله : " فدية طعامُ مسكين " ، فإنّ القرأة مختلفةٌ في قراءته. فبعضٌ يقرأ بإضافة " الفدية " إلى " الطعام " ، وخفض " الطعام " - وذلك قراءة عُظْم قراء أهل المدينة (1) - بمعنى : وعلى الذين يطيقونه أن يفدوه طعامَ مسكين.
__________
(1) في المطبوعة : " معظم قراء " ، وصواب لفظ الطبري ما أثبت ، كما مضى مرارًا ، وكما سيأتي بعد قليل على الصواب . ومعنى الحرفين سواء ، على كل حال .

(3/438)


فلما جعل مكان " أن يفديه " " الفدية " أضيف إلى " الطعام " ، كما يقال " لزمني غَرامةُ درهم لك " ، بمعنى : لزمني أن أغرَم لك درهمًا.
وآخرون يقرأونه بتنوين " الفدية " ، ورفع " الطعام " ، بمعنى الإبانة في " الطعام " عن معنى " الفدية " الواجبة على من أفطر في صومه الواجب ، كما يقال : " لزمني غرامةٌ ، درهمٌ لك " ، فتبين " بالدرهم " عن معنى " الغرامة " ما هي ؟ وما حدُّها ؟ وذلك قراءةُ عُظْم قُراء أهل العراق.
* * *
قال أبو جعفر : وأولى القراءتين بين الصواب قراءة من قرأ " فديةُ طعام " بإضافة " الفدية " إلى " الطعام " ، لأن " الفدية " اسم للفعل ، وهي غير " الطعام " المفديّ به الصوم.
وذلك أن " الفِدْية " مصدر من قول القائل : " فَديت صَوم هذا اليوم بطعام مسكين أفديه فدية " ، كما يقال : " جلست جِلْسة ، ومَشيتُ مِشْية " . " والفدية " فعل ، و " الطعام " غيرها. فإذْ كان ذلك كذلك ، فبيِّنٌ أن أصَحّ القراءتين إضافة " الفدية " إلى " الطعام " ، (1) وواضحٌ خطأ قول من قال : إن ترك إضافة " الفدية " إلى الطعام ، أصح في المعنى ، من أجل أن " الطعام " عنده هو " الفدية " . فيقال لقائل ذلك : قد علمنا أن " الفدية " مقتضية مفديًّا ، ومفديًّا به ، وفدية. فإن كان " الطعام " هو " الفدية " " والصوم " هو المفديّ به ، فأين اسم فعل المفتدي الذي هو " فدية " إنّ هذا القول خطأ بين غير مشكل.
* * *
وأما " الطعام " فإنه مضاف إلى " المسكين " . والقرأة في قراءة ذلك مختلفون.
فقرأه بعضهم بتوحيد " المسكين " ، بمعنى : وعلى الذين يطيقونه فدية طعام
__________
(1) في المطبوعة : " فتبين أن أصح القراءتين . . " ، ومثل هذا التحريف كثير فيما مضى ، والصواب ما أثبت ، وقوله بعد : " وواضح خطأ قول القائل . . " ، معطوف عليه . فهذا هو صواب السياق .

(3/439)


مسكين واحد لكل يوم أفطره ، كما : -
2793 - حدثني محمد بن يزيد الرفاعي قال ، حدثنا حسين الجعفي ، عن أبي عمرو أنه قرأ : " فديةٌ " - رفع منون - " طعام " - رفع بغير تنوين - " مسكين " ، وقال : عن كل يوم مسكين. وعلى ذلك عُظْم قراء أهل العراق.
* * *
وقرأه آخرون بجمع " المساكين " ، " فدية طعام مَساكين " بمعنى : وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مساكين عن الشهر ، إذا أفطر الشهر كله ، كما : -
2794 - حدثنا أبو هشام محمد بن يزيد الرفاعي ، عن يعقوب ، عن بشار ، عن عمرو ، عن الحسن : " طعام مساكين " ، عن الشهر كله.
* * *
قال أبو جعفر : وأعجبُ القراءتين إليّ في ذلك قراءة من قرأ : " طعام مسكين " على الواحد ، بمعنى : وعلى الذين يطيقونه عن كل يوم أفطروه فدية طعام مسكين. لأن في إبانة حُكم المفطر يومًا واحدًا ، وصُولا إلى معرفة حُكم المفطر جميع الشهر - وليس في إبانة حكم المفطر جميعَ الشهر ، وصولٌ إلى إبانة حكم المفطر يومًا واحدًا ، وأيامًا هي أقل من أيام جميع الشهر - ، وأن كل " واحد " يُترجم عن " الجميع " ، وأن " الجميع " لا يترجم به عن " الواحد " . فلذلك اخترنا قراءة ذلك بالتوحيد. (1)
* * *
واختلف أهل العلم في مبلغ الطعام الذي كانوا يطعمون في ذلك إذا أفطروا.
فقال بعضهم : كان الواجبُ من طعام المسكين لإفطار اليوم الواحد نصف صاع من قمح.
وقال بعضهم : كان الواجب من طعام المسكين لإفطار اليوم ، مدًّا من قمح ومن سائر أقواتهم.
__________
(1) الترجمة : البدل ، كما سلف مرارًا . انظر 2 : 340 ، وفهرس المصطلحات .

(3/440)


وقال بعضهم : كان ذلك نصف صاع من قمح ، أو صاعًا من تمر أو زبيب.
وقال بعضهم : ما كان المفطر يتقوَّته يومَه الذي أفطرَه.
وقال بعضهم : كان ذلك سحورًا وَعشاءً ، يكون للمسكين إفطارًا.
وقد ذكرنا بعض هذه المقالات فيما مضى قبل ، فكرهنا إعادة ذكرها.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ }
قال أبو جعفر : اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك. فقال بعضهم بما : -
2795 - حدثنا محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد وعطاء ، عن ابن عباس : " فمن تطوع خيرًا " ، فزاد طعامَ مسكين آخر ، " فهو خيرٌ له وأن تصومُوا خيرٌ لكم " .
2796 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن عمرو بن دينار ، عن عطاء ، عن ابن عباس مثله.
2797 - حدثنا هناد قال ، حدثنا وكيع ، عن سفيان ، عن خصيف ، عن مجاهد في قوله : " فمن تطوع خيرًا " ، قال : من أطعم المسكين صاعًا.
2798 - حدثني المثنى قال ، حدثنا سويد قال ، أخبرنا ابن المبارك ، عن معمر ، عن ابن طاوس ، عن أبيه : " فمن تطَوع خيرًا فهو خيرٌ له " ، قال : إطعامُ مَساكين عن كل يوم ، فهو خير له.
2799 - حدثني المثنى قال ، حدثنا سويد قال ، أخبرنا ابن المبارك ، عن حنظلة ، عن طاوس : " فمن تطوع خيرًا " ، قال : طعامُ مسكين.
2800 - حدثني المثنى قال ، حدثنا سويد قال ، أخبرنا ابن المبارك ، عن

(3/441)


حنظلة ، عن طاوس نحوه.
2801 - حدثنا محمد بن بشار قال ، حدثنا عبد الرحمن قال ، حدثنا سفيان ، عن ليث ، عن طاوس : " فمن تطوع خيرًا " ، قال : طعام مسكين.
2802 - حدثني المثنى قال ، حدثنا حجاج قال ، حدثنا حماد ، عن ليث عن طاوس مثله.
2803 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا عمرو بن هارون قال ، حدثنا ابن جريج ، عن عطاء أنه قرأ : " فمن تطوع " - بالتاء خفيفة [الطاء] - " خيرًا " ، قال : زاد على مسكين. (1)
2804 - حدثني موسى بن هارون قال ، حدثنا عمرو قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : " فمن تَطوع خيرًا فهو خيرٌ له " ، فإن أطعم مسكينين فهو خير له.
2805 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج قال ، قال ابن جريج ، أخبرني ابن طاوس ، عن أبيه : " فمن تطوع خيرًا فهو خير له " ، قال : من أطعم مسكينًا آخر.
* * *
وقال آخرون : معنى ذلك ، فمن تطوع خيرًا فصامَ مع الفدية.
* ذكر من قال ذلك :
2806 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو صالح قال ، حدثني الليث قال ، أخبرني يونس ، عن ابن شهاب : " فمن تطوع خيرًا فهو خيرٌ له " ، يريد أن من صامَ مع الفدية فهو خير له.
* * *
وقال آخرون : معنى ذلك : فمن تطوع خيرًا فزاد المسكين على قَدر طعامه.
* ذكر من قال ذلك :
__________
(1) الزيادة بين القوسين لا بد منها ، وإلا فسد الكلام . والقراءة الأخرى في هذه الكلمة : " يَطَّوَّعْ " بياء الغيبة ، وفتح الياء ، وتشديد الطاء وفتحها ، وتشد الواو وفتحها ، وجزم العين .

(3/442)


2807 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج قال ، قال ابن جريج قال ، مجاهد : " فمن تطوع خيرًا " ، فزاد طعامًا ، " فهو خير له " .
* * *
قال أبو جعفر : والصواب من القول في ذلك عندنا أن الله تعالى ذكره عمم بقوله : " فمن تطوع خيرًا " ، فلم يخصص بعض معاني الخير دون بعض. فإنّ جَمْع الصَوْم مع الفدية من تطوُّع الخير ، وزيادةُ مسكين على جزاء الفدية من تطوُّع الخير. وجائز أن يكون تعالى ذكره عنى بقوله : " فمن تطوع خيرًا " ، أيَّ هذه المعاني تطوّع به المفتدي من صومه ، فهو خير له. لأن كل ذلك من تطوع الخير ، ونوافل الفضل.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (184) }
قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بقوله : " وأنْ تَصوموا " ، ما كتب عليكم من شهر رمضان ، " فهو خير لكم " من أن تفطروه وتفتدوا ، كما : -
2808 - حدثني موسى بن هارون قال ، حدثنا عمرو بن حماد قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : " وأنْ تَصوموا خيرٌ لكم " ، ومن تكلف الصيامَ فصامه فهو خيرٌ له.
2809 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو صالح قال ، حدثني الليث قال ، حدثني يونس ، عن ابن شهاب : " وأن تَصُوموا خيرٌ لكم " ، أي : إن الصيامَ خير لكم من الفدية.
2810 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى ،

(3/443)


شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآَنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (185)

عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : " وأن تصومُوا خيرٌ لكم " .... (1)
* * *
وأما قوله : " إن كنتم تعلمون " ، فإنه يعني : إن كنتم تعلمون خيرَ الأمرين لكم أيها الذين آمنوا ، من الإفطار والفدية ، أو الصوم على ما أمركم الله به.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ }
قال أبو جعفر : " والشهر " ، فيما قيل ، أصله من " الشهرة " . يقال منه : " قد شَهر فلانٌ سَيْفه " - إذا أخرجه من غمده فاعترض به من أراد ضربه - " يشهرُه شهرًا " . وكذلك " شَهر الشهر " ، إذا طلع هلاله ، " وأشهرْنا نحن " ، إذا دخلنا في الشهر.
* * *
وأما " رمضان " ، فإن بعض أهل المعرفة بلغة العرب كان يزعم أنه سمى بذلك لشدة الحرِّ الذي كان يكون فيه ، حتى تَرْمَض فيه الفِصَال ، (2) كما يقال للشهر الذي يُحجّ فيه " ذو الحجة " ، والذي يُرتبع فيه " ربيع الأول ، وربيع الآخر " .
* * *
وأما مجاهد فإنه كان يكره أن يقال : " رمضان " ، ويقول : لعله اسمٌ من أسماء الله.
2811 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو نعيم قال ، حدثنا سفيان ، عن
__________
(1) الأثر : 2810 - سقط آخره ، ولم أجده في المراجع . ولكن صوابه كالذي قبله : من الإفطار والفدية ، كما هو ظاهر .
(2) الفصال جمع فصيل : وهو ولد الناقة إذا فصل عن أمه . ورمض الفصال : أن تحترق الرمضاء - وهو الرمل - فتبرك الفصال من شدة حرها ، وإحراقها أخفافها وفراسنها . ورمضت قدمه من الرمضاء : احترقت .

(3/444)


مجاهد : أنه كره أن يقال : " رمضان " ، ويقول : لعله اسم من أسماء الله لكن نقول كما قال الله : " شهر رمضان " .
* * *
وقد بينت فيما مضى أن " شهر " مرفوع على قوله : " أيامًا معدودات " ، هن شهر رمضان. (1) وجائز أن يكون رفعه بمعنى : ذلك شهر رمضان ، وبمعنى : كتب عليكم شهرُ رمضان.
وقد قرأه بعض القراء " شهرَ رَمضان " نصبًا ، بمعنى : كتب عليكم الصيام أن تصوموا شهرَ رمضان. وقرأه بعضهم نصبًا بمعنى : أن تصوموا شهرَ رمضان خيرٌ لكم إن كنتم تعلمون وقد يجوز أيضًا نصبه على وجه الأمر بصومه ، كأنه قيل : شهرَ رمضان فصومُوه. وجائز نصبه على الوقت ، كأنه قيل : كتب عليكم الصيام في شهر رمضان.
* * *
وأما قوله : " الذي أنزل فيه القرآن " ، فإنه ذكر أنه نزل في ليلة القدر من اللوح المحفوظ إلى سماء الدنيا ، في ليلة القدر من شهر رمضان. ثم أنزل إلى محمد صلى الله عليه وسلم على ما أراد الله إنزاله إليه ، كما : -
2812 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا أبو بكر بن عياش ، عن الأعمش ، عن حسان بن أبي الأشرَس عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : أنزل القرآن جملةً من الذكر في ليلة أربع وعشرين من رمضان ، فجُعل في بيت العزَّة - قال أبو كريب : حدثنا أبو بكر ، وقال ذلك السدي.
2813 - حدثني عيس بن عثمان قال ، حدثنا يحيى بن عيسى ، عن الأعمش ، عن حسان ، عن سعيد بن جبير قال : نزل القرآن جملة واحدةً في ليلة القدر في شهر رمضان ، فجعل في سماء الدنيا. (2)
__________
(1) انظر ما سلف آنفًا : 415 ، 417 .
(2) الأثر : 2813 - في المطبوعة : " يحيى عن عيسى " ، وهو خطأ . وانظر التعليق على الأثر رقم : 300 .

(3/445)


2814 - حدثنا أحمد بن منصور قال ، حدثنا عبد الله بن رجاء قال ، حدثنا عمران القطان ، عن قتادة ، عن أبي المليح ، عن واثلة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " نزلت صُحف إبراهيم أول ليلة من شهر رمضان ، وأنزلت التوراةُ لست مَضَين من رمضان ، وأنزل الإنجيل لثلاثَ عَشرة خلت ، وأنزل القرآن لأربع وعشرين من رمضان. (1)
2815 - حدثني موسى قال ، حدثنا عمرو قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : " شهرُ رَمضان الذي أنزل فيه القرآن " . أما " أنزل فيه القرآن " ، فإن ابن عباس قال : شهر رمضان ، والليلةُ المباركة ليلةُ القدر ، فإن ليلة القدر هي الليلة المباركة ، وهي في رمضان ، نزل القرآن جملةً واحدة من الزُّبُر إلى البيت المعمور ، وهو " مواقع النجوم " في السماء الدنيا حيث وقع القرآن ، ثم نزل محمد صلى الله عليه وسلم بعد ذلك في الأمر والنهي وفي الحروب رَسَلا رَسَلا. (2)
2816 - حدثنا ابن المثنى قال ، حدثنا عبد الوهاب قال ، حدثنا داود ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : أنزل الله القرآن إلى السماء الدنيا في ليلة القدر ، فكان الله إذا أراد أن يُوحِيَ منه شيئًا أوحاه ، فهو قوله : ( إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ ) [سورة القدر : 1].
__________
(1) الحديث : 2814 - عبد الله بن رجاء بن عمرو الغداني : ثقة من شيوخ البخاري . و " الغداني " : بضم الغين المعجمة وتخفيف الدال المهملة .
عمران القطان : هو عمران بن داور ، مضى في : 126 . وكنيته " أبو العوام " .
أبو المليح : هو ابن أسامة الهذلي ، وهو تابعي ثقة ، أخرج له أصحاب الكتب الستة . ووقع في المطبوعة " عن ابن أبي المليح " . وزيادة " ابن " خطأ واضح .
واثلة - بالثاء المثلثة : هو ابن الأسقع ، صحابي معروف . والحديث رواه أحمد في المسند : 17051 (4 : 107 حلبي) ، عن أبي سعيد مولى بني هاشم ، عن عمران أبي العوام ، بهذا الإسناد ، وهو إسناد صحيح .
ونقله ابن كثير 1 : 406 ، عن المسند . وكذلك السيوطي 1 : 189 ، وزاد نسبته إلى محمد بن نصر ، وابن أبي حاتم ، والطبراني ، والبيهقي في الشعب .
(2) رسلا رسلا : أي قطعة قطعة ، وفرقة فرقة .

(3/446)


2817 - حدثنا ابن المثنى قال ، حدثنا ابن أبي عدي ، عن داود ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، فذكر نحوه - وزاد فيه : فكان من أوله وآخره عشرون سنة.
2818 - حدثنا ابن المثنى قال ، حدثنا عبد الأعلى قال ، حدثنا داود ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، قال : أنزل القرآنُ كله جملةً واحدةً في ليلة القدر في رمضان ، إلى السماء الدنيا ، فكان الله إذا أراد أن يحدث في الأرض شَيئًا أنزله منه ، حتى جمعه.
2819 - حدثني يعقوب قال ، حدثنا هشيم قال ، أخبرنا حصين ، عن حكيم بن جبير ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : أنزل القرآن في ليلة القدر من السماء العليا إلى السماء جملة واحدة ، ثم فرَّق في السنين بعدُ. قال : وتلا ابن عباس هذه الآية : ( فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ ) [سورة الواقعة : 75] ، قال : نزل مفرَّقًا.
2820 - حدثنا يعقوب قال ، حدثنا ابن علية ، عن داود ، عن الشعبي قال : بلغنا أن القرآن نزل جملة واحدة إلى السماء الدنيا.
2821 - حدثني المثنى قال ، حدثنا سويد بن نصر قال ، أخبرنا ابن المبارك ، قرأه ابن جريج في قوله : (1) " شهرُ رَمضان الذي أنزل فيه القرآن " ، قال : قال ابن عباس : أنزل القرآن جملةً واحدة على جبريل في ليلة القدر ، فكان لا ينزل منه إلا بأمر. قال ابن جريج : كان ينزل من القرآن في ليلة القدر كلُّ شيء ينزل من القرآن في تلك السنة. فنزل ذلك من السماء السابعة على جبريل في السماء الدنيا ، فلا ينزل جبريلُ من ذلك على محمد إلا ما أمره به ربه. ومثل ذلك( إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ ) و( إِنَّا أَنزلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ ) [سورة الدخان : 3].
__________
(1) هكذا في المطبوعة ، ولم أدر ما هو ، وأخشى أن يكون صوابه " قرأ ابن جريج قوله . . " .

(3/447)


2822 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبيد الله بن موسى ، عن إسرائيل ، عن السدي ، عن محمد بن أبي المجالد ، عن مقسم ، عن ابن عباس ، قال له رجل : إنه قد وقع في قلبي الشك من قوله : " شهرُ رَمضان الذي أنزل فيه القرآن " ، وقوله : ( إِنَّا أَنزلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ ) وقوله( إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ ) ، وقد أنزل الله في شوّال وذي القعدة وغيره! قال : إنما أنزل في رمضان في ليلة القدر وليلة مباركة جملة واحدةً ، ثم أنزل على مَواقع النجوم رَسَلا في الشهور والأيام.
* * *
وأما قوله : " هُدى للناس " ، فإنه يعني رَشادًا للناس إلى سبيل الحقّ وقَصْد المنهج. (1)
* * *
وأما قوله : " وَبيِّنات " ، فإنه يعني : وواضحات " من الهدى " - يعني : من البيان الدالّ على حدود الله وفرائضه وحلاله وحرامه. (2)
* * *
وقوله : " والفرقان " يعني : والفصل بين الحق والباطل ، (3) كما : -
2823 - حدثني موسى بن هارون قال ، حدثنا عمرو بن حماد قال ، حدثنا أسباط ، عن السدى : أما " وبينات من الهدى والفرقان " ، فبينات من الحلال والحرام.
* * *
__________
(1) انظر تفسير " هدى " فيما سلف في فهرس اللغة .
(2) انظر تفسير " بينات " فيما سلف في فهرس اللغة .
(3) انظر تفسير " فرقان " فيما سلف 1 : 98 - 99 .

(3/448)


القول في تأويل قوله تعالى : { فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ }
قال أبو جعفر : اختلف أهل التأويل في معنى " شهود الشهر " .
فقال بعضهم : هو مُقام المقيم في داره. قالوا : فمن دخل عليه شهرُ رمضان وهو مقيم في داره ، فعليه صوم الشهر كله ، غابَ بعدُ فسافر ، أو أقام فلم يبرح.
* ذكر من قال ذلك :
2824 - حدثني محمد بن حميد ومحمد بن عيسى الدامغاني قالا حدثنا ابن المبارك ، عن الحسن بن يحيى ، عن الضحاك ، عن ابن عباس في قوله : " فمن شَهد منكم الشهر فليصمه " ، قال : هو إهلاله بالدار. يريد : إذا هلَّ وهو مُقيم.
2825 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال ، حدثنا هشيم قال ، أخبرنا حصين ، عمن حدثه ، عن ابن عباس أنه قال. في قوله : " فمن شهد منكم الشهر فليصمه " ، فإذا شهده وهو مقيم فعليه الصوم ، أقام أو سافر. وإن شهده وهو في سَفر ، فإن شاء صامَ وإن شَاء أفطر.
2826 - حدثني يعقوب قال ، حدثنا ابن علية ، عن أيوب ، عن محمد ، عن عبيدة - في الرجل يُدركه رمضان ثم يُسافر - قال : إذا شهدتَ أوله فصُمْ آخره ، ألا تراه يقول : " فمن شَهدَ منكم الشهر فليصمه " ؟
2827 - حدثني يعقوب قال ، حدثنا ابن علية ، عن هشام القردوسي ، عن محمد بن سيرين قال ، سألت عَبيدة : عن رجل أدرك رمضان وهو مقيم ؟ قال : من صام أول الشهر فليصم آخره ، ألا تراه يقول : فَمنْ شهد منكم الشهرَ فليصمه " . (1)
__________
(1) الأثر : 2827 - في المطبوعة : " الفردوسي " ، والصواب بالقاف المضمومة ، هشام بن حسان الأزدي القردوسي أبو عبد الله البصري ، روي عن حميد بن هلال والحسن البصري ومحمد وأنس وحفص بني سيرين وغيرهم ، وروى عنه عكرمة بن عمار وسعيد بن أبي عروبة وابن علية وغيرهم . يقال هو منسوب إلى درب بالبصرة يقال له " القراديس " ، وهو جمع قردوس ، وهو أبو حي من اليمن ، سمى الدرب بهم . ويقال : هو مولى لهذ الحي . قال ابن سعد : كان ثقة إن شاء الله . ومات سنة 146 .

(3/449)


2828 - حدثني موسى قال ، حدثنا عمرو قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : أما " منْ شَهد منكم الشهر فليصمه " ، فمن دخل عليه رمضان وهو مقيم في أهله فليصُمه ، وإن خَرج فيه فليصُمه ، فإنه دَخل عليه وهو في أهله.
2829 - حدثني المثنى قال ، حدثنا حجاج قال ، حدثنا حماد قال ، أخبرنا قتادة ، عن محمد بن سيرين ، عن عبيدة السلماني ، عن علي - فيما يحسب حماد - قال : من أدرك رَمضان وهو مقيم لم يَخرج ، فقد لزمه الصوم ، لأن الله يقول : " فمن شَهد منكم الشهر فليصمه " .
2830 - حدثنا هناد بن السري قال ، حدثنا عبد الرحمن ، عن إسماعيل بن مسلم ، عن محمد بن سيرين قال : سألت عبيدة السلماني عن قول الله : " فمن شَهد منكم الشهر فليصمه " ، قال : من كان مقيمًا فليصُمه ، ومن أدركه ثم سافر فيه فليصمه.
2831 - حدثنا هناد قال ، حدثنا وكيع ، عن ابن عون ، عن ابن سيرين ، عن عبيدة ، قال : من شهد أول رمضان فليصم آخرَه.
2832 - حدثنا هناد قال ، حدثنا عبدة ، عن سعيد بن أبي عروبة ، عن قتادة أن عليًّا كان يقول : إذا أدركه رمضان وهو مقيمٌ ثم سافر ، فعليه الصوم.
2833 - حدثنا هناد قال ، حدثنا عبد الرحيم ، عن عُبيدة الضبي ، عن إبراهيم قال : كان يقول : إذا أدركك رمضانُ فلا تسافر فيه ، فإن صمت فيه يومًا أو اثنين ثم سافرت ، فلا تفطر ، صُمه.
2834 - حدثنا ابن المثنى قال ، حدثنا محمد بن جعفر قال ، حدثنا شعبة ، عن عمرو بن مرة ، عن أبي البختري. قال : كنا عند عُبيدة فقرأ هذه الآية :

(3/450)


" فَمن شَهد منكم الشهر فليصمه " ، قال : من صام شيئًا منه في المصر فليصم بقيته إذا خرج. قال : وكان ابن عباس يقول : إن شاء صَام وإن شَاء أفطر.
2835 - حدثنا محمد بن بشار قال ، حدثنا عبد الوهاب - و حدثني يعقوب بن إبراهيم قال ، حدثنا ابن علية - قالا جميعًا ، حدثنا أيوب ، عن أبي يزيد ، عن أم ذرة ، قالت : أتيت عائشه في رمضان ، قالت : من أين جئتِ ؟ قلت : من عند أخي حنين. قالت : ما شأنه ؟ قالت : ودَّعته يُريد يرتحل. قالت : فأقرئيه السلام ومُريه فليُقم ، فلو أدركني رمضانُ وأنا ببعض الطريق لأقمت له. (1)
2836 - حدثنا هناد قال ، حدثنا إسحاق بن عيسى ، عن أفلح ، عن عبد الرحمن ، قال : جاء إبراهيم بن طلحة إلى عائشة يُسلّم عليها ، قالت : وأين تريد ؟ قال : أردتُ العمرة. قالت : فجلستَ حتى إذا دخل عليك الشهر خرجتَ فيه! قال : قد خرج ثَقَلي! قالت : اجلس ، حتى إذا أفطرت فاخرج - يعني شهرَ رمضان. (2)
* * *
__________
(1) الخبر : 2835 - أبو زيد : هو المدني ، يعد في أهل البصرة . وهو تابعي ثقة ، وثقه ابن معين . وترجمه البخاري في الكنى ، رقم : 784 ، وقال : " سمع ابن عمر " . وابن أبي حاتم 4/2/458 - 459 . وفي التهذيب عن الآجري ، عن أبي داود : " سألت أحمد عنه ، فقال : تسأل عن رجل روى عنه أيوب ؟ "
أم ذرة - بفتح الذال المعجمة وتشديد الراء - مولاة عائشة : تابعية ثقة . مترجمة في التهذيب . وابن سعد 8 : 357 ، وذكر لها روايتين أخريين عن عائشة ، روى أحدهما مطولا قبل ذلك في ترجمة عائشة 8 : 46 .
أما أخوها " حنين " : فإني لم أجد له ذكرًا في غير هذا الموضع .
والخبر ذكره السيوطي 1 : 191 ، بنحو معناه ، ونسبه لعبد بن حميد فقط . ولم يسم فيه " حنين " أخو " أم ذرة " ، بل ذكر أنه أخوها فقط .
(2) الخبر : 2836 - إسحاق بن عيسى : هو ابن الطباع البغدادي ، ثقة من الرواة عن مالك وطبقته .
أفلح : هو ابن حميد بن نافع المدني ، وهو ثقة معروف ، روى له الشيخان .
عبد الرحمن هو ابن القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق ، ثقة إمام ، من خيار المسلمين . ولد في حياة عائشة .
إبراهيم بن طلحة : هو إبراهيم بن محمد بن طلحة بن عبيد الله التيمي ، نسب هنا إلى جده . وهو تابعي ثقة رفيع الشأن .
وهذا الخبر نقله السيوطي 1 : 191 ، ونسبه لعبد بن حميد فقط . وفيه أنه " عن عبد الرحمن بن القاسم : أن إبراهيم بن محمد جاء إلى عائشة . . " ، فذكر نحو مما هنا ، بمعناه .

(3/451)


وقال آخرون : معنى ذلك : فمن شهد منكم الشهر فليصُمْ ما شهد منه.
* ذكر من قال ذلك :
2837 - حدثنا هناد بن السري قال ، حدثنا شريك ، عن أبي إسحاق : أن أبا مَيسرة خرج في رمضان ، حتى إذا بلغ القنطرة دعا ماءً فشرب.
2838 - حدثنا هناد قال ، حدثنا جرير ، عن مغيرة قال : خرج أبو ميسرة في رمضان مسافرًا ، فمرّ بالفرات وهو صائم ، فأخذ منه كفًّا فشربه وأفطر.
2839 - حدثنا هناد قال ، حدثنا وكيع ، عن سفيان ، عن أبي إسحاق ، عن مرثد : أن أبا مَيسرة سافرَ في رمضان ، فأفطر عند باب الجسر - هكذا قال هناد ، عن مرثد ، وإنما هو أبو مَرثد.
2840 - حدثني محمد بن عمارة الأسديّ قال ، حدثنا عبيد الله بن موسى قال ، أخبرنا إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن مرثد : أنه خرج مع أبي ميسرة في رمضان ، فلما انتهى إلى الجسر أفطر. (1)
__________
(1) الخبران : 2839 ، 2840 - هما من رواية أبي إسحاق السبيعي ، عن " مرثد " ، عن " أبي ميسرة " .
وقال الطبري في أولهما : " هكذا قال هناد : عن مرثد ، وإنما هو : عن أبي مرثد " ! يعني أن شيخه في أولهما ، وهو " هناد " ، أخطأ في ذلك ، ومن عجب أنه يرويه عقبه في الرواية الثانية ، عن شيخ آخر ، بإسناد آخر إلى أبي إسحاق - كرواية هناد ، التي زعم أنه أخطأ فيها!
وعندي أن أبا جعفر - رحمه الله - هو الذي وهم ، أصاب الصواب فأخطأه :
أما أولا : فلاتفاق روايين حافظين ثقتين ، هما سفيان الثوري في الإسناد الأول ، وإسرائيل بن يونس بن أبي إسحاق السبيعي في الإسناد الثاني - كلاهما عن أبي إسحاق أنه " عن مرثد " .
وأما ثانيًا : فلأنا لا نعرف في الرواة من كنيته " أبو مرثد " ، إلا " أبا مرثد الغنوي كناز بن الحصين " ، وهو صحابي قديم الوفاة ، مات سنة 12 . إلا أن يكون الطبري يعرف راويًا آخر بهذه الكنية لم يصل إلينا خبره . وما أظن .
وأبو ميسرة ، صاحب الخبر في الروايتين : هو عمرو بن شرحبيل الهمداني الكوفي ، وهو تابعي كبير ثقة ، من شيوخ أبي إسحاق السبيعي . مات سنة 63 ، وشهد السبيعي جنازته . ولو شاء أبو إسحاق أن يروي هذا الخبر عنه دون واسطة ، لما دفع عن ذلك ، إذ عرف بالرواية عنه . ولكنه لم يشأ أن يدلس في خبر لم يشهده بنفسه ، فرواه عمن شهده . وهو " مرثد " .
والراجح عندي : أنه " مرثد بن عبد الله اليزني " ، وهو تابعي أقدم قليلا من السبيعي . مات مرثد سنة 90 . ومات السبعي - وهو تابعي أيضًا - سنة 126 أو بعدها بقليل .
فعن هذا كله رجحت - بل استيقنت - أن أبا جعفر رحمه الله ، هو الذي وهم .

(3/452)


2841 - حدثنا هناد وأبو هشام قالا حدثنا وكيع ، عن المسعودي ، عن الحسن بن سعد ، عن أبيه قال : كنت مع عليّ في ضيعة له على ثلاث من المدينة ، فخرجنا نريد المدينة في شهر رمضان ، وعليٌّ راكبٌ وأنا ماشٍ ، قال : فصام - قال هناد : وأفطرت - قال أبو هشام : وأمرني فأفطرتُ.
2842 - حدثنا هناد قال ، حدثنا عبد الرحيم ، عن عبد الرحمن بن عتبة ، عن الحسن بن سعد ، عن أبيه قال : كنت مع عليّ بن أبي طالب وهو جَاءٍ من أرض له ، فصام ، وأمرني فأفطرت ، فدخل المدينة ليلا وكان راكبًا وأنا ماشٍ.
2843 - حدثنا هناد قال ، حدثنا وكيع - و حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا ابن مهدي - قالا جميعًا ، حدثنا سفيان ، عن عيسى بن أبي عزة ، عن الشعبي : أنه سافر في شهر رمضان فأفطر عند باب الجسر.
2844 - حدثني ابن بشار قال ، حدثنا عبد الرحمن قال ، قال لي سفيان : أحبُّ إليّ أن تُتمه.
2845 - حدثنا ابن المثنى قال ، حدثنا محمد بن جعفر ، عن شعبة قال : سألت الحكمَ وحمادًا ، وأردت أن أسافر في رمضان فقالا لي : اخرج. وقال حماد ، قال إبراهيم : أما إذا كان العَشر ، فأحبُّ إليَّ أن يقيم.
2846 - حدثنا ابن المثنى قال ، حدثنا أبو الوليد قال ، حدثنا حماد ، عن قتادة ، عن الحسن وسعيد بن المسيب قالا من أدركه الصومُ وهو مقيم رمضان ثم سافر ، قالا إن شَاءَ أفطر.
* * *

(3/453)


وقال آخرون : " فَمن شهد منكم الشهر فليصمه " ، يعني : فمن شهده عاقلا بالغًا مكلفًا فليصمه.
وممن قال ذلك أبو حنيفة وأصحابه ، كانوا يقولون : من دخل عليه شهرُ رمضان وهو صحيحٌ عاقلٌ بالغٌ فعليه صومه ، فإن جُنّ بعد دُخوله عليه وهو بالصفة التي وصفنا ، ثم أفاقَ بعد انقضائه ، لزمه قضاءُ ما كان فيه من أيام الشهر مغلوبًا على عقله ، لأنه كان ممن شهده وهو ممن عليه فُرض.
قالوا : وكذلك لو دخل عليه شهرُ رمضان وهو مجنونٌ ، إلا أنه ممن لو كان صحيحَ العقل كان عليه صَوْمه ، فلن ينقضي الشهر حتى صَح وَبرأ ، أو أفاق قبل انقضاء الشهر بيوم أو أكثر من ذلك ، فإنّ عليه قضاءُ صوْم الشهر كله ، سوى اليوم الذي صامه بَعد إفاقته ، لأنه ممن قد شَهد الشهر.
قالوا : ولو دَخل عليه شهرُ رمضان وهو مجنون ، فلم يفق حتى انقضى الشهرُ كله ، ثم أفاق ، لم يلزمه قضاء شيء منه ، لأنه لم يكن ممن شَهده مكلَّفًا صَوْمَه.
قال أبو جعفر : وهذا تأويل لا معنى له ، لأنّ الجنون إن كانَ يُسقط عمن كان به فَرْضَ الصومِ ، من أجل فقد صاحبه عَقله جميع الشهر ، فقد يجب أن يكونَ ذلك سبيلَ كل من فقد عقله جميع شهر الصوم. وقد أجمع الجميعُ على أن من فقد عقله جميع شَهر الصوم بإغماء أو بِرْسام ، (1) ثم أفاق بعد انقضاء الشهر ، أن عليه قضاءُ الشهر كله. ولم يخالف ذلك أحدٌ يجوزُ الاعتراضُ به على الأمة. وإذ كان إجماعًا ، فالواجب أن يكون سبيلُ كل من كان زائلَ العقل جميع شهر الصوم ، سبيلَ المغمى عليه. وإذ كان ذلك كذلك ، كان معلومًا أن تأويل الآية غير الذي تأوَّلها قائلو هذه المقالة : من أنه شُهود الشهر أو بعضه مكلفًا صومَه. وإذا بطل ذلك ، فتأويل المتأوِّل الذي زعم أن معناه : فمن شهد أوله مقيما حاضرًا
__________
(1) البرسام : علة يهذي فيها صاحبها . قالوا : هو ورم حار يعرض للحجاب الذي بين الكبد والأمعاء ، ثم يتصل إلى الدماغ .

(3/454)


فعليه صَوْم جميعه ، أبطلُ وأفسدُ ، لتظاهر الأخبار عن رَسول الله صلى الله عليه وسلم أنه خرج عَام الفتح من المدينة في شهر رمضان بعد ما صَام بعضه ، وأفطرَ وأمر أصحابه بالإفطار.
2847 - حدثنا هناد قال ، حدثنا أبو الأحوص ، عن منصور ، عن مجاهد ، عن ابن عباس قال : " سافرَ رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان من المدينة إلى مكة ، حتى إذا أتى عُسْفان نزل به ، فدعا بإناء فوضعه على يَده ليراه الناسُ ، ثم شربه.
2848 - حدثنا ابن حميد وسفيان بن وكيع قالا حدثنا جرير ، عن منصور ، عن مجاهد ، عن طاوس ، عن ابن عباس ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بنحوه
2849 - حدثنا هناد ، حدثنا عبيدة ، عن منصور ، عن مجاهد ، عن طاوس ، عن ابن عباس ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بنحوه. (1)
2850 - حدثنا هناد وأبو كريب قالا حدثنا يونس بن بكير قال ، حدثنا ابن إسحاق قال ، حدثني الزهري ، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة ، عن ابن عباس قال : مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم لسفره عام الفتح لعشر مضين من رمضان ، فصامَ رسول الله صلى الله عليه وسلم وصامَ الناسُ معه ، حتى إذا أتى الكُدَيْد - ما بين عُسْفان وأَمَج - أفطر.
2851 - حدثنا هناد وأبو كريب قالا حدثنا عبدة ، عن محمد بن إسحاق ، عن الزهري ، عن عبيد الله بن عبد الله ، عن ابن عباس قال خرج رسول الله
__________
(1) الأحاديث : 2847 - 2849 ، هي ثلاثة أسانيد لحديث واحد .
فأولها فيه " عن مجاهد ، عن ابن عباس " ، وفي الآخرين بينها " طاوس " .
والحديث رواه الإمام أحمد في المسند ، بأطول مما هنا : 2350 ، عن عبيدة ، عن منصور ، بالإسناد الثاني هنا ، ورواه أيضًا : 2251 ، عن حسين ، عن شيبان ، عن منصور .
ورواه أيضًا - مطولا - الشيخان ، كما في المنتقى : 2175 . فهو حديث صحيح متفق عليه .

(3/455)


صلى الله عليه وسلم لعشرٍ - أو لعشرين - مضت من رَمضان عام الفتح ، فصام حتى إذا كان بالكديد أفطر. (1)
2852 - حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا سالم بن نوح قال ، حدثنا عمر بن عامر ، عن قتادة ، عن أبي نضرة ، عن أبي سعيد الخدريّ قال : خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم لثمان عشرَةَ مضتْ من رمضان ، فمنا الصائم ومنا المفطر ، فلم يَعِب المفطرُ على الصائم ، ولا الصائم على المفطر. (2)
* * *
فإذ كانا فاسدين هذان التأويلان ، (3) بما عليه دَللنا من فسادهما - فَبيِّنٌ أن الصحيح من التأويل هو الثالث ، (4) وهو قول من قال : فمن شهد منكم الشهر فليصمه ، جميعَ ما شهد منه مقيمًا ، ومن كان مريضًا أو على سفر فعدة من أيام أخر.
* * *
__________
(1) الحديثان : 2850 ، 2851 - هما إسنادان آخران صحيحان ، للحديث السابق ، بلفظ أطول ، ومن وجه آخر ، من رواية ابن إسحاق ، عن الزهري . وهو في سيرة ابن هشام ، (ص 810 أوربة - 4 : 42 طبعة الحلبي) ، بلفظ أطول مما هنا . وكذلك رواه أحمد في المسند : 2392 ، من طريق ابن إسحاق .
ورواه أحمد أيضًا : 1892 ، عن سفيان بن عيينة ، عن الزهري ، مختصرًا ، ورواه بأطول منه : 3089 ، عن عبد الزاق ، عن معمر ، عن الزهري .
وانظر تاريخ ابن كثير 4 : 285 - 287 .
(2) الحديث : 2852 - سالم بن نوح ، أبو سعيد العطار : ثقة من شيوخ أحمد .
عمر بن عامر السلمي البصري القاضي : ثقة ثبت في الحديث ، كما قال أحمد .
والحديث رواه مسلم في صحيحه 1 : 308 ، بأسانيد كثيرة ، منها إسناد عن محمد بن المثنى ، عن سالم بن نوح ، عن عمر بن عامر ، عن قتادة ، بهذا الإسناد .
ثم رواه بأسانيد أخر 1 : 308 - 309 ، عن أبي نضرة عن أبي سعيد .
ونسبه السيوطي 1 : 190 - 191 أيضًا للترمذي والنسائي .
(3) في المطبوعة : " فإذا كان فاسدين . . . " ، والصواب ما أثبته .
(4) في المطبوعة : " فتبين " ، وهو خطأ ، والصواب ما أثبته .

(3/456)


القول في تأويل قوله تعالى : { وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ }
قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بذلك : ومَنْ كان مريضًا أو عَلى سفر في الشهر فأفطر ، فعليه صيامُ عدة الأيام التي أفطرها ، من أيام أخرَ غير أيام شهر رمضان.
* * *
ثم اختلف أهل العلم في المرَض الذي أباح الله معه الإفطار ، وأوجب معه عده من أيام أخر.
فقال بعضهم : هو المرض الذي لا يُطيق صاحبه معه القيام لصَلاته.
* ذكر من قال ذلك :
2853 - حدثنا معاذ بن شعبة البصري قال ، حدثنا شريك ، عن مغيره ، عن إبراهيم وإسماعيل بن مسلم ، عن الحسن أنه قال : إذا لم يستطع المريضُ أن يُصَلِّي قائمًا أفطر. (1)
2854 - حدثني يعقوب قال حدثنا هشيم ، عن مغيرة - أو عبيدة - عن إبراهيم ، في المريض إذا لم يستطع الصلاةَ قائمًا فليفطر. يعني : في رمضان.
2855 - حدثنا هناد قال ، حدثنا حفص بن غياث ، عن إسماعيل قال : سألت الحسن : متى يُفطر الصائم ؟ قال : إذا جَهده الصوم. قال : إذا لم
__________
(1) الخبر : 2853 - معاذ بن شعبة البصري ، شيخ الطبري : ترجمه ابن أبي حاتم 4/1/251 ، قال : " معاذ بن شعبة أبو سهل البصري ، روى عن عباد بن العوام ، وعثمان بن مطر . روى عنه موسى بن إسحاق الأنصاري " . ولم أجد له ترجمة غير ذلك . فهو شيخ قديم من شيوخ الطبري ، لأنه يروي عن " عباد بن العوام " المتوفى سنة 185 ، و " شريك بن عبد الله النخعي " المتوفى سنة 188 . وتلميذه الذي ذكره ابن أبي حاتم ، وهو " موسى بن إسحاق بن موسى الأنصاري الخطمي ، قاضي الري " ، من شيوخ ابن أبي حاتم ، كما في ترجمته عنده 4/1/135 .

(3/457)


يستطع أن يُصلي الفرائض كما أمِر. (1)
* * *
وقال بعضهم : وهو كل مرض كان الأغلبُ من أمر صاحبه بالصوم الزيادةُ في علته زيادة غير مُحتملة. (2) وذلك هو قول محمد بن إدريس الشافعي ، حدثنا بذلك عنه الربيع.
* * *
وقال آخرون : وهو [كلّ] مرض يسمى مرَضًا. (3)
* ذكر من قال ذلك :
2856 - حدثنا محمد بن المثنى قال ، حدثنا الحسن بن خالد الربعي قال ، حدثنا طريف بن شهاب العُطاردي : أنه دخل على محمد بن سيرين في رَمضان وهو يأكل ، فلم يسأله. فلما فرغ قال : إنه وَجعتْ إصبعي هذه. (4)
* * *
قال أبو جعفر : والصواب من القول في ذلك عندنا أن " المرض " الذي أذن
__________
(1) في المطبوعة : " كما مر " ، وكأن الصواب ما أثبت .
(2) في المطبوعة : " زيادة غير المحتملة " وهو كلام ليس بعربي . ونص عبارة الشافعي في الأم 1 : 89 " وإن زاد مرض المريض زيادة بينة أفطر ، وإن كان زيادة محتملة لم يفطر " .
(3) في المطبوعة : " هو مرض يسمى مرضًا " ، والصواب زيادة [كل] .
(4) الخبر : 2856 - الحسن بن خالد الربعي : ترجمه ابن أبي حاتم 1/2/10 قال : " الحسن بن خالد بن باب القريعي . روي عن طريف بن شهال العطاردي . روى عنه محمد بن المثنى " . فهو الشيخ الذي هنا ، ولم أجد له ترجمة غيرها . وقد علق العلامة المحقق الشيخ عبد الرحمن بن يحيى اليماني - مصحح الكتاب - عند قوله " القريعي " ، بأن في بعض النسخ " القرايعي " ، وأنه سيأتي في باب " خالد " " خالد بن باب الربعي " ، وأنه " يمكن أن يكون هو والد الحسن هذا " . وهذا نظر دقيق منه - حفظه الله - يؤيده نسبته هنا في الطبري " الربعي " . و " خالد بن باب الربعي " : مترجم في الكبير 2/1/130 - 131 ، وابن أبي حاتم 1/2/322 ، ولسان الميزان 2 : 374 .
طريف بن شهاب العطاردي : ذكر في المطبوعة اسم أبيه " تمام " ، وهو خطأ . وطريف هذا : هو أبو سفيان الأشل . وهو ضعيف . وقيل في اسم أبيه " سعد " . والذي جود اسمه ونسبته هو البخاري في ترجمته . وهو مترجم في التهذيب ، والكبير 2/2/358 ، وابن أبي حاتم 2/1/492 - 493 ، والضعفاء للبخاري ، ص : 18 - 19 .

(3/458)


الله تعالى ذكره بالإفطار معه في شهر رمضان ، من كان الصومُ جاهدَه جَهدًا غير محتمل ، فكل من كان كذلك فله الإفطار وقضاء عدة من أيام أخر. وذلك أنه إذا بلغ ذلك الأمرَ ، فإن لم يكن مأذونًا له في الإفطار فقد كلِّف عُسرًا ، ومُنع يُسرًا. وذلك غير الذي أخبر الله أنه أراده بخلقه بقوله : " يُريد اللهُ بكم اليسرَ وَلا يُريد بكم العسر " . وأما من كان الصوم غيرَ جَاهدِه ، فهو بمعنى الصحيح الذي يُطيق الصوم ، فعليه أداءُ فرضه.
* * *
وأما قوله : " فعدة من أيام أخر " ، فإنّ معناها : أيامًا معدودة سوى هذه الأيام.
وأما " الأخَر " ، فإنها جمع " أخرى " كجمعهم " الكبرى " على " الكُبَر " و " القُربى " على " القُرَب " . (1)
* * *
فإن قال قائل : أوَليست " الأخر " من صفة الأيام ؟
قيل : بلى.
فإن قال : أوَليس واحدُ " الأيام " " يوم " وهو مذكر ؟
قيل : بلى.
فإن قال : فكيف يكون واحدُ " الأخر " " أخرى " ، وهي صفة ل " اليوم " ، ولم يكن " آخر " ؟
قيل : إن واحد " الأيام " وإن كان إذا نُعت بواحد " الأخر " فهو " آخر " ، فإن " الأيام " في الجمع تصير إلى التأنيث ، فتصير نعوتها وصفاتها كهيئة صفات المؤنث ، كما يقال : " مضت الأيامُ جُمعَ " ، ولا يقال : أجمعون ، ولا أيام آخرون.
* * *
فإن قال لنا قائل : فإن الله تعالى قال : " فمن كانَ منكم مريضًا أو عَلى
__________
(1) في المطبوعة : " بجمعهم الكبرى " ، وكأن الصواب ما أثبت .

(3/459)


سفر فعدةٌ من أيام أخر " ، ومعنى ذلك عندك : فعليه عدةٌ من أيام أخر ، كما قد وصفت فيما مضى. فإن كان ذلك تأويله ، فما قولك فيمن كان مريضًا أو عَلى سَفر فَصَام الشهر ، وهو ممن له الإفطار ، أُيجزيه ذلك من صيام عدة من أيام أخر ، أو غيرُ مُجزيه ذلك ، وفَرْضُ صوم عدة من أيام أخر ثابتٌ عليه بهيئته ، وإن صام الشهر كله ؟ وهل لمن كان مريضًا أو على سَفر صيامُ شهر رمضان ، أم ذلك محظور عليه ، وغير جائز له صومه ، والواجب عليه الإفطار فيه ، حتى يقيم هذا ويبرأ هذا ؟
قيل : قد اختلف أهل العلم في كل ذلك ، ونحن ذاكرُو اختلافهم في ذلك ، ومخبرون بأولاه بالصواب إن شاء الله.
فقال بعضهم : الإفطارُ في المرض عَزْمة من الله واجبةٌ ، وليسَ بترخيص.
* ذكر من قال ذلك :
2857 - حدثنا محمد بن بشار قال ، حدثنا ابن أبي عدي - وحدثني يعقوب بن إبراهيم قال ، حدثنا ابن علية - جميعًا ، عن سعيد ، عن قتادة ، عن جابر بن زيد ، عن ابن عباس قال : الإفطارُ في السفر عَزْمة.
2858 - حدثني محمد بن المثنى قال ، حدثنا وهب بن جرير قال ، أخبرنا شعبة ، عن يعلى ، عن يوسف بن الحكم قال : سألتُ ابن عمر - أو : سئل - عن الصوم في السفر فقال : أرأيت لو تصدقت على رجل بصدقة فردها عليك ، ألم تغضب ؟ فإنها صَدقة من الله تصدق بها عليكم. (1)
__________
(1) الخبر : 2858 - شعبة : هو ابن الحجاج ؛ إمام أهل الجرح والتعديل . وثبت في المطبوعة " سعيد " . وهو خطأ ناسخ أو طابع في هذا الإسناد ، كما يتبين مما سيأتي .
يعلى : هو ابن عطاء العامري ، ثقة معروف .
يوسف بن الحكم أبو الحكم : تابعي ثقة . ذكره ابن حبان في الثقات . وترجمه ابن أبي حاتم 4/2/220 قال : " روى عن ابن عمر . روى عنه يعلى بن عطاء " . وترجمه البخاري في الكبير 4/2/376 باسم " يوسف أبو الحكم ، سمع ابن عمر . روى عنه يعلى بن عطاء " . وثبت عقب ذلك في بعض نسخ الكبير : " هذا هو الأول أظنه " . يريد المترجم قبله " يوسف بن مهران " . وهذا الظن من البخاري ليس في موضعه ، ولعله ظن ذلك إذ لم يقع له منسوبًا لأبيه ، بل وقع له باسم " يوسف " وكنية " أبي الحكم " .
والذي يقطع في ذلك ، ويرفع كل شبهة : أن الدولابي روى هذا الخبر ، في الكنى والأسماء 1 : 154 - 155 " حدثنا محمد بن بشار . قال : حدثنا محمد بن جعفر قال : حدثنا شعبة ، عن يعلى بن عطاء ، قال ، سمعت يوسف بن الحكم أبا الحكم يقول : سمعت عبد الله بن عمر يسأل عن الصوم في السفر . . . " فذكر نحوًا مما هنا .
ووهب بن جرير يروي عن شعبة . ويعلى بن عطاء يروي عنه شعبة . فلا موضع في هذا الإسناد لاسم " سعيد " . إلى ثبوت الخبر من رواية شعبة عند الدولابي ، كما ذكرنا .
وهذا الرأي لابن عمر - ثم لغيره من الصحابة - إنما هو فيمن أبى أن يقبل رخصة الله في الإفطار في السفر . قال ابن كثير 1 : 410 - 411 " فأما إن رغب عن السنة ، ورأى أن الفطر مكروه - فهذا يتعين عليه الإفطار ، ويحرم عليه الصيام والحالة هذه . لما جاء في مسند الإمام أحمد وغيره ، عن ابن عمر ، وجابر ، وغيرهما : من لم يقبل رخصة الله كان عليه من الإثم مثل جبال عرفة " . يشير ابن كثير في ذلك إلى حديث ابن عمر في المسند : 5392 . وانظر حديثين آخرين لابن عمر ، في المسند : 5750 ، 5866 .

(3/460)


2859 - حدثنا نصر بن عبد الرحمن الأزدي قال ، حدثنا المحاربي عن عبد الملك بن حميد قال ، قال أبو جعفر : كان أبي لا يَصُوم في السفر ، ويَنهى عنه. (1)
2860 - وحدثنا ابن حميد قال ، حدثنا يحيى بن واضح قال ، حدثنا عبيد ، عن الضحاك : أنه كره الصومَ في السفر.
* * *
وقال أهل هذه المقالة : من صام في السفر فعليه القضاءُ إذا قام.
* ذكر من قال ذلك :
2861 - حدثنا نصر بن علي الجهضميّ قال ، حدثنا مسلم بن إبراهيم قال ، حدثنا ربيعة بن كلثوم ، عن أبيه ، عن رجل : أن عمرَ أمرَ الذي صام في السفر أن يُعيد. (2) .
2862 - حدثنا محمد بن المثنى قال ، حدثنا محمد بن أبي عدي ، عن سعيد
__________
(1) الخبر : 2859 - نصر بن عبد الرحمن الأزدي . مضى في : 423 ، 875 . ووقع في المطبوعة هنا - كما وقع هناك : " الأودي " . وهو خطأ .
(2) الخبر : 2861 - نصر بن علي بن نصر بن علي الجهضمي : مضى في : 2376 . ووقع في المطبوعة هنا " الخثمعي " . وهو تصحيف واضح .
وشيخه " مسلم بن إبراهيم الأزدي الفراهيدي " : مضى في : 1219 . وقد ثبت في ترجمتيهما رواية نصر عن مسلم .
ربيعة بن كلثوم بن جبر البصري : ثقة ، تكلم فيه بعضهم . مترجم في التهذيب ، وابن سعد 7/2/35 ، والكبير 2/1/266 ، وابن أبي حاتم 1/2/477 - 478 .
أبوه " كلثوم بن جبر " : ثقة من صغار التابعين ، لم يدرك عمر بن الخطاب . ولذلك روى عنه هنا بواسطة رجل مبهم . فالإسناد لذلك ضعيف . وانظر الخبر الآتي : 2866 .

(3/461)


بن عمرو بن دينار ، عن رجل من بني تميم ، عن أبيه قال : أمر عمر رجلا صام في السفر أن يعيدَ صَوْمه.
2863 - حدثني ابن حميد الحمصي قال ، حدثنا علي بن معبد ، عن عبيد الله بن عمرو ، عن عبد الكريم ، عن عطاء ، عن المحرَّر بن أبي هريرة قال : كنت مع أبي في سفر في رمضان ، فكنت أصوم ويُفطر. فقال لي أبي : أما إنك إذا أقمتَ قَضيت. (1)
2864 - حدثنا محمد بن المثنى قال ، حدثنا سليمان بن داود قال ، حدثنا شعبة ، عن عاصم مولى قريبة ، قال : سمعت عروة يأمر رجلا صام في السفر أن يَقضي.
2865 - حدثنا ابن المثنى قال ، حدثنا عبد الصمد قال ، حدثنا شعبة ، عن عاصم مولى قريبة : أن رجلا صامَ في السفر ، فأمرَهُ عروة أن يَقضي.
2866 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا ابن صبيح قال ، حدثنا ربيعة بن كلثوم ، عن أبيه كلثوم : أنّ قومًا قدموا على عُمرَ بن الخطاب وقد صاموا رمضانَ في سفر ، فقال لهم : والله لكأنكم كنتم تصُومون! فقالوا : والله يا أمير المؤمنين
__________
(1) الخبر : 2863 - المحرر - براءين مع فتح الأولى مشددة : هو ابن أبي هريرة . وهو تابعي معروف ، يروي عن أبيه ، وعن ابن عمر . وله في المسند أحاديث عن أبيه ، منها : 212 ، 9562 .
وهذا الخبر ذكر السيوطي 1 : 191 ، نحو معناه . ونسبه لعبد بن حميد فقط . وثبت فيه اسم " المحرر " : " محرز " بالزاي في آخره ، وهو تصحيف .

(3/462)


لقد صمنا! قال : فأطقتموه! قالوا : نعم. قال : فاقضوه ، فاقضوه. (1)
* * *
وعلة مَنْ قال هذه المقالة : أن الله تعالى ذكره فرَضَ بقوله : " فمن شهد منكم الشهر فليصمه " صومَ شهر رمضان على من شهده مُقيمًا غير مسافر ، وجعل على من كان مريضًا أو مسافرًا صومَ عدة من أيام أخر غير أيام شهر رمضان بقوله : " ومَنْ كان مريضًا أو على سَفر فعدة من أيام أخر " . قالوا : فكما غيرُ جائز للمقيم إفطارُ أيام شهر رمضان وَصَوم عدة أيام أخر مكانها - لأن الذي فرضَه الله عليه بشهوده الشهرَ صومُ الشهر دون غيره - فكذلك غير جائز لمن لم يشهده من المسافرين مقيمًا ، صوْمُه. لأن الذي فرضه الله عليه عدة من أيام أخر. واعتلوا أيضًا من الخبر بما : -
2867 - حدثنا به محمد بن عبد الله بن سعيد الواسطي قال ، حدثنا يعقوب بن محمد الزهري قال ، حدثنا عبد الله بن موسى ، عن أسامة بن زيد ، عن الزهري ، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن ، عن عبد الرحمن بن عوف قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " الصائم في السفر كالمفطر في الحضر. " (2)
2868 - حدثني محمد بن عبيد الله بن سعيد قال ، حدثنا يزيد بن عياض ،
__________
(1) الخبر : 2866 - إسناده ضعيف ، لانقطاعه ، فإن كلثوم بن جبر لم يدرك عمر بن الخطاب ، كما بينا ذلك في : 2861 .
(2) الحديث : 2867 - محمد بن عبد الله بن سعيد الواسطي - شيخ الطبري : لم أجد له ترجمة . وسيأتي بهذا الاسم أيضًا في : 2888 . ولكن سيأتي في الإسناد الذي عقب هذا باسم " محمد بن عبيد الله بن سعيد " - بجعل أبيه " عبيد الله " بدل " عبد الله " . وأنا أرجح الذي في إسنادين على الذي في إسناد واحد ، ترجيحًا بدائيًا غير محقق .
يعقوب بن محمد بن عيسى بن عبد الملك بن حميد بن عبد الرحمن بن عوف الزهري : مختلف فيه ، والظاهر أنه ثقة ، وإنما أخذوا عليه الرواية عن رجال مجهولين غير معروفي العدالة - مترجم في التهذيب ، والكبير 4/2/398 ، وابن أبي حاتم 4/2/214 - 215 ، وتاريخ بغداد 14 : 269 - 271 .
عبد الله بن موسى بن إبراهيم - من ولد طلحة بن عبيد الله التيمي : مختلف فيه . وضعف أحمد جدًا . وقال ابن حبان : " يرفع الموقوف ، ويسند المرسل ، لا يجوز الاحتجاج به " . ووقع في المطبوعة هنا " عبيد الله بن موسى " . وهو خطأ ، فإن الحديث معروف من رواية " عبد الله بن موسى التيمي " . ثم هو الذي يروي عن أسامة بن زيد .
أسامة بن زيد : هو الليثي المدني ، مختلف فيه . وقد رجحنا توثيقه في شرح المسند : 1098 .
وهذا الحديث رواه ابن ماجه : 1666 ، عن إبراهيم بن المنذر الحزامي ، عن عبد الله بن موسى التيمي بهذا الإسناد .
وقد أطال الحافظ الزيلعي في نصب الرواية 2 : 461 - 463 في تخريج رواياته . ورجح أنه موقوف من كلام عبد الرحمن بن عوف ، إلى انقطاع إسناده بين أبي سلمة بن عبد الرحمن وأبيه . فقد رجح الحافظ أنه لم يسمع من أبيه شيئا . وقد رجحنا في شرح المسند : 1660 أنه سمع ذاك الحديث من أبيه - وكان صغيرًا حين مات عبد الرحمن . وليس معنى هذا أنه سمع منه كل ما يرويه عنه .
وذكر ابن أبي حاتم في كتاب العلل ، رقم 694 ، أنه سأل أباه عن هذا الحديث ، فقال أبو زرعة : " رواه أبو أحمد الزبيري ، ومعن بن عيسى ، وحماد بن خالد الخياط ، عن ابن أبي ذئب ، عن الزهري ، عن أبي سلمة ، عن أبيه ، قوله . ورواه عنبسة بن خالد ، عن يونس ، عن الزهري ، عن أبي سلمة ، عن أبيه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم . ورواه ابن لهيهة ، عن يونس ، عن الزهري ، عن أبي سلمة ، عن عائشة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم . ورواه بقية ، عن آخر ، عن الزهري ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم . وقال أبو زرعة : الصحيح عن الزهري ، عن أبي سلمة ، عن أبيه . موقوف " .
ونقل الحافظ ابن حجر في التلخيص ، ص : 195 أن الدارقطني في العلل والبيهقي ، صححا أيضًا أنه موقوف . وانظر السنن الكبرى للبيهقي 4 : 244 ، وتعقيب ابن التركماني عليه . والرواية الموقوفة على عبد الرحمن بن عوف رواها النسائي 1 : 316 ، بثلاثة أسانيد . هذا وسيأتي قول الطبري في ص : 474 عن هذا الخبر والذي يليه وأشباههما ، أنها : " واهية الأسانيد ، لا يجوز الاحتجاج بها في الدين " .

(3/463)


عن الزهري ، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن ، عن أبيه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " الصائمُ في السفر كالمفطر في الحضر. (1)
* * *
وقال آخرون : إباحة الإفطار في السفر رخصة من الله تعالى ذكره ، رخصها لعباده ، والفرضُ الصوم. فمن صام فرضَه أدَّى ، ومن أفطر فبرُخصة الله له أفطر. قالوا : وإن صام في سفر فلا قَضاءَ عليه إذا أقام.
* ذكر من قال ذلك :
__________
(1) الحديث : 2868 - هو إسناد آخر للحديث السابق .
وهذا إسناد مشكل :
فشيخ الطبري ذكر هنا باسم " محمد عبيد الله بن سعيد " . وذكر في الإسناد السابق باسم " محمد بن عبد الله " .
وثانيًا : قوله " حدثنا يزيد بن عياض " - غير معقول . يجب أن يكون بينهما راو على الأقل . فإن يزيد بن عياض بن يزيد بن جعدبة الليثي قديم الوفاة ، مات في خلافة المهدي . وذكره البخاري في التاريخ الصغير ، ص : 172 ، في فصل (من مات بين سنتي : 140 - 150) . فليس من المعقول أن يسمع منه أي شيخ للطبري المتوفى سنة 310 . وأنا أرجح أن يكون بينهما " يزيد بن هارون " ، لما سنذكر ، إن شاء الله .
ويزيد بن عياض هذا : ضعيف جدًا . قال البخاري في الكبير 4/2/351 - 352 ، والصغير : " منكر الحديث " . ورماه مالك وابن معين والنسائي وغيرهم بالكذب . و " جعدبة " بضم الجيم والدال المهملة بينهما عين مهملة ساكنة .
ونقل الزيلعي في نصب الراية 2 : 462 ، أن هذا الحديث " رواه ابن عدي في الكامل ، من حديث يزيد بن هارون : حدثنا يزيد بن عياض ، عن الزهري ، عن أبي سلمة ، عن أبيه ، مرفوعًا . قال ابن عدي : وهذا الحديث لا يرفعه عن الزهري - غير يزيد بن عياض ، وعقيل من رواية سلامة بن روح عنه ، ويونس بن يزيد من رواية القاسم بن مبرور عنه ، وأسامة بن زيد من رواية عبد الله بن موسى التيمي عنه . والباقون من أصحاب الزهري - رووه عنه ، عن أبي سلمة ، عن أبيه ، من قوله " .

(3/464)


2869 - حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الوهاب قال ، حدثنا أيوب قال ، حدثنا عروة وسالم : أنهما كانا عند عمر بن عبد العزيز إذ هو أميرٌ على المدينة ، فتذاكروا الصومَ في السفر ، قال سالم : كان ابن عمر لا يصُوم في السفر. وقال عروة. وكانت عائشة تصوم. فقال سالم : إنما أخذت عن ابن عمر. وقال عروة : إنما أخذتُ عن عائشة. حتى ارتفعت أصواتهما. فقال عمر بن عبد العزيز : اللهم عفوً!ا إذا كان يُسرًا فصوموا ، وإذا كان عُسرًا فأفطروا.
2870 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال ، حدثنا ابن علية ، عن أيوب ، قال ، حدثني رجل قال : ذكر الصوم في السفر عند عمر بن عبد العزيز ، ثم ذكر نحو حديث ابن بشار.
2871 - حدثني يعقوب قال ، حدثنا ابن علية ، عن محمد بن إسحاق - وحدثنا أبو كريب قال ، حدثنا ابن إدريس حدثنا ابن إسحاق - عن الزهري ، عن سالم بن عبد الله قال : خرج عمر بن الخطاب في بعض أسفاره في ليال بقيت من رمضان ، فقال : إن الشهر قد تشعشع - قال أبو كريب في حديثه : أو : تَسعسع ، ولم يشك يعقوب - فلو صمنا! فصام وصام الناس مَعه. ثم أقبل مرَّة قافلا حتى إذا كان بالروحاء أهلّ هلالُ شهر رمضان ، فقال : إن الله قد

(3/465)


قَضَى السفر ، فلو صمنا ولم نَثْلم شهرنا! قال : فصام وصام الناس معه. (1) .
2872 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا الحكم بن بشير ، قال ، حدثني أبي - وحدثنا محمد بن بشار قال ، أخبرنا عبيد الله قال ، أخبرنا بشير بن سلمان - عن خيثمةَ قال : سألت أنس بن مالك عن الصوم في السفر ، قال : قد أمرتُ غلامي أن يَصوم فأبى. قلت : فأين هذه الآية : " ومن كان مريضًا أو على سفر فعدة من أيام أخر " ؟ قال : نزلت ونحن يومئذ نرتحلُ جياعًا وننزل على غير شِبَع ، وإنا اليوم نرتحل شِباعًا وننزل على شِبَع (2) .
2873 - حدثنا هناد قال ، حدثنا وكيع ، عن بشير بن سلمان ، عن خيثمة ، عن أنس نحوه.
2874 - حدثنا هناد وأبو السائب قالا حدثنا أبو معاوية ، عن عاصم ،
__________
(1) تسعسع الشهر : أدبر وفنى إلا أقله من قولهم : " تسعسع الرجل " : إذا اضطرب من الكبر أو الهرم . وتشعشع الشهر : رق وتقضى وبقى أقله . ذهب به إلى رقة الشهر وقلة ما بقي ، كما يشعشع اللبن بالماء أي يمزج ويخلط . وقوله " لم نثلم شهرنا " من ثلم الإناء أو السيف : كسر شفة الإناء أو حد السيف . أي لم ندخل الخلل على صومنا ونجرح شهرنا .
(2) الخبر : 2872 - الحكم بن بشير بن سلمان : مضى في : 1497 .
أبوه " بشير بن سلمان النهدي " : ثقة ، وثقه أحمد وابن معين وغيرهما . وأبوه : " سلمان " ، بفتح السين وسكون اللام . ووقع في كثير من المراجع المطبوعة " سليمان " . وهو خطأ مطبعي . وفي التهذيب وفروعه " الكندي " بدل " النهدي " . وهو خطأ ، صوابه في الكبير للبخاري 1/2/99 ، وابن أبي حاتم 1/1/374 ، وابن سعد 6 : 251 ، ورجال الصحيحين ، ص : 55 .
خيثمة : هو ابن أبي خيثمة البصري ، وهو تابعي ثقة . وقال ابن معين : " ليس بشيء " . كما في ابن أبي حاتم 1/2/394 ، ولكن ذكره ابن حبان في الثقات ، وترجمه البخاري في الكبير 2/1/197 ، فلم يذكر فيه جرحًا ، وأشار إلى هذا الحديث من روايته ، كعادته في إشاراته الدقيقة - لله دره - فقال : " وقال أبو نعيم ، عن بشير بن سلمان ، عن خيثمة . قال : سألت أنس بن مالك عن الصوم في السفر " . ولم يذكره هو ولا النسائي في الضعفاء . وهذا كاف في توثيقه والاحتجاج بروايته ، دون الجرح المجمل من ابن معين .
وهذا الخبر ذكره السيوطي 1 : 191 ، وزاد نسبته لعبد بن حميد ، والنسائي . ولم أجده في النسائي ، ولعله في السنن الكبرى .

(3/466)


عن أنس : أنه سئل عن الصوم في السفر فقال : من أفطر فبرُخصة الله ، ومن صام فالصومُ أفضل.
2875 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا أبو أسامة ، عن أشعث بن عبد الملك ، عن محمد بن عثمان بن أبي العاص قال : الفطر في السفر رخصة ، والصوم أفضل.
2876 - حدثني المثني قال ، حدثنا عبد الصمد قال ، حدثنا شعبة قال ، حدثنا أبو الفيض ، قال : كان علي علينا أميرًا بالشام ، فنهانا عن الصوم في السفر ، فسألت أبا قِرْصافة - رجلا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من بني ليث ، قال عبد الصمد : سمعتُ رجلا من قومه يَقول : إنه واثلة بن الأسقع - قال : لو صمتَ في السفر ما قضيت. (1) .
__________
(1) الخبر : 2876 - أبو الفيض : هو موسى بن أيوب المهري الحمصي ، ويقال : ابن أبي أيوب ، وهو شامي ثقة ، وثقه ابن معين ، والعجلي . مترجم في التهذيب ، وابن أبي حاتم 4/1/134 .
أبو قرصافة ، بكسر القاف وسكون الراء بعدها صاد مهملة : هو " واثلة بن الأسقع " الصحابي ، من بني ليث بن عبد مناة . يكنى " أبا الأسقع " ، ويقال " أبو قرصافة " ، كما في ترجمته في الإصابة والتهذيب وغيرهما . وهذا الخبر يؤيد هذه الكنية ، لأن عبد الصمد بن عبد الوارث يذكر في أثنائه ، أنه سمع رجلا من قومه يقول " إنه واثلة بن الأسقع " .
وقد أوقعهم هذا الخبر - أو نحوه - في وهم عجيب ؛ لأن هناك رجلا آخر له صحبة ، يكنى " أبا قرصافة اسمه جندرة بن خيشنة " كنابي له صحبة ، مترجم في التهذيب 2 : 119 ، والكبير 1/2/249 ، وابن أبي حاتم 1/1/545 ، وأسد الغابة 1 : 307 . فانتقل نظر صاحب التهذيب ، في ترجمة " أبي الفيض موسى بن أيوب " 10 : 337 فذكر أنه يروي عن " أبي قرصافة جندرة بن خيشنة " . ثم ذكر صاحب أسد الغابة ، في ترجمة " جندرة " هذا أنه " جعله ابن ماكولا ليثيًا ، وليس بشيء!! " . ولم يذكر صاحب التهذيب في ترجمة " جندرة " أنه يروي عنه " أبو الفيض " !!
فالظاهر عندي أن ابن ماكولا حين ذكر أن " أبا قرصافة " من بني ليث ، أراد به " واثلة بن الأسقع " ، كما تدل عليه الرواية في هذا الخبر . وأن صاحب التهذيب وهم حين ذكر أن أبا الفيض يروي عن " أبي قرصافة جندرة بن خيشنة " ، لأن روايته إنما هي عن " أبي قرصافة واثلة " ، وهو ليثي بلا خلاف فيه .
وأما قول أبي الفيض هنا : " كان على علينا أميرا بالشأم " - فلا أدري ما هو ؟ وإنما اليقين أنه لا يريه به " علي بن أبي طالب " ، إذ لم يكن ذلك قط . ولعله كان لهم أمير بالشأم يدعي " عليا " . ويحتمل أن يكون ما هنا فيه تحريف ، وأن يكون صوابه " كان علينا أمير بالشأم ، فنهانا . . " إلخ .
ثم وجدت ما يؤيد ذلك : ففي مجمع الزوائد 3 : 161 - 162 " عن أبي الفيض " قال : خطبنا مسلمة بن عبد الملك ، فقال : لا تصوموا رمضان في السفر ، فمن صام فليقضه . قال أبو الفيض : فلقيت أبا قرصافة واثلة بن الأسقع ، فسألته ؟ فقال : لو ما صمت ثم صمت ما قضيته . رواه الطبراني في الكبير ، ورجاله ثقات " .
فهذه الرواية تماثل رواية الطبري هنا ، وتدل على أن الأمير الذي نهاهم هو " مسلمة بن عبد الملك " . فأكبر الرأي أن يكون الصواب في رواية الطبري " كان عليا أمير بالشأم " ، كما ظننا من قبل . ولفظ آخر الحديث - في رواية الزوائد - أراه محرفًا ، وأوضح منه وأصوب لفظ أبي جعفر . و " جندرة " و " خيشنة " - كلاهما بفتح أوله وثالثه وسكون ثانيه .

(3/467)


2877 - حدثنا هناد قال ، حدثنا وكيع ، عن بسطام بن مسلم ، عن عطاء قال : إن صمتم أجزأ عنكم ، وإن أفطرتم فرُخصة.
2878 - حدثنا هناد قال ، حدثنا وكيع ، عن كهمس قال : سألت سالم بن عبد الله عن الصوم في السفر ، فقال : إن صمتم أجزأ عنكم ، وإن أفطرتم فرخصة.
2879 - حدثنا هناد قال ، حدثنا عبد الرحيم ، عن طلحة بن عمرو ، عن عطاء قال : من صام فحقٌّ أدَّاه ، ومن أفطر فرُخصة أخذ بها.
2880 - حدثنا هناد قال ، حدثنا وكيع ، عن سفيان ، عن حماد ، عن سعيد بن جبير ، قال : الفطر في السفر رُخصة ، والصومُ أفضل.
2881 - حدثنا هناد قال ، حدثنا أبو معاوية ، عن حجاج ، عن عطاء ، قال : هو تَعليم ، وليس بعَزم - يعني قول الله : " ومن كان مريضًا أو على سفر فعدة من أيام أخر " ، إن شاء صام وإن شاء لم يصم.
2882 - حدثنا هناد قال ، حدثنا أبو أسامة ، عن هشام ، عن الحسن : في الرجل يسافر في رمضان ، قال : إن شاء صام وإن شاء أفطر.
2883 - حدثنا حميد بن مسعدة قال ، حدثنا سفيان بن حبيب قال ، حدثنا العوّام بن حوشب قال : قلت لمجاهد : الصوم في السفر قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم فيه ويفطر. قال : قلت : فأيهما أحب إليك ؟ قال : إنما هي رُخصة ، وأن تصوم رمضان أحب إليّ.
2884 - حدثنا ابن المثني قال ، حدثنا محمد بن جعفر قال ، حدثنا شعبة ،

(3/468)


عن حماد ، عن سعيد بن جبير وإبراهيم ومجاهد ، أنهم قالوا : الصومُ في السفر ، إن شاء صَام وإن شاء أفطر ، والصوم أحب إليهم.
2885 - حدثنا ابن المثني قال ، حدثنا محمد بن جعفر قال ، حدثنا شعبة ، عن أبي إسحاق قال ، قال لي مجاهد في الصوم في السفر - يعني صوم رمضان - : والله ما منهما إلا حلال ، الصومُ والإفطار ، وما أراد الله بالإفطار إلا التيسير لعباده.
2886 - حدثنا ابن المثني قال ، حدثنا محمد بن جعفر قال : حدثنا شعبة ، عن الأشعث بن سليم قال : صحبت أبا الأسود بن يزيد وعمرو بن ميمون وأبا وائل إلى مكة ، وكانوا يصومون رمضان وغيرَه في السفر.
2887 - حدثنا علي بن حسن الأزدي قال ، حدثنا معافى بن عمران ، عن سفيان ، عن حماد ، عن سعيد بن جبير : الفطرُ في السفر رُخصة ، والصوم أفضل.
2888 - حدثني محمد بن عبد الله بن سعيد الواسطي قال ، حدثنا يعقوب قال ، حدثنا صالح بن محمد بن صالح ، عن أبيه قال : قلت للقاسم بن محمد : إنا نسافر في الشتاء في رمضان ، فإن صمتُ فيه كان أهوَنَ عليَّ من أن أقضيه في الحر! فقال : قال الله : ( يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ ) ما كان أيسرَ عليك فافعلْ (1) .
* * *
__________
(1) الخبر : 2888 - محمد بن عبد الله بن سعيد ، شيخ الطبري : مضى في : 2867 ، 2868 .
صالح بن محمد بن صالح بن دينار التمار المدني : ترجمه البخاري في الكبير 2/2/292 ، ولم يذكر فيه جرحا ، وذكر أنه يروي عن أبيه . ولم يترجم له ابن أبي حاتم ، ولا التهذيب ، ولا لسان الميزان ولكن ذكر في التهذيب في ترجمة أبيه ، أنه يروي عنه .
أبوه محمد بن صالح بن دينار التمار : ثقة . مترجم في التهذيب . والكبير 1/1/117 ، وروى حدثنا آخر من رواية ابنه صالح ، عنه ، وابن أبي حاتم 3/2/287 .

(3/469)


قال أبو جعفر : وهذا القول عندنا أولى بالصواب ، لإجماع الجميع على أن مريضًا لو صام شهرَ رمضان - وهو ممن له الإفطار لمرضه - أنّ صومه ذلك مجزئ عنه ، ولا قضاء عليه إذا برأ من مرضه بعدة من أيام أخر ، فكان معلومًا بذلك أن حكم المسافر حكمه في أنْ لا قضاءَ عليه إن صامه في سفره. لأن الذي جعل للمسافر من الإفطار وأمرَ به من قضاء عدة من أيام أخر ، مثلُ الذي جعل من ذلك للمريض وأمرَ به من القضاء. ثم في دلالة الآية كفايةٌ مغنية عن استشهاد شاهد على صحة ذلك بغيرها. وذلك قول الله تعالى ذكره : ( يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ ) ، ولا عُسرَ أعظم من أن يُلزم من صامه في سفره عدةً من أيام أخر ، وقد تكلف أداءَ فرضه في أثقل الحالين عليه حتى قضاه وأدَّاه.
فإن ظن ذو غَباوة أنّ الذي صامه لم يكن فرضَهُ الواجبَ ، فإن في قول الله تعالى ذكره : " يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام " " شهرُ رَمضَان الذي أنزل فيه القرآن " ، ما ينبئ أن المكتوبَ صومُه من الشهور على كل مُؤمن ، هو شهرُ رمضان مسافرًا كان أو مقيمًا ، لعموم الله تعالى ذكره المؤمنين بذلك بقوله : " يا أيها الذين آمنوا كتب عليكمُ الصيام " " شهر رمضان " وأن قوله : " ومَنْ كان مريضًا أو عَلى سفر فعدةٌ من أيام أخر " معناه : ومن كان مريضًا أو على سفر فأفطرَ برُخصة الله ، فعليه صوم عدة أيام أخر مكانَ الأيام التي أفطر في سفره أو مرضه ثم في تظاهر الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله - إذْ سئل عن الصوم في السفر : " إن شئتَ فصم ، وإن شئت فأفطر " - الكفايةُ الكافيةُ عن الاستدلال على صحة ما قُلنا في ذلك بغيره.
2889 - حدثنا هناد قال ، حدثنا عبد الرحيم ووكيع وعبدة ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة : أن حَمزة سألَ رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الصوم في السفر - وكانَ يسرُد الصوم - فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن

(3/470)


شئتَ فصُمْ وإن شئت فأفطر. (1) .
2890 - حدثنا أبو كريب وعبيد بن إسماعيل الهبّاري قالا حدثنا ابن إدريس قال ، حدثنا هشام بن عروة ، عن أبيه أن حمزة سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر نحوه. (2) .
__________
(1) الحديث : 2889 - هو حديث صحيح . رواه الإمام أحمد ، وأصحاب الكتب الستة ، كما في المنتقى : 2171 .
و " حمزة " هذا : هو حمزة بن عمرو الأسلمي ، صحابي معروف . مترجم في التهذيب ، والكبير للبخاري 2/1/43 ، وابن سعد 4/2/45 ، وابن أبي حاتم 1/2/212 ، والاستيعاب ، ص : 105 ، وأسد الغابة 2 : 50 - 51 ، وتاريخ الإسلام للذهبي 3 : 14 .
ومن عجب بعد هذا كله : أن يسهو الحافظ ابن حجر عن ترجمته في الإصابة ، في حين أنه أشار إليه في ترجمة " حمزة بن عمر " بضم العين وفتح الميم . وهي ترجمة أخطأ فيها بعض من سبقه ، وبين هو هذا الخطأ كما بينه ابن الأثير!! وانظر الإسنادين بعد هذا . سرد الصوم يسرده سردًا : إذا والاه وتابعه بعضه في إثر بعض .
(2) الحديث : 2990 - عبيد بن إسماعيل الهباري ، شيخ الطبري : ثقة من شيوخ البخاري . ترجمه في الصغير ، ص : 247 ، وهو مترجم أيضًا في التهذيب ، وابن أبي حاتم 2/2/402 .
ابن إدريس : هو عبد الله بن إدريس الأودي ، مضى في : 438 ، 2030 . ووقع في التهذيب 7 : 59 ، في شيوخ " عبيد بن إسماعيل " - " وأبي إدريس " . وهو خطأ مطبعي .
وهذا الإسناد ظاهره أنه مرسل ، لأن عروة بن الزبير تابعي ، كما هو واضح . والظاهر أن هشام بن عروة ، أو أباه عروة - كان أحدهما يصل هذا الحديث تارة ويرسله تارة . وعروة سمعه من خالته عائشة أم المؤمنين ، كما في الإسناد السابق ، وسمعه أيضًا من أبي مراوح عن حمزة الأسلمي نفسه ، كما في الإسناد التالي لهذا .
ومالك قد روى هذا الحديث في الموطأ ، ص : 295 ، " عن هشام بن عروة ، عن أبيه : أن حمزة بن عمرو الأسلمي . . " - فذكره مرسلا ، كرواية ابن إدريس هنا ، عن هشام .
فقال ابن عبد البر في التقصي ، رقم : 643 " هكذا رواه يحيى ، لم يذكر عائشة . وخالفه أكثر رواة الموطأ ، فذكروا فيه عائشة " .
وقد رواه البخاري 4 : 157 ، عن عبد الله بن يوسف ، عن مالك - موصولا . وكذلك رواه غيره من الأئمة .
والظاهر عندي أن الذي كان يرسله ويصله - هو هشام أو أبوه ، وأن مالكًا رواه عن هشام على الوجهين . بدلالة رواية عبد الله بن إدريس المرسلة - هنا - عن هشام .
ورواه البخاري أيضًا 4 : 156 ، ومسلم 1 : 309 - 310 ، بأسانيد ، موصولا ، من طريق هشام ، عن أبيه ، عن عائشة .

(3/471)


2891 - حدثني محمد بن عبد الله بن عبد الحكم قال ، حدثنا أبو زرعة وهب الله بن راشد قال : أخبرنا حيوة بن شريح قال : أخبرنا أبو الأسود أنه سمع عروة بن الزبير يحدث عن أبي مراوح ، عن حمزة الأسلمي صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : يا رسول الله ، إني أسرد الصوم ، فأصومُ في السفر ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إنما هي رُخْصة من الله لعباده ، فمن فعلها فحسنٌ جميل ، ومن تركها فلا جُناح عليه. فكان حمزة يصوم الدهر ، فيصوم في السفر والحضر. وكان عروة بن الزبير يصوم الدهر ، فيصوم في السفر والحضر ، حتى إنْ كان ليمرضُ فلا يُفطر. وكان أبو مُرَاوح يصوم الدهر ، فيصوم في السفر والحضر. (1) .
* * *
ففي هذا ، مع نظائره من الأخبار التي يطول باستيعابها الكتاب الدلالة الدالة على صحة ما قلنا : من أن الإفطارَ رخصةٌ لا عزم ، والبيانُ الواضح على صحة ما قلنا في تأويل قوله : " وَمن كانَ مريضًا أو عَلى سَفر فعدةٌ من أيام أخر " .
* * *
__________
(1) الحديث : 2891 - أبو زرعة وهب الله بن راشد : مضى في : 2377 . ووقع في المطبوعة هنا - كما كان هناك : " أبو زرعة وعبد الله بن راشد قالا . . " . وهو خطأ ، كما بينا آنفًا .
حيوة - بفتح الحاء المهملة والواو بينهما ياء تحتية ساكنة - بن شريح التجيبي ، أبو زرعة المصري : فقيه عالم ثقة ثقة .
أبو الأسود : هو " يتيم عروة " ، واسمه " محمد بن عبد الرحمن بن نوفل " ، وقيل له " يتيم عروة " لأن أباه كان أوصى إليه .
أبو مراوج الغفاري المدني : تابعي ثقة ، أخرج له الشيخان وغيرهما .
والحديث رواه مسلم 1 : 310 ، والنسائي 1 : 243 - والبيهقي 4 : 43 ، ثلاثتهم من طريق ابن وهب ، عن عمرو بن الحارث ، عن أبي الأسود ، بهذا الإسناد .
وقصر السيوطي جدًا ، فذكره 1 : 190 ، ونسبه للدارقطني " وصححه " ، فقط . وهو في أحد الصحيحين وأحد السنن الأربعة .
فظهر من هذا الإسناد أن عروة بن الزبير له في هذا الحديث طريقان : فسمعه من خالته عائشة . وسمعه مطولا من أبي مراوح ، عن حمزة الأسلمي نفسه ، صاحب السؤال . فليس هذا اختلافًا على عروة ، إنما هو توكيد رواية صحيحة ، بأخرى مثلها .

(3/472)


قال أبو جعفر : فإن قال قائل : إن الأخبار بما قلت وإن كانت متظاهرةً ، فقد تظاهرت أيضًا بقوله : " ليس من البر الصيامُ في السفر " ؟
قيل : إن ذلك إذا كان الصيامُ في مثل الحال التي جَاء الأثرُ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قالَ في ذلك لمن قال له.
2892 - حدثنا الحسين بن يزيد السبيعي قال ، حدثنا ابن إدريس ، عن محمد بن عبد الرحمن ، عن محمد بن عمرو بن الحسن ، عن جابر : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجُلا في سفره قد ظُلِّل عليه ، وعليه جماعة ، فقال : " من هذا ؟ قالوا : صائم. قال : ليس من البر الصوم في السفر.
* * *
قال أبو جعفر : أخشى أن يكون هذا الشيخ غلط ، وبين ابن إدريس ومحمد بن عبد الرحمن ، شعبة. (1) .
* * *
2892م - حدثنا ابن المثني قال ، حدثنا محمد بن جعفر قال ، حدثنا شعبة ، عن محمد بن عبد الرحمن بن سعد بن زرارة الأنصاري ، عن محمد بن عمرو بن الحسن بن علي ، عن جابر بن عبد الله قال : رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا قد اجتمع الناس عليه وقد ظُلِّل عليه ، فقالوا : هذا رجل صائم! فقال رسول الله صلى الله
__________
(1) الحديث : 2892 - الحسين بن يزيد السبيعي ، شيخ الطبري : هكذا ثبت هنا . وأخشى أن يكون نسبته " السبيعي " سهوا أو خطأ من الناسخين . والذي في هذه الطبقة ، ويروي عن عبد الله بن إدريس - هو " الحسين بن يزيد بن يحيى الطحان الأنصاري " وهو مترجم في التهذيب ، وابن أبي حاتم 1/2/67 . روى عنه أبو داود ، والترمذي ، وأبو زرعة ، وذكر الحافظ أنه روى عنه مسلم خارج الصحيح . والذي يرجح عندي هذا : أن الطبري روى خبرًا آخر ، في التاريخ 1 : 135 - 136 : " حدثنا الحسين بن يزيد الطحان قال : حدثنا ابن إدريس . . . " . إلا أن يكون هذا شيخًا آخر للطبري ، لم تصل إلينا معرفته .
وقد نبه الطبري إلى غلط هذا الشيخ ، في إسقاط " شبعة " بين " ابن إديس " و " محمد بن عبد الرحمن " ، وهو كما قال . فإن عبد الله بن إدريس لم يدرك أن يروي عن محمد بن عبد الرحمن . وسيأتي تخريج هذا الحديث ، في الإسناد التالي له .

(3/473)


عليه وسلم : ليس من البر أن تَصوموا في السفر. (1) .
* * *
فمن بلغ منه الصوم ما بَلغ من الذي قال له النبي صلى الله عليه وسلم ، ذلك ، فليس من البر صومه. لأن الله تعالى ذكره قد حرّم على كل أحد تعريضَ نفسه لما فيه هلاكها ، وله إلى نجاتها سبيل. وإنما يُطلب البر بما نَدب الله إليه وَحضَّ عليه من الأعمال ، لا بما نهى عنه.
وأما الأخبار التي رويت عنه صلى الله عليه وسلم من قوله : " الصائم في السفر كالمفطر في الحضر " (2) فقد يحتمل أن يكون قيل لمن بلغ منه الصوم ما بلغ من هذا الذي ظُلِّل عليه ، إن كان قبل ذلك. وغيرُ جائز عليه أن يُضَاف إلى النبي صلى الله عليه وسلم قيلُ ذلك ، لأن الأخبار التي جاءت بذلك عن رسول الله صلى
__________
(1) الحديث : 2892م - محمد بن عبد الرحمن بن سعد بن زرارة : ثقة معروف ، أخرج له أصحاب الكتب الستة . وبعضهم ينسبه لجده لأمه ، فيقول : " محمد بن عبد الرحمن بن أسعد بن زرارة " . و " سعد بن زرارة " ، وأخوه " أسعد بن زرارة " - صحابيان معروفان ، أنصاريان ، من بني النجار .
ووقع في هذا الإسناد في المطبوعة " شعبة عن عبد الرحمن بن سعد . . " ، وهو خطأ واضح من الناسخين سقط منهم " محمد بن " قبل " عهد الرحمن " .
محمد بن عمرو بن الحسن بن علي بن أبي طالب : تابعي ثقة ، أخرج له الشيخان وغيرهما .
والحديث رواه مسلم 1 : 308 ، بأسانيد ، منها : عن محمد بن المثني ، شيخ الطبري هنا ، عن محمد بن جعفر ، بهذا الإسناد .
ورواه أحمد في المسند : 14242 ( 3 : 299حلبي) ، عن محمد بن جعفر ، به . ورواه أبو داود الطيالسي : 1721 ، عن شعبة ، به .
ورواه البخاري 4 : 161 - 162 (فتح) ، عن آدم ، عن شعبة . ورواه أيضًا - مختصرًا - في الكبير 1/1/189 - 190 ، عن آدم .
ورواه أبو نعيم في الحلية 7 : 159 ، بأسانيد من طريق شعبة ، ثم قال : " صحيح متفق عليه . واختلف في محمد بن عبد الرحمن : فأخرجه سليمان في ترجمة : شعبة عن أبي الرجال ، وغيره أخرجه في ترجمة محمد بن عبد الرحمن بن أسعد بن زرارة " .
وقد حقق الحافظ في الفتح أن الصحيح ما ذكرنا . وهو الثابت في صحيح مسلم ، وسنن أبي داود : 2407 ، وغيرهما .
وقصر السيوطي جدًا ، إذ نسبه في الدر المنثور 1 : 191 لابن أبي شيبة ، وأبي داود ، والنسائي ، فقط ؛ وهو في الصحيحين كما ترى .
(2) انظر الأثرين رقم : 2867 ، 2868 ، والتعليق عليهما .

(3/474)


الله عليه وسلم واهية الأسانيد ، لا يجوز الاحتجاجُ بها في الدين.
* * *
فإن قال قائل : وكيف عطف على " المريض " ، وهو اسم بقوله : " أوْ على سفر " و " على " صفة لا اسم. (1) .
قيل : جاز أن ينسق ب " على " على " المريض " ، لأنها في معنى الفعل. وتأويل ذلك : أو مسافرًا ، كما قال تعالى ذكره : ( دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا ) [يونس : 12] ، فعطف ب " القاعد ، والقائم " على " اللام " التي في " لجنبه " ، لأن معناها الفعل ، كأنه قال : دعانا مضطجعًا أو قاعدًا أو قائمًا.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ }
قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بذلك : يريد الله بكم ، أيها المؤمنون - بترخيصه لكم في حال مرضكم وسَفركم في الإفطار ، وقضاء عدة أيام أخر من الأيام التي أفطرتموها بعد إقامتكم وبعد بُرئكم من مرضكم - التخفيفَ عليكم ، والتسهيل عليكم ، لعلمه بمشقة ذلك عليكم في هذه الأحوال (2) " ولا يُريد بكم العسر " ، يقول : ولا يريد بكم الشدة والمشقة عليكم ، فيكلفكم صوم الشهر في هذه الأحوال ، مع علمه شدة ذلك عليكم ، وثقل حمله عليكم لو حمّلكم صومه ، كما : -
2893 - حدثني المثني قال ، حدثنا أبو صالح قال ، حدثنا معاوية بن صالح ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : " يُريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر " ، قال : اليسر : الإفطار في السفر ، والعسر الصيام في السفر.
2894 - حدثنا محمد بن المثني قال ، حدثنا محمد بن جعفر قال ، حدثنا
__________
(1) قوله : " صفة " يعني حرف جر . وحروف الصفات هي حروف الجر . وقد مضى بيان ذلك في 1 : 299 تعليق : 1 .
(2) في المطبوعة : " بشقة ذلك عليكم " ، والصواب ما أثبت .

(3/475)


شعبة ، عن أبي حمزة ، قال : سألت ابن عباس عن الصوم في السفر ، فقال : يُسرٌ وعُسرٌ. فخذ بيسر الله.
2895 - حدثني المثني قال ، حدثنا سويد بن نصر. قال ، أخبرنا ابن المبارك ، عن شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله : " يريد الله بكم اليسر " - قال : هو الإفطار في السفر ، وَجعل عدةً من أيام أخر - " ولا يريد بكم العسر " .
2896 - حدثنا بشر بن معاذ قال حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : " يريد الله بكمُ اليسر ولا يُريد بكم العسر " ، فأريدوا لأنفسكم الذي أراد الله لكم.
2897 - حدثني المثني قال ، حدثنا سويد قال ، أخبرنا ابن المبارك ، عن ابن عيينة ، عن عبد الكريم الجزري عن طاوس ، عن ابن عباس قال : لا تَعِبْ على من صام ولا على من أفطر - يعنِي في السفر في رمضان - " يريد الله بكم اليسر ولا يُريد بكم العسر " .
2898 - حدثت عن الحسين بن الفرج قال ، حدثنا الفضيل بن خالد قال ، حدثنا عبيد بن سليمانَ ، قال سمعت الضحاك بن مزاحم في قوله : " يريد الله بكمُ اليسر " - الإفطار في السفر - " ولا يريد بكم العسر " ، الصيام في السفر.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ }
قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بقوله : (1) " ولتكملوا العدة " ، عدةَ ما أفطرتم ، من أيام أخر ، أوجبت عليكم قضاءَ عدة من أيام أخر بعد برئكم من مرضكم ، أو إقامتكم من سفركم ، كما :
__________
(1) في المطبوعة : " بذلك " مكان " بقوله " ، وسياق الكلام يدل على صواب ما أثبت .

(3/476)


2899 - حدثني المثني قال ، حدثنا سويد بن نصر قال : أخبرنا ابن المبارك ، عن جويبر ، عن الضحاك في قوله : " ولتكملوا العدة " ، قال : عدة ما أفطر المريض والمسافر.
2900 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد في قوله : " ولتكملوا العدة " ، قال : إكمالُ العدة : أنَ يصومَ ما أفطر من رمضان في سفر أو مرض [إلى] أنْ يُتمه ، فإذا أتمه فقد أكمل العدة. (1) .
* * *
فإن قال قائل : ما الذي عليه بهذه " الواو " التي في قوله : " ولتكملوا العدة " عَطَفَتْ ؟ (2) .
قيل : اختلف أهل العربية في ذلك.
فقال بعضهم : هي عاطفة على ما قبلها ، كأنه قيل : ويُريد لتكملوا العدة ولتكبروا الله.
وقال بعض نحويي الكوفة : وهذه " اللام " التي في قوله : " ولتكملوا " لام " كي " لو ألقيتْ كان صوابًا. قال : والعرب تُدخلها في كلامها على إضمار فعل بعدها ، ولا تكون شرطًا للفعل الذي قبلها وفيها " الواو " ، ألا ترى أنك تقول : " جئتك لتحسن إلي " ، ولا تقول : " جئتك ولتحسن إليّ " ، فإذا قلته فأنت تريد : ولتحسن جئتك. قال : وهذا في القرآن كثيرٌ ، منه قوله : ( وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ ) [سورة الأنعام : 113] ، وقوله : ( وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ ) [سورة الأنعام : 75] ، ولو لم تكن فيه " الواو " كان شرطًا على قولك : أريْناهُ ملكوت السموات والأرض
__________
(1) الزيادة بين القوسين لا غنى عنها هنا .
(2) السياق : وما الذي عليه عطفت .

(3/477)


ليكون. فإذا كانت " الواو " فيها فلها فعل " مضمر " بعدها ، و " ليكون من الموقنين " ، أريناه. (1) .
* * *
قال أبو جعفر : وهذا القول أولى بالصواب في العربية. لأن قوله : " ولتكملوا العدة " ، ليس قبله " لام " بمعنى " اللام " التي في قوله : " ولتكملوا العدة " فتعطف بقوله : " ولتكملوا العدة " عليها - وإن دخول " الواو " معها ، يؤذن بأنها شرط لفعل بعدها ، إذ كانت " الواو " لو حذفت كانت شرطًا لما قبلها من الفعل.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ }
قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره : ولتعظِّموا الله بالذكر له بما أنعم عليكم به ، من الهداية التي خذل عنها غيركم من أهل الملل الذين كتب عليهم من صوم شهر رمضان مثلَ الذي كتب عليكم فيه ، فضلُّوا عنه بإضلال الله إياهم ، وخصَّكم بكرامته فهداكم له ، ووفقكم لأداء ما كتبَ الله عليكم من صومه ، وتشكروه على ذلك بالعبادة لهُ.
* * *
والذكر الذي حضهم الله على تعظيمه به ، " التكبير " يوم الفطر ، فيما تأوله جماعة من أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
2901 - حدثني المثني قال ، حدثنا سويد بن نصر قال ، أخبرنا ابن المبارك ، عن داود بن قيس ، قال : سمعت زيد بن أسلم يقول : " ولتكبروا الله على
__________
(1) هذا قول الفراء ، وهو نص كلامه في معاني القرآن 1 : 113 .

(3/478)


ما هداكم " ، قال : إذا رأى الهلال ، فالتكبيرُ من حين يَرى الهلال حتى ينصرف الإمام ، في الطريق والمسجد ، إلا أنه إذا حضر الإمامُ كفّ فلا يكبرِّ إلا بتكبيره.
2902 - حدثني المثني قال ، حدثنا سويد قال ، أخبرنا ابن المبارك قال : سمعت سفيان يقول : " ولتكبِّروا الله على ما هداكم " ، قال : بلغنا أنه التكبير يوم الفطر.
2903 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد : كان ابن عباس يقول : حقٌّ على المسلمين إذا نظروا إلى هلال شوال أن يكبرِّوا الله حتى يفرغوا من عيدهم ، لأن الله تعالى ذكره يقول : " ولتكملوا العدة ولتكبروا الله على ما هداكم " . قال ابن زيد : يَنبغي لهم إذا غَدوا إلى المصلَّى كبروا ، فإذا جلسوا كبروا ، فإذا جاء الإمام صَمتوا ، فإذا كبر الإمام كبروا ، ولا يكبرون إذا جاء الإمام إلا بتكبيره ، حتى إذا فرغ وانقضت الصلاة فقد انقضى العيد. قال يونس : قال ابن وهب : قال عبد الرحمن بن زيد : والجماعةُ عندنا على أن يغدوا بالتكبير إلى المصلَّى.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (185) }
قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بذلك : ولتشكروا الله على ما أنعم به عليكم من الهداية والتوفيق ، وتيسير ما لو شاء عسر عليكم.
و " لعل " في هذا الموضع بمعنى " كي " (1) ولذلك عطف به على قوله : " ولتكملوا العدة ولتكبروا الله عَلى ما هَداكم ولَعلكم تَشكرون " .
* * *
__________
(1) انظر ما سلف 1 : 364 ، والمراجع في فهرس مباحث العربية .

(3/479)


وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (186)

القول في تأويل قوله تعالى : { وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (186) }
قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره : بذلك وإذا سَألك يا محمد عبادي عَني : أين أنا ؟ فإني قريبٌ منهم أسمع دُعاءهم ، وأجيب دعوة الداعي منهم.
* * *
وقد اختلف فيما أنزلت فيه هذه الآية.
فقال بعضهم : نزلت في سائل سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا محمد ، أقريبٌ ربنا فنناجيه ، أم بعيد فنناديه ؟ فأنزل الله : " وإذا سألك عبادي عَني فأني قريبٌ أجيبُ " الآية.
2904 - حدثنا بذلك ابن حميد قال ، حدثنا جرير ، عن عبدة السجستاني ، عن الصُّلب بن حكيم ، عن أبيه ، عن جده. (1) .
__________
(1) الحديث : 2904 - جرير : هو ابن عبد الحميد الضبي ، مضى في : 2028 ، 2346 . عبدة السجستاني : هو عبدة بن أبي برزة ، ترجمه ابن أبي حاتم 3/1/90 ، ولم يذكر فيه جرحًا . ولم أجد له ترجمة عند غيره .
" السجستاني " : هذا هو الصحيح ، الثابت هنا ، وفي المصادر المعتمدة ، كما سيأتي . ووقع في بعض المراجع " السختياني " ، وهو خطأ مطبعي واضح .
الصلب بن حكيم : نص الحافظ عبد الغني الأزدي المصري ، في كتاب المؤتلف والمختلف ، ص 79 ، على أنه " صلب " : " بالياء معجمة من تحتها وضم الصاد " . وترجم له فقال : " صلب بن حكيم ، عن أبيه ، عن جده . روى حديثه محمد بن حميد ، عن جرير ، عن عبدة بن أبي برزة السجستاني " .
وكذلك قال الذهبي في المشتبه ، ص : 316 " وصلب بن حكيم ، عن أبيه ، عن جده . يشتبه بالصلت بن حكيم " . وفي هامشه ، نقلا عن هامش إحدى مخطوطاته : " قال الخطيب : قيل إنه أخ لبهز بن حكيم ، ولا يصح ذلك . ويشتبه أيضًا بالصلت بن حكيم ، بضم الحاء . ويقال : الحكيم بن الصلت " وكذلك قال الحافظ بن حجر ، في " تبصير المنتبه " (مخطوط مصور عندي) ، ونص على أنه " قيل : إن الصلب بن حكيم ، المتقدم ذكره - أخو بهز بن حكيم ، ولا يصح " .
ولكنه - مع هذا - ترجم له في لسان الميزان 3 : 195 ، في باب " الصلت " ، نقلا عن الميزان ، وذكر هذا الحديث له . وذكر رواية الذهبي إياه بإسناده إلى " محمد بن حميد " . ثم ذكر - نقلا عن الذهبي أيضًا - أنه رواه ابن أبي خثيمة ، في جزء فيمن روي عن أبيه عن جده ، وأنه " أخرجه العلائي في كتاب الوشي ، عن إبراهيم بن محمد . وقال : لم أر للصلت ذكرًا في كتب الرجال " . ثم عقب الحافظ على ذلك بقوله : " قلت : ذكره الدارقطني في المؤتلف ، وحكى الاختلاف : هل آخره بالموحدة ، أو بالمثناة ؟ وقال إنه ابن حكيم بن معاوية بن حيدة ، فهو أخو بهز بن حكيم ، المحدث المشهور . وليس للصلت ولا لأبيه ولا لجده - ذكر في كتب الرواة ، إلا ما قدمت من ذكر ابن أبي خيثمة ، ولم يزد في التعريف به على ما ها هنا " .
وهذا اضطراب شديد من الحافظ ابن حجر . ثم إن هذه التي نقلها عن ميزان الاعتدال للذهبي لم تذكر في النسخة المطبوعة منه . فالظاهر أنها سقطت من الأصول التي طبع عنها الميزان .
والراجح عندي ما ذهب إليه الذهبي وابن حجر وابن أبي خيثمة وعبد الغني الأزدي : أنه " صلب " بضم الصاد وبالوحدة في آخره . وأنه مجهول هو وأبوه وجده . أما " حكيم بن معاوية بن حيدة القشيري - : فإنه تابعي معروف ، وأبوه صحابي معروف . وقد روي عن حكيم بن معاوية بن حيدة - أبناؤه : بهز ، وسعيد ومهران . فلا صلة للذي يسمى " الصلب " هذا - بهؤلاء .
وهذا الحديث ضعيف جدًا ، منهار الإسناد بكل حال .
وقد وهم الحافظ ابن كثير ، حين ذكره 1 : 413 - 414 ، وجعله من حديث " معاوية بن حيدة القشيري " .
وذكره السيوطي أيضًا 1 : 194 ، وأخطأ فيه خطأ آخر : فجعله " من طريق الصلت بن حكيم ، عن رجل من الأنصار ، عن أبيه ، عن جده " !! وقد تكون زيادة " عن رجل من الأنصار " خطأ من الناسخين ، لا من السيوطي .

(3/480)


2905 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا جعفر بن سليمان ، عن عوف ، عن الحسن قال : سأل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم النبيَّ صلى الله عليه وسلم : أين ربُّنا ؟ فأنزل الله تعالى ذكره : " وإذا سألك عبادي عَني فإني قريبٌ أجيب دعوة الداع إذا دعان " الآية (1) .
* * *
__________
(1) الحديث : 2905 - جعفر بن سليمان : هو الضبعي ، بضم الضاد المعجمة ، وفتح الباء الموحدة . وهو ثقة ، وثقه ابن معين وغيره .
عوف : هو ابن أبي جميلة الأعرابي ، وهو ثقة معروف ، أخرج له أصحاب الكتب الستة . وقد مضت له رواية في : 645 . وهو معروف بالرواية عن الحسن البصري .
وهذا الإسناد صحيح إلى الحسن . ولكن الحديث ضعيف ، لأنه مرسل ، لم يسنده الحسن عن أحد من الصحابة .
وقد رواه أبو جعفر هنا ، من طريق عبد الرزاق ، ولم أجده في تفسير عبد الرزاق . فلعله في موضع آخر من كتبه .

(3/481)


وقال آخرون : بل نزلت جوابًا لمسألة قومٍ سَألوا النبي صلى الله عليه وسلم : أيّ ساعة يدعون الله فيها ؟
* ذكر من قال ذلك :
2906 - حدثنا سفيان بن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن ابن جريج ، عن عطاء قال : لما نزلت : ( وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ ) [سورة غافر : 60] قالوا : في أي ساعة ؟ قال : فنزلت : " وإذا سألك عبادي عَني فإني قريب " إلى قوله : " لعلهم يَرُشدون " .
2907 - حدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي قال ، حدثنا أبو أحمد الزبيري قال ، حدثنا سفيان ، عن ابن جريج ، عن عطاء في قوله : " أجيب دَعوَة الداع إذا دعان " ، قالوا : لو علمنا أيَّ ساعة نَدْعو! فنزلت : " وإذا سَأَلكَ عِبَادي عَنّي فإني قريب " الآية.
2908 - حدثني القاسم. قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج قال : زعم عطاء بن أبي رباح أنه بلغه : لما نزلت : ( وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ ) ، قال الناس : لو نعلم أي ساعة ندعو! فنزلت : " وإذا سألك عبادي عَني فإني قريب أجيب دَعوة الداع إذا دَعان فليستجيبوا لي وَليؤمنوا بي لعلهم يَرشدون " .
2909 - حدثنا موسى بن هارون قال حدثنا عمرو بن حماد قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : " وإذا سَألك عبادي عَني فإني قريبٌ أجيب دعوة الداع إذا دَعان " ، قال : ليس من عَبد مؤمن يدعو الله إلا استجاب له ، فإن كان الذي يدعو به هو له رزق في الدنيا أعطاه الله ، وإن لم يكن له رزقًا في الدنيا ذَخره له إلى يوم القيامة ، ودفع عنه به مكروهًا.
2910 - حدثني المثني قال ، حدثنا الليث بن سعد عن ابن صالح ، عمن حدثه : أنه بلغه أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ما أعطى أحدٌ الدعاءَ

(3/482)


ومُنع الإجابة ، لأن الله يقول : ( ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ ).
* * *
ومعنى متأوِّلي هذا التأويل : وإذا سألك عبادي عني : أي ساعة يدعونني ؟ فإني منهم قريب في كل وقت ، أجيب دعوة الداع إذا دعان.
* * *
وقال آخرون : بل نزلت جوابًا لقول قوم قالوا - إذْ قالَ الله لهم : ( ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ ) - : إلى أين ندعوه!
* ذكر من قال ذلك :
2911 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال مجاهد : ( ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ ) ، قالوا : إلى أين ؟ فنزلت : ( فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ) [سورة البقرة : 115].
* * *
وقال آخرون : بل نزلت جوابًا لقوم قالوا : كيف ندعو ؟
* ذكر من قال ذلك :
2912 - حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قال : ذكر لنا أنه لما أنزل الله " ادْعُوني أَسْتَجِبْ لَكُمْ " ، قال رجال : كيف ندعو يا نبي الله ؟ فأنزل الله : " وإذا سَألك عبادي عَنّي فإنّي قريبٌ " إلى قوله : " يرشدون " .
* * *
وأما قوله : " فليستجيبوا لي " ، فإنه يعني : فليستجيبوا لي بالطاعة. يقال منه : " استجبت له ، واستجبته " ، بمعنى أجبته ، كما قال كعب بن سعد الغنويّ :
وَدَاعٍ دَعَا يَامَنْ يُجِيبُ إلَى النَّدَى... فَلَمْ يَسْتَجِبْهُ عِنْدَ ذَاكَ مُجِيب (1)
__________
(1) سلف هذا البيت في1 : 320 ، ونسيت هناك أن أشير إليه أنه سيأتي في هذا الموضع من التفسير ، ثم في 4 : 144 (بولاق) .

(3/483)


يريد : فلم يجبه.
* * *
وبنحو ما قلنا في ذلك قال مجاهد وجماعةٌ غيره.
2913 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني الحجاج ، عن ابن جريج قال ، قال مجاهد قوله : " فليستجيبوا لي " ، قال : فليطيعوا لي ، قال : " الاستجابة " ، الطاعة.
2914 - حدثني المثني قال ، حدثنا حبان بن موسى قال : سألت عبد الله بن المبارك عن قوله : " فليستجيبوا لي " ، قال : طاعة الله.
* * *
وقال بعضهم : معنى " فليستجيبوا لي " : فليدعوني
*ذكر من قال ذلك :
2915 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني منصور بن هارون ، عن أبي رجاء الخراساني ، قال " فليستجيبوا لي " ، فليدعوني.
* * *
وأما قوله : " وليؤمنوا بي " فإنه يعني : وَليصدِّقوا. أي : وليؤمنوا بي ، إذا همُ استجابوا لي بالطاعة ، أني لهم من وَرَاء طاعتهم لي في الثواب عليها ، وإجزالي الكرامةَ لهم عليها.
* * *
وأما الذي تأوَّل قوله : " فليستجيبوا لي " ، أنه بمعنى : فليدعوني ، فإنه كان يتأوّل قوله : " وليؤمنوا بي " ، وليؤمنوا بي أني أستجيب لهم.
* ذكر من قال ذلك :
2916 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني منصور بن هارون ، عن أبي رجاء الخراساني : " وليؤمنوا بي " ، يقول : أني أستجيب لهم.
* * *
وأما قوله : " لعلهم يَرشُدُون " فإنه يعني : فليستجيبوا لي بالطاعة ، وليؤمنوا بي

(3/484)


فيصدِّقوا على طاعتهم إياي بالثواب مني لهم ، وليهتدوا بذلك من فعلهم فيرشدوا ، كما : -
2917 - حدثني به المثني قال ، حدثنا إسحاق ، قال حدثنا عبد الرحمن بن سعد قال ، حدثنا أبو جعفر ، عن الربيع في قوله : " لعلهم يَرشدون " ، يقول : لعلهم يهتدون.
* * *
فإن قال لنا قائل : وما معنى هذا القول من الله تعالى ذكره ؟ فأنت ترى كثيرًا من البشر يدعون الله فلا يجابُ لهم دُعاء ، وقد قال : " أجيبُ دَعوة الداع إذا دَعان " ؟
قيل : إن لذلك وجهين من المعنى :
أحدهما : أن يكون معنيًّا " بالدعوة " ، العملُ بما نَدب الله إليه وأمر به. فيكون تأويل الكلام. وإذا سألك عبادي عَني فإنى قريبٌ ممن أطاعني وعَمل بما أمرته به ، أجيبه بالثواب على طاعته إياي إذا أطاعني. فيكون معنى " الدعاء " : مسألة العبد ربَّه وما وعد أولياءه على طاعتهم بعملهم بطاعته ، ومعنى " الإجابة " من الله التي ضمنها له ، الوفاءُ له بما وعد العاملين له بما أمرهم به ، كما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من قوله : " إنّ الدعاء هو العبادة " .
2918 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا جويبر ، عن الأعمش ، عن ذر ، عن يُسَيْع الحضرمي ، عن النعمان بن بشير قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إنّ الدعاءَ هُوَ العبادة. ثم قرأ : ( وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ ) [سورة غافر : 60] (1) .
* * *
__________
(1) الحديث : 2918 - أما الحديث في ذاته - فإنه حديث صحيح . وأما هذا الإسناد بعينه ، فلا أدري كيف يستقيم ؟ مع ضعفه !
فإن ابن حميد - شيخ الطبري - هو : محمد بن حميد الرازي ، سبق توثيقه : 2028 ، 2253.
ولكن من المحال أن يقول : " حدثنا جويبر " ، لأن ابن حميد مات سنة 248 ، وجويبر بن سعيد الأزدي مات قبل ذلك بنحو مائة سنة ، فقد ذكره البخاري في الصغير ، ص : 176 ، فيمن مات بين سنتي : 140 - 150 . فلا بد أن يكون قد سقط بينها شيخ ، خطأ من الناسخين. ثم إن " جويبرا " هذا : ضعيف جدًا ، كما بينا في : 284 .
الأعمش : هو سليمان بن مهران ، الإمام المعروف.
ذر ، بفتح الذال المعجمة وتشديد الراء : هو ابن عبد الله المرهبي ، بضم الميم وسكون الراء وكسر الهاء بعدها ياء موحدة. وهو ثقة ، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
يسيع - بضم الياء الأولى وسكون الثانية بينهما سين مهملة مفتوحة : هو ابن معدان الحضرمي ، في التهذيب ، والكبير 4/2/425 - 426 ، وابن أبي حاتم 4/2/313. ووقع هنا في المطبوعة " سبيع " ! وهو تصحيف.
والحديث سيأتي في الطبري 24 : 51 - 52 (بولاق) ، بستة أسانيد. ووقع اسم " ذر " هناك مصحفًا إلى " زر " ، بالزاي بدل الذال.
وهو حديث صحيح . رواه أحمد في المسند 4 : 271 (الحلبي) ، عن أبي معاوية ، عن الأعمش ، بهذا الإسناد . فليس فيه " جويبر " الضعيف المذكور هنا.
ونقله ابن كثير 7 : 309 ، عن ذلك الموضع من المسند ، وقال : وهكذا رواه أصحاب السنن : الترمذي ، والنسائي ، وابن ماجه ، وابن أبي حاتم ، وابن جرير - كلهم من حديث الأعمش ، به. وقال الترمذي : حسن صحيح . ورواه أبو داود ، والترمذي ، والنسائي ، وابن جرير أيضًا ، من حديث شعبة ، عن منصور الأعمش - كلاهما عن ذر ، به ، ثم ذكر أنه رواه ابن حبان والحاكم أيضا.
وهو عند الحاكم 1 : 490 - 491 بأسانيد ، ثم قال : " هذا حديث صحيح الإسناد ، ولم يخرجاه " . ووافقه الذهبي.
وذكره السيوطي 5 : 355 ، وزاد نسبته إلى سعيد بن منصور ، وابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد ، والبخاري في الأدب المفرد ، وابن المنذر ، والطبراني ، وابن مردويه ، وأبي نعيم في الحلية ، والبيهقي في شعب الإيمان.

(3/485)


فأخبر صَلى الله عليه وسلم أن دعاء الله إنما هو عبادته ومسألته ، بالعمل له والطاعة.
وبنحو الذي قلنا في ذلك ذُكِر أن الحسن كان يقول :
2919 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين ، قال ، حدثني منصور بن هارون ، عن عبد الله بن المبارك ، عن الربيع بن أنس ، عن الحسن أنه قال فيها : ( ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ ) ، قال : اعملوا وأبشروا ، فإنه حقٌّ على الله أنَ يستجيب

(3/486)


للذين آمنوا وعَملوا الصالحات ويزيدُهم من فضله.
* * *
والوجه الآخر : أن يكون معناه : أجيب دعوة الداع إذا دَعان إن شئت. فيكون ذلك ، وإن كان عامًّا مخرُجه في التلاوة ، خاصًّا معناهُ.
* * *

(3/487)


أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآَنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آَيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (187)

القول في تأويل قوله تعالى : { أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ }
قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بقوله : " أحل لكم " ، أطلق لكم وأبيح (1) .
* * *
ويعني بقوله : " ليلة الصيام " ، في ليلة الصيام.
* * *
فأما " الرفث " فإنه كناية عن الجماع في هذا الموضع ، يقال : " هو الرفثُ والرُّفوث " . (2) .
* * *
وقد روي أنها في قراءة عبد الله : " أحل لكم ليلة الصيام الرفوثُ إلى نسائكم " .
* * *
وبمثل الذي قلنا في تأويل " الرفث " قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك :
2920 - حدثني محمد بن عبد الله بن عبد الحكم المصري قال ، حدثنا أيوب بن سويد ، عن سفيان ، عن عاصم ، عن بكر عن عبد الله المزني ، عن ابن عباس قال : الرفث ، الجماعُ ، ولكن الله كريم يَكني.
__________
(1) انظر تفسير " الحلال " فيما سلف من هذا الجزء 3 : 300 ، 301 .
(2) انظر ما سيأتي في معنى " الرفث " في هذا الجزء (2 : 153 - 155 بولاق) .

(3/487)


2921 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا جرير ، عن عاصم ، عن بكر ، عن ابن عباس ، مثله.
2922 - حدثني محمد بن سعد قال : حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قال : الرفث ، النكاح.
2923 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر ، عن قتادة ، قال : الرفث : غِشيانُ النساء.
2924 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : " أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم " ، قال : الجماع.
2925 - حدثني المثني قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله.
2926 - حدثني المثني قال ، حدثنا أبو صالح قال ، حدثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس ، قال : الرفث : هو النكاح.
2927 - حدثني المثني قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الكبير البصري قال ، حدثنا الضحاك بن عثمان قال ، سألت سالم بن عبد الله عن قوله : " أحلَّ لكم ليلة الصيام الرفثُ إلى نسائكم " ، قال : هو الجماع.
2928 - حدثني موسى بن هارون قال ، حدثنا عمرو بن حماد قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : " أحِلّ لكم ليلةَ الصيام الرفثُ إلى نسائكم " ، يقول : الجماع.
* * *
" والرفث " في غير هذا الموضع ، الإفحاشُ في المنطق ، كما قال العجاج :
عَنِ اللَّغَا وَرَفَثِ التَّكَلُّمِ (1)
* * *
__________
(1) ديوانه : 59 ، وسيأتي مع البيت قبله في التفسير 2 : 246 (بولاق) ، من رجز له طويل ، حمد فيه الله ومجده بقوله : فَالحَمْد ِللهِ العَلِيِّ الأَعْظَمِ ... ذِي الجَبَرُوتِ والجَلاَلِ الأَفْخَمِ
وَعَالِمِ الإِعْلاَنِ والمُكَتَّمِ ... وربّ كُلِّ كَافِرٍ ومُسْلِمِ
ثم عطف على قوله : " ورب كل كافر ومسلم " عطوفًا كثيرة ، حتى انتهى إلى ما أنشده الطبري : وربِّ أسْرَابِ حَجيجٍ كُظَّمِ ... عن اللَّغَا وَرفَثِ التَّكَلُّمِ
والأسراب جمع سرب : وهو القطيع أو الطائفة من القطار الظباء والشاء والبقر والنساء ، وجعله هذا للحجاج . والحجيج : الحجاج . وكظم جمع كاظم : وهو الساكت الذي أمسك لسانه وأخبت ، من الكظم (بفتحتين) وهو مخرج النفس . واللغا واللغو : السقط ومالا يعتد به من كلام أو يمين ، ولا يحصل منه على فائدة ولا نفع .
هذا ، ومما يدل على أن أبا جعفر كان يختصر القول اختصارًا في بعض المواضع ، أنه لم يفسر تعدية " الرفث " بحرف الجر " إلى " ، ولولا الاختصار لقال فيه مقالا على ما سلف من نهجه . وقد عدي " الرفث " بـ " إلى " ، لأنه في معنى الإفضاء . يقال : " أفضيت إلى امرأتي " ، فلما أراد هذا المعنى جاء بحرفه ليضمنه معناه ، إيذانًا بأن ذلك ما أراد بهذه الكناية .

(3/488)


القول في تأويل قوله تعالى : { هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ }
قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بذلك : نساؤكم لباسٌ لكمُ وأنتم لباسٌ لهن.
* * *
فإن قال قائل : وكيف يكون نساؤنا لباسًا لنا ، ونحن لهن لباسًا و " اللباس " إنما هو ما لبس ؟
قيل : لذلك وجهان من المعاني :
أحدهما : أن يكون كل واحد منهما جُعل لصاحبه لباسًا ، لتجرُّدهما عند النوم ، (1) واجتماعهما في ثوب واحد ، وانضمام جسد كل واحد منهما لصاحبه ،
__________
(1) في المطبوعة : " لتخرجهما عند النوم " ، وأخشى أن يكون تصحيفًا . جعل الجيم خاء ، وألصق الدال بالهاء ، فظنها الناسخ خاء ، لتشابههما . ولم أجد في مادة " خرج " " خرج " بتشديد الراء بمعنى التجرد من الثياب ، وإن كانوا يقولون : " خرج فلان من ثيابه " ولكنه هنا لا يظهر معناه لسقوط ذكره اللباس في عبارته . وإن كنت أظنها بعيدة ، ولو ذكر معها اللباس . ورجح هذا التصحيح عندي قوله بعد البيت الآتي : " متجردين في فراش واحد " .

(3/489)


بمنزلة ما يلبسه على جَسده من ثيابه ، فقيل لكل واحد منهما : هو " لباس " لصاحبه ، كما قال نابغة بني جعدة :
إِذَا مَا الضَّجِيعُ ثَنَى عِطْفَهَا... تَدَاعَتْ ، فكَانَتْ عَلَيْهِ لِبَاسَا (1)
ويروي : " تثنت " فكنى عن اجتماعهما متجردين في فراش واحد ب " اللباس " ، كما يكنى ب " الثياب " عن جسد الإنسان ، كما قالت ليلى ، وهي تصف إبلا ركبها قومٌ :
رَمَوْهَا بِأَثْوَابٍ خِفَافٍ ، فَلا تَرَى... لَهَا شَبَهًا إلا النَّعَامَ المُنَفَّرَا (2)
يعني : رموها بأنفسهم فركبوها. وكما قال الهذليّ (3) تَبَرَّأُ مِنْ دَمِ القَتيلِ وَوَتْرِهِ... وَقَدْ عَلِقَتْ دَمَ القَتِيلِ إزَارُهَا (4)
__________
(1) الشعر والشعراء : 255 من أبيات جياد ، ومجاز القرآن لأبي عبيدة : 67 ، وتأويل مشكل القرآن 107 ، وغيرها ، وقبله أَضَاءَتْ لَنَا النَّارُ وَجْهًا ... أَغَرَّ مُلْتَبِسًا بِالفُؤَاءِ الْتِبَاسَا
يُضِيءُ كَضَوْءِ سِرَاجِ السَّلِيطِ ... لَمْ يَجْعَلِ اللهُ فِيه نُحَاسَا
بِآنسَةٍ غَيْرِ أنْسِ القِرَافِ وَتَخْلِطُ ... بالأُنْسِ مِنْها شِمَاسَا
وهو شعر كما ترى
(2) المعاني الكبير 1 : 486 ، وتأويل مشكل القرآن : 107 وغيرهما . وقولهما : " رموها بأثواب " قالوا : تعني بأجسام خفاف (المعاني) والصواب في ذلك أن يقال : أن هؤلاء الركب قد لوحتهم البيد وأضتتهم ، فلم يبق فيهم إلا عظام معروقة عليها الثياب ، لا تكاد ترى إلا ثوبًا يلوح على كل ضار وضامر ، ولذلك شبهت الإبل عليها ركبها بالنعام المنفر . والمنفر : الذي ذعر فانطلق هاربًا يخفق في الأرض .
(3) هو أبو ذؤيب الهذلي .
(4) ديوانه : 26 ، والمعاني الكبير : 483 ، ومشكل القرآن : 108 وغيرها . من قصيدة له عجيبة ، يرثى بها صديقه وحميمه نشيبة بن محرث ، استفتحها متغزلا مشببًا بصاحبته أم عمرو ، واسمها فطيمة ، وقال قبل هذا البيت ، يلوم نفسه على هجرها ويقول : فَإنَّكَ مِنْهَا والتَّعَذُّرَ ، بَعْدَ مَا ... لَجِجْتَ ، وشطَّتْ مِنْ فُطَيْمَةَ دَارُهَا
كَنَعْتِ الَّتِي ظَلَّت تُسَبِّع سُؤْرَهَا ... وَقَالتْ : حَرَامٌ أنْ يرَجَّلَ جَارُهَا
تبرَّأُ مِنْ دَم القَتِيل . . . . ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
يقول أنت في انتفاءك من حبها بعد اللجاجة فيه ، كهذه المرأة التي قتلت قتيلا وحازت بزه ، أي سلاحه ، وأخفته . قال الأصمعي في خبر هذه المرأة : هذه امرأة نزل بها رجل فتحرجت أن تدهنه وترجل شعره ، ثم جاء كلب فولغ في إنائها فغسلته سبع مرات . وذلك بعين الرجل ، فتعجب منها ومن ورعها . فبينا هو كذلك ، أتاها قوم يطلبون عندها قتيلا ، فانتفلت من ذلك - أي أنكرت - وحلفت . ثم فتشوا منزلها ، فوجدوا القتيل وسلاحه في بيتها " .
يقول أنت كهذه المرأة ، تجحد حب صاحبتك ، وتظهر أنك قد كبرت وانتهيت عن الجهل والصبا ، ولو فتش قلبك . لرأوا حبك لها لا يزال يتأجج ويشتعل .

(3/490)


يعني ب " إزارها " ، نفسها. وبذلك كان الربيع يقول :
2929 - حدثني المثني قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الرحمن بن سعيد قال ، حدثنا أبو جعفر ، عن الربيع : " هن لباسٌ لكم وأنتم لباس لهنّ " ، يقول : هنّ لحاف لكم وأنتم لحاف لهن. (1) .
* * *
والوجه الآخر : أن يكون جَعل كلَّ واحد منهما لصاحبه " لباسًا " ، لأنه سَكنٌ له ، كما قال جل ثناؤه : ( جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاسًا ) [سورة الفرقان : 47] ، يعني بذلك سكنًا تسكنون فيه. وكذلك زوجة الرجل سَكنه يسكن إليها ، كما قال تعالى ذكره : ( وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا ) [سورة الأعراف : 189]
__________
(1) الأثر : 2929 - في المطبوعة : " عبد الرحمن بن سعيد " ، وقد مضى برقم : 2917 ، على الصواب كما أثبته . وعبد الرحمن بن سعد بن عمار بن سعد القرظ المؤدب ، روي عن أبيه وعمه محمد وبني أعمامه . وجماعة من أهله ، وأبي الزناد وصفوان بن سليم ، وروي عنه إسحاق بن راهويه وإبراهيم بن المنذر وغيرهما . ذكره ابن حبان في الثقات . وقال البخاري : فيه نظر . وقال الحاكم أبو أحمد حديثه ليس بالقائم .

(3/491)


فيكون كل واحد منهما " لباسًا " لصاحبه ، بمعنى سكونه إليه. وبذلك كان مجاهد وغيره يقولون في ذلك.
وقد يقال لما سَتر الشيء وَواراه عَن أبصار الناظرين إليه : " هو لباسه ، وغشاؤه " ، فجائز أن يكونَ قيل : " هنّ لباس لكم وأنتم لباس لهن " ، بمعنى : أنّ كل واحد منكم ستر لصاحبه - فيما يكون بينكم من الجماع - عن أبصار سائر الناس.
وكان مجاهد وغيره يقولون في ذلك بما : -
2930 - حدثنا به المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : " هن لباس لكم وأنتم لباسٌ لهن " ، يقول : سكنٌ لهن.
2931 - حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة : " هن لباسٌ لكم وأنتم لباسٌ لهن " ، قال قتادة : هُنّ سكنٌ لكم ، وأنتم سكنٌ لهنّ.
2932 - حدثني موسى بن هارون قال ، حدثنا عمرو بن حماد قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : " هن لباسٌ لكم " يقول : سكن لكم ، " وأنتم لباس لهن " ، يقول : سكن لهن.
2933 - حدثني يونس ، قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال عبد الرحمن بن زيد في قوله : " هن لباسٌ لكم وأنتم لباسٌ لهن " ، قال : المواقعة.
2934 - حدثني أحمد بن إسحاق الأهوازي قال ، حدثنا أبو أحمد قال ، حدثنا إبراهيم ، عن يزيد ، عن عمرو بن دينار ، عن ابن عباس قوله : " هن لباسٌ لكم وأنتم لباسٌ لهن " ، قال : هن سكنٌ لكم وأنتم سكنٌ لهن.
* * *

(3/492)


القول في تأويل قوله تعالى : { عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ }
قال أبو جعفر : إن قال لنا قائل : وما هذه الخيانة التي كانَ القوم يختانونها أنفسهم ، التي تابَ الله منها عليهم فعفا عنهم ؟
قيل : كانت خيانتُهم أنفسَهم التي ذكرها الله في شيئين ، أحدهما : جماع النساء ، والآخر : المطعم والمشربُ في الوقت الذي كانَ حرامًا ذلك عليهم ، كما : -
2935 - حدثنا محمد بن المثني قال ، حدثنا محمد بن جعفر قال ، حدثنا شعبه ، عن عمرو بن مرة قال ، حدثنا ابن أبي ليلى : أن الرجل كان إذا أفطرَ فنام لم يأتها ، وإذا نام لم يطعم ، حتى جاء عمر بن الخطاب يُريد امرأته ، فقالت امرأته : قد كنتَ نمتَ! فظنّ أنها تعتلُّ فوقع بها. قال : وجاء رجل من الأنصار فأراد أن يطعم ، فقالوا : نسخّن لك شيئًا ؟...... (1) قال : ثم نزلت هذه الآية : " أحِلَ لكم ليلةَ الصيام الرفثُ إلى نسائكم " الآية.
__________
(1) الأثر : 2935 - موضع هذه النقط خرم في النسخ . وخبر عبد الرحمن بن أبي ليلى هذا أخرجه وكيع وعبد بن حميد عن عبد الرحمن بن أبي ليلى ، وهو في الدر المنثور 1 : 198 ، بغير هذا اللفظ . ولو أريد إتمامه لكان :
[نسخن لك شيئًا تفطِرُ عليه ؟ فغلبته عيناهُ فنام . فجاءوا وقد نام ، فقالوا : كُلْ! فقال : قد كنتُ نمتُ! فترك الطعام وبات ليلته يتقلّبُ . فلما أصبح أتى النبي صلى الله عليه وسلم ، فذكر ذلك له . فقام عمر بن الخطاب فقال : يا رسول الله ، إني أردتُ أهلي البارحة على ما يريدُ الرجلُ أهله ، فقالت : إنها قد نامت! فظننتها تعتَلُُّ ، فواقعتها ، فأخبرتني أنّها كانت نامت] .
هذا لفظ آخر ، ولكنه دال على المعنى الذي ذكره عبد الرحمن بن أبي ليلى ، والذي استدل به الطبري . ثم انظر الآثار التالية 2936 - 2938 عن ابن أبي ليلى .

(3/493)


2936 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا ابن إدريس قال ، حدثنا حصين بن عبد الرحمن ، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال : كانوا يصومون ثلاثة أيام من كل شهر ، فلما دخل رَمضان كانوا يصومون ، فإذا لم يأكل الرجل عند فطره حتى ينام ، لم يأكل إلى مثلها ، وإن نام أو نامت امرأته لم يكن له أن يأتيها إلى مثلها. فجاء شيخٌ من الأنصار يقال له صرمة بن مالك ، فقال لأهله : أطعموني. فقالت : حتى أجعل لك شيئًا سخنًا! قال : فغلبته عينه فنام. ثم جاء عمر فقالت له امرأته : إني قد نمت! فلم يعذرها ، وظن أنها تعتلّ ، فواقعها. فبات هذا وهذا يتقلبان ليلتهما ظهرًا وبطنًا ، فأنزل الله في ذلك : " وكلوا واشرَبوا حتى يَتبين لكم الخيطُ الأبيضُ من الخيط الأسود من الفجر " ، وقال : " فالآن بَاشروهن " ، فعفا الله عن ذلك ، وكانت سُنَّةً.
2937 - حدثنا أبو كريب قال حدثنا يونس بن بكير قال ، حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله بن عتبة ، عن عمرو بن مرة ، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى ، عن معاذ بن جبل قال : كانوا يأكلون ويشربون ويأتون النساءَ ما لم يناموا ، فإذا ناموا تركوا الطعامَ والشرابَ وإتيانَ النساء. فكان رجل من الأنصار يدعى أبا صِرْمة يعمل في أرض له ، قال : فلما كان عند فطره نام ، فأصبح صائمًا قد جُهد. فلما رآه النبي صلى الله عليه وسلم قال : ما لي أرى بكَ جهدًا! فأخبره بما كان من أمره. واختان رَجل نفسه في شأن النساء ، فأنزل الله " أحِلّ لكم ليلة الصيام الرفثُ إلى نسائكم " ، إلى آخر الآية. (1) .
__________
(1) الحديث : 2937 - هو قطعة من حديث طويل ، سبق بعضه بهذا الإسناد : 2729 ، 2733 . ووقع في المطبوعة هنا تحريف في الإسناد ، هكذا : " حدثنا عبد الرحمن بن عبيد الله عن عتبة " ! وصوابه : " عبد الرحمن بن عبد الله بن عتبة " ، وهو المسعودي ، كما بينا فيما مضى .
وقد أشرنا فيما مضى إلى أن أبا داود روى هذا الحديث المطول : 507 ، من طريق يزيد بن هارون ، عن المسعودي . ولكنه لم يذكر فيه القسم الذي هنا كاملا ، بل أشار إليه ، إحالة على الرواية قبله ، فقال : " وجاء صرمة وقد عمل يومه . وساق الحديث " .
والحديث مطول في مسند أحمد 5 : 246 - 247 ، من رواية أبي النضر ويزيد بن هارون - كلاهما عن المسعودي ، به . كما أشرنا إليه مفصلا ، فيما مضى : 2156 . وفيه القسم الذي هنا . ولكن فيه أن الرجل الأنصاري " يقال له صرمة " ، كما في رواية أبي داود .
وقد مضى في الرواية السابقة : 2936 . أنه " صرمة بن مالك " . وفي هذه الرواية - هنا - : " يدعى أبا صرمة " .
والرواية السابقة مرسلة . وهذه الرواية منقطعة ، لأن عبد الرحمن بن أبي ليلى لم يدرك معاذ بن جبل . وسيأتي مزيد بيان عن اسم هذا الأنصاري ، في الرواية الآتية : 2939 .

(3/494)


2938 - حدثنا سفيان بن وكيع قال ، حدثني أبي ، عن إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن البراء - نحو حديث ابن أبي ليلى الذي حَدّث به عمرو بن مرة ، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى - قال : كانوا إذا صاموا ونام أحدهم ، لم يأكُل شيئًا حتى يكون من الغد. فجاء رجلٌ من الأنصار وقد عمل في أرض له وقد أعيا وكلَّ ، فغلبته عينه فنام ، وأصبح من الغد مجهودًا ، فنزلت هذه الآية : " وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر " . (1) .
2939 - حدثني المثني قال ، حدثنا عبد الله بن رجاء البصري قال ، حدثنا إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن البراء قال : كان أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم إذا كان الرجل صائمًا فنام قبل أن يفطر ، لم يأكل إلى مثلها ، وإنّ قيس بن صرمة الأنصاري كان صائمًا ، وكان توجَّه ذلك اليوم فعمِل في أرضه ، فلما حضر الإفطارُ أتى امرأته فقال : هل عندكم طعام ؟ قالت : لا ولكن أنطلق فأطلب لك. فغلبته عينه فنام ، وجاءت امرأته قالت : قد نمت! فلم ينتصف النهارُ حتى غُشي عليه ، فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم ، فنزلت فيه هذه الآية : " أحِلَ لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم " إلى " من الخيط الأسود " ففرحوا بها فرحًا شديدًا (2) .
__________
(1) الحديث : 2938 - هذا إسناد صحيح ، لولا ضعف سفيان بن وكيع - كما قلنا مرارًا - ولكنه ثابت في تفسير وكيع ، كما ذكره السيوطي . والطبري لم يذكر لفظه كاملا ، أحال على الروايات قبله . وسيذكره كاملا عقب هذا .
(2) الحديث : 2939 - وهذا إسناد صحيح . عبد الله بن رجاء الغذائي : سبق توثيقه : 2814 .
والحديث ثابت من حديث أبي إسحاق السبيعي ، عن البراء بن عازب الأنصاري :
فرواه أحمد في المسند 4 : 295 (حلبي) ، عن أسود بن عامر ، وأبي أحمد الزبيري . والبخاري 4 : 111 - 112 (فتح) ، عن عبيد الله بن موسى . وأبو داود : 2314 ، من طريق أبي أحمد . والترمذي 4 : 71 - 72 ، من طريق عبيد الله بن موسى - كلهم عن إسرائيل ، عن جده أبي إسحاق . السبيعي . ورواه النسائي 1 : 305 ، من طريق زهير ، عن أبي إسحاق . ورواه البخاري أيضًا 8 : 136 ، مختصرًا . عن عبيد الله بن موسى ، وبإسناد آخر عن أبي إسحاق .
وذكره السيوطي 1 : 197 ، وزاد نسبته إلى وكيع ، وعبد بن حميد ، والنحاس في ناسخه ، وابن المنذر ، والبيهقي في السنن .
وقد أطال الحافظ في الفتح 4 : 111 - 112 ، في بيان الاختلاف في اسم الأنصاري ، والروايات في ذلك . ورجح أنه " أبو قيس صرمة بن أبي أنس قيس بن مالك بن عدي . . . " . وأنه عن هذا جاء الاختلاف فيه : فبعضهم أخطأ اسمه وسماه بكنيته ، وبعضهم نسبه لجده ، وبعضهم قلب نسبه . وبعضهم صفحه " ضمرة بن أنس " ، وأن صوابه " صرمة بن أبي أنس " . وكذلك صنع في الإصابة بأطول من ذلك 3 : 241 - 243 ، 280 . " صرمة " : بكسر المهملة وسكون الراء وفتح الميم .

(3/495)


2940 - حدثني المثني قال حدثنا أبو صالح قال ، حدثنا معاوية بن صالح ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس في قول الله تعالى ذكره : " أحِلّ لكم ليلة الصيام الرفثُ إلى نسائكم " ، وذلك أن المسلمين كانوا في شهر رمضان إذا صلوا العشاء حُرِّم عليهم النساء والطعام إلى مثلها من القابلة. ثم إن نَاسًا من المسلمين أصابوا الطعام والنساء في رمضان بعد العشاء منهم عمر بن الخطاب ، فشكوا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأنزل الله : " علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم فتابَ عليكم وعَفا عنكم فالآن باشروهن " يعني انكحوهن ، " وكلوا واشربوا حَتى يَتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر " . (1)
2941 - حدثني المثني قال ، حدثنا سويد ، قال : أخبرنا ابن المبارك ، عن ابن لهيعة ، قال : حدثني موسى بن جبير مولى بني سلمة : أنه سمع عبد الله بن كعب بن مالك يحدث عن أبيه قال : كان الناسُ في رمضان إذا صامَ الرجل فأمسَى فنام ، حُرِّم عليه الطعام والشراب والنساءُ حتى يفطر من الغد. فرجع عمر بن
__________
(1) الحديث : 2940 - ذكره ابن كثير 1 : 418 - 419 ، من غير تخريج . والسيوطي 1 : 197 ، ونسبه لابن جرير ، وابن المنذر ، فقط .

(3/496)


الخطاب من عند النبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة وقد سَمَر عنده ، فوجد امرأته قد نامت ، فأرادها فقالت : إني قد نمت! فقال : ما نمت! ثم وقع بها. وصنع كعب بن مالك مثل ذلك. فغدا عمر بن الخطاب إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره ، فأنزل الله تعالى ذكره : " علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم فتابَ عَليكم وعفا عنكم فالآن باشروهن " ... الآية (1) .
2942 - حدثني المثنى قال ، حدثنا الحجاج قال ، حدثنا حماد بن سلمة قال ، حدثنا ثابت : أن عمر بن الخطاب واقع أهله ليلة في رمضان ، فاشتد ذلك عليه ، فأنزل الله : (أحِلّ لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم) (2) .
2943 - حدثني محمد بن سعد ، قال : حدثني أبي ، قال ، حدثني عمي ، قال ،
__________
(1) الحديث : 2941 - سويد : هو ابن نصر بن سويد المروزي ، وهو ثقة . مترجم في التهذيب ، ونص البخاري في الكبير 2/2/149 على أنه سمع ابن المبارك . وذكر أنه مات سنة 240 عن 91 سنة .
ابن لهيعة - بفتح اللام وكسر الهاء : هو عبد الله ، الفقيه القاضي المصري . مختلف فيه كثيرا ، والتحقيق أنه ثقة صحيح الحديث . وقد فصلنا القول فيه في شرح المسند : 87 ، 6613 .
موسى بن جبير المدني الحذاء : ثقة ، يخطئ في بعض حديثه . مترجم في التهذيب ، والكبير 4/1/281 ، وابن أبي حاتم 4/1/139 ، ولم يذكرا فيه جرحا . وهو مولى " بني سلمة " بفتح السين وكسر اللام ، من الأنصار . انظر المشتبه للذهبي ، ص : 270 .
عبد الله كعب بن مالك الأنصاري السلمي - بفتح اللام ، نسبة إلى " بني سلمة " بكسرها : تابعي ثقة ، كان قائد أبيه حين عمي ، أخرج له الشيخان وغيرهما .
والحديث رواه أحمد في المسند : 15860 ( 3 : 460 حلبي) ، عن عتاب بن زياد ، عن عبد الله بن المبارك ، بهذا الإسناد .
وذكره ابن كثير 1 : 420 . عن الطبري ، فقط .
وذكره السيوطي 1 : 197 ، وزاد نسبته إلى ابن المنذر ، وابن أبي حاتم " بسند حسن " . وإنما حسن إسناده ، من أجل ابن لهيعة - فيما أرجح - وعندي أنه إسناد صحيح .
(2) الحديث : 2942 - ثابت : هو ابن أسلم البناني ، بضم الباء الموحدة وتخفيف النون الأولى . وهو تابعي ثقة ، ولكنه يروي عن صغار الصحابة ، كأنس ، وابن الزبير ، وابن عمر لم يدرك أن يروي عن عمر بن الخطاب . فهذا إسناد منقطع ، ضعيف لذلك . والحديث ذكره السيوطي 1 : 197 ، ولم ينسبه لغير ابن جرير .

(3/497)


حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : " أحِلّ لكم ليلةَ الصيام الرفثُ إلى نسائكم هُنّ لباسٌ لَكم وأنتم لباسٌ لهن " إلى : " وعفا عَنكم " . كان الناس أوّلَ ما أسلموا إذا صام أحدُهم يصوم يومه ، حتى إذا أمسى طَعِم من الطعام فيما بينه وبين العتمة ، حتى إذا صُليت حُرّم عليهم الطعامُ حتى يمسي من الليلة القابلة. وإنّ عمر بن الخطاب بينما هو نائم إذ سوّلت له نفسه فأتى أهله لبعض حاجته ، فلما اغتسلَ أخذ يبكي ويلوم نفسه كأشد ما رأيتَ من الملامة. ثم أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسولَ الله ، إني أعتذر إلى الله وإليك من نفسي هذه الخاطئة ، فانها زيَّنت لي فواقعتُ أهلي! هل تجد لي من رخصة يا رسول الله ؟ قال : لم تكن حقيقًا بذلك يا عمر! فلما بلغ بيته أرسل إليه فأنبأه بعُذره في آية من القرآن ، وأمر الله رسوله أن يَضَعها في المائة الوسطى من سورة البقرة فقال : " أحلّ لكم ليلة الصيام الرفثُ إلى نسائكم " إلى " علم الله أنكم كنتم تَختانون أنفسكم " يعني بذلك : الذي فعل عمر بن الخطاب فأنزل الله عفوه. فقال : " فتاب عليكم وعفا عنكم فالآن بَاشرُوهن " إلى : " من الخيط الأسود " فأحل لهم المجامعة والأكل والشرب حتى يتبين لهم الصبح (1) .
2944 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : " أحِلّ لكم ليلة الصيام الرفثُ إلى نسائكم " قال : كان الرجل من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم يصوم الصيام بالنهار ، فإذا أمسى أكل وشرب وجامع النساء ، فإذا رَقَد حرَّم ذلك كله عليه إلى مثلها من القابلة. وكان منهم رجال يَختانون أنفسهم في ذلك ، فعفا الله عنهم ، وأحل [ذلك] لهم بعد الرقاد وقبله في الليل كله (2) .
__________
(1) الحديث : 2943 - هذا الحديث بالإسناد المسلسل بالضعفاء ، الذي شرحناه مفصلا في : 305 . وقد ذكره السيوطي 1 : 197 ، ونسبه للطبري وابن أبي حاتم .
ولم تكن بنا حاجة للكلام عليه هنا ، إلا أننا أردنا أن نمهد به لحديث لأبي هريرة في معناه . نقله السيوطي 1 : 197 ، ونسبه للطبري فقط ، قال : " وأخرج ابن جرير ، عن أبي هريرة . . " .
وذكره ابن كثير 1 : 419 مع أواخر إسناده ، ولم يذكر من خرجه . والظاهر من تتبع صنيعه أنه نقله عن الطبري أيضًا .
ولم نجده في الطبري ، فإما سقط من الناسخين ، وإما هو في موضع آخر من الطبري لما تصل إلينا معرفته . فرأينا إثباته - تماما للفائدة ، وحفظا لما ينسب لهذا التفسير العظيم .
قال ابن كثير : " وقال سعيد بن أبي عروبة ، عن قيس بن سعد ، عن عطاء بن أبي رباح ، عن أبي هريرة ، في قول الله تعالى (أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامُ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ) إلى قوله (ثُمَّ أتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ) ، قال : كان المسلمون قبل أن تنزل هذه الآية - إذا صلُّوا العشاءَ الآخِرَةَ حَرُمَ عليهم الطعامُ والشرابُ والنساءُ حتى يُفْطروا . وإن عمر بن الخطاب أصاب أهلَه بعد صلاة العشاء ، وإن صِرْمَةَ بن قيس الأنصاري غَلَبَتْهُ عيناه بعد صلاة المغرب ، فنام ولم يشبع من الطعام ، ولم يستيقظ حتى صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم العشاء ، فقام فأكل وشرب ، فلما أصبح أتَى رسولَ الله صلى الله عليه سلم ، فأخبره بذلك ، فأنزل الله عند ذلك : (أُحِلَّ لَكُم لَيْلَةَ الصِّيَامَ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ) ، يعني بالرفث مجامعةَ النساء ، (هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ ، عَلِمَ اللهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُم) ، يعني : تجامعون النساء وتأكلون وتشربون بعد العشاء ، (فَتَاب عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فالآنبَاشِرُوهُنَّ) يعني : جامعوهن ، (وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللهُ لَكُم) ، يعني : الولد ، (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّن لَكُمُ الخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الفَجْرِ ثُمَّ أتِمُّوا الصِّيَامَ إلَى اللَّيْلِ) ، فكان ذلك عَفْوًا من الله ورَحْمَةً " .
هذا لفظ رواية ابن كثير . والسيوطي اختصره قليلا .
فهذا إسناد صحيح من سعيد بن أبي عروبة إلى أبي هريرة . أما ما وراه سعيد بن أبي عروبة ، فلا ندري ما حاله ، حتى نعرف رواته .
وقيس بن سعد : هو المكي ، أبو عبد الملك ، وهو ثقة . مترجم في التهذيب ، والكبير 4/1/154 . وابن أبي حاتم 3/2/99 ، وابن سعد 5 : 355 ، ولكن ذكر أن كنيته " أبو عبيد الله " . وقال : " كان قد خلف عطاء بن أبي رباح في مجلسه " .
وكنية قيس عند البخاري " أبو عبد الله " . والظاهر أن هذا هو الصحيح ، لأن الدولابي ذكره في الكنى 2 : 59 ، في باب " أبو عبد الله " .
(2) الزيادة بين القوسين لا بد منها ، استظهرتها من الأثر الذي يليه ومن السياق .

(3/498)


2945 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قال : كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يصوم الصائم في رمضان ، فإذا أمسى - ثم ذكر نحو حديث محمد بن عمرو وزاد فيه : وكان منهم رجال يختانون أنفسهم ، وكان عمر بن الخطاب ممن اختان نفسه ، فعفا الله عنهم ، وأحل ذلك لهم بعد الرقاد وقبله ، وفي الليل كله.
2946 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، قال : أخبرني إسماعيل بن شَرُوس ، عن عكرمة مولى ابن عباس : أن رجلا - قد سَمَّاه [فنسيته] - من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأنصار ، جاء ليلةً وهو صائم ، فقالت له امرأته : لا تَنمْ حتى نصنعَ لك طعامًا! فنام ، فجاءت فقالت : نمت والله! فقال : لا والله! قالت : بلى والله! فلم يأكل تلك الليلة ، وأصبح صائمًا فَغُشى عليه ، فأنزلت الرخصة فيه (1) .
__________
(1) الحديث : 2946 - إسماعيل بن شروس ، أبو المقدام الصنعاني : ذكره ابن حبان وابن شاهين في الثقات ، كما في لسان الميزان . وذكره ابن سعد في الطبقات 5 : 397 ، ولم يذكر فيه أكثر من قوله " قد روى عنه " . وترجمه ابن أبي حاتم 1/1/177 ، ولم يذكر فيه جرحا ، والبخاري في الكبير 1/1/359 - 360 ، وذكر أنه يروي عن عكرمة ، من قوله - يعني غير متصل ، فهو إشارة إلى هذه الرواية ، لأنها من قول عكرمة ، مرسلة ، لم يسندها عن أحد من الصحابة ، ثم قال البخاري : " قال عبد الرزاق ، عن معمر : كان يثبج الحديث " . ونقل مصححه العلامة الشيخ عبد الرحمن اليماني ، عن هامش إحدى نسخ التاريخ الكبير : " أي لا يأتي به على الوجه " . وهذا هو الصواب في هذا الحرف ، أنه " يثبج " من " التثبيج " بالثاء المثلثة والجيم ، ففي شرح القاموس 2 : 13 " يقال ثبج الكتاب والكلام تثبيجا : لم يبينه . وقيل : لم يأت به على وجهه . وقال الليث : التثبيج التخليط " . ونقلت هذه الكلمة في لسان الميزان 1 : 411 محرفة إلى " يضع الحديث " ! وهو تحريف قبيح . فما رمى هذا الرجل بالوضع قط . ولم يذكره البخاري ولا النسائي في الضعفاء .
و " شروس " : من الأسماء النادرة ، ولم أجد نصا على ضبطه ، إلا أنه ضبط بالقلم في تفسير عبد الرزاق بفتحة فوق الشين المعجمة وضمة فوق الراء وكسرتين تحت السين المهملة في آخره . ونقل الشيخ عبد الرحمن اليماني هذا الضبط أيضًا عن إحدى نسخ التاريخ الكبير ، وأن بهامشها نسخة أخرى مضبوطة بفتحة فوق الشين وأخرى فوق الواو مع سكون فوق الراء .
وهذا الحديث مرسل - كما ترى . وهو في تفسير عبد الرزاق ، ص : 18 . ولم أجده في غير هذين الموضعين .
وقد زدنا كلمة [فنسيته] ، بعد كلمة " سماه " - من تفسير عبد الرزاق . وكان في المطبوعة " وأنزلت الرخصة " ، بالواو بدل الفاء . وأثبتنا الفاء من تفسير عبد الرزاق ، إذ هي أجود هنا .

(3/500)


2947 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة : " علم الله أنكم كُنتُم تَختانون أنفسكم " وكان بدءُ الصيام أمِروا بثلاثة أيام من كل شهر ، وركعتين غدوة ، وركعتين عشية ، فأحلّ الله لهم في صيامهم - في ثلاثة أيام ، وفي أول ما افترض عليهم في رمضان - إذا أفطروا ، وكان الطعام والشرابُ وغشيان النساءَ لهم حلالا ما لم يرقدوا ، فإذا رَقَدوا حُرم عليهم ذلك إلى مثلها من القابلة. وكانت خيانة القوم أنهم كانوا يُصيبون أو ينالون من الطعام والشراب وغشيان النساء بعد الرقاد ، وكانت تلك خيانة القوم أنفسهم ، ثم أحل الله لهم [بعد] ذلك الطعام والشراب وغشيانَ النساء إلى طلوع الفجر (1) .
2948 - حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : " أحلّ لكم ليلة الصيام الرفثُ إلى نسائكم " قال : كان الناس قبل هذه الآية إذا رَقَد أحدُهم من الليل رَقْدًة ، لم يحلَّ له طعامٌ ولا شرابٌ ولا أن يأتي امرأته إلى الليلة المقبلة ، فوقع بذلك بعض المسلمين ، فمنهم من أكل بعد هجعته أو شرب ، ومنهم من وقع على امرأته ، فرخص الله ذلك لهم.
2949 - حدثني موسى بن هارون قال ، حدثنا عمرو بن حماد قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي ، قال : كُتب على النصارى رَمَضان ، وكُتب عليهم أن لا
__________
(1) الأثر : 2947 - الذي بين القوسين زيادة لا بد منها . وسياق هذا الأثر فيه بعض الغرابة ، ولم أجده بنصه هذا في مكان آخر . ولكن جاء في الدر المنثور 1 : 198 أثر مثله ، قال في صدره : " وأخرج عبد حميد وابن جرير عن قتادة " ، وساق أثرا يخالفه كل المخالفة في أكثر لفظه ، وإن وافقه في بعض المعنى : قال .
[كان هذا قبل صوم رمضان ، أمروا بصيام ثلاثة أيام من كل شهر ، من كل عشرة أيام يوما . وأمروا بركعتين غدوة وركعتين عشية . فكان هذا بدء الصلاة والصوم . فكانوا في صومهم هذا ، وبعد ما فرض الله رمضان ، إذا رقدوا لم يمسوا النساء والطعام إلى مثلها من القابلة . وكان أناس من المسلمين يصيبون من النساء والطعام بعد رقادهم ، وكانت تلك خيانة القوم أنفسهم ، فأنزل الله في ذلك من القرآن : " علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم " ، الآية] .

(3/501)


يأكلوا ولا يَشربوا بَعد النوم ، ولا ينكحوا النساء شهر رمضان ، فكتب على المؤمنين كما كُتب عليهم ، فلم يزل المسلمون على ذلك يَصنعون كما تصنع النصارى ، حتى أقبل رجل من الأنصار يقال له أبو قيس بن صرمة ، وكان يَعمل في حيطان المدينة بالأجر (1) فأتى أهله بتمر فقال لامرأته : استبدلي بهذا التمر طحينا فاجعليه سَخينةً ، لعليّ أن آكله ، فإن التمر قد أحرق جَوْفي! فانطلقت فاستبدلت له ، ثم صنعتْ فأبطأتْ عليه فنام ، فأيقظته ، فكره أن يعصي الله ورسوله ، وأبى أن يأكل ، وأصبح صائما; فرآه رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعشيّ ، فقال : ما لك يا أبا قيس! أمسيتَ طليحا ؟ (2) فقص عليه القصة.
وكان عمر بن الخطاب وقع على جارية لهُ - في ناس من المؤمنين لم يملكوا أنفسهم - فلما سمع عمر كلام أبي قيس ، رَهبَ أن ينزل في أبي قيس شيء ، فتذكّرُ هُو ، فقام فاعتذر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : يا رسول الله إني أعوذُ بالله إنّي وقعتُ على جاريتي ، ولم أملك نفسي البارحة! فلما تكلم عُمر ، تكلم أولئك الناس ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ما كنتَ جديرًا بذلك يا ابن الخطاب! فنُسِخ ذلك عنهم ، فقال : " أحِلّ لكم ليلةَ الصيام الرفث إلى نسائكم هُن لباسٌ لكم وأنتم لباس لهن عَلم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم " ، - يقول : إنكم تقعون عليهن خيانةً - " فتابَ عليكم وعفا عنكم فالآنَ باشروهن وابتغوا ما كتب الله لكم " - يقول : جامعوهن ، ورجع إلى أبي قيس فقال - : " وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيطُ الأبيض من الخيط الأسود من الفجر " .
2950 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج قال : قلت لعطاء : " أحِلّ لكم ليلةَ الصيام الرفثُ إلى نسائكم " قال :
__________
(1) الحيطان جمع حائط : وهو البستان من النخيل إذا كان عليه حائط ، فإذا لم يكن عليه حائط فهو ضاحية ، وجمعه الضواحي .
(2) الطليح : الساقط من الإعياء والجهد والهزال .

(3/502)


كانوا في رمضان لا يمسُّون النساءَ ولا يطعمون ولا يشربون بعد أن يناموا حتى الليل من القابلة ، فإن مسُّوهن قبل أن يناموا لم يروا بذلك بأسا. فأصاب رجل من الأنصار امرأته بعد أن نام ، فقال : قد اختنت نفسي! فنزل القرآن ، فأحل لهم النساء والطعام والشرابَ حتى يتبين لهم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر. قال : وقال مجاهد : كان أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم يصوم الصائمُ منهم في رمضان ، فإذا أمسى أكل وشرب وَجامع النساء ، فإذا رَقد حرُم عليه ذلك كله حتى كمثلها من القابلة : وكان منهم رجال يختانون أنفسَهم في ذلك ، فعفا عنهم وأحلَّ لهم بعد الرقاد وَقبله في الليل ، فقال : " أحِلَّ لكم ليلة الصيام الرفثُ إلى نسائكم " ... الآية.
2951 - حدثني القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن عكرمة أنه قال في هذه الآية : " أحِلّ لكم ليلة الصيام الرفثُ إلى نسائكم " مثل قول مجاهد - وزاد فيه : أن عمر بن الخطاب قال لامرأته : لا ترقدي حتى أرْجع من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم. فرقدت قبل أن يرجع ، فقال لها : ما أنت براقدة! ثم أصابها ، حتى جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له ، فنزلت هذه الآية. قال عكرمة : نزلت : " وكلوا واشربوا " الآية في أبي قيس بن صرْمة ، من بني الخزرج ، أكل بعد الرقاد.
2952 - حدثني المثنى قال ، حدثنا الحجاج قال ، حدثنا حماد ، قال ، أخبرنا محمد بن إسحاق ، عن محمد بن يحيى بن حبان ، أن صرمة بن أنس أتى أهله ذات ليلة وهو شيخٌ كبيرٌ ، وهو صائم فلم يُهيئوا له طعاما ، فوضع رأسه فأغفى ، وجاءته امرأته بطعامه فقالت له : كل. فقال : إني قد نمتُ! قالت : إنك لم تنم! فأصبح جائعا مجهودا ، فأنزل الله : " وكلوا واشربوا حتى يَتبين لكم الخيطُ الأبيضُ من الخيط الأسود من الفجر " .
* * *

(3/503)


فأما " المباشرة " في كلام العرب ، فإنه مُلاقاة بَشَرة ببَشرة ، و " بشرة " الرجل : جلدته الظاهرة.
* * *
وإنما كنى الله بقوله : " فالآنَ باشروهن " عن الجماع. يقول : فالآن إذ أحللتُ لكم الرفثَ إلى نسائكم ، فجامعوهن في ليالي شهر رمضان حتى يطلع الفجر ، وهو تبيُّنُ الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر.
* * *
وبالذي قلنا في " المباشرة " قال جماعة من أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
2953 - حدثنا محمد بن بشار قال : حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا سفيان وحدثنا عبد الحميد بن سنان ، قال ، حدثنا إسحاق ، عن سفيان وحدثني محمد بن عبد الله بن عبد الحكم قال ، حدثنا أيوب بن سويد ، عن سفيان ، عن عاصم ، عن بكر بن عبد الله المزني ، عن ابن عباس ، قال : المباشرة الجماع ، ولكنّ الله كريمٌ يكني.
2954 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا جرير ، عن عاصم ، عن بكر بن عبد الله المزني ، عن ابن عباس نحوه.
2955 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله بن صالح ، حدثنا معاوية بن صالح ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : " فالآن باشرُوهن " انكحُوهنّ.
2956 - حدثني محمد بن سعد ، قال حدثني أبي ، قال ، حدثني عمي ، قال ، حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قال : المباشرة النكاحُ.
2957 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين ، قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قلت لعطاء قوله : " فالآن باشرُوهن " قال : الجماع.

(3/504)


وكل شيء في القرآن من ذكر " المباشرة " فهو الجماع نفسه ، وقالها عبد الله بن كثير مثل قول عطاء : في الطعام والشراب والنساء.
2958 - حدثنا حميد بن مسعدة قال ، حدثنا يزيد بن زريع قال حدثنا شعبة وحدثنا ابن بشار قال ، حدثنا محمد بن جعفر قال ، حدثنا شعبة عن أبي بشر ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال : المباشرة الجماع ، ولكن الله يكني ما شاء بما شاء (1) .
2959 - حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال ، حدثنا هشيم ، قال أبو بشر ، أخبرنا عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس مثله.
2960 - حدثني موسى بن هارون قال ، حدثنا عمرو بن حماد ، قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : " فالآن بَاشروهن " يقول : جامعوهن.
2961 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قال : المباشرةُ الجماع.
2962 - حدثني المثنى قال ، حدثنا سويد ، قال ، أخبرنا ابن المبارك ، عن ابن جريج ، عن عطاء مثله.
2963 - حدثني المثنى قال ، حدثنا سويد قال ، أخبرنا ابن المبارك ، عن الأوزاعي ، قال ، حدثني عبدة بن أبي لبابة قال : سمعت مجاهدا يقول : المباشرة ، في كتاب الله ، الجماع.
2964 - حدثنا ابن البرقي ، حدثنا عمرو بن أبي سلمة ، قال ، قال الأوزاعي : حدثنا من سمع مجاهدا يقول : المباشرة في كتاب الله ، الجماع.
* * *
__________
(1) الأثر : 2958 - في المطبوعة : " محمد بن مسعدة " ، والصواب ما أثبت ، وقد سلف في رقم 2774 ، 2883 ، وهو حميد بن مسعدة بن المبارك الباهلي البصري . ذكره ابن حبان في الثقات . وتوفي سنة 244 .

(3/505)


واختلفوا في تأويل قوله : " وابتغوا مَا كتب الله لكم " فقال بعضهم : الولد.
* ذكر من قال ذلك :
2965 - حدثني عبدة بن عبد الله الصفَّار البصري قال ، حدثنا إسماعيل بن زياد الكاتب ، عن شعبة ، عن الحكم ، عن مجاهد : " وابتغوا ما كتب الله لكم " قال : الولد (1) .
2966 - حدثنا محمد بن المثنى قال ، حدثنا سهل بن يوسف وأبو داود ، عن شعبة قال : سمعت الحكم : " وابتغوا ما كتب الله لكم " قال : الولد.
2967 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا أبو تميلة قال ، حدثنا عبيد الله ، عن عكرمة قوله : " وابتغوا ما كتب الله لكم " قال : الولد.
2968 - حدثني علي بن سهل قال ، حدثنا مؤمل ، حدثنا أبو مودود بحر بن موسى قال : سمعت الحسن بن أبي الحسن يقول في هذه الآية : " وابتغوا ما كتب الله لكم " قال : الولد.
2969 - حدثني موسى بن هارون قال ، حدثنا عمرو بن حماد قال ، حدثنا أسباط ، عن السدى : " وابتغوا ما كتب الله لكم " فهو الولد.
2970 - حدثني محمد بن سعد قال ، حدثنا أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثنا أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : " وابتغوا ما كتب الله لكم " يعني : الولدَ.
2971 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم ، قال ، حدثني
__________
(1) الخبر : 2965 - عبدة بن عبد الله بن عبدة الصفار : ثقة من شيوخ البخاري . وهو من نوادر الشيوخ الذين روى عنهم في صحيحه وهم أحياء . لأنه مات سنة 258 ، أي بعد البخاري بسنتين . مترجم في التهذيب ، وابن أبي حاتم 3/1/90 ، ورجال الصحيحين ، ص : 336 .
إسماعيل بن زياد الكاتب : لم أعرف من هو يقينا ، وفي هذه الترجمة بضع شيوخ في التهذيب 1 : 298 - 301 ، ولسان الميزان 1 : 405 - 407 ، ولكني أكاد أرجح أنه هو الذي روى له ابن ماجه حديثا : 1314 ، عن ابن جريج ، باسم " إسماعيل بن زياد " دون لقب أو وصف .

(3/506)


عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : " وابتغوا ما كتب الله لكم " قال : الولد ، فإنْ لم تلد هذه فهذه.
2972 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد بنحوه.
2973 - حدثنا الحسن بن يحيى ، أخبرنا عبد الرزاق ، أخبرنا معمر ، عمن سمع الحسن في قوله : " وابتغوا ما كتب الله لكم " قال : هو الولد.
2974 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع في قوله : " وابتغوا ما كتب الله لكم " قال : ما كتب لكم من الولد.
2975 - حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : " وابتغوا ما كتب الله لكم " قال : الجماع.
2976 - حدثت عن الحسين بن الفرج قال ، حدثنا الفضل بن خالد قال ، حدثنا عبيد بن سلمان ، قال : سمعت الضحاك بن مزاحم قوله : " وابتغوا ما كتب الله لكم " قال : الولد (1) .
* * *
وقال بعضهم : معنى ذلك ليلة القدر.
* ذكر من قال ذلك :
2977 - حدثنا أبو هشام الرفاعي قال ، حدثنا معاذ بن هشام ، قال : حدثني أبي عن عمرو بن مالك ، عن أبي الجوزاء عن ابن عباس : " وابتغوا ما كتب الله لكم " قال : ليلةُ القدر. قال أبو هشام : هكذا قرأها معاذ.
2978 - حدثني المثنى قال ، حدثنا مسلم بن إبراهيم قال ، حدثنا الحسن بن أبي جعفر قال ، حدثنا عمرو بن مالك عن أبي الجوزاء ، عن ابن
__________
(1) الخبر : 2976 - " الحسين بن الفرج " : ثبت هنا في المطبوعة " الحسن بن الفرج " ، وهو خطأ تكرر مرارا ، منها : 2719 . ولا نرى داعيا لتكرار التنبيه عليه بعد .

(3/507)


عباس في قوله : " وابتغوا ما كتب الله لكم " قال : ليلة القدر (1) .
وقال آخرون : بل معناه : ما أحله الله لكم ورخصه لكم.
* ذكر من قال ذلك :
2979 - حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا يزيد بن زريع قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة : " وابتغوا ما كتب الله لكم " يقول : ما أحله الله لكم.
2980 - حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، قال : قال قتادة في ذلك : ابتغوا الرخصة التي كتبتُ لكم.
* * *
وقرأ ذلك بعضهم : ( وَاتَّبِعُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ )
* ذكر من قال ذلك :
2981 - حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا ابن عيينة ، عن عمرو بن دينار ، عن عطاء بن أبي رباح ، قال : قلت لابن عباس : كيف تقرأ هذه الآية : " وابتغوا " أو " اتبعوا " ؟ قال : أيتهما شئت! قال : عليك بالقراءة الأولى.
* * *
قال أبو جعفر : والصواب من القول في تأويل ذلك عندي أن يقال : إن الله تعالى ذكره قال : " وابتغوا " - بمعنى : اطلبوا - " ما كتب الله لكم " يعني " الذي قَضَى الله تعالى لَكم.
وإنما يريد الله تعالى ذكره : اطلبوا الذي كتبتُ لكم في اللوح المحفوظ أنه يُباح فيطلقُ لكم وطلب الولد إنْ طلبه الرجل بجماعه المرأةَ ، مما كتب الله له
__________
(1) الخبران : 2977 - 2978 - عمرو بن مالك ، في الإسنادين : هو النكري ، بضم النون وسكون الكاف ، نسبة إلى " بني نكرة " من عبد القيس . وهو ثقة .
أبو الجوزاء : هو أوس بن عبد الله الربعي ، وهو تابعي ثقة معروف ، أخرج له الشيخان ، وسائر أصحاب الكتب الستة . وقد بينا حاله وحال عمرو بن مالك الراوي عنه ، في شرح المسند : 2623 .
" الربعي " : بفتح الراء والباء ، نسبة إلى " ربعة الأزد " ، كما في اللباب لابن الأثير 1 : 459 .

(3/508)


في اللوح المحفوظ ، وكذلك إن طلب ليلةَ القدر ، فهو مما كتب الله له ، وكذلك إن طلب ما أحلَّ الله وأباحه ، فهو مما كتبه له في اللوح المحفوظ.
وقد يدخل في قوله : " وابتغوا ما كتب الله لكم " جميعُ معاني الخير المطلوبة ، غيرَ أن أشبه المعاني بظاهر الآية قول من قال : معناه وابتغوا ما كتب الله لكم من الولد ، لأنه عَقِيبُ قوله : " فالآن باشرُوهن " بمعنى : جامعوهنّ ، فَلأنْ يكون قوله : " وابتغوا ما كتب الله لكم " بمعنى : وابتغوا ما كتب الله في مباشرتكم إياهن من الولد والنسل ، أشبهُ بالآية من غيره من التأويلات التي ليس على صحتها دلالة من ظاهر التنزيل ، ولا خبرٌ عن الرسول صلى الله عليه وسلم.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ }
قال أبو جعفر : اختلف أهل التأويل في تأويل قوله : " حتى يتبين لكم الخيطُ الأبيضُ من الخيطِ الأسود من الفجر " .
* * *
فقال بعضهم : يعني بقوله : " الخيط الأبيض " ، ضوءَ النهار ، وبقوله : " الخيطِ الأسود " سوادَ الليل.
فتأويله على قول قائلي هذه المقالة : وكلوا بالليل في شهر صَوْمكم ، واشربوا ، وبَاشروا نساءكم مبتغينَ ما كتب الله لكم من الولد ، من أول الليل إلى أن يقع لكم ضوءُ النهار بطلوع الفجر من ظلمة الليل وسواده.

(3/509)


* ذكر من قال ذلك :
2982 - حدثني الحسن بن عرفة قال ، حدثنا روح بن عبادة قال ، حدثنا أشعث ، عن الحسن في قول الله تعالى ذكره : " حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر " قال : الليل من النهار.
2983 - حدثني موسى بن هارون قال ، حدثنا عمرو بن حماد قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : " وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر " قال : حتى يتبين لكم النهار من الليل ، " ثم أتموا الصيام إلى الليل " .
2984 - حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : " وكلوا واشرَبوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر ثم أتموا الصيام إلى الليل " فهما عَلَمان وحدَّان بَيِّنان فلا يمنعكم أذانُ مُؤذِّن مُراءٍ أو قليل العقل من سَحُوركم ، فإنهم يؤذنون بهجيع من الليل طويل. وقد يُرى بياضٌ ما على السحر يقال له : " الصبح الكاذب " كانت تسميه العرب ، فلا يمنعكم ذلك من سَحوركم ، فإن الصبح لا خفاء به : طريقةٌ مُعترِضة في الأفق ، وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الصبح ، فإذا رأيتم ذلك فأمسكوا (1) .
2985 - حدثني محمد بن سعد ، قال : حدثني أبي ، قال : حدثني عمي ، قال : حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : " وكلوا واشربوا حتى يتبين لكمُ الخيطُ الأبيضُ من الخيط الأسود منَ الفجر " يعني الليل من النهار ، فأحلَّ لكم المجامعة والأكل والشربَ حتى يتبين لكم الصبح ، فإذا تبين الصبحُ حرِّم عليهم
__________
(1) الأثر : 2984 - الهجيع : الطائفة من الليل . يقال : مر هجيع - أو هزيع - من الليل ، أي ساعة وطائفة منه . والسحر الثلث الآخر من الليل قبيل طلوع الفجر . والطريقة : الخط الممتد في الشيء يكون ظاهرا باختلاف لون ، أو اختلاف ظاهر .

(3/510)


المجامعة والأكل والشربُ حتى يُتمُّوا الصيامَ إلى الليل. فأمر بصوم النهار إلى الليل ، وأمر بالإفطار بالليل.
2986 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا أبو بكر بن عياش ، وقيل له : أرأيتَ قولَ الله تعالى : " الخيط الأبيضُ من الخيط الأسْود من الفجر " ؟ قال : إنك لعريض القفا ، قال : هذا ذهابُ الليل ومجيءُ النهار. قيل له : الشعبي عن عدي بن حاتم ؟ قال : نعم ، حدثنا حصين (1) .
* * *
وعلَّة من قال هذه المقالة ، وتأوَّل الآية هذا التأويل ما :
__________
(1) الحديث : 2986 - حصين : هو ابن عبد الرحمن السلمي ، الثقة المأمون ، من كبار أئمة الحديث . مضت له رواية في : 579 .
وهذا الحديث اختصره أبو بكر بن عياش جدا ، وحذف إسناده حين حدث به ، ثم سئل عنه ، فبين أنه سمعه من حصين عن الشعبي عن عدي بن حاتم .
وسيأتي : 2987 ، 2989 مختصرا ، و 2988 مطولا ، ولكنه ثابت في الصحيحين وغيرهما ، مطولا بسياق صحيح واضح :
فرواه أحمد في المسند 4 : 377 (حلبي) عن هشيم : " أخبرنا حصين ، عن الشعبي ، أخبرنا عدي بن حاتم ، قال : لما نزلت هذه الآية (فكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود) ، قال : عمدت إلى عقالين ، أحدهما أسود ، والآخر أبيض ، فجعلتهما تحت وسادي ، قال : ثم جعلت أنظر إليهما ، فلا يتبين لي الأسود من الأبيض ، ولا الأبيض من الأسود ، فلما أصبحت غدوت على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأخبرته بالذي صنعت ، فقال : إن كان وسادك إذًا لعريض ، إنما ذلك بياض النهار من سواد الليل " .
وقول عدي : " لما نزلت هذه الآية " ، يريد : لما تليت عليه عند إسلامه ، لأن فرض الصوم كان في أوائل الهجرة ، وعدي أسلم بعد ذلك بدهر ، في السنة التاسعة أو العاشرة .
ورواه البخاري 4 : 113 (فتح) ، من طريق هشيم ، ورواه مسلم 1 : 301 ، وأبو داود : 2349 - كلاهما من طريق عبد الله بن إدريس ، عن حصين . ورواه البخاري 8 : 137 (فتح) مختصرا ، من طريق أبي عوانة ، عن حصين .
وذكره ابن كثير 1 : 421 ، من رواية أحمد ، ثم قال : " أخرجاه في الصحيحين من غير وجه ، عن عدي " . وذكره السيوطي 1 : 199 ، وزاد نسبته لسفيان بن عيينة ، وسعيد بن منصور ، وابن أبي شيبة ، والترمذي ، وابن المنذر ، والبيهقي .
قوله : " عريض القفا " ، كناية عن السمن وطول النوم . وذلك دليل على الغفلة والركود .

(3/511)


2987 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا حفص بن غياث ، عن مجالد بن سعيد ، عن الشعبي ، عن عدي بن حاتم ، قال : قلت يا رسول الله ، قول الله : " وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيطُ الأبيضُ من الخيط الأسود من الفجر " ؟ قال : هو بياض النهار وسوادُ الليل. (1) .
2988 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا ابن نمير وعبد الرحيم بن سليمان ، عن مجالد بن سعيد ، عن عامر ، عن عدي بن حاتم ، قال : أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فعلَّمني الإسلام ، ونَعت ليَ الصلوات ، كيفَ أصَلي كلَّ صلاة لوقتها ، ثم قال : إذا جاء رمضان فكل واشرب حتى يتبين لك الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر ، ثم أتم الصيامَ إلى الليل. ولم أدر ما هو ، ففعلتُ خَيطين من أبيض وأسود ، فنظرت فيهما عند الفجر ، فرأيتهما سواءً. فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت : يا رسول الله كل شيء أوصيتني قد حفظتُ ، غير " الخيط الأبيض من الخيط الأسود " ! قال : وما منعك يا ابن حاتم ؟ وتبسَّم كأنه قد علم ما فعلت. قلتُ : فتلت خيطين من أبيض وأسود فنظرتُ فيهما من الليل فوجدتهما سواء! فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى رُئي نَواجذُه ، ثم قال : ألم أقلْ لك " من الفجر " ؟ إنما هو ضوء النهار وظلمة الليل (2) .
2989 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا مالك بن إسماعيل قال ، حدثنا داود وابن علية جميعا ، عن مطرِّف ، عن الشعبي ، عن عدي بن حاتم ، قال : قلت لرسول الله صلى الله عليه وسلم : ما " الخيطُ الأبيضُ من الخيط الأسود " أهما
__________
(1) الحديث : 2987 - مجالد بن سعيد : مضت ترجمته في : 1614 . والحديث تكرار للذي قبله في معناه .
(2) الحديث : 2988 - مجالد بن سعيد ، ثبت في المطبوعة هنا محرفا : " مجالد عن سعيد " ؛ وهذا السياق المطول ذكره السيوطي 1 : 199 ، ونسبه لابن جرير ، وابن أبي حاتم ، فقط .
ورواه أحمد في المسند 4 : 377 (حلبي) ، عن يحيى ، وهو القطان ، عن مجالد ، عن عامر ، وهو الشعبي . ولكنه مختصر قليلا عما هنا .

(3/512)


خيطان أبيض وأسود ؟ فقال : وإنك لعَريضُ القفا إن أبصرْت الخيطين. ثم قال : لا ولكنه سوادُ الليل وبياضُ النهار. (1) .
2990 - حدثني أحمد بن عبد الرحيم البرقي قال ، حدثنا ابن أبي مريم قال ، حدثنا أبو غسان قال ، حدثنا أبو حازم عن سهل بن سعد ، قال : نزلت هذه الآية : " وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيضُ من الخيط الأسود " فلم ينزل " من الفجر " قال : فكان رجال إذا أرادوا الصوم ربط أحدهم في رجليه الخيطَ الأسود والخيط الأبيض ، فلا يزال يأكل ويشرب حتى يتبَّين له. فأنزل الله بعد ذلك : " من الفجر " فعلموا إنما يعني بذلك الليلَ والنهارَ (2) .
* * *
وقال متأولو قول الله تعالى ذكره : " حتى يتبين لكم الخيطُ الأبيض من الخيط الأسود من الفجر " أنه بياض النهار وسواد الليل - : صفة ذلك البياض أن يكون
__________
(1) الحديث : 2989 - مالك بن إسماعيل بن زياد بن درهم ، أبو غسان النهدي : حافظ ثقة . من شيوخ البخاري وغيره من الأئمة . مترجم في التهذيب ، والكبير 4/1/315 ، وابن سعد 6 : 282 ، وابن أبي حاتم 4/1/206 - 207 .
داود ، شيخ مالك بن إسماعيل : لم أستطع معرفته ، ففي هذه الطبقة ممن يسمى " داود " كثرة . وأيا ما كان فالحديث صحيح ، من جهة رواية ابن علية معه عن مطرف .
مطرف : هو ابن طريف الحارثي ، مضت ترجمته في : 224 .
والحديث مختصر - كما أشرنا آنفًا . وقد رواه البخاري 8 : 137 ، عن قتيبة بن سعيد ، عن جرير ، وهو ابن عبد الحميد الضبي ، عن مطرف ، بهذا الإسناد ، نحوه .
(2) الحديث : 2990 - أحمد بن عبد الرحيم البرقي : هو أحمد بن عبد الله بن عبد الرحيم ، مضى في : 22 ، 160 .
ابن أبي مريم : هو سعيد بن الحكم ، ثقة معروف ، أخرج له أصحاب الكتب الستة ، مضى في : 22 .
أبو غسان : هو محمد بن مطرف - بكسر الراء المشددة - الليثي المدني ، أحد العلماء الأثبات ، روى له أصحاب الكتب الستة .
أبو حازم : هو سلمة بن دينار الأعرج التمار ، المدني ، تابعي ثقة ، لم يكن في زمانه مثله .
والحديث رواه البخاري 4 : 114 - 115 ، و 8 : 137 ، عن ابن أبي مريم ، بهذا الإسناد . ورواه مسلم 1 : 301 ، عن شيخين ، عن ابن أبي مريم .
ورواه أيضًا النسائي ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والبيهقي في سننه ، كما في الدر المنثور 1 : 199 .

(3/513)


منتشرا مستفيضا في السماء يملأ بياضه وضوءُهُ الطرق ، فأما الضوء الساطع في السماء ، فإن ذلك غير الذي عناه الله بقوله : " الخيط الأبيض من الخيط الأسود " .
* ذكر من قال ذلك :
2991 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى الصنعاني قال ، حدثنا معتمر بن سليمان ، قال : سمعت عمران بن حدير ، عن أبي مجلز : الضوء الساطعُ في السماء ليس بالصبح ، ولكن ذاك " الصبح الكاذب " ، إنما الصبح إذا انفضح الأفق (1) .
2992 - حدثني سَلْم بن جنادة السوائي قال ، حدثنا أبو معاوية ، عن الأعمش ، عن مسلم ، قال : لم يكونوا يعدُّون الفجر فجرَكم هذا ، كانوا يعدُّون الفجرَ الذي يملأ البيوتَ والطرُق (2) .
2993 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا عثام ، عن الأعمش ، عن مسلم : ما كانوا يرون إلا أنّ الفجر الذي يَستفيض في السماء.
2994 - حدثنا الحسن بن عرفة قال ، حدثنا روح بن عبادة قال : حدثنا ابن جريج ، قال : أخبرني عطاء أنه سمع ابن عباس يقول : هما فجران ، فأما الذي يسطَع في السماء فليس يُحِلّ ولا يُحرّم شيئا ، ولكن الفجر الذي يستبين على رءوس الجبال هو الذي يحرِّم الشراب.
2995 - حدثنا الحسن بن الزبرقان النخعي قال ، حدثنا أبو أسامة ، عن محمد بن أبي ذئب ، عن الحارث بن عبد الرحمن ، عن محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان ، قال : [قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم] : الفجر فجران ، فالذي كأنه ذنَب السِّرحان لا يحرّم شيئا ، وأما
__________
(1) فضحه الصبح : دهمته فضحة الصبح ، وهي بياضه فكشفه وبينه للأعين بضوئه . والأفضح : الأبيض ليس شديد البياض .
(2) الأثر : 2992 - في المطبوعة : " مسلم بن جنادة " والصواب ما أثبت ، وانظر ما سلف رقم : 48 ، ومواضع أخرى كثيرة .

(3/514)


المستطير الذي يأخذ الأفق ، فإنه يُحل الصلاة ويُحرّم الصوم. (1) .
2996 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا وكيع وإسماعيل بن صبيح وأبو أسامة ، عن أبي هلال ، عن سَوادة بن حنظلة ، عن سمرة بن جندب ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا يمنعكم من سَحُوركم أذانُ بلال ولا الفجر المستطيل ، ولكن الفجرُ المستطيرُ في الأفق " (2) .
__________
(1) الخبر : 2995 - الحسن بن الزبرقان النخعي ، شيخ الطبري : ترجمه ابن أبي حاتم 1/2/15 ، قال : " الحسن بن الزبرقان الكوفي ، سكن قزوين ، ويكنى بأبي الخزرج . روى عن مندل بن علي ، وشريك ، وفضيل بن عياض ، والمطلب بن زياد ، ومحمد بن صبيح السماك . روى عنه أبي ، والفضل بن شاذان . سئل أبي عنه ، فقال : هو شيخ " . ولم أجد له ترجمة عند غيره .
أبو أسامة : هو حماد بن أسامة بن زيد الكوفي ، ثقة حافظ ثبت ، أخرج له أصحاب الكتب الستة .
محمد بن أبي ذئب : هو محمد بن عبد الرحمن بن المغيرة بن الحارث بن أبي ذئب ، القرشي العامري المدني ، نسب إلى جده الأعلى ، وهو إمام ثقة حافظ ، يقرن بمالك أو يفضل عليه . وثبت في المطبوعة هنا " محمد بن أبي ذؤيب " ؛ وهو خطأ بين .
الحارث بن عبد الرحمن القرشي العامري - من أنفسهم - المدني : ثقة ، وهو خال " ابن أبي ذئب " ، وهو أيضًا ابن عم أبيه ، كما في نسب قريش ، ص : 423 .
محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان القرشي العامري - مولاهم - المدني : تابعي ثقة معروف ، قال أبو حاتم " لا يسأل عن مثله " .
وقد زدنا بين قوسين ، عقب قوله " عن محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان قال " - (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم) ، لأنه هكذا نقله ابن كثير 1 : 424 ، عن هذا الموضع من الطبري ، بهذه الزيادة ، فيكون حديثا مرسلا . وهكذا قال ابن كثير ، عقب نقله : " وهذا مرسل جيد " . يريد : جيد الإسناد إلى ابن ثوبان التابعي ، ولكنه لا يكون صحيحا مرفوعا ، لأن المرسل لا تقوم به حجة .
وكذلك رواه البيهقي في السنن الكبرى 4 : 215 ، من طريق ابن وهب ، عن ابن أبي ذئب ، بهذا الإسناد . من رواية ابن ثوبان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، مرفوعا ، مرسلا .
وكذلك ذكره السيوطي 1 : 200 " عن محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان : أنه بلغه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال . . " . ثم قال السيوطي : " وأخرجه الحاكم من طريقه ، عن جابر ، موصولا " ، وكذلك ذكر البيهقي أنه " قد روى موصولا ، بذكر جابر بن عبد الله فيه " . وقد جهدت أن أجده في المستدرك ، فخفي على موضعه .
ويكون ما وقع من الناسخين ، في الطبري هنا ، من حذف (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم) - خطأ يقينا . إذ يكون حينئذ موقوفا على ابن ثوبان . وقد تضافرت الدلائل على أنه عن ابن ثوبان ، مرفوعا مرسلا ، في رواية الطبري ورواية غيره .
والسرحان : الذئب . وذلك كناية عن استطالته وامتداده .
(2) الحديث : 2996 - إسماعيل بن صبيح - بفتح الصاد المهملة وكسر الباء الموحدة - اليثكري الكوفي : ثقة مترجم في التهذيب ، وابن أبي حاتم 1/1/178 .
أبو هلال : هو الراسبي محمد بن سليم ، وهو ثقة .
سوادة بن حنظلة القشيري البصري : تابعي ثقة .
والحديث رواه أحمد في المسند 5 : 13 - 14 (حلبي) ، عن وكيع ، بهذا الإسناد ، نحوه . وكذلك رواه الترمذي 2 : 39 ، من طريق وكيع . .
وسيأتي مزيد تخريجه ، في الحديث بعده .

(3/515)


2997 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا معاوية بن هشام الأسدي قال ، حدثنا شعبة ، عن سوادة قال : سمعت سمرة بن جندب يذكر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سمعه وهو يقول : " لا يغرنّكم نداء بلال ولا هذا البياضُ حتى يبدوَ الفجرُ وَينفجر " (1) .
* * *
__________
(1) الحديث : 2997 - معاوية بن هشام الأسدي القصار : ثقة ، وثقه أبو داود وابن حبان . و " الأسدي " بفتح السين ، لأنه " مولى بني أسد " ، كما في ابن سعد 6 : 282 ، والتقريب ، وكذلك ثبت في الصحيحين : 92 . ووقع في التهذيب والخلاصة " الأزدي " بالزاي ، هو خطأ .
وهذا الحديث في معنى الذي قبله .
وقد رواه أبو داود الطيالسي : 897 ، عن شعبة ، بهذا الإسناد ، نحوه . وكذلك رواه النسائي 1 : 305 ، من طريق الطيالسي .
ورواه أحمد في المسند 5 : 7 (حلبي) : " حدثنا محمد بن جعفر ، وروح ، قالا : حدثنا شعبة ، عن شيخ من بني قشير ، قال روح : قال (يعني شعبة) : سمعت سوادة القشيري ، وكان إمامهم " فذكر الحديث .
ورواه مسلم 1 : 302 ، من طريق معاذ ، وهو العنبري ، ومن طريق أبي داود ، وهو الطيالسي - كلاهما عن شعبة .
وقد سقط في هذا الموضع إسنادان آخران لهذا الحديث ، ذكرهما ابن كثير 1 : 423 . فرأينا إثباتهما ، تماما لنص أبي حعفر ما استطعنا :
قال ابن كثير : " وقال ابن جرير : حدثنا محمد بن المثنَّى ، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي ، حدثنا شعبة ، عن شيخ من بني قُشَيْر سمعت سمُرة بن جَندُب يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا يَغُرنَّكم نداءُ بلال وهذا البياض ، حتى ينفجر الفجر ، أو يطلع الفجر " .
" ثم رواه من حديث شعبة وغيره ، عن سَوادَةَ بن حنظلة ، عن سمرة ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا يمنعنَّكم من سَحُوركم أذانُ بلال ، ولا الفجر المستطيل ، ولكن الفجر المستطيرُ في الأفق " .
وهذا هو لفظ الحديث : 2996 هنا ، ولكنه من غير طريق شعبة . ثم قال ابن كثير ، نقلا عن أبي جعفر : " قال : وحدثني يعقوب بن إبراهيم ، [عن] ابن علية ، عن عبد الله بن سَوَادَةَ القُشَيْرِي ، عن أبيه ، عن سَمُرة بن جُنْدَُب ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا يَغُرَّنَّكم أذانُ بلال ، ولا هذا البياض ، لِعَمُود الصبح ، حتى يَسْتَطِيرَ " .
فهذان الإسنادان اللذان لم يذكرا هنا ، ثابتان في ابن كثير نقلا عن ابن جرير .
والأول منهما يوافق رواية أحمد في المسند - التي ذكرنا آنفًا - عن محمد بن جعفر عن شعبة ، التي أبهم فيها " شيخ من بني قشير " .
والثاني منهما : وقع فيه خطأ مطبعي في ابن كثير ، لأن الطبري يرويه عن يعقوب بن إبراهيم ، وهو الدورقي الحافظ ، عن ابن علية ، عن عبد الله بن سوادة ، عن أبيه . فسقط في مطبوعة ابن كثير حرف [عن] فزدناه ضرورة . لأن الحديث ثابت من رواية ابن علية ، وهو " إسماعيل بن إبراهيم " المعروف بابن علية .
والحديث ثابت من رواية ابن علية : فرواه مسلم 1 : 302 ، عن زهير بن حرب ، " حدثنا إسماعيل ابن علية . . " .
وكذلك رواه الحاكم في المستدرك 1 : 425 ، من طريق مسدد ، " حدثنا ابن علية " .
وعبد الله بن سوادة القشيري - شيخ ابن علية في هذا الإسناد - : ثقة ، كما بينا في تخريج حديث آخر مضى ، برقم : 2792 .
والحديث رواه أيضًا أحمد في المسند 5 : 18 (حلبي) ، عن يزيد بن هارون ، عن شعبة .
ورواه الطيالسي أيضًا : 898 ، عن محمد بن مسلم ، قال : " حدثنا سوادة بن حنظلة القشيري . . " .
ورواه أيضًا مسلم 1 : 302 ، وأبو داود : 2346 ، والبيهقي 4 : 215 - ثلاثتهم من طريق حماد بن زيد ، عن عبد الله بن سوادة ، عن أبيه .

(3/516)


وقال آخرون : الخيطُ الأبيض : هو ضوء الشمس ، والخيط الأسود : هو سوادُ الليل.
* ذكر من قال ذلك :
2998 - حدثنا هنّاد بن السري قال ، حدثنا عبيدة بن حميد ، عن الأعمش ،

(3/517)


عن إبراهيم التيمي ، قال : سافر أبي مع حُذيفة قال : فسار حتى إذا خشينا أن يفجأنا الفجرُ قال : هل منكم من أحد آكلٍ أو شاربٍ ؟ قال : قلت له : أمّا من يريد الصومَ فلا. قال : بلى! قال : ثم سار حتى إذا استبطأنا الصلاة نزل فتسحَّر (1) .
2999 - حدثنا هناد وأبو السائب ، قالا حدثنا أبو معاوية ، عن الأعمش ، عن إبراهيم التيمي ، عن أبيه ، قال : خرجت مع حذيفة إلى المدائن في رمضان ، فلما طلع الفجر ، قال : هل منكم من أحد آكل أو شارب ؟ قلنا : أمَّا رجل يريدُ أن يصوم فلا. قال : لكنّي! قال : ثم سرنا حتى استبطأنا الصلاة ، قال : هل منكم أحد يريد أن يتسحَّر ؟ قال : قلنا أمّا من يريد الصومَ فلا. قال : لكنّي! ثم نزل فتسحَّر ، ثم صلى (2) .
3000 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا أبو بكر ، قال : ربما شربت بعد قول المؤذن - يعني في رمضان - : " قد قامت الصلاة " . قال : وما رأيت أحدًا كان أفعلَ له من الأعمش ، وذلك لما سمع ، قال : حدثنا إبراهيم التيمي عن أبيه قال : كنا مع حذيفة نسير ليلا فقال : هل منكم متسحِّرٌ الساعة ؟ قال : ثم
__________
(1) الخبر : 2998 - هذا موقوف على حذيفة بن اليمان ، وإسناده صحيح . إلا أنه وقع في المطبوعة خطأ في موضعين . وسيأتي عقب هذا موقوفا بإسنادين آخرين . ثم يأتي معناه مرفوعا ، من حديث حذيفة نفسه : 3011 - 3014 .
هناد بن السري - شيخ الطبري في هذا الإسناد : وقع في المطبوعة " هشام بن السري " ؛ وهو خطأ يقينا ، ليس من راو بهذا الاسم - فيما علمنا - وإنما هو " هناد " . وقد ترجمنا له في : 2058 .
عبيدة - بفتح العين - بن حميد ، بضم الحاء المهملة : مضى في : 2781 ، ووقع في المطبوعة " عبادة بن حميد " ؛ وهو خطأ أيضًا .
إبراهيم التيمي : هو إبراهيم بن يزيد بن شريك ، وهو وأبوه تابعان ثقتان ، أخرج لهما أصحاب الكتب الستة .
وظاهر هذا الإسناد الانقطاع ، لأن إبراهيم التيمي لم يدرك حذيفة ، ولم يشهد سفر أبيه معه . ولكن تبين من الإسنادين بعده أنه روى ذلك عن أبيه ، فاتصل الإسناد .
(2) الخبر : 2999 - إسناده صحيح متصل .
وقوله : " لكني " ، اختصار قوله : لكني أريد الصوم ، مثل ذلك كثير في كلامهم .

(3/518)


سار ، ثم قال حذيفة : هل منكم متسحِّر الساعة ؟ قال : ثم سار حتى استبطأنا الصلاة ، قال : فنزل فتسحّر (1) .
3001 - حدثنا هارون بن إسحاق الهمداني قال ، حدثنا مصعب بن المقدام قال ، حدثنا إسرائيل قال ، حدثنا أبو إسحاق عن هبيرة ، عن علي : أنه لما صلى الفجرَ قال : هذا حين يتبيّن الخيطُ الأبيض من الخيط الأسود من الفجر (2) .
__________
(1) الخبر : 3000 - هذا إسناد صحيح متصل أيضًا .
أبو بكر : هو ابن عياش ، وقد مضى مرارا ، منها : 2150 . وهذا الإسناد صريح في سماعه من الأعمش ، ورؤيته إياه يفعل ما حكى من سحوره بعد الأذان .
وقال الحافظ في الفتح 4 : 117 " وذهب جماعة من الصحابة ، وبه قال الأعمش من التابعين ، وصاحبه أبو بكر بن عياش - : إلى جواز السحور إلى أن يتضح الفجر " .
وقال أيضًا : " وقد روى ابن أبي شيبة وعبد الرزاق - ذلك عن حذيفة ، من طرق صحيحة " .
وانظر لهذه المسألة - المحلى لابن حزم ، في المسألة : 756 (ج 7 ص 229 - 235) . وسيأتي مزيد تخريج ، عند حديثه المرفوع : 3011 - 3013 ، إن شاء الله .
(2) الخبر : 3001 - هارون بن إسحاق الهمداني ، شيخ الطبري : كوفي حافظ ثقة ، من شيوخ البخاري في غير الصحيح ، والترمذي ، والنسائي ، وغيرهم من الأئمة . مترجم في التهذيب ، وابن سعد 6 : 289 ، وابن أبي حاتم 4/2/87 - 88 . وهو من الشيوخ الذين روى عنهم البخاري وهم أحياء ، مات سنة 258 ، بعد البخاري بسنتين .
مصعب بن المقدام : مضت ترجمته : 1291 .
هبيرة - بضم الهاء : هو ابن يريم ، بفتح الياء التحتية وكسر الراء ، الشبامي ، بكسر الشين المعجمة وتخفيف الباء الموحدة وبعد الألف ميم ، نسبة إلى " شبام " ، وهو " عبد الله بن أسعد بن جثم بن حاشد " ، قال ابن سعد : " وسمي شبام ، بجبل لهم " .
ووقع في التهذيب والتقريب والخلاصة " الشيباني " ، وهو تصحيف . وهبيرة : تابعي ثقة ، تكلم فيه بعضهم ، لم يرو عنه غير أبي إسحاق السبيعي ، وهو خال العالية امرأة أبي إسحاق . مترجم في التهذيب ، والكبير 4/2/241 ، وابن سعد 6 : 118 ، وابن أبي حاتم 4/2/109 - 110 .
وهذا الخبر سيأتي بإسناد آخر ، بنحوه : 3010 .
وقد ذكره الحافظ في الفتح 4 : 117 ، قال : " روى ابن المنذر بإسناد صحيح ، عن علي : أنه صلى الصبح ثم قال : الآن حين تبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود " . ولكن ذكره السيوطي 1 : 199 ، بنحوه ، بلفظ " أنه قال حين طلع الفجر . . " ! ونسبه للفريابي ، وعبد بن حميد ، وابن جرير . وأنا أكاد أرجح أن قوله " طلع الفجر " تحريف من الناسخين ، لأن روايتي الطبري ، هذه والآتية ، فيهما " صلى الفجر " ، وأيده ما نقله الحافظ من رواية ابن المنذر .

(3/519)


3002 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا ابن الصلت قال ، حدثنا إسحاق بن حذيفة العطار ، عن أبيه ، عن البراء ، قال : تسحرت في شهر رمضان ، ثم خرجت فأتيت ابن مسعود ، فقال : اشربْ. فقلت : إنّي قد تسحَّرت! فقال : اشرب! فشربنا ، ثم خرجنا والناس في الصلاة (1) .
3003 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا أبو معاوية ، عن الشيباني ، عن جبله بن سحيم ، عن عامر بن مطر ، قال : أتيت عبد الله بن مسعود في داره ، فأخرجَ فضلا من سَحُوره ، فأكلنا معه ، ثم أقيمت الصلاة فخرجنا فصلينا (2) .
3004 - حدثنا خلاد بن أسلم قال ، حدثنا أبو بكر بن عياش ، عن أبي
__________
(1) الخبر : 3002 - هذا إسناد مشكل ، لا أدري ما هو ؟
فابن الصلت : يدور بين اثنين في هذه الطبقة ، " محمد بن الصلت بن الحجاج الأسدي " ، و " محمد بن الصلت التوزي " . فلا أدري أيهما هو ؟ أم هو غيرهما .
وإسحاق بن حذيفة العطار ، وأبوه : لم أجد لهما ترجمة ، ولا ذكرا ، في شيء مما بين يدي من المراجع . وأخشى أن يكون فيهما معا تحريف ، فلئن تركوا ترجمة " إسحاق " ليبعدن أن يتركوا ترجمة أبيه ، وهو في ظاهر هذا الإسناد تابعي ، يروي عن صحابي ، وهو البراء بن عازب . وانظر الخبر الذي بعده .
(2) الخبر : 3003 - أما هذا فإسناده صحيح . الشيباني : هو أبو إسحاق سليمان بن أبي سليمان ، مضت ترجمته : 1037 .
جبلة بن سحيم - بضم السين المهملة ، التيمي الشيباني : تابعي ثقة ، ينسب إلى " تيم بن شيبان " ، فهو " تيمي " ، و " شيباني " .
عامر بن مطر الشيباني : تابعي ثقة . مترجم في ابن سعد 6 : 82 ، وابن أبي حاتم 3/1/328 ، ولسان الميزان 3 : 225 . وروى ابن أبي حاتم عن عبد الرحمن بن الحكم بن بشير ، قال : " أبو مطر ، الذي يروي عنه جبلة بن سحيم : هو عامر بن مطر ، شيباني ، رجل له شأن في المسلمين " .
وهذا الخبر رواه ابن حزم في المحلى 7 : 233 ، من طريق ابن أبي شيبة : " حدثنا أبو معاوية ، عن الشيباني - هو أبو إسحاق . . " فذكره ، بهذا الإسناد ، نحوه .
وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد 3 : 154 مختصرا ، هكذا : " وعن مطر الشيباني ، قال : تسحرنا مع عبد الله ، ثم خرجنا فأقيمت الصلاة ، رواه الطبراني في الكبير ، ورجاله رجال الصحيح " . فسمى التابعي " مطر الشيباني " . وهو تحريف - فيما أرجح - فليس في الرواة من هذا اسمه . وما أدري : التحريف من رواة الطبراني ، أم من الهيثمي ، أم من ناسخ أو طابع ؟ ولكنه - عندي - تحريف على كل حال .

(3/520)


إسحاق ، عن عبد الله بن معقل ، عن سالم مولى أبي حذيفة قال ، كنت أنا وأبو بكر الصديق فوق سطح واحد في رمضان ، فأتيت ذات ليلة فقلت : ألا تأكل يا خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فأومأ بيده : أنْ كُفَّ ، ثم أتيته مرة أخرى ، فقلت له : ألا تأكلُ يا خليفة رسول الله ؟ فأومأ بيده : أنْ كُف. ثم أتيته مرة أخرى ، فقلت : ألا تأكل يا خليفةَ رسول الله ؟ فنظر إلى الفجر ثم أومأ بيده : أنْ كُفّ. ثم أتيته فقلت : ألا تأكل يا خليفة رسول الله ؟ قال : هات غَداءك! قال : فأتيته به فأكل ، ثم صلى ركعتين ، ثم قام إلى الصلاة (1) .
3005 - حدثنا ابن المثنى قال ، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي قال ، حدثنا شعبة ، عن مغيرة ، عن إبراهيم ، قال : الوتر بالليل والسَّحور بالنهار.
وقد رُوي عن إبراهيم غير ذلك :
3006 - حدثنا ابن المثنى قال ، حدثنا محمد بن جعفر ، عن حماد ، عن إبراهيم ، قال : السحور بليل ، والوتر بليل.
3007 - حدثنا حكام ، عن ابن أبي جعفر ، عن المغيرة ، عن إبراهيم ، قال : السحور والوتر ما بين التَّثْويب والإقامة.
3008 - حدثنا ابن المثنى قال ، حدثنا محمد بن جعفر قال ، حدثنا شعبة ،
__________
(1) الخبر : 3004 - هذا إسناد ضعيف ، لانقطاعه .
خلاد بن أسلم ، أبو بكر الصفار ، شيخ الطبري : ثقة ، من شيوخ عبد الله بن أحمد ، والترمذي والنسائي ، مات في جمادى الآخرة سنة 249 . مترجم في التهذيب ، والصغير للبخاري ص : 237 ، وتاريخ بغداد 8 : 342 - 343 .
عبد الله بن معقل - بفتح الميم وسكون العين المهملة وكسر القاف - بن مقرن - بضم الميم وفتح القاف وكسر الراء المشددة - المزني : تابعي ثقة ، يروي عن أبيه ، وهو صحابي ، وعن علي ، وابن مسعود ، وغيرهم . ولكنه لم يدرك أن يروي عن سالم مولى أبي حذيفة ، لأنه مات سنة 88 ، وسالم قتل باليمامة سنة 12 في خلافة أبي بكر . ولذلك تعقب الحافظ ابن حجر في التهذيب ، ما ذكره أصله ، فقال : " وأطلق المؤلف روايته عن سالم مولى أبي حذيفة . والظاهر أنها مرسلة ، لأنه قتل باليمامة " . وابن معقل هذا مترجم في التهذيب . والصغير للبخاري ، ص : 93 - 94 ، وابن سعد 6 : 121 - 122 ، والإصابة 5 : 144 . ووقع في المطبوعة هنا " عبيد الله " ، بالتصغير ، وهو خطأ .
سالم مولى أبي حذيفة : صحابي قديم الموت ، كما قلنا آنفًا . وهو الذي وردت في شأنه سنة إرضاع الكبير . وهو مولى ثبيتة بنت يعار الأنصارية زوج أبي حذيفة ، هي التي أعتقته ، فتولى أبا حذيفة بن عتبة بن ربيعة القرشي زوجها . قال ابن سعد : " فسالم يذكر في الأنصار في بني عبيد ، لعتق ثبيتة بنت يعار إياه ، ويذكر في المهاجرين ، لموالاته لأبي حذيفة " . وهو مترجم في الكبير 2/2/108 ، والصغير ، ص : 21 ، 22 ، وابن سعد 3/1/60 - 62 ، وابن أبي حاتم 2/1/189 ، والإصابة 3 : 56 - 57 . وقال ابن أبي حاتم : " لا أعلم روى عنه " . وتعقبه الحافظ في الإصابة ، فذكر له رواية حديثين مرفوعين ، ثم قال : " وفي السندين جميعا ضعف وانقطاع . فيحمل كلام ابن أبي حاتم على أنه لم يصح عنه شيء " . ولم يذكر الحافظ رواية الطبري هذه ، وهي منقطعة أيضًا .
وهذا الخبر ذكره الهيثمي في مجمع الزوائد 4 : 154 ، مختصرا قليلا ، وقال : " رواه الطبراني في الكبير ، ورجاله رجال الصحيح " . هكذا قال ، فلم يشر إلى علته بالانقطاع ، إلا أن يكون إسناد الطبراني متصلا براو آخر فوق عبد الله بن معقل ، فلعل . ولكني لا أظن ذلك .
نعم ذكر الحافظ في الفتح 4 : 117 ، أن ابن المنذر " روى بإسناد صحيح ، عن سالم بن عبيد الأشجعي ، وله صحبة : أن أبا بكر قال له : اخرج فانظر هل طلع الفجر ؟ قال : فنظرت ثم أتيته ، فقلت : قد ابيض وسطع ، ثم قال : اخرج فانظر هل طلع ؟ فنظرت فقلت : قد اعترض ، فقال : الآن أبلغني شرابي " . فهذا سالم بن عبيد صحابي معروف من أهل الصفة . والرواية عنه تأتي من وجه آخر غير رواية سالم مولى أبي حذيفة . فإن كان الإسناد إليه صحيحا كما قال الحافظ ، فهو ذلك ، إلا أن يكون ذكر سالم بن عبيد " خطأ من بعض الرواة ، فليس عندي بيان آخر عن إسناد ابن المنذر .
وقد روى ابن حزم في المحلى 6 : 232 ، نحو هذا المعنى ، بألفاظ أخر ، عن أبي بكر :
فقال ابن حزم : " روينا من طريق معمر ، عن أبان ، عن أنس ، عن أبي بكر الصديق ، أنه قال : إذا نظر الرجلان إلى الفجر ، فشك أحدهما ، فليلأكلا حتى يتبين لهما " .
" ومن طريق أبي أحمد الزبيري ، عن سفيان الثوري ، عن منصور بن المعتمر ، عن هلال بن يساف ، عن سالم بن عبيد ، قال : كان أبو بكر الصديق يقول لي : قم بيني وبين الفجر حتى أتسحر " .
ومن طريق ابن أبي شيبة ، عن جرير بن عبد الحميد ، عن منصور بن المعتمر ، عن هلال بن يساف ، عن سالم بن عبيد الأشجعي ، قال : قم فاسترني من الفجر ، ثم أكل " .
وهذا اللفظ الأخير مختصر ، يفهم مما قبله أنه حكاية عن أبي بكر أيضًا ، ولعله سقط منه شيء من ناسخي المحلى .
ثم قال ابن حزم : " سالم بن عبيد هذا : أشجعي كوفي ، من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم . وهذه أصح طريق يمكن أن تكون " .
وأنا أرجح أن يكون طريق ابن المنذر - الذي نقله الحافظ في الفتح - مثل هذين الطريقين الأخيرين ، اللذين نقلهما ابن حزم ، فيكون من رواية هلال بن يساف عن سالم بن عبيد . واستبعد جدا أن يكون طريق الطبراني ، الذي ذكره الهيثمي - : من هذا الوجه .
ثم روى ابن حزم 6 : 233 ، نحو هذا المعنى ، من رواية أبي السفر ، ومن رواية أبي قلابة - كلاهما عن أبي بكر . وهما إسنادان منقطعان ، فإن أبا السفر وأبا قلابة لم يدركا أبا بكر يقينا .

(3/521)


عن شبيب بن غرقدة ، عن عروة ، عن حبان ، قال : تسحرنا مع عليّ ، ثم خرجنا وقد أقيمت الصلاة ، فصلينا (1) .
3009 - حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا مؤمل قال ، حدثنا سفيان ، عن
__________
(1) الخبر : 3008 - شبيب بن غرقدة السلمي : تابعي ثقة ، وثقه أحمد وابن معين وغيرهما . مترجم في التهذيب ، والكبير 2/2/232 ، وابن أبي حاتم 2/1/357 .
عروة : هو ابن أبي الجعد الأزدي البارقي : صحابي معروف . قال البخاري : " وبارق : جبل ، نزله بعض الأزد " .
حبان - بكسر الحاء المهملة وتشديد الباء الموحدة : هو ابن الحارث ، أبو عقيل ، وهو تابعي ثقة . ترجمه البخاري في الكبير 2/1/77 ، وابن أبي حاتم 1/2/269 ، والدولابي في الكنى 2 : 33 .
وهكذا وقع في الطبري عن شيخه محمد بن المثنى - في هذا الإسناد - زيادة " عروة البارقي " بين " شبيب " و " حبان بن الحارث " . وسيأتي الخبر عقب هذا : 3009 ، من رواية سفيان بن عيينة ، عن شبيب ، عن حبان ، مباشرة دون واسطة ، وهو الثابت المحفوظ عن شبيب . فلعل ابن المثنى - شيخ الطبري - وهم في هذه الزيادة ، أو لعله كان من رواية شبيب ، عن عروة وعن حبان ، كلاهما عن علي ، ثم اختلط في الإسناد على الناسخين .
فإن البخاري روى هذا الخبر ، في ترجمة " حبان " في التاريخ الكبير ، موجزا بالإشارة كعادته - على الصواب ، من الوجه الذي رواه الطبري هنا :
فقال البخاري : " حدثنا محمد ، قال : حدثنا غندر ، قال : حدثنا شعبة ، عن شبيب ، عن حبان : تسحرنا مع علي " .
فحمد - شيخ البخاري : هو محمد بن بشار الحافظ . وغندر : هو هو محمد بن جعفر شيخ ابن المثنى في إسناد الطبري هذا . وهو قد رواه - كما ترى - دون واسطة بين شبيب وحبان .
وكذلك رواه البخاري بثلاثة أسانيد عن شبيب عن حبان ، فقال : " قال ابن محبوب ، عن عمر الأبار ، عن منصور ، عن شبيب ، عن حبان بن الحارث : تسحرنا مع علي . وقال جرير ، عن منصور ، عن شبيب ، عن أبي عقيل . قال حسين ، عن زائدة ، عن شبيب ، عن طارق بن قرة ، وحبان بن الحارث ، بهذا " . وقد زاد في الإسناد الأخير للبخاري : أن شبيبا رواه عن طارق بن طارق بن قرة ، عن علي ، كمثل روايته إياه عن حبان ، عن علي . و " طارق بن قرة " : تابعي ، لم يترجمه البخاري في الكبير ، ولكن ترجمه ابن أبي حاتم 2/1/486 ، قال : " طارق بن قرة : روى عن علي ، روى عنه شبيب بن غرقدة " . وبذلك ترجمه أيضًا ابن حبان في الثقات ، ص : 229 .
ورواية البخاري ، من طريق جرير عن منصور - رواها ابن حزم في المحلى 6 : 233 مفصلة ، قال : " ومن طريق ابن أبي شيبة : حدثنا جرير ، هو ابن عبد الحميد ، عن منصور بن المعتمر ، عن شبيب بن غرقدة ، عن أبي عقيل ، قال : تسحرت مع علي بن أبي طالب ، ثم أمر المؤذن أن يقيم الصلاة " .
فهذه أسانيد تدل على أن ذكر " عروة البارقي " في إسناد الطبري هنا - إما سهو من ابن المثنى ، وإما إضافة في الرواية مع حبان - لا رواية عنه - ثم حرفت من الناسخين .

(3/523)


شبيب ، عن حبان بن الحارث ، قال : مررت بعليّ وهو في دار أبي موسى وهو يتسحَّر ، فلما انتهيتُ إلى المسجد أقيمت الصلاة (1) .
3010 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا جرير ، عن منصور ، عن أبي إسحاق ، عن أبي السفر ، قال : صلى عليُّ بن أبي طالب الفجرَ ، ثم قال : هذا حين يتبيَّن الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر (2) .
* * *
وعلة من قال هذا القول : أنَّ القول إنما هو النهارُ دون الليل. قالوا : وأول النهار طلوعُ الشمس ، كما أنّ آخرَه غروبُها. قالوا : ولو كان أوله طلوعُ الفجر ، لوَجب أن يكون آخرَه غروبُ الشفق. قالوا : وفي إجماع الحجة على أنَّ آخر النهار غروب الشمس ، دليلٌ واضح على أن أوله طلوعها. قالوا : وفي الخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه تسحر بعد طُلوع الفجر ، أوضحُ الدليل على صحة قولنا.
ذكر الأخبار التي رويت عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك :
3011 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا أبو بكر ، عن عاصم ، عن زر ، عن حذيفة ، قال : قلت : تسحَّرتَ مع النبي صلى الله عليه وسلم ؟ قال : نعم ، قال : لو أشاءُ لأقولُ هو النهارُ إلا أنّ الشمس لم تطلع (3) .
__________
(1) الخبر : 3009 - سفيان : هو ابن عيينة . والخبر تكرار في معناه للخبر قبله . ورواه أيضًا ابن حزم في المحلى 6 : 233 ، قال : " وعن سفيان بن عيينة ، عن شبيب بن غرقدة ، عن حبان بن الحارث : أنه تسحر مع علي بن أبي طالب ، وهما يريدان الصيام ، فلما فرغ قال للمؤذن : أقم الصلاة " .
(2) الخبر : 3010 - أبو السفر - بفتح الفاء - : هو سعيد بن محمد ، بضم الياء التحتية وسكون الحاء المهملة وكسر الميم ، وهو تابعي ثقة ، يروي عن متوسطي الصحابة ، كابن عباس وابن عمر . وهذا الإسناد منقطع ، لأن أبا السفر لم يدرك أن يروي عن علي بن أبي طالب . وقد مضى معناه عن علي ، بإسناد آخر متصل : 3001 .
(3) الحديث : 3011 - عاصم : هو ابن بهدلة ، وهو ابن أبي النجود - بفتح النون - الكوفي المقرئ ، أحد القراء السبعة . وهو ثقة ، أخرج له أصحاب الكتاب الستة . زر - بكسر الزاي وتشديد الراء : هو ابن حبيش ، التابعي الثقة . مضى في : 274 . حذيفة : هو ابن اليمان العبسي ، صحابي مشهور ، مناقبه كثيرة معروفة .
وهذا الحديث رواه ابن ماجه : 1695 ، عن علي بن محمد ، هو الطنافسي ، عن أبي بكر بن عياش ، بهذا الإسناد نحوه ، مختصرا . وسيأتي مزيد تخريج له في الثلاثة بعده .

(3/524)


3012 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا أبو بكر ، قال : ما كذب عاصمٌ على زرّ ، ولا زرّ على حذيفة ، قال : قلتُ له : يا أبا عبد الله تسحرت مع النبي صلى الله عليه وسلم ؟ قال : نعم هو النهارُ إلا أن الشمس لم تطلع (1) .
3013 - حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا مؤمل قال ، حدثنا سفيان ، عن عاصم ، عن زر ، عن حذيفة قال : كان النبي صلى الله عليه وسلم يتسحَّر وأنا أرى مواقعَ النَّبل. قال : قلت أبعدَ الصبح ؟ قال : هو الصبح ، إلا أنه لم تطلع الشمس (2) .
3014 - حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا الحكم بن بشير ، قال : حدثنا عمرو بن قيس وخلاد الصفار ، عن عاصم بن بهدلة ، عن زر بن حبيش ، قال : أصبحت ذات يوم فغدوتُ إلى المسجد ، فقلت : لو مررت على باب حذيفة! ففتح لي فدخلتُ ، فإذا هو يسخّن له طعامٌ ، فقال : اجلس حتى تطعَم. فقلت : إنّي أريد الصوم. فقرّب طعامه فأكل وأكلت معه ، ثم قام إلى لِقْحة في الدار ، فأخذ يحلُب من جانب وأحلُب أنا من جانب ، فناولني ، فقلت : ألا ترى الصبح ؟ فقال : اشرب! فشربتُ ، ثم جئتُ إلى باب المسجد فأقيمت الصلاة ، فقلت له : أخبرني بآخر
__________
(1) الحديث : 3012 - هو الحديث السابق بمعناه ، بالإسناد نفسه . ولكن هذا جاء بصيغة في التوكيد موثقة ، قصد بها أبو بكر بن عياش رفع شبهة الخطأ أو التزيد في الرواية .
(2) الحديث : 3013 - سفيان : هو الثوري .
والحديث في معنى الحديثين قبله . وقد رواه أحمد في المسند 5 : 400 (حلبي) ، عن وكيع ، عن سفيان ، بهذا الإسناد نحوه . وكذلك رواه النسائي 1 : 303 ، وابن حزم في المحلى 6 : 232 - كلاهما من طريق وكيع .
وفي الفتح 4 : 117 أنه رواه " سعيد بن منصور ، عن أبي الأحوص ، عن عاصم ، عن زر ، عن حذيفة ، قال : تسحرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، هو والله النهار ، غير أن الشمس لم تطلع "

(3/525)


سَحور تسحَّرته مع رَسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال : هو الصبح إلا أنه لم تطلع الشمسُ (1) .
3015 - حدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي قال ، حدثنا روح بن عبادة قال ، حدثنا حماد ، عن محمد بن عمرو ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " إذا سمع أحدكم النداءَ والإناءُ على يده ، فلا يضعه حتى يقضيَ حاجته منه " (2) .
__________
(1) الحديث : 3014 - الحكم بن بشير النهدي : مضت ترجمته : 1497 . وعمرو بن قيس هو الملائي ، مضت ترجمته : 886 .
خلاد الصفار : هو خلاد بن عيسى العبدي ، ويقال : خلاد بن مسلم . وهو ثقة . مترجم في التهذيب والكبير 2/1/171 ، وابن أبي حاتم 1/2/367 .
وهذا الحديث تكرار للثلاثة قبله في معناها ، إلا أنه مطول في قصة . وقد روى نحو هذه القصة - حماد بن سملة ، عن عاصم ، عن زر ، عن حذيفة :
فرواها أحمد 5 : 396 (حلبي) ، عن عفان ، عن حماد بن سلمة .
وكذلك رواه الطحاوي في شرح معاني الآثار 1 : 324 ، وابن حزم في المحلى 6 : 231 : 232 ، كلاهما من طريق روح بن عبادة ، عن حماد بن سلمة .
ورواه أحمد أيضًا 5 : 405 (حلبي) ، من طريق شريك بن عبد الله - هو النخعي القاضي - عن عاصم ، عن زر ، قال : " قلت ، يعني لحذيفة : يا أبا عبد الله ، تسحرت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال : نعم ، قلت : أكان الرجل يبصر مواقع نبله ؟ قال : نعم ، هو النهار ، إلا أن الشمس لم تطلع " .
وقد ذكر ابن كثير 1 : 422 رواية حماد بن سلمة عن عاصم - مختصرة ، ونسبها لأحمد ، والنسائي وابن ماجه ، وقال : " وهو حديث تفرد به عاصم بن أبي النجود ، قاله النسائي " . ولم أجده في النسائي من رواية حماد ولم أجد كلمة النسائي أيضًا . فلعل ذلك في السنن الكبرى .
وقال الحافظ في الفتح 4 : 117 ، بعد نقله رواية سعيد بن منصور وإشارته إلى رواية الطحاوي عن حذيفة : " روى ابن أبي شيبة وعبد الرزاق ذلك عن حذيفة ، من طرق صحيحة " .
" اللقحة " : الناقة القريبة العهد بالولادة ، فهي من ذوات الألبان .
(2) الحديث : 3015 - هذا إسناد صحيح .
روح بن عبادة القيسي ، من بني قيس بن ثعلبة : ثقة ، أخرج له أصحاب الكتب الستة ، ووثقه ابن معين وغيره . تكلم فيه بعضهم بغير حجة . مترجم في التهذيب ، والكبير 2/1/282 - 283 ، وابن سعد 7/2/50 ، وابن أبي حاتم 1/2/498 - 499 ، وتاريخ بغداد 8 : 401 - 406 .
" عبادة " : بضم العين المهملة وتخفيف الباء الموحدة . ووقع في المطبوعة ، في هذا الإسناد والذي بعده " روح بن جنادة " ! وهو تصحيف ، ولا يوجد راو بهذا الاسم .
حماد : هو ابن سلمة .
محمد بن عمرو بن علقمة بن وقاص الليثي : ثقة ، أخرج له الجماعة أيضًا .
أبو سلمة : هو ابن عبد الرحمن بن عوف .
والحديث رواه أحمد في المسند : 10637 (2 : 510 حلبي) ، عن روح بن عبادة ، بهذا الإسناد واللفظ .
ورواه أحمد أيضًا : 9468 (2 : 423 حلبي) ، عن غسان بن الربيع ، عن حماد بن سلمة ، بهذا الإسناد . وقرن إليه إسنادا آخر مرسلا ، عن يونس ، عن الحسن ، عن النبي صلى الله عليه وسلم .
ورواه أبو داود : 2350 ، عن عبد الأعلى بن حماد النرسي . عن حماد بن سلمة ، به . وكذلك رواه الحاكم في المستدرك 1 : 426 ، من طريق عبد الأعلى ، وقال الحاكم : " هذا حديث صحيح على شرط مسلم ، ولم يخرجاه " . ووافقه الذهبي .
وانظر تعليقنا على الحديث ، فيما كتبنا على مختصر السنن للمنذري : 2249 (3 : 233 ، 234) .

(3/526)


3016 - حدثنا أحمد بن إسحاق قال ، حدثنا روح بن عبادة قال ، حدثنا حماد ، عن عمار بن أبي عمار ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله - وزاد فيه : وكان المؤذن يؤذن إذا بَزَغ الفجر (1) .
3017 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا يحيى بن واضح قال ، حدثنا الحسين وحدثنا محمد بن علي بن الحسن بن شقيق ، قال ، سمعت أبي قال ، أخبرنا الحسين بن واقد قالا جميعا ، عن أبي غالب ، عن أبي أمامة قال : أقيمت الصلاة والإناءُ في يد عمر ، قال : أشرَبُها يا رسول الله ؟ قال : نعم! ، فشربها (2) .
__________
(1) الحديث : 3016 - عمار بن أبي عمار مولى بني هاشم : تابعي ثقة ، أخرج له مسلم في صحيحه .
والحديث رواه أحمد في المسند : 10638 ، عن روح بن عبادة ، بهذا الإسناد ، عقب الحديث السابق ، كما صنع الطبري تماما .
وذكره ابن حزم في المحلى 6 : 232 ، من رواية حماد بن سلمة ، به ، وساق لفظه كاملا . وزاد في آخره : وقال حماد ، عن هشام بن عروة : كان أبي يفتي بهذا " .
(2) الحديث : 3017 - رواه الطبري بإسنادين : فرواه عن بن حميد ، عن يحيى بن واضح ، عن الحسين بن واقد - ثم استأنف إسنادا آخر ، فرواه عن محمد بن علي بن الحسن ، عن أبيه ، عن الحسين بن واقد ، فاجتمع الطريقان في الحسين بن واقد ، عن أبي غالب ، إلخ .
ويحيى بن واضح : هو أبو تميلة ، مضت ترجمته : 392 .
أبو غالب : هو صاحب أبي أمامة ، وقد اختلف في اسمه : فقيل : " حزور " ، بفتح الحاء المهملة والزاي والواو المشددة وآخره راء . وقيل : " سعيد بن الحزور " ، وهو الذي اقتصر عليه ابن سعد 7/2/7 . واختصر البخاري في الكبير 2/1/124 على " حزور " . وترجمه ابن أبي حاتم في الترجمتين 1/2/315 - 316 ، ثم 2/1/13 ، وقال في الموضع الثاني : " وحزور أصح " . وهو ثقة ، وتكلم فيه بعضهم . ووثقه الدارقطني ، وحسن الترمذي بعض أحاديثه ، وصحح بعضها . مترجم في التهذيب 12 : 197 - 198 .
أبو أمامة : هو الباهلي ، واسمه : " صدي " بضم الصاد وفتح الدال المهملتين وتشديد الياء " بن عجلان " . وهو صحابي معروف مات سنة 86 وقد جاوز المئة ، لأنه ثبت أنه كان ابن 30 سنة أو 33 . ووقع في ابن سعد 7/2/131 - 132 أنه مات وهو ابن 61 سنة! وهو خطأ فاحش .
وهذا الحديث صحيح الإسناد . ولم أجده في غير هذا الموضع من تفسير الطبري .

(3/527)


3018 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا يحيى بن واضح قال ، حدثنا يونس ، عن أبيه ، عن عبد الله ، قال : قال بلال : " أتيتُ النبيّ صلى الله عليه وسلم أُوذِنه بالصلاة وهو يريد الصوم ، فدعا بإناء فشرب ، ثم ناولني فشربتُ ، ثم خرج إلى الصلاة (1) .
3019 - حدثني محمد بن أحمد الطوسي قال ، حدثنا عبيد الله بن موسى ، قال : أخبرنا إسرائيل ، عن أبي إسحاق عن عبد الله بن معقل ، عن بلال قال : أتيتُ النبي صلى الله عليه وسلم أوذنه بصلاة الفجر وهو يريد الصيام ، فدعا بإناء فشرب ، ثم ناولني فشربتُ ، ثم خرجنا إلى الصلاة (2) .
* * *
__________
(1) الحديث : 3018 - يونس : هو ابن أبي إسحاق السبيعي ، وهو ثقة ، وثقه ابن معين وابن سعد وغيرهما . مترجم في التهذيب ، والكبير 4/2/408 ، وابن سعد 6 : 252 ، وابن أبي حاتم 4/2/243 - 244 .
عبد الله : هو ابن معقل بن مقرن المزني ، مضت ترجمته : 3004 .
بلال : هو ابن رباح ، مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، من المهاجرين الأولين ، مات في طاعون عمواس ، سنة : 17 ، أو 18 . ولم يدركه عبد الله بن معقل المتوفى سنة : 88 . فالإسناد إليه ضعيف لانقطاعه .
وسيأتي تخريج الحديث في الإسناد التالي .
(2) الحديث : 3019 - محمد بن أحمد الطوسي ، شيخ الطبري : لم أعرف من هو ؟ " عبد الله بن معقل " : بفتح الميم وسكون العين المهملة وكسر القاف . وثبت في المطبوعة هنا " مغفل " ، وهو تصحيف .
والحديث رواه أحمد في المسند 6 : 12 (حلبي) عن يحيى بن آدم ، وأبي أحمد الزبيري - كلاهما عن إسرائيل ، بهذا الإسناد ، نحوه . ثم رواه 6 : 13 ، عن حسين بن محمد ، عن إسرائيل ، به . وهو حديث ضعيف ، لانقطاعه بين ابن معقل بن مقرن وبلال ، كما بينا .
وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد 3 : 152 ، من رواية أحمد الأولى ، وقال : " رواه أحمد ، والطبراني في الكبير " . ثم ذكر رواية أحمد الثانية ، ثم قال : " ورجالهما رجال الصحيح " . ففاته أن يعلمه بالانقطاع .
وروى أحمد أيضًا 6 : 13 ، عن وكيع ، عن جعفر بن برقان ، عن شداد مولى عياض بن عامر ، عن بلال : " أنه جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم يؤذنه بالصلاة ، فوجده يتسحر في مسجد بيته " . وهذا ذكره الهيثمي أيضًا عن المسند ، ثم قال : " وشداد مولى عياض : لم يدرك بلالا " . وهو كما قال .

(3/528)


قال أبو جعفر : وأولى التأويلين بالآية ، التأويلُ الذي رُوي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " الخيط الأبيض " بياض النهار ، " والخيط الأسود " سوادُ الليل. وهو المعروف في كلام العرب ، قال أبو دُؤاد الإياديّ :
فَلَمَّا أضَاءت لَنَا سُدْفَةٌ... وَلاحَ مِنَ الصُّبْحِ خَيْطٌ أَنَارَا (1)
* * *
وأما الأخبارُ التي رويتْ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه شرب أو تسحَّر ، ثم خرج إلى الصلاة ، فإنه غير دافع صحةَ ما قلنا في ذلك ؛ لأنه غير مستنكر أن يكون صلى الله عليه وسلم شَرب قبل الفجر ، ثم خرج إلى الصلاة ، إذ كانت الصلاةُ - صلاة الفجر - هي على عهده كانت تُصلى بعد ما يطلع الفجر ويتبيَّن طلوعه ويؤذَّن لها قبل طلوعه.
وأما الخبر الذي رُوي عن حذيفة : " أنّ النبي صلى الله عليه وسلم كان يتسحر وأنا أرى مَواقعَ النَّبل " ، فإنه قد استُثبتَ فيه فقيل له : أبعد الصبح ؟ فلم يجب
__________
(1) الأصمعيات : 28 من أبيات . يصف فرسا خرج عليه للصيد ، واللسان (خيط) . وفي الأصمعيات : " خير أنارا " ولا معنى لها . والسدفة : ظلمة الليل في لغة نجد ، والضوء في لغة قيس ، وهي أيضًا : اختلاط الضوء والظلمة جميعا ، كوقت ما بين صلاة الفجر إلى أولى الإسفار . قال عمارة : ظلمة فيها ضوء من أول الليل وآخره ، ما بين الظلمة إلى الشفق ، وما بين الفجر إلى الصلاة . وأراد أبو دؤاد اختلاط الظلمة والضوء . ولاح : بدا وظهر من بعيد . والخيط : اللون هنا يكون ممتدا كالخيط .

(3/529)


في ذلك بأنه كان بعد الصبح ، ولكنه قال : " هو الصبح " . وذلك من قوله يُحتمل أن يكون معناهُ : هو الصبح لقربه منه ، وإن لم يكن هو بعينه ، كما تقول العرب : " هذا فلان " شبها ، وهي تشير إلى غير الذي سمَّته ، فتقول : " هو هو " تشبيها منها له به ، فكذلك قول حذيفة : " هو الصبح " ، معناه : هو الصبح شبها به وقربا منه.
* * *
وقال ابن زيد في معنى " الخيط الأبيض والأسود " ما :
3020 - حدثني به يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد : " حتى يتبيَّن لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر " قال : " الخيط الأبيض " الذي يكون من تحت الليل ، يكشف الليل - " والأسود " ما فوقه.
* * *
وأما قوله : " من الفجر " فإنه تعالى ذكره يعني : حتى يتبين لكم الخيطُ الأبيضُ من الخيط الأسود الذي هو من الفجر. وليس ذلك هوَ جميعَ الفجر ، ولكنه إذا تبيَّن لكم أيها المؤمنون من الفجر ذلك الخيط الأبيض الذي يكون من تحت الليل الذي فوقه سواد الليل ، فمن حينئذ فصُوموا ، ثم أتِمُّوا صيامكم من ذلك إلى الليل.
وبمثل ما قلنا في ذلك كان ابن زيد يقول :
3021 - حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : " منَ الفجر " قال : ذلك الخيط الأبيضُ هو من الفجر نسبةً إليه ، وليس الفجر كله ، فإذا جاء هذا الخيط ، وهو أوله ، فقد حلت الصلاةُ وحَرُم الطعام والشراب على الصائم.
* * *
قال أبو جعفر : وفي قوله تعالى ذكره : " وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيضُ من الخيط الأسود من الفجر ثم أتموا الصيامَ إلى الليل " أوضحُ

(3/530)


الدلالة على خطأ قول من قال : حلالٌ الأكلُ والشربُ لمن أراد الصوم إلى طلوع الشمس ؛ لأن الخيط الأبيض من الفجر يتبين عند ابتداء طلوع أوائل الفجر ، وقد جعل الله تعالى ذكره ذلك حدًّا لمن لزَمه الصوم في الوقت الذي أباح إليه الأكل والشرب والمباشرة.
فمن زعم أنّ له أنْ يتجاوز ذلك الحدّ ، قيل له : أرأيتَ إن أجازَ له آخَرُ ذلك ضحوةً أو نصف النهار ؟
فإن قال : إنّ قائلَ ذلك مخالف للأمة.
قيل له : وأنتَ لما دلَّ عليه كتاب الله ونقلُ الأمة مخالفٌ ، فما الفرق بينك وبينه من أصْل أو قياس ؟
فإن قال : الفرق بيني وبينه أن الله أمر بصوم النهار دون الليل ، والنهارُ من طلوع الشمس.
قيل له : كذلك يقول مخالفوك ، والنهار عندهم أوَّله طلوع الفجر ، وذلك هو ضوء الشمس وابتداءُ طلوعها دون أن يتتامَّ طلوعها ، كما أن آخر النهار ابتداءُ غروبها دون أن يتتامَّ غروبها.
ويقال لقائلي ذلك (1) إن كان " النهار " عندكم كما وصفتم ، هو ارتفاع الشمس ، وتكامل طُلوعها وذهاب جميعُ سدْفة الليل وَغبَس سواده - فكذلك عندكم " الليل " : هو تتامُّ غروب الشمس ، وذهاب ضيائها ، وتكامل سواد الليل وظلامه ؟
فإن قالوا : ذلك كذلك!
قيل لهم : فقد يجبُ أن يكون الصوم إلى مَغيب الشفق وذهاب ضوء الشمس وبياضها من أفق السماء!
__________
(1) جمع القائلين ، بعد الإفراد .

(3/531)


فإن قالوا : ذلك كذلك! أوجبوا الصومَ إلى مغيب الشفق الذي هوَ بياضٌ. وذلك قولٌ إنْ قالوه مدفوعٌ بنقل الحجة التي لا يجوز فيما نقلته مُجمعةً عليه - الخطأُ والسهوُ ، [وكفى بذلك شاهدا] على تخطئته (1) .
وإن قالوا : " بل أول الليل " ابتداء سُدْفته وظلامه ومَغيبُ عَين الشمس عنا.
قيل لهم : وكذلك " أول النهار " : طلوع أوّل ضياء الشمس ومغيب أوَائل سُدفة الليل.
ثم يعكس عليه القول في ذلك ، (2) ويُسأل الفرقَ بين ذلك ، فلن يقول في أحدهما قولا إلا ألزم في الآخر مثله.
* * *
وأما " الفجر " فإنه مصدر من قول القائل : " تفجَّر الماءُ يتفجَّرُ فجرًا " ، (3) إذا انبعثَ وجرى ، فقيل للطالع من تباشير ضياء الشمس من مطلع الشمس " فجر " ، لانبعاث ضوئه عليهم ، وتورُّده عليهم بطرُقهم ومحاجِّهم ، تفجُّرَ الماء المتفجِّر من منبعه.
* * *
وأما قوله : " ثم أتموا الصيام إلى الليل " فإنه تعالى ذكره حَدَّ الصوم بأن آخرَ وقته إقبالُ الليل - كما حدَّ الإفطارَ وإباحةَ الأكل والشرب والجماع وأوَّل الصوم بمجيء أول النهار وأوَّل إدبار آخر الليل ، فدلّ بذلك على أن لا صومَ بالليل ، كما لا فطر بالنهار في أيام الصوم وعلى أنّ المواصل مجوِّعٌ نفسه في غير طاعة ربه. كما : -
__________
(1) ما بين القوسين زيادة لا بد منها لسياق الجملة .
(2) عاد مرة أخرى فأفرد القائل بعد جمع القائلين . ولولا الضمائر الكثيرة التي تمنع ظن التحريف أو التصحيف في جمل متتابعة . لغيرتها . ولعل أبا جعفر كان يسهو أحيانا عن مثل ذلك . لجوازه في العربية .
(3) هكذا جاء في المطبوعة ، ولم أملك أن أغيره ، لأن كلامه دال على أنه يجعله مصدرا ، لقولهم : " تفجر " بالتاء وتشديد الجيم . وكأنه يحمله على أنه من المصادر التي جاءت على غير بناء أفعالها . كما مضى ذلك آنفًا في 1 : 116 - 118 . وانظر تفسير " التفجر " فيما سلف 2 : 238 .

(3/532)


3022 - حدثنا هناد قال ، حدثنا أبو معاوية ووكيع وعبدة ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عاصم بن عمر ، عن عمر ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إذا أقبل الليل وأدبر النهارُ وغابت الشمس ، فقد أفطر الصائم. (1) .
3023 - حدثنا هناد قال ، حدثنا أبو بكر بن عياش قال ، حدثنا أبو إسحاق الشيباني وحدثنا هناد بن السري قال ، حدثنا أبو عبيدة وأبو معاوية ، عن الشيباني وحدثنا ابن المثنى قال حدثنا أبو معاوية وحدثني أبو السائب قال ، حدثنا ابن إدريس ، عن الشيباني قالوا جميعا في حديثهم ، عن عبد الله بن أبي أوفى قال : كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في مسير وهو صائم ، فلما غَرَبت الشمسُ قال لرجل : انزل فاجدَحْ لي. قالوا : لو أمسيت يا رسول الله! فقال : انزل فاجدح. فقال الرجل : يا رسول الله لو أمسيت! قال : انزل فاجدح لي. قال : يا رسول الله إن علينا نهارا! فقال له الثالثة ، فنزل فجدح له. ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إذا أقبل الليل من هاهنا - وضرب بيده نحو المشرق - فقد أفطر الصائم (2) .
__________
(1) الحديث : 3022 - عبدة : هو ابن سليمان .
عاصم : هو ابن عمر بن الخطاب ، وهو تابعي ثقة ، ولد في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم . ووقع في المطبوعة هنا عاصم بن عمرو " ، وهو خطأ .
والحديث رواه بنحوه ، أحمد في المسند : 192 ، 383 ، عن وكيع ، عن هشام ، بهذا الإسناد .
ورواه أيضًا : 231 ، عن ابن نمير ، و 338 ، عن سفيان بن عيينة - كلاهما عن هشام .
ورواه البخاري 4 : 171 (فتح) ، من طريق ابن عيينة .
ورواه مسلم 1 : 303 ، من طريق أبي معاوية ، وابن نمير ، وأبي أسامة - ثلاثتهم عن هشام .
ورواه أبو داود : 2351 ، عن أحمد بن حنبل ، عن وكيع ، وعن مسدد . عن عبد الله بن داود - كلاهما عن هشام بن عروة .
(2) الحديث : 3023 - رواه الطبري بأسانيد ، تجتمع كلها في أبي إسحاق الشيباني .
فرواه عن هناد بن السري ، عن ثلاثة شيوخ : عن أبي بكر بن عياش ، وأبي عبيدة ، وأبي معاوية . ورواه عن محمد بن المثنى ، عن أبي معاوية . ورواه عن أبي السائب سلم بن جنادة ، عن عبد الله بن إدريس الأودي - كلهم عن أبي إسحاق الشيباني ، واسمه : سليمان بن أبي سليمان ، عن عبد الله بن أبي أوفى .
أبو عبيدة : هو عبد الواحد بن واصل الحداد ، وهو ثقة من شيوخ أحمد . مترجم في التهذيب ، وابن أبي حاتم 3/1/24 ، وتاريخ بغداد 11 : 3 - 5 .
ووقع في المطبوعة في هذا الجزء من الإسناد : " حدثنا أبو عبيدة وأبو معاوية ، عن شيبان " . وهو خطأ واضح ، ليس لشيبان صلة بهذا الإسناد . صوابه : " عن الشيباني " ، كما أثبتناه .
والحديث رواه البخاري 4 : 156 ، من طريق سفيان بن عيينة ، و 171 - 172 ، من طريق خالد بن عبد الله الواسطي ، و 172 ، من طريق عبد الواحد بن زياد العبدي ، و 173 ، من طريق أبي بكر بن عياش . ورواه مسلم 1 : 303 ، من طريق هشيم ، وعلي بن مسهر ، وعباد بن العوم ، وعبد الواحد بن زياد ، وسفيان ، وجرير ، وشعبة . ورواه أبو داود : 2352 ، من طريق عبد الواحد بن زياد - كلهم عن أبي إسحاق الشيباني ، به ، نحوه .
جدح السويق في اللبن أو الماء : إذا خاضه وحركه حتى يختلط ويستوي . وقوله : " ضرب بيده " ، يعني أشار بيده مادا يده كفعل الضارب . و " ضرب " فعل من الأفعال التي تقع على كثير من الأعمال إلا قليلا . يقال : " ضرب في الأرض " ، و " ضرب بيده إلى الشيء " ، أهوى إليه ، و " ضرب على يده " ، و " ضرب يده إلى عمل كذا " .

(3/533)


3024 - حدثنا محمد بن المثنى قال ، حدثنا عبد الوهاب قال ، حدثنا داود ، عن رفيع ، قال : فرض الله الصيام إلى الليل ، فإذا جاء الليل فأنت مفطر إن شئت فكل ، وإن شئت فلا تأكل (1) .
3025 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الأعلى قال ، حدثنا داود ، عن أبي العالية : أنه سُئل عن الوصال في الصوم فقال : افترض الله على هذه الأمَّة صومَ النهار ، فإذا جاءَ الليل فإن شاء أكل ، وإن شاء لم يأكل.
3026 - حدثني يعقوب ، قال : حدثني ابن علية ، عن داود بن أبي هند ، قال : قال أبو العالية في الوصال في الصوم ، قال : قال الله : " ثم أتموا الصيام إلى الليل " فإذا جاء الليل فهو مفطر ، فإن شاء أكل ، وإن شاء لم يأكل.
3027 - حدثني المثنى قال ، حدثنا ابن دكين ، عن مسعر ، عن قتادة ، قال : قالت عائشة : أتموا الصيامَ إلى الليل - يعني : أنها كرهت الوصال.
* * *
__________
(1) الأثر : 3024 - رفيع ، هو رفيع بن مهران أبو العالية الرياحي ، ذكر مئات من المرات بكنيته . أدرك الجاهلية وأسلم بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم بسنتين . مات سنة 90 . وداود هو ابن أبي هند . وانظر الإسنادين التاليين .

(3/534)


قال أبو جعفر : فإن قال قائل : فما وجه وصال مَنْ واصَل ؟ فقد علمت بما :
3028 - حدثكم به أبو السائب قال ، حدثنا حفص ، عن هشام بن عروة ، قال : كان عبد الله بن الزبير يُواصل سبعة أيام ، فلما كبِر جعلها خمسا ، فلما كبِر جدًّا جعلها ثلاثا.
3029 - حدثنا أبو السائب قال ، حدثنا حفص ، عن عبد الملك ، قال : كان ابن أبي يعمر يفطر كل شهر مرة.
3030 - حدثنا ابن أبي بكر المقدّمي قال ، حدثنا الفروي ، قال : سمعت مالكا يقول : كان عامر بن عبد الله بن الزبير يواصل ليلةَ ستَّ عشرة وليلة سبعَ عشرة من رمضان لا يفطر بينهما ، فلقيته فقلت له : يا أبا الحارث ماذا تجدُه يقوِّيك في وصَالك ؟ قال : السمْن أشرُبه أجده يُبلّ عروقي ، فأما الماء فإنه يخرج من جسدي (1) .
وما أشبه ذلك ممن فعل ذلك ، ممن يطولُ بذكرهم الكتاب ؟
قيل : وجه من فعل ذلك إن شاء الله تعالى على طلب الخموصة لنفسه والقوة (2) لا على طلب البرّ لله بفعله. وفعلهم ذلك نظيرُ ما كان عمر بن الخطاب يأمرهم به بقوله :
" اخشَوشِنوا وَتمعْددوا ، وانزوا على الخيل نزوًا ، واقطعوا الرُّكُب وامشوا حُفاة " (3) .
__________
(1) الخبر : 3030 - ابن أبي بكر المقدمي : هو أبو عثمان أحمد بن محمد بن أبي بكر المقدمي ، شيخ الطبري . و " الفروي " بفتح الفاء وسكون الراء : هو إسحاق بن محمد بن أبي فروة ، وقد سبق مثل هذا الإسناد إلى مالك : 876 . ولكن قال الطبري هناك : " حدثنا أبو عثمان المقدمي " . وهنا لم يذكر اسمه ولا كنيته ، بل نسبه إلى جده .
(2) " الخموصة " مصدر خمص بطنه خمصا (بسكون الميم وفتحها) وخماصة . ولم يذكروا " الخموصة " في كتب اللغة ، وهو عربي عريق كقولهم : الفسالة والفسولة ، والرذالة والرذولة ، وفارس بين الفراسة والفروسة ، ورجل جلد بين الجلادة والجلودة ، وبطل بين البطالة والبطولة ، وأشباه ذلك .
(3) اخشوشن الرجل : لبس الخشن وتعوده ، وأكل الخشن ، وعاش عيشا خشنا وبالغ في التخشن . وتمعدد الرجل : تشبه بعيش معد بن عدنان في التشظف وترك التزيي بزي العحم . يعني : اصبروا على عيش معد في الحضر والسفر ، وتشبهوا بلباسه ، ودعوا زي الأعاجم . النزو : الوثب ، يأمرهم أن يثبوا على الخيل وثبا بلا استعانة بركاب . والركب جمع ركاب : وهو ما يكون في سرج الفرس يضع الراكب فيه رجله ، فإذا كان مثله في رحل البعير سمي " الغرز " .

(3/535)


يأمرهم في ذلك بالتخشن في عيشهم ، لئلا يتنعموا فيركنوا إلى خَفْض العيش ويميلوا إلى الدعة فيجبُنوا ويحتموا عن أعدائهم.
وقد رَغِب - لمن واصل - عن الوصال كثيرٌ من أهل الفضل :
3032 - حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي قال ، حدثنا سفيان ، عن أبي إسحاق : أنّ ابن أبي نُعم كان يواصل من الأيام حتى لا يستطيع أن يقومَ ، فقال عمرو بن ميمون : لو أدرَك هذا أصحابُ محمد صلى الله عليه وسلم رَجمُوه (1) .
ثم في الأخبار المتواترة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالنهي عن الوصال التي يطول بإحصائها الكتاب تركنا ذكر أكثرها استغناء بذكر بعضها ، إذ كان في ذكر ما ذكرنا مُكتفًى عن الاستشهاد على كراهة الوصال بغيره.
3033 - حدثنا ابن المثنى قال ، حدثنا يحيى بن سعيد ، عن عبيد الله ، قال : أخبرني نافع ، عن ابن عمر : أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم نَهى عن الوصال ، قالوا : إنك تُواصلُ يا رَسول الله! قال : إني لست كأحدٍ منكم ، إني أبيت أُطعَم وأسقَى (2) .
وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم الإذنُ بالوصال من السحر إلى السَّحر.
3034 - حدثني محمد بن عبد الله بن عبد الحكم المصري قال ، حدثنا
__________
(1) الأثر : 3032 - ابن أبي نعم ، هو " عبد الرحمن بن أبي نعم البجلي " الكوفي العابد . قال بكير بن عامر : لو قيل لعبد الرحمن : " قد توجه ملك الموت إليك يريد قبض روحك! " ما كانت عنده زيادة على ما هو فيه . وكان صبورا على الجوع الدائم ، وهو الذي دخل على الحجاج في أيام الجماجم فوعظه . وأخذه الحجاج ليقتله ، وأدخله بيتا مظلما ، وسد الباب خمسة عشر يوما ، ثم أمر بالباب ففتح ليخرج فيدفن . فدخلوا عليه فإذا هو قائم يصلي . فقال له الحجاج : سر حيث شئت .
(2) الحديث : 3033 - يحيى بن سعيد : هو القطان .
عبيد الله : هو ابن عمر بن حفص بن عاصم ، مضت ترجمته : 2740 . ووقع في المطبوعة هنا " عن عبد الله " - يعني بالتكبير . و " عبد الله " : هو العمري ، وهو أخو " عبيد الله " . بالتصغير - في هذا الإسناد ، لأن القطان رواه عن " عبيد الله " ، ولأن القطان كان لا يحدث عن " عبد الله " ، كما روي ذلك عند ابن أبي حاتم 2/2/109 في ترجمة " عبد الله " ، وكذلك نقل في التهذيب في ترجمته .
والحديث رواه أحمد في المسند : 4721 ، عن يحيى القطان ، عن عبيد الله ، بهذا الإسناد . ورواه أيضًا : 5795 ، عن محمد بن عبيد ، و 6299 ، عن ابن نمير - كلاهما عن عبيد الله . وكذلك رواه مسلم 1 : 303 ، من طريق ابن نمير .
ورواه مالك في الموطأ ، ص : 300 ، عن نافع ، عن ابن عمر . وكذلك رواه أحمد : 5917 ، 6125 . والبخاري 4 : 177 - كلاهما من طريق مالك .
ورواه أحمد أيضًا : 6416 ، ومسلم 1 : 303 - كلاهما من طريق عبد الوارث ، عن أيوب ، عن نافع .
وأما رواية " عبد الله " العمري - فقد رواه أحمد : 4752 ، عن وكيع ، عن العمري ، عن نافع .

(3/536)


شعيب ، عن الليث ، عن يزيد بن الهاد ، عن عبد الله بن خباب ، عن أبي سعيد الخدري : أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : لا تواصلوا ، فأيُّكم أراد أن يُواصل فليواصل حتى السَّحر. قالوا : يا رسول الله ، إنك تواصل! قال : إني لست كهيئتكم ، إنّي أبيت لي مُطعم يُطعمني ، وَساقٍ يسقيني (1) .
3035 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا أبو نعيم قال ، حدثنا أبو إسرائيل
__________
(1) الحديث : 3034 - شعيب : هو ابن الليث بن سعد الإمام ، وهو ثقة معروف ، أخرج له مسلم وغيره . ووقع في المطبوعة " أبو شعيب " ! وزيادة " أبو " خطأ ، لا معنى لها ولا موضع .
يزيد بن الهاد : هو يزيد بن عبد الله بن أسامة بن الهاد ، مضت ترجمته في : 2031 .
عبد الله بن خباب - بفتح الخاء المعجمة وتشديد الباء الموحدة - مولى بني عدي بن النجار : تابعي ثقة ، وثقه أبو حاتم والنسائي ، وروى له أصحاب الكتب الستة .
والحديث رواه البخاري 4 : 177 ، عن عبد الله بن يوسف ، عن الليث ، بهذا الإسناد .
ورواه أحمد في المسند : 11070 (3 : 8 حلبي) ، عن قتيبة بن سعيد ، عن بكر بن مضر ، عن ابن الهاد - وكذلك رواه أبو داود : 2361 ، عن قتيبة .
ورواه أحمد أيضًا : 11845 ( 3 : 87 حلبي) ، عن أبي سعيد ، عن عبد الله بن جعفر عن ابن الهاد .
ورواه البخاري أيضًا 4 : 181 ، من طريق ابن أبي حازم ، عن ابن الهاد .
وذكره السيوطي 1 : 200 ، ونسبه للبخاري وأبي داود ؟
وذكره أيضًا ابن كثير 1 : 426 ، وقال : " أخرجاه في الصحيحين " فوهم وهما شديدا ، رحمه الله فإن مسلما لم يخرجه في صحيحه . وقد نص الحافظ في الفتح 4 : 217 ، في آخر كتاب الصيام ، على أنه من أفراد البخاري .

(3/537)


العبسي ، عن أبي بكر بن حفص ، عن أمِّ وَلد حاطب بن أبي بَلتعة : أنها مرّت برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يتسحَّر ، فدعاها إلى الطعام فقالت : إنّي صَائمة ، قال : وكيف تصومين ؟ فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم ، فقال : أين أنت من وصال آل محمد صلى الله عليه وسلم من السَّحر إلى السَّحر. (1) .
* * *
فتأويل الآية إذًا : ثم أتموا الكفَّ عما أمركم الله بالكفّ عنه ، من حين يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر إلى الليل ، ثم حَلّ لكم ذلك بعدَه إلى مثل ذلك الوقت. كما :
3036 - حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : " ثم أتمُّوا الصيامَ إلى الليل " قال : من هذه الحدود الأربعة ، فقرأ : " أحِلّ لكم
__________
(1) الحديث : 3035 - أبو نعيم : هو الفضل بن دكين - بضم الدال المهملة وفتح الكاف - ثقة حافظ من شيوخ أحمد ، قال أحمد : " هو على قلة روايته أثبت من وكيع " ، وقال أيضًا : " كان يقظان في الحديث ، عارفا به " .
أبو إسرائيل العبسي : هو إسماعيل بن خليفة الملائي - بضم الميم وتخفيف اللام وهمزة بعد الألف . وهو ضعيف ، بينا ضعفه في شرح المسند : 974 .
أبو بكر بن حفص : هو عبد الله بن حفص بن عمر بن سعد بن أبي وقاص . وهو تابعي ثقة ، أخرج له أصحاب الكتب الستة .
أم ولد حاطب بن أبي بلتعة : لم أعرف من هي ، ولا وجدت لها ترجمة ولا ذكرا . ولو صح الإسناد إليها لم يكن بذلك بأس ، لأن جهالة الصحابي لا تضر . ولكن الإسناد ضعيف .
وهذا الحديث لم أجده عند أحد غير الطبري . وقد نقله عنه ابن كثير 1 : 426 ، بإسناده . ولم يزد شيئا في تخريجه . ولم يذكره السيوطي .

(3/538)


ليلةَ الصيام الرفثُ إلى نسائكم " فقرأ حتى بَلغ : " ثم أتمُّوا الصيام إلى الليل " وكان أبي وغيره من مَشيختِنا يقولون هذا ويتلونه علينا (1) .
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ }
قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره - بقوله : " ولا تباشرُوهن " لا تجامعوا نساءكم (2) .
* * *
وبقوله : " وأنتم عَاكفونَ في المساجد " يقول : في حال عُكوفكم في المساجد ، وتلك حال حَبْسهم أنفسَهم على عبادة الله في مساجدهم.
* * *
" والعكوف " أصله المقام ، وحبسُ النفس على الشيء (3) كما قال الطِّرِمَّاح بن حَكيم :
فَبَاتَ بَنَاتُ اللَّيْلِ حَوْلِيَ عُكفًّا... عُكُوفَ البَواكِي بَيْنَهُنَّ صَرِيعُ (4)
__________
(1) الأثر : 3036 - أبوه ، هو زيد بن أسلم العدوي أبو أسامة الفقيه مولى عمر . روى عن أبيه وابن عمر وأبي هريرة وعائشة وطائفة من أصحاب رسول الله ، كان ثقة من أهل الفقه والعلم ، وكان عالما بتفسير القرآن . مات سنة 136 .
(2) انظر تفسير " المباشرة " فيما سلف قريبا : 503 - 505 .
(3) انظر تفسير " العكوف " فيما سلف من هذا الجزء 3 : 41 ، 42 .
(4) ديوانه : 153 ، واللسان (بنو) غير منسوب عن ثعلب ، ورواه : " بينهن قتيل " . وقال الثعالبي في المضاف والمنسوب : 219 : " بنات الليل " : الأحلام ، والنساء ، وأهوال الليل ، والمنى ، وبكلها جاء الشعر " . وأراد الطرماح : ما يعالج من ذكرى صاحبته ، وما يخالط ذلك من منى وهموم وشقاء يشقى به من حسرة وشوق ولهفة . وهو بيت جميل المعنى ، جيد التصوير . جعل ذكرياته قد استدارت حوله تبكي عليه ، وهو بينهن صريع قد قضى نحبه .

(3/539)


يعني بقوله : " عكفا " ، مقيمة ، وكما قال الفرزدق :
تَرَى حَوْلَهُنَّ المُعْتَفِينَ كأنَّهُمْ... عَلَى صَنَمٍ فِي الجَاهِلِيَّةِ عُكَّفُ (1)
* * *
وقد اختلف أهل التأويل في معنى " المباشرة " التي عنى الله بقوله : " ولا تُباشروهن " . فقال بعضهم : معنى ذلك الجماعُ دون غيره من معاني " المباشرة " .
* ذكر من قال ذلك :
3037 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله بن صالح ، قال ، حدثني معاوية بن صالح ، عن على بن أبي طلحة ، عن ابن عباس في قوله : " ولا تُباشروهنّ وأنتم عَاكفون في المساجد " - في رمضان أو في غير رمضان ، فحرَّم الله أن يَنكح النساء ليلا ونهارا حتى يَقضي اعتكافه.
3038 - حدثني المثنى قال ، حدثنا سويد ، قال : أخبرنا ابن المبارك ، عن ابن جريج ، قال : قال لي عطاء : " ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد " قال : الجماع.
__________
(1) ديوانه : 561 ، والنقائض : 563 ، من أبيات جياد يصف فيها قدور أهله الكرام ، يقول قبله : وَقَدْ عَلِمَ الأَقْوامُ أنّ قُدُورنَا ... ضَوَامِنُ للأرْزَاقِ والرِّيحُ زَفْزَفُ
نَعَجِّلُ للضِّيفَانِ في المَحْلِ بالقِرَى ... قُدُروًا بمَعْبُوطٍ ، تُمَدُّ وتُعْزَفُ
تُفَرَّغُ فِي شِيزَىَ كأنَّ جِفَانَهَا ... حِيَاضُ جِبًي ، منها مِلاَءٌ ونُصَّفُ
الشيزى : خشب منه القدور تصنع . حياض جبي : حياض يجمع فيها الماء فهي ملأى أبدا . والمعتفون : الذين جاءوا يطلبون الرزق . يصفهم جياعا قد ثبتوا في أماكنهم ينتظرون ، متلهفين وهم يكظمون أنفسهم ، قد ماتت أصواتهم ، كأنهم عباد قد خشعوا وخضعوا وأملوا .

(3/540)


3039 - حدثنا سفيان بن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن علقمة بن مرثد ، عن الضحاك ، قال : كانوا يُجامعون وهم مُعتكفون ، حتى نزلت : " ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد " .
3040 - حدثنا المثنى قال ، حدثنا سويد ، قال : أخبرنا ابن المبارك ، عن سفيان ، عن علقمة بن مرثد ، عن الضحاك في قوله : " ولا تباشروهنّ وأنتم عاكفون في المساجد " قال : كان الرجل إذا اعتكف فخرج من المسجد جامع إن شاء ، فقال الله : " ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد " يقول : لا تقرَبوهن ما دمتم عاكفين في مسجد ولا غيره.
3041 - حدثني المثنى قال ، حدثنا سويد ، قال : أخبرنا ابن المبارك عن جويبر عن الضحاك نحوه.
3042 - حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق قال ، حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع ، قال : كان أناس يُصيبون نساءهم وهم عاكفون فيها فنهاهم الله عن ذلك.
3043 - وحدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : " ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد " ، قال : كان الرجل إذا خرج من المسجد وهو معتكف ولقي امرأته باشرها إن شاء ، فنهاهم الله عز وجل عن ذلك ، وأخبرهم أنّ ذلك لا يصلح حتى يَقضيَ اعتكافه.
3044 - حدثنا موسى بن هارون قال ، حدثنا عمرو بن حماد قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : " ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد " يقول : من اعتكف فإنه يصوم ، لا يَحل له النساء ما دام معتكفا.
3045 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : " ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد " قال : الجوارُ ، فإذا خرج أحدكم من بيته إلى بيت الله فلا يقرب النساء.

(3/541)


3046 - حدثنا المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد قال : كان ابن عباس يقول : من خرج من بيته إلى بيت الله فلا يقرَب النساء.
3047 - حدثنا الحسن بن يحيى ، قال ، أخبرنا عبد الرزاق ، قال ، أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : " ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد " ، قال : كان الناس إذا اعتكفوا يخرُج الرجل فيباشر أهله ثم يرجع إلى المسجد ، فنهاهم الله عن ذلك.
3048 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين ، قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قال ابن عباس ، كانوا إذا اعتكفوا فخرج الرجل إلى الغائط جامع امرأته ، ثم اغتسل ، ثم رجع إلى اعتكافه ، فنُهوا عن ذلك قال ابن جريج : قال مجاهد : نُهوا عن جماع النساء في المساجد ، حيث كانت الأنصار تجامِع ، فقال : " لا تباشروهن وأنتم عاكفون " قال : " عاكفون " ، الجوارُ قال ابن جريج : فقلت لعطاء : الجماعُ المباشرة ؟ قال : الجماع نفسه! فقلت له : فالقُبلة في المسجد والمسَّة ؟ فقال : أما ما حُرِّم فالجماع ، وأنا أكره كل شيء من ذلك في المسجد.
3049 - حدثت عن حسين بن الفرج قال ، حدثنا الفضل بن خالد قال ، حدثنا عبيد بن سليمان ، عن الضحاك : " ولا تباشروهن " يعني الجماع.
* * *
وقال آخرون : معنى ذلك على جميع معاني " المباشرة " من لَمْس وقُبلة وجماع.
* ذكر من قال ذلك :
3050 - حدثني يونس ، قال ، أخبرنا ابن وهب ، قال ، قال مالك بن أنس : لا يمس المعتكف امرأته ، ولا يباشرُها ، ولا يتلذذ منها بشيء ، قُبلةٍ ولا غيرها (1) .
__________
(1) في الموطأ : 318 بنصه .

(3/542)


3051 - حدثني يونس ، قال ، أخبرنا ابن وهب ، قال ، قال ابن زيد في قوله : " ولا تُباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد " قال : المباشرة الجماعُ وغيرُ الجماع ، كلُّه محرم عليه ، قال : " المباشرة " بغير جماع ، إلصاقُ الجلد بالجلد.
* * *
قال أبو جعفر : وعلة من قال هذا القول : أن الله تعالى ذكره عمّ بالنهي عن المباشرة ، ولم يخصص منها شيئا دون شيء. فذلك على ما عمَّه ، حتى تأتي حُجة يجب التسليم لها بأنه عنى به مباشرةً دون مباشرةٍ.
* * *
وأولى القولين عندي بالصواب قول من قال : معنى ذلك : الجماعُ ، أو ما قام مقامَ الجماع ، مما أوجبَ غسلا إيجابَه. وذلك أنه لا قول في ذلك إلا أحد قولين :
إما جعل حكم الآية عامًّا ، أو جَعل حكمها في خاصٍّ من معاني المباشرة. وقد تظاهرت الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : أن نساءه كنّ يُرجِّلنه وهو معتكف ، فلما صح ذلك عنه ، عُلم أنّ الذي عنى به من معاني المباشرة ، البعض دون الجميع.
3052 - حدثنا علي بن شعيب قال ، حدثنا معن بن عيسى القزاز ، قال ، أخبرنا مالك. عن الزهري ، عن عروة وعن عمرة ، عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا اعتكف يُدني إليّ رأسه فأرَجِّله (1) .
__________
(1) الحديث : 3052 - هكذا رواه مالك في الموطأ ، ص : 312 ، عن الزهري ، عن عروة بن الزبير ، عن عمرة بنت عبد الرحمن ، عن عائشة . فزاد في الإسناد " عمرة " بين عروة وعائشة .
وكذلك رواه مسلم 1 : 95 ، وأبو داود : 2467 - كلاهما من طريق مالك . وكذلك رواه الترمذي 2 : 72 ، من طريقه ، مع خطأ من الناسخين . وقال أبو داود : " لم يتابع أحد مالكا على " عروة عن عمرة " . ورواه معمر وزياد بن سعد وغيرهما : عن الزهري : عن عروة ، عن عائشة " . وقال الترمذي : " هكذا رواه غير واحد : عن مالك بن أنس ، عن ابن شهاب ، عن عروة ، عن عمرة ، عن عائشة . والصحيح : عن عروة وعمرة ، عن عائشة . هكذا روى الليث ، عن ابن شهاب ، عن عروة وعمرة ، عن عائشة " .
وقال الحافظ في الفتح 4 : 236 " واتفقوا على أن الصواب قول الليث ، وأن الباقين اختصروا منه ذكر عمرة ، وأن ذكر عمرة في رواية مالك - من المزيد في متصل الأسانيد " . وهذا من الحافظ - عندي - تكلف لا داعي له . ومالك ، على إمامته وعلمه وحفظه . يخطئ كما يخطئ الناس ، فالظاهر أنه نسي في بعض أحيانه ، فجعل " عروة عن عمرة " بدل " عروة وعمرة " . وقد ثبت عن مالك أنه كان يرويه أحيانا على الصواب ، كما يظهر مما يأتي في : 3056 .

(3/543)


3053 - حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال ، أخبرني يونس ، عن ابن شهاب ، عن عروة بن الزبير وعمرة : أن عائشة قالت : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن يدخل البيت إلا لحاجة الإنسان ، وكان يدخل عليّ رأسَه وهو في المسجد فأرجِّلُه (1) .
3054 - حدثنا سفيان بن وكيع قال : حدثنا أبي عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة ، قالت : كان النبي صلى الله عليه وسلم يُدني إليَّ رأسه وهو مُجاورٌ في المسجد وأنا في حجرتي وأنا حائض ، فأغسله وأرَجِّله (2) .
3055 - حدثنا سفيان قال ، حدثنا ابن فضيل ، ويعلى بن عبيد ، عن الأعمش ، عن تميم بن سلمة ، عن عروة ، عن عائشة قالت : كان النبي صلى الله عليه وسلم
__________
(1) الحديث : 3053 - يونس ، شيخ الطبري : هو ابن عبد الأعلى الصدفي - بفتح الصاد والدال المهملتين . مضت ترجمته : 1679 .
ويونس - شيخ ابن وهب : هو ابن يزيد الأيلي . مضت ترجمته : 2377 .
وهذا الحديث تكرار للذي قبله . وقد رواه يونس عن الزهري ، عن عروة بن الزبير وعمرة بنت عبد الرحمن - معا - عن عائشة ، على الصواب .
وقد تابعه على ذلك الليث بن سعد عن الزهري . فرواه البخاري 4 : 236 ، ومسلم 1 : 95 - 96 . وأبو داود : 2468 ، والترمذي 2 : 72 - كلهم من طريق الليث ، عن الزهري ، عن عروة وعمرة - معا - عن عائشة .
(2) الحديث : 3054 - سفيان بن وكيع : فيه ضعف ، كما قدمنا مرارا . ولكنه لم ينفرد بروايته من هذا الوجه ، كما سنذكر .
فقد رواه ابن ماجه : 1778 ، عن علي بن محمد ، عن وكيع ، بهذا الإسناد .
وكذلك رواه البخاري 4 : 236 ، من طريق يحيى و 10 : 310 ، من طريق مالك . ورواه مسلم 1 : 96 ، من طريق أبي خيثمة . ورواه أبو داود : 2469 . من طريق حماد بن زيد . والنسائي 1 : 68 ، من طريق مالك أيضًا - كلهم عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة . والحديث مكرر ما قبله .

(3/544)


يعتكفُ فيخرجُ إليَّ رأسه من المسجد وهو عاكفٌ ، فأغسِله وأنا حائض (1) .
3056 - حدثني محمد بن معمر قال ، حدثنا حماد بن مسعدة قال ، حدثنا مالك بن أنس ، عن الزهري وهشام بن عروة جميعا ، عن عروة ، عن عائشة : أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يُخرج رَأسه فأرجّله وهو معتكف (2) .
* * *
فإذْ كان صحيحا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما ذكرنا من غَسل عائشة
__________
(1) الحديث : 3055 - سفيان : هو ابن وكيع . ابن فضيل : هو محمد .
تميم بن سلمة السلمي الكوفي : ثقة ، وثقه ابن معين وغيره . والحديث رواه أيضًا النسائي 1 : 68 ، من طريق الفضيل بن عياض ، عن الأعمش . بهذا الإسناد .
وهو مكرر ما قبله .
(2) الحديث : 3056 - محمد بن معمر ، شيخ الطبري : مضت ترجمته : 241 . حماد بن مسعدة البصري : ثقة من شيوخ أحمد وإسحاق ، وثقه ابن سعد ، وأبو حاتم . وغيرهما . والحديث مكرر ما قبله .
وقد روى حماد بن مسعدة هذا الحديث عن مالك - على الصواب : أنه من رواية مالك عن الزهري عن عروة عن عائشة ، وعن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة ، دون وساطة " عمرة " بين عروة وخالته عائشة . خلافا للرواية التي في الموطأ بإثبات الوساطة . والتي مضى مثلها : 3052 من رواية معن بن عيسى عن مالك . فكأن مالكا سها في تلك الرواية ، حين جعل " عمرة " بين عروة وعائشة ، وكان يذكر الصواب أحيانا ، فيرويه من حديث عروة عن عائشة مباشرة . والحديث ثابت من رواية عروة عن عائشة ، ومن رواية عمرة عن عائشة ، سمعه الزهري كذلك من عروة ، ومن عمرة ، كما بينا في : 3053 . وسمعه هشام بن عروة من أبيه عن عائشة ، كما مضى في 3054 ، وفي طرقه التي خرجناها هناك .
وكذلك رواه البخاري من هذا الوجه ، ولكنه فرقه حديثين بإسناد واحد : فرواه 10 : 310 ، عن عبد الله بن يوسف : " أخبرنا مالك ، عن ابن شهاب ، عن عروة بن الزبير ، عن عائشة " - فذكره مختصرا . ثم قال : " حدثنا عبد الله بن يوسف ، أخبرنا مالك ، عن هشام ، عن أبيه ، عن عائشة - مثله " .
وقد تابعه على ذلك معمر - في الزهري . فرواه البخاري 4 : 246 ، من طريق هشام بن يوسف . ورواه النسائي 1 : 68 ، من طريق عبد الأعلى - كلاهما عن معمر ، عن الزهري ، عن عروة ، عن عائشة .
ويؤيده هذه الرويات - في أن عروة رواه عن عائشة مباشرة : رواية مسلم إياه 1 : 96 ، من رواية عمرو بن الحارث ، عن محمد بن عبد الرحمن بن نوفل ، عن عروة ، عن عائشة ، دون واسطة .

(3/545)


رأسه وهو معتكف ، فمعلوم أن المراد بقوله : " ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد " ، غيرُ جميع ما لزمه اسم " المباشرة " وأنه معنيٌّ به البعض من معاني المباشرة دون الجميع. فإذا كان ذلك كذلك ، وكان مجمَعًا على أنّ الجماع مما عُني به ، كان واجبا تحريم الجماع على المعتكف وما أشبهه ، وذلك كلُّ ما قام في الالتذاذ مقامه منَ المباشرة.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَقْرَبُوهَا }
قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بذلك : هذه الأشياء التي بيّنتها : من الأكل والشرب والجماع في شهر رمضان نهارا في غير عذر ، وجماع النساء في الاعتكاف في المساجد ، يقول : هذه الأشياءَ حدّدتها لكم ، وأمرْتكم أن تجتنبوها في الأوقات التي أمرتكم أن تجتنبوها ، وحرَّمتها فيها عليكم ، فلا تقرَبوها ، وابعُدوا منها أن تركبوها ، فتستحقُّوا بها من العقوبة ما يستحقه من تعدّى حُدودي ، وخالف أمري وركب معاصيَّ.
* * *
وكان بعض أهل التأويل يقول : " حدود الله " : شروطه. وذلك معنى قريب من المعنى الذي قلنا ، غيرَ أن الذي قلنا في ذلك أشبه بتأويل الكلمة.
وذلك أن " حد " كل شيء : ما حَصره من المعاني وميَّز بينه وبين غيره ، فقوله : " تلك حدود الله " من ذلك ، يعني به المحارم التي ميّزها من الحلال المطلق فحدَّدها بنعوتها وصفاتها ، وعرَّفها عبادَه.
* * *
ذكر من قال إنّ ذلك بمعنى الشُّروط :

(3/546)


3057 - حدثني موسى بن هارون قال ، حدثنا عمرو بن حماد قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي ، قال : أما " حدود الله " فشروطه.
* * *
وقال بعضهم : " حدود الله " معاصيه.
* ذكر من قال ذلك :
3058 - حدثت عن الحسين بن الفرج ، قال : سمعت الفضل بن خالد قال ، حدثنا عبيد بن سليمان ، عن الضحاك : " تلك حدود الله " يقول : معصية الله - يعني المباشرةَ في الاعتكاف.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (187) }
قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بذلك : كما بينت لكم أيها الناس واجبَ فرائضي عليكم من الصوم ، وعرّفتكم حدودَه وأوقاته ، وما عليكم منه في الحضر ، وما لكم فيه في السفر والمرض ، وما اللازم لكم تجنُّبه في حال اعتكافكم في مساجدكم ، فأوضحت جميعَ ذلك لكم - فكذلك أبيِّن أحكامي ، وحلالي وحرامي ، وحدودي ، وأمري ونهيي ، في كتابي وتنزيلي ، وعلى لسان رسولي صلى الله عليه وسلم للناس.
* * *
ويعني بقوله : " لعلهم يتقون " يقول : أبيِّن ذلك لهم ليتقوا مَحارمي ومعاصيَّ ، ويتجنَّبوا سَخطي وَغضبي ، بتركهم رُكوبَ ما أبيِّن لهم في آياتي أني قد حرَّمته عليهم ، وأمرتهم بهجره وتركه.
* * *

(3/547)


وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (188)

القول في تأويل قوله تعالى : { وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (188) }
قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بذلك : ولا يأكل بعضُكم مالَ بعض بالباطل. فجعل تعالى ذكره بذلك آكلَ مال أخيه بالباطل ، كالآكل مالَ نَفسه بالباطل.
ونَظيرُ ذلك قولهُ تعالى : ( وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ ) [سورة الحجرات : 11] وقوله : ( وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ) [سورة النساء : 29] بمعنى : لا يلمزْ بعضكم بعضا ، ولا يقتُلْ بعضكم بعضا (1) لأن الله تعالى ذكره جعل المؤمنين إخوة ، فقاتل أخيه كقاتل نفسه ، ولامزُه كلامز نفسه ، وكذلك تفعل العرب تكني عن نفسها بأخواتها ، وعن أخواتها بأنفسها ، فتقول : " أخي وأخوك أيُّنا أبطش " . يعني : أنا وأنت نصْطرع ، فننظر أيُّنا أشدّ (2) - فيكني المتكلم عن نفسه بأخيه ، لأن أخا الرجل عندها كنفسه ، ومن ذلك قول الشاعر : (3)
أخِي وَأَخُوكَ بِبَطْنِ النُّسَيْرِ... لَيْسَ بِهِ مِنْ مَعَدٍّ عَرِيبْ (4)
* * *
__________
(1) انظر ما سلف مثل ذلك في 2 : 300 ، ثم الآية : 85 من سورة البقرة 2 : 303 لم يذكر فيها شيئا من ذلك . ولم يبين هذا البيان فيما سلف . وهذا دليل على أنه كان أحيانا يختصر الكلام اختصارا ، اعتمادا على ما مضى من كلامه ، أو ما يستقبل منه . كما قلت في مقدمة التفسير .
(2) انظر تأويل مشكل القرآن : 114 ، هذا بنصه .
(3) هو ثعلبة بن عمرو (حزن) العبدي ، ابن أم حزنة . ويقال هو من بني شيبان حليف في عبد القيس . وكان من الفرسان (الاشتقاق لابن دريد : 197) . وانظر التعليق التالي .
(4) المفضليات : 513 ، وتأويل مشكل القرآن : 114 ، معجم ما استعجم : 1038 . وفي المطبوعة : " ليس لنا " ، وأثبت ما في المراجع ، وكأنها الصواب . ويقال : ليس بالدار عريب ، أي ليس بها أحدا . و " النسير " ، تصغير " النسر " ، وهو مكان بديار بني سليم . بيد أن ياقوت نقل عن الحازمي أنه بناحية نهاوند ، واستشهد بهذا البيت . فإن يكن ذلك فابن أم حزنة هذا إسلامي : قال ياقوت ، قال سيف : " سار المسلمون من مرج القلعة نحو نهاوند ، حتى انتهوا إلى قلعة فيها قوم ، ففتحوها ، وخلفوا عليها النسير بن ثور في عجل وحنيفة . وفتحها بعد فتح نهاوند ، ولم يشهد نهاوند عجلي ولا حنفي ، لأنهم أقاموا مع النسير على القلعة ، فسميت به " (انظر تاريخ الطبري 4 : 243 ، 251) .
فإن صح أن ابن أم حزنة كان في بعث المسلمين ، كان هذا البيت مؤيدا لهذا القول . فإنه يقول له : أنا وأنت ببطن النسير ، ليس معنا فيه من أبناء معد (وهم العرب) أحد . وأما عن الحازمي إذا كان الموضع ببلاد العرب ، فهو يقول : ليس به أحد ، وقوله " من معد " فضول من القول . وقد ترجح عندي أنه شاعر إسلامي ، من بعض شعره في المفضليات رقم 74 ، وفي الوحشيات رقم : 217 ، (وانظر من نسب إلى أمه رقم : 22 ، 32) ، وله شعر في حماسة البحتري : 97 ، 103 .
وإن صحت رواية الطبري : " ليس لنا من معد عريب " . فعريب ، في هذا البيت ، هو صاحبه الذي ذكره في أول الشعر فقال : إِنَّ عَرِبيًا وَإِنْ سَاءَني ... أَحَبُّ حَبِيبٍ وَأَدْنَى قَرِيبْ
فيكون قوله : " معد " مصدر " عد يعد " . يقول : أنا وأنت ببطن النسير وحدنا ، لا يعد معنا أحد ، يعني أنهما خاليين بالمكان ، ليس لك من ينصرك ولا لي من ينصرني ، فهناك يظهر صاحب للبأس منهما ، وقال بعد البيت : فأقْسَم بِاللّهِ لاَ يَأتَلِي ... وأقْسَمْتُ إِنْ نلتُهُ لاَ يَؤُوبْ
فَأَقْبَلَ نَحْوِي عَلَى قُدْرةٍ ... فَلَمَّا دَنَا صَدَقَتْه الكَذُوبْ

(3/548)


فتأويل الكلام : ولا يأكلْ بعضكم أموال بعضٍ فيما بينكم بالباطل.
" وأكله بالباطل " : أكله من غير الوجه الذي أباحه الله لآكليه.
* * *
وأما قوله : " وتُدلوا بها إلى الحكام " فإنه يعني : وتخاصموا بها - يعني : بأموالكم - إلى الحكام " لتأكلوا فريقا " طائفة (1) من أموال الناس بالإثم وأنتم تعلمون.
__________
(1) انظر ما سلف في تفسير " فريق " 2 : 224 ، 402 .

(3/549)


ويعني بقوله : " بالإثم " بالحرام الذي قد حرمه الله عليكم (1) " وأنتم تعلمون " ، أي : وأنتم تتعمَّدون أكل ذلك بالإثم ، على قصد منكم إلى ما حَرّم الله عليكم منه ، ومعرفةٍ بأن فعلكم ذلك معصية لله وإثم . (2) . كما :
3059 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو صالح ، قال : حدثني معاوية بن صالح ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : " ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتُدلوا بها إلى الحكام " فهذا في الرجل يكون عليه مالٌ ، وليس عليه فيه بيِّنة ، فيجحد المال ، فيخاصمهم فيه إلى الحكام وهو يعرف أنّ الحق عليه ، وهو يعلم أنه آثم : آكلٌ حراما.
3060 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله : " وتُدلوا بها إلى الحكام " قال : لا تخاصم وأنت ظالم.
3061 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد مثله.
3062 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : " ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتدلوا بها إلى الحكام " وكان يقال : من مشى مع خصمه وهو له ظالم ، فهو آثم حتى يرجع إلى الحق. واعلم يَا ابن آدم أن قَضاء القاضي لا يُحلّ لك حراما ولا يُحقّ لك باطلا وإنما يقضي القاضي بنحو ما يرَى ويشهدُ به الشهود ، والقاضي بَشر يخطئ ويصيب. واعلموا أنه من قد قُضي له بالباطل ، فإن خصومته لم تنقض حتّى يجمع الله بينهما يوم القيامة ، فيقضي على المبُطل للمحق ، بأجود مما قُضي به للمبطل على المحقّ في الدنيا (3) .
__________
(1) انظر ما سلف في تفسير " الإثم " من هذا الجزء 3 : 399 - 408 .
(2) في المطبوعة : " معصية الله " ، خطأ .
(3) في المطبوعة : " ويأخذ مما قضي به . . " ، والصواب ما أثبت من تفسير ابن كثير 1 : 430 .

(3/550)


3063 - حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : " وتدلوا بها إلى الحكام " قال : لا تدلِ بمال أخيك إلى الحاكم وأنتَ تعلم أنك ظالم ، فإن قضاءه لا يُحلّ لك شيئا كان حراما عليك.
3064 - حدثني موسى بن هارون قال ، حدثنا عمرو بن حماد قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : " ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتدلوا بها إلى الحكام لتأكلوا فريقا من أموال الناس بالإثم وأنتم تعلمون " أما " الباطل " يقول : يظلم الرجل منكم صاحبَه ، ثم يخاصمه ليقطع ماله وهو يعلم أنه ظالم ، فذلك قوله : " وتدلوا بها إلى الحكام " .
3065 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين ، قال ، حدثني خالد الواسطي ، عن داود بن أبي هند ، عن عكرمة قوله : " ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل " قال : هو الرجل يشتري السِّلعة فيردُّها ويردُّ معها دَرَاهم.
3066 - حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : " ولا تأكلوا أموالكم بَينكم بالباطل وتدلوا بها إلى الحكام " يقول : يكون أجدل منه وأعرَف بالحجة ، فيخاصمه في ماله بالباطل ليأكل ماله بالباطل. وقرأ : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ ) [سورة النساء : 29] قال : هذا القِمار الذي كان يَعمل به أهل الجاهلية.
* * *
وأصل " الإدلاء " : إرسال الرجل الدلو في سَبب متعلقا به في البئر. (1) فقيل للمحتج لدعواه : " أدلَى بحجة كيت وكيت " إذا كان حجته التي يحتج بها سببا
__________
(1) السبب : الحبل .

(3/552)


له ، هو به متعلقٌ في خصومته ، كتعلق المستقي من بئر بدَلو قد أرسلها فيها بسببها الذي الدلو به متعلقة ، يقال فيهما جميعا - أعني من الاحتجاج ، ومن إرسال الدلو في البئر بسبب : " أدلى فلان بحجته ، فهو يُدلي بها إدلاء وأدلى دلوه في البئر ، فهو يدليها إدلاء " .
* * *
فأما قوله : " وتدلوا بها إلى الحكام " ، فإن فيه وَجهين من الإعراب :
أحدهما : أن يكون قوله : " وتُدْلوا " جزما عطفا على قوله : " ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل " أي : ولا تدلوا بها إلى الحكام ، وقد ذُكر أن ذلك كذلك في قراءة أُبَيٍّ بتكرير حرف النهي : " وَلا تدلوا بها إلى الحكام " .
والآخر منهما : النصب على الصرْف ، (1) فيكون معناه حينئذ : لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وأنتم تدلون بها إلى الحكام ، كما قال الشاعر :
لا تَنْهَ عَنْ خُلُقٍ وَتَأْتِيَ مِثْلَهُ... عَارٌ عَلَيْكَ إذَا فَعَلْتَ عَظِيمُ (2)
يعني : لا تنه عن خلق وأنتَ تأتي مثله.
وهو أنْ يكون في موضع جزم - على ما ذُكر في قراءة أبيّ - أحسن منه أن يكون نَصبا.
* * *
__________
(1) في المطبوعة : " على الظرف " ، وهو محض خطأ . وقد مضى تفسير معنى " الصرف " في 1 : 569 - 570 ، واالتعليق : 1 .
(2) سلف تخريج هذا البيت في 1 : 569 ، إلا أني سهوت فلم أذكر أنه آت في هذا الموضع من التفسير ، وفي 9 : 146 (بولاق) ، فقيده . وانظر أيضًا معاني القرآن للفراء 1 : 115 .

(3/552)


يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (189) وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (190)

القول في تأويل قوله تعالى : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ }
قال أبو جعفر : ذكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سُئل عن زيادة الأهلة ونقصانها واختلاف أحوالها ، فأنزل الله تعالى ذكره هذه الآية ، جوابا لًهُم فيما سألوا عنه.
ذكر الأخبار بذلك :
3067 - حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتاده قوله : " يَسألُونك عن الأهلة قُلْ هيَ مواقيت للناس " ، قال قتادة : سألوا نبيَّ الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك : لم جُعلت هذه الأهلة ؟ فأنزل الله فيها ما تَسمعون : " هي مَواقيتُ للناس " ، فجعلها لصوم المسلمين ولإفطارهم ، ولمناسكهم وحجّهم ، ولعدة نسائهم وَمحلّ دَينهم في أشياء ، والله أعلم بما يُصلح خلقه.
3068 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع ، قال : ذكر لنا أنهم قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم : لم خُلقت الأهلة ؟ فأنزل الله تعالى : " يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيتُ للناس والحج " جعلها الله مواقيتَ لصوم المسلمين وإفطارهم ولحجهم ومناسكهم وعدّة نسائهم وَحلّ ديونهم (1) .
3069 - حدثنا الحسن بن يحيى ، قال ، أخبرنا عبد الرزاق ، قال ، أخبرنا
__________
(1) هكذا جاء في هذه الآثار 3068 ، 3070 ، 3072 ، 3073 " حل ديونهم " . والذي في كتب اللغة : " حل الدين يحل حلولا ومحلا (بكسر الحاء) " : أي وجب . وأستظهر أن يكون هذا المصدر " حلا " بفتح الحاء كنظائرها من اللغة كقولهم : " صد يصد صدا وصدودا " ، ولو كسرت الحاء لكان وجها . وهذه الرواية قاضية على صحة هذا المصدر .

(3/553)


معمر ، عن قتادة في قوله : " مواقيتُ للناس والحج " قال : هي مواقيت للناس في حجهم وصومهم وفطرهم ونُسكهم.
3070 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين ، قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قال الناس : لم خلقت الأهلة ؟ فنزلت : " يسألونك عن الأهلة قُل هي مواقيت للناس " ، لصَومهم وإفطارهم وَحجهم وَمَناسكهم - قال : قال ابن عباس : ووقتَ حجهم ، وعدة نسائهم ، وَحلّ دَينهم.
3071 - حدثني موسى بن هارون قال ، حدثنا عمرو بن حماد قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : " يسألونك عن الأهلة قلْ هي مواقيت للناس " فهي مواقيت الطلاق والحيض والحج.
3072 - حدثت عن الحسين بن الفرج قال ، حدثنا الفضل بن خالد قال ، حدثنا عبيد بن سليمان ، عن الضحاك : " يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس " ، يعني : حَلّ دينهم ، ووقت حجهم ، وعدة نسائهم.
3073 - حدثني محمد بن سعد ، قال ، حدثني أبي ، قال ، حدثني عمي ، قال ، حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قال : سأل الناسُ رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الأهلة ، فنزلت هذه الآية : " يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس " يعلمون بها حَلّ دينهم ، وعدة نسائهم ، ووقت حجهم.
3074 - حدثنا أحمد بن إسحاق قال ، حدثنا أبو أحمد ، عن شريك ، عن جابر ، عن عبد الله بن يحيى ، عن علي : أنه سئل عن قوله : " مواقيت للناس " ، قال : هي مواقيتُ الشهر : هكذا وهكذا وهكذا - وقبض إبهامه - فإذا رأيتموه فصوموا وإذا رأيتموه فأفطروا ، فإن غُمَّ عليكم فأتموا ثَلاثين (1) .
* * *
__________
(1) الخبر : 3074 - جابر : هو ابن يزيد الجعفي ، بينا أنه ضعيف جدا ، في : 2340 . وأما شيخه " عبد الله بن يحيى " : فما عرفت من هو ؟ وأكبر ظني أن الاسم محرف ، لم أستطع الوصول إلى صحته .
وهذا الخبر لم يذكره ابن كثير ، ولا السيوطي . وإنما أشار إليه ابن كثير إشارة 1 : 430 .
وقد ورد معناه مرفوعا ، في حديث صحيح ، رواه الحاكم 1 : 423 ، من حديث عبد الله بن عمر . وصححه ووافقه الذهبي . وذكره ابن كثير 1 : 430 ، من رواية عبد الرزاق ، ثم أشار إلى رواية الحاكم إياه . وذكره السيوطي 1 : 203 - 204 ، ونسبه أيضًا للبيهقي .

(3/554)


قال أبو جعفر : فتأويل الآية - إذا كان الأمرُ على ما ذكرنا عمن ذكرنا عنهُ قوله في ذلك - : يسألونك يا محمد عن الأهلة ومحاقها وسِرَارِها وَتمامها واستوائها ، وتغير أحوالها بزيادة ونُقصان وَمحاق واستسرار ، وما المعنى الذي خَالف بينه وبين الشمس التي هي دائمة أبدًا على حال واحدة لا تتغير بزيادة ولا نقصان ؟ - فقلْ يا محمد : خالف بين ذلك ربُّكم لتصييره الأهلة التي سألتم عن أمرها ، ومخالفة ما بينها وبين غيرها فيما خالف بينها وبينه مواقيتَ لكم ولغيركم من بني آدم في معايشهم ، ترقبون بزيادتها ونقصانها ومحاقِها واستسرارها وإهلالكم إياها ، أوقات حَلّ ديونكم ، وانقضاء مدة إجارة من استأجرتموه ، وتصرُّم عدة نسائكم ، ووقت صومكم وإفطاركم ، فجعلها مواقيت للناس.
* * *
وأما قوله " والحج " ، فإنه يعني : وللحجِّ ، يقول : وجعلها أيضًا ميقاتًا لحجكم ، تعرفون بها وقت مناسككم وحَجكم.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (189) }
قال أبو جعفر : قيل : نزلت هذه الآية في قوم كانوا لا يدخلون - إذا أحرموا - بيوتَهم من قبل أبوابها.

(3/555)


* ذكر من قال ذلك :
3075 - حدثنا محمد بن المثنى قال ، حدثنا محمد بن جعفر ، عن شعبة ، عن أبي إسحاق ، قال : سمعت البراء يقول : كانت الأنصار إذا حَجوا ورَجعوا لم يدخلوا البيوت إلا من ظُهورها. قال : فجاء رجل من الأنصار فدخل من بابه ، فقيل له في ذلك ، فنزلت هذه الآية : " وليسَ البرُّ بأن تأتوا البيوت من ظهورها " (1) .
3076 - حدثني سفيان بن وكيع ، قال ، حدثني أبي ، عن إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن البراء قال : كانوا في الجاهلية إذا أحرموا ، أتُوا البيوت من ظهورها ، ولم يأتوا من أبوابها ، فنزلت : " وليس البر بأن تأتوا البيوتَ من ظهورها " ..الآية (2) .
3077 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا المعتمر بن سليمان ، قال ، سمعت داود ، عن قيس بن حبتر : أن ناسا كانوا إذا أحرموا لم يدخلوا حائطا من بابه ، ولا دارا من بابها أو بيتا ، فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه دارا ، وكان رجل من الأنصار يقال له : " رفاعة بن تابوت " فجاء فتسوَّر الحائط ، ثم دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم. فلما خرَج من باب الدار - أو قال : من باب البيت - خرج معه رفاعة ، قال : فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما حملك على ذلك ؟ قال : يا رسول الله ، رأيتُك خرجتَ منه ، فخرجت منه! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إنّي رجلٌ أحْمس! فقال : إن تكن رَجلا أحْمس ، فإنّ ديننا واحد! فأنزل الله تعالى ذكره : " وليسَ البر بأن تأتوا البيوتَ من ظُهورها ولكن
__________
(1) الحديث : 3075 - رواه أبو داود الطيالسي : 717 ، عن شعبة ، بهذا الإسناد ، نحوه . ورواه البخاري مطولا 3 : 494 ، عن أبي الوليد ، عن شعبة ، بهذا الإسناد .
وذكره السيوطي 1 : 204 ، وزاد نسبته لعبد بن حميد ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم . وسيأتي معناه بإسناد آخر ، عقبه .
(2) الحديث : 3076 - هو مكرر ما قبله . وهو في تفسير وكيع ، كما ذكر السيوطي 1 : 204 .
ورواه البخاري 8 : 137 ، عن عبيد الله بن موسى ، عن إسرائيل ، بهذا الإسناد .

(3/556)


البر من اتقى وأتوا البيوتَ من أبوابها " (1) .
3078 - حدثنا محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله تعالى ذكره : " وليس البرُّ بأن تأتوا البيوت من ظُهورها " يقول : ليس البرّ بأن تأتوا البيوت من كُوَّات في ظهور البيوت ، وأبواب في جنوبها ، تجعلها أهل الجاهلية. فنُهوا أن يدخلوا منها ، وأمِروا أن يدخلوا من أبوابها.
3079 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله.
3080 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا جرير ، عن مغيرة ، عن إبراهيم ،
__________
(1) الحديث : 3077 - داود : هو ابن أبي هند ، مضت ترجمته : 1608 .
قيس بن حبتر النهشلي التميمي : تابعي ثقة ، وثقه أبو زرعة ، والنسائي ، وغيرهما .
" حبتر " : بفتح الحاء المهملة والتاء المثناة بينهما باء موحدة ساكنة . ووقع في المطبوعة هنا " جبير " ، وهو تصحيف . ووقع أيضًا هكذا مصحفا في المواضع التي سنشير إليها من الفتح والإصابة والدر المنثور ، في هذا الحديث .
وهذا إسناد مرسل ، لأنه عن تابعي مرفوعا ، فهو ضعيف .
والحديث ذكره السيوطي 1 : 204 ، وزاد نسبته لعبد بن حميد ، وابن المنذر .
وذكره الحافظ في الإصابة 2 : 209 ، من تفسير عبد بن حميد . وذكره أيضًا في الفتح 3 : 494 ، مختصرا ، ونسبه لعبد بن حميد ، وابن جرير ، وصرح في الموضعين بأنه حديث مرسل .
الأحمس : هو المتشدد فيه دينه الصلب . ثم كانت الحمس (جمع أحمس) هم قريش . وخزاعة ، لنزولها مكة ومجاورتها قريشا ، وكل من ولدت قريش من العرب وكنانة ، وجديلة قيس - وهم فهم وعدوان ابنا عمرو بن قيس عيلان ، وبنو عامر بن صعصعة ، وكل من نزل مكة من قبائل العرب . فكانت الحمس قد شددوا في دينهم على أنفسهم ، فكانوا إذا نسكوا لم يسلأوا سمنا ، ولم يطبخوا أقطا ، ولم يدخروا لبنا ، ولم يحولوا بين مرضعة ورضاعها حتى يعافه ، ولم يحركوا شعرا ولا ظفرا ، ولا يبتنون في حجهم شعرا ولا وبرا ولا صوفا ولا قطنا ، ولا يأكلون لحما ، ولا يلبسون إلا جديدا ، ولا يطوفون بالبيت إلا في حذائهم وثيابهم ، ولا يمشون المسجد بأقدامهم تعظيما لبقعته ، ولا يدخلون البيوت من أبوابها ، ولا يخرجون إلى عرفات ، يقولون : " نحن أهل الله " ، ويلزمون مزدلفة حتى يقضوا نسكهم ، ويطوفون بالصفا والمروة إذا انصرفوا من مزدلفة ، ويسكنون في ظعنهم قباب الأدم الحمر (المحبر لابن حبيب : 178 - 180 ، ثم سيرة ابن هشام 1 : 211 - 216 / والطبري في التفسير رقم : 3840) .

(3/557)


قال : كان ناسٌ من أهل الحجاز إذا أحرموا لم يدخلوا من أبواب بيوتهم ودخلوا من ظهورها ، فنزلت : " ولكن البر من اتقى " الآية.
3081 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا جرير ، عن منصور ، عن مجاهد في قوله : " وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها ولكنّ البر من اتقى وأتوا البيوتَ من أبوابها " قال : كان المشركون إذا أحرم الرجل منهم نَقب كُوَّة في ظهر بيته فجعل سُلَّمًا ، فجعل يدخل منها. قال : فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم ومعه رجل من المشركين ، قال : فأتى الباب ليدخل ، فدخل منه. قال : فانطلق الرجل ليدخل من الكوة. قال : فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما شأنك ؟ فقال : إنّي أحمس! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : وأنا أحمس.
3082 - حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن الزهري ، قال : كان ناسٌ من الأنصار إذا أهلُّوا بالعمرة لم يَحل بينهم وبين السماء شيء يتحرَّجون من ذلك ، وكان الرجل يخرج مُهلا بالعمرة فتبدو له الحاجة بعد ما يخرج من بيته فيرجع ولا يدخل من باب الحجرة من أجل سَقف الباب أن يحول بينه وبين السماء ، فيفتح الجدار من وَرَائه ، ثم يقوم في حجرته فيأمر بحاجته. فتخرج إليه من بيته ، حتى بلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أهلَّ زمنَ الحديبية بالعمرة ، فدخل حجرة ، فدخل رجل على أثره ، من الأنصار من بني سَلِمة ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : إنّي أحمس! قال الزهري : وكانت الحُمس لا يبالون ذلك. فقال الأنصاري : وأنا أحمس! يقول : وأنا على دينك ، فأنزل الله تعالى ذكره : " وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظُهورها " .
3084 - حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : " وليس البر بأن تأتوا البيوت " الآية كلها. قال قتادة : كان هذا الحي من الأنصار في الجاهلية ، إذا أهلَّ أحدُهم بحجّ أو عمرة لا يدخلُ دارا من بابها ، إلا أن يتسور حائطا تسوُّرًا ، وأسلموا وهم كذلك. فأنزل الله تعالى ذكره

(3/558)


في ذلك ما تسمعون ، ونهاهم عن صنيعهم ذلك ، وأخبرهم أنه ليس من البر صنيعهم ذلك ، وأمرهم أن يأتوا البيوت من أبوابها.
3085 - حدثني موسى بن هارون قال ، حدثنا عمرو بن حماد قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي قوله : " وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها " فإن ناسا من العرَب كانوا إذا حجُّوا لم يدخلوا بيوتهم من أبوابها كانوا يَنقبون في أدبارِها ، فلما حجّ رسول الله صلى الله عليه وسلم حجة الوداع ، أقبل يمشي ومعه رجل من أولئك وهو مسلم. فلما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم باب البيت احتبس الرجل خلفه وأبى أن يدخل ، قال : يا رسول الله ، إني أحمس! - يقول : إنّي محرم - وكان أولئك الذين يفعلون ذلك يسمون " الحُمس " ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : وأنا أيضا أحمس! فادخل. فدخل الرجل ، فأنزل الله تعالى ذكره : " وأتوا البيوت من أبوابها " .
3086 - حدثني محمد بن سعد ، قال : حدثني أبي ، قال ، حدثني عمي ، قال ، حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : " وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظُهورها ولكنّ البر من اتقى وأتوا البيوت من أبوابها " ، وأنّ رجالا من أهل المدينة كانوا إذا خاف أحدُهم من عَدوِّه شيئا أحرم فأمِن ، فإذا أحرم لم يلج من باب بيته واتخذ نَقبا من ظَهر بيته. فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة كان بها رجلٌ محرم كذلك - وأنّ أهل المدينة كانوا يُسمُّون البستان " الحُشّ " - وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم دَخل بُستانًا ، فدخله من بابه ، ودخل معه ذلك المحرم ، فناداه رجلٌ من ورائه : يا فلان ، إنك محرم وقد دخلت! فقال : أنا أحمس! فقال : يا رسول الله ، إن كنت محرما فأنا محرم ، وإن كنت أحمسَ فأنا أحمسُ! فأنزل الله تعالى ذكره : " وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظُهورها " ، إلى آخر الآية ، فأحل الله للمؤمنين أن يدخلوا من أبوابها.
3087 - حدثت عن عمار بن الحسن ، قال حدثنا عبد الله بن أبي جعفر ،

(3/559)


عن أبيه ، عن الربيع قوله : " وليسَ البر بأنْ تأتوا البيوتَ من ظهورها ولكن البر مَن اتقى وأتوا البيوت من أبوابها " قال : كان أهل المدينة وغيرُهم إذا أحرمُوا لم يدخلوا البيوت إلا من ظهورها ، وذلك أن يتسوَّرُوها ، فكان إذا أحرم أحدُهم لا يدخل البيت إلا أن يتسوّره من قِبَل ظَهره. وأن النبي صلى الله عليه وسلم دخل ذات يوم بيتا لبعض الأنصار ، فدخل رجلٌ على أثره ممن قد أحرم ، فأنكروا ذلك عليه ، وقالوا : هذا رجل فاجرٌ! فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : لم دخلت من الباب وقد أحرمت ؟ فقال : رأيتك يا رسول الله دخلتَ فدخلتُ على أثرك! فقال النبي صلى الله عليه وسلم : إنّي أحمس! - وقريش يومئذ تُدعى الحُمس - فلما أن قال ذلك النبي صلى الله عليه وسلم قال الأنصاري : إن ديني دينك! فأنزل الله تعالى ذكره : " وليس البر بأن تأتوا البيوتَ من ظهورها " الآية.
3088 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين ، قال ، حدثني حجاج ، قال ، قال ابن جريج : قلت لعطاء قوله : " وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها " قال : كان أهل الجاهلية يأتون البيوت من ظهورها ويرَوْنه برًّا ، فقال : " البر " ، ثم نعت " البر " وأمر بأن يأتوا البيوت من أبوابها قال ابن جريج : وأخبرني عبد الله بن كثير : أنه سمع مجاهدا يقول : كانت هذه الآية في الأنصار ، يأتون البيوت من ظهورها ، يتبرَّرُون بذلك.
* * *
قال أبو جعفر : فتأويل الآية إذًا : وليس البر أيها الناس بأن تأتوا البيوت في حال إحرامكم من ظهورها ، ولكن البر من اتقى الله فخافه وتجنب محارمه ، وأطاعه بأداء فرائضه التي أمره بها ، فأما إتيانُ البيوت من ظهورها فلا برَّ لله فيه ، فأتوها من حيثُ شئتُم من أبوابها وغير أبوابها ، ما لم تعتقدوا تحريم إتيانها من أبوابها في حال من الأحوال ، فإن ذلك غيرُ جائزٍ لكم اعتقادُه ، لأنه مما لم أحرمه عليكم.
* * *

(3/560)


القول في تأويل قوله تعالى : { وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ }
قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بذلك : واتقوا الله أيها الناس ، فاحذروه وارهبوه بطاعته فيما أمركم به من فرائضه ، واجتناب ما نهاكم عنه ، لتفلحوا فتنجحوا في طلباتكم لديه ، وتدركوا به البقاءَ في جَنَّاته والخلودَ في نعيمه.
* * *
وقد بينا معنى " الفلاح " فيما مضى قبلُ بما يدل عليه (1) .
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (190) }
قال أبو جعفر : اختلف أهلُ التأويل في تأويل هذه الآية.
فقال بعضهم : هذه الآية هي أول آية نزلت في أمر المسلمين بقتال أهل الشرك. وقالوا : أمر فيها المسلمون بقتال من قاتلهم من المشركين ، والكف عمن كفّ عنهم ، ثم نُسخت ب " براءة " .
* ذكر من قال ذلك :
3089 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الرحمن بن سعد ، وابن أبي جعفر ، عن أبي جعفر ، عن الربيع في قوله : " وقاتلُوا في سبيل الله الذين يُقاتلونكم ولا تَعتدوا إن الله لا يحبّ المعتدين " قال : هذه أوّل آية نزلت في القتال
__________
(1) انظر ما سلف 1 : 249 - 250 .

(3/561)


بالمدينة ، فلما نزلت كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقاتل من يقاتله ، ويكفُّ عمن كفّ عنه ، حتى نزلت " براءة " - ولم يذكر عبد الرحمن : " المدينة " .
3090 - حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال ، قال ابن زيد في قوله : " وقاتلوا في سبيل الله الذين يُقاتلونكم " إلى آخر الآية ، قال : قد نسخ هذا! وقرأ قول الله : ( وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً ) [سورة التوبة : 36] ، وهذه الناسخة ، وقرأ : ( بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ) حتى بلغ : ( فَإِذَا انْسَلَخَ الأشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ ) إلى : ( إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) [سورة التوبة : 1 - 5].
* * *
وقال آخرون : بل ذلك أمر من الله تعالى ذكره للمسلمين بقتال الكفار ، لم ينسخ. وإنما الاعتداءُ الذي نهاهم الله عنه ، هو نهيه عن قتل النساء والذَّراريّ. قالوا : والنهي عن قتلهم ثابتٌ حُكمه اليوم. قالوا : فلا شيء نُسخ من حكم هذه الآية.
* ذكر من قال ذلك :
3091 - حدثنا سفيان بن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن صَدقة الدمشقي ، عن يحيى بن يحيى الغساني ، قال : كتبتُ إلى عمر بن عبد العزيز أسألهُ عن قوله : " وقاتلوا في سَبيل الله الذين يُقاتلونكم ولا تعتدوا إنّ الله لا يُحب المعتدين " ، قال : فكتب إليّ : " إنّ ذلك في النساء والذريّة ومن لم يَنصِبْ لك الحرَب منهم " .
3092 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله تعالى ذكره : " وقاتلوا في سبيل الله الذين يُقاتلونكم " لأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ، أمروا بقتال الكفار.
3093 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد مثله.

(3/562)


3094 - حدثني علي بن داود قال ، حدثنا أبو صالح ، قال ، حدثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس : " وقاتلوا في سبيل الله الذين يُقاتلونكم ولا تعتدوا إنّ الله لا يحب المعتدين " يقول : لا تقتلوا النساء ولا الصِّبيان ولا الشيخ الكبير وَلا منْ ألقى إليكم السَّلَمَ وكفَّ يَده ، فإن فَعلتم هذا فقد اعتديتم.
3095 - حدثني ابن البرقي قال ، حدثنا عمرو بن أبي سلمة ، عن سعيد بن عبد العزيز ، قال : كتب عمر بن عبد العزيز إلى عديِّ بن أرطاة : " إني وَجَدتُ آية في كتاب الله : " وقاتلوا في سبيل الله الذين يُقاتلونكم ولا تعتدوا إنّ الله لا يحب المعتدين " أي : لا تقاتل من لا يقاتلك ، يعني : النساء والصبيان والرُّهبان " .
* * *
قال أبو جعفر : وأولى هذين القولين بالصواب ، القولُ الذي قاله عمر بن عبد العزيز. لأن دعوى المدَّعي نَسْخَ آية يحتمل أن تكون غيرَ منسوخة ، بغير دلالة على صحة دعواه ، تحكُّم. والتحكم لا يعجِز عنه أحد.
* * *
وقد دَللنا على معنى " النسخ " ، والمعنى الذي من قبَله يَثبت صحة النسخ ، بما قد أغنى عن إعادته في هذا الموضع (1) .
* * *
فتأويل الآية - إذا كان الأمر على ما وصفنا - : وقاتلوا أيها المؤمنون في سبيل الله وسبيلُه : طريقه الذي أوضحه ، ودينه الذي شرعه لعباده يقول لهم تعالى ذكره : قاتلوا في طاعتي وَعلى ما شرعت لكم من ديني ، وادعوا إليه من وَلَّى عنه واستكبر بالأيدي والألسن ، حتى يُنيبوا إلى طاعتي ، أو يعطوكم الجزية صَغارًا إن كانوا أهل كتاب. وأمرهم تعالى ذكره بقتال مَنْ كان منه قتال من مُقاتِلة أهل الكفر دون من لم يكن منه قتال (2) من نسائهم وذراريهم ، فإنهم أموال وخَوَلٌ لهم إذا غُلب المقاتلون منهم فقُهروا ، فذلك معنى قوله : " قاتلوا في سبيل الله الذين
__________
(1) انظر ما سلف 2 : 471 - 483 ، وهذا الجزء 3 : 385 .
(2) في المطبوعة في الموضعين : " فيه قتال " ، وهو خطأ .

(3/563)


يقاتلونكم " لأنه أباح الكف عمّن كف ، فلم يُقاتل من مشركي أهل الأوثان والكافِّين عن قتال المسلمين من كفار أهل الكتاب على إعطاء الجزية صَغارا.
فمعنى قوله : " ولا تعتدوا " : لا تقتلوا وليدًا ولا امرأةً ، ولا من أعطاكم الجزية من أهل الكتابَين والمجوس ، " إنّ الله لا يُحب المعتدين " الذين يجاوزون حدوده ، فيستحلُّون ما حرَّمه الله عليهم من قتل هؤلاء الذين حَرَّم قتلهم من نساء المشركين وذراريهم (1) .
* * *
__________
(1) انظر تفسير " الاعتداء " فيما سلف 2 : 307 ، وهذا الجزء 3 : 376 ثم : 573 .

(3/564)


وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ (191)

القول في تأويل قوله تعالى : { وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ }
قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بذلك : واقتلوا أيها المؤمنون الذين يقاتلونكم من المشركين حيث أصبتم مَقاتلهم وأمكنكم قتلهم ، وذلك هو معنى قوله : " حيث ثقفتموهم " .
* * *
ومعنى " الثِّقْفَة " بالأمر (1) الحِذق به والبصر ، يقال : " إنه لثَقِفَ لَقفٌ " ، إذا كان جيد الحَذر في القتال ، بصيرا بمواقع القتل. وأما " التَّثْقيف " فمعنى غير هذا ، وهو التقويم.
* * *
فمعنى : " واقتلوهم حيث ثقفتموهم " ، اقتلوهم في أي مكان تمكنتم من قتلهم ، وأبصرتم مقاتلهم.
* * *
__________
(1) هذا مصدر لم أجده في كتب اللغة ، وكأنه كما ضبطته بكسر الثاء على وزن " حكمة ونشدة " . والذي ذكروه : " ثقف الشيء ثقفا وثقافا وثقوفة " .

(3/564)


وأما قوله : " وأخرجوهم من حيث أخرجوكم " فإنه يُعنى بذلك المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم ومنازلهم بمكة ، فقال لهم تعالى ذكره : أخرجوا هؤلاء الذين يقاتلونكم - وقد أخرجوكم من دياركم - من مساكنهم وديارهم كما أخرجوكم منها.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ }
قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بقوله : " والفتنة أشد من القتل " ، والشرك بالله أشدُّ من القتل.
* * *
وقد بينت فيما مضى أن أصل " الفتنة " الابتلاءُ والاختبار (1)
* * *
فتأويل الكلام : وابتلاء المؤمن في دينه حتى يرجعَ عنه فيصير مشركا بالله من بعد إسلامه ، أشدُّ عليه وأضرُّ من أن يُقتل مقيمًا على دينه متمسكا عليه ، مُحقًّا فيه. كما :
3096 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله : " والفتنة أشدُّ من القتل " قال : ارتداد المؤمن إلى الوَثن أشدُّ عليه من القتل.
3097 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد مثله.
3098 - حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : " والفتنة أشدُّ من القتل " يقول : الشرك أشدُّ من القتل.
__________
(1) انظر ما سلف 2 : 444 .

(3/565)


3099 - حدثنا الحسن بن يحيى ، قال ، أخبرنا عبد الرزاق ، قال ، أخبرنا معمر ، عن قتادة مثله.
3100 - حدثت عن عمار بن الحسن ، قال ، حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : " والفتنة أشدُّ من القتل " يقول : الشرك أشدُّ من القتل.
3101 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا أبو زهير ، عن جويبر ، عن الضحاك : " والفتنة أشدُّ من القتل " قال : الشرك.
3102 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين ، قال ، حدثني حجاج ، قال ، قال ابن جريج ، أخبرني عبد الله بن كثير ، عن مجاهد في قوله : " والفتنة أشدُّ من القتل " قال : الفتنة الشركُ.
3103 - حدثت عن الحسين بن الفرج ، قال ، سمعت الفضل بن خالد قال ، حدثنا عبيد بن سليمان ، عن الضحاك : " والفتنة أشدُّ من القتل " قال : الشرك أشدُّ من القتل.
3104 - حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال ، قال ابن زيد في قوله جل ذكره : " والفتنة أشدُّ من القتل " قال : فتنة الكفر.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ (191) }
قال أبو جعفر : والقَرَأةُ مختلفة في قراءة ذلك.
فقرأته عامَّة قراء المدينة ومكة : " ولا تُقاتلوهم عندَ المسجد الحرام حتى يُقاتلوكم فيه فإن قاتلوكم فاقتلوهم " بمعنى : ولا تبتدئوا - أيها المؤمنون -

(3/566)


المشركين بالقتال عند المسجد الحرام ، حتى يبدأوكم به ، فإن بدأوكم به هناك عند المسجد الحرَام في الحرم ، فاقتلوهم ، فإن الله جعل ثَواب الكافرين على كفرهم وأعمالهم السيئة ، القتلُ في الدنيا ، والخزي الطويل في الآخرة ، كما :
3105 - حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : " ولا تقاتلوهم عندَ المسجد الحرام حتى يُقاتلوكم فيه " كانوا لا يُقاتلون فيه حتى يُبدأوا بالقتال ، ثم نسخ بعدُ ذلك فقال : " وَقاتلوهم حتى لا تكون فتنة " حتى لا يكون شركٌ " ويكون الدين لله " أن يقال : لا إله إلا الله ، عليها قاتل نبيُّ الله ، وإليها دعا.
3106 - حدثني المثنى قال ، حدثنا الحجاج بن المنهال قال ، حدثنا همام ، عن قتادة : " ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه فإن قاتلوكم فاقتلوهم " ، فأمر الله نبيَّه صلى الله عليه وسلم أن لا يقاتلهم عند المسجد الحرام إلا أن يبدأوا فيه بقتال ، ثم نسخ الله ذلك بقوله : ( فَإِذَا انْسَلَخَ الأشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ ) [سورة التوبة : 5] فأمر الله نبيَّه إذا انقضى الأجل أن يقاتلهم في الحِلِّ والحرَم وعند البيت ، حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله ، وأنّ محمدا رسولُ الله.
3107 - حدثت عن عمار بن الحسن قال ، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع قوله : " ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه " فكانوا لا يقاتلونهم فيه ، ثم نسخ ذلك بعدُ فقال : " قاتلوهم حتى لا تكون فتنة " .
* * *
وقال بعضُهم : هذه آيةٌ محكمة غيرُ منسوخة.
* ذكر من قال ذلك :
3108 - حدثنا المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : " فإن قاتلوكم " في الحرم فَاقتلوهم كذلك جزاءُ الكافرين ، ل

(3/567)


ا تقاتل أحدا فيه ، فمن عَدا عليك فقاتلك فقاتِله كما يقاتلك.
* * *
وقرأ ذلك عُظْم قراء الكوفيين : " ولا تَقْتلوهم عند المسجد الحرامَ حتى يَقْتلوكم فيه فإن قَتلوكم فاقتلوهم " بمعنى : ولا تبدأوهم بقتل حتى يبدأوكم به.
* ذكر من قال ذلك :
3109 - حدثنا المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الرحمن بن أبي حماد ، عن أبي حماد ، عن حمزة الزيات قال : قلت للأعمش : أرأيت قراءتك : " ولا تَقتلوهم عند المسجد الحرام حتى يَقتلوكم فيه فإن قَتلوكم فاقتلوهم كذلك جَزاءُ الكافرين فإن انتهوا فإن الله غفورٌ رَحيم " ، إذا قَتلوهم كيف يقتلونهم ؟ قال : إن العرب إذا قُتل منهم رجل قالوا : " قُتلنا " ، وإذا ضُرب منهم رجل قالوا : " ضربنا " (1) .
* * *
قال أبو جعفر : وأولى هاتين القراءتين بالصواب ، قراءةُ من قرأ : " ولا تُقاتلوهم عند المسجد الحرامَ حتى يقاتلوكم فيه فإن قاتلوكم فاقتلوهم " لأن الله تعالى ذكره لم يأمر نبيَّه صلى الله عليه وسلم وأصحابه في حالٍ إذا قاتلهم المشركون بالاستسلام لهم حتى يَقتلوا منهم قتيلا بعد ما أذن لَهُ ولهم بقتالهم ، فتكونَ القراءة بالإذن بقتلهم بعد أن يَقتلوا منهم ، أولى من القراءة بما اخترنا. وإذا كان ذلك كذلك ، فمعلومٌ أنه قد كان تعالى ذكره أذِن لهم بقتالهم إذا كان ابتداء القتال من المشركين قَبل أن يقتلوا منهم قتيلا وبعد أن يقتلوا منهم قتيلا.
وقد نسخ الله تعالى ذكره هذه الآية بقوله : " وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة " ،
__________
(1) الخبر : 3109 - عبد الرحمن بن أبي حماد سكين الكوفي : ترجمه ابن الجزري في طبقات القراء 1 : 369 - 370 ، وذكر أنه أخذ القراءة عن حمزة الزيات ، " وهو أحد الذين خلفوه في القيام بالقراءة " .
وأما شيخه - في هذا الإسناد - " أبو حماد " : فلا ندري من هو ؟ والظن أنه زيادة خطأ من الناسخين . وهكذا ظن أخي السيد محمود ، أيضًا .

(3/568)


فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (192)

وقوله : ( فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ ) [سورة التوبة : 5] ونحو ذلك من الآيات.
* * *
وقد ذكرنا بعضَ قول من قال هي منسوخة ، وسنذكر قول من حضرنا ذكرُه ممن لم يُذكر.
3110 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، حدثنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة : " ولا تُقاتلوهم عندَ المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه " قال : نسخها قوله : ( فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ ).
3111 - حدثني يونس ، قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد في قوله : " ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يُقاتلوكم فيه " قال : حتى يبدأوكم ، كان هذا قد حُرِّم فأحل الله ذلك له ، فلم يزل ثابتا حتى أمره الله بقتالهم بعدُ.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (192) }
قال أبوجعفر : يعني تعالى ذكره بذلك : فإن انتهى الكافرون الذين يقاتلونكم عن قتالكم وكفرهم بالله ، فتركوا ذلك وتابوا ، " فإن الله غفور " لذنوب من آمن منهم وتاب من شركه ، وأناب إلى الله من معاصيه التي سلفت منه وأيامه التي مَضت " رحيم " به في آخرته بفضله عليه ، وإعطائه ما يعطى أهل طاعته من الثواب بإنابته إلى محبته من معصيته. كما :
3112 - حدثنا المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : " فإن انتهوا " فإن تابوا " فإن الله غفورٌ رَحيم " .
* * *

(3/569)


وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ (193)

القول في تأويل قوله تعالى : { وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : وقاتلوا المشركين الذين يقاتلونكم حتى لا تكون فتنة يعني : حتى لا يكون شركٌ بالله ، وحتى لا يُعبد دونه أحدٌ ، وتضمحلَّ عبادة الأوثان والآلهة والأنداد ، وتكونَ العبادة والطاعة لله وحده دون غيره من الأصنام والأوثان ، كما قال قتادة فيما :
3113 - حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : " وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة " قال : حتى لا يكون شرك.
3114 - حدثنا الحسن بن يحيى ، قال ، أخبرنا عبد الرزاق ، قال ، أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : " وقاتلوهم حَتى لا تكون فتنة " قال : حتى لا يكون شرك.
3115 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : " وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة " قال : الشرك " ويكون الدِّين لله " .
3116 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد مثله.
3117 - حدثني موسى بن هارون ، قال ، حدثنا عمرو بن حماد قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : " وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة " قال : أما الفتنة فالشرك.
3118 - حدثني محمد بن سعد ، قال ، حدثني أبي ، قال ، حدثني عمي ، قال ، حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : " وقاتلوهم حتى لا تكونَ فتنة " ، يقول : قاتلوا حتى لا يكون شِرك.

(3/570)


3119 - حدثت عن عمار بن الحسن قال ، حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : " وقاتلوهم حَتى لا تكونَ فتنة " أي شركٌ.
3120 - حدثني يونس ، قال ، أخبرنا ابن وهب ، قال ، قال ابن زيد في قوله : " وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة " قال : حتى لا يكون كفر ، وقرأ( تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ ) [سورة الفتح : 16].
3121 - حدثني علي بن داود قال ، حدثنا عبد الله بن صالح ، قال ، حدثني معاوية بن صالح ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : " وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة " يقول : شركٌ.
* * *
وأما " الدين " ، الذي ذكره الله في هذا الموضع (1) فهو العبادة والطاعة لله في أمره ونهيه ، من ذلك قول الأعشى :
هُوَ دَانَ الرِّبَابَ ، إِذْ كَرِهُوا الدِّي... نَ ، دِرَاكًا بِغَزْوَةٍ وَصِيَالِ (2)
يعني بقوله : " إذ كرهوا الدين " ، إذ كرهوا الطاعة وأبوْها.
* * *
__________
(1) انظر معنى " الدين " فيما سلف 1 : 155 ، 221 .
(2) ديوانه : 12 وسيأتي في التفسير 3 : 141 (بولاق) ، قالها في مدح الأسود بن المنذر اللخمي ، أخي النعمان بن المنذر لأمه ، وأم الأسود من تيم الرباب . هذا قول أبي عبيدة ، والصواب ما قال غيره : أنه قالها في مدح المنذر بن الأسود ، وكان غزا الحليفين أسدا وذبيان ، ثم أغار على الطف ، فأصاب نعما وأسرى وسبيا من رهط الأعشى بني سعد بن ضبيعة بن ثعلبة ، والأعشى غائب . فلما قدم وجد الحي مباحا . فأتاه فأنشده ، وسأله أن يهب له الأسرى ويحملهم ، ففعل .
والرباب (بكسر الراء) هم بنو عبد مناة بن أد : تيم وعدي وعوف وثور ، اجتمعوا فتحالفوا مع بني عمهم ضبة بن أد ، على بني عمهم تميم بن أد . فجاؤوا برب (تمر مطبوخ) فغمسوا فيه أيديهم ، فسموا " الرباب " ، ثم خرجت ضبة عنهم ، واكتفت بعددها .
وقوله : " دان الرباب " أي أذلهم واستعبدهم وحملهم على الطاعة . وقوله : " دراكا " ، متتابعا يدرك بعضه بعضا . والصيال : السطرة . صال على عدوه : وثب عليه وسطا . يقول تابع غزوهم والسطو حتى دانو بالطاعة .

(3/571)


وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
3122 - حدثت عن عمار بن الحسن قال ، حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : " ويكونَ الدِّينُ لله " يقول : حتى لا يُعبد إلا الله ، وذلك " لا إله إلا الله " ، عليه قاتل النبيُّ صلى الله عليه وسلم وإليه دعا ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " إنّي أمرتُ أن أقاتِل الناسَ حتى يَقولوا لا إله إلا الله ، ويقيموا الصلاة ، ويؤتوا الزكاة ، فإذا فعلوا ذلك فقد عَصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقِّها وحسابهم على الله " .
3123 - حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة : " ويكون الدِّينُ لله " أن يقال : " لا إله إلا الله " . ذُكِر لنا أن نبيَّ الله صلى الله عليه وسلم كان يقول : " إنّ الله أمرَني أن أقاتِل الناسَ حتى يقولوا لا إله إلا الله " . ثم ذكر مثل حديث الربيع.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوَانَ إِلا عَلَى الظَّالِمِينَ (193) }
قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بقوله : " فإن انتهوا " فإن انتهى الذين يقاتلونكم من الكفار عن قتالكم ، ودَخلوا في ملّتكم ، وأقرُّوا بما ألزمكم الله من فرائضه ، وتركوا ما هم عليه من عبادة الأوثان ، فدعوا الاعتداءَ عليهم وقتالَهم وجهادَهم ، فإنه لا ينبغي أن يُعتدى إلا على الظالمين - وهم المشركون بالله ، والذين تركوا عبادته وعبدوا غيرَ خالقهم.
* * *

(3/572)


فإن قال قائل : وهل يجوز الاعتداء على الظالم فيقال : " فَلا عُدوان إلا على الظالمين " ؟ (1) .
قيل : إن المعنى في ذلك على غير الوجه الذي إليه ذهبتَ ، وإنما ذلك على وَجه المجازاة ، لما كان من المشركين من الاعتداء ، يقول : افعلوا بهم مثل الذي فعلوا بكم ، كما يقال : " إن تَعاطيتَ منّي ظلما تعاطيته منك " ، والثاني ليس بظلم ، كما قال عمرو بن شأس الأسديّ :
جَزَيْنَا ذَوِى العُدْوَانِ بِالأمْسِ قَرْضَهُمْ... قِصَاصًا ، سَواءً حَذْوَكَ النَّعْلَ بِالنَّعْلِ (2)
وإنما كان ذلك نظير قوله : ( اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ ) [سورة البقرة : 15] و( فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ ) [سورة التوبة : 79] وقد بينا وجه ذلك ونظائره فيما مَضى قبلُ (3) .
* * *
وبالذي قلنا في ذلك من التأويل قال جماعة من أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
3124 - حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : " فلا عُدوان إلا على الظالمين " والظالم الذي أبى أن يقول : " لا إله إلا الله " .
3125 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع. " فلا عُدوان إلا على الظالمين " قال : هم المشركون.
3126 - حدثني المثنى ، قال ، ثنا محمد بن جعفر قال ، حدثنا عثمان بن غياث ، قال ، سمعت عكرمة في هذه الآية : " فلا عدوان إلا على الظالمين " ،
__________
(1) انظر معنى " العدوان " فيما سلف 2 : 307 ، وهذا الجزء 3 : 376 ، 564 .
(2) لم أجد البيت ، وشعر عمرو بن شأس على كثرته وجودته ، قد ضاع أكثره .
(3) انظر ما سلف 1 : 301 - 306 .

(3/573)


قال : هُم من أبى أن يقول : " لا إله إلا الله " .
* * *
وقال آخرون : معنى قوله : " فلا عدوان إلا على الظالمين " فلا تقاتل إلا من قاتل.
* ذكر من قال ذلك :
3127 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : " فإن انتهوا فلا عُدوان إلا على الظالمين " يقول : لا تقاتلوا إلا من قاتلكم.
3128 - حدثني المثنى ، قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله.
3129 - حدثني موسى بن هارون قال ، حدثنا عمرو قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي ، قال : " فإن انتهوا فلا عُدوان إلا على الظالمين " فإنّ الله لا يحب العُدوان على الظالمين ولا على غيرهم ، ولكن يقول : اعتدُوا عليهم بمثل ما اعتدوْا عليكم.
* * *
قال أبو جعفر : فكان بعض أهل العربية من أهل البصرة يقول في قوله : " فإن انتهوْا فلا عُدوان إلا على الظالمين " لا يجوز أن يقول : " فإن انتهوا " إلا وقد علم أنهم لا يَنتهون إلا بعضهم ، فكأنه قال : فإن انتهى بعضُهم ، فلا عُدوان إلا على الظالمين منهم ، فأضمر كما قال : ( فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ ) [سورة البقرة : 196] يريد : فعليه ما استيسر من الهدي ، وكما يقول : " إلى مَن تقصد أقصد " يعني : إليه.
وكان بعضهم ينكر الإضمار في ذلك ويتأوله : فإن انتهوا فإن الله غفورٌ رحيم لمن انتهى ، ولا عُدوان إلا على الظالمين الذين لا ينتهون.
* * *

(3/574)


الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (194)

القول في تأويل قوله تعالى : { الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ }
قال أبو جعفر : يعني بقوله جل ثناؤه : " الشهر الحرام بالشهر الحرام " ذا القعدة ، وهو الشهر الذي كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم اعتمر فيه عُمرة الحديبية ، فصدّه مشركو أهل مكة عن البيت ودخول مكة ، سنة ست من هجرته ، وصالح رسول الله صلى الله عليه وسلم المشركين في تلك السنة ، على أن يعود من العام المقبل ، فيدخل مكة ويقيم ثلاثا ، فلما كان العامُ المقبل ، وذلك سنة سبع من هجرته ، خرج معتمرا وأصحابه في ذي القَعدة - وهو الشهر الذي كان المشركون صدُّوه عن البيت فيه في سنة ست - وأخلى له أهل مكة البلد حتى دخلها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ، فقضى حاجته منها ، وأتم عمرته ، وأقام بها ثلاثا ، ثم خرج منها منصرفا إلى المدينة ، فقال الله جل ثناؤه لنبيه صلى الله عليه وسلم وللمسلمين مَعه " الشهرُ الحرام " يعني ذا القَعدة ، الذي أوصَلكم الله فيه إلى حَرمَه وبيته ، على كراهة مشركي قُريش ذلك ، حتى قضيتم منه وَطَركم " بالشهر الحرام " ، الذي صدكم مشركو قريش العامَ الماضيَ قَبله فيه حتى انصرفتم عن كره منكم عن الحرم ، فلم تدخلوه ، ولم تصلوا إلى بيت الله ، فأقصَّكم الله أيها المؤمنون من المشركين بإدخالكم الحرم في الشهر الحرام على كره منهم لذلك ، بما كان منهم إليكم في الشهر الحرام من الصدّ والمنْع من الوصول إلى البيت. كما :
3130 - حدثني محمد بن عبد الله بن بزيع قال ، حدثنا يوسف - يعني : ابن خالد السَّمْتيّ - قال ، حدثنا نافع بن مالك ، عن عكرمة ، عن ابن عباس في قوله : " والحرمات قصاص " قال : هم المشركون ، حبسوا محمدا صلى الله عليه وسلم

(3/575)


في ذي القَعدة ، فَرَجَعه الله في ذي القَعدة فأدخله البيتَ الحرام ، فاقتص له منهم (1) .
3131 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله جل ثناؤه : " الشهرُ الحرامُ بالشهر الحرام والحُرماتُ قِصَاص " قال : فخرت قريش بردِّها رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يوم الحُديبية محرِما في ذي القَعدة عن البلد الحرام ، فأدخله الله مكة في العام المقبل من ذي القَعدة ، فقضى عُمرته ، وأقصَّه بما حيل بينه وبينها يوم الحديبية.
3132 - حدثني المثنى قال ، حدثني أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله.
3133 - حدثنا بشر بن معاذ ، قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : " الشهرُ الحرامُ بالشهر الحرام والحُرمات قِصَاص " أقبل نبيّ الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه فاعتمروا في ذي القَعدة ومعهم الهدي ، حتى إذا كانوا بالحديبية صدّهم المشركون ، فصالحهم نبيُّ الله صلى الله عليه وسلم على أن يرجع من عامه ذلك ، حتى يرجع من العام المقبل فيكون بمكة ثلاثة أيام ولا يدخلها إلا بسلاح راكب ويخرج ، ولا يخرج بأحد من أهل مكة ، فنحروا الهدْي بالحديبية ، وحلَّقوا وَقصَّروا. حتى إذا كان من العام المقبل ، أقبل نبيُّ الله وأصحابه حتى دخلوا مكة ، فاعتمروا في ذي القَعدة ، فأقاموا بها ثلاث ليال ، فكان المشركون قد فخروا عليه حين ردُّوه يوم الحديبية ، فأقصَّه الله منهم ، فأدخله مكة في ذلك الشهر الذي كانوا ردُّوه فيه في ذي القَعدة ، فقال الله : " الشهرُ الحرامُ بالشهر الحرام والحُرمات قصَاص " .
__________
(1) الخبر : 3130 - محمد بن عبد الله بن بزيع - بفتح الباء الموحدة وكسر الزاي - شيخ الطبري : ثقة ، وثقه أبو حاتم وغيره ، وروى عنه مسلم في صحيحه . وقد مضى مثل هذا الإسناد ، ولكن حرف فيه اسم جده إلى " زريع " ، وذكرنا أنه غير معروف ، واحتمال أن يكون صوابه " بن بزيغ " في : 2451 - فقد تبين الصواب هنا .
يوسف بن خالد السمتي : ضعيف جدا كذاب ، كما ذكرنا في ذاك الإسناد ، ووقع في المطبوعة هنا " السهمي " ، بدل " السمتي " . وهو خطأ .

(3/576)


3134 - حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، وعن عثمان ، عن مقسم في قوله : " الشهرُ الحرام بالشهر الحرام والحُرمات قصَاص " قالا كان هذا في سَفر الحديبية ، صدَّ المشركون النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه عن البيت في الشهر الحرام ، فقاضوا المشركين يومئذ قضيّة : (1) أنّ لكم أن تعتمروا في العام المقبل - في هذا الشهر الذي صدُّوهم فيه ، فجعل الله تعالى ذكره لهم شهرًا حرامًا يعتمرون فيه ، مكانَ شهرهم الذي صُدُّوا ، فلذلك قال : " والحُرمات قصَاص " .
3135 - حدثني موسى بن هارون قال ، حدثنا عمرو بن حماد قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : " الشهرُ الحرام بالشهر الحرام والحرمات قِصَاص " قال : لما اعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم عُمرة الحديبية في ذي القعدة سنة ستٍّ من مُهاجَره ، صدَّه المشركون وأبوا أن يتركوه ، ثم إنهم صالحوه في صُلحهم على أن يُخْلوا له مكة من عام قابل ثلاثةَ أيام ، يخرجون ويتركونه فيها ، فأتاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد فتح خَيْبر من السنة السابعة ، فخَلَّوْا له مكة ثلاثة أيام ، فنكح في عُمرته تلك مَيمونة بنت الحارث الهلالية.
3136 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا أبو زهير عن جويبر ، عن الضحاك في قوله : " الشهرُ الحرَام بالشهر الحرام والحرماتُ قِصاص " ، أحصَرُوا النبي صلى الله عليه وسلم في ذي القَعدة عن البيت الحرام (2) فأدخله الله البيت الحرامَ العامَ المقبلَ ، واقتصَّ له منهم ، فقال : " الشهرُ الحرامُ بالشهر الحرام والحُرمات قصاص " .
3137 - حدثنا المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا ابن أبي جعفر ،
__________
(1) قاضي الرجل يقاضيه قضاء وقضية . حاكمه في مخاصمة ، وانتهى معه إلى قضاء فصل وحكم يتراضيانه . وفي صدر صلح الحديبية : " هذا ما قاضى عليه محمد " أي صالح . وبذلك سميت عمرة الحديبية هذه " عمرة القضية " ، و " عمرة الصلح .
(2) أحصره المرض وغيره : منعه وحبسه .

(3/577)


عن أبيه ، عن الربيع ، قال : أقبل نبي الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه فأحرَموا بالعمرة في ذي القَعدة ومعهم الهدْي ، حتى إذا كانوا بالحديبية صدهم المشركون ، فصالحهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يرجع ذلك العامَ حتى يرجع العامَ المقبل ، فيقيم بمكة ثلاثة أيام ولا يخرج معه بأحد من أهل مكة. فنحروا الهديَ بالحديبية وحلَّقوا وقصَّروا. حتى إذا كانوا من العام المقبل ، أقبل النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه حتى دخلوا مكة ، فاعتمروا في ذي القَعدة ، وأقاموا بها ثلاثة أيام ، وكان المشركون قد فخروا عليه حين ردُّوه يوم الحديبية ، فقاصَّ الله له منهم ، وأدخله مكة في ذلك الشهر الذي كانوا ردُّوه فيه في ذي القعدة. قال الله جل ثناؤه : " الشهرُ الحرام بالشهر الحرام والحرمات قصاص " .
3138 - حدثني محمد بن سعد ، قال ، حدثني أبي ، قال ، حدثني عمي ، قال ، حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : " والحُرمات قصاص " فهم المشركون ، كانوا حبسوا محمدا صلى الله عليه وسلم في ذي القعدة عن البيت ، ففخروا عليه بذلك ، فرجعه الله في ذي القعدة ، فأدخله الله البيت الحرام واقتصَّ له منهم.
3139 - حدثني يونس ، قال ، أخبرنا ابن وهب ، قال ، قال ابن زيد في قوله : " الشهرُ الحرامُ بالشهر الحرام " حتى فرغ من الآية ، قال : هذا كله قد نُسخ ، أمرَه أن يجاهد المشركين. وقرأ : ( وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً ) [سورة التوبة : 36] وقرأ : ( قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ ) [سورة التوبة : 123] العرب ، فلما فرغ منهم ، قال الله جل ثناؤه : ( قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ ) حتى بلغ قوله : ( وَهُمْ صَاغِرُونَ ) [سورة التوبة : 29] قال : وهم الروم. قال : فوَجَّه إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم.
3140 - حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا عبد الوهاب الثقفي قال ، حدثنا أيوب ، عن عكرمة ، عن ابن عباس في هذه الآية : " الشهرُ الحرامُ بالشهر الحرام

(3/578)


والحرماتُ قصاص " قال : أمركم الله بالقصاص ، [ويأخذ] منكم العدوان (1) .
3141 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثنا حجاج ، عن ابن جريج ، قال ، قلت لعطاء ، وسألته عن قوله : " الشهر الحرام بالشهر الحرام والحُرمات قصاص " قال : نزلت في الحديبية ، مُنعوا في الشهر الحرام ، فنزلت : " الشهر الحرام بالشهر الحرام " : عمرة في شهر حرام ، بعمرة في شهر حرام.
* * *
قال أبو جعفر : وإنما سمى الله جل ثناؤه ذا القَعدة " الشهرَ الحرام " ، لأن العرب في الجاهلية كانت تحرِّم فيه القتال والقتل ، وتضع فيه السلاح ، ولا يقتل فيه أحدٌ أحدًا ، ولو لقي الرجل قاتل أبيه أو ابنه. وإنما كانوا سموه " ذا القَعدة " لقعودهم فيه عن المغازي والحروب ، فسماه الله بالاسم الذي كانت العرب تُسمِّيه به.
* * *
وأما " الحرمات " فإنها جمع " حُرْمة " ، " كالظلمات " جمع " ظلمة " ، " والحجرات " جمع " حُجرة " . وإنما قال جل ثناؤه : " والحرمات قصاص " فجمع ، لأنه أراد : الشهرَ الحرام ، والبلد الحرام وحُرمة الإحرام.
* * *
فقال جل ثناؤه لنبيه محمد والمؤمنين معه : دخولكم الحرَم ، بإحرامكم هذا ، في شهركم هذا الحرام ، قصاصُ مما مُنعتم من مثله عامَكم الماضي ، وذلك هو " الحرمات " التي جعلها الله قصَاصًا.
* * *
وقد بينا أن " القصاص " هو المجازاة من جهة الفعل أو القول أو البَدن ، وهو في هذا الموضع من جهة الفعل (2) .
* * *
__________
(1) ما بين القوسين هكذا في الأصل . ولم أجد الخبر في مكان . وهو خطأ لا شك فيه ، أو بين الكلامين خرم لم أتبينه . والمعنى على كل حال : أمركم الله بالقصاص ، وكره منكم العدوان ، أي أمرهم أن يقتصوا ولا يعتدوا . هذا ما أرجحه إن شاء الله .
(2) انظر ما سلف في هذا الجزء 3 : 357 - 366 .

(3/579)


القول في تأويل قوله تعالى : { فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ }
قال أبو جعفر : اختلف أهل التأويل فيما نزل فيه قوله : " فمن اعتدَى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم " .
فقال بعضهم بما :
3142 - حدثني به المثنى قال ، حدثنا عبد الله بن صالح ، قال ، حدثني معاوية بن صالح ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قوله : " فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم " فهذا ونحوه نزل بمكة والمسلمون يومئذ قليل ، وليس لهم سلطانٌ يقهرُ المشركين ، وكان المشركون يتعاطونهم بالشتم والأذى ، فأمر الله المسلمين ، مَنْ يجازي منهم أن يجازِيَ بمثل ما أُتي إليه أو يصبر أو يعفوَ فَهو. أمثل فلما هاجر رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ، وأعزّ الله سلطانه أمرَ المسلمين أن ينتهوا في مظالمهم إلى سُلطانهم ، وأن لا يعدوَ بعضهم على بعض كأهل الجاهلية.
* * *
وقال آخرون : بل معنى ذلك : فمن قاتلكم أيها المؤمنون من المشركين ، فقاتلوهم كما قاتلوكم. وقالوا : أنزلت هذه الآية على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة ، وبعد عُمرة القضيَّة.
* ذكر من قال ذلك :
3143 - حدثني القاسم قال ، حدثنا الحسين ، قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قال مجاهد : " فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم " فقاتلوهم فيه كما قاتلوكم.
* * *
قال أبو جعفر : وأشبه التأويلين بما دلّ عليه ظاهر الآية ، الذي حُكي عن

(3/580)


مجاهد ، لأن الآيات قبلها إنما هي أمرٌ من الله للمؤمنين بجهاد عدوهم على صفة ، وذلك قوله : " وقاتلوا في سبيل الله الذين يُقاتلونكم " والآيات بعدها ، وقوله : " فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه " إنما هو في سياق الآيات التي فيها الأمرُ بالقتال والجهاد ، واللهُ جل ثناؤه إنما فرض القتال على المؤمنين بعد الهجرة.
فمعلوم بذلك أن قوله : " فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم " مدنيّ لا مكيّ ، إذ كان فرضُ قتال المشركين لم يكن وَجَب على المؤمنين بمكة ، وأنّ قوله : " فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم " نظيرُ قوله : " وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم " وأن معناه : فمن اعتدى عليكم في الحَرم فقاتَلكم فاعتدوا عليه بالقتال نحو اعتدائه عليكم بقتاله إياكم ، لأني قد جعلتُ الحُرمات قصاصًا ، فمن استحلّ منكم أيها المؤمنون من المشركين حُرْمةً في حَرَمي ، فاستحلوا منه مثله فيه.
وهذه الآية منسوخة بإذن الله لنبيه بقتال أهل الحرَم ابتداءً في الحرم وقوله : ( وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً ) [سورة التوبة : 36]
* * *
... (1) على نحو ما ذكرنا ، من أنه بمعنى : المجازاة وإتباع لفظٍ لفظًا ، وإن
__________
(1) وضعت هذه النقط ، وفصلت بين قوله : " وقاتلوا المشركين كافة " وقوله : " على نحو ما ذكرنا " لوجود خرم لا شك فيه . فإنه سيقول بعد أسطر : " والآخر : أن يكون بمعنى العدو " . فهو بصدد تفسير قوله : " فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم " ، من جهة اللغة . ولا صلة بين كلامه في الآية أهي منسوخة أم غير منسوخة . وقوله : " والآخر " دليل على أنه يذكر وجهين من تفسير " اعتدى " أهي من " العدوان " ، أم من " العدو " . وكأن كلام الطبري في موضع هذا الخرم كان :
[وأما قوله : ( فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ ) . ففي " الاعتداء " وجهان من التأويل :
أحدهما : أن يكون " الاعتداء " من " العُدْوَان " ، وَهوَ مجاوزة الحدّ ظُلْمًا وَبغيًا . ويكون معنى الآية : فمن جاوز حدّه ظُلْمًا وَبغيًا ، فقاتلكم في الشهر الحرام فكافِئُوه بمثل ما فعل بكم ، على نحو ما ذكرنا من أنه . . ]
هذا ما استظهرته من تفسير الطبري فيما سلف 2 : 307 ، وهذا الجزء 3 : 375 ، 376 ، 564 ، 573 ثم يبقى خرم قبل ذلك في كلامه عن الآية ، منسوخة هي أم غير منسوخة .

(3/581)


اختلف معنياهما ، كما قال : ( وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ ) [سورة آل عمران : 54] وقد قال : ( فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ ) [سورة التوبة : 79] وما أشبه ذلك مما أتبع لفظٌ لفظًا واختلف المعنيان (1) .
* * *
والآخر : أن يكون بمعنى " العدو " الذي هو شدٌّ ووثوب. من قول القائل : " عدا الأسد على فَريسته " . فيكون معنى الكلام : فمن عَدا عليكم - أي فمن شد عليكم وَوثب - بظلم ، فاعدوا عليه - أي فشُدُّوا عليه وثبُوا نحوَه - قصاصًا لما فعل عليكم لا ظلمًا. ثم تُدخل " التاء " " في عدا " ، فتقال : " افتعل " مكان " فعل " ، كما يقال : " اقترب هذا الأمر " بمعنى " قرب " ، و " اجتلب كذلك " بمعنى " جَلب " وما أشبه ذلك.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (194) }
قال أبو جعفر : يعني جل ثناؤه بذلك : واتقوا الله أيها المؤمنون في حُرُماته وحدوده أن تعتَدُوا فيها ، فتتجاوزوا فيها ما بيَّنه وحدَّه لكم ، واعلموا أن الله يُحب المتقين ، الذين يتقونه بأداء فَرائضه وتجنب محارمه.
* * *
__________
(1) انظر ما سلف 2 : 307 ، وهذا الجزء 3 : 3 : 375 ، 376 ، 564 ، 573 .

(3/582)


وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (195)

القول في تأويل قوله تعالى : { وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (195) }
قال أبو جعفر : اختلف أهل التأويل في تأويل هذه الآية ، ومن عَنى بقوله : " ولا تُلقوا بأيديكم إلى التهلكة " .
فقال بعضهم : عنى بذلك : " وأنفقوا في سبيل الله " - و " سبيل الله " (1) طريقه الذي أمر أن يُسلك فيه إلى عدوِّه من المشركين لجهادهم وَحرْبهم " ولا تُلقوا بأيديكم إلى التهلكة " - يقول : ولا تتركوا النفقة في سبيل الله ، فإن الله يُعوِّضكم منها أجرًا ويرزقكم عاجلا (2) .
* ذكر من قال ذلك :
3144 - حدثني أبو السائب سلم بن جُنادة والحسن بن عرفة قالا حدثنا أبو معاوية ، عن الأعمش ، عن سفيان ، عن حذيفة : " ولا تُلقوا بأيديكم إلى التهلكة " قال : يعني في ترك النفقة.
3145 - حدثني محمد بن بشار قال ، حدثنا عبد الرحمن قال ، حدثنا شعبة وحدثنا ابن المثنى قال ، حدثنا ابن أبي عدي ، عن شعبة ، عن الأعمش ، عن أبي وائل ، عن حذيفة وحدثني محمد بن خلف العسقلاني قال ، حدثنا آدم قال ، حدثنا أبو جعفر الرازي ، عن الأعمش وحدثنا أحمد بن إسحاق قال ، حدثنا أبو أحمد قال ، حدثنا سفيان ، عن عاصم جميعا ، عن شقيق ، عن حذيفة ، قال : هو ترك النفقة في سبيل الله.
__________
(1) انظر تفسير " سبيل الله " فيما سلف 2 : 497 ، وهذا الجزء 3 : 564 .
(2) هكذا في المطبوعة : " أجرًا " وأخشى أن تكون محرفة عن " آجلا " ، ليكون السياق مطردا على وجهه ، وذلك أحب إلي .

(3/583)


3146 - حدثنا ابن المثنى قال ، حدثنا محمد بن جعفر قال ، حدثنا شعبة ، عن منصور ، عن أبي صالح ، عن عبد الله بن عباس أنه قال في هذه الآية : " ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة " قال : تنفق في سبيل الله ، وإن لم يكن لك إلا مِشْقَصٌ - أو : سَهمٌ - شعبة الذي يشك في ذلك (1) .
3147 - حدثنا ابن المثنى ، قال ، حدثنا ابن أبي عديّ ، عن شعبة ، عن منصور ، عن أبي صالح الذي كان يحدث عنه الكلبي ، عن ابن عباس قال : إن لم يكن لَكَ إلا سَهم أو مشقصٌ أنفقته.
3148 - حدثني ابن بشار قال ، حدثنا يحيى ، عن سفيان ، عن منصور ، عن أبي صالح ، عن ابن عباس : " ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة " قال : في النفقة.
3149 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا حكام ، عن عمرو بن أبي قيس ، عن عطاء ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : " ولا تُلقوا بأيديكم إلى التهلكة " ، قال : ليس التهلكة أن يُقتل الرجل في سبيل الله ، ولكن الإمساك عن النفقة في سبيل الله.
3150 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال ، حدثنا هشيم ، قال ، أخبرنا إسماعيل بن أبي خالد ، عن عكرمة ، قال : نزلت في النفقات في سبيل الله ، يعني قوله : " ولا تُلقوا بأيديكم إلى التهلكة " .
3151 - حدثنا يونس بن عبد الأعلى قال ، حدثنا ابن وهب ، قال ، أخبرني أبو صخر ، عن محمد بن كعب القرظي أنه كان يقول في هذه الآية : " ولا تلقوا بأيديكم إلى التَّهلكة " قال : كان القوم في سبيل الله ، فيتزوَّد الرجل ، فكان أفضل زادًا من الآخر. أنفقَ البائس من زاده حتى لا يبقى من زاده شيء ، أحبَّ أن
__________
(1) المشقص : نصل السهم ، إذا كان طويلا غير عريض .

(3/584)


يواسيَ صاحبه ، فأنزل الله : " وأنفقوا في سبيل الله ولا تُلقوا بأيديكم إلى التهلكة " .
3152 - حدثني محمد بن خلف العسقلاني قال ، حدثنا آدم قال ، حدثنا شيبان ، عن منصور بن المعتمر ، عن أبي صالح مولى أم هانئ ، عن ابن عباس في قوله : " ولا تُلقوا بأيديكم إلى التهلكة " قال : لا يقولنَّ أحدكم إنّي لا أجد شيئًا ، إن لم يجد إلا مشقصا فليتجهَّز به في سبيل الله.
3153 - حدثنا ابن عبد الأعلى الصنعاني قال ، حدثنا المعتمر ، قال : سمعت داود - يعني : ابنَ أبي هند - عن عامر : أن الأنصارَ كان احتبس عليهم بعضُ الرزق ، وكانوا قد أنفقوا نَفقاتٍ ، قال : فَساءَ ظنُّهم (1) وأمسكوا. قال : فأنزل الله : " وأنفقوا في سَبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة " قال : وكانت التهلكة سوء ظنهم وإمساكهم.
3154 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى وحدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله : " ولا تُلقوا بأيديكم إلى التهلكة " قال : تمنعكم نَفقةً في حقٍّ خيفةُ العَيْلة (2) .
3155 - حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : " وأنفقوا في سبيل الله ولا تُلقوا بأيديكم إلى التهلكة " قال : وكان قتادة يحدِّث أن الحسن حَدَّثه - : أنهم كانوا يُسافرون ويَغزُون ولا ينفقون من أموالهم أو قال : ولا ينفقون في ذلك فأمرهم الله أن يُنفقوا في مَغازيهم في سبيل الله.
__________
(1) قوله : " ساء ظنهم " ، أي خامرتهم الظنون السيئة القبيحة ، وشكوا . والعرب تستعمل " ساء ظنه " في مواضع كثيرة للدلالة على معاني مختلفة ، وقد بينت ذلك في مجلة الرسالة ، العدد : 910 (20 صفر سنة 1370 ، ديسمبر 1950) وفي طبقات فحول الشعراء : 510 ، تعليق : 1 .
(2) عال الرجل يعيل عيلا وعيلة : افتقر . وفي كتاب الله : (وَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى) العائل : الفقير المحتاج .

(3/585)


3156 - حدثنا الحسن بن يحيى ، قال ، أخبرنا عبد الرزاق ، قال ، أخبرنا معمر ، عن قتادة قوله : " ولا تُلقوا بأيديكم إلى التهلكة " يقول : لا تمسكوا بأيديكم عن النفقة في سبيل الله.
3157 - حدثني موسى بن هارون قال ، حدثنا عمرو بن حماد قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : " وأنفقوا في سبيل الله " أنفق في سبيل الله ولو عقالا " ولا تُلقوا بأيديكم إلى التهلكة " - تقول : ليس عندي شيء (1) .
3158 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو غسان قال ، حدثنا زهير قال ، حدثنا خصيف ، عن عكرمة في قوله : " ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة " قال : لما أمر الله بالنفقة ، فكانوا - أو بَعضُهم - يقولون : ننفق فيذهبُ مالنا ولا يبقى لما شيء! قال : فقال : أنفقوا ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة ، قال : أنفقوا وأنا أرزقكم.
3159 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عمرو بن عون قال ، حدثنا هشيم ، عن يونس ، عن الحسن ، قال : نزلت في النفقة.
3160 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، أخبرنا ابن همام الأهوازي ، قال ، أخبرنا يونس ، عن الحسن في " التهلكة " قال : أمرهم الله بالنفقة في سبيل الله ، وأخبرهم أن تَرك النفقة في سبيل الله التهلكة.
3161 - حدثنا القاسم ، قال ، حدثنا الحسين ، قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : سألت عطاء عن قوله : " وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة " قال : يقول : أنفقوا في سبيل الله ما قل وكثر - قال : وقال لي عبد الله بن كثير : نزلت في النفقة في سبيل الله.
3162 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا جرير ، عن منصور ، عن أبي
__________
(1) العقال : الحبل الذي يعقل به البعير ، أي يشد به وظيفه مع ذراعه ، حتى لا يقدر على الحركة .

(3/586)


صالح ، عن ابن عباس ، قال : لا يقولنّ الرجل لا أجد شيئا! قد هَلكتُ! فليتجهَّز ولو بمشقَص.
3163 - حدثني محمد بن سعد ، قال ، حدثني أبي قال ، حدثنى عمي ، قال ، حدثنى أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : " وأنفقوا في سبيل الله ولا تُلقوا بأيديكم إلى التهلكة " يقول : أنفقوا مَا كان من قليل أو كثير. ولا تستسلموا ولا تنفقوا شيئا فتهلكوا.
3164 - حدثني المثنى ، قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا أبو زهير ، عن جويبر ، عن الضحاك ، قال : " التهلكة " : أن يمسك الرجل نفسه وماله عن النفقة في الجهاد في سبيل الله.
3165 - حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا عبد الواحد بن زياد ، عن يونس ، عن الحسن في قوله : " ولا تُلقوا بأيديكم إلى التهلكة " ، فتدعوا النفقة في سبيل الله.
* * *
وقال آخرون ممن وجَّهوا تأويل ذَلك إلى أنه معنيَّة به النفقة : معنى ذلك : وأنفقوا في سبيل الله ، ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة ، فتخرجوا في سبيل الله بغير نفقة ولا قوة.
* ذكر من قال ذلك :
3166 - حدثني يونس ، قال ، أخبرنا ابن وهب ، قال ، قال ابن زيد في قوله : " وأنفقوا في سبيل الله ولا تُلقوا بأيديكم إلى التهلكة " قال : إذا لم يكن عندك ما تنفق ، فلا تخرج بنفسك بغير نفقة ولا قوة : فتلقي بيدَيك إلى التهلكة.
* * *
وقال آخرون : بل معناه : أنفقوا في سبيل الله ، ولا تلقوا بأيديكم - فيما أصبتم من الآثام - إلى التهلكة ، فتيأسوا من رحمة الله ، ولكن ارجوا رَحمته واعملوا الخيرات.

(3/587)


* ذكر من قال ذلك :
3167 - حدثني محمد بن عبيد المحاربي قال ، حدثنا أبو الأحوص ، عن أبي إسحاق ، عن البراء بن عازب في قوله : " ولا تُلقوا بأيديكم إلى التهلكة " قال : هو الرجل يُصيبُ الذنوبَ فيُلقي بيده إلى التهلكة ، يقول : لا توبة لي.
3168 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا أبو بكر بن عياش قال ، حدثنا أبو إسحاق ، عن البراء ، قال : سأله رجل : أحْمل على المشركين وَحدي فيقتلوني ، أكنت ألقيتُ بيدي إلى التهلكة ؟ فقال : لا إنما التهلكة في النفقة. بعثَ الله رسوله ، فقال : ( فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا تُكَلَّفُ إِلا نَفْسَكَ ) [سورة النساء : 84].
3169 - حدثنا الحسن بن عرفة وابن وكيع ، قالا حدثنا وكيع بن الجراح ، عن سفيان الثوري ، عن أبي إسحاق السبيعي ، عن البراء بن عازب في قول الله : " ولا تُلقوا بأيديكم إلى التهلكة " قال : هو الرجل يُذنب الذنبَ فيقول : لا يغفر الله لهُ.
3170 - حدثنا أحمد بن إسحاق قال ، حدثنا أبو أحمد قال ، حدثنا إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، قال : سمعت البراء وسأله رجل فقال : يا أبا عُمارة ، أرأيتَ قول الله : " ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة " ، أهو الرجل يتقدم فيقاتل حَتى يُقتل ؟ قال : لا ولكنه الرجل يعمل بالمعاصي ، ثم يلقي بيده ولا يتوب.
3171 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا يحيى بن واضح قال ، حدثنا الحسين ، عن أبي إسحاق ، قال : سمعت البراء ، وسأله رَجل فقال : الرجلُ يحمل على كتيبةٍ وحده فيقاتل ، أهو ممن ألقى بيده إلى التهلكة ؟ فقال : لا ولكن التهلكة أن يُذنب الذنبَ فيلقي بيده ، فيقول : لا تقبل لي توبة.
3172 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا حكام ، عن الجراح ، عن أبي إسحاق ، قال : قلت للبراء بن عازب : يا أبا عمارة ، الرجل يَلقى ألفًا من العدو فيحمل عليهم ، وإنما هو وحده ، أيكون ممن قال : " ولا تُلقوا بأيديكم إلى التهلكة " ؟

(3/588)


فقال : لا ليقاتل حتى يُقتل! قال الله لنبيه صلى الله عليه وسلم : ( فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا تُكَلَّفُ إِلا نَفْسَكَ ) .
3173 - حدثنا مجاهد بن موسى ، قال ، أخبرنا يزيد ، قال ، أخبرنا هشام وحدثني يعقوب قال ، حدثنا ابن علية ، عن هشام عن محمد قال : وسألت عبيدة عن قول الله : " وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة " الآية. فقال عبيدة : كان الرجل يذنب الذنبَ - قال : حسبْته قال : العظيم - فيلقي بيده فيستهلك زاد يعقوب في حديثه : فنُهوا عن ذلك ، فقيل : " أنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة " .
3174 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال ، حدثنا هشيم ، قال ، أخبرنا هشام ، عن ابن سيرين ، قال : سألت عبيدة السلماني عن ذلك ، فقال : هو الرجل يذنب الذنبَ فيستسلم ، ويلقي بيده إلى التهلكة ، ويقول : لا توبة له! يعني قوله : " ولا تُلقوا بأيديكم إلى التهلكة " .
3175 - حدثني يعقوب قال ، حدثنا ابن علية ، قال ، أخبرنا أيوب ، عن محمد ، عن عبيدة في قوله : " ولا تُلقوا بأيديكم إلى التهلكة " قال : كان الرجل يصيب الذنب فيلقي بيده.
3176 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن ابن عون ، عن ابن سيرين ، عن عبيدة : " ولا تُلقوا بأيديكم إلى التهلكة " قال : القُنوط.
3177 - حدثنا المثنى قال ، حدثنا عمرو بن عون ، قال : أخبرنا هشيم ، عن يونس وهشام ، عن ابن سيرين ، عن عبيدة السلماني ، قال : هو الرجل يذنب الذنب فيستسلم ، يقول : لا توبة لي! فيلقي بيده.
3178 - حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال ، أخبرنا معمر ، قال ، حدثني أيوب ، عن ابن سيرين ، عن عبيدة أنه قال : هي في الرجل يصيبُ الذنبَ العظيم فيلقي بيده ، ويَرى أنه قد هلك.
* * *

(3/589)


وقال آخرون : بل معنى ذلك : وأنفقوا في سبيل الله ، ولا تتركوا الجهاد في سبيله.
* ذكر من قال ذلك :
3179 - حدثني يونس ، قال ، أخبرنا ابن وهب ، قال ، أخبرني حَيْوَة ، عن يزيد بن أبي حبيب ، عن أسلم أبي عمران ، قال : غَزونا المدينة ، يريد بالقسطنطينية ، وعلى أهل مصر عُقبة بن عامر ، وعلى الجماعة عبد الرحمن بن خالد بن الوليد. قال : فصففنا صفَّين لم أر صَفين قط أعرضَ ولا أطولَ منهما ، والروم مُلصقون ظهورهم بحائط المدينة ، قال : فحمل رجل منا على العدو ، فقال الناس : مَهْ! لا إله إلا الله ، يلقي بيده إلى التهلكة! قال أبو أيوب الأنصاري : إنما تتأوّلونَ هذه الآية هكذا ، أنْ حَمل رجلٌ يُقاتل يلتمس الشهادة ، أو يُبلي من نفسه! إنما نزلت هذه الآية فينا مَعشرَ الأنصار! إنا لما نَصرَ الله نبيه وأظهرَ الإسلام ، قُلنا بَيننا معشرَ الأنصار خَفيًّا من رسول الله صلى الله عليه وسلم : إنا قد كنا تركنا أهلنا وأموالنا أن نقيم فيها ونصلحها حتى نصر الله نبيه ، هلم نقيم في أموالنا ونصلحها! فأنزل الله الخبرَ من السماء : " وأنفقوا في سبيل الله ولا تُلقوا بأيديكم إلى التهلكة " الآية ، فالإلقاء بالأيدي إلى التهلكة : أن نُقيم في أموالنا ونُصلحها ، وندعُ الجهاد. قال أبو عمران : فلم يزل أبو أيوب يُجاهدُ في سبيل الله حتى دُفن بالقسطنطينية (1) .
3180 - حدثني محمد بن عمارة الأسدي ، وعبد الله بن أبي زياد قالا حدثنا أبو عبد الرحمن عبد الله بن يزيد ، قال ، أخبرني حيوة وابن لهيعة ، قالا حدثنا يزيد بن أبي حبيب ، قال ، حدثني أسلم أبو عمران مولى تُجِيب ، قال : كنا بالقسطنطينية ، وعلى أهل مصر عقبة بن عامر الجهني صاحب رسول الله صلى الله
__________
(1) الحديث : 3179 - حيوة : هو ابن شريح . أسلم أبو عمران : نسبه التهذيب بأنه " أسلم بن يزيد " وهو تابعي ثقة ، كان وجيها بمصر . وهو مولى تجيب . وسيأتي تخريج الحديث ، في الرواية التالية .

(3/590)


عليه وسلم ، وعلى أهل الشام فَضالة بن عبيد صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فخرج من المدينة صفٌّ عظيم من الروم ، قال : وصففنا صفًّا عظيمًا من المسلمين ، فحمل رجل من المسلمين على صَفّ الروم حتى دخلَ فيهم ، ثم خرج إلينا مقبلا فصاح الناس وقالوا : سبحان الله! ألقى بيده إلى التهلكة! فقام أبو أيوب الأنصاري صاحبُ رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : أيها الناس إنكم تتأوّلون هذه الآية على هذا التأويل! وإنما أنزلت هذه الآية فينا معاشر الأنصار! إنا لما أعزّذ الله دينه وكثَّر ناصريه ، قلنا فيما بيننا بعضُنا لبعض سرًّا من رسول الله : إن أموالنا قد ضاعت ، فلو أنا أقمنا فيها ، فأصلحنا ما ضَاع منها! فأنزل الله في كتابه يرُدُّ علينا ما هممنا به ، فقال : " وأنفقوا في سبيل الله ولا تُلقوا بأيديكم إلى التهلكة " ، بالإقامة التي أردنا أن نقيم في الأموال ونصلحها ، فأمرنا بالغزو. فما زال أبو أيوب غازيًا في سبيل الله حتى قبضَه الله (1) .
* * *
__________
(1) الحديث : 3180 - أبو عبد الرحمن عبد الله بن يزيد المقرئ : ثقة معروف ، من شيوخ أحمد والبخاري ، وكان إماما في الحديث ، مشهورا في القراءات ، أقرأ القرآن بالبصرة 36 سنة ، ثم بمكة 35 سنة . وهو مولى آل عمر بن الخطاب . ووهم ابن حزم فيه وهمًا عجيبًا ، فأخطأ خطأ طريفا : جعله عربيا حميريا ، ثم من " بني سبيع " ! ثم نسبه إلى حي زعم أن اسمه " مقر " ، بضم الميم وسكون القاف! فقال في جمهرة الأنساب ، ص : 409 " ومن ولد سبيع المذكور : مقر ، حي ضخم ، إليه ينسب عبد الله بن يزيد المقري (يعني بدون همزة) ، ولم يكن مقرئا للقراءات ، وإنما كان محدثا " !! وأخطأ ابن حزم وشبه له ، فأتى بقبيلة لم يذكرها أحد قط - فيما نعلم . وإنما انتقل نظره إلى شيء آخر بعيد ، إلى " عبد الرحمن بن عبد القاري " بتشديد الياء دون همزة ، من ولد " القارة بن الديش " . وهو تابعي ، ولم يك مقرئا . فإلى هذا ذهب وهمه . ثم لا ندري كيف وضع القبيل الذي اخترعه ، في " بني سبيع " !!
ووقع في المطبوعة هنا " ثنا أبو عبد الرحمن عن عبد الله بن يزيد " . وهو خطأ في زيادة " عن " . و " أبو عبد الرحمن " كنية " عبد الله بن يزيد " ، ليس راويا آخر .
والحديث رواه أبو داود الطيالسي في مسنده : 599 ، عن عبد الله بن المبارك ، عن حيوة .
ورواه أبو داود السجستاني : 2512 ، من طريق ابن وهب ، عن حيوة وابن لهيعة .
ورواه الترمذي 4 : 72 - 73 ، من طريق أبي عاصم النبيل ، عن حيوة . وقال : " حديث حسن غريب صحيح " .
ورواه الحاكم في المستدرك 2 : 275 ، من طريق عبد الله بن يزيد المقرئ ، عن حيوة ، وحده . وقال : " هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ، ولم يخرجاه " . ووافقه الذهبي .
ورواه ابن عبد الحكم في فتوح مصر : 269 - 270 ، بإسنادين : رواه عن عبد الله بن صالح ، عن الليث بن سعد . ورواه عن عبد الله بن يزيد المقرئ ، عن حيوة بن شريح - كلاهما عن يزيد بن أبي حبيب ، به .
وقوله في الرواية الماضية " غزونا المدينة ، يريد القسطنطينية " - هكذا ثبت في المطبوعة هنا . ولفظ أبي داود السجستاني : " غزونا من المدينة ، نريد القسطنطينية " . ولعل ما هنا أجود وأصح ، فإن أسلم أبا عمران مصري . والظاهر من السياق أن الجيش كان من مصر والشام .
وقوله في تلك الرواية : " وعلى الجماعة عبد الرحمن بن خالد بن الوليد " يدل على أن هذه الغزوة كانت في سنة 46 أو قبلها ، لأن عبد الرحمن مات تلك السنة . وهذه الغزوة غير الغزوة المشهورة التي مات فيها أبو أيوب الأنصاري . وقد غزاها يزيد بن معاوية بعد ذلك سنة 49 ، ومعه جماعات من سادات الصحابة . ثم غزاها يزيد سنة 52 ، وهي التي مات فيها أبو أيوب رضي الله عنه ، وأوصى إلى يزيد أن يحملوه إذا مات ، ويدخلوه أرض العدو ، ويدفنوه تحت أقدامهم حيث يلقون العدو . ففعل يزيد ما أوصى به أبو أيوب . وقبره هناك إلى الآن معروف . انظر طبقات ابن سعد 3/2/49 - 50 ، وتاريخ الطبري 6 : 128 ، 130 ، وتاريخ ابن كثير 8 : 30 - 31 ، 32 ، 58 - 59 . وتاريخ الإسلام للذهبي 2 : 231 ، 327 - 328 .
وقوله في هذه الرواية الثانية " وعلى أهل الشام فضالة بن عبيد " - هذا هو الصواب الثابت في رواية الطيالسي ، وابن عبد الحكم ، والحاكم . ووقع في رواية الترمذي " وعلى الجماعة فضالة بن عبيد " . وهو وهم ، لعله من الترمذي أو من شيخه عبد بن حميد .
والحديث ذكره ابن كثير 1 : 437 - 438 ، من رواية الليث بن سعد ، ولم ينسبها . ثم خرجه من أبي داود ، والترمذي ، والنسائي ، وعبد بن حميد في تفسيره ، وابن أبي حاتم ، وابن جرير ، وابن مردويه ، وأبي يعلى ، وابن حبان ، والحاكم . ثم ذكر رواية منه ، على أنها لفظ أبي داود - ولا توافق لفظه ، وفيها تحريف كثير .
وذكره السيوطي 1 : 207 - 208 ، وزاد نسبته للطبراني ، والبيهقي في سننه .

(3/591)


قال أبو جعفر : والصواب من القول في ذلك عندي أنْ يُقال : إنّ الله جل ثناؤه أمرَ بالإنفاق في سبيله بقوله : " وأنفقوا في سبيل الله " - وسبيلُه : طريقه الذي شَرَعه لعباده وأوضحه لهم. ومعنى ذلك : وأنفقوا في إعزاز ديني الذي شرعتُه لكم ، بجهاد عدوّكم الناصبين لكم الحربَ على الكفر بي ، ونَهاهم أن يلقوا بأيديهم إلى التهلكة ، فقال : " ولا تُلقوا بأيديكم إلى التهلكة " .
* * *
وذلك مثلٌ ، والعرب تقول للمستسلم للأمر : " أعطَى فلان بيديه " ، وكذلك

(3/592)


يقال للممكن من نفسه مما أريد به : " أعطى بيديه " .
* * *
فمعنى قوله : " ولا تُلقوا بأيديكم إلى التهلكة " ، ولا تستسلموا للهلكة ، فتُعطوها أزمَّتكم فتهلكوا.
والتارك النفقةَ في سبيل الله عند وجوب ذلك عليه ، مستسلم للهلكة بتركه أداءَ فرضِ الله عليه في ماله. وذلك أن الله جل ثناؤه جَعل أحد سِهام الصدقات المفروضات الثمانية " في سبيله " ، فقال : ( إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ ) إلى قوله : ( وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ ) [سورة التوبة : 60] فمن ترك إنفاق ما لزمه من ذلك في سبيل الله على ما لزمه ، كان للهلكة مستسلما ، وبيديه للتهلكة ملقيا.
وكذلك الآئسُ من رحمة الله لذنب سلف منه ، مُلق بيديه إلى التهلكة ، لأن الله قد نهى عن ذلك فقال : ( وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ ) [سورة يوسف : 87].
وكذلك التارك غزوَ المشركين وجهادَهم ، في حال وجوب ذلك عليه ، في حال حاجة المسلمين إليه ، مُضيعٌ فرضا ، مُلقٍ بيده إلى التهلكة.
فإذ كانت هذه المعاني كلها يحتملها قوله : " ولا تُلقوا بأيديكم إلى التهلكة " ولم يكن الله عز وجلّ خصَّ منها شيئًا دون شيء ، فالصواب من القول في ذلك أن يقال : إن الله نهى عن الإلقاء بأيدينا لما فيه هلاكنا ، والاستسلام للهلكة - وهي العذاب - بترك ما لزمنا من فرائضه ، فغيرُ جائز لأحد منا الدخول في شيء يكرهه الله منا ، مما نستوجب بدخولنا فيه عَذابَه.
غير أن الأمر وإن كان كذلك ، فإن الأغلب من تأويل الآية : وأنفقوا أيها المؤمنون في سبيل الله ، ولا تتركوا النفقة فيها ، فتهلكوا باستحقاقكم - بترككم ذلك - عذابي. كما :
3181 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو صالح قال ، حدثنا معاوية ، عن

(3/593)


علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قوله : " ولا تُلقوا بأيديكم إلى التهلكة " قال : التهلكة عذابُ الله.
* * *
قال أبو جعفر : فيكون ذلك إعلاما منه لهم - بعد أمره إياهم بالنفقة - ما لمن ترك النفقة المفروضة عليه في سبيله ، منَ العقوبة في المعاد.
* * *
فإنْ قال قائل : فما وجه إدخال الباء في قوله : " ولا تلقوا بأيديكم " ، وقد علمت أن المعروف من كلام العرب : " ألقيت إلى فلان درهما " ، دون " ألقيتُ إلى فلان بدرهم " ؟
قيل : قد قيل إنها زيدت نحو زيادة القائل " الباء " في قوله : " جذبتُ بالثوب ، وجذبت الثوب " " وتعلَّقتُ به وتَعلَّقته " ، و( تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ ) [سورة المؤمنون : 20] وإنما هو : تُنبت الدهنَ (1) .
* * *
وقال آخرون : " الباء " في قوله : " ولا تُلقوا بأيديكم " أصلٌ للكنية (2) لأن كل فعل وَاقع كُنِي عنه فهو مضطرٌّ إليها (3) نحو قولك في رجل " كلَّمته " فأردت الكناية عن فعله ، فإذا أردت ذلك قلت : " فعلت به " قالوا : فلما كان " الباء " هي الأصل ، جاز إدخال " الباء " وإخراجها في كل " فعلٍ " سبيلُه سبيلُ كُنْيته (4) .
* * *
وأما " التهلكة " فإنها " التفعُلة " من " الهلاك " .
* * *
__________
(1) انظر الإنصاف لابن الأنباري : 128 .
(2) في المطبوعة : " أصل للكلمة " ، وهو تحريف ، وانظر التعليقات الآتية .
(3) الفعل الواقع : هو الفعل المتعدي ، ضريع الفعل اللازم . ويقال له أيضًا " الفعل المجاوز " (انظر بغية الوعاة 2 : 81) .
(4) في المطبوعة : " سبيل كلمته " ، وهو تحريف كأخيه السالف . وأراد الطبري بالكناية عن الفعل : أن تستبدل به لفظ " فعل " . و " الفعل " : كناية عن كل عمل . تقول : " ضربت الرجل " ثم تريد الكناية عن الفعل فتقول : " فعلت به " ، وهذا الذي تقوله هو " الكنية " .

(3/594)


القول في تأويل قوله تعالى : { وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ }
قال أبو جعفر : يعني جل ثناؤه بقوله : " وأحسنوا " أحسنوا أيها المؤمنون في أداء ما ألزمتكم من فرائضي ، وتجنُّب ما أمرتكم بتجنبه من معاصيَّ ، ومن الإنفاق في سبيلي ، وَعَوْدِ القوي منكم على الضعيف ذي الخَلَّة (1) فإنّي أحبّ المحسنين في ذلك (2) كما :
3182 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا زيد بن الحباب ، قال ، أخبرنا سفيان ، عن أبي إسحاق ، عن رجل من الصحابة في قوله : " وأحسنوا إنّ الله يُحب المحسنين " قال : أداء الفرائض.
* * *
وقال بعضهم : معناه : أحسنوا الظن بالله.
* ذكر من قال ذلك :
3183 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا حفص بن عمر ، عن الحكم بن أبان ، عن عكرمة : " وأحسنوا إنّ الله يُحب المحسنين " : قال : أحسنوا الظن بالله ، يبرَّكم.
* * *
وقال آخرون : أحسنوا بالعَوْد على المحتاج.
* ذكر من قال ذلك :
3184 - حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : " وأحسنوا إنّ الله يحب المحسنين " عودوا على من ليس في يده شيء.
* * *
__________
(1) ذو الخلة : المحتاج والفقير ، والمختل الحال بفساد أو وهن .
(2) انظر ما سلف في معنى " الإحسان " 2 : 292 .

(3/595)


وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (196)

بسم الله الرحمن الرحيم
القول في تأويل قوله تعالى : { وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ }
قال أبو جعفر : اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك :
* * *
فقال بعضهم : معنى ذلك أتِمّوا الحج بمناسكه وسُننِه ، وأتموا العُمْرة بحدودها وسُننِها.
* ذكر من قال ذلك :
3185 - حدثني عبيد بن إسماعيل الهَبّاري ، قال. ثنا عبد الله بن نمير ، عن الأعمش ، عن إبراهيم ، عن علقمة : " وأتِمّوا الحجّ والعمرة لله " قال : هو في قراءة عبد الله : " وَأَقِيمُوا الْحَجَّ والْعُمْرَةَ إِلى الْبَيْتِ " قال : لا تجاوزُوا بالعمرة البيتَ قال إبراهيم : فذكرت ذلك لسعيد بن جبير ، فقال : كذلك قال ابن عباس.
3186 - حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا عبد الرحمن بن مهدي ، قال : ثنا سفيان ، عن منصور ، عن إبراهيم أنه قرأ : " وأقيموا الحج والعمرة إلى البيت " .
3187 - حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا عبد الرحمن ، قال : ثنا سفيان ، عن الأعمش ، عن إبراهيم ، عن علقمة أنه قرأ : " وأقِيموا الحجَّ والعمرة إلى البيت " .
3188 - حدثني المثنى ، قال : ثنا أبو صالح ، قال : ثنا معاوية ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : " وأتِمّوا الحج والعمرةَ لله " ، يقول : من أحرَم بحجّ أو بعُمْرة فليس له أن يَحلّ حتى يُتمَّها تَمامُ الحجِّّ يوم النَّحر إذا رَمَى جَمرةَ العَقبة وزار البيت فقد حَلّ من إحرامه كُلّه ، وتمامُ العمرة إذا طاف بِالبيت وبالصفَّا والمروة ، فقد حَلّ.

(3/7)


3189 - حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى وحدثني المثنى ، قال : ثنا أبو حذيفة قال : ثنا شبل جميعًا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : " وأتِمّوا الحجَّ والعمرةَ لله " قال : ما أمِروا فيهما.
3190 - حدثت عن عمار بن الحسن ، قال : ثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع قوله : " وأتموا الحَج والعمرة لله " قال : قال إبراهيم عن علقمة بن قيس قال : " الحجُّ " : مناسك الحج ، و " العمرة " : لا يجاوز بها البيت.
3191 - حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا جرير ، عن منصور ، عن إبراهيم : " وأتِموا الحجّ والعمرة لله " قال : قال تَقْضى مناسكَ الحجَّ عرفة والمزدلفة وَمواطنَها ، والعمرةُ للبيت أنْ يطوف بالبيت وبين الصفَّا والمروة ثم يَحلُّ.
* * *
وقال آخرون : تمامُهما أن تُحرِم بهما مفردين من دُوَيْرة أهلِك. (1)
*ذكر من قال ذلك :
3193 - حدثنا محمد بن المثنى ، قال : ثنا محمد بن جعفر ، قال : ثنا شعبة ، عن عمرو بن مرة ، عن عبد الله بن سلمة ، عن علي أنه قال : جاء رَجُل إلى عليّ فقال له في هذه الآية : " وأتِمّوا الحجَّ والعمرة لله " أن تحرم من دُوَيْرة أهلِك.
3194 - حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا هارون بن المغيرة ، عن عنبسة ، عن شعبة ، عن عمرو بن مرة ، عن عبد الله بن سلمة ، قال : جاء رجل إلى عليّ رضوان الله عليه ، فقال : أرأيتَ قَول الله عز وجل : " وأتِمّوا الحجَّ والعمرة لله " ؟ قال : أن تحرم من دُوَيْرة أهلك.
3195 - حدثنا أبو كريب ، قال : ثنا وكيع ، عن سفيان ، عن محمد بن سوقة ، عن سعيد بن جبير ، قال : من تَمام العُمرة أن تحرم من دُوَيرة أهلك.
__________
(1) الدويرة تصغير " الدار " : وهو كل موضع حل به قوم ، فهو دارهم . هذا ، وقد سقط من الترقيم هنا رقم : 3192ن فلم أستطع أن أغير الترقيم كله ، فتركته على حاله .

(3/8)


3196 - حدثنا أبو كريب ، قال : ثنا وكيع ، عن ثور بن يزيد ، عن سليمان بن موسى ، عن طاوس ، قال : تمامُهما إفرادهما مُؤْتَنَفتين من أهلك. (1)
3197 - حدثني المثنى ، قال : ثنا سفيان ، عن ثور ، عن سليمان بن موسى ، عن طاوس : " وأتموا الحج والعمرة لله " قال : تفردهما مؤقتتين من أهلك ، فذلك تمامهما. (2)
* * *
وقال آخرون : تمام العمرة أن تعمل في غير أشهر الحج ، (3) وتمامُ الحج أن يُؤتى بمناسكه كلِّها ، حتى لا يلزم عَامِلَه دمٌ بسبب قِران ولا مُتعة.
* ذكر من قال ذلك :
3198 - حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة قوله : " وأتِمُّوا الحجَّ والعمرة لله " قال : وتمام العمرة ما كان في غير أشهر الحج.
ومن كان في أشهر الحج ، ثم أقام حتى يَحُجّ ، (4) فهي مُتعة. عليه فيها الهْدي إن وُجد ، وإلا صَام ثلاثة أيام في الحج وسبعةً إذا رَجع.
3199 - حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة قوله : " وأتموا الحج والعمرة لله " قال : ما كان في غير أشهر الحج فهي عمرة تامة ، وما كان في أشهر الحج فهي مُتعة وعليه الهدي.
3200 - حدثني يعقوب ، قال : ثنا هشيم ، عن ابن عون ، قال : سمعت القاسم بن محمد يقول : إنّ العمرة في أشهر الحج ليست بتامة. قال : فقيل له :
__________
(1) ائتنف الشيء ائتنافا : أخذه من أوله وابتدأه . ويعني : أفرادهما منذ ابتداء دخوله فيهما . وانظر الأثر الذي يليه والتعليق عليه .
(2) هكذا جاء في هذا الأثر " موقتتين " من التوقيت ، وهو التحديد ، والميقات : وهو الوقت المضروب للفعل ، أو الموضع . يقال : هذا ميقات أهل الشام أو مصر ، للموضع الذي يحرمون منه . ويعني أن ميقاتها من عند دويرة أهله .
(3) هكذا في الأصل : " أن تعمل " ولعل الصواب " أن تعتمر " .
(4) في المطبوعة : " وما كان في أشهر الحج " ، والصواب ما أثبت .

(3/9)


العمرة في المحرَّم ؟ قال : كانوا يَرَونها تامَّة.
* * *
وقال آخرون : إتمامهما أن تخرج من أهلك لا تريد غيرَهما.
* ذكر من قال ذلك :
3201 - حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني رجل ، عن سفيان ، قال : هو يعني تمامهما أن تخرُج من أهلك لا تريد إلا الحج والعمرة ، وتُهلّ من الميقات. ليس أن تخرُج لتجارةٍ ولا لحاجةً ، حتى إذا كنت قريبًا من مكة قلت : لو حججت أو اعتمرت. وذلك يجزئ ، ولكن التمَّام أن تخرُج له لا تخرُج لغيره.
* * *
وقال آخرون : بل معنى ذلك : أتموا الحجَّ والعمرةَ لله إذا دخلتم فيهما.
* ذكر من قال ذلك :
3202 - حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد : ليست العمرة واجبة على أحد من الناس. قال : فقلت له : قولُ الله تعالى : " وأتِمّوا الحجَّ والعمرةَ لله " ؟ قال : ليس من الخلقِ أحدٌ ينبغي له إذا دَخَل في أمر إلا أن يتمَّه ، فإذا دخل فيها لم يَنْبَغ له أن يهلّ يومًا أو يومين ثم يرجع ، كما لو صام يومًا لم ينبغ له أن يفطر في نصف النهار.
* * *
* وكان الشعبي يقرأ ذلك رفعا.
3203 - حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا يحيى بن سعيد ، عن شعبة ، قال : حدثني سعيد بن أبي بردة أن الشعبي وأبا بردة تذاكرَا العمرة ، قال : فقال الشعبي : تطوَّع ، " وأتِمّوا الحجَّ والعمرة لله " . وقال أبو بردة : هي واجبة " وأتِمّوا الحجَّ والعمرة لله " .
3204 - حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا ابن

(3/10)


عون ، عن الشعبي أنه كان يقرأ : " وأتِمُّوا الحجَّ والعمرةُ لله " .
* * *
وقد روي عن الشعبي خلاف هذا القول ، وإن كان المشهور عنه من القول هو هذا. وذلك ما : -
3205 - حدثني به المثنى ، قال : ثنا الحجاج بن المنهال ، قال : ثنا أبو عوانة ، عن المغيرة ، عن الشعبي ، قال : العمرةُ واجبةٌ.
* * *
فقراءة من قال : العمرة واجبة - نصبُها ، بمعنى أقيموا فرضَ الحجّ والعمرةَ ، كما : -
3206 - حدثنا محمد بن المثنى ، قال : أخبرنا محمد بن جعفر ، قال : ثنا شعبة ، قال : سمعت أبا إسحاق ، يقول : سمعت مسروقًا يقول : أُمرتم في كتاب الله بأربع : بإقام الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، والحج ، والعمرة. قال : ثم تلا هذه الآية : ( وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ ) [ سورة آل عمران : 97] " وأتموا الحجَّ والعُمْرةَ لله إلى البيت " .
3207 - حدثني أبو السائب ، قال : ثنا ابن إدريس ، قال : سمعت ليثًا يروي عن الحسن ، عن مسروق ، قال : أمرنا بإقامة أربعةٍ : الصلاةِ والزكاةِ ، والعمرةِ والحجّ ، فنزلت العُمْرة من الحج منزلةَ الزكاة من الصلاة.
3208 - حدثنا ابن بشار ، قال : أنبأنا محمد بن بكر ، قال : ثنا ابن حريج ، قال : قال علي بن حسين وسعيد بن جبير ، وسُئلا أواجبةٌ. العمرة على الناس ؟ فكلاهما قال : ما نعلمها إلا واجبة ، كما قال الله : " وأتِمّوا الحجَّ والعمرة لله " .
3209 - حدثنا سَوَّار بن عبد الله ، قال : ثنا يحيى بن سعيد القطان ، عن عبد الملك بن أبي سليمان ، قال : سأل رجل سعيد بن جبير عن العمرة فريضَةٌ هي أم تطوعٌ ؟ قال : فريضةٌ. قال : فإن الشعبي يقول : هي تطوع. قال : كَذَب

(3/11)


الشعبي ، وقرأ : " وأتموا الحجَّ والعمرةَ لله " (1)
3210 - حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة عمن سمع عطاء يقول في قوله : " وأتمُّوا الحجَّ والعمرةَ لله " ، قال : هما وَاجبان : الحج ، والعمرة.
* * *
قال أبو جعفر : فتأويل هؤلاء في قوله تبارك وتعالى : " وأتِمُّوا الحجَّ والعمرةَ لله " أنهما فرضَان واجبان أمرَ الله تبارك وتعالى أمر بإقامتهما ، (2) كما أمر بإقامة الصلاة ، وأنهما فريضتان ، وأوجب العمرة وجوبَ الحج. وهم عدد كثير من الصحابة والتّابعين ، ومن بعدهم من الخالفين ، (3) كرهنا تطويل الكتاب بذكرهم وذكر الروايات عنهم.
وقالوا : معنى قوله : " وأتموا الحج والعمرة لله " وأقيموا الحج والعمرة.
* ذكر بعض من قال ذلك :
3211 - حدثنا موسى بن هارون ، قال : ثنا عمرو بن حماد ، قال : ثنا أسباط ، عن السدي قوله : " وأتموا الحج والعمرة لله " يقول : أقيموا الحج والعمرة.
3212 - حدثنا أحمد بن حازم ، قال : ثنا أبو نعيم ، قال : ثنا إسرائيل ، عن ثُوير ، عن أبيه ، عن علي : " وأقيموا الحج والعمرة للبيت " ثم هي واجبةٌ مثل الحج. (4)
__________
(1) قوله : " كذب الشعبي " ، أي أخطأ . وهو كثير جدا في الأخبار والأحاديث وأشعار العرب ، بمعنى الخطأ ، لا بمعنى الكذب الذي هو فقيض الصدق . ويعني : أخطأ الشعبي في اجتهاده .
(2) في المطبوعة : " في أنهما " بزيادة " في " وهو خطأ ثم فيها " قرضان واجبان من الله " ، والصواب ما أثبت .
(3) يقال : خلف قوم بعد قوم ، وسلطان بعد سلطان ، يخلفون خلفا . فهم خالفون . تقول : أنا خالفه وخالفته : أي جئت بعده .
(4) الخبر : 3212 - أحمد بن حازم بن محمد بن يونس بن قيس بن أبي غرزة الغفاري ، شيخ الطبري : مضت الرواية عنه في : 44 ، 164 . ترجمه ابن أبي حاتم 1/1/48 ، وذكر أنه كتب إليه . ثوبر بن أبي فاختة : ضعيف جدا ، روى البخاري في الكبير 1/2/183 ، والصغير : 128 ، عن الثوري ، قال : " كان ثوير من أركان الكذب " ، وهو بضم الثاء المثلثة مصغرا . أبوه أبو فاختة : اسمه سعيد بن علاقة ، وهو مولى أم هانئ بنت أبي طالب . وهو تابعي ثقة ، يروى عن علي ، وعن ابن مسعود ، وغيرهما .

(3/12)


3213 - حدثنا أحمد بن حازم ، قال : ثنا أبو نعيم ، قال : ثنا إسرائيل ، قال : ثنا ثوير ، عن أبيه ، عن عبد الله : " وأقِيمُوا الحجَّ والعمرةَ إلى البيت " ثم قال عبد الله : والله لولا التحرُّجُ ، وأنيّ لم أسمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها شيئًا ، لقلت إنّ العمرة واجبة مثل الحج. (1)
* * *
قال أبو جعفر : وكأنهم عَنوا بقوله : " أقيمُوا الحج والعمرة " : ائتوا بهما ، بحدودهما وأحكامِهما ، على ما فُرِض عليكم.
* * *
وقال آخرون ممن قرأ قراءة هؤلاء بنصب " العُمْرة " : العمرة تطوعٌ ورأوا أنه لا دلالة على وجوبها في نَصْبهم " العمرة " في القراءة ، إذ كان من الأعمال ما قد يلزم العبدَ عمله وإتمامُه بدخوله فيه ، ولم يكن ابتداءُ الدخول فيه فرضًا عليه. وذلك كالحج التطوُّع ، لا خلاف بين الجميع فيه أنه إذا أحرم به أنّ عليه المضيَّ فيه وإتمامه ، ولم يكن فرضًا عليه ابتداء الدخولُ فيه. وقالوا : فكذلك العمرة غيرُ فرضٍ واجب الدخولُ فيها ابتداءً ، غير أن على من دخل فيها وأوجبَها على نفسه إتمامَها بعد الدخول فيها. قالوا : فليس في أمر الله بإتمام الحج والعمرة دلالةٌ على وجوب فرضها. قالوا : وإنما أوَجبنا فرضَ الحجّ بقوله عز وجل : ( وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا ) [ سورة آل عمران : 97].
وممن قال ذلك جماعة من الصحابة والتابعين ومن بعدهم من الخالفين.
* ذكر من قال ذلك :
__________
(1) الخبر : 3213 - هو في معنى الذي قبله ، بالإسناد نفسه . وزاد في هذا نسبة القراءة لابن مسعود . وهي من القراءات الشاذة المخالفة لرسم المصحف . ورواه البيهقي في السنن الكبرى 4 : 351 ، من طريق عبد الله بن رجاء ، عن إسرائيل ، به . والإسناد في الخبر بن ضعيف ، كما بينا آنفًا .

(3/13)


3214 - حدثنا أبو كريب وأبو السائب قالا حدثنا ابن إدريس ، قال : سمعت سعيد بن أبي عروبة ، عن أبي معشر عن إبراهيم ، قال : قال عبد الله : الحجُّ فريضة ، والعمرةُ تطوُّع.
3215 - حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا ابن علية ، عن ابن أبي عروبة ، عن أبي معشر ، عن النخعي ، عن ابن مسعود مثله.
3216 - وحدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا ابن عثمة ، قال : حدثنا سعيد بن بشير ، عن قتادة ، عن سعيد بن جبير ، قال : العمرة ليست بواجبة.
3217 - حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن مغيره ، عن سماك ، قال : سألت إبراهيم عن العمرة فقال : سنة حسنة.
3218 - حدثني يعقوب ، قال : حدثنا هشيم ، عن مغيرة ، عن إبراهيم ، مثله.
3219 - حدثني المثنى ، قال : حدثنا حجاج ، قال : حدثنا أبو عوانة ، عن المغيرة ، عن إبراهيم ، مثله.
3220 - حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن المغيرة ، عن إبراهيم ، مثله.
3221 - حدثني المثنى ، قال : حدثنا الحجاج ، قال : ثنا حماد ، قال : حدثنا عبد الله بن عون ، عن الشعبي ، قال : العمرة تطوع.
* * *
قال أبو جعفر : فأما الذين قرءوا ذلك برفع " العمرة " ، فإنهم قالوا : لا وجه لنَصْبها ، فالعمرة إنما هي زيارة البيت ، ولا يكون مستحقًّا اسم معتمرٍ إلا وهو له زائر. قالوا : وإذا كان لا يستحق اسم معتمر إلا بزيارته وهو متَى بلغه فطاف به وبالصفا والمروة ، فلا عمل يَبقى بعده يؤمَر بإتمامه بعد ذلك ، كما يؤمر بإتمامه الحاجُّ بعد بلوغِه والطوافِ به وبالصفا والمروة بإتيان عَرَفة والمزدلفة والوقوفِ بالمواضع التي أمر بالوقوف بها ، وعملِ سائرِ أعمال الحج الذي هو من تمامه بعد إتيان البيت

(3/14)


(1) لم يكن لقول القائل للمعتمر : " أتمَّ عمرتك " وجهٌ مفهوم. وإذا لم يكن له وجهٌ مفهوم. فالصواب من القراءة في " العمرة " الرفعُ على أنه من أعمال البِرِّ لله ، فتكون مرفوعة بخبرها الذي بعدها ، وهو قوله : " لله " .
* * *
قال أبو جعفر : وأولى القراءتين بالصواب في ذلك عندنا ، قراءة من قرأ بنصب " العمرة " على العطف بها على " الحجّ " ، بمعنى الأمر بإتمامهما له.
ولا معنى لاعتلال من اعتَلّ في رفعها بأن " العمرة " زيارة البيت ، فإن المعتمر متى بلغه ، فلا عمل بقي عليه يؤمر بإتمامه. وذلك أنه إذا بلغ البيت فقد انقضت زيارته وبقي عليه تمامُ العمل الذي أمره الله به في اعتماره ، وزيارَته البيت ، وذلك هو الطواف بالبيت ، والسعي بين الصفا والمروة ، وتجنبُ ما أمر الله بتجنبه إلى إتمامه ذلك ، وذلك عملٌ - وإن كان مما لزمه بإيجاب الزيارة على نفسه - غيرُ الزيارة. هذا ، مع إجماع الحجة على قراءة " العمرة " بالنصب ، ومخالفة جميع قرأة الأمصار قراءةَ من قرأ ذلك رفعًا ، ففي ذلك مستغنى عن الاستشهاد على خطأ من قرأ ذلك رفعًا.
* * *
وأما أولى القولين اللذين ذكرنا بالصواب في تأويل قوله : " والعمرةَ لله " على قراءة من قرأ ذلك نصبًا فقولُ عبد الله بن مسعود ، ومن قال بقوله من أنّ معنى ذلك : وأتمّوا الحج والعمرة لله إلى البيت بعد إيجابكم إياهما لا أنَّ ذلك أمرٌ من الله عز وجل - بابتداء عَمَلهما والدخول فيهما وأداء عملهما بتمامه - بهذه الآية .
وذلك أن الآية محتملة للمعنيين اللذين وَصَفْنا : من أن يكون أمرًا من الله عز وجل بإقامتهما ابتداءًا وإيجابًا منه على العبادِ فرضَهما ، وأن يكون أمرًا منه بإتمامهما بعد
__________
(1) سياق العبارة : " وإذا كان لا يستحق اسم معتمر إلا بزيارته ... لم يكن لقول قائل ... " وما بينهما فصل طويل

(3/15)


الدخول فيهما ، وبعد إيجاب موجبِهما على نفسه ، فإذ كانت الآية محتملة للمعنيين اللذين وصفنا ، فلا حجة فيها لأحد الفريقين على الآخر ، إلا وللآخر عليه فيها مثلها. وإذ كان كذلك ولم يكن بإيجاب فرض العمرة خبرٌ عن الحجة للعذرِ قاطعًا ، وكانت الأمة في وجوبها متنازعة - لم يكن لقول قائلٍ : " هي فرض " بغير برهان دالّ على صحة قوله - معنى (1) ، إذ كانت الفرُوض لا تلزم العباد إلا بدلالةٍ على لزومها إياهم واضحةٍ.
فإن ظن ظانٌّ أنها واجبة وجوبَ الحج ، وأن تأويلَ من تأوّلَ قوله : " وأتمّوا الحج والعمرةَ لله " بمعنى : أقيموا حدُودَهما وفروضهما أوْلى من تأويلنا ، (2) بما : -
3222 - حدثني به حاتم بن بكير الضبي ، قال : ثنا أشهل بن حاتم الأرطبائي ، قال : ثنا ابن عون ، عن محمد بن جحادة ، عن رجل ، عن زميل له ، عن أبيه - وكان أبوه يكنى أبا المُنْتَفِق - قال : أتيت النبي صلى الله عليه وسلم بعرفة ، فدنوتُ منه ، حتى اختلفتْ عُنق راحلتي وعُنُق راحلته ، فقلت : يا رسول الله أنبئني بعمل يُنجيني من عذاب الله ويُدخلُني جَنتَه ! قال : " اعبد الله ولا تشرك به شيئًا ، وأقم الصلاة المكتوبة ، وأدّ الزكاة المفروضة ، وحُجّ واعتَمِر قال أشهل : وأظنه قال : " وصُمْ رمضان وانظر ماذا تحبُّ من الناس أن يأتوه إليك فافعله بهم ، وما تكرهُ من الناس أن يأتوه إليك فذَرْهم منه " . (3)
وما : -
__________
(1) السياق : " لم يكن لقول قائل ... معنى "
(2) سياق المعنى : " وأن تأويل من تأول ... أولى من تأويلنا " .
(3) الحديث : 3222 - هذا إسناد ضعيف ، لإبهام بعض رواته الذين لم يسموا.
حاتم بن بكير الضبي ، شيخ الطبري : هو أيضًا من شيوخ ابن ماجه وابن خزيمة ، مترجم في التهذيب والخلاصة ، دون بيان حاله ، وفي التقريب : " مقبول " وثبت اسم أبيه " بكير " بالتصغير هنا وفي الخلاصة. وثبت بالتكبير " بكر " في التهذيب والخلاصة ، ولم أجده في مصدر آخر حتى أستطيع الترجيح بينهما.
أشهل - بالشين المعجمة - بن حاتم ، ـأبو حاتم البصري الجمحي : مختلف فيه ، فضعفه ابن معين. وقال أبو زرعة : " محله الصدق ، وليس بالقوي ، رأيته يسند عن ابن عون حديثا ، الناس يقفونه " . وترجمه البخاري في الكبير 1 / 2 / 69 فلم يذكر فيه جرحا. ثم هو قد روى له في الصحيح حديثا متصلا وآخر معلقا . مقدمة الفتح ، ص : 389.
وأما نسبته هنا " الأرطبائي - فلا أدري ما هي ؟ ولا أعرف لها توجيها . إلا أن يكون ممن أكثر الرواية عن شيخه " ابن عون " - وهو " عبد الله بن عون بن أرطبان " بالنون في آخره - فنسب إلى " أرطبان " لذلك ، ثم حرفت " الأرطباني " إلى " الأرطبائي " . وما وجدت ما يدل على ذلك ، ولا ما يشير إلى أنه يكثر الرواية عن ابن عون - وإنما هو ظن ظننته.
محمد بن جحادة : مضت ترجمته : 34.
أبو المنتفق : - ويقال ابن المنتفق - ترجمه ابن الأثير في أسد الغابة 5 : 306 - وروى هذا الحديث ، بإسناده إلى معاذ بن معاذ ، عن ابن عون ، بهذا الإسناد ، ووقع فيه " ابن عوف " وهو خطأ مطبعي ظاهر.
وترجمه الحافظ في الإصابة 7 : 181 ، وذكر له هذا الحديث من رواية الطبراني ، ولكن فيه " محمد بن جحادة " ، عن زميل له ، بحذف " عن رجل " من بينهما.
وترجمه ابن أبي حاتم 4 / 2 / 327 باسم " ابن المنتفق " ، هكذا : " أنه وصف صفة النبي صلى الله عليه وسلم ، فيما روى محمد بن جحادة ، عن المغيرة بن عبد الله اليشكري ، عن أبيه ، عنه "
والحديث ذكره الهيثمي في مجمع الزوائد 1 : 43 - 44 ، من غير هذا الوجه قال : وعن حجير ، عن أبيه ، وكان يكنى أبا المنتفق " فذكر نحوه ، وفيه - كما هنا - " وحج واعتمر " . وذكره قبل ذلك 1 : 43 ، من وجهين آخرين ، ليس فيهما هذا اللفظ.
وقال الحافظ في الإصابة - بعد أن أشار إلى رواية الطبراني من طريق ابن عون : " قال الطبراني : اضطرب ابن عون في إسناده ، ولم يضبطه عن محمد بن جحادة ، وضبطه همام . ثم أخرجه من طريق همام. عن محمد بن جحادة ، عن المغيرة بن عبد الله اليشكري ، عن أبيه ، قال : قدمت الكوفة ، فدخلت المسجد فإذا رجل من قيس ، يقال له ابن المنتفق ، فسمعته يقول " ... وهذه الرواية هي التي ذكرها صاحب الزوائد أولا.
وطرق الحديث من أوجه ، منها رواية همام ، التي ذكرها الحافظ - : في المسند 15948 - 15950 ، (3 : 472 - 473 حلبي) ، و 16774 (4 : 76 - 77 حلبي) ، و (5 : 372 - 373 ، و 6 : 383 - 384 حلبي). ولم أجد في روايات المسند هذه ، ذكرا للعمرة.

(3/16)


3223 - حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : ثنا عبد الرحمن بن مهدي ، ومحمد بن أبي عدي ، عن شعبة ، عن النعمان بن سالم ، عن عمرو بن أوس ، عن أبي رزين العقيلي رجل من بني عامر قال : قلت يا رسول الله إن أبي شيخٌ كبير لا يستطيع الحجّ ولا العمرة ولا الظَّعْن ، وقد أدركه

(3/17)


الإسلام ، أفأحج عنه ؟ قال : " حُج عن أبيك واعتمر " . (1)
وما : -
3224 - حدثني به يعقوب ، قال : ثنا ابن علية ، عن أيوب ، عن أبي قلابة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خَطب فقال : اعبدوا الله ولا تشركوا به شيئًا ، وأقيموا الصلاة ، وآتوا الزكاة ، وحُجُّوا واعتمروا واستقيموا يَستقم لكم. (2)
* * *
وما أشبه ذلك من الأخبار ، فإن هذه أخبار لا يثبت بمثلها في الدين حجة لِوَهْي أسانيدها ، وأنها - معَ وَهْيِ أسانيدها - لها في الأخبار أشكالٌ تنبئ عن أنّ العمرة تطوعٌ لا فرض واجب. وهو ما : -
__________
(1) الحديث : 3223 - يعقوب بن إبراهيم : هو الدورقي الحافظ ، مضى في : 237 ، 335. وهو يروى عن عبد الرحمن بن مهدي. ووقع في المطبوعة هنا بينهما زيادة " قال خدثنا ابن إبراهيم " ، وهي زيادة خطأ من ناسخ أو طابع ، ولا معنى لها ، فحذفناها.
النعمان بن سالم الطائفي : ثقة ، وثقه ابن معين وغيره ، وأخرج له مسلم في الصحيح .
عمرو ابن أوس بن أبي أوس الثقفي الطائفي : تابعي ثقة . أخرج له أصحاب الكتب الستة.
أبو رزين العقيلي : هو لقيط بن عامر بن المنتفق بن عامر ، وهو صحابي معروف ، وغلط من جعله و " لقيط بن صبرة بن عبد الله بن المنتفق " - واحدا . بل هما صحابيان ، وقد فصل بينهما ابن سعد 5 : 379 ، 340 .
وهذا الحديث صحيح ، خلافا لما قاله الطبري فيما سيأتي بعد أسطر ، إذ ضعف هذه الأحاديث كلها وفيما هذا الحديث .
وقد رواه الطيالسي : 1091 ، عن شعبة. ورواه أحمد في المسند : 16253 ، عن وكيع عن شعبة ، بهذا الإسناد (ج 4ص 10 ، 11 ، 12 حلبي) .
ورواه أبو داود : 1810 ، عن حفص بن عمر ومسلم بن إبراهيم - كلاهما عن شعبة. وقال المنذري : 1736 ، " وأخرجه الترمذي ، والنسائي وابن ماجه. وقال الترمذي : حسن صحيح . وقال الإمام أحمد : لا أعلم في إيجاب العمرة حديثا أجود من هذا ، ولا أصح منه "
ورواه البيهقي 4 : 350 ، من طريق أبي داود . ثم روى كلمة أحمد بن حنبل في تصحيحه .
(2) الحديث : 3224 - أبو قلابة - بكسر الكاف وتخفيف اللام . وهو عبد الله بن زيد الجرمي ، أحد الأعلام ، من التابعين

(3/18)


3225 - حدثنا به محمد بن حميد ، ومحمد بن عيسى الدامغاني ، قالا ثنا عبد الله بن المبارك ، عن الحجاج بن أرطأة ، عن محمد بن المنكدر ، عن جابر بن عبد الله ، عن النبي صلى الله عليه وسلم : أنه سئل عن العمرة أواجبة هي ؟ ، فقال : " لا وأن تعتمروا خيرٌ لكم " . (1)
3226 - حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا جرير و حدثني يحيى بن طلحة اليربوعي ، قال : ثنا شريك ، عن معاوية بن إِسحاق ، عن أبي صالح الحنفي ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : الحجُّ جهادٌ ، والعمرة تطوع. (2)
* * *
__________
(1) الحديث : 3225 - محمد بن عيسى الدامغاني ، شيخ الطبري : روى عنه أبو حاتم ، وقال : " يكتب حديثه " . وروى عنه أيضًا النسائي ، وابن خزيمة ، وغيرهم.
والحديث رواه أحمد : 14449 (3 : 316 حلبي) ، عن ابن معاوية ، عن الحجاج بن أرطاة ، بهذا الإسناد ، نحوه.
ورواه الترمذي 2 : 113 ، من طريق عمر بن علي ، والبيهقي 4 : 349 ، من طريق عبد الواحد بن زياد - كلاهما عن الحجاج ، به ، نحوه .
وقال الترمذي : " هذا حديث حسن صحيح " . رجح البيهقي أن المحفوظ روايته موقوفا من كلام جابر ، وقد أطال الحافظ ابن حجر ، في التلخيص ، ص 204 ، في إعلال المرفوع وترجيح الموقوف .
(2) الحديث : 3226 - شريك : : هو ابن عبد الله النخعي ، مضت ترجمته : 2527.
معاوية بن إسحاق بن طلحة بن عبيد الله التيمي : تابعي ثقة.
أبو صالح الحنفي : هو عبد الرحمن بن قيس الكوفي ، وهو تابعي ثقة. وأخطأ بعضهم فسماه " ماهان " ، والصواب أن كنية " ماهان " : " أبو سالم الحنفي " . انظر الترجمتين في التهذيب . وعلى الرغم من أن الحافظ ابن حجر حقق ذلك في الموضعين من التهذيب - فإنه سها في التلخيص ، ص : 204 ، فقال : " وأبو صالح : ليس ليس هو ذكوان السمان ، بل هو أبو صالح ماهان الحنفي " !
وهذا الحديث مرسل . ورواه الشافعي في الأم 2 : 113 ، قال : " فاختلف الناس في العمرة ، فقال بعض المشرقيين : العمرة تطوع. وقال سعيد بن سالم ، (هو القداح ، شيخ الشافعي) واختج بأن سفيان الثوري أخبره عن معاوية بن إسحاق ، عن أبي صالح الحنفي ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : الحج الجهاد ، والعمرة تطوع. فقلت له : أتثبت مثل هذا عن النبي صلى الله عليه وسلم ؟ فقال : هو منقطع " . ثم ذهب الشافعي يقيم عليه الحجة - أن تكون العمرة واجبة " . إلى آخر ما قال .
وقد روى البيهقي 4 : 348 هذا الحديث المرسل ، من طريق الشافعي. ثم نقل عنه بعض ما نقلته .

(3/19)


قال أبو جعفر : وقد زعم بعض أهل الغباء أنه قد صحَّ عنده أن العمرة واجبةٌ ، بأنه لم يجد تطوعًا ، إلا وله إمامٌ من المكتوبة. فلما صح أنّ العمرة تطوُّع وجب أن يكون لها فَرْضٌ ، لأن الفرض إمام التطوع في جميع الأعمال.
فيقال لقائل ذلك : فقد جُعِل الاعتكاف تطوُّعًا ، فما الفرض منه الذي هو إمامُ مُتطوَّعه ؟
ثم يسأل عن الاعتكاف أواجب هو أم غير واجب ؟
فإن قال : " واجبٌ " ، خرج من قول جميع الأمة.
وإن قال : تطوع.
قيل : فما الذي أوجب أن يكون الاعتكاف تطوعًا والعمرةُ فرضًا ، من الوجه الذي يجب التسليم له ؟
فلن يقول في أحدهما شيئا إلا ألزم في الآخر مثله.
* * *
وبما استشهدنا من الأدلة ، فإن أولى القراءتين بالصواب في " العمرة " قراءةُ من قرأها نصبًا - وأنّ أولى التأويلين في قوله " وأتموا الحج والعمرة لله " ، تأويلُ ابن عباس الذي ذكرنا عنه من رواية علي بن أبي طلحة عنه من أنه أمرٌ من الله بإتمام أعمالهما بعد الدُّخول فيهما وإيجابهما على ما أمِر به من حدودهما وسنَنِهما - وأنّ أولى القولين في " العمرة " بالصواب قول من قال : " هي تطوّع لا فرض " - وإن معنى الآية : وأتموا أيها المؤمنون الحجّ والعمرة لله بعد دخولكم فيهما وإيجابكموهما على أنفسكم ، على ما أمركم الله من حدودهما.
* * *
وإنما أنزل الله تبارك وتعالى هذه الآية على نبيه عليه الصلاة والسلام في عمرة الحديبية التي صُدَّ فيها عن البيت ، معرِّفَهُ المؤمنين فيها ما عليهم في إحرامهم إن خُلِّي بينهم وبين البيت ومبيِّنًا لهم فيها ما المُخْرِجَ لهم من إحرامهم إن أحرموا ، فصُدوا عن البيت .

(3/20)


ولذكر اللازم لهم من الأعمال في عمرتهم التي اعتمروها عام الحديبية ، (1) وما يلزمهم فيها بعد ذلك في عمرتهم وحجهم ، افتَتح بقوله : " يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالحَجِّ " .
وقد دللنا فيما مضى على معنى " الحج " " والعمرة " بشواهد ، فكرهنا تطويل الكتاب بإعادته. (2)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ }
قال أبو جعفر : اختلف أهل التأويل في " الإحصار " الذي جعل الله على من ابتلي به في حجه وعمرته ما استيسر من الهدي.
* * *
فقال بعضهم : هو كل مانع أو حابس منع المحرم وحبسه عن العمل الذي فرضه الله عليه في إحرامه ووصوله إلى البيت الحرام.
* ذكر من قال ذلك :
3227 - حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد أنه كان يقول : " الحصر " الحبس كله. يقول : أيما رجل اعترض له في حجته أو عمرته فإنه يبعث بهديه من حيث يحبس. قال : وقال مجاهد في قوله : " فإن أحصرتم " فإن أحْصِرتم : يَمرض إنسانٌ أو يُكْسر ، أو يحبسه أمرٌ فغلبه كائنًا ما كان ، فليرسل بما استيسَر من الهَدْي ، ولا يحلِق رأسَه ، ولا يحل ، حتى يوم النحر.
__________
(1) في المطبوعة : " وبذكر اللام ... " ، وكأن الصواب ما أثبت حتى يستقيم الكلام.
(2) انظر ما سلف 3 : 228 - 229 .

(3/21)


3228 - حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله.
3229 - حدثنا المثنى ، قال : حدثنا أبو نعيم ، قال : حدثنا سفيان ، عن ابن جريج ، عن عطاء ، قال : الإحصار كل شيء يحبسه.
3230 - وحدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، عن سعيد ، عن قتادة أنه قال : في المحصَر : هو الخوفُ والمرض والحابسُ. إذا أصابه ذلك بَعَث بِهَدْيه ، فإذا بلغ الهدي مَحِله حَلّ.
3231 - حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، عن سعيد ، عن قتادة قوله : " فإن أحصرتم فما استيسر من الهدْي " قال : هذا رجل أصابه خوف أو مرض أو حابس حَبَسه عن البيت يبعث بهَديه ، فإذا بلغ مَحِله صار حلالا.
3232 - حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا أبو معاوية ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، قال : كل شيء حَبَس المحرم فهو إحصارٌ.
3233 - حدثني المثنى قال : حدثنا سويد ، قال : أخبرنا ابن المبارك ، عن إبراهيم قال أبو جعفر : أحسبه عن شريك ، عن إبراهيم بن المهاجر ، عن إبراهيم : " فإن أحصِرْتم " قال : مرض أو كسر أو خَوفٌ.
3234 - حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : حدثني معاوية ، عن علي عن ابن عباس قوله : " فإن أحصرتُم فما استيسر من الهدي " ، يقول : من أحرم بحج أو بعمرة ، ثم حُبس عن البيت بمرض يُجْهده أو عذر يحبسه ، فعليه قَضاؤها.
* * *
قال أبو جعفر : وعلة من قال بهذه المقالة : أن " الإحصار " معناه في كلام العَرب : مَنْع العلة من المرض وأشباهه ، غيرِ القهرِ والغلبة من قاهر أو غالبٍ ، إلا غلبة علة من مرض أو لدغ أو جراحة ، أو ذهاب نفقة ، أو كسر راحلة. فأما

(3/22)


منعُ العدوّ ، وحبس حابس في سجن ، وغلبة غالبٍ حائل بين المحرِم والوصول إلى البيت من سُلطان ، أو إنسان قاهرٍ مانع ، فإن ذلك إنما تسميه العرب " حصرا " لا " إحصارا " .
قالوا : ومما يدل على ذلك قول الله جل ثناؤه : ( وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا ) [الإسراء : 8] يعني به : حاصرًا ، أي حابسًا.
قالوا : ولو كان حبس القاهر الغالب من غير العلل التي وصفنا ، يسمى " إحصارًا " لوجب أن يقال : " قد أُحْصرَ العدوُّ " .
قالوا : وفي اجتماع لغات العرب على " حُوصر العدو ، والعدوّ محاصر " ، دون " أحصر العدو ، وهم مُحْصَرون " ، و " أحْصِر الرجل " بالعلة من المرض والخوف - أكبر الدلالة على أنّ الله جل ثناؤه إنما عنى بقوله : " فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ " بمرض أو خوف أو علة مانعة.
قالوا : وإنما جعلنا حبس العدو ومنعه المحرم من الوصول إلى البيت بمعنى " حصر المرض " قياسا على ما جعل الله جل ثناؤه من ذلك للمريض الذي منعه المرض من الوصول إلى البيت ، لا بدلالة ظاهر قوله : " فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي " إذ كان حبس العدو والسلطان والقاهر علة مانعة ، نظيرة العلة المانعة من المرض والكسر.
* * *
وقال آخرون : معنى قوله : " فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي " فإن حبسكم عدو عن الوصول إلى البيت ، أو حابس قاهر من بني آدم. قالوا : فأما العلل العارضة في الأبدان كالمرض والجراح وما أشبهها ، فإن ذلك غير داخل في قوله : " فإن أحصرتم " .
* ذكر من قال ذلك :
3235 - حدثنا محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد وعطاء ، عن ابن عباس أنه قال : " الحصْرُ " :

(3/23)


حصرُ العدو ، فيبعثُ الرجل بهديّتِه ، فإن كان لا يستطيع أن يَصِل إلى البيت من العدو ، فإن وجد من يبلغها عنه إلى مكة ، فإنه يبعث بها ويُحْرِم قال محمد بن عمرو ، قال أبو عاصم : لا ندري قال : يُحِرِم ، أو يَحِل من يومٍ يواعد فيه صاحبَ الهدْي إذا اشترى. فإذا أمن فعليه أن يحجَّ أو يعتمر. فإذا أصابه مَرَض يحبسه وليس معه هدْي ، فإنه يَحِل حيث يُحبَس ، فإن كان معه هدْي فلا يحل حتى يَبلغ الهدي مَحله ، فإذا بعث به ، فليس عليه أن يحج قابلا ولا يعتمر إلا أن يشاء.
3236 - حدثت عن أبي عبيد القاسم بن سلام ، قال : حدثني يحيى بن سعيد ، عن ابن جريج ، عن ابن طاوس ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قال : لا حصر إلا من حَبْس عدو.
3237 - حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد وعطاء ، عن ابن عباس مثل حديث محمد بن عمرو ، عن أبي عاصم إلا أنه قال : فإنه يبعث بها ويحرم من يوم واعَد فيه صاحبَ الهدية إذا اشترى. ثم ذكر سائر الحديث مثل حديث محمد بن عمرو ، عن أبي عاصم.
* * *
وقال مالك بن أنس : بلغني أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم حَلَّ وأصحابه بالحديبية ، فنحروا الهدي ، وحلقوا رؤوسهم ، وحَلّوا من كل شيء قبل أن يطوفوا بالبيت ، وقبل أن يَصِل إليه الهدي. ثم لم نَعْلم أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرَ أحدًا من أصحابه ، ولا ممن كان معه ، أن يقضوا شيئًا ولا أن يعودوا لشيء. (1)
__________
(1) نص كلام مالك في الموطأ : 360 ، وسيأتي برقم : 3287 .

(3/24)


3238 - حدثني بذلك يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب عنه قال : وسئل مالك عمن أحصر بعدو وحيل بينه وبين البيت ؟ فقال : يَحلّ من كل شيء ، ويَنْحر هَدْيه ، ويحلق رأسه حيث يحبس ، وليس عليه قضاء ، (1) إلا أن يكون لم يحج قَط ، فعليه أن يحج حجة الإسلام.
قال : والأمر عندنا فيمن أحصِر بغير عدو بمرض أو ما أشبهه ، أنْ يتداوَى بما لا بد منه ، ويَفتدي ، (2) ثم يجعلها عُمرة ، ويحج عامًا قابلا ويُهدِي.
* * *
قال أبو جعفر : وعلة من قال هذه المقالة - أعني : من قال قولَ مالك - أنّ هذه الآية نزلت في حصر المشركين رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه عن البيت ، فأمر الله نبيّه ومن معه بنحْر هَداياهم والإحلال.
قالوا : فإنما أنزل الله هذه الآية في حَصْر العدو ، فلا يجوز أن يصرف حكمها إلى غير المعنى الذي نزلتْ فيه.
قالوا : وأما المريض ، فإنه إذا لم يُطِق لمرضه السَّير حتى فاتته عرفة ، فإنما هو رجلٌ فاته الحج ، عليه الخروج من إحرامه بما يخرُج به من فَاته الحج - وليس من معنى " المحصر " الذي نزلت هذه الآية في شأنه.
* * *
قال أبو جعفر : وأولى التأويلين بالصواب في قوله : " فإذا أحصرتم " ، تأويل من تأوله بمعنى : فإن أحْصَرَكم خوفُ عَدٍّو أو مرضٌ أو علةٌ عن الوصول إلى البيت أي : صيَّركم خوفكم أو مرضكم تَحصُرون أنفسكم ، فتحبسونها عن النفوذ لما أوجبتُموه على أنفسكم من عمل الحج والعمرة. فلذا قيل : " أحصرتم " ، لمَّا أسقط ذكِر الخوف والمرض. يقال منه : " أحصرني خوفي من فلان عن لقائك ،
__________
(1) إلى هنا نص ما في الموطأ : 360 ، وما بعده زيادة ليست هناك . وسيأتي في آخر رقم : 3288 .
(2) في المطبوعة : " أن يبدأ بما لا بد منه " والصواب ما أثبته ، عن الموطأ : 362 ، فراجعه هناك . وانظر أيضًا ما سيأتي رقم : 3289 .

(3/25)


ومَرَضي عن فلان " ، يراد به : جعلني أحبس نفسي عن ذلك. فأما إذا كان الحابس الرجلُ والإنسانُ ، قيل : " حصرَني فلان عن لقائك " ، بمعنى حبسني عنه.
فلو كان معنى الآية ما ظنه المتأوِّل من قوله : " فإن أحصِرْتم " فإن حبسكم حابس من العدوّ عن الوصول إلى البيت - لوجب أن يكون : فإن حُصِرْتم.
ومما يُبَيِّن صحةَ ما قلناه من أن تأويل الآية مرادٌ بها إحصارُ غير العدوّ وأنه إنما يراد بها الخوف من العدو ، قولُه : " فإذا أمنتم فمن تمتع بالعُمْرة إلى الحج " .
و " الأمنُ " إنما يكون بزوال الخوف. وإذ كان ذلك كذلك ، فمعلوم أن الإحصار الذي عنى الله في هذه الآية ، هو الخوف الذي يكون بزواله الأمنُ.
وإذ كان ذلك كذلك ، لم يكن حَبسُ الحابس الذي ليس مع حَبْسه خوف على النفس من حبسه داخلا في حكم الآية بظاهرها المتْلوّ ، وإن كان قد يُلحق حكمه عندنا بحكمه من وجه القياس من أجل أن حَبْس من لا خوف على النفس من حبسه ، كالسلطان غير المخوفة عقوبته ، والوالدِ ، وزوج المرأة ، (1) إن كان منهم أو من بعضهم حبس ، ومنعٌ عن الشخوص لعمل الحج ، أو الوصول إلى البيت بعد إيجاب الممنوع الإحرامَ ، (2) غيرُ داخل في ظاهر قوله : " فإذ أحصرتم " ، لما وصفنا من أن معناه : فإن أحصركم خوفُ عدوّ - بدلالة قوله : " فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ " وقد بين الخبر الذي ذكرنا آنفا عن ابن عباس أنه قال : الحصر : حصر العدو.
وإذ كان ذلك أولى التأويلين بالآية لما وصفنا ، وكان ذلك منعا من الوصول إلى البيت ، فكل مانع عرض للمحرم فصده عن الوصول إلى البيت ، فهو له نظير في الحكم.
* * *
قال أبو جعفر : ثم اختلف أهل العلم في تأويل قوله : " فما استيسر من الهدي " .
__________
(1) في المطبوعة : " وإن كان . . . " والصواب حذف الواو .
(2) قوله : " غير داخل " خبر قوله : " من أجل أن حبس من لا خوف على النفس من حبسه " .

(3/26)


فقال بعضهم : هو شاة.
* ذكر من قال ذلك :
3239 - حدثنا عبد الحميد بن بيان القناد ، قال : أخبرنا إسحاق الأزرق ، عن يونس بن أبي إسحاق السبيعي ، عن مجاهد ، عن ابن عباس ، قال : " ما استيسر من الهدي " شاة.
3240 - حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن و حدثنا عبد الحميد ، قال : أخبرنا إسحاق قال : حدثنا سفيان ، عن حبيب ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال : " ما استيسر من الهدي " ، شاة.
3241 - حدثنا محمد بن المثنى ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، عن يزيد بن أبي زياد ، عن مجاهد عن ابن عباس ، مثله.
3242 - حدثني ابن المثنى ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن أبي إسحاق ، عن النعمان بن مالك ، قال : تمتعت فسألت ابن عباس فقال : " ما استيسر من الهدي " قال : قلت شاة ؟ قال : شاة.
3243 - حدثنا عبد الحميد بن بيان ، قال : حدثنا إسحاق ، عن شريك ، عن أبي إسحاق ، عن النعمان بن مالك ، قال : سألت ابن عباس عن " ما استيسر من الهدي " ، قال : من الأزواج الثمانية : من الإبل والبقر والمعز والضأن.
3244 - حدثنا أبو كريب ويعقوب بن إبراهيم ، قالا حدثنا هشيم ، قال الزهري أخبرنا - وسئل عن قول الله جل ثناؤه : " فما استيسر من الهدي " - قال : كان ابن عباس يقول : من الغنم.
3245 - حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا يحيى بن واضح ، قال : حدثنا يونس بن أبي إسحاق ، عن مجاهد ، عن ابن عباس قال : " ما استيسر من الهدي " ، من الأزواج الثمانية.

(3/27)


3246 - حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا خالد ، قال : قيل للأشعث : ما قول الحسن : " فما استيسر من الهدي " ؟ قال : شاة.
2647 - حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، عن قتاده.( فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ ) قال : أعلاه بدنة ، وأوسطه بقرة ، وأخسه شاة.
3248 - حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد بن زريع ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، مثله إلا أنه كان يقال : أعلاه بدنة ، وذكر سائر الحديث مثله.
3249 - حدثنا ابن بشار قال : حدثنا مسلم بن إبراهيم ، قال : حدثنا همام ، عن قتادة ، عن زرارة ، عن ابن عباس ، قال : " فما استيسر من الهدي " ، شاة.
3250 - حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الوهاب ، قال : حدثنا أيوب ، عن أبي جمرة ، عن ابن عباس ، مثله.
3251 - حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا ابن يمان ، عن ابن جريج ، عن عطاء : " فما استيسر من الهدي " شاة.
3252 - حدثنا أبو كريب ، قال ، حدثنا ابن يمان ، قال : حدثنا محمد بن نفيع ، عن عطاء ، مثله.
3253 - حدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي ، قال : المحصر يبعث بهدي ، شاة فما فوقها.
3254 - حدثني عبيد بن إسماعيل الهباري ، قال : حدثنا ابن نمير ، عن الأعمش ، عن إبراهيم ، عن علقمة قال : إذا أهل الرجل بالحج فأحصر ، بعث بما استيسر من الهدي شاة. قال : فذكرت ذلك لسعيد بن جبير ، فقال : كذلك قال ابن عباس.
3255 - حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : حدثني معاوية

(3/28)


بن صالح ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : " ما استيسر من الهدي " ، شاة فما فوقها.
3256 - حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة و حدثنا المثنى ، قاله : حدثنا آدم العسقلاني عن شعبة قال : حدثنا أبو جمرة ، عن ابن عباس ، قال : " ما استيسر من الهدي " ، جزور أو بقرة أو شاة ، أو شرك في دم.
3257 - حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الوهاب ، قال : سمعت يحيى بن سعيد ، قال : سمعت القاسم بن محمد يقول : إن ابن عباس كان يرى أن الشاة " ما استيسر من الهدي " .
3258 - حدثنا المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الوهاب ، عن خالد الحذاء ، عن عكرمة ، عن ابن عباس أنه قال : " ما استيسر من الهدي " ، شاة.
3259 - حدثنا يعقوب ، قال : حدثنا هشيم ، عن مغيرة ، عن إبراهيم ، قال : " ما استيسر من الهدي " ، شاة.
3260 - حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا سهل بن يوسف قال : حدثنا حميد ، عن عبد الله بن عبيد بن عمير قال : قال ابن عباس : الهدي : شاة ، فقيل له : أيكون دون بقرة ؟ قال : فأنا أقرأ عليكم من كتاب الله ما تدرون به أن الهدي شاة . ما في الظبي ؟ قالوا : شاة ، قال : ( هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ ) [المائدة : 95].
3261 - حدثني المثنى ، قال : حدثنا الحجاج ، قال : حدثنا حماد ، عن قيس بن سعد ، عن عطاء بن أبي رباح ، عن ابن عباس ، قال : شاة.
3262 - حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا وكيع ، عن دلهم بن صالح ، قال : سألت أبا جعفر ، عن قوله : " ما استيسر من الهدي " ، فقال : شاة.
3263 - حدثني يونس بن عبد الأعلى ، قال : أخبرنا ابن وهب ، أن مالك

(3/29)


بن أنس حدَّثه عن جعفر بن محمد عن أبيه : أن علي بن أبي طالب كان يقول : " ما استيسر من الهدي " ، شاة. (1)
3264 - حدثنا المثنى ، قال : حدثنا مطرف بن عبد الله ، قال : حدثنا مالك ، عن جعفر بن محمد ، عن أبيه ، عن علي رضي الله عنه ، مثله.
3265 - حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرني مالك أنه بلغه أن عبد الله بن عباس كان يقول : " ما استيسر من الهدي " ، شاة. (2)
3266 - حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال مالك : وذلك أحب إلي. (3)
3267 - حدثني محمد بن سعد قال : حدثني أبي ، قال : حدثني عمي ، قال : حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قال : " فما استيسر من الهدي " ، قال : عليه - يعني المحصر - هدي . إن كان موسرا فمن الإبل ، وإلا فمن البقر وإلا فمن الغنم.
3268 - حدثني المثنى ، قال : حدثنا آدم العسقلاني ، قال : حدثنا ابن أبي ذئب ، عن شعبة مولى ابن عباس ، عن ابن عباس ، قال : " ما استيسر من الهدي " ، شاة ، وما عظمت شعائر الله ، فهو أفضل.
3269 - حدثني يونس ، قال : أخبرنا أشهب ، قال : أخبرنا ابن لهيعة : أن عطاء بن أبي رباح حدثه : أن " ما استيسر من الهدي " ، شاة.
* * *
وقال آخرون : " ما استيسر من الهدي " : من الإبل والبقر ، سن دون سن.
* ذكر من قال ذلك :
3270 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا معتمر ، قال : سمعت
__________
(1) الأثر : 3263 الموطأ : 385 .
(2) الأثر : 3265 - الموطأ : 385 .
(3) الأثر : 3266 - الموطأ : 385 ونصه : " وذلك أحب ما سمعته إلي في ذلك " ، ثم استدل بآية المائدة التي استدل بها ابن عباس في الأثر : 3260 .

(3/30)


عبيد الله ، عن نافع ، عن ابن عمر ، قال : " ما استيسر من الهدي " : البقرة دون البقرة ، والبعير دون البعير.
3271 - حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا محمد بن بكر ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، عن أبي مجلز ، قال : سأل رجل ابن عمر : " ما استيسر من الهدي " ؟ قال : أترضى شاة ؟ كأنه لا يرضاه.
3272 - حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الوهاب ، قال : حدثنا أيوب ، عن القاسم بن محمد ونافع ، عن ابن عمر قال : " ما استيسر من الهدي " ، ناقة أو بقرة ، فقيل له : " ما استيسر من الهدي " ؟ قال : الناقة دون الناقة ، والبقرة دون البقرة.
3273 - حدثني المثنى ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، عن يزيد بن أبي زياد ، عن مجاهد ، عن ابن عمر أنه قال : " فما استيسر من الهدي " ، قال : جزور ، أو بقرة.
3274 - حدثنا أبو كريب ويعقوب ، قالا حدثنا هشيم ، قال الزهري أخبرنا - وسئل عن قول الله : " فما استيسر من الهدي " - قال : قال ابن عمر : من الإبل والبقر.
3275 - حدثني يعقوب ، قال : حدثنا ابن علية ، قال : أخبرنا أيوب ، عن نافع ، عن ابن عمر في قوله جل ثناؤه : " فما استيسر من الهدي " قال : الناقة دون الناقة ، والبقرة دون البقرة.
3276 - حدثني يعقوب ، قال : حدثنا ابن علية ، عن أيوب ، عن القاسم ، عن ابن عمر في قوله : " فما استيسر من الهدي " ، قال : الإبل والبقر.
3277 - حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الوهاب ، قال : سمعت يحيى بن سعيد ، قال : سمعت القاسم بن محمد يقول : كان عبد الله بن عمر وعائشة يقولان : " ما استيسر من الهدي " : من الإبل والبقر.

(3/31)


3278 - حدثني يعقوب ، قال : حدثنا ابن علية ، قال : حدثنا الوليد بن أبي هشام ، عن زياد بن جبير ، عن أخيه عبد الله أو عبيد الله بن جبير ، قال : سألت ابن عمر عن المتعة في الهدي ؟ فقال : ناقة ، قلت : ما تقول في الشاة ؟ قال : أكلكم شاة ؟ أكلكم شاة ؟ (1)
3279 - حدثني يعقوب ، قال : حدثنا ابن علية ، عن ليث ، عن مجاهد وطاوس قالا " ما استيسر من الهدي " ، بقرة.
3280 - حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : حدثني معاوية بن صالح ، عن علي بن أبي طلحة : " فما استيسر من الهدي " ، قال في قول ابن عمر : بقرة فما فوقها.
3281 - حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : حدثني أبو معشر ، عن نافع ، عن ابن عمر ، قال : " ما استيسر من الهدي " ، قال : بدنة أو بقرة ، فأما شاة فإنما هي نسك.
3282 - حدثنا المثنى ، قال : حدثنا الحجاج ، قال : حدثنا حماد ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، قال : البدنة دون البدنة ، والبقرة دون البقرة ، وإنما الشاة نسك ، قال : تكون البقرة بأربعين وبخمسين.
3283 - حدثنا الربيع ، قال : حدثنا ابن وهب ، قال : حدثني أسامة ، عن نافع ، عن ابن عمر ، كان يقول : " ما استيسر من الهدي " ، بقرة.
3284 - وحدثنا الربيع ، قال : حدثنا ابن وهب ، قال : حدثني أسامة بن زيد أن سعيدا حدثه ، قال : رأيت ابن عمر وأهل اليمن يأتونه فيسألونه عن " ما استيسر
__________
(1) الخبر : 3278 - الوليد بن أبي هشام زياد ، مولى عثمان : ثقة جدا ، كما قال الإمام أحمد.
زياد بن جبير بن حية بن مسعود الثقفي : تابعي ثقة. مترجم في التهذيب. والكبير 2 / 1 / 3217. وابن أبي حاتم 1 / 2 / 27 ، 310 . وقال : " عبيد الله بن جبير بن حية ، أخو زياد وغبيد الله ابني جبير بن حية الثقفي. وكانوا إخوة ثلاثة . "

(3/32)


من الهدي " ويقولون : الشاة ! الشاة ! قال : فيرد عليهم : " الشاة ! الشاة ! يحضهم - إلا أن الجزور دون الجزور ، والبقرة دون البقرة ، ولكن ما " استيسر من الهدي " ، بقرة.
* * *
قال أبو جعفر : وأولى القولين بالصواب قول من قال : " ما استيسر من الهدي " شاة. لأن الله جل ثناؤه إنما أوجب ما استيسر من الهدي ، وذلك على كل ما تيسر للمهدي أن يهديه كائنا ما كان ذلك الذي يهدي. إلا أن يكون الله جل ثناؤه خص من ذلك شيئا ، فيكون ما خص من ذلك خارجا من جملة ما احتمله ظاهر التنزيل ، ويكون سائر الأشياء غيره مجزئا إذا أهداه المهدي بعد أن يستحق اسم " هدي " .
* * *
فإن قال قائل : فإن الذين أبوا أن تكون الشاة مما استيسر من الهدي ، بأنه لا يستحق اسم " هدي " كما أنه لو أهدى دجاجة أو بيضة لم يكن مهديا هديا مجزئا.
قيل : لو كان في المهدي الدجاجة والبيضة من الاختلاف ، نحو الذي في المهدي الشاة ، لكان سبيلهما واحدة : في أن كل واحد منهما قد أدى ما عليه بظاهر التنزيل إذا لم يكن أحد الهديين مخرجه من أن يكون مؤديا (1) - بإهدائه ما أهدى من ذلك - مما أوجبه الله عليه في إحصاره. ولكن لما أخرج المهدي ما دون الجذع من الضأن ، والثني من المعز والإبل والبقر فصاعدا من الأسنان - من أن يكون مهديا ما أوجبه الله عليه في إحصاره أو متعته - بالحجة القاطعة العذر ، نقلا عن نبينا صلى الله عليه وسلم وراثة ، كان ذلك خارجا من أن يكون مرادا بقوله : " فما استيسر من الهدي " وإن كان مما استيسر لنا من الهدايا.
__________
(1) في المطبوعة : " إذا لم يكن أحد المهديين يخرجه . . . " والصواب ما أثبت .

(3/33)


ولما اختلف في الجذع من الضأن والثني من المعِز ، كان مجزئًا ذلك عن مهديه لظاهر التنزيل ، لأنه مما استيسر من الهدي.
* * *
فإن قال قائل : فما محل " ما " التي في قوله جل وعز : " فما استيسر من الهدي " ؟ قيل : رفع.
فإن قال : بماذا ؟
قيل : بمتروك. وذلك " فعليه " لأن تأويل الكلام : وأتموا الحج والعمرة أيها المؤمنون لله ، فإن حبسكم عن إتمام ذلك حابس من مرض أو كسر أو خوف عدو فعليكم - لإحلالكم ، إن أردتم الإحلال من إحرامكم - ما استيسر من الهدي.
وإنما اخترنا الرفع في ذلك ، لأن أكثر القرآن جاء برفع نظائره ، وذلك كقوله : ( فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ ) وكقوله : ( فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ ) و ما أشبه ذلك مما يطول بإحصائه الكتاب ، تركنا ذكره استغناء بما ذكرنا عنه.
ولو قيل موضع " ما " نصب ، بمعنى : فإن أحصرتم فأهدوا ما استيسر من الهدي ، لكان غير مخطئ قائله. (1)
* * *
وأما " الهدي " ، فإنه جمع ، وأحدها " هديّه " ، على تقدير " جديّه السرج " والجمع " الجَدْي " مخفف. (2)
3285 - حدثت عن أبي عبيدة معمر بن المثنى ، عن يونس ، قال : كان أبو عمرو بن العلاء يقول : لا أعلم في الكلام حرفا يشبهه. (3)
* * *
__________
(1) انظر معاني القرآن للفراء 1 : 118 .
(2) " هدية " و " جدية " بتشديد الياء ، وقد ضبطها ناشر مجاز القرآن لأبي عبيدة بفتح فسكون ، وهو خطأ والجدية : قطعة من الكساء محشوة تكون تحت دفتي السرج وظلفة الرحل ، وهما جديتان .
(3) مجاز القرآن لأبي عبيدة : 69 .

(3/34)


وبتخفيف " الياء " وتسكين " الدال " من " الهدي " قرأه القرأة في كل مصر ، إلا ما ذكر عن الأعرج ، فإن : -
3286 - أبا هشام الرفاعي ، حدثنا ، قال : حدثنا يعقوب ، عن بشار ، عن أسد ، عن الأعرج أنه قرأ : ( هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ ) [ سورة المائدة : 95 ] بكسر " الدال " مثقلا وقرأ : " حتى يبلغ الهدي محله " ، بكسر " الدال " مثقلة. واختلف في ذلك عن عاصم ، فروي عنه موافقة الأعرج ومخالفته إلى قراءه سائر القرأة.
* * *
و " الهدي " عندي إنما سمي " هديا " لأنه تقرب به إلى الله جل وعز مهديه ، بمنزلة الهدية يهديها الرجل إلى غيره متقربا بها إليه ، يقال منه : " أهديت الهدي إلى بيت الله ، فأنا أهديه إهداء " . كما يقال في الهدية يهديها الرجل إلى غيره : " أهديت إلى فلان هدية وأنا أهديها. " ، ويقال للبدنة " هدية " ، ومنه قول زهير بن أبي سلمى ، يذكر رجلا أسر ، يشبهه في حرمته بالبدنة التي تهدى :
فلم أر معشرا أسروا هديا... ولم أر جار بيت يستباء! (1)
* * *
__________
(1) ديوانه : 79 من قصيدة كريمة ، قالها في ذم بني عليم بن جناب من كلب . وكان رجل من بني عبد الله بن غطفان قد أتاهم فأكرموه وأحسنوا جواره ، بيد أنه كان مولعا بالقمار فنهوه عنه ، فأبى إلا المقامرة . فقمر مرة فردوا عليه ، ثم قمر أخرى فردوا عليه ، ثم قمر الثالثة فلم يردوا عليه ، وأخذت منه امرأته في قماره . والهدي : الرجل ذو الحرمة المستجير بالقوم فسموه كما قال الطبري بما يهدي إلى البيت ، فهو لا يرد عن البيت ولا يصاب ، وقوله : " فستباء " أي تؤخذ امرأته وتنكح ، ثم قال لهم بعد البيت : وجار البيت والرجل المنادي ... أمام الحي ، عهدهما سواء
والمنادي : المجالس في النادي أما بيوت الحي .

(3/35)


القول في تأويل قوله تعالى : { وَلا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ }
قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه : فإن أحصرتم ، فأردتم الإحلال من إحرامكم ، فعليكم ما استيسر من الهدي. ولا تحلوا من إحرامكم إذا أحصرتم حتى يبلغ الهدي الذي أوجبته عليكم لإحلالكم من إحرامكم الذي أحصرتم فيه ، قبل تمامه وانقضاء مشاعره ومناسكه محله. (1) وذلك أن حلق الرأس إحلال من الإحرام الذي كان المحرم قد أوجبه على نفسه. فنهاه الله عن الإحلال من إحرامه بحلاقه ، (2) حتى يبلغ الهدي - الذي أباح الله جل ثناؤه له الإحلال جل ثناؤه بإهدائه - محله.
* * *
ثم اختلف أهل العلم في " محل " الهدي الذي عناه الله جل اسمه ، الذي متى بلغه كان للمحصر الإحلال من إحرامه الذي أحصر فيه.
فقال بعضهم : محل هدي المحصر الذي يحل به ويجوز له ببلوغه إياه حلق رأسه إذا كان إحصاره من خوف عدو منعه ذبحه ، إن كان مما يذبح ، أو نحره إن كان مما ينحر ، في الحل ذبح أو نحر أو في الحرم [حيث حبس ] (3)
__________
(1) قال ابن كثير في تفسيره 1 : 446 " وقوله : " ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ الهدي محله " معطوف على قوله : " وأتموا الحج والعمرة لله " وليس معطوفا على قوله : " فإن احصرتم فما استيسر من الهدي " كما زعمه ابن جرير رحمه الله . لأن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه عام الحديبية ، لما حصرهم كفار قريش عن الدخول إلى الحرم ، حلقوا وذبحوا هديهم خارج الحرم . فأما في حال الأمن والوصول إلى الحرم ، فلا يجوز الحلق " حتى يبلغ الهدي محله " ، ويفرغ الناسك من أفعال الحج والعمرة - وإن كان قارنا - أو من فعل أحدهما ، إن كان مفردا أو متمتعا ، كما ثبت في الصحيحين عن حفصة أنها قالت : يا رسول الله ، ما شأن الناس ؟ حلوا من العمرة ولم تحل أنت من عمرتك! فقال : إني لبدت رأسي وقلدت هديي ، فلا أحل حتى انحر " .
وفي تخطئة ابن كثير لأبي جعفر ، نظر وتفصيل ليس هذا موضعه لأنه يطول .
(2) الحلاق مصدر كالحلق والتحلاق ، يقال : رأس جيد الحلاق (بكسر الحاء) وقد أكثر مالك من استعمال هذا المصدر في الموطأ (انظر : 395 ، 396) .
(3) الزيادة بين القوسين لا بد منها حتى يستقيم الكلام .

(3/36)


وإن كان من غير خوف عدو فلا يحل حتى يطوف بالبيت ويسعى بين الصفا والمروة. وهذا قول من قال : الإحصار إحصار العدو دون غيره.
* ذكر من قال ذلك :
3287 - حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، أخبرني مالك بن أنس أنه بلغه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حل هو وأصحابه بالحديبية ، فنحروا الهدي وحلقوا رءوسهم ، وحلوا من كل شيء قبل أن يطوفوا بالبيت ، وقبل أن يصل إليه الهدي. ثم لم نعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر أحدا من أصحابه ولا ممن كان معه ، أن يقضوا شيئا ، ولا أن يعودوا لشيء. (1)
3288 - حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرني مالك ، عن نافع : أن عبد الله بن عمر خرج إلى مكة معتمرا في الفتنة ، فقال : إن صددت عن البيت صنعنا كما صنعنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. فأهل بعمرة من أجل أن النبي كان أهل بعمرة عام الحديبية. ثم إن عبد الله بن عمر نظر في أمره فقال : ما أمرهما إلا واحد. قال : فالتفت إلى أصحابه فقال : ما أمرهما إلا واحد ، أشهدكم أني قد أوجبت الحج مع العمرة. قال : ثم طاف طوافا واحدا ، ورأى أن ذلك مجز عنه وأهدى.
قال يونس : قال ابن وهب : قال مالك : وعلى هذا الأمر عندنا فيمن أحصر بعدو كما أحصر نبي الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه.
فأما من أحصر بغير عدو فإنه لا يحل دون البيت.
قال : وسئل مالك عمن أحصر بعدو وحيل بينه وبين البيت ، فقال : يحل من كل شيء ، وينحر هديه ، ويحلق رأسه حيث حبس ، وليس عليه قضاء ، إلا أن يكون لم يحج قط ، فعليه أن يحج حجة الإسلام. (2)
__________
(1) الأثر : 3287 - مضى في ص : 24 ، بغير إسناد .
(2) الأثر : 3288 - في الموطأ : 360 - 361 مع خلاف يسير في بعض لفظه . ومن أول قوله : " قال : وسئل مالك " ، في آخر هذا الأثر ، قد مضى برقم : 3238 ، وهو في الموطأ : 360 ، قبل النص السالف .

(3/37)


3289 - حدثنا يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرنا مالك ، قال : حدثني يحيى بن سعيد ، عن سليمان بن يسار : أن عبد الله بن عمر ومروان بن الحكم وعبد الله بن الزبير أفتوا ابن حزابة المخزومي ، (1) وصرع في الحج ببعض الطريق ، أن يتداوى بما لا بد منه ، (2) ويفتدي ، ثم يجعلها عمرة ، ويحج عاما قابلا ويهدي.
قال يونس : قال ابن وهب : قال مالك : وذلك الأمر عندنا فيمن أحصر بغير عدو. (3)
قال : وقال مالك : وكل من حبس عن الحج بعد ما يحرم إما بمرض ، أو خطأ في العدد ، أو خفي عليه الهلال ، فهو محصر ، عليه ما على المحصر - يعني من المقام على إحرامه - حتى يطوف أو يسعى ، ثم الحج من قابل والهدي.
3290 - حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الوهاب ، قال : سمعت يحيى بن سعيد ، يقول : أخبرني أيوب بن موسى أن داود بن أبي عاصم أخبره : أنه حج مرة فاشتكى ، فرجع إلى الطائف ولم يطف بين الصفا والمروة. فكتب إلى عطاء بن أبي رباح يسأله عن ذلك ، وأن عطاء كتب إليه : أن أهرق دما
* * *
وعلة من قال بقول مالك : في أن محل الهدي في الإحصار بالعدو نحره حيث حبس صاحبه ، ما : -
3291 - حدثنا به أبو كريب ومحمد بن عمارة الأسدي ، قالا حدثنا عبيد الله بن موسى ، قال : أخبرنا موسى بن عبيدة ، قال : أخبرني أبو مرة مولى أم هانئ ، عن ابن عمر ، قال : لما كان الهدي دون الجبال التي تطلع على وادي الثنية ،
__________
(1) في الموطأ : " سعيد بن حزابة المخزومي " .
(2) في المطبوعة : " أن يبدأ بما لا بد منه " والصواب من الموطأ ، وقد مضى ذلك كذلك أيضًا في ص : 25 ، وانظر تعليق رقم : 2 .
(3) الموطأ : 362 ، ومضى بعض ذلك في ص : 25 .

(3/38)


عرض له المشركون فردوا وجهه ، قال : فنحر النبي صلى الله عليه وسلم الهدي حيث حبسوه - وهي الحديبية - وحلق ، وتأسى به أناس فحلقوا حين رأوه حلق ، وتربص آخرون فقالوا : لعلنا نطوف بالبيت ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : رحم الله المحلقين! قيل : والمقصرين ! قال : رحم الله المحلقين ! قيل : والمقصرين ! قال : " والمقصرين " . (1)
3292 - حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا يحيى بن سعيد القطان ، قال : حدثنا عبد الله بن المبارك ، قال : أخبرنا معمر عن الزهري ، عن عروة ، عن المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم ، قالا لما كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم القضية بينه وبين مشركي قريش - وذلك بالحديبية ، عام الحديبية - قال لأصحابه : " قوموا فانحروا واحلقوا. قال : فوالله ما قام منهم رجل ، حتى قال ذلك ثلاث مرات. فلما لم يقم منهم أحد ، قام فدخل على أم سلمة ، فذكر ذلك لها ، فقالت أم سلمة : يا نبي الله اخرج ، ثم لا تكلم أحدا منهم بكلمة حتى تنحر بدنك وتدعو حلاقك فتحلق . فقام فخرج ، فلم يكلم منهم أحدا حتى فعل ذلك. فلما رأوا ذلك قاموا فنحروا ، وجعل بعضهم يحلق بعضا حتى كاد بعضهم يقتل بعضا غما. (2)
* * *
__________
(1) الحديث : 3291 - إسناده ضعيف جدا ، من أجل " موسى بن عبيدة " . وقد مضى بيان حاله : 1875 ، 1876 .
أبو مرة مولى أم هانئ : اسمه " يزيد " ويقال له أيضًا " مولى عقيل بن أبي طالب " ، واشتهر بكنيته . وهو تابعي ثقة معروف ، أخرج له أصحاب الكتب الستة .
ومعنى الحديث ثابت معروف من أوجه كثيرة ، في دواوين الحديث وكتب السيرة ، بل إن نحو هذا المعنى ثابت عن ابن عمر بإسناد صحيح ، في المسند : 6067 ، والبخاري 5 : 224 ، و 7 : 391 (من الفتح) . والدعاء للمحلقين والمقصرين ثابت من حديثه أيضًا ، صحيح ، في المسند : 4657 والموطأ والصحيحين ، كما بينا هناك .
(2) الحديث : 3292 - هو جزء من حديث طويل ، في شأن صلح الحديبية ، وهو معروف مشهور .
رواه احمد في المسند 4 : 328 - 231 (حلبي) عن عبد الرزاق عن معمر بهذا الإسناد ثم رواه عقب ذلك ، عن يحيى بن سعيد القطان عن عبد الله بن المبارك . عن معمر ولم يذكر لفظه إحالة على الرواية قبله . وقد رواه الطبري هنا ، من طريق يحيى القطان .
ورواه البخاري 5 : 241 - 260 (فتح الباري) عن عبد الله بن محمد ، عن عبد الرزاق كرواية المسند وروي منه قطعة موجزة 3 : 433 من طريق عبد الله بن المبارك ، عن معمر .

(3/39)


قالوا : فنحر النبي صلى الله عليه وسلم هديه حين صده المشركون عن البيت بالحديبية ، وحل هو وأصحابه. قالوا : والحديبية ليست من الحرم. قالوا : ففي مثل ذلك دليل واضح على أن معنى قوله : " حتى يبلغ الهدي محله " ، حتى يبلغ بالذبح أو النحر محل أكله ، والانتفاع به في محل ذبحه ونحره.
3293 - كما روي عن نبي الله عليه الصلاة والسلام في نظيره إذ أتي بلحم - أتته بريرة - من صدقة كان تصدق به عليها ، فقال : قربوه فقد بلغ محله. (1)
* * *
يعني : فقد بلغ محل طيبه وحلاله له بالهدية إليه بعد أن كان صدقة على بريرة.
* * *
__________
(1) الحديث : 3293 - هذه إشارة من الطبري إلى حديث مشهور معروف . وهو قصة " بريرة " التي اشترتها عائشة من مواليها الذين كاتبوها ، وأعتقها فكانت مولاتها ، وهي في الصحيحين وغيرهما . واللفظ الثابت في الصحيحين ، في شأن اللحم الذي تصدق به على بريرة ، وأهدته هي لعائشة وأن النبي صلى الله عليه وسلم أكل منه - : أنه قال : " هو لها صدقة ولنا هدية " أو نحو هذا ، من حديث عائشة ومن حديث أنس ، ولم أجد لفظ " فقد بلغ محله " ، الذي حكاه الطبري في قصة بريرة . ولعله وقع إليه من رواية خفيت علينا .
نعم ، جاء نحو هذا اللفظ ، في قصتين أخريين في هذا المعنى :
إحداهما : من حديث أم عطية الأنصارية أنها بعثت إلى عائشة من لحم جاءها من الصدقة ، فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأل عن طعام ، فأخبروه بذلك - لأن الصدقة لا تحل له - فقال صلى الله عليه وسلم : " إنها قد بلغت محلها " . رواه أحمد في المسند 6 : 407 - 408 (حلبي) والبخاري 3 : 245 ، 281 - 282 ، و 5 : 149 - 150 (فتح) مسلم 1 : 297 .
والأخرى : من حديث جويرية بنت الحارث أم المؤمنين قالت : " دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم : فقال : هل من طعام ؟ قلت : لا إلا أعظما أعطيته مولاة لنا من الصدقة . قال صلى الله عليه وسلم : فقربيه فقد بلغت محلها " . رواه أحمد في المسند 6 : 429 (حلبي) . ومسلم 1 : 296 .

(3/40)


وقال بعضهم : محل هدي المحصر الحرم لا محل له غيره.
* ذكر من قال ذلك :
3294 - حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا هشيم ، عن الأعمش ، عن عمارة بن عمير ، عن عبد الرحمن بن يزيد : أن عمرو بن سعيد النخعي أهل بعمرة ، فلما بلغ ذات الشقوق لدغ بها ، فخرج أصحابه إلى الطريق يتشوفون الناس ، فإذا هم بابن مسعود ، فذكروا ذلك له ، فقال : ليبعث بهدي ، واجعلوا بينكم يوم أمارة ، فإذا ذبح الهدي فليحل ، وعليه قضاء عمرته. (1)
3295 - حدثنا تميم بن المنتصر ، قال : حدثنا إسحاق ، عن شريك ، عن سليمان بن مهران ، عن عمارة بن عمير وإبراهيم ، عن عبد الرحمن بن يزيد أنه قال : خرجنا مهلين بعمرة فينا الأسود بن يزيد ، حتى نزلنا ذات الشقوق ، فلدغ صاحب لنا ، فشق ذلك عليه مشقة شديدة ، فلم ندر كيف نصنع به ، فخرج بعضنا إلى الطريق ، فإذا نحن بركب فيه عبد الله بن مسعود ، فقلنا له : يا أبا عبد الرحمن رجل منا لدغ ، فكيف نصنع به ؟ قال : يبعث معكم بثمن هدي ، فتجعلون بينكم وبينه يوما أمارة ، فإذا نحر الهدي فليحل ، وعليه عمرة في قابل. (2)
3296 - حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا مؤمل ، قال : حدثنا سفيان ، عن
__________
(1) الخبر : 3294 - عمارة بن عمير التيمي : ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة .
عبد الرحمن بن يزيد بن قيس بن عبد الله بن مالك النخعي : تابعي ثقة كثير الحديث .
عمرو بن سعيد النخعي : لم أجد له ذكرا ، وليس له شأن في رواية الخبر ، بل هو المتحدث عنه ، والذي أفتى ابن مسعود في شأنه . وسيأتي اسمه مرة أخرى في الخبر : 3299 . وانظر التعليق على الأثر : 3297 وقد روى الطبري هذا الخبر مكررا بأسانيد ، كما ترى وانظر التعليق على الأثر : 3297 .
ذات الشقوق : منزل بطريق مكة ، من الكوفة . وتشوف الشيء : تطاول ينظر إليه .
(2) الخبر : 3295 - سليمان بن مهران : هو الأعمش . وهو هنا يروي الخبر عن عمارة بن عمير ، كالرواية السابقة ، وعن إبراهيم : وهو ابن يزيد بن الأسود بن عمرو النخعي ، وهو الفقيه المعروف الثقة ، وهو ابن اخت " عبد الرحمن بن يزيد بن قيس " . فالأعمش يرويه عنهما عن عبد الرحمن ابن يزيد .
* وسيأتي الخبر من روايته وحده أيضًا ، عن خاله عبد الرحمن : 3297 .

(3/41)


الأعمش ، عن عمارة بن عمير ، عن عبد الرحمن بن يزيد ، قال : بينا نحن بذات الشقوق فلبى رجل منا بعمرة فلدغ ، فمر علينا عبد الله فسألناه ، فقال : اجعلوا بينكم وبينه يوم أمار ، فيبعث بثمن الهدي ، فإذا نحر حل وعليه العمرة. (1)
3297 - حدثني محمد بن المثنى ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، عن الحكم ، قال : سمعت إبراهيم النخعي يحدث عن عبد الرحمن بن يزيد ، قال : أهل رجل منا بعمرة ، فلدغ ، فطلع ركب فيهم عبد الله بن مسعود ، فسألوه ، فقال : يبعث بهدي ، واجعلوا بينكم وبينه يوما أمارا ، فإذا كان ذلك اليوم فليحل وقال عمارة بن عمير : فكان حسبك به عن عبد الرحمن بن يزيد ، عن عبد الله وعليه العمرة من قابل. (2)
3298 - حدثني أبو السائب ، قال : حدثنا أبو معاوية ، عن الأعمش ، عن عمارة ، عن عبد الرحمن بن يزيد ، قال : خرجنا عمارا ، فلما كنا بذات الشقوق لدغ صاحب لنا ، فاعترضنا للطريق نسأل عما نصنع به ، فإذا عبد الله بن مسعود في ركب ، فقلنا له : لدغ صاحب لنا ؟ فقال : اجعلوا بينكم وبين صاحبكم يوما ، وليرسل بالهدي ، فإذا نحر الهدي فليحلل ، ثم عليه العمرة.
3299 - حدثني يعقوب ، قال : حدثنا هشيم ، عن الحجاج ، قال : حدثني عبد الرحمن بن الأسود ، عن أبيه ، عن ابن مسعود : أن عمرو بن سعيد النخعي
__________
(1) الأمار والأمارة : العلامة والوقت .
(2) الخبر : 3297 - الحكم : هو ابن عتيبة - بضم العين وفتح التاء المثناة من فوق ، وبعد التحتية باء موحدة . وهو تابعي ثقة حجة فقيه مشهور . وجعله أحمد بن حنبل أثبت الناس في الرواية عن إبراهيم النخعي .
* وهذا الخبر رواه الطحاوي في شرح معاني الآثار 1 : 432 ، من طريق بشر بن عمر ، عن شعبة بهذا الإسناد نحوه وقد سمى فيه الرجل الذي لدغ ، فقال : " أهل رجل من النخع بعمرة ، يقال له : عمير بن سعيد - إلخ . فإن يكن هذا صوابا يكن هو " عمير بن سعيد النخعي " التابعي وقد مضت ترجمته : 1683 . فيكون الاسم " عمرو بن سعيد " في الخبرين : 3294 ، 3299 - محرفا عن هذا . ويرجحه أنه وقع اسمه أيضًا محرفا إلى " عمرو بن سعيد " في المطبوعة ، هناك في : 1683 .

(3/42)


أهل بعمرة ، فلما بلغ ذات الشقوق لدغ بها ، فخرج أصحابه إلى الطريق يتشوفون الناس ، فإذا هم بابن مسعود ، فذكروا ذلك له فقال : ليبعث بهدي ، واجعلوا بينكم وبينه يوم أمار ، فإذا ذبح الهدي فليحل ، وعليه قضاء عمرته. (1)
3300 - حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : حدثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس : " فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي " ، يقول : من أحرم بحج أو عمرة ، ثم حبس عن البيت بمرض يجهده أو عذر يحبسه ، فعليه ذبح ما استيسر من الهدي ، شاة فما فوقها يذبح عنه. فإن كانت حجة الإسلام ، فعليه قضاؤها ، وإن كانت حجة بعد حجة الفريضة أو عمرة فلا قضاء عليه.
ثم قال : " ولا تحلقوا رءوسكم حتى يبلغ الهدي محله " فإن كان أحرم بالحج فمحله يوم النحر ، وإن كان أحرم بعمرة فمحل هديه إذا أتى البيت.
3301 - حدثني محمد بن سعد ، قال : حدثني أبي ، قال : حدثني عمي ، قال : حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : " فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي " ، فهو الرجل من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم كان يحبس عن البيت ، فيهدي إلى البيت ، ويمكث على إحرامه حتى يبلغ الهدي محله. فإذا بلغ الهدي محله حلق رأسه ، فأتم الله له حجه. والإحصار أيضا أن يحال بينه وبين الحج ، فعليه هدي : إن كان موسرا من الإبل ، وإلا فمن البقر ، وإلا فمن الغنم ، ويجعل حجه عمرة ، ويبعث بهديه إلى البيت. فإذا نحر الهدي فقد حل ، وعليه الحج من قابل.
3302 - حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، حدثنا بشر بن السري ،
__________
(1) الخبر : ، 3299 - الحجاج : هو ابن أرطاة بن ثور بن هيرة النخعي ، وهو ثقة على الراجح عندنا . ثم انظر التعليق على الأثر : 3297 .
* عبد الرحمن بن الأسود بن يزيد بن قيس النخعي : تابعي ثقة . أبوه الأسود بن يزيد النخعي : هو أخو " عبد الرحمن بن يزيد النخعي ، الماضي في الروايات السابقة ، وهو تابعي كبير ، ثقة من أهل الخير ، كما قال أحمد .

(3/43)


عن شعبة ، عن عمرو بن مرة ، عن عبد الله بن سلمة ، قال : سأل علي رضي الله عنه عن قول الله عز وجل : " فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي " فإذا أحصر الحاج بعث بالهدي ، فإذا نحر عنه حل ، ولا يحل حتى ينحر هديه.
3303 - حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، قال : سمعت عطاء يقول : من حبس في عمرته ، فبعث بهدية فاعترض لها فإنه يتصدق بشيء أو يصوم ، ومن اعترض لهديته ، وهو حاج ، فإن محل الهدي والإحرام يوم النحر ، وليس عليه شيء.
3304 - حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن عطاء ، مثله.
3305 - حدثني موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي قوله : " فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي ولا تحلقوا رءوسكم حتى يبلغ الهدي محله " ، الرجل يحرم ثم يخرج فيحصر ، إما بلدغ أو مرض فلا يطيق السير ، وإما تنكسر راحلته ، فإنه يقيم ، ثم يبعث بهدي شاة فما فوقها. فإن هو صح فسار فأدرك فليس عليه هدي ، وإن فاته الحج فإنها تكون عمرة ، وعليه من قابل حجة. وإن هو رجع لم يزل محرما حتى ينحر عنه يوم النحر.
فإن هو بلغه أن صاحبه لم ينحر عنه عاد محرما وبعث بهدي آخر ، فواعد صاحبه يوم ينحر عنه بمكة ، فتنحر عنه بمكة ، ويحل ، وعليه من قابل حجة وعمرة - ومن الناس من يقول : عمرتان. وإن كان أحرم بعمرة ثم رجع وبعث بهديه ، فعليه من قابل عمرتان. وأناس يقولون : لا بل ثلاث عمر ، نحوا مما صنعوا في الحج حين صنعوا ، عليه حجة وعمرتان.
3306 - حدثنا عبد الحميد بن بيان القناد ، قال : أخبرنا إسحاق الأزرق ، عن أبي بشر ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد وعطاء ، عن ابن عباس ، قال : إذا أحصر الرجل بعث بهديه إذا كان لا يستطيع أن يصل إلى البيت من العدو.

(3/44)


فإن وجد من يبلغها عنه إلى مكة ، فإنه يبعث بها مكانه ، ويواعد صاحب الهدي. فإذا أمن فعليه أن يحج ويعتمر. فإن أصابه مرض يحبسه وليس معه هدي ، فإنه يحل حيث يحبس. وإن كان معه هدي ، فلا يحل حتى يبلغ الهدي محله إذا بعث به ، وليس عليه أن يحج قابلا ولا يعتمر ، إلا أن يشاء.
* * *
وقال أبو جعفر : وعلة من قال هذه المقالة أن محل الهدايا والبدن الحرم أن الله عز وجل ذكر البدن والهدايا فقال : ( وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ ) [الحج : 32 - 33] فجعل محلها الحرم ، ولا محل للهدي دونه.
قالوا : وأما ما ادعاه المحتجون بنحر النبي صلى الله عليه وسلم هداياه بالحديبية حين صد عن البيت ، فليس ذلك بالقول المجتمع عليه ، وذلك أن :
3307 - الفضل بن سهل حدثني ، قال : حدثنا مخول بن إبراهيم ، قال : حدثنا إسرائيل ، عن مجزأة بن زاهر الأسلمي ، عن أبيه ، عن ناجية بن جندب الأسلمي ، قال : أتيت النبي صلى الله عليه وسلم حين صد عن الهدي ، فقلت : يا رسول الله ابعث معي بالهدي فلننحره بالحرم ! قال : كيف تصنع به ؟ قلت : آخذ به أودية فلا يقدرون عليه! فانطلقت به حتى نحرته بالحرم. (1)
__________
(1) الحديث : 3307 - الفضل بن سهل بن إبراهيم الأعرج ، شيخ الطبري : أحد الثقات الحفاظ روى عنه الشيخان في الصحيحين . وهو مترجم في التهذيب وابن أبي حاتم 3/1/63 ، وتاريخ بغداد 12 : 364 - 365 . وتذكرة الحفاظ 2 : 120 .
مخول - بالخاء المعجمة بوزن " محمد " - بن إبراهيم بن مخول بن راشد النهدي الحناط ؛ قال الذهبي في الميزان : " رافضي بغيض ، صدوق في نفسه " . وقال ابن أبي حاتم 4/1/399 : " سئل أبي عنه فقال : " هو صدوق " وذكره ابن حبان في الثقات .
إسرائيل : هو ابن يونس بن أبي إسحاق السبيعي . و " مخول " أكثر روايته عن إسرائيل ، وقد روى عنه ما لم يرو غيره " ، كما قال ابن عدي .
مجزأة بن زاهر : تابعي ثقة ، أخرج له الشيخان وغيرهما .
أبوه ، زاهر بن أسود بن حجاج بن قيس الأسلمي : صحابي معروف كان ممن بايع تحت الشجرة . ناجية بن جندب الأسلمي : صحابي معروف وكان صاحب بدن رسول اله صلى الله عليه وسلم . وهناك أيضًا " ناجية بن كعب الخزاعي " كان صاحب بدن رسول الله صلى الله عليه وسلم أيضًا . وقد خلط بينهما بعض الرواة . وحقق الحافظ في التهذيب والإصابة أن هذا غير ذاك .
والحديث رواه الطحاوي في شرح معاني الآثار 1 : 427 ، عن إبراهيم بن أبي داود عن مخول ابن إبراهيم بهذا الإسناد إلا أنه جعله " عن مجزأة عن ناجية " مباشرة ليس بينهما " عن أبيه " . و " مجزأة " يروى عن ناجية . لكن هذا الحديث بعينه ذكره الحافظ في الإصابة في ترجمة ناجية 6 : 222 - 223 أنه رواه ابن مندة " من طريق مجزأة بن زاهر ، عن أبيه عن ناجية بن جندب " ، ثم ذكر أنه " أخرجه الطحاوي من طريق مخول " . فلا أدري : أسقط قوله " عن أبيه " من نسخة الطحاوي ؟ أم هو اختلاف رواية ؟
وقال الحافظ بعد ذكره رواية ابن مندة : " قال اب مندة : تفرد به مخول بن إبراهيم عن إسرائيل عنه (يعني عن مجزأة) ورواه عنه (يعني عن مخول) أبو حاتم الرازي وغيره . كذا قال وقد أخرجه النسائي من طريق عبيد الله بن موسى عن إسرائيل مثله " . ولم أجده في النسائي . فالظاهر أنه في السنن الكبرى .

(3/45)


قالوا : فقد بين هذا الخبر أن النبي صلى الله عليه وسلم نحر هداياه في الحرم ، فلا حجة لمحتج بنحره بالحديبية في غير الحرم.
* * *
وقال آخرون : معنى هذه الآية وتأويلها على غير هذين الوجهين اللذين وصفنا من قول الفريقين اللذين ذكرنا اختلافهم على ما ذكرنا. وقالوا : إنما معنى ذلك : فإن أحصرتم أيها المؤمنون عن حجكم - فمنعتم من المضي لإحرامه لعائق مرض أو خوف عدو - وأداء اللازم لكم وحجكم ، حتى فاتكم الوقوف بعرفة ، فإن عليكم ما استيسر من الهدي ، لما فاتكم من حجكم ، مع قضاء الحج الذي فاتكم. فقال أهل هذه المقالة : ليس للمحصر في الحج - بالمرض والعلل غيره - الإحلال إلا بالطواف بالبيت والسعي بين الصفا والمروة إن فاته الحج. قالوا : فأما إن أطاق شهود المشاهد ، فإنه غير محصر. قالوا : وأما العمرة فلا إحصار فيها ، لأن وقتها موجود أبدا. قالوا : والمعتمر لا يحل إلا بعمل آخر ما يلزمه في إحرامه.

(3/46)


قالوا : ولم يدخل المعتمر في هذه الآية ، وإنما عنى بها الحاج.
* * *
ثم اختلف أهل هذه المقالة. فقال بعضهم : لا إحصار اليوم بعدو ، كما لا إحصار بمرض يجوز لمن فاته أن يحل من إحرامه قبل الطواف بالبيت والسعي بين الصفا والمروة.
* ذكر من قال ذلك :
3308 - حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا ابن علية ، عن ليث ، عن مجاهد ، عن طاوس ، قال : قال ابن عباس : لا إحصار اليوم.
3309 - حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الوهاب ، قال سمعت يحيى بن سعيد يقول : أخبرني عبد الرحمن بن القاسم أن عائشة قالت : لا أعلم المحرم يحل بشيء دون البيت.
3310 - حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن ابن طاوس ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قال : لا حصر إلا من حبسه عدو ، فيحل بعمرة ، وليس عليه حج ولا عمرة.
* * *
وقال آخرون منهم : حصار العدو ثابت اليوم وبعد اليوم ، على نحو ما ذكرنا من أقوالهم الثلاثة التي حكينا عنهم.
* ذكر من قال ذلك : وقال : معنى الآية : فإن أحصرتم عن الحج حتى فاتكم ، فعليكم ما استيسر من الهدي لفوته إياكم :
3311 - حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرني يونس ، عن ابن شهاب ، عن سالم ، قال : كان عبد الله بن عمر ينكر الاشتراط في الحج ، ويقول : أليس حسبكم سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ إن حبس أحدكم عن الحج طاف بالبيت والصفا والمروة ، ثم حل من كل شيء حتى يحج عاما

(3/47)


قابلا ويهدي أو يصوم إن لم يجد هديا.
3312 - حدثني محمد بن المثنى ، قال : حدثنا عبد الوهاب ، قال : حدثنا عبيد الله بن عمر ، عن نافع ، عن ابن عمر قال : المحصر لا يحل من شيء حتى يبلغ البيت ، ويقيم على إحرامه كما هو ، إلا أن تصيبه جراحة - أو جرح - فيتداوى بما يصلحه ويفتدي. فإذا وصل إلى البيت ، فإن كانت عمرة قضاها ، وإن كانت حجة فسخها بعمرة ، وعليه الحج من قابل والهدي ، فإن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع.
3313 - حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا يحيى بن سعيد ، عن عبيد الله ، قال : أخبرني نافع : أن ابن عمر مر على ابن حزابة وهو بالسقيا ، فرأى به كسرا ، فاستفتاه ، فأمره أن يقف كما هو لا يحل من شيء حتى يأتي البيت إلا أن يصيبه أذى فيتداوى وعليه ما استيسر من الهدي. وكان أهل بالحج. (1)
3314 - حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : حدثني الليث ، قال : حدثني عقيل ، عن ابن شهاب ، قال : أخبرني سالم بن عبد الله أن عبد الله بن عمر ، قال : من أحصر بعد أن يهل بحج ، فحبسه خوف أو مرض أو خلأ له ظهر يحمله ، (2) أو شيء من الأمور كلها ، فإنه يتعالج لحبسه ذلك بكل شيء لا بد له منه ، غير أنه لا يحل من النساء والطيب ، ويفتدي بالفدية التي أمر الله بها صيام أو صدقة أو نسك. فإن فاته الحج وهو بمحبسه ذلك ، أو فاته أن يقف في مواقف عرفة قبل الفجر من ليلة المزدلفة ، فقد فاته الحج ، وصارت حجته عمرة : يقدم مكة فيطوف بالبيت وبالصفا والمروة ، فإن كان معه هدي نحره بمكة قريبا من
__________
(1) انظر ما سلف رقم : 3289 .
(2) خلأت الناقة تخلأ خلاه (بكسر الخاء) فهي خالي : إذا بركت وأبت أن تقوم وأبت أن تقوم وفي الحديث " أن ناقة النبي صلى الله عليه وسلم خلأت به يوم الحديبية فقالوا : خلأت القصواء! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما خلأت! وما هو لها بخلق! ولكن حبسها حابس الفيل " . والظهر : الإبل التي يحمل عليها ويركب عليها .

(3/48)


المسجد الحرام ، ثم حلق رأسه ، أو قصر ، ثم حل من النساء والطيب وغير ذلك. ثم عليه أن يحج قابلا ويهدي ما تيسر من الهدي.
3315 - حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : حدثني مالك بن أنس ، عن ابن شهاب ، عن سالم بن عبد الله ، عن عبد الله بن عمر أنه قال : المحصر لا يحل حتى يطوف بالبيت وبين الصفا والمروة. وإن اضطر إلى شيء من لبس الثياب التي لا بد له منها أو الدواء صنع ذلك وافتدى. (1)
* * *
فهذا ما روي عن ابن عمر في الإحصار بالمرض وما أشبهه ، وأما في المحصر بالعدو فإنه كان يقول فيه بنحو القول الذي ذكرناه قبل عن مالك بن أنس أنه كان يقوله. (2)
3316 - حدثني تميم بن المنتصر ، قال : حدثنا عبد الله بن نمير ، قال : أخبرنا عبيد الله ، عن نافع : أن ابن عمر أراد الحج حين نزل الحجاج بابن الزبير فكلمه ابناه سالم وعبيد الله ، فقالا لا يضرك أن لا تحج العام ، إنا نخاف أن يكون بين الناس قتال فيحال بينك وبين البيت ! قال : إن حيل بيني وبين البيت فعلت كما فعلنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حين حال كفار قريش بينه وبين البيت فحلق ورجع.
* * *
وأما ما ذكرناه عنهم في العمرة من قولهم : " إنه لا إحصار فيها ولا حصر " ، فإنه : -
3317 - حدثني به يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثني هشيم ، عن أبي بشر ، عن يزيد بن عبد الله بن الشخير أنه أهل بعمرة فأحصر ، قال : فكتب إلى ابن عباس وابن عمر ، فكتبا إليه أن يبعث بالهدي ، ثم يقيم حتى يحل من عمرته. قال : فأقام ستة أشهر أو سبعة أشهر.
__________
(1) الموطأ : 361 ، مع خلاف يسير في لفظه وفيه : " المحصر بمرض لا يحل . . . "
(2) انظر ما سلف رقم : 3238 ، 3287 ، 3288 .

(3/49)


3318 - حدثني يعقوب ، قال : حدثنا ابن علية ، قال : أخبرنا يعقوب ، عن أبي العلاء بن الشخير ، قال : خرجت معتمرا فصرعت عن بعيري ، فكسرت رجلي ، فأرسلنا إلى ابن عباس وابن عمر نسألهما ، فقالا إن العمرة ليس لها وقت كوقت الحج ، لا تحل حتى تطوف بالبيت. قال : فأقمت بالدثينة أو قريبا منه سبعة أشهر أو ثمانية أشهر. (1)
3319 - حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : حدثني مالك ، عن أيوب بن أبي تميمة السختياني عن رجل من أهل البصرة كان قديما أنه قال : خرجت إلى مكة ، حتى إذا كنت ببعض الطريق كسرت فخذي ، فأرسلت إلى مكة إلى عبد الله بن عباس ، وبها عبد الله بن عباس وعبد الله بن عمر والناس ، فلم يرخص لي أحد أن أحل ، فأقمت على ذلك إلى سبعة أشهر ، حتى أحللت بعمرة. (2)
3320 - حدثني المثنى ، قال : حدثنا سويد ، قال : أخبرنا ابن المبارك ، عن معمر ، عن ابن شهاب في رجل أصابه كسر وهو معتمر ، قال : يمكث على إحرامه حتى يأتي البيت ويطوف به وبالصفا والمروة ، ويحلق أو يقصر ، وليس عليه شيء.
* * *
قال أبو جعفر : وأولى هذه الأقوال بالصواب في تأويل هذه الآية قول من
__________
(1) الدثينة (بفتح أوله وكسر ثانيه) : منزل لبني سليم في طريق البصرة إلى مكة ، وكانت تسمى " الدفينة " أيضًا . وقال البكري في معجم ما استعجم : " الدثينة " بفتح أوله وثانيه بعده نون وياء مشددة . ثم نقل عن أبي علي القالي : " الدفينة والدثينة : منزل لبني سليم نفلته من كتاب يعقوب في الإبدال " والصواب ما ذكره ياقوت في ضبطها ، لقول النابغة الذبياني :
وعلى الرميثة من سكين حاضر وعلى الدثينة من بني سيار
(2) الموطأ : 361 ، وفي بعض لفظه خلاف يسير ، وفيه أيضًا : " فأقمت على ذلك الماء سبعة أشهر " ، وكأنها الصواب .

(3/50)


قال : إن الله عز وجل عنى بقوله : " فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي ولا تحلقوا رءوسكم حتى يبلغ الهدي محله " كل محصر في إحرام ، بعمرة كان إحرام المحصر أو بحج. وجعل محل هديه الموضع الذي أحصر فيه ، وجعل له الإحلال من إحرامه ببلوغ هديه محله - . (1) وتأول بـ " المحل " المنحر أو المذبح ، وذلك حين حل نحره أو ذبحه ، في حرم كان أو في حل ، وألزمه قضاء ما حل منه من إحرامه قبل إتمامه إذا وجد إليه سبيلا وذلك لتواتر الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه صد عام الحديبية عن البيت وهو محرم وأصحابه بعمرة ، فنحر هو وأصحابه بأمره الهدي ، وحلوا من إحرامهم قبل وصولهم إلى البيت ، ثم قضوا إحرامهم الذي حلوا منه في العام الذي بعده. ولم يدع أحد من أهل العلم بالسير ولا غيرهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أحدا من أصحابه أقام على إحرامه انتظارا للوصول إلى البيت والإحلال بالطواف به وبالسعي بين الصفا والمروة ، ولا تحفى وصول هديه إلى الحرم. (2)
فأولى الأفعال أن يقتدى به ، فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، إذ لم يأت بحظره خبر ، ولم تقم بالمنع منه حجة. فإذ كان ذلك كذلك ، وكان أهل العلم مختلفين فيما اخترنا من القول في ذلك فمن متأول معنى الآية تأويلنا ، ومن مخالف ذلك ، ثم كان ثابتا بما قلنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم النقل كان الذي نقل عنه أولى الأمور بتأويل الآية ، إذ كانت هذه الآية لا يتدافع أهل العلم أنها يومئذ نزلت وفي حكم صد المشركين إياه عن البيت أوحيت. (3)
__________
(1) قوله : " وتأول . . " معطوف على قوله : " . . . قول من قال . . . "
(2) في المطبوعة : " ولا يخفى وصول هديه إلى الحرم " ، وهو لا معنى له . وتحفى : استقصى وبالغ وعنى في معرفة الشيء . من قولهم : " هو به حفى " ، أي معنى شديد الاهتمام . هذا ما استظهرته من قراءة هذه الكلمة . والله المسدد للصواب .
(3) في المطبوعة : " أنها يومئذ نزلت في حكم صد المشركين . . . " وزيادة الواو لا بد منها حتى يستقيم الكلام ويعتدل جانباه .

(3/51)


وقد روي بنحو الذي قلنا في ذلك خبر.
3321 - حدثني يعقوب ، قال : حدثنا ابن علية ، قال : حدثني الحجاج بن أبي عثمان ، قال : حدثني يحيى بن أبي كثير ، أن عكرمة مولى ابن عباس حدثه ، قال : حدثني الحجاج بن عمرو الأنصاري أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : من كسر أو عرج فقد حل وعليه حجة أخرى " قال : فحدثت ابن عباس وأبا هريرة بذلك ، فقالا صدق. (1)
3322 - حدثني يعقوب ، قال : حدثنا مروان ، قال : حدثنا حجاج الصواف وحدثنا حميد بن مسعدة ، قال : حدثنا سفيان بن حبيب ، عن الحجاج الصواف عن يحيى بن أبي كثير ، عن عكرمة ، عن الحجاج بن عمرو ، عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه ، وعن ابن عباس وأبي هريرة. (2)
* * *
ومعنى هذا الخبر الأمر بقضاء الحجة التي حل منها ، نظير فعل النبي عليه الصلاة والسلام وأصحابه في قضائهم عمرتهم التي حلوا منها عام الحديبية من القابل في عام عمرة القضية.
* * *
__________
(1) الحديث : 3321 - حجاج بن أبي عثمان الصواف : ثقة حافظ أخرج له أصحاب الكتب الستة .
والحديث رواه أحمد في المسند : 15796 (3 : 450 حلبي) عن يحيى القطان وعن ابن علية كلاهما عن حجاج الصواف بهذا الإسناد .
ورواه أبو داود : 1962 من طريق يحيى عن حجاج قال المنذري : " وأخرجه الترمذي والنسائي وابن ماجه " . وسيأتي عقب هذا بإسناد ثان .
(2) الحديث : 3322 - مروان : هو ابن معاوية الفزاري مضت ترجمته : 1222 . والحديث مكرر ما قبله . وقد رواه الحاكم في المستدرك 1 : 470 من طريق مروان بن معاوية الفزاري بهذا الإسناد . وقال : " هذا حديث صحيح على شرط البخاري ولم يخرجاه " . ووافقه الذهبي .
* ووقع في نسخة المستدرك المطبوعة " مروان حدثنا معاوية الفزاري " ! وهو خطأ مطبعي ، ينبغي تصحيحه .

(3/52)


ويقال لمن زعم أن الذي حصره عدو ، إذا حل من إحرامه التطوع فلا قضاء عليه ، وأن المحصر بالعلل عليه القضاء : ما العلة التي أوجبت على أحدهما القضاء ، وأسقطت عن الآخر ، وكلاهما قد حل من إحرام كان عليه إتمامه لولا العلة العائقة ؟
فإن قال : لأن الآية إنما نزلت في الذي حصره العدو ، فلا يجوز لنا نقل حكمها إلى غير ما نزلت فيه
قيل له : قد دفعك عن ذلك جماعة من أهل العلم ، غير أنا نسلم لك ما قلت في ذلك ، فهلا كان حكم المنع بالمرض والإحصار له حكم المنع بالعدو ، إذ هما متفقان في المنع من الوصول إلى البيت وإتمام عمل إحرامهما ، وإن اختلفت أسباب منعهما ، فكان أحدهما ممنوعا بعلة في بدنه ، والآخر بمنع مانع ؟ ثم يسأل الفرق بين ذلك من أصل أو قياس ، فلن يقول في أحدهما شيئا إلا ألزم في الآخر مثله.
* * *
وأما الذين قالوا : لا إحصار في العمرة ، فإنه يقال لهم : قد علمتم أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما صد عن البيت ، وهو محرم بالعمرة ، فحل من إحرامه ؟ فما برهانكم على عدم الإحصار فيها ؟ أو رأيتم إن قال قائل : لا إحصار في حج ، وإنما فيه فوت ، وعلى الفائت الحج المقام على إحرامه حتى يطوف بالبيت ، ويسعى بين الصفا والمروة ، لأنه لم يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سن في الإحصار في الحج سنة ؟ فقد قال ذلك جماعة من أئمة الدين. فأما العمرة فإن النبي صلى الله عليه وسلم سن فيها ما سن ، وأنزل الله تبارك وتعالى في حكمها ما بيّن من الإحلال والقضاء الذي فعله صلى الله عليه وسلم ، ففيها الإحصار دون الحج هل بينها وبينه فرق ؟ ثم يعكس عليه القول في ذلك ، فلن يقول في أحدهما شيئا إلا ألزم في الآخر مثله.
* * *

(3/53)


القول في تأويل قوله تعالى : { فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ }
قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي ، ولا تحلقوا رءوسكم حتى يبلغ الهدي محله ، (1) إلا أن يضطر إلى حلقه منكم مضطر ، إما لمرض ، وإما لأذى برأسه ، من هوام أو غيرها ، فيحلق هنالك للضرورة النازلة به ، وإن لم يبلغ الهدي محله ، فيلزمه بحلاق رأسه وهو كذلك ، فدية من صيام ، أو صدقة ، أو نسك.
* * *
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
3323 - حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا ابن جريج ، قال : قلت لعطاء : ما " أذى من رأسه " ؟ قال : القمل وغيره ، والصدع ، وما كان في رأسه.
* * *
وقال آخرون : لا يحلق إن أراد أن يفتدي الحج بالنسك ، أو الإطعام ، إلا بعد التكفير. وإن أراد أن يفتدي بالصوم ، حلق ثم صام.
* ذكر من قال ذلك. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .. . . . . .
3324 - حدثنا عبيد الله بن معاذ ، عن أبيه ، عن أشعث ، عن الحسن ، قال : إذا كان بالمحرم أذى من رأسه فإنه يحلق حين يبعث بالشاة ، أو يطعم المساكين ،
__________
(1) انظر ما سلف ص : 36 ، والتعليق رقم : 1

(3/54)


وإن كان صوم حلق ثم صام بعد ذلك. (1) . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .. . . . . .
* * *
* ذكر من قال ذلك :
3325 - حدثني عبيد بن إسماعيل الهباري ، قال : حدثنا عبد الله بن نمير ، عن الأعمش ، عن إبراهيم ، عن علقمة ، قال : إذا أهل الرجل بالحج فأحصر بعث بما استيسر من الهدي ، شاة فإن عجل قبل أن يبلغ الهدي محله ، فحلق رأسه ، أو مس طيبا أو تداوى ، كان عليه فدية من صيام ، أو صدقة ، أو نسك. قال إبراهيم : فذكرت ذلك لسعيد بن جبير ، فقال : كذلك قال ابن عباس.
3326 - حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : " فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي " ، قال : من أحصر بمرض أو كسر فليرسل بما استيسر من الهدي ، ولا يحلق رأسه ، ولا يحل حتى يوم النحر. فمن كان مريضا ، أو اكتحل ، أو ادهن ، أو تداوى ، أو كان به أذى من رأسه ، فحلق ، ففدية من صيام ، أو صدقة ، أو نسك.
__________
(1) الخبر : 3324 - عبيد الله بن معاذ بن معاذ العنبري الحافظ : ثقة أخرج له الشيخان وغيرهما مات سنة 237 . وهو بصري وابن جرير ولد سنة 224 فكانت سنة حين وفاة عبيد الله 13 سنة ولا يبعد سماعه منه ، إلا أنه لم يرحل في طلب الحديث في هذه السن . ولم أجد ما يؤيد ظاهر هذا الإسناد : أنه سمع عبيد الله . وسيأتي هذا الإسناد في خبر آخر : 3374 بواسطة بين الطبري وعبيد الله ، وليس يمتنع أن يروي الراوي عن شيخ مباشرة تارة وبواسطة تارة أخرى . ولني أشك في صحة مطبوعة الطبري في هذا الموضع خشية أن يكون سقط اسم شيخ بينهما .
وقد وضعت قبل هذا الأثر نقطا وبعده نقطا أخرى ليقيني أن في هذا الموضع خرم وخلط لم أستطع أن أهتدي إليه . ومع ذلك فأنا في شك من نص هذا الأثر ، وأخشى أن يكون من كلام الطبري لا من كلام الحسن وسيأتي قول الحسن بهذا الإسناد في رقم : 3374 .
هذا والإسناد هناك ، " حدثنا ابن أبي عمران قال حدثنا عبيد الله بن معاذ عن أبيه . . . " وكذلك نقله ابن كثير في تفسيره 1 : 448 فلا شك أن في هذا الإسناد نقصا أيضًا وصوابه " حدثنا ابن أبي عمران قال حدثنا عبيد الله بن معاذ . . . " .

(3/55)


3327 - حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد مثله.
3328 - حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : " ولا تحلقوا رءوسكم حتى يبلغ الهدي محله فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك " هذا إذا كان قد بعث بهديه ، ثم احتاج إلى حلق رأسه من مرض ، وإلى طيب ، وإلى ثوب يلبسه ، قميص أو غير ذلك : فعليه الفدية.
3329 - وحدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو صالح كاتب الليث ، قال : حدثني الليث ، عن عقيل ، عن ابن شهاب قال : من أحصر عن الحج فأصابه في حبسه ذلك مرض أو أذى برأسه ، فحلق رأسه في محبسه ذلك ، فعليه فدية من صيام ، أو صدقة ، أو نسك.
3330 - حدثنا المثنى ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : حدثني الليث ، قال : حدثنا عقيل ، عن ابن شهاب ، قال : أخبرني سالم بن عبد الله ، أن عبد الله بن عمر قال : من أحصر بعد أن يهل بحج ، فحبسه مرض أو خوف ، فإنه يتعالج في حبسه ذلك بكل شيء لا بد له منه ، غير أنه لا يحل له النساء والطيب ، ويفتدي بالفدية التي أمر الله بها : صيام ، أو صدقة ، أو نسك.
3331 - حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثني بشر بن السري ، عن شعبة ، عن عمرو بن مرة ، عن عبد الله بن سلمة ، قال : سئل علي رضي الله عنه عن قول الله جل ثناؤه : " فمن كان من منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك " قال : هذا قبل أن ينحر الهدي ، إن أصابه شيء فعليه الكفارة.
* * *
وقال آخرون : معنى ذلك : فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ،

(3/56)


فعليه فدية من صيام أو صدقة أو نسك قبل الحلاق إذا أراد حلاقه.
* ذكر من قال ذلك :
3332 - حدثني محمد بن سعد ، قال : حدثني أبي ، قال : حدثني عمي ، قال : حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : " فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك " فمن اشتد مرضه ، أو آذاه رأسه وهو محرم ، فعليه صيام ، أو إطعام ، أو نسك. ولا يحلق رأسه حتى يقدم فديته قبل ذلك.
* * *
وعلة من قال هذه المقالة ما : -
3333 - حدثنا به المثنى ، قال : حدثنا سويد ، قال : أخبرنا ابن المبارك ، عن يعقوب ، قال : سألت عطاء ، عن قوله : " فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك " فقال : إن كعب بن عجرة مر بالنبي صلى الله عليه وسلم وبرأسه من الصئبان والقمل كثير ، فقال له النبي عليه السلام : " هل عندك شاة " ؟ فقال كعب : ما أجدها! فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : إن شئت فأطعم ستة مساكين ، وإن شئت فصم ثلاثة أيام ، ثم احلق رأسك. (1)
* * *
__________
(1) الحديث : 3333 - هذا الحديث إلى الحديث : 3358 ثم الحديث : 3364 كلها طرق لحديث كعب بن عجرة من أوجه مختلفة بألفاظ وسياقات ثم الحديث 3359 في قصة كعب أيضًا . فهو 28 حديثا وجدت تخريج أكثرها . ومنها 10 أسانيد لم يقع إلى تخريجها فتستفاد من هذا التفسير العظيم ولعل بعضها موجود في مراجعنا ولكن لم أصل إليه .
وأرقام الأسانيد التي لم أجد تخريجها هي : 3333 ، 3339 ، 3343 ، 3344 ، 3349 ، 3350 ، 3355 ، 3357 ، 3358 ، 3359 .
وهذا الإسناد : 3333 - أولها ولم أجده في موضع آخر
وعطاء في هذا الإسناد : الظاهر أنه عطاء بن أبي رباح . ويحتمل أن يكون " عطاء بن عبد الله الخراساني " ، لأن الحديث سيأتي من روايته : 3353 عن شيخ مبهم عن كعب بن عجرة .
وأيا ما كان فهذا الإسناد ضعيف لإرساله لأن عطاء يحكي قصة في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يدركها ، ثم لم يذكر من حدثه بها .
وسيأتي الحديث مرة أخرى 3357 من رواية ابن جريج عن عطاء مرسلا أيضًا .
ومعناه ثابت صحيح من الروايات الموصولة الصحيحة الآتية وفيها كثرة والحمد لله .
الصئبان جمع صاب (بضم بفتح) جمع صؤابة : وهو بيض القمل .

(3/57)


قال أبو جعفر : فأما " المرض " الذي أبيح معه العلاج بالطيب وحلق الرأس ، فكل مرض كان صلاحه بحلقه كالبرسام الذي يكون من صلاح صاحبه حلق رأسه ، وما أشبه ذلك ، (1) والجراحات التي تكون بجسد الإنسان التي يحتاج معها إلى العلاج بالدواء الذي فيه الطيب ونحو ذلك من القروح والعلل العارضة للأبدان.
وأما " الأذى " الذي يكون إذا كان برأس الإنسان خاصة له حلقه ، فنحو الصداع والشقيقة ، وما أشبه ذلك ، (2) وأن يكثر صئبان الرأس ، وكل ما كان للرأس مؤذيا مما في حلقه صلاحه ودفع المضرة الحالة به ، فيكون ذلك بعموم قول الله جل وعز : " أو به أذى من رأسه " .
* * *
وقد تظاهرت الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن هذه الآية نزلت عليه بسبب كعب بن عجرة ، إذ شكا كثرة أذى برأسه من صئبانه ، وذلك عام الحديبية.
* ذكر الأخبار التي رويت في ذلك :
3334 - حدثنا محمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب وحميد بن مسعدة قالا حدثنا يزيد بن زريع ، قال : حدثنا داود ، عن الشعبي ، عن كعب بن عجرة ، قال : مر بي رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحديبية ولي وفرة فيها هوام ما بين أصل كل شعرة إلى فرعها قمل وصئبان ، فقال : " إن هذا لأذى " ! قلت : أجل يا رسول الله ، شديد ! قال : أمعك دم ؟ قلت : لا ! قال : فإن شئت
__________
(1) البرسام : ورم حار يعرض للحجاب الذي بين الكبد والأمعاء . ثم يتصل إلى الدماغ حتى يهذي صاحبه في علته هذه .
(2) الشقيقة : صداع يأخذ في نصف الرأس والوجه ، يداوى بالاحتجام .

(3/58)


فصمْ ثلاثة أيام ، وإن شئت فتصدق بثلاثة آصع من تمر على ستة مساكين ، على كل مسكين نصف صاع. (1)
3335 - حدثني إسحاق بن شاهين الواسطي ، قال : حدثنا خالد الطحان ، عن داود ، عن عامر ، عن كعب بن عجرة ، عن النبي بنحوه.
3336 - حدثنا محمد بن عبيد المحاربي ، قال : حدثنا أسد بن عمرو ، عن أشعث ، عن عامر ، عن عبد الله بن معقل عن كعب بن عجرة ، قال : خرجت مع النبي صلى الله عليه وسلم زمن الحديبية ولي وفرة من شعر ، قد قملت وأكلني الصئبان. فرآني رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : " احلق ! " ففعلت ، فقال : " هل لك هدي ؟ " فقلت : ما أجد! فقال : إنه ما استيسر من الهدي ، فقلت : ما أجد! فقال : " صم ثلاثة أيام ، أو أطعم ستة مساكين كل مسكين نصف صاع.
قال : ففي نزلت هذه الآية : " فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك " ، إلى آخر الآية (2)
__________
(1) الحديثان : 3334 ، 3335 - داود : هو ابن أبي هند .
والحديث رواه احمد في المسند 4 : 343 وأبو داود : 1858 - كلاهما من طريق داود عن الشعبي .
الوفرة : أعظم من الجمة وهي ما جاوز شحمة الأذنين من الشعر ثم اللمة وهي ما ألم بالمنكبين والهوام واحدها هامة : وهي الحيات وأشباهها مما يهم أي يدب . والهميم الدبيب . وكنوا عن القمل بأنها هوام لأنها تهم في الرأس ، أي تدب فيه وتؤذي . وآصع جمع صاع وأصلها " أصؤع " بالهمزة مضمومة (مثل جبل وأجبل) قلبت الهمزة مكان الصاد ، كما قالوا في دار أدؤر وآدر (المغرب عن أبي علي الفارسي ومعيار اللغة للشيرازي) والصاع مكيال لأهل المدينة وللفقهاء اختلاف كثير في تقديره ، وسيأتي (آصع) في رقم : 3346
(2) الحديث : 3336 - أسد بن عمرو البجلي القاضي : فقيه من أصحاب أبي حنيفة وروى عنه الإمام أحمد وقال : " كان صدوقا " . ووثقه ابن سعد 7/2/74 . وترجمته في التعجيل . وهو مختلف فيه جدا ، بين التوثيق والتكذيب . والعدل ما قال أحمد . أشعث : هو ابن سوار الكندي . وهو ثقة . عامر : هو الشعبي .
عبد الله بن معقل بن مقرن المزني : تابعي ثقة من خيار التابعين . و " معقل " : بفتح الميم وسكون العين المهملة وكسر القاف . و " مقرن " : بضم الميم وفتح القاف وتشديد الراء المكسورة وآخره نون .
والحديث رواه أحمد 4 : 243 (حلبي) عن هشيم عن أشعث بهذا الإسناد . وسيأتي 3364 ، من طريق هشيم .

(3/59)


قال أبو جعفر : وهذا الخبر ينبئ عن أن الصحيح من القول أن الفدية إنما تجب على الحالق بعد الحلق ، وفساد قول من قال : يفتدي ثم يحلق; لأن كعبا يخبر أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره بالفدية ، بعد ما أمره بالحلق فحلق.
* * *
3337 - حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا مؤمل ، حدثنا سفيان ، عن عبد الرحمن بن الأصبهاني ، عن عبد الله بن معقل ، عن كعب بن عجرة أنه قال : أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم بصيام ثلاثة أيام ، أو فرق من طعام بين ستة مساكين. (1)
3338 - حدثنا محمد بن المثنى ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، عن عبد الرحمن بن الأصبهاني ، عن عبد الله بن معقل ، قال : قعدت إلى كعب وهو في المسجد ، فسألته عن هذه الآية : " ففدية من صيام أو صدقة أو نسك " فقال كعب : نزلت في كان بي أذى من رأسي ، فحملت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم والقمل يتناثر على وجهي ، فقال : " ما كنت أرى أن الجهد بلغ منك ما أرى ، أتجد شاة ؟ " فقلت : لا فنزلت هذه الآية : " ففدية من صيام أو صدقة أو نسك " قال : فنزلت في خاصة ، وهي لكم عامة. (2)
__________
(1) الحديث : 3337 - مؤمل : هو ابن إسماعيل . سفيان : هو الثوري .
* عبد الرحمن بن الأصبهاني : هو عبد الرحمن بن عبد الله بن الأصبهاني . وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة .
* والحديث رواه أحمد في المسند 4 : 243 (حلبي) عن مؤمل بن إسماعيل ، بهذا الإسناد بلفظ أطول مما هنا .
* الفرق (بفتح الراء وسكونها) : مكيال لأهل المدينة يسع ستة عشر رطلا . وفي تقديره أيضًا اختلاف كاختلافهم في الصاع . وانظر ما سيأتي رقم : 3346 .
(2) الحديث : 3338 - رواه الطيالسي في مسنده : 1062 ، عن شعبة بهذا الإسناد . ورواه أحمد في المسند 4 : 242 (حلبي) عن محمد بن جعفر وعن عفان وعن بهز - ثلاثتهم عن شعبة .
* وكذلك رواه البخاري 4 : 14 (فتح) ومسلم 1 : 336 - 337 ، وابن ماجه : 3079 - كلهم من طريق شعبة .

(3/60)


3339 - حدثني تميم ، قال : أخبرنا إسحاق الأزرق ، عن شريك ، عن عبد الرحمن بن الأصبهاني ، قال : سمعت عبد الله بن معقل المزني ، يقول : سمعت كعب بن عجرة يقول : حججت مع النبي صلى الله عليه وسلم ، فقمل رأسي ولحيتي وشاربي وحاجبي ، فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم ، فأرسل إلي فقال : ما كنت أرى هذا أصابك " ، ثم قال : ادعوا لي حلاقا ! فدعوه ، فحلقني. ثم قال : أعندك شيء تنسكه عنك ؟ قال : قلت لا. قال : " فصم ثلاثة أيام ، أو أطعم ستة مساكين كل مسكين نصف صاع من طعام. قال كعب : فنزلت هذه الآية في خاصة : " فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك " ثم كانت للناس عامة. (1)
3340 - حدثني نصر بن علي الجهضمي ، قال : حدثنا يزيد بن زريع ، قال : حدثني أيوب ، عن مجاهد ، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى ، عن كعب بن عجرة ، قال : مر بي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أوقد تحت قدر ، والقمل يتناثر على وجهي ، فقال : أتؤذيك هوامّ رأسك ؟ قال : قلت نعم! قال : احلقه وصم ثلاثة أيام ، أو أطعم ستة مساكين ، أو اذبح شاة. (2)
__________
(1) الحديث : 3339 - تميم : هو ابن المنتصر الواسطي ، شيخ الطبري . مضت ترجمته : 891 .
* إسحاق الأزرق : هو إسحاق بن يوسف بن مرداس المخزومي الواسطي . ثقة معروف من شيوخ أحمد وابن معين ، وأخرج له أصحاب الكتب الستة . وشيوخه شريك : هو ابن عبد الله النخعي .
* عبد الله بن معقل المزني ، كما بينا من قبل . ووقع هنا في المطبوعة " المرى " وهو تصحيف .
* وهذا الإسناد مما لم أجده - من طريق شريك - في موضع آخر .
* نسك ينسك (بضم السين) نسكا : ذبح ، والمنسك الموضع الذي تذبح فيه النسك . والنسيكة الذبيحة .
(2) الحديث : 3340 - رواه أحمد 4 : 244 (حلبي) من طريق معمر . ورواه البخاري 7 : 351 ، ومسلم 1 : 336 من طريق حماد بن زيد - كلاهما عن أيوب بهذا الإسناد . وسيأتي عقب هذا ، من رواية ابن علية عن أيوب وسيأتي : 3346 ، من رواية ابن عيينة عن ابن أبي نجيح وأيوب .

(3/61)


3341 - حدثنا يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا ابن علية ، قال : حدثنا أيوب بإسناده عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله إلا أنه قال : والقمل يتناثر علي - أو قال : على حاجبي. وقال أيضا : أو انسك نسيكة. قال أيوب : لا أدري بأيتهن بدأ. (1)
3342 - حدثنا حميد بن مسعدة ، قال : حدثنا يزيد بن زريع ، قال : حدثنا عبد الله بن عون ، عن مجاهد ، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى ، عن كعب ، قال : في أنزلت هذه الآية ، قال : فقال لي : ادنه . فدنوت ، فقال : " أيؤذيك هوامك ؟ قال : أظنه قال نعم! قال : فأمرني بصيام ، أو صدقة ، أو نسك ، ما تيسر. (2)
3343 - حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا محمد بن بكر ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، عن صالح أبي الخليل عن مجاهد ، عن كعب بن عجرة : أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى عليه زمن الحديبية وهو يوقد تحت قدر له وهوام رأسه تتناثر على وجهه ، فقال : أتؤذيك هوامك ؟ قال : نعم! قال : احلق رأسك ، وعليك فدية من صيام أو صدقة أو نسك ، تذبح ذبيحة ، أو تصوم ثلاثة أيام ، أو تطعم ستة مساكين. (3)
__________
(1) الحديث : 3341 - رواه أحمد في المسند 4 : 241 (حلبي) عن إسماعيل - وهو ابن عليه - بهذا الإسناد .
* ورواه مسلم 1 : 336 ، عن يعقوب بن إبراهيم - شيخ الطبري هنا - وعن علي بن حجر وزهير ابن حرب ثلاثتهم عن ابن علية .
(2) الحديث : 3342 - رواه مسلم 1 : 336 من طريق ابن أبي عدي عن ابن عون بهذا الإسناد .
(3) الحديثان : 3343 ، 3344 - سعيد في الإسنادين : هو ابن أبي عروبة .
* صالح أبو الخليل - وفي الإسناد الثاني " عن أبي الخليل - : هو صالح بن أبي مريم وكنيته " أبو الخليل " . مضت ترجمته : 1899 . ووقع في المطبوعة هنا في أولهما " عن صالح بن أبي الخليل " وفي ثانيهما " عن ابن أبي الخليل " . وهو خطأ ناسخ أو طابع في زياة كلمة " بن " .
* وهذان الإسنادان من طريق صالح بن أبي مريم عن مجاهد - مما لم أجده في موضع آخر .

(3/62)


3344 - حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، عن أبي الخليل ، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى ، قال : ذكر لنا أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى على كعب بن عجرة زمن الحديبية ، ثم ذكر نحوه.
3345 - حدثني موسى بن عبد الرحمن المسروقي ، قال : حدثنا زيد بن الحباب ، قال : وأخبرني سيف ، عن مجاهد ، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى ، عن كعب بن عجرة ، قال : مر بي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا بالحديبية ، ورأسي يتهافت قملا فقال : أيؤذيك هوامك ؟ قال قلت : نعم ! قال : فاحلق. قال : ففي نزلت هذه الآية : " ففدية من صيام أو صدقة أو نسك " . (1)
3346 - حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا يحيى بن آدم ، قال : حدثنا ابن عيينة ، عن ابن أبي نجيح وأيوب السختياني ، عن مجاهد ، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى ، عن كعب بن عجرة ، قال : مر بي رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية ، وأنا أوقد تحت قدر ، والقمل يتهافت علي ، فقال : أتؤذيك هوامك ؟ قال : قلت : نعم ! قال : فاحلق ، وانسك نسيكة ، أو صم ثلاثة أيام ، أو أطعم فرقا بين ستة مساكين قال أيوب : انسك نسيكة ، وقال ابن أبي نجيح : اذبح شاة
قال سفيان : والفرق ثلاثة آصع. (2)
__________
(1) الحديث : 3345 - موسى بن عبد الرحمن المسروقي شيخ الطبري : مضت ترجمته في : 174 .
* سيف : هو ابن سليمان - ويقال : ابن أبي سليمان - المخزومي المكي . وهو ثقة من شيوخ الثوري والقطان ووكيع ، وأخرج له الشيخان وغيرهما .
* والحديث رواه أحمد في المسند 4 : 243 (حلبي) عن يحيى القطان عن سيف بهذا الإسناد وكذلك رواه البخاري 4 : 13 - 14 ، ومسلم 1 : 236 كلاهما من طريق سيف ، به .
(2) الحديث : 3346 - رواه أحمد في المسند 4 : 243 (حلبي) عن سفيان وهو ابن عيينة عن ابن أبي نجيح - وحده - عن مجاهد بهذا الإسناد مختصرا . ورواه أيضًا 4 : 242 عن عبد الرزاق عن معمر عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد مطولا . وقد مضى في تخريج الحديثين : 3340 ، 3341 رواية أحمد إياه من طريق أيوب . وأشرنا إلى هذا هناك .
ورواه مسلم 1 : 336 والترمذي 2 : 120 - 121 كلاهما عن ابن أبي عمر ، عن سفيان ابن عيينة وابن أبي نجيح ، وحميد الأعرج وعبد الكريم الأربعة عن مجاهد . وقال الترمذي : " هذا حديث حسن صحيح " .

(3/63)


3347 - حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثني عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قال : حدثني عبد الرحمن بن أبي ليلى ، عن كعب بن عجرة ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رآه وقمله يسقط على وجهه ، فقال : أيؤذيك هوامك ؟ قال : نعم ! فأمره أن يحلق وهو بالحديبية لم يتبين لهم أنهم يحلون بها ، وهم على طمع أن يدخلوا مكة ، فأنزل الله الفدية ، فأمره رسول الله أن يطعم فرقا بين ستة مساكين ، أو يهدي شاة ، أو يصوم ثلاثة أيام. (1)
3348 - حدثني يعقوب ، قال : حدثنا هشيم ، عن أبي بشر ، عن مجاهد ، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى ، عن كعب بن عجرة ، قال : كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم بالحديبية ، ونحن محرمون ، وقد حصرنا المشركون. قال : وكانت لي وفرة ، فجعلت الهوام تساقط على وجهي ، فمر بي النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال : " أيؤذيك هوام رأسك ؟ " قال : قلت نعم ! قال ونزلت هذه الآية : " فمن كان من منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك " . (2)
__________
(1) الحديث : 3347 - أبو عاصم : هو النبيل الضحاك بن مخلد عيسى : هو ابن ميمون المكي ، مضت ترجمته في : 278 .
* والحديث رواه البخاري 4 : 16 (فتح) من طريق شبل ، عن ابن أبي نجيح ، ثم من طريق ورقاء عن ابن أبي نجيح ، به .
* ورواه البخاري أيضًا 7 : 343 من طريق ورقاء عن ابن أبي نجيح .
* وقد مضى في الذي قبله أسانيد أخر عن ابن أبي نجيح .
(2) الحديث : 3348 - يعقوب : هو ابن إبراهيم الدورقي الحافظ . هشيم : هو ابن بشير ابن القاسم أبو معاوية الواسطي .
* أبو بشر : هو جعفر بن إياس وهو ابن أبي وحشية اليشكري الواسطي ثقة معروف ، أخرج له أصحاب الكتب الستة .
* والحديث رواه أحمد في المسند 4 : 241 (حلبي) عن هشيم ، بهذا الإسناد . ورواه أبو داود الطيالسي في مسنده : 1065 عن هشيم وأبي عوانة كلاهما عن أبي بشر ، به .

(3/64)


3349 - حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن مغيرة ، عن مجاهد ، عن كعب بن عجرة ، قال : لفي نزلت ، وإياي عنى بها : " فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك " قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم وهو بالحديبية ، وهو عند الشجرة ، وأنا محرم : أيؤذيك هوامه ؟ قلت : نعم! - أو كلمة لا أحفظها عنى بها ذاك - فأنزل الله جل وعز : " فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك " ، والنسك : شاة. (1)
3350 - حدثني يعقوب ، قال : حدثنا هشيم ، عن مغيرة ، عن مجاهد ، قال : قال كعب بن عجرة ، والذي نفسي بيده ، لفي نزلت هذه الآية ، وإياي عنى بها ، ثم ذكر نحوه ، قال : وأمره أن يحلق رأسه.
3351 - حدثني يونس بن عبد الأعلى ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرني مالك بن أنس ، عن عبد الكريم بن مالك الجزري ، عن مجاهد ، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى ، عن كعب بن عجرة : أنه كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فآذاه القمل في رأسه ، فأمره رسول الله عليه الصلاة والسلام أن يحلق رأسه وقال : صم ثلاثة أيام ، أو أطعم ستة مساكين مدين مدين لكل إنسان ، أو انسك بشاة ، أي ذلك فعلت أجزأك " . (2)
__________
(1) الحديثان : 3349 ، 3350 - جرير : هو ابن عبد الحميد الضبي .
* مغيرة : هو ابن مقسم - بكسر الميم وسكون القاف وفتح السين - الضبي الفقيه ، ثقة أخرج له الستة .
* وهذان الإسنادان ، مما لم أجده في موضع آخر . ومن البين أن فيهما انقطاعا بين مجاهد وكعب بن عجرة بينهما عبد الرحمن بن أبي ليل ، كما يتبين من الأسانيد السابقة واللاحقة .
(2) الحديث : 3351 - هو في الموطأ ص : 417ن ولكن حذف فيه " عن مجاهد " - بين عبد الكريم الجزري وابن أبي ليلى . وكذلك هو في الموطأ رواية سويد بن سعيد ، ص : 185 (من مصورة عن مخطوطة عتيقة نفيسة منه ، عندي) وقال ابن عبد البر في التقصي ، رقم : 332 " هكذا هذا الحديث في الموطأ عند أكثر الرواة ، ليس فيه ذكر مجاهد . وسقوط مجاهد منه خطأ ، لأن عبد الكريم إنما رواه عن مجاهد عن ابن أبي ليلى : وقد رواه ابن وهب وابن القاسم في الموطأ - عن مالك عن عبد الكريم ، عن مجاهد عن ابن أبي ليلى ، عن كعب وهو الصواب " . وقد أشار الحافظ في الفتح 4 : 11 إلى رواية الموطأ هذه ، وقال : " قال الدارقطني : رواه أصحاب الموطأ : عن مالك عن عبد الكريم عن عبد الرحمن لم يذكروا مجاهدا ، حتى قال الشافعي : إن مالكا وهم فيه " ثم أشار إلى روايات من رواه عن مالك على الصواب : ابن القاسم عند النسائي . وابن وهب عند الطبري - وهي هذه الرواية . وعبد الرحمن بن مهدي عند أحمد . ورواية ابن مهدي في المسند 4 : 241 (حلبي) ورواية ابن القاسم في النسائي 2 : 28 . وكلاهما على الصواب ، كرواية الطبري - هذه - من طريق ابن وهب .

(3/65)


3352 - حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب أن مالك بن أنس حدثه عن حميد بن قيس ، عن مجاهد ، [ عن ابن أبي ليلى ] ، عن كعب بن عجرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له : لعله آذاك هوامك ؟ - يعني القمل - قال : فقلت : نعم يا رسول الله. فقال رسول الله : احلق رأسك ، وصم ثلاثة أيام ، أو أطعم ستة مساكين ، أو انسك بشاة. (1)
3353 - حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، أن مالك بن أنس حدثه ، عن عطاء بن عبد الله الخراساني أنه قال : أخبرني شيخ بسوق البرم بالكوفة ، عن كعب بن عجرة أنه قال : جاءني رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أنفخ تحت قدر لأصحابي ، قد امتلأ رأسي ولحيتي قملا فأخذ بجبهتي ، ثم قال : احلق هذا ، وصم ثلاثة أيام ، أو أطعم ستة مساكين ! وقد كان رسول الله صلى الله
__________
(1) الحديث : 3352 - حميد بن قيس المكي القارئ ، قارئ أهل مكة : ثقة من شيوخ مالك والثوري وأخرج له الستة .
* وقد سقط من إسناد الحديث هنا " ابن أبي ليلى " بين مجاهد وكعب بن عجرة وليس هذا من خطأ الناسخ أو الطابع ، بل هو من رواة الموطأ .
* فالحديث في الموطأ ص : 417 ، على الصواب " مجاهد عن ابن أبي ليلى عن كعب " - في رواية يحيى بن يحيى المعروفة وكذلك هو على الصواب في رواية سويد بن سعيد عن مالك ص : 185 .
* وقال ابن عبد البر في التقصي رقم : 43 " هذا هو الصحيح في إسناد هذا الحديث . ومن أسقط من إسناده عن مالك ، " ابن أبي ليلى " - فقد أفسد إسناده . وممن رواه كما رواه يحيى مجودا : القعنبي والشافعي وابن عبد الحكم وأبو مصعب وابن بكير والزبيري . وسقط لابن القاسم وابن وهب وابن عفير " ابن أبي ليلى " من إسناد هذا الحديث " . ونحو ذلك قال الحافظ في الفتح 4 : 11 . وقد رواه البخاري 4 : 10 - 12 عن عبد الله بن يوسف ، عن مالك على الصواب .

(3/66)


عليه وسلم علم أنه ليس عندي ما أنسك به. (1)
3354 - حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن نافع ، قال : حدثني أسامة بن زيد ، عن محمد بن كعب القرظي ، عن كعب بن عجرة ، قال كعب : أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم حين آذاني القمل أن أحلق رأسي ، ثم أصوم ثلاثة أيام أو أطعم ستة مساكين; وقد علم أنه ليس عندي ما أنسك به. (2)
3355 - حدثنا إبراهيم بن سعيد الجوهري ، قال : حدثنا روح ، عن أسامة بن زيد ، عن محمد بن كعب ، قال : سمعت كعب بن عجرة يقول : أمرني - يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم - أن أحلق وأفتدي بشاة. (3)
3356 - حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا هارون بن المغيرة ، عن عنبسة ، عن الزبير بن عدي ، عن أبي وائل شقيق بن سلمة قال : لقيت كعب بن عجرة في هذه السوق ، فسألته عن حلق رأسه ؟ فقال : أحرمت فآذاني القمل. فبلغ ذلك
__________
(1) الحديث : 3353 - عطاء بن عبد الله الخراساني : هو عطاء بن أي مسلم واسم أبي مسلم " عبد الله " وهو الراجح الثابت عند مالك والذي اقتصر عليه ابن أبي حاتم 3/1/334 - 335 . وفي التهذيب قول آخر : أنه " ميسرة " . وعطاء هذا : ثقة ، تكلم فيه بعضهم بغير حجة .
* والحديث في الموطأ ص : 417 - 418 . وأشار إليه الحافظ في الفتح ولم ينسبه لغير الموطأ . ونقل عن ابن عبد البر لبيان الشيخ المبهم في الإسناد قال : " يحتمل أن يكون عبد الرحمن بن أبي ليلى ، أو عبد الله بن معقل " . أقول : ويحتمل أن يكون غيرهما . فالإسناد منقطع حتى نستيقن من هذا المبهم ؟
(2) الحديث : 3354 - يونس : هو ابن عبد الأعلى . ابن نافع : هو عبد الله بن نافع بن أبي نافع الصائغ المدني ، من أصحاب مالك ، وهو ثقة أخرج له مسلم وتكلم بعضهم في حفظه . أسامة بن زيد الليثي المدني : ثقة أخطأ في بعض أحاديث ولكن ذلك لا يدفعه عن الاحتجاج بروايته .
* محمد بن كعب بن سليم بن أسد القرظي : تابعي ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة .
* والحديث رواه ابن ماجه : 3080 ، عن عبد الرحمن بن إبراهيم عن عبد الله بن نافع بهذا الإسناد .
(3) الحديث : 3355 - إبراهيم بن سعيد الجوهري الطبري البغدادي الحافظ : ثقة ثبت روى عنه أصحاب الكتب الستة إلا البخاري مترجم في التهذيب . وتاريخ بغداد 6 : 93 - 95 روح : هو ابن عبادة مضت ترجمته : 3015 .
* والحديث مختصر ما قبله ، من هذا الوجه .

(3/67)


النبي صلى الله عليه وسلم ، فأتاني وأنا أطبخ قدرا لأصحابي ، فحك بأصبعه رأسي فانتثر منه القمل ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : احلقه ، وأطعم ستة مساكين. (1)
3357 - حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : أخبرنا ابن جريح ، قال : أخبرني عطاء أن النبي صلى الله عليه وسلم كان بالحديبية عام حبسوا بها ، وقمل رأس رجل من أصحابه يقال له كعب بن عجرة ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : أتؤذيك هذه الهوام ؟ قال : نعم. قال : فاحلق واجزز ، ثم صم ثلاثة أيام ، أو أطعم ستة مساكين مدين مدين. قال : قلت أسمى النبي صلى الله عليه وسلم مدين مدين ؟ قال : نعم ، كذلك بلغنا أن النبي صلى الله عليه وسلم سمى ذلك لكعب ، ولم يسم النسك ، قال : وأخبرني أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر كعبا بذلك بالحديبية قبل أن يؤذن للنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه بالحلق والنحر ، لا يدري عطاءكم بين الحلق والنحر. (2)
3358 - حدثني أحمد بن عبد الرحمن بن وهب ، قال : حدثني عمي عبد الله بن وهب ، قال : حدثني الليث ، عن ابن مسافر ، عن ابن شهاب ، عن فضالة بن محمد الأنصاري ، أنه أخبره عمن لا يتهم من قومه : أن كعب بن عجرة أصابه أذى في رأسه ، فحلق قبل أن يبلغ الهدي محله ، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم بصيام ثلاثة أيام. (3)
__________
(1) الحديث : 3356 - هارون بن المغيرة بن حكيم البجلي : ثقة وثقه ابن معين وغيره . عنبسة : هو ابن سعيد بن الضريس - بضم الضاد المعجمة - الأسدي : ثقة وثقه ابن معين وأبو زرعة وغيرهما . الزبير بن عدي الهمداني اليامي : ثقة وثقه أحمد وابن معين وغيرهما ، وأخرج له أصحاب الكتب الستة .
* والحديث رواه النسائي 2 : 28 ، من طريق عمرو بن أبي قيس عن الزبير بن عدي ، بهذا الإسناد .
(2) الحديث : 3357 - عطاء : الظاهر أنه ابن أبي رباح . ويحتمل أن يكون " ابن عبد الله الخراساني " ، الماضي في الإسناد : 3353 ، كما بينا في : 3333 .
(3) الحديث : 3358 - ابن مسافر : هو عبد الرحمن بن خالد بن مسافر الفهمي المصرين كان واليا على مصر سنة 118 ، وهو ثقة ثبت أخرج له الشيخان وغيرهما .
* فضالة بن محمد الأنصاري : ثقة ترجمه البخاري في الكبير 4/1/126 ، قال : " بعد في أهل المدينة . عمن حدثه عن كعب بن عجرة . روى عنه الزهري " . وبنحو ذلك ترجمه بن أبي حاتم 3/2/77 .
* والحديث لم أجده في موضع آخر ، إلا إشارة البخاري وابن أبي حاتم إليه ، بما ذكرنا .
* ولحديث كعب عجرة أسانيد أخر ، وزيادة على الأسانيد الكثيرة التي هنا :
* فمنها : رواية شعبة عن الحكم عن أبي ليلى ، عن كعب - عند أحمد في المسند 4 : 241 - 242 ، 243 (حلبي) .
* ومنها : رواية ابن جريج ، عن عمرو بن دينار ، عن يحيى بن جعدة ، عن كعب - في المسند 4 : 242 .
* ومنها : رواية وهيب ، عن خالد ، عن أبي قلابة ، عن ابن أبي ليلى . في المسند 4 : 242 ، وصحيح مسلم 1 : 336 .
* ومنها : رواية سليمان بن قرم عن ابن الأصبهاني ، عن عبد الله بن معقل المزني - في المسند 4 : 243 .
* ومنها : رواية الليث ، عن نافع عن رجل من الأنصار عن كعب - عند أبي داود : 1859 .
* ومنها : رواية أبان ، عن الحكم عن ابن أبي ليلى - عند أبي داود : 1860 .
* ومنها رواية ابن أبي زائدة ، عن ابن الأصبهاني عن ابن معقل - عند مسلم 1 : 337 .
* وانظر السنن الكبرى للبيهقي 5 : 54 - 55 ، 169 - 170 ، 185 ، 187 ، 214 ، 242 . ومجمع الزوائد 3 : 234 - 235 .

(3/68)


3359 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو الأسود ، قال : أخبرنا ابن لهيعة ، عن مخرمة ، عن أبيه ، قال : سمعت عمرو بن شعيب يقول : سمعت شعيبا يحدث عن عبد الله بن عمرو بن العاص ، يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لكعب بن عجرة : أيؤذيك دواب رأسك ؟ قال : نعم ، قال : فاحلقه وافتد إما بصوم ثلاثة أيام ، وإما أن تطعم ستة مساكين ، أو نسك شاة " ففعل. (1)
* * *
__________
(1) الحديث : 3359 - هذا إسناد صحيح . مخرمة هو ابن بكير بن عبد الله بن الأشج المدني : وهو ثقة تكلموا في سماعه من أبيه فجزم بعضهم بأنه لم يسمع منه ، وإنما يحدث عن كتاب أبيه . وحكى ابن أبي أويس أنه وجد في ظهر كتاب مالك : أنه سأل مخرمة عن ذلك فحلف له أنه سمع من أبيه الأحاديث التي يحدث بها عنه . انظر ترجمته في التهذيب . والكبير 4/2/16 ؛ وابن أبي حاتم 4/1/363 - 364 ، والمراسيل لابن أبي حاتم ، ص : 80 .
وهذا الحديث مما لم أجده في موضع آخر . إلا أن الحافظ أشار إليه في الفتح 4 : 11 ، وذكر أنه رواه الطبري والطبراني . ولم أجده في مجمع الزوائد ، مع أنه من شرطه ، لروايته عند الطبراني .

(3/69)


قال أبو جعفر : وقد بينا قبل معنى " الفدية " ، وأنها بمعنى الجزاء والبدل. (1)
* * *
قال أبو جعفر : واختلف أهل العلم في مبلغ الصيام والطعام اللذين أوجبهما الله على من حلق شعره من المحرمين في حال مرضه أو من أذى برأسه.
فقال بعضهم : الواجب عليه من الصيام ثلاثة أيام ، ومن الطعام ثلاثة آصع بين ستة مساكين ، لكل مسكين نصف صاع. واعتلوا بالأخبار التي ذكرناها قبل.
* ذكر من قال ذلك :
3360 - حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا ابن يمان ، عن سفيان ، عن السدي ، عن أبي مالك : " ففدية من صيام أو صدقة أو نسك " قال : الصيام : ثلاثة أيام ، والطعام : إطعام ستة مساكين ، والنسك : شاة.
3361 - حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا ابن يمان ، قال : حدثنا عبد الملك بن أبي سليمان ، عن عطاء ، مثله.
3362 - حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا ابن يمان ، عن عثمان بن الأسود ، عن مجاهد ، مثله.
3363 - حدثني يعقوب ، قال : حدثنا هشيم ، عن مغيرة ، عن إبراهيم ومجاهد أنهما قالا في قوله : " ففدية من صيام أو صدقة أو نسك " قالا الصيام ثلاثة أيام ، والطعام : إطعام ستة مساكين ، والنسك : شاة فصاعدا.
3364 - حدثني يعقوب ، قال : حدثنا هشيم ، عن أشعث ، عن الشعبي ، عن عبد الله بن معقل ، عن كعب بن عجرة أنه قال في قوله : " ففدية من صيام أو صدقة أو نسك " قال : الصيام ثلاثة أيام ، والطعام : إطعام ستة مساكين ، والنسك : شاة فصاعدا إلا أنه قال في إطعام المساكين : ثلاثة آصع من تمر بين ستة مساكين. (2)
__________
(1) انظر ما سلف 3 : 438 - 439
(2) الحديث : 3364 - مضى : 3336 ، من رواية أسد بن عمرو عن أشعث وقد أشرنا هناك إلى أنه رواه أحمد في المسند 4 : 243 ، عن هشيم . فهذه رواية هشيم .

(3/70)


3365 - حدثني موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : " فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك " إن صنع واحدا فعليه فدية ، وإن صنع اثنين فعليه فديتان ، وهو مخير أن يصنع أي الثلاثة شاء. أما الصيام فثلاثة أيام. وأما الصدقة فستة مساكين لكل مسكين نصف صاع ، وأما النسك فشاة فما فوقها. نزلت هذه الآية في كعب بن عجرة الأنصاري كان أحصر فقمل رأسه ، فحلقه.
3366 - حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : فمن كان مريضا أو اكتحل ، أو ادهن ، أو تداوى ، أو كان به أذى من رأسه من قمل فحلق ، ففدية من صيام ثلاثة أيام ، أو صدقة فرق بين ستة مساكين ، أو نسك ، والنسك : شاة.
3367 - حدثت عن عمار بن الحسن ، عن عبد الله بن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : " ولا تحلقوا رءوسكم حتى يبلغ الهدي محله " قال : فإن عجل قبل أن يبلغ الهدي محله فحلق ، ففدية من صيام أو صدقة ، أو نسك. قال : فالصيام ثلاثة أيام ، والصدقة : إطعام ستة مساكين ، بين كل مسكينين صاع. والنسك : شاة.
3368 - حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا حكام ، عن عنبسة ، عن عبد الكريم ، عن سعيد بن جبير ، قال : يصوم صاحب الفدية مكان كل مدين يوما ، قال : مدا لطعامه ، ومدا لإدامه.
3369 - حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا هارون ، عن عنبسة بإسناده مثله.
3370 - حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا بشر بن السري ، عن شعبة ، عن عمرو بن مرة ، عن عبد الله بن سلمة ، قال : سئل علي رضي الله عنه عن قول الله : " فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك " قال : الصيام ثلاثة أيام ، والصدقة : ثلاثة آصع على ستة مساكين ، والنسك : شاة.

(3/71)


3371 - حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : حدثني الليث ، قال : حدثني يزيد بن أبي حبيب ، عن حرب بن قيس مولى يحيى بن أبي طلحة أنه سمع محمد بن كعب ، وهو يذكر الرجل الذي نزل فيه : " فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه " ، قال : فأفتاه رسول الله صلى الله عليه وسلم : أما الصيام : فثلاثة أيام ، وأما المساكين فستة ، وأما النسك فشاة.
3372 - حدثني عبيد بن إسماعيل الهباري ، قال : حدثنا عبد الله بن نمير ، عن الأعمش ، عن إبراهيم ، عن علقمة ، قال : إذا أهل الرجل بالحج فأحصر بعث بما استيسر من الهدي ، شاة. فإن عجل قبل أن يبلغ الهدي محله - حلق رأسه ، أو مس طيبا ، أو تداوى - كان عليه فدية من صيام ، أو صدقة ، أو نسك. والصيام : ثلاثة أيام ، والصدقة : ثلاثة آصع على ستة مساكين لكل مسكين نصف صاع ، والنسك : شاة.
3373 - حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن منصور ، عن إبراهيم ومجاهد قوله : " ففدية من صيام أو صدقة أو نسك " قالا الصيام ثلاثة أيام ، والصدقة : ثلاثة آصع على ستة مساكين ، والنسك : شاة.
* * *
وقال آخرون : الواجب عليه إذا حلق رأسه من أذى ، أو تطيب لعلة من مرض ، أو فعل ما لم يكن له فعله في حال صحته وهو محرم - من الصوم : صيام عشرة أيام ، ومن الصدقة : إطعام عشرة مساكين.
* ذكر من قال ذلك :
3374 - حدثنا ابن أبي عمران ، قال : حدثنا عبيد الله بن معاذ ، عن أبيه ، عن أشعث ، عن الحسن في قوله : " ففدية من صيام أو صدقة أو نسك " قال : إذا كان بالمحرم أذى من رأسه ، حلق وافتدى بأي هذه الثلاثة شاء. فالصيام :

(3/72)


عشرة أيام ، والصدقة على عشرة مساكين ، كل مسكين مكوكين ، مكوكا من تمر ، ومكوكا من بر ، والنسك : شاة. (1)
3375 - حدثني عبد الملك بن محمد الرقاشي ، قال : حدثنا بشر بن عمرو ، قال : حدثنا شعبة ، عن قتادة ، عن الحسن وعكرمة : " ففدية من صيام أو صدقة أو نسك " قال : إطعام عشرة مساكين.
* * *
وقاس قائلو هذا القول كل صيام وجب على محرم ، أو صدقة جزاء من نقص دخل في إحرامه ، أو فعل ما لم يكن له فعله بدلا من دم ، على ما أوجب الله على المتمتع من الصوم إذا لم يجد الهدي. وقالوا : جعل الله على المتمتع صيام عشرة أيام مكان الهدي إذا لم يجده. قالوا : فكل صوم وجب مكان دم ، فمثله.
قالوا : فإذا لم يصم وأراد الإطعام فإن الله جل وعز أقام إطعام مسكين مكان صوم يوم لمن عجز عن الصوم في رمضان. قالوا : فكل من جعل الإطعام له مكان صوم لزمه فهو نظيره. فلذلك أوجبوا إطعام عشرة مساكين في فدية الحلق.
* * *
وقال آخرون : بل الواجب على الحالق النسك شاة إن كانت عنده. فإن
__________
(1) الخبر : 3374 - أشرنا إلى هذا الإسناد في الخبر : 3324 ، وذكرنا هناك أنا نشك في صحة ذلك الموضع ، لما فيه من رواية الطبري عن عبيد الله بن معاذ العنبري سماعا دون واسطة .
وها هو ذا يروي عنه هنا بواسطة " ابن أبي عمران " . وابن أبي عمران هذا : لم نعرف من هو بعد طول البحث والتتبع . فعسى أن نجد في موضع آخر ما يدل على من هو " ابن أبي عمران " وما يكشف عن سماع الطبري من عبيد الله أو عدم سماعه منه .
والإسنادان يحتاجان إلى تحقيق .
انظر التعليق على رقم 3324 ص 55
المكوك (بفتح الميم وتشديد الكاف المضمومة) مكيال لأهل العراق قدره صاع ونصف صاع .

(3/73)


لم تكن عنده قومت الشاة دراهم والدراهم طعاما ، فتصدق به ، وإلا صام لكل نصف صاع يوما.
* ذكر من قال ذلك :
3376 - حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا أبو بكر بن عياش ، قال : ذكر الأعمش ، قال : سأل إبراهيم سعيد بن جبير عن هذه الآية : " ففدية من صيام أو صدقة أو نسك " ، فأجابه بقوله : يحكم عليه إطعام ، فإن كان عنده اشترى شاة ، فإن لم تكن قومت الشاة دراهم فجعل مكانه طعاما فتصدق ، وإلا صام لكل نصف صاع يوما. فقال إبراهيم : كذلك سمعت علقمة يذكر. قال : لما قال لي سعيد بن جبير : هذا ما أظرفه ! قال : قلت : هذا إبراهيم ! قال : ما أظرفه ! كان يجالسنا. قال : فذكرت ذلك لإبراهيم ، قال : فلما قلت " يجالسنا " ، انتفض منها.
3377 - حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا هارون ، عن عنبسة ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قال : يحكم على الرجل في الصيد ، فإن لم يجد جزاءه قوم طعاما ، فإن لم يكن طعام صام مكان كل مدين يوما ، وكذلك الفدية.
* * *
وقال آخرون : بل هو مخير بين الخلال الثلاث ، يفتدي بأيها شاء.
* ذكر من قال ذلك :
3378 - حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا يحيى بن سعيد ، عن سيف بن سليمان ، عن مجاهد ، قال : كل شيء في القرآن " أو " " أو " ، فهو بالخيار ، مثل الجراب فيه الخيط الأبيض والأسود ، فأيهما خرج أخذته.
3379 - حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا ابن مهدي ، قال : حدثنا سفيان ، عن ليث ، عن مجاهد ، قال : كل شيء في القرآن " أو " " أو " فصاحبه بالخيار ، يأخذ الأولى فالأولى.

(3/74)


3380 - حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا ابن إدريس ، قال : سمعت ليثا ، عن مجاهد ، قال : كل ما كان في القرآن : " كذا ، فمن لم يجد فكذا " ، فالأول فالأول. وكل ما كان في القرآن " أو كذا " " أو كذا " ، فهو فيه بالخيار.
3381 - حدثني نصير بن عبد الرحمن الأودي ، قال : حدثنا المحاربي عن يحيى بن أبي أنيسة ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد - وسئل عن قوله : " ففدية من صيام أو صدقة أو نسك " فقال مجاهد : إذا قال الله تبارك وتعالى لشيء " أو " " أو " ، فإن شئت فخذ بالأول ، وإن شئت فخذ بالآخر.
3382 - حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا ابن جريج ، قال : قال لي عطاء وعمرو بن دينار - في قوله : " فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك " - قالا له أيتهن شاء.
3383 - حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : أخبرنا ابن جريج ، قال : قال عطاء : كل شيء في القرآن " أو " " أو " ، فلصاحبه أن يختار أيّه شاء.
قال ابن جريج : قال لي عمرو بن دينار : كل شيء في القرآن " أو " " أو " ، فلصاحبه أن يأخذ بما شاء.
3384 - حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا ليث عن عطاء ومجاهد أنهما قالا ما كان في القرآن " أو كذا " ، " أو كذا " ، فصاحبه بالخيار ، أي ذلك شاء فعل.
3385 - حدثنا علي بن سهل ، قال : حدثنا يزيد ، عن سفيان ، عن ليث ومجاهد ، عن ابن عباس ، قال : كل شيء في القرآن " أو " " أو " ، فهو مخير فيه ، فإن كان " فمن " " فمن " ، فالأول فالأول. (1)
3386 - حدثنا محمد بن المثنى ، قال : حدثنا أسباط بن محمد ، قال : حدثنا داود ، عن عكرمة ، قال : كل شيء في القرآن " أو " " أو " ، فليتخير أي الكفارات
__________
(1) قوله : " فمن ، فمن " أي فمن لم يجد ، كما سلف في الأثر : 3380 ، 3386

(3/75)


شاء ، فإذا كان : " فمن لم يجد " ، فالأول فالأول.
3387 - حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو النعمان عارم ، قال : حدثنا حماد بن زيد ، عن أيوب ، قال : قال : حدثت عن عطاء ، قال : كل شيء في القرآن " أو " " أو " فهو خيار. (1)
* * *
قال أبو جعفر : والصواب من القول في ذلك عندنا ما ثبت به الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وتظاهرت به عنه الرواية أنه أمر كعب بن عجرة بحلق رأسه من الأذى الذي كان برأسه ، ويفتدي إن شاء بنسك شاة ، أو صيام ثلاثة أيام ، أو إطعام فرق من طعام بين ستة مساكين كل مسكين نصف صاع.
وللمفتدي الخيار بين أي ذلك شاء ، لأن الله لم يحصره على واحدة منهن بعينها ، فلا يجوز له أن يعدوها إلى غيرها ، بل جعل إليه فعل أي الثلاث شاء.
ومن أبى ما قلنا من ذلك قيل له : ما قلت في المكفر عن يمينه أمخير - إذا كان موسرا - في أن يكفر بأي الكفارات الثلاث شاء ؟ فإن قال : " لا " ، خرج من قول جميع الأمة ، وإن قال : " بلى " ، سئل الفرق بينه وبين المفتدي من حلق رأسه وهو محرم من أذى به. ثم لن يقول في أحدهما شيئا إلا ألزم في الآخر مثله.
على أن ما قلنا في ذلك إجماع من الحجة ، ففي ذلك مستغنى عن الاستشهاد على صحته بغيره.
وأما الزاعمون أن كفارة الحلق قبل الحلق ، فإنه يقال لهم : أخبرونا عن الكفارة للمتمتع قبل التمتع أو بعده ؟ فإن زعموا أنها قبله قيل لهم : وكذلك الكفارة عن اليمين قبل اليمين. فإن زعموا أن ذلك كذلك ، خرجوا من قول الأمة. وإن قالوا : ذلك غير جائز.
قيل : وما الوجه الذي من قبله وجب أن تكون كفارة
__________
(1) الأثر : 3387 : أبو النعمان عارم هو محمد بن الفضل السدوسي عارم لقب له .

(3/76)


الحلق قبل الحلق ، وهدي المتعة قبل التمتع ، ولم يجب أن تكون كفارة اليمين قبل اليمين ؟ وهل بينكم وبين من عكس عليكم الأمر في ذلك - فأوجب كفارة اليمين قبل اليمين وأبطل أن تكون كفارة الحلق كفارة له إلا بعد الحلق - فرق من أصل أو نظير ؟ فلن يقول في أحدهما شيئا إلا ألزم في الآخر مثله.
فإن اعتل في كفارة اليمين قبل اليمين أنها غير مجزئة قبل الحلف بإجماع الأمة. قيل له : فرد الأخرى قياسا عليها ، إذ كان فيها اختلاف. (1)
وأما القائلون إن الواجب على الحالق رأسه من أذى : من الصيام عشرة أيام ، ومن الإطعام عشرة مساكين ، فمخالفون نص الخبر الثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. فيقال لهم : أرأيتم من أصاب صيدا فاختار الإطعام أو الصيام ، أتسوون بين جميع ذلك بقتله الصيد صغيره وكبيره من الإطعام والصيام ، أم تفرقون بين ذلك على قدر افتراق المقتول من الصيد في الصغر والكبر ؟ فإن زعموا أنهم يسوون بين جميع ذلك سووا بين ما يجب على من قتل بقرة وحشية ، وبين ما يجب على من قتل ولد ظبية - من الإطعام والصيام . وذلك قول إن قالوه لقول الأمة مخالف.
وإن قالوا : بل نخالف بين ذلك ، فنوجب ذلك عليه على قدر قيمة المصاب من الطعام والصيام.
قيل : فكيف رددتم الواجب على الحالق رأسه من أذى من الكفارة على الواجب على المتمتع من الصوم ، وقد علمتم أن المتمتع غير مخير بين الصيام والإطعام والهدي ، ولا هو متلف شيئا وجبت عليه منه الكفارة ، وإنما هو تارك عملا من الأعمال ، وتركتم رد الواجب عليه وهو متلف بحلق رأسه ما كان ممنوعا من إتلافه ، ومخير بين الكفارات الثلاث ، نظير مصيب الصيد ، الذي هو بإصابته إياه له متلف ،
__________
(1) في المطبوعة : " إن كان فيها اختلاف " ، والصواب ما أثبت .

(3/77)


ومخير في تكفيره بين الكفارات الثلاث ؟ وهل بينكم وبين من خالفكم في ذلك وجعل الحالق قياسا لمصيب الصيد ، وجمع بين حكميهما لاتفاقهما في المعاني التي وصفنا ، وخالف بين حكمه وحكم المتمتع في ذلك ، لاختلاف أمرهما فيما وصفنا فرق من أصل أو نظير ؟
فلن يقولوا في ذلك قولا إلا ألزموا في الآخر مثله ، مع أن اتفاق الحجة على تخطئة قائل هذا القول في قوله هذا كفاية عن الاستشهاد على فساده بغيره ، فكيف وهو مع ذلك خلاف ما جاءت به الآثار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والقياس عليه بالفساد شاهد ؟
* * *
واختلف أهل العلم في الموضع الذي أمر الله أن ينسك نسك الحلق ويطعم فديته.
فقال بعضهم : النسك والإطعام بمكة لا يجزئ بغيرها من البلدان.
* ذكر من قال ذلك :
3388 - حدثني يحيى بن طلحة ، قال : حدثنا فضيل بن عياض ، عن هشام ، عن الحسن ، قال : ما كان من دم أو صدقة فبمكة ، وما سوى ذلك حيث شاء.
3389 - حدثني يحيى بن طلحة ، حدثنا فضيل ، عن ليث ، عن طاوس ، قال : كل شيء من الحج فبمكة ، إلا الصوم.
3390 - حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : أخبرنا ابن جريج ، قال : سألت عطاء عن النسك ، قال : النسك بمكة لا بد.
3391 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا هارون ، عن عنبسة ، عن ابن أبي نجيح ، عن عطاء ، قال : الصدقة والنسك في الفدية بمكة ، والصيام حيث شئت.
3392 - حدثني يعقوب قال : حدثنا هشيم ، قال : حدثنا ليث ، عن طاوس

(3/78)


أنه كان يقول : ما كان من دم أو إطعام فبمكة ، وما كان من صيام فحيث شاء.
3393 - حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا شبل ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : النسك بمكة أو بمنى.
3394 - حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : النسك بمكة أو بمنى ، والطعام بمكة.
* * *
وقال آخرون : النسك في الحلق والإطعام والصوم حيث شاء المفتدي.
* ذكر من قال ذلك :
3395 - حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا يحيى بن سعيد ، عن يعقوب بن خالد ، قال : أخبرني أبو أسماء مولى ابن جعفر ، قال : حج عثمان ومعه علي والحسين بن علي رضوان الله عليهم ، فارتحل عثمان قال أبو أسماء : وكنت مع ابن جعفر قال : فإذا نحن برجل نائم وناقته عند رأسه ، قال : فقلنا له : أيها النائم ! فاستيقظ ، فإذا الحسين بن علي. قال : فحمله ابن جعفر حتى أتى به السقيا. قال : فأرسل إلى علي ، فجاء ومعه أسماء بنت عميس. قال : فمرضناه نحوا من عشرين ليلة. قال : فقال علي للحسين : ما الذي تجد ؟ قال : فأومأ إلى رأسه. قال : فأمر به علي فحلق رأسه ، ثم دعا ببدنة فنحرها. (1)
__________
(1) الخبر : 3395 - يحيى بن سعيد : هو الأنصاري النجاري مضت ترجمته : 2154 .
يعقوب بن خالد : ترجم في الكبير 4/2/394 ، وابن أبي حاتم 4/2/207 . والتعجيل ص : 456 باسم " يعقوب بن خالد بن المسيب المخزومي " ، ولكن سيأتي في الإسناد التالي ، أنه : " يعقوب بن خالد بن عبد الله بن المسيب " ، فيستفاد منه رفع نسبه ، ويكون في تلك الكتب منسوبا لجده الأعلى . وهو ثقة ، لم يذكر فيه البخاري ولا ابن أبي حاتم جرحا .
أبو أسماء مولى عبد الله بن جعفر : تابعي ثقة . مترجم في الكنى للبخاري ، رقم : 22 ، وابن أبي حاتم 4/2/333 ، والتعجيل .
وهذا الخبر نقله ابن كثير 1 : 449 .

(3/79)


3396 - حدثنا مجاهد بن موسى ، قال : حدثنا يزيد ، قال : أخبرنا يحيى بن سعيد ، عن يعقوب بن خالد بن عبد الله بن المسيب المخزومي أخبره أنه سمع أبا أسماء مولى عبد الله بن جعفر ، يحدث : أنه خرج مع عبد الله بن جعفر يريد مكة مع عثمان ، حتى إذا كنا بين السقيا والعرج اشتكى الحسين بن علي ، فأصبح في مقيله الذي قال فيه بالأمس. قال أبو أسماء : فصحبته أنا وعبد الله بن جعفر ، فإذا راحلة حسين قائمة وحسين مضطجع ، فقال عبد الله بن جعفر : إن هذه لراحلة حسين. فلما دنا منه قال له : أيها النائم ! وهو يظن أنه نائم; فلما دنا منه وجده يشتكي ، فحمله إلى السقيا ، ثم كتب إلى علي فقدم إليه إلى السقيا فمرضه قريبا من أربعين ليلة. ثم إن عليا قيل له : هذا حسين يشير إلى رأسه ، فدعا علي بجزور فنحرها ، ثم حلق رأسه. (1)
3397 - حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا محمد بن بكر ، قال : حدثنا ابن جريج ، قال : أخبرني يحيى بن سعيد ، قال : أقبل حسين بن علي مع عثمان حراما - حسبت أنه اشتكى بالسقيا فذكر ذلك لعلي : فجاء هو وأسماء بنت عميس ، فمرضوه عشرين ليلة ، فأشار حسين إلى رأسه ، فحلقه ونحر عنه جزورا. قلت : فرجع به ؟ قال : لا أدري.
* * *
قال أبو جعفر : وهذا الخبر يحتمل أن يكون ما ذكر فيه من نحر علي عن الحسين الناقة قبل حلقه رأسه ، ثم حلقه رأسه بعد النحر - إن كان على ما رواه مجاهد عن يزيد ، كان على وجه الإحلال من الحسين من إحرامه للإحصار عن
__________
(1) الخبر : 3396 - مجاهد بن موسى بن فروخ ، شيخ الطبري : مضت ترجمته : 510 ووقع في المطبوعة هنا " مجاهد بن يونس " وهو خطأ يقينا ، فليس في التراجم من يسمى بهذا . وشيخه " يزيد " : هو يزيد بن هارون .
والخبر مكرر ما قبله ، بنحوه .

(3/80)


الحج بالمرض الذي أصابه - وإن كان على ما رواه يعقوب ، عن هشيم : من نحر علي عنه الناقة بعد حلقه رأسه : أن يكون على وجه الافتداء من الحلق ، وأن يكون كان يرى أن نسك الفدية يجزئ نحره دون مكة والحرم.
3398 - حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن منصور ، عن مجاهد ، قال : الفدية حيث شئت.
3399 - حدثني يعقوب ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا حجاج ، عن الحكم ، عن إبراهيم - في الفدية ، في الصدقة والصوم والدم - : حيث شاء.
3400 - حدثني يعقوب ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا عبيدة ، عن إبراهيم أنه كان يقول ، فذكر مثله.
* * *
وقال آخرون : ما كان من دم نسك فبمكة ، وما كان من إطعام وصيام فحيث شاء المفتدي.
* ذكر من قال ذلك :
3401 - حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا حجاج ، وعبد الملك ، وغيرهما ، عن عطاء أنه كان يقول : ما كان من دم فبمكة ، وما كان من طعام وصيام فحيث شاء.
* * *
قال أبو جعفر : وعلة من قال : " الدم والإطعام بمكة " ، القياس على هدي جزاء الصيد. وذلك أن الله شرط في هديه بلوغ الكعبة ، فقال : ( يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ ) [المائدة : 95]. قالوا : فكل هدي وجب من جزاء أو فدية في إحرام ، فسبيله سبيل جزاء الصيد في وجوب بلوغه الكعبة. قالوا : وإذا كان ذلك حكم الهدي كان حكم الصدقة مثله ، لأنها واجبة

(3/81)


لمن وجب عليه الهدي ، وذلك أن الإطعام فدية وجزاء كالدم ، فحكمهما واحد.
وأما علة من زعم أن للمفتدي أن ينسك حيث شاء ويتصدق ويصوم أن الله لم يشترط على الحالق رأسه من أذى هديا ، وإنما أوجب عليه نسكا أو إطعاما أو صياما ، وحيثما نسك أو أطعم أو صام فهو ناسك ومطعم وصائم ، وإذا دخل في عداد من يستحق ذلك الاسم كان مؤديا ما كلفه الله. لأن الله لو أراد من إلزام الحالق رأسه في نسكه بلوغ الكعبة ، لشرط ذلك عليه ، كما شرط في جزاء الصيد ، وفي ترك اشتراط ذلك عليه ، دليل واضح ، أنه حيث نسك أو أطعم أجزأ.
وأما علة من قال : " النسك بمكة ، والصيام والإطعام حيث شاء " ، فالنسك دم كدم الهدي ، فسبيله سبيل هدي قاتل الصيد.
وأما الإطعام فلم يشترط الله فيه أن يصرف إلى أهل مسكنة مكان ، كما شرط في هدي الجزاء بلوغ الكعبة. فليس لأحد أن يدعي أن ذلك لأهل مكان دون مكان ، إذ لم يكن الله شرط ذلك لأهل مكان بعينه ؛ كما ليس لأحد أن يدعي أن ما جعله الله من الهدي لساكني الحرم لغيرهم ، إذ كان الله قد خص أن ذلك لمن به من أهل المسكنة.
* * *
قال أبو جعفر : والصواب من القول في ذلك ، أن الله أوجب على حالق رأسه من أذى من المحرمين ، فدية من صيام أو صدقة أو نسك ، ولم يشترط أن ذلك عليه بمكان دون مكان ، بل أبهم ذلك وأطلقه ، ففي أي مكان نسك أو أطعم أو صام ، فيجزي عن المفتدي. وذلك لقيام الحجة على أن الله إذ حرم أمهات نسائنا فلم يحصرهن على أنهن أمهات النساء المدخول بهن لم يحب أن يكن مردودات الأحكام على الربائب المحصورات على أن المحرمة منهن المدخول بأمها.
فكذلك كل مبهمة في القرآن غير جائز رد حكمها على المفسرة قياسا.

(3/82)


ولكن الواجب أن يحكم لكل واحدة منهما بما احتمله ظاهر التنزيل ، إلا أن يأتي في بعض ذلك خبر عن الرسول صلى الله عليه وسلم ، بإحالة حكم ظاهره إلى باطنه ، فيجب التسليم حينئذ لحكم الرسول ، إذ كان هو المبين عن مراد الله.
* * *
وأجمعوا على أن الصيام مجزئ عن الحالق رأسه من أذى حيث صام من البلاد.
* * *
واختلفوا فيما يجب أن يفعل بنسك الفدية من الحلق ، وهل يجوز للمفتدي الأكل منه أم لا ؟
فقال بعضهم ليس للمفتدي أن يأكل منه ، ولكن عليه أن يتصدق بجميعه.
* ذكر من قال ذلك :
3402 - حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا ابن إدريس ، قال : سمعت عبد الملك ، عن عطاء ، قال : ثلاث لا يؤكل منهن : جزاء الصيد ، وجزاء النسك ، ونذر المساكين.
3403 - حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا حكام وهارون ، عن عنبسة ، عن سالم ، عن عطاء قال : لا تأكل من فدية ولا من جزاء ، ولا من نذر ، وكل من المتعة ، ومن الهدي والتطوع.
3404 - حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا حكام وهرون ، عن عنبسة ، عن سالم ، عن مجاهد ، قال : جزاء الصيد والفدية والنذر لا يأكل منها صاحبها ، ويأكل من التطوع والتمتع.
3405 - حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا هارون ، عن عمرو ، عن الحجاج ، عن عطاء ، قال : لا تأكل من جزاء ، ولا من فدية ، وتصدق به.
3406 - حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا ابن جريج ، قال : قال عطاء : لا يأكل من بدنته الذي يصيب أهله حراما والكفارات كذلك.

(3/83)


3407 - حدثني يعقوب ، قال : حدثنا هشيم ، قال : حدثنا عبد الملك والحجاج وغيرهما ، عن عطاء أنه كان يقول : لا يؤكل من جزاء الصيد ، ولا من النذر ، ولا من الفدية ، ويؤكل مما سوى ذلك.
3408 - حدثني يعقوب ، قال : حدثنا ابن علية ، عن ليث ، عن عطاء وطاوس ومجاهد أنهم قالوا : لا يؤكل من الفدية وقال مرة : من هدي الكفارة ، ولا من جزاء الصيد.
* * *
وقال بعضهم : له أن يأكل منه.
* ذكر من قال ذلك :
3409 - حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا يحيى ، عن عبيد الله ، قال : أخبرني نافع ، عن ابن عمر قال : لا يؤكل من جزاء الصيد والنذر ، ويؤكل مما سوى ذلك.
3410 - حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا هارون ، عن عنبسة ، عن ابن أبي ليلى ، قال : من الفدية وجزاء الصيد والنذر. (1)
3411 - حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن مغيرة ، عن حماد ، قال : الشاة بين ستة مساكين يأكل منه إن شاء ، ويتصدق على ستة مساكين.
3412 - حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرني عبد الملك ، قال : حدثني من سمع الحسن ، يقول : كل من ذلك كله - يعني من جزاء الصيد والنذر والفدية.
3413 - حدثني محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا خالد بن الحارث ، قال : حدثنا الأشعث عن الحسن : أنه كان لا يرى بأسا بالأكل من جزاء الصيد ونذر المساكين.
* * *
__________
(1) يعني : يأكل من الفدية وجزاء الصيد والنذر ، كما سيأتي قول الحسن في رقم : 3412 ، 3413 .

(3/84)


قال أبو جعفر : وعلة من حظر على المفتدي الأكل من فدية حلاقه وفدية ما لزمته منه الفدية ، أن الله أوجب على الحالق والمتطيب ومن كان بمثل حالهم ، فدية من صيام أو صدقة أو نسك ، فلن يخلو ذلك الذي أوجبه عليه من الإطعام والنسك من أحد أمرين : إما أن يكون أوجبه عليه لنفسه أو لغيره أو له ولغيره.
فإن كان أوجبه لغيره فغير جائز له أن يأكل منه ، لأن ما لزمه لغيره فلا يجزيه فيه إلا الخروج منه إلى من وجب له .
أو يكون له وحده ، وما وجب له فليس عليه. لأنه غير مفهوم في لغة أن يقال : " وجب على فلان لنفسه دينار أو درهم أو شاة " ، وإنما يجب له على غيره ، فأما على نفسه فغير مفهوم وجوبه.
أو يكون وجب عليه له ولغيره ، فنصيبه الذي وجب له من ذلك ، غير جائز أن يكون عليه ، لما وصفنا.
وإذا كان ذلك كذلك كان الواجب عليه ما هو لغيره وما هو لغيره بعض النسك ، وإذا كان ذلك كذلك فإنما وجب عليه بعض النسك لا النسك كله.
قالوا : وفي إلزام الله إياه النسك تاما ما يبين عن فساد هذا القول.
* * *
وعلة من قال : " له أن يأكل من ذلك " ، أن الله أوجب على المفتدي نسكا ، والنسك في معاني الأضاحي ، وذلك هو ذبح ما يجزي في الأضاحي من الأزواج الثمانية. قالوا : ولم يأمر الله بدفعه إلى المساكين. قالوا : فإذا ذبح فقد نسك ، وفعل ما أمره الله ، وله حينئذ الأكل منه ، والصدقة منه بما شاء ، وإطعام ما أحب منه من أحب ، كما له ذلك في أضحيته.
* * *
قال أبو جعفر : والذي نقول به في ذلك : أن الله أوجب على المفتدي نسكا إن اختار التكفير بالنسك ، ولن يخلو الواجب عليه في ذلك من أن يكون ذبحه

(3/85)


دون غيره ، أو ذبحه والتصدق به. فإن كان الواجب عليه في ذلك ذبحه ، فالواجب أن يكون إذا ذبح نسكا فقد أدى ما عليه ، وإن أكل جميعه ولم يطعم مسكينا منه شيئا ، وذلك ما لا نعلم أحدا من أهل العلم قاله ، أو يكون الواجب عليه ذبحه والصدقة به. فإن كان ذلك عليه ، فغير جائز له أكل ما عليه أن يتصدق به ، كما لو لزمته زكاة في ماله ، لم يكن له أن يأكل منها ، بل كان عليه أن يعطيها أهلها الذين جعلها الله لهم. ففي إجماعهم - على أن ما ألزمه الله من ذلك فإنما ألزمه لغيره - دلالة واضحة على حكم ما اختلفوا فيه من غيره.
* * *
ومعنى " النسك " ، الذبح لله ، في لغة العرب ، يقال : " نسك فلان لله نسيكة " بمعنى : ذبح لله ذبيحة " ينسكها نسكا " ، (1) كما : -
3414 - حدثني محمد بن سعد ، قال : حدثني أبي ، قال : حدثني عمي ، قال : حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قال : النسك : أن يذبح شاة.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { فَإِذَا أَمِنْتُمْ }
قال أبو جعفر : اختلف أهل التأويل في معنى ذلك.
فقال بعضهم : معناه : فإذا برأتم من مرضكم الذي أحصركم عن حجكم أو عمرتكم.
* ذكر من قال ذلك :
3415 - حدثني عبيد بن إسماعيل الهباري ، قال : حدثنا عبد الله بن نمير ، عن الأعمش ، عن إبراهيم ، عن علقمة : " فإذا أمنتم " فإذا برأتم.
__________
(1) وانظر أيضًا ما سلف في الجزء 3 : 75 - 80 ، في معنى " المناسك " .

(3/86)


3416 - حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه في قوله : " فإذا أمنتم فمن تمتع بالعمرة إلى الحج " يقول : فإذا أمنت حين تحصر ، إذا أمنت من كسرك ، ومن وجعك ، فعليك أن تأتي البيت ، فيكون لك متعة ، فلا تحل حتى تأتي البيت.
* * *
وقال آخرون : معنى ذلك : فإذا أمنتم من خوفكم. (1)
* ذكر من قال ذلك :
3417 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : " فإذا أمنتم " لتعلموا أن القوم كانوا خائفين يومئذ.
3418 - حدثت عن عمار بن الحسن ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : " فإذا أمنتم " قال : إذا أمن من خوفه ، وبرأ من مرضه.
* * *
قال أبو جعفر : وهذا القول أشبه بتأويل الآية. لأن " الأمن " هو خلاف " الخوف " ، لا خلاف " المرض " ، (2) إلا أن يكون مرضا مخوفا منه الهلاك ، فيقال : فإذا أمنتم الهلاك من خوف المرض وشدته ، وذلك معنى بعيد.
وإنما قلنا : إن معناه : الخوف من العدو ، لأن هذه الآيات نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم أيام الحديبية وأصحابه من العدو خائفون ، فعرفهم الله بها ما عليهم إذا أحصرهم خوف عدوهم عن الحج ، وما الذي عليهم إذا هم أمنوا من ذلك ، فزال عنهم خوفهم.
* * *
__________
(1) في المطبوعة : " فإذا أمنتم من وجع خوفكم " ولفظ " وجع " مقحمة ولا شك ، وهي تفسد الكلام والتقسيم معا ، فذلك طرحتها .
(2) انظر ما سلف في الجزء 3 : 29 - 30 ، تفسير معنى " الأمن " .

(3/87)


القول في تأويل قوله تعالى : { فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ }
قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه : فإن أحصرتم أيها المؤمنون ، فما استيسر من الهدي ، فإذا أمنتم فزال عنكم خوفكم من عدوكم أو هلاككم من مرضكم فتمتعتم بعمرتكم إلى حجكم ، فعليكم ما استيسر من الهدي.
* * *
ثم اختلف أهل التأويل في صفة " التمتع " الذي عنى الله بهذه الآية.
فقال بعضهم : هو أن يحصره خوف العدو ، وهو محرم بالحج ، أو مرض ، أو عائق من العلل ، حتى يفوته الحج ، فيقدم مكة ، فيخرج من إحرامه بعمل عمرة ، ثم يحل فيستمتع بإحلاله من إحرامه ذلك إلى السنة المستقبلة ، ثم يحج ويهدي ، فيكون متمتعا بالإحلال من لدن يحل من إحرامه الأول إلى إحرامه الثاني من القابل.
* ذكر من قال ذلك :
3419 - حدثنا عمران بن موسى البصري ، قال : حدثنا عبد الوارث بن سعيد ، قال : حدثنا إسحاق بن سويد ، قال : سمعت ابن الزبير وهو يخطب ، وهو يقول : يا أيها الناس ، والله ما التمتع بالعمرة إلى الحج كما تصنعون ، إنما التمتع أن يهل الرجل بالحج فيحصره عدو أو مرض أو كسر أو يحبسه أمر حتى تذهب أيام الحج فيقدم فيجعلها عمرة ، فيتمتع بحله إلى العام القابل ثم يحج ويهدي هديا ، فهذا التمتع بالعمرة إلى الحج.
3420 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن ابن أبي نجيح ، عن عطاء قال : كان ابن الزبير يقول : المتعة لمن أحصر ، قال : وقال ابن عباس : هي لمن أحصر ومن خليت سبيله.

(3/88)


3421 - حدثني ابن البرقي ، قال : حدثنا ابن أبي مريم ، قال : أخبرنا نافع بن يزيد ، قال : أخبرني ابن جريج قال : قال عطاء : كان ابن الزبير يقول : إنما المتعة للمحصر وليست لمن خلي سبيله.
* * *
وقال آخرون : بل معنى ذلك : فإن أحصرتم في حجكم فما استيسر من الهدي ، فإذا أمنتم وقد حللتم من إحرامكم ، ولم تقضوا عمرة تخرجون بها من إحرامكم بحجكم ولكن حللتم حين أحصرتم بالهدي وأخرتم العمرة إلى السنة القابلة فاعتمرتم في أشهر الحج ، ثم حللتم ، فاستمتعتم بإحلالكم إلى حجكم فعليكم ما استيسر من الهدي.
* ذكر من قال ذلك :
3422 - حدثني عبيد بن إسماعيل الهباري ، قال : حدثنا عبد الله بن نمير ، عن الأعمش ، عن إبراهيم عن علقمة : (1) " فإن أحصرتم " ، قال : إذا أهل الرجل بالحج فأحصر ، قال : يبعث بما استيسر من الهدي ، شاة. قال : فإن عجل قبل أن يبلغ الهدي محله وحلق رأسه ، أو مس طيبا ، أو تداوى ، كان عليه فدية من صيام أو صدقة أو نسك " فإذا أمنتم " ، فإذا برأ فمضى من وجهه ذلك حتى أتى البيت ، حل من حجه بعمرة وكان عليه الحج من قابل. وإن هو رجع ولم يتم إلى البيت من وجهه ذلك ، فإن عليه حجة وعمرة ودما لتأخيره العمرة. فإن هو رجع متمتعا في أشهر الحج ، فإن عليه ما استيسر من الهدي ، شاة. فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع. قال إبراهيم : فذكرت ذلك لسعيد بن جبير ، فقال : كذلك قال ابن عباس في ذلك كله.
3423 - حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : " فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي " ، قال : هذا رجل أصابه خوف
__________
(1) في المطبوعة : " عن إبراهيم بن علقمة " وهو خطأ والصواب ما أثبت وانظر ما سلف قريبا رقم : 3415 .

(3/89)


أو مرض أو حابس حبسه حتى يبعث بهديه ، (1) فإذا بلغت محلها صار حلالا فإن أمن أو برأ ووصل إلى البيت فهي له عمرة ، وأحل ، وعليه الحج عاما قابلا. وإن هو لم يصل إلى البيت حتى يرجع إلى أهله ، فعليه عمرة وحجة وهدي. قال قتادة : [ وهي ] والمتعة التي لا يتعاجم الناس فيها أن أصلها كان هكذا. (2)
3424 - حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن مغيرة ، عن إبراهيم في قوله : " فإذا أمنتم فمن تمتع بالعمرة إلى الحج " إلى : " تلك عشرة كاملة " ، قال : هذا المحصر إذا أمن ، فعليه المتعة في الحج وهدي المتمتع ، فإن لم يجد فالصيام ، فإن عجل العمرة قبل أشهر الحج ، فعليه فيها هدي.
3425 - حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا بشر بن السري ، عن شعبة ، عن عمرو بن مرة ، عن عبد الله بن سلمة ، عن علي : " فإذا أمنتم فمن تمتع بالعمرة إلى الحج " فإن أخر العمرة حتى يجمعها مع الحج ، فعليه الهدي.
* * *
وقال آخرون : عنى بذلك المحصر وغير المحصر.
* ذكر من قال ذلك :
3426 - حدثني ابن البرقي ، قال : حدثنا ابن أبي مريم ، قال : أخبرنا نافع بن يزيد ، قال : أخبرني ابن جريج قال : أخبرني عطاء أن ابن عباس كان يقول :
__________
(1) مضى برقم : 3231 ، بهذا الإسناد ، وفي لفظه خلاف ، وهو مختصر هذا وفيه : " . . أو حابس حبسه عن البيت ، يبعث بهديه " .
(2) الزيادة التي بين القوسين ، لا بد منها . وقوله : " لا يتعاجم الناس . . . " أي لا يشك الناس ولا يتنازعون ولا يختلفون في بيانها وفي حديث ابن مسعود : " ما كنا نتعاجم أن ملكا ينطق على لسان عمر " ، أي كنا نفصح بذلك إفصاحا ، فلا نكنى ولا نورى وجاء في حديث على ما يفسره وهو قوله : " كنا أصحاب محمد لا نشك أن السكينة تنطق على لسان عمر " . وأصل هذا الحرف من قولهم : " استعجم عليه الأمر " أي : استبهم والتبس ، فإذا التبس الأمر صار موضعا للشك والتنازع .

(3/90)


المتعة لمن أحصر ، ولمن خُلِّي سبيله. وكان ابن عباس يقول : أصابت هذه الآية المحصر ومن خليت سبيله.
* * *
وقال آخرون : معنى ذلك : فمن فسخ حجه بعمرة ، فجعله عمرة ، واستمتع بعمرته إلى حجه ، فعليه ما استيسر من الهدي.
* ذكر من قال ذلك :
3427 - حدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي قوله : " فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي " ، أما المتعة فالرجل يحرم بحجة ، ثم يهدمها بعمرة. وقد خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسلمين حاجا ، حتى إذا أتوا مكة قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : من أحب منكم أن يحل فليحل ، قالوا : فما لك يا رسول الله ! قال : أنا معي هدي.
* * *
وقال آخرون : بل ذلك : الرجل يقدم معتمرا من أفق من الآفاق في أشهر الحج ، فإذا قضى عمرته أقام حلالا بمكة حتى ينشئ منها الحج ، فيحج من عامه ذلك ، فيكون مستمتعا بإحلاله إلى إحرامه بالحج.
* ذكر من قال ذلك :
3428 - حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله عز وجل : " فمن تمتع بالعمرة إلى الحج " ، من يوم الفطر إلى يوم عرفة ، فعليه ما استيسر من الهدي.
3429 - حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله.
3430 - حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الوهاب ، قال : حدثنا أيوب وحدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا ابن علية ، قال : أخبرنا أيوب عن نافع ، قال : قدم ابن عمر مرة في شوال ، فأقمنا حتى حججنا ، فقال : إنكم قد

(3/91)


استمتعتم إلى حجكم بعمرة ، فمن وجد منكم أن يهدي فليهد ، ومن لا فليصم ثلاثة أيام ، وسبعة إذا رجع إلى أهله.
3431 - حدثنا ابن بشار ، وعبد الحميد بن بيان قال ابن بشار : حدثنا ، وقال عبد الحميد : أخبرنا يزيد ، قال : أخبرنا يحيى بن سعيد ، عن نافع ، أنه أخبره أنه خرج مع ابن عمر معتمرين في شوال ، فأدركهما الحج وهما بمكة ، فقال ابن عمر : من اعتمر معنا في شوال ثم حج ، فهو متمتع عليه ما استيسر من الهدي ، فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع.
3432 - حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا هارون ، عن عنبسة ، عن ليث ، عن عطاء في رجل اعتمر في غير أشهر الحج ، فساق هديا تطوعا ، فقدم مكة في أشهر الحج ، قال : إن لم يكن يريد الحج ، فلينحر هديه ، ثم ليرجع إن شاء ، فإن هو نحر الهدي وحل ، ثم بدا له أن يقيم حتى يحج ، فلينحر هديا آخر لتمتعه ، فإن لم يجد فليصم.
3433 - حدثنا ابن حميد ، حدثنا هارون ، عن عنبسة ، عن ابن أبي ليلى ، مثل ذلك.
3434 - حدثنا عبد الحميد بن بيان ، قال : حدثنا يزيد ، قال : أخبرنا يحيى بن سعيد ، عن سعيد بن المسيب بأنه كان يقول : من اعتمر في شوال أو في ذي القعدة ثم أقام بمكة حتى يحج ، فهو متمتع ، عليه ما على المتمتع.
3435 - حدثنا يعقوب ، قال : حدثنا هشيم ، عن حجاج ، عن عطاء مثل ذلك.
3436 - حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله ، قال : حدثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس قوله : " فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي " يقول : من أحرم بالعمرة في أشهر الحج ، فما استيسر من الهدي.
3437 - حدثنا ابن البرقي ، قال : حدثنا ابن أبي مريم ، قال : أخبرنا نافع ، قال :

(3/92)


أخبرني ابن جريج ، قال : كان عطاء يقول : المتعة لخلق الله أجمعين ، الرجل ، والمرأة ، والحر ، والعبد ، هي لكل إنسان اعتمر في أشهر الحج ثم أقام ولم يبرح حتى يحج ، ساق هديا مقلدا أو لم يسق إنما سميت " المتعة " ، من أجل أنه اعتمر في شهور الحج ، فتمتع بعمرة إلى الحج ، ولم تسم " المتعة " من أجل أنه يحل بتمتع النساء.
* * *
قال أبو جعفر : وأولى هذه الأقوال بتأويل الآية قول من قال : عنى بها : فإن أحصرتم أيها المؤمنون في حجكم فما استيسر من الهدي ، فإذا أمنتم فمن تمتع ممن حل من إحرامه بالحج - بسبب الإحصار ، بعمرة اعتمرها لفوته الحج في السنة القابلة في أشهر الحج - إلى قضاء الحجة التي فاتته حين أحصر عنها ثم دخل في عمرته فاستمتع بإحلاله من عمرته إلى أن يحج فعليه ما استيسر من الهدي ، وإن كان قد يكون متمتعا من أنشأ عمرة في أشهر الحج وقضاها ثم حل من عمرته وأقام حلالا حتى يحج من عامه غير أن الذي هو أولى بالذي ذكره الله في قوله : " فمن تمتع بالعمرة إلى الحج " هو ما وصفنا ، من أجل أن الله جل وعز أخبر عما على المحصر عن الحج والعمرة من الأحكام في إحصاره. فكان مما أخبر تعالى ذكره : أنه عليه - إذا أمن من إحصاره فتمتع بالعمرة إلى الحج - ما استيسر من الهدي ، فإن لم يجد فصيام ثلاثة أيام. وكان معلوما (1) بذلك أنه معني به اللازم له - عند أمنه من إحصاره - من العمل بسبب الإحلال الذي كان منه في حجه الذي أحصر فيه ، دون المتمتع الذي لم يتقدم عمرته ولا حجه إحصار مرض ولا خوف.
* * *
__________
(1) في المطبوعة : " كان معلومًا بذلك " وزيادة الواو واجبة .

(3/93)


القول في تأويل قوله تعالى : { فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ }
قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه : فما استيسر من الهدي ، فهديه جزاء لاستمتاعه بإحلاله من إحرامه الذي حل منه حين عاد لقضاء حجته التي أحصر فيها ، وعمرته التي كانت لزمته بفوت حجته ، فإن لم يجد هديا فعليه صيام ثلاثة أيام في الحج في حجه ، وسبعة إذا رجع إلى أهله.
* * *
ثم اختلف أهل التأويل في الثلاثة أيام التي أوجب الله عليه صومهن في الحج : أي في أيام الحج هن.
فقال بعضهم : هن ثلاثة أيام من أيام حجه ، أي أيام شاء ، بعد أن لا يتجاوز بآخرهن يوم عرفة.
* ذكر من قال ذلك :
3438 - حدثني الحسين بن محمد الذارع ، قال : حدثنا حميد بن الأسود ، قال : حدثنا جعفر بن محمد ، عن أبيه عن علي رضي الله عنه : " فصيام ثلاثة أيام في الحج " ، قال : قبل التروية يوما ، ويوم التروية ، ويوم عرفة.
3439 - حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا إبراهيم بن إسماعيل بن نصر ، عن ابن أبي حبيبة ، عن داود بن حصين ، عن عكرمة ، عن ابن عباس أنه قال : الصيام للمتمتع ما بين إحرامه إلى يوم عرفة. (1)
__________
(1) الخبر : 3439 - إبراهيم بن إسماعيل بن نصر : هو التبان . ترجمه ابن أبي حاتم 1/1/85 ، وذكر أنه يروي عن إبراهيم بن إسماعيل بن أبي حبيبة . وستأتي رواية أخرى له ، بهذا الإسناد : 3484 . ورواية ثالثة : 3521 ، وزاد في نسبته هناك " السلمي " ولم تذكر هذه في ابن أبي حاتم ولم أجد له ترجمة عند غيره .
ابن أبي حبيبة : هو إبراهيم بن إسماعيل بن أبي حبيبة الأنصاري وهو ثقة تكلم فيه البخاري وغيره ، ووثقه أحمد وغيره . ورجحنا في شرح المسند : 2727 أن حديثه حسن على الأقل .

(3/94)


3440 - حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن نافع ، عن ابن عمر في قوله : " فصيام ثلاثة أيام في الحج " ، قال : يوم قبل التروية ، ويوم التروية ، ويوم عرفة ، وإذا فاته صامها أيام منى.
3441 - حدثنا الحسين بن محمد الذارع ، قال : حدثنا حميد بن الأسود ، عن هشام بن عروة ، عن عروة ، قال : المتمتع يصوم قبل التروية يوما ، ويوم التروية ، ويوم عرفة.
3442 - حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، عن الحسن في قوله : " فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج " ، قال : آخرهن يوم عرفة.
3443 - حدثنا محمد بن المثنى ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، عن شعبة ، قال : سألت الحكم عن صوم ثلاثة أيام في الحج ، قال : يصوم قبل التروية يوما ، ويوم التروية ، ويوم عرفة.
3444 - حدثني عبيد بن إسماعيل الهباري ، قال : حدثنا عبد الله بن نمير ، عن الأعمش ، عن إبراهيم : " فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام " أنه قال : آخرها يوم عرفة.
3445 - حدثنا أبو كريب قال : حدثنا هُشيم ، قال : حدثنا أبو بشر ، عن سعيد بن جبير أنه قال في المتمتع إذا لم يجد الهدي : صام يوما قبل يوم التروية ، ويوم التروية ، ويوم عرفة.
3446 - حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا حكام بن سلم ، وهارون عن عنبسة ، عن ابن أبي نجيح ، عن عطاء ، قال : يصوم المتمتع الثلاثة الأيام لمتعته في العشر

(3/95)


إلى يوم عرفة.
قال : وسمعت مجاهدا وطاوسا يقولان : إذا صامهن في أشهر الحج أجزأه.
3447 - حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا حكام وهرون عن عنبسة ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قال : صوم ثلاثة أيام للمتمتع ، إذا لم يجد ما يهدي ، يصوم في العشر إلى يوم عرفة متى صام أجزأه ، فإن صام الرجل في شوال أو ذي القعدة أجزأه.
3448 - حدثني محمد بن عبد الله بن عبد الحكم ، قال : حدثنا بشر بن بكر ، عن الأوزاعي ، قال : حدثني يعقوب بن عطاء ، أن عطاء بن أبي رباح ، كان يقول : من استطاع أن يصومهن فيما بين أول يوم من ذي الحجة إلى يوم عرفة فليصم.
3449 - حدثني يعقوب ، قال : حدثنا ابن علية ، عن يونس ، عن الحسن في قوله : " فصيام ثلاثة أيام في الحج " قال : آخرها يوم عرفة.
3450 - حدثنا يعقوب ، قال : حدثنا ابن علية ، عن داود وحدثنا محمد بن المثنى قال : حدثنا عبد الوهاب ، قال : حدثنا داود عن عامر في هذه الآية : " فصيام ثلاثة أيام في الحج " ، قال : قبل يوم التروية يوما ، ويوم التروية ، ويوم عرفة.
3451 - حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : " فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج " آخرهن يوم عرفة من ذي الحجة.
3452 - حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله.
3453 - حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : " فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج " قال : كان يقال عرفة وما قبلها يومين من العشر.

(3/96)


3454 - حدثنا موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : " فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج " ، قال : فآخرها يوم عرفة.
3455 - حدثني أحمد بن إسحاق الأهوازي ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : أخبرنا إسرائيل ، عن سالم ، عن سعيد بن جبير : " فصيام ثلاثة أيام في الحج " قال : آخرها يوم عرفة.
3456 - حدثنا أحمد بن إسحاق ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا فطر ، عن عطاء : " فصيام ثلاثة أيام في الحج " قال : آخرها يوم عرفة.
3457 - حدثت عن عمار ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع في قوله : " فصيام ثلاثة أيام في الحج " قال : عرفة وما قبلها من العشر.
3458 - حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن منصور ، عن مجاهد وإبراهيم ، قالا " صيام ثلاثة أيام في الحج " ، في العشر ، آخرهن عرفة.
3459 - حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، عن يزيد بن خمير ، قال : سألت طاوسا عن صيام ثلاثة أيام في الحج ، قال : آخرهن يوم عرفة.
3460 - حدثني محمد بن سعد ، قال : حدثني أبي ، قال : حدثني عمي ، قال : حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : " فمن تمتع بالعمرة إلى الحج " إلى : " وسبعة إذا رجعتم " ، وهذا على المتمتع بالعمرة إذا لم يجد هديا ، فعليه صيام ثلاثة أيام في الحج قبل يوم عرفة ، فإن كان يوم عرفة الثالث فقد تم صومه وسبعة إذا رجع إلى أهله.
3461 - حدثني أحمد بن إسحاق ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا زياد بن المنذر ، عن أبي جعفر : " فصيام ثلاثة أيام في الحج " قال : آخرها يوم عرفة.
* * *

(3/97)


وقال آخرون : بل آخرهن انقضاء يوم منى.
* ذكر من قال ذلك :
3462 - حدثني علي بن سهل ، قال : حدثنا مؤمل ، قال : حدثنا سفيان ، عن جعفر بن محمد ، عن أبيه أن عليا كان يقول : من فاته صيام ثلاثة أيام في الحج صامهن أيام التشريق.
3463 - حدثني أحمد بن عبد الرحمن ابن أخي ابن وهب ، قال : حدثني عمي عبد الله بن وهب ، قال : حدثني يونس عن الزهري ، عن عروة بن الزبير ، قال : قالت عائشة : يصوم المتمتع الذي يفوته الصيام أيام منى.
3464 - حدثني يعقوب ، قال : حدثنا ابن علية ، قال : حدثنا أيوب ، عن نافع ، قال : قال ابن عمر : من فاته صيام الثلاثة الأيام في الحج ، فليصم أيام التشريق فإنهن من الحج.
3465 - حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرني عمر بن محمد أن نافعا حدثه : أن عبد الله بن عمر قال : من اعتمر في أشهر الحج فلم يكن معه هدي ولم يصم الثلاثة الأيام قبل أيام التشريق ، فليصم أيام منى.
3466 - حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، قال : سمعت عبد الله بن عيسى بن أبي ليلى يحدث عن الزهري ، عن عروة ، عن عائشة وعن سالم ، عن عبد الله بن عمر أنهما قالا لم يرخص في أيام التشريق أن يصوم إلا لمن يجد هديا.
3467 - حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا عبد الأعلى ، قال : حدثنا هشام ، عن عبيد الله ، عن نافع ، عن ابن عمر قال : إذا لم يصم الثلاثة الأيام قيل النحر صام أيام التشريق ، فإنها من أيام الحج.
وذكر هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة قال :
3468 - حدثنا المثنى ، قال : حدثنا حجاج ، قال : حدثنا حماد عن هشام

(3/98)


بن عروة ، عن أبيه في هذه الآية : " فصيام ثلاثة أيام في الحج " قال : هي أيام التشريق.
3469 - حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن يونس ، عن أبي إسحاق ، عن وبرة ، عن ابن عمر قال : يصوم يوما قبل التروية ، ويوم التروية ، ويوم عرفة . قال : وقال عبيد بن عمير : يصوم أيام التشريق.
* * *
قال أبو جعفر : وعلة من قال : " آخر الثلاثة الأيام التي أوجب الله صومهن في الحج على من لم يجد الهدي من المتمتعين - يوم عرفة " ، أن الله جل ثناؤه أوجب صومهن في الحج بقوله : " فصيام ثلاثة أيام في الحج " . قالوا : وإذا انقضى يوم عرفة ، فقد انقضى الحج ، لأن يوم النحر يوم إحلال من الإحرام. قالوا : وقد أجمع الجميع أنه غير جائز له صوم يوم النحر . قالوا : فإن يكن إجماعهم على أن ذلك له غير جائز ، من أجل أنه ليس من أيام الحج ، فأيام التشريق بعده أحرى أن لا تكون من أيام الحج ، لأن أيام الحج متى انقضت من سنة ، فلن تعود إلى سنة أخرى بعدها. أو يكون إجماعهم على أن ذلك له غير جائز ، من أجل أنه يوم عيد ، فأيام التشريق التي بعده في معناه ، لأنها أيام عيد ، وأن النبي صلى الله عليه وسلم قد نهى عن صومهن ، كما نهى عن صوم يوم النحر.
قالوا : وإذا كان يفوت صومهن بمضي يوم عرفة ، لم يكن إلى صيامهن في الحج سبيل; لأن الله شرط صومهن في الحج ، فلم يجز عنه إلا الهدي الذي فرضه الله عليه لمتعته.
* * *
وعلة من قال : " آخر الأيام الثلاثة التي ذكرها الله في كتابه انقضاء آخر أيام منى " ، أن الله أوجب على المتمتع ما استيسر من الهدي ، ثم الصيام إن لم يجد إلى الهدي سبيلا. قالوا : وإنما يجب عليه نحر هدي المتعة يوم النحر ، ولو كان له واجدا قبل ذلك. قالوا : فإذا كان ذلك كذلك فإنما رخص له في الصوم يوم يلزمه نحر الهدي فلا يجد إليه سبيلا. قالوا : والوقت الذي يلزمه

(3/99)


فيه نحر الهدي يوم النحر والأيام التي بعده من أيام النحر ، فأما قبل ذلك فلم يمكن نحره. قالوا : فإذا كان النحر لم يكن له لازما قبل ذلك ، وإنما لزمه يوم النحر ، فإنما لزمه الصوم يوم النحر ، وذلك حين عدم الهدي فلم يجده ، فوجب عليه الصوم. قالوا : وإذا كان ذلك كذلك ، فالصوم إنما يلزمه أوله في اليوم الذي يلي يوم النحر. وذلك أن النحر إنما كان لزمه من بعد طلوع الفجر. ومن ذلك الوقت إذا لم يجده ، يكون له الصوم. قالوا : وإذا طلع فجر يوم لم يلزمه صومه قبل ذلك ، إذا كان الصوم لا يكون في بعض نهار يوم في واجب ، علم أن الواجب عليه الصوم من اليوم الذي يليه إلى انقضاء الأيام الثلاثة بعد يوم النحر من أيام التشريق.
قالوا : ولا معنى لقول القائل : إن أيام منى ليست من أيام الحج; لأنهن ينسك فيهن بالرمي والعكوف على عمل الحج ، كما ينسك غير ذلك من أعمال الحج في الأيام قبلها. قالوا : هذا مع شهادة الخبر الذي : -
3470 - حدثني به محمد بن عبد الله بن عبد الحكم ، قال : حدثنا يحيى بن سلام أن شعبة حدثه عن ابن أبي ليلى ، عن الزهري ، عن سالم بن عبد الله بن عمر ، عن أبيه ، قال : رخص رسول الله صلى الله عليه وسلم للمتمتع إذا لم يجد الهدي ولم يصم حتى فاتته أيام العشر ، أن يصوم أيام التشريق مكانها. (1)
__________
(1) الحديث : 3470 - يحيى بن سلام البصري نزيل مصر : ثقة ، قال ابن أبي حاتم 4/2/155 : " سألت أبي عنه ؟ فقال : كان شيخا بصريا وقع إلى مصر ، وهو صدوق " . وله ترجمة جيدة في طبقات علماء إفريقية لأبي العرب ، ص : 37 - 39 وقال أبو العرب : " كان ثقة ثبتا ، لقى غير واحد من التابعين وأكثر من لقى الرجال والحمل عنهم . وله مصنفات كثيرة في فنون العلم ، وكان من الحفاظ " . وذكر أنه مات بمصر سنة 200 . وفي لسان الميزان أنه ضعفه الدارقطني . ولكن أهل المغرب أعلم بحال رواتهم وكانت مصر تعتبر من بلاد المغرب .
ابن أبي ليلى : هو عبد الله بن أبي ليلى ، وهو ثقة ثبت أخرج له أصحاب الكتب الستة .
والحديث رواه الطحاوي في معاني الآثار 1 : 427 ، بهذا الإسناد نفسه : عن محمد بن عبد الله بن عبد الحكم مع شيء من الاختصار في اللفظ .
وأصل معناه ثابت في البخاري 4 : 211 ، موقوفا . فرواه عن محمد بن بشار عن غندر عن شعبة : " سمعت عبد الله بن عيسى عن الزهري عن عروة عن عائشة - وعن سالم عن ابن عمر قالا : لم يرخص في أيام التشريق أن يصمن إلا لمن لم يجد الهدي " . وروى مالك في الموطأ ص : 426 نحو معناه عن ابن شهاب عن عروة عن عائشة - وعن ابن شهاب عن سالم عن أبيه .
وقول عائشة وابن عمر " لم يرخص " : هو بضم الياء ، كما رواه الحافظ من أصحاب شعبة - فيما ذكر الخافظ في الفتح : وهو عندنا مرفوع حكما ، إن لم يكن مرفوعا لفظا . لأن الصحابي إذا قال ذلك فإنما يريد به من له حق الترخيص والمنع ، وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم . وقد بحث الحافظ في هذا الموضع بحثا جيدا في ذلك .
وذكر الحافظ رواية يحيى بن سلام هذه ، نقلا عن الدارقطني والطحاوي .

(3/100)


لصحة ما قلنا في ذلك من القول وخطأ قول من خالف قولنا فيه.
3471 - حدثني يعقوب ، قال : حدثني هشيم ، عن سفيان بن حسين ، عن الزهري ، قال : بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن حذافة بن قيس ، فنادى في أيام التشريق ، فقال : إن هذه أيام أكل وشرب وذكرٍ لله ، إلا من كان عليه صوم من هدي. (1)
* * *
واختلف أهل العلم في أول الوقت الذي يجب على المتمتع الابتداء في صوم الأيام الثلاثة التي قال الله عز وجل : " فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج " ، والوقت الذي يجوز له فيه صومهن ، وإن لم يكن واجبا عليه فيه صومهن.
فقال بعضهم : له أن يصومهن من أول أشهر الحج.
* ذكر من قال ذلك :
3472 - حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا حكام وهرون ، عن عنبسة ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد وطاوس : أنهما كانا يقولان : إذا صامهن في أشهر الحج أجزأه. قال : وقال مجاهد : إذا لم يجد المتمتع ما يهدي ، فإنه يصوم في العشر إلى يوم عرفة ، متى ما صام أجزأه. فإن صام الرجل في شوال أو ذي القعدة أجزأه.
__________
(1) الحديث : 3471 - سفيان بن حسين الواسطي : ثقة ، تكلموا في روايته عن الزهري خاصة " فإن فيها تخاليط يجب أن يجانب ، وهو ثقة في غير الزهري " - كما قال ابن حبان .
وهذا الحديث مرسل ، لم يذكر الزهري من رواه عنه .

(3/101)


3473 - حدثني أحمد بن المغيرة ، قال : حدثنا يحيى بن سعيد القطان ، قال : حدثنا محمد بن مسلم الطائفي ، عن عبد الله بن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قال : من صام يوما في شوال ويوما في ذي القعدة ويوما في ذي الحجة ، أجزأه عنه من صوم التمتع. (1)
3474حدثنا أحمد بن إسحاق ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا شريك ، عن ليث ، عن مجاهد ، قال : إن شاء صام أول يوم من شوال.
3475 - حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن ليث ، عن مجاهد في قول الله جل وعز : " فصيام ثلاثة أيام في الحج " ، قال : إن شاء صامها في العشر ، وإن شاء في ذي القعدة ، وإن شاء في شوال.
* * *
وقال آخرون : يصومهن في عشر ذي الحجة دون غيرها.
* ذكر من قال ذلك :
3476 - حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا حكام وهرون ، عن عنبسة ، عن ابن أبي نجيح ، عن عطاء : يصوم الثلاثة الأيام للمتعة في العشر إلى يوم عرفة.
3477 - حدثني محمد بن عبد الله بن عبد الحكم ، قال : حدثنا بشر بن بكر ، عن الأوزاعي ، قال : حدثني يعقوب أن عطاء بن أبي رباح كان يقول : من استطاع أن يصومهن فيما بين أول يوم من ذي الحجة إلى يوم عرفة ، فليصم.
3478 - حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن بن مهدي ، قال : حدثنا سفيان ، عن ابن جريج ، عن عطاء قال : ولا بأس أن يصوم المتمتع في العشر وهو حلال.
3479 - حدثنا أحمد بن إسحاق ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا أبو شهاب ، عن الحجاج ، عن أبي جعفر ، قال : لا يصام إلا في العشر.
__________
(1) الخبر : 3473 - أحمد بن المغيرة ، شيخ الطبري : لم أعرف من هو ، ولم أجد له ترجمة ولا ذكرا .

(3/102)


3480 - حدثني أحمد بن حازم ، قال : حدثنا أبو نعيم ، قال : حدثنا الربيع ، عن عطاء أنه كان يقول في صيام ثلاثة أيام في الحج ، قال : في تسع من ذي الحجة أيها شئت ، فمن صام قبل ذلك في شوال وفي ذي القعدة ، فهو بمنزلة من لم يصم.
* * *
وقال آخرون : له أن يصومهن قبل الإحرام بالحج.
* ذكر من قال ذلك :
3481 - حدثني يعقوب ، قال : حدثنا ابن علية ، قال : أخبرنا أيوب ، عن عكرمة ، قال : إذا خشي أن لا يدرك الصوم بمكة صام بالطريق يوما أو يومين.
3482 - حدثنا أحمد بن إسحاق ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا سفيان ، عن ابن جريج ، عن عطاء ، قال : لا بأس أن تصوم الثلاثة الأيام في المتعة وأنت حلال.
* * *
وقال آخرون : لا يجوز أن يصومهن إلا بعد ما يحرم بالحج.
* ذكر من قال ذلك :
3483 - حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا ابن مهدي ، قال : حدثنا سفيان ، عن ابن جريج ، عن نافع ، عن ابن عمر ، قال : لا يصومهن إلا وهو حرام.
3484 - حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا إبراهيم بن إسماعيل بن نصر ، عن ابن أبي حبيبة ، عن داود بن حصين ، عن عكرمة ، عن ابن عباس أنه قال : الصيام للمتمتع ما بين إحرامه إلى يوم عرفة. (1)
3485 - حدثنا أحمد بن إسحاق ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا سفيان ، عن ابن جريج ، عن نافع ، عن ابن عمر ، قال : لا يجزيه صوم ثلاثة أيام وهو
__________
(1) الأثر : 3484 : انظر التعليق على الأثر السالف رقم : 3439 .

(3/103)


متمتع إلا أن يحرم. وقال مجاهد : يجزيه إذا صام في ذي القعدة.
* * *
قال أبو جعفر : والصواب من القول في ذلك عندي أن للمتمتع أن يصوم الأيام الثلاثة التي أوجب الله عليه صومهن لمتعته إذا لم يجد ما استيسر من الهدي ، من أول إحرامه بالحج بعد قضاء عمرته واستمتاعه بالإحلال إلى حجه ، إلى انقضاء آخر عمل حجه وذلك بعد انقضاء أيام منى سوى يوم النحر ، فإنه غير جائز له صومه ابتدأ صومهن قبله ، أو ترك صومهن فأخره حتى انقضاء يوم عرفة.
وإنما قلنا : له صوم أيام التشريق ، لما ذكرنا من العلة لقائل ذلك قبل ، (1) فإن صامهن قبل إحرامه بالحج فإنه غير مجزئ صومه ذلك من الواجب عليه من الصوم الذي فرضه الله عليه لمتعته. وذلك أن الله جل وعز إنما أوجب الصوم على من لم يجد هديا ممن استمتع بعمرته إلى حجه ، فالمعتمر قبل إحلاله من عمرته وقبل دخوله في حجه غير مستحق اسم " متمتع " بعمرته إلى حجه. وإنما يقال له قبل إحرامه " معتمر " ، حتى يدخل بعد إحلاله في الحج قبل شخوصه عن مكة. فإذا دخل في الحج محرما به - بعد قضاء عمرته في أشهر الحج ، ومقامه بمكة بعد قضاء عمرته حلالا حتى حج من عامه - سمي " متمتعا " . فإذا استحق اسم " متمتع " لزمه الهدي ، وحينئذ يكون له الصوم بعدمه الهدي إن عدمه فلم يجده.
فأما إن صامه قبل دخوله في الحج - وإن كان من نيته الحج - فإنما هو رجل صام صوما ينوي به قضاء عما عسى أن يلزمه أو لا يلزمه ، فسبيله سبيل رجل معسر صام ثلاثة أيام ينوي بصومهن كفارة يمين ، ليمين يريد أن يحلف بها ويحنث فيها ، وذلك ما لا خلاف بين الجميع أنه غير مجزئ من كفارة إن حلف بها بعد الصوم فحنث.
__________
(1) في المطبوعة : " قيل " مكان " قبل " وهو خطأ وتصحيف بلا معنى .

(3/104)


فإن ظن ظان أن صوم المعتمر - بعد إحلاله من عمرته ، أو قبله ، وقبل دخوله في الحج - مجزئ عنه من الصوم الذي أوجبه الله عليه إن تمتع بعمرته إلى الحج ، نظير ما أجزأ الحالف بيمين إذا كفر عنها قبل حنثه فيها بعد حلفه بها فقد ظن خطأ. لأن الله جل ثناؤه جعل لليمين تحليلا هو غير تكفير ، فالفاعل فيها قبل الحنث فيها ما يفعله المكفر بعد حنثه فيها ، محلل غير مكفر. والمتمتع إذا صام قبل تمتعه صائم ، تكفيرا لما يظن أنه يلزمه ولما يلزمه ، وهو كالمكفر عن قتل صيد يريد قتله وهو محرم قبل قتله ، وعن تطيب قبل تطيبه.
ومن أبى ما قلنا في ذلك ممن زعم أن للمعتمر الصوم قبل إحرامه بالحج ، قيل له : ما قلت فيمن كفر من المحرمين عن الواجب على من ترك رمي الجمرات أيام منى يوم عرفة ، وهو ينوي ترك الجمرات ، ثم أقام بمنى أيام منى حتى انقضت تاركا رمي الجمرات ، هل يجزيه تكفيره ذلك عن الواجب عليه في ترك ما ترك من ذلك ؟
فإن زعم أن ذلك يجزيه ، سئل عن مثل ذلك في جميع مناسك الحج التي أوجب الله في تضييعه على المحرم ، أو في فعله ، كفارة ، فإن سوى بين جميع ذلك قاد قوله ، (1)
وسئل عن نظير ذلك في العازم على أن يجامع في شهر رمضان ، وهو مقيم صحيح ، إذا كفر قبل دخول الشهر ، ودخل الشهر ففعل ما كان عازما عليه هل تجزيه كفارته التي كفر عن الواجب من وطئه ذلك ، وكذلك يسأل : عمن أراد أن يظاهر من امرأته ، فإن قاد قوله في ذلك ، (2) خرج من قول جميع الأمة.
__________
(1) في المطبوعة في الموضعين : " قاد قوله " بالفاء وهو تصحيف غث جدا ، وجاء بعض من علق على تفسير الطبري فقال : " لعله يريد اضطراب قولهن قال في اللسان : فاد يفيد فيدا : تبختر ، وقيل : هو أن يحذر شيئا فيعدل عنه جانبا " !! فصار معنى الكلام أعرق في الغثاثة من تصحيف لفظه!
(2) والصواب ما أثبت ، يقال : " قاد قوله " أي استقام به على نهجه الذي نهجه ، ولم يخالف منطقته فيه ولا سياقه . وذلك من قولهم : قاد الفرس قودا . وهذا المجاز قد استعمله قدماء الفقهاء والمتكلمين والمناطقة يقولون : " هذا لا يستقيم على قود كلامك " أي : على سياقه ونهجه .

(3/105)


وإن أبى شيئا من ذلك ، سئل الفرق بينه وبين الصائم لمتعته قبل تمتعه وقبل إحرامه بالحج ، ثم عكس عليه القول في ذلك ، فلن يقول في أحدهما شيئا إلا ألزم في الآخر مثله.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ }
قال أبو جعفر : يعني جل ثناؤه بذلك : فمن لم يجد ما استيسر من الهدي ، فعليه صيام ثلاثة أيام في حجه وصيام سبعة أيام إذا رجع إلى أهله ومصره.
فإن قال لنا قائل : أو ما يجب عليه صوم السبعة الأيام بعد الأيام الثلاثة التي يصومهن في الحج إلا بعد رجوعه إلى مصره وأهله ؟
قيل : بل قد أوجب الله عليه صوم الأيام العشرة بعدم ما استيسر من الهدي لمتعته ، ولكن الله تعالى ذكره رأفة منه بعباده رخص لمن أوجب ذلك عليه ، كما رخص للمسافر والمريض في شهر رمضان الإفطار وقضاء عدة ما أفطر من الأيام من أيام أخر. ولو تحمل المتمتع فصام الأيام السبعة في سفره قبل رجوعه إلى وطنه ، أو صامهن بمكة ، كان مؤديا ما عليه من فرض الصوم في ذلك ، وكان بمنزلة الصائم شهر رمضان في سفره أو مرضه ، مختارا للعسر على اليسر.
وبالذي قلنا في ذلك قالت علماء الأمة.
* ذكر من قال ذلك :
3486 - حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا ابن مهدي ، قال : حدثنا سفيان ، عن منصور ، عن مجاهد : " وسبعة إذا رجعتم " ، قال : هي رخصة إن شاء صامها في الطريق.
3487 - حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ،

(3/106)


عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : " وسبعة إذا رجعتم " ، قال : هي رخصة إن شاء صامها في الطريق ، وإن شاء صامها بعد ما يرجع إلى أهله.
3488 - حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا حكام ، عن عمرو ، عن منصور ، عن مجاهد ، نحوه.
3489 - حدثنا أحمد بن إسحاق ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا سفيان ، عن منصور : " وسبعة إذا رجعتم " ، قال : إن شاء صامها في الطريق ، وإنما هي رخصة.
3490 - حدثنا أحمد بن إسحاق ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا شريك ، عن منصور ، عن مجاهد ، قال : إن شئت صم السبعة في الطريق ، وإن شئت إذا رجعت إلى أهلك.
3491 - حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن فطر ، عن عطاء ، قال : يصوم السبعة إذا رجع إلى أهله أحب إلي.
3492 - حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن منصور ، عن إبراهيم : " وسبعة إذا رجعتم " ، قال : إن شئت في الطريق ، وإن شئت بعد ما تقدم إلى أهلك.
* * *
فإن قال : وما برهانك على أن معنى قوله : " وسبعة إذا رجعتم " إذا رجعتم إلى أهليكم وأمصاركم دون أن يكون معناه : إذا رجعتم من منى إلى مكة ؟
قيل : إجماع جميع أهل العلم على أن معناه ما قلنا دون غيره.
* ذكر بعض من قال ذلك :
3493 - حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا ابن مهدي ، قال : حدثنا سفيان ، عن ابن جريج ، عن عطاء في قوله : " وسبعة إذا رجعتم " ، قال : إذا رجعت إلى أهلك.

(3/107)


3495 - حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : " وسبعة إذا رجعتم " إذا رجعتم إلى أمصاركم.
3496 - حدثت عن عمار ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع ، مثله.
3497 - حدثنا أحمد بن إسحاق ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا إسرائيل ، عن سالم ، عن سعيد بن جبير : " وسبعة إذا رجعتم " قال : إلى أهلك.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ }
قال أبو جعفر : اختلف أهل التأويل في تأويل قوله : " كاملة " .
فقال بعضهم : معنى ذلك : فصيام الثلاثة الأيام في الحج والسبعة الأيام بعد ما يرجع إلى أهله عشرة كاملة من الهدي.
* ذكر من قال ذلك :
3498 - حدثني يعقوب ، قال : حدثنا هشيم ، عن عباد ، عن الحسن في قوله : " تلك عشرة كاملة " ، قال : كاملة من الهدي.
3499 - حدثنا أحمد بن إسحاق ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا هشيم ، عن عباد ، عن الحسن ، مثله.
* * *
وقال آخرون : بل معنى ذلك : كملت لكم أجر من أقام على إحرامه ، ولم يحل ولم يتمتع تمتعكم بالعمرة إلى الحج.
* * *
وقال آخرون : معنى ذلك : الأمر ، وإن كان مخرجه مخرج الخبر ، وإنما عنى بقوله : " تلك عشرة كاملة " تلك عشرة أيام فأكملوا صومها لا تقصروا عنها ، لأنه فرض عليكم صومها.
* * *

(3/108)


وقال آخرون : بل قوله : " كاملة " ، توكيد للكلام ، كما يقول القائل : " سمعته بأذني ، ورأيته بعيني " ، وكما قال : ( فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ ) [النحل : 26] ولا يكون " الخر " إلا من فوق ، فأما من موضع آخر ، فإنما يجوز على سعة الكلام.
* * *
وقال آخرون : إنما قال : " تلك عشرة كاملة " ، وقد ذكر " سبعة " و " ثلاثة " ، لأنه إنما أخبر أنها مجزئة ، وليس يخبر عن عدتها ، وقالوا : ألا ترى أن قوله : " كاملة " إنما هو وافية ؟.
* * *
قال أبو جعفر : وأولى هذه الأقوال عندي [بالصواب] قول من قال : معنى ذلك تلك عشرة كاملة عليكم فرضنا إكمالها. وذلك أنه جل ثناؤه قال : فمن لم يجد الهدي فعليه صيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع ، ثم قال : تلك عشرة أيام عليكم إكمال صومها لمتعتكم بالعمرة إلى الحج. فأخرج ذلك مخرج الخبر ، ومعناه الأمر بها.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ }
قال أبو جعفر : يعني جل ثناؤه بقوله " ذلك " ، أي التمتع بالعمرة إلى الحج ، لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام ، كما : -
3500 - حدثت عن عمار ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : " ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام " ، يعني المتعة أنها لأهل الآفاق ، ولا تصلح لأهل مكة.

(3/109)


3501 - حدثني موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : أن هذا لأهل الأمصار ليكون عليهم أيسر من أن يحج أحدهم مرة ويعتمر أخرى ، فتجمع حجته وعمرته في سنة واحدة.
* * *
ثم اختلف أهل التأويل فيمن عنى بقوله : " ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام " ، بعد إجماع جميعهم على أن أهل الحرم معنيون به ، وأنه لا متعة لهم.
فقال بعضهم : عنى بذلك أهل الحرم خاصة دون غيرهم.
* ذكر من قال ذلك :
3502 - حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، قال : قال ابن عباس ومجاهد : أهل الحرم.
3503 - حدثني المثنى ، قال : حدثنا الحماني ، قال : حدثنا شريك ، عن عبد الكريم ، عن مجاهد : " ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام " ، قال : أهل الحرم.
3504 - حدثني المثنى ، قال : حدثنا سويد بن نصر ، قال : أخبرنا ابن المبارك ، عن سفيان ، قال : بلغنا عن ابن عباس في قوله : " حاضري المسجد الحرام " ، قال : هم أهل الحرم ، والجماعة عليه.
3505 - حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : " ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام " ، قال قتادة : ذكر لنا أن ابن عباس كان يقول : يا أهل مكة ، إنه لا متعة لكم ، أحلت لأهل الآفاق وحرمت عليكم ، إنما يقطع أحدكم واديا أو قال : يجعل بينه وبين الحرم واديا ثم يهل بعمرة.
3506 - حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : حدثنا الليث ، قال : حدثني يحيى بن سعيد الأنصاري : أن أهل مكة كانوا يغزون ويتجرون ، فيقدمون

(3/110)


في أشهر الحج ثم يحجون ، ولا يكون عليهم الهدي ولا الصيام ، أرخص لهم في ذلك ، لقول الله عز وجل : " ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام " .
3507 - حدثني أحمد بن حازم ، قال : حدثنا أبو نعيم ، قال : حدثنا سفيان ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، قال : أهل الحرم.
3508 - حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن ابن طاوس ، عن أبيه ، قال : المتعة للناس ، إلا لأهل مكة ممن لم يكن أهله من الحرم ، وذلك قول الله عز وجل : " ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام " ، قال : وبلغني عن ابن عباس مثل قول طاوس. (1) بالكلام
* * *
وقال آخرون : عنى بذلك أهل الحرم ومن كان منزله دون المواقيت إلى مكة.
* ذكر من قال ذلك :
3509 - حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا عبد الله بن المبارك ، عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر ، عن مكحول : " ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام " ، قال : من كان دون المواقيت.
3510 - حدثنا المثنى ، قال : حدثنا سويد ، قال : أخبرنا ابن المبارك بإسناده مثله إلا أنه قال : ما كان دون المواقيت إلى مكة.
3511 - حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن رجل ، عن عطاء ، قال : من كان أهله من دون المواقيت ، فهو كأهل مكة لا يتمتع.
* * *
__________
(1) الأثر : 3508 - في تفسير ابن كثير 1 : 453 : " المتعة للناس لا لأهل مكة من لم يكن أهله من الحرم " وفي الدر المنثور 1 : 217 : " المتعة للناس ، إلا لأهل مكة هي لمن لم يكن أهله في الحرم " . والصواب ما في نص الطبري .

(3/111)


وقال بعضهم : بل عنى بذلك أهل الحرم ، ومن قرب منزله منه.
* ذكر من قال ذلك :
3512 - حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثني أبي ، عن سفيان ، عن ابن جريج ، عن عطاء في قوله : " ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام " ، قال : عرفة ، ومر ، وعرنة ، وضجنان ، والرجيع ، ونخلتان.
3513 - حدثنا أحمد بن حازم الغفاري والمثنى قالا حدثنا أبو نعيم ، قال : حدثنا سفيان ، عن ابن جريج ، عن عطاء : " ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام " ، قال : عرفة ومر ، وعرنة ، وضجنان ، والرجيع.
3514 - حدثني المثنى ، قال : حدثنا سويد ، قال : أخبرنا ابن المبارك ، عن معمر ، عن الزهري في هذه الآية قال : اليوم واليومين.
3515 - حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر ، قال : سمعت الزهري يقول : من كان أهله على يوم أو نحوه تمتع.
3516 - حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا ابن جريج ، عن عطاء : أنه جعل أهل عرفة من أهل مكة في قوله : " ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام " .
3517 - حدثنا يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : " ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام " ، قال : أهل مكة وفج وذي طوي ، وما يلي ذلك فهو من مكة.
* * *
قال أبو جعفر : وأولى الأقوال في ذلك بالصحة عندنا قول من قال : إن حاضري المسجد الحرام من هو حوله ممن بينه وبينه من المسافة ما لا تقصر إليه الصلوات. لأن " حاضر الشيء " ، في كلام العرب ، هو الشاهد له بنفسه. وإذا كان ذلك كذلك وكان لا يستحق أن يسمى " غائبا " ، إلا من كان مسافرا

(3/112)


شاخصا عن وطنه ، وكان المسافر لا يكون مسافرا إلا بشخوصه عن وطنه إلى ما تقصر في مثله الصلاة ، وكان من لم يكن كذلك لا يستحق اسم " غائب " عن وطنه ومنزله كان كذلك من لم يكن من المسجد الحرام على ما تقصر إليه الصلاة ، غير مستحق أن يقال : هو من غير حاضريه إذ كان الغائب عنه هو من وصفنا صفته.
وإنما لم تكن المتعة لمن كان من حاضري المسجد الحرام ، من أجل أن " التمتع " إنما هو الاستمتاع بالإحلال من الإحرام بالعمرة إلى الحج ، مرتفقا في ترك العود إلى المنزل والوطن بالمقام بالحرم حتى ينشئ منه الإحرام بالحج. وكان المعتمر متى قضى عمرته في أشهر الحج ، ثم انصرف إلى وطنه ، أو شخص عن الحرم إلى ما تقصر فيه الصلاة ، ثم حج من عامه ذلك ، بطل أن يكون مستمتعا. لأنه لم يستمتع بالمرفق الذي جعل للمستمتع ، من ترك العود إلى الميقات ، والرجوع إلى الوطن بالمقام في الحرم. وكان المكي من حاضري المسجد الحرام لا يرتفق بذلك ، من أجل أنه متى قضى عمرته أقام في وطنه بالحرم ، فهو غير مرتفق بشيء مما يرتفق به من لم يكن أهله من حاضري المسجد الحرام فيكون متمتعا بالإحلال من عمرته إلى حجه.
* * *

(3/113)


القول في تأويل قوله تعالى : { وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (196) }
قال أبو جعفر : يعني بذلك جل اسمه : " واتقوا الله " ، بطاعته فيما ألزمكم من فرائضه وحدوده ، واحذروا أن تعتدوا في ذلك وتتجاوزوا فيما بين لكم من مناسككم ، فتستحلوا ما حرم فيها عليكم. " واعلموا " : تيقنوا أنه تعالى ذكره شديد عقابه لمن عاقبه على ما انتهك من محارمه وركب من معاصيه.
* * *

(3/114)


الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ (197)

القول في تأويل قوله تعالى : { الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ }
قال أبو جعفر : يعني جل ثناؤه بذلك : وقت الحج أشهر معلومات.
* * *
" والأشهر " مرفوعات بـ " الحج " ، وإن كان له وقتا ، لا صفة ونعتا ، إذ لم تكن محصورات بتعريف ، بإضافة إلى معرفة أو معهود ، فصار الرفع فيهن كالرفع في قول العرب في نظير ذلك من المحل : " المسلمون جانب ، والكفار جانب " ، برفع الجانب الذي لم يكن محصورا على حد معروف. ولو قيل : " جانب أرضهم ، أو بلادهم " ، لكان النصب هو الكلام. (1)
* * *
ثم اختلف أهل التأويل في قوله : " الحج أشهر معلومات " .
__________
(1) انظر تفصيل ذلك في معاني القرآن لفراء 1 : 119 .

(4/114)


فقال بعضهم : يعني بـ " الأشهر المعلومات " : شوالا وذا القعدة ، وعشرا من ذي الحجة.
* ذكر من قال ذلك :
3518 - حدثنا أحمد بن إسحاق ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا شريك ، عن أبي إسحاق ، عن أبي الأحوص ، عن عبد الله قوله : " الحج أشهر معلومات " قال : شوال ، وذو القعدة ، وعشر ذي الحجة.
3519 - حدثنا أحمد بن إسحاق ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا سفيان وشريك ، عن خصيف ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، مثله.
3520 - حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا الثوري ، عن خصيف ، عن مقسم عن ابن عباس ، مثله.
3521 - حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا إبراهيم بن إسماعيل بن نصر السلمي ، قال : حدثنا إبراهيم بن إسماعيل بن أبي حبيبة ، عن داود بن حصين ، عن عكرمة ، عن ابن عباس أنه قال : أشهر الحج شوال ، وذو القعدة ، وعشر من ذي الحجة. (1)
3523 - حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : حدثني معاوية ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قوله : " الحج أشهر معلومات " ، وهن : شوال ، وذو القعدة ، وعشر من ذي الحجة ، جعلهن الله سبحانه للحج ، وسائر الشهور للعمرة ، فلا يصلح أن يحرم أحد بالحج إلا في أشهر الحج ، والعمرة يحرم بها في كل شهر.
3524 - حدثني المثنى ، قال : حدثنا الحماني ، قال : حدثنا شريك ، عن أبي إسحاق ، عن الضحاك ، عن ابن عباس في قوله : " الحج أشهر معلومات " ، قال : شوال ، وذو القعدة ، وعشر من ذي الحجة.
3525 - حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن وأبو عامر قالا
__________
(1) سقط من ترقيمنا رقم : 3522 .

(4/115)


حدثنا سفيان وحدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا الثوري عن المغيرة ، عن إبراهيم مثله.
3526 - حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا أبو عوانة ، عن مغيرة ، عن إبراهيم والشعبي مثله.
3527 - حدثنا أحمد بن إسحاق ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا سفيان وإسرائيل ، عن مغيرة ، عن إبراهيم ، مثله.
3528 - حدثنا أحمد بن إسحاق ، قال : حدثنا إسرائيل ، عن جابر ، عن عامر ، مثله.
3529 - حدثني موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي ، مثله.
3530 - حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله.
3531 - حدثني القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني هشيم ، قال : أخبرنا الحجاج ، عن الحكم ، عن مقسم ، عن ابن عباس وأخبرنا مغيرة ، عن إبراهيم والشعبي وأخبرنا يونس ، عن الحسن وأخبرنا جويبر ، عن الضحاك وأخبرنا حجاج ، عن عطاء ومجاهد ، مثله. (1)
3532 - حدثنا محمد بن المثنى ، قال : حدثنا أبو الوليد ، قال : حدثنا حماد ، عن عبيد الله ، عن نافع ، عن ابن عمر ، قال : شوال ، وذو القعدة ، وعشر ذي الحجة في " الحج أشهر معلومات " .
3533 - حدثني أحمد بن حازم ، قال : حدثنا أبو نعيم ، قال : حدثنا ورقاء ،
__________
(1) الأثر : 3531 - القائل : " وأخبرنا مغيرة . . . وأخبرنا جويبر . . . إلخ " هو هشيم .

(4/116)


عن عبد الله بن دينار ، عن ابن عمر ، قال : " الحج أشهر معلومات " قال : شوال ، وذو القعدة ، وعشر ذي الحجة.
3534 - حدثنا أحمد بن حازم ، قال : حدثنا أبو نعيم ، قال : حدثنا حسين بن عقيل ، عن الضحاك ، قال : شوال ، وذو القعدة ، وعشر من ذي الحجة.
3535 - حدثني الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا حسين بن عقيل الخراساني ، قال : سمعت الضحاك بن مزاحم يقول ، فذكر مثله.
* * *
وقال آخرون : بل يعني بذلك شوالا وذا القعدة ، وذا الحجة كله.
* ذكر من قال ذلك :
3536 - حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا يحيى بن سعيد ، قال : حدثنا ابن جريج ، قال : قلت لنافع : أكان عبد الله يسمي أشهر الحج ؟ قال : نعم ، شوال ، وذو القعدة ، وذو الحجة.
3537 - حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا محمد بن بكر ، قال : حدثنا ابن جريج ، قال : قلت لنافع : أسمعت ابن عمر يسمي أشهر الحج ؟ قال : نعم ، كان يسمي شوالا وذا القعدة ، وذا الحجة.
3538 - حدثنا أحمد بن إسحاق ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا شريك ، عن إبراهيم بن مهاجر ، عن مجاهد ، عن ابن عمر ، قال : شوال ، وذو القعدة ، وذو الحجة.
3539 - حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا محمد بن بكر ، قال : أخبرنا ابن جريج ، قال : قال عطاء : " الحج أشهر معلومات " ، قال عطاء : فهي شوال ، وذو القعدة ، وذو الحجة.
3540 - حدثت عن عمار ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع ، مثله.
3541 - حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة

(4/117)


قوله : " الحج أشهر معلومات " أشهر الحج : شوال ، وذو القعدة ، وذو الحجة وربما قال : وعشر ذي الحجة.
3542 - حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : " الحج أشهر معلومات " قال : شوال ، وذو القعدة ، وذو الحجة.
3543 - حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن ابن طاوس ، عن أبيه ، مثله.
3544 - حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : حدثني الليث ، قال : حدثني عقيل ، عن ابن شهاب ، قال : أشهر الحج : شوال ، وذو القعدة ، وذو الحجة.
* * *
قال أبو جعفر : فإن قال لنا قائل : وما وجه قائلي هذه المقالة ، وقد علمت أن عمل الحج لا يعمل بعد تقضي أيام منى ؟
قيل : إن معنى ذلك غير الذي توهمته ، وإنما عنوا بقيلهم : الحج ثلاثة أشهر كوامل ، أنهن أشهر الحج لا أشهر العمرة ، وأن شهور العمرة سواهن من شهور السنة. ومما يدل على أن ذلك معناهم في قيلهم ذلك ما : -
3545 - حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا ابن علية ، قال : أخبرنا أيوب ، عن نافع ، قال : قال ابن عمر : أن تفصلوا بين أشهر الحج والعمرة فتجعلوا العمرة في غير أشهر الحج ، أتم لحج أحدكم وأتم لعمرته.
3546 - حدثني نصر بن علي الجهضمي ، قال : أخبرني أبي ، قال : حدثنا شعبة ، قال : ما لقيني - أيوب أو قال : ما لقيت أيوب - إلا سألني عن حديث قيس بن مسلم ، عن طارق بن شهاب ، قال : قلت لعبد الله : امرأة منا قد حجت ، أو هي تريد أن تحج ، أفتجعل مع حجها عمرة ؟ فقال : ما أرى هؤلاء إلا أشهر الحج. قال : فيقول لي أيوب ومن عنده : مثل هذا الحديث حدثك قيس

(4/118)


بن مسلم عن طارق بن شهاب أنه سأل عبد الله ؟ !.
3547 - حدثني يعقوب ، قال : حدثنا هشيم ، عن ابن عون ، قال : سمعت القاسم بن محمد يقول : إن العمرة في أشهر الحج ليست بتامة. قال : فقيل له : العمرة في المحرم ؟ فقال : كانوا يرونها تامة.
3548 - حدثنا عبد الحميد بن بيان ، قال : أخبرنا إسحاق بن يوسف ، عن ابن عون ، قال : سألت القاسم بن محمد عن العمرة في أشهر الحج ، قال : كانوا لا يرونها تامة.
3549 - حدثنا ابن بيان الواسطي ، قال : أخبرنا إسحاق عن عبد الله بن عون ، عن ابن سيرين أنه كان يستحب العمرة في المحرم ، قال : تكون في أشهر الحج ؟ قال : كانوا لا يرونها تامة.
3550 - حدثنا ابن بيان ، قال : حدثنا إسحاق ، عن ابن عون ، عن محمد بن سيرين ، قال : قال ابن عمر للحكم بن الأعرج أو غيره : إن أطعتني انتظرت حتى إذا أهل المحرم خرجت إلى ذات عرق فأهللت منها بعمرة.
3551 - حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا وهب بن جرير ، قال : حدثنا شعبة ، عن أبي يعقوب ، قال : سمعت ابن عمر يقول : لأن أعتمر في عشر ذي الحجة أحب إلي من أن أعتمر في العشرين.
3552 - حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن قيس بن مسلم ، عن طارق بن شهاب ، قال : سألت ابن مسعود عن امرأة منا أرادت أن تجمع مع حجها عمرة ، فقال : أسمع الله يقول : " الحج أشهر معلومات " ما أراها إلا أشهر الحج.
3553 - حدثني أحمد بن المقدام ، قال : حدثنا حزام القطعي ، قال : سمعت محمد بن سيرين يقول : ما أحد من أهل العلم شك أن عمرة في غير أشهر الحج أفضل من عمرة في أشهر الحج.

(4/119)


ونظائر ذلك مما يطول باستيعاب ذكره الكتاب ، مما يدل على أن معنى قيل من قال : وقت الحج ثلاثة أشهر كوامل ، أنهن من غير شهور العمرة ، وأنهن شهور لعمل الحج دون عمل العمرة ، وإن كان عمل الحج إنما يعمل في بعضهن لا في جميعهن.
* * *
وأما الذين قالوا : تأويل ذلك : شوال ، وذو القعدة ، وعشر ذي الحجة ، فإنهم قالوا : إنما قصد الله جل ثناؤه بقوله : " الحج أشهر معلومات " إلى تعريف خلقه ميقات حجهم ، لا الخبر عن وقت العمرة. قالوا : فأما العمرة ، فإن السنة كلها وقت لها ، لتظاهر الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه اعتمر في بعض شهور الحج ، ثم لم يصح عنه بخلاف ذلك خبر. قالوا : فإذا كان ذلك كذلك ، وكان عمل الحج ينقضي وقته بانقضاء العاشر من أيام ذي الحجة ، علم أن معنى قوله : " الحج أشهر معلومات " إنما هو ميقات الحج ، شهران وبعض الثالث.
* * *
قال أبو جعفر : والصواب من القول في ذلك عندنا ، قول من قال : إن معنى ذلك : الحج شهران وعشر من الثالث; لأن ذلك من الله خبر عن ميقات الحج ، ولا عمل للحج يعمل بعد انقضاء أيام منى ، فمعلوم أنه لم يعن بذلك جميع الشهر الثالث ، وإذا لم يكن معنيا به جميعه ، صح قول من قال : وعشر ذي الحجة.
* * *
فإن قال قائل : فكيف قيل : " الحج أشهر معلومات " وهو شهران وبعض الثالث ؟
قيل : إن العرب لا تمتنع خاصة في الأوقات من استعمال مثل ذلك ، فتقول : " له اليوم يومان منذ لم أره " ، وإنما تعني بذلك : يوما وبعض آخر ، وكما قال جل ثناؤه : ( فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ ) [البقرة : 203] وإنما يتعجل في يوم ونصف. وقد يفعل الفاعل منهم الفعل في الساعة ، ثم يخرجه

(4/120)


عاما على السنة والشهر ، فيقول : " زرته العام ، وأتيته اليوم " ، وهو لا يريد بذلك أن فعله أخذ من أول الوقت الذي ذكره إلى آخره ، ولكنه يعني أنه فعله إذ ذاك ، وفي ذلك الحين ، فكذلك " الحج أشهر " ، والمراد منه : الحج شهران وبعض آخر. (1)
* * *
فمعنى الآية إذا : ميقات حجكم أيها الناس شهران وبعض الثالث ، وهو شوال وذو القعدة وعشر ذي الحجة.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ }
قال أبو جعفر : يعني بقوله جل ثناؤه : " فمن فرض فيهن الحج " ، فمن أوجب الحج على نفسه وألزمها إياه فيهن - يعني : في الأشهر المعلومات التي بينها. وإيجابه إياه على نفسه ، العزم على عمل جميع ما أوجب الله على الحاج عمله ، وترك جميع ما أمره الله بتركه.
* * *
وقد اختلف أهل التأويل في المعنى الذي يكون به الرجل فارضا الحج ، بعد إجماع جميعهم ، على أن معنى " الفرض " : الإيجاب والإلزام.
فقال بعضهم : فرض الحج الإهلال.
* ذكر من قال ذلك :
3554 - حدثنا أحمد بن إسحاق ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا ورقاء ، عن عبد الله المدني بن دينار ، عن ابن عمر قوله : " فمن فرض فيهن الحج " قال : من أهل بحج.
3555 - حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي وحدثنا الحسن بن يحيى ، قال :
__________
(1) انظر تفصيل ذلك في معاني القرآن للفراء 1 : 152 .

(4/121)


أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا الثوري ، عن العلاء بن المسيب ، عن عطاء ، قال : التلبية.
3556 - حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا مهران وحدثنا علي ، قال : حدثنا زيد جميعا ، عن سفيان الثوري : " فمن فرض فيهن الحج " قال : فالفريضة الإحرام ، والإحرام التلبية.
3557 - حدثني المثنى ، قال : حدثنا الحماني ، قال : حدثنا شريك ، عن إبراهيم - يعني ابن مهاجر - ، عن مجاهد : " فمن فرض فيهن الحج " قال : الفريضة : التلبية.
3558 - حدثنا أحمد بن حازم ، قال : حدثنا ورقاء عن عبد الله بن دينار ، عن ابن عمر : " فمن فرض فيهن الحج " قال : أهل.
3559 - حدثني أحمد بن حازم ، قال : حدثنا أبو نعيم ، قال : حدثنا شريك ، عن مغيرة ، عن إبراهيم ، قال : الفرض التلبية ، ويرجع إن شاء ما لم يحرم.
3560 - حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : " فمن فرض فيهن الحج " قال : الفرض : الإهلال.
3561 - حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن ابن طاوس ، عن أبيه : " فمن فرض فيهن الحج " قال : التلبية.
3562 - حدثنا إبراهيم بن عبد الله بن مسلم ، قال : حدثنا أبو عمرو الضرير ، قال : أخبرنا حماد بن سلمة ، عن جبر بن حبيب ، قال : سألت القاسم بن محمد عن : " من فرض فيهن الحج " ، قال : إذا اغتسلت ولبست ثوبك ولبيت ، فقد فرضت الحج. (1)
__________
(1) الخر : 3562 - إبراهيم بن عبد الله بن مسلم بن ماعز ، أبو مسلم الكجي الحافظ : ثقة نبيل ، مدحه البحتري . له كتاب في السنن . مات سنة 292 وقد قارب المئة . مترجم في تذكرة الحفاظ 2 : 176 - 177ن وتاريخ بغداد 6 : 120 - 124 . " أبو عمر الضرير الأكبر " : هو حفص بن عمر البصري ، وهو ثقة كان غاية في السنة وكان من العلماء بالفرائض والحساب والشعر وأيام الناس والفقه . مات سنة 220 ، عن بضع وسبعين سنة . ووقع في المطبوعة " أبو عمرو " . وهو خطأ . " جبر بن حبيب " : ثقة وكان إماما في اللغة . مترجم في التهذيب والكبير 1/2/242 ، وابن أبي حاتم 1/1/533 . ولم يذكروا له رواية إلا عن أم كلثوم بنت أبي بكر الصديق . فيستفاد من هذا الموضع روايته أيضًا عن ابن أخيها : القاسم بن محمد بن أبي بكر .

(4/122)


وقال آخرون : فرض الحج إحرامه.
* ذكر من قال ذلك :
3563 - حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : حدثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس : " فمن فرض فيهن الحج " يقول : من أحرم بحج أو عمرة.
3564 - حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن وحدثنا أحمد بن إسحاق ، قال : حدثنا أبو أحمد وحدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو نعيم قالوا جميعا : حدثنا سفيان ، عن مغيرة ، عن إبراهيم : " فمن فرض فيهن الحج " قال : فمن أحرم - واللفظ لحديث ابن بشار.
3565 - حدثنا أحمد ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا شريك والحسن بن صالح ، عن ليث ، عن عطاء ، قال : الفرض : الإحرام.
3566 - حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا الحجاج ، عن عطاء وبعض أشياخنا عن الحسن في قوله : " فمن فرض فيهن الحج " قالا فرض الحج الإحرام.
3567 - حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : " فمن فرض فيهن الحج " فهذا عند الإحرام.
3568 - حدثنا أحمد بن حازم ، قال : حدثنا أبو نعيم ، قال : حدثنا حسين بن عقيل ، عن الضحاك ، عن ابن عباس قال : الفرض الإحرام.
3569 - حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا

(4/123)


حسين بن عقيل الخراساني ، قال : سمعت الضحاك بن مزاحم يقول ، فذكر مثله.
3570 - حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا الثوري ، قال : أخبرنا المغيرة ، عن إبراهيم : " فمن فرض فيهن الحج " قال : من أحرم.
* * *
قال أبو جعفر : وهذا القول الثاني يحتمل أن يكون بمعنى ما قلنا من أن يكون الإحرام - كان عند قائله - الإيجاب بالعزم ، ويحتمل أن يكون كان عنده بالعزم والتلبية ، كما قال القائلون القول الأول.
وإنما قلنا : إن فرض الحج الإحرام ، لإجماع الجميع على ذلك. وقلنا : إن الإحرام هو إيجاب الرجل ما يلزم المحرم أن يوجبه على نفسه ، على ما وصفنا آنفا ، لأنه لا يخلو القول في ذلك من أحد أمور ثلاثة :
إما أن يكون الرجل غير محرم إلا بالتلبية وفعل جميع ما يجب على الموجب الإحرام على نفسه فعله ، فإن يكن ذلك كذلك ، فقد يجب أن لا يكون محرما إلا بالتجرد للإحرام ، وأن يكون من لم يكن له متجردا فغير محرم. وفي إجماع الجميع على أنه قد يكون محرما وإن لم يكن متجردا من ثيابه ، بإيجابه الإحرام ما يدل على أنه قد يكون محرما وإن لم يلب ، إذ كانت التلبية بعض مشاعر الإحرام ، كما التجرد له بعض مشاعره. وفي إجماعهم على أنه قد يكون محرما بترك بعض مشاعر حجه ، ما يدل على أن حكم غيره من مشاعره حكمه.
أو يكون - إذ فسد هذا القول - قد يكون محرما وإن لم يلب ولم يتجرد ولم يعزم العزم الذي وصفنا. وفي إجماع الجميع على أنه لا يكون محرما من لم يعزم على الإحرام ويوجبه على نفسه ، إذا كان من أهل التكليف ، ما ينبئ عن فساد هذا القول.
وإذ فسد هذان الوجهان فبينة صحة الوجه الثالث ، وهو أن الرجل قد يكون

(4/124)


محرما بإيجابه الإحرام بعزمه على سبيل ما بينا ، وإن لم يظهر ذلك بالتجرد والتلبية وصنيع بعض ما عليه عمله من مناسكه. وإذا صح ذلك صح ما قلنا من أن فرض الحج ، هو ما قرن إيجابه بالعزم ، (1) على نحو ما بينا قبل.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { فَلا رَفَثَ }
قال أبو جعفر : اختلف أهل التأويل في معنى " الرفث " في هذا الموضع ، (2)
فقال بعضهم : هو الإفحاش للمرأة في الكلام ، وذلك بأن يقول : " إذا حللنا فعلت بك كذا وكذا " ، لا يكني عنه ، وما أشبه ذلك.
* ذكر من قال ذلك :
3571 - حدثنا أحمد بن حماد الدولابي ويونس قالا حدثنا سفيان ، عن ابن طاوس ، عن أبيه ، قال : سألت ابن عباس عن الرفث في قول الله : " فلا رفث ولا فسوق " قال : هو التعريض بذكر الجماع ، وهي " العرابة " من كلام العرب ، وهو أدنى الرفث. (3)
3572 - حدثني يعقوب ، قال : حدثنا ابن علية ، عن روح بن القاسم ،
__________
(1) في المطبوعة : " هو ما مر إيجابه بالعزم " وهو تحريف فاسد لا معنى له . والدليل على صحة ما ذهبت إليه في قراءة هذا النص قوله في أول تفسير هذه الكلمة من الآية : " وإيجابه إياه على نفسه ، العزم على عمل جميع ما أوجب الله على الحاج عمله . . . " ثم ما جاء بعد ذلك في تفصيل معنى " الفرض " . فالسياق يقتضي ما أثبت من قراءتي للنص .
(2) انظر ما سلف في معنى : " الرفث " من الجزء 3 : 487 ، 488
(3) الخبر : 3571 - أحمد بن حماد الدولابي : مضت ترجمته في : 2593 .
والعرابة (بفتح الهين وكسرها) والإعراب والتعريب والإعرابة : ما قبح من الكلام أو التصريح بالهجر من الكلام والفاحش منه . وأعرب الرجل وعرب : أفحش . والجيد هنا أن يقال إن " العرابة " هو التعريض بالنكاح . وأنظر الآثار الآتية من رقم : 3581 وما بعده .

(4/125)


عن ابن طاوس في قوله : " فلا رفث " قال : الرفث : العرابة والتعريض للنساء بالجماع.
3573 - حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا ابن أبي عدي ، عن عون ، قال : حدثنا زياد بن حصين ، قال : حدثني أبي حصين بن قيس ، قال : أصعدت مع ابن عباس في الحاج ، وكنت له خليلا فلما كان بعدما أحرمنا قال ابن عباس ، فأخذ بذنب بعيره ، فجعل يلويه ، وهو يرتجز ويقول :
وهن يمشين بنا هميسا... إن تصدق الطير ننك لميسا (1)
قال : فقلت : أترفث وأنت محرم ؟ قال : إنما الرفث ما قيل عند النساء.
3574 - حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، عن قتادة ، عن رجل ، عن أبي العالية الرياحي ، عن ابن عباس أنه كان يحدو وهو محرم ، ويقول :
وهن يمشين بنا هميسا... إن تصدق الطير ننك لميسا (2)
قال : قلت : تتكلم بالرفث وأنت محرم ؟ قال : إنما الرفث ما قيل عند النساء.
3575 - حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرني يونس أن نافعا أخبره أن عبد الله بن عمر كان يقول : الرفث إتيان النساء ، والتكلم بذلك للرجال والنساء ، إذا ذكروا ذلك بأفواههم.
3576 - حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرني أبو صخر ، عن محمد بن كعب القرظي ، مثله.
__________
(1) لم أعرف قائله ، وسيأتي في هذا الجزء 127 ، 130 - ثم في 5 : 68/ ثم 16 : 157 (بولاق) وهو رجز كثير الدوران في الكتب . والهمس والهميس : الصوت الخفي الذي لا غور له في الكلام والوطء والأكل وغيرها . ولميس : اسم صاحبته . ويزيد بقوله : " إن تصدق الطير " أنه زجر الطير فتيامن بمرها ودلته على قرب اجتماعه بأصحابه وأهله .
(2) انظر التعليق السالف

(4/126)


3577 - حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : أخبرنا ابن جريج ، قال : قلت لعطاء : أيحل للمحرم أن يقول لامرأته : " إذا حللت أصبتك " ؟ قال : لا ذاك الرفث. قال : وقال عطاء : الرفث ما دون الجماع.
3578 - حدثنا ابن بشار ، قال : حدثني محمد بن بكر ، قال : أخبرنا ابن جريج ، قال : قال عطاء : الرفث الجماع وما دونه من قول الفحش.
3579 - حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا ابن أبي زائدة ، عن ابن جريج ، قال : قلت لعطاء : قول الرجل لامرأته : " إذا حللت أصبتك " ، قال : ذاك الرفث !.
3580 - حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن الأعمش ، عن زيادة بن حصين ، عن أبي العالية ، قال : كنت أمشي مع ابن عباس وهو محرم ، وهو يرتجز ويقول :
وهن يمشين بنا هميسا... إن تصدق الطير ننك لميسا (1)
قال : قلت : أترفث يا ابن عباس وأنت محرم ؟ قال : إنما الرفث ما روجع به النساء.
3581 - حدثنا عمرو بن علي ، قال : حدثنا سفيان ويحيى بن سعيد ، عن ابن جريج ، قال : أخبرنا ابن الزبير السبائي وعطاء : أنه سمع طاوسا قال : سمعت ابن الزبير يقول : لا يحل للمحرم الإعرابة . فذكرته لابن عباس ، فقال : صدق! قلت لابن عباس : وما الإعراب ؟ قال : التعريض. (2)
3582 - حدثنا عمرو بن علي ، قال : حدثنا يحيى ، قال : أخبرنا ابن جريج ، قال : أخبرني الحسن بن مسلم ، عن طاوس أنه كان يقول : لا يحل للمحرم
__________
(1) انظر التعليق السالف : 126 تعليق : 1
(2) الخبر : 3581 - ابن الزبير السبائي : هكذا ثبت في المطبوعة ؛ ولا أدري ما هذا ؟ ولا من هو ؟ ولولا كلمة " السبائي " لظننا أنه " أبو الزبير محمد بن مسلم بن تدرس الأسدي المكي " التابعي المشهور ، فإنه من هذه الطبقة . وانظر تفسير " الإعرابة " والإعراب " فيما سلف ص : 125 ، تعليق : 3 .

(4/127)


الإعرابة. قال طاوس : والإعرابة : أن يقول وهو محرم : " إذا حللت أصبتك " .
3583 - حدثني أحمد بن إسحاق ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا فطر ، عن زياد بن حصين ، عن أبي العالية ، قال : لا يكون رفث إلا ما واجهت به النساء. (1)
3584 - حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن علقمة بن مرثد ، عن عطاء قال : كانوا يكرهون الإعرابة - يعني التعريض بذكر الجماع - وهو محرم.
3585 - حدثنا عمرو بن علي ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن ابن جريج ، عن ابن طاوس أنه سمع أباه أنه كان يقول : لا تحل الإعرابة. " والإعرابة " التعريض.
3586 - حدثنا عمرو بن علي ، قال : حدثنا سفيان بن عيينة ، عن ابن طاوس ، عن أبيه ، قال : سألت ابن عباس عن قول الله تعالى : " فلا رفث " قال : الرفث الذي ذكر ههنا ، ليس بالرفث الذي ذكر في : ( أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ ) [البقرة : 187] ومن " الرفث " ، التعريض بذكر الجماع ، وهي الإعرابة بكلام العرب. (2)
3587 - حدثنا عمرو بن علي ، قال : حدثنا أبو معاوية : قال : حدثنا ابن جريج ، عن عطاء : أنه كره التعريب للمحرم.
3588 - حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن ابن جريج ، قال :
__________
(1) الأثر : 3583 - فطر ، هو فطر بن خليفة القرشي المخزومي مولاهم . وكان في المطبوعة " قطر " بالقاف ، ومضى مرارا ، وظننته تصحيفا مع الطابع ولكنه تكرر فنبهت هنا عليه ، وعلى تصويبه .
(2) انظر ما سلف في الجزء 3 : 487

(4/128)


أخبرني ابن طاوس أن أباه كان يقول : الرفث : الإعرابة مما وراه من شأن النساء ، والإعرابة : الإيضاح بالجماع. (1)
3589 - حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن ابن جريج ، قال : حدثنا الحسن بن مسلم أنه سمع طاوسا يقول : لا يحل للمحرم الإعرابة.
3590 - حدثني علي بن داود ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : حدثني معاوية ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : " فلا رفث " قال : الرفث : غشيان النساء والقبل والغمز ، وأن يعرض لها بالفحش من الكلام ونحو ذلك.
3591 - حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا الثوري ، عن منصور ، عن مجاهد قال : كان ابن عمر يقول للحادي : لا تعرض بذكر النساء.
3592 - حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر وابن جريج ، عن ابن طاوس عن أبيه ، عن ابن عباس ، قال : الرفث في " الصيام " : الجماع ، والرفث في " الحج " الإعرابة. وكان يقول : الدخول والمسيس الجماع.
* * *
وقال آخرون : " الرفث " في هذا الموضع : الجماع نفسه.
* ذكر من قال ذلك :
3593 - حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا سفيان بن عيينة ، عن خصيف ، عن مقسم ، قال : الرفث : الجماع.
3594 - حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا الثوري ، عن خصيف ، عن مقسم ، عن ابن عباس ، مثله.
__________
(1) في المطبوعة : " مما رواه من شأن النساء " والصواب ما أثبت ومعناه : مما كنى به من شأن النساء وما عرض به من ذكرهن .

(4/129)


3595 - حدثنا عبد الحميد بن بيان ، قال : أخبرنا إسحاق ، عن شريك ، عن خصيف ، عن مقسم ، عن ابن عباس قال : الرفث : إتيان النساء.
3596 - حدثنا عبد الحميد قال : أخبرنا إسحاق ، عن شريك ، عن أبي إسحاق ، عن التميمي ، قال : سألت ابن عباس عن الرفث ، فقال : الجماع.
3597 - حدثنا عبد الحميد ، قال : حدثنا إسحاق ، عن سفيان ، عن عاصم الأحول ، عن بكر بن عبد الله ، عن ابن عباس قال : الرفث : هو الجماع ، ولكن الله كريم يكني عما شاء.
3598 - حدثنا عبد الحميد ، قال : أخبرنا إسحاق ، عن شريك ، عن الأعمش ، عن زياد بن حصين ، عن أبي العالية قال : سمعت ابن عباس يرتجز وهو محرم ، يقول :
خرجن يسرين بنا هميسا... إن تصدق الطير ننك لميسا (1)
قال شريك : " إلا أنه لم يكن عن الجماع " - لميسا. (2) فقلت : أليس هذا الرفث ؟ قال : لا إنما الرفث : إتيان النساء والمجامعة.
3599 - حدثنا عبد الحميد ، قال : أخبرنا إسحاق ، عن عون ، عن زياد بن حصين ، عن أبي العالية ، عن ابن عباس بنحوه - إلا أن عونا صرح به.
3600 - حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا سفيان ، عن عاصم ، عن بكر ، عن ابن عباس ، قال : الرفث الجماع.
3601 - حدثنا عبد الحميد ، قال : حدثنا إسحاق ، عن شريك ، عن أبي إسحاق ، عن أبي الأحوص ، عن عبد الله قوله : " فلا رفث " قال : الرفث إتيان النساء.
__________
(1) انظر تخريجه فيما سلف : 126 تعليق 1 . وهذه رواية تخالف الماضية : " وهن يمشين " .
(2) يريد أن شريكا أنشد البيت : " إن تصدق الطير " ثم قطع الإنشاد وقال : " ألا إنه لم يكن الجماع " ثم عاد للإنشاد فقال : " لميسا " ، ولم ينطق الكلمة .

(4/130)


3602 - حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا حماد بن مسعدة ، قال : حدثنا عوف ، عن الحسن في قوله : " فلا رفث " ، قال : الرفث : غشيان النساء.
3603 - حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا محمد بن بكر ، قال : أخبرنا ابن جريج ، قال : قال عمرو بن دينار : الرفث : الجماع فما دونه من شأن النساء.
3604 - حدثنا عبد الحميد ، قال : أخبرنا إسحاق ، عن ابن جريج ، عن عمرو بن دينار بنحوه.
3605 - حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا ابن أبي زائدة ، عن عبد الملك بن أبي سليمان ، عن عطاء في قوله : " فلا رفث " قال : الرفث الجماع.
3606 - حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا حكام ، عن عمرو ، عن عبد العزيز بن رفيع ، عن مجاهد : " فلا رفث " ، قال : الرفث الجماع.
3607 - حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا ابن علية ، عن سعيد ، عن قتادة في قوله : " فلا رفث " قال : كان قتادة يقول : الرفث : غشيان النساء.
3608 - حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، عن سعيد ، عن قتادة مثله.
3609 - حدثنا أحمد بن إسحاق ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : أخبرنا إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن الضحاك ، عن ابن عباس ، قال : الرفث : الجماع.
3610 - حدثنا أحمد بن إسحاق ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : أخبرنا إسرائيل ، عن الحسن بن عبيد الله ، عن أبي الضحى ، عن ابن عباس ، قال : الرفث : الجماع.
3611 - حدثنا أحمد ، حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا سفيان ، عن ليث ، عن مجاهد ، قال : الرفث : الجماع.
3612 - حدثنا أحمد ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا إسرائيل ، عن سالم ، عن سعيد بن جبير ، قال : الرفث : المجامعة.

(4/131)


3613 - حدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : " فلا رفث " فلا جماع.
3614 - حدثت عن عمار بن الحسن ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : " فلا رفث " قال : الرفث : الجماع.
3615 - حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : " فلا رفث " قال : جماع النساء.
3616 - حدثنا المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، عن المغيرة ، عن إبراهيم في قوله : " فلا رفث " قال : الرفث : الجماع.
3617 - حدثني المثنى ، قال : حدثنا الحجاج بن المنهال ، قال : حدثنا حماد ، عن الحجاج ، عن عطاء بن أبي رباح ، قال : الرفث : الجماع.
3618 - حدثني المثنى ، قال : حدثنا سويد ، قال : أخبرنا ابن المبارك ، عن محمد بن إسحاق ، عن نافع ، عن ابن عمر ، قال : الرفث الجماع.
3619 - حدثني المثنى ، قال : حدثنا سويد ، قال : أخبرنا ابن المبارك ، عن يحيى بن بشر ، عن عكرمة قال : الرفث : الجماع. (1)
3620 - حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن النضر بن عربي ، عن عكرمة ، قال : الرفث : الجماع.
3621 - حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن حسين بن عقيل وحدثني أحمد بن حازم ، قال : حدثنا أبو نعيم وحدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق قالا أخبرنا حسين بن عقيل ، عن الضحاك ، قال : الرفث : الجماع.
3622 - حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا هشيم ، قال :
__________
(1) الأثر : 3619 - يحيى بن بشر الخراساني ترجم له البخاري في الكبير 4/2/263 ، وذكر أنه سمع عكرمة عن ابن عباس .

(4/132)


أخبرنا حجاج ، عن عطاء ، عن ابن عباس ، مثله - قال : وأخبرنا عبد الملك ، عن عطاء ، مثله.
3623 - حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا يونس ، عن الحسن وأخبرنا مغيرة ، عن إبراهيم قالا مثل ذلك.
3624 - حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين - وأخبرنا مغيرة ، قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله.
3625 - حدثني محمد بن سعد ، قال : حدثني أبي ، قال : حدثني عمي ، قال : حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قال : الرفث : النكاح.
3626 - حدثنا أحمد بن حازم قال : حدثنا أبو نعيم ، قال : حدثنا إسرائيل ، قال : حدثني ثوير ، قال : سمعت ابن عمر يقول الرفث : الجماع.
3627 - حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قال : الرفث : غشيان النساء قال معمر : وقال مثل ذلك الزهري عن قتادة.
3628 - حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد : الرفث : إتيان النساء ، وقرأ : ( أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ ) [البقرة : 187]
3629 - حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن منصور ، عن مجاهد في قوله : " فلا رفث " قال : الرفث : الجماع.
3630 - حدثنا ابن حميد ، حدثنا جرير ، عن منصور ، عن إبراهيم ، مثله.
* * *
قال أبو جعفر : والصواب من القول في ذلك عندي أن الله جل ثناؤه نهى - من فرض الحج في أشهر الحج - عن الرفث ، فقال : " فمن فرض فيهن الحج فلا رفث " . و " الرفث " في كلام العرب : أصله الإفحاش في المنطق على ما قد

(4/133)


بينا فيما مضى ، ثم تستعمله في الكناية عن الجماع. (1) فإذ كان ذلك كذلك ، (2) وكان أهل العلم مختلفين في تأويله ، وفي هذا النهي من الله عن بعض معاني " الرفث " أم عن جميع معانيه ؟ - وجب أن يكون على جميع معانيه ، إذ لم يأت خبر بخصوص " الرفث " الذي هو بالمنطق عند النساء من سائر معاني " الرفث " (3) يجب التسليم له ، إذ كان غير جائز نقل حكم ظاهر آية إلى تأويل باطن إلا بحجة ثابتة.
* * *
فإن قال قائل : إن حكمها من عموم ظاهرها إلى الباطن من تأويلها ، (4) منقول بإجماع. وذلك أن الجميع لا خلاف بينهم في أن " الرفث " عند غير النساء غير محظور على محرم ، فكان معلوما بذلك أن الآية معني بها بعض " الرفث " دون بعض. وإذا كان ذلك كذلك ، وجب أن لا يحرم من معاني " الرفث " على المحرم شيء إلا ما أجمع على تحريمه عليه ، أو قامت بتحريمه حجة يجب التسليم لها.
قيل : إن ما خص من الآية فأبيح ، خارج من التحريم ، والحظر ثابت لجميع ما لم تخصصه الحجة من معنى " الرفث " بالآية ، كالذي كان عليه حكمه لو لم يخص منه شيء ، لأن ما خص من ذلك وأخرج من عمومه إنما لزمنا إخراج حكمه من الحظر بأمر من لا يجوز خلاف أمره ، فكان حكم ما شمله معنى الآية - بعد الذي خص منها - على الحكم الذي كان يلزم العباد فرضه بها لو لم يخصص منها شيء ، لأن العلة فيما لم يخصص منها بعد الذي خص منها ، نظير العلة فيه قبل أن يخص منها شيء.
* * *
__________
(1) انظر ما سلف في الجزء 3 : 487 ، 488 .
(2) في المطبوعة : " فإن كان ذلك كذلك " وهو خطأ والصواب ما أثبت .
(3) السياق : " إذ لم يأت خبر يجب التسليم له " .
(4) في المطبوعة : " فإن قال قائل بأن حكمها . . . " والصواب ما أثبت وانظر مراجع " الظاهر والباطن " في فهارس الأجزاء السالفة ، وهذا الجزء .

(4/134)


القول في تأويل قوله تعالى : { وَلا فُسُوقَ }
قال أبو جعفر : اختلف أهل التأويل في معنى " الفسوق " ، التي نهى الله عنها في هذا الموضع ، (1) فقال بعضهم : هي المعاصي كلها.
* ذكر من قال ذلك :
3631 - حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا سفيان بن عيينة ، عن خصيف ، عن مقسم ، عن ابن عباس ، قال الفسوق : المعاصي.
3632 - حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا ابن أبي زائدة ، عن عبد الملك بن أبي سليمان ، عن عطاء : " ولا فسوق " ، قال : الفسوق المعاصي.
3633 - حدثنا ابن بشار ، قال : حدثني محمد بن بكر ، قال : أخبرنا ابن جريج ، قال : قال عطاء : الفسوق : المعاصي كلها ، قال الله تعالى : ( وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ ) [البقرة : 282]
3634 - حدثنا عبد الحميد بن بيان ، قال : حدثنا إسحاق ، عن ابن جريج ، عن عطاء ، مثله.
3635 - حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا حماد بن مسعدة ، قال : حدثنا عوف ، عن الحسن في قوله : " ولا فسوق " ، قال : الفسوق المعاصي.
3636 - حدثنا عبد الحميد بن بيان ، قال : حدثنا إسحاق ، عن ابن جريج ، عن ابن طاوس ، عن أبيه ، قال : الفسوق : المعصية.
3637 - حدثنا عبد الحميد ، قال : حدثنا إسحاق ، عن أبي بشر ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قال : الفسوق : المعاصي كلها.
3638 - حدثني يعقوب قال : أخبرنا ابن عيينة ، عن روح بن القاسم ،
__________
(1) انظر ما سلف في معنى " الفسق " 1 : 409 - 410/ 2 : 118 ، 399 .

(4/135)


عن ابن طاوس ، عن أبيه في قوله : " ولا فسوق " ، قال : الفسوق : المعاصي.
3639 - حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرني أبو صخر ، عن محمد بن كعب القرظي في قوله : " ولا فسوق " قال : الفسوق المعاصي كلها.
3640 - حدثني يعقوب ، قال : حدثنا ابن علية وحدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد جميعا ، عن سعيد بن أبي عروبة ، عن قتادة : " ولا فسوق " ، قال : الفسوق المعاصي.
3641 - حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : " ولا فسوق " قال : المعاصي.
3642 - حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله.
3643 - حدثنا أحمد بن إسحاق ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا إسرائيل ، عن سالم ، عن سعيد بن جبير ، قال : الفسوق المعاصي قال : وقال مجاهد مثل قول سعيد.
3644 - حدثنا أحمد ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا سفيان ، عن ليث ، عن مجاهد ، قال : الفسوق المعاصي.
3645 - حدثني محمد بن سعد ، قال : حدثني أبي ، قال : حدثني عمي ، قال : حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : " ولا فسوق " ، قال : الفسوق : عصيان الله.
3646 - حدثنا محمد بن المثنى ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، عن المغيرة ، عن إبراهيم في قوله : " ولا فسوق " قال : الفسوق المعاصي.
3647 - حدثني المثنى ، قال : حدثنا الحجاج بن المنهال ، قال : حدثنا حماد ، عن الحجاج ، عن عطاء بن أبي رباح ، قال : الفسوق المعاصي.
3648 - حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن الزهري وقتادة وابن أبي نجيح ، عن مجاهد مثله.

(4/136)


3649 - حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا الحجاج ، عن عطاء ، عن ابن عباس : " ولا فسوق " قال : المعاصي قال : وأخبرنا عبد الملك ، عن عطاء مثله.
3650 - حدثت عن عمار ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع ، مثله.
3651 - حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن النضر بن عربي ، عن عكرمة ، مثله.
3652 - حدثني المثنى ، قال : حدثنا سويد بن نصر ، قال : أخبرنا ابن المبارك ، عن يحيى بن بشر ، عن عكرمة قال : الفسوق معصية الله ، لا صغير من معصية الله.
3653 - حدثني علي بن داود ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : حدثنا معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس : " ولا فسوق " قال : الفسوق : معاصي الله كلها.
3654 - حدثني الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن ابن طاوس ، عن أبيه وعن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قال : الفسوق : المعاصي. وقال مثل ذلك الزهري وقتادة.
* * *
وقال آخرون : بل " الفسوق " في هذا الموضع : ما عصي الله به في الإحرام مما نهى عنه فيه ، من قتل صيد ، وأخذ شعر ، وقلم ظفر ، وما أشبه ذلك مما خص الله به الإحرام ، وأمر بالتجنب منه في خلال الإحرام.
* ذكر من قال ذلك :
3655 - حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرني يونس أن

(4/137)


نافعا أخبره أن عبد الله بن عمر كان يقول : الفسوق إتيان معاصي الله في الحرم.
3656 - حدثني المثنى ، قال : حدثنا سويد ، قال : أخبرنا ابن المبارك ، عن محمد بن إسحاق ، عن نافع ، عن ابن عمر ، قال : الفسوق : ما أصيب من معاصي الله به ، صيد أو غيره. (1)
* * *
وقال آخرون : بل " الفسوق " في هذا الموضع : السباب.
* ذكر من قال ذلك :
3657 - حدثنا عبد الحميد بن بيان ، قال : أخبرنا إسحاق ، عن شريك ، عن إبراهيم بن مهاجر ، عن مجاهد ، عن ابن عمر ، قال : الفسوق : السباب.
3658 - حدثنا أحمد بن إسحاق ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن الضحاك ، عن ابن عباس ، قال : الفسوق : السباب.
3659 - حدثني أحمد بن حازم الغفاري ، قال : حدثنا أبو نعيم ، قال : حدثنا إسرائيل ، قال : حدثنا ثوير ، قال : سمعت ابن عمر يقول : الفسوق : السباب.
3660 - حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا حكام عن عمرو ، عن عبد العزيز بن رفيع ، عن مجاهد : " ولا فسوق " ، قال : الفسوق السباب.
3661 - حدثنا موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي في قوله : " ولا فسوق " ، قال : أما الفسوق : فهو السباب.
3662 - حدثني المثنى ، قال : حدثنا معلى بن أسد ، قال : حدثنا خالد ، عن المغيرة ، عن إبراهيم ، قال : الفسوق السباب.
3663 - حدثني المثنى ، قال : حدثنا معلى ، قال : حدثنا عبد العزيز ، عن موسى بن عقبة ، قال : سمعت عطاء بن يسار يحدث نحوه.
3664 - حدثنا القاسم ، قال : حدثني الحسين ، قال : حدثنا هشيم ، قال :
__________
(1) قوله : " من معاصي الله به " ، أي بالحرم .

(4/138)


أخبرنا يونس ، عن الحسن قال : وأخبرنا مغيرة ، عن إبراهيم قالا الفسوق السباب.
3665 - حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا الثوري ، عن خصيف ، عن مقسم ، عن ابن عباس ، قال : الفسوق : السباب.
3666 - حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن منصور ، عن مجاهد في قوله : " ولا فسوق " قال : الفسوق : السباب.
3667 - حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن منصور عن إبراهيم ، مثله.
* * *
وقال آخرون : " الفسوق " : الذبح للأصنام.
* ذكر من قال ذلك :
3668 - حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في " الفسوق " : الذبح للأنصاب ، وقرأ : ( أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ ) [الأنعام : 145] فقطع ذلك أيضا ، (1) قطع الذبح للأنصاب بالنبي صلى الله عليه وسلم ، حين حج فعلم أمته المناسك.
* * *
وقال آخرون : " الفسوق " : التنابز بالألقاب.
*ذكر من قال ذلك :
3669 - حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا حسين بن عقيل ، قال : سمعت الضحاك بن مزاحم يقول ، فذكر مثله.
* * *
قال أبو جعفر : وأولى الأقوال التي ذكرنا بتأويل الآية في ذلك ، قول من
__________
(1) قوله : " قطع ذلك أيضًا " يشير إلى ما قطع من الرفث وحرم .

(4/139)


قال : معنى قوله : " ولا فسوق " النهي عن معصية الله في إصابة الصيد ، وفعل ما نهى الله المحرم عن فعله في حال إحرامه.
وذلك أن الله جل ثناؤه قال : " فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق " ، يعني بذلك : فلا يرفث ، ولا يفسق ، أي لا يفعل ما نهاه الله عن فعله في حال إحرامه ، ولا يخرج عن طاعة الله في إحرامه. وقد علمنا أن الله جل ثناؤه قد حرم معاصيه على كل أحد ، محرما كان أو غير محرم ، وكذلك حرم التنابز بالألقاب في حال الإحرام وغيرها بقوله : ( وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلا تَنَابَزُوا بِالألْقَابِ ) [الحجرات : 11] وحرم على المسلم سباب أخيه في كل حال ، فرض الحج أو لم يفرضه.
فإذ كان ذلك كذلك ، فلا شك أن الذي نهى الله عنه العبد من الفسوق في حال إحرامه وفرضه الحج ، هو ما لم يكن فسوقا في حال إحلاله وقبل إحرامه بحجه ، كما أن " الرفث " الذي نهاه عنه في حال فرضه الحج ، هو الذي كان له مطلقا قبل إحرامه. لأنه لا معنى لأن يقال فيما قد حرم الله على خلقه في كل الأحوال : " لا يفعلن أحدكم في حال الإحرام ما هو حرام عليه فعله في كل حال " . لأن خصوص حال الإحرام به لا وجه له ، وقد عم به جميع الأحوال من الإحلال والإحرام.
فإذ كان ذلك كذلك ، فمعلوم أن الذي نهى عنه المحرم من " الفسوق " فخص به حال إحرامه ، وقيل له : " إذا فرضت الحج فلا تفعله " ، هو الذي كان له مطلقا قبل حال فرضه الحج ، وذلك هو ما وصفنا وذكرنا أن الله جل ثناؤه خص بالنهي عنه المحرم في حال إحرامه مما نهاه عنه : من الطيب ، واللباس ، والحلق ، وقص الأظفار ، وقتل الصيد ، وسائر ما خص الله بالنهي عنه المحرم في حال إحرامه.
* * *

(4/140)


فتأويل الآية إذا : فمن فرض الحج في أشهر الحج فأحرم فيهن ، فلا يرفث عند النساء فيصرح لهن بجماعهن ، ولا يجامعهن ، ولا يفسق بإتيان ما نهاه الله في حال إحرامه بحجه ، من قتل صيد ، وأخذ شعر ، وقلم ظفر ، وغير ذلك مما حرم الله عليه فعله وهو محرم.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ }
قال أبو جعفر : اختلف أهل التأويل في ذلك.
فقال بعضهم : معنى ذلك : النهي عن أن يجادل المحرم أحدا.
ثم اختلف قائلو هذا القول.
فقال بعضهم : نهى عن أن يجادل صاحبه حتى يغضبه.
* ذكر من قال ذلك :
3670 - حدثنا عبد الحميد بن بيان ، قال : أخبرنا إسحاق ، عن شريك ، عن أبي إسحاق ، عن أبي الأحوص ، عن عبد الله : " ولا جدال في الحج " ، قال : أن تماري صاحبك حتى تغضبه.
3671 - حدثنا عبد الحميد ، قال : حدثنا إسحاق ، عن شريك ، عن أبي إسحاق ، عن التميمي ، قال : سألت ابن عباس عن " الجدال " ، فقال : أن تماري صاحبك حتى تغضبه.
3672 - حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا ابن عيينة ، عن خصيف ، عن مقسم ، عن ابن عباس ، قال : الجدال أن تماري صاحبك حتى تغضبه.
3673 - حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا ابن أبي زائدة ، عن عبد الملك بن سليمان ، عن عطاء ، قال : الجدال : أن يماري الرجل أخاه حتى يغضبه.

(4/141)


3674 - حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا حكام ، عن عنبسة ، عن سالم الأفطس ، عن سعيد بن جبير : " ولا جدال في الحج " قال : أن تمحن صاحبك حتى تغضبه. (1)
3675 - حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا هارون ، عن عمرو ، عن شعيب بن خالد ، عن سلمة بن كهيل ، قال : سألت مجاهدا عن قوله : " ولا جدال في الحج " ، قال : أن تماري صاحبك حتى تغضبه.
3676 - حدثنا عبد الحميد بن بيان ، قال : حدثنا إسحاق ، عن ابن جريج ، عن عمرو بن دينار قال : الجدال هو أن تماري صاحبك حتى تغضبه.
3677 - حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا حماد بن مسعدة ، قال : حدثنا عوف ، عن الحسن ، قال : الجدال : المراء.
3678 - حدثنا أحمد بن إسحاق ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن الضحاك ، عن ابن عباس ، قال : الجدال : أن تجادل صاحبك حتى تغضبه.
3679 - حدثنا أحمد بن إسحاق ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا إسرائيل ، عن سالم ، عن سعيد بن جبير ، قال : الجدال : أن تصخب [على] صاحبك. (2)
3680 - حدثنا أحمد ، قال : حدثنا أبو أحمد ، عن سفيان ، عن منصور ، عن مجاهد : " ولا جدال في الحج " قال : المراء.
__________
(1) أنا في شك من هذه اللفظة : " تمحن " ، وإن كان لها وجه في العربية ، من قولهم : محنت الفضة : إذا أذبتها بالنار لتختبرها ، ومحن الفرس بالعدو : جهده ومحنه بالسوط : ضربه . كل هذا صالح في مجاز المماراة والمخاصمة . ولكني أظن صوابها : " تمحك " من قولهم : محكه ، إذا نازعه في الكلام وتمادى حتى يغضبه ، منه حديث علي : " لا تضيق به الأمور ولا تمحكه الخصوم " . والمحك المشارة والمنازعة في الكلام ، واللجاج والتمادي عند المساومة والغضب وغيرها .
(2) الزيادة بين القوسين لا بد منها ، والصخب الصياح والجلبة ، صخب يصخب صخبا ، وهو فعل غير متعد . وسيأتي في الآثار الآتية : أن الجدال هو الصخب والمراء .

(4/142)


3681 - حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق وحدثني أحمد بن حازم ، قال : حدثنا أبو نعيم قالا حدثنا حسين بن عقيل ، عن الضحاك قال : الجدال أن تماري صاحبك حتى تغضبه.
3682 - حدثنا أحمد بن حازم ، قال : حدثنا أبو نعيم ، قال : حدثنا واقد الخلقاني ، عن عطاء ، قال : أما الجدال : فتماري صاحبك حتى تغضبه. (1)
3683 - حُدثت عن عمار ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع ، قال : الجدال : المراء ، أن تماري صاحبك حتى تغضبه.
3684 - حدثني المثنى ، قال : حدثنا المعلى بن أسد ، قال : حدثنا خالد ، عن المغيرة ، عن إبراهيم قال : الجدال المراء.
3685 - حدثني المثنى ، قال : حدثنا المعلى ، قال : حدثنا عبد العزيز ، عن موسى بن عقبة ، قال : سمعت عطاء بن يسار يحدث نحوه.
3686 - حدثني ابن المثنى ، قال : حدثنا محمد بن أبي جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، عن المغيرة ، عن إبراهيم بمثله.
3687 - حدثني المثنى ، قال : حدثنا الحجاج بن المنهال ، قال : حدثنا حماد ، عن الحجاج ، عن عطاء بن أبي رباح ، قال : الجدال : أن يماري بعضهم بعضا حتى يغضبوا.
3688 - حدثني المثنى ، قال : حدثنا سويد ، قال : أخبرنا ابن المبارك ، عن
__________
(1) الخبر : 3682 - واقد الخلقاني : هو " واقد بن عبد الله الخلقاني الكوفي الحنظل " . ترجمه البخاري في الكبير 4/2/173 وقال : " سمع عطاء " . وترجمه ابن أبي حاتم 4/2/33 ، وزاد أنه " بياع الغنم " وأنه " روى عنه وكيع ، ومروان الفزاري وأبو نعيم " وأنه سأل عنه أباه ، فقال : " شيخ محله الصدق " . وله رواية في المسند : 539 " عمن رأى عثمان بن عفان " ولكنه نسب فيه التميمي " . و " الحنظلي " : تميمي أيضًا . وقد وهم فيه الحسيني ، وتعقبه الحافظ في التعجيل : 435 - 436 فأحسن بيانه . و " الخلقاني " قال ابن الأثير في اللباب : " بضم الخاء [يعني المعجمة] وسكون اللام وفتح القاف وفي آخرها نون : هذه النسبة إلى بيع الخلق من الثياب وغيرها " .

(4/143)


يحيى بن بشر ، عن عكرمة : " ولا جدال " الجدال الغضب ، أن تغضب عليك مسلما ، إلا أن تستعتب مملوكا فتعظه من غير أن تغضبه ، ولا إثم عليك إن شاء الله تعالى في ذلك. (1)
3689 - حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثني أبي ، عن النضر بن عربي ، عن عكرمة ، قال : الجدال : أن تماري صاحبك حتى يغضبك أو تغضبه.
3690 - حدثنا المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن الزهري وقتادة قالا الجدال هو الصخب والمراء وأنت محرم.
3691 - حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا محمد بن بكر ، قال : أخبرنا ابن جريج ، قال : قال عطاء : الجدال ما أغضب صاحبك من الجدل.
3692 - حدثني علي ، قال : حدثنا عبد الله ، قال : حدثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس : " ولا جدال في الحج " ، قال : الجدال : المراء والملاحاة حتى تغضب أخاك وصاحبك ، فنهى الله عن ذلك.
3693 - حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا الثوري ، عن خصيف ، عن مقسم عن ابن عباس ، قال : الجدال : أن تماري صاحبك حتى تغضبه.
3694 - حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : حدثنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا الثوري ، عن منصور ، عن إبراهيم ، قال : الجدال : المراء.
3695 - حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن الزهري وقتادة قالا هو الصخب والمراء وأنت محرم.
__________
(1) الأثر : 3688 - في تفسير ابن كثير 1 : 460 وفيه " ولا بأس عليك إن شاء الله " . وفي المطبوعة هنا " ولا أمر عليك " ، ولعل الصواب ما أثبت . واستعبه : رده عن الإساءة يعني تأديبه .

(4/144)


3696 - حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن منصور ، عن إبراهيم : " ولا جدال في الحج " ، كانوا يكرهون الجدال.
* * *
وقال آخرون منهم : " الجدال " في هذا الموضع ، معناه : السباب.
* ذكر من قال ذلك :
3697 - حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرني يونس أن نافعا أخبره أن عبد الله بن عمر كان يقول : الجدال في الحج : السباب والمراء والخصومات.
3698 - حدثني المثنى ، قال : حدثنا سويد ، قال : أخبرنا ابن المبارك ، عن محمد بن إسحاق ، عن نافع ، عن ابن عمر ، قال : الجدال : السباب والمنازعة.
3699 - حدثني محمد بن سعد ، قال : حدثني أبي ، قال : حدثني عمي ، قال : حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قال : الجدال : السباب.
3700 - حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد وحدثني يعقوب ، قال : حدثنا ابن علية جميعا ، عن سعيد ، عن قتادة ، قال : الجدال : السباب.
* * *
وقال آخرون منهم : بل عنى بذلك خاصا من الجدال والمراء ، وإنما عنى الاختلاف فيمن هو أتم حجا من الحجاج.
* ذكر من قال ذلك :
3701 - حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرني أبو صخر ، عن محمد بن كعب القرظي ، قال : " الجدال " ، كانت قريش إذا اجتمعت بمنى قال هؤلاء : " حجنا أتم من حجكم! " ، وقال هؤلاء : " حجنا أتم من حجكم! " .
* * *

(4/145)


وقال آخرون منهم : بل ذلك اختلاف كان يكون بينهم في اليوم الذي فيه الحج ، فنهوا عن ذلك.
*ذكر من قال ذلك :
3702 - حدثني المثنى ، قال : حدثنا الحجاج ، قال : حدثنا حماد ، عن جبر بن حبيب ، عن القاسم بن محمد أنه قال : الجدال في الحج أن يقول بعضهم : " الحج اليوم! " ، ويقول بعضهم : " الحج غدا!.
* * *
وقال آخرون : بل اختلافهم ذلك في أمر مواقف الحج أيهم المصيب موقف إبراهيم.
* ذكر من قال ذلك :
3703 - حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : " ولا جدال في الحج " ، قال : كانوا يقفون مواقف مختلفة يتجادلون ، كلهم يدعي أن موقفه موقف إبراهيم. فقطعه الله حين أعلم نبيه صلى الله عليه وسلم بمناسكهم.
* * *
وقال آخرون : بل قوله جل ثناؤه : " ولا جدال في الحج " ، خبر من الله تعالى عن استقامة وقت الحج على ميقات واحد لا يتقدمه ولا يتأخره ، وبطول فعل النسيء. (1)
* ذكر من قال ذلك :
3704 - حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن عبد العزيز بن رفيع ، عن مجاهد في قوله : " ولا جدال في الحج " ، قال : قد استقام الحج ولا جدال فيه.
__________
(1) ستأتي صفة " النسيء " في الأثر : 3705 ، وقوله : " بطول " مصدر بطل الشيء بطولا وبطلانا . وقد أكثر الطبري من استعماله انظر ما سلف 2 : 426 ثم الجزء 3 : 205ن تعليق : 6 ، والتعليق فيهما .

(4/146)


3705 - حدثني محمد بن عمرو ، قال : أخبرنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد " ولا جدال في الحج " ، قال : لا شهر ينسأ ، ولا شك في الحج ، قد بين. كانوا يسقطون المحرم ثم يقولون : " صفران " لصفر وشهر ربيع الأول ، ثم يقولون : " شهرا ربيع " لشهر ربيع الآخر وجمادى الأولى ، ثم يقولون : " جماديان " لجمادى الآخرة ولرجب ، ثم يقولون لشعبان : " رجب " ، ثم يقولون لرمضان : " شعبان " ، ثم يقولون لشوال : " رمضان " ، ويقولون لذي القعدة : " شوال " ، ثم يقولون لذي الحجة : " ذا القعدة " ، ثم يقولون للمحرم : " ذا الحجة " ، فيحجون في المحرم. ثم يأتنفون فيحسبون على ذلك عدة مستقبلة على وجه ما ابتدءوا ، (1) فيقولون : " المحرم وصفر وشهرا ربيع " ، فيحجون في المحرم ليحجوا في كل سنة مرتين ، فيسقطون شهرا آخر ، فيعدون على العدة الأولى ، فيقولون : " صفران ، وشهرا ربيع " نحو عدتهم في أول ما أسقطوا.
3706 - حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد نحوه.
3707 - حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قال : صاحب النسيء الذي ينسأ لهم أبو ثمامة رجل من بني كنانة.
3708 - حدثنا عبد الحميد بن بيان ، قال : أخبرنا ابن إسحاق ، عن أبي بشر ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : " ولا جدال في الحج " قال : لا شبهة في الحج ، قد بين الله أمر الحج.
3709 - حدثني موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي " ولا جدال في الحج " ، قال : قد استقام أمر الحج فلا تجادلوا فيه.
3710 - حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن
__________
(1) استأنف الشيء وائتنفه : أخذ أوله وابتدأه . من قولهم : أنف الشيء أي أوله .

(4/147)


ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : " ولا جدال في الحج " قال : لا شهر ينسأ ، ولا شك في الحج قد بين.
3711 - حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا ابن أبي زائدة ، عن العلاء بن عبد الكريم ، عن مجاهد : " ولا جدال في الحج " ، قال : قد علم وقت الحج ، فلا جدال فيه ولا شك.
3712 - حدثنا أحمد بن إسحاق ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا سفيان ، عن عبد العزيز والعلاء ، عن مجاهد ، قال : هو شهر معلوم لا تنازع فيه.
3713 - حدثنا أحمد ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا إسرائيل ، عن سالم ، عن مجاهد : " ولا جدال في الحج " ، قال : لا شك في الحج.
3714 - حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا حجاج ، عن عطاء ، عن ابن عباس : " ولا جدال في الحج " قال : المراء بالحج.
3715 - حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، " ولا جدال في الحج " ، فقد تبين الحج. قال : كانوا يحجون في ذي الحجة عامين ، وفي المحرم عامين ، ثم حجوا في صفر عامين. وكانوا يحجون في كل سنة في كل شهر عامين ، ثم وافقت حجة أبي بكر من العامين في ذي القعدة قبل حجة النبي صلى الله عليه وسلم بسنة ، ثم حج النبي صلى الله عليه وسلم من قابل في ذي الحجة ، فذلك حين يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض " .
3716 - حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن منصور ، عن مجاهد في قوله : " ولا جدال في الحج " قال : بين الله أمر الحج ومعالمه فليس فيه كلام.
* * *
قال أبو جعفر : وأولى هذه الأقوال في قوله : " ولا جدال في الحج " بالصواب ،

(4/148)


قولُ من قال : معنى ذلك : قد بطل الجدال في الحج ووقته ، واستقام أمره ووقته على وقت واحد ، ومناسك متفقة غير مختلفة ، ولا تنازع فيه ولا مراء. وذلك أن الله تعالى ذكره أخبر أن وقت الحج أشهر معلومات ، ثم نفى عن وقته الاختلاف الذي كانت الجاهلية في شركها تختلف فيه.
وإنما اخترنا هذا التأويل في ذلك ، ورأيناه أولى بالصواب مما خالفه ، لما قد قدمنا من البيان آنفا في تأويل قوله : " ولا فسوق " ، أنه غير جائز أن يكون الذي خص بالنهي عنه في تلك الحال [إلا ما هو] مطلق مباح في الحال التي يخالفها ، (1) وهي حال الإحلال. وذلك أن حكم ما خص به من ذلك حكم حال الإحرام ، إن كان سواء فيه حال الإحرام وحال الإحلال ، فلا وجه لخصوصه به حالا دون حال ، وقد عم به جميع الأحوال. وإذ كان ذلك كذلك ، وكان لا معنى لقول القائل في تأويل قوله : " ولا جدال في الحج " ، أن تأويله : لا تمار صاحبك حتى تغضبه ، إلا أحد معنيين :
إما أن يكون أراد : لا تماره بباطل حتى تغضبه ، فذلك ما لا وجه له. لأن الله عز وجل ، قد نهى عن المراء بالباطل في كل حال ، محرما كان المماري أو محلا فلا وجه لخصوص حال الإحرام بالنهي عنه ، لاستواء حال الإحرام والإحلال في نهي الله عنه.
أو يكون أراد : لا تماره بالحق ، وذلك أيضا ما لا وجه له. لأن المحرم لو رأى رجلا يروم فاحشة ، كان الواجب عليه مراءه في دفعه عنها ، أو رآه يحاول ظلمه والذهاب منه بحق له قد غصبه عليه ، كان عليه مراؤه فيه وجداله حتى يتخلصه منه. والجدال والمراء لا يكون بين الناس إلا من أحد وجهين : إما من قبل ظلم ، وإما من قبل حق ، فإذا كان من أحد وجهيه غير جائز فعله بحال ، ومن الوجه الآخر غير جائز تركه بحال ، فأي وجوهه التي خص بالنهي عنه حال الإحرام ؟
__________
(1) هذه الزيادة لا بد منها حتى يستقيم الكلام . وكان في الأصل أيضًا : " أنه غير جائز أن يكون الله خص . . " واستقامة الكلام تقتضي ما أثبت .

(4/149)


وكذلك لا وجه لقول من تأوَّل ذلك أنه بمعنى السباب ، لأن الله تعالى ذكره قد نهى المؤمنين بعضهم عن سباب بعض على لسان رسوله عليه الصلاة والسلام في كل حال ، فقال صلى الله عليه وسلم :
3717 - " سباب المسلم فسوق ، وقتاله كفر " . (1)
فإذا كان المسلم عن سب المسلم منهيا في كل حال من أحواله ، محرما كان أو غير محرم ، فلا وجه لأن يقال : لا تسبه قي حال الإحرام إذا أحرمت وفيما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من الخبر الذي : -
3718 - حدثنا به محمد بن المثنى ، قال : حدثني وهب بن جرير ، قال : حدثنا شعبة ، عن سيار ، عن أبي حازم ، عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من حج هذا البيت فلم يرفث ولم يفسق ، خرج مثل يوم ولدته أمه " .
3719 - حدثني علي بن سهل ، قال : حدثنا حجاج ، قال : حدثنا شعبة ، عن سيار ، عن أبي حازم ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من حج هذا البيت فلم يرفث ولم يفسق ، خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه. (2)
__________
(1) الحديث : 3717 - رواه الطبري بغير إسناد . وهو حديث صحيح ثابت من روايات كثيرة . فرواه أحمد في المسند : 3647 ، من حديث عبد الله بن مسعود . وكذلك رواه الشيخان والترمذي والنسائي وابن ماجه . وانظر بقية أرقامه في المسند في الاستدراك : 886 . وثبت أيضًا من رواية صحابة آخرين ، انظر الفتح الكبير 2 : 150 - 151 .
(2) الحديث : 3718 - 3720 " سيار " : بفتح السين وتشديد الياء : مضت ترجمته في : 39 .
أبو حازم : هو الأشجعي واسمه " سلمان " مولى عزة الأشجعية . وهو تابعي ثقة ، أخرج له أصحاب الكتب الستة . وليس " أبو حازم " هنا - " أبا حازم سلمة بن دينار صاحب سهل بن سعد " فإن سلمة لم يسمع من أبي هريرة ، كما نص عليه الحافظ في الفتح 3 : 302 .
والحديث رواه أبو داود الطيالسي : 2519 عن سيار ومنصور - كلاهما عن أبي حازم .
ورواه أحمد في المسند : 9302 (2 : 410 حلبي) والبخاري 3 : 302 - 303 ، كلاهما من طريق شعبة ، عن سيار به .
وسيأتي مرة رابعة ، من طريق شعبة عن سيار : 3725 .

(4/150)


3720 - حدثنا أحمد بن الوليد ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، عن سيار ، عن أبي حازم ، عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم ، مثل حديث ابن المثنى ، عن وهب بن جرير.
3721 - حدثني ابن المثنى ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، عن منصور ، عن أبي حازم ، عن أبي هريره ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، مثله أيضا.
3722 - حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا أبو الوليد ، قال : حدثنا شعبة ، قال : أخبرني منصور ، قال : سمعت أبا حازم يحدث عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، نحوه. (1)
3723 - حدثنا تميم بن المنتصر ، قال : أخبرنا إسحاق ، قال : أخبرنا محمد بن عبيد الله ، عن الأعمش ، عن أبي حازم ، عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من حج هذا البيت فلم يرفث ولم يفسق خرج من ذنوبه كما ولدته أمه " . (2)
3724 - حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا وكيع وأبو أسامة ، عن سفيان ، عن منصور ، عن أبي حازم ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه
__________
(1) الحديثان : 3721 ، 3722 - منصور : هو ابن المعتمر . وقد سمع منصور هذا الحديث من أبي حازم ، كما صرح بذلك في الإسناد الثاني . فانتفت بذلك شبهة عدم سماعه هذا الحديث منه . كما سيأتي بيانه في : 3726 ، 3727 .
* والحديث من هذا الوجه - رواه الطيالسي : 2519 ، عن شعبة - كما أشرنا من قبل .
* ورواه أيضًا أحمد في المسند : 9300 (2 : 410 حلبي) والبخاري 4 : 17 (فتح) كلاهما من طريق شعبة عن منصور .
(2) الحديث : 3723 - هو في معنى الأحاديث قبله وبعده . وقد رواه الدارقطني في سننه ص : 282 ، من طريق حجاج بن أرطأة عن الأعمش بهذا الإسناد بلفظ : " من حج أو اعتمر ، فلم يرفث ولم يفسق ، يرجع كهيئته يوم ولدته أمه " . فزاد الحجاج بن أرطأة لفظ " أو اعتمر " .
* وأشار الحافظ في الفتح 3 : 302 - إلى رواية الدارقطني هذه ، وقال : " لكن في الإسناد إلى الأعمش ضعف " .

(4/151)


وسلم ، فذكر مثله - إلا أنه قال : رجع كما ولدته أمه. (1)
3725 - حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا أبو أسامة ، عن شعبة ، عن سيار ، عن أبي حازم ، عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فذكر نحوه ، إلا أنه قال : رجع إلى أهله مثل يوم ولدته أمه " .
3726 - حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا يحيى بن أبي بكير ، عن إبراهيم بن طهمان ، عن منصور ، عن هلال بن يساف ، عن أبي حازم ، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ، فذكر نحوه - إلا أنه قال : رجع إلى أهله مثل يوم ولدته أمه.
3727 - حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا يحيى بن أبي بكير ، عن إبراهيم بن طهمان ، عن منصور عن هلال بن يساف ، عن أبي حازم ، عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من حج هذا البيت - يعني الكعبة - فلم يرفث ولم يفسق ، رجع كيوم ولدته أمه. (2)
__________
(1) الحديث : 3724 - سفيان : هو الثوري . والحديث - من هذا الوجه - رواه أحمد في المسند : 10279 (2 : 484 حلبي) عن وكيع وعبد الرحمن بن مهدي كلاهما عن سفيان . وكذلك رواه البخاري 4 : 17 (فتح) عن محمد بن يوسف - وهو الفريابي - عن سفيان .
* وقد رواه أحمد أيضًا : 7375 (2 : 248 حلبي) عن سفيان عن منصور . وسفيان هنا : هو ابن عيينة .
(2) الحديثان : 3726 ، 3727 - هما إسناد واحد مكرر لحديث واحد . لم يذكر لفظه كاملا في أولهما ، وذكره في ثانيهما . ولا أدري سبب هذا ؟
* يعقوب بن إبراهيم : هو الدورقي الحافظ ، مضى مرارا ، آخرها : 3223 . يحيى بن أبي بكير - بضم الباء الموحدة وفتح الكاف - الأسدي القيسي : ثقة معروف ، أخرج له أصحاب الكتب الستة مات سنة 208 أو 209 . ووقع في المطبوعة هنا " يحيى بن أبي كثير " . وهو خطأ فإن ابن أبي كثير قديم الوفاة مات سنة 129 أو 132 . ويعقوب الدورقي ولد سنة 166 ، فلا يعقل أن يروى عنه .
* وإبراهيم بن طهمان الخراساني : ثقة صحيح الحديث ، أخرج له الأئمة الستة . منصور : هو ابن المعتمر ، كما مضى في بعض الأسانيد السابقة .
* هلال بن يساف - ويقال : إساف - الأشجعي الكوفي : تابعي ثقة كبير ، لعله أقدم من أبي حازم . و " يساف " : بكسر الياء التحتية وفتح السين المهملة مخففة . وكذلك " إساف " بالهمزة بدل الياء . ووقع في المطبوعة هنا في الإسنادين " هلال بن يسار " . وهو خطأ صرف .
* والحديث - من هذا الوجه - رواه البيهقي في السنن الكبرى 5 : 262 من طريق محمد بن إسماعيل الصائغ عن يحيى بن أبي بكير ، بهذا الإسناد .
* ومنصور قد سمع هذا الحديث من أبي حازم مباشرة ، كما صرح بذلك في الرواية الماضية : 3722 . فقال الحافظ في الفتح 4 : 17 " فانتفى بذلك تعليل من أعله بالاختلاف على منصور . لأن البيهقي أورده من طريق إبراهيم بن طهمان عن منصور عن هلال بن يساف ، عن أبي حازم زاد فيه رجلا . فإن كان إبراهيم حفظه ، فلعله حمله منصور عن هلال ، ثم لقى أبا حازم فسمعه منه ، فحدث به على الوجهين " .
* ونزيد هنا أن الحديث رواه أيضًا أحمد في المسند : 10414 (2 : 494 حلبي) عن جرير عن منصور عن أبي حاتم وكذلك رواه مسلم 1 : 382 من طريق جرير .
* ورواه مسلم أيضًا من طريق أبي عوانة وأبي الأحوص ومسعر والثوري وشعبة - كلهم عن منصور عن أبي حازم . وكذلك رواه النسائي 2 : 3 - 4 من طريق الفضيل بن عياض عن منصور به .

(4/152)


3728 - حدثنا الفضل بن الصباح ، قال : حدثنا هشيم بن بشير ، عن سيار ، عن أبي حازم ، عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من حج لله فلم يرفث ولم يفسق ، رجع كهيئة يوم ولدته أمه. (1)
* * *
(2)
دلالة واضحة على أن قوله : " ولا جدال في الحج " بمعنى النفي عن الحج بأن يكون في وقته جدال ومراء دون النهي عن جدال الناس بينهم فيما يعنيهم من الأمور أو لا يعنيهم.
وذلك أنه صلى الله عليه وسلم أخبر أنه من حج فلم يرفث ولم يفسق ، استحق من الله الكرامة ما وصف أنه استحقه بحجه ، تاركا للرفث والفسوق اللذين نهى الله الحاج عنهما في حجه ، من غير أن يضم إليهما الجدال. فلو كان الجدال الذي ذكره الله في قوله : " ولا جدال في الحج " مما نهاه الله عنه بهذه الآية - على نحو الذي تأول ذلك من تأوله : من أنه المراء والخصومات أو السباب وما أشبه ذلك - لما كان صلى الله عليه وسلم ليخص باستحقاق الكرامة التي ذكر أنه يستحقها الحاج
__________
(1) الحديث : 3728 - رواه أحمد في المسند : 7136 ، عن هشيم بهذا الإسناد وكذلك رواه مسلم 1 : 382 - 383 ، عن سعيد بن منصور عن هشيم به ، وانظر ما سيأتي رقم : +3059 .
(2) أول هذا الكلام في ص 150 ، قوله : " فيما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من الخبر . . . دلالة " وفصلت بين الخبر والمبتدأ الأحاديث المتتابعة .

(4/153)


الذي وصف أمره ، باجتناب خلتين مما نهاه الله عنه في حجه دون الثالثة التي هي مقرونة بهما.
ولكن لما كان معنى الثالثة مخالفا معنى صاحبتيها في أنها خبر على المعنى الذي وصفنا ، وأن الأخريين بمعنى النهي الذي أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن مجتنبهما في حجه مستوجب ما وصف من إكرام الله إياه مما أخبر أنه مكرمه به - إذ كانتا بمعنى النهي - (1) وكان المنتهي عنهما لله مطيعا بانتهائه عنهما ترك ذكر الثالثة ، (2) إذ لم تكن في معناهما ، وكانت مخالفة سبيلها سبيلهما.
* * *
فإذ كان ذلك كذلك ، فالذي هو أولى بالقراءة من القراءات المخالفة بين إعراب " الجدال " وإعراب " الرفث والفسوق " ، ليعلم سامع ذلك - إذا كان من أهل الفهم باللغات - أن الذي من أجله خولف بين إعرابيهما اختلاف معنييهما.
وإن كان صوابا قراءة جميع ذلك باتفاق إعرابه على اختلاف معانيه ، إذ كانت العرب قد تتبع بعض الكلام بعضا بإعراب ، مع اختلاف المعاني ، وخاصة في هذا النوع من الكلام.
فأعجب القراءات إلي في ذلك - إذ كان الأمر على ما وصفت - قراءة من قرأ : " فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج " ، برفع " الرفث والفسوق " وتنوينهما ، وفتح " الجدال " بغير تنوين. وذلك هو قراءة جماعة البصريين ، وكثير من أهل مكة ، منهم عبد الله بن كثير وأبو عمرو بن العلاء. (3)
* * *
وأما قول من قال : معناه : النهي عن اختلاف المختلفين في أتمهم حجا ،
__________
(1) في المطبوعة : " إذا كانتا بمعنى النهي " وهو خطأ والصواب ما أثبت .
(2) في المطبوعة : " وترك ذكر الثالثة " وهذه الواو مقحمة من النساخ بلا شك . وسياق هذه الجملة بطولها : " ولكن لما كان معنى الثالثة مخالفا معنى صاحبتيها . . . ، إذا كانتا بمعنى النهي ، وكان المنتهى عنهما لله مطيعا بانتهائه عنهما . . . ترك ذكر الثالثة " وبهذا يتبين صواب التصحيح في لموضعين السالفين .
(3) انظر تفصيل ذلك مستوعبا في معاني القرآن للفراء 1 : 120 - 122 .

(4/154)


والقائلين : ، معناه النهي عن قول القائل : " غدا الحج " مخالفا به قول الآخر : " اليوم الحج " ، فقول في حكايته الكفاية عن الاستشهاد على وهائه وضعفه ، (1) وذلك أنه قول لا تدرك صحته إلا بخبر مستفيض أوخبر صادق يوجب العلم أن ذلك كان كذلك ، (2) فنزلت الآية بالنهي عنه ؛ أو أن معنى ذلك في بعض معاني الجدال دون بعض ، ولا خبر بذلك بالصفة التي وصفنا.
* * *
وأما دلالتنا على قول ما قلنا من أنه نفي من الله جل وعز عن شهور الحج ، فالاختلاف الذي كانت الجاهلية تختلف فيها بينها قبل كما وصفنا. (3)
وأما دلالتنا على أن الجاهلية كانت تفعل ذلك ، فالخبر المستفيض في أهل الأخبار أن الجاهلية كانت تفعل ذلك ، مع دلالة قول الله تقدس اسمه : ( إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا ) [التوبة : 37]
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ }
قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه : افعلوا أيها المؤمنون ما أمرتكم به في حجكم ، من إتمام مناسككم فيه ، وأداء فرضكم الواجب عليكم في إحرامكم ، وتجنب ما أمرتكم بتجنبه من الرفث والفسوق في حجكم ، لتستوجبوا به الثواب
__________
(1) هكذا في الأصل " على وهائه " وهو خطأ قديم في كلام الفقهاء . قال المطرزي في المغرب 2 : 265 : " قوله : " فإن حاضت في حال وهاء الملك " لا يعتد به . الوهاء بالمد خطأ وإنما الوهي (بفتح فسكون) مصدر : " وهي الحبل يهى وهيا " إذا ضعف " . وأخشى أن يكون ذلك من ناسخ التفسير ، لا من أبي جعفر وأن أصله " على وهيه وضعفه " فهو قد استعمل كلمة " الوهي " مرارا فيما سلف من عباراته ، ولكني لم أستطع أن أجدها في هذا البحر من الكلام ، ثم وجدتها بعد ذلك في هذا الجزء 4 : 18 ، س : 7 .
(2) في المطبوعة : " وخبر صادق " بالواو ، وهو مخل بالكلام .
(3) في المطبوعة : " الاختلاف " بذف الفاء ، والصواب إثباتها وإلا تخلع الكلام .

(4/155)


الجزيل ، فإنكم مهما تفعلوا من ذلك وغيره من خير وعمل صالح ابتغاء مرضاتي وطلب ثوابي ، فأنا به عالم ، ولجميعه محص ، حتى أوفيكم أجره ، وأجازيكم عليه ، فإني لا تخفى علي خافية ، ولا ينكتم عني ما أردتم بأعمالكم ، لأني مطلع على سرائركم ، وعالم بضمائر نفوسكم.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى }
قال أبو جعفر : ذكر أن هذه الآية نزلت في قوم كانوا يحجون بغير زاد ، وكان بعضهم إذا أحرم رمى بما معه من الزاد واستأنف غيره من الأزودة ، (1) فأمر الله جل ثناؤه من لم يكن يتزود منهم بالتزود لسفره ، ومن كان منهم ذا زاد أن يحتفظ بزاده فلا يرمي به.
* ذكر الأخبار التي رويت في ذلك :
3729 - حدثني الحسين بن علي الصدائي ، قال : حدثنا عمرو بن عبد الغفار ، قال : حدثنا محمد بن سوقة ، عن نافع ، عن ابن عمر ، قال : كانوا إذا أحرموا ومعهم أزودة رموا بها واستأنفوا زادا آخر ، فأنزل الله : " وتزودوا فإن خير الزاد التقوى " فنهوا عن ذلك وأمروا أن يتزودوا الكعك والدقيق والسويق.
3730 - حدثنا محمد بن عبد الله المخرمي ، قال : حدثنا شبابة ، قال : حدثنا ورقاء ، عن عمرو بن دينار ، عن عكرمة عن ابن عباس ، قال : كانوا يحجون ولا يتزودون ، فنزلت : " وتزودوا فإن خير الزاد التقوى " (2)
__________
(1) الأزودة : جمع زاد على غير قياس ، وقياسه : أزواد .
(2) الأثر : 3730 - محمد بن عبد الله بن المبارك القرشي المخرمي (بضم الميم وفتح الخاء ، وراء مشددة مكسورة) أبو جعفر البغدادي المدائني الحافظ ، قاضي حلوان . مات سنة 254 ببغداد ، كان أحد الثقات جليل القدر . وكان في المطبوعة : " المخزومي " هو خطأ كما ترى .

(4/156)


3731 - حدثنا عمرو بن علي ، قال : حدثنا سفيان ، عن ابن سوقة ، عن سعيد بن جبير في قوله : " وتزودوا فإن خير الزاد التقوى " ، قال : الكعك والزيت.
3732 - حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، عن ابن عيينة ، عن ابن سوقة ، عن سعيد بن جبير ، قال : هو الكعك والسويق.
3733 - وحدثنا عمرو ، قال : حدثنا سفيان بن عيينة ، عن عمرو ، عن عكرمة ، قال : كان أناس يحجون ، ولا يتزودون ، فأنزل الله : " وتزودوا فإن خير الزاد التقوى " .
3734 - حدثنا عمرو ، قال : حدثنا سفيان بن عيينة ، قال : حدثنا عبد الملك بن عطاء ، كوفي لنا (1)
3735 - حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، عن ابن عيينة ، عن عبد الملك ، عن الشعبي في قوله : " وتزودوا فإن خير الزاد التقوى " قال : التمر والسويق.
3736 - حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا حنظلة ، قال : سئل سالم عن زاد الحاج ، فقال : الخبز واللحم والتمر. قال عمرو : وسمعت أبا عاصم مرة يقول : حدثنا حنظلة سئل سالم عن زاد الحاج ، فقال الخبز والتمر.
3737 - حدثنا عمرو ، قال : حدثنا ابن أبي عدي ، عن هشيم ، عن المغيرة ،
__________
(1) الخبر : 3734 - عبد الملك بن عطاء : هو البكائي العامري ، ختن الشعبي وهو ثقة وثقه ابن معين وغيره . و " البكائي " : بفتح الباء وتشديد الكاف وبعد الألف همزة ، نسبة إلى " البكاء " وهو " ربيعة بن عامر " من بني عامر بن صعصعة .
وقوله هنا " كوفي لنا " - لا أدري ما وجهه ؟ ولعل أصله " كوفي جار لنا " أو نحو ذلك لأن سفيان ابن عيينة كوفي ، ثم سكن مكة . فإني لم أجد لعبد الملك هذا ترجمة إلا عند ابن أبي حاتم 2/2/361 وروى فيها بإسناده إلى ابن نمير ، قال : " عبد الملك بن عطاء ، كان شيخا ثقة ، روى عنه شيوخنا وهو كوفي له حديث أو حديثين " .

(4/157)


عن إبراهيم ، قال : كان ناس من الأعراب يحجون بغير زاد ، ويقولون : " نتوكل على الله ! " ، فأنزل الله جل ثناؤه : " وتزودوا فإن خير الزاد التقوى " .
3738 - حدثنا عبد الحميد بن بيان ، قال : أخبرنا إسحاق ، عن عمر بن ذر ، عن مجاهد ، قال : كان الحاج منهم لا يتزود ، فأنزل الله : " وتزودوا فإن خير الزاد التقوى " .
3739 - حدثنا عمرو ، قال : حدثنا يحيى ، عن عمر بن ذر وحدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا عمر بن ذر عن مجاهد قال : كانوا يسافرون ولا يتزودون ، فنزلت : " وتزودوا فإن خير الزاد التقوى " . وقال الحسن بن يحيى في حديثه : كانوا يحجون ولا يتزودون.
3740 - حدثني نصر بن عبد الرحمن الأودي ، قال : حدثنا المحاربي ، عن عمر بن ذر ، عن مجاهد نحوه.
3741 - حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا عمر بن ذر ، قال : سمعت مجاهدا يحدث فذكر نحوه.
3742 - حدثنا عبد الحميد بن بيان ، قال : أخبرنا إسحاق ، عن أبي بشر ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد قال : كان أهل الآفاق يخرجون إلى الحج يتوصلون بالناس بغير زاد ، يقولون : " نحن متكلون " . فأنزل الله : " وتزودوا فإن خير الزاد التقوى " .
3743 - حدثنا محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله عز وجل : " وتزودوا " ، قال : كان أهل الآفاق يخرجون إلى الحج ، يتوصلون بالناس بغير زاد ، فأمروا أن يتزودوا.
3744 - حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : " وتزودوا فإن خير الزاد التقوى " ، قال : كان أهل اليمن يتوصلون بالناس ، فأمروا أن يتزودوا ولا يستمتعوا. قال : وخير الزاد التقوى.
3745 - حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا حكام ، عن عنبسة ، عن ليث ،

(4/158)


عن مجاهد : " وتزودوا فإن خير الزاد التقوى " ، قال : كانوا لا يتزودون ، فأمروا بالزاد ، وخير الزاد التقوى.
3746 - حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : " وتزودوا فإن خير الزاد التقوى " ، فكان الحسن يقول : إن ناسا من أهل اليمن كانوا يحجون ويسافرون ، ولا يتزودون ، فأمرهم الله بالنفقة والزاد في سبيل الله ، ثم أنبأهم أن خير الزاد التقوى.
3747 - حدثني يعقوب ، قال : حدثنا ابن علية ، عن سعيد بن أبي عروبة في قوله : " وتزودوا فإن خير الزاد التقوى " ، قال : قال قتادة : كان ناس من أهل اليمن يحجون ولا يتزودون - ثم ذكر نحو حديث بشر عن يزيد.
3748 - حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة : " وتزودوا فإن خير الزاد التقوى " ، قال : كان ناس من أهل اليمن يخرجون بغير زاد إلى مكة ، فأمرهم الله أن يتزودوا ، وأخبرهم أن خير الزاد التقوى.
3749 - حدثني محمد بن سعد ، قال : حدثني أبي ، قال : حدثني عمي ، قال : حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : " وتزودوا فإن خير الزاد التقوى " ، قال : كان ناس يخرجون من أهليهم ليست معهم أزودة ، يقولون : " نحج بيت الله ولا يطعمنا! " . فقال الله : تزودوا ما يكف وجوهكم عن الناس.
3750 - حدثت عن عمار ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع قوله : " وتزودوا فإن خير الزاد التقوى " ، فكان ناس من أهل اليمن يحجون ولا يتزودون ، فأمرهم الله أن يتزودوا ، وأنبأ أن خير الزاد التقوى.
3751 - حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو نعيم ، قال : حدثنا سفيان ، عن محمد بن سوقة ، عن سعيد بن جبير : " وتزودوا " قال : السويق والدقيق والكعك.
3752 - حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا وكيع ، عن سفيان ، عن محمد

(4/159)


بن سوقة ، عن سعيد بن جبير : " وتزودوا فإن خير الزاد التقوى " ، قال : الخشكانج والسويق. (1)
3753 - حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا وكيع ، عن عبد الملك بن عطاء البكائي ، قال : سمعت الشعبي يقول في قوله : " وتزودوا فإن خير الزاد التقوى " ، قال : هو الطعام ، وكان يومئذ الطعام قليلا. قال : قلت : وما الطعام ؟ قال : التمر والسويق. (2)
3754 - حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا أبو زهير ، عن جويبر ، عن الضحاك قوله : " وتزودوا فإن خير الزاد التقوى " ، وخير زاد الدنيا المنفعة من اللباس والطعام والشراب.
3755 - حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن مغيرة ، عن إبراهيم : " وتزودوا فإن خير الزاد التقوى " ، قال : كان الناس يتزودون إلى عقبة ، فإذا انتهوا إلى تلك العقبة توكلوا ولم يتزودوا. (3)
3756 - حدثني نصر بن عبد الرحمن الأودي ، قال : حدثنا المحاربي ، قال : قال سفيان في قوله : " وتزودوا " ، قال : أمروا بالسويق والكعك.
3757 - حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرني أبي أنه سمع عكرمة يقول في قوله : " وتزودوا " ، قال : هو السويق والدقيق.
3758 - حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في
__________
(1) في اللسان (كعك) وفي المغرب لجواليقي : 134 " الخشكنان " قد تكلمت به العرب قال الراجز : يا حبذا الكعك بلحم مثرود ... وخشكنان وسويق مقنود
والخشكنانج هو الخشكنان : وهو طعام من دقيق مصنوع .
(2) الخبر : 3753 - مضت ترجمة " عبد الملك بن عطاء " في : 3734 وأنه " البكائي " . ووقع في المطبوعة هنا " البكالي " باللام بدل الهمزة وهو خطأ وتصحيف .
(3) العقبة (بضم فسكون) قدر ما يسير السائر حتى ينزل .

(4/160)


قوله : " وتزودوا فإن خير الزاد التقوى " ، قال : كانت قبائل من العرب يحرمون الزاد إذا خرجوا حجاجا وعمارا لأن يتضيفوا الناس ، فقال الله تبارك تعالى لهم : " وتزودوا فإن خير الزاد التقوى " .
3759 - حدثنا عمرو بن عبد الحميد الآملي ، قال : حدثنا سفيان عن عمرو ، عن عكرمة قال : كان الناس يقدمون مكة بغير زاد ، فأنزل الله : " وتزودوا فإن خير الزاد التقوى " . (1)
* * *
قال أبو جعفر : فتأويل الآية إذا : فمن فرض في أشهر الحج الحج فأحرم فيهن ، فلا يرفثن ولا يفسقن. فإن أمر الحج قد استقام لكم ، وعرفكم ربكم ميقاته وحدوده ، فاتقوا الله فيما أمركم به ونهاكم عنه من أمر حجكم ومناسككم ، فإنكم مهما تفعلوا من خير أمركم به أو ندبكم إليه ، يعلمه. وتزودوا من أقواتكم ما فيه بلاغكم إلى أداء فرض ربكم عليكم في حجكم ومناسككم ، فإنه لا بر لله جل ثناؤه في ترككم التزود لأنفسكم ومسألتكم الناس ولا في تضييع أقواتكم وإفسادها ، ولكن البر في تقوى ربكم باجتناب ما نهاكم عنه في سفركم لحجكم وفعل ما أمركم به ، فإنه خير التزود ، فمنه تزودوا.
وبنحو الذي قلنا في ذلك روي الخبر عن الضحاك بن مزاحم.
3760 - حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا أبو زهير ، عن جويبر ، عن الضحاك في قوله : " فإن خير الزاد التقوى " ، قال : والتقوى عمل بطاعة الله.
وقد بينا معنى " التقوى " فيما مضى بما أغنى عن إعادته. (2)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الألْبَابِ (197)
قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه : واتقون يا أهل العقول والأفهام بأداء فرائضي عليكم التي أوجبتها عليكم في حجكم ومناسككم وغير ذلك من ديني الذي شرعته لكم وخافوا عقابي باجتناب محارمي التي حرمتها عليكم ، تنجوا بذلك مما تخافون من غضبي عليكم وعقابي ، وتدركوا ما تطلبون من الفوز بجناتي.
* * *
وخص جل ذكره بالخطاب بذلك أولي الألباب ، لأنهم هم أهل التمييز بين الحق والباطل ، وأهل الفكر الصحيح والمعرفة بحقائق الأشياء التي بالعقول تدرك وبالألباب تفهم ، ولم يجعل لغيرهم من أهل الجهل في الخطاب بذلك حظا ، إذ كانوا أشباحا كالأنعام ، وصورا كالبهائم ، بل هم منها أضل سبيلا.
و " الألباب " : جمع " لب " ، وهو العقل. (3)
* * *
__________
(1) الخبر : 3759 - عمرو بن عبد الحميد الآملي - شيخ الطبري : لم أعرف من هو ؟ ولم أجد له ترجمة ولعله محرف عن شيء لا أعرفه .
(2) انظر ما سلف 1 : 232 ، 233 ، 364 .
(3) انظر ما سلف في الجزء 3 : 383 .

(4/161)


لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ (198)

القول في تأويل قوله تعالى : { لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلا مِنْ رَبِّكُمْ }
قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ذكره : ليس عليكم أيها المؤمنون جناح.
* * *
و " الجناح " ، الحرج ، (1) كما : -
3761 - حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : حدثني معاوية ، عن
__________
(1) انظر ما سلف في تفسير " الجناح " من الجزء 3 : 230 ، 231 .

(4/162)


علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : " ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم " ، وهو لا حرج عليكم في الشراء والبيع قبل الإحرام وبعده.
* * *
وقوله : " أن تبتغوا فضلا من ربكم " ، يعني : أن تلتمسوا فضلا من عند ربكم.
يقال منه : ابتغيت فضلا من الله - ومن فضل الله - أبتغيه ابتغاء " ، إذا طلبته والتمسته ، " وبغيته أبغيه بغيا " ، (1) كما قال عبد بني الحسحاس :
بغاك ، وما تبغيه حتى وجدته... كأنك قد واعدته أمس موعدا (2)
يعني طلبك والتمسك.
* * *
وقيل : إن معنى " ابتغاء الفضل من الله " ، التماس رزق الله بالتجارة ، وأن هذه الآية نزلت في قوم كانوا لا يرون أن يتجروا إذا أحرموا يلتمسون البر بذلك ، فأعلمهم جل ثناؤه أن لا بر في ذلك ، وأن لهم التماس فضله بالبيع والشراء.
* ذكر من قال ذلك :
__________
(1) انظر ما سلف في تفسير : " ابتغي " من الجزء 3 : 508 .
(2) ديوانه : 41 وسيأتي في التفسير 4 : 15 - 16/ 5 : 45 (بولاق) وهذا البيت متعلق بثلاثة أبيات قبله ، هو تمام معناها في ذكر الموت : رأيت المنايا لم يهبن محمدا ... ولا أحدا ولم يدعن مخلدا
ألا لا أرى على المنون ممهلا ... ولا باقيا إلا له الموت مرصدا
سيلقاك قرن لا تريد قتاله ... كمي إذا ما هم بالقرن أقصدا
بغاك وما تبغيه . . . . . . . . . . ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وقوله : " حتى وجدته " رواية الديوان " إلا وجدته " . ورواية الطبري عزيزة فهي شاهد قل أن نظفر به على أن " حتى " تأتي بمعنى " إلا " في الاستثناء وقد ذكر ذلك ابن هشام في المغني 1 : 111 قال بعد ذكر وجوه " حتى " : " وبمعنى إلا في لاستثناء ، وهذا أقلها وقل من يذكره " .

(4/163)


3762 - حدثني نصر بن عبد الرحمن الأودي ، قال : حدثنا المحاربي ، عن عمر بن ذر ، عن مجاهد ، قال : كانوا يحجون ولا يتجرون ، فأنزل الله : " ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم " ، قال : في الموسم.
3763 - حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا عمر بن ذر ، قال : سمعت مجاهدا يحدث قال : كان ناس لا يتجرون أيام الحج ، فنزلت فيهم " ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم " . (1)
3764 - حدثني محمد بن عمارة الأسدي ، قال : حدثنا عبيد الله بن موسى ، قال : أخبرنا أبو ليلى ، عن بريدة في قوله تبارك وتعالى : " ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم " ، قال : إذا كنتم محرمين ، أن تبيعوا وتشتروا.
3765 - حدثنا طليق بن محمد الواسطي ، قال : أخبرنا أسباط ، قال : أخبرنا الحسن ابن عمرو ، عن أبي أمامة التيمي قال : قلت لابن عمر : إنا قوم نكرى ، فهل لنا حج ؟ قال : أليس تطوفون بالبيت ، وتأتون المعرف وترمون الجمار ، وتحلقون رؤوسكم ؟ فقلنا : بلى! قال : جاء رجل إلى النبي : صلى الله عليه وسلم فسأله عن الذي سألتني عنه ، فلم يدر ما يقول له ، حتى نزل جبريل عليه السلام عليه بهذه الآية : " ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم " إلى آخر الآية ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : أنتم حجاج. (2)
__________
(1) في المطبوعة : " فنزلت فيهم : لا جناح عليكم أن تبتغوا . . " وبين أنه خطأ وسهو .
(2) الحديث : 3765 - طليق بن محمد بن السكن الواسطي شيخ الطبري : ثقة ، قال ابن حبان في الثقات : " مستقيم الحديث كالأثبات " . وهو من شيوخ النسائي وابن خزيمة وغيرهما . وهذا الباب باب " طليق " : نص الذهبي في المشتبه على أنه بفتح الطاء وتبعه الحافظ ابن حجر في تحرير المشتبه . ولم يذكرا غير هذا الضبط . ولكن الحافظ في التقريب ضبط أول اسم فيه " بالتصغير " بالنص على ذلك . وأنا أرجح أنه وهم منه ، رحمه الله .
أسباط : هو ابن محمد بن عبد الرحمن بن خالد بن ميسرة وهو ثقة من شيوخ أحمد وابن راهويه وغيرهما . الحسن بن عمرو الفقيمي - بضم الفاء - التميمي الكوفي : ثقة أخرج له البخاري في صحيحه ابو أمامة التيمي : تابعي ثقة . بينا ترجمته ومراجعها في شرح المسند : 6434 .
والحديث رواه أحمد في المسند : 6434 عن أسباط بن محمد بهذا الإسناد . وقد فصلنا القول في تخريجه هناك . ونقله ابن كثير 1 : 463 عن المسند و 464 عن هذا الموضع من الطبري وسيأتي بإسناد آخر : 3789 .

(4/164)


3766 - حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الوهاب ، قال : أخبرنا أيوب ، عن عكرمة ، قال : كانت تقرأ هذه الآية : " ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم في مواسم الحج " .
3767 - حدثنا عبد الحميد ، قال : أخبرنا إسحاق ، عن شريك ، عن منصور بن المعتمر في قوله : " ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم " ، قال : هو التجارة في البيع والشراء ، والاشتراء لا بأس به.
3768 - حدثت عن أبي هشام الرفاعي ، قال : حدثنا وكيع ، عن طلحة بن عمرو ، عن عطاء ، عن ابن عباس أنه كان يقرؤها : " ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم في مواسم الحج " .
3769 - حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا عثمان بن سعيد ، عن علي بن مسهر ، عن ابن جريج ، عن عمرو بن دينار ، عن ابن عباس ، قال : كان متجر الناس في الجاهلية عكاظ وذو المجاز ، فلما جاء الإسلام كأنهم كرهوا ذلك ، حتى أنزل الله جل ثناؤه : " ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم " .
3770 - حدثنا الحسن بن عرفة ، قال : حدثنا شبابة بن سوار ، قال : حدثنا شعبة ، عن أبي أميمة ، قال : سمعت ابن عمر - وسئل عن الرجل يحج ومعه تجارة - فقرأ ابن عمر : " ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم " . (1)
3771 - حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا هشيم وحدثنا أحمد بن إسحاق ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا هشيم قال : أخبرنا يزيد بن أبي
__________
(1) الخبر : 3770 - أبو أميمة : الراجح الظاهر أنه " أبو أمامة التيمي " الماضي في الحديث 3765 ، وأن هذا الخبر مختصر من ذاك الحديث ولكنه موقوف على ابن عمر .
وقد نقله ابن كثير 1 : 463 ، عن هذا الموضع من الطبري وقال : " وهذا موقوف ، وهو قوي جيد " .

(4/165)


زياد ، عن مجاهد ، عن ابن عباس ، قال : كانوا لا يتجرون في أيام الحج ، فنزلت : " ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم " .
3772 - حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا حجاج ، عن عطاء ، عن ابن عباس أنه قرأ : (1) " ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم في مواسم الحج " .
3773 - حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا يحيى بن واضح ، قال : حدثنا طلحة بن عمرو الحضرمي ، عن عطاء قوله : " ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم في مواسم الحج " ، هكذا قرأها ابن عباس.
3774 - حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا ابن علية ، قال : حدثنا ليث ، عن مجاهد في قوله : " ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم " ، قال : التجارة في الدنيا ، والأجر في الآخرة.
3775 - حدثنا محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله تعالى : " ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم " ، قال : التجارة ، أحلت لهم في المواسم. قال : فكانوا لا يبيعون ، أو يبتاعون في الجاهلية بعرفة.
3776 - حدثنا المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله.
3777 - حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : " ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم " ، كان هذا الحي من العرب لا يعرجون على كسير ولا ضالة ليلة النفر ، وكانوا يسمونها " ليلة الصدر " ، ولا
__________
(1) في المطبوعة : " قال " مكان " قرأ " وهو سهو من الناسخ ، وانظر الأثر السالف : 3766 ، 3768 ، والآثار التي تلي هذا الأثر .

(4/166)


يطلبون فيها تجارة ولا بيعا ، فأحل الله عز وجل ذلك كله للمؤمنين ، أن يعرجوا على حوائجهم ويبتغوا من فضل ربهم.
3778 - حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا ابن عيينة ، عن عبيد الله بن أبي يزيد ، قال : سمعت ابن الزبير يقرأ : (1) " ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم في مواسم الحج " . (2)
3779 - حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا ابن عيينة ، عن عمرو بن دينار ، قال : قال ابن عباس : كانت ذو المجاز وعكاظ متجرا للناس في الجاهلية ، فلما جاء الإسلام تركوا ذلك حتى نزلت : " ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم في مواسم الحج " .
3780 - حدثنا أحمد بن حازم والمثنى ، قالا حدثنا أبو نعيم ، قال : حدثنا سفيان ، عن محمد بن سوقة ، قال : سمعت سعيد بن جبير يقول : كان بعض الحاج يسمون " الداج " ، فكانوا ينزلون في الشق الأيسر من منى ، وكان الحاج ينزلون عند مسجد منى ، فكانوا لا يتجرون ، حتى نزلت : " ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم " ، فحجوا. (3)
3781 - حدثني أحمد بن حازم ، قال : حدثنا أبو نعيم ، قال : حدثنا عمر بن ذر ، عن مجاهد قال : كان ناس يحجون ولا يتجرون ، حتى نزلت : " ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم " ، فرخص لهم في المتجر والركوب والزاد.
3782 - حدثنا موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا
__________
(1) في المطبوعة : " سمعت ابن الزبير يقول " والصواب من مخطوطة تفسير عبد الرزاق ص : 21 .
(2) الخبر : 3778 - أشار إليه الحافظ في الفتح 3 : 473 وذكر أنه رواه ابن عيينة وابن جريج عن عبيد الله بن أبي يزيد . ولم يذكر من خرجه وقد عرفنا من رواية الطبري أنه خرجه عبد الرزاق عن ابن عيينة . وهو في تفسير عبد الرزاق ص : 21 ، بهذا الإسناد . وهو صحيح عبيد الله بن ألبي يزيد المكي : تابعي ثقة .
(3) الداج : هم الذين مع الحجاج من الأجراء والمكارين والأعوان والخدم ، وظاهر أنهم كانوا لا يحجون مع الناس .

(4/167)


أسباط عن السدي ، قوله : " ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم " ، هي التجارة. قال : اتجروا في الموسم.
3783 - حدثنا محمد بن سعد ، قال : حدثني أبي ، قال : حدثني عمي ، قال : حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : " ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم " ، قال : كان الناس إذا أحرموا لم يتبايعوا حتى يقضوا حجهم ، فأحله الله لهم.
3784 - حدثنا المثنى ، قال : حدثنا أبو نعيم ، قال : حدثنا سفيان ، عن يزيد بن أبي زياد ، عن مجاهد ، عن ابن عباس ، قال : كانوا يتقون البيوع والتجارة أيام الموسم ، يقولون : " أيام ذكر! " فأنزل الله : " ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم " ، فحجوا.
3785 - حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا وكيع ، عن طلحة بن عمرو ، عن عطاء ، عن ابن عباس أنه كان يقرؤها : " ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم في مواسم الحج " .
3786 - حدثنا المثنى ، قال : حدثنا الحماني ، قال : حدثنا شريك ، عن منصور ، عن إبراهيم ، قال : لا بأس بالتجارة في الحج ، ثم قرأ : " ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم " .
3787 - حدثت عن عمار ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع بن أنس قوله : " ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم " ، قال : كان هذا الحي من العرب لا يعرجون على كسير ولا على ضالة ولا ينتظرون لحاجة ، وكانوا يسمونها " ليلة الصدر " ، ولا يطلبون فيها تجارة . فأحل الله ذلك كله ، أن يعرجوا على حاجتهم ، وأن يطلبوا فضلا من ربهم.
3788 - حدثنا أحمد بن إسحاق ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا مندل ، عن عبد الرحمن بن المهاجر ، عن أبي صالح مولى عمر ، قال : قلت لعمر : يا أمير

(4/168)


المؤمنين ، كنتم تتجرون في الحج ؟ قال : وهل كانت معايشهم إلا في الحج.
3789 - حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا الثوري ، عن العلاء بن المسيب ، عن رجل من بني تيم الله ، قال : جاء رجل إلى عبد الله بن عمر ، فقال : يا أبا عبد الرحمن ، إنا قوم نكرى فيزعمون أنه ليس لنا حج ! قال : ألستم تحرمون كما يحرمون ، وتطوفون كما يطوفون ، وترمون كما يرمون ؟ قال : بلى! قال : فأنت حاج! جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسأله عما سألت عنه ، فنزلت هذه الآية : " ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم " . (1)
3790 - حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، قال : كانوا إذا أفاضوا من عرفات لم يتجروا بتجارة ، ولم يعرجوا على كسير ، ولا على ضالة ، فأحل الله ذلك ، فقال : " ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم " إلى آخر الآية.
3791 - حدثني سعيد بن الربيع الرازي ، قال : حدثنا سفيان ، عن عمرو بن دينار ، عن ابن عباس ، قال : كانت عكاظ ومجنة وذو المجاز أسواقا في الجاهلية ، فكانوا يتجرون فيها. فلما كان الإسلام كأنهم تأثموا منها ، فسألوا النبي صلى الله عليه وسلم ، فأنزل الله : " ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم في مواسم الحج. (2)
* * *
__________
(1) الحديث : 3789 - العلاء بن المسيب بن رافع الأسدي : ثقة مأمون ، كما قال ابن معين .
والديث رواه أحمد في المسند : 6435 ، عن عبد الله بن الوليد العدني ، عن سفيان الثوري بهذا الإسناد . وقلنا في شرحه : إن إسناده صحيح ، وأن إبهام الرجل من بني تيم الله - لا يضر ، فقد عرف أنه " أبو أمامة التيمي " . كما مضى في : 3765 . وقد خرجناه مفصلا في المسند .
(2) الحديث : 3791 - سعيد بن الربيع الرازي - شيخ الطبري : لم أجد له ترجمة . وقد ذكر في فهارس تاريخ الطبري بهذا الاسم ، فانتفت شبهة التحريف فيه . و " سفيان " - شيخه : هو ابن عيينة . ويشتبه " سعيد بن الربيع " براو آخر ، هو " سعيد بن الربيع الهروي الجرشي العامري " المترجم في التهذيب . ولكنه قديم الوفاة ، مات سنة 211 قبل ولادة الطبري . وهو من أقدم شيوخ البخاري .
والحديث رواه البخاري 4 : 248 ، 269 ، و 8 : 139 (فتح) من طريق سفيان ابن عيينة بهذا الإسناد .
ورواه أيضًا 3 : 473 - 474 من طريق ابن جريج عن عمرو بن دينار . وذكره ابن كثير 1 : 462 ، من رواية البخاري .
وهذا الحديث من أفراد البخاري - دون مسلم - كما نص على ذلك الحافظ في الفتح 3 : 475 . ولم أجده في مسند أحمد . وهو من الأحاديث الصحاح القليلة ، التي في أحد الصحيحين وليست في المسند .
وقد مضى نحو معناه مختصرا : 3779 ، من رواية عبد الرزاق عن ابن عيينة ومضى كذلك مختصرا : 3771 ، 3784 ، من وجه آخر من رواية مجاهد عن ابن عباس . و 3772 ، 3785 ، من وجه ثالث ، من رواية عطاء عن ابن عباس .

(4/169)


القول في تأويل قوله تعالى : { فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ }
قال أبو جعفر : يعني جل ثناؤه بقوله : " فإذا أفضتم " ، فإذا رجعتم من حيث بدأتم.
* * *
ولذلك قيل للذي يضرب القداح بين الأيسار : " مفيض " ، لجمعه القداح ، ثم إفاضته إياها بين الياسرين. (1) ومنه قول بشر بن أبي خازم الأسدي : (2)
فقلت لها ردي إليه جنانه... فردت كما رد المنيح مفيض (3)
* * *
ثم اختلف أهل العربية في " عرفات " ، والعلة التي من أجلها صُرفت وهي
__________
(1) القداح جمع قدح (بكسر فسكون) : هو السهم قبل أن ينصل ويراش ، كانوا يستقسمون بها في الميسر ، وهي الأزلام أيضًا . والأيسار جمع يس (بفتحين) وهم المجتمعون على الميسر من أشراف الحي . وفي المطبوعة : " المياسرين " والصواب ما أثبت . والياسر : الضارب بالقداح والمتقامر على الجزور اللاعب بالقداح .
(2) في المطبوعة : " ابن أبي حازم " وهو خطأ .
(3) لم أجد هذا البيت في مكان ، ومن القصيدة ثلاثة أبيات في الحيوان 6 : 343 من هذا الشعر ، وهي أبيات جياد . والمنيح : أحد القداح الأربعة التي ليس لها غرم ولا غنم في قداح الميسر ، ولكن قد يمنح صاحبه شيئا من الجزور . ولا أتبين معنى البيت حتى أعرف ما قبله ، وأعرف الضمائر فيه إلى من تعود .

(4/170)


معرفة ، وهل هي اسم لبقعة واحدة أم هي لجماعة بقاع ؟
فقال بعض نحويي البصريين : هي اسم كان لجماعة مثل " مسلمات ، ومؤمنات " ، سميت به بقعة واحدة ، فصرف لما سميت به البقعة الواحدة ، إذ كان مصروفا قبل أن تسمى به البقعة ، تركا منهم له على أصله. لأن " التاء " فيه صارت بمنزلة " الياء والواو " في " مسلمين ومسلمون " ، لأنه تذكيره ، وصار التنوين بمنزلة " النون " . فلما سمي به ترك على حاله ، كما يترك " المسلمون " إذا سمي به على حاله. (1) قال : ومن العرب من لا يصرفه إذا سمي به ، ويشبه " التاء " بهاء التأنيث ، وذلك قبيح ضعيف ، واستشهدوا بقول الشاعر : (2)
تنورتها من أذرعات وأهلها... بيثرب أدنى دارها نظر عالي (3)
ومنهم من لا ينون " أدرعات " وكذلك : " عانات " ، وهو مكان.
وقال بعض نحويي الكوفيين : إنما انصرفت " عرفات " ، لأنهن على جماع مؤنث " بالتاء " . قال : وكذلك ما كان من جماع مؤنث " بالتاء " ، ثم سميت به رجلا أو مكانا أو أرضا أو امرأة ، انصرفت. قال : ولا تكاد العرب تسمي شيئا من الجماع إلا جماعا ، ثم تجعله بعد ذلك واحدا.
__________
(1) هو قول الأخفش (اللسان : عرف) ومعجم البلدان (عرفات) وانظر سيبويه 2 : 17 - 18 .
(2) هو امرؤ القيس بن حجر .
(3) ديوانه : 140 ، وسيبويه 2 : 18 والخزانة 1 : 26 وهو من قصيدته الرائعة المشهورة والضمير في قوله : " تنورتها " للمرأة التي يذكرها (انظر طبقات فحول الشعراء : 68 تعليق : 3) . وتنورالنار أبصرها من بعيد جعل المرأة تضيء له فيراها كالنار المشبوبة . وأذرعات : بلد بالشام . ويثرب : مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم كان هذا اسمها في الجاهلية . يقول : لاح له نورها في الظلماء ، وهو بالشام وأهلها بالمدينة . ثم يقول : أقرب ما يرى منها لا يرى إلا من مكان عال في جو السماء . يصف بعد ما بينه وبينها ، ومع ذلك فقد لاحت له في الليل من هذا المكان البعيد ، وأتم المعنى في البيت لتالي :
نظرت إليها والنجوم كأنها مصابيح رهبان تشب لقفال

(4/171)


وقال آخرون منهم : ليست " عرفات " حكاية ، ولا هي اسم منقول ، (1) ولكن الموضع مسمى هو وجوانبه " بعرفات " ، ثم سميت بها البقعة. اسم للموضع ، ولا ينفرد واحدها. قال : وإنما يجوز هذا في الأماكن والمواضع ، ولا يجوز ذلك في غيرها من الأشياء. قال : ولذلك نصبت العرب " التاء " في ذلك ، لأنه موضع. ولو كان محكيا ، لم يكن ذلك فيه جائزا ، لأن من سمى رجلا " مسلمات " أو " مسلمين " لم ينقله في الإعراب عما كان عليه في الأصل ، فلذلك خالف : " عانات ، وأذرعات " ، ما سمي به من الأسماء على جهة الحكاية.
* * *
قال أبو جعفر : واختلف أهل العلم في المعنى الذي من أجله قيل لعرفات " عرفات " . فقال بعضهم : قيل لها ذلك من أجل أن إبراهيم خليل الله صلوات الله عليه لما رآها عرفها بنعتها الذي كان لها عنده ، فقال : قد عرفت ، فسميت عرفات بذلك. وهذا القول من قائله يدل على أن عرفات اسم للبقعة ، وإنما سميت بذلك لنفسها وما حولها ، كما يقال : ثوب أخلاق ، وأرض سباسب ، فتجمع بما حولها. (2)
* ذكر من قال ذلك :
3792 - حدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو ، عن أسباط ، عن السدي ، قال : لما أذن إبراهيم في الناس بالحج ، فأجابوه بالتلبية ، وأتاه من أتاه أمره الله أن يخرج إلى عرفات ، ونعتها فخرج ، فلما بلغ الشجرة عند العقبة ، استقبله الشيطان يرده ، فرماه بسبع حصيات ، يكبر مع كل حصاة ، فطار فوقع على الجمرة الثانية ، فصده أيضا ، فرماه وكبر ، فطار فوقع على الجمرة الثالثة ، فرماه وكبر.
__________
(1) الحكاية : الإتيان باللفظ على ما كان عليه من قبل ، وسيظهر معناها في الأسطر الآتية .
(2) انظر ما سلف 1 : 433 .

(4/172)


فلما رأى أنه لا يطيقه ، ولم يدر إبراهيم أين يذهب ، (1) انطلق حتى أتى ذا المجاز ، (2) فلما نظر إليه فلم يعرفه جاز ، فلذلك سمي : " ذا المجاز " . ثم انطلق حتى وقع بعرفات ، فلما نظر إليها عرف النعت ، قال : " قد عرفت! " فسمي : " عرفات " . فوقف إبراهيم بعرفات ، حتى إذا أمسى ازدلف إلى جمع ، فسميت : " المزدلفة " ، فوقف بجمع. (3)
3793 - حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الرزاق ، عن معمر ، عن سليمان التيمي ، عن نعيم بن أبي هند ، قال : لما وقف جبريل بإبراهيم عليهما السلام بعرفات ، قال : " عرفت! " ، فسميت عرفات لذلك.
3794 - حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا ابن جريج ، قال : قال ابن المسيب : قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه : بعث الله جبريل إلى إبراهيم فحج به ، فلما أتى عرفة قال : " قد عرفت! " ، وكان قد أتاها مرة قبل ذلك ، ولذلك سميت " عرفة " .
* * *
وقال آخرون : بل سميت بذلك بنفسها وببقاع أخر سواها.
* ذكر من قال ذلك :
3795 - حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا وكيع بن مسلم القرشي ، عن أبي طهفة ، عن أبي الطفيل ، عن ابن عباس قال : إنما سميت عرفات ، لأن جبريل عليه السلام ، كان يقول لإبراهيم : هذا موضع كذا ، هذا موضع كذا ، فيقول : " قد عرفت! " ، فلذلك سميت " عرفات " . (4)
__________
(1) في المطبوعة : " فلما رأى أنه لا يطيعه ، فلم يدر إبراهيم " والصواب ما أثبته عن نص الطبري آنفًا ، كما سيأتي في المراجع بعد .
(2) في المطبوعة : " فانطلق " والصواب ما أثبت .
(3) الأثر : 3792 - قد سلف تاما برقم : 2065 ، والتصويب السالف منه .
(4) الخبر : 3795 - هذا إسناد مشكل ، لا أدري ما وجه صوابه . أما " وكيع بن مسلم القرشي " : فما وجدت راويا بهذا الاسم ولا ما يشبهه . والذي أكاد أجزم به أنه " وكيع بن الجراح " الإمام المعروف . وأن كلمة " بن " محرفة عن كلمة " عن " ثم يزيد الإشكال أن لم أجد من اسمه " مسلم القرشي " وإشكال ثالث ، أن " أبا طهفة " هذا لا ندري ما هو ؟
واليقين - عندي - أن الإسناد محرف غير مستقيم .

(4/173)


3796 - حدثني المثنى ، قال : حدثنا سويد ، قال : أخبرنا ابن المبارك ، عن عبد الملك بن أبي سليمان ، عن عطاء قال : إنما سميت عرفة أن جبريل كان يري إبراهيم عليهما السلام المناسك ، فيقول : " عرفت ، عرفت! " فسمي " عرفات " .
3797 - حدثني المثنى ، قال : حدثنا سويد ، قال : أخبرنا ابن المبارك ، عن زكريا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قال : قال ابن عباس : أصل الجبل الذي يلي عرنة وما وراءه موقف ، حتى يأتي الجبل جبل عرفة.
وقال ابن أبي نجيح : عرفات : " النبعة " و " النبيعة " و " ذات النابت " ، وذلك قول الله : " فإذا أفضتم من عرفات " ، وهو الشعب الأوسط.
وقال زكريا : ما سال من الجبل الذي يقف عليه الإمام إلى عرفة ، فهو من عرفة ، وما دبر ذلك الجبل فليس من عرفة.
* * *
وهذا القول يدل على أنها سميت بذلك نظير ما يسمى الواحد باسم الجماعة المختلفة الأشخاص.
* * *
قال أبو جعفر : وأولى الأقوال بالصواب في ذلك عندي أن يقال : هو اسم لواحد سمي بجماع ، فإذا صرف ذهب به مذهب الجماع الذي كان له أصلا. وإذا ترك صرفه ذهب به إلى أنه اسم لبقعة واحدة معروفة ، فترك صرفه كما يترك صرف أسماء الأمصار والقرى المعارف.
* * *

(4/174)


القول في تأويل قوله تعالى : { فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ }
قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه : فإذا أفضتم فكررتم راجعين من عرفة ، إلى حيث بدأتم الشخوص إليها منه ، " فاذكروا الله " ، يعني بذلك : الصلاة ، والدعاء عند المشعر الحرام.
* * *
وقد بينا قبل أن " المشاعر " هي المعالم ، من قول القائل : " شعرت بهذا الأمر " ، أي علمت ، ف " المشعر " ، هو المعلم ، (1) سمي بذلك لأن الصلاة عنده والمقام والمبيت والدعاء ، من معالم الحج وفروضه التي أمر الله بها عباده. وقد : -
3798 - حدثني المثنى ، قال : حدثنا سويد ، قال : أخبرنا ابن المبارك ، عن زكريا ، عن ابن أبي نجيح ، قال : يستحب للحاج أن يصلي في منزله بالمزدلفة إن استطاع ، وذلك أن الله قال : " فاذكروا الله عند المشعر الحرام واذكروه كما هداكم " .
* * *
فأما " المشعر " : فإنه هو ما بين جبلي المزدلفة من مأزمي عرفة إلى محسر.
وليس مأزما عرفة من " المشعر " . (2)
وبالذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
__________
(1) انظر ما سلف في الجزء 3 : 226 ، 227 (بولاق) تفسير " شعائر " .
(2) المأزم : كل طريق ضيق بين جبلين . ومأزما عرفة : مضيق ين جمع وعرفة .

(4/175)


3799 - حدثنا هناد بن السري قال : حدثنا ابن أبي زائدة ، قال : أخبرنا إسرائيل ، عن مغيرة ، عن إبراهيم ، قال : رأى ابن عمر الناس يزدحمون على الجبيل بجمع فقال : أيها الناس إن جمعا كلها مشعر.
3800 - حدثني يعقوب ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا حجاج ، عن نافع ، عن ابن عمر أنه سئل عن قوله : " فاذكروا الله عند المشعر الحرام " ، قال : هو الجبل وما حوله.
3801 - حدثنا هناد ، قال : حدثنا ابن أبي زائدة ، قال : أخبرنا إسرائيل ، عن حكيم بن جبير ، عن ابن عباس قال : ما بين الجبلين اللذين بجمع مشعر.
3802 - حدثنا هناد ، قال : حدثنا ابن أبي زائدة ، قال : أخبرنا الثوري ، عن السدي ، عن سعيد بن جبير ، مثله.
3803 - حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا الثوري وحدثني أحمد بن حازم قال : حدثنا أبو نعيم ، قال : حدثنا سفيان عن السدي ، عن سعيد بن جبير ، قال : سألته عن المشعر الحرام فقال : ما بين جبلي المزدلفة.
3804 - حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن الزهري ، عن سالم ، عن ابن عمر ، قال : " المشعر الحرام " المزدلفة كلها قال معمر : وقاله قتادة.
3805 - حدثنا هناد ، قال : حدثنا وكيع ، قال : أنبأنا الثوري ، عن السدي ، عن سعيد بن جبير : " فاذكروا الله عند المشعر الحرام " ، قال : ما بين جبلي المزدلفة هو المشعر الحرام.
3806 - حدثنا هناد ، قال : حدثنا ابن أبي زائدة ، قال : أخبرنا أبي ، عن أبي إسحاق ، عن عمرو بن ميمون ، قال : سألت عبد الله بن عمر عن المشعر الحرام ،

(4/176)


فقال : إذا انطلقت معي أعلمتكه. قال : فانطلقت معه ، فوقفنا حتى إذا أفاض الإمام سار وسرنا معه ، حتى إذا هبطت أيدي الركاب ، وكنا في أقصى الجبال مما يلي عرفات قال : أين السائل عن المشعر الحرام ؟ أخذت فيه ! قلت : ما أخذت فيه ؟ قال : كلها مشاعر إلى أقصى الحرم.
3807 - حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا إسرائيل وحدثنا أحمد بن إسحاق ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا إسرائيل عن أبي إسحاق ، عن عمرو بن ميمون الأودي ، قال : سألت عبد الله بن عمر ، عن المشعر الحرام قال : إن تلزمني أركه. قال : فلما أفاض الناس من عرفة وهبطت أيدي الركاب في أدنى الجبال ، قال : أين السائل عن المشعر الحرام ؟ قال : قلت : ها أنا ذاك ، قال : أخذت فيه! قلت : ما أخذت فيه ! قال : حين هبطت أيدي الركاب في أدنى الجبال فهو مشعر إلى مكة.
3808 - حدثنا هناد ، قال : حدثنا وكيع ، عن عمارة بن زاذان ، عن مكحول الأزدي ، قال : سألت ابن عمر يوم عرفة عن المشعر الحرام ؟ فقال : الزمني ! فلما كان من الغد وأتينا المزدلفة ، قال : أين السائل عن المشعر الحرام ؟ هذا المشعر الحرام.
3809 - حدثنا هناد ، قال : حدثنا ابن أبي زائدة ، قال : أخبرنا داود ، عن ابن جريج ، قال : قال مجاهد : المشعر الحرام : المزدلفة كلها.
3810 - حدثنا هناد ، قال : حدثنا ابن أبي زائدة ، قال : أخبرنا داود ، عن ابن جريج ، قال : قلت لعطاء : أين المزدلفة ؟ قال : إذا أفضت من مأزمي عرفة ، فذلك إلى محسر. قال : وليس المأزمان مأزما عرفة من المزدلفة ، ولكن مفاضاهما.
قال : قف بينهما إن شئت ، وأحب إلي أن تقف دون قزح. هلم إلينا من أجل طريق الناس!.
3811 - حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ،

(4/177)


عن مغيرة ، عن إبراهيم ، قال : رآهم ابن عمر يزدحمون على قزح ، فقال : علام يزدحم هؤلاء ؟ كل ما ههنا مشعر!.
3812 - حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قال : المشعر الحرام المزدلفة كلها.
3813 - حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله.
3814 - حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : " فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام " وذلك ليلة جمع. قال قتادة : كان ابن عباس يقول : ما بين الجبلين مشعر.
3815 - حدثنا موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي ، قال : المشعر الحرام هو ما بين جبال المزدلفة ويقال : هو قرن قزح. (1)
3816 - حدثت عن عمار ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : " فاذكروا الله عند المشعر الحرام " ، وهي المزدلفة ، وهي جمع.
* * *
* وذكر عن عبد الرحمن بن الأسود ما : -
3817 - حدثنا به هناد ، قال : حدثنا وكيع ، عن إسرائيل ، عن جابر ، عن عبد الرحمن بن الأسود ، قال : لم أجد أحدا يخبرني عن المشعر الحرام.
3818 - حدثنا أحمد بن إسحاق ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا سفيان ، عن السدي ، قال : سمعت سعيد بن جبير يقول : المشعر الحرام : ما بين جبلي مزدلفة.
3819 - حدثنا أحمد ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا قيس ، عن حكيم بن جبير ، عن سعيد بن جبير ، قال : سألت ابن عمر عن المشعر الحرام فقال :
__________
(1) القرن : الجبل الصغير المستطيل المنقطع عن الجبل الكبير .

(4/178)


ما أدري ؟ وسألت ابن عباس ، فقال : ما بين الجبلين.
3820 - حدثنا أحمد ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا إسرائيل : عن أبي إسحاق ، عن الضحاك ، عن ابن عباس ، قال : الجبيل وما حوله مشاعر.
3821 - حدثنا أحمد ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا إسرائيل ، عن ثوير ، قال : وقفت مع مجاهد على الجبيل ، فقال : هذا المشعر الحرام.
3822 - حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا حسن بن عطية ، قال : حدثنا إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن الضحاك ، عن ابن عباس ، الجبيل وما حوله مشاعر.
* * *
قال أبو جعفر : وإنما جعلنا أول حد المشعر مما يلي منى ، منقطع وادي محسر مما يلي المزدلفة ، لأن : -
3823 - المثنى حدثني قال : حدثنا سويد ، قال : أخبرنا ابن المبارك ، عن سفيان ، عن زيد بن أسلم ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " عرفة كلها موقف إلا عرنة ، وجمع كلها موقف إلا محسرا " . (1)
3824 - حدثني يعقوب ، قال : حدثني هشيم ، عن حجاج ، عن ابن أبي مليكة ، عن عبد الله بن الزبير ، أنه قال : كل مزدلفة موقف إلا وادي محسر.
3825 - حدثني يعقوب ، قال : حدثنا هشيم ، عن حجاج ، قال : أخبرني من سمع عروة بن الزبير يقول مثل ذلك.
__________
(1) الحديث : 3823 - هذا حديث مرسل كما قال ابن كثير 1 : 467 وقد رواه مالك في الموطأ ص : 388 " أنه بلغه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم " - دون إسناد . وذكره ابن عبد البر في كتاب " التقصي " رقم : 839 . وقال : " وهذا الحديث يتصل من حديث جابر بن عبد الله ومن حديث ابن عباس ، ومن حديث علي بن أبي طالب " . وحديث جابر رواه مسلم 1 : 348 ولكن ليس فيه استثناء " عرنة " و " محسر " ورواه ابن ماجه : 3012 من حديث جابر وفيه هذا الاستثناء . وإسناده ضعيف جدا .
وانظر السنن الكبرى للبيهقي 5 : 115 ، والتلخيص الحبير ص : 216 ونصب الراية 3 : 60 - 62 .

(4/179)


3826 - حدثني المثنى ، قال : حدثنا سويد بن نصر ، قال : أخبرنا ابن المبارك ، عن سفيان ، عن هشام بن عروة ، قال : قال عبد الله بن الزبير في خطبته : تعلمن أن عرفة كلها موقف إلا بطن عرنة ، تعلمن أن مزدلفة كلها موقف إلا بطن محسر. (1)
* * *
قال أبو جعفر : غير أن ذلك وإن كان كذلك فإني أختار للحاج أن يجعل وقوفه لذكر الله من المشعر الحرام على قزح وما حوله ، لأن : -
3827 - أبا كريب حدثنا ، قال : حدثنا عبيد الله بن موسى ، عن إبراهيم بن إسماعيل بن مجمع ، عن عبد الرحمن بن الحارث المخزومي ، عن زيد بن علي ، عن عبيد الله بن أبي رافع ، عن علي قال : لما أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمزدلفة ، غدا فوقف على قزح ، وأردف الفضل ، ثم قال : هذا الموقف ، وكل مزدلفة موقف.
3828 - حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا يونس بن بكير ، قال : أخبرنا إبراهيم بن إسماعيل بن مجمع ، عن عبد الرحمن بن الحارث ، عن زيد بن علي بن الحسين ، عن عبيد الله بن أبي رافع عن أبي رافع ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بنحوه. (2)
__________
(1) الخبر : 3826 - رواه مالك في الموطأ ص 388 ، بنحوه عن هشام بن عروة عن عبد الله بن الزبير .
(2) الحديثان : 3827 ، 3828 - إبراهيم بن إسمعيل بن مجمع الأنصاري المدني : ضعيف قال ابن معين : " ليس بشيء " وقال البخاري : " كثير الوهم " . عبد الرحمن بن الحارث بن عبد الله بن عياش بن أبي ربيعة المخزومي : ثقة من أهل العلم . ين بن علي بن أبي طالب : ثقة معروف ، لا يحتاج إلى تعريف . وهو الذي تنسب إليه الزيدية من الشيعة . وكان حربا على الرافضة . وهو يروى عن عبيد الله بن أبي رافع مباشرة ، ولكنه روى هذا الحديث بعينه - كما سيأتي في التخريج - عن أبيه زين العابدين علي بن الحسين عن عبيد الله . عبيد الله بن أبي رافع المدني ، مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم : تابعي ثقة . وكان كاتبا لعلي بن أبي طالب رضي اله عنه .
وهذا الحديث مختصر من حديث مطول . وقد أخطأ فيه إبراهيم بن إسماعيل بن مجمع : فحذف من الإسناد [عن أبيه] بين زيد بن علي وعبيد الله بن أبي رافع . وذكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم " أردف الفضل " - في هذا الحديث . وإنما " أردف أسامة بن زيد " . وإرداف الفضل بن عباس كان في حادثة أخرى .
والحديث رواه احمد في المسند : 1347 ، عن يحيى بن آدم عن سفيان - وهو الثوري - " عن عبد الرحمن بن عياش عن زيد بن علي ، عن أبيه عن عبيد الله بن أبي رافع عن علي قال : وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم بعرفة فقال : هذا الموقف وعرفة كلها موقف ثم أردف أسامة فجعل يعتق على ناقته ، والناس يضربون الإبل يمينا وشمالا ، لا يلتفت إليهم " . وهذا مختصر أيضًا . ورواه أبو داود : 1922 ، عن أحمد بن حنبل بهذا الإسناد واختصره قليلا .
ورواه أحمد : 562 عن أبي أحمد الزبيري عن سفيان بهذا الإسناد مطولا . وفيه - بعد إرداف أسامة - " ثم أتى قزح فوقف على قزح ، فقال : هذا الموقف وجمع كلها موقف . . . " - إلى آخره مطولا .
ورواه عبد الله بن أحمد ، في زيادات المسند : 564 من طريق المغيرة بن عبد الرحمن المخزومي عن أبيه . و 613 من طريق مسلم بن خالد الزنجي ، عن عبد الرحمن المخزومي - بهذا الإسناد مطولا أيضًا .
ورواه الترمذي 2 : 100 - 101 ، مطولا من طريق أبي أحمد الزبيري عن الثوري وقال : " حديث حسن صحيح ، لا نعرفه من حديث علي إلا من هذا الوجه من حديث عبد الرحمن بن الحارث ابن عياش . وقد رواه غير واحد عن الثوري مثل هذا " .

(4/180)


3829 - حدثنا هناد وأحمد الدولابي ، قالا حدثنا سفيان ، عن ابن المنكدر ، عن سعيد بن عبد الرحمن بن يربوع عن ابن الحويرث ، قال : رأيت أبا بكر واقفا على قزح وهو يقول : أيها الناس أصبحوا ! أيها الناس أصبحوا ! ثم دفع. (1)
__________
(1) الخر : 3829 - سفيان : هو ابن عيينة . ابن المنكدر : هو محمد بن المنكدر التيمي : أحد الأئمة الأعلام من التابعين .
سعيد بن عبد الرحمن بن يربوع : ترجمه الحافظ في التعجيل ص : 154 وذكر أنه مخزومي وأشار إلى هذا الخبر من روايته . وقال : " وقع عند غيره : عبد الرحمن بن سعيد بن يربوع " . ويريد : عند غير الشافعي ، لأن هذا الخبر رواه الشافعي كما سيأتي . وقد رمز لهذه الترجمة في التعجيل بحرف الألف ، وهو رمز " أحمد " في المسند . وهو خطأ مطبعي . وصحته " فع " رمز الشافعي . وعبد الرحمن ابن سعيد بن يربوع : مترجم في التهذيب 6 : 187 وابن سعد 5 : 111 وابن أبي حاتم 2/2/239 ، ولكن جميع روايات هذا الخبر فيها " سعيد بن عبد الرحمن بن يربوع " . وأنا أرجح بما يظهر لي من الترجمتين : أن الراوي هنا غير المترجم في التهذيب ومن المحتمل أن راوي هذا الخبر ابن +الذي في التهذيب . خصوصا وأن ابن أبي حاتم ذكره في ترجمة " ابن الحويرث " راويا عنه . وإن لم يترجم هو ولا البخاري في الكبير ل " سعيد بن عبد الرحمن بن يربوع " .
ابن الحويرث : هو جبير بن الحويرث . ترجمه ابن أبي حاتم 1/1/512 وقال : " روى عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه . روى عنه سعيد بن عبد الرحمن بن يربوع " . وكذلك ترجمه ابن عبد البر في الاستيعاب رقم : 317 ثم قال : " في صحبته نظر " . وترجمه ابن الأثير في أسد الغابة 1 : 270 وقال : " وقتل أبوه يوم فتح مكة قتله علي . وهذا يدل على أن لابنه جبير صحبة أو رؤية " . وكذلك رجح صحبته - الحافظ في الإصابة 1 : 235 والتعجيل : 66 - 67 . وكلهم ذكر أباه باسم " الحويرث " إلا المصعب الزبيري في نسب قريش ص : 257 فإنه ذكره باسم " الحارث " و " الحويرث " هو الصواب الموافق لما في سيرة ابن هشام ، ص : 819 (طبعة أوربة) وطبقات ابن سعد 1/2/90 .
وهذا الخبر رواه الشافعي في الأم 2 : 180 عن سفيان بن عيينة بهذا الإسناد بزيادة في آخره ولكن فيه : " عن أبي الحويرث " وكذلك ثبت في مسنده بترتيب الشيخ عابد السندي 1 : 256 . ووقع في مسند الشافعي المطبوع بهامش الجزء 6 من الأم : " عن جوبير بن حويرث " . وهذا الضطراب يدل على تحريف الاسم في بعض نسخ الأم ومسند الشافعي . خصوصا وأن الحافظ ابن حجر ذكر اسمه في التعجيل على الصواب ولم يذكر فيه خلافا ، لو كان هذا اختلاف رواية مع أنه رمز له برمز الشافعي وحده . ولعل هذا الخطأ كان في بعض نسخ الأم . ومسند الشافعي القديمة وأن هذا حمل البيهقي على أن يروي الخبر من غير طريق الشافعي خلافا لعادته الغالبة .
فقد رواه البيهقي 5 : 125 ، من طريق سعدان بن نصر عن سفيان وهو ابن عيينة - بهذا الإسناد . ورواه ابن حزم في المحلى 3 : 215 - 216 من طريق محمد بن المثنى عن سفيان به .

(4/181)


3830 - حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا هارون ، عن عبد الله بن عثمان ، عن يوسف بن ماهك ، قال : حججت مع ابن عمر ، فلما أصبح بجمع صلى الصبح ، ثم غدا وغدونا معه حتى وقف مع الإمام على قزح ، ثم دفع الإمام فدفع بدفعته.
* * *
وأما قول عبد الله بن عمر حين صار بالمزدلفة : " هذا كله مشاعر إلى مكة " ، فإن معناه أنها معالم من معالم الحج ينسك في كل بقعة منها بعض مناسك الحج لا أن كل ذلك " المشعر الحرام " الذي يكون الواقف حيث وقف منه إلى بطن مكة قاضيا ما عليه من الوقوف بالمشعر الحرام من جمع.
* * *

(4/182)


وأما قول عبد الرحمن بن الأسود : " لم أجد أحدا يخبرني عن المشعر الحرام " فلأنه يحتمل أن يكون أراد : لم أجد أحدا يخبرني عن حد أوله ومنتهى آخره على حقه وصدقه. لأن حدود ذلك على صحتها حتى لا يكون فيها زيادة ولا نقصان ، لا يحيط بها إلا القليل من أهل المعرفة بها. غير أن ذلك وإن لم يقف على حد أوله ومنتهى آخره وقوفا لا زيادة فيه ولا نقصان إلا من ذكرت ، فموضع الحاجة للوقوف لا خفاء به على أحد من سكان تلك الناحية وكثير من غيرهم. وكذلك سائر مشاعر الحج ، والأماكن التي فرض الله عز وجل على عباده أن ينسكوا عندها كعرفات ومنى والحرم.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ (198)}
قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه : واذكروا الله أيها المؤمنون عند المشعر الحرام بالثناء عليه ، والشكر له على أياديه عندكم ، وليكن ذكركم إياه بالخضوع لأمره ، والطاعة له والشكر على ما أنعم عليكم من التوفيق ، لما وفقكم له من سنن إبراهيم خليله بعد الذي كنتم فيه من الشرك والحيرة والعمى عن طريق الحق وبعد الضلالة كذكره إياكم بالهدى ، حتى استنقذكم من النار به بعد أن كنتم على شفا حفرة منها ، فنجاكم منها. وذلك هو معنى قوله : " كما هداكم " .
* * *
وأما قوله : " وإن كنتم من قبله لمن الضالين " ، فإن من أهل العربية من يوجه تأويل " إن " إلى تأويل " ما " ، وتأويل اللام التي في " لمن " إلى " إلا " . (1)
__________
(1) هذا توجيه الكوفيين انظر المعنى لابن هشام 1 : 191 وغيره .

(4/183)


ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (199)

فتأويل الكلام على هذا المعنى : وما كنتم من قبل هداية الله إياكم لما هداكم له من ملة خليله إبراهيم التي اصطفاها لمن رضي عنه من خلقه إلا من الضالين.
* * *
ومنهم من يوجه تأويل " إن " إلى " قد " .
فمعناه على قول قائل هذه المقالة : واذكروا الله أيها المؤمنون كما ذكركم بالهدى ، فهداكم لما رضيه من الأديان والملل ، وقد كنتم من قبل ذلك من الضالين.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ }
قال أبو جعفر : اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك ، ومن المعني بالأمر بالإفاضة من حيث أفاض الناس ؟ ومن " الناس " الذين أمروا بالإفاضة من موضع إفاضتهم ؟
فقال بعضهم : المعني بقوله : " ثم أفيضوا " ، قريش ومن ولدته قريش ، الذين كانوا يسمون في الجاهلية " الحمس " ، أمروا في الإسلام أن يفيضوا من عرفات ، وهي التي أفاض منها سائر الناس غير الحمس. وذلك أن قريشا ومن ولدته قريش ، كانوا يقولون : " لا نخرج من الحرم " . فكانوا لا يشهدون موقف الناس بعرفة معهم ، فأمرهم الله بالوقوف معهم.
* ذكر من قال ذلك :
3831 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن عبد الرحمن الطفاوي ، قال : حدثنا هشام بن عروة ، عن أبيه. عن عائشة قالت : كانت

(4/184)


قريش ومن كان على دينها - وهم الحمس - يقفون بالمزدلفة يقولون : " نحن قطين الله! " ، وكان من سواهم يقفون بعرفة. فأنزل الله : " ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس " (1)
3832 - حدثنا عبد الوارث بن عبد الصمد بن عبد الوارث ، قال : حدثني أبي ، قال : حدثنا أبان ، قال : حدثنا هشام بن عروة ، عن عروة : أنه كتب إلى عبد الملك بن مروان كتبت إلي في قول النبي صلى الله عليه وسلم لرجل من الأنصار : " إني أحمس " (2) وإني لا أدري أقالها النبي أم لا ؟ غير أني سمعتها تحدث عنه. والحمس : ملة قريش - وهم مشركون - ومن ولدت قريش في خزاعة وبني كنانة. كانوا لا يدفعون من عرفة ، إنما كانوا يدفعون من المزدلفة وهو المشعر الحرام ، وكانت بنو عامر حمسا ، وذلك أن قريشا ولدتهم ، ولهم قيل : " ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس " ، وأن العرب كلها كانت تفيض من عرفة إلا الحمس ، كانوا يدفعون إذا أصبحوا من المزدلفة. (3)
__________
(1) الحديث : 3831 - محمد بن عبد الرحمن الطفاوي بضم الطاء المهملة : ثقة من شيوخ أحمد وابن المديني وغيرهما .
والحديث رواه البخاري 8 : 139 (فتح) عن ابن المديني عن محمد بن خازم عن هشام به ، مطولا قليلا . وكذلك رواه مسلم 1 : 348 عن يحيى بن يحيى عن أبي معاوية وهو محمد بن خازم به .
القطين اسم جماعة واحدهم قاطن والجمع قطان : وهم سكان الدار المقيمون بها لا يبرحونها وقولهم " نحن قطين الله " فيه محذوف أي : قطين بيت الله وحرمه . ولو حمل على قولهم : القطين هم الخدم لكان معناه : خدم الله والقائمون بأمر بيته ، بلا حاجة إلى تقدير محذوف . وهو جيد أيضًا .
(2) انظر الآثار السالفة من رقم : 3077 - 3087 ففيها خبر الأنصاري ومقالة رسول الله له .
(3) الحديث : 3832 - أبان : هو ابن يزيد العطار وهو ثقة وثقه ابن معين والنسائي وغيرهما .
وهذا الحديث بهذا السياق - لم أجده في موضع آخر . ومعناه ثابت في الحديث الذي قبله ، وفي حديث مطول آخر ، رواه البخاري 3 : 411 - 413 (فتح) . من طريق علي بن مسهر . ومسلم : 348ن من طريق أبي أسامة - كلاهما عن هشام بن عروة عن أبيه .
وانظر أيضًا ما مضى في الطبري : 3077 - 3087 .
وقول عروة - هنا - " غير أني سمعتها تحدث عنه " : يريد به خالته " عائشة أم المؤمنين " وأنها تحدث ذلك عن رسول اله صلى الله عليه وسلم . وهذا واضح من سياق القول ومن سائر الروايات الأخر . ولعله عبر عنهما بالضمير لسبق ذكرهما في سؤال عبد الملك بن مروان الذي يجيبه بهذا القول .

(4/185)


3833 - حدثني أحمد بن محمد الطوسي ، قال : حدثنا أبو توبة ، قال : حدثنا أبو إسحاق الفزاري ، عن سفيان ، عن حسين بن عبيد الله ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، قال : كانت العرب تقف بعرفة ، وكانت قريش تقف دون ذلك بالمزدلفة ، فأنزل الله : " ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس " ، فرفع النبي صلى الله عليه وسلم الموقف إلى موقف العرب بعرفة. (1)
3834 - حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا حكام ، عن عبد الملك ، عن عطاء : " ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس " من حيث تفيض جماعة الناس.
3835 - حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا الحكم ، قال : حدثنا عمرو بن قيس ، عن عبد الله بن طلحة ، عن مجاهد قال : إذا كان يوم عرفة هبط الله إلى
__________
(1) الحديث : 3833 - أحمد بن محمد الطوسي شيخ الطبري : روى عنه في لتاريخ 1 : 8 ، 17 باسم " أحمد بن محمد بن حبيب " . ثم في 1 : 67 باسم " أحمد بن محمد الطوسي " كما هنا . ثم في 1 : 209 باسم " أحمد بن محمد بن حبيب الطوسي " . فتعين أنه هو وهو مترجم لتهذيب وتاريخ بغداد 5 : 108 - 109 ، باسم " أحمد بن محمد بن نيزك بن حبيب أبو جعفر يعرف بالطوسي " . وهو من شيوخ لترمذي وذكره ابن حبان في الثقات . و " نيزك " : بكسر النون وفتح الزاي بينهما ياء تحتية ، كما ضبط في التقريب والخلاصة .
أبو توبة : هو الربيع بن نافع الحلبي سكن طرسوس وهو ثقة صدوق حجة كما قال أبو حاتم وهو من شيوخه وشيوخ الإمام أحمد وأبي داود وغيرهم .
أبو إسحاق الفزاري : هو الحافظ الحجة شيخ الإسلام إراهيم بن محمد بن الحارث بن أسماء بن خارجة بن حصن وهو الثقة المأمون الإمام . شيخه سفيان : هو الثوري .
حسين بن عبيد اله : هو حسين بن عبد الله بن عبيد الله بن العباس بن عبد المطلب وهو ضعيف ضعفه ابن معين وابن المديني وأبو حاتم وغيرهم . ولعله نسب هنا إلى جده بل لعل الأصل " بن عبد الله " فحرفها الناسخون . وإنما جزمت بأنه هو : لأنه هو الذي يروي عن عكرمة ويروي عنه الثوري كما في ترجمته عند ابن أبي حاتم 1/2/57 . ثم ما في هذه الطبقة من الرواة من يسمى " حسين بن عبيد الله " . بل ليس في التهذيب ولا في الكبير ولا عند ابن أبي حاتم من يدعي ذلك . نعم هناك رواة بهذا الاسم في لسان الميزان وكلهم متأخرون عن هذه الطبقة .
وهذا الحديث لم أجده في غير الطبري ، ولم ينسبه السيوطي 1 : 227 لغيره .

(4/186)


السماء الدنيا في الملائكة ، فيقول : هلم إلي عبادي ، آمنوا بوعدي وصدقوا رسلي ! فيقول : ما جزاؤهم ؟ فيقال : أن تغفر لهم. فذلك قوله : " ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس واستغفروا الله إن الله غفور رحيم " .
3836 - حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح وحدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح عن مجاهد : " ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس " ، قال : عرفة. قال : كانت قريش تقول نحن : " الحمس أهل الحرم ، ولا نخلف الحرم ، ونفيض عن المزدلفة " ، فأمروا أن يبلغوا عرفة.
3837 - حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : " ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس " ، قال قتادة : وكانت قريش وكل حليف لهم وبني أخت لهم ، لا يفيضون من عرفات ، إنما يفيضون من المغمس ، ويقولون : " إنما نحن أهل الله ، فلا نخرج من حرمه " ، فأمرهم الله أن يفيضوا من حيث أفاض الناس من عرفات ، وأخبرهم أن سنة إبراهيم وإسمعيل هكذا : الإفاضة من عرفات.
3838 - حدثني موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : " ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس " ، قال : كانت العرب تقف بعرفات ، فتعظم قريش أن تقف معهم ، فتقف قريش بالمزدلفة ، فأمرهم الله أن يفيضوا مع الناس من عرفات.
3839 - حدثت عن عمار ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع قوله : " ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس " ، قال : كانت قريش وكل ابن أخت وحليف لهم ، لا يفيضون مع الناس من عرفات ، يقفون في الحرم ولا يخرجون منه ، يقولون : " إنما نحن أهل حرم الله فلا نخرج من حرمه " ؛

(4/187)


فأمرهم الله أن يفيضوا من حيث أفاض الناس; وكانت سنة إبراهيم وإسمعيل الإفاضة من عرفات.
3840 - حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن عبد الله بن أبي نجيح ، قال : كانت قريش - لا أدري قبل الفيل أم بعده - ابتدعت أمر الحمس ، رأيا رأوه بينهم ، (1) قالوا : نحن بنو إبراهيم وأهل الحرمة وولاة البيت ، وقاطنو مكة وساكنوها ، (2) فليس لأحد من العرب مثل حقنا ولا مثل منزلنا ، ولا تعرف له العرب مثل ما تعرف لنا ، فلا تعظموا شيئا من الحل كما تعظمون الحرم ، فإنكم إن فعلتم ذلك استخفت العرب بحرمكم " (3) وقالوا : قد عظموا من الحل مثل ما عظموا من الحرم ، فتركوا الوقوف على عرفة ، والإفاضة منها ، وهم يعرفون ويقرون أنها من المشاعر والحج ودين إبراهيم ، ويرون لسائر الناس أن يقفوا عليها ، وأن يفيضوا منها ، إلا أنهم قالوا : نحن أهل الحرم ، فليس ينبغي لنا أن نخرج من الحرمة ، ولا نعظم غيرها كما نعظمها نحن الحمس - والحمس : أهل الحرم .
ثم جعلوا لمن ولدوا من العرب من ساكني الحل مثل الذي لهم بولادتهم إياهم ، فيحل لهم ما يحل لهم ، ويحرم عليهم ما يحرم عليهم. وكانت كنانة وخزاعة قد دخلوا معهم في ذلك. ثم ابتدعوا في ذلك أمورا لم تكن ، حتى قالوا : " لا ينبغي للحمس أن يأقطوا الأقط ، ولا يسلأوا السمن وهم حرم ، (4) ولا يدخلوا بيتا من شعر ، ولا يستظلوا إن استظلوا إلا في بيوت الأدم ما كانوا حراما " . ثم رفعوا في ذلك (5) فقالوا : " لا ينبغي لأهل الحل أن يأكلوا من طعام جاءوا به معهم من الحل
__________
(1) في سيرة ابن هشام : " رأيا رأوه وأداروه " .
(2) في سيرة ابن هشام : " وقطان مكة وساكنها " .
(3) في سيرة ابن هشام : " بحرمتكم " .
(4) في سيرة ابن هشام : " أن يأتقطوا " ائتقط الأقط : اتخذه والأقط : شيء يتخذ من اللبن المخيض ، يطبخ ثم يترك حتى يمصل وهو من ألبان الإبل خاصة . وسلأ السمن : طبخه وعالجه فأذاب زبده . والحرم (بضمتين) جمع حرام . رجل حرام : محرم .
(5) رفعوا في ذلك : زادوا وغالوا .

(4/188)


في الحرم ، (1) إذا جاءوا حجاجا أو عمارا ، ولا يطوفون بالبيت إذا قدموا أول طوافهم إلا في ثياب الحمس ، فإن لم يجدوا منها شيئا طافوا بالبيت عراة " . فحملوا على ذلك العرب فدانت به ، وأخذوا بما شرعوا لهم من ذلك ، (2) فكانوا على ذلك حتى بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم ، فأنزل الله - حين أحكم له دينه وشرع له حجه : (3) " ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس واستغفروا الله إن الله غفور رحيم " - يعني قريشا ، و " الناس " العرب - فرفعهم في سنة الحج إلى عرفات ، والوقوف عليها ، والإفاضة منها. فوضع الله أمر الحمس - وما كانت قريش ابتدعت منه - عن الناس بالإسلام حين بعث الله رسوله. (4)
3841 - حدثنا بحر بن نصر ، قال : حدثنا ابن وهب ، قال : أخبرني ابن أبي الزناد ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة ، قال : كانت قريش تقف بقزح ، وكان الناس يقفون بعرفة ، قال : فأنزله الله : " ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس " .
* * *
وقال آخرون : المخاطبون بقوله : " ثم أفيضوا " ، المسلمون كلهم ، والمعني بقوله : " من حيث أفاض الناس " ، من جمع ، وبـ " الناس " ، إبراهيم خليل الرحمن عليه السلام.
* ذكر من قال ذلك.
3842 - حدثت عن القاسم بن سلام ، قال : حدثنا هارون بن معاوية الفزاري ، عن أبي بسطام عن الضحاك ، قال : هو إبراهيم. (5)
__________
(1) في سيرة ابن هشام : " من الحل إلى الحرم " .
(2) هذه الجملة غير موجودة بنصها في سيرة ابن هشام .
(3) في المطبوعة : " حجته " وفي سيرة ابن هشام : " وشرع له سنن حجه " .
(4) الأثر : 3840 - في سيرة ابن هشام 1 : 211 - 216 وفي السيرة زيادات وقد أثبتنا الاختلاف آنفًا .
(5) الخبر : القاسم بن سلام بتشديد اللام : هو أبو عبيد الإمام الحجة صاحب كتاب الأموال وغيره من المؤلفات .
مروان بن معاوية الفزاري : مضت ترجمته : 1222 ، 3322 . ووقع في المطبوعة هنا " هارون " " مروان " . وهو خطأ واضح . و " مروان الفزاري " من شيوخ القاسم بن سلام كما في ترجمته الممتعة في تاريخ بغداد 12 : 403 - 406 .
أبو بسطام : هو مقاتل بن حيان النبطي البلخي وهو ثقة بينا ذلك في المسند : 3107 .
الضحاك : هو ابن مزاحم الهلالي الخراساني وهو ثقة ما ذكرنا في المسند : 2262 .
وهذا الخبر أشار إليه ابن كثير 1 : 469 أنه " حكاه ابن جرير عن الضحاك بن مزاحم فقط " . وهم السيوطي 1 : 227 ، فذكره من رواية الطبري عن ابن عباس ؟ ولعله سبق ذهنه لكثرة رواية الضحاك عن ابن عباس ؟ ؟

(4/189)


قال أبو جعفر : والذي نراه صوابا من تأويل هذه الآية ، أنه عنى بهذه الآية قريش ومن كان متحمسا معها من سائر العرب لإجماع الحجة من أهل التأويل على أن ذلك تأويله.
وإذ كان ذلك كذلك فتأويل الآية : فمن فرض فيهن الحج ، فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج ، ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس ، واستغفروا الله إن الله غفور رحيم ، وما تفعلوا من خير يعلمه الله.
وهذا ، إذ كان ما وصفنا تأويله فهو من المقدم الذي معناه التأخير ، والمؤخر الذي معناه التقديم ، على نحو ما تقدم بياننا في مثله ، (1) ولولا إجماع من وصفت إجماعه على أن ذلك تأويله. لقلت : أولى التأويلين بتأويل الآية ما قاله الضحاك من أن الله عنى بقوله : " من حيث أفاض الناس " ، من حيث أفاض إبراهيم. لأن الإفاضة من عرفات لا شك أنها قبل الإفاضة من جمع ، وقبل وجوب الذكر عند المشعر الحرام. وإذ كان ذلك لا شك كذلك ، وكان الله عز وجل إنما أمر بالإفاضة من الموضع الذي أفاض منه الناس ، بعد انقضاء ذكر الإفاضة من عرفات ، وبعد أمره بذكره عند المشعر الحرام ، ثم قال بعد ذلك : " ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس " كان معلوما بذلك أنه لم يأمر بالإفاضة إلا من الموضع الذي لم يفيضوا منه ، دون الموضع الذي قد أفاضوا منه ، وكان الموضع الذي قد
__________
(1) انظر فهرس المباحث العربية في الجزءين السالفين .

(4/190)


أفاضوا منه فانقضى وقت الإفاضة منه ، لا وجه لأن يقال : " أفض منه " .
فإذ كان لا وجه لذلك ، وكان غير جائز أن يأمر الله جل وعز بأمر لا معنى له ، كانت بينة صحة ما قاله من التأويل في ذلك ، وفساد ما خالفه ، لولا الإجماع الذي وصفناه ، وتظاهر الأخبار بالذي ذكرنا عمن حكينا قوله من أهل التأويل.
* * *
فإن قال لنا قائل : وكيف يجوز أن يكون ذلك معناه : " والناس " جماعة ، " وإبراهيم " صلى الله عليه وسلم واحد ، والله تعالى ذكره يقول : " ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس " ؟
قيل : إن العرب تفعل ذلك كثيرا ، فتدل بذكر الجماعة على الواحد. (1) ومن ذلك قول الله عز وجل : ( الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ ) [آل عمران : 173] والذي قال ذلك واحد ، وهو فيما تظاهرت به الرواية من أهل السير - نعيم بن مسعود الأشجعي ، (2) ومنه قول الله عز وجل : ( يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا ) [المؤمنون : 51] قيل : عنى بذلك النبي صلى الله عليه وسلم ونظائر ذلك في كلام العرب أكثر من أن تحصى. (3)
* * *
__________
(1) انظر فهرس المباحث العربية في الجزءين السالفين .
(2) انظر الاستيعاب : 301 وابن سعد 2/1/42 وتاريخ الطبري 3 : 41 - 42 ولكن الطبري لم يذهب هذا المذهب في تفسير الآية من سورة آل عمران 4 : 118 - 121 (بولاق) .
(3) سيعود الطبري بعد أسطر فيذكر تتمة تفسير هذا الشطر من الآية .

(4/191)


القول في تأويل قوله تعالى : { وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (199) }
قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه : فإذا أفضتم من عرفات منصرفين إلى منى فاذكروا الله عند المشعر الحرام ، وادعوه واعبدوه عنده ، كما ذكركم بهدايته فوفقكم لما ارتضى لخليله إبراهيم ، فهداه له من شريعة دينه ، بعد أن كنتم ضلالا عنه.
* * *
وفي " ثم " في قوله : " ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس " ، من التأويل وجهان :
أحدهما ما قاله الضحاك من أن معناه : ثم أفيضوا فانصرفوا راجعين إلى منى من حيث أفاض إبراهيم خليلي من المشعر الحرام ، وسلوني المغفرة لذنوبكم ، فإني لها غفور ، وبكم رحيم. كما : -
3843 - حدثني إسماعيل بن سيف العجلي ، قال : حدثنا عبد القاهر بن السري السلمي ، قال : حدثنا ابن كنانة - ويكنى أبا كنانة - ، عن أبيه ، عن العباس بن مرداس السلمي ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : دعوت الله يوم عرفة أن يغفر لأمتي ذنوبها ، فأجابني أن قد غفرت ، إلا ذنوبها بينها وبين خلقي. فأعدت الدعاء يومئذ ، فلم أجب بشيء ، فلما كان غداة المزدلفة قلت : يا رب ، إنك قادر أن تعوض هذا المظلوم من ظلامته ، وتغفر لهذا الظالم! فأجابني أن قد غفرت. قال : فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : فقلنا : يا رسول الله ، رأيناك تضحك في يوم لم تكن تضحك فيه! قال : " ضحكت من عدو الله إبليس لما سمع بما سمع إذ هو يدعو بالويل والثبور ، ويضع التراب على رأسه " (1)
__________
(1) الحديث : 3843 - إسماعيل بن سيف العجلي : لم أستطع التحقق من معرفته . فلم أجد في كتب التراجم إلا " إسماعيل بن سيف أبو إسحاق " - هكذا في الجرح والتعديل لابن أبي حاتم 1/1/176 وأنه سأل أباه عنه ، فقال : " هو مجهول " . وله ترجمة في لسان الميزان 1 : 409 - 410 بل ثنتان ورجح الحافظ أنهما لشخص واحد . - فيما يظهر لي - من هذه الطبقة ولكني لا أجزم أنه هو شيخ الطبري هذا .
عبد القاهر بن السري السلمي البصري : قال ابن معين : " صالح " وذكره ابن شاهين في الثقات .
ابن كنانة : هو عبد الله بن كنانة بن عباس بن مرداس ، كما تبين اسمه من التخريج - فيما يأتي - وكما ذكر في التراجم . وهو مجهول كما في التقريب والخلاصة . والمراد أنه مجهول الحال . وفي التهذيب : " قال البخاري " لم يصح حديثه " . ولم يترجم له ابن أبي حاتم في العبادلة ولا في الأبناء مع أنه ذكره في ترجمة أبيه ، كما سيأتي ولم أجد كنيته " أبا كنانة " إلا في هذا الموضع فستفاد منه .
أبوه " كنانة بن العباس " : ترجمه البخاري في الكبير 4/1/236 قال : " كنانة بن عباس بن مرداس عن أبيه . روى عنه ابنه " . وبنحو ذلك ترجمه ابن أبي حاتم 3/2/169 . ولم يذكرا فيه جرحا ولم يسميا ابنه . وبنحو هذا ذكره ابن حبان في الثقات ص : / 317 ولم يسم ابنه أيضًا . ثم ذكره في كتاب المجروحين في الورقة : 192 قال : " كنانة بن العباس بن مرداس السلمي يروي عن أبيه روى عنه ابنه : منكر الحديث جدا فلا أدري : التخليط في حديثه منه ، أو من ابنه ؟ أو من أيهما كان فهو ساقط الاحتجاج بما روى لعظم ما أتى من المناكير عن المشاهير " !! هكذا قال ابن حبان مهولا في غير موضع التهويل! فما ذكر العلماء الحفاظ لكنانة غير هذا الحديث الواحد . وما هو بمنكر المعنى وإن كان الإسناد إليه فيه ضعف بجهالة حال عبد الله ابن كنانة . وكنانة هذا قال فيه ابن مندة : " يقال إن لكنانة صحبة " ولذلك ذكره الحافظ في الإصابة 5 : 318 في القسم الثاني ممن لهم رؤية وأشار إلى خطأ ابن حبان بأنه ذكره في الثقات " ثم غفل فذره في الضعفاء " .
والحديث رواه عبد الله بن أحمد بن حنبل في زوائد المسند : 16276 (4 : 14 - 15 حلبي) عن إبراهيم بن الحجاج الناجي . ورواه ابن ماجه : 3013 عن أيوب بن محمد الهاشمي . ورواه البيهقي 5 : 118 من طريق أبي داود الطيالسي - ثلاثتهم عن عبد القاهر بن السري " حدثنا عبد الله ابن كنانة بن عباس بن مرداس السلمي " - إلخ ، كما في رواية ابن ماجه . وفي روايتي عبد الله بن أحمد والبيهقي : " حدثني ابن كنانة بن العباس بن مرداس " . وكذلك روى أبو داود في السنن : 5234 - قطعة منه ، عن عيسى بن إبراهيم البركي ، وعن أبي الوليد الطيالسي كلاهما عن عبد القاهر بن السري . وذكره المنذري في الترغيب والترهيب 2 : 127 - 128 من رواية ابن ماجه ثم من رواية البيهقي . ثم نقل عن البيهقي أنه قال : " وهذا الحديث له شواهد كثيرة ، وقد ذكرناها في كتاب البعث . فإن صح بشواهده ففيه الحجة . وإن لم يصح ، فقد قال الله تعالى : (ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء) . وظلم بعضهم بعضا دون الشرك . انتهى " . وذكره السيوطي 1 : 230 ونسبه أيضًا للطبراني . والضياء المقدسي في المختارة .

(4/192)


3844 - حدثني مسلم بن حاتم الأنصاري ، قال : حدثنا بشار بن بكير الحنفي ، قالا حدثنا عبد العزيز بن أبي رواد عن نافع ، عن ابن عمر ، قال : خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عشية عرفة ، فقال : " أيها الناس إن الله تطول عليكم في مقامكم هذا ، فقبل محسنكم ، وأعطى محسنكم ما سأل ، ووهب

(4/193)


مسيئكم لمحسنكم ، إلا التبعات فيما بينكم ، أفيضوا على اسم الله. فلما كان غداة جمع قال : " أيها الناس ، إن الله قد تطول عليكم في مقامكم هذا ، فقبل من محسنكم ، ووهب مسيئكم لمحسنكم ، والتبعات بينكم عوضها من عنده أفيضوا على اسم الله. فقال أصحابه : يا رسول الله ، أفضت بنا بالأمس كئيبا حزينا ، وأفضت بنا اليوم فرحا مسرورا ! قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إني سألت ربي بالأمس شيئا لم يجد لي به ، سألته التبعات فأبى علي ، فلما كان اليوم أتاني جبريل قال : إن ربك يقرئك السلام ويقول التبعات ضمنت عوضها من عندي " . (1)
* * *
فقد بين هذان الخبران أن غفران الله التبعات التي بين خلقه فيما بينهم ، إنما هو غداة جمع ، وذلك في الوقت الذي قال جل ثناؤه : " ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس واستغفروا الله " ، لذنوبكم ، فإنه غفور لها حينئذ ، تفضلا منه عليكم ، رحيم بكم.
* * *
__________
(1) الحديث : 3844 - مسلم بن حاتم أبو حاتم الأنصاري : ثقة من شيوخ أبي داود والترمذي وثقه الترمذي والطبراني .
بشار بن بكير الحنفي : لم أجد له ترجمة بعد طول البحث والتتبع ، حتى لقد ظننته محرفا لولا أن وجدته مذكورا أيضًا في إسناد هذا الحديث في الحلية لأبي نعيم .
عبد العزيز بن أبي رواد المكي : ثقة معروف بالورع والصلاح والعبادة . ومن تكلم فيه من أجل رأيه فلا حجة له .
والحديث رواه أبو نعيم في الحلية 8 : 199 بإسنادين : من طريق أبي هشام عبد الرحيم بن هارون الغساني ومن طريق بشار بن بكير الحنفي - كلاهما عن عبد العزيز بن أبي رواد . ثم قال : " السياق لبشار بن بكير وحديث أبي هاشم فيه اختصار . . . غريب تفرد به عبد العزيز عن نافع ولم يتابع عليه " .
وذكر المنذري في الترغيب والترهيب 2 : 127 نحو معناه من حديث عبادة بن الصامت ثم قال : " رواه الطبراني في الكبير ورواته محتج بهم في الصحيح إلا أن فيهم رجلا لم يسم " . وكذلك ذكره الهيثمي في الزوائد 3 : 256 - 257 . ثم ذكر كلاهما بعده حديثا بنحوه لأنس بن مالك ونسباه لأبي يعلى . وقال الهيثمي : " وفيه صالح المري وهو ضعيف " وكذلك ذكرهما السيوطي 1 : 230 دون بيان تعليلهما .

(4/194)


فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آَبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آَتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآَخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ (200)

والآخر منهما : " ثم أفيضوا " من عرفة إلى المشعر الحرام ، فإذا أفضتم إليه منها فاذكروا الله عنده كما هداكم.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا }
قال أبو جعفر : يعني بقول جل ثناؤه : " فإذا قضيتم مناسككم " ، فإذا فرَغتم من حَجكم فذبحتم نَسائككم ، فاذكروا الله (1)
* * *
يقال منه : " نسك الرجل يَنسُك نُسْكًا ونُسُكًا ونسيكة ومَنْسَكًا " ، إذا ذبح نُسُكه ، و " المنسِك " اسم مثل " المشرق والمغرب " ، فأما " النُّسْك " في الدين ، فإنه يقال منه : " ما كان الرجل نَاسكًا ، ولقد نَسَك ، ونَسُك نُسْكًا نُسُكًا ونَساكة " ، (2) وذلك إذا تقرَّأ. (3)
* * *
وبمثل الذي قلنا في معنى " المناسك " في هذا الموضع قال مجاهد :
3845 - حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : " فإذا قَضَيتم مَناسككم " ، قال : إهراقة الدماء. (4)
__________
(1) انظر تفسير " قضى " فيما سلف 2 : 542 ، 543 .
(2) انظر تفسير " نسك " فيما سلف من 3 : 75 - 80/ ثم هذا الجزء وفي النسك الذي هو الذبح . مصادر لم تذكر في كتب اللغة .
(3) تقرأ الرجل : تفقه وتنسك فهو قارئ ومتقرى وقراء (بضم القاف وتشديد الراء) .
(4) " إهراقة " مصدر هراق الدم يهريقه ، هراقة وإهراقة وهو سفحه وصبه .

(4/195)


3846 - حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله.
* * *
وأما قوله : " فاذكروا الله كذكركم آباءكم أو أشدَّ ذكرًا " ، فإنّ أهل التأويل اختلفوا في صفة " ذكر القوم آباءهم " ، الذين أمرَهم الله أن يجعلوا ذكرهم إياه كذكرهم آباءَهم أو أشد ذكرًا.
فقال بعضهم : كان القوم في جاهليتهم بعد فراغهم من حجهم ومناسكهم يجتمعون فيتفاخرون بمآثر آبائهم ، فأمرهم الله في الإسلام أن يكون ذكرُهم بالثناء والشكر والتعظيم لربهم دون غيره ، وأن يُلزموا أنفسهم من الإكثار من ذكره ، نظيرَ ما كانوا ألزموا أنفسهم في جاهليتهم من ذكر آبائهم.
* ذكر من قال ذلك :
3847 - حدثنا تميم بن المنتصر ، قال : حدثنا إسحاق بن يوسف ، عن القاسم بن عثمان ، عن أنس في هذه الآية ، قال : كانوا يذكرون آباءهم في الحج ، فيقول بعضهم : كان أبي يطعم الطعام ، ويقول بعضهم : كان أبي يضرب بالسيف! ويقول بعضهم : كان أبي جزَّ نواصي بني فلان!.
3848 - حدثني محمد بن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان. عن عبد العزيز ، عن مجاهد قال : كانوا يقولون : كان آباؤنا ينحرون الجُزُر ، ويفعلون كذا! فنزلت هذه الآية : " أذكروا الله كذكركم آباءكم أو أشد ذكرًا " :
3849 - حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن عاصم ، عن أبي وائل : " فاذكروا الله كذركم آباءكم أو أشد ذكرًا " ، قال : كان أهل الجاهلية يذكرون فَعَال آبائهم.
3850 - حدثنا أبو كريب ، قال : سمعت أبا بكر بن عياش ، قال : كان

(4/196)


أهل الجاهلية إذا فَرغوا من الحج قاموا عند البيت فيذكرون آباءَهم وأيامهم : كان أبي يُطعم الطعام! وكان أبي يفعل! فذلك قوله : " فاذكروا الله كذكركم آباءكم " قال أبو كريب : قلت ليحيى بن آدم : عمن هو ؟ قال : حدثنا أبو بكر بن عياش ، عن عاصم ، عن أبي وائل.
3851 - حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرني حجاج عمن حدثه ، عن مجاهد في قوله : " اذكروا الله كذكركم آباءكم " ، قال : كانوا إذا قَضَوا مناسكهم وقفوا عند الجَمرة فذكروا آباءهم ، وذكروا أيامهم في الجاهلية وفَعال آبائهم ، فنزلت هذه الآية.
3852 - حدثني يعقوب ، قال : حدثنا هشيم ، عن عبد الملك ، عن قيس ، عن مجاهد في قوله : " فاذكروا الله كذكركم آباءكم " قال : كانوا إذا قضوا مناسكهم وَقفوا عند الجمرة ، وذكروا أيامهم في الجاهلية وفعال آبائهم. قال : فنزلت هذه الآية.
3853 - حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : " فإذا قَضيتم مناسككم فاذكروا الله كذكركم آباءكم " ، قال : تفاخرت العرب بَينها بفعل آبائها يوم النحر حين فَرَغوا فأمروا بذكر الله مكانَ ذلك.
3854 - حدثنا المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، نحوه.
3855 - حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : " فإذا قضيتم مناسككم فاذكروا الله كذكركم آباءكم " قال قتادة : كان أهل الجاهلية إذا قضوا مناسكهم بمنىً قعدوا حِلَقًا فذكروا صنيعَ آبائهم في الجاهلية وفَعالَهم به ، يخطب خطيبهم ويُحدِّث محدثهم ، فأمر الله عز وجل المسلمين أن يذكروا الله كذكر أهل الجاهلية آباءهم أو أشد ذكرًا.

(4/197)


3856 - حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : " فاذكروا الله كذكركم آباءكم أو أشد ذكرا " قال : كانوا إذا قضوا مناسكهم اجتمعوا فافتخروا ، وذكروا آباءهم وأيامها ، فأمروا أن يجعلوا مكان ذلك ذكرَ الله ، يذكرونه كذكرهم آبائهم ، أو أشد ذكرًا.
3857 - حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا وكيع ، عن سفيان ، عن خصيف ، عن سعيد بن جبير وعكرمة قالا كانوا يذكرون فعل آبائهم في الجاهلية إذا وَقفوا بعرفة ، فنزلت هذه الآية.
3858 - حدثنا القاسم ، قال : حدثني حجاج ، قال : قال ابن جريج : أخبرني عبد الله بن كثير أنه سمع مجاهدًا يقول ذلك يومَ النحر ، حين ينحرون. قال : قال " فاذكروا الله كذكركم آبائكم " قال : كانت العرب يوم النحر حين يفرُغون يَتفاخرون بفَعَال آبائها ، فأمروا بذكر الله عز وجل مكانَ ذلك :
* * *
وقال آخرون : بل معنى ذلك : فاذكروا الله كذكر الأبناءِ والصِّبيانِ الآباءَ.
* ذكر من قال ذلك :
3859 - حدثنا محمد بن المثنى ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، عن عثمان بن أبي رواد ، عن عطاء أنه قال في هذه الآية : " كذكركم آباءَكم " قال : هو قول الصبيّ : يا أباه!.
3860 - حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا زهير ، عن جويبر ، عن الضحاك : " فاذكروا الله كذكركم آباءكم " يعني بالذكر ، ذكر الأبناء الآباء.
3861 - حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قال لي عطاء : " كذكركم آباءكم " : أبَهْ ! أمَّهْ !.

(4/198)


3862 - حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا صالح بن عمر ، عن عبد الملك ، عن عطاء ، قال : كالصبي ، يَلهج بأبيه وأمه.
3863 - حدثت عن عمار ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع قوله : " فإذا قضيتم مناسككم فاذكروا الله كذكركم آباءكم أو أشدّ ذكرًا " ، يقول : كذكر الأبناء الآباءَ أو أشد ذكرًا.
3864 - حدثني محمد بن سعد ، قال : حدثني أبي ، قال : حدثني عمي ، قال : حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : " فإذا قضيتم مناسككم فاذكروا الله كذكركم آباءكم أو أشد ذكرًا " ، يقول : كما يذكر الأبناء الآباء.
3865 - حدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عُبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : " كذكركم آباءكم " يعني ذكر الأبناء الآباء.
* * *
وقال آخرون : بل قيل لهم : " اذكروا الله كذكركم آباءكم " ، لأنهم كانوا إذا قضوا مناسكهم فدعوا ربَّهم ، لم يذكروا غير آبائهم ، فأمروا من ذكر الله بنظير ذكر آباءهم.
* ذكر من قال ذلك :
3866 - حدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : " فإذا قَضيتم مناسككم فاذكروا الله كذكركم آباءكم أو أشد ذكرًا " ، قال : كانت العرب إذا قَضت مناسكها ، وأقاموا بمنى ، يقومُ الرجل فيسأل الله ويقول : " اللهم إن أبي كان عظيم الجفنة عَظيم القبة ، كثير المال ، فأعطني مثل ما أعطيتَ أبي!! " ، ليس يذكر الله ، إنما يذكر آباءه ، ويسأل أن يُعطى في الدنيا.
* * *

(4/199)


قال أبو جعفر : والصواب من القول عندي في تأويل ذلك أن يقال : إن الله جل ثناؤه أمرَ عباده المؤمنين بذكره بالطاعة له في الخضوع لأمره والعبادة له ، بعد قَضاء مَناسكهم. وذلك " الذكر " جائز أن يكون هو التكبير الذي أمرَ به جل ثناؤه بقوله : ( وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ ) [ سورة البقرة : 203 ] الذي أوجبه على من قضى نُسكه بعد قضائه نُسكه ، فألزمه حينئذ مِنْ ذِكْره ما لم يكن له لازمًا قبل ذلك ، وحثَّ على المحافظة عليه مُحافظة الأبناء على ذكر الآباء في الآثار منه بالاستكانة له والتضرع إليه بالرغبة منهم إليه في حوائجهم كتضرُّع الولد لوالده ، والصبي لأمه وأبيه ، أو أشد من ذلك ، إذ كان ما كان بهم وبآبائهم من نعمة فمنه ، وهو وليه.
وإنما قلنا : " الذكر " الذي أمر الله جل ثناؤه به الحاجَّ بعد قضاء مَناسكه بقوله : " فإذا قضيتم مناسككم فاذكروا الله كذكركم آباءكم أو أشد ذكرًا " : " جائزٌ أن يكون هو التكبير الذي وَصفنا " ، من أجل أنه لا ذكر لله أمرَ العباد به بعد قَضاء مَناسكهم لم يكن عليهم من فرضه قبل قضائهم مناسكهم ، سوى التكبير الذي خصَّ الله به أيام منى.
فإذ كان ذلك كذلك ، وكان معلومًا أنه جل ثناؤه قد أوجبَ على خلقه بعد قَضائهم مناسكهم من ذكره ما لم يكن واجبًا عليهم قبل ذلك ، وكان لا شيء من ذكره خَصّ به ذلك الوقت سوى التكبير الذي ذكرناه كانت بَيِّنةً صحةُ ما قلنا من تأويل ذلك على ما وصفنا.
* * *

(4/200)


القول في تأويل قوله تعالى : { فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ (200) }
قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه : فإذا قَضيتم مناسككم أيها المؤمنون فاذكروا الله كذكركم آباءكم أو أشد ذكرًا ، وارغبوا إليه فيما لديه من خير الدنيا والآخرة بابتهال وتمسكن ، واجعلوا أعمالكم لوجهه خالصًا ولطلب مرضاته ، وقولوا : " ربنا آتنا في الدنيا حَسنةً وفي الآخرة حَسنة وقنا عذاب النار " ، ولا تكونوا كمن اشترى الحياةَ الدنيا بالآخرة ، فكانت أعمالهم للدنيا وزينتها ، فلا يسألون ربهم إلا متاعها ، ولا حظَّ لهم في ثواب الله ، ولا نصيبَ لهم في جناته وكريم ما أعدَّ لأوليائه ، كما قال في ذلك أهل التأويل.
3867 - حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن بن مهدي ، قال : حدثنا سفيان ، عن عاصم ، عن أبي وائل : " فمن الناس من يقول ربَّنا آتنا في الدنيا " ، هب لنا غنمًا! هب لنا إبلا ! " وماله في الآخرة من خلاق " .
3868 - حدثنا أحمد بن إسحاق ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا سفيان ، عن عاصم ، عن أبي وائل ، قال : كانوا في الجاهلية يقولون : " هبْ لنا إبلا! " ، ثم ذكر مثله.
3869 - حدثنا أبو كريب ، قال : سمعت أبا بكر بن عياش في قوله : " فمن الناس من يقول ربنا آتنا في الدنيا ومَا له في الآخرة من خَلاق " ، قال : كانوا يَعني أهلَ الجاهلية يقفون - يعني بعد قضاء مناسكهم - فيقولون : " اللهم ارزقنا إبلا! اللهم ارزقنا غنمًا! " ، فأنزل الله هذه الآية : " فمن الناس من يقول ربّنا آتنا في الدنيا وما له في الآخرة من خلاق " قال أبو كريب : قلت ليحيى بن آدم : عمن هو ؟ قال : حدثنا أبو بكر بن عياش ، عن عاصم ، عن أبي وائل.

(4/201)


3870 - حدثنا تميم بن المنتصر ، قال : أخبرنا إسحاق ، عن القاسم بن عثمان ، عن أنس : " فمن الناس من يقول رَبنا آتنا في الدنيا وما له في الآخرة من خلاق " ، قال : كانوا يطوفون بالبيت عُراة فيدعون فيقولون : " اللهم اسقنا المطر ، وأعطنا على عدونا الظفر ، ورُدَّنا صَالحين إلى صالحين!.
3871 - حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله تبارك وتعالى : " فمن الناس من يقول ربنا آتنا في الدنيا " نَصرًا ورزقًا ، ولا يسألون لآخرتهم شيئًا.
3872 - حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله.
3873 - حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة في قول الله : " فمن الناس من يقول ربنا آتنا في الدنيا وما له في الآخرة من خلاق " ، فهذا عبدٌ نَوَى الدنيا ، لها عملَ ، ولها نَصِب.
3874 - حدثنا موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي في قوله : " فمن الناس من يقول رَبنا آتنا في الدنيا وما له في الآخرة من خلاق " ، قال : كانت العرب إذا قضت مناسكها وأقامت بمنى لا يذكر اللهَ الرجلُ منهم ، وإنما يذكر أباه ، ويسأل أن يُعطَي في الدنيا.
3875 - حدثني يونس ، قال : حدثنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : " فإذا قضيتم مناسككم فاذكروا الله كذكركم آباءكم أو أشد ذكرًا " ، قال كانوا أصنافًا ثلاثة في تلك المواطن يومئذ : رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأهلُ الكفر ، وأهلُ النفاق. فمن الناس من يقول : " ربنا آتنا في الدنيا وما له في الآخرة من خَلاق " إنما حجوا للدنيا والمسألة ، لا يريدون الآخرة ، ولا يؤمنون بها و منهم من يقول : " ربنا آتنا في الدنيا حَسنة " ، الآية قال : والصنف الثالث : " ومنَ الناس مَن يُعجبك قوله في الحياة الدنيا " الآية.

(4/202)


وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آَتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآَخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (201)

وأما معنى " الخلاق " فقد بيناه في غير هذا الموضع ، وذكرنا اختلافَ المختلفين في تأويله والصحيحَ لدينا من معناه بالشواهد من الأدلة وأنه النصيب ، بما فيه كفاية عن إعادته في هذا الموضع. (1)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (201) }
قال أبو جعفر : اختلف أهل التأويل في معنى " الحسنة " التي ذكر الله في هذا الموضع.
فقال بعضهم. يعني بذلك : ومن الناس مَن يقول : ربَّنا أعطنا عافية في الدنيا وعافية في الآخرة.
* ذكر من قال ذلك :
3876 - حدثنا الحسن بن يحيى ، قال أخبرنا عبد الرازق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : " ربنا آتنا في الدنيا حسنةً وفي الآخرة حسنة " ، قال : في الدنيا عافيةً ، وفي الآخرة عافية. قال قتادة : وقال رجل : " اللهم ما كنتَ معاقبي به في الآخرة فعجِّله لي في الدنيا " ، فمرض مرضًا حتى أضنى على فراشه ، (2) فذكر للنبي صلى الله عليه وسلم شأنُه ، فأتاه النبي عليه السلام ، فقيل له : إنه دعا بكذا وكذا ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " إنه لا طاقة لأحد بعقوبه الله ، ولكن قُل : " ربنا آتنا في الدنيا حَسنة وفي الآخرة حَسنة وقنا عَذاب النار " . فقالها ، فما لبث إلا أيامًا أو : يسيرًا حتى بَرَأ.
__________
(1) انظر ما سلف 2 : 452 - 454 .
(2) أضنى الرجل : إذا لزم الفراش من الضنى وهو شدة المرض حتى ينحل الجسم .

(4/203)


3877 - حدثني المثنى ، قال : حدثنا سعيد بن الحكم ، قال : أخبرنا يحيى بن أيوب ، قال : حدثني حميد ، قال : سمعت أنس بن مالك يقول : عاد رَسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا قد صار مثل الفرْخ المنتوف ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : هل كنت تدعو الله بشيء ؟ - أو تسأل الله شيئًا ؟ قال : قلت : " اللهم ما كنت مُعاقبي به في الآخرة فعاقبني به في الدنيا! " . قال : " سبحان الله! هل يستطيع ذلك أحد أو يطيقه ؟ فهلا قلت : " اللهم آتنا في الدنيا حَسنة وفي الآخرة حَسنةً وقنا عذاب النار ؟ " . (1)
* * *
وقال آخرون : بل عَنى الله عز وجل بـ " الحسنة " - في هذا الموضع - في الدنيا ، العلمَ والعبادة ، وفي الآخرة : الجنة.
* ذكر من قال ذلك :
__________
(1) الحديث : 3877 - سعيد بن الحكم : هو " سعيد بن أبي مريم الجمحي " مضت الإشارة إليه في : 22 وهو ثقة حجة . " يحيى بن أيوب " هو الغافقي أبو العباس المصري وهو ثقة حافظ أخرج له أصحاب الكتب الستة .
حميد : هو ابن أبي حميد الطويل وهو تابعي ثقة ، سمع من أنس بن مالك ، وسمع من ثابت البناني عن أنس . وزعم بعضهم أنه لم يسمع من أنس إلا أحاديث قليلة وأن سائرها إنما هو " عن ثابت عن أنس " . ورد الحافظ ذلك ردا شديدا ، وقال : " قد صرح حميد بسماعه من أنس بشيء كثير . وفي صحيح البخاري من ذلك جملة " .
وإنما فصلت هذا لأن رواية هذا الحديث هنا فيها تصريح حميد بسماعه من أنس . ولكنه رواه أحمد ومسلم من حديث حميد ، عن ثابت عن أنس . فلعله سمعه من أنس ومن ثابت عن أنس :
فرواه أحمد في المسند : 12074 (3 : 107 حلبي) عن ابن أبي عدي وعبد الله بن بكر السهمي - كلاهما عن حميد عن ثابت عن أنس . وكذلك رواه مسلم 2 : 309 من طريق ابن أبي عدي عن حميد ثم من طريق خالد بن الحارث عن حميد .
وذكره ابن كثير 1 : 472 - 473 من رواية المسند . ثم قال : " انفرد بإخراجه مسلم " يعني انفرد به عن البخاري .
وذكره السيوطي 1 : 233 وزاد نسبته لعبد بن حميد وابن أبي شيبة والترمذي والنسائي وأبي يعلى وابن حبان وابن أبي حاتم والبيهقي في الشعب . ولكنه وهم فنسبه أيضًا للبخاري ولم أجده فيه ، مع جزم ابن كثير بانفراد مسلم بروايته .

(4/204)


3878 - حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا عباد ، عن هشام بن حسان ، عن الحسن : " ومنهم من يقول رَبنا آتنا في الدنيا حَسنة وفي الآخرة حَسنة " ، قال : الحسنة في الدنيا : العلمُ والعبادةُ ، وفي الآخرة : الجنة.
3879 - حدثني المثنى ، قال : حدثنا عمرو بن عون ، قال : حدثنا هشيم ، عن سفيان بن حسين ، عن الحسن في قوله : " ربنا آتنا في الدنيا حَسنة ، وفي الآخرة حَسنةً ، وقنا عذابَ النار " ، قال : العبادة في الدنيا ، والجنة في الآخرة.
3880 - حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الرحمن بن واقد العطار ، قال : حدثنا عباد بن العوام ، عن هشام ، عن الحسن في قوله : " ربنا آتنا في الدنيا حَسنة " ، قال : الحسنة في الدنيا : الفهمُ في كتاب الله والعلم.
3881 - حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : سمعت سفيان الثوري يقول[في] هذه الآية : " ربنا آتنا في الدنيا حَسنة وفي الآخرة حَسنة " ، قال : الحسنة في الدنيا : العلمُ والرزق الطيب ، وفي الآخرة حَسنة الجنة.
* * *
وقال آخرون : " الحسنة " في الدنيا : المال ، وفي الآخرة : الجنة.
* ذكر من قال ذلك :
3882 - حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد : " ومنهم مَنْ يقول رَبنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار " ، قال : فهؤلاء النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنون.
3883 - حدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي " ومنهم من يَقول رَبنا آتنا في الدنيا حَسنة وفي الآخرة حَسنة " ، هؤلاء المؤمنون; أما حسنة الدنيا فالمال ، وأما حَسنة الآخرة فالجنة.
* * *
قال أبو جعفر : والصواب من القول في ذلك عندي أن يقال : إن الله جل ثناؤه أخبر عن قوم من أهل الإيمان به وبرسوله ، ممن حجَّ بَيته ، يسألون ربهم

(4/205)


أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ (202)

الحسنة في الدنيا ، والحسنة في الآخرة ، وأن يقيهم عذاب النار. وقد تجمع " الحسنةُ " من الله عز وجل العافيةَ في الجسم والمعاش والرزق وغير ذلك ، والعلم والعبادة.
وأما في الآخرة ، فلا شك أنها الجَّنة ، لأن من لم يَنلها يومئذ فقد حُرم جميع الحسنات ، وفارق جميع مَعاني العافية.
وإنما قلنا إن ذلك أولى التأويلات بالآية ، لأن الله عز وجل لم يخصص بقوله - مخبرًا عن قائل ذلك - من معاني " الحسنة " شيئًا ، ولا نصب على خُصوصه دلالة دالَّةً على أن المراد من ذلك بعض دون بعض ، فالواجب من القول فيه ما قلنا : من أنه لا يجوز أن يُخَصّ من معاني ذلك شيء ، وأن يحكم له بعمومه على ما عَمَّه الله.
* * *
وأما قوله : " وقنا عذاب النار " ، فإنه يعني بذلك : اصرف عنا عَذاب النار.
* * *
ويقال منه : " وقيته كذا أقيه وِقاية وَوَقاية ووِقاء " ، ممدودًا ، وربما قالوا : " وقاك الله وَقْيًا " ، إذا دفعت عنه أذى أو مكروهًا.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ (202) }
قال أبو جعفر : يعني بقوله جل ثناؤه : " أولئك " الذين يقولون بعد قضاء مناسكهم : " ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وَقِنا عذاب النار " ، رغبةً منهم إلى الله جل ثناؤه فيما عنده ، وعلمًا منهم بأن الخيرَ كله من عنده ، وأن الفضل بيده يؤتيه من يَشاء. فأعلم جل ثناؤه أنّ لهم نصيبًا وحظًّا من حجِّهم ومناسكهم ، وثوابًا جزيلا على عملهم الذي كسبوه ، وبَاشروا معاناته بأموالهم وأنفسهم ،

(4/206)


خاصًّا ذلك لهم دون الفريق الآخر ، الذين عانوا ما عانوا من نَصَب أعمالهم وتعبها ، وتكلَّفوا ما تكلفوا من أسفارهم ، بغير رغبةٍ منهم فيما عند رَبهم من الأجر والثواب ، ولكن رجاء خسيس من عَرض الدنيا ، وابتغاء عَاجل حُطامها. كما : -
3884 - حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد بن زريع ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة في قوله : " فمن الناسَ من يقول رَبنا آتنا في الدنيا وما له في الآخرة من خَلاق " ، قال : فهذا عبد نوى الدنيا ، لها عمل ولها نَصِب ، " ومنهم من يقول رَبنا آتنا في الدنيا حَسنة وفي الآخرة حَسنة وقنا عذابَ النار. أولئك لَهم نصيب مما كسبوا " ، أي حظٌّ من أعمالهم.
3885 - وحدثني يونس ، قال أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في : " فمن الناس مَن يَقول رَبنا آتنا في الدنيا ومَاله في الآخرة من خَلاق " ، إنما حَجُّوا للدنيا والمسألة ، لا يريدون الآخرة ولا يؤمنون بها ، " ومنهم مَن يقول رَبنا آتنا في الدنيا حسنةً وفي الآخرة حَسنةً وقنا عذاب النار " ، قال : فهؤلاء النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنون " أولئك لهم نصيبٌ مما كسبوا والله سريع الحساب " ، لهؤلاء الأجرُ بما عملوا في الدنيا.
* * *
وأما قوله : " والله سريع الحساب " ، فإنه يعني جل ثناؤه : أنه محيط بعمل الفريقين كليهما اللذين من مسألة أحدهما : " رَبنا آتنا في الدنيا " ، ومن مسألة الآخر : " ربنا آتنا في الدنيا حَسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار " ، فَمُحْصٍ له بأسرع الحساب ، (1) ثم إنه مجازٍ كلا الفريقين على عمله.
وإنما وصف جل ثناؤه نفسه بسرعة الحساب ، لأنه جل ذكره يُحصى ما يُحصى من أعمال عباده بغير عَقد أصابع ، ولا فكرٍ ولا رَوية ، فِعلَ العَجَزة الضَّعَفة من الخلق ، ولكنه لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء ، ولا يَعزب عنه مثقال ذرة فيهما ، ثم هو مُجازٍ عبادَه على كل ذلك. فلذلك امتدح
__________
(1) قوله : " فمحص " عطف على قوله : " أنه محيط . . . "

(4/207)


نفسه جل ذكره بسرعة الحساب ، (1) وأخبر خلقه أنه ليس لهم بمِثْلِ ، فيحتاجَ في حسابه إلى عَقد كف أو وَعْي صَدر.
* * *
__________
(1) في المطبوعة : " فلذلك جل ذكره امتدح بسرعة الحساب " ، والذي أثبت أشبه بالصواب إن شاء الله .

(4/208)


وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (203)

القول في تأويل قوله تعالى : { وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ }
قال أبو جعفر : يعني جَلّ ذكره : أذكروا الله بالتوحيد والتعظيم في أيام مُحصَيات ، وهي أيام رَمي الجمار. أمر عباده يومئذ بالتكبير أدبارَ الصلوات ، وعند الرمي مع كل حصاة من حَصى الجمار يرمي بها جَمرةً من الجمار.
وبمثل الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل :
* ذكر من قال ذلك :
3886 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال : حدثنا هشيم ، عن أبي بشر ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس في قوله : " واذكروا الله في أيام معدودات " ، قال : أيام التشريق.
3887 - حدثني محمد بن نافع البصري ، قال : حدثنا غندر : قال : حدثنا شعبة ، عن هشيم ، عن أبى بشر ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، مثله. (1)
3888 - حدثني محمد بن سعد ، قال : حدثني أبي ، قال : حدثني عمي ، قال : حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : " واذكروا الله في أيام معدودات " ، يعني الأيام المعدودات أيامَ التشريق ، وهي ثلاثة أيام بعد النحر.
__________
(1) الأثر : 3887 - " محمد بن نافع البصري " هو محمد بن أحمد بن نافع العبدي القيسي أبو بكر بن نافع البصري مشهور بكنيته . مترجم في التهذيب " غندر " هو محمد بن جعفر الهذلي مولاهم أبو عبد الله البصري . مترجم في التهذيب .

(4/208)


3889 - وحدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : حدثني معاوية بن صالح ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قوله : " واذكروا الله في أيام معدودات " ، يعني أيام التشريق.
3890 - حدثنا محمد بن المثنى ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، عن أبي بشر ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، مثله.
3891 - وحدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا مخلد ، عن ابن جريج ، عن عمرو بن دينار ، عن ابن عباس : سمعه يوم الصَّدَر يَقول بعد ما صدر يُكبر في المسجد ويتأول : " واذكروا الله في أيام مَعدودات " .
3892 - حدثنا علي بن داود ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : حدثني معاوية بن صالح ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : " واذكروا الله في أيام معدودات " ، يعني أيام التشريق.
3893 - حدثنا عبد الحميد بن بيان السكري ، قال : أخبرنا إسحاق ، عن شريك ، عن أبي إسحاق ، عن عطاء بن أبي رباح في قول الله عز وجل : " واذكروا الله في أيام معدودات " ، قال : هي أيام التشريق.
3894 - حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثني أبي ، عن طلحة بن عمرو ، عن عطاء ، مثله.
3895 - حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله عز وجل : " واذكروا الله في أيام معدودات " ، قال أيام التشريق بمنى.
3896 - حدثنا محمد بن حميد ، قال : حدثنا حكام ، عن عنبسة ، عن ليث ، عن مجاهد وعطاء قالا هي أيام التشريق.
3897 - حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله.

(4/209)


3898 - حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن منصور ، عن مجاهد ، مثله.
3899 - حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن منصور ، عن إبراهيم قال : الأيام المعدودات : أيام التشريق.
3900 - حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا يحيى ، عن سفيان ، عن منصور ، عن إبراهيم ، مثله.
3901 - حدثني يعقوب ، قال : حدثنا ابن علية ، قال : أخبرنا يونس ، عن الحسن ، قال : الأيام المعدودات : الأيام بعد النحر.
3902 - حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، قال : سألت إسماعيل بن أبي خالد عن " الأيام المعدودات " ، قال : أيام التشريق.
3903 - حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد بن زريع ، فقال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : " واذكروا الله في أيام معدودات " ، كنا نُحدَّث أنها أيام التشريق.
3904 - حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : " واذكروا الله في أيام معدودات " ، قال : هي أيام التشريق.
3905 - حدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : " أما الأيام المعدوداتُ " : فهي أيام التشريق.
3906 - حدثت عن عمار ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع ، مثله.
3907 - حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، عن مالك ، قال : " الأيام المعدودات " ، ثلاثة أيامٍ بعد يوم النحر.
3908 - حدثت عن حسين بن الفرج ، قال : سمعت أبا معاذ الفضل بن

(4/210)


خالد ، قال : أخبرنا عبيد بن سليمان ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : " في أيام معدودات " قال : أيام التشريق الثلاثة.
3910 - حدثني ابن البرقي ، قال : حدثنا عمرو بن أبي سلمة ، قال : سألت ابن زيد عن " الأيام المعدودات " و " الأيام المعلومات " ، فقال : " الأيام المعدودات " أيام التشريق ، " والأيام المعلومات " ، يوم عرفة ، ويوم النحر ، وأيام التشريق.
* * *
وإنما قلنا : إنّ " الأيام المعدودات " ، هي أيام منى وأيام رمي الجمار لتظاهر الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول فيها : إنها أيام ذكر الله عز وجل.
* ذكر الأخبار التي رويت بذلك :
3911 - حدثني يعقوب بن إبراهيم وخلاد بن أسلم ، قال : حدثنا هشيم ، عن عمر بن أبي سلمة ، عن أبيه ، عن أبي هريرة ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : أيام التشريق أيام طُعْمٍ وذِكْر " . (1)
__________
(1) الحديث : عمر بن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف : ثقة وثقه أحمد وغيره وتكلم فيه آخرون من قبل حفظه .
والحديث رواه أحمد في المسند : 7134 عن هشيم بهذا الإسناد . ورواه أيضًا : 9008 (2 : 387 حلبي) عن عفان عن أبي عوانة عن عمر بن أبي سلمة .
ورواه الطحاوي في معاني الآثار 1 : 428 من طريق سعيد بن منصور عن هشيم به .
ولم ينفرد عمر بن أبي سلمة بروايته . فرواه ابن ماجه : 1719 من طريق محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة وقال البوصيري في زوائده : " إسناده صحيح على شرط الشيخين " .
وسيأتي عقب هذا من رواية سعيد بن المسيب عن أبي هريرة .

(4/211)


3912 - حدثنا خلاد ، قال : حدثنا روح ، قال : حدثنا صالح ، قال : حدثني ابن شهاب ، عن سعيد بن المسيب ، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بَعثَ عبد الله بن حُذافة يطوف في منى : " لا تصوموا هذه الأيام فإنها أيام أكل وشرب وذكر الله عز وجل " . (1)
3912م - وحدثنا حميد بن مسعدة ، قال : حدثنا بشر بن المفضل وحدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا ابن علية قالا جميعًا ، حدثنا خالد ، عن أبي قلابة ، عن أبي المليح ، عن عائشة : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : إن هذ الأيام أيام أكل وشرب وذكر الله.
3913 - حدثني يعقوب ، قال : حدثنا هشيم ، عن ابن أبي ليلى ، عن عطاء ، عن عائشة ، قالت : نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صوم أيام التشريق وقال : هي أيام أكل وشرب وذكر الله. (2)
3914 - حدثني يعقوب ، قال : حدثني هشيم ، عن عبد الملك بن أبي سليمان ، عن عمرو بن دينار : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بَعث بشر بن سُحَيم ، فنادى في أيام التشريق ، فقال : إن هذه الأيام أيام أكل وشرب وذكر الله. (3)
__________
(1) الحديث : 3912 - روح : هو ابن عبادة . صالح : هو ابن أبي الأخضر اليمامي . وهو ثقةن تكلموا في روايته عن الزهري بما ليس بقادح . وهو كان خادما لزهري فالظاهر أن يكون عرف عن الزهري ما لم يعرف غيره .
والحديث رواه أحمد في المسند : 10674 ، 10930 (2 : 513 ، 535 حلبي) عن روح ابن عبادة بهذا الإسناد . وكذلك رواه الطحاوي 1 : 428 ونسباه للطبري فقط .
وانظر ما مضى : 3471 وما يأتي : 3916 .
(2) الحديث : 3913 - خالد : هو ابن مهران الحذاء . أبو قلابة : هو الجرمي عبد الله ابن زيد . أبو المليح : هو ابن أسامة الهذلي . وهذا إسناد صحيح ليست له علة .
ويشهد له ما روى البخاري 4 : 211 (فتح) من طريق الزهري عن عروة عن عائشة - وعن سالم عن ابن عمر قالا : " لم يرخص في أيام التشريق أن يصمن إلا لمن لم يجد الهدى " وهو مرفوع حكما - على الراجح - وإن كان لفظه لفظ الموقوف .
وقد مضى معناه مرفوعا لفظا من وجه آخر ، عن الزهري عن سالم عن ابن عمر .
وانظر الحديث التالي لهذا .
(3) الحديث : 3914 - ابن أبي ليلى : هو محمد بن عبد الرحمن . عطاء : هو ابن أبي رباح وهذا إسناد حسن .
والحديث رواه الطحاوي 1 : 428 من طريق سعيد بن منصور عن هشيم بهذا الإسناد . وذكره ابن كثير 1 : 475 ولم يذكر تخريجه . وذكره السيوطي 1 : 235 منسوبا للطبري فقط .

(4/212)


3915 - حدثني يعقوب. قال : حدثنا هشيم ، عن سفيان بن حسين ، عن الزهري ، قال : بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن حذافة بن قيس فنادى في أيام التشريق فقال : " إن هذه الأيام أيام أكل وشرب وذكر الله ، إلا من كان عليه صومٌ من هَدْي " . (1)
3916 - حدثني يعقوب ، قال : حدثنا ابن علية ، عن محمد بن إسحاق ، عن حكيم بن حكيم ، عن مسعود بن الحكم الزُّرَقي ، عن أمه قالت : لكأني أنظر إلى عليٍّ رضي الله عنه على بغلة رسول الله صلى الله عليه وسلم البيضاء حين وقف على شِعْب الأنصار وهو يقول : " أيها الناس إنها ليست بأيام صيام ، إنما هي أيام أكل وشرب وذكر " . (2)
* * *
__________
(1) الحديث : 3915 - هذا إسناد مرسل لأن عمرو بن دينار تابعي . ولكن الحديث ورد من طريقه متصلا صحيحًا وكذلك من غير طريقه :
فرواه أحمد في المسند : 15496 (3 : 415 حلبي) عن محمد بن جعفر عن شعبة عن عمرو بن دينار " عن نافع بن جبير بن مطعم عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم : أنه بعث بشر بن سحيم فأمره أن ينادي : ألا إنه لا يدخل الجنة إلا نفس مؤمن وإنها أيام أكل وشرب يعني أيام التشريق " .
ورواه أحمد أيضًا بنحوه (4 : 235 حلبي) عن سريج عن حماد بن زيد عن عمرو بن دينار عن نافع بن جبير عن بشر بن سحيم . وكذلك رواه الطحاوي 1 : 429 عن ابن خزيمة عن حجاج بن منهال عن حماد بن زيد به .
ورواه شعبة أيضًا عن حبيب بن أبي ثابت عن نافع بن جبير وروايته في مسند الطيالسي 1299 ومسند أحمد : 15497 (3 : 415 حلبي) والطحاوي 1 : 429 .
وكذلك رواه سفيان الثوري عن حبيب بن أبي ثابت عن نافع بن جبير وروايته في المسند : 15495 (3 : 415 حلبي) وفيه أيضًا (4 : 235 حلبي) وسنن ابن ماجه : 1730 وقال البوصيري في زوائده : " رواه ابن خزيمة في صحيحه " . وكذلك رواه البيهقي 4 : 298 .
(2) الحديث : 3916 - مضى بهذا الإسناد : 3471 .
حكيم بن حكيم بفتح الحاء فيهما بن عباد بن حنيف : ثقة وثقه ابن حبان والعجلي وغيرهما وصحح له الترمذي وابن خزيمة . وترجمه البخاري في الكبير 2/1/17 وابن أبي حاتم 1/2/202 فلم يذكرا فيه جرحا .
مسعود بن الحكم بن الربيع الزرقي الأنصاري المدني : تابعي ثقة يعد في جلة التابعين وكبارهم . وأمه صحابية معروفة .
والحديث رواه ابن سعد في الطبقات 2/1/134 عن إسماعيل بن إبراهيم - وهو ابن علية - بهذا الإسناد .
ورواه الحاكم في المستدرك 1 : 434 - 435 من طريق أحمد بن حنبل عن عبد الأعلى بن عبد الأعلى عن محمد بن إسحاق بهذا الإسناد . وقال الحاكم : " هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه " . ووافقه الذهبي .
وهذا الإسناد - من طريق الإمام احمد : ليس من طريق رواية المسند بل من طريق آخر عنه ولم يذكر هذا الإسناد في المسند . ولكنه رواه بإسناد آخر :
فرواه في المسند : 708 عن يعقوب بن إبراهيم بن سعد عن أبيه عن ابن إسحاق : " حدثني عبد اله بن أبي سلمة عن مسعود بن الحكم الأنصاري ثم الزرقي عن أمه أنها حدثته . . . " فذكر الحديث . وهذا إسناد صحيح أيضًا . فلابن إسحاق فيه شيخان سمعه منهما : حكيم بن حكيم وعبد الله بن أبي سلمة الماجشون - كلاهما عن مسعود بن الحكم .
وانظر أيضًا في المسند : 567 ، 821 ، 824 .

(4/213)


قال أبو جعفر : فإن قال قائل : إن النبي صلى الله عليه وسلم إذ قال في أيام منى : إنها أيام أكل وشرب وذكر الله ، لم يخبر أمَّته أنها " الأيام المعدودات " التي ذكرها الله في كتابه ، فما تنكر أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم عنى بقوله : " وذكْر الله " ، " الأيامَ المعلومات " ؟
قيل : غير جائز أن يكون عنى ذلك. لأن الله لم يكن يُوجب في " الأيام المعلومات " من ذكره فيها ما أوجبَ في " الأيام المعدودات " . وإنما وصف " المعلومات " جل ذكره بأنها أيام يذكر فيها اسم الله على بهائم الأنعام ، فقال : ( لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأنْعَامِ ) [الحج : 28] ، فلم يوجب في " الأيام المعلومات " من ذكره كالذي أوجبه في " الأيام المعدودات " من ذكره ، بل أخبر أنها أيام ذكره علىَ بهائم الأنعام. فكان معلومًا إذ قال صلى الله عليه وسلم لأيام التشريق : " إنها أيام أكل وشرب وذكر الله " فأخرج قوله : " وذكر الله " مطلقًا بغير شرط ، ولا إضافة ، إلى أنه الذكر على بهائم الأنعام أنه عنى بذلك الذكر الذي ذكره الله في كتابه ، فأوجبه على عباده مطلقًا بغير شرط ولا إضافة إلى معنى في " الأيام المعدودات " ، وأنه لو كان أراد بذلك صلى الله عليه وسلم

(4/214)


وصف " الأيام المعلومات " به ، لوصل قوله : " وذكر " ، إلى أنه ذكر الله على ما رزقهم من بهائم الأنعام ، كالذي وصف الله به ذلك ، ولكنه أطلق ذلك باسم الذكر من غير وصله بشيء ، كالذي أطلقه تبارك وتعالى باسم الذكر ، فقال : " واذكروا الله في أيام معدودات " فكان ذلك من أوضح الدليل على أنه عنى بذلك ما ذكره الله في كتابه وأوجبه في " الأيام المعدودات " .
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى }
قال أبو جعفر : اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك :
فقال بعضهم : معناه : فمن تعجل في يَومين من أيام التشريق فنفر في اليوم الثاني فلا إثم عليه في نَفْره وتعجله في النفر ، ومن تأخر عن النفر في اليوم الثاني من أيام التشريق إلى اليوم الثالث حتى ينفر في اليوم الثالث فلا إثم عليه في تأخره.
* ذكر من قال ذلك.
3917 - حدثنا أحمد ، قال : حدثنا أبو أحمد الزبيري ، قال : حدثنا هشيم ، عن عطاء ، قال : لا إثم عليه في تعجيله ، ولا إثم عليه في تأخيره.
3918 - حدثنا أحمد ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال. حدثنا هشيم ، عن عوف ، عن الحسن ، مثله.
3919 - حدثنا أحمد ، قال. حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا هشيم ، عن مغيره ، عن عكرمة ، مثله.
3920 - حدثني محمد بن عمرو ، قال. حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ،

(4/215)


عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : " فمن تعجَّل في يومين " ، يوم النَّفر ، " فلا إثم عليه " ، لا حرج عليه ، " ومن تأخر فلا إثم عليه " .
3921 - حدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : أما : " من تعجَّل في يومين فلا إثم عليه " ، يقول : من نَفَر في يومين فلا جُناح عليه ، ومن تأخر فنفر في الثالث فلا جناح عليه.
3922 - حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : " فمن تعجَّل في يومين " ، يقول : فمن تعجَّل في يومين - أي : من أيام التشريق " فلا إثم عليه " ، ومن أدركه الليل بمنى من اليوم الثاني من قيل أن ينفر ، فلا نَفْر له حتى تزول الشمس من الغد " ومن تأخر فلا إثم عليه " ، يقول : من تأخر إلى اليوم الثالث من أيام التشريق فلا إثم عليه.
3923 - حدثنا الحسن بن يحيى ، قال. أخبرنا عبد الرزاق ، قال. أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : " فمن تعجَّل في يومين فلا إثم عليه " ، قال : رخَّص الله في أن ينفروا في يومين منها إن شاءوا ، ومن تأخر في اليوم الثالث فلا إثم عليه.
3924 - حدثني محمد بن المثنى ، قال. حدثنا محمد بن جعفر ، قال. حدثنا شعبة ، عن منصور ، عن إبراهيم أنه قال في هذه الآية : " فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه " ، قال في تعجيله.
3925 - حدثني هناد بن السريّ ، قال : حدثنا ابن أبى زائدة ، قال : حدثنا إسرائيل ، عن منصور ، عن إبراهيم قال : " لا إثم عليه " ، لا إثم على من تعجل ، ولا إثم على من تأخر.
3926 - حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا إسرائيل ، عن منصور ، عن إبراهيم ، قال : هذا في التعجيل.
3927 - حدثنا أحمد بن إسحاق ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا شريك وإسرائيل ، عن زيد بن جبير ، قال : سمعت ابن عمر يقول : حلَّ النَّفر في يومين لمن اتقى.

(4/216)


3928 - حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا وكيع ، عن ابن أبي ليلى ، عن الحكم ، عن مقسم ، عن ابن عباس : " فمن تجعل في يومين فلا إثم عليه " في تعجله ، " ومن تأخر فلا إثم عليه " في تأخره.
3929 - حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا ابن جريج ، قال : قلت لعطاء : أللمكي أن ينفر في النفْر الأول ؟ قال : نعم ، قال الله عز وجل : " فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه " ، فهي للناس أجمعين.
3930 - حدثنا أحمد ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا سفيان ، عن منصور ، عن إبراهيم : " فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه " ، قال : ليس عليه إثم
3931 - حدثنا المثنى ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : حدثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس : " فمن تعجل في يومين " بعد يوم النحر ، " فلا إثم عليه " ، بقول : من نَفَر من منى في يومين بعد النحر فلا إثم عليه ، " ومن تأخر فلا إثم عليه " في تأخره ، فلا حرج عليه. (1)
3932 - حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن منصور ، عن إبراهيم : " فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه " في تعجله ، " ومن تأخر فلا إثم عليه " في تأخره.
* * *
وقال آخرون : بل معناه : فمن تعجل في يومين فهو مغفور له لا إثم عليه ، ومن تأخر كذلك.
* ذكر من قال ذلك :
3933 - حدثنا أحمد بن إسحاق ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا إسرائيل ،
__________
(1) الأثر : 3931 - كان في المطبوعة " حدثنا علي قال حدثنا أبو صالح . . . " و " علي " تصحيف " المثنى " وهعو إسناد دائر في الطبري أقربه رقم : 2893 .

(4/217)


عن ثوير ، عن أبيه ، عن عبد الله : " فمن تعجَّل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخر فلا إثم عليه " ، قال : ليس عليه إثم.
3934 - حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال حدثنا سفيان ، عن حماد. عن إبراهيم ، عن عبد الله : " فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه " ، أي غفر له " ومن تأخر فلا إثم عليه " ، قال : غُفر له.
3935 - حدثنا أحمد بن حازم ، قال : حدثنا أبو نعيم ، قال : حدثنا مسعر ، عن حماد ، عن إبراهيم ، عن عبد الله : " فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه " ، أي غفر له.
3936 - حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا المحاربي وحدثنا أحمد بن إسحاق ، قال : حدثنا أبو أحمد جميعًا ، عن سفيان ، عن حماد ، عن إبراهيم ، عن عبد الله في قوله : " فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخر فلا إثم عليه " ، قال : قد غُفر له.
3937 - حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا حكام ، عن سفيان ، عن حماد ، عن إبراهيم في قوله : " فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخر فلا إثم عليه " ، قد غفر له.
3938 - حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، عن حماد ، عن إبراهيم ، عن عبد الله قال في هذه الآية : " فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخّر فلا إثم عليه " قال : برئ من الإثم.
3939 - حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا حماد بن سلمة ، عن علي بن زيد ، عن الحسن ، عن ابن عمر : " فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه " قال : رجع مغفورًا له.

(4/218)


3940 - حدثني يعقوب ، قال : حدثنا ابن علية ، عن ليث ، عن مجاهد في قوله : " فمن تعجل في يومين فلا إثم عَليه ومن تأخر فلا إثم عليه " ، قال : قد غفر له.
3941 - حدثنا أحمد بن إسحاق ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا سفيان ، عن جابر ، عن أبي عبد الله ، عن ابن عباس : " فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه " ، قال : قد غفر له ، إنهم يتأولونها على غير تأويلها ، إن العمرة لتكفِّر ما معها من الذنوب فكيف بالحج!.
3942 - حدثنا أحمد ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا إسرائيل ، عن أبي حصين ، عن إبراهيم وعامر : " فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخر فلا إثم عليه " ، قالا غفر له.
3943 - حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : حدثني من أصدقه ، عن ابن مسعود قوله : " فلا إثم عليه " ، قال : خرج من الإثم كله " ومن تأخر فلا إثم عليه " ، قال : برئ من الإثم كله ، وذلك في الصَّدَر عن الحج قال ابن جريج : وسمعت رجلا يحدث عن عطاء بن أبي رباح ، عن على بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال : " فلا إثم عليه " ، قال. غفر له ، " ومن تأخر فلا إثم عليه " ، قال : غُفر له.
3944 - حدثني أحمد بن حازم ، قال : حدثنا أبو نعيم ، قال. حدثنا أسود بن سوادة القطان ، قال : سمعت معاوية بن قُرة قال : يَخرج من ذنوبه. (1)
* * *
__________
(1) الأثر : 3944 - لم أجد " أسود بن سوادة القطان " ، ولعله " سوادة بن أبي الأسود القطان " وهو الذي يروي عنه أبو نعيمن واسمه " عبد الله " ويقال مسلم بن مخارق القطان . ترجمه في التهذيب .

(4/219)


وقال آخرون : معنى ذلك : " فمن تعجل في يومين فعلا إثم عليه ، ومن تأخر فلا إثم عليه " ، فيما بينه وبين السنة التي بَعدها.
* ذكر من قال ذلك :
3945 - حدثنا أحمد بن إسحاق ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا إسحاق بن يحيى بن طلحه ، قال : سألت مجاهدًا عن قول الله عز وجل : " فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخر فلا إثم عليه " ، قال : لمن في الحج ، ليس عليه إثم حتى الحج من عام قابل.
* * *
وقال آخرون : بل معناه. فلا إثم عليه إن اتقى الله فيما بقي من عمره.
* ذكر من قال ذلك :
3946 - حدثنا أحمد ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا أبو جعفر الرازي ، عن الربيع بن أنس ، عن أبي العالية : " فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخر فلا إثم عليه " ، قال : ذهب إثمه كله إن اتقى فيما بقي.
3947 - حدثت عن عمار ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن المغيرة ، عن إبراهيم ، مثله.
3948 - حدثت عن عمار ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع ، عن أبي العالية ، مثله.
3949 - حدثني يونس ، قاله : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : " فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخر فلا إثم عليه " ، قال : لمن اتقى بشرط.
3950 - حدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : " فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه " ، لا جُناح عليه " ومن تأخر " إلى اليوم الثالث فلا جناح عليه لمن اتقى وكان ابن عباس يقول : وددت أنّي من هؤلاء ، ممن يُصيبه اسمُ التقوى.
3951 - حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج ، قال :

(4/220)


قال ابن جريج : هي في مصحف عبد الله : " لِمَنِ اتَّقَى اللهَ " .
3952 - حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله ، قال : حدثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس : " فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخر فلا إثم عليه " ، فلا حرج عليه ، يقول : لمن اتقى معاصيَ الله عز وجل. (1)
* * *
وقال آخرون : بل معنى ذلك : " فمن تعجل في يومين " من أيام التشريق " فلا إثم عليه " ، أي فلا حرج عليه في تعجيله النفْر ، إن هو اتقى قَتْل الصيد حتى ينقضي اليوم الثالث ، ومن تأخر إلى اليوم الثالث فلم ينفر فلا حرج عليه.
* ذكر من قال ذلك :
3953 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا محمد بن أبي صالح : " لمن اتقى " أن يصيب شيئًا من الصيد حتى يمضي اليوم الثالث.
3954 - حدثني محمد بن سعد ، قال : حدثني أبي قال : حدثني عمي قال : حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : " فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه " ، ولا يحل له أن يقتل صيدًا حتى تخلو أيام التشريق.
* * *
وقال آخرون : بل معناه : " فمن تعجل في يومين " من أيام التشريق فنفر " فلا إثم عليه " ، أي مغفورٌ له - " ومن تأخر " فنفر في اليوم الثالث " فلا إثم عليه " ، أي مغفور له إن اتقى على حجه أن يصيبَ فيه شيئًا نهاه الله عنه.
* ذكر من قال ذلك :
3955 - حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، فال : حدثنا سعيد ، عن قتادة
__________
(1) الأثر : 3952 - في المطبوعة : " حدثنا علي ، قال حدثنا عبد الله " . وقوله " علي " تصحيف والصواب ما أثبتنا ، وانظر الأثر السالف رقم : 3931 والتعليق عليه .

(4/221)


قوله : " لمن اتقى " ، قال : يقول لمن اتقى على حجه قال قتادة : ذكر لنا أن ابن مسعود كان يقول : من اتقى في حجه غفر له ما تقدم من ذنبه - أو : ما سلف من ذنبه.
* * *
قال أبو جعفر : وأولى هذه الأقوال بالصحة قول من قال : تأويل ذلك : " فمن تعجل في يومين " من أيام منى الثلاثة فنفر في اليوم الثاني " فلا إثم عليه " ، لحطِّ الله ذنوبَه ، إن كان قد اتقى الله في حجه ، فاجتنب فيه ما أمره الله باجتنابه ، وفعل فيه ما أمره الله بفعله ، وأطاعه بأدائه على ما كلفه من حدوده " ومن تأخر " إلى اليوم الثالث منهن فلم ينفر إلى النفر الثاني حتى نفر من غد النفر الأول ، " فلا إثم عليه " ، لتكفير الله له ما سلف من آثامه وإجرامه ، وإن كان اتقى الله في حجه بأدائه بحدوده.
وإنما قلنا أن ذلك أولى تأويلاته [بالصحة] ، لتظاهر الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " ومن حجّ هذا البيت فلم يرفُثْ ولم يفسُقْ خرَج من ذنوبه كيوم ولدته أمه وأنه قال صلى الله عليه وسلم : " تابعوا بين الحجّ والعمرة ، فإنهما ينفيان الذنوب كما ينفي الكِيرُ خَبَثَ الحديد والذهب والفضة " .
3956 - حدثنا عبد الله بن سعيد الكندي ، قال : حدثنا أبو خالد الأحمر ، قال : حدثنا عمرو بن قيس ، عن عاصم ، عن شقيق ، عن عبد الله ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : تابعوا بين الحج والعمرة فإنهما ينفيان الفقرَ والذنوبَ كما ينفي الكِيرُ خَبَثَ الحديد والذهب والفضة ، وليس للحجة المبرورة ثوابُ دون الجنة " . (1)
__________
(1) الحديث : 3956 - عبد الله بن سعيد الكندي أبو سعيد الأشج : ثقة حافظ من شيوخ أصحاب الكتب الستة . أبو خالد الأحمر : هو سليمان بن حيان - بالياء التحتية - الأزدي وهو ثقة من شيوخ أحمد وإسحاق أخرج له جماعة . عمرو بن قيس : هو الملائي . عاصم : هو ابن أبي النجود . شقيق : هو ابن سلمة أبو وائل الأسدي عبد الله : هو ابن مسعود .
والحديث رواه احمد في المسند : 3669 عن أبي خالد الأحمر بهذا الإسناد ورواه الترمذي 2 : 78 والنسائي 2 : 4 - كلاهما من طريق أبي خالد الأحمر .
وذكره السيوطي 1 : 211 وزاد نسبته لابن أبي شيبة وابن خزيمة وابن حبان .
الكير : زق أو جلد غليظ ذو حافات ينفخ فيه الحداد ، ليؤرث النار . وخبث الحديد وغيره : هو ما ينفيه الكير والنار من الحديد إذا أذيب وهو ما لا خير فيه منه .

(4/222)


3957 - حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا الحكم بن بشير ، عن عمرو بن قيس ، عن عاصم ، عن زر ، عن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه. (1)
3958 - حدثنا الفضل بن الصباح ، قال : . حدثنا ابن عيينة ، عن عاصم بن عبيد الله ، عن عبد الله بن عامر بن ربيعة ، عن أبيه ، عن عمر يبلغ به النبي صلى الله عليه وسلم قال : " تابعوا بين الحج والعمرة ، فإنّ متابعة ما بينهما تنفي الفقر والذنوبَ كما ينفي الكيرُ الخبَثَ أو : خبَثَ الحديد " . (2)
3959 - حدثنا إبراهيم بن سعيد ، قال : حدثنا سعد بن عبد الحميد ، قال : حدثنا ابن أبي الزناد ، عن موسى بن عقبة ، عن صالح مولى التوأمة ، عن ابن عباس ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إذا قضيتَ حجَّك فأنت مثل ما ولدتك أمك. (3)
* * *
__________
(1) الحديث : 3957 - وهذا إسناد آخر صحيح لهذا الحديث لم أجده عند غير الطبري . وهو يدل على أن عاصم بن أبي النجود رواه عن شيخين ، هما أبو وائل وزر بن حبيش - : كلاهما عن ابن مسعود .
(2) الحديث : 3958 - عاصم بن عبيد الله بن عاصم بن عمر بن الخطاب : ضعيف وقد بينا ضعفه في شرح المسند : 128 ، 5229 .
والحديث رواه ابن ماجه : 2887 بإسنادين من طريق ابن عيينة ومن طريق عبيد الله بن عمر - كلاهما عن عاصم بن عبيد الله . وقال البوصيري في زوائده : " مدار الإسنادين على عاصم ابن عبيد الله ، وهو ضعيف . والمتن صحيح من حديث ابن مسعود رواه الترمذي والنسائي " ، يريد الحديثين السابقين .
وذكره السيوطي 1 : 211 وزاد لابن أبي شيبة ، والبيهقي .
(3) الحديث : 3959 - إبراهيم بن سعيد هو الجوهري . مضى في : 3355 . سعد بن عبد الحميد بن جعفر بن عبد الله الأنصاري المدني : ضعفه ابن حبان جدا وقال ابن معين : " ليس به بأس " . والذي أرجحه أنه ثقة ، فإن البخاري ترجمه في الكبير 2/2/62 فلم يذكر فيه حرجا ولم يذكره هو ولا النسائي في الضعفاء وترجمه ابن أبي حاتم 2/1/92 فلم يجرحه أيضًا .
صالح مولى التوأمة : هو صالح بن نبهان ، مضى في 1020 تصحيح رواية من سمع منه قديما قبل تغير حفظه . وموسى بن عقبة سمع منه قديما ، كما بينا في شرح المسند : 2604 .
وهذا الحديث . بهذا الإسناد - لم أجده في موضع آخر من المراجع من حديث ابن عباس . ومعناه ثابت في أحاديث أخر صحاح . انظر الترغيب والترهيب 2 : 105 - 113 ومجمع الزوائد 3 : 207 - 209 ، 274 - 277 ، وانظر ما سلف من رقم : 3718 - 3728 .

(4/223)


وما أشبه ذلك من الأخبار التي يطول بذكر جميعها الكتاب ، مما ينبئ عنه أنّ من حجّ فقضاه بحدوده على ما أمره الله ، فهو خارج من ذنوبه ، كما قال جل ثناؤه : " فلا إثم عليه لمن اتقى " الله في حجه. فكان في ذلك من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يوضح عن أن معنى قوله جل وعزّ : " فلا إثم عليه " ، أنه خارجٌ من ذنوبه ، محطوطة عنه آثامه ، مغفورَةٌ له أجْرامه وأنه لا معنى لقول من تأول قوله : " فلا إثم عليه " ، فلا حرج عليه في نفره في اليوم الثاني ، ولا حرج عليه في مقامه إلى اليوم الثالث. لأن الحرَج إنما يوضع عن العامل فيما كان عليه ترْك عمله ، فيرخّص له في عمله بوضع الحرَج عنه في عمله ؛ أو فيما كان عليه عمله ، فيرخَّص له في تركه بوضع الحرج عنه في تركه. فأما ما على العامل عَمله فلا وَجه لوضع الحرَج عنه فيه إن هو عَمله ، وفرضُه عَملُه ، لأنه محال أن يكون المؤدِّي فرضًا عليه ، حرجا بأدائه ، (1) فيجوز أن يقال : قد وضعنا عنك فيه الحرَج.
وإذ كان ذلك كذلك وكان الحاج لا يخلو عند من تأوّل قوله : " فلا إثم عليه " فلا حرج عليه ، أو فلا جناح عليه ، من أن يكون فرضه النفر في اليوم الثاني من أيام التشريق ، فوضع عنه الحرَج في المقام ، أو أن يكون فرضَه المقام ،
__________
(1) قوله : " حرجًا " على وزن " فرح " بمعنى آثم وقد مضى في الجزء 2 : 423 استعمال هذه الصيغة وعلقت عليه أن أهل اللغة ينكرون ذلك ويقولون بل هو " حارج " ولقد أعاد الطبري استعمالها هنا مرة أخرى ، ورأيت أيضًا القاضي الباقلاني قد استعملها في كتابه التمهيد ص : 221 ، فقال : " . . . لم يكن الإمام بذلك مأثومًا ولا حرجًا " وكأني رأيت الشافعي قد استعملها أيضًا في الأم ، ولكن ذهب عني مكانها .

(4/224)


إلى اليوم الثالث ، فوضع عنه الحرج في النفر في اليوم الثاني ، فإن يكن فرضه في اليوم الثاني من أيام التشريق المقام إلى اليوم الثالث منها ، فوضع عنه الحرج في نفره في اليوم الثاني منها - وذلك هو التعجُّل الذي قيل : " فمن تعجَّل في يومين فلا إثم عليه " - فلا معنى لقوله على تأويل من تأوّل ذلك : " فلا إثم عليه " ، فلا جناح عليه ، " ومن تأخر فلا إثمَ عليه " . لأن المتأخر إلى اليوم الثالث إنما هو متأخّرٌ عن أداء فرض عليه ، تاركٌ قبولَ رُخصة النفر ، فلا وجه لأن يقال : " لا حرج عليك في مقامك على أداء الواجب عليك " ، لما وصفنا قبل - أو يكون فرضُه في اليوم الثاني النفر ، فرُخِّص له في المقام إلى اليوم الثالث ، فلا معنى أن يقال : " لا حرج عليك في تعجُّلك النفر الذي هو فرضك وعليك فعله " ، للذي قدمنا من العلة.
وكذلك لا معنى لقول من قال : معناه : " فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه " ولا حرج عليه في نفره ذلك ، إن اتقى قتل الصيد إلى انقضاء اليوم الثالث. لأن ذلك لو كان تأويلا مسلَّمًا لقائله لكان في قوله : " ومن تأخر فلا إثم عليه " ، ما يُبطل دعواه ، لأنه لا خلاف بين الأمة في أن الصيد للحاجّ بعد نفره من منى في اليوم الثالث حلال ، فما الذي من أجله وَضَع عنه الحرج في قوله : " ومن تأخر فلا إثم عليه " ، إذا هو تأخر إلى اليوم الثالث ثم نفر ؟ هذا ، مع إجماعِ الحجة على أن المحرم إذا رمى وذبح وحلق وطافَ بالبيت ، فقد حلَّ له كل شيء ، وتصريحِ الرواية المروية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بنحو ذلك ، (1) التي : -
3960 - حدثنا بها هناد بن السري الحنظلي ، قال : حدثنا عبد الرحيم بن سليمان ، عن حجاج ، عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم ، عن عمرة قالت : سألت عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها متى يحلّ المحرم ؟ فقالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إذا رَميتم وذبحتم وحلقتم ، حلّ لكم كل شيء إلا النساء
__________
(1) في المطبوعة : " الرواية المروية " ورددتها إلى عبارة الطبري التي يكثر استعمالها ، انظر ما سلف 4 : 33ن س : 19 وفي مواضع كثيرة لم استطع أن أجدها الآن .

(4/225)


قال : وذكر الزهري ، عن عمرة ، عن عائشة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، مثله. (1)
وأما الذي تأوّل ذلك أنه بمعنى : " لا إثم عليه إلى عام قابل " ، فلا وجه لتحديد ذلك بوقت ، وإسقاطه الإثمَ عن الحاجّ سنة مستقبَلة ، دون آثامه السالفة. لأن الله جل ثناؤه لم يحصُر ذلك على نفي إثم وقت مستقبَل بظاهر التنزيل ، ولا على لسان الرسول عليه الصلاة والسلام ، بل دلالةُ ظاهر التنزيل تُبين عن أن المتعجّل في اليومين والمتأخر لا إثم على كل واحد منهما في حاله التي هو بها دون غيرها من الأحوال.
والخبر عن الرسول صلى الله عليه وسلم يصرِّح بأنه بانقضاء حجه على ما أمر به ، خارجٌ من ذنوبه كيوم ولدته أمه. ففي ذلك من دلالة ظاهر التنزيل ، وصريح قول الرسول صلى الله عليه وسلم دلالة واضحة على فساد قول من قال : معنى قوله : " فلا إثم عليه " ، فلا إثم عليه من وقت انقضاء حجه إلى عام قابل.
* * *
قال أبو جعفر : فإن قال لنا قائل : ما الجالب " اللام " في قوله : " لمن أتقى " ؟ وما معناها ؟
قيل : الجالبُ لها معنى قوله : " فلا إثم عليه " . لأن في قوله : " فلا إثم عليه " معنى : حططنا ذنوبه وكفَّرنا آثامه ، فكان في ذلك معنى : جعلنا تكفيرَ الذنوب لمن اتقى الله في حجه ، فترك ذكر " جعلنا تكفير الذنوب " ، اكتفاء بدلالة قوله : " فلا إثم عليه " .
وقد زعم بعض نحوييّ البصرة أنه كأنه إذا ذكر هذه الرخصة فقد أخبر عن أمر ، فقال : " لمن اتقى " أي : هذا لمن اتقى. وأنكرَ بعضُهم ذلك من قوله ، وزعم أن الصفة لا بد لها من شيء تتعلق به ، (2) لأنها لا تقوم بنفسها ، ولكنها فيما زعم من صلة " قول " متروك ، فكان معنى الكلام عنده " قلنا " : (3) " ومن تأخر فلا
__________
(1) الحديث : 3960 - هناد بن السري الدارمي : مضت ترجمته : 2058 . وقد نسب هنا حنظليا كما نسبه البخاري في الكبير . وكلاهما صحيح فهو من بني " دارم بن حنظلة بن مالك بن زيد مناة بن تميم " . انظر جمهرة ابن حزم ص : 211 ، 217 .
حجاج : هو ابن أرطأة وهو ثقة على الراجح عندنا كما ذكرنا في : 2299 .
وقد روى الحجاج هذا الحديث بإسنادين : فرواه عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن عمرة ، وهي بنت عبد الرحمن - وهي خالة أبي بكر بن حزم - عن عائشة وذكر لفظ الحديث . ثم رواه عن الزهري عن عمرة عن عائشة " مثله " . فلم يذكر لفظه . وهذا من تحري الحجاج بن أرطأة ودققه كما سيبين مما يجيء .
فالحديث - من رواية أبي بكر بن حزم - رواه أحمد في المسند 6 : 143 (حلبي) عن يزيد ابن هارون عن الحجاج بهذا الإسناد نحوه . ولكن ليس فيه كلمة " وذبحتم " . وكذلك رواه البيهقي في السنن الكبرى 5 : 136 من طريق مالك بن يحيى عن يزيد بن هارون ، ثم قال : " ورواه محمد بن أبي بكر ، عن يزيد بن هارون فزاد فيه : وذبحتم فقد حل لكم كل شيء ، الطيب والثياب إلا النساء " . ثم ذكر البيهقي إسناده به إلى محمد بن أبي بكر . ثم أعله البيهقي وسنذكر ما قال والجواب عنه ، إن شاء الله .
وقد سها السيوطي ، حين ذكر هذا الحديث في زوائد الجامع الصغير (1 : 117 من الفتح الكبير) فنسبه لصحيح مسلم - مع البيهقي) وهذا خطأ يقينا ، فإنه ليس في صحيح مسلم .
وأما من رواية الحجاج عن الزهري : فرواه أبو داود في السنن : 1978 عن مسدد عن عبد الواحد بن زياد عن الحجاج عن الزهري عن عمرة عن عائشة مرفوعا بلفظ : " إذا رمى أحدكم جمرة العقبة فقد حل له كل شيء إلا النساء " . ثم أعله أبو داود فقال : " هذا حديث ضعيف . والحجاج لم ير الزهري ولم يسمع منه " . وهذا تعليل جيد من أبي داود فقد روى ابن أبي حاتم في كتاب المراسيل ص : 18 بإسناده عن هشيم قال : " قال لي الحجاج بن أرطأة : سمعت من الزهري ؟ قلت : نعم قال : لكني لم أسمع منه شيئًا " .
وأما البيهقي فإنه أعلى رواية الحجاج عن أبي بكر بن حزم تعليلا لا أراه مستقيما . قال عقب روايته : " وهذا من تخليطات الحجاج بن أرطأة وإنما الحديث عن عمرة عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم كما رواه سائر الناس عن عائشة " . ثم ذكر حديثها قالت : " طيب رسول الله صلى الله عليه وسلم لحرمه حين أحرم ، ولحله قبل أن يفيض - بأطيب ما وجدت من الطيب " . وهو حديث صحيح رواه مسلم .
وما نرى إعلال ذاك بهذا هذا حديث فعلي ، من حكاية عائشة وذاك حديث قولي من روايتها عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وكل منهما مؤيد لصحة الآخر ، فأتى يستقيم التعليل ؟
وقد ورد نحو هذا الحديث أيضًا من حديث ابن عباس مرفوعا : " إذا رميتم الجمرة فقد حل لكم كل شيء إلا النساء " . رواه أحمد في المسند : 2090 ، 3204 ، 3491 . ولكنه بإسناد منقطع لأنه من رواية الحسن العرني عن ابن عباس . وهو لم يسمع من ابن عباس كما قال البخاري في الصغير ص 136 . ولكنه يصلح على كل حال شاهدا لهذا الحديث .
(2) الصفة : هي حرف الجر وهي حروف الصفات وانظر ما سلف 1 : 299 تعليق : 1 ثم 3 : 475 تعليق : 1 .
(3) في المطبوعة : " فكان معنى الكلام عنده " ما قلنا " بزيادة " ما " وهو خطأ بين بدل عليه سياق هذا التأويل .

(4/226)


إثم عليه لمن اتقى " ، وقام قوله : " ومن تأخر فلا إثم عليه " ، مقامَ " القول " .
وزعم بعضُ أهل العربية أنّ موضع طرْح الإثم في المتعجِّل ، فجُعل في المتأخر وهو الذي أدَّى ولم يقصر مثل ما جُعل على المقصِّر ، كما يقال في الكلام : " إن تصدقت سرًّا فحسنٌ ، وإن أظهرتَ فحسنٌ " ، وهما مختلفان ، لأن المتصدق علانية إذا لم يقصد الرياء فحسن ، وإن كان الإسرار أحسن.
وليس في وصف حالتي المتصدقين بالحُسن وصف إحداهما بالإثم. وقد أخبر الله عز وجل عن النافرين بنفي الإثم عنهما ، ومحال أن ينفي عنهما إلا ما كان في تركه الإثم على ما تأوَّله قائلو هذه المقالة. وفي إجماع الجميع على أنهما جميعًا لو تركا النفر وأقاما بمنىً لم يكونا آثمين ، ما يدل على فساد التأويل الذي تأوله من حكينا عنه هذا القول.
وقال أيضًا : فيه وجهٌ آخر ، وهو معنى نهي الفريقين عن أن يُؤثِّم أحدُ الفريقين الآخر ، كأنه أراد بقوله : " فلا إثم عليه " ، لا يقل المتعجل للمتأخر : " أنت آثم " ، ولا المتأخر للمتعجل : " أنت آثم " ، بمعنى : فلا يؤثِّمنَّ أحدهما الآخر.
وهذا أيضًا تأويل لقول جميع أهل التأويل مخالفٌ ، وكفى بذلك شاهدًا على خطئه.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (203) }
قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه : واتقوا الله أيها المؤمنون فيما فَرض عليكما من فرائضه ، فخافوه في تضييعها والتفريط فيها ، وفيما نهاكم عنه في حجكم ومناسككما أن ترتكبوه أو تأتوه وفيما كلفكم في إحرامكم لحجكم أن تقصِّروا في

(4/228)


وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ (204)

أدائه والقيام به ، " واعلموا أنكم إليه تحشرون " ، فمجازيكم هو بأعمالكم - المحسن منكم بإحسانه ، والمسيء بإساءته - وموفٍّ كل نفس منكم ما عملت وأنتم لا تظلمون.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ }
قال أبو جعفر : وهذا نعت من الله تبارك وتعالى للمنافقين ، بقوله جل ثناؤه : ومن الناس من يعجبك يا محمد ظاهرُ قوله وعلانيته ، ويستشهد الله على ما في قليه ، وهو ألدُّ الخصام ، جَدِلٌ بالباطل.
* * *
ثم اختلف أهل التأويل فيمن نزلت فيه هذه الآية.
فقال بعضهم. نزلت في الأخنس بن شرِيق ، قدِم على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فزعم أنه يريد الإسلام ، وحلف أنه ما قدم إلا لذلك ، ثم خرج فأفسد أموالا من أموال المسلمين.
* ذكر من قال ذلك :
3961 - حدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : " ومن الناس من يُعجبك قولُه في الحياة الدنيا ويُشهد الله على ما في قلبه وهو ألدُّ الخصام " ، قال : نزلت في الأخنس بن شريق الثقفي - وهو حليفٌ لبني زُهره - وأقبل إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم بالمدينة ، فأظهر له الإسلام ، فأعجبَ النبيّ صلى الله عليه وسلم ذلك منه ، وقال : إنما جئت أريد الإسلام ، والله يعلم أنّي صادق! وذلك قوله : " ويشهد الله على ما في قلبه " ثم خرج من عند النبي صلى الله عليه وسلم فمرَّ بزرع لقوم من المسلمين وُحُمر ، فأحرق الزرع ،

(4/229)


وعقر الحُمُرُ ، فأنزل الله عز وجل : " وإذا تولى سعَى في الأرض ليُفسد فيها ويُهلك الحرْثَ والنسل " . وأما " ألد الخصام " فأعوجُ الخصام ، وفيه نزلت : ( وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ ) [الهمزة : 1] ونزلت فيه : ( وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلافٍ مَهِينٍ ) إلى( عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ ) [القلم : 10 - 13] (1)
* * *
وقال آخرون : بل نزل ذلك في قوم من أهل النفاق تكلموا في السرية التي أصيبت لرسول الله صلى الله عليه وسلم بالرَّجيع.
* ذكر من قال ذلك :
3962 - حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا يونس بن بكير ، عن أبى إسحاق ، قال : حدثني محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت ، قال : حدثني سعيد بن جبير أو عكرمة ، عن ابن عباس ، قال : لما أصيبت هذه السرية أصحاب خُبَيْب بالرجيع بين مكة والمدينة ، فقال رجال من المنافقين : يا ويح هؤلاء المقتولين الذين هلكوا هكذا! (2) لا هم قعدوا في بيوتهم ، ولا هم أدَّوْا رسالة صاحبهم! فأنزل الله عز وجلّ في ذلك من قول المنافقين ، وما أصاب أولئك النفر في الشهادة والخير من الله : " ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا " أي : ما يُظهر بلسانه من الإسلام " ويشهد الله على ما في قلبه " أي من النفاق - (3) " وهو ألد الخصام " أي : ذو جدال إذا كلمك وراجعك " وإذا تولى " - أي : خرج من عندك " سعىَ في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحَرثَ والنسل والله لا يحب الفساد " - أي :
__________
(1) الأثر رقم : 3961 - لم يذكر الطبري في تفسير " سورة الهمزة " و " سورة القلم " هذا الخبر من أن الآيتين نزلتا في الأخنس بن شريق . وهذا دليل آخر على صدق ما أخبروا به عنه أنه قد اختصر هذا التفسير اختصارًا كبيرًا ، كما جاء في أخباره .
وسيأتي بعض هذا الاثر برقم : 3978 .
(2) في المطبوعة : " هؤلاء المقتولين " . والصواب من سيرة ابن هشام . وبعد هذا في ابن هشام : " لا هم قعدوا في أهليهم " .
(3) مكان هذا التفسير في نص ابن هشام : " وهو مخالف لما يقول بلسانه " .

(4/230)


لا يحبّ عمله ولا يرضاه " وإذا قيل له اتق الله أخذته العزة بالإثم فحسْبُه جهنم ولبئس المهاد ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله " الذين شروا أنفسهم لله بالجهاد في سبيل الله والقيام بحقه ، حتى هلكوا على ذلك - يعني هذه السرّية.
3963 - حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، قال : حدثني محمد بن إسحاق ، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت ، عن عكرمة مولى ابن عباس - أو : عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس - قال : لما أصيبت السرية التي كان فيها عاصم ومرْثد بالرَّجيع ، قال رجال من المنافقين : - ثم ذكر نحو حديث أبي كريب. (1)
* * *
وقال آخرون : بل عنى بذلك جميعَ المنافقين ، وعنى بقوله : " ومن الناس من يُعجبك قوله في الحياة
__________
(1) الأثر : 3962 ، 3963 - سيرة ابن هشام 3 : 183 - 184 وسيأتي بعضه برقم 3973ن ثم رقم : 3980 .

(4/231)


الدنيا ويُشهد الله على ما في قلبه " ، اختلافَ سريرته وعلانيته.
* ذكر من قال ذلك :
3964 - حدثني محمد بن أبي معشر ، قال : أخبرني أبى أبو معشر نجيح ، قال : سمعت سعيدًا المقبري يذاكر محمد بن كعب ، فقال سعيد : إنّ في بعض الكتب أن لله عبادًا ألسنتهم أحلى من العسل ، وقلوبهم أمرُّ من الصَّبِر ، لبسوا للناس مسوكَ الضأن من اللين ، (1) يجترُّون الدنيا بالدين ، قال الله تبارك وتعالى : أعليّ يجترءون ، وبي يغترُّون!! وعزتي لأبعثنّ عليهم فتنة تترك الحليمَ منهم حيران !! فقال محمد بن كعب : هذا في كتاب الله جل ثناؤه. فقال سعيد : وأين هو من كتاب الله ؟ قال : قول الله عز وجل : " ومنَ الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويشهد الله على ما في قلبه وهو ألد الخصام وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرثَ والنسل والله لا يحبَ الفساد " فقال سعيد : قد عرفتَ فيمن أنزلت هذه الآية ! فقال محمد بن كعب : إن الآية تنزل في الرجل ، ثم تكون عامة بعدُ.
3965 - حدثني يونس بن عبد الأعلى ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرني الليث بن سعد ، عن خالد بن يزيد ، عن سعيد بن أبي هلال ، عن القرظي ، عن نَوْفٍ - وكان يقرأ الكتب - قال : إني لأجد صفة ناس من هذه الأمة في كتاب الله المنزل : " قومٌ يجتالون الدنيا بالدين ، (2) ألسنتهم أحلى من العسل ، وقلوبهم أمرُّ من الصَّبر ، يلبسون للناس لباسَ مُسوك الضأن ، وقلوبهم قلوب الذئاب ، فعليّ يجترءون! وبي يغترُّون! حلفت بنفسي لأبعثنّ عليهم فتنةً تترك الحليم فيهم حيران " . قال القرظي : تدبرتها في القرآن فإذا هم المنافقون ، فوجدتها : " ومن الناس من يُعجبك قوله في الحياة الدنيا ويُشهد الله على ما في قلبه وهو ألد الخصام " ، ( وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ ) (3) [الحج : 11]
3966 - وحدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر عن قتادة قوله : " ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويُشهد الله على ما في قلبه " قال : هو المنافق.
3967 - حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ،
__________
(1) الصبر (بفتح الصاد وكسر الباء) : عصارة شجر مر . والمسوك جمع مسك (بفتح فسكون) : الجلد جلد الغنم وغيرها .
(2) في الأصل : " يحتالون " والصواب ما أثبت . اجتال الرجل الشيء : إذا ذهب به وطرده وساقه . واجتال الجيش أموالهم : ذهب بها .
(3) الأثر : 3965 - خالد بن يزيد الجمحي أبو عبد الرحيم المصري كان فقيها مفتيا . ثقة مات سنة 139 . مترجم في التهذيب . و " نوف " هو نوف بن فضالة الحميري البكالي ، كان ثقة رواية للقصص وهو ابن امرأة كعب الأحبار ، مات ما بين التسعين إلى المئة . مترجم في التهذيب .

(4/232)


عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : " ومن الناس من يُعجبك قوله " ، قال : علانيته في الدنيا ، ويُشهد الله في الخصومة ، إنما يريد الحق.
3968 - حدثت عن عمار ، قال : حدثنا ابن أبى جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع قوله : " ومن الناس من يُعجبك قوله في الحياة الدنيا ويُشهد الله على ما في قلبه وهو ألد الخصام " ، قال : هذا عبد كان حسن القول سيئ العمل ، يأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فيحسن له القول ، " وإذا تولَّى سَعَى في الأرض ليُفسد فيها " .
3969 - وحدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قلت لعطاء : " ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويشهد الله على ما في قلبه " ، قال. يقول قولا في قلبه غيره ، والله يعلم ذلك.
* * *
وفي قوله : " ويُشهد الله على ما في قلبه " ، وجهان من القراءة : فقرأته عامة القرأة : " ويُشهد الله على ما في قلبه " ، بمعنى أن المنافق الذي يُعجب رسول الله صلى الله عليه وسلم قولُه ، يستشهدُ الله على ما في قلبه ، أن قوله موافقٌ اعتقادَه ، وأنه مؤمن بالله ورسوله وهو كاذب. كما : -
3970 - حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد : " ومن الناس من يُعجبك قوله في الحياة الدنيا " إلى " والله لا يحب الفساد " ، كان رجلٌ يأتي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فيقول : أي رسول الله أشهد أنك جئت بالحق والصدق من عند الله ! قال : حتى يُعجب النبي صلى الله عليه وسلم بقوله. ثم يقول : أما والله يا رسولَ الله ، إنّ الله ليعلم ما في قلبي مثلُ ما نطق به لساني! فذلك قوله : " ويُشهد الله على ما في قلبه " . قال : هؤلاء المنافقون ، وقرأ قول الله تبارك وتعالى : ( إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ ) حتى بلغ : ( إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ ) [المنافقون : 1] بما يشهدون أنك رسول الله.
* * *

(4/233)


وقال السدي : " ويُشهد الله على ما في قلبه " ، يقول : الله يعلم أني صادق ، أني أريد الإسلام.
3971 - حدثني بذلك موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، عن أسباط.
* * *
وقال مجاهد : ويُشهد الله في الخصومة ، إنما يريد الحق.
3972 - حدثني بذلك محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عنه.
* * *
وقرأ ذلك آخرون : ( وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ ) بمعنى : والله يشهد على الذي في قلبه من النفاق ، وأنه مضمرٌ في قلبه غير الذي يُبديه بلسانه وعلى كذبه في قلبه. وهي قراءة ابن مُحَيْصن ، وعلى ذلك المعنى تأوله ابن عباس. وقد ذكرنا الرواية عنه بذلك فيما مضى في حديث أبي كريب ، عن يونس بن بكير عن محمد بن إسحاق الذي ذكرناه آنفًا. (1)
* * *
والذي نختار في ذلك من قول القرأة قراءة من قرأ : " ويشهد الله على ما في قلبه " ، بمعنى يستشهد الله على ما في قلبه ، لإجماع الحجة من القرأةِ عليه.
* * *
__________
(1) انظر رقم : 3962 .

(4/234)


القول في تأويل قوله تعالى : { وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ (204) }
قال أبو جعفر : " الألد " من الرجال : الشديد الخصومة ، يقال في " فعلت " منه : " قد لَدَدْتَ يا هذا ، ولم تكن ألدَّ ، فأنت تلُدُّ لَدَدًا ولَدَادةً " . (1) فأما إذا غلب من خاصمه ، فإنما يقال فيه : " لدَدْت يا فلانُ فلانًا فأنت تَلُدُّه لَدًّا ، ومنه قول الشاعر :
ثُمَّ أُرَدِّي بِهِمُ من تُرْدِي... تَلُدُّ أقْرَانَ الخُصُومِ اللُّدِّ (2)
* * *
قال أبو جعفر : اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك.
فقال بعضهم : تأويله : أنه ذو جدال.
* ذكر من قال ذلك :
3973 - حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا يونس بن بكير ، عن ابن إسحاق ، قال : حدثني محمد بن أبي محمد ، قال : حدثني سعيد بن جبير أو عكرمة ، عن ابن عباس : " وهو ألد الخصام " ، أي : ذو جدال ، إذا كلمك وراجعك. (3)
3974 - حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : " وهو ألد الخصام " ، يقول : شديد القسوة في معصية الله جَدِلٌ بالباطل ،
__________
(1) قوله : " لدادة " مصدر لم أجده في كتب اللغة التي بين يدي .
(2) لم أعرف قائله . والبيت الثاني في اللسان (لدد) روايته " ألد أقران " . والبيتان جميعا في معاني القرآن للفراء 1 : 123 بتقديم البيت الثاني على الأول ، وروايته : " اللُّدّ أقران الرجال اللُّدِّ "
وكأنه تصحيف وخطأ وصوابه " ألد " كما في اللسان . وكان في الطبري " ثم أردى وبهم . . " بزيادة واو ، والصواب ما في معاني القرآن .
(3) هو بعض الأثر السالف رقم : 3962 .

(4/235)


وإذا شئتَ رأيته عالم اللسان جاهلَ العمل ، يتكلم بالحكمة ، ويعمل بالخطيئة.
3975 - حدثنا الحسن بن يحيى. قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : " وهو ألد الخصام " ، قال : جَدِلٌ بالباطل.
* * *
وقال آخرون : معنى ذلك أنه غير مستقيم الخصومة ، ولكنه معوَجُّها.
* ذكر من قال ذلك :
3976 - حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : " وهو ألد الخصام " ، قال : ظالم لا يستقيم.
3977 - حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا حجاج ، عن ابن جريج ، قال : أخبرني عبد الله بن كثير ، عن مجاهد ، قال : " الألدُّ الخصام " ، الذي لا يستقيم على خصومة.
3978 - حدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : " ألد الخصام " ، أعوجُ الخصام. (1)
* * *
قال ، أبو جعفر : وكلا هذين القولين متقاربُ المعنى ، لأن الاعوجاجَ في الخصومة من الجدال واللدد.
* * *
وقال آخرون : معنى ذلك : وهو كاذبٌ في قوله.
* ذكر من قال ذلك :
3979 - حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا وكيع ، عن بعض أصحابه ، عن الحسن ، قال : " الألد الخصام " ، الكاذب القول.
* * *
وهذا القول يحتمل أن يكون معناه معنى القولين الأولين إن كان أراد به
__________
(1) هو بعض الأثر السالف رقم : 3961 .

(4/236)


وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ (205)

قائله أنه يخاصم بالباطل من القول والكذب منه جدلا واعوجاجًا عن الحق.
* * *
وأما " الخصام " فهو مصدر من قول القائل : " خاصمت فلانًا خصامًا ومخاصمة " .
* * *
وهذا خبر من الله تبارك وتعالى عن المنافق الذي أخبر نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم أنه يُعجبه إذا تكلم قِيلُه ومنطقه ، ويستشهد الله على أنه محقّ في قيله ذلك ، لشدة خصومته وجداله بالباطل والزور من القول.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا }
قال أبو جعفر : يعني بقوله جل ثناؤه : " وإذا تولى " ، وإذا أدبر هذا المنافق من عندك يا محمد منصرفًا عنك. (1) كما : -
3980 - حدثنا به ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، قال : حدثني محمد بن إسحاق ، قال حدثني محمد بن أبي محمد قال : حدثني سعيد بن جبير أو عكرمة ، عن ابن عباس : " وإذا تولى " ، قال : يعني : وإذا خرج من عندك " سعى " . (2)
* * *
وقال بعضهم : وإذا غضب.
* ذكر من قال ذلك :
3981 - حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج قال :
__________
(1) انظر معنى " التولي " فيما سلف 2 : 162 - 163 ، 298 ، 535/ ثم 3 : 115 ، 131 .
(2) الأثر : 3980 - هو بعض الأثر السالف رقم : 3962 .

(4/237)


قال ابن جريج في قوله : " وإذا تولى " ، قال : إذا غضب.
* * *
فمعنى الآية : وإذا خرَج هذا المنافق من عندك يا محمد غضْبان ، عَمل في الأرض بما حرَّم الله عليه ، وحاول فيها معصيةَ الله ، وقطعَ الطريق وإفسادَ السبيل على عباد الله ، كما قد ذكرنا آنفًا من فعل الأخنس بن شريق الثقفي ، الذي ذكر السدي أن فيه نزلت هذه الآية ، من إحراقه زرع المسلمين وقتله حُمرهم. (1)
* * *
و " السعي " في كلام العرب العمل ، يقال منه : " فلان يسعى على أهله " ، يعني به : يعمل فيما يعود عليهم نفعه ، ومنه قول الأعشى :
وَسَعَى لِكِنْدَةَ سَعْيَ غَيْرِ مُوَاكِلٍ... قَيْسٌ فَضَرَّ عَدُوَّها وَبَنَى لَهَا (2)
يعني بذلك : عمل لهم في المكارم.
* * *
وكالذي قلنا في ذلك كان مجاهد يقول.
3982 - حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله " وإذا تولى سعى " ، قال : عمل.
* * *
واختلف أهل التأويل في معنى " الإفساد " الذي أضافه الله عز وجل إلى هذا المنافق.
فقال بعضهم : تأويله ما قلنا فيه من قطعه الطريق وإخافته السبيل ، كما قد ذكرنا قبل من فعل الأخنس بن شريق.
* * *
__________
(1) انظر الأثر رقم : 3961 السالف .
(2) ديوانه : 25 ، وكان في المطبوعة " ونبالها " وهو خطأ وقيس هو قيس بن معد يكرب الكندي ، كان يكثر مدحه والثناء عليه .

(4/238)


وقال بعضهم : بل معنى ذلك قطع الرحم وسفك دماء المسلمين.
* ذكر من قال ذلك :
3983 - حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج في قوله : " سعَى في الأرض ليفسد فيها " ، قطع الرحم ، وسفك الدماء ، دماء المسلمين ، فإذا قيل : لم تَفعل كذا وكذا ؟ قال أتقرب به إلى الله عز وجل.
* * *
قال أبو جعفر : والصواب من القول في ذلك أن يقال : إنّ الله تبارك وتعالى وَصَف هذا المنافقَ بأنه إذا تولى مدبرًا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عَمِل في أرض الله بالفساد. وقد يدخل في " الإفساد " جميع المعاصي ، (1) وذلك أن العمل بالمعاصي إفسادٌ في الأرض ، فلم يخصص الله وصفه ببعض معاني " الإفساد " دون بعض. وجائزٌ أن يكون ذلك الإفساد منه كان بمعنى قطع الطريق ، وجائز أن يكون غير ذلك. وأيّ ذلك كان منه فقد كان إفسادًا في الأرض ، لأن ذلك منه لله عز وجل معصية. غير أن الأشبه بظاهر التنزيل أن يكون كان يقطع الطريقَ ويُخيف السبيل. لأن الله تعالى ذكره وصَفه في سياق الآية بأنه " سَعى في الأرض ليفسد فيها ويُهلك الحرث والنسل " ، وذلك بفعل مخيف السبيل ، أشبهُ منه بفعل قَطَّاع الرحم.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ }
قال أبو جعفر : اختلف أهل التأويل في وجه " إهلاك " هذا المنافق ، الذي وصفه الله بما وصفَه به من صفة " إهلاك الحرث والنسل " .
__________
(1) انظر معنى " الإفساد في الأرض " فيما سلف 1 : 287 - 290 ، 416 ثم معنى " الفساد " فيما سيأتي : 243 ، 244 .

(4/239)


فقال بعضهم : كان ذلك منه إحراقًا لزرع قوم من المسلمين وعقرًا لحمُرهم.
3984 - حدثني بذلك موسى بن هارون ، قال : حدثني عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط عن السدي. (1)
* * *
وقال آخرون بما : -
3985 - حدثنا به أبو كريب ، قال : حدثنا عثام ، قال : حدثنا النضر بن عربي ، عن مجاهد : " وإذا تولى سعى في الأرض ليُفسد فيها ويُهلك الحرث والنسل " الآية. قال : إذا تولى سعى في الأرض بالعدوان والظلم ، فيحبس الله بذلك القطرَ ، فيُهلك الحرثَ والنسلَ والله لا يحب الفساد. قال : ثم قرأ مجاهد : ( ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ) [الروم : 41] قال : ثم قال : أما والله ما هو بحركم هذا ، ولكن كل قرية على ماءٍ جارٍ فهو " بحر " . (2)
* * *
والذي قاله مجاهد ، وإن كان مذهبًا من التأويل تحتمله الآية ، فإن الذي هو أشبهُ بظاهر التنزيل من التأويل ما ذكرنا عن السدي ، فلذلك اخترناه
* * *
وأما " الحرث " فإنه الزرع ، والنسل : العقب والولد.
* * *
" وإهلاكه الزرع " إحراقه. وقد يجوز أن يكون كان كما قال مجاهد باحتباس القطر من أجل معصيته ربَّه وَسعيه بالإفساد في الأرض. وقد يحتمل أن يكون كان بقتله القُوَّام به والمتعاهدين له حتى فسد فهلك. وكذلك جائز في معنى : " إهلاكه النسل " : أن يكون كانَ بقتله أمهاته أو آباءه التي منها يكون النسل ، فيكون في
__________
(1) يعني الأثر السالف رقم : 3961 .
(2) الأثر : 3985 - سيأتي هذا الأثر في تفسير الآية من سورة الروم ج : 21 : 32 (بولاق) .

(4/240)


قتله الآباء والأمهات انقطاع نسلهما. وجائزٌ أن يكون كما قال مجاهد ، غير أن ذلك وإن كان تحتمله الآية ، فالذي هو أولى بظاهرها ما قاله السدي غير أن السدي ذكر أن الذي نزلت فيه هذه الآية إنما نزلت في قتله حُمُرَ القوم من المسلمين وإحراقه زرعًا لهم. وذلك وإن كان جائزًا أن يكون كذلك ، فغير فاسد أن تكون الآية نزلت فيه ، والمراد بها كلُّ من سلك سبيله في قتل كل ما قَتل من الحيوان الذي لا يحلّ قتله بحال ، والذي يحلّ قتله في بعض الأحوال - إذا قتله بغير حق ، بل ذلك كذلك عندي ، لأن الله تبارك وتعالى لم يخصُص من ذلك شيئًا دون شيء بل عمَّه.
وبالذي قلنا في عموم ذلك قال جماعة من أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
3986 - حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا يحيى وعبد الرحمن ، قالا حدثنا سفيان ، عن أبي إسحاق ، عن التميمي أنه سأل ابن عباس : " ويهلك الحرث والنسل " ، قال : نسلَ كل دابة.
3987 - حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا ابن عطية ، قال : حدثنا إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن التميمي ، أنه سأل ابن عباس : قال : قلت أرأيت قوله : " الحرث والنسل " ؟ قال : الحرث حرثكم ، والنسل : نسل كل دابة.
3988 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا حكام ، عن عنبسة ، عن أبي إسحاق ، عن التميمي ، قال : سألت ابن عباس عن " الحرث والنسل " ، فقال : الحرثُ : مما تحرثون ، والنسلُ : نسل كلّ دابة.
3989 - حدثنا ابن حميد ، قال. حدثنا حكام ، عن عمرو ، عن مطرِّف ، عن أبي إسحاق ، عن رجل من تميم ، عن ابن عباس ، مثله. (1)
__________
(1) الآثار : 3986 - 3989 . " التميمي " ، قد مضى ما كتبه أخي السيد أحمد في التعليق على الأثر رقم : 2095 . ولكن ظهر من الأثر رقم . 3989 ، أنه رجل من بني تميم - مجهول الاسم فيما يظهر ، كان يسأل ابن عباس كما كان يسأله أصحاب المسائل من الأمة وذلك بين في مسند أبي داود الطيالسي رقم : 2739 ص 358 .

(4/241)


3990 - حدثني محمد بن سعد ، قال : حدثني أبي ، قال : حدثني عمي ، قال : حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : " ويهلك الحرثَ والنسل " ، فنسلَ كل دابة ، والناس أيضًا.
3991 - حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : ثنى عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : " ويهلك الحرث " ، قال : نبات الأرض ، " والنسل " من كل دابة تمشي من الحيوان من الناس والدواب.
3992 - حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : " ويهلك الحرث " ، قال : نبات الأرض ، " والنسل " : نسل كل شيء.
3993 - حدثنا أحمد بن إسحاق ، قال : حدثنا أبو أحمد الزبيري ، قال : حدثنا هشيم ، عن جويبر ، عن الضحاك ، قال : الحرثُ النبات ، والنسل : نسل كل دابة.
3994 - حدثني عن عمار بن الحسن ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : " ويهلك الحرث " ، قال : " الحرث " الذي يحرثه الناس : نباتُ الأرض ، " والنسل " نسل كل دابة.
3995 - حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج عن ابن جريج ، قال : قلت لعطاء : " ويهلكَ الحرثَ والنسل " ، قال : الحرث : الزرع ، والنسل من الناس والأنعام ، قال : يقتُل نسْل الناس والأنعام قال : وقال مجاهد : يبتغي في الأرض هلاك الحرث - نباتَ الأرض - والنسل من كل شيء من الحيوان.
3996 - حدثني يحيى بن أبي طالب ، قال : أخبرنا يزيد ، قال : أخبرنا جويبر ، عن الضحاك في قوله : " ويهلك الحرثَ والنسل " ، قال : الحرث : الأصل ، والنسل : كل دابة والناس منهم. (1)
__________
(1) قوله : " الحرث : الأصل " معنى قلما تصيبه في كتب اللغة بينا ، ولكنه أتى فيها معترضا كقولهم : " الحرث أصل جردان الحمار " وهذا تخصيص ، وهذا الأثر دال على عموم معنى " الحرث " أنه : الأصل وهو جيد في مجاز اللغة .

(4/242)


3997 - حدثني ابن عبد الرحيم البرقيّ ، قال : حدثنا عمرو بن أبي سلمة ، قال ، (1) سئل سعيد بن عبد العزيز عن " فساد الحرث والنسل " وما هما : أيُّ حرث ، وأيُّ نسل ؟ قال سعيد : قال مكحول : الحرث : ما تحرثون ، وأما النسل : فنسْل كل شيء.
* * *
قال أبو جعفر : وقد قرأ بعض القرأة : " ويهلكُ الحرث والنسل " برفع " يهلك " ، على معنى : ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويشهد الله على ما في قلبه وهو ألد الخصام ، ويهلك الحرثَ والنسل ، وإذا تولى سعى في الأرض ليُفسد فيها ، والله لا يجب الفساد فيردُّ " ويُهلكُ " على " ويشهدُ الله " عطفًا به عليه.
وذلك قراءةٌ عندي غير جائزة ، وإن كان لها مخرج في العربية ، لمخالفتها لما عليه الحجة مجمعةٌ من القراءة في ذلك ، قراءةَ " ويهلكَ الحرثَ والنسل " ، وأن ذلك في قراءة أبيّ بن كعب ومصحفه - فيما ذكر لنا : (2) " ليفسد فيها وليهلك الحرث والنسل " ، وذلك من أدل الدليل على تصحيح قراءة من قرأ ذلك " ويهلك " بالنصب ، عطفًا به على : " ليفسدَ فيها " .
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ (205) }
قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه : والله لا يحب المعاصيَ ، وقطعَ السبيل ، وإخافة الطريق.
* * *
و " الفساد " مصدر من قول القائل : " فسد الشيء يفسُد " ، نظير قولهم :
__________
(1) في المطبوعة " عمر بن أبي سلمة " والصواب ما أثبت .
(2) في المطبوعة : " فيما ذكرنا " وهو لا يستقيم .

(4/243)


وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ (206)

" ذهب يذهب ذهابًا " . ومن العرب من يجعل مصدر " فسد " " فسودًا " ، ومصدر " ذهب يذهب ذُهوبًا " . (1)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ (206) }
قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه : وإذا قيل لهذا المنافق الذي نعَتَ نعتَه لنبيه عليه الصلاة والسلام ، وأخبره أنه يُعجبه قوله في الحياة الدنيا : اتق الله وخَفْهُ في إفسادك في أرْض الله ، وسعيكَ فيها بما حرَّم الله عليك من معاصيه ، وإهلاكك حروث المسلمين ونسلهم - استكبر ودخلته عِزة وحَمية بما حرّم الله عليه ، وتمادى في غيِّه وضلاله. قال الله جل ثناؤه : فكفاه عقوبة من غيه وضلاله ، صِلِيُّ نارِ جهنم ، ولبئس المهاد لصاليها.
* * *
واختلف أهل التأويل فيمن عنى بهذه الآية.
فقال بعضهم : عنى بها كل فاسق ومنافق.
* ذكر من قال ذلك :
3998 - حدثني محمد بن عبد الله بن بزيع ، قال : حدثنا جعفر بن سليمان ، قال : حدثنا بسطام بن مسلم ، قال : حدثنا أبو رجاء العطارديّ قال : سمعت عليًّا في هذه الآية : " ومن الناس من يُعجبك قوله في الحياة الدنيا " إلى : " والله رؤوف بالعباد " ، قال علي : " اقتَتَلا وربِّ الكعبة " .
__________
(1) انظر معنى " الإفساد في الأرض " 1 : 287 - 290 ، 416 وما سلف قريبًا : 239 . وانظر أيضًا معاني القرآن للفراء 1 : 124 .

(4/244)


3999 - حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : " وإذا قيلَ له اتق الله أخذته العزة بالإثم " إلى قوله : " والله رؤوف بالعباد " ، قال : كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه إذا صلى السُّبْحة وفرغ ، دخل مربدًا له ، (1) فأرسل إلى فتيان قد قرأوا القرآن ، منهم ابن عباس وابن أخي عيينة ، (2) قال : فيأتون فيقرأون القرآن ويتدارسونه ، فإذا كانت القائلة انصرف. قال فمرُّوا بهذه الآية : " وإذا قيل له اتق الله أخذته العزة بالإثم " ، " ومن الناس من يشري نفسه ابتغاءَ مرضَات الله والله رؤوفٌ بالعباد " قال ابن زيد : وهؤلاء المجاهدون في سبيل الله فقال ابن عباس لبعض من كان إلى جنبه : اقتتل الرجلان ؟ فسمع عمر ما قال ، فقال : وأيّ شيء قلت ؟ قال : لا شيء يا أمير المؤمنين! قال : ماذا قلت ؟ اقتَتل الرجلان ؟ قال فلما رأى ذلك ابن عباس قال : أرى ههنا مَنْ إذا أُمِر بتقوى الله أخذته العزة بالإثم ، وأرى من يَشري نفسه ابتغاءَ مرضاة الله ، يقوم هذا فيأمر هذا بتقوى الله ، فإذا لم يقبل وأخذته العزة بالإثم ، قال هذا : وأنا أشتري نفسي ! فقاتله ، فاقتتل الرجلان! فقال عمر : لله بلادك يا بن عباس. (3)
* * *
وقال آخرون : بل عنى به الأخنس بن شريق ، وقد ذكرنا من قال ذلك فيما مضى. (4)
* * *
__________
(1) السبحة : صلاة التطوع والنافلة وذكر الله ، تقول : " قضيت سبحتي " والمريد : قضاء وراء البيوت برتفق بهن كالحجرة في الدار وهو أيضًا موضع التمر يجفف فيه لينشف يسميه أهل المدينة مريدا وهو المراد هنا .
(2) ابن أخي عيينة ، هو الحر بن قيس بن حصين الفزاري ويقال : الحارث بن قيس والأول أصح . وروى البخاري من طريق الزهري عن عبيد اله بن عبد الله ، عن ابن عباس قال : قدم عيينة بن حصن فنزل على ابن أخيه الحر بن قيس ، وكان من النفر الذين يدنيهم عمر - الحديث . ترجم في الإصابة وغيرها .
(3) في المطبوعة : " لله تلادك " بالتاء في أوله ولا معنى له ، والصواب ما أثبت . وفي الدر المنثور 1 : 241 - " لله درك " . والعرب تقول : " لله در فلان ، ولله بلاده " .
(4) انظر الأثر رقم : 3961 .

(4/245)


وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ (207)

وأما قوله : " ولبئس المهاد " ، فإنه يعني : ولبئس الفراشُ والوِطاء جهنمُ التي أوعدَ بها جل ثناؤه هذا المنافق ، ووطَّأها لنفسه بنفاقه وفجوره وتمرُّده على ربه.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ }
قال أبو جعفر : يعني جل ثناؤه : ومن الناس من يبيع نفسه بما وعد الله المجاهدين في سبيله وابتاع به أنفسهم بقوله : ( إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ ) [التوبة : 111].
* * *
وقد دللنا على أن معنى " شرى " باع ، في غير هذا الموضع بما أغنى عن إعادته. (1)
* * *
وأما قوله : " ابتغاءَ مرضات الله " فإنه يعني أن هذا الشاري يشرى إذا اشترى طلبَ مرضاة الله.
ونصب " ابتغاء " بقوله : " يشري " ، فكأنه قال. ومن الناس من يَشري [نفسه] من أجل ابتغاء مرضاة الله ، ثم تُرك " من أجل " وعَمل فيه الفعل.
وقد زعم بعض أهل العربية أنه نصب ذلك على الفعل ، (2) على " يشرى " ، كأنه قال : لابتغاء مرضاة الله ، فلما نزع " اللام " عمل الفعل ، قال : ومثله : ( حَذَرَ الْمَوْتِ ) [البقرة : 19] (3) وقال الشاعر وهو حاتم :
__________
(1) انظر ما سلف 2 : 341 - 343ن 455 وفهارس الغة .
(2) قوله : " على الفعل " أي أنه مفعول لأجله وقد مضى مثله " على التفسير للفعل " 1 : 354 تعليق : 4 .
(3) انظر القول في إعراب هذه الكلمة فيما سلف 1 : 354 - 355 .

(4/246)


وَأَغْفِرُ عَوْرَاءَ الكَرِيمِ إدِّخَارَهُ... وَأُعْرِضُ عَنْ قَوْلِ الَّلئِيمِ تَكَرُّمَا (1)
وقال : لما أذهب " اللام " أعمل فيه الفعل.
وقال بعضهم : أيُّما مصدر وُضع موضعَ الشرط ، (2) وموضع " أن " فتحسن فيها " الباء " و " اللام " ، فتقول : " أتيتك من خوف الشرّ - ولخوف الشر - وبأن خفتُ الشرَّ " ، فالصفة غير معلومة ، فحذفت وأقيم المصدرُ مقامها. (3) قال : ولو كانت الصفة حرفًا واحدًا بعينه ، لم يجز حذفها ، كما غير جائز لمن قال : " فعلت هذا لك ولفلان " أن يسقط " اللام " .
* * *
ثم اختلف أهل التأويل فيمن نزلت هذه الآية فيه ومن عنى بها. فقال بعضهم : نزلت في المهاجرين والأنصار ، وعنى بها المجاهدون في سبيل الله.
* ذكر من قال ذلك :
4000 - حدثنا الحسين بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : " ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله " ، قال : المهاجرون والأنصار.
* * *
وقال بعضهم : نزلت في رجال من المهاجرين بأعيانهم.
* ذكر من قال ذلك :
__________
(1) ديوانه : 24 ، من أبيات جياد كريمة وسيبويه 1 : 184 ، 464 ونوادر أبي زيد : 110ن الخزانة 1 : 491 والعيني 3 : 75 وغيرها . وفي البيت اختلاف كثير في الرواية ، والشاهد فيه نصب " ادخاره " على أنه مفعول له .
(2) قوله : " الشرط " كأنه فيما أظن أراد به معنى العلة والعذر يعني أنه علة وسببًا أو عذرًا لوقوع الفعل .
(3) " الصفة " هي حرف الجر . وانظر ما سلف آنفًا 1 : 299 وفهرس المصطلحات في الأجزاء السالفة .

(4/247)


4001 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن عكرمة : " ومن الناس مَنْ يشري نفسه ابتغاء مرضات الله " ، قال : نزلت في صُهيب بن سنان ، وأبي ذرّ الغفاري جُندب بن السَّكن أخذ أهل أبي ذرّ أبا ذرّ ، فانفلت منهم ، فقدم على النبي صلى الله عليه وسلم ، فلما رجع مهاجرًا عرَضوا له ، وكانوا بمرِّ الظهران ، فانفلت أيضًا حتى قدم على النبي عليه الصلاة والسلام. وأما صُهيب فأخذه أهله ، فافتدى منهم بماله ، ثم خرج مهاجرًا فأدركه قُنقذ بن عُمير بن جُدعان ، فخرج له مما بقي من ماله ، وخلَّى سبيله. (1)
4002 - حدثت عن عمار ، قال : حدثنا ابن أبى جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع قوله : " ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله " الآية ، قال : كان رجل من أهل مكة أسلم ، فأراد أن يأتي النبي صلى الله عليه وسلم ويهاجر إلى المدينة ، فمنعوه وحبسوه ، فقال لهم : أعطيكم داري ومالي وما كان لي من شيء! فخلُّوا عني ، فألحق بهذا الرجل ! فأبوْا. ثم إنّ بعضهم قال لهم : خذوا منه ما كان له من شيء وخلُّوا عنه ! ففعلوا ، فأعطاهم داره وماله ، ثم خرج; فأنزل الله عز وجل على النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة : " ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله " ، الآية. فلما دنا من المدينة تلقاه عُمر في رجال ، فقال له عمر : رَبح البيعُ! قال : وبيعك فلا يخسر! قال : وما ذاك ؟ قال : أنزل فيك كذا وكذا. (2)
* * *
وقال آخرون : بل عنى بذلك كل شار نفسه في طاعة الله وجهادٍ في سبيله ، أو أمرٍ بمعروف.
* ذكر من قال ذلك :
__________
(1) الأثر : 4001 - في الدر المنثور 1 : 240 ، في المطبوعة : " منقذ بن عمير " وهو خطأ وقد ذكر قنفد بن عمير ، أبو طالب في قصيدته المشهورة وذكر ابن هشام نسبه في سيرته (انظر 1 : 295 ، 301) . وقد أسلم قنفد بن عمير ، وله صحبة ، وولاه عمر مكة ، ثم عزله .
(2) الأثر : 4002 - في تفسير البغوي 1 : 481 - 482 ، مع اختلاف في اللفظ .

(4/248)


4003 - حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا حسين بن الحسن أبو عبد الله ، قال : حدثنا أبو عون ، عن محمد ، قال : حمل هشام بن عامر على الصف حتى خرقه ، فقالوا : ألقى بيده !! فقال أبو هريرة : " ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله " . (1)
4004 - حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا مصعب بن المقدام ، قال : حدثنا إسرائيل ، عن طارق بن عبد الرحمن ، عن قيس بن أبي حازم ، عن المغيرة ، قال : بعث عمر جيشًا فحاصروا أهل حصن ، وتقدم رجل من بجيلة ، فقاتل ، فقُتِل ، فأكثر الناس فيه يقولون : ألقى بيده إلى التهلكة! قال : فبلغ ذلك عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، فقال : كذبوا ، أليس الله عز وجل يقول : " ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله والله رءوف بالعباد " ؟
4005 - حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا أبو داود ، قال : حدثنا هشام ، عن قتادة ، قال : حَمل هشام بن عامر على الصّف حتى شقَّه ، فقال أبو هريرة : " ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله " .
4006 - حدثنا سوار بن عبد الله العنبري ، قال : حدثنا عبد الرحمن بن مهدي ، قال : حدثنا حزم بن أبي حزْم ، قال : سمعت الحسن قرأ : " ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله والله رءوف بالعباد " ، أتدرون فيم أنزلت ؟ نزلت في أن المسلم لقي الكافرَ فقال له : " قل لا إله إلا الله " ، فإذا قلتها عصمتَ دمك
__________
(1) الأثر : 4003 - حسين بن الحسن أبو عبد الله النصري روى عن ابن عون وغيره ، وروى عنه أحمد والفلاس وبندار وغيرهم . كان من المعدودين من الثقات وكان يحفظ عن ابن عون . توفي سنة 188ن مترجم في التهذيب . و " أبو عون " كنية " ابن عون " - عبد الله بن عون المزني مولاهم . " ومحمد " هو محمد بن سيرين وهشام بن عامر بن أمية الأنصاري كان اسمه في الجاهلية " شهابًا " فغيره رسول الله صلى الله عليه وسلم . وكان ذلك منه في غزاة كابل انظر الإصابة وغيرها . وقوله : " ألقى بيده " أي : ألقى بيده إلى التهلكة ، كما هو مبين في الروايات الأخرى ، وانظر ما سيأتي رقم : 4005 ، مختصرًا .

(4/249)


ومالك إلا بحقهما! فأبى أن يقولها ، فقال المسلم : والله لأشرِيَنَّ نفسي لله! فتقدم فقاتل حتى قتل. (1)
4007 - حدثني أحمد بن حازم ، قال : حدثنا أبو نعيم ، حدثنا زياد بن أبي مسلم ، عن أبي الخليل ، قال : سمع عُمر إنسانًا قرأ هذه الآية : " ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله " ، قال : استرجع عُمر فَقال : إنا لله وإنا إليه رَاجعون! قام رجلٌ يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر فقُتل. (2)
* * *
قال أبو جعفر : والذي هو أولى بظاهر هذه الآية من التأويل ، ما روي عن عمر بن الخطاب وعن علي بن أبي طالب وابن عباس رضي الله عنهم ، من أن يكون عُنى بها الأمرُ بالمعروف والناهي عن المنكر.
وذلك أن الله جل ثناؤه وصَف صفة فريقين : أحدهما منافقٌ يقول بلسانه خلافَ ما في نفسه ، وإذا اقتدر على معصية الله ركبها ، وإذا لم يقتدر رَامَها ، وإذا نُهى أخذته العزّة بالإثمٌ بما هو به إثم ، والآخر منهما بائعٌ نفسه ، طالب من الله رضا الله. فكان الظاهر من التأويل أن الفريقَ الموصوف بأنه شرى نفسه لله وطلب رضاه ، إنما شراها للوثُوب بالفريق الفاجر طلبَ رضا الله. فهذا هو الأغلب الأظهر من تأويل الآية.
وأما ما رُوي من نزول الآية في أمر صُهيب ، فإنّ ذلك غير مستنكرٍ ، إذ كان غيرَ مدفوع جوازُ نزول آية من عند الله على رسوله صلى الله عليه وسلم بسبب من الأسباب ، والمعنيُّ بها كلُّ من شمله ظاهرها.
__________
(1) الأثر : 4006 - " حزم بن أبي حزم " القطعي أبو عبد الله البصري روى عن الحسن وغيره ، قال أبو حاتم : صدوق لا بأس به ، وهو من ثقات من بقى من أصحاب الحسن ، مات سنة 75 . مترجم في التهذيب . وكان في المطبوعة : " حزام بن أبي حزم " وهو خطأ .
(2) الأثر : 4007 - " زياد بن أبي مسلم " أبو عمر الفراء البصري ، روى عن صالح أبي الخليل وأبي العالية والحسن . مترجم في التهذيب . " وأبو الخليل " : صالح بن أبي مريم الضبعي مولاهم تابعي ، مترجم في التهذيب .

(4/250)


فالصواب من القول في ذلك أن يقال : إنّ الله عز وجل وصف شاريًا نفسَه ابتغاء مرضاته ، فكل من باعَ نفسه في طاعته حتى قُتل فيها ، أو استقتل وإن لم يُقتل ، (1) فمعنيٌّ بقوله : " ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله " - في جهاد عدو المسلمين كان ذلك منه ، أو في أمرٍ بمعروف أو نهي عن منكر.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ (207) }
قد دللنا فيما مضى على معنى " الرأفة " ، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع ، وأنها رقة الرحمة (2)
* * *
فمعنى ذلك : والله ذو رحمة واسعة بعبده الذي يشري نفسه له في جهاد من حادَّه في أمره من أهل الشرك والفُسوق وبغيره من عباده المؤمنين في عاجلهم وآجل معادهم ، فينجز لهم الثواب على ما أبلوا في طاعته في الدنيا ، ويسكنهم جناته على ما عملوا فيها من مرضاته.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً }
قال أبو جعفر : اختلف أهل التأويل في معنى السلم في هذا الموضع.
فقال بعضهم : معناه : الإسلام.
* ذكر من قال ذلك :
__________
(1) في المطبوعة : " واستقتل " بواو العطف ، وهو فاسد ، والصواب ما أثبت .
(2) انظر ما سلف 3 : 171 ، 172 .

(4/251)


4008 - حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله عز وجل : " ادخلوا في السِّلم " ، قال : ادخلوا في الإسلام.
4009 - حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة قوله : " ادخلوا في السلم " ، قال : ادخلوا في الإسلام.
4010 - حدثني محمد بن سعد ، قال : حدثني أبي ، قال : حدثني عمي ، قال : حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : " ادخلوا في السلم كافة " ، قال : السلم : الإسلام.
4011 - حدثني موسى بن هارون ، قال : أخبرنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : " ادخلوا في السلم " ، يقول : في الإسلام.
4012 - حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا وكيع ، عن النضر بن عربي ، عن مجاهد : ادخلوا في الإسلام.
4013 - حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : " ادخلوا في السلم " . قال : السلم : الإسلام.
4014 - حدثت عن الحسين بن فرج ، قال : سمعت أبا معاذ الفضل بن خالد ، قال : حدثنا عبيد بن سليمان ، قال : سمعت الضحاك يقول : " ادخلوا في السلم " : في الإسلام.
* * *
وقال آخرون : بل معنى ذلك : ادخلوا في الطاعة.
* ذكر من قال ذلك :
4015 - حدثت عن عمار ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : " ادخلوا في السلم " ، يقول : ادخلوا في الطاعة.
* * *
وقد اختلف القرأة في قراءة ذلك ، فقرأته عامة قراء أهل الحجاز : " ادخلوا في السَّلم " بفتح السين ، وقرأته عامة قرأة الكوفيين بكسر السين.

(4/252)


فأما الذين فتحوا " السين " من " السلم " ، فإنهم وجهوا تأويلها إلى المسالمة ، بمعنى : ادخلوا في الصلح والمساومة وترك الحرب وإعطاء الجزية.
وأما الذين قرءوا ذلك بالكسر من " السين " فإنهم مختلفون في تأويله.
فمنهم من يوجهه إلى الإسلام ، بمعنى ادخلوا في الإسلام كافة ، ومنهم من يوجّهه إلى الصلح ، بمعنى : ادخلوا في الصلح ، ويستشهد على أن " السين " تكسر ، وهي بمعنى الصلح بقول زهير ابن أبي سلمى :
وَقَدْ قُلْتُمَا إنْ نُدْرِكِ السِّلْمَ وَاسِعًا... بِمَالٍ وَمَعْرُوفٍ مِنَ الأمْرِ نَسْلَمِ (1)
وأولى التأويلات بقوله : " ادخلوا في السلم " ، قول من قال : معناه : ادخلوا في الإسلام كافة.
وأمّا الذي هو أولى القراءتين بالصواب في قراءة ذلك ، فقراءة من قرأ بكسر " السين " لأن ذلك إذا قرئ كذلك - وإن كان قد يحتمل معنى الصلح - فإن معنى الإسلام : ودوام الأمر الصالح عند العرب ، أغلبُ عليه من الصلح والمسالمة ، وينشد بيت أخي كندة :
دَعَوْتُ عَشِيرَتِي لِلسِّلْمِ لَمّا... رَأَيْتُهُمُ تَوَلَّوْا مُدْبِرينَا (2)
__________
(1) ديوانه : 16 من معلقته النبيلة . والضمير في " قلتما " للساعيان في الصلح وهما الحارث ابن عوف وهرم بن سنان ، وذلك في حرب عبس وذبيان . وقوله : " واسعًا " أي : قد استقر الأمرواطمأنت النفوس فاتسع للناس فيه ما لا يتسع لهم في زمن الحرب . وكان الحارث وهرم قد حملا الحمالة في أموالهما ، ليصطلح الناس .
(2) من أبيات لامرئ القيس بن عابس الكندي وتروى لغيره . المؤتلف والمختلف : 9 والوحشيات : 75 وغيرهما وكان امرؤ القيس قد وفد على رسول الله صلى اله عليه وسلم ولم يرتد في أيام أبي بكر ، وأقام على الإسلام وكان له في الردة غناء وبلاء ، وقد قال الأبيات في زمن الردة وقبل البيت : أَلاَ أَبْلِغْ أبَا بَكْرٍ رَسُولاً ... وَأَبْلِغْهَا جَمِيعَ المُسْلِمِينَا
فَلَسْتُ مُجَاوِرًا أَبَدًا قَبِيلاً ... بِمَا قَالَ الرَّسُولُ مُكَذِّبِينَا
دَعَوْتُ عَشِيرَتِي لِلسِّلْمِ حَتَّى رَأَيْتُهُمُ أَغَارُوا مُفْسِدينَا

(4/253)


بكسر السين ، بمعنى : دعوتهم للإسلام لما ارتدُّوا ، وكان ذلك حين ارتدت كندة مع الأشعث (1) بعد وَفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقد كان أبو عمرو بن العلاء يقرأ سائرَ ما في القرآن من ذكر " السلم " بالفتح سوى هذه التي في سورة البقرة ، فإنه كان يخصُّها بكسر سينها توجيهًا منه لمعناها إلى الإسلام دون ما سواها.
وإنما اخترنا ما اخترنا من التأويل في قوله : " ادخلوا في السلم " وصرفنا معناه إلى الإسلام ، لأن الآية مخاطب بها المؤمنون ، فلن يعدوَ الخطاب إذ كان خطابًا للمؤمنين من أحد أمرين :
إما أن يكون خطابًا للمؤمنين بمحمد المصدقين به وبما جاء به ، فإن يكن ذلك كذلك ، فلا معنى أن يقال لهم وهم أهل الإيمان : " ادخلوا في صلح المؤمنين ومسالمتهم " ، لأن المسالمة والمصالحة إنما يؤمر بها من كان حربًا بترك الحرب ، فأما الموالي فلا يجوز أن يقال له : " صالح فلانا " ، ولا حرب بينهما ولا عداوة.
أو يكون خطابًا لأهل الإيمان بمن قبل محمد صلى الله عليه وسلم من الأنبياء المصدِّقين بهم ، وبما جاءوا به من عند الله المنكرين محمدًا ونبوته ، فقيل لهم : " ادخلوا في السلم " ، يعني به الإسلام ، لا الصُّلح. لأن الله عز وجل إنما أمر عباده بالإيمان به وبنبيه محمد صلى الله عليه وسلم وما جاء به ، وإلى الذي دعاهم دون المسالمة والمصالحة. بل نهي نبيه صلى الله عليه وسلم في بعض الأحوال عن دعاء أهل الكفر إلى الصلح (2) فقال : ( فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الأعْلَوْنَ وَاللَّهُ
__________
(1) هو الأشعث بن قيس الكندين وكان وفد على رسول الله صلى الله عليه وسلم في السنة العاشرة في سبعين راكبا من كندة ثم ارتد فيمن ارتد من العرب . وقاتل في الردة حتى هزم ثم استسلم وأسر وقدموا به على أبي بكر فقال له أبو بكر : ماذا تراني أصنع بك ؟ فإنك قد فعلت ما علمت قال الأشعث : تمن علي فتفكني من الحديد وتزوجني أختك فإني قد راجعت وأسلمت . فقال أبو بكر : قد فعلت! فزوجه ام فروة بنت أبي قحافة ، فكان بالمدينة حتى فتح العراق . ثم شهد الفتوح حتى مات سنة 40 ، وله ثلاث وستون سنة .
(2) في المطبوعة : " . . عن دعاء أهل الكفر إلى الإسلام " وهو خطأ لا شك فيه ، سبق قلم الكاتب فوضع " الإسلام " مكان " الصلح " ومحال أن ينهى الله نبيه عن دعاء أحد إلى الإسلام والسياق دال على الصواب كما ترى .

(4/254)


مَعَكُمْ ) [محمد : 35] وإنما أباحَ له صلى الله عليه وسلم في بعض الأحوال إذا دعَوه إلى الصلح ابتداءَ المصالحة ، فقال له جل ثناؤه : ( وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا ) [الأنفال : 61] فأما دعاؤهم إلى الصُّلح ابتداءً ، فغير موجود في القرآن ، فيجوزُ توجيه قوله : " ادخلوا في السلم " إلى ذلك.
* * *
قال أبو جعفر : فإن قال لنا قائل : فأيّ هذين الفريقين دعى إلى الإسلام كافة ؟
قيل قد اختلف في تأويل ذلك.
فقال بعضهم : دعى إليه المؤمنون بمحمد صلى الله عليه وسلم ، وما جاء به.
* * *
وقال آخرون : قيل : دُعي إليه المؤمنون بمن قبل محمد صلى الله عليه وسلم من الأنبياء المكذبون بمحمد.
* * *
فإن قال : فما وجه دعاء المؤمن بمحمد وبما جاء به إلى الإسلام ؟
قيل : وجه دُعائه إلى ذلك الأمرُ له بالعمل بجميع شرائعه ، وإقامة جميع أحكامه وحدوده ، دون تضييع بعضه والعمل ببعضه. وإذا كان ذلك معناه ، كان قوله " كافة " من صفة " السلم " ، ويكون تأويله : ادخلوا في العمل بجميع معاني السلم ، ولا تضيعوا شيئًا منه يا أهل الإيمان بمحمد وما جاء به.
وبنحو هذا المعنى كان يقول عكرمة في تأويل ذلك.
4016 - حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن عكرمة قوله : " ادخلوا في السلم كافة " ، قال : نزلت في ثعلبة ، وعبد الله بن سلام وابن يامين وأسد وأسَيْد ابني كعب وسَعْيَة بن عمرو (1)
__________
(1) في المطبوعة : " شعبة " وفي الدر المنثور : " سعيد " والذي في أسماء يهود : " سعية " و " سعنة " وأكثر هذه الأسماء من أسماء يهود مما يصعب تحقيقها ويطول ، لكثرة الاختلاف فيها .

(4/255)


وقيس بن زيد - كلهم من يهود - قالوا : يا رسول الله ، يوم السبت يومٌ كنا نعظمه ، فدعنا فلنُسبِت فيه! وإن التوراة كتاب الله ، فدعنا فلنقم بها بالليل ! فنزلت : " يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة ولا تتبعوا خطوات الشيطان " (1)
* * *
فقد صرح عكرمة بمعنى ما قلنا في ذلك من أن تأويل ذلك دعاء للمؤمنين إلى رَفض جميع المعاني التي ليست من حكم الإسلام ، والعمل بجميع شرائع الإسلام ، والنهي عن تضييع شيء من حدوده.
* * *
وقال آخرون : بل الفريق الذي دُعي إلى السلم فقيل لهم : " ادخلوا فيه " بهذه الآية هم أهل الكتاب ، أمروا بالدخول في الإسلام.
* ذكر من قال ذلك :
4017 - حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال. قال ابن عباس في قوله : " ادخلوا في السلم كافة " ، يعني أهل الكتاب.
4018 - حدثت عن الحسين بن الفرج ، قال : سمعت أبا معاذ الفضل بن خالد يقول : أخبرنا عبيد بن سليمان ، قال : سمعت الضحاك يقول في قول الله عز وجل : " ادخلوا في السلم كافة " ، قال : يعني أهل الكتاب.
* * *
قال أبو جعفر : والصواب من القول في ذلك عندي أن يقال : إن الله جل ثناؤه أمر الذين آمنوا بالدخول في العمل بشرائع الإسلام كلها ، وقد يدخل في " الذين آمنوا " المصدِّقون بمحمد صلى الله عليه وسلم ، وبما حاء به ، والمصدقون بمن قبله من الأنبياء والرسل ، وما جاءوا به ، وقد دعا الله عز وجل كلا الفريقين إلى العمل بشرائع الإسلام وحدوده ، والمحافظة على فرائضه التي فرضها ، ونهاهم عن تضييع
__________
(1) الأثر : 4016 - في الدر المنثور 1 : 241 .

(4/256)


يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (208)

شيء من ذلك ، فالآية عامة لكل من شمله اسم " الإيمان " ، فلا وجه لخصوص بعض بها دون بعض.
وبمثل التأويل الذي قلنا في ذلك كان مجاهد يقول.
4019 - حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله عز وجل : " ادخلوا في السلم كافة " ، قال : ادخلوا في الإسلام كافة ، ادخلوا في الأعمال كافة.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { كَافَّةً }
قال أبو جعفر : يعني جل ثناؤه بقوله (1) " كافة " عامة ، جميعًا ، كما : -
4020 - حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة قوله : " في السلم كافة " قال : جميعًا.
4021 - حدثنا موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : " في السلم كافة " ، قال : جميعًا.
4022 - حدثت عن عمار ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع " في السلم كافة " ، قال : جميعًا وعن أبيه ، عن قتادة مثله.
4023 - حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا وكيع بن الجراح ، عن النضر ، عن مجاهد ، ادخلوا في الإسلام جميعًا.
4024 - حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج ، قال : قال ابن جريج ، قال ابن عباس : " كافة " ، : جميعًا.
__________
(1) في المطبوعة : " جل ثناؤه : كافة " بإسقاط " بقوله " وهذا سياق الكلام .

(4/257)


4025 - حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد : " كافة " جميعًا ، وقرأ.( وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً ) [التوبة : 36] جميعًا.
4026 - حدثت عن الحسين ، قال. سمعت أبا معاذ الفضل بن خالد ، قال : أخبرنا عبيد بن سليمان ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : " ادخلوا في السلم كافة " ، قال : جميعًا.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (208) }
قال أبو جعفر : يعني جل ثناؤه. بذلك : اعملوا أيها المؤمنون بشرائع الإسلام كلها ، وادخلوا في التصديق به قولا وعملا ودعوا طرائق الشيطان وآثاره أن تتبعوها فإنه لكم عدو مبين لكم عداوته. (1) وطريقُ الشيطان الذي نهاهم أن يتبعوه هو ما خالف حكم الإسلام وشرائعه ، ومنه تسبيت السبت وسائر سنن أهل الملل التي تخالف ملة الإسلام.
* * *
وقد بينت معنى " الخطوات " بالأدلة الشاهدة على صحته فيما مضى ، فكرهت إعادته في هذا المكان. (2)
* * *
__________
(1) انظر تفسير " عدو مبين " فيما سلف 3 : 300 .
(2) انظر ما سلف 3 : 301 ، 302 .

(4/258)


فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (209)

القول في تأويل قوله تعالى : { فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (209) }
قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه : فإن أخطأتم الحق ، (1)
فضللتم عنه ، وخالفتم الإسلام وشرائعه ، من بعد ما جاءتكم حُجَجي وبيِّنات هداي ، واتضحت لكم صحة أمر الإسلام بالأدلة التي قطعت عذركم أيها المؤمنون فاعلموا أن الله ذو عزة ، لا يمنعه من الانتقام منكم مانع ، ولا يدفعه عن عقوبتكم على مخالفتكما أمره ومعصيتكم إياه دافع " حكيم " فيما يفعل بكم من عقوبته على معصيتكم إياه ، بعد إقامته الحجة عليكم ، وفي غيره من أموره.
* * *
وقد قال عدد من أهل التأويل إن " البينات " هي محمد صلى الله عليه وسلم والقرآن. (2)
وذلك قريب من الذي قلنا في تأويل ذلك ، لأن محمدًا صلى الله عليه وسلم والقرآن ، من حجج الله على الذين خوطبوا بهاتين الآيتين. غير أن الذي قلناه في تأويل ذلك أولى بالحق ، لأن الله جل ثناؤه ، قد احتج على من خالف الإسلام من أحبار أهل الكتاب بما عهد إليهم في التوراة والإنجيل ، وتقدَّم إليه على ألسن أنبيائهم بالوَصاةِ به ، فذلك وغيرُه من حجج الله تبارك وتعالى عليهم مع ما لزمهم من الحجج بمحمد صلى الله عليه وسلم وبالقرآن. فلذلك اخترنا ما اخترنا من التأويل في ذلك.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* * *
* ذكر أقوال القائلين في تأويل قوله : " فإن زللتم " : (3)
4027 - حدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي في قوله : " فإن زللتم " ، يقول : فإن ضللتم.
__________
(1) انظر معنى " زل " فيما سلف 1 : 524 - 525 .
(2) انظر ما سلف في تفسير " البينات " 2 : 318 ، 354/ ثم 3 : 249 - 151 .
(3) انظر معنى " زل " فيما سلف 1 : 524 - 525 .

(4/259)


هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (210)

4028 - حدثني محمد بن سعد ، قال : حدثني أبي ، قال : حدثني عمي ، قال : حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : " فإن زللتم " قال : الزلل : الشرك.
* * *
ذكر أقوال القائلين في تأويل قوله : " من بعد ما جاءتكم البينات " : (1)
4029 - حدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : " من بعد ما جاءتكم البينات " ، يقول : من بعد ما جاءكم محمد صلى الله عليه وسلم.
4030 - وحدثني القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا حجاج ، عن ابن جريج : " فإن زللتم من بعد ما جاءتكم البينات " ، قال : الإسلام والقرآن.
* * *
4031 - حدثت عن عمار ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : " فاعلموا أن الله عزيز حكيم " ، يقول : عزيز في نقمته ، حكيم في أمره. (2)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { هَلْ يَنْظُرُونَ إِلا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلائِكَةُ }
قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه : هل ينظرُ المكذِّبون بمحمد صلى الله عليه وسلم وما جاء به ، إلا أن يأتيهم الله في ظُلل من الغمام والملائكة ؟.
* * *
ثم اختلفت القرأة في قراءة قوله : " والملائكة " .
__________
(1) انظر ما سلف في تفسير " البينات " 2 : 318 ، 354/ ثم 3 : 249 - 251 .
(2) انظر معنى " عزيز " و " حكيم " في فهرس اللغة .

(4/260)


فقرأ بعضهم : " هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملائكة " ، بالرفع ، عطفًا بـ " الملائكة " على اسم الله تبارك وتعالى ، على معنى : هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله والملائكةُ في ظلل من الغمام.
* ذكر من قال ذلك :
4032 - حدثني أحمد بن يوسف عن أبي عبيد القاسم بن سلام ، قال : حدثنا عبد الله بن أبي جعفر الرازي ، عن أبيه ، عن الربيع بن أنس ، عن أبي العالية قال - في قراءة أبيّ بن كعب : " هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله والملائكةُ في ظلل من الغمام " ، قال : تأتي الملائكة في ظلل من الغمام ، ويأتي الله عزّ وجل فيما شاء.
4033 - وقد حدثت هذا الحديث عن عمار بن الحسن ، عن عبد الله بن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع قوله : " هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملائكة " الآية ، وقال أبو جعفر الرازي : وهي في بعض القراءة : " هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله والملائكة في ظلل من الغمام " ، كقوله : ( وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنَزَّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلاً ) [الفرقان : 25]
* * *
وقرأ ذلك آخرون : " هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملائكةِ " بالخفض عطفًا بـ " الملائكة " على " الظلل " ، بمعنى : هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام وفي الملائكة.
* * *
وكذلك اختلفت القرأة في قراءة " ظلل " ، فقرأها بعضُهم : " في ظُلَل " ، وبعضهم : " في ظلال " .
فمن قرأها " في ظُلل " ، فإنه وجهها إلى أنها جمع " ظُلَّة " ، و " الظُلَّة " ، تجمع " ظُلل وظِلال " ، كما تجمع " الخُلَّة " ، " خُلَل وخِلال " ، و " الجلَّة " ، جُلَلٌ وجلال " .

(4/261)


وأما الذي قرأها " في ظلال " ، فإنه جعلها جمع " ظُلَّة " ، كما ذكرنا من جمعهم " الخلة " " خلال " .
وقد يحتمل أن يكون قارئه كذلك ، وجَّهه إلى أنّ ذلك جمع " ظِلّ " ، لأن " الظلُّة " و " الظِّل " قد يجمعان جميعًا " ظِلالا " .
* * *
قال أبو جعفر : والصواب من القراءة في ذلك عندي : " هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظُللٍ من الغمام " ، لخبر روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : إن من الغمام طاقات يأتي الله فيها محفوفًا. (1) فدل بقوله " طاقات " ، على أنها ظلل لا ظلال ، لأن واحد " الظلل " " ظلة " ، وهي الطاق واتباعًا لخط المصحف. (2) وكذلك الواجبُ في كل ما اتفقت معانيه واختلفتْ في قراءته القرأة ، ولم يكن على إحدى القراءتين دلالة تنفصل بها من الأخرى غير اختلاف خطّ المصحف ، فالذي ينبغي أن تؤثر قراءته منها ما وافق رَسم المصحف.
* * *
وأما الذي هو أولى القراءتين في : " والملائكة " ، فالصواب بالرفع ، عطفًا بها على اسم الله تبارك وتعالى ، على معنى : هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام ، وإلا أن تأتيهم الملائكة ، على ما روي عن أبيّ بن كعب ، لأن الله جل ثناؤه قد أخبر في غير موضع من كتابه أن الملائكة تأتيهم ، فقال جل ثناؤه : ( وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا ) [الفجر : 22] ، وقال : ( هَلْ يَنْظُرُونَ إِلا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ ) [الأنعام : 158] فإن أشكلَ على امرئ قول الله جل ثناؤه : ( وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا ) فظن أنه مخالفٌ معناه معنى قوله : " هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملائكة " ،
__________
(1) سيأتي في الأثر رقم : 4038 .
(2) قوله : " واتباعا . . . " معطوف على موضع قوله : " لخبر روي عن رسول الله . . . "

(4/262)


إذ كان قوله : " والملائكة " في هذه الآية بلفظ جمع ، وفي الأخرى بلفظ الواحد. فإن ذلك خطأ من الظنّ ، وذلك أن " الملك " في قوله : ( وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ ) بمعنى الجميع ، ومعنى " الملائكة " . والعرب تذكر الواحد بمعنى الجميع ، فتقول : " فلان كثير الدرهم والدينار " يراد به : الدراهم والدنانير و " هلك البعير والشاةُ " ، بمعنى جماعة الإبل والشاء ، فكذلك قوله : " والملك " بمعنى " الملائكة " .
* * *
قال أبو جعفر : ثم اختلف أهل التأويل في قوله : " ظُلل من الغمام " ، وهل هو من صلة فعل الله جل ثناؤه ، أو من صلة فعل " الملائكة " ، ومن الذي يأتي فيها ؟ فقال بعضهم : هو من صلة فعل الله ، ومعناه : هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام ، وأن تأتيهم الملائكة.
* ذكر من قال ذلك :
4034 - حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله عز وجل : " هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام " ، قال : هو غير السحاب (1) لم يكن إلا لبني إسرائيل في تيههم حين تاهوا ، وهو الذي يأتي الله فيه يوم القيامة.
4035 - حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتاده : " هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام " ، قال : يأتيهم الله وتأتيهم الملائكة عند الموت.
4036 - حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قال عكرمة في قوله : " هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام " ، قال : طاقات من الغمام ، والملائكة حوله قال ابن جريج ، وقال غيره : والملائكةُ بالموت
* * *
__________
(1) انظر تفسير " الغمام " فيما سلف 2 : 90 ، 91 ، وما سيأتي قريبا : 266 .

(4/263)


وقول عكرمة هذا ، وإن كان موافقًا قولَ من قال : إن قوله : في ظُلل من الغمام " من صلة فعل الرب تبارك وتعالى الذي قد تقدم ذكرناه ، فإنه له مخالف في صفة الملائكة. وذلك أن الواجب من القراءة على تأويل قول عكرمة هذا في " الملائكة " الخفضُ ، لأنه تأول الآية : هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام وفي الملائكة ، لأنه زعم أن الله تعالى يأتي في ظلل من الغمام والملائكةُ حوله.
هذا إن كان وجَّه قوله : " والملائكة حوله " ، إلى أنهم حول الغمام ، وجعل " الهاء " في " حوله " من ذكر " الغمام " . وإن كان وجَّه قوله : " والملائكة حوله " إلى أنهم حول الرب تبارك وتعالى ، وجعل " الهاء " في " حوله " من ذكر الرب عز جل ، فقوله نظيرُ قول الآخرين الذين قد ذكرنا قولهم ، غيرُ مخالفهم في ذلك.
* * *
وقال آخرون : بل قوله : " في ظلل من الغمام " من صلة فعل " الملائكة " ، وإنما تأتي الملائكة فيها ، وأما الرب تعالى ذكره فإنه يأتي فيما شاء.
* ذكر من قال ذلك :
4037 - حدثت عن عمار بن الحسن ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع في قوله : " هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملائكة " الآية ، قال : ذلك يوم القيامة ، تأتيهم الملائكة في ظلل من الغمام. قال : الملائكة يجيئون في ظلل من الغمام ، والرب تعالى يجيء فيما شاء.
* * *
قال أبو جعفر : وأولى التأويلين بالصواب في ذلك تأويل من وجَّه قوله : " في ظُلل من الغمام " إلى أنه من صلة فعل الرب عز وجل ، وأن معناه : هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام ، وتأتيهم الملائكة ، لما : -
4038 - حدثنا به محمد بن حميد ، قال : حدثنا إبراهيم بن المختار ، عن ابن جريج ، عن زمعة بن صالح عن سلمة بن وهرام ، عن عكرمة ، عن ابن عباس : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : إن من الغمام طاقات يأتي الله فيها محفوفًا ، وذلك

(4/264)


قوله : " هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملائكة وقُضي الأمر " . (1)
* * *
وأما معنى قوله : " هل ينظرون " ، فإنه ما ينظرون ، وقد بيّنا ذلك بعلله فيما مضى من كتابنا هذا قبل. (2)
* * *
ثم اختلف في صفة إتيان الرب تبارك وتعالى الذي ذكره في قوله : " هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله " .
فقال بعضهم : لا صفة لذلك غير الذي وصَف به نفسه عز وجل من المجيء والإتيان والنزول ، وغيرُ جائز تكلُّف القول في ذلك لأحد إلا بخبر من الله جل جلاله ، أو من رسول مرسل. فأما القول في صفات الله وأسمائه ، فغيرُ جائز لأحد من جهة الاستخراج إلا بما ذكرنا.
* * *
وقال آخرون : إتيانه عز وجل ، نظيرُ ما يعرف من مجيء الجائي من موضع إلى موضع ، وانتقاله من مكان إلى مكان.
* * *
وقال آخرون : معنى قوله : " هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله " ، يعني به : هل ينظرون إلا أن يأتيهم أمرُ الله ، كما يقال : " قد خشينا أن يأتينا بنو أمية " ، يراد به : حُكمهم.
* * *
__________
(1) الحديث : 4038 - زمعة بن صالح الجندي - بفتح الجيم والنون - اليماني : ضعيف ضعفه أحمد وابن معين وغيرهما . وفصلنا ذلك في شرح المسند : 2061 .
سلمة بن وهرام - بفتح الواو وسكون الهاء - اليماني : ثقة ، وإنما تكلموا فيه من أجل أحاديث رواها عنه زمعة بن صالح ، والحمل فيها على زمعة .
وهذا الحديث ضعيف ، كما ترى وذكره السيوطي 1 : 241 - 242 ونسبه لابن جرير والديلمي فقط .
ونقل قبله نحو معناه ، موقوفًا على ابن عباس ونسبه لعبد بن حميد ، وأبي يعلى وابن المنذر وابن أبي حاتم . ولعله موقوفًا أشبه بالصواب .
وانظر الحديث بعده : 4039 .
(2) كأنه يريد ما سلف 2 : 485 ، من أن حروف الاستفهام تدخل بمعنى الجحد . ولم أجد موضعًا مما يشير إليه غير هذا . وانظر اللسان مادة (هلل) .

(4/265)


وقال آخرون : بل معنى ذلك : هل ينظرون إلا أن يأتيهم ثوابه وحسابه وعذابه ، كما قال عز وجل : ( بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ ) [سبأ : 33] وكما يقالَ : " قطع الوالي اللص أو ضربه " ، وإنما قطعه أعوانُه.
* * *
وقد بينا معنى " الغمام " فيما مضى من كتابنا هذا قبل فأغنى ذلك عن تكريره ، (1) لأن معناه ههنا هو معناه هنالك.
* * *
قال أبو جعفر : فمعنى الكلام إذًا : هل ينظر التاركون الدخول في السلم كافة (2) والمتبعون خُطوات الشيطان ، إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام ، فيقضي في أمرهم ما هو قاضٍ.
4939 - حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا عبد الرحمن بن محمد المحاربي ، عن إسماعيل بن رافع المديني ، عن يزيد بن أبي زياد ، عن رجل من الأنصار ، عن محمد بن كعب القرظي ، عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : توقفون موقفًا واحدًا يوم القيامة مقدار سَبعين عامًا ، لا يُنظر إليكم ولا يُقضي بينكم ، قد حُصر عليكم ، فتبكون حتى ينقطع الدمع ، ثم تدمعون دمًا ، وتبكون حتى يبلغ ذلك منكم الأذقان ، أو يلجمكم فتصيحون ، ثم تقولون : من يشَفع لنا إلى ربنا فيقضي بيننا ؟ فيقولون من أحقُّ بذلك من أبيكم آدم ؟ جبل الله تُربته ، وخلَقه بيده ، ونفخ فيه من روحه ، وكلَّمه قِبَلا (3) فيؤتى آدم ، فيطلبَ ذلك إليه ، فيأبى ، ثم يستقرئون الأنبياء نبيًّا نبيًّا ، كلما جاءوا نبيًا أبى ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : حتى يأتوني ، فإذا جاءوني خرجت حتى آتي الفَحْص قال أبو هريرة : يا رسول الله ، وما الفَحْص ؟ قال : قُدّام العرش فأخرّ ساجدًا ، فلا أزال ساجدًا
__________
(1) انظر ما سلف 2 : 90 - 91 ، وما مضى قريبا : 263 .
(2) في المطبوعة : " هل ينظرون التاركون . . " والصواب ما أثبت .
(3) " كلمة قبلا " (بكسر القاف وفتح الباء) أي عيانا ومقابلة ، لا من وراء حجاب ومن غير أن يولى أمره او كلامه أحدًا من الملائكة .

(4/266)


حتى يبعث الله إليَّ ملَكًا ، فيأخذ بعضديّ فيرفعني ، ثم يقول الله لي : يا محمد ! فأقول : نعم! وهو أعلم. فيقول : ما شأنك ؟ فأقول : يا رب وعدتني الشفاعة ، فشفِّعني في خلقك ، فاقض بينهم . فيقول : قد شفَّعتك ، أنا آتيكم فأقضي بينكم. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " فأنصرف حتى أقف مع الناس ، فبينا نحن وقوفٌ سمعنا حِسًّا من السماء شديدًا ، فهالنا ، فنزل أهل السماء الدنيا بمثلَيْ من في الأرض من الجن والإنس ، حتى إذا دنوا من الأرض أشرقَت الأرضُ بنورهم ، وأخذوا مَصافَّهم ، فقلنا لهم : أفيكم ربُّنا ؟ قالوا : لا! وهو آتٍ. ثم نزل أهل السماء الثانية بمثْليْ من نزل من الملائكة ، وبمثلي من فيها من الجنّ والإنس ، حتى إذا دنوا من الأرض أشرقت الأرض بنورهم ، وأخذوا مصافهم ، فقلنا لهم : أفيكم ربنا ؟ قالوا : لا! وهو آتٍ. ثم نزل أهل السماء الثالثة بمثلي من نزل من الملائكة ، وبمثلي من في الأرض من الجن والإنس حتى إذا دنوا من الأرض أشرقت الأرض بنورهم ، وأخذوا مَصافَّهم ، فقلنا لهم : أفيكم ربنا ؟ قالوا : لا ! وهو آتٍ ، ثم نزل أهلُ السموات على عدد ذلك من التضعيف ، حتى نزل الجبار في ظُلل من الغمام والملائكة ، ولهم زجَلٌ من تسبيحهم يقولون : " سبحان ذي الملك والملكوت! سبحان ربّ العرش ذي الجبروت! سبحان الحي الذي لا يموت! سبحان الذي يُميت الخلائق ولا يموت! سبوح قدوس ، رب الملائكة والروح! قدّوس قدّوس! سبحان ربنا الأعلى! سبحان ذي السلطان والعظمة! سبحانه أبدًا أبدًا " ! فينزل تبارك وتعالى ، يحملُ عرشه يومئذ ثمانية ، وهم اليوم أربعا ، أقدامهم على تُخوم الأرض السفلى والسموات إلى حُجَزهم ، والعرشُ على مناكبهم. فوضع الله عز وجل عرشه حيث شاء من الأرض ، ثم ينادي مناد نداءً يُسمع الخلائق ، فيقول : يا معشر الجن والإنس إني قد أنصتُّ منذ يوم خلقتكم إلى يومكم هذا ، أسمع كلامكم ، وأبصر أعمالكم ، فأنصتوا إلىّ ، فإنما هو صُحُفكم وأعمالكم تقرأ عليكم ، فمن وجد خيرًا فليحمد الله ، ومن وجد غير ذلك فلا يلومنَّ إلا نفسه! فيقضي الله عز وجل بين خلقه الجن والإنس والبهائم ، فإنه ليقتصُّ يومئذ للجمَّاءِ من ذات القَرْن " . (1)
* * *
قال أبو جعفر : وهذا الخبر يدلّ على خطأ قول قتادة في تأويله قوله : " والملائكة " أنه يعني به الملائكة تأتيهم عند الموت . لأنه صلى الله عليه وسلم ذكر أنهم يأتونهم بعد قيام الساعة في موقف الحساب ، حين تشقَّقُ السماء ، وبمثل ذلك روي الخبر
__________
(1) الحديث : 4039 - هذا حدث ضعيف من جهتين : من جهة إسماعيل بن رافع ومن جهة الرجل المبهم من الأنصار ثم هذا السياق فيه نكارة .
فإسماعيل بن رافع بن عويمر المدني : ضعيف جدًا ، ضعفه أحمد وابن معين وأبو حاتم وابن سعد وغيرهم وذكره ابن حبان في كتاب المجروحين رقم : 42 (مخطوط مصور) وقال : " كان رجلا صالحا ، إلا أنه يقلب الأخبار حتى صار الغالب على حديثه المناكير التي يسبق إلى القلب أنه كالمعتمد لها " .
وهذا الحديث أشار إليه ابن كثير 1 : 474 - 475 وقال : " وهو حديث مشهور ساقه غير واحد من أصحاب المسانيد وغيرهم " ! وما وجدته في شيء مما بين يدي من المراجع فلا أدري كيف كان هذا ؟ .
ولإسماعيل بن رافع هذا حديث آخر ، في معنى هذا الحديث أطول منه جدًا . ذكره ابن كثير في التفسير 3 : 337 - 342 من رواية الطبراني في كتابه (المطولات) بإسناده من طريق أبي عاصم النبيل عن إسماعيل بن رافع عن محمد بن زياد عن محمد بن كعب القرظي عن أبي هريرة مرفوعا . ثم قال ابن كثير بعد سياقه بطوله : " هذا حديث مشهور وهو غريب جدا ، ولبعضه شواهد في الأحاديث المتفرقة وفي بعض أفاظه نكارة . تفرد به إسماعيل بن رافع قاص أهل المدينة وقد اختلف فيه : فمنهم من وثقه ومنهم من ضعفه . ونص على نكارة حديثه غير واحد من الأئمة كأحمد بن حنبل وأبي حاتم الرازي وعمرو بن علي الفلاس ومنهم من قال فيه : هو متروك وقال ابن عدي : أحاديثه كلها فيها نظر إلا انه يكتب حديثه في جملة الضعفاء قلت : [القائل ابن كثير] : وقد اختلف عليه في إسناد هذا الحديث على وجوه كثيرة وقد أفردتها في جزء على حدة . وأما سياقه فغريب جدًا ، ويقال أنه جمعه من أحاديث كثيرة وجعله سياقًا واحدًا فأنكر عليه بسبب ذلك . وسمعت شيخنا الحافظ أبا الحجاج المزي يقول : إنه رأى للوليد بن مسلم مصنفًا قد جمعه كالشواهد لبعض مفردات هذا الحديث . فاله أعلم " .
ثم جاء صدر الدين بن أبي العز قاضي القضاة - تلميذ ابن كثير - فأشار إلى هذين الحديثين : حديث الطبري الذي هنا ، وحديث الطبراني الذي ذكره شيخه ابن كثير إشارة واحدة في شرح الطحاوية ص : 171 - 172 بتحقيقنا كأنه اعتبرهما حديثًا واحدًا ، فذكر بعض سياق الحديث المطول ثم قال : " رواه الأئمة : ابن جرير في تفسيره والطبراني وأبو يعلى الموصلي والبيهقي " فكان شأنه في ذلك موضع نظر ، لأن رواية الطبراني إنما هي في كتاب آخر غير معاجمة الثلاثة كما نقل ابن كثير ثم لم أجده في كتاب الأسماء والصفات للبيهقي . ثم لم يذكره صاحب الزوائد . ولو كان في أحد معاجم الطبراني او في مسند أبي يعلى الموصلي كما يوهمه إطلاق ابن أبي العز - لذكره صاحب الزوائد بما التزم من ذلك في كتابه .

(4/267)


عن جماعة من الصحابة والتابعين ، كرهنا إطالة الكتاب بذكرهم وذكر ما قالوا في ذلك ، ويوضحُ أيضًا صحة ما اخترنا في قراءة قوله : " والملائكة " بالرفع على معنى : وتأتيهم الملائكة ويُبينُ عن خطأ قراءة من قرأ ذلك بالخفض ، لأنه أخبر صلى الله عليه وسلم أن الملائكة تأتي أهل القيامة في موقفهم حين تَفَطَّر السماء ، قبل أن يأتيهم ربُّهم ، في ظلل من الغمام. إلا أن يكون قارئ ذلك ذهب إلى أنه عز وجل عنى بقوله ذلك : إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام ، وفي الملائكة الذين يأتون أهلَ الموقف حين يأتيهم الله في ظلل من الغمام ، فيكون ذلك وجهًا من التأويل ، وإن كان بعيدًا من قول أهل العلم ، ودلالة الكتاب وآثار رسول الله صلى الله عليه وسلم الثابتة.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { وَقُضِيَ الأمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأمُورُ (210) }
قال أبو جعفر : يعني جل ثناؤه بذلك : وفُصِل القضاء بالعدل بين الخلق ، (1) على ما ذكرناه قبلُ عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم : من أخْذ الحق لكلّ مظلوم من كل ظالم ، حتى القصاص للجمّاء من القرناء من البهائم " . (2)
وأما قوله : " وإلى الله تُرجع الأمور " ، فإنه يعني : وإلى الله يؤول القضاء بين خلقه يوم القيامة ، والحكم بينهم في أمورهم التي جرت في الدنيا ، من ظلم بعضهم بعضًا ، واعتداءِ المعتدي منهم حدودَ الله ، وخلافَ أمره ، وإحسانِ المحسن منهم ، وطاعته إياه فيما أمرَه به - فيفصلُ بين المتظالمين ، ويجازي أهل الإحسان بالإحسان ،
__________
(1) انظر معنى " قضى " و " القضاء " فيما سلف 2 : 542 ، 543 .
(2) انظر الأثر السالف رقم : 4039 .

(4/269)


وأهل الإساءة بما رأى ، ويتفضل على من لم يكن منهم كافرًا فيعفو. ولذلك قال جل ثناؤه : " وإلى الله تُرجع الأمور " ، وإن كانت أمور الدنيا كلها والآخرةِ ، من عنده مبدؤها ، وإليه مصيرها ، إذْ كان خلقُه في الدنيا يتظالمون ، ويلي النظرَ بينهم أحيانًا في الدنيا بعضُ خلقه ، فيحكم بينهم بعضُ عبيده ، فيجوزُ بعضٌ ويعدل بعضٌ ، ويصيبُ واحد ويخطئ واحد ، ويمكَّن من تنفيذ الحكم على بعض ، ويتعذَّر ذلك على بعض ، لمنعة جانبه وغلبته بالقوة. فأعلم عبادَه تعالى ذكره أن مرجع جميع ذلك إليه في موقف القيامة ، فينصف كُلا من كُلٍّ ، ويجازي حق الجزاء كُلا حيثُ لا ظلمَ ولا مُمْتَنَعَ من نفوذ حكمه عليه ، وحيث يستوي الضعيف والقويّ ، والفقير والغني ، ويضمحل الظلم وينزلُ سلطان العدل.
* * *
وإنما أدخل جل وعزّ " الألف واللام " في " الأمور " ، لأنه جل ثناؤه عنى بها جميع الأمور ، ولم يعن بها بعضًا دون بعض ، فكان ذلك بمعنى قول القائل : " يعجبني العسل - والبغل أقوى من الحمار " ، فيدخل فيه " الألف واللام " ، لأنه لم يُقصد به قصد بعض دون بعض ، إنما يراد به العموم والجمع.
* * *

(4/270)


سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آَتَيْنَاهُمْ مِنْ آَيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (211)

القول في تأويل قوله عز ذكره : { سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ }
قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه : سل يا محمد بني إسرائيل الذين لا ينتظرون - بالإنابة إلى طاعتي ، والتوبة إليّ بالإقرار بنبوتك وتصديقك فيما جئتهم به من عندي - إلا إن آتيهم في ظلل من الغمام وملائكتي ، فأفصلُ القضاء بينك وبين من آمن بك وصدَّقك بما أنزلت إليك من كتبي ، وفرضت

(4/270)


عليك وعليهم من شرائع ديني ، وبينهم كم جئتهم به من قبلك من آية وعلامة ، على ما فرضتُ عليهم من فرائضي ، فأمرتهم به من طاعتي ، وتابعتُ عليهم من حججي على أيدي أنبيائي ورسلي من قبلك ، مؤيِّدةً لهم على صدقهم ، بيِّنةً أنها من عندي ، واضحةً أنها من أدلتي على صدق نُذُري ورُسلي فيما افترضت عليهم من تصديقهم وتصديقك ، فكفروا حُجَجي ، وكذَّبوا رسلي ، وغيَّروا نعمي قِبَلهم ، وبدَّلوا عهدي ووصيتي إليهم.
* * *
وأما " الآية " ، فقد بينت تأويلها فيما مضى من كتابنا بما فيه الكفاية (1) وهي ها هنا. ما : -
4040 - حدثنا محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله عز وجل : " سل بني إسرائيل كم آتيناهم من آيه بينة " ، ما ذكر الله في القرآن وما لم يذكر ، وهم اليهود.
4041 - حدثت عن عمار ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع قوله : " سل بني إسرائيل كم آتيناهم من آيه بينة " ، يقول : آتاهم الله آيات بينات : عصا موسى ويده ، وأقطعهم البحر ، وأغرق عدوَّهم وهم ينظرون ، وظلَّل عليهم الغمام ، وأنزل عليهم المنّ والسلوى ، وذلك من آيات الله التي آتاها بني إسرائيل في آيات كثيرة غيرها ، خالفوا معها أمر الله ، فقتلوا أنبياء الله ورسله ، وبدلوا عهده ووصيته إليهم ، قال الله : " ومن يُبدِّل نعمة الله من بعد ما جاءته فإن الله شديد العقاب " .
* * *
قال أبو جعفر : وإنما أنبأ الله نبيه بهذه الآيات ، فأمره بالصبر على من كذَّبه ، واستكبر على ربه ، وأخبره أنّ ذلك فعل من قبْله من أسلاف الأمم قبلهم بأنبيائهم ،
__________
(1) انظر ما سلف معنى " الآية " 1 : 106/ ثم 2 : 397 - 398 ، 553/ ثم 3 : 184 . ومعنى " بينة " في 2 : 318 ، 397/ ثم 3 : 249/ وهذا الجزء 4 : 259 ، 260 .

(4/271)


مع مظاهرته عليهم الحجج ، وأنّ من هو بين أظهُرهم من اليهودُ إنما هم من بقايا من جرت عادتهم [بذلك] ، ممن قص عليه قصصهم من بني إسرائيل. (1)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (211) }
قال أبو جعفر : يعني " بالنعم " جل ثناؤه : الإسلام وما فرض من شرائع دينه.
ويعني بقوله : " ومن يُبدّل نعمة الله " ومن يغير ما عاهد الله في نعمته التي هي الإسلام ، (2) من العمل والدخول فيه فيكفر به ، فإنه مُعاقبه بما أوْعد على الكفر به من العقوبة ، والله شديدٌ عقابه ، أليم عذابه.
* * *
فتأويل الآية إذًا يا أيها الذين آمنوا بالتوراة فصَدَّقوا بها ، ادخلوا في الإسلام جميعًا ، ودعوا الكفر ، وما دعاكم إليه الشيطان من ضلالته ، وقد جاءتكم البينات من عندي بمحمد ، وما أظهرت على يديه لكم من الحجج والعِبَرِ ، فلا تبدِّلوا عهدي إليكم فيه وفيما جاءكم به من عندي في كتابكم بأنه نبي ورسولي ، فإنه من يبدِّل ذلك منكم فيغيره فإنى له معاقب بالأليم من العقوبة.
وبمثل الذي قلنا في قوله : " ومن يبدِّل نعمة الله من بعد ما جاءته " ، قال جماعة من أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
__________
(1) ما بين القوسين زيادة ، أخشى أن تكون لازمة حتى يستقيم الكلام .
(2) انظر معنى " التبديل " فيما سلف 3 : 396 .

(4/272)


زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (212)

4042 - حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : " ومن يبدِّل نعمة الله من بعد ما جاءته " ، قال : يكفر بها.
4043 - حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله.
4044 - حدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : " ومن يبدِّل نعمة الله " ، قال : يقول : من يبدِّلها كفرًا.
4045 - حدثت عن عمار ، عن ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع " ومن يبدِّل نعمة الله من بعد ما جاءته " ، يقول : ومن يكفُر نعمتَه من بعد ما جاءته.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ }
قال أبو جعفر : يعني جل ثناؤه بذلك : زيِّن للذين كفروا حبُّ الحياة الدنيا العاجلة اللذات ، (1) فهم يبتغون فيها المكاثرة والمفاخرة ، ويطلبون فيها الرياسات والمباهاة ، ويستكبرون عن اتباعك يا محمد ، والإقرار بما جئت به من عندي ، تعظُّمًا منهم على من صدَّقك واتبعك ، ويسخرون بمن تبعك من أهل ، الإيمان ، والتصديق بك ، في تركهم المكاثرة ، والمفاخرة بالدنيا وزيتها من الرياش والأموال ،
__________
(1) في المطبوعة : " العاجلة في الذنب " وهو كلام بلا معنى . وقد سمى الله الدنيا " العاجلة " لتعجيله الذين يحبونها ما يشاء من زينتها ولذتها ، وهو يشير بذلك إلى قوله تعالى : { مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا } [سورة الإسراء : 18] .

(4/273)


بطلب الرياسات وإقبالهم على طلبهم ما عندي برفض الدنيا وترك زينتها ، والذين عملوا لي وأقبلوا على طاعتي ، ورفضوا لذات الدنيا وشهواتها ، اتباعًا لك ، وطلبًا لما عندي ، واتقاءً منهم بأداء فرائضي ، وتجنُّب معاصيَّ فوق الذين كفروا يوم القيامة ، بإدخال المتقين الجنة ، وإدخال الذين كفروا النار.
وبنحو الذي قلنا في ذلك من التأويل قال جماعة منهم.
* ذكر من قال ذلك :
4046 - حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج قوله : " زُيِّن للذين كفروا الحياة الدنيا " ، قال : الكفار يبتغون الدنيا ويطلبونها " ويسخرون من الذين آمنوا " ، في طلبهم الآخرة - قال ابن جريج : لا أحسبه إلا عن عكرمة ، قال : قالوا : لو كان محمد نبيًا كما يقول ، لاتبعه أشرافنا وساداتنا! والله ما اتبعه إلا أهل الحاجة مثل ابن مسعود!
4047 - حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : " والذين اتقوا فوقهم يوم القيامة " ، قال : " فوقهم " في الجنة.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (212) }
قال أبو جعفر : ويعني بذلك : والله يعطي الذين اتقوا يوم القيامة من نعمه وكراماته وجزيل عطاياه ، بغير محاسبة منه لهم على ما منّ به عليهم من كرامته.
* * *
فإن قال لنا قائل : وما في قوله : " يرزق من يشاء بغير حساب " من المدح ؟ قيل : المعنى الذي فيه من المدح ، الخيرُ عن أنه غير خائف نفادَ خزائنه ،

(4/274)


كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (213)

فيحتاج إلى حساب ما يخرج منها ، إذ كان الحساب من المعطي إنما يكون ليعلم قَدْر العطاء الذي يخرج من ملكه إلى غيره ، لئلا يتجاوز في عطاياه إلى ما يُجحف به ، فربنا تبارك وتعالى غيرُ خائف نفادَ خزائنه ، ولا انتقاصَ شيء من ملكه ، بعطائه ما يعطي عبادَه ، فيحتاج إلى حساب ما يعطي ، وإحصاء ما يبقي. فذلك المعنى الذي في قوله : " والله يرزق من يشاء بغير حساب "
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ }
قال أبو جعفر : اختلف أهل التأويل في معنى " الأمة " : في هذا الموضع ، (1) وفي " الناس " الذين وصفهم الله بأنهم : كانوا أمة واحدة.
فقال بعضهم : هم الذين كانوا بين آدم ونوح ، وهم عشرة قرون ، كلهم كانوا على شريعة من الحق ، فاختلفوا بعد ذلك.
* ذكر من قال ذلك :
4048 - حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا أبو داود ، قال : حدثنا همام بن منبه ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، قال : كان بين نوح وآدم عشرة قرون ، كلهم على شريعة من الحق ، فاختلفوا ، فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين ، قال : وكذلك هي في قراءة عبد الله " كان الناس أمةً واحدةً فاختلفوا " . (2)
__________
(1) انظر معنى (الأمة) فيما سلف 1 : 221/ ثم 3 : 74ن 100 ، 128ن 141 .
(2) الأثر : 4048 - رواه الحاكم في المستدرك 2 : 546 - 547 وقال : " هذا حديث صحيح على شرط البخاري ولم يخرجاه " ووافقه الذهبي .

(4/275)


4049 - حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : " كان الناس أمة واحدة " ، قال : كانوا على الهدى جميعًا ، فاختلفوا ، فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين ، فكان أوَّلَ نبي بُعث نوحٌ.
* * *
قال أبو جعفر : فتأويل " الأمة " على هذا القول الذي ذكرناه عن ابن عباس " الدين " ، كما قال النابغة الذبياني :
حَلَفْتُ فَلَمْ أَتْرُكْ لِنَفْسِكَ رِيبَةً... وَهَلْ يَأثَمَنْ ذُو أُمَّةٍ وَهْوَ طَائِعُ? (1)
يعني ذا الدين.
* * *
فكان تأويل الآية على معنى قول هؤلاء : كان الناس أمَّة مجتمعة على ملة واحدة ودين واحد فاختلفوا ، فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين.
* * *
وأصل " الأمة " ، الجماعة تجتمع على دين واحد ، ثم يُكتفى بالخبر عن " الأمة " من الخبر عن " الدين " ، لدلالتها عليه ، كما قال جل ثناؤه : ( وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً ) [ سورة المائدة : 48 سورة النحل : 93] ، يراد به أهل دين واحد وملة واحدة. فوجه ابن عباس في تأويله قوله : " كان الناس أمة واحدة " ، إلى أن الناس كانوا أهل دين واحد حتى اختلفوا.
* * *
وقال آخرون : بل تأويل ذلك كان آدم على الحقّ إمامًا لذريته ، فبعث الله النبيين في ولده. ووجهوا معنى " الأمة " إلى طاعة لله ، والدعاء إلى توحيده واتباع أمره ، من قول الله عز وجل( إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا ) [سورة النحل : 120] ، يعني بقوله " أمة " ، إمامًا في الخير يُقتدى به ، ويُتَّبع عليه.
* ذكر من قال ذلك :
__________
(1) ديوانه : 40 ، واللسان (أمم) من قصيدته المشهورة في اعتذاره للنعمان . يقول : أيتهجم على الإثم ذو دين ، وقد أطاع الله واخبت له ، فيحلف لك كاذبا يمين غموس كالتي حلفت بها ، لأنفي عن قلبك الريبة في أمري .

(4/276)


4050 - حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : " كان الناس أمة واحدة " ، قال : آدم.
4051 - حدثنا أحمد بن إسحاق ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا سفيان ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله.
4052 - حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثنى حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد قوله : " كان الناس أمة واحدة " ، قال : آدم ، قال : كان بين آدم ونوح عشرة أنبياء ، فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين ، قال مجاهد : آدم أمة وحدَه ، (1)
* * *
وكأنّ من قال هذا القول ، استجاز بتسمية الواحد باسم الجماعة لاجتماع أخلاق الخير الذي يكون في الجماعة المفرَّقة فيمن سماه بـ " الأمة " ، كما يقال : " فلان أمة وحده " ، يقول مقام الأمة.
وقد يجوز أن يكون سماه بذلك لأنه سبب لاجتماع الأسباب من الناس على ما دعاهم إليه من أخلاق الخير ، (2) فلما كان آدم صلى الله عليه وسلم سببًا لاجتماع من اجتمع على دينه من ولده إلى حال اختلافهم (3) سماه بذلك " أمة " .
* * *
وقال آخرون : معنى ذلك كان الناس أمة واحدة على دين واحد يوم استخرَج ذرية آدمَ من صلبه ، فعرضهم على آدم.
* ذكر من قال ذلك :
4053 - حدثت عن عمار ، عن ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع
__________
(1) في المطبوعة : " أمة واحدة " في الموضعين وهو خطأ والصواب ما أثبت . وذلك ما جاء في حديث قس بن ساعدة : " إنه يبعث يوم القيامة أمة وحده " ويقال أيضًا : " هو أمة على حدة " كالذي في الحديث : " يبعث يوم القيامة زيد بن عمرو بن نفيل أمه على حدة " .
(2) في لمطبوعة : " سبب لاجتماع الأسباب من الناس " وهو تصحيف . والأشتات المتفرقون ، ومثله : شتى .
(3) قوله : " إلى حال اختلافهم " أي : إلى ان صارت حالهم إلى الاختلاف والتفرق .

(4/277)


قوله : " كان الناس أمة واحدة " - وعن أبيه ، عن الربيع ، عن أبي العالية ، عن أبي بن كعب ، قال : كانوا أمة واحدة حيث عُرضوا على آدم ، ففطَرهم يومئذ على الإسلام ، وأقرُّوا له بالعبودية ، وكانوا أمة واحدة مسلمين كلهم ، ثم اختلفوا من بعد آدم فكان أبيّ يقرأ : " كان الناسُ أمة واحدة فاختلفوا فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين " إلى " فيما اختلفوا فيه " . وإن الله إنما بعث الرسل وأنزل الكتب عند الاختلاف.
4054 - حدثنا يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : " كان الناس أمة واحدة " ، قال : حين أخرجهم من ظهر آدم لم يكونوا أمة واحدة قطُّ غيرَ ذلك اليوم " فبعث الله النبيين " ، قال : هذا حين تفرقت الأمم.
* * *
وتأويل الآية على هذا القول نظيرُ تأويل قول من قال يقول ابن عباس : إن الناس كانوا على دين واحد فيما بين آدمَ ونوح - وقد بينا معناه هنالك; إلا أن الوقت الذي كان فيه الناس أمة واحدة مخالفٌ الوقتَ الذي وقَّته ابن عباس.
* * *
وقال آخرون بخلاف ذلك كله في ذلك ، وقالوا : إنما معنى قوله : " كان الناس أمة واحدة " ، على دين واحد ، فبعث الله النبيين.
* ذكر من قال ذلك :
4055 - حدثني محمد بن سعد ، قال : حدثني أبي ، قال : حدثني عمي ، قال : حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : " كان الناس أمة واحدة " ، يقول : كان دينًا واحدًا ، فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين.
* * *
قال أبو جعفر : وأولى التأويلات في هذه الآية بالصواب أن يقال إن الله عز وجل أخبر عباده أن الناس كانوا أمة واحدة على دين واحد وملة واحدة. كما : -

(4/278)


4056 - حدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : " كان الناس أمة واحدة " ، يقول : دينًا واحدًا على دين آدم ، فاختلفوا ، فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين.
* * *
وكان الدينُ الذي كانوا عليه دينَ الحق ، كما قال أبي بن كعب ، كما : -
4057 - حدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي ، قال : هي في قراءة ابن مسعود : " اختلفوا عنه " عن الإسلام. (1)
* * *
فاختلفوا في دينهم ، (2) فبعث الله عند اختلافهم في دينهم النبيين مبشرين ومنذرين ، " وأنزل معهم الكتاب ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه " ، رحمة منه جل ذكره بخلقه واعتذارًا منه إليهم.
وقد يجوز أن يكون ذلك الوقت الذي كانوا فيه أمة واحدة من عهد آدم إلى عهد نوح عليهما السلام ، كما روي عكرمة ، عن ابن عباس ، وكما قاله قتادة.
وجائزٌ أن يكون كان ذلك حين عَرض على آدم خلقه. وجائزٌ أن يكون كان ذلك في وقت غير ذلك - ولا دلالة من كتاب الله ولا خبر يثبت به الحجة على أيِّ هذه الأوقات كان ذلك. فغيرُ جائز أن نقول فيه إلا ما قال الله عز وجل : من أن الناس كانوا أمة واحدة ، فبعث الله فيهم لما اختلفوا الأنبياءَ والرسل. ولا يضرُّنا
__________
(1) الأثر : 4057 - سيأتي هذا الأثر برقم : 4063 وكان نصه هنا كنصه هناك ولكنه تصحيف نساخ فيما أظن ، كما سيأتي . كان في المطبوعة " اختلفوا فيه - على الإسلام " .
(2) في المطبوعة : " واختلفوا في دينهم " بالواو والصواب بالفاء وهو من كلام الطبري ، لا من الأثر وهو من سياق قوله قبل : " وكان الدين الذي كانوا عليه دين الحق . . . فاختلفوا . . "

(4/279)


الجهل بوقت ذلك ، كما لا ينفعُنَا العلمُ به ، إذا لم يكن العلم به لله طاعةً ، (1)
غير أنه أي ذلك كان ، فإن دليلَ القرآن واضحٌ على أن الذين أخبر الله عنهم أنهم كانوا أمة واحدة ، إنما كانوا أمة واحدة على الإيمان ودين الحق دون الكفر بالله والشرك به. وذلك إن الله جل وعز قال في السورة التي يذكر فيها " يونس " : ( وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ) [يونس : 19]. فتوعَّد جل ذكره على الاختلاف لا على الاجتماع ، ولا على كونهم أمة واحدة ، ولو كان اجتماعُهم قبل الاختلاف كان على الكفر ثم كان الاختلاف بعد ذلك ، لم يكن إلا بانتقال بعضهم إلى الإيمان ، ولو كان ذلك كذلك لكان الوعد أولى بحكمته جل ثناؤه في ذلك الحال من الوعيد لأنها حال إنابة بعضهم إلى طاعته ، ومحالٌ أن يتوعد في حال التوبة والإنابة ، ويترك ذلك في حال اجتماع الجميع على الكفر والشرك.
* * *
قال أبو جعفر : وأما قوله : " فبعثَ الله النبيين مبشرين ومنذرين " ، فإنه يعني أنه أرسل رسلا يبشرون من أطاع الله بجزيل الثواب ، وكريم المآب ويعني بقوله : " ومنذرين " ، ينذرون من عصى الله فكفر به ، بشدّة العقاب ، وسوء الحساب والخلود في النار " وأنزل معهم الكتابَ بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه " ، يعني بذلك : ليحكم الكتاب - وهو التوراة - بين الناس فيما اختلف المختلفون فيه. فأضاف جل ثناؤه " الحكم " إلى " الكتاب " ، وأنه الذي يحكم بين الناس دون النبيين والمرسلين ، إذْ كان مَنْ حَكم من النبيين والمرسلين بحُكم ، إنما يحكم بما دلَّهم عليه الكتاب الذي أنزل الله عز وجل ، فكان الكتاب بدلالته على ما دلَّ وصفه على صحته من الحكم ، حاكمًا بين الناس ، وإن كان الذي يفصل القضاء بينهم غيرُه.
* * *
__________
(1) هذه حجة رجل تقي ورع عاقل . بصير بمواضع الزلل في العقول وبمواطن الجرأة على الحق من أهل الجرأة الذين يتهجمون على العلم بغيًا بالعلم . ولو عقل الناس لأمسكوا فضل ألسنتهم ولكنهم قلما يفعلون .

(4/280)


القول في تأويل قوله تعالى : { وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ }
قال أبو جعفر : يعني جل ثناؤه بقوله : " وما اختلف فيه " ، وما اختلف في الكتاب الذي أنزله وهو التوراة " إلا الذين أوتوه " ، يعني ، بذلك اليهودَ من بني إسرائيل ، وهم الذين أوتوا التوراة والعلم بها و " الهاء " في قوله : " أوتوه " عائدة على " الكتاب " الذي أنزله الله " من بعد ما جاءتهم البينات " ، يعني بذلك : من بعد ما جاءتهم حجج الله وأدلته أنّ الكتابَ الذي اختلفوا فيه وفي أحكامه عند الله ، وأنه الحق الذي لا يسعهم الاختلاف فيه ، ولا العمل بخلاف ما فيه.
فأخبر عز ذكره عن اليهود من بني إسرائيل أنهم خالفوا الكتابَ التوراةَ ، واختلفوا فيه على علم منهم ، ما يأتون متعمِّدين الخلاف على الله فيما خالفوه فيه من أمره وحكم كتابه.
ثم أخبر جل ذكره أن تعمُّدهم الخطيئة التي أتوها ، (1) وركوبهم المعصية التي ركبوها من خلافهم أمرَه ، إنما كان منهم بغيًا بينهم.
* * *
و " البغي " مصدر من قول القائل : " بغى فلانٌ على فلان بغيًا " ، إذا طغى واعتدى عليه فجاوز حدّه ، ومن ذلك قيل للجرح إذا أمدّ ، وللبحر إذا كثر ماؤه ففاض ، وللسحاب إذا وقع بأرض فأخصبت : " بَغَى " كل ذلك بمعنى واحد ، وهي زيادته وتجاوز حده. (2)
* * *
فمعنى قوله جل ثناؤه : " وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغيًا بينهم " ، من ذلك. يقول : لم يكن اختلاف هؤلاء المختلفين من اليهود من بني إسرائيل في كتابي الذي أنزلته مع نبييِّ عن جهل منهم به ، بل كان
__________
(1) في المطبوعة : " تعمدهم الخطيئة التي أنزلها " ، وهو تصحيف وكلام بلا معنى .
(2) انظر معنى " البغي " فيما سلف 1 : 342 .

(4/281)


اختلافهم فيه ، وخلافُ حكمه ، من بعد ما ثبتت حجته عليهم ، بغيًا بينهم ، طلبَ الرياسة من بعضهم على بعض ، واستذلالا من بعضم لبعض. كما : -
4058 - حدثت عن عمار بن الحسن ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع قال : ثم رجع إلى بني إسرائيل في قوله : " وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه " يقول : إلا الذين أوتوا الكتابَ والعلم " من بعد ما جاءتهم البينات بغيًا بينهم " ، يقول : بغيًا على الدنيا وطلبَ ملكها وزخرفها وزينتها ، أيُّهم يكون له الملك والمهابة في الناس ، فبغى بعضُهم على بعض ، وضرب بعضُهم رقاب بعض.
* * *
قال أبو جعفر : ثم اختلف أهل العربية في " مِنْ " التي في قوله : " من بعد ما جاءتهم البينات " ما حكمها ومعناها ؟ وما المعنى المنتسق في قوله : " وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغيًا بينهم " ؟
فقال بعضهم : " من " ، ذلك للذين أوتوا الكتاب ، وما بعده صلة له. غيرَ أنه زعم أن معنى الكلام : وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه ، بغيًا بينهم ، من بعد ما جاءتهم البينات. وقد أنكر ذلك بعضهم فقال : لا معنى لما قال هذا القائل ، ولا لتقديم " البغي " قبل " من " ، لأن " من " إذا كان الجالب لها " البغي " ، فخطأ أن تتقدمه لأن " البغي " مصدر ، ولا تتقدم صلة المصدر عليه. وزعم المنكر ذلك أن " الذين " مستثنى ، وأنّ " من بعد ما جاءتهم البينات " مستثنى باستثناء آخر ، وأن تأويل الكلام : وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه ، ما اختلفوا فيه إلا بغيًا ما اختلفوا إلا من بعد ما جاءتهم البينات فكأنه كرر الكلام توكيدًا.
* * *
قال أبو جعفر : وهذا القول الثاني أشبه بتأويل الآية ، لأن القوم لم يختلفوا إلا من بعد قيام الحجة عليهم ومجيء البينات من عند الله ، وكذلك لم يختلفوا إلا بغيًا ، فذلك أشبه بتأويل الآية.
* * *

(4/282)


القول في تأويل قوله تعالى : { فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (213) }
قال أبو جعفر : يعني جل ثناؤه بقوله : " فهدى الله " ، فوفق[الله] الذي آمنوا (1) وهم أهل الإيمان بالله وبرسوله محمد صلى الله عليه وسلم المصدّقين به وبما جاء به أنه من عند الله لما اختلف الذين أوتوا الكتاب فيه.
وكان اختلافهم الذي خذلهم الله فيه ، وهدى له الذين آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم فوفقتهم لإصابته : " الجمُعة " ، ضلوا عنها وقد فُرضت عليهم كالذي فُرض علينا ، فجعلوها " السبت " ، فقال صلى الله عليه وسلم : " نحن الآخِرون السابقون " ، بيدَ أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا ، وأوتيناه من بعدهم ، وهذا اليوم الذي اختلفوا فيه ، فهدانا الله له فلليهود غدًا وللنصارى بعد غد " .
4059 - حدثنا بذلك محمد بن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن عياض بن دينار الليثي ، قال : سمعت أبا هريرة يقول : قال أبو القاسم صلى الله عليه وسلم. فذكر الحديث. (2)
4060 - حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن الأعمش ، عن أبي صالح عن أبي هريرة : " فهدى الله الذين آمنوا لما
__________
(1) انظر معنى " هدى " فيما سلف 1 : 166 - 170 ، 230 ، 249 ، 549 - 551 ، وانظر فهارس اللغة في الأجزاء السالفة ، في معنى هذه الكلمة وفي معنى " الإيمان " .
(2) الحديث : 4059 - محمد بن حميد الرازي شيخ الطبري : معروف مضت الرواية عنه كثيرا . ووقع في المطبوعة هنا " أحمد بن حميد " وهو غلط وتحريف .
عياض بن دينار الليثي : تابعي ثقة سمع من أبي هريرة . وقد وثقه ابن إسحاق في حديث آخر . رواه عنه في المسند : 7481 وترجمه البخاري في الكبير 4/1/22 وذكره ابن حبان في ثقات التابعين ص : 299 (من كتاب الثقات المخطوط المصور) .
وهذا حديث صحيح معروف مشهورن من حديث أبي هريرةن ثبت عنه من غير وجه . ونظر الحديث الذي عقبه .

(4/283)


اختلفوا فيه من الحق بإذنه " ، قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : نحن الآخرون الآولون يوم القيامة ، نحن أوّل الناس دخولا الجنة بيد أنهم أوتوا الكتابَ من قبلنا وأوتيناه من بعدهم ، فهدانا الله لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه فهذا اليوم الذي هدانا الله له والناس لنا فيه تبع ، غدًا اليهود ، وبعد غد للنصارى " . (1)
* * *
* وكان مما اختلفوا فيه أيضًا ما قال ابن زيد ، وهو ما : -
4061 - حدثني به يونس بن عبد الأعلى ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : " فهدى الله الذين آمنوا " للإسلام ، واختلفوا في الصلاة ، فمنهم من يصلي إلى المشرق ، ومنهم من يصلي إلى بيت المقدس ، فهدانا للقبلة.
واختلفوا في الصيام ، فمنهم من يصوم بعضَ يوم ، وبعضهم بعض ليلة ، وهدانا الله له. واختلفوا في يوم الجمعة ، فأخذت اليهود السبت وأخذت النصارى الأحد ، فهدانا الله له. واختلفوا في إبراهيم ، فقالت اليهود كان يهوديًا ، وقالت النصارى كان نصرانيًا! فبرأه الله من ذلك ، وجعله حنيفًا مسلمًا ، وما كان من المشركين للذين يدَّعونه من أهل الشرك. (2) واختلفوا في عيسى ، فجعلته اليهود لِفِرْية ، وجعلته النصارى ربًا ، فهدانا الله للحق فيه. فهذا الذي قال جل ثناؤه : " فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه " .
* * *
قال أبو جعفر : (3) فكانت هداية الله جل ثناؤه الذين آمنوا بمحمد ، وبما
__________
(1) الحديث : 4060 - هو في تفسير عبد الرزاق ص 23ن بهذا الإسناد وكذلك رواه أحمد في المسند : 7692ن عن عبد الرزاق .
* ورواه الشيخان وغيرهما . فانظر المسند أيضًا : 7213 ، 7308 ، 7393 ، 7395 ، 7693 ، وما أشرنا إليه هناك من التخريج في مواضع متعددة .
(2) في المطبوعة : " الذين يدعونه " والصواب ما أثبت .
(3) في المطبوعة : قال : فكانت هداية الله جل ثناؤه . . . " يتوهم القارئ أن هذا الآتي إنما هو من الأثر السالف وليس ذلك كذلكن بل هو من كلام أبي جعفر ، كما يدل عليه سياقه الآتي ، وكما يتبين من رواية هذا الأثر السالف في تفسير ابن كثير 1 : 489 : 490 والدر المنثور 1 : 243 . فلذلك فصلت بين الكلامين وجعلت صدر الكلام : " قال أبو جعفر " .

(4/284)


جاء به لما اختلف - هؤلاء الأحزاب من بنى إسرائيل الذين أوتوا الكتاب - فيه من الحق بإذنه أنْ وفقهم لإصابة ما كان عليه مَنْ الحق من كان قبل المختلفين الذين وصف الله صفتهم في هذه الآية ، إذ كانوا أمة واحدة ، وذلك هو دين إبراهيم الحنيف المسلم خليل الرحمن ، فصاروا بذلك أمة وَسطًا ، كما وصفهم به ربهم ليكونوا شهداء على الناس. كما : -
4062 - حدثت عن عمار بن الحسن ، قال : حدثنا عبد الله بن أبي جعفر ، عن أبيه عن الربيع : " فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه " ، فهداهم الله عند الاختلاف ، أنهم أقاموا على ما جاءت به الرسل قبل الاختلاف : أقاموا على الإخلاص لله وحده ، وعبادته لا شريك له ، وإقام الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، فأقاموا على الأمر الأول الذي كان قبل الاختلاف ، واعتزلوا الاختلاف ، فكانوا شهداء على الناس يوم القيامة ، كانوا شهداء على قوم نوح ، وقوم هود ، وقوم صالح ، وقوم شعيب ، وآل فرعون ، أن رسلهم قد بلَّغوهم ، وأنهم كذَّبوا رسلهم. وهي في قراءة أبي بن كعب : ( وَلِيَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ ) يوم القيامة( وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ). فكان أبو العالية يقول في هذه الآية المخرج من الشبهات والضلالات والفتن.
4063 - حدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : " فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه " ، يقول : اختلف الكفار فيه ، فهدى الله الذي آمنوا للحق من ذلك; وهي في قراءة ابن مسعود : " فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا عنه " ، عن الإسلام. (1)
* * *
__________
(1) الأثر : 4063 - انظر الأثر السالف رقم : 4057 والتعليق عليه . وكان في المطبوعة هنا وهناك : " لما اختلفوا فيه على الإسلام " ، وهو غير بين المعنى والذي أثبته هو نص ما في القرطبي 3 : 33 والدر المنثور 1 : 243 .

(4/285)


قال أبو جعفر : وأمّا قوله : " بإذنه " ، فإنه يعني جل ثناؤه بعلمه بما هداهم له ، وقد بينا معنى " الإذن " إذْ كان بمعنى العلم في غير هذا الموضع بما أغنى عن إعادته ههنا. (1)
* * *
وأما قوله : " والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم " ، فإنه يعني به : والله يسدّد من يشاء من خلقه ويُرشده إلى الطريق القويم على الحق الذي لا اعوجاج فيه ، كما هدى الذين آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم ، لما اختلف الذين أوتوا الكتاب فيه بغيًا بينهم ، فسددهم لإصابة الحق والصواب فيه.
* * *
قال أبو جعفر : وفي هذه الآية البيان الواضح على صحة ما قاله أهل الحقّ : من أن كل نعمة على العباد في دينهم آو دنياهم ، فمن الله جل وعز.
* * *
فإن قال لنا قائل : وما معنى قوله : " فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه " ؟ أهداهم للحق ، أم هداهم للاختلاف ؟ فإن كان هداهم للاختلاف فإنما أضلهم! وإن كان هداهم للحق ، فيكف قيل ، " فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه " ؟
قيل : إن ذلك على غير الوجه الذي ذهبتَ إليه ، وإنما معنى ذلك : فهدى الله الذين آمنوا للحقّ فيما اختلف فيه من كتاب الله الذين أوتوه ، فكفر بتبديله بعضُهم ، وثبت على الحق والصواب فيه بعضهم - وهم أهل التوراة الذين بدّلوها - فهدى الله مما للحقّ بدَّلوا وحرَّفوا ، الذين آمنوا من أمة محمد صلى الله عليه وسلم.
* * *
قال أبو جعفر : فإن أشكل ما قلنا على ذي غفلة ، فقال وكيف يجوز أن يكون ذلك كما قلت ، و " مِنْ " إنما هي في كتاب الله في " الحق " و " اللام " في قوله : " لما اختلفوا فيه " ، وأنت تحول " اللام " في " الحق " ، و " من " في " الاختلاف " ، في التأويل الذي تتأوله فتجعله مقلوبًا ؟
__________
(1) انظر ما سلف 2 : 449 - 450 .

(4/286)


أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ (214)

قيل : ذلك في كلام العرب موجودٌ مستفيضٌ ، والله تبارك وتعالى إنما خاطبَهم بمنطقهم ، فمن ذلك قول الشاعر : (1)
كَانَتْ فَرِيضَةُ مَا تَقُول كما... كَانَ الزِّنَاءُ فَريضَةَ الرَّجْمِ (2)
وإنما الرجم فريضة الزنا. وكما قال الآخر :
إنّ سِرَاجًا لَكَرِيمٌ مَفْخَرُهْ... تَحْلَى به العَيْنُ إذَا مَا تَجْهَرُهْ (3)
وإنما سراجٌ الذي يحلى بالعين ، لا العين بسراج.
* * *
وقد قال بعضهم : إن معنى قوله " فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق " ، أن أهلَ الكتب الأوَل اختلفوا ، فكفر بعضهم بكتاب بعض ، وهي كلها من عند الله ، فهدى الله أهلَ الإيمان بمحمد للتصديق بجميعها.
وذلك قولٌ ، غير أن الأوّل أصح القولين. لأن الله إنما أخبر باختلافهم في كتاب واحد.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ (214) }
قال أبو جعفر : وأما قوله : " أم حسبتم " ، كأنه استفهم بـ " أم " في ابتداء لم يتقدمه حرف استفهام ، لسبوق كلام هو به متصل ، (4) ولو لم يكن قبله كلام
__________
(1) هو النابغة الجعدي .
(2) سلف تخريج البيت في 3 : 311 ، 312 .
(3) سلف تخريج الشعر في 3 : 312 .
(4) في المطبوعة : " لمسبوق كلام " وهو فاسد المعنى وذلك أن أحد شروط " أم " في الاستفهام : أن تكون نسقًا في الاستفهام لتقدم ما تقدمها من الكلام (انظر ما سلف 2 : 493) وقوله " لسبوق " هذا مصدر لم يرد في كتب اللغة ، ولكني رأيت الطبري وغيره يستعمله وسيأتي في نص الطبري بعد 2 : 240 ، 246 (بولاق) .

(4/287)


يكون به متصلا وكان ابتداءً لم يكن إلا بحرف من حروف الاستفهام; لأن قائلا لو كان قال مبتدئًا كلامًا لآخر : " أم عندك أخوك " ؟ لكان قائلا ما لا معنى له. ولكن لو قال : " أنت رجل مُدِلٌّ بقوتك أم عندك أخوك ينصرك ؟ " كان مصيبًا. وقد بينَّا بعض هذا المعنى فيما مضى من كتابنا هذا بما فيه الكفاية عن إعادته.
* * *
فمعنى الكلام : أم حسبتم أنكم أيها المؤمنون بالله ورسله تدخلون الجنة ، ولم يصبكم مثلُ ما أصاب مَن قبلكم مِن أتباع الأنبياء والرسل من الشدائد والمحن والاختبار ، فتُبتلوا بما ابتُلوا واختبروا به من " البأساء " - وهو شدة الحاجة والفاقة " والضراء " - وهي العلل والأوصاب (1) - ولم تزلزلوا زلزالهم - يعني : ولم يصبهم من أعدائهم من الخوف والرعب شدة وجهدٌ حتى يستبطئ القوم نصر الله إياهم ، فيقولون : متى الله ناصرنا ؟ ثم أخبرهم الله أن نصره منهم قريبٌ ، وأنه مُعليهم على عدوِّهم ، ومظهرهم عليه ، فنجَّز لهم ما وعدهم ، وأعلى كلمتهم ، وأطفأ نار حرب الذين كفروا.
* * *
وهذه الآية - فيما يزعم أهل التأويل - نزلت يومَ الخندق ، حين لقي المؤمنون ما لَقوا من شدة الجهد ، من خوف الأحزاب ، وشدة أذى البرد ، وضيق العيش الذي كانوا فيه يومئذ ، يقول الله جل وعز للمؤمنين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا ) إلى قوله : ( وَإِذْ زَاغَتِ الأبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالا شَدِيدًا ) [الأحزاب : 9 - 11]
__________
(1) انظر معنى " البأساء والضراء " فيما سلف 3 : 349 - 352 .

(4/288)


* ذكر من قال نزلت هذه الآية يوم الأحزاب :
4064 - حدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : " أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا " ، قال : نزل هذا يوم الأحزاب حين قال قائلهم : " ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورا " [الأحزاب : 12]
4065 - حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : " ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مسَّتهم البأساءُ والضراء وزلزلوا " ، قال : نزلت في يوم الأحزاب ، أصاب رسولَ الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه بلاءٌ وحصرٌ ، فكانوا كما قال الله جل وعزّ : ( وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ )
* * *
وأما قوله : " ولما يأتكم " ، فإنّ عامة أهل العربية يتأوّلونه بمعنى : ولم يأتكم ، ويزعمون أن " ما " صلة وحشو ، وقد بينت القول في " ما " التي يسميها أهل العربية " صلة " ، ما حكمها ؟ في غير هذا الموضع بما أغنى عن إعادته. (1)
* * *
وأما معنى قوله : " مثل الذين خلوا من قبلكم " ، فإنه يعني : شبه الذين خلوا فمضوا قبلكم. (2)
* * *
وقد دللت في غير هذا الموضع على أن " المثل " ، الشبه. (3)
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
__________
(1) انظر ما سلف 1 : 405 ، 406/ ثم 2 : 230 ، 331 . وقوله : " صلة " أي زيادة ، كما سلف شرحها مرارا ، فاطلبها في فهرس المصطلحات .
(2) انظر تفسير " خلا " فيما سلف 3 : 100 ، 128 ، 129 .
(3) انظر ما سلف : 1 : 403 .

(4/289)


4066 - حدثت عن عمار ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع قوله : " أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا " ... (1)
4067 - حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج ، عن عبد الملك بن جريج ، قال قوله : " حتى يقول الرسول والذين آمنوا " ، قال : هو خيرُهم وأعلمهم بالله.
* * *
وفي قوله : " حتى يقول الرسول " ، وجهان من القراءة : الرفع ، والنصب. ومن رفع فإنه يقول : لما كان يحسُن في موضعه " فعَل " أبطل عمل " حتى " فيها ، لأن " حتى " غير عاملة في " فعل " ، وإنما تعمل في " يفعل " ، وإذا تقدمها " فعل " ، وكان الذي بعدها " يفعل " ، وهو مما قد فُعل وفُرغ منه ، وكان ما قبلها من الفعل غير متطاول ، فالفصيح من كلام العرب حينئذ الرفع في " يفعل " وإبطال عمل " حتى " عنه ، وذلك نحو قول القائل : " قمت إلى فلان حتى أضربُه " ، والرفع هو الكلام الصحيح في " أضربه " ، إذا أراد : قمت إليه حتى ضربته ، إذا كان الضرب قد كانَ وفُرغ منه ، وكان القيام غيرَ متطاول المدة. فأمَّا إذا كان ما قبل " حتى " من الفعل على لفظ " فعل " متطاول المدة ، وما بعدها من الفعل على لفظ غير منقضٍ ، فالصحيح من الكلام نصب " يفعل " ، وإعمال " حتى " ، وذلك نحو قول القائل : " ما زال فلان يطلبك حتى يكلمك وجعل ينظر إليك حتى يثبتك " ، فالصحيح من الكلام - الذي لا يصح غيره - النصبُ بـ " حتى " ، كما قال الشاعر : (2)
مَطَوْتُ بِهِمْ حَتَّى تَكِلَّ مَطِيُّهمْ... وَحَتَّى الجِيَادُ مَا يُقَدْنَ بِأَرْسَانِ (3)
__________
(1) الأثر : 4066 - هذا أثر ناقص ، ولم أجد تمامه في مكان آخر .
(2) هو امرؤ القيس .
(3) ديوانه : 186 ، ومعاني القرآن للفراء 1 : 133 وسيبويه 1 : 417/ 2 : 203 ، ورواية سيبويه : " سريت بهم " وفي الموضع الثاني منه روى : " حَتَّى تَكِلَّ غَزِيّهم "
مطا بالقوم يمطو مطوًا : مد بهم وجد في السير . يقول : جد بهم ورددهم في السير حتى كلت مطاياهم فصارت من الإعياء إلى حال لا تحتاج معها إلى أرسان تقاد بها ، وصار راكبوها من الكلال إلى إلقاء الأرسان وطرحها على الخيل . لا يبالون من تبعهم وإعيائهم ، كيف تسير ، ولا إلى أين .

(4/290)


يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (215)

فنصب " تكل " ، والفعل الذي بعد " حتى " ماض ، لأن الذي قبلها من " المطو " متطاول.
والصحيح من القراءة - إذْ كان ذلك كذلك - : " وزلزلوا حتى يقولَ الرسول " ، نصب " يقول " ، إذ كانت " الزلزلة " فعلا متطاولا مثل " المطو بالإبل " .
وإنما " الزلزلة " في هذا الموضع : الخوف من العدو ، لا " زلزلة الأرض " ، فلذلك كانت متطاولة وكان النصبُ في " يقول " وإن كان بمعنى " فعل " أفصحَ وأصحَّ من الرفع فيه. (1)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالأقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (215) }
قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه : يسألك أصحابك يا محمد ، أي شيء ينفقون من أموالهم فيتصدقون به ؟ ، وعلى مَن ينفقونه فيما ينفقونه ويتصدقون به ؟ فقل لهم : ما أنفقتم من أموالكم وتصدقتم به ، فأنفقوه وتصدقوا به واجعلوه لآبائكم وأمهاتكم وأقربيكم ، ولليتامى منكم ، والمساكين ، وابن السبيل ، فإنكم ما تأتوا من خير وتصنعوه إليهم فإن الله به عليم ، وهو مُحْصيه لكم حتى يوفِّيَكم أجوركم عليه يوم القيامة ، ويثيبكم على ما أطعتموه بإحسانكم عليه.
* * *
__________
(1) قد استوفى الكلام في " حتى " الفراء في معاني القرآن 1 : 132 - 138 واعتمد عليه الطبري في أكثر ما قاله في هذا الموضع .

(4/291)


و " الخير " الذي قال جل ثناؤه في قوله : " قل ما أنفقتم من خير " ، هو المال الذي سأل رسولَ الله صلى الله عليه وسلم أصحابُه من النفقة منه ، فأجابهم الله عنه بما أجابهم به في هذه الآية.
* * *
وفي قوله : " ماذا " ، وجهان من الإعراب.
أحدهما : أن يكون " ماذا " بمعنى : أيّ شيء ؟ ، فيكون نصبًا بقوله : " ينفقون " .
فيكون معنى الكلام حينئذ : يسألونك أيَّ شيء ينفقون ؟ ، ولا يُنصَب بـ " يسألونك " . والآخر منهما الرفع. وللرفع في " ذلك " وجهان : أحدهما أن يكون " ذا " الذي مع " ما " بمعنى " الذي " ، فيرفع " ما " ب " ذا " و " ذا " لِ " ما " ، و " ينفقون " من صلة " ذا " ، فإن العرب قد تصل " ذا " و " هذا " ، كما قال الشاعر : (1)
عَدَسْ! مَا لِعَبَّادٍ عَلَيْكِ إمَارَةٌ... أمنْتِ وهذَا تَحْمِلِينَ طَلِيقُ! (2)
فـ " تحملين " من صلة " هذا " .
فيكون تأويل الكلام حينئذ : يسألونك ما الذي ينفقون ؟
والآخر من وجهي الرفع أن تكون " ماذا " بمعنى أيّ شيء ، فيرفع " ماذا " ،
__________
(1) هو يزيد بن مفرغ الحميري .
(2) تاريخ الطبري 6 : 178 والأغاني 17 : 60 (ساسي) ومعاني القرآن للفراء 1 : 138 والخزانة : 2 : 216 ، 514 واللسان (عدس) من أبيات في قصة يزيد بن مفرغ مع عباد بن زياد بن أبي سفيان ، وكان معاوية ولاه سجستان فاستصحب معه يزيد بن مفرغ فاشتغل عنه بحرب الترك . فغاظ ذلك ابن مفرغ واستبطأ جائزته ، فبسط لسانه في لحية عباد وكان عباد عظيم اللحية فقال : ألاَ لَيْتَ اللِّحَى كانت حشيشًا ... فنَعْلِفَها خيولَ المسلمينَا
فعرف عباد ما أراد فطلبه منه ، فهجاه وهجا معاوية باستلحاق زياد بن أبي سفيان فأخذه عبيد الله بن زياد اخو عباد ، فعذبه عذابًا قبيحًا ، وأرسله إلى عباد ، ثم أمرهما معاوية بإطلاقه فلما انطلق على بغلة البريد ، قال هذا الشعر الذي أوله هذا البيت .
وقوله : " عدس " زجر للبغلة ، حتى صارت كل بغلة تسمى " عدس " . والشعر شعر جيد فاقرأه في المراجع السالفة .

(4/292)


وإن كان قوله : " ينفقون " واقعًا عليه ، (1) إذ كان العاملُ فيه ، وهو " ينفقون " ، لا يصلح تقديمه قبله ، وذلك أن الاستفهامَ لا يجوز تقديم الفعل فيه قبل حرف الاستفهام ، كما قال الشاعر : (2)
ألا تَسْأَلانِ المَرْءَ مَاذَا يُحَاِولُ... أَنَحْبٌ فَيُقْضَى أَمْ ضلالٌ وَبَاطِلُ (3)
وكما قال الآخر : (4)
وَقَالُوا (5) تَعَرَّفْهَا المَنَازِلَ مِنْ مِنًى ... وَمَا كُلُّ مَنْ يَغْشَى مِنًى أَنَا عَارِفُ (6)
فرفع " كل " ولم ينصبه " بعارف " ، إذ كان معنى قوله : " وما كلُّ من يغشى منىً أنا عارف " جحودُ معرفه من يغشى منيً ، فصار في معنى ما أحد. (7) وهذه الآية [نزلت] (8) - فيما ذكر - قبل أن يفرض الله زكاةَ الأموال.
* ذكر من قال ذلك :
4068 - حدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا
__________
(1) سلف أن " الوقوع " هو تعدي الفعل إلى المفعول ، فانظر فهرس المصطلحات وما سلف 2 : 108 ، 198 .
(2) هو لبيد بن ربيعة .
(3) ديوانه : 2/27 القصيدة : 41 ، وسيبويه 1 : 405 والخزانة 2 : 556 ومعاني القرآن للفراء 1 : 139 وغيرها . والشاهد فيه أنه رفع " نحب " وهو مردود على " ما " في " ماذا " . فدل ذلك على أن " ذا " بمعنى " الذي " وما بعده من صلته ، فلا يعمل فيما قبله . والنحب : النذر . يقول : أعليه نذر في طول سعيه الذي ألزم به نفسه ؟ والنحب : الحاجة وهي صحيحة المعنى في مثل هذا البيت يقول : أهي حاجة لا بد منها يقضيها بسعيه ، أم هي اماني باطلة يتمناهان لو استغنى عنها وطرحها لما خسر شيئًا ، ولسارت به الحياة سيرًا بغير حاجة إلى هذا الجهاد المتواصل ، والاحتيال المتطاول ؟
(4) هو مزاحم العقيلي .
(5) هو مزاحم العقيل
(6) ديوانه : 28 ، وسيبويه 1 : 36ن 73 ، شاهدا على نصب " كل " ورفعها ومعاني القرآن للفراء 1 : 139 وقال : لم " أسمع أحدًا نصب " كل وشرح شواهد المغني : 328 .
وقوله : " تعرفها المنازل " بنصبها على حذف الخافض أو الظرف أي تعرف صاحبتك بالمنازل من منى . فيقول : لا أعرف أحدًا يعرفها ممن يغشى مني فأسأله عنها .
(7) انظر أكثر ما مضى في معاني القرآن للفراء 138 - 140 .
(8) هذه الزيادة بين القوسين لا بد منها ، ليستقيم الكلام .

(4/293)


أسباط ، عن السدي : " يسألونك ماذا ينفقون قل ما أنفقتم من خير فللوالدين والأقربين " ، قال : يوم نزلت هذه الآية لم تكن زكاة ، وإنما هي النفقةُ ينفقها الرجل على أهله ، والصدقة يتصدق بها فنسختها الزكاة.
4069 - حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج ، قال : قال ابن جريج : سأل المؤمنون رسول الله صلى الله عليه وسلم أينَ يضعون أموالهم ؟ فنزلت : " يسألونك ماذا ينفقون قل ما أنفقتم من خير فللوالدين والأقربين واليتامىَ والمساكين وابن السبيل " ، فذلك النفقةُ في التطوُّع ، والزكاةُ سوى ذلك كله قال : وقال مجاهد : سألوا فأفتاهم في ذلك : " ما أنفقتم من خير فللوالدين والأقربين " وما ذكر معهما.
4070 - حدثنا محمد بن عمرو ، قال حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثني عيسى ، قال : سمعت ابن أبي نجيح في قول الله : " يسألونك ماذا ينفقون " ، قال : سألوه فأفتاهم في ذلك : " فللوالدين والأقربين " وما ذكر معهما.
4071 - حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد وسألته عن قوله : " قل ما أنفقتم من خير فللوالدين والأقربين " قال : هذا من النوافل ، قال : يقول : هم أحق بفضلك من غيرهم.
* * *
قال أبو جعفر : وهذا الذي قاله السدي : من أنه لم يكن يوم نزلت هذه الآية زكاةٌ ، وإنما كانت نفقةً ينفقها الرجل على أهله ، وصدقةً يتصدق بها ، ثم نسختها الزكاة قولٌ ممكن أن يكون كما قال : وممكن غيره. ولا دلالة في الآية على صحة ما قال ، لأنه ممكن أن يكون قوله : " قل ما أنفقتم من خير فللوالدين والأقربين " الآية ، حثًا من الله جل ثناؤه على الإنفاق على من كانت نفقته غيرَ واجبة من الآباء والأمهات والأقرباء ، ومن سمي معهم في هذه الآية ، وتعريفًا من

(4/294)


الله عبادَه مواضع الفضل التي تُصرف فيها النفقات ، كما قال في الآية الأخرى : ( وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ ) [سورة البقرة : 177] . وهذا القول الذي قلناه في قول ابن جريج الذي حكيناه.
* * *
وقد بينا معنى المسكنة ، ومعنى ابن السبيل فيما مضى ، فأغنى ذلك عن إعادته. (1)
* * *
__________
(1) انظر تفسير " المسكين " فيما سلف 2 : 137 ، 293/ ثم 3 : 345 ومعنى " اليتامى " فيما سلف 2 : 292/ ثم 3 : 345 ومعنى " ابن السبيل " فيما سلف 3 : 345 .

(4/295)


كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (216)

القول في تأويل قوله عز ذكره : { كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ }
قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه بقوله : " كتب عليكم القتال " ، فُرض عليكم القتال ، يعني قتال المشركين " وهو كُرْهٌ لكم " .
* * *
واختلف أهل العلم في الذين عُنوا بفرض القتال.
فقال بعضهم : عنى بذلك أصحابُ رسول الله صلى الله عليه وسلم خاصةً دون غيرهم.
* ذكر من قال ذلك :
4072 - حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : سألت عطاء قلت له : " كتب عليكم القتال وهو كُرْهٌ لكم " ، أواجبٌ الغزوُ على الناس من أجلها ؟ قال : لا! كُتب على أولئك حينئذ.
4073 - حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا عثمان بن سعيد ، قال : حدثنا

(4/295)


خالد ، عن حسين بن قيس ، عن عكرمة ، عن ابن عباس في قوله : " كتب عليكم القتال وهو كره لكم " ، قال نسختها( قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا ) [سورة البقرة : 285]
* * *
قال أبو جعفر : وهذ ا قول لا معنى له ، لأن نسخَ الأحكام من قبل الله جل وعزّ ، لا من قبل العباد ، وقوله : " قالوا سمعنا وأطعنا " ، خبر من الله عن عباده المؤمنين وأنهم قالوه لا نسخٌ منه.
4074 - حدثني محمد بن إسحاق ، قال : حدثنا معاوية بن عمرو ، قال : حدثنا أبو إسحاق الفزاري ، قال : سألت الأوزاعي عن قول الله عز وجل : " كتب عليكم القتال وهو كره لكم " ، أواجبٌ الغزو على الناس كلهم ؟ قال : لا أعلمه ، ولكن لا ينبغي للأئمة والعامة تركه ، فأما الرجل في خاصة نفسه فلا. (1)
* * *
وقال آخرون : هو على كل واحد حتى يقوم به من في قيامه الكفاية ، فيسقطُ فرض ذلك حينئذ عن باقي المسلمين ، كالصلاة على الجنائز وغسلهم الموتى ودفنهم ، وعلى هذا عامة علماء المسلمين .
* * *
قال أبو جعفر : وذلك هو الصواب عندنا لإجماع الحجة على ذلك ، ولقول الله عز وجل : ( فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى ) [سورة النساء : 95] ، فأخبر جل ثناؤه أنّ الفضل للمجاهدين ، وأن لهم وللقاعدين الحسنى ، ولو كان القاعدون مضيِّعين فرضًا لكان لهم السُّوأى لا الحسنى.
* * *
__________
(1) الأثر : 4074 - محمد بن إسحاق بن جعفر الصاغاني نزل بغداد وكان وجه مشايخ بغداد وكان أحد الحفاظ الأثبات المتقنين مات سنة 270 ، وروى عنه الطبري في المذيل (انظر المنتخب من ذيل المذيل : 104) ومعاوية بن عمرو بن المهلب الأزدي روى عنه البخاري ، توفي ببغداد سنة 215 . وكلاهما مترجم في التهذيب .

(4/296)


وقال آخرون : هو فرضٌ واجبٌ على المسلمين إلى قيام الساعة.
* ذكر من قال ذلك :
4075 - حدثنا حُبَيش بن مبشر قال : حدثنا روح بن عبادة ، عن ابن جريج ، عن داود بن أبي عاصم ، قال : قلت لسعيد بن المسيب : قد أعلم أن الغزو واجبٌ على الناس! فسكت ، وقد أعلم أنْ لو أنكر ما قلت لبيَّن لي. (1)
* * *
وقد بينا فيما مضى معنى قوله : " كتب " بما فيه الكفاية. (2)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ }
قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه : وهو ذو كره لكم ، فترك ذكر " ذو " اكتفاء بدلالة قوله : " كره لكم " ، عليه ، كما قال : ( وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ ) [سورة يوسف : 83]
وبنحو الذي قلنا في ذلك روي عن عطاء في تأويله.
* ذكر من قال ذلك :
4076 - حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن عطاء في قوله : " وهو كره لكم " قال : كُرّه إليكم حينئذ.
* * *
" والكره " بالضم : هو ما حمل الرجلُ نفسه عليه من غير إكراه أحد إياه عليه ، " والكَرْهُ " بفتح " الكاف " ، هو ما حمله غيره ، فأدخله عليه كرهًا. وممن حكي عنه هذا القول معاذ بن مسلم.
__________
(1) الأثر : 4075 - حبيش بن مبشر بن أحمد الطوسي الفقيه ، كان ثقة من عقلاء البغداديين مات سنة 258 ، مترجم في التهذيب وتاريخ بغداد . وكان في المطبوعة : " حسين بن ميسر " وليس في الرواة من يعرف بذلك .
(2) انظر ما سلف 3 : 357 ، 364 ، 365 .

(4/297)


4077 - حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الرحمن بن أبي حماد ، عن معاذ بن مسلم ، قال : الكُرْه المشقة ، والكَرْه الإجبار.
* * *
وقد كان بعض أهل العربية يقول : " الكُره والكَره " لغتان بمعنى واحد ، مثل : " الغُسْل والغَسْل " و " الضُّعف والضَّعف " ، و " الرُّهبْ والرَّهبْ " . وقال بعضهم : " الكره " بضم " الكاف " اسم و " الكره " بفتحها مصدر.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ }
قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه : ولا تكرهوا القتالَ ، فإنكم لعلكم أن تكرهوه وهو خيرٌ لكم ، ولا تحبوا تركَ الجهاد ، فلعلكم أن تحبوه وهو شر لكم ، كما : -
4078 - حدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : " كتب عليكم القتال وهو كره لكم وعسى أن تكرهوا شيئًا وهو خيرٌ لكم وعسى أن تحبوا شيئًا وهو شر لكم " ، وذلك لأن المسلمين كانوا يكرهون القتال ، فقال : " عسى أن تكرهوا شيئًا وهو خيرٌ لكم " يقول : إن لكم في القتال الغنيمةَ والظهور والشهادة ، ولكم في القعود أن لا تظهروا على المشركين ، ولا تُستْشهدوا ، ولا تصيبوا شيئًا.
4079 - حدثني محمد بن إبراهيم السلمي ، قال : حدثني يحيى بن محمد بن مجاهد ، قال : أخبرني عبيد الله بن أبي هاشم الجعفي ، قال : أخبرني عامر بن واثلة قال : قال ابن عباس : كنت رِدْفَ النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال : يا ابن عباس ارضَ عن الله بما قدَّرَ ، وإن كان خلافَ هواك ، فإنه مثبَتٌ في كتاب الله. قلت : يا رسول الله ، فأين ؟ وقد قرأت القرآن ! قال : في قوله : " وعسى

(4/298)


أن تكرهوا شيئًا وهو خيرٌ لكم وعسى أن تحبوا شيئًا وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون " (1)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (216) }
قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه : والله يعلم ما هو خيرٌ لكم ، مما هو شر لكم ، فلا تكرهوا ما كتبتُ عليكم من جهاد عدوكم ، وقتال من أمرتكم بقتاله ، فإني أعلم أنّ قتالكم إياهم ، هو خيرٌ لكم في عاجلكم ومعادكم ، وترككم قتالهم شر لكم ، وأنتم لا تعلمون من ذلك ما أعلم ، يحضّهم جل ذكره بذلك على جهاد أعدائه ، ويرغِّبهم في قتال من كفر به.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ }
قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه : يسألك يا محمد أصحابُك عن الشهر الحرام وذلك رَجبٌ عن قتالٍ فيه.
__________
(1) الحديث : 4079 - هذا إسناد مظلم والمتن منكر! لم أجد ترجمة " يحيى بن محمد بن مجاهد " ولا " عبيد الله بن أبي هاشم " ولا أدري ما هما . ولفظ الحديث لم أجده ، ولا نقله أحد +من ينقل عن الطبري .

(4/299)


وخفضُ " القتال " على معنى تكرير " عن " عليه ، وكذلك كانت قراءةُ عبد الله بن مسعود فيما ذكر لنا. وقد : -
4080 - حدثت عن عمار بن الحسن ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع قوله : " يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه " ، قال : يقول : يسألونك عن قتال فيه ، قال : وكذلك كان يقرؤها : " عن قتال فيه " .
* * *
قال أبو جعفر : " قل " يا محمد : " قتالٌ فيه " - يعني في الشهر الحرام " كبيرٌ " ، أي عظيمٌ عند الله استحلاله وسفك الدماء فيه.
ومعنى قوله : " قتال فيه " ، قل القتال فيه كبير. وإنما قال : " قل قتالٌ فيه كبيرٌ " ، لأن العرب كانت لا تقرعُ فيه الأسنَّة ، فيلقى الرجل قاتل أبيه أو أخيه فيه فلا يَهيجه تعظيما له ، وتسميه مضر " الأصمَّ " (1) لسكون أصوات السلاح وقعقعته فيه. وقد : -
4081 - حدثني محمد بن عبد الله بن عبد الحكم المصري ، قال : حدثنا شعيب بن الليث ، قال : حدثنا الليث ، قال : حدثنا الزبير ، عن جابر قال : لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يغزو في الشهر الحرام إلا أن يُغْزَى ، أو يَغزو حتى إذا حضر ذلك أقامَ حتىّ ينسلخ.
* * *
وقوله جل ثناؤه : " وصَدٌّ عن سبيل الله " . ومعنى " الصدّ " عن الشيء ، المنع منه ، والدفع عنه ، ومنه قيل : " صدّ فلان بوجهه عن فلان " ، إذا أعرض عنه فمنعه من النظر إليه.
* * *
وقوله : " وكفرٌ به " ، يعني : وكفر بالله ، و " الباء " في " به " عائدة على اسم الله الذي في " سبيل الله " . وتأويل الكلام : وصدٌّ عن سبيل الله ، وكفر به ، وعن المسجد الحرام ، وإخراج أهل المسجد الحرام - وهم أهله وولاته - أكبرُ عند الله من القتال في الشهر الحرام.
__________
(1) يعني شهر رجب ، وهو رجب الأصم .

(4/300)


فـ " الصدُّ عن سييل الله " مرفوع بقوله : " أكبر عند الله " . وقوله : " وإخراج أهله منه " عطف على " الصد " . ثم ابتدأ الخبر عن الفتنة فقال : " والفتنة أكبر من القتل " ، يعني : الشرك أعظم وأكبرُ من القتل ، (1) يعني : مِنْ قَتل ابن الحضرميّ الذي استنكرتم قتله في الشهر الحرام.
* * *
قال أبو جعفر : وقد كان بعض أهل العربية يزعم أن قوله : " والمسجد الحرام " معطوف على " القتال " وأن معناه : يسألونك عن الشهر الحرام ، عن قتال فيه ، وعن المسجد الحرام ، فقال الله جل ثناؤه : " وإخراجُ أهله منه أكبر عند الله " من القتال في الشهر الحرام. (2)
وهذا القول ، مع خروجه من أقوال أهل العلم ، قولٌ لا وجهَ له. لأن القوم لم يكونوا في شك من عظيم ما أتى المشركون إلى المسلمين في إخراجهم إياهم من منازلهم بمكة ، فيحتاجوا إلى أن يسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن إخراج المشركين إياهم من منازلهم ، وهل ذلك كان لهم ؟ بل لم يدَّع ذلك عليهم أحدٌ من المسلمين ، ولا أنهم سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك.
وإذ كان ذلك كذلك ، فلم يكن القوم سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا عَمَّا ارتابوا بحكمه (3) كارتيابهم في أمر قتل ابن الحضرمي ، إذ ادَّعوا أن قاتله من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قتله في الشهر الحرام ، فسألوا عن أمره ، لارتيابهم في حكمه. فأما إخراجُ المشركين أهلَ الإسلام من المسجد الحرام ، فلم يكن فيهم أحدٌ شاكًّا أنه كان ظلمًا منهم لهم فيسألوا عنه.
ولا خلاف بين أهل التأويل جميعًا أن هذه الآية نزلت
__________
(1) انظر معنى " الفتنة " فيما سلف 3 : 565 ، 566 ثم 570ن 571 وفهرس اللغة في الأجزاء السالفة .
(2) هذه مقالة الفراء في معاني القرآن 1 : 141 .
(3) في المطبوعة : " وإذا كان ذلك كذلك ، ولم يكن القوم سألوا رسول الله . . . " والصواب ما أثبت ، وإلا اختل الكلام اختلالا شديدًا .

(4/301)


على رسول الله صلى الله عليه وسلم في سبب قتل ابن الحضرمي وقاتله.
* ذكر الرواية عمن قال ذلك :
4082 - حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة بن الفضل ، عن ابن إسحاق ، قال : حدثني الزهري ، ويزيد بن رومان عن عروة بن الزبير ، قال : بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن جحش في رجب مَقْفَلَه من بدر الأولى ، وبعثَ معه بثمانية رهط من المهاجرين ، ليس فيهم من الأنصار أحد ، وكتب له كتابًا ، وأمره أن لا ينظر فيه حتى يسير يومين ثم ينظر فيه فيمضي لما أمره ، ولا يستكره من أصحابه أحدًا.
وكان أصحابُ عبد الله بن جحش من المهاجرين من بني عبد شمس أبو حذيفة [بن عتبة] بن ربيعة - (1) ومن بني أمية - بن عبد شمس ، ثم من حلفائهم : عبد الله بن جحش بن رئاب ، وهو أمير القوم ، وعكاشة بن محصن بن حُرثان أحد بني أسد بن خزيمة - ومن بني نوفل بن عبد مناف عتبة بن غزوان حليف لهم - ومن بني زهرة بن كلاب : سعد بن أبي وقاص - ومن بني عدي بن كعب عامر بن ربيعة حليف لهم ، وواقد بن عبد الله بن مناة بن عرين (2) بن ثعلبة بن يربوع بن حنظلة ، وخالد بن البكير أحد بني سعد بن ليث حليف لهم - ومن بني الحارث بن فهر : سهيل بن بيضاء.
فلما سار عبدُ الله بن جحش يومين فتح الكتاب ونظر فيه ، فإذا فيه : " إذا نظرت إلى كتابي هذا ، (3) فسرْ حتى تنزل نخلة بين مكة والطائف ،
__________
(1) الزيادة بين القوسين من سيرة ابن هشام ونص ابن هشام : " أبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة بن عبد شمس - ومن حلفائهم : عبد الله بن جحش " بإسقاط : " ومن بني أمية " فتركت ما في الطبري على حاله لأنه صحيح المعنى أيضًا .
(2) في المطبوعة : " . . . عبد الله بن مناة بن عويم " وأثبت ما في نص ابن هشام وهو الموافق لما أجمعت عليه كتب السير والأنساب .
(3) في المطبوعة : " إذا نظرت إلى كتابي . . . " وأثبت ما في هشام وتاريخ الطبري وهو الصواب .

(4/302)


فترصَّد بها قريشًا ، وتعلَّمْ لنا من أخبارهم " . فلما نظر عبد الله بن جحش في الكتاب قال : " سمعا وطاعة " ، ثم قال لأصحابه : قد أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أمضي إلى نخلة فأرصد بها قريشًا حتى آتيه منهم بخبر ، وقد نهاني أن أستكره أحدًا منكم ، فمن كان منكم يريد الشهادة ويرغب فيها فلينطلق ، ومن كره ذلك فليرجع ، فأما أنا فماضٍ لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فمضى ومضى معه أصحابه ، فلم يتخلَّف عنه[منهم] أحد ، وسلك على الحجاز ، حتى إذا كان بمَعْدِن فوق الفُرع يقال له بُحْران ، (1) أضلّ سعد بن أبي وقاص وعتبة بن غزوان بعيرًا لهما كانا عليه يعتقبانه ، (2) فتخلَّفا عليه في طلبه ، ومضى عبد الله بن جحش وبقية أصحابه حتى نزل بنخلة ، فمرت به عيرٌ لقريش تحمل زبيبًا وأدَمًا وتجارةً من تجارة قريش (3) فيها منهم عمرو بن الحضرمي ، وعثمان بن عبد الله بن المغيرة ، وأخوه نوفل بن عبد الله بن المغيرة المخزوميان ، والحكم بن كيسان مولى هشام بن المغيرة فلما رآهم القوم هابوهم ، وقد نزلوا قريبًا منهم ، فأشرف لهم عكاشة بن محصن ، وقد كان حلق رأسه ، فلما رأوه أمنوا وقالوا : عُمّار! فلا بأس علينا منهم. (4) وتشاور القوم فيهم ، وذلك في آخر يوم من جمادى ، (5) فقال القوم : والله لئن تركتم القومَ هذه الليلة ليدخُلُنَّ الحرم فليمتنعُنَّ به منكم ، ولئن قتلتموهم لتقتلنهم في الشهر الحرام! فتردّد القوم فهابوا الإقدام عليهم ، ثم شجُعوا عليهم ، وأجمعوا على قتل من قدروا عليه منهم ، وأخذ ما معهم. فرمى واقدُ بن عبد الله التميمي عمرَو بن الحضرميّ بسهم فقتله ، واستأسرَ عثمان بن عبد الله ، والحكم بن كيسان ، وأفلت نوفل بن عبد الله فأعجزهم.
وقدم عبد الله بن جحش وأصحابه بالعير والأسيرين ، حتى قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة وقد ذكر بعض آل عبد الله بن جحش أنّ عبد الله بن جحش قال لأصحابه : إنّ لرسول الله صلى الله عليه وسلم مما غنمتم الخمُس.
وذلك قبل أن يُفرضُ الخمس من الغنائم ، فعزل لرسول الله صلى الله عليه وسلم خُمس العير ، وقسم سائرها على أصحابه فلما قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ما أمرتكم بقتال في الشهر الحرام! فوقف العير والأسيرين ، وأبى أن يأخذ من ذلك شيئًا فلما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك ، سُقط في أيدي القوم ، وظنوا أنهم قد هلكوا ، وعنَّفهم المسلمون فيما صنعوا ، وقالوا لهم : صنعتم ما لم تؤمروا به وقاتلتم في الشهر الحرام ولم تؤمروا بقتال! وقالت قريش : قد استحلّ محمد وأصحابه الشهر الحرام ، فسفكوا فيه الدمَ ، وأخذوا فيه الأموال وأسروا. [فيه الرجال] (6) فقال من يردُّ ذلك عليهم من المسلمين ممن كان بمكة إنما أصابوا ما أصابوا في جمادى! (7) وقالت يهود - تتفاءل بذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم - : عمرو بن الحضرمي قتله واقد بن عبد الله! " عمرو " ، عمرت الحرب! و " الحضرميّ " ، حَضَرت الحربُ! " وواقد بن عبد الله " ، وقدت الحرب! فجعل الله عليهم ذلك وبهم.
فلما أكثر الناسُ في ذلك أنزل الله جل وعز على رسوله : " يسألونك عن الشهر
__________
(1) في المطبوعة : " نجران " وهو خطأ صرف .
(2) " يتعقبانه " : أي يركبه هذا عقبة وهذا عقبة ، أي هذا نوبة وهذا نوبة .
(3) العير : القافلة من الإبل والحمير والبغال تخرج للميرة فيمتار عليها . والأدم جمع أديم : وهو الجلد المدبوغ .
(4) عمار : معتمرون . والاعتمار والعمرة زيارة البيت الحرام وأداء حقه ، في أي شهر كان . وهو غير الحج يقال عنه " اعتمر " ولم يسمع " عمر " ولكن جاء " عمار " جمع " عامر " على هذا الثلاثي المتروك .
(5) هكذا في المطبوعة : " آخر يوم من جمادى " وفي نص ابن هشام وتاريخ الطبري " آخر يوم من رجب " وهو أصح النصين ، ولم أغيرها ، لأنه سيأتي بعد ما يدل على أن الرواية هنا هكذا .
(6) الزيادة بين القوسين من نص ابن هشام ، وتاريخ الطبري .
(7) انظر ص : 303 التعليق : 5 ونص ابن هشام والطبري " في شعبان " .

(4/303)


الحرام قتال فيه " ،
أي : عن قتالٍ فيه " قل قتال فيه كبيرٌ " إلى قوله : " والفتنة أكبر من القتل " ، أي إن كنتم قتلتم في الشهر الحرام ، فقد صدوكم عن سبيل الله مع الكفر به ، وعن المسجد الحرام ، وإخراجُكم عنه إذ أنتم أهله وولاته ، أكبرُ عند الله من قتل من قتلتم منهم ، " والفتنة أكبر من القتل " ، أي : قد كانوا يفتنون المسلم عن دينه حتى يردوه إلى الكفر بعد إيمانه ، وذلك أكبر عند الله من القتل " ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردُّوكم عن دينكم إن استطاعوا " ، أي : هم مقيمون على أخبث ذلك وأعظمه غير تائبين ولا نازعين. فلما نزل القرآن بهذا من الأمر ، وفرَّج الله عن المسلمين ما كانوا فيه من الشَّفَق ، (1) قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم العيرَ والأسيرين. (2)
4083 - حدثني موسى بن هرون قال ، حدثنا عمرو بن حماد قال ، حدثنا أسباط عن السدي : " يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبيرٌ " ، وذلك أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث سرية - وكانوا سبعةَ نفر - وأمَّر عليهم عبد الله بن جحش الأسدي ، وفيهم عمار بن ياسر ، وأبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة ، وسعد بن أبي وقاص ،
__________
(1) الشفق (لفتح الشين والفاء) والإشقاق : الخوف والحذر .
(2) الأثر : 4082 - هو نص ابن هشام في السيرة عن ابن إسحاق 2 : 252 - 254 ورواه الطبري في تاريخه 2 : 262 - 263 .

(4/305)


وعتبة بن غزوان السلمي حليف لبني نوفل ، وسهيل بن بيضاء ، وعامر بن فهيرة ، وواقد بن عبد الله اليربوعي ، حليفٌ لعمر بن الخطاب. وكتب مع ابن جحش كتابًا وأمره أن لا يقرأه حتى ينزل [ بطن ] مَلَل ، (1) فلما نزل ببطن ملل فتحَ الكتاب ، فإذا فيه : أنْ سِرْ حتى تنزل بطن نخلة ، (2) فقال لأصحابه : من كان يريد الموت فليمضِ وليوص ، فإني موصٍ وماضٍ لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم. فسار وتخلّف عنه سعد بن أبي وقاص وعتبة بن غزوان ، أضلا راحلةً لهما ، فأتيا بُحران يطلبانها ، (3) وسار ابن جحش إلى بطن نخلة ، فإذا هم بالحكم بن كيسان ، وعبد الله بن المغيرة ، والمغيرة بن عثمان ، وعمرو بن الحضرمي ، فاقتتلوا ، فأسَرُوا الحكم بن كيسان ، وعبد الله بن المغيرة ، وانفلت المغيرة ، وقُتل عمرو بن الحضرميّ ، قتله واقد بن عبد الله. فكانت أوّل غنيمةٍ غنمها أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم.
فلما رجعوا إلى المدينة بالأسيرين وما غنموا من الأموال ، أراد أهل مكة أن يفادوا بالأسيرين ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : حتى ننظر ما فعل صاحبانا ! فلما رجع سعد وصاحبه فادَى بالأسيرين ، ففجَر عليه المشركون وقالوا : محمد يزعم أنه يتَّبع طاعة الله ، وهو أول من استحلَّ الشهر الحرام ، وقتل صاحبنا في رجب ! فقال المسلمون : إنما قتلناه في جُمادى ! - وقيل : في أول ليلة من رجب ، وآخر ليلة من جمادى - وغمد المسلمون سيوفهم حين دخل رَجب. فأنزل الله جل وعز يعيِّر أهل مكة : " يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتالٌ فيه كبير " لا يحل ، وما صنعتم أنتم يا معشر المشركين أكبر من القتل في الشهر الحرام ، حين كفرتم بالله ، وصددتم عنه محمدًا وأصحابه ، وإخراجُ أهل المسجد الحرام منه ، حين أخرجوا محمدًا ، أكبر من القتل عند الله ، والفتنة - هي الشرك - أعظم عند الله من القتل في الشهر الحرام ، فذلك قوله : " وصد عن سبيل الله وكفرٌ به والمسجد الحرامِ وإخراج أهله منه أكبر عند الله والفتنة أكبر من القتل " . (4)
4084 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى الصنعاني ، قال ، حدثنا المعتمر بن سليمان التيمي ، عن أبيه : أنه حدثه رجل ، عن أبي السوار ، يحدثه عن جندب بن عبد الله ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : أنه بعث رَهطًا ، فبعثَ عليهم
__________
(1) الزيادة بين القوسين من رواية الطبري في تاريخه .
(2) في تاريخه : " بطن نخل " في هذا الموضع منه ، وفيما يليه " بطن نخلة " .
(3) في المطبوعة : " نجران " وهو خطأ مضى مثله ص : 303 والصواب من التاريخ .
(4) الأثر : 4083 - رواه الطبري في تاريخه 2 : 263 - 264 .

(4/306)


أبا عبيدة . فلما أخذ لينطلق ، بكى صَبابةً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. فبعث رجلا مكانه يقال له عبد الله بن جحش ، وكتب له كتابًا ، وأمره أن لا يقرأ الكتاب حتى يبلغ كذا وكذا : " ولا تكرهنَّ أحدًا من أصحابك على السير معك " . فلما قرأ الكتاب استرجعَ وقال : سمعًا وطاعة لأمر الله ورسوله ! فخبَّرهم الخبر وقرأ عليهم الكتاب ، فرجع رجلان ومضَى بقيتهم. فلقوا ابن الحضرمي فقتلوه ، ولم يدروا ذلك اليوم : أمن رَجب أو من جمادى ؟ فقال المشركون للمسلمين : فعلتم كذا وكذا في الشهر الحرام ! فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم فحدّثوه الحديث ، فأنزل الله عز وجل : " يسألونك عن الشهر الحرام قتالٍ فيه قل قتالٌ فيه كبيرٌ وصدٌّ عن سبيل الله وكفرٌ به والمسجد الحرام وإخراجُ أهله منه أكبر عند الله والفتنة أكبرُ من القتل " - والفتنة هي الشرك. وقال بعضُ الذين - أظنه قال - : كانوا في السرية : والله ما قتله إلا واحد ! فقال : إن يكن خيرًا فقد وَلِيت ! وإن يكن ذنبًا فقد عملت ! (1)
4085 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله : " يسألونك عن الشهر الحرام قتالٍ فيه " ، قال : إن رجلا من بني تميم أرسله النبي صلى الله عليه وسلم في سرية ، فمرّ بابن الحضرميّ يحمل خمرًا من الطائف إلى مكة ، فرماه بسهم فقتله. وكان بين قريش ومحمد عَقْدٌ ، فقتله في آخر يوم من جُمادى الآخرة وأول يوم من رجب ، فقالت قريش : في الشهر الحرام! ولنا عهد! فأنزل الله جل وعز : " قتالٌ فيه كبير وصدٌّ عن سبيل الله وكُفر به " وصد عن المسجد الحرام " وإخراجُ أهله منه أكبر عند الله " من قتل ابن الحضرميّ ، والفتنة كفرٌ بالله ، وعبادة الأوثان أكبر من هذا كله.
__________
(1) الأثر : 4084 رواه الطبري في تاريخه 2 : 264 - 265 - وسيأتي تمامه برقم : 4102 .

(4/307)


4086 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق ، عن معمر ، عن الزهري وعُثمان الجزريّ ، وعن مقسم مولى ابن عباس قال : لقي واقد بنُ عبد الله عمرَو بنَ الحضرميّ في أول ليلة من رجب ، وهو يرى أنه من جمادى ، فقتله ، وهو أول قتيل من المشركين. فعيَّر المشركون المسلمين فقالوا : أتقتلون في الشهر الحرام ! فأنزل الله : " يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتالٌ فيه كبير وصدٌّ عن سبيل الله وكفرٌ به والمسجد الحرام " يقول : وصد عن سبيل الله وكفرٌ بالله " والمسجد الحرام " وصد عن المسجد الحرام " وإخراج أهله منه أكبر عند الله " ، من قتل عمرو بن الحضرميّ " والفتنة " ، يقول : الشرك الذي أنتم فيه أكبر من ذلك أيضا قال الزهري وكان النبي صلى الله عليه وسلم فيما بلغنا يحرِّم القتالَ في الشهر الحرام ، ثم أحِلّ [ له ] بعدُ. (1)
4087 - حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : " يسألونك عن الشهر الحرام قتالٍ فيه قل قتالٌ فيه كبير " ، وذلك أن المشركين صدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وردُّوه عن المسجد الحرام في شهر حرام ، ففتح الله على نبيه في شهر حرام من العام المقبل. فعاب المشركون على رسول الله صلى الله عليه وسلم القتالَ في شهر حرام ،
__________
(1) الحديث : 4086 - هذا حديث مرسل ، مروي بإسنادين عن اثنين من التابعين ، هما : الزهري ومقسم مولى ابن عباس .
فرواه معمر عن الزهري ورواه عن عثمان الجزري عن مقسم . وهو ثابت في تفسير عبد الرزاق ، ص : 26 . وزدنا منه [الواو] في قوله : " وعن مقسم " ، وكلمة [له] في آخر الحديث في قوله " ثم أحل [له] بعد " .
وعثمان الجزري : هو " عثمان بن ساج " ترجم له ابن أبي حاتم 3/1/153 ، وهو غير " عثمان ابن عمرو بن ساج " الذي ترجم له ابن أبي حاتم 3/1/162 . وقد خلط بينهما الحافظ المزي في التهذيب ، وتعقبه الحافظ ابن حجر . وانظر ما كتبنا في ذلك ، في شرح المسند : 2562 .
مقسم - بكسر الميم وسكون القاف وفتح السين - : هو ابن بجرة ، مولى عبد الله بن الحارث بن نوفل . وإنما قيل له " مولى ابن عباس " للزومه له . وهو تابعي ثقة .

(4/308)


فقال الله جل وعز : " وصدٌّ عن سبيل الله وكفرٌ به والمسجد الحرام وإخراج أهله منه أكبر عند الله " من القتل فيه وأنّ محمدًا بعث سرية ، فلقوا عمرو بن الحضرمي وهو مقبل من الطائف آخرَ ليلة من جمادى ، وأول ليلة من رجب وأن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم كانوا يظنون أنّ تلك الليلة من جمادى ، وكانت أول رجب ولم يشعروا ، فقتله رجلٌ منهم واحدٌ وأنّ المشركين أرسلوا يُعيرونه بذلك فقال الله جل وعز : " يسألونك عن الشهر الحرام قتالٍ فيه قل قتالٌ فيه كبير " وغير ذلك أكبر منه ، " صد عن سبيل الله وكفر به والمسجد الحرام وإخراج أهله منه " إخراجُ أهل المسجد الحرام أكبر من الذي أصاب محمدٌ ، والشرك بالله أشدُّ.
4088 - حدثنا أحمد بن إسحاق قال ، حدثنا أبو أحمد قال ، حدثنا سفيان ، عن حصين ، عن أبي مالك : قال لما نزلت : " يسألونك عن الشهر الحرام قتالٍ فيه قل قتالٌ فيه كبير " إلى قوله : " والفتنة أكبرُ من القتل " ، استكبروه. فقال : والفتنة الشرك الذي أنتم عليه مقيمون أكبر مما استكبرتم.
4089 - حدثت عن عمار بن الحسن قال ، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن حصين ، عن أبي مالك الغفاري قال : بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن جحش في جيش ، فلقي ناسًا من المشركين ببطن نخلة ، والمسلمون يحسَبون أنه آخر يوم من جمادى وهو أول يوم من رجب ، فقتل المسلمون ابنَ الحضرميّ ، فقال المشركون : ألستم تزعمون أنكم تحرِّمون الشهرَ الحرام والبلدَ الحرام ، وقد قتلتم في الشهر الحرام! فأنزل الله : " يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتالٌ فيه " إلى قوله " أكبر عند الله " من الذي استكبرتم من قتل ابن الحضرمي ، و " الفتنة " - التي أنتم عليها مقيمون ، يعني الشركَ - " أكبر من القتل " .
4090 - حدثت عن عمار قال ، حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن قتادة قال :

(4/309)


وكان يسميها (1) - يقول : لقي واقدُ بن عبد الله التميمي عمرو بن الحضرمي ببطن نخلةَ فقتله.
4091 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج قال ، قلت لعطاء قوله : " يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه " ، فيمن نزلت ؟ قال : لا أدري قال ابن جريج : وقال عكرمة ومجاهد : في عمرو بن الحضرمي. قال ابن جريج ، وأخبرنا ابن أبي حسين ، عن الزهري ذلك أيضًا.
4092 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج قال : قال مجاهد : " قل قتالٌ فيه كبيرٌ وصد عن سبيل الله وكفر به والمسجد الحرام " ، - قال : يقول : صدٌ عن المسجد الحرام " وإخراج أهله منه " - فكل هذا أكبر من قتل ابن الحضرمي - " والفتنة أكبر من القتل " - كفرٌ بالله وعبادة الأوثان ، أكبرُ من هذا كله.
4093 - حدثت عن الحسين بن الفرج ، قال ، سمعت أبا معاذ الفضل بن خالد ، قال أخبرنا عبيد بن سليمان الباهلي ، قال سمعت الضحاك بن مزاحم يقول في قوله : " يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتالٌ فيه كبير " ، كان أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم قتلوا ابن الحضرمي في الشهر الحرام ، فعيّر المشركون المسلمين بذلك ، فقال الله : قتال في الشهر الحرام كبير ، وأكبر من ذلك صد عن سبيل الله وكفرٌ به ، وإخراجُ أهل المسجد الحرام من المسجد الحرام.
قال أبو جعفر : وهذان الخبران اللذان ذكرناهما عن مجاهد والضحاك ، ينبئان عن صحة ما قلنا في رفع " الصد " و " الكفر به " ، (2) وأن رافعه " أكبر عند الله " . وهما يؤكدان صحّة ما روينا في ذلك عن ابن عباس ، ويدلان على خطأ من زعم أنه مرفوعٌ على العطف على " الكبير " ، وقولِ من زعم أن معناه : وكبيرٌ صدٌّ عن سبيل الله ،
__________
(1) هكذا في المطبوعة ، وأظن الصواب : " وكان يسميهما " .
(2) في المطبوعة " في رفع الصد به " والصواب ما أثبت .

(4/310)


وزعم أن قوله : " وإخراجُ أهله منه أكبر عند الله " ، خبر منقطع عما قبله مبتدأ.
* * *
4094 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال ، حدثنا هشيم قال ، أخبرنا إسمعيل بن سالم ، عن الشعبي في قوله : " والفتنة أكبر من القتل " ، قال : يعني به الكفر.
4095 - حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة : " وإخراجُ أهله منه أكبر عند الله " من ذلك. ثم عيَّر المشركين بأعمالهم أعمال السوء فقال : " والفتنة أكبر من القتل " ، أي الشرك بالله أكبر من القتل.
* * *
وبمثل الذي قلنا من التأويل في ذلك روي عن ابن عباس :
4096 - حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبى قال ، حدثني عمي قال ، ثنى أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قال : لما قتل أصحابُ رسول الله صلى الله عليه وسلم عمرَو بن الحضرمي في آخر ليلة من جُمادى وأول ليلة من رجب ، أرسل المشركون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يعيِّرونه بذلك ، فقال : " يسألونك عن الشهر الحرام قتالٍ فيه قل قتالٌ فيه كبيرٌ " ، وغيرُ ذلك أكبر منه : " صدٌّ عن سبيل الله وكفرٌ به والمسجد الحرام وإخراجُ أهله منه أكبر " من الذي أصابَ محمدٌ صلى الله عليه وسلم.
* * *
قال أبو جعفر : وأما أهل العربية فإنهم اختلفوا في الذي ارتفع به قوله : " وصدٌّ عن سبيل الله " .
فقال بعض نحويي الكوفيين : في رفعه وجهان : أحدهما ، أن يكون " الصدُّ " مردودًا على " الكبير " ، يريد : قل القتالُ فيه كبيرٌ وصدٌّ عن سبيل الله وكفرٌ

(4/311)


به . وإن شئت جعلت " الصد " " كبيرًا " ، يريد به : قل القتالُ فيه كبير ، وكبيرٌ الصدُّ عن سبيل الله والكفر به . (1)
* * *
قال أبو جعفر : قال فأخطأ - يعني الفراء - في كلا تأويليه. وذلك أنه إذا رفع " الصد " عطفًا به على " كبير " ، يصير تأويل الكلام : قل القتالُ في الشهر الحرام كبيرٌ وصدٌّ عن سبيل الله ، وكفرٌ بالله. وذلك من التأويل خلافُ ما عليه أهل الإسلام جميعًا . لأنه لم يدَّع أحد أن الله تبارك وتعالى جعل القتال في الأشهر الحرم كفرًا بالله ، بل ذلك غير جائز أن يُتَوَهَّم على عاقل يعقل ما يقولُ أن يقوله. وكيف يجوز أن يقوله ذو فطرة صحيحة ، والله جل ثناؤه يقول في أثر ذلك : " وإخراجُ أهله منه أكبرُ عند الله " ؟! فلو كان الكلام على ما رآه جائزًا في تأويله هذا ، لوجب أن يكون إخراج أهل المسجد الحرام من المسجد الحرام ، كان أعظمَ عند الله من الكفر به ، وذلك أنه يقول في أثره : " وإخراجُ أهله منه أكبر عند الله " . وفي قيام الحجة بأن لا شيء أعظمُ عند الله من الكفر به ، ما يُبين عن خطأ هذا القول.
وأما إذا رفع " الصد " ، بمعنى ما زعم أنه الوجه الآخر - وذلك رفعه بمعنى : وكبير صدٌّ عن سبيل الله ، ثم قيل : " وإخراجُ أهله منه أكبرُ عند الله " - صار المعنى إلى أن إخراجَ أهل المسجد الحرام من المسجد الحرام ، أعظمُ عند الله من الكفر بالله والصدِّ عن سبيله ، وعن المسجد الحرام. ومتأوِّل ذلك كذلك ، داخل من الخطأ في مثل الذي دخل فيه القائلُ القولَ الأوّل : (2) من تصييره بعض خلال الكفر أعظمَ عند الله
__________
(1) هو قول الفراء ، كما سيأتي بعد في النص ، وانظر معاني القرآن 1 : 141 . وقد رد الطبري كلام الفراء ردًا حكيما ، وأظهر الفساد الذي ينطوي عليه قول من يقول في القرآن ، وهو لا يحكم النظر في أحكام الله ، فيظن كل جائز في العربية والنحو ، جائزا أن يحمل عليه كتاب الله . وردود الطبري تعلم المرء كيف يتخلق بأخلاق أهل العلم والإيمان ، من الأناة والتوقف والصبر والورع ، أن تزل قدم في هوة من الضلال والجهالة وسوء الرأي .
(2) في المطبوعة : " داخل من الخطأ مثل . . . " سقطت " في " من ناسخ فيما أرجح .

(4/312)


من الكفر بعينه. وذلك مما لا يُخيل على أحدٍ خطؤه وفسادُه (1) .
* * *
وكان بعض أهل العربية من أهل البصرة يقول القولَ الأول في رفع " الصد " ، ويزعم أنه معطوف به على " الكبير " ، ويجعل قوله : " وإخراج أهله " مرفوعًا على الابتداء ، وقد بينا فسادَ ذلك وخطأ تأويله.
* * *
قال أبو جعفر : ثم اختلف أهل التأويل في قوله : " يسألونك عن الشهر الحرام قتالٍ فيه قل قتالٌ فيه كبيرٌ " ، هل هو منسوخٌ أم ثابت الحكم ؟
فقال بعضهم : هو منسوخ بقوله الله جل وعز : ( وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً ) [ سورة التوبة : 36 ] ، وبقوله : ( فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ ) [ سورة التوبة : 5 ]
* ذكر من قال ذلك :
4097 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج قال : قال عطاء بن ميسرة : أحلَّ القتالَ في الشهر الحرام في " براءة " قوله : ( فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً ) [ سورة التوبة : 36 ] : يقول : فيهن وفي غيرهن. (2)
4098 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر ، عن الزهري قال : كان النبي صلى الله عليه وسلم ، فيما بلغنا ، يحرّم القتال في الشهر الحرام ، ثم أحِلَّ بعد. (3)
__________
(1) أخال الشيء يخيل : اشتبه . يقال : " هذا الأمر لا يخيل على أحد " ، أي : لا يشكل على أحد . و " شيء مخيل " ، أي مشكل .
(2) الأثر : 4097 - " عطاء بن ميسرة " هو عطاء بن أبي مسلم الخراساني يقال اسم أبيه " عبد الله " ، ويقال " ميسرة " . مات سنة 135 ، وانظر الاختلاف فيه ، والإشكال في أمره وأمر عطاء بن أبي رباح في التهذيب في ترجمته .
(3) الأثر : 4098 - هو بعض الأثر السالف : 4086 . وانظر التعليق عليه .

(4/313)


وقال آخرون : بل ذلك حكم ثابتٌ لا يحلّ القتال لأحد في الأشهر الحرم بهذه الآية ، لأن الله جعل القتال فيه كبيرًا.
* ذكر من قال ذلك :
4099 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسن قال ، حدثني حجاجُ ، عن ابن جريج ، (1) قال : قلت لعطاء : " يسألونك عن الشهر الحرام قتالٍ فيه قل قتالٌ فيه كبيرٌ " ، قلت : ما لهم! وإذ ذاك لا يحل لهم أن يغزوا أهل الشرك في الشهر الحرام ، ثم غزوهم بعد فيه ؟ فحلف لي عطاء بالله : ما يحل للناس أن يغزوا في الشهر الحرام ، ولا أن يقاتلوا فيه ، وما يستحب. قال : ولا يدعون إلى الإسلام قبل أن يقاتَلوا ، ولا إلى الجزية ، تركوا ذلك.
* * *
قال أبو جعفر : والصواب من القول في ذلك ما قاله عطاء بن ميسرة : من أن النهي عن قتال المشركين في الأشهر الحرُم منسوخ بقول الله جل ثناؤه : ( إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً ) [ سورة التوبة : 36 ] .
وإنما قلنا ذلك ناسخٌ لقوله : " يسألونك عن الشهر الحرام قتالٍ فيه قل قتالٌ فيه كبيرٌ " ، لتظاهر الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه غزَا هوازن بحُنين وثقيفًا بالطائف ، وأرسل أبا عامر إلى أوْطاس لحرب من بها من المشركين ، في الأشهر الحرُم ، وذلك في شوال وبعض ذي القعدة ، وهو من الأشهر الحرم. فكان معلومًا بذلك أنه لو كان القتالُ فيهن حرامًا وفيه معصية ، كان أبعد الناس من فعله صلى الله عليه وسلم.
__________
(1) في المطبوعة : " . . . عن ابن جريج ، عن مجاهد ، قال قلت لعطاء . . . " ، فقوله : " عن مجاهد " خطأ وزيادة مفسدة ، فحذفتها . وانظر الأثر السالف رقم : 4901 .

(4/314)


يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (217)

وأخرى ، أن جميعَ أهل العلم بِسِيَر رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تتدافع أنّ بيعة الرضوان على قتال قريش كانت في ذي القعدة ، وأنه صلى الله عليه وسلم إنما دعا أصحابه إليها يومئذ ، لأنه بلغه أن عثمان بن عفان قتله المشركون إذ أرسله إليهم بما أرسله به من الرسالة ، فبايع صلى الله عليه وسلم على أن يناجز القومَ الحربَ ويحاربَهم ، حتى رجع عثمان بالرسالة ، جرى بين النبي صلى الله عليه وسلم وقريش الصلح ، فكفَّ عن حربهم حينئذ وقتالهم. وكان ذلك في ذي القعدة ، وهو من الأشهر الحرُم.
فإذ كان ذلك كذلك ، فبيِّنٌ صحةُ ما قلنا في قوله : " يسألونك عن الشهر الحرام قتالٍ فيه قل قتالٌ فيه كبيرٌ " ، وأنه منسوخ.
فإذا ظنّ ظانّ أن النهي عن القتال في الأشهر الحرُم كان بعد استحلال النبي صلى الله عليه وسلم إياهن لما وصفنا من حروبه. فقد ظنّ جهلا . وذلك أن هذه الآية - أعني قوله : " يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه " - في أمر عبد الله بن جحش وأصحابه ، وما كان من أمرهم وأمر القتيل الذي قتلوه ، فأنزل الله في أمره هذه الآية في آخر جمادى الآخرة من السنة الثانية من مَقْدَم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينةَ وهجرته إليها ، وكانت وقعةُ حُنين والطائف في شوال من سنة ثمان من مقدمه المدينة وهجرته إليها ، وبينهما من المدة ما لا يخفى على أحد.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا }
قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره : ولا يزال مشركو قريش يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن قدروا على ذلك ، كما : -

(4/315)


4100 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة قال ، حدثني ابن إسحاق قال ، حدثني الزهري ويزيد بن رومان ، عن عروة بن الزبير : " ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردُّوكم عن دينكم إن استطاعوا " ، أي : هم مقيمون على أخبث ذلك وأعظمه ، غيرُ تائبين ولا نازعين يعني : على أن يفتنوا المسلمين عن دينهم حتى يردُّوهم إلى الكفر ، كما كانوا يفعلون بمن قدروا عليه منهم قبل الهجرة. (1)
4101 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله عز وجل : " ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردُّوكم عن دينكم إن استطاعوا " ، قال : كفار قريش.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (217) }
قال أبو جعفر : يعني بقوله جل ثناؤه : " ومن يرتدد منكم عن دينه " ، من يرجع منكم عن دينه ، كما قال جل ثناؤه : ( فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا ) [ سورة الكهف : 64 ] يعني بقوله : " فارتدَّا " ، رجعا. ومن ذلك قيل : " استردّ فلان حقه من فلان " ، إذا استرجعه منه. (2)
وإنما أظهر التضعيف في قوله : " يرتدد " لأن لام الفعل ساكنة بالجزم ، وإذا
__________
(1) الأثر : 4100 - هو بعض الأثر السالف : 4082 . والكلام من أول قوله : " يعني : على أن يفتنوا . . . " ليس في سيرة ابن هشام ، ولا في تاريخ الطبري . فإما أن يكون من كلام الطبري ، أو من كلام ابن حميد ، أو بعض رواة الأثر .
(2) انظر ما سلف 3 : 163 ، وفهارس اللغة فيما سلف ، ردد "

(4/316)


إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (218)

سكِّنت فالقياس ترك التضعيف ، وقد تضعَّف وتدغم وهي ساكنة ، بناء على التثنية والجمع.
* * *
وقوله : " فيمت وهو كافر " ، يقول : من يرجع عن دينه دين الإسلام ، " فيمت وهو كافر " ، فيمت قبل أن يتوب من كفره ، فهم الذين حبَطت أعمالهم.
* * *
يعني بقوله : " حبطت أعمالهم " ، بطلت وذهبت. وبُطولها : ذهابُ ثوابها ، وبطول الأجر عليها والجزاء في دار الدنيا والآخرة.
* * *
وقوله : " وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون " ، يعني : الذين ارتدُّوا عن دينهم فماتوا على كفرهم ، هم أهل النار المخلَّدون فيها. (1)
* * *
وإنما جعلهم " أهلها " لأنهم لا يخرجون منها ، فهم سكانها المقيمون فيها ، كما يقال : " هؤلاء أهل محلة كذا " ، يعني : سكانها المقيمون فيها.
* * *
ويعني بقوله : " هم فيها خالدون " ، هم فيها لابثون لَبْثًا ، من غير أمَدٍ ولا نهاية. (2)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (218) }
قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ذكره : إنّ الذين صَدَّقوا بالله وبرسوله وبما جاء به وبقوله : " والذين هاجروا " الذين هجروا مُساكنة المشركين في أمصارهم
__________
(1) انظر معنى " أصحاب النار " فيما سلف 2 : 286 .
(2) انظر معنى " خالد " فيما سلف 2 : 286 - 287 ، وفهارس اللغة .

(4/317)


ومجاورتهم في ديارهم ، فتحولوا عنهم ، وعن جوارهم وبلادهم ، (1) إلى غيرها هجرة... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... (2) لما انتقل عنه إلى ما انتقل إليه. وأصل المهاجرة : " المفاعلة " من هجرة الرجل الرجلَ للشحناء تكون بينهما ، ثم تستعمل في كل من هجر شيئًا لأمر كرهه منه. وإنما سمي المهاجرون من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم " مهاجرين " ، لما وصفنا من هجرتهم دورَهم ومنازلهم كراهةً منهم النزولَ بين أظهر المشركين وفي سلطانهم ، بحيث لا يأمنون فتنتهم على أنفسهم في ديارهم - إلى الموضع الذي يأمنون ذلك.
* * *
وأما قوله : " وجاهدوا " فإنه يعني : وقاتلوا وحاربوا.
* * *
وأصل " المجاهدة " " المفاعلة " من قول الرجل : " قد جَهَد فلان فلانًا على كذا " - إذا كرَبَه وشقّ عليه - " يجهده جهدًا " . فإذا كان الفعل من اثنين ، كل واحد منهما يكابد من صَاحبه شدة ومشقة ، قيل : " فلانٌ يجاهد فلانًا " - يعني : أن كل واحد منهما يفعل بصاحبه ما يجهده ويشق عليه - " فهو يُجاهده مجاهدة وجهادًا " .
* * *
وأما " سبيل الله " ، فطريقه ودينه. (3)
* * *
__________
(1) كان الكلام في المطبوعة متصلا بما بعده في موضع هذه النقط ، ولكنه لا يستقيم ولا يطرد . ففصلت بين الكلامين . وظني أن سياق الكلام وتمامه : " فتحوَّلوا عنهم وعن جوارهم وبلادهم إلى غيرها هجرة ، لما كرهوا من كفرهم وشركهم ، وإيثارًا لجوار المؤمنين من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم " ، وسياق الكلام يدل على ذلك .
(2) مكان هذه النقط خرم لا شك فيه ، كأن ناسخًا أسقط سطرًا أو سطرين ، وكان صدر الكلام فيما أتوهم . " هجر المكان يهجره هجرًا وهجرانًا وهجرة : كرهه فخرج منه ، تاركًا لما انتقل عنه إلى ما انتقل إليه " - أو كلامًا هذا معناه .
(3) انظر معنى " سبيل الله " فيما سلف ، 2 : 497/ 3 : 564 ، 583 .

(4/318)


فمعنى قوله إذًا : " والذين هاجروا وجاهدوا في سبيل الله " ، والذين تحوَّلوا من سلطان أهل الشرك هجرةً لهم ، وخوفَ فتنتهم على أديانهم ، وحاربوهم في دين الله ليدخلوهم فيه وفيما يرضي الله " أولئك يرجون رَحمه الله " ، أي : يطمعون أن يرحمهم الله فيدخلهم جنته بفضل رحمته إياهم.
" والله غفور " ، أي ساتر ذنوبَ عباده بعفوه عنها ، متفضل عليهم بالرحمة. (1)
* * *
وهذه الآية أيضًا ذُكر أنها نزلت في عبد الله بن جحش وأصحابه.
* ذكر من قال ذلك :
4102 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا المعتمر بن سليمان ، عن أبيه ، أنه حدثه رجل ، عن أبي السَّوار ، يحدثه عن جندب بن عبد الله قال : لما كان من أمر عبد الله بن جحش وأصحابه وأمر ابن الحضرمي ما كان ، قال بعض المسلمين : إن لم يكونوا أصابوا في سفرهم - أظنه قال : - وِزْرًا ، فليس لهم فيه أجرٌ. فأنزل الله : " إنّ الذين آمنوا والذين هاجروا وجاهدوا في سبيل الله أولئك يرجون رحمة الله والله غفور رحيم " . (2)
4103 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن ابن إسحق قال ، حدثني الزهري ويزيد بن رومان ، عن عروة بن الزبير قال : أنزل الله عز وجل القرآنَ بما أنزلَ من الأمر ، وفرَّج الله عن المسلمين في أمر عبد الله بن جحش وأصحابه - يعني : في قتلهم ابن الحضرمي - فلما تجلى عن عبد الله بن جحش وأصحابه ما كانوا فيه حين نزل القرآن ، طمعوا في الأجر ، فقالوا : يا رسول الله ، أنطمعُ أن تكون لنا غزوة نُعْطى فيها أجرَ المجاهدين ؟ فأنزل الله عز وجل فيهم : " إنّ الذين آمنوا والذين هاجروا وجاهدوا في سبيل الله أولئك يرجون رحمة الله والله غفورٌ رحيمٌ " .
__________
(1) انظر معنى " غفور " فيما سلف من مراجعه في فهارس اللغة (غفر) .
(2) الأثر : 4102 - هو من تمام الأثر السالف رقم : 4084 ، وهو بتمامه في الدر المنثور 1 : 250

(4/319)


يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآَيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (219)

فوضعهم الله من ذلك على أعظم الرجاء. (1)
4104 - حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قال : أثنى الله على أصحاب نبيه محمد صلى الله عليه وسلم أحسنَ الثناء فقال : " إن الذين آمنوا والذين هاجروا وجاهدوا في سبيل الله أولئك يرجون رحمه الله والله غفورٌ رحيم " ، هؤلاء خيارُ هذه الأمة. ثم جعلهم الله أهل رجاء كما تسمعون ، وأنه من رجَا طلب ، ومن خاف هرب.
4105 - حدثت عن عمار قال ، حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع ، مثله.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا }
قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه : يسألك أصحابك يا محمد عن الخمر وشُربها.
* * *
و " الخمر " كل شراب خمَّر العقل فستره وغطى عليه. وهو من قول القائل : " خَمَرت الإناء " إذا غطيته ، و " خَمِر الرجل " ، إذا دخل في الخَمَر. ويقال : " هو في خُمار الناس وغُمارهم " ، يراد به دخل في عُرْض الناس. ويقال للضبع : " خامري أم عامر " ، أي استتري. وما خامر العقل من داء وسكر فخالطه وغَمَره فهو " خمر " .
__________
(1) الأثر : 3103 - سيرة ابن هشام 2 : 255 ، وهو تمام الأثر السالف : 4082 . وكان في المطبوعة هنا : " فوفقهم الله من ذلك . . . " ، والصواب ما أثبت من ابن هشام .

(4/320)


ومن ذلك أيضا " خِمار المرأة " ، وذلك لأنها تستر [ به ] رأسها فتغطيه. ومنه يقال : " هو يمشي لك الخمَر " ، أي مستخفيًا ، كما قال العجاج :
فِي لامِعِ العِقْبَانِ لا يَأتي الْخَمَرْ... يُوَجِّهُ الأرْضَ وَيَسْتَاقُ الشَّجَرْ (1)
ويعني بقوله : " لا يأتي الخمر " ، لا يأتي مستخفيًا ولا مُسارَقةً ، ولكن ظاهرًا برايات وجيوش. و " العقبان " جمع " عُقاب " ، وهي الرايات.
* * *
وأما " الميسر " فإنها " المفعل " من قول القائل : " يسَرَ لي هذا الأمر " ، إذا وجب لي " فهو يَيْسِر لي يَسَرًا وَميسِرًا " (2) و " الياسر " الواجب ، بقداح وَجب ذلك ، أو فُتاحة أو غير ذلك. (3) ثم قيل للمقامر ، " ياسرٌ ويَسَر " ، كما قال الشاعر :
فَبِتُّ كَأَنَّنِي يَسَرٌ غَبِينٌ... يُقَلِّبُ ، بَعْدَ مَا اخْتُلِعَ ، القِدَاحَا (4)
وكما قال النابغة : (5)
__________
(1) ديوانه : 17 ، من قصيدة يذكر فيها فتوح عمر بن عبيد الله بن معمر التيمي ، سلف منها بيتان في 2 : 157 . واقرأ التعليق هناك رقم : 2 . ولمعت الرايات : خفقت . وقوله : " يوجه الأرض " يعني جيش عمر ، أي يقشر وجهها من شدة وطئه وكثرته وسرعة سيره ، يشبهه بالسيل . يقال : " وجه المطر الأرض " ، قشر وجهها وأثر فيه . وقوله : " يستاق الشجر " ، يقول : جيشه كالسيل المنفجر المتدافع يقشر الأرض ، ويختلع شجرها ، ويسوقه .
(2) هذا المعنى لم أصبه في كتب اللغة ، وأنا أظنه مجازًا من " الميسر " ، لا أصلا في اشتقاق الميسر منه ، لأن حظ صاحب الميسر واجب الأداء إذا خرج قدحه .
(3) في المطبوعة : " أو مباحه " ، ولا معنى لها ، وكأن الصواب ما أثبت . والفتاحة (بضم الفاء) : الحكم بين الخصمين يختصمان إليك .
(4) لم أعرف قائله . والغبين والمغبون : الخاسر . واختلع (بالبناء للمجهول) : أي قمر ماله وخسره ، فاختلع منه ، أي انتزع . والمخالع المقامر ، والمخلوع : المقمور ماله . يقول : إنه بات ليلته حزينًا كاسفًا مطرقًا ، إطراق المقامر الذي خسر كل شيء ، فأخذ يقلب في كفيه قداحه مطرقًا متحسرا على ما أصابه ونكبه .
(5) لم أجد البيت في شعر النابغة الذبياني ، ولست أدري أهو لغيره من النوابغ ، أم هو لغيرهم .

(4/321)


أَوْ يَاسِرٌ ذَهَبَ القِدَاح بوَفْرِهِ... أَسِفٌ تآكَلَهُ الصِّدِيقُ مُخَلَّعُ (1)
يعني " بالياسر " : المقامر. وقيل للقمار " ميسر " .
* * *
وكان مجاهد يقول نحو ما قلنا في ذلك.
4106 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : " يسألونك عن الخمر والميسر " قال : القمار ، وإنما سمّي " الميسر " لقولهم : " أيْسِروا واجْزُرُوا " ، كقولك : ضع كذا وكذا.
4107 - حدثنا محمد بن بشار قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا سفيان ، عن ليث ، عن مجاهد قال : كل القمار من الميسر ، حتى لعب الصبيان بالجوز.
4108 - حدثنا محمد بن بشار قال ، حدثنا عبد الرحمن قال ، حدثنا سفيان ، عن عبد الملك بن عمير ، عن أبي الأحوص قال : قال عبد الله : إياكم وهذه الكِعاب الموسومة التي تزجرون بها زجرًا ، فإنهن من الميسر. (2)
4109 - حدثنا محمد بن المثنى قال ، حدثنا محمد بن جعفر قال ، حدثنا شعبة ، عن عبد الملك بن عمير ، عن أبي الأحوص مثله.
4110 - حدثنا محمد بن المثنى قال ، حدثنا محمد بن نافع قال ، حدثنا شعبة ، عن يزيد بن أبي زياد ، عن أبي الأحوص ، عن عبد الله أنه قال : إياكم وهذه الكعاب التي تزجرون بها زَجرًا ، فإنها من الميسر.
__________
(1) الوفر : المال الكثير الواسع . وأسف : حزين بالغ الحزن على ما فاته ، يقال هو : أسف وآسف وأسفان وأسيف . وفي المطبوعة : " بآكله " ، رجحت قراءتها " تآكله " . والصديق ، واحد وجمع . ومخلع : قد قمر مرة بعد مرة ، فهلك ماله وفني . وقوله : " تآكله الصديق " ، تناهبوه بينهم في الميسر وهم أصدقاؤه ، وذلك أشد لحزنه لما يرى من سرورهم ، ولما يؤسفه من ضياع ماله ، ويحزنه من لؤم صديقه .
(2) الكعاب والكعبات ، جمع كعب وكعبة : وهي فصوص النرد وقوله : " تزجرونها زجرًا " من الزجر ، وهو الحث والدفع ، أو من زجر الطير ، هو ضرب من العيافة والتكهن . يريد ما يكون معها من توقع الغيب وتطلبه . والموسومة : التي وسمت بسمة تميزها تكون علامة فيها .

(4/322)


4111 - حدثني علي بن سعيد الكندي قال ، حدثنا علي بن مسهر ، عن عاصم ، عن محمد بن سيرين قال : القمار ميسرٌ.
4112 - حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا أبو عامر قال ، حدثنا سفيان ، عن عاصم الأحول ، عن محمد بن سيرين قال : كل شيء له خَطَرٌ أو : في خَطَر ، أبو عامر شك فهو من الميسر. (1)
4113 - حدثنا الوليد بن شجاع أبو همام قال ، حدثنا علي بن مسهر ، عن عاصم ، عن محمد بن سيرين قال : كل قمار ميسر ، حتى اللعب بالنَّرد على القيام والصِّياح والريشة يجعلها الرجل في رأسه.
4114 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا جرير ، عن عاصم ، عن ابن سيرين قال : كل لعب فيه قمار من شُرب أو صياح أو قيام ، فهو من الميسر.
4115 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا خالد بن الحارث قال ، حدثنا الأشعث ، عن الحسن أنه قال : الميسر القمار.
4116 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال ، حدثنا المعتمر ، عن ليث ، عن طاوس وعطاء قالا كل قمار فهو من الميسر ، حتى لعب الصبيان بالكعاب والجوز.
4117 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا حكام ، عن عمرو ، عن عطاء ، عن سعيد قال : الميسر القمار.
4118 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال ، حدثنا هشيم قال ، أخبرنا عبد الملك بن عمير ، عن أبي الأحوص ، عن عبيد الله قال : إياكم وهاتين الكَعْبتين يُزجر بهما زجرًا ، فإنهما من الميسر. (2)
4119 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال ، حدثنا ابن عليه ، عن ابن أبي
__________
(1) الخطر : الرهن يخاطر عليه ، ويقال له " السبق ، والندب " (بالتحريك فيهما) ، وهو كله الذي يوضع في الرهان ، فمن سبق أو غلب أخذه .
(2) انظر التعليق السالف ص : 322 ، تعليق : 2 .

(4/323)


عروبة ، عن قتادة قال : أما قوله : " والميسر " ، فهو القمار كله.
4120 - حدثني يونس بن عبد الأعلى قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، أخبرني يحيى بن عبد الله بن سالم ، عن عبيد الله بن عمر : أنه سمع عمر بن عبيد الله يقول للقاسم بن محمد : النرد " ميسر " ، أرأيت الشطرنج ؟ ميسر هو ؟ فقال القاسم : كل ما ألهى عن ذكر الله وعن الصلاة فهو ميسر.
4121 - حدثني علي بن داود قال ، حدثنا أبو صالح قال ، حدثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس قال : الميسر القمار. كان الرجل في الجاهلية يخاطر على أهله وماله ، فأيهما قمر صاحبه ذهب بأهله وماله. (1)
4122 - حدثني موسى بن هرون قال ، حدثنا عمرو بن حماد قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي قال : الميسر القمار.
4123 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرازق قال ، أخبرنا معمر ، عن قتادة قال : الميسر القمار.
4124 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرازق قال ، أخبرنا معمر ، عن الليث ، عن مجاهد وسعيد بن جبير قالا الميسر القمار كله ، حتى الجوز الذي يلعب به الصبيان.
4125 - حدثت عن الحسين قال ، سمعت أبا معاذ الفضل بن خالد قال ، سمعت عبيد الله بن سليمان يحدث ، عن الضحاك قوله : " والميسر " ، قال : القمار.
4126 - حدثنا بشر بن معاذ قال : حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قال : الميسر القمار.
4127 - حدثنا المثنى قال ، حدثنا إسحق قال ، حدثنا أبو بدر شجاع
__________
(1) المخاطرة : المراهنة ، وقمر الرجل صاحبه يقمره (بكسر الميم) قمرًا : إذا لاعبه في القمار فغلبه .

(4/324)


بن الوليد قال ، حدثنا موسى بن عقبة ، عن نافع : أن ابن عمر كان يقول : القمار من الميسر.
4128 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد قال : الميسرُ ، قداح العرب وكِعابُ فارس قال : وقال ابن جريج : وزعم عطاء بن ميسرة : أن الميسر القمار كله.
4129 - حدثنا ابن البرقي قال ، حدثنا عمرو بن أبي سلمة ، عن سعيد بن عبد العزيز قال ، قال مكحول : الميسر القمار.
4130 - حدثنا الحسين بن محمد الذارع قال ، حدثنا الفضل بن سليمان وشجاع بن الوليد ، عن موسى بن عقبة ، عن نافع ، عن ابن عمر قال : الميسر القمار.
* * *
وأما قوله : " قل فيهما إثم كبيرٌ ومنافع للناس " ، فإنه يعني بذلك جل ثناؤه : قل يا محمد لهم : " فيهما " ، يعني في الخمر والميسر " إثم كبير " ، فالإثم الكبير الذي فيهما ما ذكر عن السدي فيما : -
4131 - حدثني به موسى بن هرون قال ، حدثنا عمرو بن حماد قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : أما قوله : " فيهما إثمٌ كبير " ، فإثم الخمر أنّ الرجل يشرَب فيسكر فيؤذي الناس. وإثم الميسر أن يُقامر الرجلُ فيمنعَ الحق ويظلم.
4132 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : " قل فيهما إثم كبير " ، قال : هذا أوَّل ما عِيبَتْ به الخمر.
4133 - حدثني علي بن داود قال ، حدثنا أبو صالح قال ، حدثني معاوية بن صالح ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قوله : " قل فيهما إثم كبير " ، يعني ما ينقُص من الدين عند من يشربها.
* * *

(4/325)


قال أبو جعفر : والذي هو أولى بتأويل " الإثم الكبير " الذي ذكر الله جل ثناؤه أنه في الخمر والميسر : (1) في " الخمر " ما قاله السدي : (2) زوال عقل شارب الخمر إذا سكر من شربه إياها حتى يعزب عنه معرفة ربه ، وذلك أعظمُ الآثام. وذلك معنى قول ابن عباس إن شاء الله. وأما في " الميسر " ، فما فيه من الشغل به عن ذكر الله وعن الصلاة ، ووقوع العداوة والبغضاء بين المتياسرين بسببه ، كما وصف ذلك به ربنا جل ثناؤه بقوله : ( إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ ) [ سورة المائدة : 91 ]
* * *
وأما قوله : " ومنافع للناس " ، فإن منافعَ الخمر كانت أثمانها قبل تحريمها ، وما يصلون إليه بشربها من اللذة ، كما قال الأعشى في صفتها.
لَنَا مِنْ ضُحَاها خُبْثُ نَفْسٍ وَكَأْبَةٌ... وذِكْرَى هُمُوم مَا تُغِبُّ أَذَاتُهَا... وَعِنْد العِشَاءِ طِيبُ نَفْسٍ وَلَذَّةٌ... وَمَالٌ كَثِير ، عِزَّةٌ نَشَوَاتُهَا (3)
وكما قال حسان :
__________
(1) في المطبوعة : " والذي هو أولى بتأويل الآية الإثم الكبير " بزيادة " الآية " سبق بها قلم ناسخ ، وصواب العبارة في حذفها .
(2) في المطبوعة : " فالخمر ما قاله السدي . . . " ، وسياق عبارته يقتضي ما أثبت .
(3) ديوانه : 61 ، والأشربة لابن قتيبة : 70 والبيتان مصحفان تصحيفًا قبيحًا في المطبوعة ، في البيت الأول " صحاها " بالصاد المهملة ، و " ما تفك أداتها " . وفي البيت الثاني " عده نشواتها " وفي الأشربة " عدة " ، وفي الديوان " غدوة نشواتها " (بضم الغين ونصب التاء بفتحتين) . ونسخة الديوان أيضًا كثيرة التصحيف ، فآثرت قراءة الكلمة " عزة " . وذلك أن الأعشى يقول قبل البيتين : لَعَمْرُكَ إنَّ الرَّاحَ إِنْ كُنْتَ شاربًا ... لَمُخْتَلِفٌ آصَالُها وَغَدَاتُها
ثم بين في البيت الثاني أنها في " الضحى " - وهو الغدوة - تعقب خبث النفس والكآبة والهموم المؤذية . ثم أتبع ذلك بما يكون عند العشي من طيب النفس واللذة - فلا معنى لإعادة ذكر " الغدوة " مرة أخرى ، بل إنه لو فعل لنقض على نفسه البيت السالف ، فصارت الخمر في الغدوة أو الضحى ، مخبثة للنفس ، ومبهجة لها في وقت واحد ، وهذا باطل .
فالصواب عندي أن تقرأ " عزة لنشواتها " ، كقوله أيضًا : مِنْ قَهْوَةٍ بَاتَتْ بِبَابِلَ صَفْوَةٍ ... تَدَعَ الفَتَى مَلِكًا يَمِيلُ مُصَرَّعًا
ويؤيد ذلك أن ابن قتيبة قدم قبل الأبيات السالفة : " وقال في الخمر أنها تمد في الأمنية " ثم ذكر الأبيات ، فمعنى ذلك أنها تريه أنه صار ملكًا عزيزًا يهب المال الكثير إذا انتشى .
وقوله : " ما تغب أذاتها " من قولهم : " غب الشيء " أي بعد وتأخر . تقول : " ما يغبك لطفي " أي ما يتأخر عنك يومًا ، بل يأتيك كل يوم ، تعني متتابعًا .

(4/326)


فَنَشْرَبُهَا فَتَتْرُكُنَا مُلُوكًا... وَأُسْدًا ، مَا يُنَهْنِهُنَا اللِّقَاءُ (1)
وأما منافع الميسر ، فما يصيبون فيه من أنصِباء الجزور. وذلك أنهم كانوا يياسرون على الجزور ، وإذا أفلجَ الرجلُ منهم صاحبَه نحره ، ثم اقتسموا أعشارًا على عدد القداح ، (2) وفي ذلك يقول أعشى بني ثعلبة :
وَجَزُورِ أَيْسَارٍ دَعَوْتُ إلَى النَّدَى... وَنِيَاطِ مُقْفِرَةٍ أَخَافُ ضَلالَهَا (3)
* * *
__________
(1) ديوانه : 4 ، والكامل 1 : 74 ، وغيرهما ، ونهنهه عن الشيء : زجره عنه وكفه ومنعه . أي : لا نخاف لقاء العدو .
(2) الأنصباء جمع نصيب . والمياسرة : المقامرة . وفلج سهم المقامر وأفلج : فاز . وأعشار الجزور : الأنصباء . وكانوا يقسمونه عشرة أجزاء .
(3) ديوانه : 23 . الأيسار جمع يسر : وهو الذي يضرب القداح ، واللاعب أيضًا ، وهو المراد هنا . ورواية الديوان " دعوت لحتفها " والمقفرة : المفازة المقفرة . ونياط المفازة : بعد طريقها ، كأنها نيطت - أي وصلت - بمفازة أخرى ، لا تكاد تنقطع . وهو بيت من أبيات جياد يتمدح فيها الأعشى بفعله ، يقول : وَسَبِيئَةٍ ممّا تُعَتِّقُ بَابِلٌ ... كَدَمِ الذَّبِيحِ ، سَلَبْتُهَا جِرْيالَهَا
وَغَرِيبَةٍ تَأتِي المُلُوكَ حَكِيمَةٍ ... قَد قُلْتُهَا لِيُقَالَ : مَنْ ذَا قالَهَا!!
وجَزُورِ أيْسَارٍ . . . . . ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وكان الميسر عندهم من كرم الفعال .

(4/327)


وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
4134 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد قال : المنافع ههنا ما يصيبون من الجَزور.
4135 - حدثني موسى بن هرون قال ، حدثنا عمرو بن حماد قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : أما منافعهُما ، فإن منفعة الخمر في لذته وثمنه ، ومنفعة الميسر فيما يُصاب من القمار.
4136 - حدثنا أبو هشام الرفاعي قال حدثنا ابن أبي زائدة ، عن ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : " قل فيهما إثمٌ كبيرٌ ومنافعُ للناس " ، قال : منافعهما قبل أن يحرَّما.
4137 - حدثنا علي بن داود قال ، حدثنا أبو صالح قال ، حدثني معاوية عن علي ، عن ابن عباس : " ومنافع للناس " ، قال : يقول فيما يصيبون من لذتها وفرَحها إذا شربوها.
* * *
واختلف القرأة في قراءة ذلك :
فقرأه عُظْم أهل المدينة وبعضُ الكوفيين والبصريين : " قل فيهما إثم كبيرٌ " بالباء ، بمعنى قل : في شرب هذه ، والقمار هذا ، كبيرٌ من الآثام.
وقرأه آخرون من أهل المصرين البصرة والكوفة : " قل فيهما إثمٌ كثيرٌ " ، بمعنى الكثرة من الآثام. وكأنهم رأوا أن " الإثم " بمعنى " الآثام " ، وإن كان في اللفظ واحدًا ، فوصفوه بمعناه من الكثرة. (1)
__________
(1) انظر معنى " الإثم " فيما سلف 3 : 406 وما بعدها / ثم ص 550 .

(4/328)


قال أبو جعفر : وأولى القراءتين في ذلك بالصواب قراءة من قرأه " بالباء " : " قل فيهما إثم كبير " ، لإجماع جميعهم على قوله : " وإثمهما أكبر من نفعهما " ، وقراءته بالباء. وفي ذلك دلالة بيّنة على أن الذي وُصف به الإثم الأول من ذلك ، هو العظم والكبَر ، لا الكثرة في العدد. ولو كان الذي وصف به من ذلك الكثرة ، لقيل : وإثمهما أكثر من نفعهما.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا }
قال أبو جعفر : يعني بذلك عز ذكره : والإثم بشرب [ الخمر ] هذه والقمار هذا ، أعظمُ وأكبرُ مضرة عليهم من النفع الذي يتناولون بهما. وإنما كان ذلك كذلك ، لأنهم كانوا إذا سكروا وثب بعضهم على بعض ، وقاتَل بعضهم بعضًا ، وإذا ياسرُوا وقع بينهم فيه بسببه الشرُّ ، فأدَّاهم ذلك إلى ما يأثمون به.
* * *
ونزلت هذه الآية في الخمر قبل أن يُصرَّح بتحريمها ، فأضاف الإثم جل ثناؤه إليهما ، وإنما الإثم بأسبابهما ، إذ كان عن سببهما يحدث.
* * *
وقد قال عددٌ من أهل التأويل : معنى ذلك : وإثمهما بعد تحريمهما أكبر من نفعهما قبل تحريمهما.
* ذكر من قال ذلك :
4138 - حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : " وإثمهما أكبر من نفعهما " ، قال : منافعهما قبل التحريم ، وإثمهما بعدَ ما حرِّما.
4139 - حدثت عن عمار قال ، حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : "

(4/329)


ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما " ينزل المنافعَ قبل التحريم ، والإثم بعد ما حرِّم.
4140 - حدثت عن الحسين قال ، سمعت أبا معاذ قال ، أخبرني عبيد بن سليمان قال ، سمعت الضحاك يقول في قوله : " وإثمهما أكبرُ من نفعهما " ، يقول : إثمهما بعد التحريم ، أكبر من نفعهما قبل التحريم.
4141 - حدثني علي بن داود قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثني معاوية بن صالح ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قوله : " وإثمهما أكبرُ من نفعهما " ، يقول : ما يذهب من الدِّين والإثمُ فيه ، أكبر مما يصيبون في فرحها إذا شربوها.
* * *
قال أبو جعفر : وإنما اخترنا ما قلنا في ذلك من التأويل لتواتر الأخبار وتظاهُرها بأن هذه نزلت قبل تحريم الخمر والميسر ، فكان معلومًا بذلك أن الإثم الذي ذكره الله في هذه الآية فأضافه إليهما ، إنما عنى به الإثم الذي يحدث عن أسبابهما - على ما وصفنا - لا الإثم بعد التحريم.
* * *
* ذكر الأخبار الدالة على ما قلنا من أن هذه الآية نزلت قبل تحريم الخمر :
4142 - حدثنا أحمد بن إسحق قال ، حدثنا أبو أحمد قال ، حدثنا قيس ، عن سالم ، عن سعيد بن جبير قال : لما نزلت : " يسألونك عن الخمر والميسر قل فيها إثمٌ كبير ومنافع للناس " فكرهها قوم لقوله : " فيها إثم كبير " ، وشربها قوم لقوله : " ومنافع للناس " ، حتى نزلت : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ ) [ سورة النساء : 43 ] ، قال : فكانوا يدعونها في حين الصلاة ويشربونها في غير حين الصلاة ، حتى نزلت : ( إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأنْصَابُ وَالأزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ ) [ سورة المائدة : 90 ] فقال عمر : ضَيْعَةً لك ! اليوم قُرِنْتِ بالميسر !

(4/330)


4143 - حدثني محمد بن معمر قال ، حدثنا أبو عامر قال ، حدثنا محمد بن أبي حميد ، عن أبي توبة المصري ، قال ، سمعت عبد الله بن عمر يقول : أنزل الله عز وجل في الخمر ثلاثًا ، فكان أول ما أنزل : " يسألونك عن الخمر والميسر قُل فيهما إثم كبير " الآية ، فقالوا : يا رسول الله ، ننتفع بها ونشربها كما قال الله جل وعز في كتابه! ثم نزلت هذه الآية : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى ) الآية ، قالوا : يا رسول الله ، لا نشربها عند قرب الصلاة. قال : ثم نزلت : ( إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأنْصَابُ وَالأزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ ) الآية ، قال : فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : حُرِّمت الخمر " . (1)
__________
(1) الحديث : 4143 - أبو عامر : هو العقدي - بفتح العين والقاف - عبد الملك بن عمرو ، وهو ثقة مأمون ، روى عنه أحمد ، وإسحاق ، وابن المديني ، وغيرهم .
محمد بن أبي حميد الأنصاري الزرقي ، واسم أبيه " إبراهيم " : ضعيف منكر الحديث ، اتفقوا على تضعيفه .
أبو توبة المصري : لا يوجد راو بهذا الاسم ، وإنما هو من تخليط محمد بن أبي حميد . وصحته " أبو طعمة الأموي " بضم الطاء وسكون العين المهملة ، وهو مولى عمر بن عبد العزيز ، شامي سكن مصر ، وكان قارئًا ، يقرئ القرآن بمصر . وهو تابعي ثقة .
وهذا الحديث رواه الطيالسي في مسنده : 1957 ، عن محمد بن أبي حميد " عن أبي توبة المصري " ، عن ابن عمر . وزاد في آخره قصة شق روايا الخمر ، شقها رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه أبو بكر وعمر . ثم لعن شاربها وعاصرها . إلخ .
ونقل ابن كثير في التفسير 3 : 226 ، القسم الذي هنا فقط ، عن مسند الطيالسي . ولكنه حين رأى الغلط في الإسناد " عن أبي توبة المصري " - تصرف تصرفًا سديدًا ، فأثبته : " عن المصري " ، ثم قال : " يعني أبا طعمة " . فلم يغير في أصل الإسناد ، وأشار إلى ما هو الصواب .
وذكره السيوطي في الدر المنثور 2 : 314 - 315 ، ونسبه للطيالسي ، والطبري ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه ، والبيهقي في شعب الإيمان .
والحديث الصحيح من رواية أبي طعمة : ما رواه أحمد في المسند : 5390 ، في قصة شق زقاق الخمر ، ثم قوله صلى الله عليه وسلم : " لعنت الخمر ، وشاربها ، وساقيها ، وبائعها ، ومبتاعها ، وحاملها ، والمحمولة إليه ، وعاصرها ، ومعتصرها ، وآكل ثمنها " - من طريق ابن لهيعة ، عن أبي طعمة وقد فصلنا تخريجه في الاستدراك ، رقم : 1765 في المسند .
ورواه ابن عبد الحكم ، في فتوح مصر ، أطول قليلا من رواية المسند ، ص 264 بإسنادين من طريق أبي شريح عبد الرحمن بن شريح ، عن شراحيل بن بكيل - ومن طريق ابن لهيعة ، عن أبي طعمة ، كلاهما عن ابن عمر . وشراحيل بن بكيل : تابعي ثقة ، ترجمه البخاري في الكبير 2/2/256 . وابن أبي حاتم 2/1/373 . ولم يذكرا فيه جرحًا .

(4/331)


4144 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا يحيى بن واضح قال ، حدثنا الحسين ، عن يزيد النحوي ، عن عكرمة والحسن قالا قال الله : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ ) و " يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبيرٌ ومنافعُ للناس وإثمهما أكبر من نفعهما " ، فنسختها الآية التي في المائدة ، فقال : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ ) ، الآية.
4145 - حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا عبد الوهاب قال ، حدثنا عوف ، عن أبي القَمُوص زيد بن علي قال : أنزل الله عز وجلّ في الخمر ثلاثَ مرات. فأول ما أنزل قال الله : " يسألونك عن الخمر والميسر قُل فيهما إثمٌ كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبرُ من نفعهما " ، قال : فشربها من المسلمين من شاء الله منهم على ذلك ، حتى شرب رجلان فدخلا في الصلاة فجعلا يَهْجُران كلامًا لا يدري عوف ما هو ، فأنزل الله عز وجل فيهما : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ ) ، فشربها من شربها منهم ، وجعلوا يتقونها عند الصلاة ، حتى شربها - فيما زعم أبو القموص - رجلٌ ، فجعل ينوح على قتلى بدر :
تُحَيِّي بِالسَّلامَةِ أُمُّ عَمْروٍ... وَهَلْ لَكِ بَعْدَ رَهْطِكِ مِنْ سَلامِ (1)
__________
(1) سيأتي في تخريج هذا الأثر ، أن رواية هذا الخبر تنسب هذا الشعر لأبي بكر الصديق ، ونفي عائشة لذلك . وهذه الأبيات بعض أبيات من شعر لأبي بكر بن شعوب ، اختلطت بشعر بحير بن عبد الله بن عامر القشيري . ومراجع الأبيات جميعًا هي : سيرة ابن هشام 3 : 30 وتاريخ ابن كثير 3 : 341 ، والوحشيات لأبي تمام : 425 ، والاشتقاق : 63 ، ونسب قريش : 301 ، ومن نسب لأمه (نوادر) : 82 ، وكنى الشعراء (نوادر) : 282 ، والبخاري 5 : 65 ، وفتح الباري 7 : 201 ، والإصابة (ترجمة أبي بكر بن شعوب) ، وغيرها .
والبيت الأول والرابع والخامس ، من أبيات رواها ابن هشام ، والبخاري لأبي بكر بن شعوب ، من الشعر الذي ذكر فيه قتلى بدر ، والذي يقول في آخره : يُحَدِّثُنَا الرّسُولُ بأَنْ سَنَحْيَا ... وَكَيفَ حَيَاةُ أَصْدَاءٍ وَهَامِ!
وكان أبو بكر قد أسلم فيما يقال . أما البيتان الثاني والثالث فهما من أبيات قالها بحير بن عبد الله القشيري ، يرثي هشام بن المغيرة ، وكان شريفًا مذكورًا ، وكانت قريش تؤرخ بموته ، ولما مات نادى مناد بمكة : " اشهدوا جنازة ربكم " ! فقال بحير يرثيه أبياتًا أولها : ذَرِيني أَصْطَبحْ يَا بَكْرُ ، إِنِّي ... رَأَيْتُ المَوْتَ نَقَّبَ عَنْ هِشَامِ
وقد رواها لبحير بن عبد الله ، الآمدي في المؤتلف والمختلف ، وأبو تمام في الوحشيات ، وابن دريد في الاشتقاق ، ولكن المصعب في نسب قريش روى هذا البيت والذي يليه لأبي بكر بن شعوب في رثاء هشام . والصواب فيما أرجح مع من خالف المصعب . فإن البيتين الثاني والثالث ، ظاهر أنهما مقحمان هنا ، وهما ليسا في رواية الثقات ، وفيهما ذكر هشام ورثاؤه ، وهشام مات قبل الإسلام وقبل يوم بدر بدهر طويل . وشهد بدرًا ولداه الحارث بن هشام ، وأبو جهل بن هشام فلا معنى لذكره في رثاء قتلى بدر . هذا خلط في الرواية ، حتى لو صح أن البيتين لأبي بكر بن شعوب .

(4/332)


ذَرِيني أَصْطَبِحْ بَكْرًا ، فَإنِّي... رَأَيْتُ المَوْتَ نَقَّبَ عَنْ هِشَامِ (1) وَوَدَّ بَنُو المُغِيرَةِ لَوْ فَدَوْهُ... بِأَلْفٍ مِنْ رِجَالٍ أَوْ سَوَامِ ... كَأَيٍّ بالطَّو... مِنْ الشِّيزَى يُكَلَّلُ بالسَّنَامِ (2) كَأَيٍّ بالطَّوِىِّ طَوِيِّ بَدْرٍ... مِنَ الفِتْيَانِ والحُلَلِ الكِرَامِ (3)
قال : فبلغ ذلك رسولَ الله صلى الله عليه وسلم ، فجاء فزِعًا يجرُّ رداءه من الفزع ، حتى انتهى إليه ، فلما عاينه الرجل ، فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئًا كان بيده ليضربه ، قال : أعوذ بالله من غضب الله ورسوله ! والله لا أطعمُها
__________
(1) يروى : " يا بكر إني " و " يا هند إني " .
(2) في المطبوعة : " كأني " ، والصواب " كأي " أي : كم . ويروى " وكم لك بالطوى " و " ماذا بالطوى " . والطوى : البئر المطوية . والشيزى : خشب أسود تعمل منه القصاع والجفان . والسنام سنام البعير من ظهره . يقول : كم ألقي في هذه البئر من كريم مطعم . فجعل جفانه هي التي ألقيت في القليب ، كأن لا أحد بعده يخلفه في كرمه وفعاله وإطعامه الضيف والفقير .
(3) في المطبوعة " كأني " وانظر التعليق السالف . ويروى : " من القينات " جمع قينة ، يقول ذهب اللهو فلا لهو بعدهم ولا منادمة ، ويروى ، " والشرب الكرام " .
هذا وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أمر بعد النصر في بدر أن تطرح القتلى في القليب (البئر) . في خبر مذكور في السير .

(4/333)


أبدًا ! فأنزل الله تحريمها : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأنْصَابُ وَالأزْلامُ رِجْسٌ ) إلى قوله : ( فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ ) ، فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : انتهينا ، انتهينا !! (1)
4146 - حدثنا سفيان بن وكيع قال : حدثنا إسحق الأزرق ، عن زكريا ، عن سماك ، عن الشعبي قال : نزلت في الخمر أربعُ آيات : " يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس " ، فتركوها ، ثم نزلت : ( تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا ) [ سورة النحل : 67 ] ، فشربوها ثم نزلت الآيتان في " المائدة " : ( إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأنْصَابُ وَالأزْلامُ ) إلى قوله : ( فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ )
4147 - حدثني موسى بن هرون قال ، حدثنا عمرو بن حماد قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : قال نزلت هذه الآية : " يسألونك عن الخمر والميسر " الآية ، فلم يزالوا بذلك يشربونها ، حتى صنع عبد الرحمن بن عوف طعامًا ، فدعا ناسًا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فيهم علي بن أبي طالب ، فقرأ : ( قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ ) ، ولم يفهمها. فأنزل الله عز وجل يشدد في الخمر : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ ) ، فكانت لهم حلالا يشربون من صلاة الفجر حتى يرتفع النهار ، أو ينتصف ، فيقومون إلى صَلاة الظهر وهم مُصْحُون ، (2) ثم لا يشربونها حتى يُصَلوا العَتَمة - وهي
__________
(1) الحديث : 4145 - عبد الوهاب : هو ابن عبد المجيد الثقفي ، ترجمناه في : 2039 . " عوف " هو ابن أبي جميلة الأعرابي ، مضى في 2905 . زيد بن علي أبو القموص ، بفتح القاف وضم الميم : تابعي ثقة قليل الحديث .
وروايته هذه مرسلة ، لا تقوم بها حجة . وقد أشار إليها الحافظ في الإصابة 7 : 21 ، وأنه رواها الفاكهي في تاريخ مكة ، عن يحيى بن جعفر ، عن علي بن عاصم ، عن عوف بن أبي جميلة ، عن أبي القموص . وأشار إليها أيضًا في الفتح 7 : 201 وجزم بتضعيفها ، لمعارضتها بما رواه الفاكهي نفسه ، من وجه صحيح ، عن عائشة ، قالت : " والله ما قال أبو بكر بيت شعر في الجاهلية ولا الإسلام ، ولقد ترك هو وعثمان شرب الخمر في الجاهلية " . ثم قال الحافظ : " وهي أعلم بشأن أبيها من غيرها . وأبو القموص لم يدرك أبا بكر ، فالعهدة على الواسطة . فلعله كان من الروافض " . وهذا هو الحق .
(2) صحا السكران يصحو فهو صاح ، وأصحى فهو مصح : ذهب سكره وأفاق .

(4/334)


العشاء - ثم يشربونها حتى ينتصف الليل ، وينامون ، ثم يقومون إلى صلاة الفجر وقد صحوا - فلم يزالوا بذلك يشربونها حتى صنع سعد بن أبي وقاص طعامًا ، فدعا ناسًا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فيهم رجل من الأنصار ، فشوى لهم رأس بعير ثم دعاهم عليه ، فلما أكلوا وشربوا من الخمر ، سكروا وأخذوا في الحديث. فتكلم سعد بشيء فغضب الأنصاري ، فرفع لَحْي البعير فكسر أنف سعد ، (1) فأنزل الله نَسْخ الخمر وتحريمها وقال : ( إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأنْصَابُ وَالأزْلامُ ) إلى قوله : ( فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ )
4148 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر ، عن قتادة - وعن رجل ، عن مجاهد - في قوله : " يسألونك عن الخمر والميسر " ، قال : لما نزلت هذه الآية شربها بعض الناس وتركها بعضٌ ، حتى نزل تحريمها في " سورة المائدة " .
4149 - حدثنا محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : " قل فيهما إثمٌ كبير " ، قال : هذا أول ما عِيبت به الخمر. (2)
4150 - حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا يزيد بن زريع قال حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : " يسألونك عن الخمر والميسر قُل فيهما إثم كبير ومنافع للناس " ، فذمَّهما الله ولم يحرِّمهما ، لما أراد أن يبلغ بهما من المدة والأجل. ثم أنزل الله في " سورة النساء " أشد منها : ( لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ ) ، فكانوا يشربونها ، حتى إذا حضرت الصلاة سكتوا عنها ، فكان السكر عليهم
__________
(1) اللحى (بفتح اللام وسكون الحاء) حائط الفم ، وهما العظم الذي فيه الأسنان من داخل الفم ، وللبعير والإنسان وغيرهما : لحيان ، أعلى وأسفل .
(2) الأثر : 4149 - مضى بنصه هذا برقم : 4132 .

(4/335)


حرامًا. ثم أنزل الله جل وعز في " سورة المائدة " بعد غزوة الأحزاب : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ ) إلى( لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ) فجاء تحريمها في هذه الآية ، قليلها وكثيرها ، ما أسكر منها وما لم يسكر. وليس للعرب يومئذ عيش أعجبُ إليهم منها. (1)
4151 - حدثت عن عمار بن الحسن قال ، حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه عن الربيع قوله : " يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما " ، قال : لما نزلت هذه الآية قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن ربكم يُقدِّم في تحريم الخمر ، قال : ثم نزلت : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ ) ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : إنّ ربكم يقدِّم في تحريم الخمر. قال : ثم نزلت : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأنْصَابُ وَالأزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ ) ، فحرّمت الخمر عند ذلك.
4152 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد في قوله : " يسألونك عن الخمر والميسر " الآية كلها ، قال : نسخت ثلاثةً ، (2) في " سورة المائدة " ، وبالحدّ الذي حدَّ النبي صلى الله عليه وسلم ، وضَرْب النبيِّ صلى الله عليه وسلم. قال : كان النبي صلى الله عليه وسلم يضربهم بذلك حدًّا ، ولكنه كان يعمل في ذلك برأيه ، ولم يكن حدًّا مسمًّى وهو حَدٌّ ، وقرأ : ( إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ ) الآية. (3)
__________
(1) قوله : " عيش " مجاز حسن ، لم تقيده كتب اللغة ، ويعني به : المتاع واللذة . وأصل " العيش " : المطعم والمشرب وما تكون به الحياة . فنقل إلى المتاع ، ومثله ما جاء في الأثر : " لا عيش إلا عيش الآخرة " ، فأولى أن يفسر بالمتاع واللذة .
(2) يقال : " نسخت ثلاثًا " ، أي ثلاث مرات من النسخ ، ويجوز " نسخت ثلاثة " كما هنا ، أي ثلاثة نسوخ ، لتذكير " النسخ " .
(3) يعني أن آية البقرة هذه ، نسختها آية المائدة نسخًا واحدًا ، ثم جعل الله حدها الضرب غير مسمى العدد ، فكان نسخًا ثانيًا ، ثم اجتهد رسول الله صلى الله عليه وسلم رأيه في عدد الضرب وصورته ، فكان اجتهاده نسخًا ثالثًا .

(4/336)


القول في تأويل قوله تعالى : { وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ }
قال أبو جعفر : يعني جل ذكره بذلك : ويسألك يا محمد أصحابك : أيّ شيء ينفقون من أموالهم فيتصدقون به ؟ فقل لهم يا محمد : أنفقوا منها العفوَ.
* * *
واختلف أهل التأويل في معنى : " العفو " في هذا الموضع.
فقال بعضهم : معناه : الفضل.
* ذكر من قال ذلك :
4153 - حدثنا عمرو بن علي الباهلي قال ، حدثنا وكيع ح ، وحدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي عن ابن أبي ليلى ، عن الحكم ، عن مقسم ، عن ابن عباس قال : العفوُ ما فضل عن أهلك.
4154 - حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة : " قل العفو " ، أي الفضْل.
4155 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر ، عن قتادة قال : هو الفضل.
4156 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال ، حدثنا هشيم قال ، أخبرنا عبد الملك ، عن عطاء في قوله : " العفو " ، قال : الفضل.
4157 - حدثنا موسى بن هرون قال ، حدثنا عمرو بن حماد قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي قال : " العفو " ، يقول : الفضل.
4158 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد في قوله : " يسألونك ماذا ينفقون قل العفو " ، قال : كان القوم يعملون في كل

(4/337)


يوم بما فيه ، فإن فضَل ذلك اليوم فَضْل عن العيال قدَّموه ، ولا يتركون عِيالهم جُوَّعًا ويتصدقون به على الناس.
4159 - حدثنا عمرو بن علي قال ، حدثنا يزيد بن زريع قال ، حدثنا يونس ، عن الحسن في قوله : " ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو " ، قال : هو الفضل ، فضل المال.
* * *
وقال آخرون : معنى ذلك : ما كان عفوًا لا يَبين على من أنفقه أو تصدّق به.
* ذكر من قال ذلك :
4160 - حدثني علي بن داود قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثني معاوية بن صالح ، عن علي ، عن ابن عباس : " ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو " ، يقول : ما لا يتبيَّن في أموالكم.
4161 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن جريج ، عن طاوس في قول الله جل وعز : " ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو " ، قال : اليسير من كل شيء.
* * *
وقال آخرون : معنى ذلك : الوسط من النفقة ، ما لم يكن إسرافًا ولا إقتارًا.
* ذكر من قال ذلك :
4162 - حدثنا محمد بن عبد الله بن بزيع قال ، حدثنا بشر بن المفضل ، عن عوف ، عن الحسن في قوله : " ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو " ، يقول : لا تجهَد مالك حتى ينفد للناس.
4163 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج قال : سألت عطاء عن قوله : " يسألونك ماذا ينفقون قل العفو " ، قال : العفو في النفقة : أن لا تجهدَ مالك حتى ينفد فتسأل الناس.

(4/338)


4164 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثنا حجاج ، عن ابن جريج ، قال سألت عطاء عن قوله : " يسألونك ماذا ينفقون قل العفو " ، قال : العفو ما لم يسرفوا ولم يَقتروا في الحق قال : وقال مجاهد : العفو صدقة عن ظَهْر غنى.
4165 - حدثنا عمرو بن علي قال ، حدثنا يحيى بن سعيد قال ، حدثنا عوف ، عن الحسن في قوله : " يسألونك ماذا ينفقون قل العفو " ، قال : هو أن لا تجهد مالك.
* * *
وقال آخرون : معنى ذلك : " قل العفو " ، خذ منهم ما أتوك به من شيء قليلا أو كثيرًا.
* ذكر ذلك من قال ذلك :
4166 - حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : " ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو " ، يقول : ما أتوك به من شيء قليل أو كثير فاقبله منهم.
* * *
وقال آخرون : معنى ذلك : ما طابَ من أموالكم.
* ذكر من قال ذلك :
4167 - حدثت عن عمار قال ، حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع قوله : " يسألونك ماذا ينفقون قل العفو " ، قال : يقول : الطيِّبَ منه ، يقول : أفضلَ مالك وأطيبَه.
4168 - حدثت عن عمار بن الحسن قال ، حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن قتادة قال : كان يقول : العفو ، الفضل ، يقول : أفضل مالك.
* * *

(4/339)


وقال آخرون : معنى ذلك : الصدقة المفروضة.
* ذكر من قال ذلك :
4169 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن قيس بن سعد أو عيسى ، عن قيس ، عن مجاهد - شك أبو عاصم قول الله جل وعز : " قل العفو " ، قال : الصدقة المفروضة.
* * *
قال أبو جعفر : وأولى هذه الأقوال بالصواب قول من قال : معنى " العفو " : الفضلُ من مالِ الرجل عن نفسه وأهله في مؤونتهم ما لا بد لهم منه. وذلك هو الفضل الذي تظاهرت به الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالإذن في الصدقة ، وصَدقته في وجوه البر : (1)
* ذكر بعض الأخبار التي رويت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك :
4170 - حدثنا علي بن مسلم قال ، حدثنا أبو عاصم ، عن ابن عجلان ، عن المقبري ، عن أبي هريرة قال : قال رجل : يا رسول الله ، عندي دينار! قال : " أنفقه على نفسك. قال : عندي آخر! قال : " أنفقه على أهلك. قال : عندي آخر ! قال : أنفقه على ولدك! قال : عندي آخر ؛ قال : فأنتَ أبْصَرُ! (2)
__________
(1) في المطبوعة : " وصدقة في وجوه البر " . والصواب ما أثبت ، يعني أن التصدق بالعفو في وجوه البر ، أما الزكاة المفروضة ، فلها شأن آخر ، كما سيأتي بعد .
(2) الحديث : 4170 - علي بن مسلم بن سعيد أبو الحسن الطوسي ، نزيل بغداد : ثقة ، روى عنه البخاري في صحيحه ، وابن معين ، وأبو داود ، وغيرهم ، مترجم في التهذيب ، وتاريخ بغداد 12 108 - 109 . أبو عاصم : هو النبيل ، الضحاك بن مخلد . ابن عجلان : هو محمد : مضت ترجمته : 304 . المقبري : هو سعيد بن أبي سعيد .
والحديث رواه أحمد في المسند : 7413 ، بزيادة في أوله ، عن يحيى - وهو القطان - عن ابن عجلان ، به ، نحوه . وقد بينا هناك تخريجه في أبي داود ، والنسائي ، والمستدرك للحاكم ، وابن حبان .
وذكره السيوطي 1 : 253 ، ونسبه لهؤلاء والطبري ، عدا المسند . ونقله ابن كثير 1 : 503 عن الطبري ، ثم قال : " وقد رواه مسلم في صحيحه " . وقد وهم رحمه الله . فإن الحديث ليس في صحيح مسلم ، على اليقين . بعد طول التتبع مني ومن أخي السيد محمود .

(4/340)


4171 - حدثني محمد بن معمر البحراني قال ، حدثنا روح بن عبادة قال ، حدثنا ابن جريج ، قال ، أخبرني أبو الزبير : أنه سمع جابر بن عبد الله يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إذا كان أحدكم فقيرًا فليبدأ بنفسه ، فإن كان له فضل فليبدأ مع نفسه بمن يعول ، ثم إن وجد فضلا بعد ذلك فليتصدق على غيرهم " . (1)
4172 - حدثنا عمرو بن علي قال ، حدثنا يزيد بن هرون قال ، حدثنا محمد بن إسحاق ، عن عاصم بن عمر بن قتادة ، عن محمود بن لبيد ، عن جابر بن عبد الله قال : أتى رسولَ الله صلى الله عليه وسلم رجلٌ ببيضة من ذهب أصابها في بعض المعادن ، فقال : يا رسول الله ، خذ هذه مني صدقة ، فوالله ما أصبحت أملك غيرها! فأعرض عنه ، فأتاه من ركنه الأيمن فقال له مثل ذلك ، فأعرض عنه. ثم قال له مثل ذلك ، فأعرض عنه. ثم قال له مثل ذلك ، فقال : هاتها! مغضبًا ، فأخذها فحذفه بها حذفة لو أصابه شجَّه أو عقَره ، ثم قال : " يجيء أحدكم بماله كله يتصدق به ، ويجلس يتكفف الناس!! إنما الصدقة عن ظهر غِنًى. (2)
__________
(1) الحديث : 4171 - رواه أحمد في المسند : 14323 (3 : 305 حلبي) ، بنحوه ، مع قضة في أوله - من طريق أيوب ، عن أبي الزبير ، عن جابر .
ورواه مسلم 1 : 274 ، نحو رواية المسند - من طريق الليث بن سعد ، عن أبي الزبير . ثم من طريق أيوب ، عن أبي الزبير .
وذكره ابن كثير 1 : 503 ، ونسبه لمسلم . وذكره السيوطي 1 : 254 ، ونسبه لمسلم والنسائي .
(2) الحديث : 4172 - عاصم بن عمر بن قتادة : مضى في : 1519 . ووقع في المطبوعة " عاصم عن عمر بن قتادة " . وهو خطأ واضح .
والحديث رواه أبو داود : 1673 ، عن موسى بن إسمعيل ، عن حماد - وهو ابن سلمة - عن ابن إسحاق ، بهذا الإسناد . ورواه الحاكم في المستدرك 1 : 413 ، من طريق موسى بن إسمعيل ، به وقال : " هذا حديث صحيح على شرط مسلم ، ولم يخرجاه " . ووافقه الذهبي .
وذكره السيوطي 1 : 253 - 254 ، وزاد نسبته لابن سعد ، وهو في طبقات ابن سعد 4/2/19 ، من وجه آخر ، من رواية " عمر بن الحكم بن ثوبان " ، عن جابر .
حذفه بالشيء رماه به . تكفف الناس : تعرض لمعروفهم باسطا يده ، ليتلقى منهم ما يتصدقون به عليه . وقوله : " عن ظهر غني " أي عن غنى يستقيم به أمره ويقوى .

(4/341)


4173 - حدثنا محمد بن المثنى قال ، حدثنا محمد بن جعفر قال ، حدثنا شعبة ، عن إبراهيم المخرّمي قال : سمعت أبا الأحوص يحدث ، عن عبد الله ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ارضَخْ من الفضل ، وابدأ بمن تعول ، ولا تُلام على كَفاف " . (1)
* * *
وما أشبه ذلك من الأخبار التي يطول باستقصاء ذكرها الكتاب.
فإذا كان الذي أذن صلى الله عليه وسلم لأمته ، الصدقةَ من أموالهم بالفضل
__________
(1) الحديث : 4173 - إبرهيم المخرمي : هكذا ثبت في المطبوعة ، ولا يوجد راو - فيما أعلم - بهذا الاسم . والراجح عندي ، بل الذي أكاد أوقن به ، أنه محرف عن " إبراهيم الهجري " ، فالحديث حديثه . والرسم مقارب . والهجري : هو إبرهيم بن مسلم العبدي الكوفي ، وهو ضعيف . ضعفه ابن عيينة ، والبخاري ، وأبو زرعة ، وأبو حاتم ، وغيرهم .
وهذا الحديث جزء من حديث ، ذكره السيوطي 1 : 254 ، قال : " أخرج أبو يعلى ، والحاكم وصححه ، عن عبد الله بن مسعود ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : الأيدي ثلاثة ، فيد الله العليا ، ويد المعطي التي تليها ، ويد السائل السفلى إلى يوم القيامة ، فاستعفف عن السؤال وعن المسألة ما استطعت ، فإن أعطيت خيرًا فلير عليك ، وابدأ بمن تعول ، وارضخ من الفضل ، ولا تلام على الكفاف " .
وكذلك ذكره المنذري في الترغيب والترهيب 2 : 10 ، وقال : " رواه أبو يعلى ، والغالب على روايته التوثيق . ورواه الحاكم ، وصحح إسناده " .
وهكذا حكى السيوطي والمنذري تصحيح الحاكم إياه . ولنا على ذلك تعقيب : أنه ليس في المستدرك تصحيحه - كما سيأتي . فإن لم يكن السيوطي نقل عن المنذري وقلده ، يكن في نسخة المستدرك المطبوعة سقط التصحيح الذي حكياه .
وأول الحديث إلى قوله " ويد السائل السفلى " - رواه أحمد في المسند : 4261 ، عن القاسم بن مالك ، عن الهجري ، عن أبي الأحوص ، عن عبد الله - وهو ابن مسعود - مرفوعًا . وذكر الهيثمي في مجمع الزوائد 3 : 97 أوله عن المسند وأبي يعلى ، وزيادة آخره عن أبي يعلى . وقال : " ورجاله موثقون " .
ورواية الحاكم إياه - هي في المستدرك 1 : 408 ، بثلاثة أسانيد ، لم يذكر لفظه فيها كاملا . بل ذكر في أولها أنه سقط عليه تمام الحديث ، ثم ذكر في الآخرين بعض الحديث ، ولم يذكره كله . ولم يذكر فيه تصحيحًا ولا تضعيفًا ، ولا قال الذهبي شيئًا في ذلك في مختصره .
رضخ له من ماله يرضخ رضخًا ، ورضخ له رضيخة : أعطاه القليل اليسير . والكفاف : هو الذي يكف المرء عن سؤال الناس : يقول : إذا لم يكن عندك فضل مال تبذله ، لم تلم على أن لا تعطي أحدًا .

(4/342)


عن حاجة المتصدق ، فالفضل من ذلك هو " العفو " من مال الرجل ، (1) إذْ كان " العفو " ، في كلام العرب ، في المال وفي كل شيء : هو الزيادة والكثرة - ومن ذلك قوله جل ثناؤه : " حتى عَفَوْا " بمعنى : زادوا على ما كانوا عليه من العدد وكثروا ، (2) ومنه قول الشاعر : (3)
وَلكِنَّا نُعِضُّ السَّيْفَ منا... بِأَسْوُقِ عَافِيَاتِ الشَّحْمِ كُومِ (4)
يعني به : كثيرات الشحوم. ومن ذلك قيل للرجل : " خذ ما عفا لك من فلان " ، يراد به ما فضل فصفا لك عن جُهده بما لم يَجْهده (5) كان بيِّنًا أنّ الذي أذن الله به في قوله : " قل العفو " لعباده من النفقة ، فأذنهم بإنفاقه إذا أرادوا إنفاقه ، هو الذي بيّن لأمته رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بقوله : " خير الصدقة ما أنفقت عن غنى " ، وأذِنهم به.
* * *
فإن قال لنا قائل : وما تنكر أن يكون ذلك " العفو " هو الصدقة المفروضة ؟ (6)
__________
(1) في المطبوعة : " الفضل من ذلك . . . " بحذف الفاء ، والفاء لا بد منها ليستقيم الكلام .
(2) انظر ما قاله في معنى " عفا " فيما سلف : 3 : 370 .
(3) هو لبيد بن ربيعة .
(4) ديوانه قصيدة 2 : 19 ، ثم يأتي في التفسير 9 : 6 (بولاق) ، وفي المطبوعة هنا " يعض السيف منا " وهو خطأ ، والصواب ما في الموضع الآخر والديوان . وهذا البيت من أبيات يفخر فيها بإكرامهم الضيف ، ولا سيما في الشتاء ، يقول إذا جاء الشتاء ببرده وقحطه : فَلاَ نَتَجَاوَزُ العَطِلاتِ مِنْها ... إلى البَكْرِ المُقَارِبِ والكَزُوم
ولكنّا نُعِضّ السَّيْف . . . ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
والضمير في " منها " للإبل . يقول : لا نتجاوز عند الذبح فندع النوق الطوال الأعناق السمينات ، إلى بكر دنيء أو بكر هرم ، ولكننا نعض السيف ، أي نضرب بالسيف حتى يعض في اللحم - بعراقيب السمينات العظام الأسنمة ، وهي الكوم ، جمع كوماء .
(5) قوله : " كان بينا . . . " جواب قوله : " فإذا كان الذي أذن صلى الله عليه وسلم . . . " كان بينا . . . " ، وأذن هنا بمعنى : أعلم وأخبر .
(6) " الصدقة المفروضة " يعني : الزكاة المفروضة .

(4/343)


قيل : أنكرنا ذلك لقيام الحجة على أنّ من حلَّت في ماله الزكاة المفروضة فهلكَ جميعُ ماله إلا قَدْرُ الذي لَزِم مالَه لأهل سُهْمان الصدقة ، أنّ عليه أن يسلمه إليهم ، إذا كانَ هلاكُ ماله بعد تفريطه في أداء الواجب كان لهم في ماله ، إليهم. (1) وذلك لا شك أنه جُهْده - إذا سلّمه إليهم - لا عفوُه. وفي تسمية الله جل ثناؤه ما علَّم عبادَه وَجْه إنفاقهم من أموالهم " عفوا " ، ما يبطل أن يكون مستحقًا اسم " جهد " في حالة. وإذا كان ذلك كذلك ، فبيِّنٌ فسادُ قول من زعم أن معنى " العفو " هو ما أخرجه رب المال إلى إمامه فأعطاه ، كائنًا ما كان من قليل ماله وكثيره ، وقولِ من زعم أنه الصدقة المفروضة. وكذلك أيضًا لا وَجه لقول من يقول إن معناه : " ما لم يتبيّن في أموالكم " ، (2) لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما قال له أبو لبابة : " إنّ من توبتي أن أنخلع إلى الله ورسوله من مالي صدقة " ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : " يكفيك من ذلك الثلث! " ، وكذلك روي عن كعب بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له نحوًا من ذلك. (3) والثلث لا شك أنه بيِّنٌ فَقْدُه من مال ذي المال ، ولكنه عندي كما قال جل ثناؤه : ( وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا ) [ سورة الفرقان : 67 ] ، وكما قال جل ثناؤه لمحمد صلى الله عليه وسلم : ( وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا ) [ سورة الإسراء : 29] ، وذلك هو ما حدَّه صلى الله عليه وسلم فيما دون ذلك على قدر المال واحتماله.
* * *
ثم اختلف أهل العلم في هذه الآية : هل هي منسوخة أم ثابتة الحكم على العباد ؟ فقال بعضهم : هي منسوخة ، نسختها الزكاة المفروضة.
* ذكر من قال ذلك :
4174 - حدثني علي بن داود قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثني معاوية ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قوله : " يسألونك ماذا ينفقون قل العفو " ، قال : كان هذا قبل أن تفرض الصدقة.
4175 - حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : " يسألونك ماذا ينفقون قل العفو " ، قال : لم تفرض فيه فريضة معلومة. ثم قال : ( خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ ) [ سورة الأعراف : 199] ، ثم نزلت الفرائض بعد ذلك مسمَّاةً.
4176 - حدثني موسى بن هرون قال حدثنا عمرو بن حماد قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي قوله : " يسألونك ماذا ينفقون قل العفو " ، هذه نسختها الزكاة.
* * *
وقال آخرون : بل مُثْبَتة الحكم غير منسوخة.
* ذكر من قال ذلك :
4177 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن قيس بن سعد أو عيسى ، عن قيس عن مجاهد - شكّ أبو عاصم قال - قال : العفو الصدقة المفروضة.
* * *
قال أبو جعفر : والصواب من القول في ذلك ما قاله ابن عباس على ما رواه عنه عطية ، من أن قوله : " قل العفو " ليس بإيجاب فرض فُرض من الله حقًا في ماله ، ولكنه إعلامٌ منه ما يرضيه من النفقة مما يُسخطه ، جوابًا منه لمن سأل نبيه
__________
(1) في المطبوعة : " الواجب كان لهم ما له إليهم " ، وزيادة " في " واجبة لتمام المعنى واستقامته يعني : . . . أداء الواجب في ماله إليهم ، وقوله : " كان لهم " صفة لقوله " الواجب " .
(2) انظر هذا القول فيما سلف قريبًا ص : 338 .
(3) حديث توبة أبي لبابة بن المنذر ، وانخلاعه من ماله في المسند 3 : 452 ، 502 قال ، لما تاب الله عليه في أمر غزوة بني قريظة (انظر سيرة ابن هشام 3 : 247 ، 248) يا رسول الله إن من توبتي أن أهجر دار قومي ، وأن أنخلع من مالي صدقة لله ولرسوله ؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يجزئ عنك الثلث .
وأما خبر كعب بن مالك ، فهو خبر الثلاثة الذين خلفوا (رواه البخاري في غزوة بني قريظة 6 : 7) ، فلما تاب الله عليه قال : إن من توبتي أن أنخلع من مالي صدقة إلى رسوله! فقال النبي صلى الله عليه وسلم : أمسك عليك بعض مالك فهو خير لك .

(4/344)


محمدًا صلى الله عليه وسلم عما فيه له رضًا. فهو أدبٌ من الله لجميع خلقه على ما أدَّبهم به في الصدقات غير المفروضات ثابتُ الحكم ، غيرُ ناسخ لحكم كان قبله بخلافه ، ولا منسوخ بحكم حدث بعده. فلا ينبغي لذي ورع ودين أن يتجاوز في صدقات التطوعَ وهباته وعطايا النفل وصدقته ، ما أدَّبهم به نبيه صلى الله عليه وسلم بقوله : " إذا كان عند أحدكم فضل فليبدأ بنفسه ، ثم بأهله ، ثم بولده " ، ثم يسلك حينئذ في الفضل مسالكه التي ترضي الله ويحبها. وذلك هو " القَوام " بين الإسراف والإقتار ، الذي ذكره الله عز وجل في كتابه إن شاء الله تعالى.
* * *
ويقال لمن زعم أن ذلك منسوخ : ما الدلالة على نسخه ، وقد أجمع الجميعُ لا خلاف بينهم : على أن للرجل أن ينفق من ماله صدقةً وهِبهً ووصيةً ، الثلثَ ؟ فما الذي دل على أن ذلك منسوخ ؟
فإن زعم أنه يعني بقوله : " إنه منسوخ " ، أنّ إخراج العفو من المال غير لازم فرضًا ، وإن فرض ذلك ساقطٌ بوجود الزكاة في المال
قيل له : وما الدليل على أن إخراج العفو كان فرضًا فأسقطه فرضُ الزكاة ، ولا دلالة في الآية على أن ذلك كان فرضًا ، إذ لم يكن أمرٌ من الله عز ذكره ، بل فيها الدلالة على أنها جوابُ ما سأل عنه القوم على وَجه التعرف لما فيه لله الرضا من الصدقات ؟
ولا سبيل لمدَّعي ذلك إلى دلالة توجب صحة ما ادَّعى.
* * *
قال أبو جعفر : وأما القرأة فإنهم اختلفوا في قراءة " العفو " . فقرأته عامة قرأة الحجاز وقرأة الحرمين وعُظم قرأة الكوفيين : " قل العفو " نصبًا. وقرأه بعض قرأة البصريين : " قل العفو " رفعًا.
فمن قرأه نصبًا جعل " ماذا " حرفًا واحدًا ، ونصبه بقوله : " ينفقون " ، على ما قد بيَّنت قبل

(4/346)


- (1) ثم نصب " العفو " على ذلك. فيكون معنى الكلام حينئذ : ويسألونك أيّ شيء ينفقون ؟
ومن قرأ رفعًا جعل " ما " من صلة " ذا " ، ورفعوا " العفو " . فيكون معنى الكلام حينئذ : ما الذي ينفقون ؟ قل : الذي ينفقون ، العفو.
ولو نصب " العفو " ، ثم جعل " ماذا " حرفين ، بمعنى : يسألونك ماذا ينفقون ؟ قل : ينفقون العفو ورفع الذين جعلوا " ماذا " حرفًا واحدًا ، بمعنى : ما ينفقون ؟ قل : الذي ينفقون ، خبرًا (2) كان صوابًا صحيحًا في العربية.
وبأي القراءتين قرئ ذلك ، فهو عندي صواب ، (3) لتقارب معنييهما ، مع استفاضة القراءة بكل واحدة منهما. غير أن أعجبَ القراءتين إليّ ، وإن كان الأمر كذلك ، قراءةُ من قرأه بالنصب ، لأن من قرأ به من القرأة أكثر ، وهو أعرف وأشهرُ.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (219) فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ }
قال أبو جعفر : يعني بقوله عز ذكره : " كذلك يُبين الله لكم الآيات " ، هكذا يبين أي : ما بينت لكم أعلامي وحُججي - وهي " آياته " - في هذه السورة ، وعرَّفتكم فيها ما فيه خلاصكم من عقابي ، وبينت لكم حدودي وفرائضي ، ونبَّهتكم فيها على الأدلة على وحدانيتي ، ثم على حُجج رسولي إليكم ، فأرشدتكم إلى ظهور
__________
(1) انظر ما سلف في هذا الجزء : 292 ، 293 .
(2) يعني : ورفعوه على أنه خبر " الذي ينفقون " .
(3) في المطبوعة : " قرئ ذلك عندي صواب " والصواب زيادة " فهو " ، أو يقول : " كان عندي صوابا " . .

(4/347)


الهدى فكذلك أبين لكم في سائر كتابي الذي أنزلته على نبيِّي محمد صلى الله عليه وسلم آياتي وحُججي وأوضحها لكم ، لتتفكروا في وعدي ووعيدي ، وثوابي وعقابي ، فتختاروا طاعتي التي تنالون بها ثوابي في الدار الآخرة ، والفوز بنعيم الأبد ، (1) على القليل من اللذات واليسير من الشهوات ، بركوب معصيتي في الدنيا الفانية ، التي من ركبها كان معاده إليّ ، ومصيره إلى ما لا قِبَل له به من عقابي وعذابي.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
4178 - حدثنا علي بن داود قال ، حدثنا أبو صالح قال ، حدثني معاوية بن صالح ، عن علي ، عن ابن عباس : " كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون في الدنيا والآخرة " ، قال : يعني في زوال الدنيا وفنائها ، وإقبال الآخرة وبقائها.
4179 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : " لعلكم تتفكرون في الدنيا والآخرة " ، قال يقول : لعلكم تتفكرون في الدنيا والآخرة ، فتعرفون فضل الآخرة على الدنيا.
4180 - حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج قال : قوله : " كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون في الدنيا والآخرة " ، قال : أما الدنيا ، فتعلمون أنها دار بلاء ثم فناء ، والآخرة دارُ جزاء ثم بقاء ، فتتفكرون فتعملون للباقية منهما قال : وسمعت أبا عاصم يذكر نحو هذا أيضًا.
4181 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة
__________
(1) في المطبوعة : " فتجاوزوا طاعتي . . . " وهو خطأ ، والصواب ما أثبت . يقال : " اخترت فلانًا على فلان " ، بمعنى آثرته عليه . وعدي " الاختيار " بقوله " على " لتضمنها معنى : " فضلت " .

(4/348)


قوله : " كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون في الدنيا والآخرة " ، وأنه من تفكر فيهما عرف فضل إحداهما على الأخرى ، وعرف أن الدنيا دار بلاء ثم دار فناء ، وأن الآخرة دار جزاء ثم دار بقاء ، فكونوا ممن يَصْرم حاجة الدنيا لحاجة الآخرة.
* * *

(4/349)


فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (220)

القول في تأويل قوله عز ذكره : { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ }
اختلف أهل التأويل فيمَ نزلت هذه الآية. (1)
فقال بعضهم : نزلت [ في الذين عزلوا أموال اليتامى الذين كانوا عندهم ، وكرهوا أن يخالطوهم في مأكل أو في غيره ، وذلك حين نزلت( وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ) [ سورة الأنعام : 152] ، وقوله : ( إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا ) [ سورة النساء : 10 ] .
* ذكر من قال ذلك] : (2)
4182 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا يحيى بن آدم ، عن إسرائيل ، عن عطاء بن السائب ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : لما نزلت : ( وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ) [ سورة الأنعام : 152 ، والإسراء : 34 ] عزلوا أموال اليتامى ، فذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت : " وإن تخالطوهم فإخوانكم ، والله يعلمَ المفسدَ من المصْلح ، ولو شاء الله لأعنتكم " ، فخالطوهم. (3)
__________
(1) في المطبوعة : " فيما نزلت " ، والأجود ما أثبت .
(2) ما بين القوسين زيادة استظهرتها من سياق الكلام ، واستجزت أن أزيدها بين الأقواس في متن الكتاب ، حتى لا تنقطع على القارئ قراءته ، وكان مكانها في المطبوعات والمخطوطات بياض .
(3) الأثر : 4182 - أخرجه الحاكم في المستدرك 2 : 278 مطولا ، وقال : " هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه " ووافقه الذهبي . وكان في المطبوعة . " فإخوانكم ولو شاء لأعنتكم " ، فأتممت الآية على تنزيلها .

(4/349)


4183 - حدثنا سفيان بن وكيع قال ، حدثنا جرير ، عن عطاء بن السائب ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : لما نزلت : ( وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ) ، و( إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا ) [ سورة النساء : 10] ، انطلق من كان عنده يتيمٌ فعزل طعامَه من طعامه ، وشرابه من شرابه ، فجعل يفضُل الشيء من طعامه فيُحبس له حتى يأكله أو يفسُد. فاشتدَّ ذلك عليهم ، فذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأنزل الله عز وجل : " ويسألونك عن اليتامى قل إصْلاح لهم خيرٌ وإن تخالطوهم فإخوانكم " ، فخلطوا طعامهم بطعامهم وشرابهم بشرابهم . (1)
4184 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا حكام ، عن عمرو ، عن عطاء ، عن سعيد قال : لما نزلت : ( وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ) ، قال : كنا نصنع لليتيم طعامًا فيفضُل منه الشيء ، فيتركونه حتى يَفسد ، فأنزل الله : " وإن تخالطوهم فإخوانكم " . (2)
4185 - حدثنا يحيى بن داود الوسطي قال ، حدثنا أبو أسامة ، عن ابن أبي ليلى ، عن الحكم قال : سئل عبد الرحمن بن أبي ليلى عن مال اليتيم فقال : لما نزلت : ( وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ) ، اجتُنبت مخالطتهم ، واتقوا كل شيء ، حتى اتقوا الماء ، فلما نزلت " وإن تخالطوهم فإخوانكم " ، قال : فخالطوهم.
4186 - حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : " ويسألونك عن اليتامى " الآية كلها ، قال : كان الله أنزل قبل ذلك في
__________
(1) الأثر : 4183 - أخرجه أبو داود 3 : 155 رقم : 2871 ، والنسائي 6 : 256 .
(2) الأثر : 4184 - قوله " عن سعيد قال " يعني قال ابن عباس ، كما هو ظاهر الخبر .

(4/350)


" سورة بني إسرائيل " (1) ( وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ) ، فكبُرت عليهم ، فكانوا لا يخالطونهم في مأكل ولا في غيره ، فاشتد ذلك عليهم ، فأنزل الله الرخصة فقال : " وإن تخالطوهم فإخوانكم " .
4187 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر ، عن قتادة قال : لما نزلت : ( وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ) ، اعتزل الناس اليتامى فلم يخالطوهم في مأكل ولا مشرب ولا مال ، قال : فشق ذلك على الناس ، فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأنزل الله عز وجل : " ويسألونك عن اليتامى قُل إصلاحٌ لهم خير وإن تخالطوهم فإخوانكم " .
4188 - حدثت عن عمار قال ، حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع في قوله : " ويسألونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خير وإن تخالطوهم " الآية ، قال : فذكر لنا والله أعلمُ أنه أنزل في " بني إسرائيل " : (2) ( وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ ) فكبُرت عليهم ، فكانوا لا يخالطونهم في طعام ولا شراب ولا غير ذلك. فاشتد ذلك عليهم ، فأنزل الله الرخصة فقال : " ويسألونك عن اليتامى قل إصلاحٌ لهم خير وإن تخالطوهم فإخوانكم " ، يقول : مخالطتهم في ركوب الدابة وشرب اللبن وخدمة الخادم. يقول : الوليّ الذي يلي أمرهم ، فلا بأس عليه أن يركب الدابة أو يشرب اللبن أو يخدمه الخادم.
* * *
وقال آخرون في ذلك بما : -
4189 - حدثني عمرو بن علي قال ، حدثنا عمران بن عيينة قال ، حدثنا عطاء بن السائب ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس في قوله : " إنّ الذينَ يأكلون أموالَ اليتامى ظُلما إنما يأكلون في بطونهم " الآية ، قال : كان يكون في حِجْر الرجل اليتيمُ فيعزل طعامه وشرابه وآنيته ، فشقّ ذلك على المسلمين ، فأنزل
__________
(1) " سورة بني إسرائيل " هي " سورة الإسراء " .
(2) " سورة بني إسرائيل " هي " سورة الإسراء " .

(4/351)


الله : " وإن تخالطوهم فإخوانكم والله يعلم المفسد من المصلح " ، فأحل خُلطتهم. (1)
4190 - حدثني أبو السائب قال ، حدثنا حفص بن غياث قال ، حدثنا أشعث ، عن الشعبي قال : لما نزلت هذه الآية : " إنّ الذين يأكلونَ أموالَ اليتامى ظلمًا إنما يأكلون في بطونهم نارًا وسَيصْلونَ سعيرًا " ، قال : فاجتنب الناس الأيتامَ ، فجعل الرجل يعزل طعامه من طعامه ، وماله من ماله ، وشرابه من شرابه. قال : فاشتد ذلك على الناس ، فنزلت : " وإن تخالطوهم فإخوانكم والله يعلم المفسد من المصلح " . قال الشعبي : فمن خالط يتيما فليتوسَّع عليه ، ومن خالطه ليأكل من ماله فلا يفعل.
4191 - حدثني علي بن داود قال ، حدثنا أبو صالح قال ، حدثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس : قوله : " ويسألونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خير " ، وذلك أن الله لما أنزل : " إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظُلمًا إنما يأكلون في بطونهم نارًا وسيصْلون سعيرًا " ، كره المسلمون أن يضمُّوا اليتامى ، وتحرَّجوا أن يخالطوهم في شيء ، فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأنزل الله : " قل إصلاحٌ لهم خير وإن تخالطوهم فإخوانكم " .
4192 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج قال : سألت عطاء بن أبي رباح عن قوله : " ويسألونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خيرٌ وإن تخالطوهم فإخوانكم " ، قال : لما نزلت " سورة النساء " ، عزل الناس طعامهم فلم يخالطوهم. قال : ثم جاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا : إنا يشقُّ علينا أن نعزل طعام اليتامى وهم يأكلون معنا! فنزلت : " وإن تخالطوهم فإخوانكم " قال ابن جريج ، وقال مجاهد : عزلوا طعامهم عن طعامهم وألبانهم عن ألبانهم وأدْمهم عن أدْمِهم ، (2) فشقّ ذلك عليهم ، فنزلت : " وإن تخالطوهم
__________
(1) الأثر : 4189 - أخرجه النسائي 6 : 256 - 257 . وفي المطبوعة : " فأحل لهم خلطم والهصوا من النسائي .
(2) الأدم (بضم فسكون) والإدام : ما يؤتدم به ، أي ما يؤكل بالخبر أي شيء كان ، وفي الحديث : " نعم الإدام الخل " .

(4/352)


فإخوانكم " ، قال : مخالطة اليتيم في المراعي والأدْم قال ابن جريج ، وقال ابن عباس : الألبان وخِدمة الخادم وركوب الدابة قال ابن جريج : وفي المساكن ، قال : والمساكن يومئذ عزيزةٌ.
4193 - حدثنا محمد بن سنان قال ، حدثنا الحسين بن الحسن الأشقر قال ، أخبرنا أبو كدينة ، عن عطاء ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : لما نزلت : " ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن " و " إنّ الذين يأكلون أموال اليتامى ظلمًا " ، قال : اجتنب الناس مالَ اليتيم وطعامه ، حتى كان يفسُد ، إنْ كان لحمًا أو غيره. فشقّ ذلك على الناس ، فشكوا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأنزل الله : " ويسألونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خير " (1)
4194 - حدثنا محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن قيس بن سعد أو عيسى ، عن قيس بن سعد ، شك أبو عاصم - عن مجاهد : " وإن تخالطوهم فإخوانكم " ، قال : مخالطة اليتيم في الرِّعْي والأدْم. (2)
* * *
وقال آخرون : بل كان اتقاء مال اليتيم واجتنابه من أخلاق العرب ، فاستفتوا في ذلك لمشقته عليهم ، فأفتوا بما بيَّنه الله في كتابه.
* ذكر من قال ذلك :
4195 - حدثني موسى بن هرون قال ، حدثنا عمرو بن حماد قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : " ويسألونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خير وإن تخالطوهم فإخوانكم والله يعلم المفسد من المصلح " ، قال : كانت العرب يشددون في اليتيم حتى لا يأكلوا معه في قصعة واحدة ، ولا يركبوا له بعيرًا ، ولا يستخدموا له خادمًا ،
__________
(1) الأثر : 4193 - أخرجه النسائي 6 : 256 .
(2) الرعي (بكسر الراء وسكون العين) : الكلأ نفسه ، كالمرعى .

(4/353)


فجاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسألوه عنه ، فقال : " قل إصلاح لهم خيرٌ " ، يصلح له ماله وأمره له خيرٌ ، وإن يخالطه فيأكل معه ويطعمه ويرْكب راحلته ويحمله ويستخدم خادمه ويخدمه ، فهو أجودُ " والله يعلم المفسدن من المصلح " .
4196 - حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : " ويسألونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خيرٌ " إلى " إن الله عزيز حكيم " ، وإن الناس كانوا إذا كان في حِجْر أحدهم اليتيمُ جعل طعامه على ناحية ، ولبنه على ناحية ، مخافة الوِزر ، وإنه أصاب المؤمنين الجَهْد ، فلم يكن عندهم ما يجعلون خدمًا لليتامى ، فقال الله : " قل إصلاحٌ لهم خير وإن تخالطوهم " إلى آخر الآية.
4197 - حدثت عن الحسين بن الفرج قال ، سمعت أبا معاذ قال ، أخبرنا عبيد بن سليمان قال ، سمعت الضحاك يقول في قوله : " ويسألونك عن الناس " ، كانوا في الجاهلية يعظِّمون شأنَ اليتيم ، فلا يمسُّون من أموالهم شيئًا ، ولا يركبون لهم دابة ، ولا يطعمون لهم طعامًا. فأصابهم في الإسلام جَهْدٌ شديد ، حتى احتاجوا إلى أموال اليتامى ، فسألوا نبي الله صلى الله عليه وسلم عن شأنِ اليتامَى وعن مخالطتهم ، فأنزل الله : " وإن تخالطوهم فإخوانكم " ، يعني " بالمخالطة " : ركوب الدابة ، وخدمة الخادم ، وشربَ اللبن.
* * *
قال أبو جعفر : فتأويل الآية إذًا : ويسألك يا محمد أصحابك عن مال اليتامى ، وخلطهم أموالهم به في النفقة والمطاعمة والمشاربة والمساكنة والخدمة ، فقل لهم : تفضُّلكم عليهم بإصلاحكم أموالهم - من غير مَرْزِئة شيء من أموالهم ، (1) وغير أخذ عوض من أموالهم على إصلاحكم ذلك لهم - خيرُ لكم عند الله وأعظمُ
__________
(1) يقال : " رزأه في ماله رزءًا (بضم فسكون) ومرزئة (بفتح الميم وسكون الراء وكسر الزاي) : أصاب منه خيرًا ما كان ، فنقص من ماله .

(4/354)


لكم أجرًا ، لما لكم في ذلك من الأجر والثواب وخيرٌ لهم في أموالهم في عاجل دنياهم ، لما في ذلك من توفر أموالهم عليهم " وإنْ تخالطوهم " فتشاركوهم بأموالكم أموالهم في نفقاتكم ومطاعمكم ومشاربكم ومساكنكم ، فتضمُّوا من أموالهم عوضًا من قيامكم بأمورهم وأسبابهم وإصلاح أموالهم ، فهم إخوانكم ، والإخوان يعين بعضهم بعضًا ، ويكنُفُ بعضهم بعضًا ، (1) فذو المال يعينُ ذا الفاقة ، وذو القوة في الجسم يعين ذا الضعف. يقول تعالى ذكره : فأنتم أيها المؤمنون وأيتامكم كذلك ، إن خالطتموهم بأموالكم فخلطتم طعامكم بطعامهم ، وشرابكم بشرابهم ، وسائر أموالكم بأموالهم ، فأصبتم من أموالهم فَضْل مَرْفَق بما كان منكم من قيامكم بأموالهم وولائهم ، ومعاناة أسبابهم ، على النظر منكم لهم نظرَ الأخ الشفيق لأخيه ، العامل فيما بينه وبينه بما أوجب الله عليه وألزمه فذلك لكم حلالٌ ، لأنكم إخوان بعضكم لبعض ، كما : -
4198 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد : " وإن تخالطوهم فإخوانكم " ، قال : قد يخالط الرجل أخاه.
4199 - حدثني أحمد بن حازم قال ، حدثنا أبو نعيم قال ، حدثنا سفيان ، عن أبي مسكين ، عن إبراهيم قال : إني لأكره أن يكون مال اليتيم كالعُرة . (2)
4200 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا وكيع ، عن هشام الدستوائي ، عن حماد ، عن إبراهيم ، عن عائشة قالت : إنى لأكره أن يكون مالُ اليتم عندي عُرَّةً ، حتى أخلط طعامه بطعامي وشرابه بشرابي. (3)
* * *
__________
(1) كنفه يكنفه : حاطه وصانه وكان إلى جنبه وعاونه ، والمكانفة : المعاونة . وأصلها من " الكنف " ، وهو حضن الرجل . ويقال : " هو في كنف الله " ، أي في كلاءته وحفظه وحرزه ورعايته .
(2) العرة : القذر وعذرة الناس ، يريد : أن يتجنبه تجنب القذر .
(3) الأثر : 4200 - في تفسير ابن كثير 1 : 505 ، والدر المنثور 1 : 256 ، ولم أجده في مكان آخر . و " العرة " ، سلف شرحها . وفي تفسير ابن كثير " عندي حدة " ، ولعل صوابها ما في التفسير .

(4/355)


قال أبو جعفر : فإن قال لنا قائل : وكيف قال : " فإخوانُكم " ، فرفع " الإخوان " ؟ وقال في موضع آخر : ( فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالا أَوْ رُكْبَانًا ) [ سورة البقرة : 239]
قيل : لافتراق معنييهما. وذلك أنّ أيتام المؤمنين إخوان المؤمنين ، خالطهم المؤمنون بأموالهم أو لم يخالطوهم. فمعنى الكلام : وإن تخالطوهم فهم إخوانكم. و " الإخوان " مرفوعون بالمعنى المتروك ذكره ، وهو " هم " لدلالة الكلام عليه وأنه لم يرد " بالإخوان " الخبر عنهم أنهم كانوا إخوانًا من أجل مخالطة وُلاتهم إياهم. ولو كان ذلك المراد ، لكانت القراءة نصبًا ، وكان معناه حينئذ : وإن تخالطوهم فخالطوا إخوانكم ، ولكنه قرئ رفعًا لما وصفت : من أنهم إخوان للمؤمنين الذين يلونهم ، خالطوهم أو لم يخالطوهم.
وأما قوله : ( فرجالا أو رُكبانًا ) ، فنصبٌ ، لأنهما حالان للفعل ، غير دائمين ، (1) ولا يصلح معهما " هو " . وذلك أنك لو أظهرت " هو " معهما لاستحال الكلام. ألا ترى أنه لو قال قائل : " إن خفت من عدوك أن تصلي قائمًا فهو راجل أو راكب " ، لبطل المعنى المرادُ بالكلام ؟ وذلك أن تأويل الكلام. فإن خفتم أن تصلوا قيامًا من عدوكم ، فصلوا رجالا أو ركبانًا . ولذلك نصبه إجراءً على ما قبله من الكلام ، كما تقول في نحوه من الكلام : " إن لبست ثيابًا فالبياض " فتنصبه ، لأنك تريد : إن لبست ثيابًا فالبس البياض - ولستَ تريد الخبر عن أن جميع ما يلبس من الثياب فهو البياض. ولو أردت الخبر عن ذلك لقلت : " إن لبستَ ثيابًا فالبياضُ " رفعًا ، إذ كان مخرج الكلام على وجه الخبر منك عن اللابس ، أنّ كل ما يلبس من الثياب فبياضٌ . لأنك تريد حينئذ : إن لبست ثيابًا فهي بياضٌ. (2)
__________
(1) في المطبوعة " غير ذاتيين " : ، وهو تصحيف فاحش لا معنى له ، والصواب ما أثبت والحال غير الدائمة ، هي الحال المشتقة المنتقلة ، والدائم هو الجامد والثابت .
(2) انظر تفصيل ذلك في معاني القرآن للفراء أيضًا 1 : 141 - 142 .

(4/356)


فإن قال : فهل يجوز النصب في قوله : " فإخوانكم " .
قيل : جائز في العربية . فأما في القراءة ، فإنما منعناه لإجماع القرأة على رفعه. وأما في العربية ، فإنما أجزناه ، لأنه يحسن معه تكريرُ ما يحمل في الذي قبله من الفعل فيهما : وإن تخالطوهم ، فإخوانكم تخالطون - فيكون ذلك جائزًا في كلام العرب. (1)
* * *
(2)
القول في تأويل قوله تعالى : { وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ }
قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بذلك : إن ربكم قد أذن لكم في مخالطتكم اليتامى على ما أذن لكم به ، (3) فاتقوا الله في أنفسكم أن تخالطوهم وأنتم تريدون أكل أموالهم بالباطل ، وتجعلون مخالطتكم إياهم ذريعة لكم إلى إفساد أموالهم وأكلها بغير حقها ، فتستوجبوا بذلك منه العقوبة التي لا قِبل لكم بها ، فإنه يعلم من خالط منكم يتيمه - فشاركه في مطعمه ومشربه ومسكنه وخدمه ورعاته في حال مخالطته إياه - ما الذي يقصد بمخالطته إياه : إفسَاد ماله وأكله بالباطل ، أم إصلاحه وتثميره ؟ لأنه لا يخفى عليه منه شيء ، (4) ويعلم أيُّكم المريد إصلاح ماله ، من المريد إفسادَه. كما : -
__________
(1) انظر تفصيل ذلك في معاني القرآن للفراء أيضًا 1 : 141 - 142 .
(2) من أول تفسير هذه الآية يبدأ الجزء الرابع من المخطوطة العتيقة التي اعتمدناها . وأولها :
{ بِسْمِ الله الرَّحْمنِ الرَّحِيم}
ربّ أَعِن برَحْمَتِك }
(3) في المطبوعة والمخطوطة : " إن ربكم وإن أذن لكم . . . " وهو كلام مختل ، وكأن الذي أثبت قريب من الصواب .
(4) في المخطوطة " لا نها عليه منه شيء " ، وفيها تصحيف لم أتبينه ، والذي في المطبوعة جيد في سياق المعنى .

(4/357)


4201 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد في قول الله تعالى ذكره : " والله يعلم المفسد من المصلح " قال : الله يعلم حين تخلط مالك بماله : أتريد أن تصلح ماله ، أو تفسده فتأكله بغير حق ؟
4202 - حدثني أبو السائب قال ، حدثنا حفص بن غياث قال ، حدثنا أشعث ، عن الشعبي : " والله يعلم المفسد من المصلح " ، قال الشعبي : فمن خالط يتيمًا فليتوسَّع عليه ، ومن خالطه ليأكل ماله فلا يفعلْ. (1)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لأَعْنَتَكُمْ }
قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بذلك : ولو شاء الله لحرَّم ما أحله لكم من مخالطة أيتامكم بأموالكم أموالَهم ، فجَهَدكم ذلك وشقّ عليكم ، ولم تقدروا على القيام باللازم لكم من حق الله تعالى والواجب عليكم في ذلك من فرضه ، ولكنه رخَّص لكم فيه وسهله عليكم ، رحمةً بكم ورأفةً.
* * *
واختلف أهل التأويل في تأويل قوله : " لأعنتكم " . فقال بعضهم بما : -
4203 - حدثني به محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن قيس بن سعد - أو عيسى ، عن قيس بن سعد - عن مجاهد شك أبو عاصم في قول الله تعالى ذكره : " ولو شاء الله لأعنتكم " لحرم عليكم المرعى والأدْم.
__________
(1) الأثر : 4202 - في المخطوطة والمطبوعة : " حدثني أبو السائب ، قال حدثنا أشعث . . . " ، وهو إسناد ناقص ، أسقط " قال حدثنا حفص بن غياث " ، وقد مضى هذا الإسناد مرارًا ، أقربه : 4190 ، وهذا الأثر مختصره .

(4/358)


قال أبو جعفر : يعني بذلك مجاهد : رعي مواشي والي اليتيم مع مواشي اليتيم ، والأكلَ من إدامه . لأنه كان يتأول في قوله : " وإن تخالطوهم فإخوانكم " ، أنه خُلْطة الوليّ اليتيم بالرِّعْي والأدْم. (1)
* * *
4204 - حدثني علي بن داود قال ، حدثنا أبو صالح قال ، حدثني معاوية ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : " ولو شاء الله لأعنتكم " ، يقول : لو شاء الله لأحرجكم فضيَّق عليكم ، ولكنه وسَّع ويسَّر فقال : ( وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ ) [ سورة النساء : 6 ]
4205 - حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتاده : " ولو شاء الله لأعنتكم " ، يقول : لجهدكم ، فلم تقوموا بحقّ ولم تؤدُّوا فريضة.
4206 - حدثت عن عمار قال ، حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع نحوه إلا أنه قال : فلم تعملوا بحقّ.
4207 - حدثني موسى قال ، حدثنا عمرو قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : " ولو شاء الله لأعنتكم " ، لشدد عليكم.
4208 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد في قول الله : " ولو شاء الله لأعنتكم " ، قال : لشقّ عليكم في الأمر. ذلك العنتُ.
4209 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا جرير ، عن منصور ، عن الحكم ، عن مقسم ، عن ابن عباس قوله : " ولو شاء الله لأعنتكم " ، قال : ولو شاء الله لجعل ما أصبتُم من أموال اليتامى مُوبقًا.
* * *
وهذه الأقوال التي ذكرناها عمن ذكرت عنه ، وإن اختلفت ألفاظ قائليها فيها ، فإنها متقارباتُ المعاني. لأن من حُرِّم عليه شيء فقد ضُيِّق عليه في ذلك
__________
(1) انظر الأثر السالف رقم : 4194 .

(4/359)


الشيء ، ومن ضُيق عليه في شيء فقد أحْرِج فيه ، ومن أحرج في شيء أو ضيِّق عليه فيه فقد جُهِد. وكل ذلك عائد إلى المعنى الذي وصفت من أن معناه : الشدة والمشقة.
ولذلك قيل : " عَنِت فلانٌ " إذا شق عليه الأمر ، وجهده ، (1) " فهو يعنَتُ عَنَتًا " ، كما قال تعالى ذكره : ( عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ ) [ سورة التوبة : 128 ] ، يعني ما شق عليكم وآذاكم وجَهدكم ، ومنه قوله تعالى ذكره : ( ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ ) [ سورة النساء : 25]. فهذا إذا عَنِت العانِت. فإن صيَّره غيره كذلك ، قيل : " أعنته فلانٌ في كذا " إذ جهده وألزمه أمرًا جهده القيام به " يُعْنِته إعناتًا " . فكذلك قوله : " لأعنتكم " معناه : لأوجب لكم العنَت بتحريمه عليكم ما يَجْهدكم ويحرجكم ، مما لا تطيقون القيام باجتنابه ، وأداء الواجب له عليكم فيه.
* * *
وقال آخرون : معنى ذلك : لأوبقكم وأهلككم.
* ذكر من قال ذلك :
4210 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا طلق بن غنام ، عن زائدة ، عن منصور ، عن الحكم ، عن مقسم ، عن ابن عباس قال : قرأ علينا : " ولو شاء الله لأعنتكم " ، قال ابن عباس : ولو شاء الله لجعل ما أصبتم من أموال اليتامى موبقًا.
4211 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا يحيى بن آدم ، عن فضيل - وجرير ، عن منصور وحدثنا ابن حميد قال ، حدثنا جرير ، عن منصور عن الحكم ،
__________
(1) في المطبوعة : " عنت فلانًا " وهو خطأ ، والفعل لازم ، كما سيأتي . وفي المخطوطة والمطبوعة : " إذا شق عليه وجهده " ، والصواب زيادة " الأمر " .

(4/360)


عن مقسم ، عن ابن عباس : " ولو شاء الله لأعنتكم " قال : لجعل ما أصبتم مُوبقًا. (1)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (220) }
قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بذلك : إن الله " عزيز " في سلطانه ، لا يمنعه مانع مما أحل بكم من عقوبة لو أعنتكم بما يجهدكم القيام به من فرائضه فقصرتم في القيام به ، ولا يقدرُ دافعٌ أن يدفعه عن ذلك ولا عن غيره مما يفعله بكم وبغيركم من ذلك لو فعله ، (2) ولكنه بفضل رحمته منَّ عليكم بترك تكليفه إياكم ذلك وهو " حكيم " في ذلك لو فعله بكم وفي غيره من أحكامه وتدبيره ، لا يدخل أفعاله خلل ولا نقصٌ ولا وَهْي ولا عيب ، (3) لأنه فِعل ذي الحكمة الذي لا يجهل عواقبَ الأمور فيدخل تدبيره مذمّة عاقبة ، كما يدخل ذلك أفعال الخلق لجهلهم بعواقب الأمور ، لسوء اختيارهم فيها ابتداءً.
* * *
__________
(1) الأثر : 4211 - قد سلف بالإسناد الثاني برقم : 4209 .
(2) في المطبوعة : " لو فعله هو لكنه " ، والصواب الجيد من المخطوطة .
(3) في المخطوطة : " ولا وهاء ولا عيب " . وقد سلف في هذا الجزء 4 : 18 ، 155 ، والتعليق رقم : 1 ، وما قيل في خطأ ذلك ، واستعمال الفقهاء له .

(4/361)


وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آَيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (221)

القول في تأويل قوله تعالى : { وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ }
قال أبو جعفر : اختلف أهل التأويل في هذه الآية : هل نزلت مرادًا بها كل مشركة ، أم مراد بحكمها بعض المشركات دون بعض ؟ (1) وهل نسخ منها بعد وجوب الحكم بها شيء أم لا ؟
فقال بعضهم : نزلت مرادًا بها تحريم نكاح كل مشركة على كلّ مسلم من أيّ أجناس الشِّرك كانت ، عابدةَ وثن كانت ، (2) أو كانت يهودية أو نصرانية أو مجوسية أو من غيرهم من أصناف الشرك ، ثم نسخ تحريم نكاح أهل الكتاب بقوله : ( يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ ) إلى( وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ ) [ سورة المائدة : 4 - 5 ]
* ذكر من قال ذلك :
4212 - حدثني علي بن واقد قال ، حدثني عبد الله بن صالح قال ، حدثني معاوية بن صالح ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قوله : " ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمنَّ " ، ثم استثنى نساءَ أهل الكتاب فقال : ( وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ ) حِلٌّ لكم( إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ ). (3)
4213 - حدثنا محمد بن حميد قال ، حدثنا يحيى بن واضح ، عن الحسين
__________
(1) في المطبوعة : " أم مرادًا بحكمها " ، بالنصب ، وأثبت ما في المخطوطة .
(2) في المطبوعة : " عابدة وثن أو كانت يهودية . . . " ، وفي المخطوطة : " عابدة وثن كانت يهودية . . . " ، وكلاهما مضطرب ، والصواب ما أثبت بزيادة " كانت " .
(3) الأثر : 4212 - في المخطوطة والمطبوعة " حدثني علي بن واقد ، قال حدثني عبد الله ابن صالح " ، والصواب ما أثبت . وهذا إسناد كثير الدوران فيما مضى وفيما سيأتي ، وأقربه رقم : 4204 . والآية في المطبوعة والمخطوطة كما أثبتها ، بين جزئي الآية بقوله : " حل لكم " ، وإسقاط قوله تعالى " من قبلكم " ، وأخشى أن يكون ناسخ قد تصحف عليه فجعل هذه هذه . ولكني أثبت ما اتفقت عليه النسخ .

(4/362)


بن واقد ، عن يزيد النحوي ، عن عكرمة والحسن البصري قالا " ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمنَّ " ، فنُسخ من ذلك نساء أهل الكتاب ، أحلّهُن للمسلمين.
4214 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : " ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن " ، قال : نساءُ أهل مكة ومن سواهنّ من المشركين ، ثم أحل منهن نساء أهل الكتاب.
4215 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد مثله.
4216 - حدثت عن عمار قال ، حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع قوله : " ولا تنكحوا المشركات " إلى قوله : " لعلهم يتذكرون " ، قال : حرم الله المشركات في هذه الآية ، ثم أنزل في " سورة المائدة " ، فاستثنى نساء أهل الكتاب فقال : ( وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ ) .
* * *
وقال آخرون : بل أنزلت هذه الآية مرادًا بحكمها مشركات العرب ، لم ينسخ منها شيء ولم يُستثن ، وإنما هي آية عامٌّ ظاهرُها ، خاصٌّ تأويلها. (1)
* ذكر من قال ذلك :
4217 - حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا يزيد بن زريع قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : " ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن " ، يعني : مشركات العرب اللاتي ليس فيهن كتاب يقرأنه. (2)
4218 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا
__________
(1) في المخطوطة ، والمطبوعة : " بل هي آية عامة ظاهرها . . . " ، والصواب ما أثبت .
(2) في المخطوطة ، " يقرأ به " وتلك أجود .

(4/363)


معمر ، عن قتادة قوله : " ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمنّ " ، قال : المشركات ، مَنْ ليس من أهل الكتاب ، وقد تزوج حذيفة يهودية أو نصرانية. (1)
4219 - حدثت عن عمار قال ، حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن قتادة في قوله : " ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمنّ " ، يعني مشركات العرب اللاتي ليس لهن كتابٌ يقرأنه.
4220 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا وكيع ، عن سفيان ، عن حماد ، عن سعيد بن جبير قوله : " ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمنّ " ، قال : مشركات أهل الأوثان.
* * *
وقال آخرون : بل أنزلت هذه الآية مرادًا بها كل مشركة من أيّ أصناف الشرك كانت ، غير مخصوص منها مشركةٌ دون مشركة ، وثنيةً كانت أو مجوسية أو كتابيةً ، ولا نُسخ منها شيء.
* ذكر من قال ذلك :
4221 - حدثنا عبيد بن آدم بن أبي إياس العسقلاني قال ، حدثنا أبي قال ، حدثنا عبد الحميد بن بهرام الفزاري قال ، حدثنا شهر بن حوشب قال : سمعت عبد الله بن عباس يقول : نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أصناف النساء ، إلا ما كان من المؤمنات المهاجرات ، وحرَّم كل ذات دين غير الإسلام ، وقال الله تعالى ذكره : ( وَمَنْ يَكْفُرْ بِالإيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ ) [ سورة المائدة : 5 ] ، وقد نكح طلحة بن عبيد الله يهودية ، ونكح حذيفة بن اليمان نصرانية ، فغضب عمر بن الخطاب رضي الله عنه غضبًا شديدًا ، حتى همّ بأن يسطُو عليهما. فقالا نحن نطلِّق يا أمير المؤمنين ،
__________
(1) يعني : حذيفة بن اليمان ، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو صاحب سره صلى الله عليه وسلم في المنافقين . لم يعلمهم أحد إلا حذفة ، أعلمه بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم . وانظر الأثر الآتي برقم : 4221 .

(4/364)


ولا تغضب! فقال : لئن حل طلاقُهن لقد حل نكاحهن ، ولكن أنتزعهن منكم صَغَرة قِماءً. (1)
* * *
قال أبو جعفر : وأولى هذه الأقوال بتأويل الآية ما قاله قتادة : من أن الله تعالى ذكره عنى بقوله : " ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمنّ " من لم يكن من أهل الكتاب من المشركات وأن الآية عام ظاهرها خاص باطنها ، لم ينسخ منها شيء وأن نساء أهل الكتاب غير داخلات فيها. وذلك أنّ الله تعالى ذكره أحل بقوله : ( وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ ) - للمؤمنين من نكاح محصناتهن ، مثلَ الذي أباح لهم من نساء المؤمنات.
وقد بينا في غير هذا الموضع من كتابنا هذا ، وفي كتابنا( كتاب اللطيف من البيان ) : (2) أن كل آيتين أو خبرين كان أحدهما نافيًا حكم الآخر في فطرة العقل ، فغير جائز أن يقضَى على أحدهما بأنه ناسخ حكم الآخر ، إلا بحجة من خبر قاطع للعذر مَجيئُه. وذلك غير موجود ، أن قوله : (3) ( وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ ) ناسخٌ ما كان قد وجبَ تحريمه من النساء بقوله : " ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمنّ " . فإذ لم يكن ذلك موجودًا كذلك ، (4) فقول القائل : " هذه ناسخة هذه " ، دعوى لا برهان له عليها ، والمدعي دعوَى
__________
(1) الأثر : 4221 - " عبد الحميد بن برهام الفزاري " ، مترجم في التهذيب ، وثقه أبو داود وابن معين وغيرهما ، وقال شعبة : صدوق إلا أنه يروي عن شهر بن حوشب ، وعابوا عليه كثرة روايته عن شهر ، وشهر ضعيف . وقد سلف كلام أخي في توثيق شهر رقم : 1389 ، وفي عبد الله بن بهرام : 1605 . وقال ابن كثير في التفسير 1 : 507 بعد روايته الخبر : " هو حديث غريب جدًا ، وهذا الأثر غريب عن عمر " . وكلام الطبري الآتي بعد قاض بضعفه .
والصغرة جمع صاغر : هو الراضي بالذل . وقماء جمع قميء : وهو الذليل الصاغر وإن لم يكن قصيرًا . والقميء : القصير . وفي المخطوطة وابن كثير " قمأة " ، وليس جمعًا قياسيا ، ولا هو وارد في كتب اللغة ، ولكن إن صح الخبر ، فهو إتباع لقوله : " صغرة " ومثله كثير في كلامهم .
(2) انظر ما سلف 2 : 534 - 535/ ثم 3 : 385 ، 563 .
(3) في المطبوعة : " بأن قوله " : وأثبت ما في المخطوطة ، وهو أعرق في العربية .
(4) في المخطوطة والمطبوعة : " فإن لم يكن ذلك " ، وهو خطأ صرف ، والصواب ما أثبت . وإلا تناقض كلام أبي جعفر .

(4/365)


لا برهان له عليها متحكم ، والتحكم لا يعجز عنه أحدٌ. (1)
* * *
وأما القول الذي روي عن شهر بن حوشب ، عن ابن عباس ، عن عمر رضي الله عنه : من تفريقه بين طلحة وحذيفة وامرأتيهما اللتين كانتا كتابيتين ، فقولٌ لا معنى له - لخلافه ما الأمة مجتمعة على تحليله بكتاب الله تعالى ذكره ، وخبر رسوله صلى الله عليه وسلم . وقد روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه من القول خلاف ذلك ، بإسناد هو أصح منه ، وهو ما : -
4222 - حدثني به موسى بن عبد الرحمن المسروقي قال ، حدثنا محمد بن بشر قال ، حدثنا سفيان بن سعيد ، عن يزيد بن أبي زياد ، عن زيد بن وهب قال ، قال عمر : المسلم يتزوج النصرانية ، ولا يتزوج النصراني المسلمة. (2)
* * *
وإنما ذكره عمر لطلحة وحذيفة رحمة الله عليهم نكاحَ اليهودية والنصرانية ، حذارًا من أن يقتدي بهما الناس في ذلك ، فيزهدوا في المسلمات ، أو لغير ذلك من المعاني ، فأمرهما بتخليتهما. كما :
4223 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا ابن إدريس قال ، حدثنا الصلت بن بهرام ، عن شقيق قال : تزوج حذيفة يهودية ، فكتب إليه عمر : " خلِّ سبيلها " ، فكتب إليه : " أتزعُمُ أنها حرامٌ فأخلي سبيلها ؟ " ، فقال : " لا أزعم
__________
(1) حجج أبي جعفر في استدلاله ، قاضية له على كل خصم خالفه ، وهي حجج بصير بالمعاني ، مؤيد بالعقل ، قادر على البيان عن المعاني الخفية ، والفصل بين المعاني المتداخلة .
(2) الحديث : 4222 - هذا إسناد صحيح متصل إلى عمر .
محمد بن بشر بن الفرافصة بن المختار العبدي الحافظ : ثقة باتفاقهم . سفيان بن سعيد : هو الثوري . زيد بن وهب الجهني . تابعي كبير مخضرم ، رحل إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فقبض وهو في الطريق . وهو ثقة كثير الحديث . له ترجمة في تاريخ بغداد 8 : 440 - 442 ، والإصابة 3 : 46 - 47 .
وهذا الخبر رواه البيهقي في السنن الكبرى 7 : 172 ، من طريق سفيان - وهو الثوري - بهذا الإسناد .
وذكره ابن كثير 1 : 507 - 508 ، عن رواية الطبري ، وصحح إسناده .

(4/366)


أنها حرام ، ولكن أخاف أن تعاطوا المومسات منهن " . (1)
وقد : -
4224 - حدثنا تميم بن المنتصر قال ، أخبرنا إسحاق الأزرق ، عن شريك ، عن أشعث بن سوار ، عن الحسن ، عن جابر بن عبد الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : نتزوج نساء أهل الكتاب ولا يتزوَّجون نساءَنا. (2)
* * *
فهذا الخبر - وإن كان في إسناده ما فيه - فالقول به ، لإجماع الجميع على صحة القول به ، أولى من خبر عبد الحميد بن بهرام ، عن شهر بن حوشب.
* * *
فمعنى الكلام إذًا : ولا تنكحوا أيها المؤمنون مشركاتٍ ، غير أهل الكتاب ، حتى يؤمنَّ فيصدِّقن بالله ورسوله وما أنزل عليه.
* * *
__________
(1) الخبر : 4223 - الصلت بن بهرام التيمي الكوفي : ثقة ، وثقه أحمد ، وابن معين ، وغيرهما . وقد فصلنا القول في شأنه في صحيح ابن حبان ، رقم : 81 بتحقيقنا .
شقيق : هو ابن سلمة الأسدي ، التابعي الكبير المشهور . مضى في : 177 .
والخبر رواه البيهقي أيضًا 7 : 172 ، من طريق سفيان ، بهذا الإسناد .
وذكره ابن كثير 1 : 507 ، عن رواية الطبري ، وقال : " وهذا إسناد صحيح . وروى الخلال ، عن محمد بن إسماعيل ، عن وكيع ، عن الصلت ، نحوه " . وذكره السيوطي 1 : 256 ، وزاد نسبته إلى عبد الرزاق .
وذكره الجصاص في أحكام القرآن 1 : 333 ، والقرطبي في تفسيره : 3 : 68 ، بدون إسناد . ووقع في المطبوعة هنا ، وفي ابن كثير ، والسيوطي " المؤمنات " !! بدل " المومسات " . وهو تحريف غريب ، في ثلاثة كتب . وصوابه وتصححه من البيهقي والجصاص والقرطبي .
(2) الحديث : 4224 - إسحق الأزرق : هو إسحق بن يوسف ، مضى في : 332 . شريك : هو ابن عبد الله النخعي القاضي ، مضى في : 2527 . الحسن : هو البصري .
وهذا الحديث لم أجده في شيء من دواوين الحديث ، غير هذا الموضع . ونقله عنه ابن كثير 1 : 508 ثم نقل كلام الطبري الذي عقبه ، ثم قال : " كذا قال ابن جرير رحمه الله " .
وتعقيب ابن جرير بأنه " وإن كان في إسناده ما فيه " - لعله يشير رحمه الله إلى القول بأن الحسن البصري لم يسمع من جابر . ففي المراسيل لابن أبي حاتم ، ص : 13 " حدثنا محمد بن أحمد بن البراء ، قال : قال علي بن المديني : الحسن لم يسمع من جابر بن عبد الله شيئًا . سئل أبو زرعة : الحسن لقي جابر بن عبد الله ؟ قال : لا . حدثنا محمد بن سعيد بن بلج ، قال : سمعت عبد الرحمن بن الحكم يقول سمعت جريرًا يسأل بهزًا عن الحسن : من لقي من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ؟ قال : لم يسمع من جابر بن عبد الله . سألت أبي : سمع الحسن من جابر ؟ قال : ما أرى ، ولكن هشام بن حسان يقول : عن الحسن ، حدثنا جابر بن عبد الله ، وأنا أنكر هذا ، إنما الحسن عن جابر كتاب ، مع أنه أدرك جابرًا " .
وأنا أرى أن رواية هشام بن حسان كافية في إثبات سماع الحسن من جابر . فقد قال ابن عيينة : " كان هشام أعلم الناس بحديث الحسن " .
ومعنى هذا الحديث ثابت عن جابر ، موقوفا عليه من كلامه . رواه الشافعي في الأم ج 5 ص 6 ، من رواية أبي الزبير ، عن جابر ، وكذلك رواه البيهقي 7 : 172 ، من طريق الشافعي .
والموقوف - عندنا - لا يعلل به المرفوع ، بل هو يؤيده ويثبته ، كما بينا ذلك في غير موضع من كتبنا . والحمد لله .

(4/367)


القول في تأويل قوله تعالى : { وَلأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ }
قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بقوله : " ولأمة مؤمنة " بالله وبرسوله وبما جاء به من عند الله ، خيرٌ عند الله وأفضل من حرة مشركة كافرة ، وإن شرُف نسبها وكرُم أصلها. يقول : ولا تبتغوا المناكح في ذوات الشرف من أهل الشرك بالله ، فإنّ الإماء المسلمات عند الله خير مَنكحًا منهن.
* * *
وقد ذكر أن هذه الآية نزلت في رجل نكح أمة ، فعُذل في ذلك ، وعُرضت عليه حرة مشركة.
* ذكر من قال ذلك :
4225 - حدثني موسى بن هارون قال ، حدثنا عمرو بن حماد قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : " ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن ولأمة مؤمنة خير من مشركة ولو أعجبتكم " ، قال : نزلت في عبد الله بن رواحة ، وكانت له أمة سوداءُ ، وأنه غضب عليها فلطمها. ثم فزع فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره بخبرها ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : " ما هي يا عبد الله ؟ قال : يا رسول الله ، هي تصوم وتصلي وتحسن الوضوءَ وتشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله. فقال :

(4/368)


هذه مؤمنة! فقال عبد الله : فوالذي بعثك بالحق لأعتِقنَّها ولأتزوجنَّها! ففعل ، فطعن عليه ناس من المسلمين فقالوا : تزوج أمة!! وكانوا يريدون أن يَنكحوا إلى المشركين وينكحوهم رغبة في أحسابهم ، فأنزل الله فيهم : " ولأمةٌ مؤمنة خيرٌ من مشركة " و " عبدٌ مؤمن خيرٌ من مشرك " .
4226 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني الحجاج قال ، قال ابن جريج في قوله : " ولا تنكحوا إلى المشركات حتى يؤمنَّ " ، قال : المشركات - لشرفهن - حتى يؤمن.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ }
قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بذلك : وإن أعجبتكم المشركة من غير أهل الكتاب في الجمال والحسب والمال ، فلا تنكحوها ، فإن الأمة المؤمنة خيرٌ عند الله منها.
* * *
وإنما وضعت " لو " موضع " إن " لتقارب مخرجيهما ، ومعنييهما ، ولذلك تجاب كل واحدة منهما بجواب صَاحبتها ، على ما قد بينا فيما مضى قبْل. (1)
* * *
__________
(1) انظر ما سلف 2 : 458 ومعاني القرآن للفراء 1 : 143 .

(4/369)


القول في تأويل قوله تعالى : { وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ }
قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بذلك ، أن الله قد حرَّم على المؤمنات أن ينكحن مشركًا كائنًا من كان المشرك ، ومن أيّ أصناف الشرك كان ، فلا تنكحوهنَّ أيها المؤمنون منهم ، فإنّ ذلك حرام عليكم ، ولأن تزوجوهن من عبدٍ مؤمن مصدق بالله وبرسوله وبما جاء به من عند الله ، خير لكم من أن تزوجوهن من حر مشرك ، ولو شرُف نسبه وكرم أصله ، وإن أعجبكم حسبه ونسبه.
* * *
وكان أبو جعفر محمد بن عليّ يقول : هذا القولُ من الله تعالى ذكره ، دلالةٌ على أن أولياء المرأة أحق بتزويجها من المرأة.
4227 - حدثنا محمد بن يزيد أبو هشام الرفاعي قال ، أخبرنا حفص بن غياث ، عن شيخ لم يسمه ، قال أبو جعفر : النكاح بوليّ في كتاب الله ، ثم قرأ : " ولا تُنكحوا المشركين حتى يؤمنوا " برفع التاء.
4228 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر ، عن قتادة والزهري في قوله : " ولا تنكحوا المشركين " ، قال : لا يحل لك أن تنكح يهوديًّا أو نصرانيًّا ولا مشركًا من غير أهل دينك.
4229 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثنا حجاج قال ، قال ابن جريج : " ولا تنكحوا المشركين " - لشرفهم - " حتى يؤمنوا " .
4230 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا يحيى بن واضح ، عن الحسين بن واقد ، عن يزيد النحوي ، عن عكرمة والحسن البصري : " ولا تنكحوا المشركين حتى يؤمنوا " ، قال : حرَّم المسلمات على رجالهم - يعني رجال المشركين.
* * *

(4/370)


القول في تأويل قوله تعالى : { أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (221) }
قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بقوله : " أولئك " ، هؤلاء الذين حرمت عليكم أيها المؤمنون مناكحتهم من رجال أهل الشرك ونسائهم ، يدعونكم إلى النار يعني : يدعونكم إلى العمل بما يدخلكم النار ، وذلك هو العمل الذي هم به عاملون من الكفر بالله ورسوله. يقول : ولا تقبلوا منهم ما يقولون ، ولا تستنصحوهم ، ولا تنكحوهم ولا تنكحوا إليهم ، فإنهم لا يألونكم خبالا ولكن اقبلوا من الله ما أمركم به فاعملوا به ، وانتهوا عما نهاكم عنه ، فإنه يدعوكم إلى الجنة يعني بذلك يدعوكم إلى العمل بما يدخلكم الجنة ، ويوجب لكم النجاة إن عملتم به من النار ، وإلى ما يمحو خطاياكم أو ذنوبكم ، فيعفو عنها ويسترها عليكم.
* * *
وأما قوله : " بإذنه " ، (1) فإنه يعني : أنه يدعوكم إلى ذلك بإعلامه إياكم سبيلَه وطريقَه الذي به الوصول إلى الجنة والمغفرة.
* * *
ثم قال تعالى ذكره : " ويبين آياته للناس لعلهم يتذكرون " ، يقول : ويوضح حججه وأدلته في كتابه الذي أنزله على لسان رسوله لعباده ، ليتذكروا فيعتبروا ، ويميزوا بين الأمرين اللذين أحدهما دَعَّاءٌ إلى النار والخلود فيها ، والآخر دَعَّاءٌ إلى الجنة وغفران الذنوب ، فيختاروا خيرهما لهم. ولم يجهل التمييز بين هاتين إلا غبيّ [ غَبين ] الرأي مدخول العقل.
* * *
__________
(1) انظر معنى " الإذن " فيما سلف 2 : 449/ ثم هذا الجزء 4 : 286

(4/371)


وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ (222)

القول في تأويل قوله تعالى : { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى }
قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بقوله : " ويسألونك عن المحيض " ، ويسألك يا محمد أصحابك عن الحيض.
* * *
وقيل : " المحيض " ، لأن ما كان من الفعل ماضيه بفتح عين الفعل ، وكسرها في الاستقبال ، مثل قول القائل : " ضرَب يضرِب ، وحبَس يحبِس ، ونزل ينزل " ، فإن العرب تبني مصدره على " المفعَل " والاسم على " المفعِل " ، مثل " المضرَب ، والمضرِب " من " ضربتُ " ، " ونزلت منزلا ومنزلا " . ومسموع في ذوات الياء والألف والياء ، " المعيش والمعاش " و " المعيبُ والمعاب " ، كما قال رؤبة في المعيش :
إلَيْكَ أَشْكُو شِدَّةَ المَعيشِ... وَمَرَّ أَعْوَامٍ نَتَفْنَ رِيشِي (1)
* * *
وإنما كان القوم سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم - فيما ذُكر لنا - عن الحيض ، لأنهم كانوا قبل بيان الله لهم ما يتبينون من أمره ، لا يساكنون حائضًا في بيت ، ولا يؤاكلونهنَّ في إناء ولا يشاربونهن. فعرَّفهم الله بهذه الآية ، أنّ الذي عليهم في أيام حيض نسائهم : أن يجتنَّبوا جماعهن فقط ، دون ما عدا ذلك من
__________
(1) ديوانه : 78 ، من قصيدة يمدح فيها الحارث بن سليم الهجيمي ، وبين البيتين في الديوان : * دَهْرًا تَنَفَّى المُخَّ بِالتَّمْشِيشِ *
ورواية الديوان ، بعده : وَجَهْدَ أَعْوَامٍ بَرَيْنَ رِيشِي ... نَتْفَ الحُبَارى عَنْ قَرًى رَهِيشِ

(4/372)


مضاجعتهن ومؤاكلتهن ومشاربتهن ، كما : -
4231 - حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : " ويسألونك عن المحيض " حتى بلغ : " حتى يطهرن " فكان أهلُ الجاهلية لا تساكنهم حائضٌ في بيت ، ولا تؤاكلهم في إناءٍ ، فأنزل الله تعالى ذكره في ذلك ، فحرَّم فرْجها ما دامت حائضًا ، وأحل ما سوى ذلك : أن تصبغ لك رأسك ، وتؤاكلك من طعامك ، وأن تضاجعك في فراشك ، إذا كان عليها إزارٌ محتجزةً به دونك. (1)
4232 - حدثت عن عمار قال ، حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع مثله.
* * *
وقد قيل : إنهم سألوا عن ذلك ، لأنهم كانوا في أيام حيضهن يجتنبون إتيانهن في مخرج الدم ، ويأتونهنّ في أدبارهن ، فنهاهم الله عن أن يقربوهن في أيام حيضهن حتى يطهرن ، ثم أذن لهم - إذا تطهَّرن من حيضهن - في إتيانهن من حيث أمرَهم باعتزالهنَّ ، وحرم إتيانهن في أدبارهنَّ بكل حال.
* ذكر من قال ذلك :
4233 - حدثنا محمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب قال ، حدثنا عبد الواحد قال ، حدثنا خصيف قال ، حدثني مجاهد قال ، كانوا يجتنبون النساء في المحيض ويأتونهن في أدبارهن ، فسألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك ، فأنزل الله : " ويسألونك عن المحيض " إلى : " فإذا تطهرن فأتوهنّ من حيث أمركم الله " - في الفرج لا تعدوه. (2)
* * *
__________
(1) احتجز بالإزار : إذا شده على وسطه . والحجزة (بضم الحاء وسكون الجيم) : موضع شد الإزار ، ثم يسمى الإزار نفسه حجزة ، وجمعه حجز .
(2) في المطبوعة : " ولا تعدوه " ، والصواب في المخطوطة بحذف الواو .

(4/373)


وقيل : إن السائل الذي سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك كان ثابتَ بن الدَّحداح الأنصاري.
4234 - حدثني بذلك موسى بن هارون قال ، حدثنا عمرو بن حماد قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { قُلْ هُوَ أَذًى }
قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بذلك : قل لمن سألك من أصحابك يا محمد عن المحيض : " هو أذى " .
* * *
" والأذى " هو ما يؤذى به من مكروه فيه. وهو في هذا الموضع يسمى " أذى " لنتن ريحه وقذره ونجاسته ، وهو جامع لمعان شتى من خلال الأذى ، غير واحدة.
* * *
وقد اختلف أهل التأويل في البيان عن تأويل ذلك ، على تقارب معاني بعض ما قالوا فيه من بعض.
فقال بعضهم : قوله : " قل هو أذى " ، قل هو قَذَر.
* ذكر من قال ذلك :
4235 - حدثني موسى بن هارون قال ، حدثنا عمرو قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي قوله : " قل هو أذى " ، قال : أما " أذى " فقذرٌ.
4236 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : " قل هو أذى " ، قال : " قل هو أذى " ، قال : قذرٌ.
* * *

(4/374)


وقال آخرون : قل هو دمٌ.
* ذكر من قال ذلك :
4237 - حدثنا محمد بن بشار قال ، حدثنا مؤمل قال ، حدثنا سفيان ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : " ويسألونك عن المحيض قل هو أذى " ، قال : الأذى الدم.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ }
قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بقوله : " فاعتزلوا النساء في المحيض " ، فاعتزلوا جماع النساء ونكاحهن في محيضهنّ ، كما : -
4238 - حدثني علي بن داود قال ، حدثنا أبو صالح قال ، حدثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس قوله : " فاعتزلوا النساء في المحيض " ، يقول : اعتزلوا نكاحَ فُروجهنّ.
* * *
واختلف أهل العلم في الذي يجب على الرجل اعتزاله من الحائض.
فقال بعضهم : الواجبُ على الرجل ، اعتزالُ جميع بدنها أن يباشره بشيء من بدنه.
* ذكر من قال ذلك :
4239 - حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا حماد بن مسعدة قال ، حدثنا عوف ، عن محمد قال : قلت لعبيدة : ما يحلُّ لي من امرأتي إذا كانت حائضًا ؟ قال : الفراش واحد ، واللحاف شتى. (1)
__________
(1) الأثر : 4239 - في المطبوعة والمخطوطة : " اللحاف واحد والفراش شتى " . وهو باطل المعنى ، وسيأتي على الصواب من طريق آخر برقم : 4241 .

(4/375)


4240 - حدثني تميم بن المنتصر قال ، أخبرنا يزيد قال ، حدثنا محمد ، عن الزهري ، عن عروة ، عن ندبة مولاة آل عباس قالت : بعثتني ميمونة ابنة الحارث - أو : حفصة ابنة عمر - إلى امرأة عبد الله بن عباس ، وكانت بينهما قرابةٌ من قبل النساء ، فوجدت فراشَها معتزلا فراشَه ، فظنت أن ذلك عن الهجران ، فسألتها عن اعتزال فراشِه فراشَها ، فقالت : إنيّ طامث ، وإذا طمثت اعتزل فراشي. فرجعتُ فأخبرتُ بذلك ميمونة - أو حفصة - فردَّتني إلى ابن عباس ، تقول لك أمك : أرغبت عن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم! فوالله لقد كان النبي صلى الله عليه وسلم ينام مع المرأة من نسائه وإنها لحائض ، وما بينه وبينها إلا ثوبٌ ما يجاوز الركبتين. (1)
4241 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال ، حدثنا ابن علية ، عن أيوب وابن عون ، عن محمد قال : قلت لعبيدة : ما للرجل من امرأته إذا كانت حائضًا ؟ قال : الفراش واحد واللحاف شتى ، فإن لم يجد إلا أن يردَّ عليها من ثوبه ، ردَّ عليها منه.
* * *
__________
(1) الحديث : 4240 - يزيد : هو ابن هرون . محمد : هو ابن إسحاق . ندبد مولاة آل عباس : هي مولاة ميمونة بنت الحارث أم المؤمنين ، خالة ابن عباس . فلعلها نسبت هنا " مولاة آل عباس " للقرابة بين ابن عباس وميمونة . وهي ثقة ، ذكرها ابن حبان في الثقات ص : 359 ، ولكنه وهم إذ ذكر أنه يروي عنها الزهري ؛ والزهري روى عنها بالواسطة . وترجمها ابن سعد 8 : 364 . وذكرها ابن مندة وأبو نعيم في الصحابة .
واختلف في ضبط اسمها ، فقيل بضم النون أو فتحها مع سكون الدال ثم فتح الباء الموحدة . وقيل بدية " بضم الباء الموحدة ثم فتح الدال ثم فتح الياء التحتية المشددة .
والحديث رواه أحمد في المسند 6 : 332 (حلبي) عن يزيد بن هرون ، بهذا الإسناد ، نحوه ، مع بعض اختصار . وهو في روايته عن ميمونة جزمًا ، ليس فيه الشك بينها وبين حفصة . وهو الصواب ولعل الشك هنا من الطبري ، أو من شيخه تميم بن المنتصر .
ثم إن ابن إسحاق خطأ هنا في جعل الحديث " عن الزهري ، عن عروة " . ولعل الخطأ من يزيد بن هرون . والصواب أنه " عن الزهري ، عن حبيب مولى عروة ، عن ندبة " . وبذلك تضافرت الروايات في هذا الإسناد ، كما سيأتي . ويؤيده أن ابن سعد ذكر في ترجمتها أنها تروي عن عروة ، وروى بإسناده خبرًا عنها عن عروة بن الزبير .
و " حبيب مولى عروة " : هو حبيب الأعور ، مولى عروة بن الزبير . وهو تابعي ثقة ، قال ابن سعد : " مات قديمًا في آخر سلطان بني أمية " . وأخرج له مسلم في صحيحه .
والحديث رواه - على الصواب - البيهقي في السنن الكبرى 1 : 313 ، من طريق بشر بن شعيب بن أبي حمزة ، عن أبيه ، عن الزهري ، قال : " أخبرني حبيب مولى عروة بن الزبير ، أن ندبة مولاة ميمونة زوج النبي صلى الله عليه وسلم ، أخبرته أنها أرسلتها ميمونة إلى عبد الله بن عباس . . . " ، فذكره مطولا .
ثم إن الحديث معروف من هذا الوجه على الصواب ، مختصرًا بدون ذكر قصة ابن عباس .
فرواه أحمد في المسند 6 : 332 (حلبي) ، عن حجاج وأبي كامل ، عن الليث ، عن ابن شهاب عن حبيب مولى عروة ، ولم يذكر لفظه ، وأحاله على الرواية السابقة . ثم رواه بعد ذلك ، ص : 335 - 336 ، عن حجاج وأبي كامل ، بالإسناد نفسه . وذكر لفظه مختصرًا عن ميمونة ، دون القصة .
وكذلك رواه أبو داود : 267 ، وابن حبان في صحيحه 2 : 569 (مخطوطة الإحسان) . والبيهقي 1 : 313 - كلهم من طريق الليث بن سعد ، به . وكذلك رواه النسائي 1 : 54 - 55 ، 67 ، من طريق يونس والليث - كلاهما عن ابن شهاب ، به مختصرًا .
فعن هذه الروايات كلها استيقنت أن رواية ابن إسحاق - هنا وعند أحمد - " عن الزهري ، عن عروة " خطأ .

(4/376)


واعتل قائلو هذه المقالة : بأنّ الله تعالى ذكره أمر باعتزال النساء في حال حيضهنّ ، ولم يخصصن منهن شيئًا دون شيء ، وذلك عامٌّ على جميع أجسادهنّ ، واجبٌ اعتزالُ كل شيء من أبدانهن في حيضهنّ.
* * *
وقال آخرون : بل الذي أمر الله تعالى ذكره باعتزاله منهن ، موضع الأذى ، وذلك موضعُ مخرج الدم.
* ذكر من قال ذلك :
4242 - حدثنا حميد بن مسعدة قال ، حدثنا يزيد بن زريع قال ، حدثني عيينة بن عبد الرحمن بن جوشن قال ، حدثنا مروان الأصفر ، عن مسروق بن الأجدع قال : قلت لعائشة : ما يحل للرجل من امرأته إذا كانت حائضًا ؟ قالت : كل شيء إلا الجماع. (1)
__________
(1) الحديث : 4242 - مروان الأصفر ، أبو خلف : تابعي ثقة : و " الأصفر " : بالفاء ، ووقع في المطبوعة بالغين . وهو تحريف .
مسروق بن الأجدع الهمداني : تابعي كبير ثقة ، من سادات التابعين وفقهائهم .
وهذا الحديث نقله ابن كثير 1 : 510 عن هذا الموضع . وكذلك نقله السيوطي 1 : 260 ، ولم ينسباه لغير الطبري .
وهو عندنا حديث مرفوع بالمعنى ، وإن كان لفظه موقوفًا على عائشة . لأن الصحابي إذا حكى عما يحل ويحرم فالثقة به أن لا يحكي ذلك إلا عمن يؤخذ عنه الحلال والحرام ، وهو معلم الخير ، صلى الله عليه وسلم . وهذا عند الإطلاق ، إلا أن تدل دلائل على أنه يقول ذلك اجتهادًا واستنباطًا من دلائل الكتاب والسنة . وانظر الأحاديث التالية لهذا .

(4/377)


4243 - حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا سعيد بن زريع قال ، حدثنا سعيد وحدثنا ابن بشار قال ، حدثنا عبد الأعلى قال ، حدثنا سعيد عن قتادة قال : ذكر لنا عن عائشة أنها قالت : وأين كان ذو الفراشَين وذو اللحافين ؟! (1)
4244 - حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا عبد الأعلى قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة ، عن سالم بن أبي الجعد ، عن مسروق قال : قلت لعائشة : ما يحرم على الرجل من امرأته إذا كانت حائضًا ؟ قالت : فرجها. (2)
4245 - حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا عبد الوهاب قال ، حدثنا أيوب ، عن كتاب أبي قلابة : أنّ مسروقًا ركب إلى عائشة فقال : السلام على النبي وعلى أهل بيته. فقالت عائشة : أبو عائشة! مرحبًا! فأذنوا له فدخل ، فقال : إني أريد أن أسألك عن شيء وأنا أستحيي! فقالت : إنما أنا أمُّك ، وأنت ابني! فقال : ما للرجل من امرأته وهي حائض ؟ قالت له : كل شيء إلا فرجها. (3)
4246 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا ابن أبي زائدة قال ، حدثنا حجاج ، عن ميمون بن مهران ، عن عائشة قالت : له ما فوق الإزار. (4)
__________
(1) في المخطوطة : " وأينا كان . . . " .
(2) الحديث : 4244 - سالم ابن أبي الجعد : تابعي ثقة معروف ، أخرج له الأئمة الستة . وهذا الحديث في معنى الحديث السابق : 4242 ، من وجه آخر ، وبلفظ آخر . وإسناده صحيح .
(3) الحديث : 4245 - وهذا في معنى الحديثين السابقين ، مع تفصيل في قصة السؤال والجواب . وإسناده صحيح أيضًا .
(4) الحديث : 4246 - ابن أبي زائدة : هو يحيى بن زكريا بن أبي زائدة ، مضى في : 2338 . حجاج : هو ابن أرطأة .
وهذا في معنى ما قبله .

(4/378)


4247 - حدثني يعقوب قال ، حدثنا ابن علية قال ، أخبرنا أيوب ، عن نافع : أن عائشة قالت في مضاجعة الحائض : لا بأس بذلك إذا كان عليها إزار.
4248 - حدثني يعقوب قال ، حدثنا ابن علية ، عن أيوب ، عن أبي معشر قال : سألتُ عائشة : ما للرجل من امرأته إذا كانت حائضًا ؟ فقالت : كل شيء إلا الفرج. (1)
4249 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا ابن أبي زائدة ، عن محمد بن عمرو ، عن محمد بن إبراهيم بن الحارث قال ، قال ابن عباس : إذا جعلت الحائض على فرجها ثوبًا أو ما يكفُّ الأذى ، فلا بأس أن يباشر جلدُها زوجَها. (2)
4250 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا ابن إدريس قال ، حدثنا يزيد ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : أنه سئل : ما للرجل من امرأته إذا كانت حائضًا ؟ قال : ما فوق الإزار.
4251 - حدثنا يعقوب بن إبراهيم قال ، حدثنا هاشم بن القاسم قال ، حدثنا الحكم بن فضيل ، عن خالد الحذاء ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : اتق من الدم مثل موضع النعل. (3)
__________
(1) الحديث : 4248 - هكذا وقع هذا الإسناد هنا . وهو إسناد ناقص على اليقين . فإن " أبا معشر " : هو زياد بن كليب التميمي الحنظلي ، وهو يروي عن التابعين . وهو ثقة ، ولكنه لم يدرك عائشة ، فلا يمكن أن يقول : " سألت عائشة " .
وصواب الإسناد ، كما في المحلى لابن حزم 2 : 183 " روينا عن أيوب السختياني ، عن أبي معشر ، عن إبراهيم النخعي ، عن مسروق ، قال : سألت عائشة : ما يحل لي من امرأتي وهي حائض ؟ قالت : كل شيء إلا الفرج " . فسقط من الإسناد رجلان : إبراهيم النخعي ، ومسروق ، وهو الذي سأل عائشة . وهكذا ذكره ابن حزم ، فلم يذكر إسناده إلى أيوب .
وقد رواه الطحاوي في معاني الآثار 2 : 22 ، بإسناده ، من طريق عمرو بن خالد ، عن عبيد الله - وهو ابن عمرو الرقى الجزري - " عن أيوب ، عن أبي معشر ، عن إبراهيم ، عن مسروق ، عن عائشة " . ولم يذكر لفظه ، إحالة على رواية أخرى قبله ، بمعناه .
(2) الخبر : 4249 - هذا إسناد منقطع - محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي : تابعي ثقة معروف . ولكن روايته عن ابن عباس مرسلة ، كما صرح بذلك ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل 32/184 .
(3) الخبر : 4251 - الحكم بن فضيل ، أبو محمد الواسطي : ثقة ، وثقه ابن معين وغيره . مترجم في الكبير 1/2/337 ، وابن أبي حاتم 1/2/126 - 127 ، والتعجيل ، والميزان ، ولسان الميزان . وله ترجمة وافية في تاريخ بغداد 8 : 221 - 223 . والبخاري لم يذكر فيه حرجًا .
والخبر رواه البيهقي في السنن الكبرى 1 : 314 ، من طريق الحسن بن مكرم . عن أبي النضر هاشم بن القاسم ، بهذا الإسناد .

(4/379)


4252 - حدثني يعقوب قال ، حدثنا ابن علية قال ، أخبرنا أيوب ، عن عكرمة ، عن أم سلمة قالت في مضاجعة الحائض : لا بأس بذلك إذا كان على فرجها خرقة. (1)
4253 - حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا عبد الأعلى ، عن سعيد ، عن قتادة ، عن الحسن قال : للرجل من امرأته كل شيء ما خلا الفرج - يعني وهي حائض.
4254 - حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا ابن أبي عدي ، عن عوف ، عن الحسن قال : يبيتان في لحاف واحد - يعني الحائض - إذا كان على الفرج ثوب.
4255 - حدثنا تميم قال ، أخبرنا إسحاق ، عن شريك ، عن ليث قال : تذاكرنا عند مجاهد الرجل يلاعب امرأته وهي حائض ، قال : اطعن بذكرك حيث شئت فيما بين الفخذين والأليتين والسرة ، ما لم يكن في الدبر أو الحيض. (2)
4256 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا ابن أبي زائدة ، عن إسماعيل بن أبي خالد ، عن عامر قال : يباشر الرجل امرأته وهي حائض ؟ قال : إذا كفَّت الأذى.
4257 - حدثنا حميد بن مسعدة قال ، حدثنا يزيد بن زريع قال ، حدثني
__________
(1) الحديث : 4252 - هذا إسناد صحيح . وهو وإن كان موقوفًا على أم سلمة ، فإن معناه ثابت عنها مرفوعًا أيضًا :
فروى البيهقي 1 : 311 ، من طريق يزيد بن زريع ، " حدثنا خالد ، عن عكرمة ، عن أم سلمة : أنها كانت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في لحاف ، فأصابها الحيض ، فقال لها : قومي فاتزري ثم عودي " .
وثبت نحو معناه عن أم سلمة أيضًا ، بأطول من هذا ، من رواية أبي سلمة بن عبد الرحمن ، عن زينب بنت أبي سلمة ، عن أم سلمة ، مرفوعًا . رواه مسلم 1 : 95 ، والبيهقي 1 : 311 ، وذكر أنه أخرجه البخاري ومسلم .
(2) في المطبوعة : " حيثما شئت " ، وأثبت ما في المخطوطة .

(4/380)


عمران بن حدير قال ، سمعت عكرمة يقول ، كل شيء من الحائض لك حلال غير مجرى الدم.
* * *
قال أبو جعفر : وعلة قائل هذه المقالة ، قيامُ الحجة بالأخبار المتواترة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان يباشر نساءه وهن حُيَّض ، ولو كان الواجبُ اعتزالَ جميعهنّ ، لما فعل ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم . فلما صحّ ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، علم أن مراد الله تعالى ذكره بقوله : " فاعتزلوا النساءَ في المحيض " ، هو اعتزال بعض جسدها دون بعض. وإذا كان ذلك كذلك ، وجب أن يكون ذلك هو الجماع المجمع على تحريمه على الزوج في قُبُلها ، دون ما كان فيه اختلاف من جماعها في سائر بدنها.
* * *
وقال آخرون : بل الذي أمر الله تعالى ذكره باعتزاله منهنّ في حال حيضهن ، ما بين السرّة إلى الركبة ، وما فوق ذلك ودونه منها.
* ذكر من قال ذلك :
4258 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا ابن أبي زائدة ، عن ابن عون ، عن ابن سيرين ، عن شريح قال : له ما فوق السرة - وذكر الحائض.
4259 - حدثنا أبو كريب وأبو السائب قالا حدثنا ابن إدريس قال ، أخبرنا يزيد ، عن سعيد بن جبير قال : سئل ابن عباس عن الحائض : ما لزوجها منها ؟ فقال : ما فوق الإزار.
4260 - حدثني يعقوب قال ، حدثنا ابن علية ، عن أيوب وابن عون ، عن محمد قال : قال شريح : له ما فوق سُرَّتها.
4261 - حدثنا ابن المثنى قال ، حدثنا ابن أبي عديّ ، عن شعبة ، عن واقد

(4/381)


بن محمد بن زيد بن عبد الله بن عمر قال : سئل سعيد بن المسيب : ما للرجل من الحائض ؟ قال : ما فوق الإزار.
* * *
وعلة من قال هذه المقالة ، صحةُ الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بما : -
4262 - حدثني به ابن أبي الشوارب قال ، حدثنا عبد الواحد بن زياد قال ، حدثنا سليمان الشيباني وحدثني أبو السائب قال ، حدثنا حفص قال ، حدثنا الشيباني قال حدثنا عبد الله بن شداد بن الهاد قال ، سمعت ميمونة تقول : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يباشر امرأة من نسائه وهي حائض ، أمرها فأتزرت " .
4263 - حدثنا المثنى قال ، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي قال ، حدثنا سفيان ، عن الشيباني ، عن عبد الله بن شداد ، عن ميمونة : أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يباشرها وهي حائض فوق الإزار. (1)
4264 - حدثني سفيان بن وكيع قال ، حدثنا جرير ، عن منصور ، عن إبراهيم ، عن الأسود ، عن عائشة قالت : كانت إحدانا إذا كانت حائضًا ، أمرها فأتزرت بإزار ثم يباشرها.
4265 - حدثنا سفيان بن وكيع قال ، حدثنا المحاربي ، عن الشيباني ، عن عبد الرحمن بن الأسود ، عن أبيه ، عن عائشة قالت : كانت إحدانا إذا كانت حائضًا أمرَها النبي صلى الله عليه وسلم أن تأتزر ، ثم يباشرها. (2)
__________
(1) الحديثان : 4262 ، 4263 - حفص : هو ابن غياث ، الشيباني سليمان : هو أبو إسحاق الشيباني سليمان بن أبي سليمان . وسفيان في الحديث الثاني : هو الثوري .
والحديثان في معنى واحد . وقد ذكره ابن كثير 1 : 511 ، بلفظ أولهما عن الصحيحين ، وكذلك ذكره السيوطي 1 : 259 ، وزاد نسبته لابن أبي شيبة . وأبي داود ، والبيهقي . وانظر البخاري 1 : 64 ، ومسلم 1 : 95 ، والسنن الكبرى 1 : 311 .
(2) الحديثان : 4264 ، 4265 - هما حديث واحد بإسنادين . وذكره السيوطي 1 : 259 ، عن ابن أبي شيبة ، والصحيحين ، وأبي داود ، وابن ماجه ، بزيادة في آخره . وانظر البخاري 1 : 63 . ومسلم 1 : 95 ، وأبا داود : 112 ، 113 ، والنسائي 1 : 54 ، 67 ، والبيهقي 1 : 310 - 311 .

(4/382)


ونظائر ذلك من الأخبار التي يطول باستيعاب ذكر جميعها الكتاب (1)
قالوا : فما فعل النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك فجائز ، وهو مباشرة الحائض ما دون الإزار وفوقه ، وذلك دون الركبة وفوق السرة ، وما عدا ذلك من جسد الحائض فواجبٌ اعتزالُه ، لعموم الآية.
* * *
قال أبو جعفر : وأولى الأقوال في ذلك بالصواب ، قول من قال : إن للرجل من امرأته الحائض ما فوق المؤتَزَر ودونه ، لما ذكرنا من العلة لهم. (2)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ }
قال أبو جعفر : اختلفت القرأة في قراءة ذلك. (3) فقرأه بعضهم : " حتى يطهرن " بضم " الهاء " وتخفيفها. وقرأه آخرون بتشديد " الهاء " وفتحها.
وأما الذين قرءوه بتخفيف " الهاء " وضمها ، فإنهم وجهوا معناه إلى : ولا تقربوا النساء في حال حيضهنّ حتى ينقطع عنهن دم الحيض ويَطهُرن. وقال بهذا التأويل جماعة من أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
4266 - حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا ابن مهدي ومؤمل قالا حدثنا سفيان ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : " ولا تقربوهن حتى يطهرن " ، قال : انقطاع الدم.
__________
(1) في المخطوطة : " جميع ذكرها " ، والصواب ما في المطبوعة .
(2) في المخطوطة إسقاط قوله : " لهم " .
(3) في المطبوعة : " اختلف القراء " ، وقد مضى مثل ذلك مرارًا ، وتركناه في بعض المواضع كما هو في المطبوعة . ولكنا سنقيمه منذ الآن على المخطوطة دون الإشارة إليه بعد هذا الموضع إلى آخر الكتاب ، إن شاء الله .

(4/383)


4267 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم ، عن سفيان ، - أو عثمان بن الأسود - : " ولا تقربوهن حتى يطهرن " ، حتى ينقطع الدم عنهن.
4268 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا يحيى بن واضح قال ، حدثنا عبيد الله العتكي ، عن عكرمة في قوله : " ولا تقربوهن حتى يطهرن " ، قال : حتى ينقطع الدم. (1)
* * *
وأما الذين قرءوا ذلك بتشديد " الهاء " وفتحها ، فإنهم عنوا به : حتى يغتسلن بالماء. وشددوا " الطاء " لأنهم قالوا : معنى الكلمة : حتى يتطهَّرْنَ ، أدغمت " التاء " في " الطاء " لتقارب مخرجيهما.
* * *
قال أبو جعفر : وأولى القراءتين بالصواب في ذلك قراءة من قرأ : ( حَتَّى يَطَّهَّرْنَ ) بتشديدها وفتحها ، بمعنى : حتى يغتسلن - لإجماع الجميع على أن حرامًا على الرجل أن يقرَب امرأته بعد انقطاع دم حيضها حتى تطهر.
* * *
وإنما اختُلف في " التطهر " الذي عناه الله تعالى ذكره ، فأحل له جماعها.
فقال بعضهم : هو الاغتسال بالماء ، لا يحل لزوجها أن يقربها حتى تغسل جميع بدنها. (2)
وقال بعضهم : هو الوضوء للصلاة.
وقال آخرون : بل هو غسل الفرج ، فإذا غسلت فرجها ، فذلك تطهرها الذي يحلّ به لزوجها غشيانُها.
* * *
__________
(1) الأثر : 4268 - " عبيد الله العتكي " هو عبيد الله بن عبد الله أبو المنيب العتكي ، رأى أنسًا ، وروى عن عكرمة وسعيد بن جبير وغيرهما من التابعين .
(2) في المطبوعة : " ولا يحل . . . " بزيادة الواو .

(4/384)


فإذا كان إجماعٌ من الجميع أنها لا تحلُّ لزوجها بانقطاع الدم حتى تطَّهر ، كان بيِّنًا أن أولى القراءتين بالصواب أنفاهما للَّبس عن فهم سامعها. وذلك هو الذي اخترنا ، إذ كان في قراءة قارئها بتخفيف " الهاء " وضمها ، ما لا يؤمن معه اللبس على سامعها من الخطأ في تأويلها ، فيرى أن لزوج الحائض غشيانَها بعد انقطاع دم حيضها عنها ، (1) وقبل اغتسالها وتطهُّرها.
* * *
فتأويل الآية إذًا : ويسألونك عن المحيض قل هو أذى ، فاعتزلوا جماع نسائكم في وقت حيضهنّ ، ولا تقربوهن حتى يغتسلن فيتطهرن من حيضهن بعد انقطاعه.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ }
قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بقوله : " فإذا تطهَّرن فأتوهن " ، فإذا اغتسلن فتطهَّرن بالماء فجامعوهن.
* * *
فإن قال قائل : أففرض جماعهن حينئذ ؟
قيل : لا.
فإن قال : فما معنى قوله إذًا : " فأتوهن " ؟
قيل : ذلك إباحة ما كان منَع قبل ذلك من جماعهن ، وإطلاقٌ لما كان حَظَر في حال الحيض ، وذلك كقوله : ( وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا ) [ سورة المائدة : 2 ] ، وقوله : ( فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الأَرْضِ ) [ سورة الجمعة : 10 ] ، وما أشبه ذلك.
* * *
واختلف أهل التأويل في تأويل قوله : " فإذا تطهرن " .
فقال بعضهم : معنى ذلك ، فإذا اغتسلن.
* ذكر من قال ذلك :
__________
(1) في المطبوعة : " أن للزوج غشيانها " ، وأثبت ما في المخطوطة .

(4/385)


4269 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو صالح قال ، حدثني معاومة بن صالح ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : " فإذا تطهَّرن " يقول : فإذا طهُرت من الدم وتطهَّرت بالماء.
4270 - حدثنا محمد بن بشار قال ، حدثني ابن مهدي ومؤمل قالا حدثنا سفيان ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : " فإذا تطهرن " ، فإذا اغتسلن. (1)
4271 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا يحيى بن واضح قال ، حدثنا عبيد الله العتكي ، عن عكرمة في قوله : " فإذا تطهرن " ، يقول : اغتسلن.
4272 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم ، عن سفيان - أو عثمان بن الأسود : - " فإذا تطهرن " ، إذا اغتسلن.
4273 - حدثنا عمران بن موسى ، حدثنا عبد الوارث ، حدثنا عامر ، عن الحسن : في الحائض ترى الطهر ، قال : لا يغشاها زوجُها حتى تغتسل وتحلَّ لها الصلاة. (2)
4275 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال ، حدثنا هشيم ، عن مغيره ، عن إبراهيم : أنه كره أن يطأها حتى تغتسل - يعني المرأة إذا طهُرت.
* * *
وقال آخرون : معنى ذلك : فإذا تطهَّرن للصلاة.
* ذكر من قال ذلك :
4276 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال ، حدثنا هشيم قال ، أخبرنا ليث ، عن طاوس ومجاهد أنهما قالا إذا طهُرت المرأة من الدم فشاء زوجها أن يأمرَها
__________
(1) الأثر : 4270 - كان في المطبوعة : " محمد بن مهدي " ، وهو خطأ ، وزيادة فاسدة والصواب من المخطوطة . و " ابن مهدي " هو عبد الرحمن بن مهدي . الإمام العلم ، قال الشافعي : لا أعرف له نظيرًا في الدنيا . مات سنة 198 - مترجم في التهذيب وغيره .
(2) سقط من الترقيم : 4274

(4/386)


بالوضوء قبل أن تغتسل - إذا أدركه الشَّبَق فليُصب.
* * *
قال أبو جعفر : وأولى التأويلين بتأويل الآية ، قولُ من قال : معنى قوله : " فإذا تطهَّرن " ، فإذا اغتسلن ، لإجماع الجميع على أنها لا تصير بالوضوء بالماء طاهرًا الطُّهرَ الذي يحل لها به الصلاة. وإن القولَ لا يخلو في ذلك من أحد أمرين :
إما أن يكون معناه : فإذا تطهَّرن من النجاسة فأتوهن.
فإن كان ذلك معناه ، فقد ينبغي أن يكون متى انقطع عنها الدم فجائزٌ لزوجها جماعُها ، إذا لم تكن هنالك نجاسة ظاهرة. هذا ، إن كان قوله : " فإذا تطهَّرن " جائزًا استعماله في التطهُّر من النجاسة ، ولا أعلمه جائزًا إلا على استكراه الكلام.
أو يكون معناه : فإذا تطهَّرن للصلاة. وفي إجماع الجميع من الحجة على أنه غير جائز لزوجها غشيانها بانقطاع دم حيضها ، (1) إذا لم يكن هنالك نجاسة ، دون التطهر بالماء إذا كانت واجدته أدلُّ الدليل على أن معناه : فإذا تطهرن الطهرَ الذي يجزيهن به الصلاة.
وفي إجماع الجميع من الأمة على أن الصلاة لا تحل لها إلا بالاغتسال ، أوضح الدلالة على صحة ما قلنا : من أن غشيانها حرام إلا بعد الاغتسال ، وأن معنى قوله : " فإذا تطهرن " ، فإذا اغتسلن فصرن طواهرَ الطهرَ الذي يجزيهنّ به الصلاة.
* * *
__________
(1) في المخطوطة والمطبوعة : " في إجماع الجميع " بإسقاط الواو ، والسياق يوجبها ، وهذا سياقها ؛ " وفي إجماع الجميع . . . أدل الدليل . . . "

(4/387)


القول في تأويل قوله تعالى : { فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ }
قال أبو جعفر : اختلف أهل التأويل في تأويل قوله : " فأتوهن من حيث أمركم الله " .
فقال بعضهم : معنى ذلك : فأتوا نساءكم إذا تطهَّرن من الوجه الذي نهيتُكم عن إتيانهن منه في حال حيضهن ، وذلك : الفرجُ الذي أمر الله بترك جماعهن فيه في حال الحيض. (1)
* ذكر من قال ذلك :
4277 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال ، حدثنا ابن علية ، عن محمد بن إسحاق قال ، حدثني أبان بن صالح ، عن مجاهد قال ، قال ابن عباس في قوله : " فأتوهن من حيث أمركم الله " ، قال : من حيث أمركم أن تعتزلوهُنَّ.
4278 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو صالح قال ، حدثنا معاوية بن صالح ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قوله : " فأتوهن من حيث أمركم الله " ، يقول : في الفرج ، لا تعدوه إلى غيره ، فمن فعل شيئًا من ذلك فقد اعتدَى.
4279 - حدثني يعقوب قال ، حدثنا ابن علية قال ، حدثنا خالد الحذاء ، عن عكرمة في قوله : " فأتوهن من حيث أمركم الله " ، قال : من حيث أمركم أن تعتزلوا.
4280 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، حدثنا أبو صخر ، عن أبي معاوية البجلي ، عن سعيد بن جبير أنه قال : بينا أنا ومجاهد جالسان عند ابن عباس : أتاه رجلٌ فوقف على رأسه فقال : يا أبا العباس - أو : يا أبا الفضل - ألا تشفيني عن آية المحيض ؟ قال : بلى! فقرأ : " ويسألونك
__________
(1) " الإتيان " : كناية عن اسم " الجماع " وسيأتي تفسير ذلك في ص : 398

(4/388)


عن المحيض " حتى بلغ آخر الآية ، فقال ابن عباس : من حيث جاء الدم ، منْ ثَمَّ أمِرت أن تأتي. (1)
4281 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا ابن أبي زائدة ، عن عثمان ، عن مجاهد قال : دبُر المرأة مثله من الرجل ، ثم قرأ : " ويسألونك عن المحيض " إلى " فأتوهن من حيث أمركم الله " ، قال : من حيث أمركم أن تعتزلوهن. (2)
4282 - حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا مؤمل قال ، حدثنا سفيان ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : " فأتوهن من حيث أمركم الله " ، قال : أمِروا أن يأتوهن من حيث نُهوا عنه.
4283 - حدثنا ابن أبي الشوارب قال ، حدثنا عبد الواحد قال ، حدثنا خصيف قال ، حدثني مجاهد : " فأتوهن من حيث أمركم الله " ، في الفرج ، ولا تعْدوه.
4284 - حدثنا محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : " فأتوهن من حيث أمركم الله " ، يقول : إذا تطهرن فأتوهن من حيث نُهي عنه في المحيض.
4285 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم ، عن سفيان - أو : عثمان بن الأسود - : " فأتوهن من حيث أمركم الله " باعتزالهنّ منه.
4286 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : " فأتوهن من حيث أمركم الله " ، أي : من الوجه الذي يأتي منه المحيض ، طاهرًا غيرَ حائض ، ولا تعدوا ذلك إلى غيره.
__________
(1) في المطبوعة : " ثم أمرت " بحذف " من " ، وهو خطأ ، والصواب من المخطوطة ، ومما سيأتي رقم : 4325 . بمعنى : هناك . وسيأتي الخبر بتمامه في رقم : 4325 . وسنذكر فيه ترجمة رجاله .
(2) الأثر : 4281 - في المطبوعة : " عمرة عن مجاهد " ، وهو خطأ ، والصواب من المخطوطة . و " ابن أبي زائدة " ، هو يحيى بن زكريا ابن أبي زائدة . و " عثمان " ، هو عثمان بن الأسود مولى بني جمح ، وقد سلفت روايته عن مجاهد ، أقربها رقم : 2782 .

(4/389)


4287 - حدثنا محمد بن بشار قال ، حدثنا عبد الأعلى قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة في قوله : " فأتوهن من حيث أمركم الله " ، قال : طواهرَ من غير جماع ومن غير حيض ، من الوجه الذي يأتي [ منه ] المحيض ، ولا يتعدَّه إلى غيره قال سعيد : ولا أعلمه إلا عن ابن عباس. (1)
4288 - حدثت عن عمار قال ، حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع في قوله : " فإذا تطهرن فأتوهن من حيث أمركم الله " ، من حيث نُهِيتم عنه في المحيض وعن أبيه ، عن ليث ، عن مجاهد في قوله : " فإذا تطهَّرن فأتوهن من حيث أمركم الله " ، من حيث نُهيتهم عنه ، واتقوا الأدبار.
4289 - حدثنا محمد بن المثنى قال ، حدثنا ابن إدريس قال ، سمعت أبي ، عن يزيد بن الوليد ، عن إبراهيم في قوله : " فأتوهن من حيث أمركم الله " ، قال : في الفرج.
* * *
وقال آخرون : معناها : فأتوهن من الوجه الذي أمركم الله فيه أن تأتوهن منه. وذلك الوجه ، هو الطهر دون الحيض. فكان معنى قائل ذلك في الآية : فأتوهنّ من قُبْل طُهرهنّ لا من قُبْل حيضهن. (2)
* ذكر من قال ذلك :
4290 - حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ،
__________
(1) قوله : " طواهر " جمع امرأة " طاهر " ، وليس في كتب اللغة بل فيه " طاهرات " ولكنه جمع قياسي ، مثل حامل وحوامل ، وسيأتي في رقم : 4295 ، 4296 ، وسيأتي جمعها على " طهر " رقم 4298 ، 4300 . وفي المطبوعة : " ولا يتعدى إلى غيره " والصواب من المخطوطة .
(2) " قبل " (بضم فسكون) ، يقال : " كان ذلك في قبل الشتاء وقبل الصيف " ، أي في أوله وعند إقباله . وفي الحديث : " طلقوا النساء لقبل عدتهن " - ويروى : " في قبل طهرهن " أي في إقباله وأوله ، وحين يمكنها الدخول في العدة ، والشروع فيها ، فتكون لها محسوبة . وذلك في حالة الطهر . وكذلك قوله هنا : " من قبل الطهر " ، أي : في حال الطهر .

(4/390)


حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : " فأتوهن من حيث أمركم الله " ، يعني أن يأتيها طاهرًا غيرَ حائض.
4291 - حدثنا محمد بن بشار قال ، حدثنا أبو أحمد قال ، حدثنا سفيان ، عن منصور ، عن أبي رزين في قوله : " فأتوهن من حيث أمركم الله " ، قال : من قُبْل الطهر. (1)
4292 - حدثنا محمد بن بشار قال : حدثنا محمد بن يحيى قال ، حدثنا سفيان ، عن الأعمش ، عن أبي رزين بمثله.
4293 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا حكام ، عن عمرو ، عن منصور ، عن أبي رزين : " فأتوهن من حيث أمركم الله " ، يقول : ائتوهنّ من عند الطهر.
4294 - حدثني محمد بن عبيد المحاربي قال ، حدثنا علي بن هاشم ، عن الزبرقان ، عن أبي رزين : " فأتوهن من حيث أمركم الله " ، قال : من قُبْل الطهر ، ولا تأتوهن من قُبْل الحيضة. (2)
4295 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا يحيى بن واضح قال ، حدثنا عبيد الله العتكي ، عن عكرمة قوله : " فأتوهن من حيث أمركم الله " ، يقول : إذا اغتسلن فأتوهن من حيث أمركم الله. يقول : طواهر غير حُيَّض. (3)
4296 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : " فأتوهن من حيث أمركم الله " ، قال يقول : طواهر غيرَ حُيَّض. (4)
4297 - حدثني موسى بن هارون قال حدثنا عمرو بن حماد قال ، حدثنا
__________
(1) انظر ص 390 ، تعليق : 2 .
(2) في المطبوعة : " الحيض " وأثبتنا ما في المخطوطة .
(3) انظر ما سلف رقم : 4287 ، والتعليق عليه .
(4) انظر ما سلف رقم : 4287 ، والتعليق عليه .

(4/391)


أسباط ، عن السدي قوله : " من حيث أمركم الله " ، من الطهر.
4298 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن سلمة بن نبيط ، عن الضحاك : " فأتوهن " ، طُهَّرًا غير حيَّض. (1)
4299 - حدثت عن الحسين بن الفرج قال ، سمعت أبا معاذ قال ، حدثنا عبيد بن سليمان ، عن الضحاك قوله : " فأتوهن من حيث أمركم الله " ، قال : ائتوهن طاهرات غير حُيَّض.
4300 - حدثنا عمرو بن علي قال ، حدثنا وكيع قال ، حدثنا سلمة بن نبيط ، عن الضحاك : " فأتوهن من حيث أمركم الله " ، قال : طهَّرًا غير حيَّض في القُبُل. (2)
* * *
وقال آخرون : بلى معنى ذلك : فأتوا النساء من قِبل النكاح ، لا من قِبل الفُجور.
* ذكر من قال ذلك :
4301 - حدثنا عمرو بن علي قال ، حدثنا وكيع قال ، حدثنا إسماعيل الأزرق ، عن أبي عمر الأسدي ، عن ابن الحنفية : " فأتوهن من حيث أمركم الله " ، قال : من قِبل الحلال ، من قِبل التزويج.
* * *
قال أبو جعفر : وأولى الأقوال بالصواب في تأويل ذلك عندي قولُ من قال : معنى ذلك : فأتوهن من قُبْل طهرهن. وذلك أن كل أمر بمعنى ، فنهيٌ عن خلافه وضده. وكذلك النهي عن الشيء أمرٌ بضده وخلافه. فلو كان معنى قوله : " فأتوهن من حيث أمركم الله " ، فأتوهن من قِبل مخرج الدم الذي نهيتكم أن تأتوهن من قبله في حال حيضهن - لوجب أن يكون قوله : " ولا تقربوهن حتى يطهُرن " ،
__________
(1) قوله " طهر " ، جمع امرأة " طاهر " ، وهو جمع قياسي لم تذكره المعاجم كالذي سلف " طواهر " و " فاعل " الصفة ، إذا كانت فيه " تاء " ظاهرة ، مثل " ضاربة " - أو مقدرة مثل حائض فقياسه : " فواعل " ، و " فعل " (بضم الفاء وتشديد عينه وفتحها) .
(2) قوله " طهر " ، جمع امرأة " طاهر " ، وهو جمع قياسي لم تذكره المعاجم كالذي سلف " طواهر " و " فاعل " الصفة ، إذا كانت فيه " تاء " ظاهرة ، مثل " ضاربة " - أو مقدرة مثل حائض فقياسه : " فواعل " ، و " فعل " (بضم الفاء وتشديد عينه وفتحها) .

(4/392)


تأويله : ولا تقربوهن في مخرج الدم ، دون ما عدا ذلك من أماكن جسدها ، فيكون مطلقا في حال حيضها إتيانهن في أدبارهن.
وفي إجماع الجميع : على أن الله تعالى ذكره لم يُطْلِق في حال الحيض من إتيانهن في أدبارهن شيئًا حرَّمه في حال الطُّهر ، ولا حرِّم من ذلك في حال الطهر شيئًا أحله في حال الحيض ما يُعلم به فسادُ هذا القول.
وبعد ، فلو كان معنى ذلك على ما تأوَّله قائلو هذه المقالة ، لوجب أن يكون الكلام : فإذا تطهرن فأتوهن من حيث أمركم الله (1) حتى يكون معنى الكلام حينئذ على التأويل الذي تأوله ، ويكون ذلك أمرًا بإتيانهن في فروجهن. لأنّ الكلام المعروفَ إذا أريد ذلك ، أن يقال : " أتى فلان زَوجته من قِبَل فرجها " - ولا يقال : أتاها من فرجها - إلا أن يكون أتاها من قِبَل فرجها في مكان غير الفرج.
* * *
فإن قال لنا قائل : فإنَّ ذلك وإنْ كان كذلك ، فليس معنى الكلام : فأتوهن في فروجهن - وإنما معناه : فأتوهن من قِبَل قُبُلهن في فروجهن - ، كما يقال : " أتيتُ هذا الأمرَ من مَأتاه " .
قيل له : إن كان ذلك كذلك ، فلا شك أن مأتى الأمر ووجهه غيره ، وأن ذلك مطلبه. فإن كان ذلك على ما زعمتم ، فقد يجب أن يكون معنى قوله : " فأتوهن من حيث أمركم الله " ، غير الذي زعمتم أنه معناه بقولكم : ائتوهن من قبل مخرج الدم ، ومن حيث أمِرتم باعتزالهن - ولكن الواجبُ أن يكون تأويلُه على ذلك : فأتوهن من قبل وُجوههنّ في أقبالهن ، كما كان قول القائل : " ائت الأمر من مأتاه " ، إنما معناه : اطلبه من مطلبه ، ومطلبُ الأمر غيرُ الأمر المطلوب.
__________
(1) في المخطوطة والمطبوعة : " من حيث أمركم الله " ، وهو نص الآية ، ولكنه أراد " في حيث " ، كما يدل عليه سائر كلامه ، فلذلك أثبتها على الصواب إن شاء الله .
وانظر ما يؤيد ذلك أيضًا في معاني القرآن للفراء 1 : 143 .

(4/393)


فكذلك يجب أن يكون مأتى الفرج - الذي أمر الله في قولهم بإتيانه - غير الفرج. (1)
وإذا كان كذلك ، وكان معنى الكلام عندهم : فأتوهن من قبل وجوههن في فروجهن - وجب أن يكون على قولهم محرَّمًا إتيانهن في فروجهن من قِبل أدبارهن. وذلك إن قالوه ، خرج من قاله من قِيل أهل الإسلام ، وخالف نص كتاب الله تعالى ذكره ، وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم . وذلك أن الله يقول : ( نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ ) ، وأذن رسولُ الله صلى الله عليه وسلم في إتيانهن في فروجهن من قبل أدبارهن.
فقد تبين إذًا إذْ كان الأمر على ما وصفنا ، فسادُ تأويل من قال ذلك : فأتوهن في فروجهن حيث نهيتكم عن إتيانهنّ في حال حيضهن وصحةُ القول الذي قلناه ، وهو أن معناه : فأتوهن في فروجهنّ من الوجه الذي أذن الله لكم بإتيانهن ، وذلك حال طهْرهن وتطهُّرهن ، دون حال حيضهن.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ (222) }
قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بقوله : " إن الله يحب التوابين " ، المنيبين من الإدبار عن الله وعن طاعته ، إليه وإلى طاعته. وقد بينا معنى " التوبة " قبل. (2)
* * *
واختلف في معنى قوله : " ويحب المتطهِّرين " .
فقال بعضهم : هم المتطهِّرون بالماء.
* ذكر من قال ذلك :
__________
(1) في المخطوطة : " فكذلك يجب مأتى الفرج " ، وفي المطبوعة : " فكذلك يجب أن مأتى الفرج " والذي أثبته أشبه بالسياق وبالصواب .
(2) انظر ما سلف 1 : 547/ 2 : 72 - 73/ 3 : 81 ، 259 - 261 .

(4/394)


4302 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا يحيى بن واضح قال ، حدثنا طلحة ، عن عطاء قوله : " إن الله يحب التوابين " ، قال : التوابين من الذنوب " ويحب المتطهرين " قال : المتطهرين بالماء للصلاة.
4303 - حدثني أحمد بن حازم قال ، حدثنا أبو نعيم قال ، حدثنا طلحة ، عن عطاء ، مثله.
4304 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا وكيع ، عن طلحة بن عمرو ، عن عطاء : " إن الله يحب التوابين " من الذنوب ، لم يصيبوها " ويحب المتطهرين " ، بالماء للصلوات. (1)
* * *
وقال آخرون : معنى ذلك : " إن الله يحب التوابين " ، من الذنوب " ويحب المتطهرين " ، من أدبار النساء أن يأتوها.
* ذكر من قال ذلك :
4305 - حدثنا أحمد بن حازم قال ، حدثنا أبو نعيم قال ، حدثنا إبراهيم بن نافع قال ، سمعت سليمان مولى أم علي قال ، سمعت مجاهدًا يقول : من أتى امرأته في دبرها فليس من المتطهرين. (2)
* * *
وقال آخرون : معنى ذلك : " ويحب المتطهرين " ، من الذنوب أن يعودوا فيها بعد التوبة منها.
* ذكر من قال ذلك :
__________
(1) في المطبوعة : " للصلاة " ، وأثبت ما في المخطوطة .
(2) الأثر : 4305 - " إبراهيم بن نافع " المخزومي المكي ، روى عن ابن أبي نجيح ، وكثير بن كثير ، وعطاء بن أبي رباح ، وعدة . روى عنه أبو عامر العقدي وأبو نعيم وغيرهما . كان حافظًا ، وكا أوثق شيخ بمكة ، وهو ثقة ، وكان أحمد يطريه . و " سليمان مولى أم علي " ، هو سليم المكي ، أبو عبد الله ، روى عن مجاهد . وعنه إبراهيم بن نافع وابن جريج وجماعة ، صدوق من كبار أصحاب مجاهد . وكلاهما مترجم في التهذيب .

(4/395)


4306 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد : " يحب التوابين " ، من الذنوب ، لم يصيبوها " ويحب المتطهرين " ، من الذنوب ، لا يعودون فيها.
* * *
قال أبو جعفر : وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قولُ من قال : " إنّ الله يحب التوابين من الذنوب ، ويحب المتطهرين بالماء للصلاة " . لأن ذلك هو الأغلب من ظاهر معانيه.
وذلك أن الله تعالى ذكره ذكر أمرَ المحيض ، فنهاهم عن أمور كانوا يفعلونها في جاهليتهم : من تركهم مساكنة الحائض ومؤاكلتها ومشاربتها ، وأشياء غير ذلك مما كان تعالى ذكره يكرهها من عباده. فلما استفتى أصحابُ رسولِ الله رسولَ الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك ، (1) أوحى الله تعالى إليه في ذلك ، فبيَّن لهم ما يكرهه مما يرضاه ويحبه ، وأخبرهم أنه يحب من خلقه من أناب إلى رضاه ومحبته ، تائبًا مما يكرهه.
وكان مما بيَّن لهم من ذلك ، (2) أنه قد حرّم عليهم إتيان نسائهم وإن طهُرن من حيضهن حتى يغتسلن ، ثم قال : ولا تقربوهن حتى يطهُرن ، فإذا تطهَّرن فأتوهن ، فإن الله يحب المتطهرين يعني بذلك : المتطهرين من الجنابة والأحداث للصلاة ، والمتطهرات بالماء - من الحيض والنفاس والجنابة والأحداث - من النساء.
* * *
وإنما قال : " ويحب المتطهرين " - ولم يقل " المتطهرات " - وإنما جرى قبل ذلك ذكرُ التطهر للنساء ، لأن ذلك بذكر " المتطهرين " يجمع الرجال والنساء. ولو ذكر ذلك بذكر " المتطهرات " ، لم يكن للرجال في ذلك حظ ، وكان للنساء خاصة. فذكر الله تعالى ذكره بالذكر العام جميعَ عباده المكلفين ، إذ كان قد
__________
(1) في المطبوعة : " أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك " بإسقاط " رسول الله " الثانية وأثبت الصواب من المخطوطة .
(2) في المخطوطة والمطبوعة : " مع ذلك " ، والذي أثبته هو الصواب الحق .

(4/396)


نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلَاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (223)

تعبَّد جميعَهم بالتطهر بالماء ، وإن اختلفت الأسباب التي توجب التطهر عليهم بالماء في بعض المعاني ، واتفقت في بعض.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ }
قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بذلك : نساؤكم مُزدَرَعُ أولادكم ، فأتوا مُزدرعكم كيف شئتم ، وأين شئتم.
* * *
وإنما عني بـ " الحرث " المزدَرَع ، و " الحرث " هو الزرع ، (1) ولكنهن لما كن من أسباب الحرث ، جعلن " حرثًا " ، إذ كان مفهومًا معنى الكلام.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
4307 - حدثنا محمد بن عبيد المحاربي قال حدثنا ابن المبارك ، عن يونس ، عن عكرمة ، عن ابن عباس : " فأتوا حرثكم " ، قال : منبت الولد.
4308 - حدثني موسى قال ، حدثنا عمرو قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : " نساؤكم حرث لكم " ، أما " الحرث " ، فهي مَزْرَعة يحرث فيها.
* * *
__________
(1) انظر معنى " الحرث " فيما سلف من هذا الجزء 4 : 239 ، 240 . هذا ، وقد كان في المطبوعة : " وإنما عني بالحرث وهو الزرع المحترث والمزدرع " ، وليست بشيء - وكان في المخطوطة مضطربًا ، فلذلك اضطربت المطبوعة . كان هكذا : " وإنما عنى بالزرع ، وهو الحرث المزرع والمزدرع " ، وضرب على " بالزرع " وكتب " بالحرث " ثم وضع فوق " الحرث والمزدرع " ميمًا على كل كلمة من الكلمتين ، يريد بذلك تقديم هذه على هذه ، ولكن بقيت الجملة فاسدة أشد فساد ، ولم يستطع الناسخ أو طابع المطبوعة أن يرده إلى سياق صحيح ، فرددته إلى السياق الصحيح إن شاء الله .

(4/397)


القول في تأويل قوله تعالى : { فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ }
قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بذلك : فانكحوا مزدرَع أولادكم من حيث شئتم من وجوه المأتى.
* * *
و " الإتيان " في هذا الموضع ، كناية عن اسم الجماع. (1)
* * *
واختلف أهل التأويل في معنى قوله : " أنى شئتم " .
فقال بعضهم : معنى " أنَّى " ، كيف.
* ذكر من قال ذلك :
4309 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا ابن عطية قال ، حدثنا شريك ، عن عطاء ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : " فأتوا حرثكم أنّى شئتم " ، قال : يأتيها كيف شاء ، ما لم يكن يأتيها في دبرها أو في الحيض.
4310 - حدثنا أحمد بن إسحاق قال ، حدثنا أبو أحمد قال ، حدثنا شريك ، عن عطاء ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قوله : " نساؤكم حرثٌ لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم " ، قال : ائتها أنى شئت ، مقبلةً ومدبرةً ، ما لم تأتها في الدُّبر والمحيض.
4311 - حدثنا علي بن داود قال ، حدثنا أبو صالح قال ، حدثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس قوله : " فأتوا حرثكم أنى شئتم " ، يعني بالحرث الفرجَ. يقول : تأتيه كيف شئت ، مستقبلهُ ومستدبرهُ (2) وعلى أيّ ذلك أردت ، بعد أن لا تجاوز الفرج إلى غيره ، وهو قوله : " فأتوهن من حيث أمركم الله " .
__________
(1) انظر ما مضى قريبًا ص : 388 والتعليق : 1
(2) الأثر : 4311 - في سنن البيهقي 8 : 196 ، وفيها وفي المطبوعة : " مستقبلة ومستدبرة " . وأثبت ما في المخطوطة ، فهو جيد .

(4/398)


4312 - حدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي قال ، حدثنا أبو أحمد قال ، حدثنا شريك ، عن عبد الكريم ، عن عكرمة : " فأتوا حرثكم أنّى شئتم " ، قال : يأتيها كيف شاء ، ما لم يعمل عمل قوم لوط.
4313 - حدثنا أحمد بن إسحاق قال ، حدثنا أبو أحمد قال ، حدثنا الحسن بن صالح ، عن ليث ، عن مجاهد : " فأتوا حرثكم أنى شئتم " ، قال : يأتيها كيف شاء ، واتَّق الدبر والحيض.
4314 - حدثني عبيد الله بن سعد قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي قال ، حدثني يزيد : أن ابن كعب كان يقول : إنما قوله : " فأتوا حرثكم أنى شئتم " ، يقول : ائتها مضجعةً وقائمة ومنحرفةً ومقبلةً ومدبرةً كيف شئت ، إذا كان في قُبُلها. (1)
__________
(1) الأثر : 4314 - كان هذا الإسناد في المطبوعة : حدثني عبيد الله بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي ، قال ، حدثني أبي ، عن أبيه قال ، حدثني يزيد . . " ، والصواب إسناد المخطوطة الذي أثبته كما سترى . ولكن يظهر أن الناسخ أو الطابع خلط بين هذا الإسناد الذي أثبتناه والإسناد الآخر الكثير الدوران في التفسير ، وهو : " حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي عن أبيه ، عن جده ، عن ابن عباس " وقد مضى الكلام في هذا الإسناد برقم : 305 .
أما إسنادنا هذا ، فإن " عبيد الله بن سعد " فهو : عبيد الله بن سعد بن إبراهيم بن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف الزهري ، أبو الفضل البغدادي " روى عن أبيه وعمه يعقوب بن إبراهيم وغيرهما ، وعنه البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي وغيرهما . قال ابن أبي حاتم : " كتبت عنه مع أبي وهو صدوق " مات سنة 260 .
أما عمه ، فهو يعقوب بن إبراهيم بن سعد الزهري ، أبو إسحاق المدني ، نزيل بغداد . روى عن أبيه وشعبة ، وابن أخي الزهري والليث . وعنه ابن أخيه عبيد الله بن سعد ، وأحمد وإسحاق وابن معين . كان ثقة مأمونًا ، كتب عنه الناس علما جليلا . مات سنة 208 .
وأما أبوه ، فهو إبراهيم بن سعد الزهري ، وأبو إسحاق المدني ، نزيل بغداد . روى عن أبيه وعن الزهري وهشام بن عروة ومحمد بن إسحاق وشعبة ويزيد بن الهاد . روى عنه ابناه يعقوب وسعد وأبو داود والطيالسي وغيرهم .
قال أحمد : ثقة ، أحاديثه مستقيمة . مات سنة 183 .
وأما " يزيد " ، فهو يزيد بن عبد الله بن أسامة بن الهاد الليثي . روى عن جماعة كثيرة ، منهم محمد بن كعب القرظي ، وروى عنه شيخه ، يحيى بن سعد الأنصاري وإبراهيم بن سعد والليث بن سعد . ذكره ابن حبان في الثقات ، وكان كثير الحديث . مات سنة 139 . وأما " ابن كعب " ، فهو " محمد بن كعب القرظي " ، فهو تابعي ، مضت ترجمته .
وسيأتي هذا الإسناد نفسه على الصواب ، مع خطأ فيه برقم : 4321 .

(4/399)


4315 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال ، حدثنا هشيم قال ، أخبرنا حصين ، عن مرة الهمداني قال : سمعته يحدث أن رجلا من اليهود لقي رجلا من المسلمين فقال له : أيأتي أحدكم أهلهُ باركًا ؟ قال : نعم. قال : فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : فنزلت هذه الآية : " نساؤكم حرثٌ لكم فأتوا حرثكم أنّى شئتم " ، يقول : كيف شاء ، بعد أن يكون في الفرج.
4316 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : " نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم " ، إن شئت قائمًا أو قاعدًا أو على جنب ، إذا كان يأتيها من الوجه الذي يأتي منه المحيضُ ، ولا يتعدَّى ذلك إلى غيره.
4317 - حدثنا موسى بن هارون قال ، حدثنا عمرو بن حماد قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : " فأتوا حرثكم أنّى شئتم " ، ائت حرثك كيف شئتَ من قُبُلها ، ولا تأتيها في دبرها. " أنى شئتم " ، قال : كيف شئتم.
4318 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، أخبرنا عمرو بن الحارث ، عن سعيد بن أبي هلال : أن عبد الله بن علي حدثه : أنه بلغه أن ناسًا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم جلسوا يومًا ورجل من اليهود قريبٌ منهم ، فجعل بعضهم يقول : إنيّ لآتي امرأتي وهي مضطجعة. ويقول الآخر : إني لآتيها وهي قائمة. ويقول الآخر : إني لآتيها على جنبها وباركةً. فقال اليهودي : ما أنتم إلا أمثال البهائم ! ولكنا إنما نأتيها على هيئة واحدة ! فأنزل الله تعالى ذكره : " نساؤكم حرثٌ لكم " ، فهو القُبُل. (1)
* * *
وقال آخرون : معنى : " أنى شئتم " ، من حيث شئتم ، وأي وجه أحببتم.
* ذكر من قال ذلك :
__________
(1) الأثر : 4318 - هو عبد الله بن علي بن السائب بن عبيد القرشي المطلبي ، روى عن عثمان بن عفان ، وحصين بن محصن الأنصاري وعمرو بن أحيحة بن الجلاح ، وعنه سعيد بن أبي هلال . مترجم في التهذيب .

(4/400)


4319 - حدثنا سهل بن موسى الرازي قال ، حدثنا ابن أبي فديك ، عن إبراهيم بن إسماعيل بن أبي حبيبة الأشهل ، عن داود بن الحصين ، عن عكرمة ، عن ابن عباس : أنه كان يكره أن تُؤتى المرأة في دبرها ، ويقول : إنما الحرث من القُبُل الذي يكون منه النسل والحيض وينهى عن إتيان المرأة في دُبُرها ويقول : إنما نزلت هذه الآية : " نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم " ، يقول : من أيّ وجه شئتم. (1)
4320 - حدثنا ابن حميد قال حدثنا ابن واضح قال ، حدثنا العتكي ، عن عكرمة : " فأتوا حرثكم أنى شئتم " ، قال : ظهرها لبطنها غير مُعاجَزة - يعني الدبر. (2)
4321 - حدثنا عبيد الله بن سعد قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي ،
__________
(1) الأثر : 4319 - مضى في رقم : 180 " موسى بن سهل الرازي " ، هكذا جاء في المطبوعة ولكنه في المخطوطة " سهل بن موسى الرازي " ، فرجح أخي السيد أحمد أنه خطأ من الناسخ ، وأنه لم يجد له ترجمة . ولكن أبا جعفر الطبري قد روى عنه في مواضع من تاريخه : " سهل بن موسى الرازي " ، وهكذا هو في المخطوطة هناك ، وجاء هنا على ذلك في المخطوطة والمطبوعة . فالصواب أن يكون في رقم : 180 " سهل بن موسى الرازي " ، كما في المخطوطة هناك .
و " سهل بن موسى الرازي " ، لم يترجم بهذا الاسم في الكتب ، ولكني رأيت الطبري يروي عنه في التاريخ 1 : 169 : " حدثنا سهل بن موسى الرازي قال ، حدثنا ابن أبي فديك . . . " ، فالذي في التاريخ يؤيد ما في التفسير . ثم روى عنه في التاريخ 2 : 214 " حدثنا سهل بن موسى الرازي قال ، حدثنا عبد الرحمن بن مغراء . . . " ، فرأيت في ترجمة " عبد الرحمن بن مغراء " في التهذيب أنه يروي عنه " سهل بن زنجلة " . و " سهل بن زنجلة " هو : سهل بن أبي سهل الرازي " ، روى عن جماعة كثيرة منهم يحيى بن سعيد القطان وسفيان بن عيينة وعبد الرحمن ابن مغراء " وروى عنه ابن ماجه فأكثر ، وأبو حاتم ، وقد بغداد سنة 231 . وترجم له الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد 9 : 116 - 118 ، ولم يذكروا تاريخ وفاته . فأخشى أن يكون " سهل بن أبي سهل الرازي " ، هو " سهل بن موسى الرازي " نفسه - لم يعرفوا اسم أبيه " موسى " ، وعرفه الطبري ، لأنه من ناحية بلاده ، وأرجو أن يأتي بعد في أسانيد أبي جعفر ما يكشف عن الحق في ذلك .
وأما " ابن أبي فديك " ، هو : محمد بن إسماعيل بن مسلم بن أبي فديك الديلي مولاهم . مترجم في التهذيب ، وذكره ابن حبان في الثقات . مات سنة 200 .
(2) الأثر : 4320 - هو الإسناد السالف رقم : 4295 .

(4/401)


عن يزيد ، [ عن الحارث بن كعب ] ، عن محمد بن كعب ، قال : إن ابن عباس كان يقول : اسق نباتك من حيث نباته. (1)
4322 - حدثت عن عمار قال ، حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع قوله : " فأتوا حرثكم أنّى شئتم " ، يقول : من أين شئتم. ذكر لنا - والله أعلم - أن اليهود قالوا : إن العرب يأتون النساء من قِبَل إعجازهن ، فإذا فعلوا ذلك ، جاء الولد أحول ، فأكذب الله أحدوثتهم فقال : " نساؤكم حرثٌ لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم " .
4323 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثنا حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد قال يقول : ائتوا النساء في [غير] أدبارهن على كل نحو (2) قال ابن جريج : سمعت عطاء بن أبي رباح قال : تذاكرنا هذا عند ابن عباس ، فقال ابن عباس : ائتوهن من حيث شئتم ، مُقبلة ومدبرةً. فقال رجل : كأنَّ هذا حلالٌ! (3) فأنكر عطاء أن يكون هذا هكذا ، وأنكره ، كأنه إنما يريد الفرج ، مقبلةً ومدبرة في الفرج.
* * *
وقال آخرون معنى قوله : " أنى شئتم " ، متى شئتم.
* ذكر من قال ذلك :
__________
(1) الأثر : 4321 - قد سلف هذا الإسناد برقم : 4314 ، ولكن وقع في المخطوطة هنا زيادة عن الحارث بن كعب - فوضعناها بين قوسين . ولم أجد في الرواة من يسمى " الحارث بن كعب " ، مع أنه تابعي قل أن يغفلوا مثله . فلذلك أخشى أن يكون خطأ أو سبق قلم من ناسخ ، ولعله كان " عن يزيد بن الهاد ، عن ابن كعب - وهو محمد بن كعب " فصحف الناسخ وحرف . وقد مضى الكلام في هذا الإسناد ، فراجعه هناك . وقد رواه البيهقي في السنن 1 : 196 من طريق " عبد العزيز بن محمد ، عن يزيد بن عبد الله بن أسامة بن الهاد ، عن محمد بن كعب ، عن ابن عباس " ، فهذا يؤيد ما رجحته من زيادة هذا الذي بين القوسين أو تصحيفه وتحريفه .
(2) في المطبوعة والمخطوطة : " ائتوا النساء في أدبارهن " ، وهو لا يستقيم أبدًا ، والزيادة بين القوسين لا بد منها للخروج من هذا الفساد . ومجاهد لا يقول بهذا ، بل الثابت في الرواية عند إنكاره وإكفار فاعله (ابن كثير 1 : 522) .
(3) في المطبوعة : " كان هذا حلالا " ، وهو خطأ ، صوابه في المخطوطة .

(4/402)


4324 - حدثت عن حسين بن الفرج قال ، سمعت أبا معاذ الفضل بن خالد قال ، أخبرنا عبيد بن سليمان قال ، سمعت الضحاك يقول في قوله : " فأتوا حرثكم أنى شئتم " ، يقول : مَتى شئتم.
4325 - حدثني يونس بن عبد الأعلى قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، حدثنا أبو صخر ، عن أبي معاوية البجلي - وهو عمار الدُّهني - ، عن سعيد بن جبير أنه قال : بينا أنا ومجاهد جالسان عند ابن عباس ، أتاه رجلٌ فوقف على رأسه فقال : يا أبا العباس - أو : يا أبا الفضل - ألا تشفيني عن آية المحيض ؟ (1) فقال : بلى! فقرأ : " ويسألونك عن المحيض " حتى بلغ آخر الآية ، فقال ابن عباس : من حيث جاء الدم ، من ثَمَّ أمرت أن تأتي. فقال له الرجل : يا أبا الفضل ، كيف بالآية التي تتبعها : " نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم " ؟ فقال : إي! ويحك! وفي الدُّبُر من حَرْث!! لو كان ما تقول حقًّا ، لكان المحيض منسوخًا! إذا اشتغل من ههنا ، جئتَ من ههنا! ولكن : أنى شئتم من الليل والنهار. (2)
* * *
وقال آخرون : بل معنى ذلك : أين شئتم ، وحيث شئتم.
* ذكر من قال ذلك :
4326 - حدثني يعقوب قال ، حدثنا هشيم قال ، أخبرنا ابن عون ، عن
__________
(1) في المطبوعة : " من آية المحيض " ، والصواب من المخطوطة ، ومما مضى رقم : 4280 .
(2) الأثر : 4325 - سلف صدره في رقم : 4280 ، كما أشرنا إليه هناك ، " أبو صخر " هو : حميد بن زياد الخراط المصري ، مترجم في التهذيب ، قال أحمد : " ليس به بأس " . مات سنة 189 . و " أبو معاوية البجلي " ، قد صرح الطبري هنا أنه : عمار بن معاوية الدهني . ذكره ابن حبان في الثقات ، مات سنة 133 ، وكلاهما مترجم في التهذيب .
هذا وفي المطبوعة والمخطوطة : " إي ويحك " ، (بكسر الهمزة وسكون الياء) بمعنى " نعم " حرف جواب ، يكون لتصديق المخبر ، ولإعلام المستخبر ، ولوعد الطالب ، فتقع بعد : " قام زيد - وهل قام زيد - واضرب زيدًا " ونحوهن ، كما تقع " نعم " بعدهن . وزعم ابن الحاجب أنها إنما تقع بعد الاستفهام ، ولا تقع عند الجميع إلا قبل القسم (شرح شواهد المغني لابن هشام) . وأنا أرجح أن تكون الكلمة محرفة ، وصوابه " أنى ويحك " (بفتح الهمزة وتشديد النون وفتحها) : أي : أين ذهبت - أو : كيف قلت - ويحك ؟

(4/403)


نافع قال ، كان ابن عمر إذا قرئ القرآن لم يتكلم. قال : فقرأت ذات يوم هذه الآية : " نساؤكم حرثٌ لكم ، فأتوا حرثكم أنى شئتم " ، فقال : أتدري فيمن نزلت هذه الآية ؟ قلت : لا! قال : نزلت في إتيان النساء في أدبارهن. (1)
4326 م - حدثني يعقوب ، حدثنا ابن علية ، حدثنا ابن عون ، عن نافع ، قال : قرأتُ ذاتَ يوم : " نساؤكم حرْثٌ لكم فائتوا حرثكم أنى شئتم " ، فقال ابن عمر : أتدري فيمَ نزلتْ
؟ قلتُ : لا ! قال : نزلتْ في إتيان النساء في أدْبارهنّ ) . (2)
4327 - حدثني إبراهيم بن عبد الله بن مسلم أبو مسلم قال ، حدثنا أبو عمر الضرير قال ، حدثنا إسماعيل بن إبراهيم صاحب الكرابيس ، عن ابن عون ، عن نافع قال : كنت أمسك على ابن عُمر المصحف ، إذ تلا هذه الآية : " نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم " ، فقال : أن يأتيها في دبرها. (3)
__________
(1) الحديث : 4326 - يعقوب : هو ابن إبراهيم الدورقي الحافظ . ابن علية : هو إسماعيل بن إبراهيم بن مقسم الأسدي .
وهذا الإسناد صحيح جدًا . وانظر التخريج في : 4327 .
(2) الحديث : 4326 مكرر - هذا الحديث زدناه من ابن كثير 1 : 516 - 517 ، حيث نقله عن الطبري بهذا النص ، إسنادًا ومتنًا . ويؤيد ثبوته في هذا الموضع ، أن الحافظ ابن حجر ذكره في الفتح 8 : 141 ، عن الطبري ، حيث ذكر رواية من مسند إسحاق بن راهويه وتفسيره ، ثم قال : " هكذا أورده ابن جرير ، من طريق إسماعيل بن علية ، عن ابن عون مثله ، ثم أشار إلى الحديث التالي لهذا : 4327 ، فقال : " ومن طريق إسماعيل بن إبراهيم الكرابيسي ، عن ابن عون ، نحوه " . وذكره الحافظ في التلخيص أيضًا ، ص : 307 ، قال : " وكذا رواه الطبري ، من طريق ابن علية ، عن ابن عون " . فثبت وجود هذا الحديث في تفسير الطبري ، وتعين موضعه في هذا الموضع واضحًا . والحمد لله .
(3) الحديث : 4327 - أبو عمر الضرير : هو حفص بن عمر الأكبر ، مضى في : 3562 ، ووقع هناك في المطبوعة " أبو عمرو " ، وبينا أنه خطأ . وقد ثبت فيها هنا على الصواب .
إسماعيل بن إبراهيم صاحب الكرابيس : ثقة . ترجمه البخاري في الكبير 1/1/342 ، فلم يذكر فيه حرجًا . وذكره ابن حبان في الثقات . وهو " صاحب الكرابيس " يعني الثياب . ولذلك يقال له " الكرابيسي " بالياء ، نسبة إلى بيعها . ووقع في المطبوعة ، (صاحب الكرابيسي) بلفظ النسبة مع كلمة " صاحب " . وهو خطأ .
وهذه الأحاديث الثلاثة صحيحة ثابتة عن ابن عمر . وهي حديث واحد بأسانيد ثلاثة . وسيأتي أيضًا نحو معناها : 4331 .
وقد روى البخاري 8 : 140 - 141 معناه عن نافع ، عن ابن عمر ، بثلاثة أسانيد . ولكنه كنى عن ذلك الفعل ولم يصرح بلفظه . وأطال الحافظ في الإشارة إلى كثير من أسانيده .
وذكره السيوطي 1 : 265 ، ونسبه لمن ذكرنا .
ونقل الحافظ في الفتح 8 : 141 ، عن ابن عبد البر ، قال : " ورواية ابن عمر لهذا المعنى صحيحة مشهورة من رواية نافع عنه " . ونحو هذا نقل السيوطي 1 : 266 عن ابن عبد البر .

(4/404)


4328 - حدثني عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الحكم قال ، حدثنا عبد الملك بن مسلمة قال ، حدثنا الدراوردي قال ، قيل لزيد بن أسلم : إن محمد بن المنكدر ينهى عن إتيان النساء في أدبارهن. فقال زيد : أشهد على محمد لأخبرني أنه يفعله. (1)
4329 - حدثني عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الحكم قال ، حدثنا أبو زيد عبد الرحمن بن أحمد بن أبي الغمر قال : حدثني عبد الرحمن بن القاسم ، عن مالك بن أنس أنه قيل له : يا أبا عبد الله ، إن الناس يروون عن سالم : " كذب العبد ، أو : العلجُ ، على أبي " ! فقال مالك : أشهد على يزيد بن رومان أنه أخبرني ، عن سالم بن عبد الله ، عن ابن عمر مثل ما قال نافع. فقيل له : فإنَّ الحارث بن يعقوب يروي عن أبي الحباب سعيد بن يسار : أنه سأل ابن عمر فقال له : يا أبا عبد الرحمن ، إنا نشتري الجواري فنُحمِّض لهن ؟ فقال : وما التحميض ؟ قال : الدُّبُر. فقال ابن عمر : أفْ ! أفْ ! يفعل ذلك مؤمن ! - أو قال : مسلم ! - فقال مالك : أشهد على ربيعة لأخبرني عن أبي الحباب ، عن ابن عمر ، مثل ما قال نافع. (2)
__________
(1) الخبر : 4328 - عبد الملك بن مسلمة المصري : روى عنه عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الحكم في كتاب فتوح مصر - كثيرًا . وهو ضعيف ، ترجمه ابن أبي حاتم 2/2/371 ، وذكر أن أباه روى عنه ، وأنه قال : " هو مضطرب الحديث ، ليس بقوي " ، وأنه حدثه بحديث موضوع ، وأن أبا زرعة قال : " ليس بالقوي ، هو منكر الحديث " . وله ترجمة في الميزان ولسان الميزان .
(2) الخبر : 4329 - أبو زيد عبد الرحمن بن أحمد بن أبي الغمر المصري الفقيه : مترجم في التهذيب ، وابن أبي حاتم 2/2/274 - 275 ، باسم " عبد الرحمن بن أبي الغمر " ، دون ذكر اسم أبيه " أحمد " . وهو من شيوخ البخاري ، روى عنه خارج الصحيح .
عبد الرحمن بن القاسم بن خالد ، الفقيه المصري ، راوي الفقه عن مالك ، ثقة مأمون ، من أوثق أصحاب مالك .
وهذا الخبر نقله ابن كثير 1 : 521 - 522 ، عن هذا الموضع . ولكن وقع فيه خطأ في اسم ابن أبي الغمر ، هكذا : " أبو زيد أحمد بن عبد الرحمن بن أحمد بن أبي الغمر " .
ونقله الحافظ في الفتح 8 : 142 ، والتلخيص ، ص : 308 ، مختصرًا ، ونسبه أيضًا للنسائي والطحاوي ، وقال في الفتح : " وأخرجه الدارقطني ، من طريق عبد الرحمن بن القاسم ، عن مالك . وقال : هذا محفوظ عن مالك صحيح " .
ونقله السيوطي 1 : 266 ، مطولا ، ونقل كلام الدارقطني .

(4/405)


4330 - حدثني محمد بن إسحاق قال ، أخبرنا عمرو بن طارق قال ، أخبرنا يحيى بن أيوب ، عن موسى بن أيوب الغافقي قال : قلت لأبي ماجد الزيادي : إنّ نافعًا يحدث عن ابن عمر في دُبر المرأة. فقال : كذب نافع! صحبت ابن عمر ونافعٌ مملوكٌ ، فسمعته يقول : ما نظرت إلى فرج امرأتي منذ كذا وكذا. (1)
4331 - حدثني أبو قلابة قال ، حدثنا عبد الصمد قال ، حدثني أبي ، عن أيوب ، عن نافع ، عن ابن عمر : " فأتوا حرثكم أنى شئتم " ، قال : في الدبر. (2)
__________
(1) الخبر : 4330 - عمرو بن طارق : هو عمرو بن الربيع بن طارق الهلالي المصري ، وهو ثقة . نسب هنا إلى جده . مترجم في التهذيب ، وابن أبي حاتم 3/1/233 . يحيى بن أيوب : هو الغافقي المصري . مضى في : 3877 .
موسى بن أيوب بن عامر الغافقي الهباري المصري : ثقة ، روى عنه الليث بن سعد ، وابن المبارك ، ووثقه ابن معين .
أبو ماجد الزيادي : تابعي ، ترجمه البخاري في الكنى ، رقم : 688 ، وابن أبي حاتم 4/2/455 ورويا عنه هذا الخبر ، بلفظين مختلفين ، مخالفين لما هنا .
فقال البخاري : " أبو ماجد الزيادي ، سمع ابن عمر ، قال : ما نظرت إلى فرج امرأة منذ أسلمت . قاله يحيى بن سليمان ، عن ابن وهب ، سمع موسى بن أيوب ، عن أبي ماجد " .
وقال ابن أبي حاتم : " أبو ماجد الزيادي ، سمع عبد الله بن عمرو ، قال : ما نظرت إلى فرجي منذ أسلمت . روى عنه موسى بن أيوب الغافقي . سمعت أبي يقول ذلك " .
والظاهر أن " عبد الله بن عمرو " ، عند ابن أبي حاتم - تحريف ناسخ أو طابع . ولكن لا يزال الاختلاف قائمًا في المعنى بين هاتين الروايتين ، وبينهما وبين رواية الطبري هذه . ولم أجد ما يرجح إحداها على غيرها .
(2) الخبر : 4331 - أبو قلابة ، شيخ الطبري : هو الرقاشي الضرير الحافظ ، واسمه : عبد الملك بن محمد بن عبد الله بن محمد ، وهو ثقة ، روى عنه الأئمة ، منهم ابن خزيمة ، وابن جرير ، وأبو العباس الأصم . وقال أبو داود سليمان بن الأشعث : " رجل صدوق ، أمين مأمون ، كتبت عنه بالبصرة " . وقال الطبري : " ما رأيت أحفظ منه " . مترجم في التهذيب . ابن أبي حاتم 2/2/369 - 370 ، وتاريخ بغداد 10 : 425 - 427 ، وتذكرة الحفاظ 2 : 143 - 144 . عبد الصمد : هو ابن عبد الوارث .
وهذا الخبر رواه البخاري 8 : 140 - 141 ، عن إسحاق ، هو ابن راهويه ، عن عبد الصمد . ولكنه حذف المكان بعد حرف " في " ، فلم يذكر لفظه . وذكر الحفاظ في الفتح أنه صريح في رواية الطبري هذه .
ونقله ابن كثير 1 : 517 ، عن الطبري بإسناده . ونقله السيوطي 1 : 265 ، ونسبه للبخاري وابن جرير .

(4/406)


4332 - حدثني أبو مسلم قال ، حدثنا أبو عمر الضرير قال ، حدثنا يزيد بن زريع قال ، حدثنا روح بن القاسم ، عن قتادة قال : سئل أبو الدرداء عن إتيان النساء في أدبارهن ، فقال : هل يفعل ذلك إلا كافر! قال روح : فشهدت ابن أبي مليكة يُسأل عن ذلك فقال : قد أردته من جارية لي البارحةَ فاعتاص عليّ ، فاستعنت بدهن أو بشحم. قال : فقلت له ، سبحان الله!! أخبرنا قتادة أنّ أبا الدرداء قال : هل يفعل ذلك إلا كافر! فقال : لعنك الله ولعن قتادة! فقلت : لا أحدث عنك شيئًا أبدًا! ثم ندمت بعد ذلك. (1)
* * *
قال أبو جعفر (2) واعتل قائلو هذه المقالة لقولهم ، بما : -
4333 - حدثني به محمد بن عبد الله بن عبد الحكم قال ، أخبرنا أبو بكر بن أبي أويس الأعشى ، عن سليمان بن بلال ، عن زيد بن أسلم ، عن ابن عمر : أن رجلا أتى امرأته في دبرها فوجد في نفسه من ذلك ، فأنزل الله : " نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم " . (3)
__________
(1) الخبر : 4332 - هو في الحقيقة خبران ، أولهما عن أبي الدرداء ، وثانيهما أثر عن ابن أبي مليكة لا يصلح للاستدلال . فكلامنا عن خبر أبي الدرداء .
وقد رواه الطبري هنا بإسناده إلى قتادة ، " قال : سئل أبو الدرداء . . . " ، وهو منقطع . فقد رواه أحمد في المسند : 6968 م بإسناده إلى قتادة ، قال : " وحدثني عقبة بن وساج ، عن أبي الدرداء ، قال : وهل يفعل ذلك إلا كافر " ؟! . وكذلك رواه البيهقي في السنن الكبرى 7 : 199 . وقد خرجناه في شرح المسند .
(2) من هنا ابتداء جزء من التقسيم القديم للتفسير فيما يظهر ، فإنه قد كتب بعد ما سلف .
" يتلُوه : واعتل قائلو هذه المقالة
وصلى الله على محمد النبي وآله وصحبه كثيرًا "
ثم بدأ صفحة جديدة أولها :
" بسم الله الرحمن الرحيم "
ربّ أعن يا كريم
(3) الحديث : 4333 - أبو بكر بن أبي أويس : هو عبد الحميد بن عبد الله بن عبد الله بن أويس المدني الأعشى ، وهو ثقة .
سليمان بن بلال أبو أيوب المدني : ثقة معروف ، أخرج له الأئمة الستة .
وهذا الحديث نقله ابن كثير 1 : 517 ، من رواية النسائي ، عن محمد بن عبد الله بن عبد الحكم ، كمثل رواية الطبري وإسناده سواء . ونقله الحافظ في التلخيص : 307 - 308 ، والسيوطي 1 : 265 - 266 ، ونسباه للنسائي والطبري فقط .

(4/407)


4334 - حدثني يونس قال ، أخبرني ابن نافع ، عن هشام بن سعد ، عن زيد بن أسلم ، عن عطاء بن يسار : أن رجلا أصاب امرأته في دبرها على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأنكر الناس ذلك وقالوا : أثْفَرها! فأنزل الله تعالى ذكره : " نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم " الآية. (1)
* * *
وقال آخرون : معنى ذلك : ائتوا حرثكم كيف شئتم - إن شئتم فاعزلوا ، وإن شئتم فلا تعزلوا.
* ذكر من قال ذلك :
4335 - حدثنا أحمد بن إسحاق قال ، حدثنا أبو أحمد قال ، حدثنا الحسن بن صالح ، عن ليث ، عن عيسى بن سنان ، عن سعيد بن المسيب : " فأتوا حرثكم أنى شئتم " ، إن شئتم فاعزلوا ، وإن شئتم فلا تعزلوا.
4336 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا وكيع ، عن يونس ، عن أبي إسحاق ، عن زائدة بن عمير ، عن ابن عباس قال : إن شئت فاعزل ، وإن شئت فلا تعزل. (2)
* * *
قال أبو جعفر : وأما الذين قالوا : معنى قوله : " أنى شئتم " ، كيف شئتم مقبلة ومدبرة في الفرْج والقُبُل ، فإنهم قالوا : إن الآية إنما نزلت في استنكار قوم من اليهود ، استنكروا إتيان النساء في أقبالهن من قِبل أدبارهن. قالوا : وفي ذلك دليل على صحة ما قلنا ،
__________
(1) الحديث : 4334 - هذا حديث مرسل ، لأن عطاء بن يسار تابعي . وقوله " أثفرها " : من " الثفر " ، بفتح الثاء المثلثة والفاء ، وهو ما يوضع للدابة تحت ذنبها يشد به السرج . شبه ذلك الفعل بوضع الثفر على دبر الدابة .
(2) الخبر : 4336 - أبو إسحاق : هو السبيعي . زائدة بن عمير الطائي الكوفي : تابعي ثقة وثقه ابن معين وغيره . قال البخاري في الكبير 2/1/394 : " سمع ابن عباس " . وترجمه ابن أبي حاتم 1/2/612 ، وذكره ابن سعد في الطبقات 6 : 218 .

(4/408)


من أن معنى ذلك على ما قلنا. واعتلوا لقيلهم ذلك بما : -
4337 - حدثني به أبو كريب قال ، حدثنا المحاربي قال ، حدثنا محمد بن إسحاق ، عن أبان بن صالح ، عن مجاهد قال : عرضت المصحف على ابن عباس ثلاث عَرَضات من فاتحته إلى خاتمته ، أوقفه عند كل آية وأساله عنها ، حتى انتهى إلى هذه الآية : " نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم " ، فقال ابن عباس : إن هذا الحي من قريش كانوا يشرحون النساء بمكة ، (1) ويتلذذون بهن مقبلاتٍ ومدبراتٍ. فلما قدموا المدينة تزوّجوا في الأنصار ، فذهبوا ليفعلوا بهن كما كانوا يفعلون بالنساء بمكة ، فأنكرن ذلك وقلن : هذا شيء لم نكن نُؤْتَى عليه ! فانتشر الحديث حتى انتهى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأنزل الله تعالى ذكره في ذلك : " نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم " ، إن شئت فمقبلة ، وإن شئت فمدبرة ، وإن شئت فباركة ، وإنما يعني بذلك موضع الولد للحرث. يقول : ائت الحرث من حيث شئت .
4338 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا يونس بن بكير ، عن محمد بن إسحاق بإسناده نحوه. (2)
4339 - حدثنا محمد بن بشار قال ، حدثنا ابن مهدي قال ، حدثنا سفيان ، عن محمد بن المنكدر قال : سمعت جابرًا يقول : إن اليهود كانوا يقولون : إذا جامع الرجل أهله في فرجها من ورائها كان ولده أحول. فأنزل الله تعالى ذكره : " نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم " .
__________
(1) شرح الرجل امرأته شرحًا : إذا سلقها فوطئها نائمة على قفاها .
(2) الحديثان : 4337 - 4338 - هما حديث واحد ، بإسنادين . وأبان بن صالح بن عمير بن عبيد : ثقة ، وثقه ابن معين ، وأبو زرعة ، وأبو حاتم ، وغيرهم .
والحديث رواه أبو داود : 2164 ، والحاكم في المستدرك 2 : 195 ، 279 ، والبيهقي 7 : 195 - 196 ، مطولا ومختصرًا ، من طريق محمد بن إسحاق . وقال الحاكم في الموضع الأول : " هذا حديث صحيح الإسناد على شرط مسلم . ولم يخرجاه بهذه السياقة " . ووافقه الذهبي .
ونقله ابن كثير 1 : 516 ، عن رواية أبي داود . وكذلك الحافظ في التلخيص ، ص : 308 .
ونقله السيوطي 1 : 263 ، وزاد نسبته لابن راهويه ، والدارمي ، وابن المنذر ، والطبراني .

(4/409)


4340 - حدثنا مجاهد بن موسى قال ، حدثنا يزيد بن هارون قال ، أخبرنا الثوري ، عن محمد بن المنكدر ، عن جابر بن عبد الله قال : قالت اليهود : إذا أتى الرجل امرأته في قُبُلها من دُبُرها ، وكان بينهما ولد ، كان أحول. فأنزل الله تعالى ذكره : " نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم " . (1)
4341 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا عبد الرحيم بن سليمان ، عن
__________
(1) الحديثان : 4339 - 4340 - هما حديث واحد ، بإسنادين ، ولفظين متقاربين . وهو حديث صحيح مشهور . رواه البخاري 8 : 141 - 143 ، من طريق سفيان ، وهو الثوري ، عن ابن المنكدر ، عن جابر .
ونقله ابن كثير 1 : 514 ، من رواية البخاري ، ثم من رواية ابن أبي حاتم . وذكره السيوطي 1 : 261 ، وزاد نسبته إلى أصحاب السنن الأربعة ، والبيهقي ، وغيرهم .
وهو في سنن البيهقي 1947 - : 195 ، من ثلاثة طرق ، عن ابن المنكدر ، عن جابر . وذكره أنه رواه مسلم في صحيحه من تلك الطرق الثلاث .
وسيأتي بنحوه : 4346 ، من رواية شعبة ، عن ابن المنكدر ، عن جابر .
وانظر المنتقى : 3652 ، 3653 .

(4/410)


عبد الله بن عثمان بن خثيم ، عن عبد الرحمن بن سابط ، عن حفصة بنت عبد الرحمن بن أبي بكر ، عن أم سلمة زوح النبي صلى الله عليه وسلم قالت : تزوج رجل امرأةً فأراد أن يجبِّيَها ، فأبت عليه ، (1) وقالت : حتى أسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم ! قالت أم سلمة : فذكرتْ ذلك لي ، فذكرت أم سلمة ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : أرسلي إليها. فلما جاءت قرأ عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم : " نساؤكم حرْث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم " ، صِمامًا واحدًا ، صِمامًا واحدًا. (2)
4342 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا معاوية بن هشام ، عن سفيان ، عن عبد الله بن عثمان ، عن ابن سابط ، عن حفصة ابنة عبد الرحمن بن أبي بكر ، عن أم سلمة قالت : قدِم المهاجرون فتزوجوا في الأنصار ، وكانوا يُجَبُّون ، وكانت الأنصار لا تفعل ذلك ، فقالت امرأة لزوجها : حتى آتي النبي صلى الله عليه وسلم فأسأله عن ذلك ! فأتت النبيَّ صلى الله عليه وسلم فاستحيت أن تسأله ، فسألتُ أنا ، فدعاها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأ عليها : " نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم " ، " صمامًا واحدًا ، صمامًا واحدًا " . (3)
4343 - حدثني أحمد بن إسحاق قال ، حدثنا أبو أحمد قال ، حدثنا سفيان ، عن عبد الله بن عثمان ، عن عبد الرحمن بن سابط ، عن حفصة بنت عبد الرحمن ، عن أم سلمة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه. (4)
4344 - حدثنا ابن بشار وابن المثنى قالا حدثنا ابن مهدي قال ، حدثنا سفيان الثوري ، عن عبد الله بن عثمان بن خثيم ، عن عبد الرحمن بن سابط ، عن حفصة ابنة عبد الرحمن ، عن أم سلمة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قوله : "
__________
(1) جبى الرجل أو المرأة يجبى تجبية : أن ينكب على وجهه باركًا ، وهو السجود . شبه هذا بهيئة السجود .
(2) الحديث : 4341 - عبد الله بن عثمان بن خثيم القاري المكي : تابعي ، ثقة حجة ، كما قال ابن معين . و " خثيم " : بضم الخاء المعجمة وفتح الثاء المثلثة ، مصغرًا . ووقع في المطبوعة ، هنا ، وفي : 4344 " جشم " ، وهو تصحيف . عبد الرحمن بن سابط : تابعي معروف ، مضت ترجمته : 599 .
حفصة بنت عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق : تابعية ثقة .
والحديث رواه أحمد في المسند 6 : 305 (حلبي) ، عن عفان ، عن وهيب ، عن عبد الله بن عثمان ابن خثيم ، بهذا الإسناد ، نحوه ، مطولا . ونقله ابن كثير 1 : 515 عن رواية المسند . وواقع في مطبوعته تحريف وتصحيف .
ورواه البيهقي 7 : 195 ، بنحوه مختصرًا ، من طريق سفيان ، ومن طريق روح بن القاسم - كلاهما عن عبد الله بن عثمان بن خثيم .
وذكره السيوطي 1 : 262 ، مطولا . وزاد نسبته لابن أبي شيبة ، والدارمي ، وعبد بن حميد ، وابن أبي حاتم .
وسيأتي عقب هذا ، مطولا ومختصرًا : 4342 - 4345 .
الصمام ما أدخل في فم القارورة تسد به . فسمى الفرج به ، لأنه موضع صمام ، على التشبيه وحذف المضاف . ومعناه : في مسلك واحد .
(3) الحديث : 4342 - سفيان : هو الثوري ، روى الحديث عن عبد الله بن عثمان . ولكن وقع في المطبوعة " سفيان بن عبد الله بن عثمان " ! وهو خطأ سخيف . ووقع في المخطوطة " عن ابن سليط " بدل " ابن سابط " . وهو خطأ . والحديث مكرر ما قبله بنحوه .
(4) الحديث : 4343 - أبو أحمد : هو الزبيري ، محمد بن عبد الله بن الزبير الأسدي . والحديث مكرر ما قبله .

(4/411)


نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم " ، قال : صمامًا واحدًا ، صمامًا واحدًا " . (1)
4345 - حدثني محمد بن معمر البحراني قال ، حدثنا يعقوب بن إسحاق الحضرمي قال ، حدثني وهيب قال ، حدثني عبد الله بن عثمان ، عن عبد الرحمن بن سابط قال : قلت لحفصة ، إني أريد أن أسألك عن شيء ، وأنا أستحيي منك أن أسألك ؟ قالت : سل يا بنيّ عما بدا لك! قلت : أسألك عن غِشيان النساء في أدبارهن ؟ قالت : حدثتني أم سلمة قالت : كانت الأنصار لا تُجَبِّي ، وكان المهاجرون يُجَبُّون ، فتزوج رجل من المهاجرين امرأة من الأنصار ثم ذكر نحو حديث أبي كريب ، عن معاوية بن هشام. (2)
4346 - حدثنا ابن المثنى قال ، حدثني وهب بن جرير قال ، حدثنا شعبة ، عن ابن المنكدر قال : سمعت جابر بن عبد الله يقول : إن اليهود كانوا يقولون : إذا أتى الرجل امرأته باركة جاء الولد أحول. فنزلت " نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم " . (3)
4347 - حدثني محمد بن أحمد بن عبد الله الطوسي قال ، حدثنا الحسن بن موسى قال ، حدثنا يعقوب القمي ، عن جعفر ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : جاء عمر إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ، هلكتُ!! قال : وما الذي أهلكك ؟ قال : حوَّلتُ رحلي الليلة! قال : فلم يردّ
__________
(1) الحديث : 4344 - هو مكرر ما قبله مختصرًا . وهكذا رواه الترمذي 4 : 75 ، مختصرًا عن ابن أبي عمر عن سفيان ، وهو الثوري به .
(2) الحديث : 4345 - يعقوب بن إسحاق بن زيد الحضرمي ، المقرئ النحوي ثقة ، أخرج له مسلم في صحيحه .
وهيب - بالتصغير - : هو ابن خالد بن عجلان وهو ثقة ثبت حجة .
والحديث مكرر : 4342 ، بنحوه حيث أحال الطبري لفظ هذا على لفظ ذلك .
(3) الحديث : 4346 - هو مكرر : 4339 ، 4340 . ووقع في المخطوطة " باركًا " بدل " باركة " وهو خطأ .

(4/412)


عليه شيئًا ، قال : فأوحى الله إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية : " نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم " ، أقبِل وأدبِر ، واتق الدُّبر والحيْضة " . (1)
4348 - حدثنا زكريا بن يحيى المصري قال ، حدثنا أبو صالح الحراني قال ، حدثنا ابن لهيعة ، عن يزيد بن أبي حبيب : أن عامر بن يحيى أخبره ، عن حنش الصنعاني ، عن ابن عباس : أن ناسًا من حميرَ أتوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يسألونه عن أشياء ، فقال رجل منهم : يا رسول الله ، إنّي رجل أحب النساء ، فكيف ترى في ذلك ؟ فأنزل الله تعالى ذكره في " سورة البقرة " بيان ما سألوا عنه ، وأنزل فيما سأل عنه الرجل : " نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنَّى شئتم " ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ائتها مُقبلةً ومُدبرةً ، إذا كان ذلك في الفرج " . (2)
* * *
قال أبو جعفر : والصواب من القول في ذلك عندنا قولُ من قال : معنى قوله " أنى شئتم " ، من أيّ وجه شئتم. وذلك أن " أنَّى " في كلام العرب كلمة تدلّ إذا ابتدئ بها في الكلام - على المسألة عن الوجوه والمذاهب. فكأن القائل
__________
(1) الحديث : 4347 - محمد بن أحمد بن عبد الله الطوسي : لم أعرفه ولا وجدت له ترجمة الحسن بن موسى الأشيب : ثقة حافظ متثبت ، من شيوخ أحمد ، يكثر الرواية عنه في المسند .
يعقوب القمي : مضت ترجمته في : 617 . جعفر : هو ابن أبي مغيرة . مضى أيضًا في : 617 . والحديث رواه أحمد في المسند : 2703 عن شيخه حسن بن موسى الأشيب بهذا الإسناد وقد خرجناه هناك . ونزيد أنه رواه أيضًا ابن حبان في صحيحه 6 : 364 - 365 (مخطوطة الإحسان) والبيهقي 7 : 198 .
(2) الحديث : 4348 - زكريا بن يحيى بن صالح القضاعي المصري : ثقة من شيوخ مسلم في صحيحه .
أبو صالح الحراني : هو عبد الغفار بن داود بن مهران ، وهو ثقة من شيوخ البخاري في صحيحه .
يزيد بن أبي حبيب المصري : ثقة أخرج له الجماعة ، قال الليث بن سعد : " يزيد بن أبي حبيب سيدنا وعالمنا " . وقال ابن سعد : " كان مفتي أهل مصر في زمانه ، وكان حليما عاقلا " . حنش الصنعاني : مضى في : 1914 .
والحديث ذكره ابن كثير 1 : 514 - 515 من رواية ابن أبي حاتم في تفسيره ، عن يونس عن ابن وهب عن ابن لهيعة . بهذا الإسناد . وذكره السيوطي 1 : 262 - 263 ، وزاد نسبته للطبراني والخرائطي . وروى أحمد في المسند : 2414 - نحوه ولكن فيه أن السائلين كانوا من الأنصار . وإسناده ضعيف ، من أجل رشدين بن سعد في إسناده .

(4/413)


إذا قال لرجل : " أنى لك هذا المال " ؟ يريد : من أيّ الوجوه لك. ولذلك يجيب المجيبُ فيه بأن يقول : " من كذا وكذا " ، كما قال تعالى ذكره مخبرًا عن زكريا في مسألته مريم : ( أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ) [ سورة آل عمران : 37 ]. وهي مقاربة " أين " و " كيف " في المعنى ، ولذلك تداخلت معانيها ، فأشكلت " أنَّى " على سامعيها ومتأوِّليها ، (1) حتى تأوَّلها بعضهم بمعنى : " أين " ، وبعضهم بمعنى " كيف " ، وآخرون بمعنى : " متى " - وهي مخالفة جميع ذلك في معناها ، وهن لها مخالفات.
وذلك أن " أين " إنما هي حرف استفهام عن الأماكن والمحال - وإنما يستدل على افتراق معاني هذه الحروف بافتراق الأجوبة عنها. ألا ترى أن سائلا لو سأل آخر فقال : " أين مالك " ؟ لقال : " بمكان كذا " ، ولو قال له : " أين أخوك " ؟ لكان الجواب أن يقول : " ببلدة كذا أو بموضع كذا " ، فيجيبه بالخبر عن محل ما سأله عن محله. فيعلم أن " أين " مسألة عن المحل.
ولو قال قائل لآخر : " كيف أنت " ؟ لقال : " صالح ، أو بخير ، أو في عافية " ، وأخبره عن حاله التي هو فيها ، فيعلم حينئذ أن " كيف " مسألةٌ عن حال المسؤول عن حاله.
ولو قال له : " أنَّى يحيي الله هذا الميت ؟ " ، لكان الجواب أن يقال : " من وجه كذا ووجه كذا " ، فيصف قولا نظيرَ ما وصف الله تعالى ذكره للذي قال : ( أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا ) [ سورة البقرة : 259 ] فعلا (2) حين بعثه من بعد مماته.
__________
(1) في المخطوطة : " على سامعيها ومتاولها " بالجمع مرة والإفراد أخرى . وفي المطبوعة : " على سامعها ومتأولها " بالإفراد .
(2) قوله " فعلا " مفعول قوله : " نظير ما وصف الله . . . فعلا " يعني أن الله تعالى وصف بعد ذلك " فعلا " وهذا الفعل هو بعثه من بعد مماته ، وذلك قول الله تعالى في عقب ذلك } :
فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ{

(4/414)


وقد فرَّقت الشعراء بين ذلك في أشعارها ، فقال الكميت بن زيد :
تَذَكَّر مِنْ أَنَّى وَمِنْ أَيْنَ شُرْبَهُ... يُؤَامِرُ نَفْسَيْهِ كَذِي الهَجْمَةِ الأبِلْ (1)
وقال أيضًا :
أَنَّى وَمِنْ أَيْنَ - آبَكَ - الطَّرَبُ... مِنْ حَيْثُ لا صَبْوَةٌ وَلا رِيَبُ (2)
فيجاء بـ " أنى " للمسألة عن الوجه ، و بـ " أين " للمسألة عن المكان ، فكأنه قال : من أيّ وجه ، ومن أي موضع راجعك الطرب ؟
والذي يدل على فساد قول من تأول قول الله تعالى ذكره : " فأتوا حرثكم أنى شئتم " ، كيف شئتم - أو تأوله بمعنى : حيث شئتم أو بمعنى : متى شئتم أو بمعنى : أين شئتم أن قائلا لو قال لآخر : " أنى تأتي أهلك ؟ " ، لكان الجواب
__________
(1) اللسان (أبل) آمره يؤامره : شاوره . وقوله : " نفيسه " جعل النفس نفسين ، لأن النفس تأمر . المرء بالشيء وتنهى عنه ، وذلك في كل مكروه أو مخوف فجعلوا ما يأمره " نفسًا " وما ينهاه " نفسًا " وقد بينها الممزق العبدي في قوله : أَلاَ مَنْ لِعَيْنٍ قَدْ نَآهَا حَمِيمُهَا ... وَأَرَّقَنِي بَعْدَ المَنَامِ هُمُومُها
فَبَاتَتْ له نَفْسَانِ شَتَّى هُمُومُها ... فنَفْسٌ تُعَزِّيهَا ونفْسٌ تَلُومُها
و " الهجمة " : القطعة الضخمة من الإبل من السبعين إلى المئة . ويقال : " رجل أبل " إذا كان حاذقا بمصلحة الإبل والقيام عليها . ولم أجد شعر الكميت ، ولكني أرجح أن هذا البيت من أبيات في حمار وحش ، قد أخذ أتنه (وهي إناثه) ليرد بها ماء ، فوقف بها في موضع عين قديمة كان شرب منها ، فهو متردد في موقفه ، فشبهه يراعى الإبل الكثيرة ، إذا كان خبيرًا برعيتها فوقف بها ينظر أين يسلك إلى الماء والمرعى .
(2) الهاشميات : 31 . قوله : " آبك " معترضة بين كلامين كما تقول : " ويحك " بين كلامين وسياقه " أنى ومن أين الطرب " ؟ و " آبك " بمعنى " ويلك " يقال لمن تنصحه ولا يقبل ثم يقع فيما حذرته منه ، كأنه بمعنى : أبعدك الله! دعاء عليه ؟ من ذلك قول رجل من بني عقيل : أَخَبَّرْتَنِي يَا قَلْبُ أَنَّكَ ذُو غَرًى ... بَليْلَي? فَذُقْ مَا كُنْتَ قبلُ تَقُولُ!
فآبَكَ! هلاَّ وَاللَّيَالِي بِغِرَّةٍ ... تُلِمُّ وَفِي الأَيَّامِ عَنْكَ غُفُولُ!!
بيد أن أبا جعفر فسر " آبك " بمعنى : " راجعك الطرب " من الأوبة ، وهو وجه في التأويل ، ولكن الأجود ما فسرت والشعر بعده دال على صواب ما ذهبت إليه .

(4/415)


أن يقول : " من قُبُلها ، أو : من دُبُرها " ، كما أخبر الله تعالى ذكره عن مريم إذْ سئلت : ( أَنَّى لَكِ هَذَا ) أنها قالت : ( هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ) .
وإذ كان ذلك هو الجواب ، فمعلومٌ أن معنى قول الله تعالى ذكره : " فأتوا حرثكم أنى شئتم " ، إنما هو : فأتوا حرثكم من حيثُ شئتم من وجوه المأتى - وأنّ ما عدا ذلك من التأويلات فليس للآية بتأويل.
وإذ كان ذلك هو الصحيح ، فبيِّنٌ خطأ قول من زعم أن قوله : " فأتوا حرثكم أنى شئتم " ، دليلٌ على إباحة إتيان النساء في الأدبار ، لأن الدُّبر لا مُحْتَرَثَ فيه ، (1) وإنما قال تعالى ذكره : " حرث لكم " ، فأتوا الحرث من أيّ وجوهه شئتم. وأيُّ مُحْتَرَث في الدُبر فيقال : ائته من وجهه ؟ وبيِّنٌ بما بينا ، (2) صحةُ معنى ما روي عن جابر وابن عباس : من أن هذه الآية نزلت فيما كانت اليهود تقوله للمسلمين : " إذا أتَى الرجلُ المرأةَ من دُبرها في قُبُلها ، جاء الولد أحول " . (3)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { وَقَدِّمُوا لأَنْفُسِكُمْ }
قال أبو جعفر : اختلف أهل التأويل في معنى ذلك :
فقال بعضهم : معنى ذلك : قدموا لأنفسكم الخيرَ.
* ذكر من قال ذلك :
__________
(1) في المطبوعة : " لا يخترث فيه " وكلاهما قريب ، والذي في المخطوطة جود .
(2) في المطبوعة : " وتبين بما بينا " والصواب من المخطوطة ، وهو عطف على قوله آنفًا : " فبين خطأ من زعم " .
(3) حجة أبي جعفر في هذا الفصل من أحسن البيان عن معاني القرآن وعن معاني ألفاظه وحروفه وهي دليل على أن معرفة العربية ، وحذقها والتوغل في شعرها وبيانها وأساليبها أصل من الأصول ، لا يحل لمن يتكلم في القرآن أن يتكلم فيه حتى يحسنه ويحذقه . ورحم الله ابن إدريس الشافعي حيث قال - فيما رواه الخطيب البغدادي عنه في كتاب " الفقيه والمتفقه " .
" لا يحلُّ لأحدٍ أنْ يُفْتِي في دِينِ اللهِ إلّا رجلًا عارفًا بكتاب الله : بناسخه ومنسوخه ومحكمه ومتشابهه ، وتأويله وتنزيله ومكيِّه ومدنيِّه ، وما أريدَ به ويكون بعد ذلك بصيرًا بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وبالناسخ والمنسوخ ويعرف من الحديث مثل ما عرف من القرآن ويكون بصيرًا باللغة بصيرًا بالشعر ، وما يحتاج إليه للسنة والقرآن ، ويستعمل هذا مع الإنصاف ويكون بعد هذا مشرفًا على اختلاف أهل الأمصار وتكون له قريحةٌ بعد هذا . فإذا كانَ هكذا فله أنْ يتكلّم ويفتي في الحلال والحرام ، وإذا لم يكنْ هكذا ، فليس له أن يفتي " .
فليت من يتكلم في القرآن والدين من أهل زماننا يتورع من مخافة ربه ، ومن هول عذابه يوم يقوم الناس لرب العالمين .

(4/416)


4349 - حدثني موسى قال ، حدثنا عمرو قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : أما قوله : " وقدموا لأنفسكم " ، فالخيرَ.
* * *
وقال آخرون : بل معنى ذلك : وقدموا لأنفسكم ذكرَ الله عند الجماع وإتيان الحرث قبل إتيانه.
* ذكر من قال ذلك :
4350 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني محمد بن كثير ، عن عبد الله بن واقد ، عن عطاء - قال : أراه عن ابن عباس : - " وقدموا لأنفسكم " ، قال : يقول : " بسم الله " ، التسمية عند الجماع. (1)
* * *
قال أبو جعفر : والذي هو أولى بتأويل الآية ما روينا عن السدي ، وهو أن قوله : " وقدموا لأنفسكم " ، أمرٌ من الله تعالى ذكره عبادَه بتقديم الخير والصالح من الأعمال ليوم معادهم إلى ربهم ، عُدّةً منهم ذلك لأنفسهم عند لقائه في موقف الحساب ، فإنه قال تعالى ذكره : ( وَمَا تُقَدِّمُوا لأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ ) [ سورة البقرة : 110 \ وسورة المزمل : 20 ].
__________
(1) في المطبوعة : " قال : التسمية عند الجماع يقول : بسم الله " على التقديم والتأخير .

(4/417)


وإنما قلنا : ذلك أولى بتأويل الآية ، لأن الله تعالى ذكره عقَّب قوله : " وقدموا لأنفسكم " بالأمر باتقائه في ركوب معاصيه. فكان الذي هو أولى بأن يكون قبلَ التهدُّد على المعصية - إذ كان التهدُّد على المعصية عامًّا - الأمرُ بالطاعة عامًّا. (1)
* * *
فإن قال لنا قائل : وما وجه الأمر بالطاعة بقوله : " وقدِّموا لأنفسكم " ، من قوله : " نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم " ؟
قيل : إن ذلك لم يقصد به ما توهمتَه : وإنما عنى به : وقدموا لأنفسكم من الخيرات التي ندبناكم إليها بقولنا : " يسألونك ماذا ينفقون قل ما أنفقتم من خيرٍ فللوالدين والأقربين " ، وما بعده من سائر ما سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأجيبوا عنه ، مما ذكره الله تعالى ذكره في هذه الآيات. ثم قال تعالى ذكره : قد بيّنا لكم ما فيه رَشَدكم وهدايتكم إلى ما يُرضي ربكم عنكم ، فقدِّموا لأنفسكم الخيرَ الذي أمركم به ، واتخذوا عنده به عهدًا ، لتجدوه لديه إذا لقيتموه في معادكم واتقوه في معاصيه أن تقربوها ، وفي حدوده أن تُضِيعوها ، واعلموا أنكم لا محالة ملاقوه في معادكم ، فَمُجازٍ المحسنَ منكم بإحسانه ، والمسيء بإساءته. (2)
* * *
__________
(1) في المخطوطة والمطبوعة : " الذي هو أولى بأن يكون قبل التهدد عامًا " وفي المطبوعة : " التهديد " ، وهي جملة غير مستقيمة ، فحذفت " الذي " وزدت : " إذ كان التهدد على المعصية " ، ليستقيم معنى الكلام وسياقه .
(2) في المطبوعة : " فمجازي " بالياء في آخره . والصواب ما أثبت .

(4/418)


القول في تأويل قوله تعالى : { وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (223) }
قال أبو جعفر : وهذا تحذيرٌ من الله تعالى ذكره عبادَه : أن يأتوا شيئًا مما نهاهم عنه من معاصيه وتخويفٌ لهم عقابَه عند لقائه ، كما قد بيَّنا قبل وأمرٌ لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم أن يبشر من عباده ، بالفوز يوم القيامة وبكرامة الآخرة وبالخلود في الجنة ، من كان منهم محسنًا مؤمنًا بكتبه ورسله ، وبلقائه ، مصدِّقًا إيمانَه قولا بعمله ما أمره به ربُّه ، وافترض عليه من فرائضه فيما ألزمه من حقوقه ، وبتجنُّبه ما أمره بتجنُّبه من معاصيه. (1)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ }
قال أبو جعفر : اختلف أهل التأويل في تأويل قوله : " ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم " .
فقال بعضهم : معناه : ولا تجعلوه عِلَّة لأيمانكم ، وذلك إذا سئل أحدكم الشيء من الخير والإصلاح بين الناس قال : " عليّ يمين بالله ألا أفعل ذلك " - أو " قد حلفت بالله أن لا أفعله " ، فيعتلّ في تركه فعل الخير والإصلاح بين الناس بالحلف بالله.
* ذكر من قال ذلك :
__________
(1) انظر ما سلف ، مقالة الطبري في " ملاقو ربهم " 2 : 20 - 22 .

(4/419)


4351 - حدثنا الحسن بن يحيى ، قال أخبرنا عبد الرزاق قال أخبرنا معمر ، عن ابن طاوس ، عن أبيه : " ولا تجعلوا الله عرضةً لأيمانكم " ، قال : هو الرجل يحلف على الأمر الذي لا يصلح ، ثم يعتلّ بيمينه ، يقول الله : " أن تبرُّوا وتتقوا " هو خير له من أن يمضي على ما لا يصلح ، وإن حلفت كفَّرت عن يمينك وفعلت الذي هو خيرٌ لك.
4352 - حدثنا المثنى قال ، حدثنا سويد بن نصر قال ، أخبرنا ابن المبارك ، عن معمر ، عن ابن طاوس ، عن أبيه مثله إلا أنه قال : وإن حلفت فكفِّر عن يمينك ، وافعل الذي هو خير.
4353 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا عبيد الله ، عن إسرائيل ، عن السدي ، عمن حدثه ، عن ابن عباس في قوله : " ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم أن تبرُّوا وتتقوا وتصلحوا بين الناس " ، قال : هو أن يحلف الرجل أن لا يكلم قرابته ولا يتصدق ، أو أن يكون بينه وبين إنسان مغاضبة فيحلف لا يُصلح بينهما ويقول : " قد حلفت " . قال : يكفّر عن يمينه : " ولا تجعلوا الله عُرضة لأيمانكم " .
4354 - حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا يزيد بن زريع قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : " ولا تجعلوا الله عُرضةً لأيمانكم أن تبرُّوا وتتقوا " ، يقول : لا تعتلُّوا بالله ، أن يقول أحدكم إنه تألَّى أن لا يصل رَحمًا ، (1) ولا يسعى في صلاح ، ولا يتصدَّق من ماله. مهلا مهلا بارك الله فيكم ، فإن هذا القرآن إنما جاء بترك أمر الشيطان ، فلا تطيعوه ، ولا تُنْفِذوا له أمرًا في شيء من نذروكم ولا أيمانكم.
4355 - حدثنا محمد بن بشار قال ، حدثنا ابن مهدي قال ، حدثنا سفيان ، عن أبي حصين ، عن سعيد بن جبير : " ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم " ، قال : هو الرجل يحلف لا يصلح بين الناس ولا يبر ، فإذا قيل له ، قال : " قد حلفتُ " .
__________
(1) تألى الرجل : أقسم بالله ، ومثله " آل " .

(4/420)


4356 - حدثني القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج قال ، سألت عطاء عن قوله : " ولا تجعلوا الله عرضةً لأيمانكم أن تبروا وتتقوا وتصلحوا بين الناس " ، قال : الإنسان يحلف أن لا يصنع الخير ، الأمرَ الحسن ، يقول : " حلفت " ! قال الله : افعل الذي هو خيرٌ وكفِّر عن يمينك ، ولا تجعل الله عرضةً.
4357 - حدثت عن الحسين قال ، سمعت أبا معاذ قال ، أخبرنا عبيد بن سليمان قال ، سمعت الضحاك ، يقول في قوله : " ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم " الآية : هو الرجل يحرّم ما أحل الله له على نفسه ، فيقول : " قد حلفت! فلا يصلح إلا أن أبرَّ يميني " ، فأمرهم الله أن يكفّروا أيمانهم ويأتوا الحلال. (1)
4358 - حدثنا موسى قال ، حدثنا عمرو قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : " ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم أن تبروا وتتقوا وتصلحوا بين الناس " ، أما " عُرضة " ، فيعرض بينك وبين الرجل الأمرُ ، فتحلف بالله لا تكلمه ولا تصله. وأما " تبرُّوا " ، فالرجل يحلف لا يبرُّ ذا رحمه فيقول : " قد حلفت! " ، فأمر الله أن لا يعرض بيمينه بينه وبين ذي رحمه ، وليبَرَّه ، ولا يبالي بيمينه. وأما " تصلحوا " ، فالرجل يصلح بين الاثنين فيعصيانه ، فيحلف أن لا يصلح بينهما ، فينبغي له أن يصلح ولا يبالي بيمينه. وهذا قبل أن تنزل الكفَّارات. (2)
4359 - حدثنا المثنى قال ، حدثنا سويد قال ، أخبرنا ابن المبارك ، عن هشيم ، عن مغيرة ، عن إبراهيم في قوله : " ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم " ، قال : يحلف أن لا يتقي الله ، ولا يصل رحمه ، ولا يصلح بين اثنين ، فلا يمنعه يمينُه.
* * *
__________
(1) الأثر : 4357 - في المطبوعة : " حدثت عن عمار بن الحسن ، قال سمعت أبا معاذ " وهو خطأ صرف والصواب من المخطوطة ، وهو مع ذلك إسناد دائر في التفسير أقربه رقم : 4324 . و " الحسين " هو " الحسين بن الفرج " .
(2) انظر كلام أبي جعفر في هذا الأثر فيما بعد ص : 426 .

(4/421)


وقال آخرون : معنى ذلك : ولا تعترضوا بالحلف بالله في كلامكم فيما بينكم ، فتجعلوا ذلك حجة لأنفسكم في ترك فعل الخير.
* ذكر من مال ذلك :
4360 - حدثني المثنى بن إبراهيم قال ، حدثنا أبو صالح قال ، حدثني معاوية ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قوله : " ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم " ، يقول : لا تجعلني عرضة ليمينك أن لا تصنع الخير ، ولكن كفِّر عن يمينك واصنع الخير.
4361 - حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : " ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم أن تبروا وتتقوا وتصلحوا بين الناس " ، كان الرجل يحلف على الشيء من البر والتقوى لا يفعله ، فنهى الله عز وجل عن ذلك فقال : " ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم أن تبروا " .
4362 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال ، حدثنا هشيم قال ، أخبرنا مغيرة ، عن إبراهيم في قوله : " ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم " ، قال : هو الرجل يحلف أن لا يبرّ قرابته ، ولا يصل رحمه ، ولا يصلح بين اثنين. يقول : فليفعل ، وليكفِّر عن يمينه.
4363 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا جرير ، عن مغيرة ، عن محمد بن عبد الرحمن بن يزيد ، عن إبراهيم النخعي في قوله : " ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم أن تبروا وتتقوا وتصلحوا بين الناس " ، قال : لا تحلف أن لا تتقي الله ، ولا تحلف أن لا تبرَّ ولا تعمل خيرًا ، ولا تحلف أن لا تصل ، ولا تحلف أن لا تصلح بين الناس ، ولا تحلف أن تقتل وتقطَع.
4364 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عمرو بن عون قال ، أخبرنا هشيم ، عن داود ، عن سعيد بن جبير ومغيرة ، عن إبراهيم في قوله : " ولا تجعلوا الله

(4/422)


عرضة " الآية ، قالا هو الرجل يحلف أن لا يبر ، ولا يتقي ، ولا يصلح بين الناس. وأمِر أن يتقي الله ، ويصلحَ بين الناس ، ويكفّر عن يمينه.
4365 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى وحدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل عن ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله : " ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم " ، فأمروا بالصلة والمعروف والإصلاح بين الناس. فإن حلف حالف أن لا يفعل ذلك فليفعله ، وليدع يمينه. (1)
4366 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع في قوله : " ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم " الآية ، قال : ذلك في الرجل يحلف أن لا يبر ، ولا يصل رحمه ، ولا يصلح بين الناس. فأمره الله أن يدع يمينه ، ويصل رحمه ، ويأمر بالمعروف ، ويصلح بين الناس.
4367 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا محمد بن حرب قال ، حدثنا ابن لهيعة ، عن أبي الأسود ، عن عروة ، عن عائشة في قوله : " ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم أن تبروا وتتقوا وتصلحوا بين الناس " ، قالت : لا تحلفوا بالله وإن بررتم.
4368 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج عن ابن جريج قال : حُدثت أن قوله : " ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم " ، الآية ، نزلت في أبي بكر ، في شأن مِسْطَح.
4369 - حدثنا هناد قال ، حدثنا ابن فضيل ، عن مغيرة ، عن إبراهيم قوله : " ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم " الآية ، قال : يحلف الرجل أن لا يأمر بالمعروف ، ولا ينهى عن المنكر ، ولا يصل رحمه.
__________
(1) الأثر : 4365 - هو في المخطوطة إسناد واحد جاء هكذا : " حدثني محمد بن عمرو قال حدثنا أبو عاصم قال حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح . . . " والذي في المطبوعة هو الصحيح ، وهما إسنادان دائران في التفسير . الأول منهما أقربه رقم : 4132 والثاني منهما أقربه رقم : 3872

(4/423)


4370 - حدثني المثنى ، حدثنا سويد ، أخبرنا ابن المبارك ، عن هشيم ، عن المغيرة ، عن إبراهيم في قوله : " ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم " ، قال : يحلف أن لا يتقي الله ، ولا يصل رحمه ، ولا يصلح بين اثنين. فلا يمنعه يمينه. (1)
4371 - حدثني ابن عبد الرحيم البرقي قال ، حدثنا عمرو بن أبى سلمة ، عن سعيد ، عن مكحول أنه قال في قول الله تعالى ذكره : " ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم " ، قال : هو أن يحلف الرجل أن لا يصنع خيرًا ، ولا يصل رحمه ، ولا يصلح بين الناس. نهاهم الله عن ذلك.
* * *
قال أبو جعفر : وأولى التأويلين بالآية ، تأويلُ من قال : معنى ذلك : " لا تجعلوا الحلف بالله حجة لكم في ترك فعل الخير فيما بينكم وبينَ الله وبين الناس " .
* * *
وذلك أن " العُرْضة " ، في كلام العرب ، القوة والشدة. يقال منه : " هذا الأمر عُرْضة لك " (2) يعني بذلك : قوة لك على أسبابك ، ويقال : " فلانة عُرْضة للنكاح " ، أي قوة ، (3) ومنه قول كعب بن زهير في صفة نوق :
مِنْ كُلِّ نَضَّاحةِ الذِّفْرَى إذَا عَرِقَتْ ، ... عُرْضَتُهَا طَامِسُ الأَعْلامِ مَجْهُولُ (4)
يعني بـ " عرضتها " : قوتها وشدتها.
* * *
__________
(1) الأثر : 4370 - هذا الأثر ليس في المخطوطة في هذا المكان ، وهو الصواب . وهو مكرر الذي مضى برقم : 4359 - وفي المطبوعة هنا " فلا ينفعه يمينه " وهو خطأ ظاهر . وكأن أولى أن يحذف ولكني أبقيته للدلالة على اختلاف النسخ .
(2) في المخطوطة والمطبوعة : " عرضة له " وأثبت ما هو أولى بالصواب .
(3) أخشى أن يكون الصواب الجيد : " أي قرية " .
(4) ديوانه : 9 ، وسيأتي في التفسير 5 : 79/11 : 108/27 : 62 (بولاق) من قصيدته المشهورة . نضح الرجل بالعرق نضحا ، فض به حتى سال سيلانًا . ونضاحة : شديدة النضح . والذفرى : الموضع الذي يعرق من البعير خلف الأذن ، وهو من الناس والحيوان جميعا : العظم الشاخص خلف الأذن . وسيلان عرقها هناك ، ممدوح في الإبل . والطامس : الدارس الذي أمحى أثره . والأعلام : أعلام الطريق ، تبنى في جادة الطريق ليستدل بها عليه إذا ضل الضال . وأرض مجهولة : إذا كان لا أعلام فيها ولا جبال ، فلا يهتدي فيها السائر . يقول : إذا نزلت هذه المجاهل ، عرفت حينئذ قوتها وشدتها وصبرها على العطش والسير في الفلوات .

(4/424)


فمعنى قوله تعالى ذكره : " ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم " إذًا : لا تجعلوا الله قوة لأيمانكم في أن لا تبروا ولا تتقوا ولا تصلحوا بين الناس. ولكن إذا حلف أحدكم فرأى الذي هو خير مما حلف عليه من ترك البر والإصلاح بين الناس ، فليحنث في يمينه ، وليبرَّ ، وليتق الله ، وليصلح بين الناس ، وليكفّر عن يمينه.
* * *
وترك ذكر " لا " من الكلام ، لدلالة الكلام عليها ، واكتفاءً بما ذُكر عما تُرِك ، كما قال أمرؤ القيس :
فَقُلْتُ يَمِينَ اللهِ أَبْرَحُ قَاعِدًا... وَلَوْ قَطَّعُوا رَأْسِي لَدَيكَ وَأَوْصَالِي (1)
بمعنى : فقلت : يمين الله لا أبرح ، فحذف " لا " ، اكتفاء بدلالة الكلام عليها.
* * *
وأما قوله : " أن تبروا " ، فإنه اختلف في تأويل " البر " ، الذي عناه الله تعالى ذكره.
فقال بعضهم : هو فعل الخير كله. وقال آخرون : هو البر بذي رحمه ، وقد ذكرت قائلي ذلك فيما مضى. (2)
* * *
وأولى ذلك بالصواب قول من قال : " عني به فعل الخير كله " . وذلك أن أفعال الخير كلها من " البر " ، ولم يخصص الله في قوله : " أن تبرُّوا " معنى دون معنى من معاني " البر " ، فهو على عمومه ، والبر بذوي القرابة أحد معاني " البر " .
* * *
وأما قوله : " وتتقوا " ، فإن معناه : أن تتقوا ربكم فتحذروه وتحذروا عقابه في
__________
(1) ديوانه : 141 وسيأتي في التفسير 13 : 28 (بولاق) وهو من قصيدته التي لا تبارى وهي مشهورة وما قبل البيت وما بعده مشهور .
(2) انظر ما سلف في معاني " البر " 2 : 8/ ثم 3 : 336 - 338 ، 556 .

(4/425)


فرائضه وحدوده أن تضيعوها أو تتعدَّوْها. وقد ذكرنا تأويل من تأوَّل ذلك أنه بمعنى " التقوى " قبل. (1)
* * *
وقال آخرون في تأويله بما : -
4372 - حدثني به محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس في قوله : " أن تبروا وتتقوا " قال : كان الرجل يحلف على الشيء من البر والتقوى لا يفعله ، فنهى الله عز وجل عن ذلك فقال : " ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم أن تبروا وتتقوا وتصلحوا بين الناس " الآية. قال : ويقال : لا يتق بعضكم بعضًا بي ، تحلفون بي وأنتم كاذبون ، ليصدقكم الناس وتصلحون بينهم ، فذلك قوله : " أن تبروا وتتقوا " ، الآية. (2)
* * *
وأما قوله : " وتصلحوا بين الناس " ، فهو الإصلاح بينهم بالمعروف فيما لا مَأثَم فيه ، وفيما يحبه الله دون ما يكرهه.
* * *
وأما الذي ذكرنا عن السدي : من أنّ هذه الآية نزلت قبل نزول كفارات الأيمان ، (3) فقولٌ لا دلالة عليه من كتاب ولا سنة. والخبر عما كان ، لا تدرك صحته إلا بخبر صادق ، وإلا كان دعوى لا يتعذر مِثلها وخلافها على أحد. (4)
وغير محال أن تكون هذه الآية نزلت بعد بيان كفارات الأيمان في " سوره المائدة " ، واكتفى بذكرها هناك عن إعادتها ههنا ، إذ كان المخاطبون بهذه الآية قد علموا الواجبَ من الكفارات في الأيمان التي يحنث فيها الحالف.
* * *
__________
(1) انظر الآثار رقم : 4361 ، 4363 ، 4364 .
(2) الأثر : 4372 - هو الأثر السالف رقم : 4361 وتتمته .
(3) يعني الأثر السالف رقم : 4358 .
(4) في المخطوطة " لا يبعد مثلها . . . " غير منقوطة كأنها " لا سعد " ، والذي في المطبوعة أجود .

(4/426)


وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (224)

القول في تأويل قوله تعالى : { وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (224) }
قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بذلك : " والله سميع " لما يقوله الحالفُ منكم بالله إذا حلف فقال : " والله لا أبر ولا أتقي ولا أصلح بين الناس " ، ولغير ذلك من قيلكم وأيمانكم " عليم " بما تقصدون وتبتغون بحلفكم ذلك ، الخير تريدون أم غيره ؟ لأني علام الغيوب وما تضمره الصدور ، لا تخفى عليّ خافية ، ولا ينكتم عني أمر عَلَن فطهر ، أو خَفي فبَطَن.
وهذا من الله تعالى ذكره تهدُّد ووعيدٌ. يقول تعالى ذكره : واتقون أيها الناس أن تظهروا بألسنتكم من القول ، أو بأبدانكم من الفعل ، ما نهيتكم عنه - أو تضمروا في أنفسكم وتعزموا بقلوبكم من الإرادات والنيات بفعل ما زجرتكم عنه ، فتستحقوا بذلك مني العقوبة التي قد عرَّفتكموها ، فإنّي مطَّلع على جميع ما تعلنونه أو تُسرُّونه.
* * *

(4/427)


لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (225)

القول في تأويل قوله تعالى : { لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ }
قال أبو جعفر : اختلف أهل التأويل في تأويل قوله : " لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم " ، وفي معنى " اللغو " .
فقال بعضهم في معناه : لا يؤاخذكم الله بما سبقتكم به ألسنتكم من الأيمان على عجلة وسرعة ، فيوجب عليكم به كفارة إذا لم تقصدوا الحلف واليمين. وذلك كقول القائل : " فعلت هذا والله ، أو : أفعله والله ، أو : لا أفعله والله " ، على سبوق المتكلم بذلك لسانُه ، بما وصل به كلامه من اليمين. (1)
__________
(1) قوله : " سبوق مصدر " سبق " لم يرد في كتب اللغة ، ولكن أبا جعفر قد كرر استعماله . وانظر ما سلف في هذا الجزء 4 : 287 والتعليق : 4 ، وما سيأتي : 456 ، تعليق : 4

(4/427)


* ذكر من قال ذلك :
4373 - حدثني إسحاق بن إبراهيم بن حبيب بن الشهيد قال ، حدثنا عتاب بن بشير ، عن خصيف ، عن عكرمة ، عن ابن عباس : " لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم " ، قال : هي " بلى والله " ، و " لا والله " .
4374 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن الزهري ، عن القاسم ، عن عائشة في قوله : " لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم " ، قالت : " لا والله " ، و " بلى والله " .
4375 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن ابن أبي نجيح ، عن عطاء ، عن عائشة نحوه.
4376 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، قال : سألت عائشة عن لغو اليمين ، قالت : هو " لا والله " و " بلى والله " ، ما يتراجع به الناس. (1)
4377 - حدثنا هناد قال ، حدثنا وكيع وعبدة وأبو معاوية ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة في قول الله : " لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم " ، قالت : " لا والله " و " بلى والله " .
4378 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا جرير ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة : " لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم " ، قالت : " لا والله " و " بلى والله " ، يصل بها كلامه.
4379 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا حكام بن سلم ، عن عبد الملك ، عن عطاء قال : دخلت مع عبيد بن عمير على عائشة فقال لها : يا أم المؤمنين ،
__________
(1) راجعه الكلام مراجعة ، وتراجعا القول : هو معاودة الكلام وجوابه أو التلازم في الأمور ، كقوله تعالى : { يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ } أي يتلاومون .

(4/428)


قوله : " لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم " ؟ قالت : هو " لا والله " ، و " بلى والله " ، ليس مما عقَّدتم الأيمان.
4380 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال ، حدثنا هشيم قال ، أخبرنا ابن أبي ليلى ، عن عطاء قال : أتيت عائشة مع عبيد بن عمير ، فسألها عبيد عن قوله : " لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم " ، فقالت عائشة : هو قول الرجل : " لا والله " و " بلى والله " ، ما لم يعقد عليه قلبه.
4381 - حدثني يعقوب قال ، حدثنا ابن علية قال ، أخبرنا ابن جريج ، عن عطاء قال : انطلقت مع عبيد بن عمير إلى عائشة وهي مجاورة في ثَبِير ، فسألها عبيد عن لغو اليمين ، قالت : " لا والله " و " بلى والله " .
4382 - حدثنا محمد بن موسى الحرشي قال ، حدثنا حسان بن إبراهيم الكرماني قال ، حدثنا إبراهيم الصائغ ، عن عطاء في قوله : " لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم " ، قال : قالت عائشة : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : هو قول الرجل في بيته : " كلا والله " و " بلى والله " . (1)
4383 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا
__________
(1) الأثر : 4382 - محمد بن موسى بن نفيع الحرشي البصري روى عنه الترمذي والنسائي وقال النسائي " صالح " وذكره ابن حبان في الثقات ، ووهاه أبو داود وضعفه . مات سنة 248 . وكان في المطبوعة : " الحرسي " وهو تصحيف . وحسان بن إبراهيم الكرماني العنزي قاضي كرمان . روى عن سعيد بن مسروق وسفيان بن سعيد الثوري ، وعنه حميد بن مسعدة وغيره . قال أحمد : " حديثه حديث أهل الصدق " . وقال النسائي " ليس بالقوي " مات سنة 186 . و " إبراهيم الصائغ " هو : إبراهيم بن ميمون الصائغ ، روى عن عطاء وغيره . قال أبو حاتم : " لا بأس به ، يكتب حديثه " . قتله أبو مسلم الخراساني سنة 131 يعرندس ، قال أبو داود : كان إذا رفع المطرقة فسمع النداء سيبها .
هذا وقد روى هذا الحديث أبو داود في سننه 3 : 304 رقم : 3254 عن حميد بن مسعدة ، عن حسان بن إبراهيم . . " ثم قال : " روى هذا الحديث داود بن أبي الفرات عن إبراهيم الصائغ موقوفا على عائشة وكذلك رواه الزهري وعبد الملك بن أبي سليمان ومالك بن مغول وكلهم عن عطاء عن عائشة موقوفا " . ورواه مالك في الموطأ : 2 : 477 عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة موقوفًا ، كما سيأتي في روايات الطبري . ورواه البخاري موقوفًا أيضًا (11 : 476 فتح الباري) واستقصى الحافظ القول فيه . وانظر سنن البيهقي 10 : 48 وما بعدها .

(4/429)


معمر ، عن الزهري ، عن عروة ، عن عائشة في قوله : " لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم " ، قالت : هم القوم يتدارءون في الأمر ، فيقول هذا : " لا والله ، وبلى والله ، وكلا والله " ، يتدارءون في الأمر ، لا تعقد عليه قلوبهم. (1)
4384 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا جرير ، عن مغيرة عن الشعبي في قوله : " لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم " ، قال : قول الرجل : " لا والله ، وبلى والله " ، يصل به كلامه ، ليس فيه كفارة.
4385 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال ، حدثنا هشيم قال ، أخبرنا المغيرة ، عن الشعبي قال : هو الرجل يقول : " لا والله ، وبلى والله " ، يصلُ حديثه.
4386 - حدثنا حميد بن مسعدة قال ، حدثنا بشر بن المفضل قال ، حدثنا ابن عون قال ، سألت عامرًا عن قوله : " لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم " ، قال : هو " لا والله ، وبلى والله " .
4387 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال ، حدثنا ابن علية وحدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي جميعًا ، عن ابن عون ، عن الشعبي مثله.
4388 - حدثني يعقوب بن إبراهيم وابن وكيع قالا حدثنا ابن علية قال ، حدثنا أيوب قال ، قال أبو قلابة في : " لا والله ، وبلى والله " ، أرجو أن يكون لغة وقال يعقوب في حديثه : أرجو أن يكون لغوًا وقال ابن وكيع في حديثه : أرجو أن يكون لغة ، ولم يشك. (2)
4389 - حدثنا أبو كريب وابن وكيع وهناد قالوا ، حدثنا وكيع ، عن إسماعيل بن أبي خالد ، عن أبي صالح ، قال : لا والله ، وبلى والله.
__________
(1) تدارأ القوم في الأمر : اختلفوا فيه ، فتخاصموا وتدافعوا وتراجعوا القول بينهم .
(2) يعني بقوله هنا : " لغة " أي لغة من لغات العرب ، وأسلوبا من أساليبهم في القول كقولهم : " قالك الله " " ويحك " لا يريدون الدعاء عليه ، فهذا أيضًا لا يريد اليمين ، إنما يريد التوثيق في كلامه .

(4/430)


4390 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا وكيع ، عن مالك ، عن عطاء ، قال : سمعت عائشة تقول في قوله : " لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم " ، قالت : " لا والله ، وبلى والله " .
4391 - حدثنا هناد قال ، حدثنا وكيع ، عن مالك بن مغول ، عن عطاء مثله.
4392 - حدثنا هناد قال ، حدثنا أبو معاوية ، عن عاصم الأحول ، عن عكرمة في قوله : " لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم " ، قال : هو قول الناس : " لا والله ، وبلى والله " .
4393 - حدثنا سفيان بن وكيع قال ، حدثنا أبو معاوية ، عن عاصم ، عن الشعبي وعكرمة قالا " لا والله وبلى والله " .
4394 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا ابن عيينة ، عن عمرو ، عن عطاء قال : دخلت مع عبيد بن عمير على عائشة فسألها ، فقالت : " لا والله ، وبلى والله " .
4395 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا حفص ، عن ابن أبي ليلى ، وأشعث ، عن عطاء ، عن عائشة : " لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم " قالت : " لا والله ، وبلى والله " .
4396 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي وجرير ، عن هشام ، عن أبيه ، عن عائشة قالت : " لا والله ، وبلى والله " .
4397 - حدثنا ابن وكيع وهناد قالا حدثنا يعلى ، عن عبد الملك ، عن عطاء قال : قالت عائشة في قول الله : " لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم " ، قالت : هو قولك : " لا والله ، وبلى والله " ، ليس لها عَقد الأيمان.
4398 - حدثنا هناد قال ، حدثنا أبو الأحوص ، عن مغيرة ، عن الشعبي قال : اللغو قول الرجل : " لا والله ، وبلى والله " ، يصل به كلامه ، ما لم يشك شيئًا يعقِد عليه قلبه.
4399 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، أخبرني عمرو ، أن

(4/431)


سعيد بن أبي هلال حدثه : أنه سمع عطاء بن أبي رباح يقول : سمعت عائشة تقول : لغو اليمين قول الرجل : " لا والله ، وبلى والله " ، فيما لم يعقد عليه قلبه.
4400 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال عمرو وحدثني عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي حسين النوفلي ، عن عطاء ، عن عائشة بذلك.
4401 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا جرير ، عن منصور ، عن الحكم ، عن مجاهد في قوله : " لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم " ، قال : الرجلان يتبايعان ، فيقول أحدهما : " والله لا أبيعك بكذا وكذا " ، ويقول الآخر : " والله لا أشتريه بكذا وكذا " ، فهذا اللغو ، لا يؤاخذ به.
* * *
وقال آخرون : بل اللغو في اليمين ، اليمينُ التي يحلفُ بها الحالف وهو يرى أنه كما يحلف عليه ، ثم يتبين غير ذلك ، وأنه بخلاف الذي حلف عليه.
* ذكر من قال ذلك :
4402 - حدثني يونس بن عبد الأعلى قال ، أخبرني ابن نافع ، عن أبي معشر ، عن محمد بن قيس ، عن أبي هريرة أنه كان يقول : لغو اليمين ، حلف الإنسان على الشيء يظن أنه الذي حلف عليه ، فإذا هو غير ذلك.
4403 - حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : " لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم " ، واللغو : أن يحلف الرجل على الشيء يراه حقًا ، وليس بحق.
4404 - حدثنا المثنى قال ، حدثنا أبو صالح قال ، حدثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس : " لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم " ، هذا في الرجل يحلف على أمرِ إضرارٍ أن يفعله فلا يفعله ، (1) فيرى الذي هو خير منه ، فأمره الله أن يكفّر عن يمينه ويأتي الذي هو خير. ومن اللغو أيضًا أن يحلف الرجل على أمر لا يألو فيه الصدق ، وقد أخطأ في يمينه ، (2) فهذا الذي عليه الكفارة ولا إثم عليه
__________
(1) في المخطوطة " إصرارًا " وفي الدر المنثور 1 : 269 " أو لا يفعله " وسيأتي برقم : 4463 مختصرًا .
(2) في الدر المنثور : " وقد أخطأ في ظنه " ، وهي أشبه بالصواب والمخطوطة والمطبوعة مجتمعان على " في يمينه " وانظر تعليق الطبري فيما سيأتي على هذا الأثرن وقوله في تفسيره وبيانه : ص : 445 وما بعدها .

(4/432)


.
4405 - حدثنا ابن بشار وابن المثنى قالا حدثنا أبو داود قال ، حدثنا هشام ، عن قتادة ، عن سليمان بن يسار في قوله : " لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم " ، قال : خطأ غير عَمد.
4406 - حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا ابن أبي عدي ، عن عوف ، عن الحسن في هذه الآية ، " لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم " ، قال : هو أن تحلف على الشيء ، وأنت يُخيَّل إليك أنه كما حلفت ، وليس كذلك. فلا يؤاخذه الله ولا كفارة ، ولكن المؤاخذة والكفارة فيما حلف عليه على علم.
4407 - حدثنا هناد وابن وكيع قالا حدثنا وكيع ، عن الفضل بن دلهم ، عن الحسن قال : هو الرجل يحلف على اليمين ، لا يرى إلا أنه كما حلف.
4408 - حدثنا سفيان قال ، حدثنا أبو معاوية ، عن عاصم ، عن الحسن : " لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم " ، قال : هو الرجل يحلف على اليمين يرى أنها كذلك ، وليست كذلك.
4409 - حدثنا هناد قال ، حدثنا عبدة ، عن سعيد ، عن قتادة ، عن الحسن في قوله : " لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم " ، قال : هو الرجل يحلف على الشي ، وهو يرى أنه كذلك ، فلا يكون كما قال ، فلا كفارة عليه.
4410 - حدثنا هناد وأبو كريب وابن وكيع قالوا ، حدثنا وكيع ، عن سفيان وحدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا الثوري ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : " لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم " ، قال : هو الرجل يحلف على الشيء لا يرى إلا أنها كما حلف عليه ، وليست كذلك.

(4/433)


4411 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح في قول الله : " لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم " ، قال : من حلف بالله ولا يعلم إلا أنه صادق فيما حلف.
4412 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : " لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم " ، حلِف الرجل على الشيء وهو لا يعلم إلا أنه على ما حلف عليه ، فلا يكون كما حلف ، كقوله : " إن هذا البيت لفلان " ، وليس له و " إن هذا الثوب لفلان " ، وليس له.
4413 - حدثنا هناد قال ، حدثنا أبو الأحوص ، عن مغيرة ، عن إبراهيم في قوله : " لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم " ، قال : هو الرجل يحلف على الشيء يرى أنه فيه صادق.
4414 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال ، حدثنا هشيم قال ، أخبرنا مغيرة ، عن إبراهيم في قوله : " لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم " ، قال : هو الرجل يحلف على الأمر يرى أنه كما حلف عليه ، فلا يكون كذلك. قال : فلا يؤاخذكم بذلك. قال : وكان يحبّ أن يُكفّر.
4415 - حدثنا موسى بن عبد الرحمن المسروقي قال ، حدثنا الجعفي ، عن زائدة ، عن منصور قال : قال إبراهيم : " لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم " ، قال : أن يحلف على الشيء وهو يرى أنه صادق وهو كاذب ، فذلك اللغو ، لا يؤاخذ به. (1)
4416 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا حكام ، عن عمرو ، عن منصور ،
__________
(1) الأثر : 4415 - " الجعفي " هو حسين بن علي بن الوليد الجعفي . قال أحمد : " ما رأيت أفضل من حسين وسعيد بن عامر " . قال العجلي : " ثقة ، وكان صالحًا لم أر رجلا قط أفضل منه ، وكان صحيح الكتاب . يقال إنه لم يطأ أنثى قط ، وكان جميلا . وكان زائدة يختلف إليه إلى منزله يحدثه ، فكان أروى الناس عنه . وكان الثوري إذا رآه عانقه وقال : هذا راهب جعفي " . مات سنة 203 (التهذيب) .

(4/434)


عن إبراهيم نحوه إلا أنه قال : إن حلفت على الشيء ، وأنت ترى أنك صادق ، وليس كذلك.
4417 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا ابن إدريس قال ، أخبرنا حصين ، عن أبي مالك أنه قال : اللغو ، الرجل يحلف على الأيمان ، وهو يرى أنه كما حلف. (1)
4418 - حدثني إسحاق بن [ إبراهيم بن ] حبيب بن الشهيد قال ، (2) حدثنا عتاب بن بشير ، عن خصيف ، عن زياد قال : هو الذي يحلف على اليمين يرى أنه فيها صادق.
4419 - حدثنا محمد بن بشار قال ، حدثنا يعقوب بن إسحاق الحضرمي قال ، حدثنا بكير بن أبي السميط ، عن قتادة في قوله : " لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم " ، قال : هو الخطأ غير العمد ، الرجل يحلف على الشيء يرى أنه كذلك وليس كذلك.
4420 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عمرو بن عون قال ، أخبرنا هشيم ، عن منصور ، ويونس ، عن الحسن قال : اللغو ، الرجل يحلف على الشيء يرى أنه كذلك ، فليس عليه فيه كفارة.
4421 - حدثنا هناد وابن وكيع قال هناد : حدثنا وكيع ، وقال ابن وكيع : حدثني أبي عن عمران بن حدير قال : سمعت زرارة بن أوفى قال : هو الرجل يحلف على اليمين لا يرى إلا أنها كما حلف.
4422 - حدثنا أحمد بن حازم قال ، حدثنا أبو نعيم قال ، حدثنا عمر بن بشير قال : سئل عامر عن هذه الآية : " لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم " ،
__________
(1) في المطبوعة : " أبو إدريس " ، والصواب من المخطوطة ، وهو : عبد الله بن إدريس الأودي سلفت ترجمته فراجعه في الفهرست .
(2) الزيادة بين القوسين للبيان ، واتفقت المخطوطة والمطبوعة على إسقاط " إبراهيم بن " ولكنه مضى دائما بتمامه ، وأقربه رقم : 4373 . فلذلك أتممته .

(4/435)


قال : اللغو أن يحلف الرجل لا يألو عن الحق ، فيكون غير ذلك. فذلك اللغو الذي لا يؤاخذ به. (1)
4423 - حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : " لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم " ، فاللغو اليمين الخطأ غير العمد ، أن تحلف على الشيء وأنت ترى أنه كما حلفت عليه ، ثم لا يكون كذلك. فهذا لا كفارة عليه ولا مأثم فيه.
4424 - حدثني موسى قال ، حدثنا عمرو قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : " لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم " ، أما اللغو : فالرجل يحلف على اليمين وهو يرى أنها كذلك ، فلا تكون كذلك. فليس عليه كفارة.
4425 - حدثت عن عمار قال ، حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع في قوله : " لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم " ، قال : اللغو اليمين الخطأ في غير عمد : أن يحلف على الشيء وهو يرى أنه كما حلف عليه. وهذا ما ليس عليه فيه كفارة.
4426 - حدثنا هناد قال ، حدثنا أبو الأحوص ، عن حصين ، عن أبي مالك قال : أما اليمين التي لا يؤاخذ بها صاحبها ، فالرجل يحلف على اليمين وهو يرى أنه فيها صادق ، فذلك اللغو.
4427 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال ، حدثنا هشيم قال ، أخبرنا حصين ، عن أبي مالك مثله إلا أنه قال : الرجل يحلف على الأمر يرى أنه كما حلف عليه ، فلا يكون كذلك. فليس عليه فيه كفارة ، وهو اللغو.
4428 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، أخبرني معاوية بن صالح ،
__________
(1) الأثر : 4422 - عمر بن بشير الهمداني أبو هانئ روى عن الشعبي . روى عنه وكيع وأبو نعيم قال أحمد : " صالح الحديث " وقال ابن معين : " ضعيف " وقال أبو حاتم : " ليس بقوي يكتب حديثه " . مترجم في الجرح والتعديل . و " عامر " هو عامر الشعبي مضى مرارًا .

(4/436)


عن يحيى بن سعيد ، وعن ابن أبي طلحة - كذا قال ابن أبي جعفر - (1) قالا من قال : " والله لقد فعلت كذا وكذا " وهو يظن أن قد فعله ، ثم تبيَّن له أنه لم يفعله ، فهذا لغو اليمين ، وليس عليه فيه كفارة.
4429 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر ، عن رجل ، عن الحسن في قوله : " لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم " ، قال : هو الخطأ غيرُ العمد ، كقول الرجل : " والله إن هذا لكذا وكذا " ، وهو يرى أنه صادق ، ولا يكون كذلك قال معمر : وقاله قتادة أيضًا.
4430 - حدثني ابن البرقي قال ، حدثنا عمرو قال : سئل سعيد عن اللغو في اليمين ، قال سعيد ، وقال مكحول : الخطأ غيرُ العمد ، ولكن الكفارة فيما عقدت قلوبكم.
4431 - حدثني ابن البرقي قال ، حدثنا عمرو ، عن سعيد بن عبد العزيز ، عن مكحول أنه قال : اللغو الذي لا يؤاخذ الله به ، أن يحلف الرجل على الشيء الذي يظن أنه فيه صادق ، فإذا هو فيه غير ذلك ، فليس عليه فيه كفارة ، وقد عفا الله عنه.
4432 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا جرير ، عن منصور ، عن إبراهيم في قوله : " لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم " ، قال : إذا حلف على اليمين وهو يرى أنه فيه صادق ، وهو كاذب ، (2) فلا يؤاخذ به ، وإذا حلف على اليمين وهو يعلم أنه كاذب ، فذاك ، الذي يؤاخذ به.
* * *
وقال آخرون : بل اللغو من الأيمان التي يحلف بها صاحبها في حال الغضب ،
__________
(1) هكذا جاء هذا الإسناد في المخطوطة والمطبوعة ، ولم أستطع أن أتبين صوابه ، فأبقيته كما هو حتى يتبين مما يأتي كيف كان صوابه . وأخشى أن يكون قد سقط بين الكلامين إسناد آخر .
(2) في المخطوطة : " أنه صادق " بحذف " فيه " .

(4/437)


على غير عقد قلب ولا عزم ، ولكن وُصْلةً للكلام.
* ذكر من قال ذلك :
4433 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا مالك بن إسماعيل ، عن خالد ، عن عطاء ، عن وَسيم ، [ عن طاوس ] ، عن ابن عباس قال : لغو اليمين أن تحلف وأنت غضبان. (1)
4434 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا يحيى بن واضح قال ، حدثنا أبو حمزة ، عن عطاء ، عن طاوس قال : كل يمين حلف عليها رجل وهو غضبان ، فلا كفَّارة عليه فيها ، قوله : " لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم " (2)
* * *
__________
(1) الأثر : 4433 - مالك بن إسماعيل أبو غسان النهدي ، روى عنه البخاري وهو متقن ثقة ، مات سنة 219 ، مترجم في التهذيب . و " خالد " هو : خالد بن عبد الله بن عبد الرحمن الواسطي . قال البخاري في الكبير 2/1/147 : " قال علي : سماع خالد عن عطاء بن السائب أخيرًا ، وسماع حماد بن زيد من عطاء صحيح " . مات سنة 182 ومترجم في التهذيب . و " عطاء " هو عطاء ابن السائب . و " وسيم " مترجم في الجرح والتعديل 4/2/46 ، والكبير للبخاري 4/2/181 وقال : " وسيم " عن طاوس عن ابن عباس ، في يمين اللغو . قاله خالد بن عبد الله عن عطاء بن السائب " . وفي المطبوعة : " رستم " وهو خطأ . وفي المطبوعة والمخطوطة إسقاط " عن طاوس " والصواب ما أثبته بين القوسين . كما نص عليه البخاري ، وكما رواه البيهقي .
وهذا الخبر أشار إليه البخاري في الكبير كما نقلنا عنه . ورواه البيهقي في السنن الكبرى 10 : 49 ، من طريق سعيد بن منصور " عن خالد عن عطاء بن السائب ، عن وسيم عن طاوس ، عن ابن عباس " . فالظاهر من هذا كله - ومما سيأتي - أنه سقط من نسخ الطبري هنا " عن طاوس " بين " وسيم " و " ابن عباس " .
وذكره ابن كثير 1 : 527 ، من تفسير ابن أبي حاتم بإسناده من طريق مسدد " حدثنا خالد حدثنا عطاء عن طاوس عن ابن عباس " . فالظاهر أنه وقع سقط في مطبوعة ابن كثير ، بحذف " عن وسيم " بين عطاء وطاوس .
وذكره أيضًا السيوطي 1 : 269 ونسبه لسعيد بن منصور ، وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي " من طريق طاوس عن ابن عباس " .
وهذا الخبر شاهد جيد للحديث المرفوع من حديث ابن عباس الآتي : 4435 .
(2) الأثر : 4434 - " أبو حمزة " هو : محمد بن ميمون المرزوي ، أبو حمزة السكري مات سنة : 166 .
وهذا الخبر من كلام طاوس يؤيد روايته السابقة عن ابن عباس . وهو شاهد آخر للحديث المرفوع التالي له .

(4/438)


وعلة من قال هذه المقالة ، ما : -
4435 - حدثني به أحمد بن منصور المروزي قال ، حدثنا عمر بن يونس اليمامي قال ، حدثنا سليمان بن أبي سليمان الزهري ، عن يحيى بن أبي كثير ، عن طاوس ، عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا يمين في غضب " . (1)
* * *
وقال آخرون : بل اللغو في اليمين : الحلفُ على فعل ما نهى الله عنه ، وترك ما أمر الله بفعله.
* ذكر من قال ذلك :
4436 - حدثنا هناد قال ، حدثنا حفص بن غياث ، عن داود بن أبي هند ، عن سعيد بن جبير قال : هو الذي يحلف على المعصية ، فلا يفي ويكفِّر يمينه ، قوله : " لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم " .
__________
(1) الحديث : 4435 - هذا إسناد صحيح . أحمد بن منصور بن راشد ، أبو صالح الحنظلي المرزوي شيخ الطبري : ثقة .
عمر بن يونس بن القاسم اليمامي : ثقة ثبت ، وثقه أحمد وابن معين .
سليمان بن أبي سليمان الزهري اليمامي : ثقة ترجمه البخاري في الكبير 2/2/20 ، وذكر أنه روى عن يحيى بن أبي كثير وأنه سمع منه عمر بن يونس . ثم لم يذكر فيه حرجًا . وترجمه ابن أبي حاتم 2/1/122 بنحو ترجمة البخاري ، ثم روى عن أبيه أبي حاتم أنه قال : " هو شيخ ضعيف " . وذكره ابن حبان في الثقاتوقال : " ربما خالف " . كما نقل عنه الحافظ في لسان الميزان 3 : 95 . وقد خلط بعضهم بينه وبين راو آخر ضعيف جدًا ، هو " سليمان بن داود اليمامي " لأنه يكثر الرواية عن يحيى بن أبي كثير . ولكن هذا غير ذاك كما فرق بينهما البخاري وابن أبي حاتم وابن حبان وحقق ذلك الحافظ في لسان الميزان . ولكن كلام الحافظ يوهم أن البخاري ضعف الراوي هنا ، لأنه زعم أن أبا حاتم تبع البخاري في ذلك . والبخاري لم يذكر جرحًا في الكبير ولا ترجمه في الصغير ولا ذكره في الضعفاء . فالحق أنه ثقة .
وهذا الحديث لم أجده في مكان آخر ، إلا أنه ذكره الحافظ في الفتح 11 : 490 ونسبه للطبراني في الأوسط ، ثم قال : " وسنده ضعيف " . ولم أجده في مجمع الزوائد . وإنما ضعفه الحافظ فيما أرى والله أعلم - بأنه ذهب إلى تضعيف سليمان بن أبي سليمان . وأنا أخالفه في ذلك ، كما بينت من قبل .

(4/439)


4437 - حدثنا محمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب قال ، حدثنا يزيد بن زريع قال ، حدثنا داود ، عن سعيد بن جبير قال : لغو اليمين : أنْ يحلِف الرجل على المعصية لله ، لا يؤاخذه الله بإلغائها. (1)
4438 - حدثنا محمد بن المثنى قال ، حدثنا ابن أبي عدي ، عن داود ، عن سعيد بن جبير بنحوه وزاد فيه ، قال : وعليه كفارة. (2)
4439 - حدثنا محمد بن المثنى قال ، حدثني عبد الأعلى ويزيد بن هارون ، عن داود ، عن سعيد بنحوه.
4440 - حدثنا ابن المثنى قال ، حدثنا عبد الوهاب قال ، حدثنا داود ، عن سعيد بن جبير : " لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم " ، قال : هو الرجل يحلف على المعصية ، فلا يؤاخذه الله أن يكفِّر عن يمينه ، ويأتي الذي هو خير.
4441 - حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا محمد بن جعفر قال ، حدثنا شعبة وحدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن شعبة عن أبي بشر ، عن سعيد بن جبير في هذه الآية : " لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم " ، قال : الرجل يحلف على المعصية ، فلا يؤاخذه الله بتركها.
4442 - حدثنا الحسن بن الصباح البزار قال ، حدثنا إسحاق ، عن عيسى ابن بنت داود بن أبي هند قال ، حدثنا خالد بن إلياس ، عن أم أبيه : أنها حلفت أن لا تكلم ابنة ابنها - ابنة أبي الجهم - فأتت سعيد بن المسيب وأبا بكر وعروة بن الزبير فقالوا : لا يمين في معصية ، ولا كفارة عليها. (3)
4443 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال ، حدثنا هشيم ، عن أبي بشر ، عن سعيد بن جبير في قوله : " لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم " ، قال : هو
__________
(1) في المخطوطة والمطبوعة : " بإيفائها " والصواب ما أثبت . وانظر ص : 441 تعليق : 1
(2) في المطبوعة : " وعليه كفارة " وأثبت ما في المخطوطة .
(3) الأثر : 4442 - الحسن بن الصباح البزار الواسطي روى عنه البخاري وأبو داود والترمذي كان ثقة صاحب سنة ، مات سنة 249 . وخالد بن إلياس بن صخر أبو الهيثم العدوي قال أحمد : متروك الحديث . وقال ابن معين : ليس بشيء ولا يكتب حديثه .

(4/440)


الرجل يحلف على المعصية ، فلا يؤاخذه الله بتركها إن تركها. قلت : فكيف يصنع ؟ قال : يكفر عن يمينه ويترك المعصية.
4444 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا هشيم ، عن أبي بشر ، عن سعيد بن جبير في قوله : " لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم " ، قال : هو الرجل يحلف على الحرام ، فلا يؤاخذه الله بتركه.
4445 - حدثني يعقوب قال ، حدثنا ابن علية قال ، أخبرنا داود ، عن سعيد بن جبير قال في لغو اليمين قال : هي اليمين في المعصية ، قال : أو لا تقرأ فتفهم ؟ قال الله : ( لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الأيْمَانَ ) [ سورة المائدة : 89 ] ، قال : فلا يؤاخذه بالإلغاء ، ولكن يؤاخذه بالتمام عليها. (1) قال : وقال : " لا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم " إلى قوله : " فإنّ الله غفور حليم " . (2)
4446 - حدثني المثنى قال ، حدثنا سويد بن نصر قال ، أخبرنا ابن المبارك ، عن هشيم ، عن أبي بشر ، عن سعيد بن جبير في قوله : " لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم " ، قال : الرجل يحلف على المعصية ، فلا يؤاخذه الله بتركها ، ويكفِّر.
4447 - حدثنا محمد بن المثنى قال ، حدثنا وهب بن جرير قال ، حدثنا شعبة ، عن عاصم ، عن الشعبي ، عن مسروق ، في الرجل يحلف على المعصية ، فقال : أيكفِّر خُطوات الشيطان ؟ ليس عليه كفارة.
4448 - حدثني ابن المثنى قال ، حدثنا وهب بن جرير قال ، حدثنا شعبة ، عن عاصم ، عن عكرمة ، عن ابن عباس مثل ذلك.
__________
(1) في المطبوعة : " بالإيفاء " وفي المخطوطة : " بالإيفاد " والصواب " بالإلغاء " ألغى الشيء : أبطله وأسقطه . وتم على الأمر تمامًا : استمر عليه وأنفذه .
(2) في المخطوطة والمطبوعة : " والله غفور حليم " سها الكاتب ، وهذا صواب القراءة .

(4/441)


4449 - حدثنا محمد بن المثنى قال ، حدثنا ابن أبي عدي ، عن داود ، عن الشعبي ، في الرجل يحلف على المعصية ، قال : كفارتها أن يتوب منها.
4450 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا هشيم قال ، أخبرنا مغيرة ، عن الشعبي أنه كان يقول : يترك المعصية ولا يكفر ، ولو أمرتُه بالكفارة لأمرته أن يَتِمّ على قوله.
4451 - حدثنا يحيى بن داود الواسطي قال ، حدثنا أبو أسامة ، عن مجالد ، عن عامر ، عن مسروق قال : كل يمين لا يحلّ لك أن تفي بها ، فليس فيها كفارة.
* * *
وعلة من قال هذا القول من الأثر ، ما : -
4452 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا أبو أسامة ، عن الوليد بن كثير قال ، حدثني عبد الرحمن بن الحارث ، عن عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن عبد الله بن عمرو ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : من نذر فيما لا يملك فلا نذر له ، ومن حلف على معصية لله فلا يمين له ، ومن حلف على قطيعة رَحِمٍ فلا يمينَ له " . (1)
4453 - حدثني علي بن سعيد الكندي قال ، حدثنا علي بن مسهر ، عن حارثة بن محمد ، عن عمرة ، عن عائشة قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من حلف على يمينِ قطيعةِ رحم أو معصية لله ، فبِرُّه أن يحنَث بها ويرجع عن يمينه . (2)
* * *
__________
(1) الحديث : 4452 - رواه الحاكم في المستدرك 4 : 300 من طريق الحسن بن علي بن عفان العامري . والبيهقي في السنن الكبرى 10 : 23 من طريق أحمد بن عبد الحميد الحارثي - كلاهما عن أبي أسامة ، بهذا الإسناد . وقال الحاكم : " هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه " . وتعقبه الذهبي فقال : " عبد الرحمن : متروك " وقال أبو حاتم : " شيخ " و " عبد الرحمن بن الحارث بن عبد الله بن عياش بن أبي ربيعة " : ثقة كما مضى في : 3827 .
ومعنى الحديث ثابت من أوجه كثيرة ، مجموعًا ومفرقًا في المسند : 6732 ، 6780 ، 6781 ، 6932 ، 6990 .
(2) الحديث : 4453 - هذا حديث ضعيف جدًا .
علي بن مسهر القرشي الكوفي الحافظ : ثقة ثبت ، ممن جمع الحديث والفقه أخرج له . الأئمة الستة .
حارثة بن محمد : هو حارثة بن أبي الرجال محمد بن عبد الرحمن يروي عن جدته أم أبيه عمرة بنت عبد الرحمن وهو ضعيف جدًا . قال البخاري في الكبير 2/1/87 ، والصغير : 174 ، والضعفاء : 11 - " منكر الحديث " وقال أحمد : " ضعيف ليس بشيء " . وقال البخاري في الصغير : " لم يعتد أحمد بحارثة بن أبي الرجال " .
والحديث لم أجده في شيء من المراجع .

(4/442)


وقال آخرون : اللغو من الأيمان : كل يمين وصَل الرجل بها كلامه ، على غير قصدٍ منه إيجابَها على نفسه.
* ذكر من قال ذلك :
4454 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال ، حدثنا ابن علية قال ، حدثنا هشام قال ، حدثنا حماد ، عن إبراهيم قال : لغو اليمين ، أن يصل الرجل كلامه بالحلف : " والله ليأكلن ، والله ليشربن " ونحو هذا ، لا يتعمد به اليمين ، ولا يريد به حلفًا. ليس عليه كفارة.
4455 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا ابن علية ، عن هشام الدستوائي ، عن حماد ، عن إبراهيم : لغو اليمين ، ما يصل به كلامه : " والله لتأكلن ، والله لتشربن " .
4456 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا جرير ، عن منصور ، عن الحكم ، عن مجاهد : " لا يؤاخذكم الله باللغو في إيمانكم " ، قال : هما الرجلان يتساومان بالشيء ، فيقول أحدهما : " والله لا أشتريه منك بكذا " ، ويقول الآخر : " والله لا أبيعك بكذا وكذا " .
4457 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، أخبرني يونس ، عن ابن شهاب : أن عروة حدثه : أن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت : أيمان اللغو ، ما كان في الهزل والمراء والخصومة ، والحديث الذي لا يعتمد عليه القلب. (1)
* * *
__________
(1) أخشى أن يكون الصواب : " لا يعقد عليه . . . " .

(4/443)


وعلة من قال هذا القول من الأثر ، ما : -
4458 - حدثنا به محمد بن موسى الحرشي قال ، حدثنا عبيد الله بن ميمون المرادي قال ، حدثنا عوف الأعرابي ، عن الحسن بن أبي الحسن قال : مرَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوم ينتضلون - يعني : يرمون - ومع النبي صلى الله عليه وسلم رجل من أصحابه ، فرمى رجل من القوم فقال : أصبت والله ، وأخطأت! فقال الذي مع النبي صلى الله عليه وسلم : حنث الرجل يا رسول الله ! قال : كلا أيمان الرُّماة لغو لا كفارة فيها ولا عقوبة . (1)
* * *
وقال آخرون : اللغو من الأيمان ، ما كان من يمينٍ بمعنى الدعاء من الحالف على نفسه : إن لم يفعل كذا وكذا ، أو بمعنى الشرك والكفر.
* ذكر من قال ذلك :
4459 - حدثني محمد بن عبد الله بن عبد الحكم المصري قال ، حدثنا إسماعيل بن مرزوق ، عن يحيى بن أيوب ، عن محمد بن عجلان ، عن زيد بن أسلم في قول الله : " لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم " ، قال : هو كقول الرجل : " أعمى الله بصري إن لم أفعل كذا وكذا - أخرجني الله من مالي إن لم آتك غدًا " ، فهو هذا ، ولا يترك الله له مالا ولا ولدًا. يقول : لو يؤاخذكم الله بهذا لم يترك لكم شيئًا.
__________
(1) الحديث : 4458 - محمد بن موسى بن نفيع الحرشي شيخ الطبري : ثقة ذكره ابن حبان في الثقات وقال النسائي : " صالح " .
عبيد الله بن ميمون المرادي : لا أعرف من هو ؟ ولم أجد له ترجمة . وفي ابن كثير - عن هذا الموضع : " عبد الله " بدل " عبيد الله " فلا أدري أيهما الصحيح . والحسن بن أبي الحسن : هو الحسن البصري .
وهذا الحديث نقله ابن كثير 1 : 527 عن هذا الموضع . وقال : " هذا مرسل حسن ، عن الحسن " ولعله أعجبه الجناس والسجع أما المرسل فإنه ضعيف ، لجهالة الواسطة بعد التابعي كما هو معروف .
ونقله السيوطي أيضًا 1 : 269 ولم ينسبه لغير الطبري .

(4/444)


4460 - حدثنا محمد بن عبد الله بن عبد الحكم قال ، حدثنا إسماعيل قال ، حدثني يحيى بن أيوب ، عن عمرو بن الحارث ، عن زيد بن أسلم بمثله.
4461 - حدثنا محمد بن عبد الله بن عبد الحكم قال ، حدثنا إسماعيل بن مرزوق قال ، حدثني يحيى بن أيوب ، أن زيد بن أسلم كان يقول في قوله : " لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم " ، مثل قول الرجل : " هو كافر ، وهو مشرك " . قال : لا يؤاخذه حتى يكون ذلك من قلبه.
4462 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد في قوله : " لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم " ، قال : اللغو في هذا : الحلف بالله ما كان بالألسن ، فجعله لغوًا ، وهو أن يقول : " هو كافر بالله ، وهو إذًا يشرك بالله ، وهو يدعو مع الله إلهًا " ، فهذا اللغو الذي قال الله في " سورة البقرة " .
* * *
وقال آخرون : اللغو في الأيمان : ما كانت فيه كفارة.
* ذكر من قال ذلك :
4463 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثني معاوية بن صالح ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قوله : " لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم " ، فهذا في الرجل يحلف على أمر إضرار أن يفعله فلا يفعله ، فيرى الذي هو خير منه ، فأمره الله أن يكفر يمينه ، ويأتي الذي هو خير. (1)
4464 - حدثني يحيى بن جعفر قال ، حدثنا يزيد بن هارون قال ، أخبرنا جويبر ، عن الضحاك في قوله : " لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم " ، قال : اليمين المكفرة.
* * *
وقال آخرون : اللغو من الأيمان : هو ما حنث فيه الحالف ناسيًا.
* ذكر من قال ذلك :
__________
(1) الأثر : 4463 - هو مختصر الأثر السالف رقم : 4404 وانظر التعليق هناك .

(4/445)


4465 - حدثني الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا هشيم قال ، أخبرني مغيرة ، عن إبراهيم قال : هو الرجل يحلف على الشيء ثم ينساه ، يعني في قوله : " لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم " .
* * *
قال أبو جعفر : و " اللغو " من الكلام في كلام العرب ، كلّ كلام كان مذمومًا وسَقَطًا لا معنى له مهجورًا ، (1) يقال منه : " لغا فلان في كلامه يلغُو لَغْوًا " إذا قال قبيحًا من الكلام ، ومنه قول الله تعالى ذكره : ( وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ ) [ سورة القصص : 55] ، وقوله : ( وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا ) [ سورة الفرقان : 72]. ومسموع من العرب : " لَغَيْتُ باسم فلان " ، بمعنى أولعت بذكره بالقبيح. فمن قال : " لَغَيْت " ، قال : " ألْغَى لَغًا " ، وهي لغة لبعض العرب ، ومنه قول الراجز : (2)
وَرَبِّ أَسْرَابِ حَجيجٍ كُظَّم... عَنِ اللَّغَا وَرَفَثِ التَّكَلُّمِ (3)
فإذا كان " اللغو " ما وصفت ، وكان الحالفُ بالله : " ما فعلت كذا " وقد فعل ، " ولقد فعلتُ كذا " وما فعل - واصلا بذلك كلامه على سبيل سُبوق لسانه من غير تعمد إثم في يمينه ، (4) ولكن لعادة قد جرت له عند عجلة الكلام والقائلُ : " والله إنّ هذا لَفُلان " وهو يراه كما قال ، أو : " والله ما هذا فلان! " وهو يراه ليس به والقائلُ : " ليفعلنّ كذا والله - أو : لا يفعل كذا والله " على سبيل ما وصفنا من عجلة الكلام وسبوق اللسان للعادة ، (5) على غير تعمد
__________
(1) في المخطوطة والمطبوعة : " وفعلا " وهي كلمة محرفة بلا شك ، والصواب فيما أرجح وسقطا " لم يجد الناسخ قراءتها فحرفها . و " السقط " : الخطأ ، وما تسقطه فلا تعتد به . وهجر يهجر هجرًا : إذا خلط في كلامه وهذي وأفحش . والكلام مهجور .
(2) هو رؤية بن العجاج .
(3) مضى تخريج هذا الرجز في 3 : 488 - 489 .
(4) انظر التعليق على قوله " سبوق " فيما سلف من هذا الجزء : 287 ، تعليق : 4/ وص : 427
(5) انظر التعليق على قوله " سبوق " فيما سلف من هذا الجزء : 287 ، تعليق : 4/ وص : 427

(4/446)


حلف على باطل والقائل : " هو مشرك ، أو هو يهودي أو نصراني ، إن لم يفعل كذا - أو إن فعل كذا " من غير عزم على كفر أو يهودية أو نصرانية (1) جميعهم قائلون هُجْرًا من القول وذميمًا من المنطق ، (2) وحالفون من الأيمان بألسنتهم ما لم تتعمد فيه الإثمَ قلوبهم (3) كان معلومًا أنهم لُغاةٌ في أيمانهم ، لا تلزمهم كفارة في العاجل ، ولا عقوبة في الآجل ، لإخبار الله تعالى ذكره أنه غير مؤاخذ عبادَه ، بما لغوا من أيمانهم ، وأنّ الذي هو مؤاخذهم به ، ما تعمدت فيه الإثمَ قلوبُهم.
وإذ كان ذلك كذلك وكان صحيحًا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " من حلف على يمين فرأى غيرَها خيرًا منها ، فليأت الذي هو خير ، وليكفر عن يمينه " ، فأوجب الكفارة بإتيان الحالف ما حلف أن لا يأتيه ، مع وجوب إتيان الذي هو خير من الذي حلف عليه أن لا يأتيه ، وكانت الغرامةُ في المال - أو إلزام الجزاء من المجزيِّ أبْدالَ الجازين (4) لا شك عقوبةً كبعض العقوبات التي جعلها الله تعالى ذكره نكالا لخلقه فيما تعدَّوا من حدوده ، وإن كان
__________
(1) سياق هذه الجمل التي وضعت قبلها الخطوط : فإذا كان اللغو ما وصفت ، وكان الحالف . . . والقائل . . . والقائل . . . والقائل . . . جميعهم قائلون . . . "
(2) الهجر من الكلام (بضم الهاء وسكون الجيم) : القول السيء القبيح والتخليط والفحش .
(3) قوله : " كان معلومًا . . . " جواب قوله : " وإذا كان اللغو ما وصفت وكان الحالف بالله . . . " وقوله : " لغاة " جمع " لاغ " مثل " قاض وقضاة " .
(4) في المطبوعة : " أبدان الجارين " وفي المخطوطة " أبدان الجازين " زكأن الصواب ما أثبت فإنه يعني بهذا ، ما فرضه الله تعالى في قوله في سورة المائدة : 95
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ }
وقد فسر الطبري الجزاء هناك (7 : 28) فقال : " وعليه كفارة بدل " . فقوله هنا : " المجزي " يعني الصيد المقتول الذي يكون جزاؤه مثله من النعم ، وقوله " من المجزي " يعني " بدلا منه " . والأبدال هنا هي الكفارات . والجازي : المكفر عن قتله الصيد بمثله من النعم .

(4/447)


يجمع جميعها أنها تمحيص وكفارات لمن عوقب بها فيما عوقبوا عليه (1) كان بينًا أنّ من ألزم الكفارة في عاجل دنياه فيما حلف به من الأيمان فحنِث فيه ، وإن كانت كفارة لذنبه ، فقد واخذه الله بها بإلزامه إياه الكفارة منها ، وإن كان ما عجَّل من عقوبته إياه على ذلك ، مُسْقطًا عنه عقوبته في آجله. وإذ كان تعالى ذكره قد واخذه بها ، فغيرُ جائز لقائل أن يقول وقد وأخذه بها : هي من اللغو الذي لا يؤاخذ به قائله.
فإذ كان ذلك غيرَ جائز ، فبيِّنٌ فساد القول الذي روي عن سعيد بن جبير أنه قال : " اللغو الحلف على المعصية " ، لأن ذلك لو كان كذلك ، لم يكن على الحالف على معصية الله كفارة بحِنْثه في يمينه. وفي إيجاب سعيدٍ عليه الكفارة ، دليلٌ واضح على أن صاحبها بها مؤاخذ ، لما وصفنا من أن من لزمه الكفارة في يمينه ، فليس ممن لم يؤاخذ بها.
فإذا كان " اللغو " هو ما وصفنا مما أخبرنا الله تعالى ذكره أنه غير مؤاخذنا به - وكلُّ يمين لزمت صاحبَها بحنثه فيها الكفارةُ في العاجل ، أو أوعد الله تعالى ذكره صاحبها العقوبةَ عليها في الآجل ، وإن كان وَضَع عنه كفارتها في العاجل - فهي مما كسبته قلوب الحالفين ، وتعمدت فيه الإثم نفوس المقسمين. وما عدا ذلك فهو " اللغو " ، وقد بينا وجوهه (2) فتأويل الكلام إذًا : لا تجعلوا الله أيها المؤمنون قوةً لأيمانكم ، (3) وحجة لأنفسكم في إقسامكم ، في أن لا تبرُّوا ولا تتقوا ولا تصلحوا بين الناس ، فإن الله لا يؤاخذكم بما لَغَتْه ألسنتكم من أيمانكم فنطقت به من قبيح
__________
(1) سياق هذه الجملة : " وإذ كان ذلك كذلك ، وكان صحيحًا عن رسول الله . . . وكانت الغرامة في المال . . . كان بينًا أن . . . "
(2) سياق هذه الجملة : فإذ كان اللغو هو ما وصفنا . . . وكل يمين لزمت صاحبها بحنثه . . . فهي مما كسبته قلوب الحالفين . . . فتأويل الكلام إذا . . . "
(3) في المطبوعة : " عرضة لأيمانكم " والصواب ما أثبت من المخطوطة .

(4/448)


الأيمان وذميمها ، على غير تعمُّدكم الإثم ، وقصدِكم بعزائم صدوركم إلى إيجاب عَقْد الأيمان التي حلفتم بها ، ولكنه إنما يؤاخذكم بما تعمدتم فيه عقد اليمين وإيجابها على أنفسكم ، وعزمتم على الإتمان على ما حلفتم عليه بقصدٍ منكم وإرادة ، (1) فيلزمكم حينئذ إمّا كفارة في العاجل ، وإمّا عقوبة في الآجل.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ }
قال أبو جعفر : اختلف أهل التأويل في المعنى الذي أوعد الله تعالى ذكره بقوله : " ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم " عبادَه أنه مؤاخذهم به ، (2) بعد إجماع جميعهم على أن معنى قوله : " بما كسبت قلوبكم " ، ما تعمدت. (3)
فقال بعضهم : المعنى الذي أوعد الله عبادَه مؤاخذتهم به : هو حلف الحالف منهم على كذب وباطل.
* ذكر من قال ذلك :
4466 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا جرير ، عن منصور ، عن إبراهيم قال : إذا حلف الرجل على اليمين وهو يرى أنه صادق وهو كاذب ، فلا يؤاخذ بها. وإذا حلف وهو يعلم أنه كاذب ، فذاك الذي يؤاخذ به.
__________
(1) " الإتمام على ما حلفتم " يعني الاستمرار عليه وإمضاءه . وقد سلف آنفًا في كلامه " التمام عليها " ص 441 و " تم على قوله " في الأثر : 4450 ولكنه استعمل هنا " الإتمام " من " أتم على الأمر " وليست في كتب اللغة ولكنها جائزة في العربية ، صحيحة في قياسها .
(2) " عباده " مفعول : " أوعد الله تعالى . . . "
(3) انظر تفسير " الكسب " فيما سلف 2 : 273 - 274/ ثم 3 : 100 ، 101 ، 128 ، 129 .

(4/449)


4467 - حدثني موسى بن عبد الرحمن المسروقي قال ، حدثنا حسين الجعفي ، عن زائدة ، عن منصور قال : قال إبراهيم : " ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم " ، قال : أن يحلف على الشيء وهو يعلم أنه كاذب ، فذاك الذي يؤاخذ به.
4468 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا حكام ، عن عمرو ، عن منصور ، عن إبراهيم : " ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم " ، أن تحلف وأنت كاذب.
4469 - حدثني المثنى قال ، [ حدثنا عبد الله بن صالح ] حدثني معاوية بن صالح ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : ( وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الأيْمَانَ ) [ سورة المائدة : 89 ] ، وذلك اليمين الصبر الكاذبة ، يحلف بها الرجل على ظلم أو قطيعة ، فتلك لا كفارة لها إلا أن يترك ذلك الظلم ، أو يرد ذلك المال إلى أهله ، وهو قوله تعالى ذكره : ( إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلا ) إلى قوله : ( وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ) [ سورة آل عمران : 77 ]. (1)
4470 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : " ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم " ، ما عَقَدتْ عليه.
4471 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد مثله.
4472 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا جرير ، عن عبد الملك ، عن عطاء قال :
__________
(1) الأثر : 4469 - الآية التي في صدر هذا الأثر ، هي آية المائدة وأخشى أن يكون الصواب ما تن فيه من آية البقرة ولكن المطبوعة والمخطوطة اتفقتا جميعا على ذلك . بيد أني أرجح ما قلت ، لأن أبا جعفر روى في تفسير آية المائدة (7 : 11 بولاق) عن " المثنى قال حدثنا عبد الله بن صالح . . . " إلى آخر إسناده إلى ابن عباس ثم ذكر آية المائدة ولم يأت فيها بنص هذا الأثر . وقد أسقط في المخطوطة والمطبوعة ما وضعته بين القوسين ، وهو إسناد دائر في التفسير ، أقربه رقم : 4463 .
وقوله : " اليمين الصبر " الأجود أن تكون " يمين الصبر " بحذف التعريف ، وإن كانت هذه جائزة حسنة . ويمين الصبر : هي اليمين التي يمسكك الحاكم عليها حتى تحلف وإن حلف إنسان بغير إحلافن لم تكن " يمين صبر " .

(4/450)


لا تؤاخذ حتى تُصْعِد للأمر ، (1) ثم تحلف عليه بالله الذي لا إله إلا هو ، فتعقد عليه يمينك.
* * *
قال أبو جعفر : والواجب على هذا التأويل أن يكون قوله تعالى ذكره : " ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم " ، في الآخرة بها بما شاء من العقوبات - وأن تكون الكفارة إنما تلزم الحالف في الأيمان التي هي لغو. وكذلك روي عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : أنه كان لا يرى الكفارة إلا في الأيمان التي تكون لغوًا ، فأما ما كسبته القلوب وعقدت فيه على الإثم ، فلم يكن يوجبُ فيه الكفارة. وقد ذكرنا الرواية عنهم بذلك فيما مضى قبل. (2)
وإذ كان ذلك تأويلَ الآية عندهم ، فالواجب على مذهبهم أن يكون معنى الآية في سورة المائدة : (3) لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ، فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم أو تحرير رقبة ، فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم - ولكن يؤاخذكم بما عقَّدتم الأيمان ، (4) واحفظوا أيمانكم.
وبنحو ما ذكرناه عن ابن عباس من القول في ذلك ، كان سعيد بن جبير والضحاك بن مزاحم وجماعة أخر غيرهم يقولون ، وقد ذكرنا الرواية عنهم بذلك آنفًا. (5)
* * *
(6)
__________
(1) في المطبوعة : " تقصد لأمر " والإصعاد : الإقبال على الشيء والتوجه له ، ومنه قول حسان بن ثابت في خيل : [ يُبَارِينَ الأَْعِنَّةَ مُصْعِدَاتٍ ... عَلَى أَكتَافِهَا الأَسَلُ الظَّمَاءُ ]
يعني مقبلات متوجهات نحوكم .
(2) انظر ما سلف الأثر رقم : 4404 .
(3) سورة المائدة : 89 .
(4) في المخطوطة والمطبوعة " ولكن يؤاخذكم بما عقدتم واحفظوا " فأثبت الكلمة التي أغفلها الناسخ من الآية . ويعني الطبري أن قوله تعالى : " ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان " من المقدم الذي يراد به التأخير ، ولذلك ساق الآية بنصها إلا هذه الجملة ، فأخرها إلى مكانها على معنى تأويلهم هذا .
(5) هي الآثار السالفة من : 4436 .
وإلى هذا الموضع انتهى تقسيم قديم للنسخة التي نقلت عنها مخطوطتنا وجاء فيها ما نصه .
" يتلوه : وَقال آخَرُونَ : المَعْنَى الذِي أَوْعَدَ اللهُ عِبَادَهُ المُؤَاخذةَ .
وَصَلى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ النَّبِي وَآلِهِ كَثِيرًا * * *
على الأصل المنقول منه
بَلَغْتُ بِالسمَاعِ مِنْ أوله بِقرَاءَتي عَلَى القَاضِي أبي الحَسَن الخِصيبي ، عنْْ أبي محمد الفرغَاني ، عَنْ أبي جعفر الطبريّ - وَأخِي عليّ حرسه الله ، ومحمد بن علي ألا . . . ونَصر بن الحسين الطبري ومحمد بن محمد بن أحمد بن عيسى السعدي - في شعبام سنة ثمان وَأَربع مئة " .
(6) أوله في المخطوطة :
" بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرحِيمِ
رَبّ يَسِّرْ "

(4/451)


وقال آخرون : المعنى الذي أوعد الله تعالى عبادَه المؤاخذةَ بهذه الآية ، (1) هو حلف الحالف على باطل يعلمه باطلا. وفي ذلك أوجب الله عندهم الكفارة ، دون اللغو الذي يحلف به الحالف وهو مخطئ في حلفه ، يحسب أن الذي حلف عليه كما حلف ، وليس ذلك كذلك.
* ذكر من قال ذلك :
4473 - حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا يزيد بن زريع قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة : " ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم " ، يقول : بما تعمدت قلوبكم ، وما تعمدت فيه المأثم ، فهذا عليك فيه الكفارة.
4473 م - حدثت عن عمار قال ، حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع مثله سواء.
* * *
__________
(1) في المطبوعة : " المؤاخذة به بهذه الآية " والذي في المخطوطة أجود .

(4/452)


وكأنَّ قائلي هذه المقالة ، وجَّهوا تأويل مؤاخذة الله عبدَه على ما كسبه قلبه من الأيمان الفاجرة ، إلى أنها مؤاخذةٌ منه له بها بإلزامه الكفارة فيه. وقال بنحو قول قتادة جماعة أخر ، في إيجاب الكفارة على الحالف اليمينَ الفاجرةَ ، منهم عطاءٌ والحكم.
4474 - حدثنا أبو كريب ويعقوب قالا حدثنا هشيم قال ، أخبرنا حجاج ، عن عطاء والحكم ، أنهما كانا يقولان فيمن حلف كاذبًا متعمدًا : يكفِّر.
* * *
وقال آخرون : بل ذلك معنيان : أحدهما مؤاخذ به العبد في حال الدنيا بإلزام الله إياه الكفارةَ منه ، والآخر منهما مؤاخذٌ به في الآخرة إلا أن يعفو.
* ذكر من قال ذلك :
4475 - حدثني موسى بن هارون قال ، حدثنا عمرو بن حماد قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : " ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم " أمَّا ، " ما كسبت قلوبكم " فما عقدت قلوبكم ، فالرجل يحلف على اليمين يعلم أنها كاذبة - إرادةَ أن يقضي أمرَه. والأيمان ثلاثة : " اللغو ، والعمد ، والغَموس " . والرجل يحلف على اليمين وهو يريد أن يفعل ، ثم يرى خيرًا من ذلك ، فهذه اليمين التي قال الله تعالى ذكره : " ولكن يؤاخذكم بما عقَّدتم الأيمان " ، فهذه لها كفارة.
* * *
وكأنَّ قائل هذه المقالة ، وجَّه تأويل قوله : " ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم " ، إلى غير ما وجَّه إليه تأويل قوله : " ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان " ، وجعل قوله : " بما كسبت قلوبكم " ، الغموسَ من الأيمان التي يحلف بها الحالف على علم منه بأنه في حلفه بها مبطل - وقوله : " بما عقدتم الأيمان " ، اليمينَ التي يستأنف فيها الحِنث أو البرَّ ، وهو في حال حلفه بها عازم على أن يبرَّ فيها.
* * *
وقال آخرون : بل ذلك : هو اعتقاد الشرك بالله والكفر.
* ذكر من قال ذلك :

(4/453)


4476 - حدثني محمد بن عبد الله بن عبد الحكم قال ، حدثنا إسماعيل بن مرزوق قال ، حدثني يحيى بن أيوب ، عن محمد - يعني ابن عجلان - : أن زيد بن أسلم كان يقول في قول الله تعالى ذكره : " ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم " ، مثل قول الرجل : " هو كافر ، هو مشرك " ، قال : لا يؤاخذه الله حتى يكون ذلك من قلبه. (1)
4477 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد في قوله : " لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم " ، قال : اللغو في هذا ، الحلف بالله ما كان بالألسن ، فجعله لغوًا ، وهو أن يقول : " هو كافر بالله ، وهو إذًا يشرك بالله ، وهو يدعو مع الله إلهًا " ، فهذا اللغو الذي قال الله تعالى في " سورة البقرة " : " ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم " ، قال : بما كان في قلوبكم صدقًا ، واخذك به. فإن لم يكن في قلبك صدقًا لم يؤاخذك به ، وإن أثمتَ. (2)
* * *
قال أبو جعفر : والصواب من القول في ذلك ، أن يقال : إن الله تعالى ذكره أوعد عباده أن يؤاخذهم بما كسبت قلوبهم من الأيمان ، فالذي تكسبه قلوبهم من الأيمان هو ما قصدته وعزمت عليه على علم ومعرفة منها بما تقصده وتريده ، وذلك يكون منها على وجهين :
أحدهما : على وجه العزم على ما يكون به العازم عليه في حال عزمه بالعزم عليه آثمًا ، وبفعله مستحقًا المؤاخذةَ من الله عليها. وذلك كالحالف على الشيء الذي لم يفعله أنه قد فعله ، وعلى الشيء الذي قد فعله أنه لم يفعله ، قاصدًا قِيلَ الكذب ، (3) وذاكرًا أنه قد فعل ما حلف
__________
(1) الأثر : 4476 - هو الأثر السالف رقم : 4461 .
(2) الأثر : 4477 - هو تمام الأثر السالف رقم : 4462 .
(3) في المخطوطة " أصل الكذب " خطأ من ناسخ لم يحسن قراءة الأصل ، وفي المطبوعة : " القيل الكذب " والصواب الجيد ما أثبت .

(4/454)


عليه أنه لم يفعله ، أو أنه لم يفعل ما حلف عليه أنه قد فعل. فيكون الحالف بذلك - إن كان من أهل الإيمان بالله وبرسوله - في مشيئة الله يوم القيامة ، إن شاء واخذه به في الآخرة ، وإن شاء عفا عنه بتفضله ، ولا كفارة عليه فيها في العاجل ، لأنها ليست من الأيمان التي يحنث فيها. وإنما تجب الكفارة في الأيمان بالحنث فيها. والحالف الكاذب في يمينه ، ليست يمينه مما يُتْبَدَأ فيه الحنث ، فتلزم فيه الكفارة. (1)
والوجه الآخر منهما : على وجه العزم على إيجاب عقد اليمين في حال عزمه على ذلك. فذلك مما لا يؤاخذ به صاحبه حتى يحنث فيه بعد حلفه. فإذا حنِث فيه بعد حلفه ، كان مؤاخذا بما كان اكتسبه قلبه - من الحلف بالله على إثم وكذِب - في العاجل بالكفارة التي جعلها الله كفارةً لذنبه.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (225) }
قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بذلك : " والله غفورٌ " لعباده فيما لَغَوْا من أيمانهم التي أخبر الله تعالى ذكره أنه لا يؤاخذهم بها ، ولو شاء وَاخذهم بها ولما واخذهم به فكفَّروها في عاجل الدنيا بالتكفير فيه ، (2) ولو شاء واخذهم في آجل الآخرة بالعقوبة عليه ، فساتر عليهم فيها ، (3) وصافح لهم بعفوه عن العقوبة فيها ، وغير ذلك من ذنوبهم " حليمٌ " في تركه معاجلة أهل معصيته العقوبةَ على معاصيهم.
* * *
__________
(1) في المخطوطة والمطبوعة : " وإنما الكفارة تجب " ولكن المخطوطة قد وضعت بين الكلمتين علامة هكذا " ~ " هي التي تدل على تقديم آخر الكلمتين على الأولى .
(2) في المطبوعة " ولما واخذهم بها " والصواب من المخطوطة . والسياق . " والله غفور لعباده فيما لغوا من أيمانهم . . ولما واخذهم به .
(3) قوله : " فساتر " عطف عليه قوله : " والله غفور " .

(4/455)


لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (226)

القول في تأويل قوله تعالى : { لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ }
قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بقوله : " للذين يؤلون " ، للذين يقسمون أليَّة ، " والألية " الحلف ، كما : -
4478 - حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا مسلمة بن علقمة قال ، حدثنا داود بن أبي هند ، عن سعيد بن المسيب في قوله : " للذين يؤلون " ، يحلفون.
* * *
يقال : " آلى فلان يُؤْلي إيلاء وأليَّة " ، كما قال الشاعر :
كَفَيْنَا مَنْ تَغَيَّبَ في تُرَابٍ... وَأَحْنَثْنَا أَليَّةَ مُقْسِمِينَا (1)
ويقال : " أَلْوة وأُلْوة " ، كما قال الراجز :
* يَا أُلْوَةٌ مَا أُلْوَةٌ مَا أُلْوَتِي * (2)
وقد حكي عنهم أيضًا أنهم يقولون : " إلوة " مكسورة الألف.
* * *
" والتربص " : النظر والتوقف.
* * *
ومعنى الكلام : للذين يؤلون أن يعتزلوا من نسائهم تربص أربعة أشهر ، فترك ذكر " أن يعتزلوا " ، اكتفاء بدلالة ما ظهر من الكلام عليه.
* * *
واختلف أهل التأويل في صفة اليمين التي يكون بها الرجل موليًا من امرأته.
__________
(1) لم أجد البيت ولم أعرف قائله . وكان في المخطوطة والمطبوعة : " من تراب " وصواب معناه يقتضي ما أثبت .
(2) لم أجد هذا الرجز . وفي المطبوعة : " ما ألوى " والصواب من المخطوطة .

(4/456)


فقال بعضهم : اليمين التي يكون بها الرجل موليًا من امرأته : أن يحلف عليها في - حال غضب على وجه الضِّرار - أن لا يجامعها في فرجها ، (1) فأما إن حلف على غير وجه الإضرار ، وعلى غير غضب ، فليس هو موليًا منها.
* ذكر من قال ذلك :
4479 - حدثنا هناد بن السري قال ، حدثنا أبو الأحوص ، عن سماك ، عن حريث بن عميرة ، عن أم عطية قالت ، قال جبير : أرضعي ابن أخي مع ابنك! فقالت : ما أستطيع أن أرضع اثنين! فحلف أن لا يقرَبها حتى تفطِمه. فلما فطمته مرّ به على المجلس ، فقال له القوم : حسنًا ما غَذَوْتموه! قال جبير : إنيّ حلفت ألا أقربها حتى تفطمه! فقال له القوم : هذا إيلاءٌ!! فأتى عليًا فاستفتاه ، فقال : إن كنتَ فعلت ذلك غضبًا فلا تصلح لك امرأتك ، وإلا فهي امرأتك. (2)
4480 - حدثنا محمد بن المثنى قال ، حدثنا محمد بن جعفر قال ، حدثنا شعبة ، عن سماك ، أنه سمع عطية بن جبير قال : توفيت أمُّ صبيٍّ نسيبةٌ لي ،
__________
(1) في المطبوعة : " على وجه الإضرار لها " . والضرار : إلحاق الضرر بها ، وفي الموضع التالي : " الإضرار " في المطبوعة والمخطوطة .
(2) الآثار : 4479 - 4485 - خبر سماك ذكره البخاري في الكبير 4/1/12 " عطية بن جبير العنزي قاله شعبة عن سماك . وقال سفيان عن سماك عن أبي عطية بن جبير . وقال أبو الأحوص عن حريث بن عميرة عن أم عطية : أن جبيرا حلف فأتى عليًا " . وفي الجرح والتعديل 1/2/262 : " حريث بن عميرة روى عن أم عطية . روى عنه سماك بن حرب في رواية أبي الأحوص عن سماك عنه . وروى إبراهيم بن طهمان عن سماك عن حريث عن عطية بن جبير عن أبيه قال : قلت لعلي - سمعت أبي يقول ذلك " . وذكره ابن أبي حاتم أيضًا في الجرح والتعديل 3/1381 - 382 : " عطية بن جبير العنزي " واختلف فيه الرواة من سماك بن حرب . فقال شعبة عن سماك عن عطية بن جبير ، قال قلت لعلي رضي الله عنه . وروى أبو الأحوص عن سماك عن حريث بن عمير عن عطية عن علي . وروى حماد بن سلمة عن سماك ، عن أم عطية عن علي . وروى سفيان الثوري عن سماك عن أبي عطية بن جبير ، عن علي - سمعت أبي يقول بعض ذلك وبعضه من قبلي "
ورواه البيهقي في السنن 7 : 381 - 382 من طريق داود بن أبي هند عن سماك عن رجل من بني عجل ، عن أبي عطية أنه تزوج امرأة أخيه وهي ترضع بابن أخيه " ورواه من طريق عبيد الله بن معاذ ، عن أبيه عن شعبة عن سماك عن عطية بن جبير قال : كانت أمي ترضع صبيًا . . . "

(4/457)


فكانت امرأة أبي تُرضعه ، فحلف أن لا يقربها حتى تفطمه. فلما مضت أربعة أشهر قيل له : قد بانت منك! - وأحسب ، شك أبو جعفر ، قال - : فأتى عليًا يستفتيه فقال : إن كنت قلت ذلك غضبًا فلا امرأة لك ، وإلا فهي امرأتك.
4481 - حدثنا محمد بن المثنى قال ، حدثنا أبو داود قال ، حدثنا شعبة قال ، أخبرني سماك قال ، سمعت عطية بن جبير - يذكر نحوه عن علي.
4482 - حدثنا محمد بن المثنى قال ، حدثنا عبد الوهاب بن عبد المجيد قال ، حدثنا داود ، عن سماك ، عن رجل من بني عجل ، عن أبي عطية : أنه توفي أخوه وترك ابنًا له صغيرًا ، فقال أبو عطية لامرأته : أرضعيه! فقالت : إنى أخشى أن تُغِيلهما ، (1) فحلف أن لا يقربها حتى تفطمهما ، ففعل حتى فطمتهما. فخرج ابن أخي أبي عطية إلى المجلس ، فقالوا : لَحُسْنَ ما غذا أبو عطية ابن أخيه! (2) قال : كلا! زعمت أم عطية أنيّ أغيلهما ، فحلفتُ أن لا أقربها حتى تفطمهما. فقالوا له : قد حرُمت عليك امرأتك! فذكرت ذلك لعلي رضي الله عنه ، فقال علي : إنما أردتَ الخيرَ ، وإنما الإيلاء في الغضب.
4483 - حدثنا محمد بن المثنى قال ، حدثنا عبد الأعلى قال ، حدثنا داود ، عن سماك ، عن أبي عطية : أن أخاه توفي - فذكر نحوه.
4484 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا ابن إدريس قال ، أخبرنا داود بن أبي هند ، عن سماك بن حرب : أن رجلا هلك أخوه فقال لامرأته : أرضعي
__________
(1) أغالت المرأة ولدها ، وأغال فلان ولده : إذ غشى أمه وهو ترضعه . واسم لبنها ذاك " الغيل " كانوا يقولون : إذا شربه الولد ضوى واعتل منه ، واسم الفعل " الغيلة " (بكسر الغين) وفي سني البيهقي : " إني أخشى أن تغتاله " وهي اشتقاق منها ، لم يرد في كتب اللغة .
(2) في المطبوعة : " غذي " وما في المخطوطة أجود وقوله : " لحسن " أصلها " حسن " فعل (بفتح الحاء وضم السين) فنقل إلى معنى المدح فخففت السين وسكنت ونقلت حركتها إلى الحاء قال سهم بن حنظلة الغنوي : لم يمْنِعْ النَّاسُ مِنِّي مَا أَرَدْتُ وَمَا ... أُعْطِيهِمُ مَا أَرَادُوا حُسْنَ ذَا أَدَبَا
فهي بمنزلة " نعم وبئس " .

(4/458)


ابن أخي. فقالت : أخاف أن تقع عليّ! فحلف أن لا يمسَّها حتى تفطِم. فأمسك عنها ، حتى إذا فطمته أخرج الغلامَ إلى قومه ، فقالوا : لقد أحسنت غذاءه! فذكر لهم شأنه ، فذكروا امرأته ، قال : فذهب إلى علي - فاستحلفه بالله : " ما أردت بذلك ؟ " ، يعني إيلاءً ، قال : فردَّها عليه.
4485 - حدثنا علي بن عبد الأعلى قال ، (1) حدثنا المحاربي ، عن أشعث بن سوار ، عن سماك ، عن عطية بن أبي عطية قال ، توفي أخ لي وترك يتيما له رضيعًا ، وكنت رجلا معسرًا ، لم يكن بيدي ما أسترضع له. قال : فقالت لي امرأتي ، وكان لي منها ابن ترضعه - إن كفيتني نفسَك كفيتكهما! فقلت : وكيف أكفيك نفسي ؟ قالت : لا تقربني. فقلت : والله لا أقربك حتى تفطميهما. قال : ففطمتهما وخرجا على القوم ، فقالوا : ما نراك إلا قد أحسنت ولايتهما! قال : فقصصت عليهم القصة ، فقالوا : ما نراك إلا آليت منها وبانت منك! قال : فأتيت عليًا فقصصت عليه القصة ، فقال : إنما الإيلاء ما أريد به الإيلاء.
4486 - حدثنا محمد بن بشار قال ، حدثنا محمد بن بكر البرساني قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة ، عن جابر بن زيد ، عن ابن عباس قال : لا إيلاء إلا بغضب.
4487 - حدثنا محمد بن بشار قال ، حدثنا عبد الأعلى قال ، حدثنا سعيد ، عن عمرو بن دينار ، عن عطاء ، عن ابن عباس قال : لا إيلاء إلا بغضب.
4488 - حدثنا محمد بن بشار قال ، حدثنا عبد الرحمن قال ، حدثنا ابن وكيع ، عن أبي فزارة ، عن يزيد بن الأصم ، عن ابن عباس قال : لا إيلاء إلا بغضب. (2)
__________
(1) هكذا في المخطوطة والمطبوعة . وأظن الصواب " محمد بن عبد الأعلى الصنعاني " شيخ الطبري . ولم أجد في شيوخه : " علي بن عبد الأعلى " . وانظر ما سيأتي رقم : 4669 .
(2) الأثر : 4488 - " عبد الرحمن " هو عبد الرحمن بن مهدي . " أبو وكيع " هو : الجراح ابن مليح الرؤاسي . قال أبو داود : ثقة . وقال النسائي : ليس به بأس . وسئل الدارقطني عنه فقال : ليس بشيء هو كثير الوهم . قيل : يعتبر به ؟ قال : لا . وفي المخطوطة والمطبوعة : " ابن وكيع " وهو خطأ . وانظر المحل لابن حزم 10 : 45 و " أبو فزارة " هو : راشد بن كيسان العبسي . قال ابن معين : ثقة . وقال ابن حبان : مستقيم الحديث إذا كان فوقه ودونه ثقة . وله عند مسلم حديث واحد .

(4/459)


4489 - حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا عبد الوهاب قال ، حدثنا داود ، عن سماك بن حرب ، عن أبي عطية ، عن عليّ قال : لا إيلاء إلا بغضب. (1)
4490 - حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا عبد الأعلى ، عن سعيد ، عن قتادة ، أن عليا قال : إذا قال الرجل لامرأته وهي تُرضع : " والله لا قرَبتُك حتى تفطمي ولدي " ، يريد به صلاحَ ولده ، قال : ليس عليه إيلاء.
4491 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا إسحاق بن منصور السلولي ، عن محمد بن مسلم الطائفي ، عن عمرو بن دينار ، عن سعيد بن جبير قال : جاء رجل إلى عليّ فقال : إني قلت لامرأتي لا أقرَبُها سنتين. قال : قد آليت منها. قال : إنما قلت لأنها ترضع! قال : فلا إذًا.
4492 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن داود بن أبي هند ، عن سماك بن حرب ، عن أبي عطية ، عن علي أنه كان يقول : إنما الإيلاء ما كان في غضب ، يقول الرجل : " والله لا أقربك ، والله لا أمسُّك! " . فأما ما كان في إصلاح من أمر الرضاع وغيره ، فإنه لا يكون إيلاء ، ولا تَبِين منه. (2)
4493 - حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا عبد الرحمن - يعني ابن مهدي - قال ، حدثنا حماد بن زيد ، عن حفص ، عن الحسن : أنه سئل عنها فقال : لا والله ، ما هو بإيلاء.
__________
(1) الأثر : 4489 - مختصر رقم : 4482 من طريق آخر ، وانظر التعليق السالف على الأثر رقم : 4479 .
(2) الأثر : 4492 - طريق آخر لحديث أبي عطية السالف رقم : 4482 وانظر التعليق على الأثر : 4479 .

(4/460)


4494 - حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا عبد الرحمن قال ، حدثنا بشر بن منصور ، عن ابن جريج ، عن عطاء قال : إذا حلف من أجل الرَّضاع فليس بإيلاء.
4495 - حدثنا المثنى قال ، حدثنا أبو صالح قال ، حدثني الليث قال ، حدثني يونس قال : سألت ابن شهاب عن الرجل يقول : والله لا أقرب امرأتي حتى تفطم ولدي! قال : لا أعلم الإيلاء يكون إلا بحلف بالله ، فيما يريد المرء أن يضارَّ به امرأتَه من اعتزالها ، ولا نعلم فريضةَ الإيلاء إلا على أولئك ، فلا ترى أنّ هذا الذي أقسم بالاعتزال لامرأته حتى تفطم ولده ، أقسم إلا على أمر يتحرَّى به فيه الخير ، فلا نرى وَجبَ على هذا ما وجب على المولي الذي يُولِي في الغضب.
* * *
وقال آخرون : سواءٌ إذا حلف الرجل على امرأته أن لا يجامعها في فرجها ، كان حلفه في غضب أو غير غضب ، كلّ ذلك إيلاء.
* ذكر من قال ذلك :
4496 - حدثنا محمد بن بشار قال ، حدثنا ابن مهدي قال ، حدثنا سفيان ، عن مغيرة ، عن إبراهيم - في رجل قال لامرأته : " إن غَشِيتُك حتى تفطمي ولدَك فأنت طالق " ، فتركها أربعة أشهر. قال : هو إيلاء.
4497 - حدثنا محمد بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الأعلى قال ، حدثنا سعيد ، عن أبي معشر ، عن النخعي قال : كل شيء يحول بينه وبين غشيانها ، فتركها حتى تمضي أربعة أشهر ، فهو داخلٌ عليه.
4498 - حدثني المثنى قال ، حدثنا حبان بن موسى قال ، حدثنا ابن المبارك قال ، أخبرنا أبو عوانة ، عن المغيرة ، عن القعقاع قال : سألت الحسن عن رجل ترضع امرأته صبيًا ، فحلف أن لا يطأها حتى تفطم ولدها ، فقال : ما أرى هذا بغضب ، وإنما الإيلاء في الغضب قال : وقال ابن سيرين : ما أدري ما هذا

(4/461)


الذي يحدِّثون ؟! إنما قال الله : " للذين يؤلون من نسائهم " إلى " فإن الله سميع عليم " ، إذا مضت أربعة أشهر ، فليخطبها إن رغب فيها. (1)
4499 - حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا ابن مهدي قال ، حدثنا سفيان ، عن منصور ، عن إبراهيم - في رجل حلفَ أن لا يكلم امرأته - قال : كانوا يرون الإيلاء في الجماع.
4500 - حدثنا أبو السائب قال ، حدثنا أبو معاوية ، عن الأعمش ، عن إبراهيم قال ، قال : كل يمين منعت جماعًا حتى تمضي أربعه أشهر ، فهي إيلاء.
4501 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا ابن إدريس قال ، سمعت إسماعيل وأشعث ، عن الشعبي مثله.
4502 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا جرير ، عن مغيرة ، عن إبراهيم والشعبي قالا كل يمين منعت جماعًا فهي إيلاء.
* * *
وقال آخرون : كل يمين حلف بها الرجل في مَسَاءة امرأته ، فهي إيلاء منه منها ، على الجماع حلف أو غيره ، في رضًا حلف أو سخط.
* ذكر من قال ذلك :
4503 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر ، عن خصيف ، عن الشعبي قال : كل يمين حالت بين الرجل وبين امرأته فهي إيلاء ، إذا قال : " والله لأغضبنَّك ، والله لأسوأنَّك ، والله لأضربنَّك " ، وأشباه هذا.
__________
(1) الأثر : 4489 - حبان بن موسى بن سوار السلمي ، أبو محمد المرزوي روى عن ابن المبارك وأبي حمزة السكري وغيرهما ، وعنه البخاري ومسلم . ذكره ابن حبان في الثقات ، مات سنة 233 . مترجم في التهذيب . وفي المخطوطة والمطبوعة : " حسان بن موسى " وقد مضى على الصواب في رقم : 2914 وسيأتي على الصواب في رقم : 4528 . و " أبو عوانة " هو : الوضاح بن عبد الله اليشكري ثقة . وسئل ابن المبارك : من أروى الناس - أو أصح الناس - حديثًا عن مغيرة ؟ قال : أبو عوانة . مترجم في التهذيب .

(4/462)


4504 - حدثني محمد بن عبد الله بن عبد الحكم قال ، حدثني أبي وشعيب ، عن الليث ، عن يزيد بن أبي حبيب ، عن ابن أبي ذئب العامريّ : أن رجلا من أهله قال لامرأته : " إن كلمتك سنة فأنت طالق " ، واستفتى القاسم وسالمًا فقالا إن كلمتها قبل سنة فهي طالق ، وإن لم تكلمها فهي طالقٌ إذا مضت أربعة أشهر.
4505 - حدثنا محمد بن بشار قال ، حدثنا عبد الرحمن قال ، حدثنا سفيان قال ، سمعت حمادًا قال ، قلت لإبراهيم : الإيلاء : أن يحلفَ أن لا يجامعها ولا يكلمها ولا يجمع رأسه برأسها ، أو ليغضبنَّها ، أو ليحرِمنَّها ، أو ليسوأنَّها ؟ قال : نعم.
4506 - حدثنا ابن المثنى قال ، حدثنا محمد بن جعفر قال ، حدثنا شعبة قال : سألت الحكم عن رجل قال لامرأته : " والله لأغيظنك " ! فتركها أربعة أشهر ، قال : هو إيلاء.
4507 - حدثنا ابن المثنى قال ، حدثنا وهب بن جرير قال ، سمعت شعبة قال : سألت ، الحكم فذكر مثله.
4508 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو صالح قال ، حدثني الليث قال ، حدثنا يونس قال ، قال ابن شهاب ، حدثني سعيد بن المسيب : (1) أنه إن حلف رجل أن لا يكلم امرأته يومًا أو شهرًا ، قال : فإنا نرى ذلك يكون إيلاءً. وقال : إلا أن يكون حلف أن لا يكلمها ، فكان يمسُّها فلا نرى ذلك يكون من الإيلاء. والفَيْءُ ، أن يفيء إلى امرأته فيكلمها أو يمسها. فمن فعل ذلك ، قبل أن تمضي الأربعة أشهر ، (2) فقد فاء. ومن فاء بعد أربعة أشهر وهي في عِدَّتها ، فقد فاء وملك امرأته ، غير أنه مضت لها تطليقة.
* * *
__________
(1) في المطبوعة : " حدثني سعيد بن المسيب أنه قال إن حلف . . . " والصواب من المخطوطة بحذف " قال " .
(2) في المطبوعة : " الأربعة الأشهر " والذي في المخطوطة صواب في العربية لا بأس به .

(4/463)


قال أبو جعفر : وعلة من قال : " إنما الإيلاء في الغضب والضَرار " : أنّ الله تعالى ذكره إنما جعل الأجلَ الذي أجَّل في الإيلاء مخرجًا للمرأة من عَضْل الرجل وضراره إياها ، (1) فيما لها عليه من حُسن الصحبة والعِشرة بالمعروف. وإذا لم يكن الرجل لها عاضلا ولا مُضارًا بيمينه وحلفه على ترك جماعها ، بل كان طالبًا بذلك رضاها ، وقاضيًا بذلك حاجتها ، لم يكن بيمينه تلك مُوليًا ، لأنه لا معنى هنالك لَحِق المرأةَ به من قِبَل بعلها مساءةٌ وسوء عشرة ، (2) فيجعل الأجل - الذي جُعل للمولي - لها مخرجًا منه. (3)
* * *
وأما علة من قال : " الإيلاء في حال الغضب والرضا سواء " ، عموم الآية ، وأن الله تعالى ذكره لم يخصص من قوله : " للذين يؤلون من نسائهم تربُّص أربعة أشهر " بعضًا دون بعض ، بل عمّ به كلَّ مُولٍ ومُقسِم. فكل مقسِم على امرأته أن لا يغشاها مدةً هي أكثر من الأجل الذي جَعل الله له تربُّصه ، فمُولٍ من امرأته عند بعضهم. وعند بعضهم : هو مُولٍ ، وإن كانت مدة يمينه الأجل الذي جُعل له تربُّصه.
* * *
وأما علة من قال بقول الشعبي والقاسم وسالم : أن الله تعالى ذكره جعل الأجل الذي حدَّه للمُولي مخرجًا للمرأة مِن سوء عشرتها بعلها إياها وضراره بها. وليست اليمين عليها بأن لا يجامعها ولا يقرَبها ، بأولى بأن تكون من معاني سوء العشرة والضِّرار ، من الحلف عليها أن لا يكلمها أو يسوءَها أو يغيظها. لأن كل ذلك ضررٌ عليها وسوء عشرة لها.
* * *
__________
(1) العضل من الزوج لامرأته : أن يضارها ولا يحسن عشرتها ، فهو لا يعاملها معاملة الأزواج ولا يتركها تتصرف في نفسها .
(2) في المطبوعة : " يلحق المرأة " والصواب من المخطوطة .
(3) في المخطوطة والمطبوعة : " الذي جعل المولى " وصواب السياق يقتضي ما أثبت . والضمير في " منه " راجع إلى " لا معنى هنالك " .

(4/464)


قال أبو جعفر : وأولى التأويلات التي ذكرناها في ذلك بالصواب ، قولُ من قال : كل يمين منَعت المقسم الجماعَ أكثر من المدة التي جعل الله للمولي تربُّصَها ، قائلا في غضب كان ذلك أو رضًا. وذلك للعلة التي ذكرناها قبل لقائلي ذلك.
وقد أتينا على فساد قول من خالف ذلك في كتابنا( كتاب اللطيف ) بما فيه الكفاية ، فكرهنا إعادته في هذا الموضع.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ }
قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بذلك : فإن رجعوا إلى ترك ما حلَفوا عليه أن يفعلوه بهن من ترك جماعهن ، فجامعوهن وحنِثوا في أيمانهم " فإن الله غفورٌ " ، لما كان منهم من الكذب في أيمانهم بأن لا يأتوهن ثم أتوهُن ، ولما سلف منهم إليهن ، (1) من اليمين على ما لم يكن لهم أن يحلفوا عليه فحلفوا عليه " رحيم " بهم وبغيرهم من عباده المؤمنين.
* * *
وأصل " الفيء " ، الرجوع من حال إلى حال ، ومنه قوله تعالى ذكره : ( وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا ) إلى قوله( حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ ) [ سورة الحجرات : 9 ] ، يعني : حتى ترجع إلى أمر الله. ومنه قول الشاعر : (2)
فَفاءَتْ وَلَمْ تَقْضِ الَّذِي أَقْبَلَتْ لَهُ... وَمِنْ حَاجَةِ الإنْسَانِ مَا لَيْسَ قَاضِيَا (3)
__________
(1) في المخطوطة والمطبوعة : " وبما سلف " والسياق يتطلب ما أثبت .
(2) هو سحيم عبد بني الحسحاس .
(3) ديوانه : 19 وحماسة ابن الشجري : 160 وغيرهما من قصيدته الغراء العجيبة وقد مضى منها بيت فيما سلف 1 : 106ن 447 . والضمير في قوله : " ففاءت " إلى صاحبته التي ذكرها وذكر ما بينه وبينها . ورواية الطبري وابن الشجري أحب إي من رواية الديوان : " ولم تقض الذي هو أهله " . يقول : عادت إلى أهلها وقد أضاعت ما كانت مزمعة أن تفعله ، أنساها حبه وغزله ما كانت نوته وإرادته . فيعزيها بأن المرء ربما طلب قضاء شيء ويشاء الله غيره فإذا هو لا يقتضيه .

(4/465)


يقال منه : " فاء فلان يفيء فَيْئة " - مثل " الجيئة " و " فَيْأ " . و " الفَيْئة " المرة. (1) فأما في الظلّ فإنه يقال : " فاء الظلّ يفيء فُيُوءًا وفَيْأ " ، وقد يقال : " فيوءًا " أيضًا في المعنى الأول ، (2) لأن " الفيء " في كل الأشياء بمعنى الرجوع.
* * *
وبمثل الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل ، غير أنهم اختلفوا فيما يكون به المولي فائيًا.
فقال بعضهم : لا يكون فائيًا إلا بالجماع.
* ذكر من قال ذلك :
4509 - حدثنا علي بن سهل الرملي قال ، حدثنا مؤمل قال ، حدثنا سفيان ، عن ابن أبي ليلى ، عن الحكم ، عن مقسم ، عن ابن عباس قال : الفيء الجماع.
4510 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا أبو نعيم ، عن يزيد بن زياد بن أبي الجعد ، عن الحكم ، عن مقسم ، عن ابن عباس قال : الفيء الجماع. (3)
4511 - حدثنا ابن المثنى قال ، حدثنا محمد بن جعفر قال ، حدثنا شعبة ، عن الحكم ، عن مقسم ، عن ابن عباس مثله.
4512 - حدثنا محمد بن يحيى قال ، حدثنا عبد الأعلى قال ، حدثنا سعيد ، عن صاحب له ، عن الحكم بن عتيبة ، عن مقسم ، عن ابن عباس مثله.
__________
(1) يريد أنه بناء المرة الواحدة إلا أنه وضع موضع المصدر مثل : " الرجفة والرحمة " والاسم من ذلك " الفيئة والجئة " (بكسر الفاء والجيم منهما) .
(2) أكثر كتب اللغة تجعل " الفيوء " مصدرًا في المعنى الأول ولا تجعله مصدرًا في معنى الظل . وما قاله الطبري حسن وثيق .
(3) الأثر : 4510 - يزيد بن زياد بن أبي الجعد الأشجعي الغطفاني مولى لهم ، روى عن الحكم بن عتيبة وعاصم الجحدري وعمه عبيد بن أبي الجعد ، وأخيه سلمة بن زياد وغيرهم . وعنه وكيع وابن نمير وأبو نعيم وغيرهم . ذكره ابن حبان في الثقات . وكان في المطبوعة " يزيد بن أبي زياد عن أبي الجعد " والصواب من المخطوطة .

(4/466)


4513 - حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا عبد الرحمن قال ، حدثنا سفيان ، عن حصين ، عن الشعبي ، عن مسروق قال : الفيءُ الجماع.
4514 - حدثنا ابن المثنى قال ، حدثنا ابن أبي عدي ، عن شعبة ، عن حصين ، عن الشعبي ، عن مسروق مثله.
4515 - حدثنا عبد الحميد بن بيان قال ، أخبرنا محمد بن يزيد ، عن إسماعيل قال : كان عامر لا يرى الفيء إلا الجماع.
4516 - حدثنا تميم بن المنتصر قال : أخبرنا يزيد بن هارون قال ، أخبرنا إسماعيل ، عن عامر بمثله.
4517 - حدثنا محمد بن بشار قال ، حدثنا عبد الرحمن قال ، حدثنا سفيان ، عن علي بن بذيمة ، عن سعيد بن جبير قال : الفيء الجماع.
4518 - حدثنا أبو عبد الله النشائي قال ، حدثنا إسحاق الأزرق ، عن سفيان ، عن علي بن بذيمة ، عن سعيد بن جبير مثله. (1)
4519 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر ، عن قتادة ، عن سعيد بن جبير قال : الفيءُ الجماع ، لا عذرَ له إلا أن يجامع وإن كان في سجن أو سفر - سعيدٌ القائل.
4520 - حدثني محمد بن يحيى قال ، حدثنا عبد الأعلى قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة ، عن سعيد بن جبير أنه قال : لا عذرَ له حتى يغشى.
4521 - حدثني المثنى بن إبراهيم قال ، حدثنا الحجاج بن المنهال قال ، حدثنا حماد ، عن حماد وإياس ، عن الشعبي قال أحدهما : عن مسروق قال : الفيء الجماع وقال الآخر : عن الشعبي : الفيء الجماع.
__________
(1) الأثر : 4518 - " أبو عبد الله النشائي " هو محمد بن حرب بن حرمان النشائي ، ويقال النشاستجي ، أبو عبد الله الواسطي . روى عن إسماعيل بن علية ومحمد بن يزيد الواسطي وإسحاق بن يوسف الأزرق وغيرهم . مات سنة 255 . مترجم في التهذيب .

(4/467)


4522 - حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا عبد الأعلى ، عن سعيد ، عن قتادة ، عن سعيد بن المسيب - في رجل آلى من امرأته ، ثم شغله مرض - قال : لا عذر له حتى يغشى.
4523 - حدثنا محمد بن بشار قال ، حدثنا معاذ بن هشام قال ، حدثني أبي ، عن قتادة ، عن سعيد بن جبير - في الرجل يولي من امرأته قبل أن يدخل بها أو بعد ما دخل بها ، فيعرض له عارضٌ يحبسه ، أو لا يجد ما يَسُوق : أنه إذا مضت أربعة أشهر ، أنها أحق بنفسها.
4524 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا جرير ، عن منصور ، عن الحكم والشعبي قالا إذا آلى الرجل من امرأته ، ثم أراد أن يفيء ، فلا فيء إلا الجماع.
* * *
وقال آخرون : " الفيء " : المراجعة باللسان أو القلب في حال العذر ، وفي غير حال العذر الجماع.
* ذكر من قال ذلك :
4525 - حدثنا محمد بن يحيى قال ، حدثنا عبد الأعلى قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة ، عن الحسن وعكرمة أنهما قالا إذا كان له عذرٌ فأشهد ، فذاك له يعني في رجل آلى من امرأته فشغله مرضٌ أو طريق ، فأشهد على مراجعة امرأته.
4526 - حدثنا محمد بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الأعلى قال ، حدثنا سعيد ، عن صاحب له ، عن الحكم قال : تذاكرنا أنا والنخعي ذاك ، (1) فقال النخعي : إذا كان له عذر فأشهد ، فقد فاء. وقلت أنا : لا عذر له حتى يغشى. فانطلقنا إلى أبي وائل ، فقال : إني أرجو إذا كان له عذر فأشهد ، جاز. (2)
__________
(1) في المطبوعة : " ذلك " وأثبت ما في المخطوطة وهما سواء .
(2) الأثر : 4526 - " أبو وائل " وهو شقيق بن سلمة الأسدي الكوفي أدرك رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يره . وروى عن أبي بكر وعمر وعثمان وعلي ومعاذ وغيرهم من الصحابة والتابعين .
قال الأعمش قال لي أبو وائل : يا سليمان لو رأيتني ونحن هراب من خالد بن الوليد فوقعت من البعير فكادت تندق عنقي! فلو مت يومئذ كانت النار! قال : وكنت يومئذ ابن إحدى عشرة سنة . ومات بعد الجماجم سنة 83 . مترجم في التهذيب .

(4/468)


4527 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر ، عن قتادة ، عن الحسن قال : إنْ آلى ، ثم مرض أو سُجن أو سافر فراجع ، فإنّ له عذرًا أن لا يجامع قال : وسمعت الزهري يقول مثل ذلك.
4528 - حدثني المثنى قال ، حدثنا حبان بن موسى قال ، أخبرنا ابن المبارك قال ، أخبرنا أبو عوانة ، عن مغيرة ، عن إبراهيم - في النفساء يُولي منها زوجها - قال : هذه في مُحارِب ، سئل عنها أصحاب عبد الله فقالوا : إذا لم يستطع كفَّر عن يمينه ، وأشهد على الفيء. (1)
4529 - حدثنا أبو السائب قال ، حدثنا أبو معاوية ، عن الأعمش ، عن إبراهيم ، عن أبي الشعثاء قال : نزل به ضيفٌ فآلى من امرأته فنفست ، (2) فأراد أن يفيء ، فلم يستطع أن يقرَبها من أجل نفاسها ، فأتى علقمة فذكر ذلك له ، فقال : أليس قد فئتَ بقلبك ورَضيت ؟ قال : بلى! قال : فقد فئت! هي امرأتك!
4530 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر ، عن الأعمش ، عن إبراهيم : أن رجلا آلى من امرأته فولدت قبل أن تمضي أربعة أشهر ، أراد الفيئة فلم يستطع من أجل الدم حتى مضت أربعة أشهر ، فسأل عنها علقمة بن قيس فقال : أليس قد راجعتها في نفسك ؟ قال : بلى! قال : فهي امرأتك.
4531 - حدثنا عمران بن موسى قال ، حدثنا عبد الوارث قال ، أخبرنا عامر ،
__________
(1) الأثر : 4528 - انظر " حبان بن موسى " فيما سلف الأثر رقم : 4498 . وقوله : " هذه في محارب " يعني قبيلة محارب الذين منهم أبو الشعثاء المحاربي : " سليم بن أسود بن حنظلة المحاربي " سيظهر في الآثار التالية ، ولا سيما الأثر رقم : 4535 فقد ذكر صاحب الإيلاء هناك .
(2) نفست المرأة (بالبناء للمجهول) ونفست (بفتح فكسر) نفسًا (بفتحتين) ونفاسًا : ولدت . وأصله من " النفس " (بفتح فسكون) وهو : الدم وسميت بذلك لما يكون مع الولد وبعده من الدم .

(4/469)


عن الحسن قال : إذا آلى من امرأته ثم لم يقدر أن يغشاها من عذر ، قال : يُشهد أنه قد فاء ، وهي امرأته.
4532 - حدثنا عمران قال ، حدثنا عبد الوارث قال ، حدثنا عامر ، عن حماد ، عن إبراهيم ، عن علقمة بمثله.
4533 - حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا معاذ بن هشام قال ، حدثنى أبي ، عن قتادة ، عن عكرمة قال : وحدثنا عبد الأعلى قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة ، عن عكرمة قال : إذا آلى من امرأته فجهد أن يغشاها فلم يستطع ، فله أن يُشهد على رَجْعتها.
4534 - حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا عبد الأعلى ، عن سعيد ، عن قتادة ، عن الحسن وعكرمة : أنهما سئلا عن رجل آلى من امرأته ، فشغله أمر ، فأشهد على مراجعة امرأته ، قالا إذا كان له عذرٌ فذاك له.
4535 - حدثنا محمد بن المثنى قال ، حدثنا غندر قال ، حدثنا شعبة ، عن الحكم قال : انطلقت أنا وإبراهيم إلى أبي الشعثاء ، فحدَّث أن رجلا من بني سعد بن همّام آلى من امرأته فنُفِست ، فلم يستطع أن يقرَبها ، فسأل الأسود - أو بعض أصحاب عبد الله - فقال : إذا أشهد فهي امرأته.
4536 - حدثنا ابن المثنى قال ، حدثنا غندر قال ، حدثنا شعبة ، عن حماد ، عن إبراهيم أنه قال : إن كان له عذرٌ فأشهد ، فذلك له - يعني المُولي من امرأته.
4537 - حدثنا ابن المثنى قال ، حدثنا محمد بن جعفر قال ، حدثنا شعبة ، عن مغيرة ، عن إبراهيم : أنه كان يحدث عن أبي الشعثاء ، عن علقمة وأصحاب عبد الله أنهم قالوا - في الرجل إذا آلى من امرأته فنُفِست - قالوا : إذا أشهد فهي امرأته.
4538 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا جرير ، عن مغيرة ، عن حماد قال :

(4/470)


إذا آلى الرجل من امرأته ثم فاء ، فليشهد على فَيْئه. وإذا آلى الرجل من امرأته وهو في أرض غير الأرض التي فيها امرأته ، فليشهد على فيئه. فإن أشهدَ وهو لا يعلم أن ذلك لا يجزيه من وقوعه عليها ، فمضت أربعة أشهر قبل أن يجامعها ، فهي امرأته. وإن علم أنه لا فيء إلا في الجماع في هذا الباب ، ففاء وأشهد على فيئه ولم يقع عليها حتى مضت أربعة أشهر ، فقد بانتْ منه.
4539 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو صالح قال ، حدثني الليث قال ، حدثني يونس قال : قال ابن شهاب : حدثني سعيد بن المسيب : أنه إذا آلى الرجل من امرأته ، قال : فإن كان به مرضٌ ولا يستطيع أن يمسَّها ، أو كان مسافرًا فحبس ، قال : فإذا فاء وكفَّر عن يمينه ، فأشهد على فيئه قبل أن تمضي أربعة أشهر ، فلا نراه إلا قد صلح له أن يُمسك امرأته ، ولم يذهب من طلاقها شيء. قال ، وقال ابن شهاب - في رجل يُولي من امرأته ، ولم يبق لها عليه إلا تطليقة ، فيريد أن يفيء في آخر ذلك وهو مريض أو مسافر ، أو هي مريضة أو طامث أو غائبة لا يقدر على أن يبلغها ، حتى تمضي أربعة أشهر - أله في شيء من ذلك رخصة ، أن يكفر عن يمينه ولم يقدر على أن يطأ امرأته ؟ قال : نرى ، والله أعلم ، إن فاء قبل الأربعة الأشهر فهي امرأته ، بعد أن يشهد على ذلك ، ويكفِّر عن يمينه ، وإن لم يبلغها ذلك من فيئته ، فإنه قد فاء قبل أن يكون طلاقًا.
4540 - حدثت عن عمار بن الحسن قال ، حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع قال : الفيء الجماع. فإن هو لم يقدر على المجامعة وكانت به علة مرض أو كان غائبًا أو كان محرمًا أو شيء له فيه عذر ، ففاء بلسانه وأشهد على الرضا ، فإنّ ذلك له فيءٌ إن شاء الله.
* * *
وقال آخرون : " الفيء " المراجعة باللسان بكلّ حال.
* ذكر من قال ذلك :

(4/471)


4541 - حدثنا محمد بن بشار قال ، حدثنا الضحاك بن مخلد ، عن سفيان ، عن منصور وحماد ، عن إبراهيم قال : الفيء أن يفيء بلسانه.
4542 - حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا عبد الرحمن قال ، حدثنا حماد بن سلمة ، عن زياد الأعلم ، عن الحسن قال : الفيء الإشهاد. (1)
4543 - حدثنا المثنى قال ، حدثني الحجاج قال ، حدثنا حماد ، عن زياد الأعلم ، عن الحسن مثله.
4544 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر ، عن أيوب ، عن أبي قلابة ، قال : إن فاء في نفسه أجزأه ، يقول : قد فاء.
4545 - حدثنا محمد بن المثنى قال ، حدثنا محمد بن جعفر قال ، حدثنا شعبة ، عن إسماعيل بن رجاء قال : ذكروا الإيلاء عند إبراهيم فقال : أرأيت إن لم ينتشر ذكره ؟ إذا أشهدَ فهي امرأته.
* * *
قال أبو جعفر : وإنما اختلف المختلفون في تأويل " الفيء " على قدر اختلافهم في معنى اليمين التي تكون " إيلاءً " .
فمن كان من قوله : إن الرجل لا يكون موليًا من امرأته الإيلاءَ الذي ذكره الله في كتابه إلا بالحلف عليها أن لا يجامعها ، جعل الفيءَ الرجوعَ إلى فعل ما حلف عليه أن لا يفعله من جماعها ، وذلك الجماعُ في الفرج إذا قدر على ذلك وأمكنه وإذا لم يقدر عليه ولم يمكنه ، فإحداثَ النية أن يفعله إذا قدر عليه وأمكنه ، (2)
__________
(1) الأثر : 4542 - " زياد الأعلم " هو زياد بن حسان بن قرة الباهلي روى عن أنس والحسن وابن سيرين . وعنه عون والحمادان . وسعيد بن أبي عروبة وغيرهم . وقال أحمد : " ثقة ثقة " قال أبو حاتم : " هو من قدماء أصحاب الحسن " . وقال الدارقطني : " هو قليل الحديث " . مترجم في التهذيب .
(2) في المطبوعة : " بإحداث النية " وهو خطأ صرف صوابه من المخطوطة . وقوله " فإحداث " منصوب عطفًا على قوله : " جعل الفيء الرجوع . . . " بمعنى أنه إذا لم يقد عليه ولم يمكنه ، جعل الفيء إحداث النية .

(4/472)


وإبداء ما نوى من ذلك بلسانه ليعلمه المسلمون ، (1) في قول من قال ذلك.
* * *
وأما قولُ من رأى أنّ الفيء هو الجماع دون غيره ، فإنه لم يجعل العائقَ له عذرًا ، ولم يجعل له مخرجًا من يمينه غيرَ الرجوع إلى ما حلف على تركه ، وهو الجماع.
* * *
وأما من كان من قوله أنه قد يكون موليًا منها بالحلف على ترك كلامها ، أو على أن يسوءَها أو يغيظها أو ما أشبه ذلك من الأيمان ، فإن الفيء عنده الرجوعُ إلى ترك ما حلف عليه أن يفعله - مما فيه من مساءتها - بالعزم على الرجوع عنه ، وإبداء ذلك بلسانه ، (2) في كل حال عزم فيها على الفيء.
* * *
قال أبو جعفر : وأولى الأقوال بالصحة في ذلك عندنا ، قولُ من قال : " الفيء هو الجماع " ، لأن الرجل لا يكون موليًا عندنا من امرأته إلا بالحلف على ترك جماعها المدةَ التي ذكرنا ، للعلل التي وصفنا قبلُ. فإذ كان ذلك هو الإيلاء ، (3) فالفيء الذي يبطل حكم الإيلاء عنه ، لا شك أنه غير جائز أن يكون إلا ما كان للذي آلى عليه خلافًا. (4) لأنه لما جعل حكمه إن لم يفئ إلى ما آلى على تركه ، الحكمَ الذي بينه الله لهم في كتابه ، كان الفيء إلى ذلك ، معلومٌ أنه فعلُ ما آلى على تركه إن أطاقه ، (5) وذلك هو الجماع. غير أنه إذا حيل بينه وبين الفيء - الذي
__________
(1) في المطبوعة : " وأبدى " وهو خطأ مخل بالكلام ، لم يحسن قراءة الخط القديم ، وهو " وابدا " وظنه فعلا كالذي سبقه قوله : " وإبداء " منصوب عطفًا على قوله : " فإحداث " كما بينته في التعليق الآنف .
(2) في المطبوعة : " وأبدى ذلك بلسانه " خطأ فاسد ، وانظر التعليق السالف . وقوله : " وإبداء مرفوع معطوف على " الرجوع " في قوله : " فإن الفيء عنده الرجوع . . . "
(3) في المطبوعة : " فإذا كان ذلك " خطأ وضعف والصواب الجيد من المخطوطة .
(4) في المطبوعة : " إلا ما كان الذي آلى . . . " وهو فساد والصواب من المخطوطة وقوله : " خلافًا " أي مخالفًا ، كما سلف مئات من المرات .
(5) في المطبوعة : " معلومًا أنه . . . " والذي في المخطوطة جيد صحيح .

(4/473)


هو جماعٌ - (1) بعذر ، فغير جائز أن يكون تاركًا جماعها على الحقيقة (2) . لأن المرء إنما يكون تاركًا ما له إلى فعله وتركه سبيل. فأما من لم يكن له إلى فعل أمر سبيل ، فغير كائنٍ تاركَهُ.
وإذ كان ذلك كذلك ، فإحداث العزم في نفسه على جماعها ، مجزئ عنه في حال العذر ، حتى يجد السبيل إلى جماعها. وإن أبدى ذلك بلسانه وأشهدَ على نفسه في تلك الحال بالأوبة والفيء ، كان أعجبَ إليّ.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (226) }
اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك.
فقال بعضهم : معنى ذلك : " فإن الله غفورٌ " لكم فيما اجترمتم بفيئكم إليهنّ ، من الحِنْث في اليمين التي حلفتم عليهن بالله أن لا تَغْشَوْهنّ " رحيم " بكم في تخفيفه عنكم كفَّارةَ أيمانكم التي حلفتم عليهن ، ثم حنِثتم فيه.
* ذكر من قال ذلك :
4546 - حدثنا محمد بن بشار قال ، حدثنا عبد الأعلى قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة ، عن الحسن : " فإن فاءوا فإن الله غفور رحيمٌ " ، قال : لا كفارة عليه.
4547 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر ، عن قتادة ، عن الحسن قال : إذا فاء فلا كفَّارة عليه.
4548 - حدثنا المثنى قال ، حدثنا حبان بن موسى قال ، أخبرنا ابن المبارك قال ، حدثنا
__________
(1) في المطبوعة : " هو الجماع " والصواب من المخطوطة .
(2) في المخطوطة : " فغير جائز تاركًا جماعها " ثم غير في المطبوعة إلى : " فغير كائن تاركًا جماعها " والجيد الذي يدل عليه السياق ، زيادة " أن يكون " كما فعلت . وإن كان آخر كلام أبي جعفر قد حسن هذا التغيير الذي جاء في المطبوعة .

(4/474)


أبو عوانة ، عن مغيرة ، عن إبراهيم قال : كانوا يرون في قول الله : " فإن فاءوا فإنّ الله غفور رحيم " : أن كفارته فيؤه. (1)
* * *
قال أبو جعفر : وهذا التأويل الذي ذكرنا هو التأويل الواجبُ على قول من زعم أنّ كل حانث في يمين هو في المُقام عليها حَرِجٌ ، (2) فلا كفارة عليه في حنثه فيها ، وأن كفارته الحنث فيها.
* * *
وأما على قول من أوجب على الحانث في كل يمين حلف بها [كفارة] ، (3) برًّا كان الحنِث فيها أو غير بِرّ ، فإن تأويله : " فإن الله غفور " للمُولين من نسائهم فيما حنِثوا فيه من إيلائهم ، فإن فاؤوا فكفّروا أيمانهم ، بما ألزم الله الحانثين في أيمانهم من الكفارة " رحيم " بهم ، بإسقاطه عنهم العقوبة في العاجل والآجل على ذلك ، بتكفيره إياه بما فرض عليهم من الجزاء والكفارة ، وبما جعل لهم من المَهَل الأشهرَ الأربعة ، (4) فلم يجعل فيها للمرأة التي آلى منها زوجها ما جعل لها بعد الأشهر الأربعة ، كما : -
4549 - حدثني المثنى قال ، حدثنا حبان قال ، أخبرنا ابن المبارك قال ، حدثنا يحيى بن بشر ، أنه سمع عكرمة يقول : " للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر فإن فاؤوا فإن الله غفور رحيم * وإن عزموا الطلاق " - قال : وتلك رحمة الله! مَلَّكه أمرَها الأربعة الأشهر إلا من معذرة. لأن الله قال : ( وَاللاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ ) [ سورة النساء : 34 ]. (5)
* * *
* ذكر بعض من قال : إذا فاء المولي فعليه الكفارة.
__________
(1) الأثر : 4548 - " حبان بن موسى " سلف في هذا الإسناد برقم : 4528 ، وانظر أيضًا رقم : 4498 والتعليق عليه ، وقد كان في المطبوعة والمخطوطة هنا : " حماد بن موسى " وهو خطأ وتحريف . وانظر ما سيأتي رقم : 4549 .
(2) " حرج " : آثم . وقد أسلفنا قول أهل اللغة في هذا الحرف ، في الجزء 2 : 423 تعليق : 1 ، ثم في هذا الجزء 4 : 224 ، تعليق : 1
(3) الزيادة بين القوسين لا بد منها ، ويدل عليها سياق التفسير الآتي .
(4) المهل (بفتح فسكون ، وبفتحتين) مصدر " مهلته " وهي كأمهلته : أي أنظرته ولم أعاجله .
(5) الأثر : 4549 - انظر التعليق على الأثر السالف رقم : 4548 . و " يحيى بن بشر الخراساني أبو وهب روى عن عكرمة وروى عنه ابن المبارك . قال ابن المبارك : " إذا حدثك يحيى ابن بشر عن إنسان فلا تبالي أن لا تسمعه منه " . مترجم في الكبير 4/2/263 والجرح والتعديل 4/12/13 . وقد سلف في إسناد الطبري رقم : 3619 ، 3652 ويأتي في رقم : 4749 .

(4/475)


4550 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثني معاوية بن صالح ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قوله : " للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر " ، وهو الرجل يحلف لامرأته بالله لا ينكحها ، فيتربَّص أربعة أشهر ، فإن هو نكحها كفَّر يمينه بإطعام عشرة مساكين أو كسوتهم أو تحرير رقبة ، فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام.
4551 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو صالح قال ، حدثني الليث قال : حدثني يونس قال ، حدثني ابن شهاب ، عن سعيد بن المسيب بنحوه.
4552 - حدثنا المثنى قال ، حدثنا حبان بن موسى قال ، أخبرنا ابن المبارك قال ، أخبرنا حماد بن سلمة ، عن حماد ، عن إبراهيم قال : إذا آلى فغشيها قبل الأربعة الأشهر ، كفَّر عن يمينه.
4553 - حدثني المثنى قال ، حدثنا حبان قال ، أخبرنا ابن المبارك قال ، أخبرنا أبو عوانة ، عن مغيرة ، عن إبراهيم - في النُّفَساء يولي منها زوجها - قال : هذه في مُحارب ، سئل عنها أصحاب عبد الله ، فقالوا : إذا لم يستطع كفر عن يمينه وأشهد على الفيء. (1)
4554 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قال : إن فاء فيها كفَّر يمينه ، وهي امرأته.
4555 - حدثت عن عمار ، عن ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع مثله.
4556 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا عثام ، عن الأعمش ، عن إبراهيم
__________
(1) الأثر : 4553 - انظر الأثر السالف 4528 ، ثم الآثار التي تليه والتعليق عليها .

(4/476)


وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (227)

في الإيلاء قال : يوقَف قبل أن تمضي الأربعة الأشهر ، فإن راجعها فهي امرأته ، وعليه يمين : يكفِّرها إذا حنِث.
* * *
قال أبو جعفر : وهذا التأويل الثاني هو الصحيح عندنا في ذلك ، لما قد بينا من العلل في كتابنا( كتاب الأيمان) ، من أن الحنث موجبٌ الكفارةَ في كل ما ابتدئ فيه الحنث من الأيمان بعد الحلف ، على معصية كانت اليمين أو على طاعة.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (227) }
قال أبو جعفر : اختلف أهل التأويل في معنى قول الله تعالى ذكره : " وإن عزموا الطلاق " .
فقال بعضهم : معنى ذلك : للذين يؤلون أن يعتزلوا من نسائهم تربُّصُ أربعة أشهر ، فإن فاؤوا فرجعوا إلى ما أوجب الله لهنّ من العِشرة بالمعروف في الأشهر الأربعة التي جعل الله لهم تربُّصهم عنهن وعن جماعهن ، وعشرتهن في ذلك بالواجب " فإن الله لهم غفور رحيم " . وإن تركوا الفيء إليهن ، (1) في الأشهر الأربعة التي جعل الله لهم التربص فيهنّ حتى ينقضين ، طُلِّق منهم نساؤهم اللاتي آلوا منهن بمضيهن. (2) ومضيُّهن عند قائلي ذلك : هو الدلالة على عزم المولي على طلاق امرأته التي إلى منها.
* * *
__________
(1) في المطبوعة : " فإن تركوا الفيء لليمين . . . " وهو خطأ غريب فاسد ، لم يحسنوا قراءة ما في المخطوطة .
(2) الضمير في قوله : " بمضيهن " إلى الأشهر الأربعة .

(4/477)


ثم اختلف متأوِّلو هذا التأويل بينهم في الطلاق الذي يلحقها بمضيّ الأشهر الأربعة.
فقال بعضهم : هو تطليقة بائنة.
* ذكر من قال ذلك :
4557 - حدثنا أبو هشام قال ، حدثنا محمد بن بشر ، عن سعيد ، عن قتادة ، عن خِلاس أو الحسن ، عن علي قال : إذا مضت أربعة أشهر فهي تطليقة بائنة. (1)
4558 - حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا معاذ بن هشام قال ، حدثنا أبي ، عن قتادة : أن عليًا وابن مسعود كانا يجعلانها تطليقة ، إذا مضت أربعة أشهر فهي أحق بنفسها قال قتادة : وقولُ عليّ وعبد الله أعجبُ إليّ في الإيلاء. (2)
4559 - حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا عبد الأعلى قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة ، عن الحسن : أنّ عليًا قال في الإيلاء : إذا مضت أربعة أشهر بانت بتطليقة.
4560 - حدثنا ابن أبي الشوارب قال ، حدثنا يزيد بن زريع قال ، حدثنا معمر ، عن عطاء الخراساني ، عن أبي سلمة : أن عثمان بن عفان وزيد بن ثابت كانا يقولان : إذا مضت الأربعة الأشهر ، فهي واحدة بائنة.
__________
(1) الأثر : 4557 - " أبو هشام " هو محمد بن يزيد بن محمد بن كثير العجلي أبو هشام الرفاعي قاضي بغداد يتكلمون فيه . مترجم في التهذيب . ومحمد بن بشر بن الفرافصة بن المختار العبدي روى عن هشام بن عروة وعبيد الله بن عمر العمري وسعيد بن أبي عروبة . مترجم في التهذيب . و " خلاس " بكسر الخاء وفتح اللام المخففة هو : خلاس بن عمر الهجري البصري . روى عن علي وعمار بن ياسر وعائشة وأبي هريرة وابن عباس وغيرهم . وعنه قتادة وعوف الأعرابي وداود بن أبي هند . وهو ثقة . مترجم في التهذيب .
(2) أقوال الصحابة والتابعين في الإيلاء تجدها مستوفاة في نصب الراية 3 : 241 - 243 ، والمحلى لابن حزم 10 : 42 - 49 وسنن البيهقي 7 : 376 - 382 وفتح الباري 9 : 375 - 379 وابن كثير والدر المنثور في تفسير الآية . هذا ولم يستوف أحد ذكر هذه الآثار كما استوفاها أبو جعفر رحمه الله .

(4/478)


4561 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر قال ، أخبرنا عطاء الخراساني قال : سمعني أبو سلمة بن عبد الرحمن أسأل ابن المسيب عن الإيلاء ، فمررت به فقال : ما قال لك ابن المسيب ؟ فحدثته بقوله ، فقال : أفلا أخبرك ما كان عثمان بن عفان وزيد بن ثابت يقولان ؟ قلت : بلى! قال : كانا يقولان : إذا مضت أربعة أشهر فهي واحدة ، وهي أحق بنفسها.
4562 - حدثنا علي بن سهل قال ، حدثنا الوليد ، عن الأوزاعي ، عن عطاء الخراساني قال ، حدثنا أبو سلمة بن عبد الرحمن : أن عثمان بن عفان قال : إذا مضت أربعة أشهر من يوم آلى ، فتطليقة بائنة.
4563 - حدثني يعقوب قال ، حدثنا ابن علية ، عن معمر أو حُدثت عنه عن عطاء الخراساني ، عن أبي سلمة ، عن عثمان وزيد : أنهما كانا يقولان : إذا مضت أربعة أشهر فهي تطليقة بائنة.
4564 - حدثنا أبو هشام قال ، حدثنا سفيان بن عيينة ، عن منصور ، عن إبراهيم ، عن علقمة قال : آلى عبد الله بن أنيس من امرأته ، فمكثت ستة أشهر ، فأتى ابن مسعود فسأله ، فقال : أعلمها أنها قد مُلِّكت أمرَها. فأتاها فأخبرها ، وأصْدقها رطلا من وَرِقٍ.
4565 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال ، حدثنا هشيم قال ، أخبرنا حصين ، عن إبراهيم ، عن عبد الله : أنه كان يقول في الإيلاء : إذا مضت الأربعة الأشهر ، فهي تطليقة بائنة.
4566 - حدثني يعقوب قال ، حدثنا هشيم ، عن مغيرة ، عن إبراهيم ، عن عبد الله مثل ذلك.
4567 - حدثني أبو السائب قال ، حدثنا أبو معاوية ، عن الأعمش ، عن إبراهيم قال : آلى عبد الله بن أنيس من امرأته ، قال : فخرج فغاب عنها ستة أشهر ، ثم جاء فدخل عليها ، فقيل : إنها قد بانت منك! فأتى عبد الله ، فذكر

(4/479)


ذلك له ، فقال له عبد الله : قد بانت منك ، فَأتها فأعلمها واخطبها إلى نفسها. (1) فأتاها فأعلمها أنها قد بانت منه ، وخطبها إلى نفسها ، وأصدقها رِطلا من وَرِق. (2)
4568 - حدثنا محمد بن المثنى قال ، حدثنا عبد الوهاب ، عن عطاء قال ، حدثنا داود ، عن عامر ، عن ابن مسعود أنه قال ، في الإيلاء : إذا مضت أربعة أشهر فهي واحدة بائنة.
4569 - حدثنا محمد بن المثنى قال ، حدثني عبد الأعلى قال ، حدثنا داود ، عن عامر : أن رجلا من بني هلال يقال له فلان ابن أنيس أو : عبد الله بن أنيس أراد من أهله ما يريد الرجلُ من أهله ، فأبت ، فحلف أن لا يقرَبها. فطرأ على الناس بعثٌ من الغد ، فخرج فغاب ستة أشهر ثم قدم ، فأتى أهله ما يرى أن عليه بأسًا! فخرج إلى القوم فحدثهم بسَخَطه على أهله حيث خرج ، وبرضاه عنهم حين قدم. فقال القوم : فإنها قد حرُمت عليك! فأتى ابن مسعود فسأله عن ذلك ، فقال ابن مسعود : أما علمت أنها حرُمت عليك ؟ قال لا! قال : فانطلق فاستأذن عليها ، فإنها ستنكر ذلك ، ثم أخبرها أنّ يمينك التي كنت حلفتَ عليها صارت طلاقًا ، وأخبرها أنها واحدة ، وأنها أملك بنفسها ، فإن شاءت خطبتها فكانت عندك على ثنتين ، وإلا فهي أملكُ بنفسها.
4570 - حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا ابن مهدي قال ، حدثنا سفيان ، عن علي بن بذيمة ، عن أبي عبيدة ، عن مسروق ، عن عبد الله قال ، في الإيلاء إذا مضت أربعة أشهر فهي تطليقة بائنة ، وتعتدّ ثلاثة قروء. (3)
4571 - حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا ابن مهدي قال ، حدثنا سفيان ،
__________
(1) في المطبوعة : " وأعلمها واخطبها " وأثبت ما في المخطوطة .
(2) الورق (بفتح الواو ، وكسر الراء ، أو سكونها - وبكسر الواو وسكون الراء) : هي الفضة والدراهم المضروبة .
(3) " أبو عبيدة " هو أبو عبيدة بن عبد الله بن مسعود ، ويقال اسمه " عامر بن عبد الله " ويقال اسمه كنيته . روى عن أبيه ولم يسمع منه . مترجم في التهذيب وغيره .

(4/480)


عن منصور والأعمش ومغيرة ، عن إبراهيم : أن عبد الله بن أنيس آلى من امرأته ، فمضت أربعةُ أشهر ، ثم جامعها وهو ناسٍ ، فأتى علقمة ، فذهب به إلى عبد الله ، فقال عبد الله : بانت منك فاخطبها إلى نفسها ، فأصدقها رطلا من فضة.
4572 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال ، حدثنا ابن علية قال ، حدثنا أيوب وحدثنا ابن بشار قال ، حدثنا عبد الوهاب قال ، حدثنا أيوب عن أبي قلابة : أن النعمان بن بشير آلى من امرأته ، فضرب ابنُ مسعود فخذَه وقال : إذا مضت أربعة أشهر فاعترفْ بتطليقة. (1)
4573 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا المعتمر قال ، سمعت داود ، عن عامر : أن ابن مسعود قال في المُولي : إذا مضت أربعة أشهر ولم يفئ فقد بانت منه امرأته بواحدة وهو خاطب.
4574 - حدثنا محمد بن بشار قال ، حدثنا ابن مهدي قال ، حدثنا شعبة ، عن الحكم ، عن مقسم ، عن ابن عباس قال : عَزْم الطلاق انقضاء الأربعة الأشهر.
4575 - حدثنا ابن المثنى قال ، حدثنا محمد بن جعفر قال ، حدثنا شعبة ، عن الحكم ، عن مقسم ، عن ابن عباس ، مثله.
4576 - حدثنا محمد بن المثنى قال : حدثنا محمد بن جعفر قال ، حدثنا شعبة ، عن عبد الله بن أبي نجيح ، عن عطاء ، عن ابن عباس : أنه قال في الإيلاء : إذا مضت أربعة أشهر فهي واحدة بائنة. (2)
4577 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا خالد بن مخلد ، عن جعفر بن برقان ، عن
__________
(1) اعترف بالشيء : أقر به .
(2) في المطبوعة : " حدثنا محمد بن جعفر " أول الإسناد أسقط منه " حدثنا محمد بن المثنى قال " وصوابه من المخطوطة ، وهو بين من الإسناد قبله .

(4/481)


عبد الأعلى بن ميمون بن مهران ، عن عكرمة أنه قال : إذا مضت الأربعة الأشهر فهي تطليقة بائنة فذكر ذلك عن ابن عباس. (1)
4578 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا أبو نعيم ، عن يزيد بن زياد بن أبي الجعد ، عن الحكم ، عن مقسم ، عن ابن عباس قال ، عزيمة الطلاق انقضاء الأربعة. (2)
4579 - حدثنا أبو هشام قال ، حدثنا وكيع قال ، حدثنا شعبة ، عن الحكم ، عن مقسم ، عن ابن عباس ، مثله.
4580 - حدثنا أبو هشام قال ، حدثنا ابن فضيل قال ، حدثنا الأعمش ، عن حبيب ، عن سعيد بن جبير : أن أمير مكة سأله عن المُولي ، فقال : كان ابن عمر يقول : إذا مضت أربعة أشهر مُلِّكت أمرها وكان ابن عباس يقول ذلك.
4581 - حدثنا أبو هشام قال ، حدثنا حفص ، عن الحجاج ، عن الحكم ، عن مقسم ، عن ابن عباس قال ، إذا مضت أربعة أشهر فهي تطليقة بائنة.
4582 - حدثنا أبو هشام قال ، حدثنا حفص ، عن حجاج ، عن سالم المكي ، عن ابن الحنفية ، مثله.
4583 - حدثني محمد بن عبد الله بن عبد الحكم قال ، حدثنا أبى وشعيب ، عن الليث ، عن يزيد بن أبي حبيب عن أبان بن صالح ، عن ابن شهاب :
__________
(1) الأثر : 4577 - " خالد بن مخلد القطواني " . أبو الهيثم البجلي . روى عنه البخاري ومسلم وأبو كريب قال ابن معين : لا بأس بهن مات سنة 213 . مترجم في التهذيب . و " جعفر بن برقان الكلابي " . روى عن يزيد الأصم والزهري وعطاء وميمون بن مهران وعبد الأعلى بن ميمون وهو ثقة : وكان أميًا لا يقرأ ولا يكتب ولكن كانت له رواية وفقه وفتوى مات سنة 150 . مترجم في التهذيب . و " عبد الأعلى بن ميمون " سمع أباه وعكرمة وعطاء ، وسمع منه جعفر بن برقان مترجم في الجرح والتعديل 3/1/27 .
(2) الأثر : 4578 - في المطبوعة والمخطوطة " يزيد بن زياد عن أبي الجعد " وقد سلف مثل هذا الخطأ وصححناه فهو " يزيد بن زياد بن أبي الجعد " فيما سلف رقم : 510 : 0

(4/482)


أن قبيصة بن ذؤيب قال في الإيلاء : هي تطليقة بائنة وتأتنف العدة (1) وهي أملكُ بأمرها.
4584 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا جرير ، عن مغيرة ، عن الشعبي ، عن شريح : أنه أتاه رجل فقال : إني آليت من امرأتي فمضت أربعة أشهر قبل أن أفيء ؟ فقال شريح : " وإذ عزموا الطلاقَ فإن الله سميع عليم " - لم يزده عليها. فأتى مسروقًا فذكر ذلك له ، فقال : يرحم الله أبا أمية لو أنا قلنا مثل ما قال لم يفرِّج أحد عنه! وإنما أتاه ليفرِّج عنه! ثم قال : هي تطليقة بائنة ، وأنت خاطبٌ من الخطَّاب.
4585 - حدثنا ابن المثنى قال : حدثنا محمد بن جعفر قال ، حدثنا شعبة ، عن مغيرة أنه سمع الشعبي ، يحدث : أنه شهد شُرَيحًا - وسأله رجل عن الإيلاء - فقال : " للذين يؤلون من نسائهم تربُّص أربعة أشهر " الآية قال : فقمت من عنده ، فأتيتُ مسروقًا ، فقلت : يا أبا عائشة وأخبرته بقول شريح ، فقال : يرحم الله أبا أمية ، لو أن الناس كلهم قالوا مثل هذا ، منْ كان يفرج عنا مثل هذا! ثم قال : إذا مضت أربعة أشهر فهي واحدة بائنة.
4586 - حدثنا أبو هشام قال ، حدثنا أبو داود ، عن جرير بن حازم قال ، قرأت في كتاب أبي قلابة عند أيوب : سألت سالم بن عبد الله وأبا سلمة بن عبد الرحمن فقالا إذا مضت أربعة أشهر فهي تطليقه بائنة.
8587 - حدثنا أبو هشام قال ، حدثنا أبو داود ، عن جرير بن حازم ، عن قيس بن سعد ، عن عطاء قال ، إذا مضت أربعة أشهر ، فهي تطليقة بائنة ، ويخطبها في العِدَّة.
4588 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا معتمر ، عن أبيه -
__________
(1) ائتنف الأمر ائتنافًا واستأنفه : أخذ أوله وابتدأه أو استقبله . من " الأنف " (بفتح فسكون) وأنف كل شيء أوله .

(4/483)


في الرجل يقول لامرأته : " والله لا يجمع رأسي ورأسك شيء أبدًا! " ، ويحلف أن لا يقربها أبدًا فإن مضت أربعة أشهر ولم يفئ ، كانت تطليقة بائنة ، وهو خاطب - قول علي وابن مسعود وابن عباس والحسن.
4589 - حدثنا محمد بن بشار قال ، حدثنا عبد الأعلى قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة ، عن الحسن : أنه سئل عن رجل قال لامرأته : " إن قرَبتُك فأنت طالق ثلاثًا " ، قال ، فإذا مضت أربعة أشهر فهي تطليقة بائنة ، وسقط ذلك.
4590 - حدثنا سوّار قال ، حدثنا بشر بن المفضل وحدثنا أبو هشام قال ، حدثنا وكيع جميعًا ، عن يزيد بن إبراهيم ، قال ، سمعت الحسن ومحمدًا في الإيلاء ، قالا إذا مضت أربعة أشهر فقد بانت بتطليقة بائنة ، وهو خاطب من الخطاب.
4591 - حدثنا يعقوب قال ، حدثنا ابن علية ، عن ابن عون ، عن محمد قال ، كنا نتحدث في الأليَّة أنها إذا مضت أربعة أشهر فهي تطليقة بائنة.
4592 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا عثام ، عن الأعمش ، عن إبراهيم في الإيلاء قال : إن مضت يعني : أربعة أشهر بانت منه.
4593 - حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا أبو داود قال ، حدثنا حماد بن سلمة ، عن قتادة ، عن النخعي قال : إن قرَبها قبل الأربعة الأشهر فقد بانت منه بثلاث ، وإن تركها حتى تمضي الأربعة الأشهر بانت منه بالإيلاء في رجل قال لامرأته : " أنت طالق ثلاثًا إن قربتك سنة " .
4594 - حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا معاذ بن هشام قال ، حدثني أبي ، عن قتادة قال : أعتم عبيد الله بن زياد عند هندٍ في ليلة أم عثمان ابنة عمر بن عبيد الله ، فلما أتاها أمرت جواريها ، فأغلقنَ الأبواب دونه ، فحلف أن لا يأتيها

(4/484)


حتى تأتيه ، فقيل له : إن مضت أربعة أشهر ذهبتْ منك. (1)
4595 - حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا عبد الوهاب قال ، حدثنا عوف قال : بلغني أن الرجل إذا آلى من امرأته فمضت أربعة أشهر فهي تطليقة بائنة ، ويخطبها إن شاء.
4596 - حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : " للذين يؤلون من نسائهم تربُّص أربعة أشهر " - في الذي يُقسم ، وإن مضت الأربعة الأشهر فقد حرُمت عليه ، فتعتدُّ عدّة المطلقة وهو أحد الخطاب.
4597 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر ، عن الزهري ، عن قبيصة بن ذؤيب قال ، إذا مضت الأربعة الأشهر فهي تطليقة بائنة. (2)
4598 - حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : " للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر فإنّ فاءوا فإنّ الله غفورٌ رحيم " - وهذا في الرجل يولي من امرأته ويقول : " والله لا يجتمع رأسي ورأسك ، ولا أقربك ، ولا أغشاك! " ، فكان أهل الجاهلية يعدُّونه طلاقًا ، فحدّ الله لهما أربعة أشهر ، فإن فاء فيها كفر يمينه وهي امرأته ، وإن مضت أربعة أشهر ولم يفئ فهي تطليقة بائنة ، وهي أحق بنفسها ، وهو أحد الخطاب.
4599 - حدثت عن عمار قال ، حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع ، مثله.
__________
(1) الأثر : 4594 - " هند " هي : هند بنت أسماء بن خارجة الفزاري و " أم عثمان بنت عمر بن عبيد الله بن معمر التيمي " وهما زوجتاه . وقوله : " أعتم " أي تأخر وأبطأ في الليل وقد مرت قطعة منه ، والعتمة : ظلام الليل .
(2) الأثر : 4597 - انظر الأثر السالف رقم : 4583 .

(4/485)


4600 - حدثني موسى قال ، حدثنا عمرو قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : " للذين يؤلون من نسائهم تربُّص أربعة أشهر " ، قال : كان ابن مسعود وعمر بن الخطاب يقولان : إذا مضت أربعة أشهر فهي طالق بائنة ، وهي أحقُّ بنفسها.
4601 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا أبو وهب ، عن جويبر ، عن الضحاك : " للذين يؤلون " الآية ، هو الذي يحلف أن لا يقرب امرأته ، فإن مضت أربعة أشهر ولم يفئ ولم يطلِّق ، بانت منه بالإيلاء. فإن رجعت إليه فمهرٌ جديد ، ونكاح ببيِّنة ، ورضًا من الوليّ. (1)
* * *
وقال آخرون : بل الذي يلحقها بمضي الأربعة الأشهر : تطليقةٌ ، يملك فيها الزوجُ الرحعةَ.
* ذكر من قال ذلك :
4602 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا ابن إدريس قال ، حدثنا مالك ، عن الزهري ، عن سعيد بن المسيب وأبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام قالا إذا آلى الرجل من امرأته فمضت أربعة أشهر ، فواحدة وهو أملك برجعتها. (2)
4603 - حدثنا أبو هشام قال ، حدثنا ابن إدريس ، عن مالك ، عن الزهري ، عن سعيد بن المسيب قال ، إذا مضت أربعة أشهر فهي تطليقة يملك الرَّجعة. (3)
4604 - حدثنا أبو هشام قال : حدثنا ابن مهدي قال ، حدثنا سفيان ، عن إسماعيل بن أمية ، عن مكحول قال ، إذا مضت أربعة اشهر فهي تطليقة ، يملك الرجعة.
__________
(1) في المطبوعة : " ورضا من المولى " وهو خطأ والصواب من المخطوطة .
(2) الأثر : 4602 - في الموطأ : 557 ، بغير هذا اللفظ وفي المطبوعة : " لرجعتها " والصواب من المخطوطة .
(3) الأثر 4603 - لم أجده بلفظه في الموطأ ، وكأنه مختصر الذي سلف .

(4/486)


4605 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر ، عن الزهري ، عن أبي بكر بن عبد الرحمن قال ، هي واحدة وهو أحق بها يعني إذا مضت الأربعة الأشهر وكان الزهري يفتي بقول أبي بكر هذا.
4606 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو صالح قال ، حدثنا الليث قال ، حدثني يونس قال ، قال ابن شهاب : حدثني سعيد بن المسيب أنه قال : إذا آلى الرجل من امرأته فمضت الأربعة الأشهر قبل أن يفيء فهي تطليقة وهو أملك بها ما كانت في عِدَّتها.
4607 - حدثنا أبو هشام قال ، حدثنا يحيى بن يمان قال ، حدثنا أبو يونس القوي قال ، قال لي سعيد بن المسيب : ممن أنت ؟ قال : قلت من أهل العراق! قال ، لعلك ممن يقول : " إذا مضت أربعة أشهر فقد بانت! " ، لا! ولو مضت أربع سنين. (1)
4608 - حدثنا محمد بن عبد الله بن عبد الحكم قال ، حدثنا حجاج بن رِشْدين قال : حدثنا عبد الحبار بن عمر ، عن ربيعة : أنه قال في الإيلاء : إذا مضت أربعة أشهر فهي تطليقة ، وتستقبل عِدَّتها ، وزوجها أحق برجعتها. (2)
4609 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا ابن إدريس قال ، كان ابن شبرمة يقول : إذا مضت أربعة أشهر فله الرجعة ويخاصِم بالقرآن ، ويتأوَّل
__________
(1) الأثر : 4607 - " أبو القوي " هو : الحسن بن يزيد بن فروخ الضمري ويقال العجلي . سكن الكوفة . قال ابن معين : " هو الذي يقال له الطواف " . وسمي " القوي " لقوته على العبادة قال وكيع : " بكى حتى عمى وصلى حتى حدب وطاف حتى أقعد " وثقه ابن معين والنسائي . مترجم في التهذيب .
(2) الأثر : 4608 - " حجاج بن رشدين بن سعد المصري " . روى عن أبيه وحيوة بن شريح وعنه محمد بن عبد الله بن عبد الحكم . قال ابن أبي حاتم : سألت أي عنه : " لا علم لي به ، لم أكتب عن أحد عنه " . وذكره ابن حبان في الثقات وضعفه ابن عدي مات سنة 211 . مترجم في لسان الميزان والجرح والتعديل 1/2160 . و " عبد الجبار بن عمر الأيلي " سمع الزهري وبيعة وعطاء الخراساني وأبا الزناد ؟ روى عنه ابن وهب وسعيد بن أبي مريم . سئل يحيى بن معين عنه فقال : ضعيف ليس بشيء " . وقال أبو زرعة : " ضعيف الحديث ليس بقوي " مترجم في الجرح والتعديل 3/1/31 - 32 .

(4/487)


هذه الآية : ( وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ ) [سورة البقرة : 228] ، ثم نزع : (1) " للذين يؤلون من نسائهم تربُّص أربعة أشهر فإذ فاءوا فإن الله غفور رحيم وإن عزَموا الطلاق فإن الله سميع عليم "
4610 - حدثنا علي بن سهل قال ، حدثنا الوليد بن مسلم قال ، قال أبو عمر : ونحن في ذلك يعني في الإيلاء على قول أصحابنا الزهريّ ومكحول أنها تطليقة - يعني مضيّ الأربعة الأشهر - وهو أملك بها في عدتها. (2)
* * *
وقال آخرون : معنى قوله : " للذين يؤلون من نسائهم " إلى قوله : " فإنّ الله سميع عليم " " للذين يؤلون " على الاعتزال من نسائهم ، تنظُّرُ أربعة أشهر بأمره وأمرها " فإن فاؤوا " بعد انقضاء الأشهر الأربعة إليهنّ ، فرجعوا إلى عشرتهن بالمعروف ، وترك هجرانهن ، وأتوْا إلى غشيانهن وجماعهن " فإن الله غفور رحيم وإن عزموا الطلاق " فأحدثوا لهن طلاقًا بعد الأشهر الأربعة " فإن الله سميع " لطلاقهم إياهن " عليم " بما فعلوا بهن من إحسان وإساءة.
وقال متأوِّلو هذا التأويل : مضي الأشهر الأربعة يوجب للمراة المطالبةَ على زوجها المُولي منها ، بالفيء أو الطلاق ، ويجب على السلطان أن يقف الزوج على ذلك ، فإن فاء أو طلَّق ، وإلا طلَّق عليه السلطان.
* ذكر من قال ذلك :
4611 - حدثنا علي بن سهل قال ، حدثنا الوليد بن مسلم قال ، أخبرنا المثنى بن الصباح ، عن عمرو بن شعيب عن سعيد بن المسيب : أن عمر قال في
__________
(1) نزع بالآية والشعر ، وانتزع بهما : تمثل . ويقال أيضًا للرجل إذا استنبط معنى آية من كتاب الله : " قد انتزع معنى جيدًا - ونزعه " : أي استخرجه .
(2) الأثر : 4610 - " الوليد بن مسلم القرشي " الدمشقي عالم الشام . قال أحمد : " ما رأيت أعقل منه . وقال مروان بن محمد : " إذا كتبت حديث الأوزاعي عن الوليد فلا تبالي من فاتك ، وقال : " كان الوليد عالما بحديث الأوزاعي " . مات بعد انصرافه من الحج سنة 194 . " أبو عمرو " هو الإمام الجليل أبو عمرو الأوزاعي " عبد الرحمن بن عمرو بن يحمد " الفقيه المشهور .

(4/488)


الإيلاء : لا شيء عليه حتى يُوقَف ، فيطلق أو يمسك. (1)
4612 - حدثني عبد الله بن أحمد بن شَبَّويه قال ، حدثنا ابن أبي مريم قال ، حدثنا يحيى بن أيوب ، عن المثنى ، عن عمرو بن شعيب ، عن سعيد بن المسيب ، عن عمر بن الخطاب ، مثله. (2)
4613 - حدثنا محمد بن المثنى قال ، حدثنا غندر قال ، حدثنا شعبة ، عن سماك قال ، سمعت سعيد بن جبير يحدّث عن عمر بن الخطاب : أنه قال في الإيلاء : إذا مضت أربعة أشهر لم يجعله شيئًا.
4614 - حدثنا أبو هشام الرفاعي قال ، حدثنا ابن عيينة ، عن الشيباني ، عن الشعبي ، عن عمرو بن سلمة ، عن علي : أنه كان يقف المولي بعد الأربعة الأشهر حتى يفيء أو يطلق.
4615 - حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا يحيى ، عن سفيان ، عن الشيباني ، عن الشعبي ، عن عمرو بن سلمة ، عن علي : قال في الإيلاء : يُوقَف.
4616 - حدثنا أبو هشام قال ، حدثنا وكيع ، عن سفيان ، عن الشيباني ، عن بكير بن الأخنس ، عن مجاهد ، عن ابن أبي ليلى ، عن علي : أنه كان يَقِفُه.
4617 - حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا يحيى ، عن سفيان ، عن الشيباني ، عن بكير بن الأخنس ، عن مجاهد ، عن ابن أبي ليلى ، عن علي : أنه كان يوقفه. (3)
4618 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا ابن إدريس ، عن ليث ، عن مجاهد ، عن مروان بن الحكم ، عن على قال : يُوَقف المُولي عند انقضاء الأربعة
__________
(1) الأثر : 4611 - " هو المثنى بن الصباح اليماني " . أصله من أبناء اليمن بفارس روى عن طاوس ومجاهد وعطاء بن أبي رباح وعمرو بن شعيب . قال يحيى بن سعيد وذكر عنده : " لم نتركه من أجل عمرو بن الشعيب ولكن كان منه اختلاط في عطاء " . وقال أحمد : " لا يساوي حديثه شيئًا ، مضطرب الحديث " وضعفه ابن معين وغيره . مات سنة 149 .
(2) الأثر : 4612 - " عبد الله بن أحمد بن شبويه " سلف في رقم : 1909 .
(3) الأثر : 4617 - في المخطوطة : " عن ابن أبي ليلى في الإيلاء قال ، يوقف " ليس فيه " عن علي : أنه كان يوقفه " .

(4/489)


الأشهر حتى يفيء أو يطلق قال أبو كريب ، قال ابن إدريس : وهو قول أهل المدينة.
4619 - حدثنا أبو هشام الرفاعي قال ، حدثنا ابن فضيل ، عن ليث ، عن مجاهد ، عن مروان ، عن علي مثله.
4620 - حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا سفيان ، عن ليث ، عن مجاهد ، عن مروان بن الحكم ، عن علي قال ، المُولي إمَّا أن يفيء ، وإما أن يطلّق.
4621 - حدثنا أبو هشام قال ، حدثنا وكيع ، عن مسعر ، عن حبيب بن أبي ثابت ، عن طاوس ، أن عثمان كان يقف المولي بقول أهل المدينة.
4622 - حدثنا أحمد بن حازم قال ، حدثنا أبو نعيم قال ، حدثنا مسعر ، عن حبيب بن أبي ثابت قال ، لقيت طاوسًا فسألته ، فقال : كان عثمان يأخذ بقول أهل المدينة.
4623 - حدثنا ابن المثنى قال ، حدثنا عبد الصمد قال ، حدثنا همام ، عن قتادة ، عن سعيد بن المسيب ، عن أبي الدرداء أنه قال : ليس له أجل وهي معصية ، يوقف في الإيلاء ، فإما أن يمسك ، وإما أن يطلق.
4624 - حدثنا ابن المثنى قال ، حدثنا أبو داود قال ، حدثنا همام ، عن قتادة ، عن سعيد بن المسيب أن أبا الدرداء : قال في الإيلاء : إذا مضت أربعة أشهر فانه يوقف ، إما أن يفيء ، وإما أن يطلق.
4625 - حدثنا ابن المثنى قال ، حدثنا معاذ بن هشام قال ، حدثنا أبي ، عن قتادة ، عن سعيد بن المسيب ، أن أبا الدرداء كان يقول : هي معصية ، ولا تحرم عليه امرأته بعد الأربعة الأشهر ، ويجعل عليها العدّة بعد الأربعة الأشهر.
4626 - حدثنا ابن المثنى قال ، حدثنا عبد الأعلى قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة أن أبا الدرداء وسعيد بن المسيب قالا يوقف عند انقضاء الأربعة

(4/490)


الأشهر ، فإما أن يفيء ، وإما أن يطلق ، ولا يزال مقيما على معصية حتى يفيء أو يطلق.
4627 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر ، عن قتادة أن أبا الدرداء وعائشة قالا يوقف المولي عند انقضاء الأربعة ، فإما أن يفيء ، وإما أن يطلق.
4628 - حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا عبد الأعلى قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة ، عن أبي الدرداء وسعيد بن المسيب ، نحوه.
4629 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا ابن إدريس ، قال ، (1) حدثنا الحسن ، عن ابن أبى مليكة قال ، قالت عائشة : يوقف عند انقضاء الأربعة الأشهر ، فإما أن يفيء ، وإما أن يطلق. قال : قلت : أنتَ سمعتها ؟ قال : لا تُبَكِّتْني. (2)
4630 - حدثنا إبراهيم بن مسلم بن عبد الله قال ، حدثنا عمران بن ميسرة قال ، حدثنا ابن إدريس قال ، حدثنا حسن بن الفرات بإسناده عن عائشة ، مثله. (3)
4631 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا ابن إدريس قال ، حدثنا عبد الجبار بن الورد ، عن ابن أبي مليكه ، عن عائشة ، مثله.
__________
(1) في المخطوطة والمطبوعة : " أبو إدريس " وهو خطأ ورواية أبي كريب عن ابن إدريس كثيرة دائرة في التفسير أقربها آنفًا رقم : 4609 ، وقد مضت ترجمته .
(2) التبكيت : استقبال الرجل بما يكره . والتبكيت أيضًا : التقريع والتوبيخ .
(3) الأثر : 4629 - 4630 - " أبو مسلم " : إبراهيم بن عبد الله بن مسلم الكجي . أو الكشي مضى في رقم : 3562 ، 4327 . وكان في المطبوعة هنا : " إبراهيم بن مسلم بن عبد الله " وهم الناسخ فحذف الكنية " أبو مسلم " وأقحم " بن مسلم " بينه وبين أبيه . و " عمران بن ميسرة المنقري " . روى عن عبد الله بن إدريس . وعنه البخاري وأبو داود وأبو زرعة وأبو حاتم وأبو مسلم الكجي : وثقه الدارقطني . مات سنة 213 . مترجم في التهذيب . و " الحسن بن الفرات بن أبي عبد الرحمن التميمي الفزاز " وهو المذكور في الإسناد السالف : 4629 . روى عن أبي معشر وابن أبي مليكة وأبيه فرات . وعنه ابنه زياد وعبد الله بن إدريس ووكيع وأبو نعيم وغيرهم . وثقه ابن معين وابن حبان وأبو حاتم . مترجم في التهذيب والجرح والتعديل 1/2/32 .

(4/491)


4632 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، حدثني عبيد الله بن عمر ، عن عبد الرحمن بن القاسم ، عن أبيه ، عن عائشة أنها قالت : إذا آلى الرجل أن لا يمسَّ امرأته ، فمضت أربعة أشهر ، فإما أن يمسكها كما أمره الله ، وإما أن يطلقها لا يوجب عليه الذي صَنع طلاقًا ولا غيره. (1)
4633 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، أخبرني يونس بن يزيد وناجية بن بكر وابن أبي الزناد ، عن أبي الزناد قال ، أخبرني القاسم بن محمد : أنّ خالد ابن العاص المخزومي كانت عنده ابنة أبي سعيد بن هشام ، وكان يحلف فيها مرارًا كثيرة أن لا يقربها الزمانَ الطويلَ قال ، فسمعت عائشة تقول له : ألا تتقي الله يا ابن العاص في ابنة أبي سعيد ؟ أما تخْرج ؛ أما تقرأ هذه الآية التي في " سورة البقرة " ؟ قال : فكأنها تؤثِّمه ، ولا ترى أنه فارق أهله. (2)
4634 - حدثنا محمد بن المثنى قال ، حدثنا يحيى بن سعيد ، عن عبيد الله ، عن نافع ، عن ابن عمر أنه قال في المولي : لا يحلّ له إلا ما أحل الله له : إما أن يفيء ، وإما أن يطلق.
4635 - حدثنا تميم بن المنتصر قال ، أخبرنا عيد الله بن نمير قال ، أخبرنا عبيد الله ، عن نافع ، عن ابن عمر ، نحوه. (3)
4636 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا ابن إدريس قال ، حدثنا عبيد الله ، عن نافع ، عن ابن عمر قال ، لا يجوز للمُولي أن لا يفعل ما أمره الله ، يقول :
__________
(1) الأثر : 4632 - " عبيد الله بن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب " أحد الفقهاء السبعة . روى عن القاسم بن محمد بن أبي بكر وابنه عبد الرحمن بن القاسم . كان في المطبوعة والمخطوطة " عبد الله بن عمر " وانظر سنن البيهقي 8 : 378 .
(2) الأثر : 4633 - " يونس بن يزيد بن أبي النجاد الأيلي " . روى عن الزهري ونافع وهشام بن عروة . وعنه الليث والأوزاعي وابن المبارك وابن وهب ، ثقة . مات بصعيد مصر سنة 159 . مترجم في التهذيب . " وأما " ناجية بن بكر " فلم أجد من يسمى بهذا الإسم من الرواة ولكن ابن وهب يروى عن " بكر بن مضر المصري " فأخشى أن يكون في الكلام زيادة وتصحيف . والله أعلم . وفي المطبوعة والمخطوطة : " يا ابن أبي العاص " والصواب ما أثبت . وانظر نسب قريش : 312 .
(3) الأثر : 4635 - في المخطوطة : " عن عبد الله عن نافع " في هذا الموضع وحده .

(4/492)


يبيِّن رجعتها ، أو يطلق عند انقضاء الأربعة الأشهر - يبين رجعتها ، أو يطلق قال أبو كريب. قال ابن إدريس وزاد فيه. وراجعته فيه ، فقال قولا معناه : إن له الرجعة.
4637 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا ابن إدريس قال ، حدثنا شعبة ، عن سماك ، عن سعيد بن جبير أن عمر قال نحوا من قول ابن عمر.
4638 - حدثنا مجاهد بن موسى قال ، حدثنا يزيد بن هارون قال ، أخبرنا جرير بن حازم قال ، أخبرنا نافع أن ابن عمر قال في الإيلاء : يوقف عند الأربعة الأشهر.
4639 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، حدثني عبيد الله بن عمر ، عن نافع ، عن ابن عمر أنه قال : إذا آلى الرجل أن لا يمس امرأته فمضت أربعة أشهر ، فإما أن يمسكها كما أمره الله ، وإما أن يطلقها ولا يوجب عليه الذي صنعَ طلاقًا ولا غيره.
4640 - حدثنا أبو هشام قال ، حدثنا ابن عيينة ، عن أيوب ، عن سعيد بن جبير قال ، سألت ابن عمر عن الإيلاء فقال : الأمراء يقضون بذلك.
4641 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر ، عن أيوب ، عن نافع ، عن ابن عمر قال ، يوقف المولي بعد انقضاء الأربعة. فإما أن يطلِّق ، وإما أن يفيء.
4642 - حدثنا عبد الله بن أحمد بن شبويه قال ، حدثنا ابن أبي مريم قال ، حدثنا يحيى بن أيوب ، عن عبيد الله بن عمر ، عن سهيل بن أبي صالح ، عن أبيه قال ، سألت اثني عشر رجلا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، عن الرجل يولي من امرأته ، فكلهم يقول : ليس عليه شيء حتى تمضي الأربعة الأشهر فيوقف ، فإن فاء وإلا طلق.
4643 - حدثنا ابن المثنى قال ، حدثنا عبد الوهاب ، قال حدثنا داود ،

(4/493)


عن سعيد بن المسيب - في الرجل يولي من امرأته - قال : كان لا يرى أن تدخل عليه فرقه حتى يطلق. (1)
4644 - حدثنا محمد بن المثنى قال ، حدثنا ابن أبي عدي ، عن داود ، عن سعيد بن المسيب : في الإيلاء : إذا مضت أربعة أشهر : إنما جعله الله وقتًا لا يحل له أن يجاوزَ حتى يفيء أو يطلِّق ، فإن جاوز فقد عصى الله لا تحرُمُ عليه امرأته.
4645 - حدثنا أبو هشام قال ، حدثنا ابن فضيل ، عن داود بن أبي هند ، عن سعيد بن المسيب قال ، إذا مضت أربعة أشهر ، فإما أن يفيء ، وإما أن يطلِّق.
4646 - حدثنا محمد بن المثنى وابن بشار قالا حدثنا عبد الأعلى قال ، حدثنا سعيد ، عن قتاده ، عن ابن المسيب : في الإيلاء : يوقف عند انقضاء الأربعة الأشهر ، فإما أن يفيء ، وإما أن يطلق.
4647 - حدثنا يعقوب بن إبراهيم قال ، حدثنا ابن علية ، عن معمر أو حدثته عنه (2) عن عطاء الخراساني قال ، سألت ابن المسيب عن الإيلاء ، فقال : يُوقف.
4648 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر ، عن عطاء الخراساني ، عن ابن المسيب وعن ابن طاوس ، عن أبيه ، قالا يوقف المولي بعد انقضاء الأربعة ، فإما أن يفيء ، وإما أن يطلق. (3) .
__________
(1) قوله : " فرقه " هكذا في المخطوطة وفي المطبوعة : " فرقة " والأرجح أنها مصحفة عن كلمة معناها : بيته ، أو غرفته .
(2) في المطبوعة : " حدثته " وما أثبت من المخطوطة .
(3) عند هذا الموضع ، انتهى تقسيم من تقاسيم النسخة التي نقت عنها نسختنا ويلي ذلك الأثر ما نصه :
" وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم كثيرًا * * *
على الأصل
بلغت بالقراءة من أوله سماعًا من القاضي أبي الحسن الخصيب بن عبد الله عن أبي محمد الفرغاني ، عن أبي جعفر الطبري . وسمع معي أخي عليٌّ حرسه الله وأحمد بن عمر بن مديدة الجهاري ، ونصر بن الحسين الطبريّ ومحمد بن عليّ الأموي . وكتب محمد بن عيسى السعدي في شعبان من سنة ثمان وأربعمائة - والقاضي يقابلني بكتابه "

(4/494)


4649 - (1) حدثنا علي بن سهل قال ، حدثنا الوليد بن مسلم قال ، حدثني مالك بن أنس ، عن الزهري ، عن سعيد بن المسيب وأبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام مثل ذلك يعني مثل قول عمر بن الخطاب في الإيلاء : لا شيء عليه ، حتى يوقف ، فيطلق ، أو يمسك. (2)
4650 - حدثنا محمد بن المثنى قال ، حدثنا محمد بن جعفر قال ، حدثنا شعبة ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد أنه قال في الإيلاء : يوقف.
4651 - حدثني محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح وحدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله : " للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر " ، قال إذا مضى أربعة أشهر أخذ فيوقف حتى يراجع أهله ، أو يطلِّق.
4652 - حدثنا أبو هشام قال ، حدثنا ابن عيينة ، عن أيوب ، عن سليمان بن يسار : أن مروان وَقفه بعد ستة أشهر.
4653 - حدثنا ابن المثنى قال ، حدثنا عبد الوهاب قال ، حدثنا داود ،
__________
(1) أول التقسيم ما نصه :
" بسم الله الرحمن الرحيم "
(2) الأثر : 4649 - هذا إسناد آخر للأثر : 4602 فيما سلف وأما خير عمر فهو الذي مضى برقم : 4611 .

(4/495)


عن عمر بن عبد العزيز في الإيلاء قال ، يوقف عند الأربعة الأشهر حتى يفيء ، أو يطلق.
4654 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو صالح قال ، حدثني معاوية ، عن علي عن ابن عباس قوله : " للذين يؤلون من نسائهم تربُّص أربعة أشهر " ، هو الرجل يحلف لامرأته بالله لا ينكحها ، فيتربص أربعة أشهر ، فإن هو نكحها كفر عن يمينه ، فإن مضت أربعة أشهر قبل أن ينكحها أجبره السلطان إما أن يفيء فيراجع ، وإما أن يعزم فيطلق ، كما قال الله سبحانه.
4655 - حدثنا موسى بن هارون قال ، حدثنا عمرو بن حماد قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : " للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر فإن فاؤوا " الآية ، قال : كان علي وابن عباس يقولان : إذا آلى الرجل من امرأته فمضت الأربعة الأشهر فإنه يوقف فيقال له : أمسكتَ أو طلَّقت ، فإن أمسك فهي امرأته ، وإن طلق فهي طالق.
4656 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد في قوله : " للذين يؤلون من نسائهم " قال : هو الرجل يحلف أن لا يصيب امرأته كذا وكذا ، فجعل الله له أربعة أشهر يتربص بها. وقال : قول الله تعالى ذكره : " تربص أربعة أشهر " ، يتربص بها " فإن فاؤوا فإن الله غفور رحيم وإن عزموا الطلاق فإن الله سميع عليم " فإذا رفعته إلى الإمام ضرب له أجلَ أربعةِ أشهر ، (1) فإن فاء وإلا طَلَّق عليه ، فإن لم ترفعه فإنما هو حقٌّ لها تركته.
4657 - حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب ، عن مالك قال ، لا يقع على المولي طلاق حتى يوقف ، ولا يكون موليًا حتى يحلف على أكثر من أربعة أشهر ، فإذا حلف على أربعة أشهر فلا إيلاء عليه ، لأنه يوقف عند الأربعة الأشهر ، وقد سقطت عنه اليمين ، فذهب الإيلاء
__________
(1) في المطبوعة : " أجلا أربعة أشهر " وأثبت ما في المخطوطة .

(4/496)


. (1)
4658 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب ، عن ابن زيد قال ، قال ابن عمر : حتى يرفع إلى السلطان ، وكان أبي يقول ذلك ويقول : لا والله وإن مضت أربعُ سنين حتى يوقَف.
4659 - حدثنا أحمد بن حازم قال ، حدثنا أبو نعيم قال ، حدثنا فطر قال ، قال محمد بن كعب القرظي وأنا معه : لو أن رجلا آلى من امرأته أربعَ سنين لم نُبِنْها منه حتى نجمع بينهما ، (2) فإن فاء فاء ، وإن عزم الطلاق عزم.
4660 - حدثنا أحمد بن حازم قال ، حدثنا أبو نعيم قال ، حدثنا عبد العزيز الماجشون ، عن داود بن الحصين قال ، سمعت القاسم بن محمد يقول : يوقف إذا مضت الأربعة.
* * *
وقال آخرون : ليس الإيلاء بشيء.
* ذكر من قال ذلك :
4661 - حدثنا أحمد بن حازم قال ، حدثنا أبو نعيم قال ، حدثنا ابن علية ، عن عمرو بن دينار قال ، سألت ابن المسيَّب عن الإيلاء فقال : ليس بشيء.
4662 - حدثنا أحمد بن حازم قال ، حدثنا أبو نعيم قال ، حدثني جعفر بن برقان ، عن ميمون بن مهران قال ، سألت ابن عمر عن رجل آلى من امرأته ، فمضتْ أربعة أشهر فلم يفئ إليها ، فتلا هذه الآية : " للذين يؤلون من نسائهم تربُّص أربعة أشهر " الآية.
4663 - حدثنا أحمد بن حازم قال ، حدثنا أبو نعيم قال ، حدثنا مسعر ،
__________
(1) الأثر : 4657 - لم أجد نصه في الموطأ ومعناه فيه (الموطأ : 556 - 558) .
(2) في المطبوعة : " لم نكبها منه " كأنه من " الإكنان " تصحيف ناسخ والصواب من المخطوطة .

(4/497)


عن حبيب بن أبي ثابت قال ، أرسلت إلى عطاء أسأله عن المولي ، فقال : لا علم لي به.
* * *
وقال آخرون من أهل هذه المقالة : بل معنى قوله : " وإن عزموا الطلاق " : وإن امتنعوا من الفيئة ، بعد استيقاف الإمام إيّاهم على الفيء أو الطلاق.
* ذكر من قال ذلك :
4664 - حدثني أبو السائب قال ، حدثنا أبو معاوية ، عن الأعمش ، عن إبراهيم قال ، يوقف المولي عند انقضاء الأربعة ، فإن فاء جعلها امرأته ، وإن لم يفئ جعلها تطليقة بائنة.
4665 - حدثنا أبو هشام قال ، حدثنا وكيع ، عن الأعمش ، عن إبراهيم قال ، يوقف المولي عند انقضاء الأربعة ، فإن لم يفئ فهي تطليقة بائنة.
* * *
قال أبو جعفر : وأشبه هذه الأقوال بما دلّ عليه ظاهر كتاب الله تعالى ذكره ، قولُ عمر بن الخطاب وعثمان وعلي رضي الله عنهم ومن قال بقولهم في الطلاق أن قوله : " فإن فاءوا فإنّ الله غفور رحيم وإن عزموا الطلاق فإنّ الله سميع عليم " إنما معناه : فإن فاءوا بعد وَقف الإمام إياهم من بعد انقضاء الأشهر الأربعة ، فرجعوا إلى أداء حق الله عليهم لنسائهم اللائي آلوا منهن ، فإن الله لهم غفور رحيم " وإن عزموا الطلاق " فطلَّقوهن " فإن الله سميع " ، لطلاقهم إذا طلَّقوا " عليم " بما أتوا إليهن.
وإنما قلنا ذلك أشبه بتأويل الآية ، لأن الله تعالى ذكره ذكر حين قال : " وإن عزموا الطلاق " ، " فإن الله سميع عليم " (1) ومعلوم أنّ انقضاء الأشهر الأربعة غير مسموع ، وإنما هو معلوم ، فلو كان " عزم الطلاق " انقضاء الأشهر الأربعة لم تكن الآية مختومة بذكر الله الخبر عن الله تعالى ذكره أنه " سميع عليم " ،
__________
(1) فصلنا بين شطري الآية لأن ذلك مراد الطبري . يعني أن الله تعالى حين قال " وإن عزموا الطلاق " - ختم الآية بقوله : " فإن الله سميع عليم " .

(4/498)


وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (228)

كما أنه لم يختم الآية التي ذكر فيها الفيء إلى طاعته في مراجعة المولي زوجته التي آلى منها ، وأداء حقها إليها بذكر الخبر عن أنه " شديد العقاب " ، إذْ لم يكن موضعَ وعيد على معصية ، ولكنه ختم ذلك بذكر الخبر عن وصفه نفسه تعالى ذكره بأنه " غفور رحيم " ، إذْ كان موضعَ وَعد المنيب على إنابته إلى طاعته ، فكذلك ختم الآية التي فيها ذكر القول ، والكلام بصفة نفسه بأنه للكلام " سميع " وبالفعل " عليم " ، فقال تعالى ذكره : وإن عزم المؤلون على نسائهم على طلاق من آلوا منه من نسائهم " فإن الله سميع " لطلاقهم إيّاهن إن طلقوهن " عليم " بما أتوا إليهنّ ، مما يحل لهم ، ويحرُم عليهم. (1) .
وقد استقصينا البيان عن الدلالة على صحة هذا القول في كتابنا( كتاب اللطيف من البيان عن أحكام شرائع الدين ) ، فكرهنا إعادته في هذا الموضع.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ }
قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره : " والمطلقات " اللواتي طُلِّقن بعد ابتناء أزواجهن بهنّ ، وإفضائهم إليهن ، إذا كن ذوات حيض وطهر - " يتربصن بأنفسهن " عن نكاح الأزواج " ثلاثةَ قُرُوْءٍ " .
* * *
واختلف أهل التأويل في تأويل " القرء " الذي عناه الله بقوله : " يتربَّصن بأنفسهن ثلاثة قروء "
__________
(1) هذا فقه أبي جعفر لمعاني كتاب ربه ، وتجويده لدلائل البلاغة والبيان في كتاب لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، فيه البرهان لمن طلب الحق من وجوهه بالورع والصبر والبصر ومعرفة ما توجبه الألفاظ من المعاني .

(4/499)


فقال بعضهم : هو الحيض.
* ذكر من قال ذلك :
4666 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله : " والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء " قال : حِيَضٍ. (1)
4667 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال ، حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : " ثلاثة قروء " أي ثلاث حِيَض. يقول : تعتدّ ثلاث حِيَض.
4668 - حدثني المثنى قال ، حدثنا حجاج قال ، حدثنا همام بن يحيى قال ، سمعت قتادة في قوله : " والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء " يقول : حمل عدة المطلقات ثلاث حيض ، ثم نُسخ منها المطلقة التي طُلِّقت قبل أن يدخل بها زوجها ، واللائي يَئِسْن من المحيض ، واللائي لم يحضن ، والحامل.
4669 - حدثنا علي بن عبد الأعلى قال ، حدثنا المحاربي ، عن جويبر ، عن الضحاك قال ، القروءُ الحِيَض. (2)
4670 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين ، قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن عطاء الخراساني ، عن ابن عباس : " والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء " قال : ثلاث حيض.
4671 - حدثنا محمد بن بشار قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا ابن جريج قال ، قال عمرو بن دينار : الأقراءُ الحيَض عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.
__________
(1) الحيضة (بكسر الحاء) الاسم من الحيض والحال التي تلزمها الحائض من التجنب والتحيض والجمع " حيض " (بكر الحاء وفتح الياء) وأما " الحيضة " المرة الواحدة من الحيض ، جمعها " حيضات " (بفتح وسكون) .
(2) الأثر : 4669 - في المطبوعة والمخطوطة : " علي بن عبد الأعلى " وانظر ما سلف رقم : 4485 ، وأخشى أن يكون الصواب " محمد بن عبد الأعلى " وقد سلف مرارًا .

(4/500)


4672 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر ، عن رجل سمع عكرمة قال : الأقراءُ الحِيَض ، وليس بالطهر ، قال تعالى : " فطلِّقوهن لعدتهن " ، ولم يقل : " لقروئهن " .
4673 - حدثنا يحيى بن أبي طالب قال ، أخبرنا يزيد قال ، أخبرنا جويبر ، عن الضحاك في قوله : " والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء " قالا ثلاث حيض.
4674 - حدثنا موسى قال ، حدثنا عمرو قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : " والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء " أما ثلاثة قروء : فثلاث حيض.
4675 - حدثنا حميد بن مسعدة قال ، حدثنا يزيد بن زريع قال ، حدثنا سعيد ، عن أبي معشر ، عن إبراهيم النخعي : أنه رُفِع إلى عمر ، فقال لعبد الله بن مسعود : لتقولنَّ فيها. فقال : أنت أحق أن تقول ! قال : لتقولن. قال : أقول : إن زوجها أحق بها ما لم تغتسل من الحيضة الثالثة. قال ، ذاك رأيي وافقتَ ما في نفسي! فقضى بذلك عُمر. (1)
4676 - حدثنا محمد بن يحيى قال ، حدثنا عبد الأعلى قال ، حدثنا سعيد ، عن أبي معشر ، عن النخعي ، عن قتادة ، أن عمر بن الخطاب قال لابن مسعود ، فذكر نحوه.
4677 - حدثنا محمد بن يحيى قال ، حدثنا عبد الأعلى قال ، حدثنا سعيد ، عن أبي معشر ، عن النخعي ، أن عمر بن الخطاب وابن مسعود قالا زُوجُها أحق بها ما لم تغتسل أو قالا تحلَّ لها الصلاة. (2)
4678 - حدثنا حميد بن مسعدة قال ، حدثنا يزيد بن زريع قال ، حدثنا
__________
(1) الأثر : 4675 - قال السيوطي أخرجه عبد الرزاق وعبد بن حميد . ورواه البيهقي في السنن 7 : 417 مطولا بغير هذا اللفظ ، من طريق " الثوري عن منصور عن إبراهيم عن علقمة : أن امرأة جاءت إلى عمر رضي الله عنه فقالت . . " وانظر المحلى 10 : 258 ، وسيأتي من طرق أخرى .
(2) يعني : ما لم تحل لها الصلاة .

(4/501)


سعيد بن أبي عروبة قال ، حدثنا مطر ، أن الحسن حدثهم : أن رجلا طلق امرأته ، ووكَّل بذلك رجلا من أهله أو إنسانًا من أهله فغفل ذلك الذي وكله بذلك حتى دخلت امرأته في الحيضة الثالثة ، وقرَّبت ماءها لتغتسل ، فانطلق الذي وُكِّل بذلك إلى الزوج ، فأقبل الزوج وهي تريد الغُسل ، فقال : يا فلانة ، قالت : ما تشاء ؟ قال : إني قد راجعتك! قالت : والله ما لك ذلك! قال : بلى والله! قال : فارتفعا إلى أبي موسى الأشعري ، فأخذ يمينها بالله الذي لا إله إلا هو : إن كنت لقد اغتسلت حين ناداك. قالت : لا والله ، ما كنت فعلت ، ولقد قربت مائي لأغتسل. فردها على زوجها ، وقال : أنتَ أحقُّ بها ما لم تغتسل من الحيضة الثالثة.
4679 - حدثنا محمد بن يحيى قال ، حدثنا عبد الأعلى قال ، حدثنا سعيد ، عن مطر ، عن الحسن ، عن أبي موسى الأشعري بنحوه.
4680 - حدثنا عمران بن موسى قال ، حدثنا عبد الوارث قال ، حدثنا يونس ، عن الحسن قال ، قال عمر : هو أحق بها ما لم تغتسل من الحيضة الثالثة.
4681 - حدثنا محمد بن بشار قال ، حدثنا أبو الوليد قال ، حدثنا أبو هلال ، عن قتادة ، عن يونس بن جبير : أن عمر بن الخطاب طلق امرأته ، فأرادت أن تغتسل من الحيضة الثالثة ، فقال عمر بن الخطاب : امرأتي ورب الكعبة! فراجعها قال ابن بشار : فذكرت هذا الحديث لعبد الرحمن بن مهدي ، فقال : سمعتُ هذا الحديث من أبي هلال ، عن قتاده ، وأبو هلال لا يحتمل هذا. (1)
4682 - حدثنا محمد بن بشار قال ، حدثنا عبد الرحمن قال ، حدثنا سفيان ،
__________
(1) الأثر : 4681 - " أبو الوليد " : هو هشام بن عبد الملك الباهل البصري أبو الوليد الطيالسي الحافظ الحجة ، كان ثقة ثبتا حجة من عقلاء الناس توفي سنة 227 ، وولد سنة 133 " وأبو هلال " هو : محمد بن سليم أبو هلال الراسبي لبصري روى عنه عبد الرحمن بن مهدي . قال أحمد : " يحتمل في حديثه إلا أنه يخالف في قتادة وهو مضطرب الحديث " . مات سنة 167 .

(4/502)


عن منصور ، عن إبراهيم ، عن علقمة قال : كنا عند عمر بن الخطاب ، فجاءت امرأة فقالت : إن زوجي طلقني واحدة أو ثنتين ، فجاء وقد وضعت مائي ، وأغلقت بابي ، ونزعت ثيابي. فقال عمر لعبد الله : ما ترى ؟ قال : أراها امرأته ما دون أن تحل لها الصلاة. قال عمر : وأنا أرى ذلك. (1)
4683 - حدثنا ابن المثنى قال ، حدثنا محمد بن جعفر قال ، حدثنا شعبة ، عن الحكم ، عن إبراهيم ، عن الأسود : أنه قال - في رجل طلق امرأته ثم تركها حتى دخلت في الحيضة الثالثة ، فأرادت أن تغتسل ، ووضعت ماءها لتغتسل ، فراجعها - : فأجازه عمر وعبد الله بن مسعود.
4684 - حدثنا محمد بن المثنى قال ، حدثنا ابن أبي عدي ، عن شعبة ، عن الحكم ، عن إبراهيم ، عن الأسود ، بمثله إلا أنه قال : ووضعت الماء للغسل ، فراجعها ، فسأل عبد الله وعمر ، فقال : هو أحق بها ما لم تغتسل.
4685 - حدثني أبو السائب قال ، حدثنا أبو معاوية ، عن الأعمش ، عن إبراهيم ، قال : كان عمر وعبد الله يقولان : إذا طلق الرجل امرأته تطليقة يملك الرجعة ، فهو أحق بها ما لم تغتسل من حيضتها الثالثة.
4686 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال ، حدثنا هشيم قال ، أخبرنا المغيرة ، عن إبراهيم أن عمر بن الخطاب كان يقول : إذا طلق الرجل امرأته تطليقة أو تطليقتين ، فهو أحق برجعتها ، وبينهما الميراث ما لم تغتسل من الحيضة الثالثة.
4687 - حدثني يعقوب قال ، حدثنا ابن علية ، عن أيوب ، عن الحسن : أن رجلا طلق امرأته تطليقة أو تطليقتين ثم وكلَّ بها بعض أهله ، فغفل الإنسان حتى دخلت مغتسلها ، وقرَّبت غسلها. فأتاه فآذنه ، فجاء فقال : إني قد راجعتك! فقالت : كلا والله! قال : بلى والله! قالت : كلا والله! قال : بلى
__________
(1) الأثر : 4682 - هو أحد أسانيد الأثر السالف رقم : 4675 ، وكذلك الآثار التي تليه .

(4/503)


والله! قال : فتخالفا ، فارتفعا إلى الأشعريّ ، واستحلفها بالله لقد كنتِ اغتسلت وحلَّت لك الصلاة. فأبت أن تحلف ، فردَّها عليه. (1)
4688 - حدثنا مجاهد بن موسى قال ، حدثنا يزيد بن هارون قال ، حدثنا سعيد ، عن أبي معشر ، عن النخعي ، أنّ عمر استشار ابن مسعود في الذي طلق امرأته تطليقة أو ثنتين ، فحاضت الحيضة الثالثة ، فقال ابن مسعود : أراه أحق بها ما لم تغتسل ، فقال عمر : وافقت الذي في نفسي. فردّها على زوجها.
4689 - حدثنا حميد بن مسعدة قال ، حدثنا يزيد بن زريع قال ، حدثنا النعمان بن راشد ، عن الزهري ، عن سعيد بن المسيب : أن عليا كان يقول : هو أحق بها ما لم تغتسل من الحيضة الثالثة. (2)
4690 - حدثنا محمد بن بشار قال ، حدثنا أبو أحمد قال ، حدثنا سفيان ، عن عمرو بن دينار قال ، سمعت سعيد بن جبير يقول : إذا انقطع الدم فلا رجعة.
4691 - حدثنا أبو السائب قال ، حدثنا أبو معاوية ، عن الأعمش ، عن إبراهيم قال ، إذا طلق الرجل امرأته وهي طاهر اعتدت ثلاث حيض سوى الحيضة التي طهُرت منها.
4692 - حدثني محمد بن يحيى قال ، حدثنا عبد الأعلى قال ، حدثنا سعيد ، عن مطر ، عن عمرو بن شعيب ، أن عمر سأل أبا موسى عنها - وكان بلغه قضاؤه فيها - فقال أبو موسى : قضيتُ أن زوجها أحقُّ بها ما لم تغتسل.
فقال عمر : لو قضيت غير هذا لأوجعت لك رأسك.
4693 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر ، عن الزهري ، عن سعيد بن المسيب : أن علي بن أبي طالب قال - في
__________
(1) الأثر : 4687 - طريق آخر للأثر السالف رقم : 4678 .
(2) الأثر : 46890 - " النعمان بن راشد الجزري " روى عن الزهري قال أحمد : مضطرب الحديث روى أحاديث مناكير . وقال ابن معين : ضعيف مضطرب الحديث ، وقال مرة : ثقة وقال البخاري وأبو حاتم : في حديثه وهم كثير وهو في الأصل صدوق .

(4/504)


الرجل يتزوَّج المرأة فيطلقها تطليقة أو ثنتين - قال ، لزوجها الرجعة عليها ، حتى تغتسل من الحيضة الثالثة وتحلَّ لها الصلاة.
4694 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر ، عن زيد بن رفيع ، عن أبي عبيدة بن عبد الله قال ، أرسل عثمان إلى أبي يسأله عنها ، فقال أبي : وكيف يفتى منافق ؟ فقال عثمان : أعيذُك بالله أن تكون منافقًا ، ونعوذ بالله أن نسمِّيك منافقًا ، ونعيذك بالله أن يَكون مثلُ هذا كان في الإسلام ، ثم تموت ولم تبيِّنه! قال : فإني أرى أنه أحق بها حتى تغتسل من الحيضة الثالثة وتحلَّ لها الصلاة. قال : فلا أعلم عثمان إلا أخذ بذلك. (1)
4695 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر ، عن أيوب ، عن أبي قلابة قال ، وأخبرنا معمر ، عن قتادة قالا راجع رجل امرأته حين وضعت ثيابها تريدُ الاغتسال فقال : قد راجعتك. فقالت : كلا! فاغتسلت. ثم خاصمها إلى الأشعري ، فردَّها عليه.
4696 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر ، عن زيد بن رفيع ، عن معبد الجهني قال ، إذا غسلت المطلقة فرجها من الحيضة الثالثة بانت منه وحلَّت للأزواج. (2)
__________
(1) الأثر : 4694 - زيد بن رفيع الجزري ، روى عن أبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود وروى عنه معمر ، وزيد بن أبي أنيسة . كان فقيها فاضلا ورعًا . ذكره ابن حبان في الثقات . وقال أحمد : ثقة ما به بأس . قيل لأحمد : سمع من أبي عبيدة ؟ قال : نعم . وضعفه الدارقطني وقال النسائي : ليس بالقوي مترجم في الجرح والتعديل 1/2/563 ولسان الميزان . و " أبو عبيدة بن عبد الله بن مسعود في شأن المصاحف . وفي المخطوطة : " عن أبي عبيدة عن عبد الله " وهو خطأ محض .
وهذا الأث رواه البيهقي في السنن الكبرى 7 : 417 مختصرًا وفيه خطأ في ضبط لفظ " أبي " وضعت على الياء شدة ، وهو خطأ .
(2) الأثر : 4696 - " معبد الجهني " يقال : " معبد بن عبد الله بن عكيم " ويقال : " معبد بن عبد الله بن عويم " ويقال : " معبد بن خالد " وهو من التابعين روى عنه الحسن وقتادة وزيد بن رفيع ومالك بن دينار وعوف الأعرابي . كان رأسا في القدر ، قدم المدينة فأفسد بها ناسًا .
حديثه صالح ، ومذهبه رديء . وكان الحسن يقول : إياكم ومعبد فإنه ضال مضل - يعني كلامه في القدر . وقال ابن معين ثقة . وقال أبو حاتم : كان صدوقًا في الحديث . مترجم في التهذيب .

(4/505)


4697 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر ، عن قتادة ، عن حماد ، عن إبراهيم : أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال : يحلّ لزوجها الرجعةُ عليها حتى تغتسل من الحيضة الثالثة ، ويحلّ لها الصوم.
4698 - حدثنا محمد بن بشار ومحمد بن المثنى ، قالا حدثنا ابن أبي عدي ، عن سعيد ، عن قتادة ، عن سعيد بن المسيب قال ، قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه : هو أحق بها ما لم تغتسل من الحيضة الثالثة.
4699 - حدثنا محمد بن يحيى. قال : حدثنا عبد الأعلى ، عن سعيد ، عن دُرُسْت ، عن الزهري ، عن سعيد بن المسيب ، عن علي ، مثله. (1)
* * *
وقال آخرون : بل " القرء " الذي أمر الله تعالى ذكره المطلقات أن يعتددن به : الطهر.
* ذكره من قال ذلك :
4700 - حدثنا عبد الحميد بن بيان قال ، أخبرنا سفيان ، عن الزهري ، عن عمرة ، عن عائشة. قالت : الأقراء الأطهار.
4701 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، حدثني عبد الله بن عمر ، عن عبد الرحمن بن القاسم ، عن أبيه. عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنها كانت تقول : الأقراء الأطهار.
__________
(1) الأثر : 4699 - " درست " (بضم الدال والراء وسكون السين) . ترجمه البخاري في الكبير 1/2/231 قال : " درست قال ابن عيينة : سمعت سعيد بن أبي عروبة يقول : حدثنا درست عن الزهري - وكان درست قدم علينا من البصرة كيس حافظ " . وترجمه ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل 1/2/438 : " درست : روى عن الزهري روى عنه ابن أبي عروبة قدم عليهم البصرة . سمعت أبي يقول ذلك " . وهو غير " درست بن حمزة البصري " و " درست بن زياد الرقاشي البصري " . وكان في المطبوعة : " درسب " بالباء وهو خطأ وفي المخطوطة غير منقوط - وسيأتي مثل هذا الإسناد برقم : 4725 .

(4/506)


4702 - حدثنا الحسن قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر ، عن الزهري ، عن عمرة وعروة ، عن عائشة قالت : إذا دحلت المطلقة في الحيضة الثالثة فقد بانت من زوجها وحلت للأزواج قال الزهري : قالت عمرة : كانت عائشة تقول : القرء : الطُّهر ، وليس بالحيضة.
4703 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر ، عن الزهري ، عن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام ، مثل قول زيد وعائشة.
4704 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر ، عن أيوب عن نافع ، عن ابن عمر ، مثل قول زيد.
4705 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر ، عن الزهري ، عن سعيد بن المسيب وسليمان بن يسار أن زيد بن ثابت قال : إذا دخلت المطلَّقة في الحيضة الثالثة فقد بانت من زوجها وحلَّت للأزواج قال معمر : وكان الزهري يفتي بقول زيد.
4706 - حدثنا محمد بن بشار قال ، حدثنا عبد الوهاب قال ، سمعت يحيى بن سعيد يقول : بلغني أن عائشة قالت : إنما الأقراء : الأطهار.
4707 - حدثنا حميد بن مسعدة قال ، حدثنا يزيد بن زريع قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة ، عن سعيد بن المسيب ، عن زيد بن ثابت قال ، إذا دخلت في الحيضة الثالثة فلا رجعة له عليها.
4708 - حدثنا محمد بن بشار قال ، حدثنا ابن أبي عدي وعبد الأعلى ، عن سعيد ، عن قتادة ، عن ابن المسيب : في رجل طلق امرأته واحدة أو ثنتين قال - قال زيد بن ثابت : إذا دخلت في الحيضة الثالثة فلا رجعة له عليها وزاد ابن أبي عدي قال : قال علي بن أبي طالب : هو أحق بها ما لم تغتسل.
4709 - حدثنا محمد بن المثنى قال ، حدثنا ابن أبي عدي ، عن سعيد ،

(4/507)


عن قتادة ، عن ابن المسيب ، عن زيد وعلي ، بمثله.
4710 - حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا عبد الرحمن قال ، حدثنا سفيان ، عن أبي الزناد ، عن سليمان بن يسار عن زيد بن ثابت قال ، إذا دخلت في الحيضة الثالثة فلا ميراثَ لها.
4711 - حدثني يعقوب قال ، حدثنا ابن علية وحدثنا محمد بن بشار قال ، حدثنا عبد الوهاب قالا جميعً ، حدثنا أيوب ، عن نافع ، عن سليمان بن يسار : أن الأحوص - رجل من أشراف أهل الشام - طلق امرأته تطليقة أو ثنتين ، فمات وهي في الحيضة الثالثة ، فرُفعت إلى معاوية ، فلم يوجد عنده فيها علم. فسأل عنها فضالة بن عبيد ومَنْ هناك من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلم يوجد عندهم فيها علم ، فبعث معاوية راكبًا إلى زيد بن ثابت ، فقال : لا ترثه ، ولو ماتت لم يرثها. فكان ابن عمر يرى ذلك. (1)
4712 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر ، عن أيوب ، عن سليمان بن يسار أن رجلا يقال له الأحوص من أهل الشام طلق امرأته تطليقة ، فمات وقد دخلت في الحيضة الثالثة ، فرفع إلى معاوية ، فلم يدر ما يقول ، فكتب فيها إلى زيد بن ثابت ، فكتب إليه زيد : " إذا دخلت المطلقة في الحيضة الثالثة فلا ميراث بينهما " .
4713 - حدثنا محمد بن يحيى قال ، حدثنا عبد الأعلى قال ، حدثنا سعيد ،
__________
(1) الأثر : 4711 - 4713 - رواه الشافعي في الأم 5 : 192 من طريق مالك عن نافع وزيد بن أسلم عن سليمان بن يسار " وأخرجه البيهقي في السنن الكبرى 7 : 415 من طريق آخر مختصرًا . و " الأحوص " هو : الأحوص بن حكيم بن عمير (وهو عمرو) بن الأسود العنسي الهمداني . رأى أنسًا عبد الله بن بسر " وروى أبيه وطاووس وغيرهما وقال البخاري : " سمع أنسا " وروى عنه سفيان وروى عنه سفيان بن عيينة وهو صدوق حديثه ليس بالقوي " . وكان الأحوص رجلا عابدًا مجتهدًا ، وولى عمل حمص . قال عبد الرحمن بن الحكم : " كان صاحب شرطة ومن بعض المسودة " وقال ابن حميد : " قدم الأحوص الري مع المهدي وكان قدومه سنة 168 " . مترجم في التهذيب وتاريخ ابن عساكر 2 : 332 - 333 .

(4/508)


عن أيوب ، عن نافع ، عن سليمان بن يسار ، أن رجلا يقال له الأحوص ، فذكر نحوه عن معاوية وزيد.
4714 - حدثنا محمد بن يحيى قال ، حدثنا عبد الأعلى قال ، حدثنا سعيد ، عن أيوب ، عن نافع قال ، قال ابن عمر : إذا دخلت في الحيضة الثالثة فلا رجعة له عليها.
4715 - حدثنا ابن المثنى قال ، حدثنا عبد الوهاب قال ، حدثنا عبيد الله ، عن نافع ، عن ابن عمر أنه قال في المطلقة : إذا دخلت في الحيضة الثالثة فقد بانت.
4716 - حدثنا يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، حدثني عمر بن محمد ، أن نافعًا أخبره ، عن عبد الله بن عمر وزيد بن ثابت أنهما كانا يقولان : إذا دخلت المرأة في الدم من الحيضة الثالثة ، فإنها لا ترثه ولا يرثها ، وقد برئت منه وبرئ منها. (1)
4717 - حدثنا محمد بن بشار قال ، حدثنا عبد الوهاب قال ، حدثنا يحيى بن سعيد قال ، بلغني ، عن زيد بن ثابت قال : إذا طلقت المرأة ، فدخلت في الحيضة الثالثة أنه ليس بينهما ميراث ولا رجعة.
4718 - حدثنا محمد بن بشار قال ، حدثنا عبد الوهاب قال ، سمعت يحيى بن سعيد ، يقول : سمعت سالم بن عبد الله يقول مثل قول زيد بن ثابت.
4719 - حدثنا محمد بن بشار قال ، حدثنا عبد الوهاب قال ، وسمعت يحيى يقول : بلغني عن أبان بن عثمان أنه كان يقول ذلك.
__________
(1) الأثر : 4716 - عمر بن محمد بن زيد بن عبد الله بن عمر بن الخطاب روى عن أبيه وجده وعم أبيه سالم ، وعن نافع مولى ابن عمر وغيرهم . وكان في المخطوطة مضطرب الاسم ولكنه يقرأ كما هو في المطبوعة وهو الصواب . وفي المخطوطة أيضًا " وقد ترث منه ويرث منها " والصواب في المطبوعة والسنن الكبرى للبيهقي .

(4/509)


4720 - حدثنا محمد بن المثنى قال ، حدثنا عبد الوهاب قال ، حدثنا عبيد الله ، عن زيد بن ثابت ، مثل ذلك. (1)
4721 - حدثنا محمد بن المثنى قال ، حدثنا وهب بن جرير قال ، حدثنا شعبة ، عن عبد ربه بن سعيد ، عن نافع : أن معاوية بعث إلى زيد بن ثابت ، فكتب إليه زيد : " إذا دخلت في الحيضة الثالثة فقد بانت " ، وكان ابن عمر يقوله.
4722 - حدثنا يعقوب بن إبراهيم قال ، حدثنا هشيم قال ، أخبرنا يحيى بن سعيد ، عن سليمان وزيد بن ثابت أنهما قالا إذا حاضت الحيضة الثالثة فلا رجعة ، ولا ميراث.
4723 - حدثنا مجاهد بن موسى قال ، حدثنا يزيد قال ، أخبرنا هشام بن حسان ، عن قيس بن سعد ، عن بكير بن عبد الله بن الأشج ، عن زيد بن ثابت قال ، إذا طلق الرجل امرأته ، فرأت الدم في الحيضة الثالثة ، فقد انقضت عدتها.
4724 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا جرير ، عن مغيرة عن موسى بن شداد ، عن عمر بن ثابت الأنصاري قال ، كان زيد بن ثابت يقول : إذا حاضت المطلقة الثالثة قبل أن يراجعها زوجها فلا يملك رَجعتها. (2)
4725 - حدثنا محمد بن يحيى قال ، حدثنا عبد الأعلى ، عن سعيد ، عن دُرُسْت ، عن الزهري ، عن سعيد بن المسيب ، أن عائشة وزيد بن ثابت قالا
__________
(1) الأثر : 4720 - في المطبوعة : " حدثنا محمد بن بشار قال حدثنا عبد الوهاب وأثبت ما في المخطوطة ، وهو سبق قلم من ناسخ آخر .
(2) الأثر : 4724 - " موسى بن شداد " ترجمه البخاري في الكبير 41/286 وابن أبي حاتم في الجرح والتعديل 4/1/146 وقال : " روى عن عمرو بن ثابت . روى عنه مغيرة بن مقسم الضبي+ سمعت أبي يقول ذلك " . ولم يزد البخاري شيئًا . وأما " عمر بن ثابت الأنصاري " فهو مترجم في التهذيب روى عن أبي أيوب الأنصاري وبعض الصحابة . والظاهر أن ما في الطبري هو الصواب وأن ما جاء في التاريخ الكبير والجرح والتعديل " عمرو بن ثابت " فهو خطأ فلم أجد " عمرو بن ثابت " أنصاريًا ومن هذه الطبقة .

(4/510)


إذا دخلت في الحيضة الثالثة فلا رجعة له عليها. (1)
* * *
قال أبو جعفر : " والقروء " في كلام العرب : جمع " قُرْء " ، (2) وقد تجمعه العرب " أقراء " يقال في " فعل " منه : " أقرأت المراة " - إذا صارت ذات حيض وطُهر - " فهي تقرئ إقراء " . وأصل " القُرء " في كلام العرب : الوقتُ لمجيء الشيء المعتاد مجيئه لوقت معلوم ، ولإدبار الشيء المعتاد إدبارُه لوقت معلوم. ولذلك قالت العرب : " قرأت حاجةُ فلان عندي " ، بمعنى : دنا قضاؤها ، وحَان وقت قضائها (3) " واقرأ النجم " إذا جاء وقت أفوله ، " وأقرأ " إذا جاء وقت طلوعه ، كما قال الشاعر :
إذَا مَا الثُّرَيَّا وَقَدْ أقْرَأَتْ... أَحَسَّ السِّمَا كَانِ مِنْها أُفُولا (4)
وقيل : " أقرأت الريح " ، إذا هبت لوقتها ، كما قال الهذلي : (5)
شَنِئْتُ العَقْرَ عَقْرَ بَنِي شُلَيْلٍ... إِذَا هَبَّتْ لِقَارِئِهَا الرِّيَاحُ (6)
بمعنى : هبت لوقتها وحين هُبوبها. ولذلك سمى بعض العرب وقت مجيء الحيض " قُرءًا " ، إذا كان دمًا يعتاد ظهوره من فرج المرأة في وقت ، وكمونُه في آخر ، فسمي وقت مجيئه " قُرءًا " ، كما سمَّى الذين سمَّوا وقت مجيء الريح لوقتها " قُرءًا " .
__________
(1) الأثر : 4725 - سلف هذا الإسناد برقم 4699 - وترجمه " درست " وكان في المطبوعة هنا أيضًا " درسب " بالباء وهو خطأ كما أسلفنا والإسناد في المخطوطة هكذا : " . . . حدثنا عبد الأعلى عن سعيد بن المسيب أن عائشة . . . " أسقط من الإسناد ما هو ثابت في المطبوعة وهو الصواب .
(2) في المطبوعة : " والقرء في كلام العرب جمعه قروء " وأثبت ما في المخطوطة .
(3) في المطبوعة : " وجاء وقت قضائها " والذي أثبته ما في المخطوطة .
(4) لم أجد هذا البيت وهو متعلق ببيت بعده فيما أرجح فتركت شرحه حتى أعثر على تمام معناه .
(5) هو مالك بن الحارث أحد بني كاهل بن الحارث بن تميم بن سعد بن هذيل .
(6) ديوان الهذليين 3 : 83 وشيء الشيء يشنأه شناءة : كرهه . والعقر : اسم مكان و " خليل " الذي نسب إليه هو جد جرير بن عبد الله البجلي .

(4/511)


4726 - ولذلك قال صلى الله عليه وسلم لفاطمة بنت أبي حُبّيْش : دعي الصلاة أيام أقرائك. (1)
بمعنى : دعي الصلاة أيام إقبال حيضك.
وسمى آخرون من العرب وقت مجيء الطهر " قُرءًا " ، إذْ كان وقت مجيئه وقتًا لإدبار الدم دم الحيض ، وإقبال الطهر المعتاد مجيئُه لوقت معلوم. فقال في ذلك الأعشى ميمون بن قيس :
وَفيِ كُلِّ عَامٍ أَنْتَ جَاشِمُ غَزْوَةٍ... تَشُدُّ لأقْصَاهَا عَزِيمَ عَزَائِكَا (2) مُوَرِّثَةٍ مَالا وَفِي الذِّكْرِ رِفْعةً... لِمَا ضَاعَ فِيهَا مِنْ قُرُوءٍ نِسَائِكَا (3)
فجعل " القُرء " : وقت الطهر.
* * *
قال أبو جعفر : ولما وصفنا من معنى : " القُرء " أشكل تأويل قول الله : " والمطلقات يتربَّصن بأنفسهن ثلاثة قروء " على أهل التأويل.
__________
(1) الأثر : 4726 - ساقه بغير إسناد وحديث فاطمة بنت أبي حبيش : ثابت من طرق قال ابن كثير في تفسير 1 : 534 وذكر هذا الحديث " رواه أبو دواد والنسائي من طريق المنذرين المغير ، عن عروة بن الزبير عن فاطمة بنت أبي حبيش : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لها : " دعى الصلاة أيام أقرائك " . ثم قال : " ولكن المنذر هذا مجهول ليس بمشهور وذكره ابن حبان في الثقات " وكذلك قال ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل 4/1/242 . وانظر سنن أبي داود 1 : 114 - 117 تفصيل ذلك .
وانظر البخاري (فتح الباري 1 : 348 - وما بعده من أبواب الحيض) ومسلم 4 : 16 - 21 وفاطمة بنت أبي حبيش بن المطلب بن أسد بن عبد العزى بن قصي القرشية .
(2) ديوانه : 67 ، ومجاز القرآن لأبي عبيدة 1 : 74 وغيرهما كثير . يمدح هوذة بن على الحنفي ، وقد ذكر فيها من فضائل هوذة ومآثره ما ذكر . جشم الأمر يجشمه جثما وجشامة : تكلفه على جهد ومشقة وركب أجسمه والعزيم والعزيمة والعزم : الجد وعقد القلب على أمر أنك فاعله . والعزاء : حسن الصبر عن فقد ما يفقد الإنسان . يقول لهوذة : كم من لذة طيبة صبرت النفس عنها في سبيل تشييد ملكك بالغزو المتصل عامًا بعد عام .
(3) قوله : " مورثة " صفة لقوله : " غزوة " يقول : تعزيت عن كل متاع فهجرت نساءك في وقت طهرهن فلم تقربهن ، وآثرت عليهن الغزو ، فكانت غزواتك غني في المال ، ورفعة في الذكر ، وبعدًا في الصيت .

(4/512)


فرأى بعضهم أن الذي أمِرت به المرأة المطلقة ذات الأقراء من الأقراء ، أقراء الحيض ، وذلك وقت مجيئه لعادته التي تجيء فيه - فأوجب عليها تربُّص ثلاث حيَض بنفسها عن خطبة الأزواج.
* * *
ورأى آخرون : أنّ الذي أمرت به من ذلك ، إنما هو أقراءُ الطهر - وذلك وقت مجيئه لعادته التي تجيء فيه - فأوجب عليها تربُّص ثلاث أطهار.
* * *
فإذْ كان معنى " القُرء " ما وصفنا لما بيَّنا ، وكان الله تعالى ذكره قد أمرَ المريدَ طلاقَ امرأته أن لا يطلقها إلا طاهرًا غير مُجامعة ، وحرَّم عليه طلاقها حائضًا كان اللازمُ المطلقةَ المدخولَ بها إذا كانت ذات أقراء (1) تربُّص أوقات محدودة المبلغ بنفسها عقيب طلاق زوجها إياها ، أن تنظرَ إلى ثلاثة قروء بين طهريْ كل قرءٍ منهنّ قرءٌ ، هو خلاف ما احتسبته لنفسها قروءًا تتربصهن. (2) فإذا انقضين ، فقد حلت للأزواج ، وانقضت عدّتها ، وذلك أنها إذا فعلت ذلك ، فقد دخلت في عداد من تربَّصُ من المطلقات بنفسها ثلاثةَ قروء ، بين طُهريْ كل قرءٍ منهن قرءٌ له مخالفٌ. وإذا فعلت ذلك ، كانت مؤدية ما ألزمها ربها تعالى ذكره بظاهر تنزيله.
فقد تبيَّن إذًا - إذ كان الأمر على ما وصفنا - أنّ القرءَ الثالثَ من أقرائها على ما بينا ، الطهرُ الثالث وأنّ بانقضائه ومجيء قرء الحيض الذي يتلوه ، انقضاءُ عدّتها.
* * *
__________
(1) في المخطوطة والمطبوعة : " وكان اللازم . . . " و " الواو " هنا مفسدة للمعنى لأن الطبري يريد أن يقول إن " القرء " من الألفاظ ذوات المعنى المشترك . فهو يدل على وقت مجيء الطهر وعلى وقت مجيء الحيض . ولما كان الله تعالى قد أمر الرجل أن يطلق امرأته في طهر لم يجامعها فيه ، وحرم عليه طلاقها حائضًا كان اللازم المطلقة أن تنظر إلى ثلاثة قروء . . . "
(2) في المخطوطة والمطبوعة : " وهو خلاف . . . " والصواب إسقاط " واو " العطف يعني : أن هذا القرء الذي بين الطهرين خلاف ما احتسبته لنفسها قروءًا تتربصهن . وذلك لأن لفظ " قرء " مشترك المعنى بين الحيض والطهر . وفي المخطوطة والمطبوعة : " فتربصهن " وهو تصحيف والصواب ما أثبت . وسيأتي هذا المعنى واضحا فما يلي من عبارته .

(4/513)


فإن ظن ذو غباء (1) أنَّا إذْ كنا قد نسمِّي وقت مجيء الطهر " قُرءًا " ، ووقت مجيء الحيض " قرءًا " ، أنه يلزمنا أن نجعل عدة المرأة منقضية بانقضاء الطهر الثاني ، إذ كان الطهرُ الذي طلقها فيه ، والحيضة التي بعده ، والطهر الذي يتلوها ، " أقراءً " كلها (2) فقد ظن جهلا.
وذلك أن الحكم عندنا - في كل ما أنزله الله في كتابه - على ما احتمله ظاهرُ التنزيل ، ما لم يبيّن الله تعالى ذكره لعباده ، أنّ مراده منه الخصوص ، إما بتنزيل في كتابه ، أو على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم. فإذا خصّ منه البعض ، كان الذي خصَّ من ذلك غيرَ داخل في الجملة التي أوجب الحكم بها ، وكان سائرها على عمومها ، كما قد بيَّنا في كتابنا : ( كتاب لطيف القول من البيان عن أصول الأحكام) وغيره من كتبنا.
فـ " الأقراء " التي هي أقراءُ الحيض بين طُهريْ أقراء الطهر ، غير محتسبة من أقراء المتربِّصة بنفسها بعد الطلاق ، لإجماع الجميع من أهل الإسلام : أن " الأقراء " التي أوجبَ الله عليها تربَّصُهن ، ثلاثة قروء ، بين كل قرء منهن أوقات مخالفاتُ المعنى لأقرائها التي تربَّصُهن ، وإذْ كن مستحقات عندنا اسم " أقراء " ، فإن ذلك من إجماع الجميع لم يُجِزْ لها التربّص إلا على ما وصفنا قبل.
* * *
قال أبو جعفر : وفي هذه الآية دليل واضح على خطأ قول من قال : " إن امرأة المُولي التي آلى منها ، تحل للأزواج بانقضاء الأشهر الأربعة ، إذا كانت قد حاضت ثلاث حيضٍ في الأشهر الأربعة " . لأن الله تعالى ذكره إنما أوجبَ عليها العدّة بعد عزم المُولي على طلاقها ، وإيقاع الطلاق بها بقوله : " وإن عزموا الطلاق فإن الله سميع عليم والمطلقات يتربَّصن بأنفسهن ثلاثة قروء " ، فأوجب تعالى
__________
(1) في المطبوعة : " ذو غباوة " وأثبت ما في المخطوطة .
(2) يعني : أن طهر التطليق قرء ، والحيضة قرء ، والطهر الثاني قرء ، فهي ثلاثة قروء تتربصها المطلقة .

(4/514)


ذكره على المرأة إذا صارت مطلقة - تربُّص ثَلاثة قروء فمعلوم أنها لم تكن مطلقة يوم آلى منها زوجها ، لإجماع الجميع على أنّ الإيلاء ليس بطلاق موجب على المولى منها العِدّة.
وإذ كان ذلك كذلك ، فالعدة إنما تلزمها بعد الطلاق ، والطلاق إنما يلحقها بما قد بيناه قبل.
* * *
قال أبو جعفر : وأما معنى قوله : " والمطلقات " فإنه : والمخلَّياتُ السبيل ، غير ممنوعات بأزواج ولا مخطوبات ، وقول القائل : " فلانة مطلقه " إنما هو " مفعَّلة " من قول القائل : " طلَّق الرجل زوجته فهي مطلَّقة " . وأما قولهم : " هي طالق " ، فمن قولهم : " طلَّقها زوجها فطّلُقت هي ، وهي تطلُق طلاقًا ، وهي طالق " . وقد حكي عن بعض أحياء العرب أنها تقول : " طَلَقت المرأة " . (1) وإنما قيل ذلك لها ، إذا خلاها زوجها ، كما يقال للنعجة المهملة بغير راع ولا كالئ ، إذا خرجت وحدها من أهلها للرعي مُخلاةً سبيلها : " هي طالق " ، فمثلت المرأة المخلاة سبيلها بها ، وسُميت بما سُميت به النعجة التي وصفنا أمرها. وأما قولهم : " طُلِقت المرأة " ، فمعنى غير هذا ، إنما يقال في هذا إذا نُفِست. (2) هذا من " الطَّلْق " ، والأول من " الطلاق " .
* * *
وقد بينا أن " التربُّص " إنما هو التوقف عن النكاح ، وحبسُ النفس عنه في غير هذا الموضع. (3)
* * *
__________
(1) " طلق " هنا بفتح الطاء واللام أما التي سبقت قبلها بفتح الطاء وضم اللام مثل " كرم " .
(2) نفست المرأة (بضم فكسر) ونفست (بفتح فكسر) : ولدت فهي نفساء . والطلق : طلق المخاض عند الولادة وهو الوجع والفعل منه بالبناء للمجهول بضم الطاء وكسر اللام .
(3) انظر ما سلف في معنى " التربص " من هذا الجزء 4 : 456 .

(4/515)


القول في تأويل قوله تعالى : { وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ }
اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك :
فقال بعضهم : تأويله : " ولا يحلّ " ، لهن يعني للمطلقات " أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن " ، من الحيض إذا طُلِّقن ، حرّم عليهن أن يكتمن أزواجهن الذين طلَّقوهن ، في الطلاق الذي عليهم لهنّ فيه رجعة يبتغين بذلك إبطال حقوقهم من الرجعة عليهن. (1)
* ذكر من قال ذلك :
4727 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو صالح قال ، حدثني الليث ، عن يونس ، عن ابن شهاب قال ، قال الله تعالى ذكره : " والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء " إلى قوله : " وللرجال عليهنّ درجة والله عزيز حكيم " قال : بلغنا أنّ " ما خلق في أرحامهن " الحمل ، وبلغنا أن الحيضة ، فلا يحل لهنّ أن يكتمن ذلك ، لتنقضي العدة ولا يملك الرجعة إذا كانت له
4728 - حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا يحيى بن سعيد ، عن سفيان ، عن منصور ، عن إبراهيم : " ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن " قال : الحيض
4729 - حدثنا محمد بن بشار قال ، حدثنا أبو أحمد قال ، حدثنا سفيان ، عن منصور ، عن إبراهيم : " ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن " قال : أكبرُ ذلك الحيض. (2)
__________
(1) في المخطوطة : " حقوقهن " والصواب ما في المطبوعة .
(2) الأثر : 4729 - في الدر المنثور 1 : 276 بنصه هنا ثم قال : " وفي لفظ : أكثر ما عنى به الحيض " وسيأتي كذلك برقم : 4733 ، ولكن المخطوطة تخالفهن جميعًا ففيها ، " إذا كثر ذلك الحيض " وكلها قريب في معناه بعضه من بعض .

(4/516)


4730 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا ابن إدريس قال ، سمعت مطرّفًا ، عن الحكم قال ، قال إبراهيم في قوله : " ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهنّ " قال : الحيض
4731 - حدثني يعقوب قال ، حدثنا ابن علية قال ، حدثنا خالد الحذاء ، عن عكرمة في قوله : " ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن " قال : الحيض ثم قال خالد : الدم.
* * *
وقال آخرون : هو الحيض ، غير أن الذي حرّم الله تعالى ذكره عليها كتمانَه فيما خلق في رحمها من ذلك ، هو أن تقول لزوجها المطلِّق وقد أراد رجعتها قبل الحيضة الثالثة : " قد حضتُ الحيضةَ الثالثة " كاذبةً لتبطل حقه بقيلها الباطلَ في ذلك.
* ذكر من قال ذلك :
4732 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا جرير ، عن عبيدة بن معتِّب ، عن إبراهيم في قوله : " ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن " قال : الحيض ، المرأةُ تعتد قُرْأين ، ثم يريد زوجها أن يراجعها ، فتقول : قد حضتُ الثالثة " (1)
4733 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا جرير ، عن منصور ، عن إبراهيم : " ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن " قال : أكثر ما عني به الحيض. (2)
* * *
__________
(1) الأثر : 4732 - في المخطوطة " عبده بن مغيب " غير منقوطة وفي المطبوعة : " بن مغيث " خطأ . وعبيدة بن معتب الضبي روى عن إبراهيم النخعي واالشعبي وعاصم بن بهدلة وغيرهم . روى عنه شعبة والثوري ووكيع وهشيم وعلي بن مسهر وغيرهم . وكان سيء الحفظ ضريرًا متروك الحديث . وقال ابن حبان : " اختلط بأخرة فبطل الاحتجاج به " .
(2) الأثر : 4733 - انظر التعليق على الأثر السالف رقم : 4729 .

(4/517)


وقال آخرون : بل المعنى الذي نُهِيتْ عن كتمانه زوجَها المطلِّقَ : الحبلُ والحيضُ جميعًا.
* ذكر من قال ذلك :
4734 - حدثنا حميد بن مسعدة قال ، حدثنا يزيد بن زريع قال ، حدثنا الأشعث ، عن نافع ، عن ابن عمر : " ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن " ، من الحيض والحمل ، لا يحل لها إن كانت حائضًا أن تكتُم حيضها ، ولا يحل لها إن كانت حاملا أن تكتُم حملها.
4735 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا ابن إدريس قال ، سمعت مطرِّفًا ، عن الحكم ، عن مجاهد في قوله : " ولا يحل لهنّ أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن " ، قال : الحمل والحيض قال أبو كريب : قال ابن إدريس : هذا أوَّل حديث سمعته من مطرِّف.
4736 - حدثني أبو السائب قال ، حدثنا ابن إدريس ، عن مطرف ، عن الحكم ، عن مجاهد ، مثله إلا أنه قال : الحبل.
4737 - حدثنا إسماعيل بن موسى الفزاري قال ، حدثنا أبو إسحاق الفزاري ، عن ليث ، عن مجاهد في قوله : " ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن " قال : من الحيض والولد
4738 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، أخبرني مسلم بن خالد الزنجي ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : " ولا يحلّ لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن " ، قال : من الحيض والولد
4739 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله تعالى ذكره : " ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن " قال : لا يحلّ للمطلَّقة أن تقول : " إني حائض " ،

(4/518)


وليست بحائض ولا تقول : " إني حبلى " وليست بحبلى ولا تقول : " لستُ بحبلى " ، وهي حُبلى.
4740 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد مثله.
4741 - حدثني المثنى قال ، حدثنا سويد بن نصر قال ، أخبرنا ابن المبارك ، عن الحجاج ، عن مجاهد قال ، الحيض والحبل قال ، تفسيره أن لا تقول : " إني حائض " ، وليست بحائض " ولا لست بحائض " ، وهي حائض : ولا " أني حبلى " ، وليست بحبلى ولا " لست بحبلى " ، وهي حبلى.
4742 - حدثني المثنى قال ، حدثنا سويد قال ، أخبرنا ابن المبارك ، عن الحجاج ، عن القاسم بن نافع ، عن مجاهد نحو هذا التفسير في هذه الآية. (1)
4743 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا جرير ، عن ليث ، عن مجاهد ، مثله وزاد فيه : قال : وذلك كله في بُغض المرأة زوجها وحبِّه
4744 - حدثت عن عمار قال ، حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع في قوله : " ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن " يقول : لا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن من الحيض والحبل ، لا يحلّ لها أن تقول : " إني قد حضت " ولم تحض ولا يحلّ أن تقول : " إني لم أحض " ، وقد حاضت ولا يحل لها أن تقول : " إني حبلى " وليست بحبلى ولا أن تقول : " لست بحبلى " ، وهي حبلى
4745 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد في قوله : " ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن " الآية قال ، لا يكتمن الحيض
__________
(1) الأثر : 4742 - " القاسم بن نافع بن أبي بزة " وهو القاسم بن أبي بزة " روى عن أبي الطفيل وأبي معبد ومجاهد وسعيد بن جبير روى عنه عمرو بن دينار وعبد الملك بن أبي سلمان وابن جريج ، وابن أبي ليلى وحجاج بن أرطأة . مترجم في الجرح والتعديل 3/2/122 .

(4/519)


ولا الولد ، ولا يحل لها أن تكتمه وهو لا يعلم متى تحلّ ، لئلا يرتجعها - تُضارُّة (1)
4746 - حدثني يحيى بن أبي طالب قال ، حدثنا يزيد قال ، أخبرنا جويبر ، عن الضحاك في قوله : " ولا يحل لهن أن يتكتمن ما خلق الله في أرحامهن " يعني الولد قال : الحيضُ والولدُ هو الذي ائتُمِن عليه النساء.
* * *
وقال آخرون : بل عنى بذلك الحبل.
ثم اختلف قائلو ذلك في السبب الذي من أجله نُهِيتْ عن كتمان ذلك الرجلَ ، (2) فقال بعضهم : نهيت عن ذلك لئلا تبطل حقَّ الزوج من الرجعة ، إذا أراد رجعتها قبل وضعها وحملها.
* ذكر من قال ذلك :
4747 - حدثني المثنى قال ، حدثنا سويد بن نصر قال ، أخبرنا ابن المبارك ، عن قباث بن رزين ، عن علي بن رباح أنه حدثه : أن عمر بن الخطاب قال لرجل : اتل هذه الآية فتلا. فقال : إن فلانة ممن يكتمن ما خلق الله في أرحامهنّ وكانت طُلِّقت وهي حبلى ، فكتمت حتى وضعت (3)
__________
(1) في المطبوعة : " مضارة " والصواب من المخطوطة أي : تفعل ذلك تضاره بذلك .
(2) قوله : " الرجل " منصوب بالمصدر وهو قوله : " كتمان ذلك " مفعول به .
(3) الأثر : 4747 - قباث بن رزين بن حميد بن صالح اللخمي أبو هاشم المصري روى عن عم أبيه سلمة وعلي بن رباح وعكرمة وروى عنه ابن المبارك وابن لهيعة وابن وهب . ذكره ابن حبان في الثقات . وقال أبو حاتم : لا بأس بحديثه . وقد ذكرت له قصة في التهذيب : أن ملك الروم أمره أن يناظر البطريق . فقال للبطرك . كيف أنت ؟ وكيف ولدك ؟ فقال البطارقة : ما أجهلك! تزعم أن للبطرك ولدًا وقد نزهه الله عن ذلك! قال : فقلت لهم : تنزهون البطرك عن الولد ، ولا تنزهون الله تعالى - وهو خالق الخلق أجمعين - عن الولد! قال : فنخر البطرك نخرة عظيمة وقال : أخرج هذا هذه الساعة عن بلدك لئلا يفسد عليك دينك ، فأطلقه . قال ابن حجر " وقد وقع شبيه هذه القصة للقاضي أبي بكر الباقلاني : لما توجه بالرسالة إلى ملك الروم وظهر من هذا أنه مسبوق بهذا الإلزام . والله أعلم " . وتوفي قباث سنة 156 .
و " علي بن رباح بن قصير اللخمي روى عن عمرو بن العاص وسراقة بن مالك ومعاوية بن أبي سفيان وأبي قتادة الأنصاري وأبي هريرة وغيرهم من الصحابة . وفد على معاوية وذكره ابن سعد في الطبقة الثانية من أهل مصر . وقال : كان ثقة . وغزا إفريقية وذهبت عينه يوم ذي الصواري في البحر مع ابن أبي سرح سنة 34 ولد سنة عشرة من الهجرة ومات سنة 114 .

(4/520)


4748 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثني معاوية بن صالح ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قال : إذا طلق الرجل امرأته تطليقة أو تطليقتين وهي حامل ، فهو أحق برجعتها ما لم تضع حملها ، وهو قوله : " ولا يحل لهنّ أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن إنْ كن يؤمنَّ بالله واليوم الآخر "
4749 - حدثني المثنى قال ، حدثنا سويد قال ، أخبرنا ابن المبارك ، عن يحيى بن بشر أنه سمع عكرمة يقول : الطلاق مرّتان بينهما رجعة ، فإن بدا له أن يطلِّقها بعد هاتين فهي ثالثة ، وإن طلقها ثلاثًا فقد حرمت عليه حتى تنكح زوجًا غيره. إنما اللاتي ذكرن في القرآن : " ولا يحلُّ لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهنّ إن كنّ يؤمنَّ بالله واليوم الآخر وبعولتهن أحقُّ بردهنَّ " ، هي التي طلقت واحدة أو ثنتين ، ثم كتمتْ حملها لكي تنجو من زوجها ، فأما إذا بتَّ الثلاثَ التطليقات ، فلا رجعة له عليها حتى تنكح زوجًا غيره. (1)
* * *
وقال آخرون : السبب الذي من أجله نُهين عن كتمان ذلك أنهن في الجاهلية كنّ يكتمنَه أزواجهن ، خوف مراجعتهم إياهُنّ ، حتى يتزوجن غيرهم ، فيُلحق نسب الحمل - الذي هو من الزوج المطلِّق - بمن تزوجته. فحرم الله ذلك عليهن. (2)
* ذكر من قال ذلك :
4750 - حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا سويد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : " ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن " قال : كانت المرأة إذا طُلِّقت كتمت ما في بطنها وحملها لتذهب بالولد إلى غير أبيه ، فكره الله ذلك لهنّ.
__________
(1) الأثر : 4749 - يحيى بن بشر الخراساني سلفت ترجمته في الأثر : 4549 .
(2) في المطبوعة : " فيلحق بسببه الحمل . . . " وهو خطأ فاسد صوابه من المخطوطة .

(4/521)


4751 - حدثني محمد بن يحيى قال ، حدثنا عبد الأعلى قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة : " ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن " قال : علم الله أنّ منهن كواتم يكتمن الولد. وكان أهل الجاهلية كان الرجل يطلّق امرأته وهي حامل ، (1) فتكتم الولد وتذهبُ به إلى غيره ، وتكتُم مخافة الرجعة ، فنهى الله عن ذلك ، وقدَّم فيه. (2)
4752 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر ، عن قتادة : " ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن " ، قال : كانت المرأة تكتم حملها حتى تجعله لرجل آخر منها
* * *
وقال آخرون : بل السبب الذي من أجله نُهين عن كتمان ذلك ، هو أنّ الرجل كان إذا أراد طلاق امرأته سألها هل بها حملٌ ؟ كيلا يطلقها ، وهي حامل منه (3) للضرر الذي يلحقُه وولدَه في فراقها إن فارقها ، فأمِرن بالصدق في ذلك ونُهين عن الكذب.
* ذكر من قال ذلك :
__________
(1) قوله : " وكان أهل الجاهلية كان الرجل . . " عربي فصيح جيد ، ليس بخطأ وحذف خبر كان الأولى لاستغنائه بما بعده عنه . وانظر مثله فيما سيأتي في الأثر : 4781 عن قتادة أيضًا بهذا الإسناد .
(2) الأثر : 4751 - سلف هذا الإسناد مرارا وأقر به رقم : 4676 ، 4677 ، 4679ن 4692 ، 4713 ، 4714ن 4725 وغيرها . ولا بد من بيان رجاله " محمد بن يحيى بن أبي حزم القطعي " أبو عبد الله البصري . روى عن عمه حزم بن مهران وعبد الأعلى بن عبد الأعلى وعبد الصمد بن عبد الوارث وغيرهم . روى عنه مسلم وأبو داود والترمذي والبخاري في غير الجامع . قال أبو حاتم : صالح الحديث صدوق . مات سنة 253 . و " عبد الأعلى بن عبد الأعلى بن محمد القرشي السامي البصري " يلقب أبا همام ، فكان يغضب منه روى عن داود بن أبي هند وسعيد الجريري وسعيد بن أبي عروبة وحميد الطويل وخالد الحذاء وغيرهم . وروى عنه إسحاق بن راهويه وعلي بن المديني ومحمد بن بشار بندار ونصر بن الجهضمي وغيرهم . قال ابن معين : ثقة . وكان متقنًا للحديث قدريًا غير داعية إليه . مات سنة 198 .
* وقوله : " وقدم فيه " أي أمر فيه بما أمر .
(3) في المطبوعة : " لكيلا " وأثبت ما في المخطوطة .

(4/522)


4753 - حدثني موسى قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : (1) " ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن " ، فالرجل يريد أن يطلق امرأته فيسألها : هل بك حمل ؟ فتكتمه إرادةَ أن تفارقه ، فيطلقها وقد كتمته حتى تضع. وإذا علم بذلك فإنها تردّ إليه ، عقوبةً لما كتمته ، وزوجها أحق برجعتها صاغرةً.
* * *
قال أبو جعفر : وأولى هذه الأقوال بتأويل الآية قول من قال : الذي نُهيت المرأة المطلَّقة عن كتمانه زوجها المطلِّقَها تطليقة أو تطليقتين مما خلق الله في رحمها - الحيضُ والحبَل. لأنه لا خلاف بين الجميع أنّ العِدّة تنقضي بوضع الولد الذي خلق الله في رحمها ، كما تنقضي بالدم إذا رأته بعد الطهر الثالث ، في قول من قال : " القُرء " الطهر ، وفي قول من قال : هو الحيض ، إذا انقطع من الحيضة الثالثة ، فتطهرت بالاغتسال. (2)
فإذا كان ذلك كذلك وكان الله تعالى ذكره إنما حرَّم عليهن كتمانَ المطلِّق الذي وصفنا أمره ، ما يكونُ بكتمانهن إياه بُطُول حقه الذي جعله الله له بعد الطلاق عليهن إلى انقضاء عِدَدهن ، (3) وكان ذلك الحق يبطل بوضعهن ما في بطونهن إن كن حواملَ ، وبانقضاء الأمراء الثلاثة إن كن غير حوامل (4) علم أنهن
__________
(1) الأثر : 4753 - كان في المطبوعة والمخطوطة : " حدثني موسى قال حدثنا أسباط " بإسقاط " قال حدثنا عمرو " وهو خطأ صرف . هو إسناد دائر دورانًا في التفسير أقربه رقم : 4674 .
(2) في المطبوعة : " تطهرت للاغتسال " وهو معرق في الخطأ والصواب من المخطوطة .
(3) قوله : " ما يكون بكتمانهن . . " هذه الجملة مفعول به منصوب بالمصدر " كتمان " وقوله : " بطول " مصدر " بطل الشيء يبطل بطولا وبطلانًا " وقد سلف ذلك فيما مضى 2 : 426 ثم 3 : 205 تعليق : 6 وهذا الجزء 4 : 146 .
(4) قوله : " علم " جواب قوله آنفًا : " وإذ كان ذلك كذلك . . " وما بينهما معطوف بعضه على بعض .

(4/523)


منَهيَّات عن كتمان أزواجهن المطلِّقِيهنَّ من كل واحد منهما ، (1) - أعني من الحيض والحبل - مثل الذي هنَّ مَنْهيَّاتٌ عنه من الآخر ، وأن لا معنى لخصوص مَنْ خصّ بأن المراد بالآية من ذلك أحدهما دون الآخر ، إذ كانا جميعًا مما خلق الله في أرحامهن ، وأنّ في كل واحدة منهما من معنى بُطول حق الزوج بانتهائه إلى غاية ، مثل ما في الآخر.
ويُسأل من خصّ ذلك - فجعله لأحد المعنيين دون الآخر - عن البرهان على صحة دعواه من أصْل أو حجة يجب التسليم لها ، ثم يعكس عليه القول في ذلك ، فلن يقول في أحدهما قولا إلا ألزم في الآخر مثله.
* * *
وأما الذي قاله السدي (2) من أنه معنيٌّ به نهي النساء كتمانَ أزواجهن الحبلَ عند إرادتهم طلاقهن ، فقولٌ لما يدل عليه ظاهر التنزيل مخالف ، وذلك أن الله تعالى ذكره قال : " والمطلَّقات يتربَّصن بأنفسهن ثلاثة قروء ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلقَ الله في أرحامهن " ، بمعنى : ولا يحل أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن من الثلاثة القروء ، إن كنّ يؤمنَّ بالله واليوم الآخر.
وذلك أنّ الله تعالى ذكره ذكر تحريم ذلك عليهن ، بعد وصفه إياهن بما وَصفهن به ، من فراق أزواجهن بالطلاق ، وإعلامهن ما يلزمهن من التربُّص ، معرِّفًا لهن بذلك ما يحرُم عليهن وما يحلّ ، وما يلزمُهن من العِدَّة ويجبُ عليهن فيها. فكان مما عرّفهن : أنّ من الواجب عليهن أن لا يكتمن أزواجَهن الحيض والحبَل الذي يكون بوضع هذا وانقضاء هذا إلى نهاية محدودة انقطاعُ حقوق أزواجهن ضرارًا منهنّ لهم ، فكان نهيُه عما نهاهن عنه من ذلك ، بأن يكون من صفة ما يليه
__________
(1) في المطبوعة : " أزواجهن المطلقين " تحريف لكلام أبي جعفر . والهاء والنون مفعول اسم فاعل : " المطلق " وهذا جار في كلام أبي جعفر مرارًا كثيرة ، وجار أيضًا من الطابعين تحريف ذلك إلى ما ألفوا من سقم العبارة . وقد مضى منذ أسطر قليلة قوله : " زوجها المطلقها " .
(2) هو الأثر السالف رقم : 4753 .

(4/524)


قبله ويتلوه بعده ، أولى من أن يكون من صفة ما لم يَجْرِ له ذِكر قبله.
* * *
قال أبو جعفر : فإن قال قائل : ما معنى قوله : " إن كن يؤمنَّ بالله واليوم الآخر " ؟ أوَ يحل لهن كتمان ذلك أزواجهنً إنْ كن لا يؤمنَّ بالله ولا باليوم الآخر حتى خصّ النهيُ عن ذلك المؤمنات بالله واليوم الآخر ؟
قيل : معنى ذلك على غير ما ذهبت إليه ، وإنما معناه : أن كتمان المراة المطلَّقة زوجَها المطلَّقَها ما خلق الله تعالى في رحمها من حيض وولد في أيام عدتها من طلاقه ضرارًا له ، (1) ليس من فعل من يؤمن بالله واليوم الآخر ولا من أخلاقه ، وإنما ذلك من فعل من لا يؤمن بالله ولا باليوم الآخر وأخلاقِهنَّ من النساء الكوافر فلا تتخلَّقن أيتها المؤمنات بأخلاقهنّ ، فإنّ ذلك لا يحل لكنّ إن كنتن تؤمنّ بالله واليوم الآخر وكنتن من المسلمات (2) لا أنّ المؤمنات هن المخصوصات بتحريم ذلك عليهن دون الكوافر ، بل الواجب على كل من لزمته فرائضُ الله من النساء اللواتي لهن أقراء - إذا طلِّقت بعد الدخول بها في عدتها - أن لا تكتم زوجها ما خلق الله في رحمها من الحيض والحبَل.
* * *
__________
(1) قوله : " زوجها المطلقها " زوجها منصوب مفعول به للمصدر " كتمان " وقوله : المطلقها منصوب صفة لقوله : " زوجها " و " الهاء والألف " مفعول به ، كما سلف في التعليقة الآنفة .
(2) قوله : " لا أن المؤمنات . . . " من سياق الجملة الأولى : " . . . وإنما معناه أن كتمان المرأة المطلقة . . . لا ان المؤمنات " .

(4/525)


القول في تأويل قوله تعالى : { وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلاحًا } "
قال أبو جعفر : " والبعولة " جمع " بعل " ، وهو الزوج للمرأة ، ومنه قول جرير :
أَعِدُّوا مَعَ الحَلْيِ المَلابَ فَإنَّمَا... جَرِيرٌ لَكُمْ بَعْلٌ وَأَنْتُمْ حَلائِلُهْ (1)
وقد يجمع " البعل " " البعولة ، والبعول " ، كما يجمع " الفحل " " والفحول والفحولة " ، و " الذكر " " الذكور والذكورة " . وكذلك ما كان على مثال " فعول " من الجمع ، فإن العرب كثيرًا ما تدخل فيه " الهاء " ، فإما ما كان منها على مثال " فِعال " ، فقليل في كلامهم دخول " الهاء " فيه ، وقد حكى عنهم. " العِظامُ والعِظامة " ، (2) ومنه قول الزاجر : (3)
* ثُمَّ دَفَنْتَ الْفَرْثَ وَالعِظَامهْ * (4)
__________
(1) ديوانه : 482 والنقائض : 650 وطبقات فحول الشعراء : 347 . من نقيضة عجيبة كان من أمرها أن الحجاج قال لهما : ائتياني في لباس آبائكما في الجاهلية . فجاء الفرزدق قد لبس الخز والديباج وقعد في قبة . وشاور جرير دهاة قومه بني يربوع فقالوا : ما لباس آبائنا إلا الحديد! فلبس جرير درعًا وتقلد سيفًا ، وأخذ رمحًا وركب فرسًا وأقبل في أربعين فارسًا من قومه . فلما رأى الفرزدق قال : لَبِسْتُ سِلاَحِي والفَرَزْدَقُ لُعْبِةً ... عَلَيْهِ وِشَاحًا كُرَّجٍ وَجَلاَجِلُهْ
أَعِدُّوا مَعَ الحَلْيِ . . . ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
والكرج : الخيال الذي يلعب به المخنثون كأنه " خيال الظل " فيما أظن . والجلاجل : الأجراس ويروى : " أعدوا مع الخز " وهو الحرير . والملاب : طيب من الزعفران تتخلق به العروس في زينتها لجلوها . والحلائل جمع حليلة . وهي الزوجة . ولشد ما سخر جرير من ابن عمه!!
(2) انظر سيبويه 2 : 177 .
(3) لم أعرف قائله .
(4) الجمهرة 3 : 121 واللسان (عظم) و (هذم) والرجز يخالف رواية الطبري وهو : وَيْلٌ لِبُعْرَانِ أبِي نَعَامَةْ ... مِنْكَ وَمِنْ شَفْرَتكَ الهُذَامَةْ
إِذَا ابْتَرَكْتَ فَحَفَرْتَ قَامَهْ ... ثُمَّ نَثَرْتَ الفَرْثَ وَالعِظَامَهْ
ورواية البيت الأول في اللسان (هذم) : " بني نعامه " وفي الجمهرة " بني ثمامه " . ورواية البيت الأخير في الجمهرة : " ثم أكلت اللحم والعظامة " . قوله : " الهذامة " . تهذم اللحم : أي تسرع في قطعه . وابترك : جثا وألقى بركه على الأرض . وأظنه يصف أسدًا أو ذئبًا .

(4/526)


وقد قيل : " الحجارة والحِجار " و " المِهارة والمِهار " و " الذِكّارة والذِكّار " ، للذكور.
* * *
وأما تأويل الكلام ، فإنه : وأزواج المطلقات اللاتي فرضنا عليهن أن يتربَّصن بأنفسهن ثلاثه قروء ، وحرَّمنا عليهنَّ أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن أحق وأولى بردهن إلى أنفسهم (1) في حال تربصهن إلى الأقراء الثلاثة ، وأيام الحيل ، وارتجاعهن إلى حبالهم (2) منهم بأنفسهن أن يمنعهن من أنفسهن ذلك (3) كما : -
4754 - حدثي المثنى قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثني معاوية ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قوله : " وبعولتهن أحق بردهن في ذلك إن أرادوا إصلاحًا " ، يقول : إذ طلق الرجل امرأته تطليقة أو ثنتين ، وهي حامل فهو أحق برجعتها ما لم تضع.
4755 - حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا يحيى بن سعيد ، عن سفيان ، عن منصور ، عن إبراهيم : " وبعولتهن أحق بردهن " قال : في العدة
4756 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا يحيى بن واضح قال ، حدثنا الحسين بن واقد ، عن يزيد النحوي ، عن عكرمة والحسن البصري ، قالا قال الله تعالى
__________
(1) في المخطوطة : " إلى أنفسهن " وهو خطأ في المعنى .
(2) في المخطوطة : " إلى حبالهن " وهو خطأ أيضًا في المعنى . والحبال جمع حبل : وهو المواصلة وهو العهد أيضًا . يعني بذلك إمساكهن : وهو من الحبل الذي هو الرباط .
(3) في المخطوطة والمطبوعة : " أن يمنعهن " وهو خطأ ثالث في المعنى . والصواب ما أثبت وقوله : " منهن بأنفسهن . . " سياقه : " أحق وأولى بردهن . . . منهن بأنفسهن . . . " .

(4/527)


ذكره : " والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن إن كنّ يؤمنَّ بالله واليوم الآخر وبعولتهن أحق بردهنّ في ذلك إن أرادوا إصلاحًا " ، وذلك أنّ الرجل كان إذا طلَّق امرأته كان أحقَّ برجعتها وإن طلاقها ثلاثًا ، فنسخ ذلك فقال : ( الطَّلاقُ مَرَّتَانِ ) الآية.
4757 - حدثنا محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : " وبعولتهن أحق بردهن في ذلك " في عدتهن. (1)
4758 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله.
4759 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن ليث ، عن مجاهد قال ، في العدة
4760 - حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : " وبعولتهنّ أحق بردهن في ذلك " ، أي في القروء في الثلاث حيض ، (2) أو ثلاثة أشهر ، أو كانت حاملا فإذا طلَّقها زوجها واحدة أو اثنتين رَاجعها إن شاء ما كانت في عدتها
4761 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : " وبعولتهن أحق بردهنّ في ذلك " قال : كانت المرأة تكتم حملها حتى تجعله لرجل آخر ، (3) فنهاهنّ الله عن ذلك وقال : " وبعولتهنّ أحق بردهن في ذلك " ، قال قتادة : أحق برجعتهن في العدة.
__________
(1) الأثر : 4757 - في المخطوطة والمطبوعة : " حدثنا موسى بن عمرو " وهو خطأ صرف والصواب " محمد بن عمرو " . وهو إسناد يدور دورانًا في التفسير أقربه رقم : 4739 .
(2) في المطبوعة : " في القروء الثلاث حيض " بحذف " في " الثانية .
(3) يعني في الجاهلية كما مضى في الآثار السالفة قبل .

(4/528)


4762 - حدثت عن عمار قال ، حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع قوله : " وبعولتهن أحقُّ بردهن في ذلك " ، يقول : في العدة ما لم يطلقها ثلاثًا.
4763 - حدثني موسى قال ، حدثني عمرو قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : " وبعولتهن أحق بردهن في ذلك " ، يقول : أحق برجعتها صاغرة عقوبة لما كتمت زوجها من الحمل (1)
4764 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد في قوله : " وبعولتهن أحق بردهن " ، أحقّ برجعتهنّ ، ما لم تنقض العِدّة.
4765 - حدثني يحيى بن أبي طالب قال ، حدثنا يزيد قال ، أخبرنا جويبر ، عن الضحاك : " وبعولتهنّ أحق بردهنّ في ذلك " ، قال : ما كانت في العدة إذا أراد المراجعة
* * *
قال أبو جعفر : فإن قال لنا قائل : (2) فما لزوج - طلق واحدة أو اثنتين بعد الإفضاء إليها - عليها رجعة في أقرائها الثلاثة ، إلا أن يكون مريدًا بالرجعة إصلاح أمرها وأمره ؟
قيل : أما فيما بينه وبين الله تعالى فغير جائز إذا أراد ضرارها بالرجعة ، لا إصلاح أمرها وأمره مراجعتُها. (3)
وأما في الحكم فإنه مقضيٌّ له عليها بالرجعة ، نظيرُ ما حكمنا عليه ببطول رَجعته عليها لو كتمته حملها الذي خلقه الله في رحمها أو حيضها حتى انقضت عدتها ضرارًا منها له ، وقد نهى الله عن كتمانه ذلك ، (4) فكان سواءً في الحكم في بطول
__________
(1) الأثر : 4763 - انظر الأثر السالف رقم 4753 .
(2) في المخطوطة : " فما لزوج واحدة " سقط من الناسخ " طلق " بين الكلمتين .
(3) في المطبوعة : " بمراجعتها " وهو فاسد فسادا عظيما . والسياق : " . . . فغير جائز . . . مراجعتها " وما بينهما فصل ، كعادة أبي جعفر .
(4) قوله : " كتمانه " الضمير راجع إلى الزوج أي : نهى الله ان تكتم المرأة زوجها ذلك .

(4/529)


رَجعة زوجها عليها ، وقد أثمت في كتمانها إياه ما كتمته من ذلك حتى انقضت عدتها (1) هي والتي أطاعت الله بتركها كتمانَ ذلك منه ، وإن اختلفا في طاعة الله في ذلك ومعصيته ، فكذلك المراجع زوجتَه المطلقة واحدة أو ثنتين بعد الإفضاء إليها وهما حُرَّان (2) وإن أراد ضرار المُراجعة برجعته - فمحكوم له بالرجعة ، وإن كان آثمًا بريائه في فعله ، (3) ومقدِمًا على ما لم يُبحه الله له ، والله وليّ مجازاته فيما أتى من ذلك. فأما العباد فإنهم غيرُ جائز لهم الحوْلُ بينه وبين امرأته التي راجعها بحكم الله تعالى ذكره له بأنها حينئذ زوجتُه ، فإن حاول ضرارها بعد المراجعة بغير الحقّ الذي جعله الله له ، أخِذ لها الحقوق التي ألزم الله تعالى ذكره الأزواج للزوجات (4) حتى يعود ضررُ ما أراد من ذلك عليه دونها.
* * *
قال أبو جعفر : وفي قوله : " وبعولتهن أحق بردهن في ذلك " ، أبين الدلالة على صحة قول من قال : إنّ المولي إذا عزم الطلاق فطلق امرأته التي آلى منها ، أنّ له عليها الرّجعة في طلاقه ذلك (5) وعلى فساد قول من قال : إن مضي الأشهر الأربعة عزُم الطلاق ، وأنه تطليقه بائنة ، لأن الله تعالى ذكره إنما أعلم عباده ما يلزمُهم إذا آلوا من نسائهم ، وما يلزم النساء من الأحكام في هذه الآية بإيلاء الرجال وطلاقهم ، إذا عزموا ذلك وتركوا الفيء.
* * *
__________
(1) سياق عبارته : " فكان سواء في الحكم . . . هي والتي أطاعت الله . . " وما بينهما فصل للبيان .
(2) قوله : " وهما حران " لأن طلاق العبد ثنتين ثم تحرم عليه ، ليس كالحر ثلاثًا .
(3) في المخطوطة " آثما بربه " غير منقوطة كأنها " بربه " ولكن لم أجد في كتب اللغة " أثم بربه " وإن كنت أخشى أن تكون صوابًا له وجه لم أتحققه . وفي المطبوعة " برأيه " كأنهم استنكروا ما استنكرناه ، فظنوا فيه تصحيفًا أو تحريفًا فقرأوه كذلك . ولكن أجود قراءاته أن تكون ما أثبت لأن فعل المراجع وهو يضمر الضرار رياء لا شك فيه .
(4) في المطبوعة : " أخذ لها الحقوق " والصواب من المخطوطة وقوله : " أخذ " مبني للمجهول ومعناها : طولب وأمسك حتى يعطيها حقوقها .
(5) السياق : " وفي قوله . . . أبين الدلالة على صحة قول من قال . . وعلى فساد قول من قال . . "

(4/530)


القول في تأويل قوله تعالى : { وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ }
قال أبو جعفر : اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك.
فقال بعضهم : تأويله : ولهنّ من حسن الصحبة والعشرة بالمعروف على أزواجهن مثل الذي عليهنّ لهم من الطاعة فيما أوجب الله تعالى ذكره له عليها.
* ذكر من قال ذلك :
4766 - حدثنا المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا أبو عاصم ، عن جويبر ، عن الضحاك في قوله : " ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف " ، قال : إذا أطعن الله وأطعن أزواجهن ، فعليه أن يُحسن صحبتها ، ويكف عنها أذاه ، ويُنفق عليها من سَعَته.
4767 - حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد في قوله : " ولهنّ مثل الذي عليهن بالمعروف " ، قال : يتقون الله فيهن ، كما عليهن أن يتقين الله فيهم.
* * *
وقال آخرون : معنى ذلك : ولهنّ على أزواجهن من التَّصنُّع والمواتاة ، مثل الذي عليهن لهم في ذلك. (1)
* ذكر من قال ذلك :
__________
(1) التصنع : التزين . تصنعت المرأة وصنعت نفسها : إذا تزينت زينتها بالتجمل والعلاج . ومن جيد ما جاء في معنى " صنع نفسه " ما أنشده عمر بن عبد العزيز : إنِّي لأَمْنَحُ مَنْ يُوَاصِلُنيِ ... مِنِّي صَفَاءً لَيْسَ بالمَذْقِ
وَإذَا أَخٌ لي حَالَ عَنْ خُلُقٍ ... دَاوَيْتُ مِنْهُ ذَاكَ بالرِّفْقِ
وَالمَرْءُ يَصْنَعُ نَفْسَهُ وَمَتَى ... مَا تَبْلُهُ يَنزِعْ إلى العِرْقَ
أما " المؤاتاة " فهي : حسن المطاوعة يقال : " آتيته على ذلك الأمر مؤاتاة " إذا وافقته وطاوعته والعامة تقول : " واتيته " مواتاه وهل لغة ما ، جعلوها واوًا على تخفيف الهمزة .

(4/531)


4768 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن بشير بن سلمان ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : إني أحبُّ أن أتزين للمرأة ، كما أحب أن تتزين لي; لأن الله تعالى ذكره يقول : " ولهن مثلُ الذي عليهن بالمعروف " (1)
* * *
قال أبو جعفر : والذي هو أولى بتأويل الآية عندي : وللمطلقات واحدة أو ثنتين - بعد الإفضاء إليهن - على بعولتهن أن لا يراجعوهنّ في أقرائهن الثلاثة (2) إذا أرادوا رجْعتهن فيهن ، إلا أن يريدوا إصلاح أمرهن وأمرهم ، وأن لا يراجعوهن ضرارًا (3) كما عليهن لهم إذا أرادوا رجعتهنّ فيهنّ ، أن لا يكتمنَ ما خلق
__________
(1) الأثر : 4768 - بشير بن سلمان الكندي أبو إسماعيل الكوفي روى عن مجاهد وعكرمة وأبي حازم الأشجعي وسيار أبي الحكم والقاسم بن صفوان سمع منه وكيع وأبو نعيم وابنه الحكم والسفيانان وابن المبارك وغيرهم . وهو ثقة صالح الحديث قليله . مترجم في التهذيب والكبير 2/199 ، والجرح والتعديل 1/1374 . وكان في المطبوعة : " بشر بن سلمان " وهو خطأ .
(2) في المطبوعة : " أن لا يراجعوهن ضرارا " زاد " ضرارا " هنا وهي مفسدة للكلام وليست في المخطوطة .
(3) في المطبوعة : " فلا يراجعوهن ضرارا " وهو تبديل ألجأهم إليه الفساد السابق في الجملة السالفة . والصواب من المخطوطة .

(4/532)


الله في أرحامهنّ من الولد ودم الحيض ضرارًا منهن لهم لِيَفُتْنهم بأنفسهنّ ، (1)
ذلك أن الله تعالى ذكره نهى المطلقات عن كتمان أزواجهنّ في أقرائهنَّ ما خلق الله في أرحامهنّ ، إن كن يؤمنَّ بالله واليوم الآخر ، وجعل أزواجهن أحق بردّهن في ذلك إن أرادوا إصلاحًا ، فحرَّم الله على كل واحد منهما مضارَّة صاحبه ، وعرّف كلّ واحد منهما ما له وما عليه من ذلك ، ثم عقب ذلك بقوله : " ولهن مثلُ الذي عليهن بالمعروف " فبيِّنٌ أن الذي على كل واحد منهما لصاحبه من ترك مضارته ، مثل الذي له على صاحبه من ذلك.
فهذا التأويل هو أشبه بدلالة ظاهر التنزيل من غيره.
وقد يحتمل أن يكون كل ما على كل واحد منهما لصاحبه داخلا في ذلك ، وإن كانت الآية نزلت فيما وصفنا ، لأن الله تعالى ذكره قد جعل لكل واحد منهما على الآخر حقًا ، فلكل واحد منهما على الآخر من أداء حقه إليه مثل الذي عليه له ، فيدخل حينئذ في الآية ما قاله الضحاك وابن عباس وغير ذلك.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ }
قال أبو جعفر : اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك.
فقال بعضهم : معنى " الدرجة " التي جعل الله للرجال على النساء ، الفضلُ الذي فضّلهم الله عليهن في الميراث والجهاد وما أشبه ذلك.
* ذكر من قال ذلك :
4769 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : " وللرجال عليهن درجة " قال : فَضْل ما فضله الله به عليها من الجهاد ، وفَضْل ميراثه ، على ميراثه ، وكل ما فضِّل به عليها.
__________
(1) في المطبوعة : " لتيقنهن " وهو خطأ موغل في الفساد واللغو . وفي المخطوطة : " لتنفهم " مختلطة الأحرف والتقط ، كأن الناسخ لما أراد أن يكتب " ليسبقهم " ثم استدرك وخط على السين ليجعلها " ليفتنهم " والصواب ما أثبت . وقد جاء هذا اللفظ في حديث فاطمة بنت قيس أخت الضحاك بن قيس وكانت عند أبي عمرو بن حفص بن المغيرة فطلقها تطليقتين ثم بعث إليها من اليمين بالتطليقة الثالثة ، فجاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تستفتيه فقال لها : " ليست له فيك ردة وعليك العدة " وأمرها أن تنتقل إلى ابن أم مكتوم ثم قال لها : " فإذا حللت فلا تفوتيني بنفسك " قالت : فوالله ما أظن رسول الله صلى الله عليه وسلم حينئذ يريدني إلا لنفسه ، فلما حللت خطبني على أسامة بن زيد فزوجنيه " (مسند أحمد 6 : 414) .
ومعنى : " فاته بنفسه " سبقه إلى حيث لا يبلغه ولم يقدر عليه وفات يده ، ولو كانت " ليسبقنهم بأنفسهن " لكانت صوابًا وهي مثلها في المعنى .

(4/533)


4770 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله.
4771 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر : عن قتادة : " وللرجال عليهن درجة " ، قال : للرجال درجةٌ في الفضل على النساء
* * *
وقال آخرون : بل تلك الدرجة : الإمْرة والطاعة.
* ذكر من قال ذلك :
4772 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا ابن يمان ، عن سفيان ، عن زيد بن أسلم في قوله : " وللرجال عليهن درجة " ، قال : إمارةٌ.
4773 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد في قوله : " وللرجال عليهن درجة " ، قال : طاعةٌ. قال : يطعن الأزواجَ الرجال ، وليس الرجال يطيعونهن
4774 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال ، حدثنا أزهر ، عن ابن عون ، عن محمد في قوله : " وللرجال عليهن درجة " ، قال : لا أعلم إلا أن لهن مثل الذي عليهن ، إذا عرفن تلك الدرجة (1)
* * *
وقال آخرون : تلك الدرجة له عليها بما ساق إليها من الصداق ، وإنها إذا قذفته حُدَّت ، وإذا قذفها لاعنَ.
* ذكر من قال ذلك :
4775 - حدثنا محمد بن حميد قال ، حدثنا جرير ، عن عبيدة ، عن الشعبي في قوله : " وللرجال عليهن درجة " ، قال : بما أعطاها من صَداقها ، وأنه إذا قذفها
__________
(1) الأثر : 4774 - " أزهر " هو أزهر بن سعد السمان أبو بكر الباهلي البصري روى عن سليمان التيمي وابن عون وهشام الدستوائي وروى عنه ابن المبارك وهو أكبر منه ، وعلي بن المديني وعمرو بن علي الفلاس وبندار . قال ابن سعد : ثقة . ومات سنة 203 .

(4/534)


لاعَنها ، وإذا قذفته جُلدت وأُقِرَّتْ عنده.
* * *
وقال آخرون : تلك الدرجة التي له عليها ، إفضاله عليها ، وأداء حقها إليها ، وصفحه عن الواجب لهُ عليها أو عن بعضه.
* ذكر من قال ذلك :
4776 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن بشير بن سلمان ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، قال : ما أحب أن استنظف جميع حقي عليها ، لأن الله تعالى ذكره يقول : " وللرجال عليهن درجة " (1)
* * *
وقال آخرون : بل تلك الدرجة التي له عليها أن جعل له لحية وحرمها ذلك.
* ذكر من قال ذلك :
4777 - حدثني موسى بن عبد الرحمن المسروقي قال ، حدثنا عبيد بن الصباح قال ، حدثنا حميد قال ، " وللرجال عليهن درجة " قال : لحية. (2)
* * *
قال أبو جعفر : وأولى هذه الأقوال بتأويل الآية ما قاله ابن عباس ، وهو أن " الدرجة " التي ذكر الله تعالى ذكره في هذا الموضع ، الصفحُ من الرجل لامرأته عن بعض الواجب عليها ، وإغضاؤه لها عنه ، وأداء كل الواجب لها عليه.
وذلك أن الله تعالى ذكره قال : " وللرجال عليهن درجة " عَقيب قوله : " ولهن
__________
(1) الأثر : 4776 - في المطبوعة " بشر بن سلمان " والصواب " بشير " كما سلف في التعليق على الأثر رقم : 4768 آنفًا .
استنظف الشيء : إذا استوفاه واستوعبه وأخذه كله . وفي الحديث : " وتكون فتنة تستنظف العرب " أي تستوعبهم هلاكًا . اللهم قنا عذابك ونجنا من كل فتنة مهلكة .
(2) الأثر : 4777 - " عبيد بن الصباح الخراز " روى عن عيسى بن طهمان وموسى بن علي بن رباح وفضيل بن مرزوق وعمرو بن أبي المقدام وعبد الله بن الممل . روى عنه موسى بن عبد الرحمن المسروقي وأحمد بن يحيى الصوفي . قال أبو حاتم . ضعيف الحديث . وذكره ابن حبان في الثقات . مترجم في الجرح والتعديل 2/2/408 ، ولسان الميزان 4 : 119 .
أما " حميد " فلم أعرف من هو ، حميد كثير لم أجد فيمن يسمى " حميدًا " روية عبيد بن الصباح عنه . وربما كان " فضيل بن مرزوق " فإن " حميد " في المخطوطة مضطربة الكتبة كأن الناسخ لم يكن يحسن يقرأ من الأصل الذي نقل عنه ، ولكني أستبعد ذلك . هذا وقد نقل هذا الأثر القرطبي في تفسيره 3 : 125 : " وهذا إن صح عنه ، فهو ضعيف لا يقتضيه لفظ الآية ولا معناها " ثم قال : " طُوبَى لعبدٍ أمْسَك عمّا لا يعلمُ وخُصوصًا في كِتَاب الله تعالى "
ونعم ما قال ابن العربي ولعله يعظ بعض أهل زماننا .

(4/535)


مثلُ الذي عليهن بالمعروف " ، فأخبر تعالى ذكره أن على الرجل من ترك ضرارها في مراجعته إياها في أقرائها الثلاثة وفي غير ذلك من أمورها وحُقوقها ، مثل الذي له عليها من ترك ضراره في كتمانها إياه ما خلق الله في أرحامهنّ وغير ذلك من حقوقه.
ثم ندب الرجال إلى الأخذ عليهن بالفضل إذا تركن أداءَ بعض ما أوجب الله لهم عليهن ، فقال تعالى ذكره : " وللرجال عليهن درجة " بتفضّلهم عليهن ، وصفحهم لهن عن بعض الواجب لهم عليهن ، وهذا هو المعنى الذي قصده ابن عباس بقوله : " ما أحب أن أستنظف جميع حقي عليها " لأن الله تعالى ذكره يقول : " وللرجال عليهن درجة " .
* * *
ومعنى " الدرجة " ، الرتبة والمنزلة.
* * *
وهذا القول من الله تعالى ذكره ، وإن كان ظاهرُه ظاهر الخبر ، فمعناه معنى ندب الرجال إلى الأخذ على النساء بالفضل ، ليكون لهم عليهن فضل درَجة. (1)
* * *
__________
(1) من حق أبي جعفر رضي الله عنه أن أقف بقارئ كتابه على مثل هذا الوضع من تفسيره . لأقول مرة أخرى : إنه كان مفسرا إماما سبق قفات السابقين . لم يلحقه لاحق في البصر بمعاني كتاب ربه ، وفي الحرص على بيان معانيه ، وفي الدقة البالغة في ضبط روابط الآيات بعضها ببعض . ومن شاء أن يعرف فضل هذا الإمام وتحققه بمعرفة أسرار هذا الكتاب فليقرأ ما كتبه المفسرون بعده في تفسير هذه الجملة من الآية فهو واجد في المقارنة بين الكلامين ما يعينه على إدراك حقيقة مذهب أبي جعفر في التفسير ، وما يدله على صدق ما قلت ، من أن الرجل قد نهج للمفسرين نهجًا قل من تبعه فيه ، أو أطاق أن يسير فيه على آثاره . ولم يكتب أبو جعفر ما كتب على سبيل الموعظة كما يفعل أصحاب الرقائق والمتصوفة وأشباههم ، بل كتب بالبرهان والحجة والملزمة واستخرج ذلك من سياق الآيات المتتابعة من أول آية الإيلاء - " للذين يلون من نسائهم " - وما تبعها من بيان طلاق المولى ، وكيف يفعل الرجل المطلق وكيف تفعل المرأة المطلقة ، وما أمرت به من ترك كتمان ما خلق الله في رحمها وائتمانها على هذا السر المضمر في أحشائها وما للرجال من الحق في ردهن مصلحين غير مضارين وتعادل حقوق الرجل على المرأة وحقوق المرأة على الرجل ثم أتبع ذلك بندب الرجال إلى فضيلة من فضائل الرجولة لا ينال المرء قبلها إلا بالعزم والتسامي وهو أن يتغاضى عن بعض حقوقه لامرأته فإذا فعل ذلك فقد بلغ من مكارم الأخلاق منزلة تجعل له درجة على امرأته .
ومن أجل هذا الربط الدقيق بين معاني هذا الكتاب البليغ جعل أبو بكر هذه الجملة حثًا وندبًا للرجال على السمو إلى الفضل ، لا خبرًا عن فضل قد جعله الله مكتوبا لهم ، أحسنوا فيما أمرهم به أم أساءوا .
وأبو جعفر رضي الله عنه لم يغفل قط عن هذا الترابط الدقيق بين معاني الكتاب ، سواء كان ذلك في آيات الأحكام أو آيات القصص أو غيرها من نصوص هذا الكتاب . فهو يأخذ المعنى في أول الآية من الآيات ثم يسير معه كلمة كلمة وحرفًا حرفصا ثم جملة جملة غير تارك لشيء منه أو متجاوز عن معنى يدل عليه سياقها . وليس هذا فحسب بل هو لا ينسى أبدًا أن هذا الكتاب قد جاء ليعلم الناس ويخرجهم من الظلمات إلى النور وأنه جاء ليؤدبهم بأدب رب العالمين فيربط بين هذا الأدب الذي دل عليه التنزيل وبينته سنة رسول الله ويخرج من ذلك بمثل هذا الفهم الدقيق لمعاني كتاب الله مؤيدًا بالحجة والبرهان .
وأحب أن أقول إن التخلق بآداب كتاب الله يهدي إلى التفسير الصحيح كما تهدي إليه المعرفة بلغة العربن وبناسخ القرآن ومنسوخه وبسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فالأخلاق أداة من أدوات العلم كسائر الأدوات . ولولا ما كان عليه هذا الإمام من عظيم الخلق ونبيل الأدب لما وقف وحده بين سائر المفسرين عند هذه الآية ، يستخرج منها هذا المعنى النبيل العظيم الذي أدب الله به المطلقين وحثهم عليه وعرفهم به فضل ما بين اقتضاء الحقوق الواجبة والعفو عن هذه الحقوق ، لمن وضعها الله تحت يده ، فملكه طلاقها وفراقها ، ولم يملكها من ذلك مثل الذي ملكه . فاللهم اغفر لنا واهدنا وفقهنا في ديننا وعلمنا من ذلك ما لم نكن نعلم ، إنك أنت السميع العليم .

(4/536)


القول في تأويل قوله تعالى : { وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (228) }
قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بذلك : " والله عزيز " في انتقامه ممن خالف أمره ، وتعدَّى حدوده ، فأتى النساء في المحيض ، وجعل الله عُرضة لأيمانه أن يبرَّ ويتقي ، ويصلح بين الناس ، وعضَل امرأته بإيلائه ، وضَارَّها في مراجعته بعد طلاقه ، ولمن كتم من النساء ما خلق الله في أرحامهن أزواجهن ، ونكحن في عددهن ، وتركنَ التربُّص بأنفسهن إلى الوقت الذي حده الله لهن ، وركبن غير ذلك من

(4/537)


الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آَتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (229)

معاصيه " حكيم " فيما دبَّر في خلقه ، وفيما حكم وقضَى بينهم من أحكامه ، كما :
4778 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع في قوله : " والله عزيز حكيم " ، يقول : عزيز في نقمته ، حكيم في أمره.
* * *
وإنما توعَّد الله تعالى ذكره بهذا القول عباده ، لتقديمه قبل ذلك بيان ما حرَّم عليهم أو نهاهم عنه ، من ابتداء قوله : " ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمنَّ " إلى قوله : " وللرجال عليهن درجة " ثم أتبع ذلك بالوعيد ليزدجر أولو النُّهى ، وليذكر أولو الحجى ، فيتقوا عقابه ، ويحذروا عذابه. (1)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ }
قال أبو جعفر : اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك :
فقال بعضهم : هو دلالة على عدد الطلاق الذي يكون للرجل فيه الرجعة على زوجته ، والعدد الذي تبين به زوجته منه.
* * *
* ذكر من قال إن هذه الآية أنزلت لأن أهل الجاهلية وأهل الإسلام قبل نزولها لم يكن لطلاقهم نهاية تبين بالانتهاء إليها امرأته منه ما راجعها في عدتها منه ، فجعل الله تعالى ذكره لذلك حدًّا ، حرَّم بانتهاء الطلاق إليه على الرجل
__________
(1) ومرة أخرى فلينظر الناظر كيف يكون ربط معاني الآيات بعضها ببعض وأنه برهان على أن هذا المفسر الإمام يربط معاني هذه الآيات الطوال جميعًا من أول الآية : 221 إلى الآية : 228 .

(4/538)


امرأتَه المطلقة ، إلا بعد زوج ، وجعلها حينئذ أملك بنفسها منه. (1)
* * *
* (2) ذكر الأخبار الواردة بما قلنا في ذلك :
4779 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا جرير ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه قال : كان الرجل يطلق ما شاء ثم إن راجع امرأته قبل أن تنقضي عدتها كانت امرأته ، فغضب رجل من الأنصار على امرأته ، فقال لها : لا أقربُك ولا تحلّين مني. قالت له : كيف ؟ قال : أطلِّقك ، حتى إذا دنا أجلك راجعتك ، ثم أطلقك ، فإذا دنا أجلك راجعتك. قال : فشكت ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فأنزل الله تعالى ذكره : " الطلاق مرتان فإمساك بمعروف " الآية.
4780 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا ابن إدريس ، عن هشام ، عن أبيه ، قال رجل لامرأته على عهد النبي صلى الله عليه وسلم : لا أؤيك ، ولا أدَعك
__________
(1) عند هذا الموضع انتهى التقسيم القديم في النسخة التي نقلت عنها نسختنا العتيقة ويلي هذا ما نصه :
" وصلى الله على سيدنا محمد النبي وعلى آله وسلم كثيرًا
على الأصل
بلغ السماعُ من أوله لمحمد وعلى ابني أحمد بن عيسى السعدي وأحمد بن عمر الجهاري( ؟ ؟) ونصر بن الحسين الطبري ، ومحمد بن علي الأبهري بقراءة محمد بن أحمد بن عيسى على الإمام أبي الحسن الخصيبي وهو ينظر في كتابه ، عن أبي محمد الفرغاني عن أبي جعفر الخصيبي في شعبان سنة ثمان وأربعمئة "
(2) ابتداء هذا التقسيم :
" بسم الله الرحمن الرحيم
ربّ يَسِّرْ "

(4/539)


تحلّين. فقالت له : كيف تصنع ؟ قال : أطلقك ، فإذا دنا مُضِىُّ عدتك راجعتُك ، فمتى تحلّين ؟ فأتت النبي صلى الله عليه وسلم ، فأنزل الله : " الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان " ، فاستقبله الناس جديدًا ، من كان طلق ومن لم يكن طلق . (1)
4781 - حدثنا محمد بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الأعلى قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قال ، كان أهل الجاهلية كان الرجل يطلِّق الثلاث والعشر وأكثر من ذلك ، ثم يراجعُ ما كانت في العِّدة ، فجعل الله حد الطلاق ثلاث تطليقات. (2)
4782 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قال ، كان أهل الجاهلية يطلِّق أحدهم امرأته ثم يراجعها ، لا حَّد في ذلك ، هي امرأته ما راجعها في عدتها ، (3) فجعل الله حد ذلك يصير إلى ثلاثة قروء ، وجعل حدَّ الطلاق ثلاث تطليقات .
4783 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد في قوله : " الطلاق مرتان " ، قال كان الطلاق - قبل أن يجعل الله الطلاق ثلاثًا - ليس له أمد يطلق الرجل امرأته مائة ، ثم إن أراد أن يراجعها قبل أن تحلّ ، كان ذلك له ، وطلق رجلٌ امرأته ، حتى إذا كادت أن تحلّ ارتجعها ، ثم استأنفَ بها طلاقًا بعد ذلك ليضارّها بتركها ، حتى إذا كان قبل انقضاء عدتها راجعها. وصنع ذلك مرارًا ، فلما علم الله ذلك منه ، جعل الطلاق ثلاثًا ، مرتين ، ثم بعد المرتين إمساك بمعروف ، أو تسريح بإحسان .
4784 - حدثني موسى قال ، حدثنا عمرو قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : " الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان " ، أما قوله :
__________
(1) الحديثان : 4779 ، 4780 - هما في معنى واحد بإسنادين إلى هشام بن عروة وهما مرسلان لأن عروة بن الزبير تابعي . وقد ثبت الحديث وصح موصولا كما سنذكر إن شاء الله .
وجرير - في الإسناد الأول : هو ابن عبد الحميد الضبي . وابن إدريس - في الإسناد الثاني : هو عبد الله بن إدريس الأودي .
والحديث رواه الترمذي 2 : 219 عن أبي كريب محمد بن العلاء - شيخ الطبري في الإسناد الثاني - بهذا الإسناد . ولم يذكر لفظه أحاله على الرواية الموصولة ، كما سيأتي .
ورواه أيضًا - بنحوه - مالك في الموطأ ص : 588 عن هشام بن عروة عن أبيه . مرسلا وكذلك رواه الشافعي عن مالك . (مسند الشافعي بترتيب الشيخ عابد السندي 2 : 34) .
ورواه البيهقي في السنن الكبرى 7 : 333 من طريق الشافعي عن مالك .
ورواه عبد بن حميد في تفسيره عن جعفر بن عون عن هشام مرسلا . كما نقله عنه ابن كثير 1 : 537 - 538 وكذلك رواه البيهقي 7 : 444 من طريق أبي أحمد محمد بن عبد الواب . عن جعفر ابن عون .
وكذلك رواه ابن أبي حاتم - في تفسيره - عن هارون بن إسحاق عن عبدة بن سليمان عن هشام ابن عروة عن أبيه مرسلا . نقله عنه ابن كثير 1 : 537 .
وأما الرواية الموصولة : فإنه رواه الترمذي 2 : 218 - 219 عن قتيبة بن سعيد عن يعلى بن ابن شيب عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة - بنحوه - مرفوعًا متصلا .
ورواه الحاكم 2 : 279 - 280 من طريق يعقوب بن حميد بن كاسب عن يعلى بن شيب به ، نحوه وقال الحاكم : " هذا حديث صحيح الإسناد . ولم يتكلم أحد في يعقوب بن حميد بحجة " . وتعقبه الذهبي فقال : " قد ضعفه غير واحد " ! وهذا عجب من الحافظ الذهبي كأن الحديث انفرد بوصله يعقوب هذ ، حتى يقرر الخلاف بين توثيقه وتضعيفه ، وأمامه في الترمذي رواية قتيبة عن يعلى!!
ورواه أيضًا البيهقي 7 : 333 من طريق يعقوب بن حميد عن يعلى به . ثم قال : ورواه أيضًا قتيبة بن سعيد والحميدى عن يعلى بن شبيب وكذلك قال محمد بن إسحاق بن يسار بمعناه وروى نزول الآية فيه - عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة " .
ورواية ابن إسحاق - التي أشار إليها البيهقي - ذكرها ابن كثير 1 : 538 من رواية ابن مردويه من طريق سلمة بن الفضل عن محمد بن إسحاق عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة " .
وذكر ابن كثير أيضًا - قبل ذلك بأسطر - أنه رواه ابن مردويه " من طريق محمد بن سليمان عن يعلى بن شبيب مولى الزبير ، عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة . فذكره بنحوه ما تقدم " . يريد رواية عبد بن حميد عن جعفر بن عون .
فهذان ثقتان روياه عن هشام بن عروة مرفوعًا والرفع زيادة تقبل من الثقة كما هو معروف . ولا يعل المرفوع بالموقوف بل يكون الموقوف ميدا للمرفوع ومؤكدًا لصحته .
فيعلى بن شبيب الأسدي مولى آل الزبير : ثقة : ذكره ابن حبان في الثقات . وترجمه البخاري في الكبير 20 / 40 / 20 / 418 - 419 وابن أبي حاتم في 4/2/301 - فلم يذكرا فيه جرحا . وقد رواه الأسدي . الملقب " لوين " .
ومحمد بن إسحاق بن يسار : ثقة لا حجة لمن تكلم فيه .
(2) قوله : " كان أهل الجاهلية ، كان الرجل . . . " قد مضى برقم : 4751 في حديث قتادة أيضًا بنفس هذا الإسناد - مثل هذا التعبير العربي الفصيح ، كما أشرنا إليه في التعليق ص : 522
(3) في المخطوطة : " ما داحقها في عدتها " تصحيف فيما أظن ولكن كيف يجيء مثل هذا التصحيف من كاتب!!

(4/540)


" الطلاق مرتان " ، فهو الميقات الذي يكون عليها فيه الرجعة .
4785 - حدثنا هناد قال ، حدثنا أبو الأحوص ، عن سماك ، عن عكرمة في قوله : " الطلاق مرّتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان " قال : إذا أراد الرجل أن يطلق امرأته فيطلقها تطليقتين ، فإن أراد أن يراجعها كانت له عليها رجعة ، فإن شاء طلقها أخرى ، فلم تحلّ له حتى تنكح زوجًا غيره .
* * *
قال أبو جعفر : فتأويل الآية على هذا الخبر الذي ذكرنا عدد الطلاق الذي لكم أيها الناس فيه على أزواجكم الرجعة إذا كن مدخولا بهن تطليقتان. ثم الواجب على من راجع منكم بعد التطليقتين ، إمساكٌ بمعروف ، أو تسريح بإحسان ، لأنه لا رجعة له بعد التطليقتين إن سرحها فطلقها الثالثة.
* * *
وقال آخرون إنما أنزلت هذه الآية على نبيّ الله صلى الله عليه وسلم تعريفًا من الله تعالى ذكره عبادَه سنة طلاقهم نساءهم إذا أرادوا طلاقهن - لا دلالةً على العدد الذي تبين به المرأة من زوجها. (1)
* ذكر من قال ذلك :
4786 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا جرير ، عن مطرف ، عن أبي إسحاق ، عن أبي الأحوص ، عن عبد الله في قوله : " الطلاق مرّتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان " قال : يطلقها بعد ما تطهر من قبل جماع ، ثم يدعها حتى تطهر مرة أخرى ، ثم يطلقها إن شاء ، ثم إن أراد أن يراجعها راجعها ، ثم إن شاء طلقها ، وإلا تركها حتى تتم ثلاث حيض وتبينُ منه به. (2)
4787 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله
__________
(1) في المطبوعة : " لا دلالة على القدر " تصحيف وتحريف ، والصواب من المخطوطة .
(2) الأثر : 4786 - أخرجه النسائي في السنن 6 : 140 بغير هذا اللفظ وكذلك البيهقي في السنن 7 : 332 وابن ماجه 1 : 651 .

(4/542)


بن صالح قال ، حدثني معاوية بن صالح ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قوله : " الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان " قال : إذا طلق الرجل امرأته تطليقتين ، فليتق الله في التطليقة الثالثة ، فإما أن يمسكها بمعروف فيحسن صحابتها ، أو يسرحها بإحسان فلا يظلمها من حقها شيئًا .
4788 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : " الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان " ، قال : يطلق الرجل امرأته طاهرًا من غير جماع ، فإذا حاضت ثم طهرت فقد تم القرء ، ثم يطلق الثانية كما يطلق الأولى ، إن أحب أن يفعل ، (1) فإذا طلق الثانية ثم حاضت الحيضة الثانية فهما تطليقتان وقرءان ، (2) ثم قال الله تعالى ذكره في الثالثة : " إمساكٌ بمعروف أو تسريحٌ بإحسان " ، فيطلقها في ذلك القرء كله إن شاء حين تجمع عليها ثيابها. (3)
4789 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد بنحوه - إلا أنه قال : فحاضت الحيضة الثانية ، كما طلق الأولى ، فهذان تطليقتان وقرءان ، ثمّ قال : الثالثة - وسائرُ الحديث مثل حديث محمد بن عمرو ، عن أبى عاصم .
* * *
قال أبو جعفر : وتأويل الآية على قول هؤلاء : سنة الطلاق التي سننتها وأبحتها لكم إن أردتم طلاقَ نسائكم ، أن تطلقوهن ثنتين في كل طهر واحدة ، ثمّ الواجب بعد ذلك عليكم : إما أن تمسكوهنّ بمعروف ، أو تسرحوهن بإحسان.
* * *
__________
(1) في المخطوطة والمطبوعة : " فإن أحب أن يفعل " بزيادة الفاء وهو لا يستقيم .
(2) قوله : / " وقرءان " هو مثنى " قرء " .
(3) في المخطوطة " تجمع عليه " وهو خطأ . يقال : جمعت علي ثيابي إذ لبست الثياب التي تبرز بها إلى الناس من إزار ورداء وعمامة . وجمعت المرأة ثيابها : لبست الدرع والملحقة والخمار . وكني بقوله : " جمعت عليها ثيابها " عن غسلها من حيضتها ولبسها ثيابها في طهر .

(4/543)


قال أبو جعفر : والذي هو أولى بظاهر التنزيل ما قاله عروة وقتادة ومن قال مثل قولهما من أن الآية إنما هي دليل على عدد الطلاق الذي يكون به التحريم ، وبُطولُ الرجعة فيه ، والذي يكون فيه الرجعة منه. وذلك أن الله تعالى ذكره قال في الآية التي تتلوها : ( فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ ) ، فعرَّف عباده القدرَ الذي به تحرُم المرأة على زوجها إلا بعد زوجٍ - ولم يبين فيها الوقتَ الذي يجوز الطلاق فيه ، والوقتَ الذي لا يجوز ذلك فيه ، فيكون موجَّهًا تأويلُ الآية إلى ما روي عن ابن مسعود ومجاهد ومن قال بمثل قولهما فيه.
* * *
وأما قوله : " فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان " ، فإنّ في تأويله وفيما عُني به اختلافًا بين أهل التأويل.
فقال بعضهم : عنى الله تعالى ذكره بذلك الدلالة على اللازم للأزواج المطلقات اثنتين (1) بعد مراجعتهم إياهن من التطليقة الثانية - من عشرتهن بالمعروف ، أو فراقهن بطلاق. (2)
* ذكر من قال ذلك :
4790 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج قال ، قلت لعطاء : " الطلاق مرتان " ، قال : يقول عند الثالثة : إما أن يمسك بمعروف ، وإما أن يسرح بإحسان. وغيره قالها (3) قال : وقال مجاهد : الرجل أملك بامرأته في تطليقتين من غيره ، فإذا تكلم الثالثة فليست منه بسبيل ، وتعتدّ لغيره .
__________
(1) في المخطوطة : " اللازم للأزواج المطلقات اثنتين " وفي المطبوعة : " اللازم للأزواج المطلقات " والذي أثبته أجود العبارات الثلاث .
(2) في المخطوطة : " أو بفراقهن " بزيادة " باء " لا محل لها هنا .
(3) في المطبوعة : " وغيرها قالها " والصواب من المخطوطة - ويعني : وغيره قال هذه المقالة ، ثم ذكر مقالة مجاهد في تأويل الآية . هذا ما رأيت إلا أن يكون في الكلام تصحيف .

(4/544)


4791 - حدثني أبو السائب قال ، حدثنا أبو معاوية ، عن إسماعيل بن سميع ، عن أبي رزين قال ، أتى النبي صلى الله عليه وسلم رجل فقال : يا رسول الله أرأيت قوله : " الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان " فأين الثالثة ؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إمساكٌ بمعروف ، أو تسريحٌ بإحسان " هي الثالثة " .
4792 - حدثنا محمد بن بشار قال ، حدثنا يحيى بن سعيد ، وعبد الرحمن بن مهدي ، قالا حدثنا سفيان ، عن إسماعيل بن سميع ، عن أبي رزين قال ، جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله ، " الطلاق مرتان " ، فأين الثالثة ؟ قال : " إمساك بمعروف ، أو تسريح بإحسان " .
4793 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا الثوري ، عن إسماعيل ، عن أبي رزين قال ، قال رجل : يا رسول الله ، يقول الله : " الطلاق مرّتان فإمساك بمعروف " فأين الثالثة ؟ قال : " التسريح بإحسان " . (1)
__________
(1) الأحاديث : 4791 - 4793 كلها حديث واحد بأسانيد ثلاثة . وهو حديث مرسل ضعيف كما سنذكر إن شاء الله .
* سفيان في الإسناد الثاني : هو الثوري كما في الإسناد الثالث .
* إسماعيل بن سميع - بضم السين مصغرًا - الحنفي : ثقة مأمون كما قال ابن معين . ومن تكلم فيه فإنما تكلم من أجل أنه كان يرى رأي الخوارج .
* أبو رزين - بفتح الراء وكسر الزاي : هو الأسدي أسد خزيمة واسمه " مسعود " وهو تابعي كوفي ثقة . وبعضهم يقول : " مسعود بن مالك " فيشتبه براو آخر اسمه " مسعود بن مالك بن معبد " مولى سعيد بن جبير وهو متأخر عن أبي رزين . وقد حققنا ذلك مفصلا في المسند : 3551 ، 7432م ، وفي الاستدراك فيه : 707 .
* و " أبو رزين الأسدي " هذا تابعي كما قلنا . وهو غير " أبي رزين العقيلي " ذاك صحابي اسمه " لقيط بن عامر " مضت ترجمته : 3223 .
* والإسناد : 4793 - هو في تفسير عبد الرزاق ص : 28 - 29 . وفيه : " أسمع الله يقول " بدل " يقول الله " وكذلك هو في المصنف لعبد الرزاق ج 3 ص 301 .
* والحديث ذكره ابن كثير 1 : 538 - 539 من رواية بن أبي حاتم . وعبد بن حميد وسعيد ابن منصور وابن مردويه - بأسانيدهم ، كلهم عن أبي رزين بنحوه مرسلا . وكذلك رواه البيهقي 7 : 340 بإسناده من رواية سعيد بن منصور .
* وهم الحافظ ابن كثير - رحمه الله - وهمًا شديدًا إذ نسب هذا الحديث المرسل لرواية المسند فقال : " ورواه الإمام أحمد أيضًا " .
* والحديث ذكره السيوطي 1 : 277 وزاد نسبته لوكيع . وأبي داود في ناسخه وابن المنذر والنحاس .
* وسيقول أبو جعفر بعد قليل مشيرا إلى هذا الحديث : " فإن اتباع الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أولى بنا من غيره " . وهذا ذهاب منه إلى الاحتجاج بالحديث المرسل . وهو مذهب يختاره بعض اهل العلم .
* وقد رددت على أبي جعفر - رحمه الله - في كتاب نظام الطلاق في الإسلام في الفقرة : 29 بعد أن ذكرت كلامه - فقلت : " ونعم إن الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أولى بنا من غيره وعلى العين والرأس ما ورد عنه عليه الصلاة والسلام إذا كان صحيحًا ثابتًا . ولكن خبر أبي رزين هذا غير صحيح فإنه مرسل غير موصول . لأن أبا رزين الأسدي تابعي وليس صحابيًا . والمرسل لا حجة فيه ، لأنه عن راو مجهول ثم إنه خبر باطل المعنى جدًا . وحاشا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يفسر الطلقة الثالثة بهذا ، وهي ثابتة في الآية التي بعدهافي سياق الكلام : (فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجًا غيره) . وإلا كانت طلقة رابعة . وهو خلاف المعلوم من الدين بالضرورة " .

(4/545)


4794 - حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا أبو أحمد قال ، حدثنا سفيان ، عن ابن جريج ، عن مجاهد : " أو تسريح بإحسان " قال في الثالثة .
4795 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الرزاق ، عن معمر ، عن قتادة قال : كان الطلاق ليس له وقت حتى أنزل الله : " الطلاق مرتان " قال : الثالثة : " إمساكٌ بمعروف أو تسريحٌ بإحسان " .
* * *
وقال آخرون منهم : بل عنى الله بذلك الدلالة على ما يلزمهم لهن بعد التطليقة الثانية من مراجعة بمعروف أو تسريح بإحسان ، بترك رجعتهن حتى تنقضي عدتهن ، فيصرن أملك لأنفسهن. وأنكروا قول الأولين الذين قالوا : إنه دليل على التطليقة الثالثة.
* ذكر من قال ذلك :
4796 - حدثني موسى قال ، حدثنا عمرو قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي في قوله : ذلك : " فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان " ، إذا طلق واحدة أو اثنتين ، إما أن يمسك " ويمسك " : يراجع بمعروف ، وإما سكت عنها

(4/546)


حتى تنقضي عدتها فتكون أحق بنفسها.
4797 - حدثنا علي بن عبد الأعلى قال ، حدثنا المحاربي ، عن جويبر ، عن الضحاك : " أو تسريح بإحسان " والتسريحُ : أن يدعها حتى تمضي عدتها. (1)
4798 - حدثنا يحيى بن أبي طالب قال ، حدثنا يزيد قال ، أخبرنا جويبر ، عن الضحاك في قوله : " الطلاق مرّتان فإمساك بمعروف أو تصريح بإحسان " ، قال : يعني تطليقتين بينهما مراجعة ، فأمر أن يمسك أو يسرّح بإحسان. قال : فإن هو طلقها ثالثة فلا تحل له حتى تنكح زوجًا غيره .
* * *
قال أبو جعفر : وكأن قائلي هذا القول الذي ذكرناه عن السدي والضحاك ذهبوا إلى أنّ معنى الكلام : الطلاق مرتان ، فإمساك في كل واحدةٍ منهما لهن بمعروف ، أو تسريحٌ لهن بإحسان.
وهذا مذهب مما يحتمله ظاهرُ التنزيل ، لولا الخبرُ الذي ذكرته عن النبي صلى الله عليه وسلم ، الذي رواه إسماعيل بن سميع ، عن أبي رزين ، فإنّ اتباع الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أولى بنا من غيره.
فإذْ كان ذلك هو الواجب ، فبيِّنٌ أن تأويلَ الآية : الطلاقُ الذي لأزواج النساء على نسائهم فيه الرجعة ، مرتان. ثم الأمرُ بعد ذلك إذا راجعوهن في الثانية ، إما إمساكٌ بمعروف ، وإما تسريح منهم لهن بإحسان بالتطليقة الثالثة حتى تبينَ منهم ، فيبطل ما كان لهم عليهنّ من الرجعة ، ويصرن أملك بأنفسهن منهن. (2)
* * *
قال أبو جعفر : فإن قال قائل : وما ذلك الإمساك الذي هو بمعروف ؟ قيل : هو ما : -
__________
(1) الأثر : 4797 - " علي بن عبد الأعلى " لم أجد في شيوخ الطبري من يسمى " علي ابن عبد الأعى " وسيأتي في الأثر : 4799 " علي بن عبد الأعلى المحاربي " ورقم : 4804 . والذي يكثر الرواية عنه في التفسير هو " محمد بن عبد الأعلى الصنعاني فلا أدري ما الصواب .
(2) في المطبوعة : " أملك لأنفسهن " وأثبت ما في المخطوطة .

(4/547)


4799 - حدثنا به علي بن عبد الأعلى المحاربي قال ، حدثنا عبد الرحمن بن محمد المحاربي ، عن جويبر ، عن الضحاك في قوله : " فإمساك بمعروف " ، قال : المعروف : أن يحسن صحبتها. (1)
4800 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثني معاوية بن صالح ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : " فإمساك بمعروف " ، قال : ليتق الله في التطليقة الثالثة ، فإما أن يمسكها بمعروف فيحسن صحابتها .
* * *
فإن قال : فما التسريح بإحسان ؟
قيل : هو ما : -
4801 - حدثني به المثنى قال ، حدثنا أبو صالح قال ، حدثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس : " أو تسريح بإحسان " ، قيل : يسرحها ، ولا يظلمها من حقها شيئًا. (2)
4802 - حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : " فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان " ، قال : هو الميثاق الغليظ. (3)
4803 - حدثني موسى قال ، حدثنا عمرو قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : " أو تسريح بإحسان " قال : الإحسان : أن يوفيها حقها ، فلا يؤذيها ، ولا يشتمها .
4804 - حدثنا علي بن عبد الأعلى قال ، حدثنا عبد الرحمن بن محمد المحاربي ، عن جويبر ، عن الضحاك : " أو تسريحٌ بإحسان " ، قال : التسريح بإحسان :
__________
(1) الأثر : 4799 - انظر التعليق السالف على الأثر رقم : 4797 .
(2) الأثر : 4800 ، 4801 - هما بعض الأثر السالف رقم : 4787 . وفي المطبوعة والمخطوطة في رقم : 4801 " قيل : يسرحها . . . " والصواب ما أثبت .
(3) سيأتي تفسير " الميثاق الغليظ " بعد قليل في رقم : 4805 .

(4/548)


أن يدعها حتى تمضي عِدَّتها ، ويعطيها مهرًا إن كان لها عليه إذا طلَّقها. فذلك التسريح بإحسان ، والمتعة على قَدْر الميسرة .
4805 - حدثني المثنى قال ، حدثنا سويد بن نصر قال ، أخبرنا ابن المبارك ، عن ابن جريج ، عن عطاء الخراساني ، عن ابن عباس في قوله : " وأخذن منكم ميثاقًا غليظًا " قال قوله : " فإمساك بمعروف أو تسريحٌ بإحسان " .
* * *
فإن قال : فما الرافع للإمساك والتسريح ؟
قيل : محذوف اكتُفي بدلالة ما ظهر من الكلام من ذكره ، ومعناه : الطلاق مرتان ، فالأمر الواجبُ حينئذ به إمساك بمعروف ، أو تسريح بإحسان. وقد بينا ذلك مفسرًا في قوله : ( فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ) [سورة البقرة : 178] فأغنى ذلك عن إعادته في هذا الموضع. (1)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلا أَنْ يَخَافَا أَلا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ }
قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بقوله : " ولا يحل لكم أن تأخذوا مما أتيتموهن شيئا " ، ولا يحل لكم أيها الرجال ، أن تأخذوا من نسائكم ، إذا أنتم أردتم طلاقهن - لطلاقكم وفراقكم إياهن (2) شيئا مما أعطيتموهن من الصداق ، وسقتم إليهن ، بل الواجب عليكم تسريحهن بإحسان ، وذلك إيفاؤهن حقوقهن من الصداق والمتعة وغير ذلك مما يجب لهن عليكم " إلا أن يخافا إلا يقيما حدود الله " .
* * *
__________
(1) انظر ما سلف 3 : 372 .
(2) في المطبوعة : " بطلاقكم " بالباء والصواب من المخطوطة .

(4/549)


قال أبو جعفر : واختلفت القرأة في قراءة ذلك ، فقرأه بعضهم : " إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله " ، وذلك قراءة معظم أهل الحجاز والبصرة بمعنى إلا أن يخاف الرجل والمرأة أن لا يقيما حدود الله ، وقد ذكر أن ذلك في قراءة أبي بن كعب : ( إلا أن يظنا ألا يقيما حدود الله ).
4806 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر قال ، أخبرني ثور ، عن ميمون بن مهران قال : في حرف أبي بن كعب أن الفداء تطليقة. قال : فذكرت ذلك لأيوب ، فأتينا رجلا عنده مصحف قديم لأبي خرج من ثقة ، فقرأناه فإذا فيه : ( إلا أن يظنا ألا يقيما حدود الله ، فإن ظنا ألا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به لا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره ) .
* * *
والعرب قد تضع " الظن " موضع " الخوف " ، " والخوف " موضع " الظن " في كلامها ، لتقارب معنييهما ، (1) كما قال الشاعر : (2)
أتاني كلام عن نصيب يقوله... وما خفت يا سلام أنك عائبي (3)
بمعنى : ما ظننت.
* * *
__________
(1) هذا بيان فلما تصيبه في كتب اللغة وانظر معاني القرآن للفراء 1 : 145 - 146 ففيه بيان أوفى .
(2) هو أبو الغول الطهوي وهو شاعر إسلامي كان في الدولة المروانية .
(3) البيت في نوادر أبي زيد : 46 ومعاني القرآن للفراء 1 : 146 وسيأتي في التفسير 5 : 40 (بولاق) ولم أجد خبر " نصيب " و " سلام " وربما كان نصيب هذا هو أبو الحجناء نصيب الأسود مولى عبد العزيز بن مروان . فإن أبا الغول ، كما أسلفت شاعر إسلامي كان في الدولة المروانية وهجا حمادا(الأغاني 5 : 162) وقال له أيضًا فيما روى أبو زيد في نوادره ص : 46 .
ولقد ملأت على نصيب جلده بمساءة إن الصديق يعاتب

(4/550)


وقرأه آخرون من أهل المدينة والكوفة : ( إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله ).
فأما قارئ ذلك كذلك من أهل الكوفة ، (1) فإنه ذكر عنه أنه قرأه كذلك (2) اعتبارا منه بقراءة ابن مسعود ، وذكر أنه في قراءة ابن مسعود : ( إلا أن تخافوا ألا يقيما حدود الله ). وقراءة ذلك كذلك ، اعتبارا بقراءة ابن مسعود التي ذكرت عنه ، خطأ وذلك أن ابن مسعود إن كان قرأه كما ذكر عنه ، فإنما أعمل الخوف في " أن " وحدها ، وذلك غير مدفوعة صحته ، كما قال الشاعر : (3)
إذا مت فادفني إلى جنب كرمة... تروي عظامي بعد موتي عروقها (4) ولا تدفنني بالفلاة فإنني... أخاف إذا ما مت أن لا أذوقها (5)
فأما قارئه : " إلا أن يخافا " بذلك المعنى ، فقد أعمل في متروكة تسميته ، (6) وفي " أن " - فأعمله في ثلاثة أشياء : المتروك الذي هو اسم ما لم يسم فاعله ، وفي " أن " التي تنوب عن شيئين ، (7) ولا تقول العرب في كلامها : " ظنا أن يقوما " .
ولكن قراءة ذلك كذلك صحيحة ، على غير الوجه الذي قرأه من ذكرنا قراءته كذلك ، اعتبارا بقراءة عبد الله الذي وصفنا ، ولكن على أن يكون مرادا به إذا
__________
(1) هو الإمام الكوفي الحبر حمزة بن حبيب الزياتأحد القراء السبعة .
(2) الذي ذكر هذا هو الفراء في معاني القرآن 1 : 146 ولكن عبارة الفراء تدل على أنه ظن ذلك واستخرجه لا أن حمزة قرأها كذلك يقينا غير شك . ونص الفراء : " وأما ما قال فإنه إن كان أراد اعتبار قراءة عبد الله فلم تصبه - والله أعلم " . فإن يكن الطبري أخذه عن الفراء فهذا كلام الفراء وإن اخذه من غيره فهو ثقة فيما ينقل .
(3) هو أبو محجن الثقفي .
(4) ديوانه : 23 ومعاني القرآن للفراء 1 : 146 والخزانة 3 : 550 وغيرها كثير وخبر أبي محجن في الخمر وحبها مشهور .
(5) هذا البيت شاهد للنحاة على تخفيف " أن " لوقوعها بعد الخوف بمعنى العلم واليقين واسمها ضمير شأن محذوف ، أو ضمير متكلم وجملة " لا أذوقها " في محل رفع ، خبرها .
(6) يعني أن الفعل قد عمل في نائب الفاعل وفي جملة " أن المخففة من " أن " كما سيظهر من بيان كلامه . وقد بين ذلك أيضًا الفراء في معاني القرآن 1 : 146 - 147 .
(7) يعني بقوله : " أن التي تنوب عن شيئين " أنها في موضع المفعولين ، تسد مسدهما .

(4/551)


قرئ كذلك : إلا أن يخاف بأن لا يقيما حدود الله - أو على أن لا يقيما حدود الله ، فيكون العامل في " أن " غير " الخوف " ، ويكون " الخوف " ، عاملا فيما لم يسم فاعله. (1) وذلك هو الصواب عندنا من القراءة (2) لدلالة ما بعده على صحته ، وهو قوله : " فإن خفتم ألا يقيما حدود الله " ، فكان بينا أن الأول بمعنى : إلا أن تخافوا أن لا يقيما حدود الله.
* * *
فإن قال قائل : وأية حال الحال التي يخاف عليهما أن لا يقيما حدود الله ، حتى يجوز للرجل أن يأخذ حينئذ منها ما آتاها ؟
قيل : حال نشوزها وإظهارها له بغضته ، حتى يخاف عليها ترك طاعة الله فيما لزمها لزوجها من الحق ، ويخاف على زوجها - بتقصيرها في أداء حقوقه التي ألزمها الله له - تركه أداء الواجب لها عليه. فذلك حين الخوف عليهما أن لا يقيما حدود الله فيطيعاه فيما ألزم كل واحد منهما لصاحبه ، والحال التي أباح النبي صلى الله عليه وسلم لثابت بن قيس بن شماس أخذ ما كان آتى زوجته إذ نشزت عليه ، بغضا منها له ، كما : -
4807 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا المعتمر بن سليمان قال ، قرأت على فضيل ، عن أبي حريز أنه سأل عكرمة ، هل كان للخلع أصل ؟ قال : كان ابن عباس يقول : إن أول خلع كان في الإسلام ، أخت عبد الله بن أبي ، أنها أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت : يا رسول الله لا يجمع رأسي ورأسه شيء أبدا! إني رفعت جانب الخباء ، فرأيته أقبل في عدة ، فإذا هو أشدهم سوادا ، وأقصرهم قامة ، وأقبحهم وجها! قال زوجها : يا رسول الله ، إني أعطيتها أفضل مالي! حديقة ، فإن ردت على حديقتي! قال : " ما تقولين ؟ " قالت : نعم ،
__________
(1) هذا كله قد بينه الفراء في معاني القرآن 1 : 146 - 147 كما أسلفنا .
(2) في المطبوعة : " في القراءة " والأجود ما في المخطوطة .

(4/552)


وإن شاء زدته! قال : ففرق بينهما. (1)
4808 - حدثني محمد بن معمر قال ، حدثنا أبو عامر قال ، حدثنا أبو عمرو السدوسي ، عن عبد الله - يعني ابن أبي بكر - ، عن عمرة عن عائشة : أن حبيبة بنت سهل كانت تحت ثابت بن قيس بن شماس ، (2) فضربها فكسر نغضها ، فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الصبح ، فاشتكته ، فدعا رسول الله ثابتا ، فقال : خذ بعض مالها وفارقها. قال : ويصلح ذاك يا رسول الله ؟ قال : نعم. قال ، فإني أصدقتها حديقتين ، وهما بيدها. فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " خذهما وفارقها. ففعل. (3)
__________
(1) الحديث : 4807 - المعتمر بن سليمان بن طرخان التيمي : ثقة روى عنه الأئمة : ابن مهدي وعبد الرزاق وأحمد وإسحاق وغيرهم .
فضيل - بالتصغير : هو ابن ميسرة الأزدي العقيلي وهو ثقة وثقه ابن معين وغيره .
أبو حريز : هو عبد الله بن الحيسين الأزدي البصري ، قاضي سجستان وهو مختلف فيه ، والحق أنه ثقة وثقه ابن معين وأبو زرعة وغيرهما .
و " أبو حريز " : بفتح الحاء المهملة وكسر الراء وآخره زاي معجمة . ووقع في المطبوعة وابن كثير وفتح الباري " أبو جرير " وهو تصحيف ووقع في الإصابة " ابن جرير " وهو خطأ إلى خطأ .
وهذا الحديث صحيح الإسناد . وقد نقله ابن كثير 1 : 542 عن هذا الموضع . وذكره السيوطي 1 : 280 - 281 ولم ينسباه لغير الطبري ونقله الحافظ في الفتح 9 : 351 قال : " وفي رواية معتمر بن سليمان . . . " فذكر نحوه مع شيء من الاختلاف في اللفظ . فدل على أنه نقله من رواية أخرى . ولكنه لم يبين من خرجه كعادته . سها رحمه الله . وأشار إليه في الإصابة 8 : 40 في السطر 3 وما بعده . منسوبا للطبري فقط .
وقد ثبت نحو معناه من حديث ابن عباس . رواه البخاري 9 : 349 - 352 . بأسانيد . ونقله ابن كثير عن روايات البخاري 1 : 541 - 542 ثم قال : " وهذا الحديث من أفراد البخاري من هذا الوجه " . ثم نقل نحوه من رواية الإمام أبي عبد الله بن بطة بإسناده عن قتادة عن عكرمة عن ابن عباس . ثم ذكر أنه رواه ابن مردويه في تفسيره ، وابن ماجه ثم قال : " وهو إسناد جيد مستقيم " . ورواية ابن ماجه - هي في السنن برقم : 2056 .
وقوله : " أخت عبد الله بن أبي " : هي جميلة بنت عبد الله بن أبي ابن سلول رأس المنافقين . وهي أخت عبد الله بن عبد الله بن أبي ابن سلول الصحابي الجليل . نسبت هي وأخوها إلى جدهما اختصارا . وهذا هو الصحيح الذي رجحه الحافظ وغيره .
ولم يذكر في هذه الرواية - في الطبري - اسم زوجها الذي اختلعت منه ، وهو ثابت بن قيس بن شماس كما دلت على ذلك الروايات الأخر . وقد ولدت لزوجها ثابت هذا ابنه محمد بن ثابت وهو مترجم في الإصابة 6 : 152 وابن سعد 5 : 58 - 59 . وقد جزم بأن أمه هي جميلة بنت عبد الله ابن أبي " . وقد أبت أمه أن ترضعه بما أبغضت أباه فجاء به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم " فبزق في فيه وحنكه وسماه محمدا . وقال : اختلف به فإن الله رازقه . فأتيته اليوم الأول والثاني والثالث فإذا امرأة من العرب تسأل عن ثابت بن قيس فقلت : ما تريدين منه ؟ أنا ثابت . فقالت : أريت في منامي كأني أرضع ابنا له يقال له : محمد فقال : فأنا ثابت وهذا ابني محمد . قال : وإذا درعها يعتصر من لبنها " . رواه الحاكم في المستدرك 2 : 210 - 211 وقال : " هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه " . ووافقه الذهبي وهو إسناد صحيح متصل لأن السياق يدل على أن محمدا هذا سمعه من أبيه وحدث به عنه . وقد ذكره الحافظ في ترجمته في الإصابة ، بنحو من هذا .
وهو ييد أن المختلعة من ثابت هي جميلة هذه .
ووقع في المطبوعة : " فلتردد على حديقتي " . والصواب ما أثبتنا : " فإن ردت علي حديقتي " . صححناه من المخطوطة وابن كثير والسيوطي . وجواب الشرط محذوف كما هو ظاهر . وهذا فصيح كثير في كلام البلغاء .
وانظر : 4810 .
(2) في المطبوعة : " بنت سهل " وأثبت ما في المخطوطة .
(3) الحديث : 4808 - أبو عامر : هو العقدي . عبد الملك بن عمرو .
أبو عمرو السدوسي : هو سعيد بن سلمة بن أبي الحسام المدني وهو ثقة . قال أبو سلمة التبوذكي : " ما رأيت كتابا أصح من كتابه " . وذكره ابن حبان في الثقات . ولم يعرفه ابن معين حق معرفته كما حكى عنه ابن أبي حاتم وضعفه النسائي . ولكن ترجمه البخاري في الكبير 2/1/438 فلم يذكر فيه حرجا . وهذا كاف في توثيقه خصوصا وقد أخرج له مسلم في صحيحه .
ولم يجزم البخاري بأن سعيد بن سلمة هو أبو عمرو راوي هذا الحديث ، فقال : " وقال أبو عامر : حدثنا أبو عمرو السدوسي المدني . فلا أدري هو هذا أم غيره ؟ " .
وترجم في التهذيب في الأسماء 4 : 41 - 42 وفي الكنى 12 : 181 - 182 وأثبت الحافظ بالدلائل القوية أنهما راو واحد كما سيتبين من التخريج إن شاء الله .
عبد الله : هو ابن أبي بكر بن عمرو بن حزم .
والحديث رواه أبو داود : 2228 عن محمد بن معمر - شيخ الطبري فيه - بهذا الإسناد .
وذكره ابن كثير 1 : 541 عن أبي داود والطبري . ثم قال : " وأبو عمرو السدوسي : هو سعيد بن سلمة بن أبي الحسام " .
وذكره الحافظ في التهذيب 4 : 41 - 42 موجزا من رواية أبي داود ثم قال : " وروى هذا الحديث أحمد بن محمد بن شعيب الرجالي عن محمد بن معمر عن أبي عامر العقدي عن سعيد بن سلمة عن عبد الله بن أبي بكر بإسناده . فدلت هذه الرواية على أن أبا عمرو المذكور في رواية أبي داود - : هو سعيد بن سلمة " . ثم قال : " وسيأتي في الكنى ما يقرر أنهما واحد " ثم قال في " الكنى " من التهذيب 12 : 181 - 182 : " روى أبو محمد بن صاعد في الجزء الخامس من حديثه . حدثنا محمد ابن معمر القيسي حدثنا أبو عامر العقدي حدثنا أبو عمرو السدوسي هو سعيد بن سلمة . حدثنا هشام بن علي السيرافي بالبصرة حدثنا عبد الله بن رجاء حدثنا سعيد بن سلمة بن أبي الحسام حدثني عبد الله بن أبي بكر - فذكر ذلك الحديث بعينه . فتعين أن أبا عمرو المديني السدوسي المذكور هو سعيد بن سلمة " .
ورواه أيضًا البيهقي 7 : 315 من طريق هشام بن علي ، عن عبد الله بن رجاء : " أخبرنا سعيد بن سلمة بن أبي الحسام حدثنا عبد الله بن أبي بكر . . . " فذكره بزيادة في آخره .
وهذه الطريق مثل الطريق التي حكاها الحافظ آنفًا عن أبي محمد بن صاعد وهي تيد ما قاله وقلناه .
وذكره السيوطي 1 : 280 ، وزاد نسبته لعبد الرزاق ولم أجده في التفسير ولا في المنصف لعبد الرزاق ولعله خفي على موضعه في واحد منهما .
قوله " فكسر نغصها " - النغص ، بضم النون وسكون الغين المعجمة وآخره ضاد معجمة : العظم الرقيق على طرف الكتف . وهذا هو الصواب في هذا الحرف هنا . وثبت في المطبوعة " بعضها " وكذلك في النسخ المطبوعة من سنن أبي داود إلا في نسخة بهامش طبعة الهند ذكرت على الصواب . وهو الصحيح الثابت في مخطوطة الشيخ عابد السندي واضحة مضبوطة لا تحتمل تصحيفا . وييد ذلك ويقويه : أن رواية البيهقي " فكسر يدها " وأما كلمة " بعضها " - فإنها قلقة في هذا الموضع غير مستساغة .
وانظر الحديث التالي لهذا .

(4/553)


4809 - حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا روح قال ، حدثنا مالك ، عن يحيى ، عن عمرة أنها أخبرته عن حبيبة بنت سهل الأنصارية : أنها كانت تحت ثابت بن قيس بن شماس ، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم رآها عند بابه بالغلس ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم من هذه ؟ قالت : أنا حبيبة بنت سهل ، لا أنا ولا ثابت بن قيس!! لزوجها فلما جاء ثابت قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : وهذه حبيبة بنت سهل تذكر ما شاء الله أن تذكر! . فقالت حبيبة : يا رسول الله ، كل ما أعطانيه عندي. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : خذ منها. فأخذ منها ، وجلست في بيتها. (1)
__________
(1) الحديث : 4809 - ابن بشار : هو محمد بن بشار شيخ الطبري وأصحاب الكتب الستة مضت ترجمته في : 304 ووقع في المطبوعة " أبو يسار " !! وهو تصحيف قبيح . صحح من المخطوطة . روح : هو ابن عبادة .
يحيى - شيخ مالك : هو الأنصاري . النجاري مضت ترجمته : 2154 ووقع هناك في ترجمته " البخاري " وهو خطأ مطبعي . ومضى على الصواب في : 3395 . وهو " يحيى بن سعيد بن قيس بن عمرو بن سهل بن ثعلبة " . فتكون " بيبة بنت سهل بن ثعلبة " صاحبة الحديث والقصة - عمة جده " قيس بن عمرو " .
والحديث في الموطأ ص : 564 . ورواه الشافعي عن مالك في الأم 5 : 101 ، 179 .
ورواه أحمد في المسند 6 : 433 - 434 (حلبي) عن عبد الرحمن بن مهدي عن مالك . ورواه أبو داود 2227 ، عغن القعنبي عن مالك ورواه النسائي 2 : 104 من طريق ابن القاسم عن مالك ورواه ابن حبان في صحيحه 6 : 436 - 437 (من مخطوطة الإحسان) من طريق أبي مصعب أحمد بن أبي بكر ، عن مالك ورواه البيهقي 7 : 312 - 313 من طريق أبي داود .
ورواه عبد الرزاق في المصنف (مخطوط مصور) ج 4 في الورقة : 17 عن ابن جريج عن يحيى بن سعيد به .
ورواه الشافعي في الأم - في الموضعين عقب روايته عن مالك - عن سفيان بن عيينة عن يحيى ابن سعيد .
ورواه ابن سعد في الطبقات 8 : 326 في ترجمة " حبيبة " - عن يزيد بن هرون عن يحيى بن سعيد عن عمرة : " أن حبيبة بنت سهل . . . " فذكره مرسلا .
ثم رواه عن عارم بن الفضل عن حماد بن زيد عن يحيى بن سعيد - فذكره معضلا حذف منه التابعية والصحابية وقد تبين من الروايات السابقة أن هذا والذي قبله متصلان على ما في ظاهرهما من الانقطاع . وذكره متصلا ابن كثير 1 : 541 والسيوطي 1 : 280 .

(4/555)


4810 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا يحيى بن واضح قال ، حدثنا الحسن بن واقد ، عن ثابت ، عن عبد الله بن رباح ، عن جميلة بنت أبي ابن سلول ، أنها كانت عند ثابت بن قيس فنشزت عليه ، فأرسل إليها النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال : " يا جميلة ، ما كرهت من ثابت ؟ قالت : والله ما كرهت منه دينا ولا خلقا ، إلا أني كرهت دمامته! فقال لها : أتردين الحديقة " قالت : نعم! فردت الحديقة وفرق بينهما. (1)
* * *
قال أبو جعفر : وقد ذكر أن هذه الآية نزلت في شأنهما - أعني في شأن ثابت بن قيس وزوجته هذه.
__________
(1) الحديث : 4810 - يحيى بن واضح : هو أبو تميلة مضت ترجمته في : 392 .
الحسين بن واقد المروزي قاضي مرو : ثقة وثقه ابن معين وأثنى عليه أحمد . وقال فيه ابن المبارك : " ومن لنا مثل الحسين " . ووقع في المطبوعة " الحسن " وهو خطأ بين . ثابت : هو البناني .
عبد الله بن رباح الأنصاري : تابعي ثقة ، وثقه ابن سعد والنسائي وغيرهما وقال ابن خراش : " وهو رجل جليل " .
وهذا الإسناد صحيح . ولم أجده إلا عند الطبري هنا وعند ابن عبد البر في الاستيعاب فرواه ابن عبد البر ص : 732 - 733 عن عبد الوارث بن سفيان عن قاسم بن أصبغ عن أحمد بن زهير عن محمد بن حميد الرازي - شيخ الطبري هنا - بهذا الإسناد .
وقد تبين من هذه الأحاديث الأربعة : 4807 - 4810 ومن غيرها من الروايات الصحيحة - الاختلاف فيمن اختلعت من ثابت بن قيس بن شماس : أهي جميلة بنت عبد الله بن أبي سلول أم حبيبة بنت سهل ؟ فالراجح أنهما كلتاهما اختلعتا منه . وهو الذي رجحه الحافظ في الفتح 9 : 350 وارتضاه . قال : " والذي يظهر أنهما قصتان وقعتا لامرأتين . لشهرة الخبرين وصحة الطريقين واختلاف السياقين " .
وانظر الإصابة 8 : 39 - 40 ، 42 ، 49 .

(4/556)


4811 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثنا حجاج ، عن ابن جريج قال ، نزلت هذه الآية في ثابت بن قيس وفي حبيبة قال ، وكانت اشتكته إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : تردين عليه حديقته ؟ فقالت : نعم! فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له ، فقال : ويطيب لي ذلك ؟ قال : " نعم " ، قال ثابت : قد فعلت فنزلت : " ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله فإن خفتم ألا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به تلك حدود الله فلا تعتدوها " .
* * *
وأما أهل التأويل فإنهم اختلفوا في معنى " الخوف " منهما أن لا يقيما حدود الله.
فقال بعضهم : ذلك هو أن يظهر من المرأة سوء الخلق والعشرة لزوجها ، فإذا ظهر ذلك منها له ، حل له أن يأخذ ما أعطته من فدية على فراقها.
* ذكر من قال ذلك :
4812 - حدثني علي بن داود قال ، حدثنا أبو صالح قال ، حدثني معاوية ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : " ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا " ، إلا أن يكون النشوز وسوء الخلق من قبلها ، فتدعوك إلى أن تفتدي منك ، فلا جناح عليك فيما افتدت به.
4813 - حدثني يعقوب قال ، حدثنا ابن علية قال ، قال ابن جريح : أخبرني هشام بن عروة أن عروة كان يقول : لا يحل الفداء حتى يكون الفساد من قبلها ، ولم يكن يقول : " لا يحل له " ، حتى تقول : " لا أبر لك قسما ، ولا اغتسل لك من جنابة " .
4814 - حدثني يعقوب قال ، حدثنا ابن علية ، عن ابن جريج قال ،

(4/557)


أخبرني عمرو بن دينار قال ، قال جابر بن زيد : إذا كان الشر من قبلها حل الفداء. (1)
4815 - حدثنا الربيع بن سليمان قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، حدثني ابن أبي الزناد ، عن هشام بن عروة أن أباه كان يقول إذا كان سوء الخلق وسوء العشرة من قبل المرأة فذاك يحل خلعها .
4816 - حدثني علي بن سهل قال ، حدثنا محمد بن كثير ، عن حماد ، عن هشام ، عن أبيه أنه قال : لا يصلح الخلع ، حتى يكون الفساد من قبل المرأة .
4817 - حدثنا عبد الحميد بن بيان القناد قال ، حدثنا محمد بن يزيد ، عن إسماعيل ، عن عامر في امرأة قالت لزوجها : لا أبر لك قسما ، ولا أطيع لك أمرا ، ولا أغتسل لك من جنابة! قال : ما هذا - وحرك يده - " لا أبر لك قسما ، ولا أطيع لك أمرا " !! إذا كرهت المرأة زوجها فليأخذه وليتركها .
4818 - حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا عبد الوهاب قال ، حدثنا أيوب ، عن سعيد بن جبير أنه قال في المختلعة : يعظها ، فإن انتهت وإلا هجرها ، فإن انتهت وإلا ضربها ، فإن انتهت وإلا رفع أمرها إلى السلطان ، فيبعث حكما من أهله وحكما من أهلها ، فيقول الحكم الذي من أهلها : تفعل بها كذا وتفعل بها كذا! ويقول الحكم الذي من أهله : تفعل به كذا وتفعل به كذا. فأيهما كان أظلم رده السلطان وأخذ فوق يده ، وإن كانت ناشزا أمره أن يخلع .
4819 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع في قوله : " الطلاق مرتان فإمساك بمعروف " إلى قوله : " فلا جناح عليهما فيما افتدت به " . قال : إذا كانت المرأة راضية مغتبطة مطيعة ، فلا يحل له أن يضربها ، حتى تفتدي منه. فإن أخذ منها شيئا على ذلك ، فما أحذ منها فهو حرام ، وإذا كان النشوز والبغض والظلم من قبلها ، فقد حل له أن يأخذ منها ما افتدت به .
__________
(1) في المطبوعة : " إذا كان النشز " كأنه ظنه مصدر " نشز " ولكن المصدر " نشوز " لا غير وهذا وهم من الطابع . أما المخطوطة ففيها ما أثبته وهو الصواب المحض .

(4/558)


4820 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر ، عن الزهري في قوله : " ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله " ، قال : لا يحل للرجل أن يخلع امرأته إلا أن تؤتى ذلك منها ، (1) فأما أن يكون يضارها حتى تختلع ، فإن ذلك لا يصلح ، ولكن إذا نشزت فأظهرت له البغضاء ، وأساءت عشرته ، فقد حل له خلعها .
4821 - حدثنا يحيى بن أبي طالب قال ، حدثنا يزيد قال ، أخبرنا جويبر ، عن الضحاك في قوله : " ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا " ، قال : الصداق " إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله " - وحدود الله أن تكون المرأة ناشزة ، فإن الله أمر الزوج أن يعظها بكتاب الله ، فإن قبلت وإلا هجرها ، والهجران أن لا يجامعها ولا يضاجعها على فراش واحد ، ويوليها ظهره ولا يكلمها ، فإن أبت غلظ عليها القول بالشتيمة لترجع إلى طاعته ، (2) فإن أبت فالضرب ضرب غير مبرح ، فإن أبت إلا جماحا فقد حل له منها الفدية .
* * *
وقال آخرون : بل " الخوف " من ذلك : أن لا تبر له قسما ، ولا تطيع له أمرا ، وتقول : لا أغتسل لك من جنابة ، ولا أطيع لك أمرا فحينئذ يحل له عندهم أخذ ما آتاها على فراقه إياها.
* ذكر من قال ذلك :
4822 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا المعتمر بن سليمان ، عن أبيه قال ، قال الحسن : إذا قالت : " لا أغتسل لك من جنابة ، ولا أبر لك قسما ، ولا أطيع لك أمرا " ، فحينئذ حل الخلع .
4823 - حدثنا محمد بن بشار قال ، حدثنا عبد الأعلى قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة ، عن الحسن قال ، إذا قالت المرأة لزوجها : لا أبر لك قسما ، ولا أطيع
__________
(1) في المطبوعة : إلا أن يرى ذلك " وهي لا شيء . وفي المخطوطة : " إلا أن لك لوني " غير منقوطة وهذا صواب قراءتها إن شاء الله .
(2) في المطبوعة : " غلظ عليها " والجيد من المخطوطة ما أثبته .

(4/559)


لك أمرا ، ولا أغتسل لك من جنابة ، ولا أقيم حدا من حدود الله " ، فقد حل له مالها .
4824 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا هارون بن المغيرة ، عن عنبسة ، عن محمد بن سالم قال ، سألت الشعبي ، قلت : متى يحل للرجل أن يأخذ من مال امرأته ؟ قال : إذا أظهرت بغضه وقالت : " لا أبر لك قسما ، ولا أطيع لك أمرا " .
4825 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا جرير ، عن مغيرة ، عن الشعبي أنه كان يعجب من قول من يقول : لا تحل الفدية حتى تقول : " لا أغتسل لك من جنابة " . وقال : إن الزاني يزني ثم يغتسل ! .
4826 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا جرير ، عن مغيرة ، عن حماد ، عن إبراهيم في الناشز قال ، إن المرأة ربما عصت زوجها ، ثم أطاعته ، ولكن إذا عصته فلم تبر قسمه ، فعند ذلك تحل الفدية .
4827 - حدثني موسى قال ، (1) حدثنا عمرو قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : " ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا " ، لا يحل له أن يأخذ من مهرها شيئا " إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله " ، فإذا لم يقيما حدود الله ، فقد حل له الفداء ، وذلك أن تقول : " والله لا أبر لك قسما ، ولا أطيع لك أمرا ، ولا أكرم لك نفسا ، ولا أغتسل لك من جنابة " ، فهو حدود الله ، فإذا قالت المرأة ذلك فقد حل الفداء للزوج أن يأخذه ويطلقها .
4828 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا حكام قال ، حدثنا عنبسة ، عن علي بن بذيمة ، عن مقسم في قوله : ( ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن إلا أن يفحشن ) [سورة النساء : 19] ، في قراءة ابن مسعود ، قال إذا عصتك وآذتك ، فقد حل لك ما أخذت منها. (2)
__________
(1) في المطبوعة : " حدثني يونس " وهو خطأ محض والصواب من المخطوطة وهو مع ذلك إسناد دائر في التفسير لا يختلف عليه .
(2) الأثر : 4828 - سيأتي هذا الأثر بنصه وإسناده في تفسير سورة النساء 4 : 212 (بولاق) وقد كان في المخطوطة والمطبوعة هنا " . . . ببعض ما آتيتموهن يقول إلا أن يفحش " وزيادة " يقول " من النساخ والصواب من ذلك الموضع من تفسير آية النساء . وسيأتي هناك : " إذ عضلتك وآذتك " والصواب ما هنا .

(4/560)


4829 - حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد في قوله : " ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا " ، قال : الخلع ، قال : ولا يحل له إلا أن تقول المرأة : " لا أبر قسمه ولا أطيع أمره " ، فيقبله خيفة أن يسيء إليها إن أمسكها ، ويتعدى الحق. (1)
* * *
وقال آخرون : بل " الخوف " من ذلك أن تبتدئ له بلسانها قولا أنها له كارهة. (2)
* ذكر من قال ذلك :
4830 - حدثنا محمد بن عبد الله بن عبد الحكم المصري ، قال : حدثنا أبي وشعيب بن الليث ، عن الليث ، عن أيوب بن موسى ، عن عطاء بن أبي رباح ، قال : يحل الخلع أن تقول المرأة لزوجها : " إني لأكرهك ، وما أحبك ، ولقد خشيت أن أنام في جنبك ولا أؤدي حقك " - وتطيب نفسا بالخلع. (3)
* * *
وقال آخرون : بل الذي يبيح له أخذ الفدية ، أن يكون خوف أن لا يقيما حدود الله منهما جميعا لكراهة كل واحد منهما صحبة الآخر.
* ذكر من قال ذلك :
4831 - حدثنا حميد بن مسعدة قال : حدثنا بشر بن المفضل قال : حدثنا داود ، عن عامر حدثني يعقوب ، قال : حدثنا ابن علية ، عن داود ، قال : قال
__________
(1) في المطبوعة : " أو يتعدى الحق " والصواب من المخطوطة .
(2) في المطبوعة : " أن تبتذله بلسانها " جعل مكان " تبتدئ له " " تبتذله " كأن الناسخ أدمج الكلمتين وأخرج منهما كلمة واحدة . وفي المخطوطة : " سرى " غير منقوطة ولو قرئت : " تنبري " لكان صوابا أيضًا .
(3) في المطبوعة : " وتطيب نفسك " خطأ صرف والصواب من المخطوطة . ويعني أن تقول المرأة ذلك للرجل ثم تطيب هي نفسا بالخلع .

(4/561)


عامر : أحل له مالها بنشوزه ونشوزها .
4832 - حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا ابن علية ، قال : قال ابن جريج ، قال طاوس : يحل له الفداء ما قال الله تعالى ذكره ، ولم يكن يقول قول السفهاء : " لا أبر لك قسما " ، ولكن يحل له الفداء ما قال الله تعالى ذكره : " إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله " ، فيما افترض لكل واحد منهما على صاحبه في العشرة والصحبة .
4833 - حدثني يعقوب ، قال : حدثنا ابن علية ، عن محمد بن إسحاق ، قال : سمعت القاسم بن محمد يقول : " إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله " قال : فيما افترض الله عليهما في العشرة والصحبة .
4834 - حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : حدثني الليث ، قال : حدثني ابن شهاب ، قال : أخبرني سعيد بن المسيب ، قال : لا يحل الخلع حتى يخافا أن لا يقيما حدود الله في العشرة التي بينهما .
* * *
قال أبو جعفر : وأولى هذه الأقوال بالصحة قول من قال : لا يحل للرجل أخذ الفدية من امرأته على فراقه إياها ، حتى يكون خوف معصية الله من كل واحد منهما على نفسه - في تفريطه في الواجب عليه لصاحبه - منهما جميعا ، على ما ذكرناه عن طاوس والحسن ، ومن قال في ذلك قولهما; لأن الله تعالى ذكره إنما أباح للزوج أخذ الفدية من امرأته ، عند خوف المسلمين عليهما أن لا يقيما حدود الله.
* * *
فإن قال قائل : فإن كان الأمر على ما وصفت فالواجب أن يكون حراما على الرجل قبول الفدية منها إذا كان النشوز منها دونه ، حتى يكون منه من الكراهة لها مثل الذي يكون منها ؟ (1)
__________
(1) في المطبوعة : " منها له " بزيادة " له " وأثبت ما في المخطوطة .

(4/562)


قيل له : إن الأمر في ذلك بخلاف ما ظننت ، وذلك أن في نشوزها عليه داعية له إلى التقصير في واجبها ومجازاتها بسوء فعلها به ، وذلك هو المعنى الذي يوجب للمسلمين الخوف عليهما أن لا يقيما حدود الله. فأما إذا كان التفريط من كل واحد منهما في واجب حق صاحبه قد وجد وسوء الصحبة والعشرة قد ظهر للمسلمين ، فليس هناك للخوف موضع ، إذ كان المخوف قد وجد. وإنما يخاف وقوع الشيء قبل حدوثه ، فأما بعد حدوثه فلا وجه للخوف منه ولا الزيادة في مكروهه. (1)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { فَإِنْ خِفْتُمْ أَلا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ }
قال أبو جعفر : اختلف أهل التأويل في تأويل قوله تعالى : " فإن خفتم ألا يقيما حدود الله " - التي إذا خيف من الزوج والمرأة أن لا يقيماها ، حلت له الفدية من أجل الخوف عليهما تضييعها. (2) فقال بعضهم : هو استخفاف المرأة بحق زوجها وسوء طاعتها إياه ، وأذاها له بالكلام.
* ذكر من قال ذلك :
4835 - حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : حدثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس : " فإن خفتم ألا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به " قال : هو تركها إقامة حدود الله ، واستخفافها بحق
__________
(1) هذا من الفهم والبصر بطبائع البشر ، قد علم الله أبا جعفر كيف يقول في تفسير الكتاب وكيف ينتزع الحجة على الصواب من كل وجه يكون البيان عنه دقيقا عسيرا على من لم يوقفه الله لفهمه وإدراكه .
(2) في المطبوعة : " بصنيعها " وهو كلام فاسد بلا معنى مفهوم . وكان في المخطوطة " بصنيعها " غير منقوطة فقرأها من قرأها بلا روية . وقوله " تضييعها " مفعول به للمصدر وهو " الخوف " والمعنى من أجل الخوف عليهما أن يضيعا حدود الله .

(4/563)


زوجها ، (1) وسوء خلقها ، فتقول له : " والله لا أبر لك قسما ، ولا أطأ لك مضجعا ، ولا أطيع لك أمرا " ، فإن فعلت ذلك فقد حل له منها الفدية .
4836 - حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا أبى بن أبي زائدة ، عن يزيد بن إبراهيم ، عن الحسن في قوله : " فإن خفتم ألا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به " قال : إذا قالت : " لا اغتسل لك من جنابة " ، حل له أن يأخذ منها. (2)
4837 - حدثني المثنى ، قال : حدثنا حبان بن موسى ، قال : أخبرنا ابن المبارك ، قال : حدثنا يونس ، عن الزهري قال : يحل الخلع حين يخافا أن لا يقيما حدود الله ، وأداء حدود الله في العشرة التي بينهما .
* * *
وقال آخرون : معنى ذلك : فإن خفتم أن لا يطيعا الله.
* ذكر من قال ذلك :
4838 - حدثنا سفيان بن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن إسرائيل ، عن عامر : " فإن خفتم ألا يقيما حدود الله " قال : أن لا يطيعا الله.
4839 - حدثني محمد بن سعد ، قال : حدثني أبي ، قال : حدثني عمي ، قال : حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قال : الحدود : الطاعة.
* * *
قال أبو جعفر : والصواب من القول في ذلك : فإن خفتم ألا يقيما حدود الله ما
__________
(1) في المطبوعة : " واستخفافها . . ز " بزيادة " الواو " والصواب من المخطوطة وهو تفسير لقوله : " تركها إقامة حدود الله " كأن عاد فقال : " وتركها إقامة حدود الله استخفافها . . . "
(2) الأثر : 4831 - " يزيد بن إبراهيم التستري " أبو سعيد البصري التميمي روى عن الحسن وابن سيرين . وابن أبي مليكة وعطاء وقتادة وغيرهم . وروى عنه وكيع وبهز بن أسد وعبد الرحمن ابن مهدي وأبو داود الطيالسي وغيرهم وهو ثقة ثبت من أوسط أصحاب الحسن وابن سيرين . مات سنة 161 .

(4/564)


أوجب الله عليهما من الفرائض ، (1) فيما ألزم كل واحد منهما من الحق لصاحبه ، من العشرة بالمعروف ، والصحبة بالجميل ، فلا جناح عليهما فيما افتدت به.
وقد يدخل في ذلك ما رويناه عن ابن عباس والشعبي ، وما رويناه عن الحسن والزهري ، لأن من الواجب للزوج على المرأة - إطاعته فيما أوجب الله طاعته فيه ، (2) وأن لا تؤذيه بقول ، (3) ولا تؤذيه بقول (4) ، تمتنع عليه إذا دعاها لحاجته ، فإذا خالفت ما أمرها الله به من ذلك كانت قد ضيعت حدود الله التي أمرها بإقامتها. (5)
* * *
وأما معنى " إقامة حدود الله " ، فإنه العمل بها ، والمخالفة عليها ، وترك تضييعها - وقد بينا ذلك فيما مضى قبل من كتابنا هذا بما يدل على صحته. (6)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ }
قال أبو جعفر : يعني قوله تعالى ذكره بذلك : فإن خفتم أيها المؤمنون ألا يقيم الزوجان ما حد الله لكل واحد منهما على صاحبه من حق ، وألزمه له من فرض ، وخشيتم عليهما تضييع فرض الله وتعدي حدوده في ذلك فلا جناح حينئذ عليهما فيما افتدت به المرأة نفسها من زوجها ، ولا حرج عليهما فيما أعطت هذه على
__________
(1) في المطبوعة : " فإن خفتم أن لا يقيما حدود الله ما اوجب " بزيادة " حدود الله " بين شقي الكلام والصواب من المخطوطة .
(2) في المطبوعة : " . . . على المرأة إطاعته " وهو تغيير لا موجب له ، وأثبت ما في المخطوطة .
(3) في المطبوعة : " وأن لا تؤذيه بقول " ، بزيادة " أن " ليستقيم لهم ما درجوا عليه من العبارة . وأبو جعفر يحسن أن يبين عن نفسه .
(4) الأثر 5919 " محمد بن محمد العطار " ، لعله محمد بن محمد بن عمر بن الحكم يعرف بابن العطار ترجم له الخطيب في تاريخه 3 : 203 ، 204 مات سنة 268. هذا إذا لم يكن في اسمه تحريف ويكون هو " محمد بن مخلد العطار " مترجم في تاريخ بغداد 3 : 30 . و " أحمد " هو : أحمد بن إسحاق الأهوازي شيخ الطبري ، مضت ترجمته في رقم : 177 ، 1841 أو لعله أحمد بن يوسف التغلبي ، كما سيأتي في رقم : 5954 وهو الأرجح عندي . " وأبو وائل " هو " أبو وائل القاص المرادي الصنعاني اليماني " روى عن هانئ مولى عثمان . مترجم في الكبير 4 / 2 452 . ويقال هو نفسه " عبد الله بن بحير الصنعاني القاص " ، روى عن هانئ أيضًا مترجم في ابن أبي حاتم 2 / 2 / 15 ، والتهذيب . وهذا الأثر في الدر المنثور 1 : 323 .
(5) في المطبوعة : " . . . أمرها بإدامتها " ثم " أما معنى إدامة حدود الله " وهو خطأ ظاهر في هذا الموضع .
(6) انظر ما سلف في تفسير " إقامة الصلاة " 1 : 241 ، و " حدود الله " 3 : 546 ، 547

(4/565)


فراق زوجها إياها (1) ولا على هذا فيما أخذ منها من الجعل والعوض عليه. (2)
* * *
فإن قال قائل : وهل كانت المرأة حرجة لو كان الضرار من الرجل بها فيما افتدت به نفسها ، (3) فيكون " لا جناح عليهما " فيما أعطته من الفدية على فراقها (4) إذا كان النشوز من قبلها. (5)
قيل : لو علمت في حال ضراره بها ليأخذ منها ما آتاها أن ضراره ذلك إنما هو ليأخذ منها ما حرم الله عليه أخذه على الوجه الذي نهاه الله عن أخذه منها ، ثم قدرت أن تمتنع من إعطائه بما لا ضرر عليها في نفس ، ولا دين ، ولا حق عليها في ذهاب حق لها - لما حل لها إعطاؤه ذلك ، إلا على وجه طيب النفس منها بإعطائه إياه على ما يحل له أخذه منها. لأنها متى أعطته ما لا يحل له أخذه منها ، وهي قادرة على منعه ذلك بما لا ضرر عليها في نفس ، ولا دين ، ولا في حق لها تخاف ذهابه ، فقد شاركته في الإثم بإعطائه ما لا يحل له أخذه منها على الوجه الذي أعطته
__________
(1) في المخطوطة : " على موافق زوجها إياها " كلمة غير منقوطة ولا مقروءة كأنها كانت " على مفارقة " ثم أفسدها ناسخ . والذي في المطبوعة جيد أيضًا .
(2) انظر ما سلف في تفسير " الجناح " بالإثم والحرج 3 : 230 ، 231/ وهذا الجزء 4 : 162 ، 163
(3) في المخطوطة والمطبوعة : " حتى افتدت " وهو لا يستقيم والذي يدل عليه سياق الآية وسياق الكلام أن تكون " فيما افتدت " . كما أثبت وسياق الكلام : " وهل كانت المرأة حرجة . . . فيما افتدت به نفسها " " لو كان الضرار من الرجل بها " .
وأما قوله : " حرجة " فهي : آثمة . وقد مضى آنفًا ما علقته على استعمال أبي جعفر والباقلاني هذه الصفة وأنها صواب وإن عدها أهل اللغة خطأ انظر ما سلف 2 : 423 تعليق : 1/ ثم هذا الجزء 4 : 224 تعليق 1/ ثم أيضًا ص : 475 تعليق 2/ ثم ما سيأتي في هذه الصفحة والصفحات التالية .
(4) في المطبوعة : " فيكون لا جناح عليها " بإفراد الضمير في " عليها " وهو خطأ مفسد لمعنى الكلام كما سيتبين ذلك في شرح السؤال في التعليق التالي . والصواب من المخطوطة .
(5) رحم الله أبا جعفر : لشد ما وثق بتتبع كان قارئ لكل ما يقول حتى إنه ليغمض أحيانا إغماضا يشق على المرء إذا لم يتتبع آثاره في النظر والتفكير . وهذا الاعتراض الذي ساقه في صيغة سؤال محتاج إلى بيان يكشف عن معناه وعن معنى جوابه إن شاء الله .
فهذا السؤال مبني على سؤال آخر وهو : كيف قيل : " لا جناح عليهما " بالتثنية و " الجناح " على الرجل وحده في أخذه شيئا مما آتى امرأته من مهر أو صداق . " فهذا الجناح " هو إتيانه ما حرم الله عليه إتيانه من الأخذ فكيف جمع بينهما في وضع " الجناح " والجناح على أحدهما دون الآخر ؟
ولا يجوز ان يجمع بينهما في وضع " الجناح " وإسقاطه حتى يكون على المرأة " جناح " في الإعطاء كجناح الرجل في الأخذ . فإذا صح أنه محرم على المرأة إعطاء زوجها في حال من الأحوال صح عندئذ أن يجمع بينهما في وضع " الجناح " فيقال : " فلا جناح عليهما " في الأخذ والإعطاء .
فمن أجل ذلك سأل هذا السائل عن المرأة إذا أعطت زوجها من مالها في الحال التي يكون ضرار الرجل فيها داعية إلى " الإعطاء " أتكون آثمة بإعطائها ما أعطت أم غير آثمة ؟ فإذا صح أنها آثمة بالإعطاء في حال ضرار الرجل بها ، جاز عندئذ أن يجمع بينهما فيقال في حال نشوزها : " لا جناح عليهما " في الأخذ والإعطاء . * * *
هذا ولم أجد أحدا تناول هذا السؤال بالتفصيل والبيان كما تناوله أبو جعفر . وقد سأل مثل هذا السؤال أو قريبا منه الفراء في معاني القرآن 1 : 147 وأجاب عنه بجواب سيرده الطبري فيما بعد . وتناوله الشافعي مختصرا من وجه آخر في الأم 5 : 179 ولكن جوابه عنه غير واضح ولا محكم أما الطبري فقد انفرد بها الاستقصاء الدقيق لوجوه الفدية وإثم الرجل في الأخذ وإثم المرأة في الإعطاء .

(4/566)


عليه. فلذلك وضع عنها الجناح إذا كان النشوز من قبلها ، (1) وأعطته ما أعطته من الفدية بطيب نفس ، ابتغاء منها بذلك سلامتها وسلامة صاحبها من الوزر والمأثم.
وهي إذا أعطته على هذا الوجه باستحقاق الأجر والثواب من الله تعالى أولى إن شاء الله من الجناح والحرج ، (2) ولذلك قال تعالى ذكره : " فلا جناح عليهما " فوضع الحرج عنها فيما أعطته على هذا الوجه من الفدية على فراقه إياها ، وعنه فيما قبض منها إذ كانت معطية على المعنى الذي وصفنا ، وكان قابضا منها ما أعطته من غير ضرار ، بل طلب السلامة لنفسه ولها في أديانهما وحذار الأوزار والمأثم. (3)
وقد يتجه قوله : " فلا جناح عليهما " وجها آخر من التأويل وهو أنها لو بذلت ما بذلت من الفدية على غير الوجه الذي أذن نبي الله صلى الله عليه وسلم لامرأة ثابت بن قيس بن شماس وذلك لكراهتها أخلاق زوجها ، أو دمامة خلقه ، وما أشبه ذلك من الأمور التي يكرهها الناس بعضهم من بعض - ولكن على الانصراف
__________
(1) في المطبوعة : " فكذلك وضع الجناح " وهو خطأ والصواب من المخطوطة .
(2) سياق عبارته " وهي . . . باستحقاق الأجر . . . أولى من الجناح والحرج " .
(3) في المخطوطة : " طلب السلامة لنفسه ولها في أورالها " غير معجمة ولا بينة المعنى وتركت ما في المطبوعة لأنه مطابق للسياق .

(4/567)


منها بوجهها إلى آخر غيره على وجه الفساد وما لا يحل لها - كان حراما عليها أن تعطي على مسألتها إياه فراقها على ذلك الوجه شيئا ، لأن مسألتها إياه الفرقة على ذلك الوجه معصية منها. (1) وتلك هي المختلعة - إن خولعت على ذلك الوجه - التي روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سماها " منافقة " ، كما :
4840 - حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثني المعتمر بن سليمان ، عن ليث ، عن أبي إدريس ، عن ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " أيما امرأة سألت زوجها الطلاق من غير بأس ، حرم الله عليها رائحة الجنة " . (2)
وقال : " المختلعات هن المنافقات "
4841 - حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا مزاحم بن دواد بن علية ، عن أبيه ، عن ليث بن أبي سليم ، عن أبي الخطاب عن أبي زرعة ، عن أبي إدريس ، عن ثوبان مولى رسول الله ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : والمختلعات هن المنافقات " (3)
4842 - حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا حفص بن بشر ، قال : حدثنا قيس بن الربيع ، عن أشعث بن سوار ، عن الحسن ، عن ثابت بن يزيد ، عن عقبة
__________
(1) في المطبوعة : " معصية منها لله " بالزيادة وأثبت ما في المخطوطة .
(2) الحديث : 4840 - ليث : هو ابن أبي سليم . أبو إدريس : هو الخولاني عائذ الله ابن عبد الله ثقة من كبار التابعين القدماء الفقهاء . وليث لم يسمع هذا الحديث منه ، كما يظهر من الإسناد التالي لهذا بينهما روايان .
والحديث في حقيقته حديثان وسيأتي تخريج كل منهما .
(3) الحديث : 4841 - مزاحم بن ذواد بن علبة : حسن الحديث على الأقل . بل هو ثقة . قال أبو حاتم : " يكتب حديثه ولا يحتج به " وقال النسائي : " لا بأس به " وترجمه البخاري في الكبير 4/2/23 فلم يذكر فيه جرحا .
أبوه " ذاود بن علبة " : مضت ترجمته في شرح : 851 .
أبو الخطاب : ترجمه ابن أبي حاتم 4/2/365 وسأل أباه عنه ، فقال : " هو مجهول " . وسأل أبو زرعة فقال : " لا أعرفه " وذكره البخاري في الكنى رقم : 220 ولم يذكر فيه جرحا فهو حسن الحديث على الأقل .
أبو زرعة : رجح الحافظ في التهذيب في ترجمة أبي الخطاب 12 : 86 - 87 أنه " أبو زرعة بن عمرو بن جرير " التابعي الثقة - تبعا لابن مندة وابن عبد البر وذكر أنهما تبعا في ذلك ابن أبي حاتم إذ قال في ترجمة أبي الخطاب أنه " روى عن أبي زرعة بن عمرو بن جرير " . وحقا قد قال ذلك ابن أبي حاتم ولكن سها الحافظ عن أنه تراجع عن ذلك في ترجمة " أبي زرعة " فقط دون نسب 4/2/374 فذكر أنه روى عن أبي إدريس عن ثوبان وانه روى عنه أبو الخطاب . وذكر أنه سأل أباه : " من أبو زرعة هذا ؟ فقال : مجهول " وقد ذكره البخاري في الكنى رقم : 283 ولم يذكر فيه جرحا أيضًا .
والحديث رواه الترمذي 2 : 216 - 217 عن أبي كريب شيخ الطبري هنا - بهذا الإسناد .
ثم قال : " هذاحديث غريب من هذا الوجه . وليس إسناده بالقوي " .
وانظر الحديثين الآتيين : 4843 ، 4844 .

(4/568)


بن عامر الجهني ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن المختلعات المنتزعات هن المنافقات. (1)
4843 - حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الوهاب وحدثني يعقوب ، قال : حدثنا ابن علية قالا جميعا : حدثنا أيوب ، عن أبي قلابة ، عمن حدثه ، عن ثوبان :
__________
(1) الحديث : 4842 - حفص بن بشر : لم أجد له ترجمة إلا في ابن أبي حاتم 1/2/170 قال : " روى عن يعقوب القمي روى عنه أبو كريب " . ولم يذكر فيه جرحا .
قيس بن الربيع الأسدي الكوفي : مختلف فيه ، ورجحنا توثيقه في المسند : 661 ، 7115 . وقد وثقه الثوري وشعبة وغيرهما . الحسن : هو البصري .
ثابت بن يزيد : هكذا هو هنا وفي ابن كثير نقلا عن الطبري . ولم أستطع أن أجزم بشيء فيه ، فليس في رجال الكتب الستة من يسمى بهذا في هذه الطبقة طبقة التابعين الذين يروى عنهم مثل الحسن البصري .
وهناك " ثابت بن يزيد الخولاني " : ترجمه البخاري في الكبير 1/2/172 وابن أبي حاتم 1/1/459 - 460 . وهو يروي عن ابن عمر وقال بعضهم " عن ابن عمه عن ابن عمر " . وهو الصحيح فهذا متأخر قليلا . ومن المحتمل أن يكون هو الذي هنا . فقد ترجمه الحافظ في لسان الميزان 2 : 80 ووصفه بأنه " المصري " وذكر أنه روى عن أبي هريرة وعن ابن عباس . وأنه ذكره ابن حبان في الثقات . ومن المعروف أن عقبة بن عامر ولى إمرة مصر سنة 44 - 47 من قبل معاوية وعاش بها إلى أن مات ودفن بالمقطم رضي الله عنه وأرخ موته سنة 58 . فهو مقارب لوفاة أبي هريرة وابن عباس .
وهناك آخر لم يذكر نسبه . ترجم باسم " ثابت الطائفي " - عند البخاري 1/2/165 وابن أبي حاتم 1/1/461 . وذكر كلاهما أنه " رأى جابر بن عبد الله أتى عقبة بن عامر " فسأله عن حديث .
والحديث نقله ابن كثير 1 : 540 عن الطبري ، ولم ينسبه لغيره . وقال : " غريب من هذا الوجه ضعيف " . وذكره السيوطي أيضًا 1 : 283 ولم ينسبه لغير الطبري .
وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد ج5 ص5 ، وقال : " رواه الطبراني . وفيه قيس بن الربيع وثقه الثوري وشعبة وفيه ضعف . وبقية رجاله رجال الصحيح " . هكذا قال! ولا أدري أخطأ هو أم صواب ؟ فإن كان إسناد الطبراني فوق قيس بن الربيع كإسناد الطبري - كان خطأ غريبا . فإن ثابت ابن يزيد لم نعرف من هو كما ترى! وليس في رجال الصحيح بهذا الاسم إلا " ثابت بن يزيد الأحول " روى له أصحاب الكتب الستة ، ولكنه متأخر جدا عن هذه الطبقة ، مات سنة 169 . أي بعد عقبة بن عامر بأكثر من مائة سنة وعشر سنين وبعد الحسن البصري بنحو ستين سنة .
وقوله " المنتزعات " : الظاهر أن معناها معنى " المختلعات " : كأنها تنتزع نفسها من عقد الزواج ومن سلطان الزوج عليها . وهذا الحرف ثابت هكذا في جميع المراجع لهذا الحديث ، إلا مخطوطة الطبري ففيها " المتبرعات " ! ولا معنى لها في هذا السياق ، فهي تصحيف .
وهناك حديث في هذا المعنى فيه حرف قريب من هذا : رواه أبو نعيم في الحلية 8 : 375 - 376 ، من طريق محمد بن هارون الحضرمي - أبي حامد - عن الحسين بن علي بن الأسود العجلي عن وكيع عن الثوري عن الأعمش عن أبي وائل عن عبد الله - هو ابن مسعود - مرفوعا : " المختلعات والمتبرجات هن المنافقات " . فهذا الحرف " المتبرجات " لعله محرف عن " المنتزعات " فإني لا أثق بتصحيح طبعة كتاب الحلية . وقد وقع في إسناد الحديث نفسه فيها خطأ آخر ، ثبت فيه " حدثنا فليح " بدل " حدثنا وكيع " ! في حين أن كلام أبي نعيم عقبه يدل على الصواب ، إذ قال : " غريب من حديث الأعمش والثوري ، تفرد به وكيع " .
وهذا الحديث نفسه - أعني حديث ابن مسعود - رواه الخطيب في تاريخ بغداد 3 : 358 في ترجمة " أبي حامد محمد بن هارون " - من طريق الدارقطني عن محمد بن هارون عن حسين بن علي بن الأسود ، عن وكيع - بهذا الإسناد مرفوعا : " المختلعات هن المنافقات " . بدون ذكر " المتبرجات " وقال الخطيب : " قال لي الحسن : قال الدارقطني : ما حدث به غير أبي حامد " .
وأصح من هذه الروايات كلها ما رواه أحمد في المسند : 9347 (2 : 414 حلبي) من حديث الحسن عن أبي هريره . مرفوعا : " المختلعات والمنتزعات هن المنافقات " . وهو حديث صحيح بينا صحته وفصلنا القول في تخريجه في المسند في شرح الحديث : 7138ج 12ص 114 - 116 .

(4/569)


أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : أيما امرأة سألت زوجها طلاقا من غير بأس ، فحرام عليها رائحة الجنة. (1)
4844 - حدثني المثنى ، قال : حدثنا عارم ، قال : حدثنا حماد بن زيد ،
__________
(1) الحديث : 4843 - هذا الإسناد فيه مجهول وقد تبين من الإسناد التالي أنه " أبو أسماء الرحبي " . وهكذا رواه أحمد في المسند 5 : 277 (حلبي) عن ابن عليه ، بهذا الإسناد وكذلك رواه الترمذي 2 : 217 عن محمد بن بشار عن عبد الوهاب الثقفي ، به . وهو الطريق الأول للطبري هنا في هذا الإسناد . وقال الترمذي : " هذا حديث حسن " .

(4/570)


عن أيوب ، عن أبي قلابة ، عن أبي أسماء الرحبي ، عن ثوبان ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم نحوه. (1)
* * *
فإذا كان من وجوه افتداء المرأة نفسها من زوجها ما تكون به حرجة ، وعليها في افتدائها نفسها على ذلك الحرج والجناح وكان من وجوهه ما يكون الحرج والجناح فيه على الرجل دون المرأة ومنه ما يكون عليهما ومنه ما لا يكون عليهما فيه حرج ولا جناح قيل في الوجه : الذي لا حرج عليهما فيه لا جناح ، (2) إذ كان فيما حاولا وقصدا من افتراقهما بالجعل الذي بذلته المرأة لزوجها : " لا جناح عليهما فيما افتدت به " من الوجه الذي أبيح لهما ، وذلك ، أن يخافا أن لا يقيما حدود الله بمقام كل واحد منهما على صاحبه.
* * *
قال أبو جعفر : وقد زعم بعض أهل العربية أن في ذلك وجهين : (3)
__________
(1) الحديث : 4844 - هذا إسناد صحيح . أبو أسماء الرحبي : هو عمرو بن مرثد الدمشقي وهو تابعي ثقة .
* والحديث رواه أحمد في المسند 5 : 283 (حلبي) عن عبد الرحمن - وهو ابن مهدي - عن حماد بن زيد .
* ورواه أبو داود : 2226 عن سليمان بن حرب وابن ماجه : 2055 ، من طريق محمد بن الفضل والحاكم 2 : 200 من طريق سليمان بن حرب والبيهقي 7 : 316 عن الحاكم من طريق ابن حرب - كلهم عن حماد بن زيد بهذا الإسناد . وقال الحاكم : " هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ، ولم يخرجاه " . ووافقه الذهبي .
* ورواه البيهقي أيضًا 7 : 316 من طريق موسى بن إسماعيل التبوذكي عن وهيب عن أيوب به . وهذا أيضًا إسناد صحيح .
* وذكره الحافظ في الفتح 9 : 354 وقال : " رواه أصحاب السنن وصححه ابن خزيمة وابن حبان " .
* وأشار إليه الترمذي عقب الإسناد السابق الذي فيه المبهم فقال : " ويروى هذا الحديث عن أيوب عن أبي قلابة ، عن أبي أسماء عن ثوبان " .
(2) في المطبوعة والمخطوطة : " لا جناح " بغير واو العطف والصواب ما أثبت .
(3) الذي زعم ذلك هو الفراء في معاني القرآن 1 : 147 - 148 . والذي ساقه الطبري مختصر مقاله الفراء .

(4/571)


أحدهما أن يكون مرادا به : فلا جناح على الرجل فيما افتدت به المرأة دون المرأة ، وإن كانا قد ذكرا جميعا كما قال في " سورة الرحمن " : ( يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ ) [سورة الرحمن : 22] وهما من الملح لا من العذب ، قال : ومثله.( فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا ) [سورة الكهف : 61] ، وإنما الناسي صاحب موسى وحده. قال : ومثله في الكلام أن تقول : " عندي دابتان أركبهما وأستقي عليهما " وإنما تركب إحداهما. وتستقي على الأخرى ، (1) وهذا من سعة العربية التي يحتج بسعتها في الكلام.
قالوا : والوجه الآخر أن يشتركا جميعا في أن لا يكون عليهما جناح ، إذ كانت تعطي ما قد نفي عن الزوج فيه الإثم. اشتركت فيه ، (2) لأنها إذا أعطت ما يطرح فيه المأثم ، احتاجت إلى مثل ذلك.
* * *
قال أبو جعفر : فلم يصب الصواب في واحد من الوجهين ، ولا في احتجاجه فيما احتج به من قوله : (3) ( يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ ) .
فأما قوله : " فلا جناح عليهما " فقد بينا وجه صوابه ، وسنبين وجه قوله : " يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان " في موضعه إذا أتينا عليه إن شاء الله تعالى. وإنما خطأنا قوله ذلك ، لأن الله تعالى ذكره قد أخبر عن وضعه الحرج عن الزوجين إذا افتدت المرأة من زوجها على ما أذن ، وأخبر عن البحرين أن منهما يخرج اللؤلؤ والمرجان ، فأضاف إلى اثنين. فلو جاز لقائل أن يقول : " إنما أريد به الخبر عن أحدهما ، فيما لم يكن مستحيلا أن يكون عنهما " ، جاز في كل خبر كان عن اثنين - غير مستحيلة صحته أن يكون عنهما - أن يقال : " إنما هو خبر عن أحدهما " .
__________
(1) في المطبوعة : " وأسقى . . . وتسقى " والصواب من المخطوطة ومعاني القرآن للفراء .
(2) في معاني القرآن : " أشركت فيه " بالبناء للمجهول ، وهي أجود .
(3) في المخطوطة والمطبوعة : " احتج به قوله " والصواب زيادة " من " .

(4/572)


وذلك قلب المفهوم من كلام الناس والمعروف من استعمالهم في مخاطباتهم ، وغير جائز حمل كتاب الله تعالى ووحيه جل ذكره على الشواذ من الكلام وله في المفهوم الجاري بين الناس وجه صحيح موجود.
* * *
قال أبو جعفر : ثم أختلف أهل التأويل في تأويل قوله : " فلا جناح عليهما فيما افتدت به " أمعني به : أنهما موضوع عنهما الجناح في كل ما افتدت به المرأة نفسها من شيء أم في بعضه ؟
فقال بعضهم : عنى بذلك : " فلا جناح عليهما فيما افتدت به " من صداقها الذي كان آتاها زوجها الذي تختلع منه. واحتجوا في قولهم ذلك بأن آخر الآية مردود على أولها ، وأن معنى الكلام : ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله ، فإن خفتم ألا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به مما آتيتموهن. قالوا : فالذي أحله الله لهما من ذلك - عند الخوف عليهما أن لا يقيما حدود الله - هو الذي كان حظر عليهما قبل حال الخوف عليهما من ذلك. واحتجوا في ذلك بقصة ثابت بن قيس بن شماس ، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما أمر امرأته إذ نشزت عليه ، أن ترد ما كان ثابت أصدقها ، وأنها عرضت الزيادة فلم يقبلها النبي صلى الله عليه وسلم.
* ذكر من قال ذلك :
4845 - حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع أنه كان يقول : لا يصلح له أن يأخذ منها أكثر مما ساق إليها ، ويقول : إن الله يقول : " فلا جناح عليهما فيما افتدت به " منه ، يقول : من المهر - وكذلك كان يقرؤها : " فيما افتدت به منه " . (1)
__________
(1) الأثر : 4845 - سيأتي نقض الطبري لما قاله الربيع وزيادته في الآية ما ليس منها في ص582 ، 583 .

(4/573)


4846 - حدثنا محمد بن عبد الله بن عبد الحكم ، قال : حدثنا بشر بن بكر ، عن الأوزاعي ، قال : سمعت عمرو بن شعيب وعطاء بن أبي رباح والزهري يقولون في الناشز : لا يأخذ منها إلا ما ساق إليها .
4847 - حدثنا علي بن سهل ، قال : حدثنا الوليد ، حدثنا أبو عمرو ، عن عطاء ، قال : الناشز لا يأخذ منها إلا ما ساق إليها .
4848 - حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا مؤمل ، قال : حدثنا سفيان ، عن ابن جريج ، عن عطاء أنه كره أن يأخذ في الخلع أكثر مما أعطاها .
4849 - حدثني زكريا بن يحيى بن أبي زائدة ، قال : حدثنا ابن إدريس ، عن أشعث ، عن الشعبي ، قال : كان يكره أن يأخذ الرجل من المختلعة فوق ما أعطاها ، وكان يرى أن يأخذ دون ذلك .

(4/574)


4850 - حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن أبي حصين ، عن الشعبي ، قال : لا يأخذ منها أكثر مما أعطاها .
4851 - حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا هشيم ، قال : اخبرنا إسماعيل بن سالم ، عن الشعبي أنه كان يكره أن يأخذ منها أكثر مما أعطاها - يعني المختلعة .
4852 - حدثنا أبو كريب وأبو السائب ، قالا حدثنا ابن إدريس ، قال : سمعت ليثا عن الحكم بن عتيبة ، قال : كان علي رضي الله عنه يقول : لا يأخذ من المختلعة فوق ما أعطاها .
4853 - حدثنا محمد بن المثنى ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا سعيد ، عن الحكم أنه قال في المختلعة : أحب إلي أن لا يزداد .
4854 - حدثني المثنى ، قال : حدثنا حجاج ، قال : حدثنا حماد ، عن حميد أن الحسن كان يكره أن يأخذ منها أكثر مما أعطاها .
4855 - حدثنا محمد بن يحيى ، قال : حدثنا عبد الأعلى ، قال : حدثنا سعيد ، عن مطر أنه سأل الحسن - أو أن الحسن سئل - عن رجل تزوج امرأة على مائتي درهم ، فأراد أن يخلعها ، هل له أن يأخذ أربعمائة ؟ فقال : لا والله ، ذاك أن يأخذ منها أكثر مما أعطاها! .
4856 - حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، قال : كان الحسن يقول : لا يأخذ منها أكثر مما أعطاها قال معمر : وبلغني عن علي أنه كان يرى أن لا يأخذ منها أكثر مما أعطاها .
4857 - حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن عبد الكريم الجزري ، عن ابن المسيب ، قال : ما أحب أن يأخذ منها كل ما أعطاها حتى يدع لها منه ما يعيشها .
4858 - حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرازق ، قال : أخبرنا معمر ، عن ابن طاوس أن أباه كان يقول في المفتدية : لا يحل له أن يأخذ منها أكثر مما أعطاها .
4859 - حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن الزهري ، قال : لا يحل للرجل أن يأخذ من امرأته أكثر مما أعطاها .
* * *
وقال آخرون : بل عنى بذلك : فلا جناح عليهما فيما افتدت به من قليل ما تملكه وكثيره. واحتجوا لقولهم ذلك بعموم الآية ، وأنه غير جائزة إحالة ظاهر عام - إلى باطن خاص إلا بحجة يجب التسليم لها. (1) قالوا : ولا حجة يجب التسليم لها بأن الآية مراد بها بعض الفدية. دون بعض من أصل أو قياس ، فهي على ظاهرها وعمومها.
* ذكر من قال ذلك :
__________
(1) في المطبوعة : " غير جائز إحالة . . . " بدلوه ليطابق ما درجوا عليه . والصواب من المخطوطة .

(4/575)


4860 - حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا ابن علية ، قال : أخبرنا أيوب عن كثير مولى سمرة : أن عمر أتي بامرأة ناشز ، فأمر بها إلى بيت كثير الزبل ثلاثا ، ثم دعا بها فقال : كيف وجدت ؟ قالت : ما وجدت راحة منذ كنت عنده إلا هذه الليالي التي حبستني! فقال لزوجها : اخلعها ولو من قرطها. (1)
4861 - حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن أيوب ، عن كثير مولى سمرة ، قال : أخذ عمر بن الخطاب امرأة ناشزا فوعظها ، فلم تقبل بخير ، فحبسها في بيت كثير الزبل ثلاثة أيام وذكر نحو حديث ابن علية .
4862 - حدثنا ابن بشار ومحمد بن يحيى ، قالا حدثنا عبد الأعلى ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، عن حميد بن عبد الرحمن : أن امرأة أتت عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، فشكت زوجها ، فقال : إنها ناشز ؟ فأباتها في بيت الزبل ، فلما أصبح قال لها : كيف وجدت مكانك! قالت : ما كنت عنده ليلة أقر لعيني من هذه الليلة! فقال : خذ ولو عقاصها. (2)
__________
(1) الأثر : 4860 - البيهقي 7 : 315 ، والمحلى 10 : 240 . وقوله : " ولو من قرطها " أي : ولو لم يكن لها مال غير قرطها فخذه واخلعها .
(2) الأثر : 4862 - " حميد بن عبد الرحمن بن عوف الزهري " روى عن أبيه وعمر وعثمان وأبي هريرة وابن عباس وغيرهم . روى عنه ابنه عبد الرحمن والزهري وقتادة وغيرهم . وقيل : " إنه لم ير عمر ولم يسمع منه شيئا " وموته يدل على ذلك ، ولعله قد سمع من عثمان لأنه كان خاله . وكان ثقة كثير الحديث . توفي سنة 95 وهو ابن ثلاث وسبعين سنة " . وقال ابن سعد : " سمعت من يقول إنه توفي سنة 105 " . قال ابن حجر : " وهو قول الفلاس وأحمد بن حنبل وأبي إسحاق الحربي " ثم قال : " وإن صح ذلك على تقدير صحة ما ذكر من سنه فروايته عن عمر منقطعة قطعا ، وكذا عن عثمان وأبيه والله أعلم " .
والعقاص : خيط تشد به المرأة أطراف ذوائبها . من " عقصت المرأة شعرها " : إذا ضفرته . والضفيرة هي العقيصة . و " العقاص " أيضًا : المداري (جمع) - أو : المدري (مفرد) والمدري : شيء يعمل من حديد أو خشب على شكل سن من أسنان المشط ، وأطول منه ، يسرح به الشعر المتبلد . يستعمله من لم يكن له مشط . وقد جاء في شعر امرئ القيس : غدائره مستشزرات إلى العلى ... تضل العقاص في مثنى ومرسل
ويروى " يضل العقاص " على معنى إفراده . وانظر التعليق على الأثر رقم : 4871 .

(4/576)


4863 - حدثنا نصر بن علي ، قال : حدثنا عبد الأعلى ، قال : حدثنا عبيد الله ، عن نافع : أن مولاة لصفية اختلعت من زوجها بكل شيء تملكه إلا من ثيابها ، فلم يعب ذلك ابن عمر. (1)
4864 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى ومحمد بن المثنى ، قالا حدثنا معتمر ، قال : سمعت عبيد الله يحدث ، عن نافع ، قال : ذكر لابن عمر مولاة له اختلعت من زوجها بكل مال لها ، فلم يعب ذلك عليها ولم ينكره .
4865 - حدثني يحيى بن طلحة اليربوعي ، قال : حدثنا هشيم ، عن حميد ، عن رجاء بن حيوة ، عن قبيصة بن ذؤيب : أنه كان لا يرى بأسا أن يأخذ منها أكثر مما أعطاها . ثم تلا هذه الآية : " فلا جناح عليهما فيما افتدت به " .
4866 - حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن بن مهدي ، قال : حدثنا سفيان ، عن المغيرة ، عن إبراهيم ، قال في الخلع : خذ ما دون عقاص شعرها ، وإن كانت المرأة لتفتدي ببعض مالها. (2)
4867 - حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا
__________
(1) الأثر : 4863 - الموطأ : 565 والمحلى 10 : 240 والبيهقي 7 : 315 وما سيأتي رقم : 4874 وغيرها .
(2) الآثار : 4866 - 4869 - هذا الأثر ذكره ابن الأثير في النهاية بلفظ آخر ، قال : " وفي حديث النخعي : الخلع تطليقه بائنة وهو ما دون عقاص الرأس . يريد : أن المختلعة كان له أن يأخذ ما دون شعرها من جميع ملكها " . هكذا في النهاية وفي نقل لسان العرب عنه " ما دون شعرها " . وتفسير " العقاص " هنا بأنه " الشعر " غريب جدا لا أدري هل يجوز أن يخلط عالم جليل كابن الأثير هذا الخلط! فيكون معنى قول إبراهيم النخعي الآتي في الآثار التالية : " خذ منها ولو عقاصها " - أي : خذ منها ولو شعرها!! ولعل في الكلام سقطا فيكون : " أن يأخذ ما دون رباط شعرها " ولكن نقل صاحب اللسان نص ما في النهاية شبهة في ترجيح هذا الرأي . وكأن ابن الأثير غفل عن معنى " دون " في هذا الموضع فزل عالم . وقوله : " ما دون عقاص شعرها " معناه : ما هو أقل من العقاص أو أنقص منه . وانظر الأثر الآتي رقم : 4870 ففي لفظه شفاء هذا المعنى إن شاء الله .

(4/577)


معمر ، عن مغيرة ، عن إبراهيم ، قال : الخلع ما دون عقاص الرأس. (1)
4868 - حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، عن الحكم ، عن إبراهيم أنه قال في المختلعة : خذ منها ولو عقاصها .
4869 - حدثني يعقوب ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا مغيرة ، عن إبراهيم ، قال : الخلع بما دون عقاص الرأس ، وقد تفتدي المرأة ببعض مالها .
4870 - حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن عبد الله بن محمد بن عقيل : أن الربيع ابنة معوذ بن عفراء حدثته قالت : كأن لي زوج يقل علي الخير إذا حضرني ، ويحرمني إذا غاب. قالت : فكانت مني زلة يوما ، فقلت : أختلع منك بكل شيء أملكه! قال : نعم! قال : ففعلت قالت : فخاصم عمي معاذ بن عفراء إلى عثمان بن عفان ، فأجاز الخلع وأمره أن يأخذ عقاص رأسي فما دونه - أو قالت : ما دون عقاص الرأس. (2)
4871 - حدثني ابن المثنى ، قال : حدثنا حبان بن موسى ، قال : أخبرنا ابن المبارك ، قال : أخبرنا الحسن بن يحيى ، عن الضحاك ، عن ابن عباس ، قال : لا بأس بما خلعها به من قليل أو كثير ، ولو عقصها. (3)
__________
(1) في المطبوعة : " بما دون " فأثبت ما في المخطوطة .
(2) الأثر : 4870 - رواه البيهقي في السنن 7 : 315 بغير هذا اللفظ من طريق يزيد ابن زريع عن روح عن عبد الله بن محمد بن عقيل . و " عبد الله بن محمد بن عقيل بن أبي طالب " روى عن أبيه وخاله محمد بن الحنفية وابن عمر وأنس وجابر والربيع بنت معوذ وغيرهم من الصحابة . ذكره ابن سعد في الطبقة الرابعة من أهل المدينة وقال : " كان منكر الحديث لا يحتجون بحديثه ، وكان كثير العلم " . وقال يعقوب : " صدوق وفي حديثه ضعف شديد جدا " . مات سنة 145 و " الربيع " (بضم الراء وفتح الباء ، وكسر الياء المشددة) على وزن التصغير .
(3) قوله : " ولو عقصها " . في المخطوطة كسرة تحت العين ، كأنه بكسر العين وسكون القاف وكأنه واحد " العقاص " ولم أجد ذلك في مكان وهو قريب على غرابته . ولكني ضبطته بضمتين ، على أنه جمع " عقاص " .

(4/578)


4872 - حدثني المثنى ، قال : حدثنا حبان بن موسى ، قال : أخبرنا ابن المبارك ، قال : أخبرنا حجاج ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قال : إن شاء أخذ منها أكثر مما أعطاها .
4873 - حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا ابن جريج ، قال : أخبرني عمرو بن دينار أنه سمع عكرمة يقول : قال ابن عباس : ليأخذ منها حتى قرطها - يعني في الخلع .
4874 - حدثني المثنى ، قال : حدثنا مطرف بن عبد الله ، قال : أخبرنا مالك بن أنس ، عن نافع ، عن مولاة لصفية ابنة أبي عبيد : أنها اختلعت من زوجها بكل شيء لها ، فلم ينكر ذلك عبد الله بن عمر. (1)
4875 - حدثني المثنى ، قال : حدثنا الحجاج ، قال : حدثنا حماد ، قال : أخبرنا حميد ، عن رجاء بن حيوة ، عن قبيصة بن ذؤيب أنه تلا هذه الآية : " فلا جناح عليهما فيما افتدت به " قال : يأخذ أكثر مما أعطاها. (2)
4876 - حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا يزيد وسهل بن يوسف وابن أبي عدي ، عن حميد ، قال : قلت لرجاء بن حيوه : إن الحسن يقول في المختلعة : لا يأخذ أكثر مما أعطاها ، ويتأول : " ولا تأخذوا مما آتيتموهن شيئا " قال رجاء : فإن قبيصة بن ذؤيب كان يرخص أن يأخذ أكثر مما أعطاها ، ويتأول : " فلا جناح عليهما فيما افتدت به "
* * *
وقال آخرون : هذه الآية منسوخة بقوله : ( وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا ) [سورة النساء : 20]
* ذكر من قال ذلك :
__________
(1) الأثر : 4874 - في الموطأ : 565 وانظر التعليق على الأثر : 4863 .
(2) الأثر : 4875 - انظر الأثر السالف رقم : 4865 .

(4/579)


4877 - حدثنا مجاهد بن موسى ، قال : حدثنا عبد الصمد بن عبد الوارث ، قال : حدثنا عقبة بن أبي الصهباء قال : سألت بكرا عن المختلعة أيأخذ منها شيئا ؟ قال لا! وقرأ : " وأخذن منكم ميثاقا غليظا " .
4878 - حدثني المثنى ، قال : حدثنا الحجاج ، قال : حدثنا عقبة بن أبي الصهباء ، قال : سألت بكر بن عبد الله عن رجل تريد امرأته منه الخلع ، قال : لا يحل له أن يأخذ منها شيئا. قلت : يقول الله تعالى ذكره في كتابه : " فلا جناح عليهما فيما افتدت به " ؟ قال : هذه نسخت. قلت : فإني حفظت ؟ قال : حفظت في " سورة النساء " (1) قول الله تعالى ذكره : ( وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا ) [النساء : 20] (2)
* * *
قال أبو جعفر : وأولى هذه الأقوال بالصواب قول من قال : إذا خيف من الرجل والمرأة أن لا يقيما حدود الله - على سبيل ما قدمنا البيان عنه - فلا حرج
__________
(1) في الناسخ والمنسوخ وفي القرطبي " فأين جعلت " وهي أشبه بالصواب وكذلك ينبغي أن تكون الأخرى " جعلت " فيكون نصهما : " فأين جعلت ؟ قال : جعلت في سورة النساء " .
(2) الأثران : 4877 ، 4878 - في الناسخ والمنسوخ لأبي جعفر النحاس : 68 وأحكام القرآن للجصاص 1 : 392 والقرطبي 3 : 139 وسيأتي أول الأثرين في تفسير سورة النساء 4 : 216 (بولاق) . وفي إسناده هنا " عقبة بن أبي المهنا " وهو تصحيف . و " عقبة بن أبي الصهباء أبو خريم " ترجم له في الجرح والتعديل 3/ 1/312 وميزان الاعتدال 2 : 205 . قال ابن أبي حاتم : " بصري : روى عن سالم ونافع . روى عنه زيد بن حباب وأبو الوليد وأبو سلمة . سمعت أبي يقول ذلك . قال أبو محمد : روى عن العلاء بن بدر . روى عنه معتمر بن سليمان وأبو داود الطيالسي وأبو عمر الحوضي . أخبرنا عبد الرحمن قال : ذكره أبي عن إسحاق بن منصور عن يحيى ابن معين قال : عقبة بن أبي الصهباء ثقة . أخبرنا عبد الرحمن قال : سألت أبي عن عقبة بن أبي الصهباء قال : محله الصدق فهو أوثق من عقبة الأحم " . وزاد في ميزان الاعتدال أنه : " باهلي " مولى لباهلة ونقل عن أحمد بن حنبل أنه صالح الحديث . هذا ولم أجد كما ترى ، وهو ما جاء في التاريخ الكبير ، في كتاب الكنى : 44 وفي الجرح والتعديل 4/2/394 : " أبو الصهباء البصري . روى عن بكر بن عبد الله . روى عنه معن بن عيسى . سمعت أبي يقول ذلك " قاله ابن أبي حاتم .

(4/580)


عليهما فيما افتدت به المرأة نفسها من زوجها ، من قليل ما تملكه وكثيره مما يجوز للمسلمين أن يملكوه ، وإن أتى ذلك على جميع ملكها. لأن الله تعالى ذكره لم يخص ما أباح لهما من ذلك على حد لا يجاوز ، بل أطلق ذلك في كل ما افتدت به. غير أني أختار للرجل استحبابا لا تحتيما (1) إذا تبين من امرأته أن افتداءها منه لغير معصية لله ، (2) بل خوفا منها على دينها أن يفارقها بغير فدية ولا جعل. فإن شحت نفسه بذلك ، (3) فلا يبلغ بما يأخذ منها جميع ما آتاها.
* * *
فأما ما قاله بكر بن عبد الله ، من أن هذا الحكم في جميع الآية منسوخ بقوله : ( وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا ) فقول لا معنى له ، فنتشاغل بالإبانة عن خطئه لمعنيين : أحدهما : إجماع الجميع من الصحابة والتابعين ومن بعدهم من المسلمين ، على تخطئته وإجازة أخذ الفدية من المفتدية نفسها لزوجها ، وفي ذلك الكفاية عن الاستشهاد على خطئه بغيره.
والآخر : أن الآية التي في " سورة النساء " إنما حرم الله فيها على زوج المرأة أن يأخذ منها شيئا مما آتاها ، (4) بأن أراد الرجل استبدال زوج بزوج من غير أن يكون هنالك خوف من المسلمين عليهما مقام أحدهما على صاحبه أن لا يقيما حدود الله ، (5) ولا نشوز من المرأة على الرجل. و إذا كان الأمر كذلك ، فقد ثبت أن أخذ الزوج من امرأته مالا على وجه الإكراه لها والإضرار بها حتى تعطيه شيئا
__________
(1) في المخطوطة : " لا تحريما " ليست بشيء وما في المطبوعة هو الصواب . والتحتيم : الإيجاب حتم عليه الأمر حتما : أوجبه .
(2) في المطبوعة : " لغير معصية الله " والصواب ما في المخطوطة .
(3) في المخطوطة : " سحت " مهملة وشح بالشيء يشح فهو شحيح : ضن وبخل .
(4) في المطبوعة : " بأن أراد الرجل " وفي المخطوطة : " فإن أراد " والصواب ما أثبت .
(5) في المطبوعة : " بمقام أحدهما على صاحبه " صواب جيد . وقوله : " ولا نشوز " معطوف على قوله : " خوف " .

(4/581)


من مالها على فراقها حرام ، (1) ولو كان ذلك حبة فضة فصاعدا. (2)
وأما الآية التي في " سورة البقرة " فإنها إنما دلت على إباحة الله تعالى ذكره له أخذ الفدية منها في حال الخوف عليهما أن لا يقيما حدود الله بنشوز المرأة ، وطلبها فراق الرجل ، ورغبته فيها. فالأمر الذي أذن به للزوج في أخذ الفدية من المرأة في " سورة البقرة " (3) ضد الأمر الذي نهى من أجله عن أخذ الفدية في " سورة النساء " ، كما الحظر في " سورة النساء " ، غير الإطلاق والإباحة في " سورة البقرة " . (4) فإنما يجوز في الحكمين أن يقال أحدهما ناسخ (5) إذا اتفقت معاني المحكوم فيه ، ثم خولف بين الأحكام فيه باختلاف الأوقات والأزمنة.
وأما اختلاف الأحكام باختلاف معاني المحكوم فيه في حال واحدة ووقت واحد ، فذلك هو الحكمة البالغة ، والمفهوم في العقل والفطرة ، وهو من الناسخ والمنسوخ بمعزل.
* * *
وأما الذي قاله الربيع بن أنس (6) من أن معنى الآية : فلا جناح عليهما فيما افتدت به منه - يعني بذلك : مما آتيتموهن - فنظير قول بكر في دعواه نسخ
__________
(1) في المطبوعة : " فقد بينا أن أخذ الزوج . . . " وهو خطأ محض والسياق يقتضي غيره ثم إنه لم يذكر شيئا من ذلك فيما سلف . أما في المخطوطة : " فقد سا " والألف الأخيرة قصيرة عن أشباهها . وأحب أن أثبت هنا أن ناسخ المخطوطة قد عجل في الصفحات السابقة والصفحات التالية عجلة شديدة حتى تبين ذلك في خطه تبينا ظاهرا . ولذلك كثر الخطأ والاشتباه فيما يكتب .
(2) الحبة : ميزان من موازينهم . هو : زنة حبة شعير متوسطة لم تقشر وقد قطع من طرفيها ما امتد (رسالة النقود للمقريزي : 3) .
(3) في المخطوطة : " أذن به للزوج أخذ الفدية " بحذف " في " والإذن هنا الإباحة .
(4) في المطبوعة والمخطوطة : " غير الطلاق والإباحة " والصواب ما أثبت ولم أجد " الطلاق " مصدرا بمعنى الإباحة . وكأن الناسخ ظن أن أبا جعفر يريد أن آية سورة البقرة فيها ذكر لفظ " الطلاق " وأما التي في سورة النساء فليس فيها لفظ " الطلاق " فيكون ذلك غريبا جدا ، ولطيفا أيضًا!! ومراد الطبري أن الذي في سورة البقرة هو نشوز المرأة والذي في سورة النساء هو ضرار الرجل ، والذي في البقرة إباحة وإطلاق ، والذي في النساء حظر ومنع .
(5) في المخطوطة والمطبوعة : " فإنما يجوز " والفاء هنا لا معنى لها ، بل هي اختلال . وقد أسلفنا ما في كتابة الناسخ هنا من عجلة وسهو شديد .
(6) انظر الأثر السالف رقم : 4845 .

(4/582)


قوله : " فلا جناح عليهما فيما افتدت به " بقوله : " وآتيتم إحداهن قنطارا فلا تأخذوا منه شيئا " لادعائه في كتاب الله ما ليس موجودا في مصاحف المسلمين رسمه.
ويقال لمن قال بقوله : قد قال من قد علمت من أئمة الدين : إنما معنى ذلك : فلا جناح عليهما فيما افتدت به من ملكها فهل من حجة تبين بها منهم غير الدعوى ؟ (1) فقد احتجوا بظاهر التنزيل ، وادعيت فيه خصوصا! ثم يعكس عليه القول في ذلك ، فلن يقول في شيء من ذلك قولا إلا ألزم في الآخر مثله. وقد بينا الأدلة بالشواهد على صحة قول من قال : للزوج أن يأخذ منها كل ما أعطته المفتدية ، التي أباح الله لها الافتداء - في كتابنا( كتاب اللطيف ) فكرهنا إعادته في هذا الموضع.
* * *
(2)
القول في تأويل قوله تعالى : { تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (229) }
قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بذلك : تلك معالم فصوله ، بين ما أحل لكم ، وما حرم عليكم أيها الناس ، قلا تعتدوا ما أحل لكم من الأمور التي بينها وفصلها لكم من الحلال ، إلى ما حرم عليكم ، فتجاوزوا طاعته إلى معصيته.
__________
(1) في المطبوعة " تبين تهافتهم " من قولهم " بين الشيء يبين " بتشديد الياء . ومعنى الجملة لا يتفق في سياق هذا الكلام . وفي المخطوطة " تبين بها منهم " غير منقوطة فقرأتها على أصح وجوه المعنى الذي يوافق السياق . وبان منهم يبين : افترق وامتاز . يقول : فهل من حجة تجعل بينك وبينهم فرقا غير الدعوى ؟ فهم يحتجون بأن هذا ظاهر الآية ، وأنت تدعى أن في الآية خصوصا! فأية حجة في هذا تجعل لك ميزة عليهم ؟
(2) مما يدل على ان الناسخ في هذا المكان كان عجلا غير متأن كما أسلفنا من شواهد خطه ، من كثرة الخطأ في نقله ، أنه كتب نص الآية هنا " تلك حدود الله فلا تقربوها " !!

(4/583)


وإنما عنى تعالى ذكره بقوله : " تلك حدود الله فلا تعتدوها " ، هذه الأشياء التي بينت لكم في هذه الآيات التي مضت : من نكاح المشركات الوثنيات ، وإنكاح المشركين المسلمات ، وإتيان النساء في المحيض ، وما قد بين في الآيات الماضية قبل قوله : " تلك حدود الله " ، مما أحل لعباده وحرم عليهم ، وما أمر ونهى.
ثم قال لهم تعالى ذكره : هذه الأشياء - التي بينت لكم حلالها من حرامها - " حدودي " يعني به : معالم فصول ما بين طاعتي ومعصيتي ، فلا تعتدوها يقول : فلا تتحاوزوا ما أحللته لكم إلى ما حرمته عليكم ، وما أمرتكم به إلى ما نهيتكم عنه ، ولا طاعتي إلى معصيتي ، (1) فإن من تعدى ذلك يعني من تخطاه وتجاوزه إلى ما حرمت عليه أو نهيته ، فإنه هو الظالم - وهو الذي فعل ما ليس له فعله ، ووضع الشيء في غير موضعه. وقد دللنا فيما مضى على معنى " الظلم " وأصله بشواهده الدالة على معناه ، فكرهنا إعادته في هذا الموضع. (2)
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل وإن خالفت ألفاظ تأويلهم ألفاظ تأويلنا ، غير أن معنى ما قالوا في ذلك [ يؤول ] إلى معنى ما قلنا فيه. (3)
* ذكر من قال ذلك :
4879 - حدثني محمد بن سعد ، قال : حدثني أبي ، قال : حدثني عمي ، قال : حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : " تلك حدود الله فلا تعتدوها " يعني بالحدود : الطاعة.
4880 - حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا أبو زهير ، عن جويبر ، عن الضحاك في قوله : " تلك حدود الله فلا تعتدوها " يقول : من
__________
(1) انظر معنى " الخدود " " والتعدي والعدوان " في فهرس اللغة من الأجزاء السالفة .
(2) انظر ما سلف 1 : 523 - 524/2 : 101 - 102 ، 369 ، 519 .
(3) في المطبوعة : " . . . ما قالوا في ذلك إلى معنى . . . " وأثبت الزيادة بين القوسين لأن موضعها في المخطوطة بياض فرجحت أن تكون الكلمة الناقصة هي هي ، كما أثبتها .

(4/584)


فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (230)

طلق لغير العدة فقد اعتدى وظلم نفسه ، " ومن يتعد حدود الله ، فأولئك هم الظالمون " .
* * *
قال أبو جعفر : وهذا الذي ذكر عن الضحاك لا معنى له في هذا الموضع ، لأنه لم يجر للطلاق في العدة ذكر ، فيقال : " تلك حدود الله " ، وإنما جرى ذكر العدد الذي يكون للمطلق فيه الرجعة ، والذي لا يكون له فيه الرجعة دون ذكر البيان عن الطلاق للعدة.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ }
قال أبو جعفر : اختلف أهل التأويل فيما دل عليه هذا القول من الله تعالى ذكره.
فقال بعضهم : دل على أنه إن طلق الرجل امرأته التطليقة الثالثة بعد التطليقتين اللتين قال الله تعالى ذكره فيهما : " الطلاق مرتان " فإن امرأته تلك لا تحل له بعد التطليقة الثالثة حتى تنكح زوجا غيره - يعني به غير المطلق.
* ذكر من قال ذلك :
4881 - حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد بن زريع ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قال : جعل الله الطلاق ثلاثا ، فإذا طلقها واحدة فهو أحق بها ما لم تنقض العدة ، وعدتها ثلاث حيض ، فإن انقضت العدة قبل أن يكون راجعها ، فقد بانت منه بواحدة ، وصارت أحق بنفسها ، وصار خاطبا من الخطاب ، فكان الرجل إذا أراد طلاق أهله نظر حيضتها ، حتى إذا طهرت طلقها تطليقة في قبل عدتها عند شاهدي عدل ، (1) فإن بدا له مراجعتها راجعها ما كانت في عدتها ،
__________
(1) " قبل عدتها " (بضم فسكون) أي : في إقبال عدتها وأولها وعند الشروع فيها .

(4/585)


وإن تركها حتى تنقضي عدتها فقد بانت منه بواحدة ، وإن بدا له طلاقها بعد الواحدة وهي في عدتها نظر حيضتها ، حتى إذا طهرت طلقها تطليقة أخرى في قبل عدتها ، فإن بدا له مراجعتها راجعها ، فكانت عنده على واحدة ، وإن بدا له طلاقها طلقها الثالثة عند طهرها ، فهذه الثالثة التي قال الله تعالى ذكره : " فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره " (1)
4882 - حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : حدثني معاوية بن صالح ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قوله : " فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره " يقول : إن طلقها ثلاثا ، فلا تحل حتى تنكح زوجا غيره.
4883 - حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا جويبر ، عن الضحاك ، قال : إذا طلق واحدة أو ثنتين فله الرجعة ما لم تنقض العدة ، قال : والثالثة قوله : " فإن طلقها " - يعني بالثالثة - فلا رجعة له عليها حتى تنكح زوجا غيره.
4884 - حدثنا يحيى بن أبي طالب ، قال : حدثنا يزيد ، قال : أخبرنا جويبر ، عن الضحاك ، بنحوه.
4885 - حدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : " فإن طلقها " - بعد التطليقتين - " فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره " ، وهذه الثالثة
* * *
وقال آخرون : بل دل هذا القول على ما يلزم مسرح امرأته بإحسان بعد التطليقتين اللتين قال الله تعالى ذكره فيهما : " الطلاق مرتان " قالوا : وإنما بين
__________
(1) هكذا في المخطوطة معنى الآية لا نصها ولكنه في المطبوعة : " فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره " أثبت نص الآية . تصرف لغير حكمة بينة .

(4/586)


الله تعالى ذكره بهذا القول عن حكم قوله : " أو تسريح بإحسان " وأعلم أنه إن سرح الرجل امرأته بعد التطليقتين ، فلا تحل له المسرحة كذلك إلا بعد زوج.
* ذكر من قال ذلك :
4886 - حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : " فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره " قال : عاد إلى قوله : " فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان " .
4887 - حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله.
* * *
قال أبو جعفر : والذي قاله مجاهد في ذلك عندنا أولى بالصواب ، للذي ذكرنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخبر الذي رويناه عنه أنه قال - أو سئل فقيل : هذا قول الله تعالى ذكره : " الطلاق مرتان " فأين الثالثة ؟ قال : " فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان " . (1) فأخبر صلى الله عليه وسلم ، أن الثالثة إنما هي قوله : " أو تسريح بإحسان " فإذ كان التسريح بالإحسان هو الثالثة ، فمعلوم أن قوله : " فإن طلقها فلا تحل لا من بعد حتى تنكح زوجا غيره " من الدلالة على التطليقة الثالثة بمعزل ، وأنه إنما هو بيان عن الذي يحل للمسرح بالإحسان إن سرح زوجته بعد التطليقتين ، والذي يحرم عليه منها ، والحال التي يجوز له نكاحها فيها (2) وإعلام عباده أن بعد التسريح على ما وصفت لا رجعة للرجل على امرأته. (3)
* * *
(4)
__________
(1) يعني الأخبار السالفة : 4791 - 4793 .
(2) قوله : " وإعلام " معطوف على قوله : " إنما هو بيان . . . وإعلام " وقوله : " عباده " منصوب بالمصدر " إعلام " مفعول به .
(3) إلى هنا انتهى التقسيم القديم الذي نسخت منه نسختنا ، وبعده ما نصه :
" وصلى الله على محمد النبي وعلى آله وصحبه وسلم كثيرا "
ومن عجلة الناسخ أغفل أن ينقل ما كان ينقله في المواضع السالفة من سماع النسخة .
(4) يبدأ صدر التقسيم بقوله :
" بسم الله الرحمن الرحيم "

(4/587)


قال أبو جعفر : فإن قال قائل : فأي النكاحين عنى الله بقوله : " فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره " النكاح الذي هو جماع أم النكاح الذي هو عقد تزويج ؟
قيل : كلاهما ، وذلك أن المرأة إن نكحت رجلا نكاح تزويج ، ثم لم يطأها في ذلك النكاح ناكحها (1) ولم يجامعها حتى يطلقها لم تحل للأول ، وكذلك إن وطئها واطئ بغير نكاح ، لم تحل للأول بإجماع الأمة جميعا. (2) فإذ كان ذلك كذلك ، فمعلوم أن تأويل قوله : " فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره " نكاحا صحيحا ، ثم يجامعها فيه ، ثم يطلقها.
فإن قال : فإن ذكر الجماع غير موجود في كتاب الله تعالى ذكره ، فما الدلالة على أن معناه ما قلت ؟
قيل : الدلالة على ذلك إجماع الأمة جميعا على أن ذلك معناه. وبعد ، فإن الله تعالى ذكره قال : " فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره " ، فلو نكحت زوجا غيره بعقب الطلاق قبل انقضاء عدتها ، كان لا شك أنها ناكحة نكاحا بغير المعنى الذي أباح الله تعالى ذكره لها ذلك به ، وإن لم يكن ذكر العدة مقرونا بقوله : " فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره " ، لدلالته على أن ذلك كذلك بقوله : " والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء " . وكذلك قوله : " فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره " ، وإن لم يكن
__________
(1) في المطبوعة : " وذلك أن المرأة إذا نكحت زوجا " لا أدري لم وضع الطابع " إذا " مكان " وإن " و " زوجا " مكان " رجلا " !!
(2) في المطبوعة : " لإجماع الأمة " وهو ضعيف لا خير فيه .

(4/588)


مقرونا به ذكر الجماع والمباشرة والإفضاء فقد دل على أن ذلك كذلك بوحيه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وبيانه ذلك على لسانه لعباده.
* * *
* ذكر الأخبار المروية بذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
4888 - حدثني عبيد الله بن إسماعيل الهباري ، وسفيان بن وكيع ، وأبو هشام الرفاعي ، قالوا : حدثنا أبو معاوية ، عن الأعمش ، عن إبراهيم ، عن الأسود ، عن عائشة ، قالت : سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن رجل طلق امرأته فتزوجت رجلا غيره فدخل بها ثم طلقها قبل أن يواقعها ، أتحل لزوجها الأول ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا تحل لزجها الأول حتى يذوق الآخر عسيلتها وتذوق عسيلته " . (1)
__________
(1) الحديث : 4888 - هذا الحديث والاحاديث بعده إلى : 4897 هي عشرة أسانيد لحديث عائشة في وجوب الدخول بالمطلقة ثلاثا حتى تحل لزوجها الأول ، وهذا أمر مجمع عليه ثبت بالدلائل المتواترة . ويجب أن يكون الزوج الثاني راغبا في المرأة قاصدا لدوام عشرتها ، مما هو القصد الصحيح للزواج . أما إذا تزوجها ودخل بها قاصدا تحليلها للزوج الأول أو كان ذلك مفهوما من واقع الحال - فإن هذا هو المحلل الذي لعنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ولعن المحلل له . وكان نكاح هذا الثاني باطلا لا تحل به المعاشرة .
ثم روى أبو جعفر - بعد هذه العشرة - حديثين لأبي هريرة وحديثا لأنس وحديثا لعبيد الله ابن عباس ، وثلاثة أحاديث لابن عمر . فهي سبعة عشر حديثا . سنوجز ما استطعنا في تخريجها إن شاء الله .
عبيد الله بن إسماعيل الهباري - شيخ الطبري : مضت ترجمته في : 2890 باسم " عبيد " دون إضافة . وكذلك مضى باسم " عبيد " في : 3185 ، 3325 . وهو هو ففي التهذيب 7 : 59 " ويقال أن اسمه عبيد الله وعبيد : لقب " .
أبو هاشم الرفاعي - شيخ الطبري : هو محمد بن يزيد بن محمد بن كثير قاضي بغداد تكلم فيه بعضهم ، والراجح توثيقه وقد روى عنه مسلم في صحيحه . مضى له ذكر في : 3286 .
إبراهيم : هو ابن يزيد بن الأسود النخعي . والأسود : هو ابن يزيد بن قيس النخعي خال إبراهيم .
والحديث رواه أحمد في المسند 6 : 42 (حلبي) عن أبي معاوية عن الأعمش بهذا الإسناد .
ونقله ابن كثير 1 : 549 عن رواية الطبري ثم قال : " وكذا رواه أبو داود عن مسدد والنسائي عن أبي كريب كلاهما عن أبي معاوية " .
وذكره السيوطي 1 : 284 وزاد نسبته لابن أبي شيبة وابن ماجه .
قوله : " حتى يذوق الآخر عسيلتها . . . " قال ابن الأثير : " شبه لذة الجماع بذوق العسل ، فاستعار لها ذوقا . وإنما أنث لأنه أراد قطعة من العسل . وقيل : على إعطائها معنى النطفة . وقيل : العسل في الأصل يذكر ويؤنث فمن صغره مؤنثا قال : عسيلة . . . وإنما صغره إشارة إلى القدر القليل الذي يحصل به الحل " .

(4/589)


4889 - حدثني المثنى ، قال : حدثنا سويد بن نصر ، قال : أخبرنا ابن المبارك ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، نحوه. (1)
4890 - حدثنا سفيان بن وكيع ، قال : حدثنا ابن عيينة ، عن الزهري ، عن عروة ، عن عائشة ، قال : سمعتها تقول : جاءت امرأة رفاعة القرظي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقالت : كنت عند رفاعة فطلقني ، فبت طلاقي ، فتزوجت عبد الرحمن بن الزبير ، وإنما معه مثل هدبة الثوب ، فقال لها : تريدين أن ترجعي إلى رفاعة! لا حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك " . (2)
4891 - حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : حدثني الليث ، قال : حدثني يونس ، عن ابن شهاب ، عن عروة ، عن عائشة ، نحوه.
4892 - حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : حدثني الليث ، قال : حدثني عقيل ، عن ابن شهاب ، قال : ثنى عروة بن الزبير ، أن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أخبرته أن امرأة رفاعة القرظي جاءت رسول الله
__________
(1) الحديث : 4889 - رواه مسلم 1 : 407 بنحوه من طريق أبي أسامة عن هشام ابن عروة عن أبيه . ورواه أحمد في المسند 6 : 229 (حلبي) عن أبي معاوية عن هشام . ورواه مسلم أيضًا من طريق ابن فضيل ومن طريق أبي معاوية كلاهما عن هشام .
* ونقله ابن كثير 1 : 549 عن صحيح مسلم ، وذكر أن البخاري رواه من طريق أبي معاوية .
* ثم قال : وهكذا رواه ابن جرير من طريق عبد الله بن المبارك عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة مرفوعا بنحوه أو مثله . وهذا إسناد جيد " .
(2) الحديث : 4890 - رواه أحمد في المسند 6 : 37 - 38 (حلبي) عن سفيان بن عيينة بهذا الإسناد . وزاد في آخره كلام خالد بن سعيد بن العاص بنحو ما سيأتي في : 4893 .
" عبد الرحمن بن الزبير " - بفتح الزاي وكسر الباء - هو القرظي المدني ، صحابي معروف .
وقد ذكره السيوطي 1 : 283 : 284 ونسبه أيضًا للشافعي وعبد الرزاق وابن أبي شيبة والصحيحين والترمذي زوالنسائي . وابن ماجه والبيهقي .
وقوله : " وإنما معه مثل هدبة الثوب " - " كلمة " وإنما " رسمت في المطبوعة حرفين " وإن ما " والصواب الموافق لسائر الروايات هو ما أثبتنا .

(4/590)


صلى الله عليه وسلم فقالت : يا رسول الله ، فذكر مثله. (1)
4893 - حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن الزهري ، عن عروة ، عن عائشة : أن رفاعة القرظي طلق امرأته ، فبت طلاقها ، فتزوجها بعد عبد الرحمن بن الزبير ، فجاءت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت : يا نبي الله - إنها كانت عند رفاعة ، فطلقها آخر ثلاث تطليقات - فتزوجت بعده عبد الرحمن بن الزبير ، وإنه والله ما معه يا رسول الله إلا مثل الهدبة!! فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم قال لها : لعلك تريدين أن ترجعي إلى رفاعة! لا حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك. قالت : وأبو بكر جالس عند النبي صلى الله عليه وسلم وخالد بن سعيد بن العاص بباب الحجرة لم يؤذن له ، فطفق خالد ينادي يا أبا بكر يقول : يا أبا بكر ألا تزجر هذه عما تجهر به عند رسول الله صلى الله عليه وسلم!. (2)
4894 - حدثنا محمد بن يزيد الأدمي ، قال : حدثنا يحيى بن سليم ، عن عبيد الله ، عن القاسم ، عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لا حتى يذوق من عسيلتها ما ذاق الأول " . (3)
__________
(1) الحديثان : 4891 ، 4892 - هما تكرار للحديث قبلهما بإسنادين آخرين عن الزهري .
* ولم يذكر الطبري هنا لفظ هاتين الروايتين . وقد رواه مسلم 1 : 407 من طريق ابن وهب عن يونس عن الزهري . وساق لفظه كاملا .
(2) الحديث : 4893 - هو في كتاب (المصنف) لعبد الرزاق (مخطوط مصور عندنا) 3 : 305 عن معمر وابن جريج - معا عن ابن شهاب .
ورواه أحمد في المسند 6 : 226 (حلبي) عن عبد الرزاق عن معمر عن الزهري . ورواه أحمد أيضًا 6 : 34 عن عبد الأعلى عن معمر .
ورواه مسلم : 1 : 407 عن عبد بن حميد ، عن عبد الرزاق عن معمر . ولم يذكر لفظه كاملا إحالة على روايته قبلها .
ونقله ابن كثير 1 : 549 - 550 من رواية أحمد عن عبد الأعلى . ثم نسبه لأصحاب الكتب الستة إلا أبا داود .
وانظر تخريج : 4890 فهو في معنى هذا .
(3) الحديث : 4894 - محمد بن يزيد الأدمي الخراز البغدادي المقابري . المعروف بالأحمر : ثقة وثقه الدارقطني وغيره . وقال السراج : " كان زاهدا من خيار المسلمين " . وفي المطبوعة " الأودي " بدل " الأدمي " وهو تحريف صححناه من المخطوطة ومراجع الترجمة . مترجم في التهذيب وابن أبي حاتم 4/1129 - 130 وفي التهذيب : " ويقال إنهما اثنان " يعني أن " الأحمر " غير " الأدمي " وعلى ذلك جرى الخطيب في تاريخ بغداد جعلهما ترجمتين 3 : 374 برقم : 1488 ، و 377 برقم : 1491 والراجح أنهما ترجمتان لشخص واحد .
يحيى بن سليم - بضم السين - القرشي الطائفي : ثقة وثقه ابن معين وغيره . وقال الشافعي : " كنا نعده من الأبدال " . أخرج له أصحاب الكتب الستة .
عبيد الله : هو ابن عمر بن حفص العمري . القاسم : هو ابن محمد بن أبي بكر الصديق . عائشة عمته .

(4/591)


4896 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا معتمر بن سليمان ، قال : سمعت عبيد الله ، قال : سمعت القاسم يحدث عن عائشة ، قال : قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا حتى يذوق من عسيلتها ما ذاق صاحبه " . (1)
4896 - حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا يحيى ، عن عبيد الله ، قال : حدثنا القاسم ، عن عائشة ، أن رجلا طلق امرأته ثلاثا ، فتزوجت زوجا ، فطلقها قبل أن يمسها ، فسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم : أتحل للأول ؟ قال : لا حتى يذوق عسيلتها كما ذاق الأول " . (2)
4897 - حدثنا سفيان بن وكيع ، قال : حدثنا موسى بن عيسى الليثي ، عن زائدة ، عن علي بن زيد ، عن أم محمد ، عن عائشة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : " إذا طلق الرجل امرأته ثلاثا لم تحل له حتى تنكح زوجا غيره ، فيذوق كل واحد منهما عسيلة صاحبه " . (3)
__________
(1) الحديث : 4895 - هذا والذي قبله مختصران من الحديث الذي بعدهما .
(2) الحديث : 4896 - يحيى - في هذا الإسناد - : هو ابن سعيد القطان الإمام .
* وهذا الحديث مطول الحديثين قبله .
* وقد رواه أحمد في المسند 6 : 193 (حلبي) عن يحيى - وهو القطان - بهذا الإسناد .
* ونقله ابن كثير 1 : 548 - 549 عن هذا الموضع من الطبري . ثم قال : " أخرجه البخاري ومسلم والنسائي من طرق عن عبيد الله بن عمر العمري عن القاسم بن أبي بكر عن عمته عائشة - به " .
* ونقله السيوطي 1 : 284 وزاد نسبته للبيهقي .
(3) الحديث : 4897 - موسى بن عيسى الليثي القارئ الكوفي ثقة أخرج له مسلم في الصحيح .
زائدة : هو ابن قدامة الثقفي ، وهو ثقة حافظ مأمون صاحب سنة .
علي بن زيد : هو ابن جدعان وهو ثقة رجحنا توثيقه في شرح المسند : 783 .
أم محمد : اسمها " أمية بنت عبد الله " وقيل " أمينة " . وهي امرأة والد علي بن زيد بن جدعان . قال الحافظ في التهذيب 12 : 402 " ووقع في بعض النسخ من الترمذي : عن علي بن زيد بن جدعان عن أمه . وهو غلط فقد روى علي بن زيد عن امرأة أبيه أم محمد - عدة أحاديث " . أقول : هو ربيبها فلا بأس أن يطلق عليها أنها أمه توسعا .
وهي تابعية عرف اسمها وكنيتها فهذا كاف في الحكم بتوثيقها . خصوصا مع قول الذهبي في الميزان 3 : 395 . عند ذكره النسوة المجهولات قال : " وما علمت في النساء من اتهمت ولا من تركوها " .
والحديث رواه أحمد في المسند 6 : 96 (حلبي) عن عفان عن حماد بن سلمة عن علي بن زيد به . نحوه . وهذا إسناد صحيح على شرط مسلم وهو أصح من إسناد الطبري .
ورواه أبو داود والطيالسي في مسنده : 1560 مختصرا عن حماد بن سلمة عن علي بن زيد عن عمته عن عائشة ولعل قوله " عن عمته " تساهل أيضًا إن لم يكن تحريفا من ناسخ أو طابع .
ومعناه ثابت عن عائشة بالروايات الصحاح السابقة وغيرها . وأشار إليه ابن كثير 1 : 549 من رواية الطبري هذه . وكان أجدر به - كعادته - أن يذكره من رواية أحمد وإسنادها أصح .

(4/592)


4898 - حدثني العباس بن أبي طالب ، قال : أخبرنا سعيد بن حفص الطلحي ، قال : أخبرنا شيبان ، عن يحيى ، عن أبي الحارث الغفاري ، عن أبي هريرة ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : " حتى يذوق عسيلتها " . (1)
4899 - حدثني عبيد بن آدم بن أبي إياس العسقلاني ، قال : حدثني أبي ، قال : حدثنا شيبان ، قال : حدثنا يحيى بن أبي كثير ، عن أبي الحارث الغفاري ، عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في المرأة يطلقها زوجها ثلاثا ، فتتزوج زوجا غيره ، فيطلقها قبل أن يدخل بها ، فيريد الأول أن يراجعها ، قال : " لا حتى يذوق عسيلتها " . (2)
__________
(1) الحديث : 4898 - العباس بن أبي طالب شيخ الطبري مضت ترجمته في : 880 سعد بن حفص الطلي المعروف بالضخم مولى آل طلحة : ثقة من شيوخ البخاري ووقع في المطبوعة " سعيد " وهو خطأ .
شيبان : هو ابن عبد الرحمن أبو معاوية النحوي . مضت ترجمته في : 2340 .
والحديث مختصر من الذي بعده . وسيأتي تمام الكلام فيه .
(2) الحديث : 48990 أبو الحارث الغفاري : ترجمه البخاري في الكنى برقم : 177 قال : " أبو الحارث سمع أبا هريرة . قال سعيد بن حفص [كذا وصوابه : سعد] : حدثنا شيبان عن يحيى عن أبي الحارث عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : لا حتى تذوق العسيلة . وقال وكيع : عن علي بن المبارك عن يحيى عن أبي يحيى [كذا وصوابه : عن أبي الحارث] . الغفاري عن أبي هريرة قوله " يريد أنه في رواية شيبان مرفوع وفي رواية علي ابن المبارك موقوف .
وترجمه ابن أبي حاتم 4/2/358 قال : " أبو الحارث الغفاري سمع أبا هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم : لا حتى تذوق العسيلة . روى علي بن المبارك . عن يحيى بن أبي كثير عنه سمعت أبي يقول ذلك " .
فرواية ابن المبارك عند أبي حاتم مرفوعة . ولا ينافي ذلك رواية البخاري وقفها . فإن الرفع زيادة ثقةن والراوي قد ينشط فيرفع الحديث وقد يقتصر فيرويه موقوفا .
وترجمه الحافظ في لسان الميزان وزاد أن الطحاوي روى له حديثا آخر موقوفا على أبي هريرة من رواية حرب بن شداد عن يحيى ثم قال : " وذكره الحاكم أبو أحمد في الكنى فيمن لا يعرف اسمه وساق حديث العسيلة من طريق البخاري في التاريخ عن سعيد بن حفص عن شيبان به ولم يذكر فيه جرحا " .
وهذا الحديث ذكره ابن كثير 1 : 548 من روايتي الطبري هاتين . ثم قال : " وأبو الحارث غير معروف " . والتعقيب عليه : أن البخاري وأبا حاتم عرفاه ، ولم يذكرا فيه جرحا فهو ثقة فضلا عن انه تابعي ، وهم على الثقة حتى يستبين جرح واضح .
وذكره السيوطي 1 : 284 ونسبه لابن أبي شيبة وابن جرير فقط . وأشار إليه الترمذي 2 : 185 في قوله " وفي الباب " . فقال شارحه المباركفوري : " وأما حديث أبي هريرة فأخرجه الطبراني وابن أبي شيبة " . وانا أرجح أن قوله " الطبراني " لأنه لو كان عند الطبراني لذكره الهيثمي في مجمع الزوائد ولم يفعل . وكذلك السيوطي لم ينسبه للطبراني بل نسبه للطبري .
وقوله : " يطلقها زوجها ثلاثا " : كلمة " ثلاثا " ليست في المخطوطة . وهي ثابتة في ابن كثير والسيوطي فإثباتها أجود وأوثق .

(4/593)


4900 - حدثني محمد بن إبراهيم الأنماطي ، قال : حدثنا هشام بن عبد الملك ، قال : حدثنا محمد بن دينار ، قال : حدثنا يحيى بن يزيد الهنائي ، عن أنس بن مالك ، عن النبي صلى الله عليه وسلم في رجل طلق امرأته ثلاثا ، فتزوجها آخر فطلقها قبل أن يدخل بها ، أترجع إلى زوجها الأول ؟ قال : " لا حتى يذوق عسيلتها وتذوق عسيلته " . (1)
__________
(1) الحديث : 4900 - محمد بن إبراهيم الأنماطي شيخ الطبري : هو الملقب بمربع صاحب يحيى بن معين ، وتلميذ الإمام أحمد بن حنبل . ترجمه ابن أبي حاتم 3/2/187 وقال : " بغدادي من الحفاظ " وترجمه الخطيب في تاريخ بغداد 1 : 388 - 389 ترجمه جيدة وقال : " كان أحد الحفاظ الفهماء " وذكر أن يحيى بن معين هو الذي لقبه " بمربع " - في نفر من أصحابه : " وهلاء كبار أصحابه وحفاظ الحديث " . وترجمه القاضي ابن أبي يعلى في طبقات الحنابلة 1 : 266 - 267 ترجمة مختصرة من تاريخ شيخه الخطيب . وفي التهذيب 9 : 11 ترجمة شيخ من هذه الطبقة قد يشتبه بهذا وهو " محمد بن إبراهيم الأسباطي " فهذا كوفي نزل مصر ، وهو غير ذاك . وترجمه ابن أبي حاتم أيضًا 3/2/186 .
هشام بن عبد الملك : هو أبو الوليد الطيالسي الحافظ مضى في : 28 .
محمد بن دينار الطاحي أبو بكر بن أبي الفرات : تكلم فيه بعضهم والحق أنه ثقة قال ابن معين : " ليس به بأس " وقال أبو زرعة : " صدوق " . وترجمه البخاري في الكبير 11/77 فلم يذكر فيه جرحا .
يحيى بن يزيد الهنائي البصري : تابعي ثقة ذكره ابن حبان في الثقات وترجمه البخاري في الكبير 4/2/310 فلم يذكر فيه جرحا . وروى عنه شعبة وهو لا يروي إلا عن ثقة . وأخرج له مسلم في صحيحه .
و " الهنائي " بضم الهاء وتخفيف النون ، نسبة إلى هناءة بن مالك بن فهم من الأزد قاله ابن الأثير في اللباب .
والحديث رواه أحمد في المسند : 14069 (3 : 284 حلبي) عن عفان عن محمد بن دينار بهذا الإسناد ، نحوه مطولا قليلا .
ورواه البيهقي 7 : 375 - 376 من طريق يحيى بن حماد عن محمد بن دينار به .
ونقله ابن كثير 1 : 548 عن رواية المسند ثم أشار إلى هذه الرواية عند الطبري . وذكره السيوطي 1 : 284 منسوبا لهؤلاء .
وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد 4 : 340 ونسبه لأحمد والبزار وأبي يعلى والطبراني في الأوسط . وقال : " ورجاله رجال الصحيح . خلا محمد بن دينار الطاحي وقد وثقه أبو حاتم وأبو زرعة وابن حبان . وفيه كلام لا يضر " .

(4/594)


4901 - حدثني يعقوب بن إبراهيم ، ويعقوب بن ماهان ، قالا حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا يحيى بن أبي إسحاق ، عن سليمان بن يسار ، عن عبيد الله بن العباس : أن الغميصاء - أو : الرميصاء - جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تشكو زوجها ، وتزعم أنه لا يصل إليها ، قال : فما كان إلا يسيرا حتى جاء زوجها ، فزعم أنها كاذبة ، ولكنها تريد أن ترجع إلى زوجها الأول ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ليس لك حتى يذوق عسيلتك رجل غيره " . (1)
__________
(1) الحديث : 4901 - يعقوب بن إبراهيم شيخ الطبري : هو الدورقي الحافظ مضى مرارا ويعقوب بن ماهان شيخه أيضًا : هو البغدادي البناء وهو ثقة ، قال حجاج بن الشاعر : " ليس ببغداد مثل يعقوب بن ماهان " .
والحديث رواه أحمد في المسند : 1837 . وهو حديث صحيح ، فصلنا القول فيه هناك ، وفي الاستدراك في المسند ، رقم : 1448 . (ج8 ص312 - 313 بشرحنا) .
وذكره السيوطي 1 : 284 منسوبا لأحمد والنسائي فقط . ولكنه فيه " عن عبد الله بن عباس " . وهو عندي - خطأ ناسخ أو طابع كما وقع في مطبوعة النسائي .

(4/595)


4902 - حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، عن علقمة بن مرثد ، عن سالم بن رزين الأحمري ، عن سالم بن عبد الله ، عن سعيد بن المسيب ، عن ابن عمر ، عن النبي صلى الله عليه وسلم في رجل يتزوج المرأة فيطلقها قبل أن يدخل بها ألبتة ، فتتزوج زوجا آخر ، فيطلقها قبل أن يدخل بها ، أترجع إلى الأول ؟ قال : " لا حتى تذوق عسيلته ويذوق عسيلتها " .
4903 - حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن علقمة بن مرثد ، عن رزين الأحمري ، عن ابن عمر ، عن النبي أنه سئل عن الرجل يطلق امرأته ثلاثا ، فيتزوجها رجل ، فأغلق الباب ، فطلقها قبل أن يدخل بها ، أترجع إلى زوجها الآخر ؟ قال : " لا حتى يذوق عسيلتها " .
4904 - حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا سفيان ، عن علقمة بن مرثد ، عن سليمان بن رزين ، عن ابن عمر أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم وهو يخطب عن رجل طلق امرأته ، فتزوجت بعده ، ثم طلقها أو مات عنها ، أيتزوجها الأول ؟ قال : لا حتى تذوق عسيلته. (1)
* * *
__________
(1) الأحاديث : 4902 - 4904 هي حديث واحد بثلاثة أسانيد واسانيده كلها ضعاف . وقد فصلت القول فيه في شرح المسند : 4776 ، 4777 ، 5277 ، 5278 ، 5571 .
* وقد ذكر البخاري الخلاف فيه ، في الكبير 2/214 في ترجمة " سليمان بن رزين " . ثم قال : قال إبراهيم بن المنذر : حدثنا أنس بن عياض سمع موسى بن عقبة عن نافع عن ابن عمر قال : لو فعله أحد وعمر حي ، لرجمهما . قال أبو عبد الله [هو البخاري نفسه] : وهذا أشهر ولا تقوم الحجة بسالم بن رزين ولا برزين لأنه لا يدري سماعه من سالم ولا من ابن عمر " .
* وخبر ابن عمر هذا - الموقوف - رواه أيضًا عبد الرزاق في المصنف (3 : 305 مخطوط مصور) : " عن ابن جريج عن موسى بن عقبة عن نافع عن ابن عمر قال : لو أن رجلا طلق امرأته ثلاثا ثم نكحها رجل بعده ، ثم طلقها قبل أن يجامعها ثم نكحها زوجها الأول - فيفعل ذلك وعمر حي إذن لرجمهما " .

(4/596)


القول في تأويل قوله تعالى : { فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ }
قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بقوله : " فإن طلقها " فإن طلق المرأة - التي بانت من زوجها بآخر التطليقات الثلاث بعد ما نكحها مطلقها الثاني - ، (1) زوجها الذي نكحها بعد بينونتها من الأول " فلا جناح عليهما " يقول تعالى ذكره : فلا حرج على المرأة التي طلقها هذا الثاني من بعد بينونتها من الأول ، وبعد نكاحه إياها - ، (2) وعلى الزوج الأول الذي كانت حرمت عليه ببينونتها منه بآخر التطليقات أن يتراجعا بنكاح جديد. كما :
4905 - حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : حدثني معاوية بن صالح ، عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : " فإن طلقها فلا جناح عليهما أن يتراجعا إن ظنا أن يقيما حدود الله " (3) يقول : إذا تزوجت بعد الأول ، فدخل الآخر بها ، فلا حرج على الأول أن يتزوجها إذا طلق الآخر أو مات عنها ، فقد حلت له .
4906 - حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا هشام ، قال : أخبرنا
__________
(1) قوله : " زوجها " فاعل قوله في صدر الكلام : " فإن طلق المرأة . . " وسياق جملته : " فإن طلق المرأة . . . زوجها الذي نكحها . . . " وما بينهما فصل طويل في صفة " المرأة " .
(2) قوله " على الزوج . . . " معطوف على قوله : " على المرأة " وسياق جملته : " فلا حرج على المرأة . . . وعلى الزوج . . . أن يتراجعا " . وهكذا اضطررت للمخالفة بين أنواع الفواصل حتى يتيسر للقارئ وصل الكلام بعضه ببعض .
(3) في المخطوطة قطع الآية عند قوله : " أن يتراجعا " ومضى في الكلام .

(4/597)


جويبر ، عن الضحاك ، قال : إذا طلق واحدة أو ثنتين ، فله الرجعة ما لم تنقض العدة. قال : والثالثة قوله : " فإن طلقها " يعني الثالثة فلا رجعة له عليها حتى تنكح زوجا غيره ، فيدخل بها ، " فإن طلقها " هذا الأخير بعد ما يدخل بها ، " فلا جناح عليهما أن يتراجعا " يعنى الأول " إن ظنا أن يقيما حدود الله " .
* * *
قال أبو جعفر : وأما قوله : " إن ظنا أن يقيما حدود الله " فإن معناه : إن رجوا مطمعا أن يقيما حدود الله. وإقامتهما حدود الله : العمل بها ، وحدود الله : ما أمرهما به ، وأوجب بكل واحد منهما على صاحبه ، وألزم كل واحد منهما بسبب النكاح الذي يكون بينهما. وقد بينا معنى " الحدود " ، ومعنى " إقامة " ذلك ، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. (1)
* * *
وكان مجاهد يقول في تأويل قوله : " إن ظنا أن يقيما حدود الله " ما : -
4907 - حدثني به محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : " إن ظنا أن يقيما حدود الله " إن ظنا أن نكاحهما على غير دلسة. (2)
4908 - حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله.
* * *
قال أبو جعفر : وقد وجه بعض أهل التأويل قوله " إن ظنا " إلى أنه بمعنى : إن أيقنا. (3) وذلك ما لا وجه له ، لأن أحدا لا يعلم ما هو كائن إلا الله تعالى
__________
(1) انظر تفسير " الحدود " فيما سلف من هذا الجزء 4 : 584 ومعنى " إقامة الحدود والصلاة " فيما سلف 1 : 241 وهذا الجزء 4 : 564 ، 565 .
(2) الدلسة : (بضم فسكون) الظلام ومثله " الدلس " (بفتحتين) ومن مجازها : دالس يدالس مدالسة : أي خادع وغدر لأنه يخفي عليك الشيء ، كأنه يأتيك به في الظلام ولم أجد من استعمل " الدلسة " مجازا في المخادعة والغش إلا في هذا الأثر . وهو عربي عتيق فصيح .
(3) هو أبو عبيدة في مجاز القرآن 1 : 74 .

(4/598)


ذكره. فإذ كان ذلك كذلك ، فما المعنى الذي به يوقن الرجل والمرأة أنهما إذا تراجعا أقاما حدود الله ؟ ولكن معنى ذلك كما قال تعالى ذكره : " إن ظنا " بمعنى طمعا بذلك ورجوا
* * *
" وأن " التي في قوله : " أن يقيما " ، في موضع نصب بـ " ظنا " ، و " أن " التي في " أن يتراجعا " جعلها بعض أهل العربية في موضع نصب بفقد الخافض ، (1) لأن معنى الكلام : فلا جناح عليهما في أن يتراجعا - فلما حذفت " في " التي كانت تخفضها نصبها ، فكأنه قال : فلا جناح عليهما تراجعهما.
وكان بعضهم يقول : (2) موضعه خفض ، وإن لم يكن معها خافضها ، وإن كان محذوفا فمعروف موضعه.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (230) }
قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بقوله : " وتلك حدود الله " هذه الأمور التي بينها لعباده في الطلاق والرجعة والفدية والعدة والإيلاء وغير ذلك مما يبينه لهم في هذه الآيات " حدود الله " - معالم فصول حلاله وحرامه ، وطاعته ومعصيته " يبينها " يفصلها ، فيميز بينها ، ويعرفهم أحكامها لقوم يعلمونها إذا بينها الله لهم ، فيعرفون أنها من عند الله ، فيصدقون بها ، ويعملون بما أودعهم الله من علمه ، دون الذين قد طبع الله على قلوبهم ، وقضى عليهم أنهم لا يؤمنون بها ، ولا يصدقون
__________
(1) يعني بهذا الفراء في معاني القرآن 1 : 148 .
(2) هو الكسائي فيما نقله الفراء في كتابه 1 : 148 أيضًا .

(4/599)


بأنها من عند الله ، فهم يجهلون أنها من الله ، وأنها تنزيل من حكيم حميد. ولذلك خص القوم الذي يعلمون بالبيان دون الذين يجهلون ، إذ كان الذين يجهلون أنها من عنده قد آيس نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم من تصديق كثير منهم بها ، وإن كان بينها لهم من وجه الحجة عليهم ولزوم العمل لهم بها ، وإنما أخرجها من أن تكون بيانا لهم من وجه تركهم الإقرار والتصديق به.
* * *

(4/600)


وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلَا تَتَّخِذُوا آَيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (231)

القول في تأويل قوله تعالى : { وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا }
قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بذلك : " وإذا طلقتم " ، أيها الرجال نساءكم " فبلغن أجلهن " ، يعني : ميقاتهن الذي وقته لهن ، من انقضاء الأقراء الثلاثة ، إن كانت من أهل القرء ، (1) وانقضاء الأشهر ، إن كانت من أهل الشهور " فأمسكوهن " ، يقول : فراجعوهن إن أردتم رجعتهن في الطلقة التي فيها رجعة : وذلك إما في التطليقة الواحدة أو التطليقتين ، كما قال تعالى ذكره : ( الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ ).
وأما قوله : " بمعروف " ، فإنه عنى : بما أذن به من الرجعة ، من الإشهاد على الرجعة قبل انقضاء العدة ، دون الرجعة بالوطء والجماع. لأن ذلك إنما يجوز للرجل بعد الرجعة ، وعلى الصحبة مع ذلك والعشرة بما أمر الله به وبينه لكم أيها الناس " أو سرحوهن بمعروف " ، يقول : أو خلوهن يقضين تمام عدتهن وينقضي بقية أجلهن الذي أجلته لهن لعددهن ، بمعروف. يقول : بإيفائهن تمام حقوقهن عليكم ، (2) على ما ألزمتكم لهن من مهر ومتعة ونفقة وغير ذلك من حقوقهن قبلكم " ولا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا " يقول : ولا تراجعوهن ،
__________
(1) في المطبوعة : " من أهل الأقراء " ، وهي صواب ، ولكن لا أدري لم غير ما في المخطوطة .
(2) في المخطوطة : " بإنفاقهن " ، وهو فساد من الناسخ العجل ، كما أسلفت .

(5/7)


إن راجعتموهن في عددهن ، مضارة لهن ، لتطولوا عليهن مدة انقضاء عددهن ، أو لتأخذوا منهن بعض ما آتيتموهن بطلبهن الخلع منكم ، لمضارتكم إياهن ، بإمساككم إياهن ، ومراجعتكموهن ضرارا واعتداء.
وقوله : " لتعتدوا " ، يقول : لتظلموهن بمجاوزتكم في أمرهن حدودي التي بينتها لكم.
* * *
وبمثل الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
4909 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا جرير ، عن منصور ، عن أبي الضحى ، عن مسروق : " ولا تمسكوهن ضرارا " ، قال : يطلقها ، حتى إذا كادت تنقضي راجعها ، ثم يطلقها ، فيدعها ، حتى إذا كادت تنقضي عدتها راجعها ، ولا يريد إمساكها : فذلك الذي يضار ويتخذ آيات الله هزوا.
4910 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال ، حدثنا ابن علية ، عن أبي رجاء قال : سئل الحسن عن قوله تعالى : " وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو سرحوهن بمعروف ولا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا " ، قال : كان الرجل يطلق المرأة ثم يراجعها ، ثم يطلقها ثم يراجعها ، يضارها ، فنهاهم الله عن ذلك.
4911 - حدثني محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : " وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو سرحوهن بمعروف " ، قال : نهى الله عن الضرار " ضرارا " ، أن يطلق الرجل امرأته ثم يراجعها عند آخر يوم يبقى من الأجل ، حتى يفي لها تسعة أشهر ، ليضارها به.
4912 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد بنحوه إلا أنه قال : نهى عن الضرار ، والضرار في الطلاق

(5/8)


أن يطلق الرجل امرأته ثم يراجعها وسائر الحديث مثل حديث محمد بن عمرو.
4913 - حدثني محمد بن سعد قال ، حدثنا أبي قال ، حدثنا عمي قال ، حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : " وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو سرحوهن بمعروف ولا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا " ، كان الرجل يطلق امرأته ثم يراجعها قيل انقضاء عدتها ، ثم يطلقها. يفعل ذلك يضارها ويعضلها ، فأنزل الله هذه الآية . (1)
4914 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع في قوله : " وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو سرحوهن بمعروف ولا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا " ، قال : كان الرجل يطلق امرأته تطليقة واحدة ، ثم يدعها ، حتى إذا ما تكاد تخلو عدتها راجعها ، ثم يطلقها ، حتى إذا ما كاد تخلو عدتها راجعها. (2) ولا حاجة له فيها ، إنما يريد أن يضارها بذلك. فنهى الله عن ذلك وتقدم فيه ، (3) وقال : " ومن يفعل ذلك فقد ظلم نفسه " .
4915 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو صالح قال ، حدثني الليث ، عن يونس ، عن ابن شهاب قال : قال الله تعالى ذكره : " وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو سرحوهن بمعروف ولا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا " ، فإذا طلق الرجل المرأة وبلغت أجلها ، فليراجعها بمعروف أو ليسرحها بإحسان ، ولا يحل له أن يراجعها ضرارا ، وليست له فيها رغبة ، إلا أن يضارها.
4916 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الرزاق ، عن معمر ، عن قتادة في قوله : " ولا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا " ، قال : هو في الرجل
__________
(1) عضل المرأة يعضلها : لم يحسن عشرتها ، ليضطرها بذلك إلى الافتداء منه بمهرها الذي أمهرها .
(2) خلا الشيء يخلو خلوا : مضى وانقضى .
(3) قوله : " تقدم فيه " ، أي أمرهم بأمره فيه ونهاهم عن فعله ، وزجرهم .

(5/9)


يحلف بطلاق امرأته ، فإذا بقي من عدتها شيء راجعها ، يضارها بذلك ويطول عليها ، فنهاهم الله عن ذلك.
4917 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا إسماعيل بن أبي أويس ، عن مالك بن أنس ، عن ثور بن زيد الديلي : أن رجلا كان يطلق امرأته ثم يراجعها ، ولا حاجة له بها ولا يريد إمساكها ، كيما يطول عليها بذلك العدة ليضارها ، فأنزل الله تعالى ذكره : " ولا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا ومن يفعل ذلك فقد ظلم نفسه " ، يعظم ذلك. (1)
4918 - حدثت عن الحسين بن الفرج قال ، سمعت أبا معاذ الفضل بن خالد قال ، حدثنا عبيد بن سليمان الباهلي قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : " ولا تمسكوهن ضرارا " ، هو الرجل يطلق امرأته واحدة ثم يراجعها ، ثم يطلقها ثم يراجعها ، ثم يطلقها ، ليضارها بذلك ، لتختلع منه.
4920 - حدثنا موسى قال حدثنا عمرو قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : " وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو سرحوهن بمعروف ولا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا ومن يفعل ذلك فقد ظلم نفسه ولا تتخذوا آيات الله هزوا " ، قال : نزلت في رجل من الأنصار يدعى ثابت بن يسار (2) طلق امرأته حتى إذا انقضت عدتها إلا يومين أو ثلاثة ، راجعها ، (3) ثم طلقها ، ففعل ذلك بها حتى مضت لها تسعة أشهر ، مضارَّةً يضارُّها ، فأنزل الله تعالى ذكره : " ولا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا " .
4921 - حدثني العباس بن الوليد قال ، أخبرني أبي قال ، سمعت عبد العزيز
__________
(1) الأثر : 4917 - الموطأ : 588 ، بلفظه ، إلا قوله : " يعظم ذلك " فإنها فيه " يعظهم الله بذلك " . وفي المطبوعة : " ليعظم ذلك " .
(2) في المطبوعة : " ثابت بن بشار " ، والصواب من المخطوطة ، والدر المنثور 1 : 285 ، وأسد الغابة ، وذكر الخبر ، ونسبه إلى الطبري وابن المنذر .
(3) في المطبوعة : " أو ثلاثا " والصواب من المخطوطة .

(5/10)


يسأل عن طلاق الضرار فقال : يطلق ثم يراجع ، ثم يطلق ثم يراجع ، فهذا الضرار الذي قال الله : " ولا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا " .
4922 - حدثنا أحمد بن إسحاق قال ، حدثنا أبو أحمد قال : حدثنا فضيل بن مرزوق ، عن عطية : " ولا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا " ، قال : الرجل يطلق امرأته تطليقة ، ثم يتركها حتى تحيض ثلاث حيض ، ثم يراجعها ، ثم يطلقها تطليقة ، ثم يمسك عنها حتى تحيض ثلاث حيض ، ثم يراجعها " لتعتدوا " ، قال : لا يطاول عليهن.
* * *
قال أبو جعفر : وأصل " التسريح " ، من " سرح القوم " ، وهو ما أطلق من نَعَمهم للرعي. يقال للمواشي المرسلة للرعي " هذا سرْح القوم " يراد به مواشيهم المرسلة للرعي. ومنه قول الله تعالى ذكره : ( وَالأنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ ) [سورة النحل : 5 ، 6] يعني بقوله : " حين تسرحون " ، حين ترسلونها للرعي. فقيل للمرأة إذا خلاها زوجها فأبانها منه : سرحها ، تمثيلا لذلك ب " تسريح " المسرح ماشيته للرعي ، وتشبيها به. (1)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ }
قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بذلك : ومن يراجع امرأته بعد طلاقه إياها في الطلاق الذي له فيه عليها الرجعة ضرارا بها ليعتدي حد الله في أمرها ،
__________
(1) هذا دليل آخر على أن الطبري كان أحيانا يرجئ تفسير كلمة أو ينساها ، لرغبته في الاختصار وإلا فقد مضى " التسريح " آنفًا في الآية : 229 ، ولم يبينه هناك .

(5/11)


فقد ظلم نفسه ، يعني : فأكسبها بذلك إثما ، وأوجب لها من الله عقوبة بذلك.
* * *
وقد بينا معنى " الظلم " فيما مضى ، وأنه وضع الشيء في غير موضعه ، وفعل ما ليس للفاعل فعله. (1)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا }
قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره : ولا تتخذوا أعلام الله وفصوله بين حلاله وحرامه ، وأمره ونهيه ، في وحيه وتنزيله استهزاء ولعبا ، فإنه قد بين لكم في تنزيله وآي كتابه ، ما لكم من الرجعة على نسائكم ، في الطلاق الذي جعل لكم عليهن فيه الرجعة ، وما ليس لكم منها ، وما الوجه الجائز لكم منها ، وما الذي لا يجوز ، وما الطلاق الذي لكم عليهن فيه الرجعة ، وما ليس لكم ذلك فيه ، وكيف وجوه ذلك ، رحمة منه بكم ونعمة منه عليكم ، ليجعل بذلك لبعضكم من مكروه ، إن كان فيه من صاحبه ما يؤذيه المخرج والمخلص بالطلاق والفراق ، (2) وجعل ما جعل لكم عليهن من الرجعة سبيلا لكم إلى الوصول إلى ما نازعه إليه ودعاه إليه هواه ، بعد فراقه إياهن منهن ، لتدركوا بذلك قضاء أوطاركم منهن ، إنعاما منه بذلك عليكم ، لا لتتخذوا ما بينت لكم من ذلك في آي كتابي وتنزيلي - تفضلا مني ببيانه عليكم
__________
(1) انظر مراجع " الظلم " فيما سلف 4 : 584 ، تعليق رقم : 2
(2) في المخطوطة والمطبوعة : " ليجعل بذلك لبعضكم من مكروه إن كان فيه من صاحبه مما هو فيه المخرج . . . " ، وهي جملة لا تكاد تستقيم ، وأظن أن الناسخ العجل في هذا القسم من الكتاب ، قد عجل كعادته ، فنقل " ما يؤذيه " " مما هو فيه " جعل " الياء " هاء ، وشبك الذال في الياء وجعلها فاء . وسياق الجملة : " ليجعل بذلك لبعضكم المخرج والمخلص . . . من مكروه إن كان - فيه من صاحبه ما يؤذيه " _ أي : في هذا المكروه من صاحبه أذى له ، وجملة " فيه من صاحبه ما يؤذيه " ، صفة لقوله : " مكروه " .

(5/12)


وإنعاما ورحمة مني بكم - لعبا وسخريا.
* * *
وبمعنى ما قلنا في ذلك قال ، أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
4923 - حدثني عبد الله بن أحمد بن شبويه قال ، حدثنا أبي قال ، حدثنا أيوب بن سليمان قال ، حدثنا أبو بكر بن أبي أويس ، عن سليمان بن بلال ، عن محمد بن أبي عتيق وموسى بن عقبة ، عن ابن شهاب ، عن سليمان بن أرقم : أن الحسن حدثهم : أن الناس كانوا على عهد رسول الله صلي الله عليه وسلم ، يطلق الرجل أو يعتق فيقال : ما صنعت ؟ فيقول : إنما كنت لاعبا! قال رسول الله صلي الله عليه وسلم : من طلق لاعبا أو أعتق لاعبا فقد جاز عليه قال الحسن : وفيه نزلت : " ولا تتخذوا آيات الله هزوا " . (1) .
4924 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا ابن أبي جعفر ،
__________
(1) الحديث : 4923 - عبد الله بن أحمد بن شبويه : مضى في : 1909 - أبوه " أحمد بن محمد بن ثابت بن عثمان الخزاعي ، أبو الحسن بن شبويه " : ثقة ، روى عنه ابن معين - وهو من أقرانه - وأبو زرعة وأبو داود ، وغيرهم . أيوب بن سليمان بن بلال التيمي : ثقة من شيوخ البخاري . يروى عن أبيه بواسطة ابن أبي أويس . أبو بكر بن أبي أويس : هو عبد الحميد بن عبد الله بن عبد الله المدني الأعشى ، مضى في : 4333 . سليمان بن بلال : مضى في 41 ، 4333 . محمد بن أبي عتيق : هو محمد بن عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق ، نسب إلى " أبي عتيق " كنية جده " محمد بن عبد الرحمن " . وهو ثقة ، أخرج له البخاري في صحيحه . سليمان بن أرقم ، أبو معاذ البصري : ضعيف جدا ، قال البخاري : " تركوه " . وقال ابن معين : " ليس يسوى فلسا ، وليس بشيء " . وقال أبو زرعة : " ضعيف الحديث ، ذاهب الحديث " . وهو من تلاميذ الزهري ، ولكن الزهري يروى عنه أحيانا ، كما في هذا الإسناد . وهذا الحديث ضعيف ، لإرساله ، إلى ضعف راويه سليمان بن أرقم . وقد جاء هذا الحديث المرسل بإسناد أجود من هذا - على إرساله - : فرواه ابن أبي حاتم ، عن عصام بن رواد ، عن آدم بن أبي إياس ، عن المبارك بن فضالة ، عن الحسن . ذكره ابن كثير 1 : 555 . ثم أشار إلى إسناد الطبري هنا . وذكره السيوطي 1 : 286 ، وزاد نسبته لابن أبي شيبة .

(5/13)


عن أبيه ، عن الربيع في قوله : " ولا تتخذوا آيات الله هزوا " ، قال : كان الرجل يطلق امرأته فيقول : إنما طلقت لاعبا! فنهوا عن ذلك ، فقال تعالى ذكره : " ولا تتخذوا آيات الله هزوا " .
4925 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا إسحاق بن منصور ، عن عبد السلام بن حرب ، عن يزيد بن عبد الرحمن ، عن أبي العلاء ، عن حميد بن عبد الرحمن ، عن أبي موسى : أن رسول الله صلي الله عليه وسلم غضب على الأشعريين - فأتاه أبو موسى فقال : يا رسول الله ، غضبت على الأشعريين! فقال : يقول أحدكم : " قد طلقت ، قد راجعت " !! ليس هذا طلاق المسلمين ، طلقوا المرأة في قبل عدتها.
4926 - حدثنا أبو زيد ، عن ابن شبة قال ، حدثنا أبو غسان النهدي قال ، حدثنا عبد السلام بن حرب ، عن يزيد بن أبي خالد - يعني الدالاني - عن أبي العلاء الأودي ، عن حميد بن عبد الرحمن ، عن أبي موسى الأشعري ، عن النبي صلي الله عليه وسلم أنه قال : " لم يقول أحدكم لامرأته : قد طلقتك ، قد راجعتك " ؟ ليس هذا بطلاق المسلمين ، طلقوا المرأة في قبل طهرها. (1)
* * *
__________
(1) الحديثان : 4925 ، 4926 - إسحاق بن منصور السلولي - في الإسناد الأول : ثقة ، أخرج له الأئمة الستة .
و " أبو زيد عن ابن شبة " - في الإسناد الثاني : لم أجد في هذه الطبقة من يعرف بأبي زيد ، ولا في التي فوقها من يعرف بابن شبة . والظاهر أنه شيخ واحد ، محرف عن " أبي زيد عمر بن شبة " . أبو غسان النهدي : هو مالك بن إسماعيل بن درهم ، مضى في : 2989 .
يزيد بن عبد الرحمن - في الإسناد الأول : هو " يزيد أبو خالد الدالاني " . في الإسناد الثاني . مضت ترجمته في : 875 . ووقع في الإسناد الثاني - هنا - " عن يزيد بن أبي خالد " ، وزيادة " بن " خطأ .
أبو العلاء الأودي : هو داود بن عبد الله الأودي الزعافري . وهو ثقة ، وثقه أحمد ، وابن معين ، وغيرهما . وأخطأ من خلط بينه وبين " داود بن يزيد الأودي ، عم ابن إدريس " . " الزعافري " : نسبة إلى " الزعافر " ، وهم بطن من " أود " .
حميد بن عبد الرحمن الحميري البصري : تابعي ثقة ، أخرج له الأئمة الستة .
والحديث رواه أيضًا البيهقي 7 : 323 ، من طريق العباس بن محمد الدوري ، عن مالك بن إسماعيل ، وهو أبو غسان النهدي ، عن عبد السلام بن حرب ، به . وآخره عنده : " طلقوا المرأة في قبل طهرها " . وقوله في الإسناد الثاني : " أنه قال : لم يقول أحدكم لامرأته " - في المطبوعة " لهم " بدل " لم " . والظاهر أنها خطأ ، فصححناه من رواية البيهقي .
وإسنادا الطبري هذان صحيحان . وكذلك إسناد البيهقي . ونقله ابن كثير 1 : 554 ، عن إسناد الطبري الأول ، ثم أشار إلى الثاني . ونقله السيوطي 1 : 285 - 286 ، ونسبة لابن ماجه ، وابن جرير ، والبيهقي . ثم نقله بنحوه 6 : 230 ، ونسبه لعبد بن حميد ، وابن مردويه .
ورواية ابن ماجه ليست بهذا اللفظ ، ولا من هذا الوجه . فرواه ابن ماجه : 2017 ، عن محمد بن بشار ، عن مؤمل بن إسماعيل ، عن سفيان ، عن أبي إسحاق ، عن أبي بردة ، عن أبي موسى ، مرفوعا : " ما بال أقوام يلعبون بحدود الله ؟ يقول أحدهم : قد طلقتك ، قد راجعتك ، قد طلقتك!! " وقال البوصيري في زوائده : " إسناده حسن ، مؤمل بن إسماعيل اختلف فيه ، فقيل : ثقة . وقيل : كثير الخطأ ، وقيل : منكر الحديث " .
وقد أخطأ البوصيري من وجهين . فإن مؤمل بن إسماعيل ثقة ، كما بينا في : 2057 . ثم هو لم ينفرد بروايته حتى يعل به .
فقد رواه البيهقي 7 : 322 ، من طريق موسى بن مسعود النهدي ، عن سفيان ، وهو الثوري ، بهذا الإسناد . ثم رواه أيضًا من طريق مؤمل بن إسماعيل ، عن الثوري . وموسى بن مسعود : ثقة ، كما بينا في : 280 ، 1693 .

(5/14)


القول في تأويل قوله تعالى : { وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ }
قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بذلك : واذكروا نعمة الله عليكم بالإسلام ، الذي أنعم عليكم به فهداكم له ، وسائر نعمه التي خصكم بها دون غيركم من سائر خلقه ، فاشكروه على ذلك بطاعته فيما أمركم به ونهاكم عنه ، واذكروا أيضا مع ذلك ما أنزل عليكم من كتابه ، وذلك : القرآن الذي أنزله على نبيه محمد صلي الله عليه وسلم ، (1) واذكروا ذلك فاعملوا به ، واحفظوا حدوده فيه و " الحكمة " ، يعني : وما أنزل عليكم من الحكمة ، وهي السنن التي علمكموها رسول الله صلي الله عليه وسلم وسنها لكم.
__________
(1) في المطبوعة : " من كتابه ذلك القرآن " ، وهو سهو من الكاتب والصواب من المخطوطة .

(5/15)


وقد ذكرت اختلاف المختلفين في معنى " الحكمة " فيما مضى قبل في قوله : ( وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ ) (1) [سورة البقرة : 129] ، فأغنى عن إعادته في هذا الموضع. (2)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (231) }
قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بقوله : " يعظكم به " ، يعظكم بالكتاب الذي أنزل عليكم والهاء التي في قوله : " به " ، عائدة على الكتاب.
" واتقوا الله " ، يقول : وخافوا الله فيما أمركم به وفيما نهاكم عنه في كتابه الذي أنزله عليكم ، وفيما أنزله فبينه على لسان رسول الله صلي الله عليه وسلم لكم أن تضيعوه وتتعدوا حدوده ، فتستوجبوا ما لا قبل لكم به من أليم عقابه ونكال عذابه.
وقوله : " واعلموا أن الله بكل شيء عليم " ، يقول : واعلموا أيها الناس أن ربكم الذي حد لكم هذه الحدود ، وشرع لكم هذه الشرائع ، وفرض عليكم هذه الفرائض ، في كتابه وفي تنزيله على رسوله محمد صلي الله عليه وسلم بكل ما أنتم عاملوه - من خير وشر ، وحسن وسيئ ، وطاعة ومعصية ، عالم لا يخفى عليه من ظاهر ذلك وخفيه وسره وجهره ، شيء ، وهو مجازيكم بالإحسان إحسانا ، وبالسيئ سيئا ، إلا أن يعفو ويصفح ، فلا تتعرضوا لعقابه وتظلموا أنفسكم. (3)
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة : " ويعلمكم الكتاب " ، وصوابها هنا ما أثبت .
(2) انظر ما سلف 3 : 87 ، 88 .
(3) في المطبوعة : " ولا تظلموا أنفسكم " ، والصواب من المخطوطة بحذف " لا " .

(5/16)


وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (232)

* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ }
قال أبو جعفر : ذكر أن هذه الآية نزلت في رجل كانت له أخت كان زوجها من ابن عم لها فطلقها ، وتركها فلم يراجعها حتى انقضت عدتها ، ثم خطبها منه ، فأبى أن يزوجها إياه ومنعها منه ، وهي فيه راغبة.
* * *
ثم اختلف أهل التأويل في الرجل الذي كان فعل ذلك ، فنزلت فيه هذه الآية. فقال بعضهم كان ذلك الرجل : " معقل بن يسار المزني " .
* ذكر من قال ذلك :
4927 - حدثني محمد بن بشار قال ، حدثنا عبد الأعلى قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة عن الحسن ، عن معقل بن يسار قال : كانت أخته تحت رجل فطلقها ، ثم خلا عنها ، (1) حتى إذا انقضت عدتها خطبها ، فحمي معقل من ذلك ، أَنَفًا ، (2) وقال : خلا عنها وهو يقدر عليها!! (3) فحال بينه وبينها ، فأنزل الله تعالى ذكره : " وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن إذا تراضوا بينهم بالمعروف " . (4)
__________
(1) خلا عن الشيء : تركه . وهذا الفعل الثلاثي قلما تصيبه واضحا في كتب اللغة ، ولكنه عربي معرق . وقد جاء في ثنايا العبارة في مادة (خلا) من لسان العرب ، وأتى به واضحا الشيرازي في معيار اللغة . والرواية الآتية تدل على صحة معناه كذلك . وهكذا جاء في مخطوطة الطبري ومطبوعته " خلا " ثلاثيا في الموضعين ، وجاء في رواية البخاري التي سنذكرها بعد " خَلَّى عَنْها " في الموضعين ، وهي بمعناها .
(2) قال ابن حجر في الفتح : " حمى - بكسر ثانية ، وأنفًا ، بفتح الهمزة والنون ، أي ترك الفعل غيظا وترفعا " وحمى : أخذته الحمية ، وهي الأنفة والغيرة .
(3) خلا عن الشيء : تركه . وهذا الفعل الثلاثي قلما تصيبه واضحا في كتب اللغة ، ولكنه عربي معرق . وقد جاء في ثنايا العبارة في مادة (خلا) من لسان العرب ، وأتى به واضحا الشيرازي في معيار اللغة . والرواية الآتية تدل على صحة معناه كذلك . وهكذا جاء في مخطوطة الطبري ومطبوعته " خلا " ثلاثيا في الموضعين ، وجاء في رواية البخاري التي سنذكرها بعد " خلى عنها " في الموضعين ، وهي بمعناها .
(4) الأثر : 4927 - أخرجه البخاري بروايته عن محمد بن المثنى ، عن عبد الأعلى (الفتح 9 : 425 - 426) ، وفي رواية البخاري زيادة : " فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقرأ عليه . فترك الحمية واستقاد لأمر الله " . وستأتي في مرسل قتادة الآتي برقم : 4930 ، وسأشرحها في التعليق هناك .

(5/17)


4928 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا وكيع ، عن الفضل بن دلهم ، عن الحسن ، عن معقل بن يسار : أن أخته طلقها زوجها ، فأراد أن يراجعها ، فمنعها معقل ، فأنزل الله تعالى ذكره : " وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن " إلى آخر الآية. (1)
4929 - حدثنا محمد بن عبد الله المخزومي قال ، حدثنا أبو عامر قال ، حدثنا عباد بن راشد قال ، حدثنا الحسن قال ، حدثني معقل بن يسار قال : كانت لي أخت تخطب وأمنعها الناس ، حتى خطب إلي ابن عم لي فأنكحتها ، فاصطحبا ما شاء الله ، ثم إنه طلقها طلاقا له رجعة ، ثم تركها حتى انقضت عدتها ، ثم خطبت إلي ، فأتاني يخطبها مع الخطاب ، فقلت له : خطبت إلي فمنعتها الناس ، فآثرتك بها ، ثم طلقت طلاقا لك فيه رجعة ، فلما خُطبت إلي آتيتني تخطبها مع الخطاب! والله لا أنكحكها أبدا! قال : ففي نزلت هذه الآية : " وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن إذا تراضوا بينهم بالمعروف " ، قال : فكفرت عن يميني ، وأنكحتها إياه. (2)
4930 - حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة : " وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن إذا
__________
(1) الأثر : 4928 - أخرجه الحاكم في المستدرك 2 : 280 وقال : " هذا حديث صحيح الإسناد . ولم يخرجاه " ، وعقب عليه الذهبي فقال : " الفضل ، ضعفه ابن معين ، وقواه غيره " . بيد أن ابن أبي حاتم ذكر في ترجمته في الجرح والتعديل 3/2/61 : " سئل يحيى بن معين عن الفضل بن دلهم فقال : حديثه صالح " وانظر الاختلاف في أمر الفضل في ترجمته في التهذيب .
(2) الأثر : 4929 - " محمد بن عبد الله بن المبارك القرشي المخرمي " (بضم الميم وفتح الخاء وتشديد الراء المكسورة ، نسبة إلى " المخرم " ، وهي محلة كانت ببغداد ، بين الرصافة ونهر المعلى . توفي ببغداد سنة 260 ، قال النسائي : " كان أحد الثقات ، ما رأينا بالعراق مثله " . وقال الدارقطني : " ثقة جليل متقن " . وقد مضت رواية الطبري عنه رقم : 3730 . وكان في المطبوعة : " المخزومي " .
وهذا الأثر ، أخرجه البخاري بروايته عن عبيد الله بن سعيد ، عن أبي عامر العقدي ، ولم يذكر إلا صدر الخبر ، ليثبت به تحديث الحسن عن معقل لقوله : " حدثني معقل بن يسار " (فتح الباري 8 : 143) . وأخرجه أبو داود ، بروايته عن محمد بن المثنى ، عن أبي عامر العقدي ، وهو مختصر .

(5/18)


تراضوا بينهم بالمعروف " ، ذكر لنا أن رجلا طلق امرأته تطليقة ، ثم خلا عنها حتى انقضت عدتها ، ثم قرب بعد ذلك يخطبها والمرأة أخت معقل بن يسار فأنف من ذلك معقل بن يسار ، وقال : خلا عنها وهي في عدتها ، ولو شاء راجعها ، ثم يريد أن يراجعها وقد بانت منه! فأبى عليها أن يزوجها إياه. وذكر لنا أن نبي لله ، لما نزلت هذه الآية ، دعاه فتلاها عليه ، فترك الحمية واستقاد لأمر الله. (1)
4931 - حدثت عن عمار قال ، حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن يونس ، عن الحسن قوله تعالى : " وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فلا تعضلوهن " ، إلى آخر الآية ، قال : نزلت هذه الآية في معقل بن يسار. قال الحسن : حدثني معقل بن يسار أنها نزلت فيه ، قال : زوجت أختا لي من رجل فطلقها ، حتى إذا انقضت عدتها جاء يخطبها ، فقلت له : زوجتك وفرشتك أختي وأكرمتك ، ثم طلقتها ، ثم جئت تخطبها! لا تعود إليك أبدا! قال : وكان رجل صدق لا بأس به ، وكانت المرأة تحب أن ترجع إليه ، قال الله تعالى ذكره : " وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن إذا تراضوا بينهم بالمعروف " .
قال ، فقلت : الآن أفعل يا رسول الله! فزوجها منه. (2)
__________
(1) الأثر : 4930 - هو إسناد الطبري الدائر في التفسير ، من تفسير قتادة ، بيد أنه من معنى رواية قتادة عن الحسن ، رقم : 4927 ، وفي آخر الزيادة التي أشرنا إليه في رواية البخاري للأثر السالف . و " الحمية " الأنفة والغضب . واستفاد للشيء ، أذعن وأطاع ، من " قاد الدابة يقودها " . أي ألقى بقيادة غير جامح ولا معاند .
(2) الأثر : 4931 - أخرجه البخاري . قال : " حدثنا أحمد بن أبي عمر ، قال حدثنا أبي ، قال حدثني إبراهيم ، عن يونس " و " أحمد بن أبي عمر " هو : أحمد بن حفص بن عبد الله بن راشد . و " إبراهيم " هو : " إبراهيم بن طهمان ، و " يونس " هو : يونس بن عبيد (الفتح 9 : 160) وقد استقصى الكلام فيه الحافظ ابن حجر ، ثم ذكره في (الفتح 8 : 143) ، وأخرجه الحاكم في المستدرك 2 : 174 ، والبيهقي في السنن 7 : 138 ، كلاهما من طريق أحمد بن حفص بمثل رواية البخاري ، وهي مثل رواية الطبري ، وإن كان فيها خلاف في بعض اللفظ ، كما أشار إليه الحافظ في الفتح ، وذكر ما فيه من الروايات . وها هنا خلاف لم يذكره الحافظ في قوله : " فرشتك أختي " ، فهكذا هو في المخطوطة والمطبوعة ، وفي المستدرك والذهبي جميعا ، وفي سائر الروايات " أفرشتك " ، وهما صواب في العربية جميعا . من قولهم : " فرشت فلانا بساطا واْفرشته إياه " : إذا بسطته له . وفرش له أخته وأفرشها له : جعلها له فراشا . والفراش كناية عن المرأة .

(5/19)


4932 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا يحيى بن واضح قال ، حدثنا أبو بكر الهذلي ، عن بكر بن عبد الله المزني قال : كانت أخت معقل بن يسار تحت رجل فطلقها ، فخطب إليه فمنعها أخوها ، (1) فنزلت : " وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن " إلى آخر الآية.
4933 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد قوله : " وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن " الآية ، قال : نزلت في امرأة من مزينة طلقها زوجها وأبينت منه ، فنكحها آخر ، فعضلها أخوها معقل بن يسار ، يضارها خيفة أن ترجع إلى زوجها الأول قال ابن جريج ، وقال عكرمة : نزلت في معقل بن يسار. قال ابن جريج : أخته جمل ابنة يسار ، كانت تحت أبي البداح ، (2) طلقها ، فانقضت عدتها ، فخطبها ، فعضلها معقل بن يسار.
4934 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : " وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن إذا تراضوا بينهم بالمعروف " ، نزلت في امرأة من مزينة طلقها زوجها ، فعضلها أخوها أن ترجع إلى زوجها الأول وهو معقل بن يسار أخوها.
__________
(1) في المخطوطة : " إخوتها " ، والذي في المطبوعة أحرى بالصواب ، لمشاكلته سائر الروايات .
(2) في المطبوعة : " جميل " بوزن التصغير ، كما قال ابن حجر في الفتح والإصابة (9 : 160) والذي في المخطوطة مضبوط بالقلم " جمل " بضم الجيم . وقد ذكرها فيه أيضًا وفي الإصابة (بضم أوله وسكون الميم) . وقال ابن حجر أنه وقع في تفسير الطبري " جميل " ، ولكن هذه المخطوطة شاهدة على اختلاف نسخ الطبري . واختلف في اسمها واسم " أبي البداح " اختلاف طويل ، فراجعه في فتح الباري 9 : 160 ، والإصابة . وسيأتي في رقم : 4936 أن اسمها " فاطمة " .

(5/20)


4935 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد مثله إلا أنه لم يقل فيه : " وهو معقل بن يسار " .
4936 - حدثني المثنى قال ، حدثنا حبان بن موسى قال ، أخبرنا ابن المبارك قال ، أخبرنا سفيان ، عن أبي إسحاق الهمداني : أن فاطمة بنت يسار طلقها زوجها ، ثم بدا له فخطبها ، فأبى معقل ، فقال : زوجناك فطلقتها وفعلت! فأنزل الله تعالى ذكره : " فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن " . (1)
4937 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر ، عن الحسن وقتادة في قوله : " فلا تعضلوهن " ، قال : نزلت في معقل بن يسار ، كانت أخته تحت رجل فطلقها ، حتى إذا انقضت عدتها جاء فخطبها ، فعضلها معقل فأبى أن ينكحها إياه ، فنزلت فيها هذه الآية ، يعني به الأولياء ، يقول : " فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن " .
4938 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا جرير ، عن منصور ، عن رجل ، عن معقل بن يسار قال : كانت أختي عند رجل فطلقها تطليقة بائنة ، فخطبها ، فأبيت أن أزوجها منه ، فأنزل الله تعالى ذكره : " فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن " ، الآية.
* * *
وقال آخرون كان الرجل : " جابر بن عبد الله الأنصاري " .
* ذكر من قال ذلك :
4939 - حدثني موسى بن هارون قال ، حدثنا عمرو بن حماد قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : " وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن إذا تراضوا بينهم بالمعروف " ، قال : نزلت في جابر بن عبد الله
__________
(1) الأثر : 4936 - " أبو إسحاق الهمداني " ، هو " أبو إسحاق السبيعي ، عمرو بن عبد الله بن عبيد ، من سبيع ، والسبيع من همدان " روى عن علي والمغيرة بن شعبة ، ومات سنة 126 .

(5/21)


الأنصاري ، وكانت له ابنة عم فطلقها زوجها تطليقة ، فانقضت عدتها ، ثم رجع يريد رجعتها. فأما جابر فقال : طلقت ابنة عمنا ، ثم تريد أن تنكحها الثانية! وكانت المرأة تريد زوجها ، قد راضته. فنزلت هذه الآية.
* * *
وقال آخرون : نزلت هذه الآية دلالة على نهي الرجل مضارة وليَّته من النساء ، يعضلها عن النكاح.
* ذكر من قال ذلك :
4940 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثني معاوية بن صالح ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قوله : " فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن " فهذا في الرجل يطلق امرأته تطليقة أو تطليقتين ، فتنقضي عدتها ، ثم يبدو له في تزويجها وأن يراجعها ، وتريد المرأة فيمنعها أولياؤها من ذلك ، فنهى الله سبحانه أن يمنعوها.
4941 - حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : " وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن إذا تراضوا بينهم بالمعروف " ، كان الرجل يطلق امرأته تبين منه وينقضي أجلها ، (1) ويريد أن يراجعها وترضى بذلك ، فيأبى أهلها ، قال الله تعالى ذكره : " فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن إذا تراضوا بينهم بالمعروف " .
4942 - حدثني المثنى قال ، حدثنا حبان بن موسى قال ، أخبرنا ابن المبارك ، عن سفيان ، عن منصور ، عن أبي الضحى ، عن مسروق في قوله : " فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن " قال : كان الرجل يطلق امرأته ثم يبدو له أن يتزوجها ، فيأبى أولياء المرأة أن يزوجوها ، فقال الله تعالى ذكره : " فلا
__________
(1) في المطبوعة : " تبين منه " بغير فاء ، والصواب من المخطوطة .

(5/22)


تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن إذا تراضوا بينهم بالمعروف " .
4943 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا جرير ، عن مغيرة ، عن أصحابه ، عن إبراهيم في قوله : " وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن " ، قال : المرأة تكون عند الرجل فيطلقها ، ثم يريد أن يعود إليها ، فلا يعضلها وليها أن ينكحها إياه.
4944 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثني الليث ، عن يونس ، عن ابن شهاب : قال الله تعالى ذكره : " وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن " الآية ، فإذا طلق الرجل المرأة وهو وليها ، فانقضت عدتها ، فليس له أن يعضلها حتى يرثها ، ويمنعها أن تستعف بزوج.
4945 - حدثت عن الحسين بن الفرج قال ، سمعت أبا معاذ قال ، أخبرنا عبيد بن سلمان قال ، سمعت الضحاك يقول في قوله : " وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فلا تعضلوهن " ، هو الرجل يطلق امرأته تطليقة ، ثم يسكت عنها فيكون خاطبا من الخطاب ، فقال الله لأولياء المرأة : " لا تعضلوهن " ، يقول : لا تمنعوهن أن يرجعن إلى أزواجهن بنكاح جديد " إذا تراضوا بينهم بالمعروف " ، إذا رضيت المرأة وأرادت أن تراجع زوجها بنكاح جديد.
* * *
قال أبو جعفر : والصواب من القول في هذه الآية أن يقال : إن الله تعالى ذكره أنزلها دلالة على تحريمه على أولياء النساء مضارة من كانوا له أولياء من النساء ، بعضلهن عمن أردن نكاحه من أزواج كانوا لهن ، فبن منهن بما تبين به المرأة من زوجها من طلاق أو فسخ نكاح. وقد يجوز أن تكون نزلت في أمر معقل بن يسار وأمر أخته ، أو في أمر جابر بن عبد الله وأمر ابنة عمه. وأي ذلك كان ، فالآية دالة على ما ذكرت.
* * *

(5/23)


ويعني بقوله تعالى : " فلا تعضلوهن " ، لا تضيقوا عليهن بمنعكم إياهن أيها الأولياء من مراجعة أزواجهن بنكاح جديد ، تبتغون بذلك مضارتهن.
* * *
يقال منه : " عضل فلان فلانة عن الأزواج يعضلها عضلا " ، وقد ذكر لنا أن حيا من أحياء العرب من لغتها : " عضل يعضل " . فمن كان من لغته " عضل " ، فإنه إن صار إلى " يفعَل " ، قال : " يعضَل " بفتح " الضاد " . والقراءة على ضم " الضاد " دون كسرها ، والضم من لغة من قال " عضل " . (1)
* * *
وأصل " العضل " ، الضيق ، ومنه قول عمر رحمة الله عليه : " وقد أعضل بي أهل العراق ، لا يرضون عن وال ، ولا يرضى عنهم وال " ، (2) يعني بذلك حملوني على أمر ضيق شديد لا أطيق القيام به.
ومنه أيضا " الداء العضال " وهو الداء الذي لا يطاق علاجه ، لضيقه عن العلاج ، وتجاوزه حد الأدواء التي يكون لها علاج ، ومنه قول ذي الرمة :
ولم أقذف لمؤمنة حصان... بإذن الله موجبة عضالا (3)
__________
(1) هذا البيان لا تجده في كتب اللغة ، وليس فيها ما رواه عن لغة هذا الحي من العرب . وقوله " عضل يعضل " بكسر الضاد الأولى وفتح الثانية ، مضبوط بالقلم في المخطوطة ، كما ضبطت سائر الأفعال .
(2) روى الزمخشري وصاحب اللسان في مادة (عضل) : " أعضل بي أهل الكوفة ، ما يرضون بأمير ولا يرضى عنهم أمير " ثم قال الزمخشري : " وروى : غلبني أهل الكوفة ، أستعمل عليهم المؤمن فيضعف ، وأستعمل عليهم الفاجر فيفجر! "
(3) ديوانه 441 - من أبيات وصف بها صنعة شعره فقال :
وشعر قد أرقت له غريب ... أجنبه المساند والمحالا
غرائب قد عرفن بكل أفق ... من الآفاق تفتعل افتعالا
فبت أقيمه ، وأقد منه ... قوافي لا أعد لها مثالا
غرائب قد عرفن بكل أفق ... من الآفاق تفتعل افتعالا
فلم أقذف . . . . . . . . . . . ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وهذا البيت الأخير ، يعرض فيه بأئمة الهجاء في عصره ، جرير والفرزدق والأخطل وسائر من تراموا بالسباب . والحصان : العفيفة الطاهرة . والموجبة : أي التي توجب حد القذف ، أو توجب النار ، أعاذنا الله منها! والعضال : التي لا مخرج منها ولا علاج لها . وسياق البيت : ولم أقذف موجبة عضالا - لمؤمنة حصان . . . يعني : لم أرم الكلمة الشائنة والسباب الفاحش ، أبغي به أمرأة عفيفة قد برأها الله مما يقال . ورواية الديوان " بحمد الله " ، وهي أجود . هذا والبيت في المخطوطة فاسد : " لرمته حصال " !!

(5/24)


ومنه قيل : " عضل الفضاء بالجيش لكثرتم " ، إذا ضاق عنهم من كثرتهم. وقيل : " عضلت المرأة " ، إذا نشب الولد في رحمها فضاق عليه الخروج منها ، ومنه قول أوس بن حجر :
وليس أخوك الدائم العهد بالذي يذمك إن ولى ويرضيك مقبلا (1) ولكنه النائي إذا كنت آمنا... وصاحبك الأدنى إذا الأمر أعضلا
* * *
و " أن " التي في قوله : " أن ينكحن " ، في موضع نصب قوله : " تعضلوهن " .
ومعنى قوله : " إذا تراضوا بينهم بالمعروف " ، إذا تراضى الأزواج والنساء بما يحل ، ويجوز أن يكون عوضا من أبضاعهن من المهور ، (2) ونكاح جديد مستأنف ، كما : -
4946 - حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا عبد الرحمن قال ، حدثنا سفيان ، عن عمير بن عبد الله ، عن عبد الملك بن المغيرة ، عن عبد الرحمن بن البيلماني ، قال : قال رسول الله صلي الله عليه وسلم : أنكحوا الأيامى. فقال رجل : يا رسول الله ، ما العلائق بينهم ؟ قال : " ما تراضى عليه أهلوهم " . (3)
__________
(1) ديوانه ، القصيدة : 31 . وهما بيتان قد كشفا عن سرائر الناس بلا مداجاة . فقلما تظفر بذلك .
(2) الأبضاع جمع بضع (بضم فسكون) : وهو الفرج ، والجماع ، وعقد النكاح ، والمهر ، والمراد الأول .
(3) الحديث : 4946 - عبد الرحمن : هو ابن مهدي . سفيان : هو الثوري . عمير بن عبد الله بن بشر الخثعمي : ثقة ، وثقه ابن نمير وغيره . عبد الملك بن المغيرة الطائفي : تابعي ثقة ، وهو يروي هنا عن تابعي آخر . عبد الرحمن بن البيلماني ، مولى عمر : تابعي ثقة ، تكلم فيه بعض العلماء ، والحق أن ما أنكر من حديثه إنما جاء مما رواه عنه ابنه محمد . وأما هو فثقة . وهذا الحديث ضعيف ، لأنه مرسل . وقد رواه البيهقي 7 : 239 ، من طريق قيس بن الربيع ، عن عمير بن عبد الله ، بهذا الإسناد . ثم رواه من طريق حفص بن غياث وأبي معاوية ، عن حجاج بن أرطاة ، عن عبد الملك بن المغيرة الطائفي ، ثم قال : " هذا منقطع " .

(5/25)


4947 - حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا محمد بن الحارث قال ، حدثنا محمد بن عبد الرحمن بن البيلماني ، عن أبيه ، عن ابن عمر ، عن النبي صلي الله عليه وسلم ، بنحو منه. (1)
* * *
قال أبو جعفر : وفي هذه الآية الدلالة الواضحة على صحة قول من قال : " لا نكاح إلا بولي من العصبة " . وذلك أن الله تعالى ذكره منع الولي من عضل المرأة إن أرادت النكاح ونهاه عن ذلك. فلو كان للمرأة إنكاح نفسها بغير إنكاح وليها إياها ، أو كان لها تولية من أرادت توليته في إنكاحها - لم يكن لنهي وليها عن عضلها معنى مفهوم ، إذ كان لا سبيل له إلى عضلها. وذلك أنها إن كانت متى أردات النكاح جاز لها إنكاح نفسها ، أو إنكاح من توكله إنكاحها ، (2)
__________
(1) الحديث : 4947 - هو تكرار للحديث قبله ، ولكنه في هذا متصل ، بذكر " ابن عمر " فيه . وهو ضعيف أيضًا . بل هو أشد ضعفا من ذاك المرسل . محمد بن الحارث بن زياد بن الربيع الحارثي : ثقة ، متكلم فيه . وقد فصلنا القول في ترجيحه ، في شرح المسند : 5371 .
محمد بن عبد الرحمن بن البيلماني : ضعيف جدا ، والبلاء في أحاديث أبيه ، ثم في أحاديث محمد ابن الحارث الحارثي - إنما هو من ناحيته . روى عن أبيه أحاديث مناكير لا أصل لها ، أو مراسيل لا أصل لوصلها ، وروى عنه محمد الحارثي - فتكلم في كل منهما من أجله . وقد فصلنا القول في تضعيفه ، في شرح المسند : 4910 .
وهذا الحديث رواه البيهقي 7 : 239 ، من طريق بندار ، وهو محمد بن بشار ، شيخ الطبري هنا - بهذا الإسناد . ثم رواه من طريق أبي عبد الرحمن الحضرمي صالح بن عبد الجبار ، عن محمد بن عبد الرحمن بن البيلماني ، عن أبيه ، عن ابن عباس! ثم نقل عن أبي أحمد بن عدي ، قال : محمد ابن عبد الرحمن بن البيلماني ضعيف . ومحمد بن الحارث ضعيف . والضعف على حديثهما بين " .
ونقله السيوطي 1 : 287 ، من حديث ابن عمر ، ونسبه لابن أبي شيبة ، وابن جرير ، وابن مردويه . ثم سكت عن ضعفه .
(2) في المطبوعة : " من توكله إنكاحها " بإسقاط الباء ، وأثبت ما في المخطوطة .

(5/26)


فلا عضل هنالك لها من أحد فينهى عاضلها عن عضلها. وفي فساد القول بأن لا معنى لنهي الله عما نهى عنه ، صحة القول بأن لولي المرأة في تزويجها حقا لا يصح عقده إلا به. وهو المعنى الذي أمر الله به الولي : من تزويجها إذا خطبها خاطبها ورضيت به ، وكان رضى عند أوليائها ، جائزا في حكم المسلمين لمثلها أن تنكح مثله ونهاه عن خلافه : من عضلها ، ومنعها عما أرادت من ذلك ، وتراضت هي والخاطب به.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى ذكره { ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ }
قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بقوله ذلك ، ما ذكر في هذه الآية : من نهي أولياء المرأة عن عضلها عن النكاح ، يقول : فهذا الذي نهيتكم عنه من عضلهن عن النكاح ، عظة مني من كان منكم أيها الناس يؤمن بالله واليوم الآخر - يعني يصدق بالله ، فيوحده ، ويقر بربوبيته ، (1) " واليوم الآخر " يقول : ومن يؤمن باليوم الآخر ، فيصدق بالبعث للجزاء والثواب والعقاب ، (2) ليتقي الله في نفسه ، فلا يظلمها بضرار وليته ومنعها من نكاح من رضيته لنفسها ، ممن أذنت لها في نكاحه.
* * *
قال أبو جعفر : فإن قال لنا قائل : وكيف قيل : " ذلك يوعظ به " ، وهو
__________
(1) انظر ما سلف في معنى " الإيمان " في مادة (أمن) من فهارس اللغة في الأجزاء الماضية .
(2) انظر ما سلف في تفسير " اليوم الآخر " 1 : 271 / 2 : 148 .

(5/27)


خطاب لجميع ، وقد قال من قبل : " فلا تعضلوهن " ؟ وإذا جاز أن يقال في خطاب الجميع " ذلك " ، أفيجوز أن تقول لجماعة من الناس وأنت تخاطبهم : " أيها القوم ، هذا غلامك ، وهذا خادمك " ، وأنت تريد : هذا خادمكم ، وهذا غلامكم ؟
قيل : لا إن ذلك غير جائز مع الأسماء الموضوعات ، (1) لأن ما أضيف له الأسماء غيرها ، (2) فلا يفهم سامع سمع قول قائل لجماعة : " أيها القوم ، هذا غلامك " ، أنه عنى بذلك هذا غلامكم - إلا على استخطاء الناطق في منطقه ذلك. فإن طلب لمنطقه ذلك وجها في الصواب ، (3) صرف كلامه ذلك إلى أنه انصرف عن خطاب القوم بما أراد خطابهم به ، إلى خطاب رجل واحد منهم أو من غيرهم ، وترك مجاوزة القوم بما أراد مجاوزتهم به من الكلام. (4) وليس ذلك كذلك في " ذلك " لكثرة جري ذلك على ألسن العرب في منطقها وكلامها ، حتى صارت " الكاف " - التي هي كناية اسم المخاطب فيها - كهيئة حرف من حروف الكلمة التي هي متصلة. وصارت الكلمة بها كقول القائل : " هذا " ، كأنها ليس معها اسم مخاطب. (5) فمن قال : " ذلك يوعظ به من كان منكم يؤمن بالله واليوم الآخر " ، أقر " الكاف " من " ذلك " موحدة مفتوحة في خطاب الواحدة من النساء ، والواحد من الرجال ، والتحدثنية ، والجمع. ومن قال : " ذلكم يوعظ به " ، كسر " الكاف " في خطاب الواحدة من النساء ، وفتح في خطاب الواحد من الرجال ، فقال في خطاب الاثنين
__________
(1) " الأسماء الموضوعات " ، كأن " الاسم الموضوع " ، هو " الاسم المتمكن ، أو المعرب " ، ضريع " الاسم غير المتمكن ، أو المبني " .
(2) قوله : " غيرها " ، أي غير الأسماء .
(3) في المطبوعة : " وجها فالصواب " ، وهي خطأ محض ، والصواب من المخطوطة .
(4) في المطبوعة : " مجاوزة القوم . . . مجاوزتهم " بالجيم والزاي في الموضعين ، وهو كلام غير بصير . والصواب ما في المخطوطة وما يقتضيه السياق .
(5) يعني أنها صارت بمنزلة " هذا " في جريها كأنها كلمة واحدة ، وهي مركبة من " الهاء " و " ذا " ، الذي هو اسم إشارة .

(5/28)


منهم : (1) " ذلكما " ، وفي خطاب الجمع " ذلكم " .
وقد قيل : إن قوله : " ذلك يوعظ به من كان منكم يؤمن بالله " ، خطاب للنبي صلي الله عليه وسلم ، ولذلك وحد (2) ثم رجع إلى خطاب المؤمنين بقوله : " من كان منكم يؤمن بالله " . وإذا وجه التأويل إلى هذا الوجه ، لم يكن فيه مؤونة.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (232) }
قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بقوله " ذلكم " نكاحهن أزواجهن ، ومراجعة أزواجهن إياهن ، (3) بما أباح لهن من نكاح ومهر جديد " أزكى لكم " ، أيها الأولياء والأزواج والزوجات.
* * *
ويعني بقوله : " أزكى لكم " ، أفضل وخير عند الله من فرقتهن أزواجهن. وقد دللنا فيما مضى على معنى " الزكاة " ، فأغنى ذلك عن إعادته. (4)
* * *
وأما قوله : " وأطهر " ، فإنه يعني بذلك : أطهر لقلوبكم وقلوبهن وقلوب أزواجهن من الريبة. وذلك أنهما إذا كان في نفس كل واحد منهما - أعني الزوج والمرأة - علاقة حب ، لم يؤمن أن يتجاوزا ذلك إلى غير ما أحله الله لهما ،
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة : " فقال في خطاب . . . " بالفاء ، وهو لا يستقيم .
(2) في المطبوعة " ولذلك وجه " ، وهو كلام مسلوب المعنى ، والصواب من المخطوطة .
(3) في المطبوعة : " نكاح أزواجهن لهن " ، وفي المخطوطة : " نكاحهن أزواجهن لهن " ، والذي في المطبوعة وجه من التصحيح لما في المخطوطة ، ولكني رأيت أن للتصحيح وجها آخر ، هو حذف " لهن " . وذلك لأنه أراد بقوله : " نكاحهن أزواجهن " ، ما جاء في الآية : " أن ينكحن أزواجهن " بإسناد " النكاح " إلى النساء ، فلذلك آثرت هذا التصحيح ، ولئلا يكون في الكلام تكرير لقوله بعد " ومراجعة أزواجهن إياهن " .
(4) انظر ما سلف 1 : 573 - 574 /2 : 297 / 3 : 88 .

(5/29)


وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلَادَكُمْ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آَتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (233)

ولم يؤمن من أوليائهما أن يسبق إلى قلوبهم منهما ما لعلهما أن يكونا منه بريئين. فأمر الله تعالى ذكره الأولياء - إذا أراد الأزواج التراجع بعد البينونة ، بنكاح مستأنف ، في الحال التي أذن الله لهما بالتراجع (1) أن لا يعضل وليته عما أرادت من ذلك ، وأن يزوجها. لأن ذلك أفضل لجميعهم ، وأطهر لقلوبهم مما يخاف سبوقه إليها من المعاني المكروهة. (2)
ثم أخبر تعالى ذكره عباده أنه يعلم من سرائرهم وخفيات أمورهم ما لا يعلمه بعضهم من بعض ، ودلهم بقوله لهم ذلك في هذا الموضع ، أنه إنما أمر أولياء النساء بإنكاح من كانوا أولياءه من النساء إذا تراضت المرأة والزوج الخاطب بينهم بالمعروف ، ونهاهم عن عضلهن عن ذلك لما علم مما في قلب الخاطب والمخطوب من غلبة الهوى والميل من كل واحد منهما إلى صاحبه بالمودة والمحبة ، فقال لهم تعالى ذكره : افعلوا ما أمرتكم به ، إن كنتم تؤمنون بي ، وبثوابي وبعقابي في معادكم في الآخرة ، فإني أعلم من قلب الخاطب والمخطوبة ما لا تعلمونه من الهوى والمحبة. وفعلكم ذلك أفضل لكم عند الله ولهم ، وأزكى وأطهر لقلوبكم وقلوبهن في العاجل. (3)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ }
قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بذلك : والنساء اللواتي بن من أزواجهن ،
__________
(1) في المطبوعة : " أذن الله لهما " ، والمخطوطة ليس فيها زيادة " الله " .
(2) " سبوق " مصدر " سبق " ، لم يرد في كتب اللغة ، ولكن الطيري يكثر استعماله كما أشرنا إليه آنفًا في الجزء 4 : 287 ، 288 / ثم : 427 / ثم : 446 ، والتعليقات عليها .
(3) هذا كلام حبر رباني حكيم ، قد فقهه الله في أمور دينه ، وآتاه الحكمة في أمور دنياه ، وعلمه من تأويل كتابه ، فحمل الأمانة وأداها ، ونصح للناس فعلمهم وفطنهم ، ولم يشغله في تفسير كتاب ربه نحو ولا لغة ولا فقه ولا أصول - كما اصطلحوا عليه - عن كشف المعاني للناس مخاطبا بها قلوبهم وعقولهم ، ليبين لهم ما أنزل الله على نبيه ، بالعهد الذي أخذه الله على العلماء . فرحم الله أبا جعفر ، وغفر الله للمفسرين من بعده . وقلما تصيب مثل ما كتب في كتاب من كتب التفسير .

(5/30)


ولهن أولاد قد ولدنهم من أزواجهن قبل بينونتهن منهم بطلاق ، أو ولدنهم منهم ، (1) بعد فراقهم إياهن ، من وطء كان منهم لهن قبل البينونة " يرضعن أولادهن " ، يعني بذلك : أنهن أحق برضاعهم من غيرهم.
وليس ذلك بإيجاب من الله تعالى ذكره عليهن رضاعهم ، إذا كان المولود له ولد ، (2) حيا موسرا. لأن الله تعالى ذكره قال في " سورة النساء القصرى " (3) ( وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى ) [سورة الطلاق : 6] ، فأخبر تعالى ذكره : (4) أن الوالدة والمولود له إن تعاسرا في الأجرة التي ترضع بها المرأة ولدها ، أن أخرى سواها ترضعه ، فلم يوجب عليها فرضا رضاع ولدها. فكان معلوما بذلك أن قوله : " والوالدات يرضعن أولادهن حولين " ، دلالة على مبلغ غاية الرضاع التي متى اختلف الوالدان في رضاع المولود بعده ، جعل حدا يفصل به بينهما ، لا دلالة على أن فرضا على الوالدات رضاع أولادهن.
* * *
قال أبو جعفر : وأما قوله : " حولين " ، فإنه يعني به سنتين ، كما : -
4948 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : " والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين " ، سنتين.
__________
(1) في المطبوعة : " أو أولدنهم " ، وهو خطأ فاحش . والصواب من المخطوطة .
(2) في المطبوعة والمخطوطة " والدا " ، والسياق يقتضي ما أثبت .
(3) هي " سورة الطلاق " ، السورة الخامسة والستون من كتاب الله . وسموها " القصرى " لتسميتهم السورة الرابعة من القرآن : " سورة النساء الطولى " ، للفرق بينهما .
(4) في المطبوعة : " وأخبر تعالى أن الوالدة . . . " ، والزيادة من المخطوطة . وفيهما جميعا " وأخبر " بالواو ، والسياق يقتضي الفاء كما أثبتها .

(5/31)


4949 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد مثله.
* * *
وأصل " الحول " من قول القائل : " حال هذا الشيء " ، إذا انتقل. ومنه قيل : " تحول فلان من مكان كذا " ، إذا انتقل عنه.
* * *
فإن قال لنا قائل : وما معنى ذكر " كاملين " في قوله : " والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين " ، بعد قوله : " يرضعن حولين " ، وفي ذكر " الحولين " مستغنى عن ذكر " الكاملين " ، (1) إذ كان غير مشكل على سامع سمع قوله : " والوالدات يرضعن أولادهن حولين " ما يراد به ؟ فما الوجه الذي من أجله زيد ذكر كاملين ؟.
قيل : إن العرب قد تقول : " أقام فلان بمكان كذا حولين ، أو يومين ، أو شهرين " ، وإنما أقام به يوما وبعض آخر ، أو شهرا وبعض آخر ، أو حولا وبعض آخر ، فقيل : " حولين كاملين " ليعرف سامعو ذلك أن الذي أريد به حولان تامان ، (2) لا حول وبعض آخر. (3) وذلك كما قال الله تعالى ذكره : ( وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ ) [سورة البقرة : 203]. ومعلوم أن المتعجل إنما يتعجل في يوم ونصف ، وكذلك ذلك في اليوم الثالث من أيام التشريق ، (4) وأنه ليس منه شيء تام ، ولكن العرب تفعل ذلك في الأوقات خاصة فتقول : " اليوم يومان منذ لم أره " ،
__________
(1) في المطبوعة : " وفي ذكر الحولين " بإسقاط " الهاء " الضمير .
(2) في المطبوعة : " ليعرف سامع ذلك " ، بالإفراد ، وأثبت ما في المخطوطة .
(3) انظر ما سلف في تفسير قوله تعالى : " ولتكملوا العدة " 3 : 476 ، 477 / ثم تفسير قوله تعالى : " تلك عشرة كاملة " في الجزء 4 : 108 ، 109 .
(4) في المخطوطة والمطبوعة : " فكذلك ذلك " بالفاء وهو خطأ مخل ، والصواب ما أثبت . وفي معاني القرآن للفراء 1 : 119 : " وكذلك هو في اليوم . . . " . نص كلامه . ويعني أن اليوم الثالث من أيام التشريق هو أيضًا يوم غير تام . وانظر التعليق التالي ص : 33 رقم : 2 والمراجع فيه .

(5/32)


وإنما تعني بذلك يوما وبعض آخر. وقد توقع الفعل الذي تفعله في الساعة أو اللحظة ، على العام والزمان واليوم ، فتقول : " زرته عام كذا - (1) وقتل فلان فلانا زمان صفين " ، وإنما تفعل ذلك ، لأنها لا تقصد بذلك الخبر عن عدد الأيام والسنين ، وإنما تعني بذلك الأخبار عن الوقت الذي كان فيه المخبر عنه ، فجاز أن ينطق " بالحولين " ، و " اليومين " ، على ما وصفت قبل. لأن معنى الكلام في ذلك : فعلته إذ ذاك ، وفي ذلك الوقت. (2)
فكذلك قوله : " والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين " ، لما جاز الرضاع في الحولين وليسا بالحولين (3) (4) وكان الكلام لو أطلق في ذلك ، بغير تضمين الحولين بالكمال ، (5) وقيل : " والوالدات يرضعن أولادهن حولين " ، محتملا أن يكون معنيا به حول وبعض آخر نفي اللبس عن سامعيه بقوله : (6) " كاملين " أن يكون مرادا به حول وبعض آخر ، وأبين بقوله : " كاملين " عن وقت تمام حد الرضاع ، وأنه تمام الحولين بانقضائهما ، دون انقضاء أحدهما وبعض الآخر.
* * *
قال أبو جعفر : ثم اختلف أهل التأويل في الذي دلت عليه هذه الآية ، من مبلغ غاية رضاع المولودين : أهو حد لكل مولود ، أو هو حد لبعض دون بعض ؟
__________
(1) في المطبوعة : " رزقه عام كذا " ، وهو كلام لا خير فيه ، والصواب من المخطوطة ، وإن كانت غير منقوطة ، وحروفها بسيطة القلم .
(2) سلف هذا بغير هذا اللفظ في الجزء 4 : 120 ، 121 وكثير من لفظه هنا في معاني القرآن للفراء 1 : 119 - 120 ، ومن الموضعين صححنا ما صححناه آنفًا .
(3) في المطبوعة والمخطوطة : " لما كان الرضاع . . . " وهو تصحيف مخل جدا ، والسياق يقتضي قراءته كما أثبت ، حتى يستقيم المعنى .
(4) في المطبوعة والمخطوطة : " فكان " بالفاء ، والصواب بالواو ، عطفا على قوله : " لما جاز . . . "
(5) في المطبوعة : " تضمين الحولين بالكمال " ، وفي المخطوطة : " تضمين " بغير نقط ، والميم كأنها هاء قصيرة ، ورجحت أن ذلك من عجلة الناسخ ، وأن صوابها " تبيين " ، لقوله بعد قليل : " وأبين بقوله : كاملين . . . " ، لأن البيان هو التفسير ، ومن الصفة تفسير وبيان .
(6) سياق العبارة : " لما جاز الرضاع . . . وكان الكلام لو أطلق . . . نفى اللبس ، جواب " لما " .

(5/33)


فقال بعضهم : هو حد لبعض دون بعض.
* ذكر من قال ذلك :
4950 - حدثنا محمد بن المثنى قال ، حدثنا عبد الوهاب قال ، حدثنا داود ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، في التي تضع لستة أشهر : أنها ترضع حولين كاملين ، وإذا وضعت لسبعة أشهر أرضعت ثلاثة وعشرين لتمام ثلاثين شهرا ، وإذا وضعت لتسعة أشهر أرضعت واحدا وعشرين شهرا.
4951 - حدثنا ابن المثنى قال ، حدثنا عبد الأعلى قال ، حدثنا داود ، عن عكرمة ، بمثله ، ولم يرفعه إلى ابن عباس.
4952 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر ، عن الزهري ، عن أبي عبيد ، قال : رفع إلى عثمان امرأة ولدت لستة أشهر ، فقال : إنها رفعت [إلي امرأة] ، لا أراها إلا قد جاءت بشر - أو نحو هذا - ولدت لستة أشهر! فقال ابن عباس : إذا أتمت الرضاع كان الحمل لستة أشهر. قال : وتلا ابن عباس : ( وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا ) [سورة الأحقاف : 15] ، فإذا أتمت الرضاع كان الحمل لستة أشهر. فخلى عثمان سبيلها. (1)
* * *
وقال آخرون : بل ذلك حد رضاع كل مولود اختلف والداه في رضاعه ، (2)
__________
(1) الخبر : 4952 - أبو عبيد : هو سعد بن عبيد ، " مولى عبد الحمن بن أزهر " ، ويقال له أيضًا : " مولى عبد الرحمن بن عوف " . قال البخاري في الكبير 2 / 2 / 61 : " لأنهما ابنا عم " . وقال في صحيحه 4 : 209 " قال ابن عيينة : من قال مولى ابن أزهر ، فقد أصاب ، ومن قال مولى عبد الرحمن بن عوف ، فقد أصاب " . وهو تابعي ثقة قديم ، من فقهاء أهل المدينة ، روى عن عمر ، وعثمان ، وعلي ، وغيرهم .
ووقع في المطبوعة : " عن أبي عبيدة " ، وهو خطأ ، صححناه من كتاب المصنف لعبد الرزاق ج4 ورقة 97 ، وفيه : " عن أبي عبيد ، مولى عبد الحمن بن عوف " .
ونقله السيوطي 6 : 40 ، ونسبه لعبد الرزاق ، وعبد بن حميد ، فقط . وكان في المخطوطة والمطبوعة : " إنها رفعت لا أراها " ، وفي مصنف عبد الرزاق : " رفعت إلى امرأة ، لا أراه إلا قال : وقد جاءت بشر " .
(2) في المخطوطة : " وإذا اختلف وأن لإرضاع " ، وما بينها بياض كلمتين أو ثلاث . وفي المطبوعة : " إذا اختلف والداه وأن لا رضاع " ، وزدت أنا " في رضاعه " ، استظهارا من ترجمة الأخبار التي رويت عنهم آنفًا ص : 34 ، 35 ، ومن بيان أبي جعفر الآتي بعد سطرين أو ثلاثة .

(5/34)


فأراد أحدهما البلوغ إليه ، والآخر التقصير عنه.
* ذكر من قال ذلك :
4953 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس قوله : " والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين " ، فجعل الله سبحانه الرضاع حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة ، ثم قال : " فإن أرادا فصالا عن تراض منهما وتشاور فلا جناح عليهما " ، إن أرادا أن يفطماه قبل الحولين وبعده.
4954 - حدثني المثنى قال ، حدثنا سويد قال ، أخبرنا ابن المبارك ، عن ابن جريج قال : قلت لعطاء : " والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين " ، قال : إن أرادت أمه أن تقصر عن حولين كان عليها حقا أن تبلغه - لا أن تزيد عليه إلا أن يشاء. (1)
4955 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا مهران (2)
وحدثني علي بن سهل قال ، حدثنا زيد بن أبي الزرقاء جميعا ، عن الثوري في قوله : " والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة " ، والتمام الحولان. قال : فإذا أراد الأب أن يفطمه قبل الحولين ولم ترض المرأة فليس له ذلك. وإذا قالت المرأة : " أنا أفطمه قبل الحولين " ، وقال الأب : " لا " ، فليس لها أن تفطمه حتى يرضى الأب ، حتى يجتمعا. فإن اجتمعا قبل الحولين فطماه ، وإذا اختلفا لم يفطماه قبل الحولين. وذلك قوله : " فإن أرادا فصالا عن تراض منهما وتشاور " .
* * *
وقال آخرون : بل دل الله تعالى ذكره بقوله : " والوالدات يرضعن أولادهن
__________
(1) في المطبوعة : " إلا أن تشاء " ، والصواب ما أثبت من المخطوطة . أي : إلا أن يشاء الزوج ، ويوافقها على ما تريد من الزيادة .
(2) هو " مهران بن أبي عمر العطار ، أبو عبد الله الرازي " . قال أبو حاتم ثقة صالح الحديث . وروى له ابن عدي أحاديث من رواية محمد بن حميد عنه ، ثم قال : " وكل هذه الأحاديث عن مهران إلا القليل ، يرويه عن مهران محمد بن حميد ، وابن حميد له شغل في نفسه مما رواه عن الناس! ومهران خير منه " . وقال الساجي : " في حديثه اضطراب ، وهو من أكثر أصحاب الثوري رواية عنه " . وقال العقيلي : " روي عن الثوري أحاديث لا يتابع عليها " . وقال ابن حبان : " أسلم على يد الثوري ، وله صنف (الجامع الصغير) " . التهذيب .

(5/35)


حولين كاملين " ، على أن لا رضاع بعد الحولين ، فإن الرضاع إنما هو كان في الحولين.
* ذكر من قال ذلك :
4956 - حدثني المثنى قال ، حدثنا آدم قال ، أخبرنا ابن أبي ذئب قال ، حدثنا الزهري ، عن ابن عباس وابن عمر أنهما قالا إن الله تعالى ذكره يقول : " والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين " ، ولا نرى رضاعا بعد الحولين يحرم شيئا (1)
4957 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا ابن المبارك ، عن يونس بن يزيد ، عن الزهري ، قال : كان ابن عمر وابن عباس يقولان : لا رضاع بعد الحولين.
4958 - حدثنا أبو السائب قال ، حدثنا حفص ، عن الشيباني ، عن أبي الضحى ، عن أبي عبد الرحمن ، عن عبد الله قال : ما كان من رضاع بعد سنتين أو في الحولين بعد الفطام فلا رضاع.
4959 - حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا يحيى بن سعيد ، وعبد الرحمن قالا حدثنا سفيان ، عن الأعمش ، عن إبراهيم عن علقمة ، أنه رأى امرأة ترضع بعد حولين فقال : لا ترضعيه.
4960 - حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا عبد الرحمن قال ، حدثنا سفيان ، عن الشيباني قال : سمعت الشعبي يقول : ما كان من وجور أو سعوط أو رضاع في الحولين فإنه يحرم ، وما كان بعد الحولين لم يحرم شيئا. (2)
__________
(1) الوجور (بفتح الواو) : الدواء يدخل في الفم . والسعوط " بفتح السين) : الدواء يدخل في الأنف .
(2) الوجور (بفتح الواو) : الدواء يدخل في الفم . والسعوط (بفتح السين) : الدواء يدخل في الأنف .

(5/36)


4961 - حدثنا ابن المثنى قال ، حدثنا محمد بن جعفر قال ، حدثنا شعبة ، عن المغيرة ، عن إبراهيم : أنه كان يحدث عن عبد الله ، أنه قال : لا رضاع بعد فصال ، أو بعد حولين.
4962 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا حسن بن عطية قال ، حدثنا إسرائيل ، عن عبد الأعلى ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : ليس يحرم من الرضاع بعد التمام ، إنما يحرم ما أنبت اللحم وأنشأ العظم (1)
4963 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر ، عن عمرو بن دينار : أن ابن عباس قال : لا رضاع بعد فصال السنتين.
4964 - حدثنا هلال بن العلاء الرقي قال ، حدثنا أبي قال ، حدثنا عبيد الله ، عن زيد ، عن عمرو بن مرة ، عن أبي الضحى قال : سمعت ابن عباس يقول : " والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين " ، قال : لا رضاع إلا في هذين الحولين. (2)
* * *
وقال آخرون : بل كان قوله : " والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين " ،
__________
(1) الأثر : 4962 - " الحسن بن عطية بن نجيح القرشي أبو علي البزار " روىعن الحسن وعلي ابني صالح ، ويعقوب القمي ، وحمزة الزيات ، وإسرائيل بن يونس وطبقتهم . وعنه البخاري في التايخ ، وعبد الأعلى بن واصل ، وأبو كريب ، وأبو زرعة ، وأبو حاتم ، صدوق . مات سنة 211 .
(2) الأثر : 4964 - هلال بن العلاء بن هلال بن عمرو الباهلي ، أبو عمرو الرقى " . قال أبو حاتم : " صدوق " وقال النسائي : " صالح " ، وقال في موضع آخر : " ليس به بأس ، روى أحاديث منكرة عن أبيه ، فلا أدري : الريب منه أو من أبيه " . وذكره ابن حبان في الثقات . ولد سنة 184 ، ومات سنة 280 . والعلاء بن هلال " أبوه ، روى عن عبد الله بن عمرو الرقى ، وخلف بن خليفة ومعتمر بن سليمان وجماعة . قال أبو حاتم : " منكر الحديث ضعيف الحديث " . وذكره ابن حبان في الضعفاء وقال : " يقلب الأسانيد ويغير الأسماء ، فلا يجوز الاحتجاج به " ولد سنة 150 ، ومات سنة 215 . و " عبيد الله " ، هو : عبيد الله بن عمرو بن أبي الوليد الأسدي الرقى . روى عن عبد الملك بن عمير ، ويحيى بن سعيد الأنصاري ، وابن أبي أنيسة وغيرهم . قال أبو حاتم : " صالح الحديث ثقة صدوق ، لا أعرف له حديثا منكرا " . ولد سنة 101 ومات سنة 180 . و " زيد " هو : زيد بن أبي أنيسة الجزري الرهاوي ، قال ابن سعيد " كان يسكن الرها ، ومات بها " . كان ثقة كثير الحديث ، فقيها ، راوية للعلم . مات سنة 125 ، وهو ابن ست وثلاثين سنة .

(5/37)


دلالة من الله تعالى ذكره عباده ، (1) على أن فرضا على والدات المولودين أن يرضعنهم حولين كاملين ، ثم خفف تعالى ذكره ذلك بقوله : " لمن أراد أن يتم الرضاعة " ، فجعل الخيار في ذلك إلى الآباء والأمهات ، إذا أرادوا الإتمام أكملوا حولين ، وإن أرادوا قبل ذلك فطم المولود ، كان ذلك إليهم على النظر منهم للمولود (2)
* ذكر من قال ذلك :
4965 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : " والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين " ثم أنزل الله اليسر والتخفيف بعد ذلك ، فقال تعالى ذكره : " لمن أراد أن يتم الرضاعة " .
4966 - حدثت عن عمار قال ، حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع في قوله : " والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين " ، يعني المطلقات ، يرضعن أودهن حولين كاملين. ثم أنزل الرخصة والتخفيف بعد ذلك ، فقال : " لمن أراد أن يتم الرضاعة " .
* * *
* ذكر من قال : إن " الوالدات " ، اللواتي ذكرهن الله في هذا الموضع : البائنات من أزوجهن ، على ما وصفنا قبل. (3)
4967 - حدثني موسى قال ، حدثنا عمرو قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي قال : " والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين " إلى " إذا سلمتم ما أتيتم بالمعروف " ، أما " الوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين " ، فالرجل يطلق امرأته وله منها ولد ، وأنها ترضع له ولده بما يرضع له غيرها.
4968 - حدثني المثنى قال ، حدثنا سويد بن نصر قال ، أخبرنا ابن المبارك ،
__________
(1) قوله : " عباده " منصوب مفعول به للمصدر " دلالة " .
(2) النظر : اختيار أحسن الأمور له ، في الرعاية والحفظ والكلاءة ، وطلب المصلحة .
(3) انظر ما سلف في أول تفسير الآية ص : 30 ، 31 .

(5/38)


عن جويبر ، عن الضحاك في قوله : " والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين " ، قال : إذا طلق الرجل امرأته وهي ترضع له ولدا.
4969 - حدثنا المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا أبو زهير ، عن جويبر ، عن الضحاك ، بنحوه.
* * *
قال أبو جعفر : وأولى الأقوال بالصواب في قوله : " والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة " ، القول الذي رواه علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس ، ووافقه على القول به عطاء والثوري والقول الذي روي عن عبد الله بن مسعود وابن عباس وابن عمر : وهو أنه دلالة على الغاية التي ينتهي إليها في رضاع المولود إذا اختلف والداه في رضاعه ، (1) وأن لا رضاع بعد الحولين يحرم شيئا ، وأنه معني به كل مولود ، لستة أشهر كان ولاده أو لسبعة أو لتسعة. (2)
* * *
فأما قولنا : " إنه دلالة على الغاية التي ينتهي إليها في الرضاع عند اختلاف الوالدين فيه " ، فلأن الله تعالى ذكره لما حد في ذلك حدا ، كان غير جائز أن يكون ما وراء حده موافقا في الحكم ما دونه. لأن ذلك لو كان كذلك ، لم يكن للحد معنى معقول. وإذا كان ذلك كذلك ، فلا شك أن الذي هو دون الحولين من الأجل ، لما كان وقت رضاع ، كان ما وراءه غير وقت له ، وأنه وقت لترك الرضاع وأن تمام الرضاع لما كان تمام الحولين ، وكان التام من الأشياء لا معنى إلى الزيادة (3)
__________
(1) في المخطوطة : " وإذا اختلف وأن لا رضاع " ، وما بينهما بياض كلمتين أو ثلاث . وفي المطبوعة : " إذا اختلف والداه وأن لا رضاع " ، وزدت أنا " في رضاعه " ، استظهارا من ترجمة الأخبار التي رويت عنهم آنفًا ص : 34 ، 35 ، ومن بيان أبي جعفر الآتي بعد سطرين أو ثلاثة .
(2) ولدت المرأة تلد ولادا وولادة - بكسر الواو فيهما ، بمعنى .
(3) في المطبوعة : " وكان التمام من الأشياء لا معنى للزيادة فيه " ، وهو كلام لا محصول له . وفي المخطوطة : " ولما كان التمام من الأشيا لا معنى للزيادة فيه " مع بياض بين الكلمتين ، وهذا دليل على أن الناسخ ظن أن في الكلام سقطا ، ولكن الحقيقة أن فيه تحريفا ، قرأ " التام " " التمام " ، وقد أثبتنا الصواب الذي لا صواب غيره .

(5/39)


فيه ، كان لا معنى للزيادة في الرضاع على الحولين وأن ما دون الحولين من الرضاع لما كان محرما ، كان ما وراءه غير محرم.
وإنما قلنا : " هو دلالة على أنه معني به كل مولود ، لأي وقت كان ولاده ، لستة أشهر أو سبعة أو تسعة " ، لأن الله تعالى ذكره عم بقوله : " والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين " ، ولم يخصص به بعض المولودين دون بعض.
وقد دللنا على فساد القول بالخصوص بغير بيان الله تعالى ذكره ذلك في كتابه ، أو على لسان رسول الله صلي الله عليه وسلم - في كتابنا(كتاب البيان عن أصول الأحكام) ، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع.
* * *
فإن قال لنا قائل : فإن الله تعالى ذكره : قد بين ذلك بقوله : ( وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا ) [سورة الأحقاف : 15] ، فجعل ذلك حدا للمعنيين كليهما ، فغير جائز أن يكون حمل ورضاع أكثر من الحد الذي حده الله تعالى ذكره. فما نقص من مدة الحمل عن تسعة أشهر ، فهو مزيد في مدة الرضاع ، وما زيد في مدة الحمل ، نقص من مدة الرضاع. وغير جائز أن يجاوز بهما كليهما مدة ثلاثين شهرا ، كما حده الله تعالى ذكره.
قيل له : فقد يجب أن يكون مدة الحمل - على هذه المقالة - إن بلغت حولين كاملين ، ألا يرضع المولود إلا ستة أشهر ، وإن بلغت أربع سنين ، أن يبطل الرضاع فلا ترضع ، لأن الحمل قد استغرق الثلاثين شهرا وجاوز غايته (1) أو يزعم قائل هذه المقالة : أن مدة الحمل لن تجاوز تسعة أشهر ، فيخرج من قول جميع الحجة ، ويكابر الموجود والمشاهد ، وكفى بهما حجة على خطأ دعواه إن ادعى ذلك. فإلى أي الأمرين لجأ قائل هذه المقالة ، وضح لذوي الفهم فساد قوله.
* * *
__________
(1) عطف على قوله : " فقد يجب أن تكون مدة الحمل " . . . " أو يزعم . . . "

(5/40)


فإن قال لنا قائل : فما معنى قوله - إن كان الأمر على ما وصفت - : " وحمله وفصاله ثلاثون شهرا " ، وقد ذكرت آنفا أنه غير جائز أن يكون ما جاوز حد الله تعالى ذكره ، نظير ما دون حده في الحكم ؟ وقد قلت : إن الحمل والفصال قد يجاوزان ثلاثين شهرا ؟
قيل : إن الله تعالى ذكره لم يجعل قوله : " وحمله وفصاله ثلاثون شهرا " حدا تعبد عباده بأن لا يجاوزه ، كما جعل قوله : " والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة " ، حدا لرضاع المولود الثابت الرضاع ، (1) وتعبد العباد بحمل والديه عند اختلافهما فيه ، وإرادة أحدهما الضرار به. وذلك أن الأمر من الله تعالى ذكره إنما يكون فيما يكون للعباد السبيل إلى طاعته بفعله والمعصية بتركه. (2) فأما ما لم يكن لهم إلى فعله ولا إلى تركه سبيل ، فذلك مما لا يجوز الأمر به ولا النهي عنه ولا التعبد به.
فإذ كان ذلك كذلك ، وكان الحمل مما لا سبيل للنساء إلى تقصير مدته ولا إلى إطالتها ، فيضعنه متى شئن ، ويتركن وضعه إذا شئن كان معلوما أن قوله : " وحمله وفصاله ثلاثون شهرا " ، إنما هو خبر من الله تعالى ذكره عن أن من خلقه من حملته وولدته وفصلته في ثلاثين شهرا لا أمر بأن لا يتجاوز في مدة حمله وفصاله ثلاثون شهرا ، لما وصفنا. وكذلك قال ربنا تعالى ذكره في كتابه : ( وَوَصَّيْنَا الإنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا ) (3) [سورة الأحقاف : 15].
__________
(1) في المطبوعة : " لرضاع المولود التام الرضاع " ، وهو أيضًا كلام بلا معنى مفهوم ، غيروا ما في المخطوطة كما أثبتناه ، ظنا منهم بأنه هو غير مفهوم!! وعنى بقوله : " الثابت الرضاع " ، أي الذي ثبت له أنه " يرضع " ، كما سيتبين من سياق كلامه بعد .
(2) أي : وإلى المعصية بتركه .
(3) هنا آخر التقسيم القديم الذي نقلت عنه نسختنا . ونص ما بعده : " وصلى الله على محمد النبي وآله وصحبه وسلم كثيرا "

(5/41)


(1) فإن ظن ذو غباء أن الله تعالى ذكره إذ وصف أن من خلقه من حملته أمه ووضعته وفصلته في ثلاثين شهرا ، فواجب أن يكون جميع خلقه ذلك صفتهم وأن ذلك دلالة على أن حمل كل عباده وفصاله ثلاثون شهرا (2) فقد يجب أن يكون كل عباده صفتهم أن يقولوا إذا بلغوا أشدهم وبلغوا أربعين سنة : ( رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ ) [سورة الأحقاف : 15] ، على ما وصف الله به الذي وصف في هذه الآية. (3)
وفي وجودنا من يستحكم كفره بالله ، (4) وكفرانه نعم ربه عليه ، وجرأته على والديه بالقتل والشتم وضروب المكاره ، عند استكماله الأربعين من سنيه وبلوغه أشده (5) ما يعلم أنه لم يعن الله بهذه الآية صفة جميع عباده ، بل يعلم أنه إنما وصف بها بعضا منهم دون بعض ، وذلك ما لا ينكره ولا يدفعه أحد. لأن من يولد من الناس لسبعة أشهر ، (6) أكثر ممن يولد لأربع سنين ولسنتين ؛ كما أن من يولد لتسعة أشهر ، أكثر ممن يولد لستة أشهر ولسبعة أشهر.
* * *
قال أبو جعفر : واختلفت القرأة في قراءة ذلك ، فقرأ عامة أهل المدينة
__________
(1) أول التقسيم القديم ، ونص ما قبله :
" بسم الله الرحمن الرحيم
رب أعن يا كريم "
(2) قوله : " فقد يجب " جواب قوله : " فإن ظن ذو غباء . . . " .
(3) يعني أن آية سورة الأحقاف معنى بها خاص من الناس دون عام ، كما يدل على ذلك ظاهر تلاوتها .
(4) وجد الشيء يجده وجودا . وقوله : " من يستحكم " مفعول به للمصدر .
(5) السياق : " في وجودنا من يستحكم كفره بالله . . . ما يعلم . . . " ، مبتدأ مؤخر .
(6) في المطبوعة والمخطوطة : " لتسعة أشهر " ، والصواب ، أثبت كما يدل عليه سياق الحجة .

(5/42)


والعراق والشام : " لم أراد أن يتم الرضاعة " ب " الياء " في " يتم " ونصب " الرضاعة " - بمعنى : لمن أراد من الآباء والأمهات أن يتم رضاع ولده.
وقرأه بعض أهل الحجاز : " لمن أراد أن تتم الرضاعة " ب " التاء " في " تتم " ، ورفع " الرضاعة " بصفتها. (1)
* * *
قال أبو جعفر : والصواب من القراءة في ذلك عندنا ، قراءة من قرأ ب " الياء " في " يتم " ونصب " الرضاعة " . لأن الله تعالى ذكره قال : " والوالدات يرضعن أولادهن " ، فكذلك هن يتممنها إذا أردن هن والمولود له إتمامها وأنها القراءة (2) التي جاء بها النقل المستفيض الذي ثبتت به الحجة ، دون القراءة الأخرى.
* * *
وقد حكي في الرضاعة سماعا من العرب كسر " الراء " التي فيها. فإن تكن صحيحة ، (3) فهي نظيرة " الوكالة والوكالة " و " الدلالة والدلالة " ، و " مهرت الشيء مهارة ومهارة " - فيجوز حينئذ " الرضاع " و " الرضاع " ، كما قيل : " الحصاد ، والحصاد " . وأما القراءة فبالفتح لا غير.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ }
قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بقوله : " وعلى المولود له " ، وعلى آباء الصبيان للمراضع " رزقهن " ، يعني : رزق والدتهن.
* * *
__________
(1) يعني بقوله : " بصفتها " ، أي بالفعل اللازم الذي هو صفة لها فتقول : رضاعة تامة .
(2) " وأنها القراءة . . . " معطوف على قوله : " لأن الله تعالى ذكره قال . . "
(3) في المطبوعة والمخطوطة : " وإن تكن . . . " ، والجيد هنا الفاء .

(5/43)


ويعني ب " الرزق " : ما يقوتهن من طعام ، وما لا بد لهن من غذاء ومطعم.
* * *
و " كسوتهن " ، ويعني : ب " الكسوة " : الملبس.
* * *
ويعني بقوله : " بالمعروف " ، بما يجب لمثلها على مثله ، إذ كان الله تعالى ذكره قد علم تفاوت أحوال خلقه بالغنى والفقر ، وأن منهم الموسع والمقتر وبين ذلك. فأمر كلا أن ينفق على من لزمته نفقته من زوجته وولده على قدر ميسرته ، كما قال تعالى ذكره : ( لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا مَا آتَاهَا ) [سورة الطلاق : 7] ، وكما : -
4970 - حدثني المثنى قال ، حدثنا سويد قال ، أخبرنا ابن المبارك ، عن جويبر ، عن الضحاك في قوله : " والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف " ، قال : إذا طلق الرجل امرأته وهي ترضع له ولدا ، فتراضيا على أن ترضع حولين كاملين ، فعلى الوالد رزق المرضع والكسوة بالمعروف على قدر الميسرة ، لا نكلف نفسا إلا وسعها.
4971 - حدثني علي بن سهل الرملي قال حدثنا زيد وحدثنا ابن حميد قال ، حدثنا مهران عن سفيان قوله : " والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة " ، والتمام الحولان " ، وعلى المولود له " على الأب طعامها وكسوتها بالمعروف (1)
4972 - حدثت عن عمار قال ، حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع قوله : " وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف " ، قال : على الأب.
* * *
__________
(1) الأثر : 4971 - انظر إسناد الأثر السالف : 4955 ، والآتي : 4973 .

(5/44)


القول في تأويل قوله تعالى : { لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلا وُسْعَهَا } (1)
قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بذلك : لا تحمل نفس من الأمور إلا ما لا يضيق عليها ، ولا يتعذر عليها وجوده إذا أرادت. وإنما عنى الله تعالى ذكره بذلك : لا يوجب الله على الرجال من نفقة من أرضع أولادهم من نسائهم البائنات منهم ، إلا ما أطاقوه ووجدوا إليه السبيل ، كما قال تعالى ذكره : ( لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ ) [سورة الطلاق : 7] ، كما : -
4973 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا مهران وحدثني علي قال ، حدثنا زيد جميعا ، عن سفيان : " لا تكلف نفس إلا وسعها " ، إلا ما أطاقت. (2)
* * *
" والوسع " " الفعل " من قول القائل : " وسعني هذا الأمر فهو يسعني سعة " - ويقال : " هذا الذي أعطيتك وسعي " ، أي : ما يتسع لي أن أعطيك ، فلا يضيق علي إعطاؤكه و " أعطيتك من جهدي " ، إذا أعطيته ما يجهدك فيضيق عليك إعطاؤه.
* * *
فمعنى قوله : " لا تكلف نفس إلا وسعها " ، هو ما وصفت : من أنها لا تكلف إلا ما يتسع لها بذل ما كلفت بذله ، فلا يضيق عليها ولا يجهدها لا ما ظنه جهلة أهل القدر من أن معناه : لا تكلف نفس إلا ما قد أعطيت عليه القدرة من الطاعات. لأن ذلك لو كان كما زعمت ، لكان قوله تعالى ذكره : ( انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الأمْثَالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلا ) [سورة الإسراء : 48 وسورة الفرقان : 9] ، إذا كان دالا على أنهم غير مستطيعي السبيل إلى ما كلفوه واجبا أن يكون القوم في حال واحدة ، قد أعطوا الاستطاعة على
__________
(1) في المخطوطة : " لا يكلف الله نفسا إلا وسعها " ، عجل الناسخ فأخطأ التلاوة .
(2) الأثر : 4973 - انظر إسناد الأثرين السالفين : 4955 ، 4971 .

(5/45)


ما منعوها عليه. وذلك من قائله إن قاله ، إحالة في كلامه ، ودعوى باطل لا يخيل بطوله. (1) وإذ كان بينا فساد هذا القول ، فمعلوم أن الذي أخبر تعالى ذكره أنه كلف النفوس من وسعها ، غير الذي أخبر أنه كلفها مما لا تستطيع إليه السبيل.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { لا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ }
قال أبو جعفر : اختلفت القرأة في قراءة ذلك. فقرأه عامة قرأة أهل الحجاز والكوفة والشام : " لا تضار والدة بولدها " بفتح " الراء " ، بتأويل : لا تضارَرْ (2) على وجه النهي ، وموضعه إذا قرئ كذلك - جزم ، غير أنه حرك ، إذ ترك التضعيف بأخف الحركات ، وهو الفتح. ولو حرك إلى الكسر كان جائزا ، إتباعا لحركة لام الفعل حركة عينه. وإن شئت فلأن الجزم إذا حرك حرك إلى الكسر. (3)
* * *
__________
(1) قوله : " دعوى باطل " هي هنا بالإضافة ، لا صفة لدعوى . ويقال في غير هذا : " دعوى باطل وباطلة " على الوصف . و " البطول " مصدر " بطل " كما أسلفنا في الجزء 4 : 523 ، تعليق : 3 و " أخال الشيء يخيل " : اشتبه ، يقال : " هذا الأمر لا يخيل على أحد " أي : لا يشكل . و " هو شيء مخيل " ، أي : مشكل .
(2) في المخطوطة : " لا تضارن " بالنون في آخره ، وهو خطأ .
(3) هكذا جاءت هذه الفقرة في المخطوطة والمطبوعة . وهي فاسدة كلها بلا شك ، ومناقضة لما سيأتي في كلام الطبري في ص : 51 إلى ص : 52 ولست أرتاب في أن الكلام قد سقط منه شيء ، تخطاه ناسخ قديم ، فاضطرب ما أراد الطبري أن يقوله ، ثم ما قاله بعد ، اضطرابا شديدا . والذي استظهرته من قراءة كلامه من أول تفسير الآية إلى آخرها في ص : 54 ، يوجب أن يكون سياق كلامه هنا هكذا :
" اختلفت القَرَأَة في قراءة ذلك . فقرأه عامة قرأة أهل الحجاز والكوفة والشام : " لا تضار والدة بولدها " ، بفتح " الراء " ، على ما لم يسم فاعله ، بتأويل : لا تضارر ، على وجه النهي . وموضعه إذا قرئ كذلك جزم ، غير أنه حرك - إذ ترك التضعيف بحركة الراء الأولى .
وزعم بعض من قرأه كذلك ، أن قراءة من قرأ : " لا تضار " بفتح " الراء " على ما سمي فاعله ، بتأويل : لا تضارر ، على وجه النهي . وموضعه إذا قرئ كذلك جزم ، غير أنه حرك - إذ ترك التضعيف - بأخف الحركات ، وهو الفتح . ولو حرك إلى الكسر كان جائزا ، إتباعا لحركة لام الفعل حركة عينه . وإن شئت ، فلأن الجزم إذا حرك ، حرك إلى الكسر . وهذا خطأ في التأويل " .
ولعل بعض النساخ القدماء ، سقط من نسخه شيء ثم جاء آخر ، فلم يستطع أن يفهم ما كتبه ، ولا أن يعرف موضع السقط فيه ، فتصرف في كتابته على هذا الوجه الذي ثبت في مخطوطتنا وفي جميع المطبوع . وهو خطأ لا ريب فيه . وتناقض ظاهر ، لا يقع في مثله أبو جعفر ، فضلا عما فيه من الاختلال الشديد . وسأبين في التعليقات التالية ما يربط الكلام الآتي بهذه الجملة التي استظهرتها .

(5/46)


وقرأ ذلك بعض أهل الحجاز وبعض أهل البصرة : " لا تضار والدة بولدها " ، رفع. (1) ومن قرأه كذلك لم يحتمل قراءته معنى النهي ، ولكنها تكون [على معنى] الخبر ، (2) عطفا بقوله : " لا تضار " على قوله : " لا تكلف نفس إلا وسعها " . (3)
* * *
وقد زعم بعض نحويي البصرة أن معنى من رفع : " لا تضار والدة بولدها " ، هكذا في الحكم : - أنه لا تضار والدة بولدها - أي : ما ينبغي أن تضار. فلما حذفت " ينبغي " ، وصار " تضار " في وضعه ، صار على لفظه ، واستشهد لذلك بقول الشاعر : (4)
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة : مكان " رفع " ، " فعل " ، وهو تحريف لا شك فيه ، كما يدل عليه السالف والآتي . وكما تدل عليه القراءة . وفي المخطوطة قبله : " لا تضارر " .
(2) في المطبوعة : " ولكنها تكون بالخبر عطفا " ، وكان في المخطوطة : " ولكنها تكون الخبر عطفا " بغير باء الجر . والسياق يدل على ضرورة ما أثبت من الزيادة بين القوسين .
(3) في المخطوطة : " لا تكلف نفسا " ، كما وقع في الآية في ص : 45 تعليق : 1 .
(4) لأبي اللحام التغلبي ، وهو سريع بن عمرو (وعمرو هو اللحام) بن الحارث بن مالك بن ثعلبة بن بكر بن حبيب ويقال اسمه " حريث " . وهو جاهلي ، النقائض : 458 ، وشرح المفضليات : 434 ، والخزانة 3 : 613 - 615 . وفي سيبويه 1 : 431 ، ونسبه الشنتمري لعبد الرحمن بن أم الحكم ، ولم أجد نسبته إليه في مكان آخر . ولأبي اللحام شعر في ديوان عمرو بن كلثوم .

(5/47)


على الحكم المأتي يوما إذا قضى قضيته ، أن لا يجور ويقصد (1)
فزعم أنه رفع " يقصد " بمعنى " ينبغي " . والمحكي عن العرب سماعا غير الذي قال. وذلك أنه روي عنهم سماعا : " فتصنع ماذا " ، إذا أرادوا أن يقولوا : " فتريد أن تصنع ماذا " ، فينصبونه بنية " أن. وإذا لم ينووا " أن " ولم يريدوها ، قالوا : " فتريد ماذا " ، فيرفعون " تريد " ، لأن لا جالب ل " أن " قبله ، كما كان له جالب قبل " تصنع " . فلو كان معنى قوله " لا تضار " إذا قرئ رفعا بمعنى : " ينبغي أن لا تضار " أو " ما ينبغي أن تضار " ، ثم حذف " ينبغي " و " أن " ، وأقيم " تضار " مقام " ينبغي " ، لكان الواجب أن يقرأ - إذا قرئ بذلك المعنى - نصبا لا رفعا ، ليعلم بنصبه المتروك قبله المعني المراد ، كما فعل بقوله : " فتصنع ماذا " ، ولكن معنى ذلك ما قلنا إذا رفع على العطف على " تكلف " : (2) ليست تكلف نفس إلا وسعها ، وليست تضار والدة بولدها. يعني بذلك أنه ليس ذلك في دين الله وحكمه وأخلاق المسلمين.
* * *
قال أبو جعفر : وأولى القرأتين بالصواب في ذلك قراءة من قرأ بالنصب ، لأنه نهي من الله تعالى ذكره كل واحد من أبوي المولود عن مضارة صاحبه له ، حرام عليهما ذلك بإجماع المسلمين. فلو كان ذلك خبرا ، لكان حراما عليهما ضرارهما به كذلك. (3)
* * *
__________
(1) سيبويه 1 : 431 الخزانة 3 : 613 - 615 ، وشرح شواهد المغني : 263 . وقال صاحب الخزانة : " البيت من قصيدة عدتها تسعة عشر بيتا لأبي اللحام التغلبي أو ردها أبو عمرو الشيباني في أشعار تغلب له ، وانتخبها أبو تمام ، فأورد منها خمسة أبيات في مختار شعر القبائل ، وهذا أولها : عمرت وأطولت التفكر خاليا ... وساءلت حتى كاد عمري ينفد
(2) في المطبوعة : " لا تكلف " بزيادة " لا " وأثبت ما في المخطوطة .
(3) في المخطوطة والمطبوعة : " لكان حرام " بالرفع ، والأجود ما أثبت .

(5/48)


وبما قلنا في ذلك - من أن ذلك بمعنى النهي - تأوله أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
4974 - حدثنا محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : " لا تضار والدة بولدها " ، لا تأبى أن ترضعه ليشق ذلك على أبيه ، ولا يضار الوالد بولده ، فيمنع أمه أن ترضعه ليحزنها.
4975 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد مثله.
4976 - حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا يزيد بن زريع قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : " لا تضار والدة بولدها ولا مولود له بولده " ، قال : نهى الله تعالى عن الضرار وقدم فيه ، فنهى الله أن يضار الوالد فينتزع الولد من أمه ، إذا كانت راضية بما كان مسترضعا به غيرها ونهيت الوالدة أن تقذف الولد إلى أبيه ضرارا.
4977 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : " لا تضار والدة بولدها " ، ترمي به إلى أبيه ضرارا ، " ولا مولود له بولده " ، يقول : ولا الوالد ، فينتزعه منها ضرارا ، إذا رضيت من أجر الرضاع ما رضي به غيرها ، فهي أحق به إذا رضيت بذلك.
4978 - حدثت عن عمار قال ، حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن يونس ، عن الحسن : " لا تضار والدة بولدها " ، قال : ذلك إذا طلقها ، فليس له أن يضارها فينتزع الولد منها ، إذا رضيت منه بمثل ما يرضى به غيرها وليس لها أن تضاره فتكلفه ما لا يطيق ، إذا كان إنسانا مسكينا ، فتقذف إليه ولده.
4979 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا أبو زهير ، عن جويبر ، عن الضحاك : " لا تضار والدة بولدها " ، لا تضار أم بولدها ولا أب بولده. يقول : لا تضار أم بولدها فتقذفه إليه إذا كان الأب حيا ، أو إلى عصبته

(5/49)


إذا كان الأب ميتا. ولا يضار الأب المرأة إذا أحبت أن ترضع ولدها ولا ينتزعه. (1)
4980 - حدثني موسى قال ، حدثنا عمرو قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : " لا تضار والدة بولدها " ، يقول لا ينزع الرجل ولده من امرأته فيعطيه غيرها بمثل الأجر الذي تقبله هي به ولا تضار والدة بولدها ، فتطرح الأم إليه ولده ، تقول : " لا أليه ساعة " تضيعه ، (2) ولكن عليها من الحق أن ترضعه حتى يطلب مرضعا.
4981 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثني الليث قال ، حدثني عقيل ، عن ابن شهاب - وسئل عن قول الله تعالى ذكره " والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين " إلى " لا تضار والدة بولدها ولا مولود له بولده " ، قال ابن شهاب : والوالدات أحق برضاع أولادهن ما قبلن رضاعهن بما يعطى غيرهن من الأجر ، وليس للوالدة أن تضار بولدها فتأبى رضاعه ، مضارة وهي تعطى عليه ما يعطى غيرها من الأجر. وليس للمولود له أن ينزع ولده من والدته مضارا لها ، وهي تقبل من الأجر ما يعطاه غيرها.
4982 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا مهران ، وحدثني علي قال ، حدثنا زيد جميعا ، عن سفيان في قوله : " لا تضار والدة بولدها " ، لا ترم بولدها إلى الأب إذا فارقها ، تضاره بذلك " ولا مولود له بولده " ، ولا ينزع الأب منها ولدها ، يضارها بذلك.
4983 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد في قوله : " لا تضار والدة بولدها ولا مولود له بولده " ، قال : لا ينزعه منها وهي تحب أن ترضعه فيضارها ، ولا تطرحه عليه وهو لا يجد من ترضعه ، ولا يجد ما يسترضعه به.
4984 - حدثنا عمرو بن علي الباهلي قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثني
__________
(1) في المطبوعة : " ولا ينتزعه " ، وهما سواء ، وأثبت ما في المخطوطة .
(2) في المطبوعة والمخطوطة : " يقول لا إليه ساعة تضعه " ، وهو في المخطوطة غير منقوط ، ورأيت الصواب أن تكون هكذا قراءة الجملة ، مع جعل " تضعه " " تضيعه " ، أي تضيعه بتركها إياه .

(5/50)


ابن جريج ، عن عطاء في قوله : " لا تضار والدة بولدها " ، قال : لا تدعنه ورضاعه ، من شنآنها مضارة لأبيه ، (1) ولا يمنعها الذي عنده مضارة لها.
* * *
وقال بعضهم : " الوالدة " التي نهى الرجل عن مضارتها : ظئر الصبي. (2)
ذكر من قال ذلك :
4985 - حدثني المثنى قال ، حدثنا مسلم بن إبراهيم قال ، حدثنا هارون النحوي قال ، حدثنا الزبير بن الخريت ، عن عكرمة في قوله : " لا تضار والدة بولدها " ، قال : هي الظئر. (3)
* * *
فمعنى الكلام : لا يضارر والد مولود والدته بمولوده منها ، ولا والدة مولود والده بمولودها منه. ثم ترك ذكر الفاعل في " يضار " ، فقيل : لا تضارر والدة بولدها ولا مولود له بولده ، (4) كما يقال إذا نهي عن إكرام رجل بعينه فيما لم يسم فاعله ، ولم يقصد بالنهي عن إكرامه قصد شخص بعينه : " لا يكرم عمرو ، ولا يجلس إلى أخيه " ، ثم ترك التضعيف فقيل : " لا تضار " فحركت الراء الثانية التي كانت مجزومة - لو أظهر التضعيف - بحركة الراء الأولى. (5)
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة " من شأنها " ، والصواب ما أثبت ، والشنآن : البغض والكره .
(2) الظئر : العاطفة على ولد غير ولدها ، المرضعة له .
(3) الأثر : 4985 - " مسلم بن إبراهيم الأزدي الفراهيدي " ، روى عنه البخاري ، وأبو داود ، ويحيى بن معين ، وأبو زرعة ، وأبو حاتم ، وغيرهم ، ثقة صدوق . مات سنة 222 . و " هرون النحوي " و " هرون الأعور " هو : هرون بن موسى الأزدي العتكي - النحوي الأعور صاحب القراءات ، كان ثقة مأمونا . و " الزبير بن الخريت " (بكسر الخاء وتشديد الراء المكسورة) . ثقة . وكان في المطبوعة والمخطوطة : " الزبير بن الحارث " ، هو خطأ صرف .
(4) في المطبوعة : " لا تضار والدة . . . " كنص الآية ، ولكنه أراد التضعيف هنا ، كما يظهر من السياق ، والصواب من المخطوطة .
(5) من هذا الموضع أخذت ما زدته هناك ص : 46 ، 47 تعليق : 3 في التعليق على الجملة المضطربة التي بينت اضطرابها .

(5/51)


وقد زعم بعض أهل العربية أنها إنما حركت إلى الفتح في هذا الموضع ، لأنه آخر الحركات. (1) وليس للذي قال من ذلك معنى. لأن ذلك إنما كان جائزا أن يكون كذلك ، لو كان معنى الكلام : لا تضارر والدة بولدها ، (2) وكان المنهي عن الضرار هي الوالدة. على أن معنى الكلام لو كان كذلك ، لكان الكسر في " تضار " أفصح من الفتح ، والقراءة به كانت أصوب من القراءة بالفتح ، كما أن : " مد بالثوب " أفصح من " مد به " . (3) وفي إجماع القرأة على قراءة : " لا تضار " بالفتح دون الكسر ، دليل واضح على إغفال من حكيت قوله من أهل العربية في ذلك. (4)
فإن كان قائل ذلك قاله توهما منه أنه معنى ذلك : لا تضارر والدة ، (5) وأن " الوالدة " مرفوعة بفعلها ، وأن " الراء " الأولى حظها الكسر ، فقد أغفل تأويل الكلام ، (6) وخالف قول جميع من حكينا قوله من أهل التأويل. وذلك أن الله تعالى ذكره تقدم إلى كل أحد (7) من أبوي المولود بالنهي عن ضرار صاحبه بمولودهما لا أنه نهى كل واحد منهما عن أن يضار المولود. وكيف يجوز أن ينهاه عن مضارة الصبي ،
__________
(1) في المطبوعة : " لأنه أحد الحركات " ، وهو كلام لا معنى له ، والصواب ما أثبت ، وقد مضى في مكان ما من التفسير مثل هذا الخطأ ، ولم أستطع أن أعثر عليه بعد . وقوله : " آخر الحركات " معناه : أخفها . فالضم أثقل الحركات ، ثم الكسر ، ثم الفتح أخفها وآخرها . وأما السكون فلا يعد في الحركات . وهذا الذي قاله الطبري هنا دليل قاطع على فساد الجملة التي كانت في ص : 46 ، 47 (تعليق : 3) وأنه لا يجعل علة الفتح في معنى النهي : " أنه حرك إذ ترك التضعيف بأخف الحركات ، وهو الفتح " ، ودليل على أن الصواب ما استظهرته في التعليق . وسيظهر ذلك بينا في رده الذي يأتي بعقب هذه الجملة .
(2) في المخطوطة والمطبوعة : " لا تضارن " ، وهو كلام لا معنى له . والصواب ما أثبت (بضم التاء وكسر الراء الأولى ، وسكون الأخيرة) ،
(3) انظر شرح الشافية 2 : 243 .
(4) إغفاله : دخوله في الغفلة ، كما أسلفنا في 1 : 151 ، تعليق : 1 ، وكذلك معنى قوله في الموضع الثاني " أغفل " ، أي : دخل في الغفلة .
(5) في المطبوعة : " لا تضار " براء مشددة ، والصواب من المخطوطة . وقوله " مرفوعة بفعلها " ، أي أنه فعل لازم ، مثل " قاتل الرجل " .
(6) إغفاله : دخوله في الغفلة ، كما أسلفنا في 1 : 151 ، تعليق : 1 ، وكذلك معنى قوله في الموضع الثاني " أغفل " ، أي : دخل في الغفلة .
(7) في المطبوعة : " كل واحد " ، وهما قريبين . وقوله : تقدم إلى كذا بكذا ، أي أمر بأمر أو نهي .

(5/52)


والصبي في حال ما هو رضيع - غير جائز أن يكون منه ضرار لأحد ؟ فلو كان ذلك معناه ، لكل التنزيل : لا تضر والدة بولدها. (1)
* * *
وقد زعم آخرون من أهل العربية أن الكسر في " تضار " جائز. (2) والكسر في ذلك عندي في هذا الموضع غير جائز ، (3) لأنه إذا كسر تغير معناه عن معنى : لا تضارَرْ " - (4) الذي هو في مذهب ما لم يسم فاعله - إلى معنى " لاتضارر " ، (5) الذي هو في مذهب ما قد سمي فاعله. (6)
* * *
قال أبو جعفر : فإذ كان الله تعالى ذكره قد نهى كل واحد من أبوي المولود عن مضارة صاحبه بسبب ولدهما ، فحق على إمام المسلمين إذا أراد الرجل نزع ولده من أمه بعد بينونتها منه ، وهي تحضنه وتكلفه وترضعه ، بما يحضنه به غيرها ويكلفه به ويرضعه من الأجرة (7) أن يأخذ الوالد بتسليم ولدها ، ما دام محتاجا الصبي ، إليها في ذلك بالأجرة التي يعطاها غيرها وحق عليه إذا كان الصبي لا يقبل ثدي غير
__________
(1) في المخطوطة : " لا تضار " كنص الآية ، وهي خطأ بلا شك .
(2) هو الفراء في معاني القرآن 1 : 149 ، وعنى الفراء برأيه هذا أنه لما سكنت الراء الأولى لإدغامهما في الثانية الساكنة ، التقى ساكنان ، فكسر ، لأن الكسر هو الأصل في التقاء الساكنين هذا ما أجازه .
(3) في المطبوعة : " والكسر في ذلك عندي غير جائز في هذا الموضع " وأثبت ما في المخطوطة .
(4) في المطبوعة : " لا تضار " ، والصواب التضعيف هنا للبيان ، كما في المخطوطة .
(5) في المخطوطة والمطبوعة : " لا تضار " والصواب ما أثبت للعلة في التعليق السالف .
(6) هذه الفقرة من كلام أبي جعفر في رد من قال بالكسر ، تدل دلالة واضحة أيضًا على فساد الجملة الأولى التي صححناها في ص : 46 ، 47 تعليق : 3 ، وهي تبين لك عن صواب ما استظهرت أنه أصل كلام الطبري .
(7) في المخطوطة والمطبوعة : " وترضعه " ، والصواب بالياء كما أثبت . وسياق الجملة : " فحق على إمام المسلمين . . . أن يأخذ الوالد " وما بينهما فصل للحال . وقوله : " ما دام محتاجا الصبي " حال أخرى معترضة . وسياق الكلام " بتسليم ولدها . . . إليها في ذلك " .

(5/53)


والدته ، أو كان المولود له لا يجد من يرضع ولده وإن كان يقبل ثدي غير أمه ، أو كان معدما لا يجد ما يستأجر به مرضعا ، ولا يجد ما يتبرع عليه برضاع مولوده. (1) أن يأخذ والدته البائنة من والده برضاعه وحضانته. (2) لأن الله تعالى ذكره إن حرم على كل واحد من أبويه ضرار صاحبه بسببه ، (3) فالإضرار به أحرى أن يكون محرما ، مع ما في الإضرار به من مضارة صاحبه.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ }
قال أبو جعفر : اختلف أهل التأويل في " الوارث " الذي عنى الله تعالى ذكره بقوله : " وعلى الوارث مثل ذلك " ، وأي وارث هو : ووارث من هو ؟
فقال بعضهم : هو وارث الصبي. وقالوا : معنى الآية : وعلى وارث الصبي إذا كان [ أبوه ] ميتا ، (4) مثل الذي كان على أبيه في حياته.
* ذكر من قال ذلك :
4986 - حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا يزيد قالا حدثنا سعيد ، عن قتادة : " وعلى الوارث مثل ذلك " ، على وارث الولد.
4987 - حدثني موسى قال ، حدثنا عمرو قال ، حدثنا أسباط ، عن
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة : " ما يتبرع عليه " ، وهو خطأ فاسد ، لأنه يريد أنه لم يجد من يتفضل عليه ويتطوع برضاع مولوده . وسياق هذه الجملة أيضًا : " وحق عليه . . . أن يأخذ والدته " ، كما في الفقرة السالفة .
(2) في المخطوطة : " أن يأخذ بوالدته الثانية من والدته البائنة من والده " ، وقد أصابت المطبوعة الصواب ، فحذفت " الثانية من والدته " ، فهو تصحيف وتكرار .
(3) في المطبوعة : " لأن الله تعالى ذكره حرم " بإسقاط " إن " ، والواجب إثباتها كما جاءت في المخطوطة .
(4) هذه الزيادة بين القوسين لا بد منها ، وإلا اختل الكلام ، ويدل على وجودها ما بعده .

(5/54)


السدي : " وعلى الوارث مثل ذلك " ، على وارث الولد.
4988 - حدثني المثنى قال ، حدثنا سويد قال ، أخبرنا ابن المبارك ، عن معمر ، عن قتادة : " وعلى الوارث مثل ذلك " ، قال : وعلى وارث الصبي مثل ما على أبيه.
* * *
ثم اختلف قائلو هذه المقالة في وارث المولود ، الذي ألزمه الله تعالى مثل الذي وصف. فقال بعضهم : هم وارث الصبي من قبل أبيه من عصبته ، كائنا من كان ، أخا كان ، أو عما ، أو ابن عم ، أو ابن أخ.
* ذكر من قال ذلك :
4989 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا ابن جريج : أن عمرو بن شعيب أخبره : أن سعيد بن المسيب أخبره : أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال : في قوله : " وعلى الوارث مثل ذلك " ، قال (1) وقف بني عم على منفوس كلالة بالنفقة عليه ، مثل العاقلة. (2)
4990 - حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة : أن الحسن كان يقول : " وعلى الوارث مثل ذلك " ، على العصبة.
4991 - حدثنا عمرو بن علي قال ، حدثنا عبد الله بن إدريس وأبو عاصم
__________
(1) هذه الجملة بين الخطين ، من كلام عمرو بن شعيب . بمعنى أن سعيد بن المسيب أخبره في قوله تعالى : " وعلى الوارث مثل ذلك " ، أن عمر بن الخطاب حبس . وهذا بين من سياق التحديث .
(2) الأثر : 4989 - في المخطوطة " قال : وقف بني عم منفوس بني عمه كلالة بالنفقة " . وأما الذي في المطبوعة ، فكأنه من نص الدر المنثور 1 : 288 ، اجتلبه المصحح من هناك ، وهذا نص الدر والمطبوعة : " حبس بني عم على منفوس كلالة بالنفقة عليه " ، وقد رأيت أن أقرأها كما أثبتها وكما في المحلى بهذا الإسناد 10 : 102 . والمخطوطة - كما قلت مرارا مضطربة في هذا القسم منها لعجلة الكاتب ، كما ظهر في كثرة التصحيحات السالفة . وانظر الأثر رقم : 4991 والتعليق عليه . يقال : هو ابن عمه كلالة (بالنصب) ، وابن عم كلالة (بالإضافة) . أي من بني العم الأباعد ، وهم العصبة وإن بعدوا . والعاقلة : هم عصبة الرجل وقرابته من قبل الأب الذين يعطون دية القتل .

(5/55)


قالا حدثنا ابن جريج ، عن عمرو بن شعيب ، عن سعيد بن المسيب قال : وقف عمر ابن عم على منفوس كلالة برضاعه. (1)
4992 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال ، حدثنا ابن علية ، عن يونس : أن الحسن كان يقول : إذا توفي الرجل وامرأته حامل ، فنفقتها من نصيبها ، ونفقة ولدها من نصيبه من ماله إن كان له ، فإن لم يكن له مال فنفقته على عصبته.
قال : وكان يتأول قوله : " وعلى الوارث مثل ذلك " ، على الرجال.
4993 - حدثنا عمرو بن علي قال ، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي قال ، حدثنا هشيم ، عن يونس ، عن الحسن قال : على العصبة الرجال ، دون النساء.
4994 - حدثنا أبو كريب وعمرو بن علي قالا حدثنا ابن إدريس قال ، حدثنا هشام عن ابن سيرين : أتي عبد الله بن عتبة مع اليتيم وليه ، ومع اليتيم من يتكلم في نفقته ، فقال لولي اليتيم : لو لم يكن له مال لقضيت عليك بنفقته ، لأن الله تعالى يقول : " وعلى الوارث مثل ذلك " . (2)
4995 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال ، حدثنا ابن علية قال ، حدثنا أيوب ، عن محمد بن سيرين قال : أُتي عبد الله بن عتبة في رضاع صبي ، فجعل رضاعه في ماله ، وقال لوليه : لو لم يكن له مال جعلنا رضاعه في مالك ، ألا تراه يقول : " وعلى الوارث مثل ذلك " ؟ (3)
4996 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا جرير ، عن مغيرة ، عن إبراهيم في قوله : " وعلى الوارث مثل ذلك " ، قال : على الوارث ما على الأب ، إذا لم يكن للصبي مال. وإذا كان له ابن عم أو عصبة ترثه ، فعليه النفقة.
__________
(1) الأثر : 4991 - انظر الأثر السالف : 4989 ، وفي المطبوعة هنا " ابن عم على منفوس " بزيادة " على " ، وأثبت ما في المخطوطة وانظر سنن البيهقي 7 : 478 - 479 ، والمحلى 10 : 102 .
(2) الأثران : 4994 ، 4995 - انظر الأثر التالي رقم : 5004 . والذي في المخطوطة في الأثر الأول : " أن أبا عبد الله " بياض بين الكلمتين ، وغير منقوط ، وفي المطبوعة : " أنه أتى عبد الله " ، وظني أن الناسخ قد كرر ، وأن الصواب ما أثبت ، كما في الأثر الذي يليه .
(3) الأثران : 4994 ، 4995 - انظر الأثر التالي رقم : 5004 . والذي في المخطوطة في الأثر الأول : " أن أبا عبد الله " بياض بين الكلمتين ، وغير منقوط ، وفي المطبوعة : " أنه أتى عبد الله " ، وظني أن الناسخ قد كرر ، وأن الصواب ما أثبت ، كما في الأثر الذي يليه .

(5/56)


4997 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : " وعلى الوارث مثل ذلك " ، قال : الولي من كان.
4998 - حدثني المثنى قال ، حدثنا سويد قال ، أخبرنا ابن المبارك ، عن أبي بشر ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد مثله.
4999 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد مثله.
5000 - حدثنا عبد الله بن محمد الحنفي قال ، حدثنا عبد الله بن عثمان قال ، أخبرنا ابن المبارك قال ، أخبرنا يعقوب - يعني ابن القاسم - عن عطاء وقتادة - في يتيم ليس له شيء ، أيجبر أولياؤه على نفقته ؟ قالا نعم ، ينفق عليه حتى يدرك. (1)
5001 - حدثت عن يعلى بن عبيد ، عن جويبر ، عن الضحاك قال : إن مات أبو الصبي وللصبي مال ، أخذ رضاعه من المال. وإن لم يكن له مال ، أخذ من العصبة. فإن لم يكن للعصبة مال ، أجبرت عليه أمه.
* * *
وقال آخرون منهم : بل ذلك على وارث المولود من كان ، من الرجال والنساء.
* ذكر من قال ذلك :
5002 - حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة أنه كان يقول : " وعلى الوارث مثل ذلك " ، على وارث المولود ما كان على
__________
(1) الأثر : 5000 - عبد الله بن محمد بن يزيد أبو محمد الحنفي المروزي صاحب عبدان . سكن بغداد . قال الخطيب : " كان ثقة " ، وتوفى سنة 275 مترجم في تاريخ بغداد 10 : 85 و " عبدان " ، لقب " عبد الله بن عثمان بن جبلة بن أبي رواد الأزدي ، روى عنه البخاري . مات سنة 220 . مترجم في التهذيب . وانظر الأثر الآتي برقم : 5009 .

(5/57)


الوالد من أجر الرضاع ، إذا كان الولد لا مال له ، على الرجال والنساء على قدر ما يرثون.
5003 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر ، عن الزهري : أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أغرم ثلاثة ، كلهم يرث الصبي ، أجر رضاعه.
5004 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر ، عن أيوب ، عن ابن سيرين : أن عبد الله بن عتبة جعل نفقة صبي من ماله ، وقال لوارثه : أما إنه لو لم يكن له مال أخذناك بنفقته ، ألا ترى أنه يقول : " وعلى الوارث مثل ذلك " . (1)
* * *
وقال آخرون منهم : هو من ورثته ، من كان منهم ذا رحم محرم للمولود ، فأما من كان ذا رحم منه وليس بمحرم ، كابن العم والمولى ومن أشبههما ، فليس من عناه الله بقوله : " وعلى الوارث مثل ذلك " . والذين قالوا هذه المقالة : أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد.
* * *
وقالت فرقةأخرى : بل الذي عنى الله تعالى ذكره بقوله : " وعلى الوارث مثل ذلك " ، المولود نفسه.
ذكر من قال ذلك :
5005 - حدثنا محمد بن عبد الله بن عبد الحكم المصري قال ، حدثنا أبو زرعة وهب الله بن راشد قال ، أخبرنا حيوة بن شريح قال ، أخبرنا جعفر بن ربيعة. أن بشير بن نصر المزني - وكان قاضيا قبل ابن حجيرة في زمان عبد العزيز - كان يقول : " وعلى الوارث مثل ذلك " ، قال : الوارث هو الصبي. (2)
__________
(1) الأثر : 5004 - بإسناده في المحلى 10 : 103 ، وانظر الأثرين السالفين : 4994 ، 4995 .
(2) الأثر : 5005 - " أبو زرعة وهب الله بن راشد المصري " مضت ترجمته بتفصيل في رقم : 2377 . وكان في المطبوعة هنا " حدثنا أبو زرعة وعبد الله بن راشد " كما كان هناك أيضًا ، والصواب هنا من المخطوطة . وجعفر بن ربيعة بن شرحبيل بن حسنة الكندي أبو شرحبيل المصري . قال أحمد : " كان شيخا من أصحاب الحديث ثقة " . توفي سنة 136 . مترجم في التهذيب . و " بشير ابن النضر المزني " مترجم في كتاب القضاة للكندي : 313 - 314 توفى سنة 69 ، وكان في المطبوعة والمخطوطة " بشر بن نصر " ، وهو خطأ ، وقد روى هذا الأثر بإسناده قال : " حدثنا محمد بن يوسف ، قال حدثني محمد بن ربيع الجيزي ، قال حدثني أبي ، قال حدثنا أبو زرعة وهب الله بن راشد . . . " . و " ابن حجيرة " هو : " عبد الرحمن بن حجيرة الخولاني " ، مترجم في كتاب القضاة : 314 - 320 ، توفى سنة 83 ، وكان فقيها من أفقه الناس .

(5/58)


5006 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا عبد الله بن يزيد المقري قال ، أخبرنا حيوة. قال ، أخبرنا جعفر بن ربيعة ، عن قبيصة بن ذؤيب : " وعلى الوارث مثل ذلك " ، قال : هو الصبي.
5007 - حدثني المثنى قال ، حدثنا سويد قال ، أخبرنا ابن المبارك ، عن حيوة بن شريح قال ، أخبرني جعفر بن ربيعة : أن قبيصة بن ذؤيب كان يقول : الوارث هو الصبي يعني قوله : " وعلى الوارث مثل ذلك " . (1)
5008 - حدثني المثنى قال ، حدثنا سويد قال ، أخبرنا ابن المبارك ، عن جويبر ، عن الضحاك : " وعلى الوارث مثل ذلك " ، قال : يعني بالوارث : الولد الذي يرضع.
* * *
قال أبو جعفر : وتأويل ذلك على ما تأوله هؤلاء : وعلى الوارث المولود ، مثل ما كان على المولود له.
* * *
وقال آخرون : بل هو الباقي من والدي المولود ، بعد وفاة الآخر منهما.
ذكر من قال ذلك :
5009 - حدثني عبد الله بن محمد الحنفي قال ، أخبرنا عبد الله بن عثمان قال ، أخبرنا ابن المبارك قال ، سمعت سفيان يقول في
__________
(1) الأثران : 5006 ، 5007 - انظر المحلى 10 : 103 ، وروايته هناك : " رضاع الصبي " .

(5/59)


صبي له عم وأم وهي ترضعه ، قال : يكون رضاعه بينهما ، ويرفع عن العم بقدر ما ترث الأم ، لأن الأم تجبر على النفقة على ولدها. (1)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { مِثْلُ ذَلِكَ }
قال أبو جعفر : اختلف أهل التأويل في تأويل قوله : " مثل ذلك " .
فقال بعضهم : تأويله : وعلى الوارث للصبي بعد وفاة أبويه ، (2) مثل الذي كان على والده من أجر رضاعه ونفقته ، إذا لم يكن للمولود مال.
ذكر من قال ذلك :
5010 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال ، حدثنا هشيم ، عن مغيرة ، عن إبراهيم في قوله : " وعلى الوارث مثل ذلك " ، قال : على الوارث رضاع الصبي.
5011 - حدثنا عمرو بن علي ومحمد بن بشار قالا حدثنا عبد الرحمن قال ، حدثنا أبو عوانة ، عن منصور ، عن إبراهيم : " وعلى الوارث مثل ذلك " ، قال : أجر الرضاع.
5012 - حدثنا عمرو بن علي قال ، حدثنا عبد الرحمن قال ، حدثنا سفيان ، عن المغيرة ، عن إبراهيم : " وعلى الوارث مثل ذلك " ، قال : الرضاع.
5013 - حدثنا عمرو بن علي قال ، حدثنا عبد الرحمن قال ، حدثنا أبو عوانة ، عن المغيرة ، عن إبراهيم في قوله : " وعلى الوارث مثل ذلك " ، قال : أجر الرضاع.
__________
(1) الأثر : 5009 - انظر إسناد الأثر السالف رقم : 5000 ، وفي المطبوعة : " ويدفع عن العم " ، والصواب من المخطوطة .
(2) في المطبوعة : " على الوارث للصبي " ، وأثبت ما في المخطوطة .

(5/60)


5014 - حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا عبد الرحمن قال ، حدثنا حماد بن سلمة ، عن أيوب ، عن محمد بن سيرين ، عن عبد الله بن عتبة : " وعلى الوارث مثل ذلك " ، قال : الرضاع.
5015 - حدثنا عمرو بن علي قال ، حدثنا عبد الرحمن قال ، حدثنا حماد بن سلمة ، عن أيوب ، عن محمد ، عن عبد الله بن عتبة في قوله : " وعلى الوارث مثل ذلك " ، قال : النفقة بالمعروف.
5016 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا جرير ، عن مغيرة ، عن إبراهيم : " وعلى الوارث مثل ذلك " ، قال : على الوارث ما على الأب من الرضاع ، إذا لم يكن للصبي مال.
5017 - حدثنا سفيان قال ، حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن مغيرة ، عن إبراهيم قال : الرضاع والنفقة.
5018 - حدثني أحمد بن حازم قال ، حدثنا أبو نعيم قال ، حدثنا سفيان ، عن إبراهيم : " وعلى الوارث مثل ذلك " ، قال : الرضاع.
5019 - حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا عبد الرحمن قال ، حدثنا أبو عوانة ، عن عطاء بن السائب ، عن الشعبي ، قال : الرضاع.
5020 - حدثنا عمرو بن علي قال ، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي قال ، حدثنا أبو عوانة ، عن مطرف ، عن الشعبي : " وعلى الوارث مثل ذلك " ، قال : أجر الرضاع.
5021 - حدثنا عمرو قال ، حدثنا عبد الرحمن قال ، حدثنا أبو عوانة ، عن مغيرة ، عن إبراهيم ، والشعبي مثله.
5022 - حدثنا أبو كريب وعمرو بن علي قالا حدثنا عبد الله بن إدريس

(5/61)


قال ، سمعت هشاما (1) عن الحسن في قوله : " وعلى الوارث مثل ذلك " ، قال : الرضاع.
5023 - حدثني أبو السائب قال ، حدثنا ابن إدريس ، عن هشام وأشعث ، عن الحسن مثله.
5024 - حدثت عن عمار قال ، حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن يونس ، عن الحسن : " وعلى الوارث مثل ذلك " ، يقول في النفقة على الوارث ، إذا لم يكن له مال.
5025 - حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا عبد الرحمن قال ، حدثنا حماد بن سلمة ، عن قيس بن سعد ، عن مجاهد مثله.
5026 - حدثنا عمرو بن علي قال ، حدثنا عبد الرحمن قال ، حدثنا حماد بن سلمة ، عن قيس بن سعد ، عن مجاهد : " وعلى الوارث مثل ذلك " ، قال : النفقة بالمعروف.
5027 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : " وعلى الوارث مثل ذلك " ، على الولي كفله ورضاعه ، إن لم يكن للمولود مال.
5028 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني الحجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد قال : " وعلى الوارث مثل ذلك " ، قال : وعلى الوارث من كان ، مثل ما وصف من الرضاع قال ابن جريج : وأخبرني عبد الله بن كثير ، عن مجاهد : مثل ذلك في الرضاعة قال : " وعلى الوارث مثل ذلك " ، قال : وعلى الوارث أيضا كفله ورضاعه ، إن لم يكن له مال ، وأن لا يضار أمه.
5029 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني الحجاج ، عن
__________
(1) في المطبوعة : " سمعت وهشاما عن الحسن " ، كأنه سقطا اسم راو عطف عليه قوله " وهشاما " وكأنه صوابه " سمعت أشعث وهشاما " ، كما سيأتي في الأثر التالي .

(5/62)


ابن جريح ، عن عطاء الخراساني ، عن ابن عباس : " وعلى الوارث مثل ذلك " ، قال : نفقته حتى يفطم ، إن كان أبوه لم يترك له مالا.
5030 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة : " وعلى الوارث مثل ذلك " ، قال : وعلى وارث الولد ما كان على الوالد من أجر الرضاع ، إذا كان الولد لا مال له.
5031 - حدثني عبد الله بن محمد الحنفي قال ، حدثنا عبد الله بن عثمان قال ، أخبرنا ابن المبارك ، عن معمر ، عن قتادة : " وعلى الوارث مثل ذلك " ، قال : على وارث الصبي مثل ما على أبيه ، إذا كان قد هلك أبوه ولم يكن له مال ، (1) فإن على الوارث أجر الرضاع.
5032 - حدثنا ابن حميد ، قال ، حدثنا جرير ، عن منصور ، عن إبراهيم : " وعلى الوارث مثل ذلك " ، قال : إذا مات وليس له مال ، كان على الوارث رضاع الصبي.
* * *
وقال آخرون : بل تأويل ذلك : وعلى الوارث مثل ذلك : أن لا يضار.
ذكر من قال ذلك :
5033 - حدثنا عمرو بن علي ومحمد بن بشار قالا حدثنا عبد الرحمن بن مهدي قال ، حدثنا حماد بن زيد ، عن علي بن الحكم ، عن الضحاك بن مزاحم : " وعلى الوارث مثل ذلك " ، قال : أن لا يضار.
5034 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا جرير ، عن عاصم الأحول ، عن الشعبي في قوله : " وعلى الوارث مثل ذلك " ، قال : لا يضار ، ولا غرم عليه.
5035 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن جابر ، عن مجاهد في قوله : " وعلى الوارث مثل ذلك " ، أن لا يضار.
__________
(1) في المطبوعة : " إذ كان قد هلك " ، والصواب من المخطوطة .

(5/63)


5036 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثنا الليث قال ، حدثني عقيل ، عن ابن شهاب : " والوالدات يرضعن أولادهن حولين " ، قال : الوالدات أحق برضاع أولادهن ما قبلن رضاعهن بما يعطى غيرهن من الأجر. وليس لوالدة أن تضار بولدها ، فتأبى رضاعه مضارة ، وهي تعطى عليه ما يعطى غيرها. وليس للمولود له أن ينزع ولده من والدته ضرارا لها ، وهي تقبل من الأجر ما يعطي غيرها " وعلى الوارث مثل ذلك " ، مثل الذي على الوالد في ذلك.
5037 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا مهران ، وحدثنا علي قال : حدثنا زيد ، عن سفيان : " وعلى الوارث مثل ذلك " ، قال : أن لا يضار ، وعليه مثل ما على الأب من النفقة والكسوة.
* * *
وقال آخرون : بل تأويل ذلك : وعلى وارث المولود ، (1) مثل الذي كان على المولود له ، من رزق والدته وكسوتها بالمعروف.
ذكر من قال ذلك :
5038 - حدثني المثنى قال ، حدثنا سويد قال ، أخبرنا ابن المبارك ، عن جويبر ، عن الضحاك : " وعلى الوارث مثل ذلك " ، قال : على الوارث عند الموت ، مثل ما على الأب للمرضع من النفقة والكسوة قال : ويعني بالوارث : الولد الذي يرضع : أن يؤخذ من ماله - إن كان له مال - أجر ما أرضعته أمه.
فإن لم يكن للمولود مال ولا لعصبته ، فليس لأمه أجر ، وتجبر على أن ترضع ولدها بغير أجر.
5039 - حدثني موسى بن هارون قال ، حدثنا عمرو قال ، حدثنا أسباط ، عن
__________
(1) في المطبوعة : " وعلى الوارث المولود " ، وأثبت ما في المخطوطة .

(5/64)


السدي : " وعلى الوارث مثل ذلك " ، قال : على وارث الولد ، مثل ما على الوالد من النفقة والكسوة.
* * *
وقال آخرون : معنى ذلك : وعلى الوارث مثل ما ذكره الله تعالى ذكره.
ذكر من قال ذلك :
5040 - حدثني المثنى قال ، حدثنا سويد قال ، أخبرنا ابن المبارك ، عن ابن جريج قال : قلت لعطاء : قوله تعالى ذكره : " وعلى الوارث مثل ذلك " ؟ قال : مثل ما ذكره الله تعالى ذكره.
* * *
قال أبو جعفر : وأولى الأقوال بالصواب في تأويل قوله : " وعلى الوارث مثل ذلك " : أن يكون المعني بالوارث ما قاله قبيصة بن ذؤيب والضحاك بن مزاحم ؛ ومن ذكرنا قوله آنفا : (1) من أنه معني بالوارث : المولود وفي قوله : " مثل ذلك " ، أن يكون معنيا به : مثل الذي كان على والده من رزق والدته وكسوتها بالمعروف ، إن كانت من أهل الحاجة ، ومن هي ذات زمانة وعاهة ، (2) ومن لا احتراف فيها ، ولا زوج لها تستغني به ، وإن كانت من أهل الغنى والصحة ، فمثل الذي كان على والده لها من أجر رضاعه.
وإنما قلنا : هذا التأويل أولى بالصواب مما عداه من سائر التأويلات التي ذكرناها ، لأنه غير جائز أن يقال في تأويل كتاب الله تعالى ذكره قول إلا بحجة واضحة ، على ما قد بينا في أول كتابنا هذا. (3) وإذ كان ذلك كذلك ، وكان قوله : " وعلى الوارث مثل ذلك " ، محتملا ظاهره : وعلى وارث الصبي المولود مثل الذي كان على المولود له ومحتملا وعلى وارث المولود له مثل الذي كان
__________
(1) انظر الآثار السالفة : 5005 - 5008 .
(2) في المطبوعة والمخطوطة : " وهي ذات زمانة " ، والسياق يقتضي ما أثبت . والاحتراف الاكتساب يقال : هو يحرف لعياله ويحترف ، أي يكتسب .
(3) يعني ما سلف في 1 : 73 - 93 ، ثم ذكر ذلك في مواضع أخرى تجدها في الفهارس .

(5/65)


عليه في حياته من ترك ضرار الوالدة ومن نفقة المولود ، وغير ذلك من التأويلات ، على نحو ما قد قدمنا ذكرها (1) وكان الجميع (2) من الحجة قد أجمعوا على أن من ورثة المولود من لا شيء عليه من نفقته وأجر رضاعه (3) وصح بذلك من الدلالة على أن سائر ورثته ، غير آبائه وأمهاته وأجداده وجداته من قبل أبيه أو أمه ، في حكمه ، (4) في أنهم لا يلزمهم له نفقة ولا أجر رضاع ، إذ كان مولى النعمة من ورثته ، وهو ممن لا يلزمه له نفقة ولا أجر رضاع. فوجب بإجماعهم على ذلك أن حكم سائر ورثته غير من استثني - حكمه. (5)
وكان إذا بطل أن يكون معنى ذلك ما وصفنا - من أنه معني به ورثة المولود - فبطول القول الآخر وهو أنه معني به ورثة المولود له سوى المولود أحرى. لأن الذي هو أقرب بالمولود قرابة ممن هو أبعد منه (6) - إذا لم يصح وجوب نفقته وأجر رضاعه عليه - فالذي هو أبعد منه قرابة ، أحرى أن لا يصح وجوب ذلك عليه.
وأما الذي قلنا من وجوب رزق الوالدة وكسوتها بالمعروف على ولدها - إذا كانت الوالدة بالصفة التي وصفنا - على مثل الذي كان يجب لها من ذلك على المولود له ، فما لا خلاف فيه من أهل العلم جميعا. فصح ما قلنا في الآية من التأويل بالنقل المستفيض وراثة عمن لا يجوز خلافه. وما عدا ذلك من التأويلات ، فمتنازع فيه ، وقد دللنا على فساده.
* * *
__________
(1) في المطبوعة : " قدمنا ذكره " وأثبت ما في المخطوطة .
(2) قوله : " وكان الجميع " معطوف على قوله . وإذ كان ذلك كذلك ، وكان قوله . . . "
(3) سياق هذه الجملة من أولها : " وإذ كان ذلك كذلك . . . ، وكان قوله . . . ، محتملا . . . " ومحتملا . . . " وكان الجميع من الحجة . . . صح بذلك من الدلالة . . . " ، وكان في المطبوعة : " وصح " بالواو ، والسياق يقتضي حذفها ، لأنها جواب " إذ " .
(4) السياق : " صح بذلك من الدلالة على أن سائر ورثته . . . في حكمه " .
(5) السياق : " أن حكم سائر ورثته . . . حكمه " خبر " أن " ، يعني أن حكمهما واحد .
(6) في المخطوطة : " الذي هو أقرب بالمولود قربه ممن هو أبعد منه " ، والذي في المطبوعة أصح وأجود .

(5/66)


القول في تأويل قوله تعالى : { فَإِنْ أَرَادَا فِصَالا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا }
قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بقوله : " فإن أرادا " ، إن أراد والد المولود ووالدته " فصالا " ، يعني : فصال ولدهما من اللبن.
* * *
ويعني ب " الفصال " : الفطام ، وهو مصدر من قول القائل : " فاصلت فلانا أفاصله مفاصلة وفصالا " ، إذا فارقه من خلطة كانت بينهما. فكذلك " فصال الفطيم " ، إنما هو منعه اللبن ، وقطعه شربه ، وفراقه ثدي أمه إلا الاغتذاء بالأقوات التي يغتذي بها البالغ من الرجال.
* * *
وبما قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك :
5041 - حدثني موسى قال ، حدثنا عمرو قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي قوله : " فإن أرادا فصالا " ، يقول : إن أرادا أن يفطماه قبل الحولين.
5042 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله قال ، حدثنا معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس : " فإن أرادا فصالا " ، فإن أرادا أن يفطماه قبل الحولين وبعده.
5043 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو زهير ، عن جويبر ، عن الضحاك : " فإن أرادا فصالا عن تراض منهما " ، قال : الفطام.
* * *
وأما قوله : " عن تراض منهما وتشاور " ، فإنه يعني بذلك : عن تراض من والدي المولود وتشاور منهما.
* * *
ثم اختلف أهل التأويل في الوقت الذي أسقط الله الجناح عنهما ، إن فطماه

(5/67)


عن تراض منهما وتشاور ، وأي الأوقات الذي عناه الله تعالى ذكره بقوله : " فإن أرادا فصالا عن تراض منهما وتشاور " .
فقال بعضهم : عنى بذلك ، فإن أرادا فصالا في الحولين عن تراض منهما وتشاور ، فلا جناح عليهما.
ذكر من قال ذلك :
5044 - حدثني موسى قال ، حدثنا عمرو قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : " فإن أرادا فصالا عن تراض منهما وتشاور " ، يقول : إذا أرادا أن يفطماه قبل الحولين فتراضيا بذلك ، فليفطماه.
5045 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر ، عن قتادة : إذا أرادت الوالدة أن تفصل ولدها قبل الحولين ، فكان ذلك عن تراض منهما وتشاور ، فلا بأس به.
5046 - حدثنا سفيان قال ، حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن ليث ، عن مجاهد : " فإن أرادا فصالا عن تراض منهما وتشاور " ، قال : التشاور فيما دون الحولين ، ليس لها أن تفطمه إلا أن يرضى ، وليس له أن يفطمه إلا أن ترضى.
5047 - حدثني المثنى قال ، حدثنا سويد قال ، أخبرنا ابن المبارك ، عن سفيان ، عن ليث ، عن مجاهد قال : التشاور ما دون الحولين ، " فإن أرادا فصالا عن تراض منهما وتشاور " دون الحولين " فلا جناح عليهما " ، فإن لم يجتمعا ، فليس لها أن تفطمه دون الحولين.
5048 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو نعيم قال ، حدثنا سفيان عن ليث ، عن مجاهد قال : التشاور ما دون الحولين ، ليس لها حتى يجتمعا.
5049 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله قال ، حدثني الليث قال ، أخبرنا عقيل ، عن ابن شهاب : " فإن أرادا فصالا " ، يفصلان ولدهما " عن تراض منهما وتشاور " ، دون الحولين الكاملين " فلا جناح عليهما " .

(5/68)


5050 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا مهران وحدثني علي قال ، حدثنا زيد جميعا ، عن سفيان قال : التشاور ما دون الحولين ، إذا اصطلحا دون ذلك ، وذلك قوله : " فإن أرادا فصالا عن تراض منهما وتشاور " . فإن قالت المرأة : " أنا أفطمه قبل الحولين " ، وقال الأب : " لا " ، فليس لها أن تفطمه قبل الحولين. وإن لم ترض الأم ، فليس له ذلك ، حتى يجتمعا. فإن اجتمعا قبل الحولين فطماه ، وإذا اختلفا لم يفطماه قبل الحولين. وذلك قوله : " فإن أرادا فصالا عن تراض منهما وتشاور فلا جناح عليهما " .
5051 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد : " فإن أرادا فصالا عن تراض منهما وتشاور " ، قال : قبل السنتين " فلا جناح عليهما " .
* * *
وقال آخرون : معنى ذلك : " فإن أرادا فصالا عن تراض منهما وتشاور فلا جناح عليهما " ، في أي وقت أرادا ذلك ، قبل الحولين أرادا أم بعد ذلك. (1)
ذكر من قال ذلك :
5052 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله قال ، حدثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس : " فإن أرادا فصالا عن تراض منهما وتشاور فلا جناح عليهما " ، أن يفطماه قبل الحولين وبعده.
* * *
وأما قوله : " عن تراض منهما وتشاور " ، فإنه يعني : عن تراض منهما وتشاور فيما فيه مصلحة المولود لفطمه ، كما : -
5053 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : " فإن أرادا فصالا عن تراض منهما وتشاور " ،
__________
(1) في المطبوعة : " قبل الحولين أرادا ذلك أم بعد الحولين " ، ورددتها إلى المخطوطة .

(5/69)


قال : غير مسيئين في ظلم أنفسهما ولا إلى صبيهما (1) " فلا جناح عليهما " .
5054 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد مثله.
* * *
قال أبو جعفر : وأولى التأويلين بالصواب تأويل من قال : " فإن أرادا فصالا في الحولين عن تراض منهما وتشاور " ، لأن تمام الحولين غاية لتمام الرضاع وانقضائه ، ولا تشاور بعد انقضائه ، وإنما التشاور والتراضي قبل انقضاء نهايته.
فإن ظن ذو غفلة أن للتشاور بعد انقضاء الحولين معنى صحيحا إذ كان من الصبيان من تكون به علة يحتاج من أجلها إلى تركه والاغتذاء بلبن أمه فإن ذلك إذا كان كذلك ، فإنما هو علاج ، كالعلاج بشرب بعض الأدوية ، لا رضاع. فأما الرضاع الذي يكون في الفصال منه قبل انقضاء آخره تراض وتشاور من والدي الطفل الذي أسقط الله تعالى ذكره لفطمهما إياه الجناح عنهما ، قبل انقضاء آخر مدته ، فإنما حده الحد الذي حده الله تعالى ذكره بقوله : (2) " والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة " ، على ما قد أتينا على البيان عنه فيما مضى قبل. (3)
* * *
وأما الجناح ، فالحرج ، (4) كما : -
__________
(1) في المخطوطة : " غير في ظلم أنفسهما " بياض بين الكلمتين ، والذي أتمه مصحح المطبوعة لا بأس به ، ولم أجد الأثر في مكان آخر .
(2) في المخطوطة والمطبوعة : " فإنما الحد الذي حده الله تعالى . . . " ، وهو كلام غير مستقيم ألبتة ، والصواب زيادة ما أثبته ، فيكون سياقه : " وأما الرضاع . . . فإنما حده الحد الذي حده الله تعالى . . . " .
(3) انظر ما سلف في هذا الجزء 5 : 39 وما قبلها وما بعدها .
(4) انظر ما سلف في تفسير " الجناح " 3 : 230 ، 231/ و 4 : 162 ، 163 ، 565 .

(5/70)


5055 - حدثني به المثنى قال ، حدثنا عبد الله قال ، حدثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس : " فلا جناح عليهما " ، فلا حرج عليهما.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ }
قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بذلك ، وإن أردتم أن تسترضعوا أولادكم مراضع غير أمهاتهم إذا أبت أمهاتهم أن يرضعنهم بالذي يرضعنهم به غيرهن من الأجر ، أو من خيفة ضيعة منكم على أولادكم بانقطاع ألبان أمهاتهم ، أو غير ذلك من الأسباب فلا حرج عليكم في استرضاعهن ، إذا سلمتم ما آتيتم بالمعروف.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك :
5056 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : " وإن أردتم أن تسترضعوا أولادكم " ، خيفة الضيعة على الصبي ، " فلا جناح عليكم " .
5057 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد مثله.
5058 - حدثني عبد الله بن محمد الحنفي قال ، حدثنا عبد الله بن عثمان قال ، أخبرنا ابن المبارك قال ، أخبرنا أبو بشر ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد مثله.

(5/71)


5059 - حدثني موسى قال ، حدثنا عمرو قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : " وإن أردتم أن تسترضعوا أولادكم " ، إن قالت المرأة : " لا طاقة لي به فقد ذهب لبني " فتُسترْضَع له أخرى.
5060 - حدثني المثنى قال ، حدثنا سويد قال ، أخبرنا ابن المبارك ، عن جويبر ، عن الضحاك قال : ليس للمرأة أن تترك ولدها بعد أن يصطلحا على أن ترضع ، ويسلمان ، ويجبران على ذلك. قال : فإن تعاسروا عند طلاق أو موت في الرضاع ، فإنه يعرض على الصبي المراضع. فإن قبل مرضعا جاز ذلك وأرضعته ، (1) وإن لم يقبل مرضعا فعلى أمه أن ترضعه بالأجر إن كان له مال أو لعصبته. فإن لم يكن له مال ولا لعصبته ، أكرهت على رضاعه.
5061 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا مهران وحدثني علي قال ، حدثنا زيد جميعا ، عن سفيان : " وإن أردتم أن تسترضعوا أولادكم فلا جناح عليكم " ، إذا أبت الأم أن ترضعه ، فلا جناح على الأب أن يسترضع له غيرها.
5062 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد في قوله : " وإن أردتم أن تسترضعوا أولادكم فلا جناح عليكم إذا سلمتم ما آتيتم بالمعروف " ، قال : إذا رضيت الوالدة أن تسترضع ولدها ، ورضي الأب أن يسترضع ولده ، فليس عليهما جناح.
* * *
واختلفوا في قوله : " إذا سلمتم ما آتيتم بالمعروف " .
فقال بعضهم : معناه : إذا سلمتم لأمهاتهم ما فارقتموهن عليه من الأجرة على رضاعهن ، بحساب ما استحقته إلى انقطاع لبنها أو الحال التي عذر أبو الصبي بطلب مرضع لولده غير أمه ، واسترضاعه له.
ذكر من قال ذلك :
__________
(1) في المطبوعة : " صار ذلك " ، وفي المخطوطة " حار " غير منقوطة ، والذي أثبته هو صواب قراءتها .

(5/72)


5063 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : " إذا سلمتم ما آتيتم بالمعروف " ، قال : حساب ما أرضع به الصبي.
5064 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : " إذا سلمتم ما آتيتم بالمعروف " ، حساب ما يرضع به الصبي.
5065 - حدثني موسى قال ، حدثنا عمرو قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : " إذا سلمتم ما آتيتم بالمعروف " ، إن قالت - يعني الأم - : " لا طاقة لي به ، فقد ذهب لبني " ، فتسترضع له أخرى ، وليسلم لها أجرها بقدر ما أرضعت.
5066 - حدثني المثنى قال ، حدثني سويد قال ، أخبرنا ابن المبارك ، عن ابن جريج قال : قلت - يعني لعطاء - : " وإن أردتم أن تسترضعوا أولادكم " ؟ قال : أمه وغيرها " فلا جناح عليكم إذا سلمتم " ، قال : إذا سلمت لها أجرها " ما آتيتم " ، قال : ما أعطيتم.
* * *
وقال آخرون : معنى ذلك : إذا سلمتم للاسترضاع ، عن مشورة منكم ومن أمهات أولادكم الذين تسترضعون لهم ، وتراض منكم ومنهن باسترضاعهم. (1)
ذكر من قال ذلك :
5067 - حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : " فلا جناح عليكم إذا سلمتم ما آتيتم بالمعروف " ، يقول : إذا كان ذلك عن مشورة ورضا منهم.
5068 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، أخبرني الليث قال ، حدثني عقيل ، عن ابن شهاب : لا جناح عليهما أن يسترضعا أولادهما - يعني أبوي المولود - إذا سلما ولم يتضارا.
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة : " ومنهم " ، والصواب ما أثبت .

(5/73)


5069 - حدثت عن عمار قال ، حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : " إذا سلمتم ما آتيتم بالمعروف " ، يقول : إذا كان ذلك عن مشورة ورضا منهم.
* * *
وقال آخرون : بل معنى ذلك : إذا سلمتم ما آتيتم بالمعروف إلى التي استرضعتموها بعد إباء أم المرضع ، من الأجرة ، بالمعروف.
ذكر من قال ذلك :
5070 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا مهران وحدثني علي قال ، حدثنا زيد جميعا ، عن سفيان في قوله : " إذا سلمتم ما آتيتم بالمعروف " ، قال : إذا سلمتم إلى هذه التي تستأجرون أجرها بالمعروف - يعني : إلى من استرضع للمولود ، إذا أبت الأم رضاعه.
* * *
قال أبو جعفر : وأولى الأقوال بالصواب في تأويل ذلك ، قول من قال : " تأويله : وإن أردتم أن تسترضعوا أولادكم إلى تمام رضاعهن ، ولم تتفقوا أنتم ووالدتهم على فصالهم ، (1) ولم تروا ذلك من صلاحهم ، فلا جناح عليكم أن تسترضعوهم ظؤورة ، إن امتنعت أمهاتهم من رضاعهم لعلة بهن أو لغير علة (2) إذا سلمتم إلى أمهاتهم وإلى المسترضعة الآخرة حقوقهن التي آتيتموهن بالمعروف.
يعني بذلك المعنى : الذي أوجبه الله لهن عليكم ، وهو أن يوفيهن أجورهن على ما فارقهن عليه ، في حال الاسترضاع ، ، ووقت عقد الإجارة.
وهذا هو المعنى الذي قاله ابن جريج ، ووافقه على بعضه مجاهد والسدي ومن قال بقولهم في ذلك.
__________
(1) في المطبوعة : " أنتم ووالدتهم " ، وهو خطأ .
(2) الظؤورة جمع ظئر (بكسر فسكون) : وهي المرضعة غير ولدها . والظؤورة مثل البعولة ، جمع " بعل " ، أو هما اسم جمع ، كما يقول سيبويه .

(5/74)


وإنما قضينا لهذا التأويل أنه أولى بتأويل الآية من غيره ، لأن الله تعالى ذكره ذكر قبل قوله : " وإن أردتم أن تسترضعوا أولادكم " ، أمر فصالهم ، وبين الحكم في فطامهم قبل تمام الحولين الكاملين فقال : " فإن أرادا فصالا عن تراض منهما " ، في الحولين الكاملين " فلا جناح عليهما " . فالذي هو أولى بحكم الآية - إذ كان قد بين فيها وجه الفصال قبل الحولين - أن يكون الذي يتلو ذلك حكم ترك الفصال وإتمام الرضاع إلى غاية نهايته وأن يكون - إذ كان قد بين حكم الأم إذا هي اختارت الرضاع بما يرضع به غيرها من الأجرة - أن يكون الذي يتلو ذلك من الحكم ، بيان حكمها وحكم الولد إذا هي امتنعت من رضاعه ، كما كان ذلك كذلك في غير هذا الموضع من كتاب الله تعالى ، وذلك في قوله : ( فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى ) [سورة الطلاق : 6]. فأتبع ذكر بيان رضا الوالدات برضاع أولادهن ، ذكر بيان امتناعهن من رضاعهن ، فكذلك ذلك في قوله : " وإن أردتم أن تسترضعوا أولادكم " .
وإنما اخترنا في قوله : " إذا سلمتم ما آتيتم بالمعروف " - ما اخترنا من التأويل ، لأن الله تعالى ذكره فرض على أبي المولود تسليم حق والدته إليها مما آتاها من الأجرة على رضاعها له بعد بينونتها منه ، كما فرض عليه ذلك لمن استأجره لذلك ممن ليس من مولده بسبيل ، وأمره بإيتاء كل واحدة منهما حقها بالمعروف على رضاع ولده. فلم يكن قوله : " إذا سلمتم " بأن يكون معنيا به : إذا سلمتم إلى أمهات أولادكم الذين يرضعون حقوقهن ، بأولى منه بأن يكون معنيا به : إذا سلمتم ذلك إلى المراضع سواهن ولا الغرائب من المولود ، بأولى أن يكن معنيات بذلك من الأمهات (1) إذ كان الله تعالى ذكره قد أوجب على أبي المولود لكل من
__________
(1) هذه الجملة بين الخطين ، معطوفة على الجملة الأولى ، فيكون سياق معناها : ولم يكن الغرائب من المولود بأولى أن يكن معنيات بذلك من الأمهات .

(5/75)


استأجره لرضاع ولده ، من تسليم أجرتها إليها مثل الذي أوجب عليه من ذلك للأخرى. فلم يكن لنا أن نحيل ظاهر تنزيل إلى باطن ، (1) ولا نقل عام إلى خاص ، إلا بحجة يجب التسليم لها - فصح بذلك ما قلنا.
* * *
قال أبو جعفر : وأما معنى قوله : " بالمعروف " ، فإن معناه : بالإجمال والإحسان ، وترك البخس والظلم فيما وجب للمراضع. (2)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (233) }
قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بقوله : " واتقوا الله " ، وخافوا الله فيما فرض لبعضكم على بعض من الحقوق ، وفيما ألزم نساءكم لرجالكم ورجالكم لنسائكم ، وفيما أوجب عليكم لأولادكم ، فاحذروه أن تخالفوه فتعتدوا - في ذلك وفي غيره من فرائضه وحقوقه - حدوده ، (3) فتستوجبوا بذلك عقوبته " واعلموا أن الله بما تعملون " من الأعمال ، أيها الناس ، سرها وعلانيتها ، وخفيها وظاهرها ، وخيرها وشرها " بصير " ، يراه ويعلمه ، فلا يخفى عليه شيء ، ولا يتغيب عنه منه شيء ، (4) فهو يحصي ذلك كله عليكم ، حتى يجازيكم بخير ذلك وشره.
* * *
ومعنى " بصير " ، ذو إبصار ، وهو في معنى " مبصر " . (5)
* * *
__________
(1) سلف مرارا ذكر " الظاهر " و " الباطن " فاطلبه في فهرس المصطلحات .
(2) انظر ما سلف في بيان " المعروف " 3 : 371 / ثم في الجزء 4 : 549 / 5 : 7 ، 44 وبيانه عن معنى " المعروف " هنا أوضح وأشمل .
(3) في المطبوعة : " وحدوده " بزيادة واو مفسدة للكلام ، فمعنى الكلام : فتعتدوا في ذلك حدوده .
(4) في المطبوعة : " لا يغيب " ، وأثبت ما في المخطوطة ، وهما سواء .
(5) انظر ما سلف في تأويل " بصير " 2 : 140 ، 376 ، 506 ، وغيرها من المواضع في فهرس اللغة ، وفهرس مباحث العربية .

(5/76)


وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (234)

القول في تأويل قوله تعالى : { وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا }
قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بذلك : والذين يتوفون منكم ، من الرجال ، أيها الناس ، فيموتون ، ويذرون أزواجا ، يتربص أزواجهن بأنفسهن. (1)
* * *
فإن قال قائل : فأين الخبر عن " الذين يتوفون " ؟
قيل : متروك ، لأنه لم يقصد قصد الخبر عنهم ، وإنما قصد قصد الخبر عن الواجب على المعتدات من العدة في وفاة أزواجهن ، فصرف الخبر عن الذين ابتدأ بذكرهم من الأموات ، إلى الخبر عن أزواجهم والواجب عليهن من العدة ، إذ كان معروفا مفهوما معنى ما أريد بالكلام. وهو نظير قول القائل في الكلام : (2) " بعض جبتك متخرقة " ، (3) في ترك الخبر عما ابتدئ به الكلام ، إلى الخبر عن بعض أسبابه. وكذلك الأزواج اللواتي عليهن التربص ، لما كان إنما ألزمهن التربص بأسباب أزواجهن ، صرف الكلام عن خبر من ابتدئ بذكره ، إلى الخبر عمن قصد قصد الخبر عنه ، كما قال الشاعر : (4)
لعلي إن مالت بي الرٌيح ميلة... على ابن أبي ذبان أن يتندما (5)
__________
(1) في المخطوطة والمطبوعة : " يتربصن " ، وهو في المخطوطة غير منقوط ، والذي أثبته هو الصواب .
(2) في المخطوطة والمطبوعة : " هو نظير " بإسقاط الواو ، والواجب إثباتها .
(3) يعني أن حق الكلام كان أن يقول : " بعض جبنك متخرق " ، بالتذكير خبرا عن " بعض " ، فصرفه إلى " جبتك " .
(4) هو ثابت قطنة العتكي ، واسمه " ثابت بن كعب " . . ذهبت عينه في الحرب ، فكان يحشوها بقطنة ، وهو شاعر فارسي من شعراء خراسان في عهد الدولة الأموية ، قال فيه حاجب الفيل : لا يعرف الناس منه غير قطنته ... وما سواها من الأنساب مجهول
(5) تاريخ الطبري 8 : 160 ، ومعاني القرآن للفراء 1 : 150 ، والصاحبي : 185 ، وهو من قصيدة له يرثى بها يزيد بن المهلب ، لما قتل في سنة 102 في خروجه على يزيد بن عبد الملك بن مروان ، وهو " ابن أبي ذبان " . و " أبو ذبان " كنية أبيه عبد الملك بن مروان ، لأنهم زعموا أنه كان أبخر ، فإذا دنت الذبان من فيه ، ماتت لشدة بخره . ورواية الطبري في التاريخ : " فعلى " ، ويقول قبله : أرقت ولم تأرق معي أم خالد ... وقد أرقت عيناي حولا مجرما
على هالك هد العشيرة فقده ، ... دعته المنايا فاستجاب وسلما
على ملك ، يا صاح ، بالعقر جبنت ... كتائبه ، واستورد الموت معلما
أصيب ولم أشهد ، ولو كنت شاهدا ... تسليت أن لم يجمع الحي مأتما
وفي غير الأيام يا هند ، فاعلمي ، ... لطالب وتر نظرة إن تلوما
فعلي ، إن مالت . . . . . . . . . . . . ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وكان في المطبوعة والمخطوطة : " ابن أبي زبان " وهو خطأ كما ترى .

(5/77)


فقال " لعلي " ، ثم قال : " أن يتندما " ، لأن معنى الكلام : لعل ابن أبي ذبان أن يتندم ، (1) إن مالت بي الريح ميلة عليه فرجع بالخبر إلى الذي أراد به ، وإن كان قد ابتدأ بذكر غيره. ومنه قول الشاعر :
ألم تعلموا أن ابن قيس وقتله... بغير دم ، دار المذلة حلت (2)
فألغى " ابن قيس " وقد ابتدأ بذكره ، وأخبر عن قتله أنه ذل. (3)
* * *
وقد زعم بعض أهل العربية أن خبر " الذين يتوفون " متروك ، وأن معنى الكلام : والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا ، ينبغي لهن أن يتربصن بعد موتهم. وزعم أنه لم يذكر " موتهم " ، كما يحذف بعض الكلام - وأن " يتربصن " رفع ، إذ وقع موقع " ينبغي " ، و " ينبغي " رفع. وقد دللنا على فساد قول من قال في رفع " يتربصن "
__________
(1) في والمخطوطة والمطبوعة : " ابن أبي زبان " وهو خطأ .
(2) لم أعرف قائله ، والبيت في معاني القرآن للفراء 1 : 150 ، والصاحبي : 185 ، وروايتهما بني أسد إن ابن قيس وقتله
(3) هذا الذي سلف أكثره نص الفراء في معاني القرآن 1 : 150 - 151 ، وفي معاني القرآن " فألقى ابن قيس " ، والصواب ما في الطبري .

(5/78)


بوقوعه موقع " ينبغي " فيما مضى ، فأغنى عن إعادته. (1)
* * *
وقال آخر منهم : (2) إنما لم يذكر " الذين " بشيء ، لأنه صار الذين في خبرهم مثل تأويل الجزاء : " من يلقك منا تصب خيرا " الذي يلقاك منا تصيب خيرا. (3) قال : ولا يجوز هذا إلا على معنى الجزاء.
* * *
قال أبو جعفر : وفي البيتين اللذين ذكرناهما الدلالة الواضحة على القول في ذلك بخلاف ما قالا. (4)
* * *
قال أبوجعفر : وأما قوله : " يتربصن بأنفسهن " ، فإنه يعني به : يحتبسن بأنفسهن (5) معتدات عن الأزواج ، والطيب ، والزينة ، والنقلة عن المسكن الذي كن يسكنه في حياة أزواجهن - أربعة أشهر وعشرا ، إلا أن يكن حوامل ، فيكون عليهن من التربص كذلك إلى حين وضع حملهن. فإذا وضعن حملهن ، انقضت عددهن حينئذ.
* * *
وقد اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك :
فقال بعضهم مثل ما قلنا فيه :
5071 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو صالح قال ، حدثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس : " والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا " ، فهذه عدة المتوفى عنها زوجها ، إلا أن تكون حاملا فعدتها أن تضع ما في بطنها.
__________
(1) انظر ما سلف في الجزء 5 : 47 ، 48 .
(2) في المطبوعة : " وقال آخرون منهم " ، والصواب ما في المخطوطة .
(3) في المطبوعة : " من يلقك منا يصيب خيرا " ، ثم " يصيب خيرا " ، والصواب ما أثبته " تصب " في الجملة الأولى مجزومة ، وبالتاء في أوله ، ثم " تصيب " بالتاء في الثانية .
(4) في المطبوعة : " الدلالة الواضحة " وأثبت ما في المخطوطة .
(5) انظر فيما سلف تفسير " التربص " 4 : 456 ، 515 .

(5/79)


5072 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثني الليث قال ، حدثني عقيل ، عن ابن شهاب في قول الله : (1) " والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا " ، قال ابن شهاب : جعل الله هذه العدة للمتوفى عنها زوجها ، فإن كانت حاملا فيحلها من عدتها أن تضع حملها ، وإن استأخر فوق الأربعة الأشهر والعشرة فما استأخر ، لا يحلها إلا أن تضع حملها.
* * *
قال أبو جعفر : وإنما قلنا : عنى ب " التربص " ما وصفنا ، لتظاهر الأخبار عن رسول الله صلي الله عليه وسلم بما : -
5073 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا وكيع وأبو أسامة ، عن شعبة وحدثنا ابن المثنى قال ، حدثنا محمد بن جعفر ، عن شعبة ، عن حميد بن نافع قال : سمعت زينب ابنة أم سلمة تحدث قال أبو كريب : قال أبو أسامة : عن أم سلمة أن امرأة توفى عنها زوجها واشتكت عينها ، فأتت النبي صلي الله عليه وسلم تستفتيه في الكحل ، فقال : لقد كانت إحداكن تكون في الجاهلية في شر أحلاسها ، (2) فتمكث في بيتها حولا إذا توفي عنها زوجها ، فيمر عليها الكلب فترميه بالبعرة! أفلا أربعة أشهر وعشرا " ! (3)
__________
(1) في المخطوطة والمطبوعة : " عن قول الله " ، والصواب ما أثبته .
(2) الأحلاس جمع حلس : وهو كساء رقيق يكون تحت البرذعة ، وكل ما يبسط تحت حر المتاع ليقيه فهو حلس . وعنى به هنا : المرذول من ثيابها .
(3) الحديث 5073 - " حميد بن نافع الأنصاري المدني " : تابعي ثقة . روى عن أبي أيوب ، وعبد الله بن عمر ، وروى عن زينب بنت أم سلمة . وهو والد " أفلح بن حميد " . ويقال له " حميد صفيراء " . ففرق البخاري في الكبير 1 / 2 / 345 بين " حميد صفيراء ، والد أفلح " ، الراوي عن أبي أيوب وابن عمر ، وبين " حميد " الراوي عن زينب ، جعلهما اثنين تبعا لشيخه علي بن المديني ، وروى هو عن شعبة أنهما واحد . وهو الصحيح الذي جزم به الإمام أحمد . فقد روى في المسند 6 : 325 - 326 (حلبي) حديث حميد بن نافع ، عن زينب بنت أم سلمة ، عن أم حبيبة أم المؤمنين ، ثم قال عقب الحديث " حميد بن نافع : أبو أفلح ، وهو حميد صفيراء " ، وهو الذي اقتصر عليه ابن سعد 5 : 224 ، وابن أبي حاتم 1 / 2 / 229 - 230 . و " صفيراء " : لقب حميد . وهكذا رسم على الصواب في المسند ، والتهذيب في ترجمة " أفلح " ، والبخاري في ترجمة " حميد " . ورسم في التهذيب في ترجمة " حميد " : " صفير " ، وهو تصحيف . ووقع في التهذيب أيضًا في ترجمة " حميد " أنه يروي عن " عبد الله بن عمرو " - وهو خطأ ، صوابه - كما قلنا - " عبد الله بن عمر " . والحديث سيأتي : 5079 ، بإسناد آخر ، من حديث أم سلمة وحدها . وسيأتي بأسانيد أخر ، في بعضها : " عن أم سلمة وأم حبيبة " وفي سائرها : " عن أم سلمة أو أم حبيبة " 5076 - 5078 ، 5080 . وسنذكرها في مواضعها ، إن شاء الله . أما من الوجه الذي هنا - رواية شعبة عن حميد - : فرواه الطيالسي : 1596 ، عن شعبة ، بهذا الإسناد ، نحوه . وكذلك رواه أحمد في المسند 6 : 291 - 292 (حلبي) ، عن يحيى بن سعيد - وهو القطان - ثم رواه 6 : 311 ، عن محمد بن جعفر ، وعن حجاج - وهو ابن محمد المصيصي - ثلاثتهم عن شعبة ، به ، نحوه . ورواه البخاري 9 : 432 ، و 10 : 131 ، مطولا ومختصرا ، من طريقين عن شعبة . وكذلك رواه مسلم 1 : 434 ، من طريق محمد بن جعفر ، عن شعبة . وكذلك رواه ابن الجارود في المنتقى ، ص : 353 - 354 ، من طريق يحيى وهو القطان ، عن شعبة . وكذلك رواه البيهقي في السنن الكبرى 7 : 439 ، من طريق الطيالسي ويحيى بن أبي بكير - كلاهما عن شعبة . ورواه مالك في الموطأ ، ص : 596 - 598 ، عن عبد الله بن أبي بكر بن حزم ، عن حميد بن نافع ، عن زينب بنت أم سلمة ، عن أمها - ثالث احاديث ثلاثة حدثت زينب بها حميد بن نافع - بمعناه ومن طريق مالك هذه ، رواه الأئمة : فرواه عبد الرزاق في المصنف 4 : 66 - 67 (مخطوط مصور) والبخاري 9 : 427 - 428 ، ومسلم 1 : 433 - 434 ، وأبو داود : 2299 ، والترمذي 2 : 220 ، والنسائي 2 : 114 ، وابن حبان في صحيحه (2 : 91 - 92 مخطوطة التقاسيم ، و 6 : 457 - 458 مخطوطة الإحسان) . وهو في المنتقى للمجد بن تيمية ، برقم : 3811 .

(5/80)


5074 - حدثنا محمد بن بشار قال ، حدثنا عبد الوهاب قال ، سمعت يحيى بن سعيد قال ، سمعت نافعا ، عن صفية ابنة أبي عبيد : أنها سمعت حفصة ابنة عمر زوج النبي صلي الله عليه وسلم تحدث ، عن النبي صلي الله عليه وسلم قال : لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد فوق ثلاث ، إلا على زوج ، فإنها تحد عليه أربعة أشهر وعشرا " قال يحيى : والإحداد عندنا أن لا تطيب ولا تلبس ثوبا مصبوغا بورس ولا زعفران ، (1) ولا تكتحل ، ولا تزين. (2)
__________
(1) الورس : نبت أصفر ، يتخذ منه صبغ أصفر تصبغ به الثياب ، ومنه ما يكون للزينة ، كالزعفران .
(2) الحديثان : 5074 ، 5075 - هما حديث واحد ، مطول ومختصر ، بإسنادين . عبد الوهاب في الإسناد الأول : هو ابن عبد المجيد الثقفي . ويزيد - في الإسناد الثاني : هو ابن هرون . يحيى بن سعيد - في الإسنادين : هو الأنصاري . ونافع : هو مولى ابن عمر . صفية بنت أبي عبيد بن مسعود ، الثقفية : وهي تابعية ثقة ، من فضليات النساء ، وذكرها بعضهم في الصحابة ، ولا يصح ، وهي زوج عبد الله بن عمر . وهي أخت المختار بن أبي عبيد الثقفي الكذاب . وشتان بين الأخوين . ووقع في ترجمتها في التهذيب 12 : 430 أنه يروي عنها " نافع مولى ابن عباس " . وهو سهو أو خطأ ناسخ . بل الذي يروي عنها هو " نافع مولى ابن عمر " . ولها ترجمة في ابن سعد 8 : 346 - 347 ، والإصابة 8 : 131 . والحديث رواه مسلم 1 : 435 ، من طريق عبد الوهاب ، عن يحيى . وهو الطريق الأول هنا . ولم يذكر لفظه كله . وكذلك رواه البيهقي 7 : 438 ، من طريق عبد الوهاب ، وذكر لفظه . ورواه أحمد في المسند 6 : 286 ، عن يزيد بن هارون ، وهو الطريق الثاني هنا .

(5/81)


5075 - حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا يزيد قال ، أخبرنا يحيى ، عن نافع ، عن صفية ابنة أبي عبيد ، عن حفصة ابنة عمر : أن النبي صلي الله عليه وسلم قال : لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاث ، إلا على زوج.
5076 - حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا عبد الوهاب قال ، سمعت يحيى بن سعيد يقول ، أخبرني حميد بن نافع : أن زينب ابنة أم سلمة أخبرته ، عن أم سلمة - أو أم حبيبة - زوج النبي صلي الله عليه وسلم : أن امرأة أتت النبي صلي الله عليه وسلم ، فذكرت أن ابنتها توفي عنها زوجها ، وأنها قد خافت على عينها فزعم حميد عن زينب : أن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال : قد كانت إحداكن ترمي بالبعرة على رأس الحول ، وإنما هي أربعة أشهر وعشر. (1) .
__________
(1) الحديث : 5076 - هو الحديث الماضي : 5073 ، إلا أنه هنا " عن أم سلمة أو أم حبيبة " ، على الشك . وكذلك في الإسناد بعده : 5077 ، وسيأتي في الإسناد : 5080 ، أنه " عن أم سلمة وأم حبيبة " معا ، دون شك فيه .
أما روايته بالشك ، بحرف " أو " - فلم أجدها قط . وأخشى أن يكون تحريفا من الناسخين . نعم روى الدارمي 2 : 167 ، قصة أخرى لأم حبيبة ، في آخرها حديث " لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد فوق ثلاثة . . . " إلخ - رواه عن هاشم بن القاسم ، عن شعبة ، عن حميد بن نافع ، عن زينب بنت أبي سلمة ، عن أم حبيبة . ثم رواه عقبه ، بالإسناد نفسه إلى زينب " تحدث عن أمها ، أو امرأة من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ، نحوه " . ولكنه حديث آخر غير هذا الحديث ، ولعل زينب شكت أيضًا في الرواية التي هنا ، كما شكت في الرواية التي عند الدارمي .
وكذلك رواه مسلم 1 : 434 ، عن ابن المثنى ، عن ابن جعفر ، عن شعبة ، - في قصة أم حبيبة فقط ، ثم قال حميد : " وحدثتنيه زينب عن أمها ، وعن زينب زوج النبي صلى الله عليه وسلم ، أو عن امرأة عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم " .
ثم روي عن عبيد الله بن معاذ ، عن أبيه ، عن شعبة : " عن حميد بن نافع بالحديثين جميعا ، حديث أم سلمة في الكحل ، وحديث أم سلمة وأخرى من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم . غير أنه لم تسمها زينب - نحو حديث محمد بن جعفر " . وأيا ما كان ، فإن هذا الشك لا يؤثر في صحة الحديث . والروايات الثابتة تدل على أنها روته عن أمها وأم حبيبة ، كما سيأتي .

(5/82)


5077 - حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا يزيد بن هارون قال ، أخبرنا يحيى بن سعيد ، عن حميد بن نافع : أنه سمع زينب ابنة أم سلمة ، تحدث عن أم حبيبة أو أم سلمة أنها ذكرت : أن امرأة أتت النبي صلي الله عليه وسلم قد توفي عنها زوجها ، وقد اشتكت عينها ، وهي تريد أن تكحل عينها ، فقال رسول الله صلي الله عليه وسلم : قد كانت إحداكن ترمي بالبعرة بعد الحول ، وإنما هي أربعة أشهر وعشر قال ابن بشار ، قال يزيد ، قال يحيى : فسألت حميدا عن رميها بالبعرة ، قال : كانت المرأة في الجاهلية إذا توفي عنها زوجها ، عمدت إلى شر بيتها فقعدت فيه حولا فإذا مرت بها سنة ألقت بعرة وراءها. (1)
5078 - حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا شعبة ، عن يحيى ، عن حميد بن نافع بهذا الإسناد مثله (2)
__________
(1) الحديث : 5077 - هو الحديث السابق أيضًا ، بإسناد آخر . ووقع في المطبوعة هنا " أو أم سلمة " على الشك ، كالرواية السابقة . ولكني أوقن - هنا - أنه خطأ من ابن بشار ، شيخ الطبري .
فالحديث رواه مسلم 1 : 434 ، عن أبي بكر بن أبي شيبة ، وعمرو الناقد - كلاهما عن يزيد بن هارون . بهذا الإسناد . وفيه : " أنه سمع زينب بنت أبي سلمة تحدث عن أم سلمة وأم حبيبة ، تذكران : أن امرأة . . . " - إلخ . فهذا صريح في الرواية عنهما معا ، لا رواية عن إحداهما . وكذلك رواه ابن ماجه : 2084 ، عن أبي بكر بن أبي شيبة ، عن يزيد بن هارون ، نحو رواية مسلم . ويؤيده : أن النسائي رواه 2 : 115 ، من طريق حماد ، عن يحيى الأنصاري ، عن حميد ، عن زينب : " أن امرأة سألت أم سلمة وأم حبيبة . . . فقالتا : أتت امرأة إلى النبي صلى الله عليه وسلم . . "
(2) الحديث : 5078 - هو تكرار للحديث قبله ، لم يذكر لفظه ، وهو من رواية يزيد بن هارون ، عن شعبة ، عن يحيى الأنصاري ، عن حميد .
وأنا أخشى أن يكون في الإسناد تحريف من الناسخين ، وأن يكون صوابه : " حدثنا شعبة ، ويحيى " . لأن الإسناد قبله ، هو من رواية يزيد بن هارون عن يحيى مباشرة . فقد تكون الفائدة في تكرار هذا الإسناد : أن يكون ابن بشار سمعه من يزيد مرتين : مرة عن يحيى وحده ، ومرة عن يحيى وشعبة . وإذا كان ما ثبت في المطبوعة صحيحا ، كان ابن بشار سمعه هكذا ، ويكون من المزيد في متصل الأسانيد .

(5/83)


5079 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا ابن إدريس قال ، حدثنا ابن عيينة ، عن أيوب بن موسى ويحيى بن سعيد ، عن حميد بن نافع ، عن زينب ابنة أم سلمة ، عن أم سلمة : أن امرأة أتت النبي صلي الله عليه وسلم فقالت : إن ابنتي مات زوجها فاشتكت عينها ، أفتكتحل ؟ (1) فقال ، قد كانت إحداكن ترمي بالبعرة على رأس الحول ، وإنما هي الآن أربعة أشهر وعشر! قال ، قلت : وما " ترمي بالبعرة على رأس الحول " ؟ قال : كان نساء الجاهلية إذا مات زوج إحداهن ، لبست أطمار ثيابها ، (2) وجلست في أخس بيوتها ، فإذا حال عليها الحول أخذت بعرة فدحرجتها على ظهر حمار وقالت : قد حللت! (3)
5080 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا أحمد بن يونس قال ، حدثنا زهير بن معاوية قال ، حدثنا يحيى بن سعيد ، عن حميد بن نافع ، عن زينب ابنة أم سلمة ، عن أمها أم سلمة وأم حبيبة زوجي النبي صلي الله عليه وسلم : أن امرأة من قريش جاءت إلى رسول الله صلي الله عليه وسلم فقالت : إن ابنتي توفي عنها زوجها ، وقد خفت على عينها ، وهي تريد الكحل ؟ قال : قد كانت إحداكن ترمي بالبعرة على رأس الحول! وإنما هي أربعة أشهر وعشر! قال حميد : فقلت لزينب : وما رأس الحول ؟ قالت زينب : كانت المرأة في الجاهلية إذا هلك زوجها ، عمدت إلى أشر بيت لها
__________
(1) في المخطوطة : " أفتكحل " .
(2) الأطمار جمع طمر (بكسر فسكون) : وهو الثوب الخلق ، والكساء البالي .
(3) الحديث : 5079 - أيوب بن موسى بن عمرو بن سعيد بن العاص بن سعيد بن العاص : قرشي مكي ثقة حافظ فقيه . مذكور في نسب قريس للمصعب ، ص : 183 .
وهذا الحديث تكرار للحديث : 5073 ، بأنه عن أم سلمة وحدها - كما قلنا هناك .
وقد رواه النسائي 2 : 115 - من طريق الليث بن سعد ، عن أيوب بن موسى . ثم من طريق سفيان ابن عيينة ، عن يحيى الأنصاري ، به ، نحوه ، مطولا ، ومختصرا .

(5/84)


فجلست فيه ، (1) حتى إذا مرت بها سنة خرجت ، ثم رمت ببعرة وراءها. (2)
5081 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا ابن المبارك ، عن معمر ، عن الزهري ، عن عروة عن عائشة : أنها كانت تفتي المتوفى عنها زوجها ، أن تحد على زوجها حتى تنقضي عدتها ، ولا تلبس ثوبا مصبوغا ولا معصفرا ، ولا تكتحل بالإثمد ، ولا بكحل فيه طيب وإن وجعت عينها ، ولكن تكتحل بالصبر وما بدا لها من الأكحال سوى الإثمد مما ليس فيه طيب ، ولا تلبس حليا ، وتلبس البياض ولا تلبس السواد. (3)
5082 - حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا مؤمل قال ، حدثنا سفيان ، عن موسى بن عقبة ، عن نافع ، عن ابن عمر في المتوفى عنها زوجها : لا تكتحل ، ولا تطيب ، ولا تبيت عن بيتها ، ولا تلبس ثوبا مصبوغا ، إلا ثوب عصب تجلبب به. (4)
__________
(1) قوله : " أشر " على وزن " أفعل " ، هكذا جاء هنا . وقال أهل اللغة : إنه لغة قليلة أو رديئة . وقد جاء في كثير من أمثالهم وكلامهم " أشر " و " شرى " ، كأفضل وفضلى . ومنه قول امرأة من العرب : " أعيذك بالله من نفس حرى ، وعين شرى " أي خبيثة ، وفي المثل : " شراهن مراهن " . وفي خبر العبادي قيل له : " أي حماريك أشر ؟ " قال : " هذا ثم هذا " .
(2) الحديث : 5080 - أحمد بن يونس : هو أحمد بن عبد الله بن يونس ، مضى في : 2144 . وهذا الحديث تكرار - في المعنى - للحديث : 5073 ، وللأحاديث : 5076 - 5079 . وقد رواه هنا أحمد بن يونس عن زهير بن معاوية عن يحيى الأنصاري ، وذكر فيه أنه " عن أم سلمة وأم حبيبة " معا .
ولكن رواه النسائي 2 : 115 - بنحوه - من طريق ابن أعين ، وهو الحسن بن محمد بن أعين ، عن زهير بن معاوية ، بهذا الإسناد ، من حديث " أم سلمة " ، ولم يذكر فيه أم حبيبة .
(3) الخبر : 5081 - هذا أثر من فتوى عائشة وكلامها . ولكن تدل على صحة فتواها الأحاديث الصحاح . وهذا إسناده إليها صحيح . ولم أجده في شيء من المراجع غير هذا الموضع .
المعصفر : هو الثوب المصبوغ بالعصفر . والإثمد : هو الكحل ، أو حجر يتخذ منه الكحل ، وهو أسود إلى الحمرة . والصبر (بفتح الصاد وكسر الباء) : عصارة شجر ، وهو مر ، يتخذ منه الدواء .
(4) قوله : " تبيت عن بيتها " أي تبيت بعيدة عن بيتها وتنتقل إلى غيره . والعصب : برود من اليمن ، يعصب غزلها - أي يجمع ويشد - ثم يصبغ وينسج ، فيأتي موشيا ، لبقاء ما عصب منه أبيض لم يأخذه صبغ . تجلببت المرأة : لبست جلبابها ، وهو ملاءتها التي تشتمل بها .

(5/85)


5083 - حدثنا حميد بن مسعدة قال ، حدثنا سفيان قال ، حدثنا ابن جريج ، عن عطاء قال : بلغني عن ابن عباس قال : تنهى المتوفى عنها زوجها أن تزين وتطيب.
5084 - حدثنا نصر بن علي قال ، حدثنا عبد الأعلى قال ، حدثنا عبيد الله ، عن نافع ، عن ابن عمر قال : إن المتوفى عنها زوجها لا تلبس ثوبا مصبوغا ، ولا تمس طيبا ، ولا تكتحل ، ولا تمتشط وكان لا يرى بأسا أن تلبس البرد.
* * *
وقال آخرون : إنما أمرت المتوفى عنها زوجها أن تربص بنفسها عن الأزواج خاصة ، فأما عن الطيب والزينة والمبيت عن المنزل ، فلم تنه عن ذلك ، ولم تؤمر بالتربص بنفسها عنه.
* ذكر من قال ذلك :
5085 - حدثنا يعقوب بن إبراهيم قال ، حدثنا ابن علية ، عن يونس ، عن الحسن : أنه كان يرخص في التزين والتصنع ، ولا يرى الإحداد شيئا. (1)
5086 - حدثنا حميد بن مسعدة قال ، حدثنا سفيان ، عن ابن جريج ، عن عطاء ، عن ابن عباس : " والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا " ، لم يقل تعتد في بيتها ، تعتد حيث شاءت.
5087 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا إسماعيل قال ، حدثنا ابن جريج ، عن عطاء قال ، قال ابن عباس : إنما قال الله : " والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا " ، ولم يقل تعتد في بيتها ، فلتعتد حيث شاءت.
* * *
واعتل قائلو هذه المقالة بأن الله تعالى ذكره ، إنما أمر المتوفى عنها بالتربص عن النكاح ، وجعلوا حكم الآية على الخصوص وبما : -
__________
(1) تصنعت المرأة تصنعا : تزينت وتجملت وعالجت وجهها وغيره حتى يحسن .

(5/86)


5088 - حدثني به محمد بن إبراهيم السلمي قال ، حدثنا أبو عاصم ، وحدثني محمد بن معمر البحراني قال ، حدثنا أبو عامر قالا جميعا ، حدثنا محمد بن طلحة ، عن الحكم بن عتيبة ، عن عبد الله بن شداد بن الهاد ، عن أسماء بنت عميس قالت : لما أصيب جعفر قال لي رسول الله صلي الله عليه وسلم : تسلبي ثلاثا ، ثم اصنعي ما شئت. (1)
__________
(1) الحديث : 5088 - محمد بن إبراهيم بن صدران الأزدي السلمي : ثقة ، وثقه أبو داود وغيره . وقد ينسب إلى جده ، ولذلك ترجمه ابن أبي حاتم 3 / 2 / 190 في اسم " محمد بن صدران " . " السلمي " : هكذا ثبت هنا ، وكذلك في التقريب ، وضبطه بفتح السين ، وكذلك ثبت في نسخة بهامش التهذيب ، وفي التهذيب والخلاصة " السليمي " ، ونص صاحب الخلاصة على أنه بإثبات الياء . ولكني لا أطمئن إلى ضبطه .
وشيخه أبو عاصم : هو النبيل ، الضحاك بن مخلد .
وأبو عامر - في الإسناد الثاني : هو العقدي ، عبد الملك بن عمرو .
محمد بن طلحة بن مصرف - بفتح الصاد وتشديد الراء المكسورة - اليامي : ثقة ، أخرج له الشيخان . وبعضهم تكلم فيه بما لا يجرحه .
عبد الله بن شداد بن الهاد : نسب أبوه إلى جده ، فهو " شداد بن أسامة بن عمرو " ، و " عمرو " : هو الهاد . قال ابن سعد : " وإنما سمي الهادي ، لأنه كان توقد ناره ليلا للأضياف ، ولمن سلك الطريق " . وعبد الله بن شداد : من كبار التابعين القدماء الثقات ، ولد في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، حتى ذكره بعضهم في الصحابة . وله ترجمتان في ابن سعد 5 : 43 - 44 ، و 6 : 86 - 87 ، وفي الإصابة 5 : 60 - 61 ، 145 . وأمه " سلمى بنت عميس " ، أخت أسماء بنت عميس ، فهو يروي هذا الحديث عن خالته .
وأسماء بنت عميس : صحابية جليلة . وهي أخت ميمونة بنت الحارث - أم المؤمنين - لأمها . تزوجت أسماء جعفر بن أبي طالب ، فقتل عنها ، ثم تزوجت أبا بكر الصديق ، ثم علي بن أبي طالب . وولدت لهم جميعا . وهي أم محمد بن أبي بكر الصديق .
والحديث رواه ابن سعد في الطبقات 8 : 206 ، في ترجمة أسماء - رواه عن عفان بن مسلم ، وإسحاق بن منصور ، كلاهما عن محمد بن طلحة . ووقع فيه " تسلمى " بالميم بدل الباء . وأنا أرجح أنه خطأ من الناسخين لا من الرواة ، وسيأتي أن هذا الخطأ وقع لابن حبان ، لكن من الرواة .
ورواه أحمد في المسند ، بمعناه ، 6 : 369 ، 438 ، عن يزيد بن هارون ، عن أبي كامل ويزيد بن هارون وعفان - ثلاثتهم عن محمد بن طلحة .
ورواه الطحاوي في معاني الآثار 2 : 44 بخمسة أسانيد إلى محمد بن طلحة .
ورواه البيهقي 7 : 438 ، من طريق مالك بن إسماعيل ، عن محمد بن طلحة ، بهذا الإسناد . ثم قال : " لم يثبت سماع عبد الله من أسماء ، وقد قيل فيه : عن أسماء . فهو مرسل . ومحمد بن طلحة ليس بالقوى " !! وهو تعليل ضئيل متهافت . تعقبه فيه ابن التركماني في الجوهر النقي .
ورواه ابن حزم في المحلى 10 : 280 ، من وجهين آخرين ، عن عبد الله بن شداد ، مرسلا ، ورده بعلة الإرسال . ولكن ثبت وصله عن غير روايته .
وذكره المجد في المنتقى : 3819 ، 3820 ، من روايتي المسند . ولم ينسبه إلى غيره .
ولم يرو في واحد من الكتب الستة ، على اليقين من ذلك . فهو من الزوائد عليها . ولكني لم أجده في مجمع الزوائد ، بعد طول البحث ، في أقرب المظان من أبوابه وأبعدها .
وذكره الحافظ في الفتح 9 : 429 ، ووصفه بأنه " قوي الإسناد " . وقال : " أخرجه أحمد ، وصححه ابن حبان " . ونسبه أيضًا للطحاوي . ثم قال : " قال شيخنا في شرح الترمذي : ظاهره أنه لا يجب الإحداد على المتوفى عنها بعد اليوم الثالث ، لأن أسماء بنت عميس كانت زوج جعفر بن أبي طالب بالاتفاق ، وهي والدة أولاده : عبد الله ، ومحمد ، وعون ، وغيرهم . قال : بل ظاهر النهي أن الإحداد لا يجوز " . وأجاب بأن هذا الحديث شاذ مخالف للأحاديث الصحيحة ، وقد أجمعوا على خلافه ، ثم ذهب يجمع بينه وبين الأحاديث التي يعارضها ، بآراء بعضها قد يقبل ، وبعضها فيه تكلف غير مستساغ . وأجود ما قال العلماء في ذلك - عندنا - ما ذهب إليه الطبري هنا في الفقرة الثالثة بعد الحديث : 5090 . وقريب منه ما قال المجد بن تيمية في المنتقى : " وهو متأول على المبالغة في الإحداد والجلوس للتعزية " .
وقال الحافظ ، في آخر كلامه ، في شأن رواية ابن حبان : " وأغرب ابن حبان ، فساق الحديث بلفظ : تسملي ، بالميم بدل الموحدة! وفسره بأنه أمرها بالتسليم لأمر الله !! ولا مفهوم لتقييدها بالثلاث ، بل الحكمة فيه كون القلق يكون في ابتداء الأمر أشد ، فلذلك قيدها بالثلاث! هذا معنى كلامه ، فصحف الكلمة وتكلف لتأويلها! وقد وقع في رواية البيهقي وغيره : فأمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أتسلب ثلاثا . فتبين خطؤه " .
تسلبت المرأة : لبست السلاب (بكسر السين) : وهي ثياب الحداد السود ، تلبسها في المأتم .

(5/87)


5089 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا أبو نعيم وابن الصلت ، عن محمد بن طلحة ، عن الحكم بن عتيبة ، عن عبد الله بن شداد ، عن أسماء عن النبي صلي الله عليه وسلم بمثله.
* * *
قالوا : فقد بين هذا الخبر عن النبي صلي الله عليه وسلم : أن لا إحداد على المتوفى عنها زوحها ، وأن القول في تأويل قوله : " يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا " ، إنما هو يتربصن بأنفسهن عن الأزواج دون غيره.
* * *
قال أبو جعفر : وأما الذين أوجبوا الإحداد على المتوفى عنها زوجها ، وترك النقلة عن منزلها الذي كانت تسكنه يوم توفي عنها زوجها ، فإنهم اعتلوا بظاهر

(5/88)


التنزيل ، وقالوا : أمر الله المتوفى عنها أن تربص بنفسها أربعة أشهر وعشرا ، فلم يأمرها بالتربص بشيء مسمى في التنزيل بعينه ، بل عم بذلك معاني التربص. قالوا : فالواجب عليها أن تربص بنفسها عن كل شيء ، إلا ما أطلقته لها حجة يجب التسليم لها. قالوا : فالتربص عن الطيب والزينة والنقلة ، مما هو داخل في عموم الآية ، كما التربص عن الأزواج داخل فيها. قالوا : وقد صح عن رسول الله صلي الله عليه وسلم الخبر بالذي قلنا في الزينة والطيب ، أما في النقلة فإن : -
5090 - أبا كريب حدثنا قال ، حدثنا يونس بن محمد ، عن فليح بن سليمان ، عن سعد بن إسحاق بن كعب بن عجرة ، عن عمته ، عن الفريعة ابنة مالك ، أخت أبي سعيد الخدري ، قالت : قتل زوجي وأنا في دار ، فاستأذنت رسول الله صلي الله عليه وسلم في النقلة ، فأذن لي. ثم ناداني بعد أن توليت ، فرجعت إليه ، فقال : يا فريعة ، حتى يبلغ الكتاب أجله. (1)
* * *
__________
(1) الحديث 5090 - يونس بن محمد بن مسلم ، الحافظ البغدادي المؤدب : ثقة ، أخرج له أصحاب الكتب الستة .
فليح - بالتصغير - بن سليمان بن أبي المغيرة المدني : ثقة ، أخرج له أصحاب الكتب الستة . تكلم فيه ابن معين وغيره . والراجح توثيقه . وقال الحاكم : " اتفاق الشيخين عليه يقوي أمره " . و " فليح " لقب غلب عليه ، واسمه " عبد الملك " .
سعد بن إسحاق بن كعب بن عجرة : ثقة لا يختلف فيه ، كما قال ابن عبد البر . وهو تابعي روى عن أنس بن مالك .
وتكلم فيه ابن حزم في المحلى بما لا يضره ، زعم أنه " غير مشهور الحال " ، ومرة أنه " مضطرب في اسمه ، غير مشهور الحال " ، ومرة أنه " غير مشهور العدالة " ! انظر المحلى 3 : 273 ، و 4 : 138 ، و 10 : 302 .
وفي المطبوعة هنا " سعيد " بدل " سعد " . وهو خطأ قديم ، وقع في الموطأ ، ص : 591 . وليس اختلاف رواية ، ولا خطأ من مالك . إنما هو من يحيى بن يحيى راوي الموطأ ، ومن رواة آخرين تبعوه . قال ابن عبد البر في التقصي ، رقم : 123 هكذا قال يحيى : سعيد بن إسحاق ، وتابعه بعضهم . وأكثر الرواة يقولون فيه : سعد بن إسحاق . وهو الأشهر ، وكذا قال شعبة وغيره " .
وعلى الصواب " سعد " - رواه الشافعي في الرسالة والأم عن مالك . وكذلك رواه عنه سويد بن سعد ، في روايته الموطأ . وكذلك رواه عنه محمد بن الحسن في الموطأ .
عمة سعد بن إسحاق : هي " زينب بنت كعب بن عجرة الأنصارية " ، وهي تابعية ثقة . بل ذكرها بعضهم في الصحابة . انظر الإصابة 8 : 97 - 98 ، وابن سعد 8 : 352 .
ووقع هنا في المطبوعة " عن عمته الفريعة " ، بحذف " عن " بعد كلمة " عمته " . وهو خطأ ناسخ أو طابع . فإن زينب عمة سعد هي زوجة أبي سعيد الخدري ، وأما الفريعة فإنها أخت أبي سعيد ، كما في نص الحديث .
و " الفريعة بنت مالك بن سنان " : صحابية قديمة معروفة ، شهدت بيعة الرضوان . رضي الله عنها . وهذا الحديث هنا مختصر . وقد جاء بأسانيد صحاح ، من رواية سعد بن إسحاق ، عن عمته ، عن الفريعة - مختصرا ومطولا . ويكفي أن نذكر مواضع روايته ، فيما وصل إلينا :
فرواه مالك في الموطأ ، مطولا ، ص : 591 ، عن " سعد بن إسحاق " . وذكر فيه خطأ باسم " سعيد " ، كما بينا من قبل .
ورواه الشافعي في الرسالة : 1214 (بتحقيقنا) ، وفي الأم 5 : 208 - 209 ، ومحمد بن الحسن في موطئه ، ص : 268 ، وسويد بن سعيد في موطئه ، ص : 123 - 124 (مخطوط مصور) - كلهم عن مالك ، عن سعد بن إسحاق .
ورواه الدارمي 2 : 168 ، وابن سعد 8 : 268 ، وأبو داود : 2300 ، والترمذي 2 : 224 - 225 ، والبيهقي 7 : 434 ، وابن حبان في صحيحه 6 : 447 - 448 (من مخطوطة الإحسان) ، وابن حزم في المحلى 10 : 301 - كلهم من طريق مالك ، به .
ورواه الطيالسي : 1664 ، وعبد الرزاق في المصنف 4 : 60 - 61 (مخطوط مصور) ، وأحمد في المسند 6 : 370 ، 420 - 421 (حلبي) ، وابن سعد 8 : 267 - 268 ، والترمذي 2 : 225 ، والنسائي 2 : 113 ، وابن ماجه : 2031 ، وابن الجارود ، ص : 349 - 350 ، وابن حبان 6 : 449 ، والحاكم 2 : 208 ، والبيهقي 7 : 434 - 435 ، بأسانيد كثيرة ، مطولا ومختصرا ، من طريق سعد بن إسحاق ، عن عمته ، عن الفريعة . وصححه الترمذي ، ومحمد بن يحيى الذهلي ، فيما حكاه عنه الحاكم ، والذهبي . وذكره السيوطي 1 : 289 - 290 نسبه إلى كثير ممن أشرنا إليهم .

(5/89)


قالوا : فبين رسول الله صلي الله عليه وسلم صحة ما قلنا في معنى تربص المتوفى عنها زوجها ، [وبطل] ما خالفه. (1) قالوا : وأما ما روي عن ابن عباس : فإنه لا معنى له ، بخروجه عن ظاهر التنزيل والثابت من الخبر عن الرسول صلي الله عليه وسلم.
قالوا : وأما الخبر الذي روي عن أسماء ابنة عميس ، عن رسول الله صلي الله عليه وسلم من أمره إياها بالتسلب ثلاثا ، ثم أن تصنع ما بدا لها - فإنه غير دال
__________
(1) الزيادة بين القوسين لا بد منها لسياق الكلام . والمطبوعة والمخطوطة سواء في نصهما هنا .

(5/90)


على أن لا حداد على المرأة ، (1) بل إنما دل على أمر النبي صلي الله عليه وسلم إياها بالتسلب ثلاثا ، ثم العمل بما بدا لها من لبس ما شاءت من الثياب مما يجوز للمعتدة لبسه ، مما لم يكن زينة ولا مطيبا ، (2) لأنه قد يكون من الثياب ما ليس بزينة ولا ثياب تسلب ، وذلك كالذي أذن صلي الله عليه وسلم للمتوفى عنها أن تلبس من ثياب العصب وبرود اليمن ، فإن ذلك لا من ثياب زينة ولا من ثياب تسلب. وكذلك كل ثوب لم يدخل عليه صبغ بعد نسجه مما يصبغه الناس لتزيينه ، فإن لها لبسه ، لأنها تلبسه غير متزينة الزينة التي يعرفها الناس.
* * *
قال أبوجعفر : فإن قال لنا قائل : وكيف قيل : " يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا " ، ولم يقل : وعشرة ؟ وإذ كان التنزيل كذلك : أفبالليالي تعتد المتوفى عنها العشر ، أم بالأيام ؟
قيل : بل تعتد بالأيام بلياليها.
فإن قال : فإذ كان ذلك كذلك ، فكيف قيل : " وعشرا " ؟ ولم يقل : وعشرة ؟ والعشر بغير " الهاء " من عدد الليالي دون الأيام ؟ فإن أجاز ذلك المعنى فيه ما قلت ، (3) فهل تجيز : " عندي عشر " ، وأنت تريد عشرة من رجال ونساء ؟
قلت : ذلك جائز في عدد الليالي والأيام ، وغير جائز مثله في عدد بني آدم من الرجال النساء. وذلك أن العرب في الأيام والليالي خاصة ، إذا أبهمت العدد ، غلبت فيه الليالي ، حتى إنهم فيما روي لنا عنهم ليقولون : " صمنا عشرا من شهر رمضان " ، لتغليبهم الليالي على الأيام. وذلك أن العدد عندهم قد جرى في ذلك بالليالي دون الأيام. فإذا أظهروا مع العدد مفسره ، (4)
أسقطوا من عدد المؤنث " الهاء " ،
__________
(1) في المطبوعة : " أن لا إحداد " ، وهما سواء . " حدت المرأة تحد حدا وحدادا " و " أحدت تحد إحدادا " . لبست الحداد (بكسر الحاء) ، وهو ثياب المأتم السود . " الحداد " اسم ومصدر .
(2) في المطبوعة : " ولا تطيبا " . والصواب ما أثبته من المخطوطة .
(3) في المطبوعة : " فإن أجاز ذلك المغني " ، والصواب ما أثبت من المخطوطة .
(4) المفسر : هو المميز . والتفسير : التمييز ، انظر ما سلف 2 : 338 تعليق : 1 / م 3 : 90 تعليق : 1

(5/91)


وأثبتوها في عدد المذكر ، كما قال تعالى ذكره : ( سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا ) [سورة الحاقة : 7] ، فأسقط " الهاء " من " سبع " وأثبتها في " الثمانية " .
وأما بنو آدم ، فإن من شأن العرب إذا اجتمعت الرجال والنساء ، ثم أبهمت عددها : أن تخرجه على عدد الذكران دون الإناث. وذلك أن الذكران من بني آدم موسوم واحدهم وجمعه بغير سمة إناثهم ، وليس كذلك سائر الأشياء غيرهم. وذلك أن الذكور من غيرهم ربما وسم بسمة الأنثى ، كما قيل للذكر والأنثى " شاة " ، وقيل للذكور والإناث من البقر : " بقر " ، وليس كذلك في بني آدم. (1)
* * *
فإن قال : فما معنى زيادة هذه العشرة الأيام على الأشهر ؟
قيل : قد قيل في ذلك ، فيما : -
5091 - حدثنا به ابن وكيع قال ، حدثنا أبي قال ، حدثنا أبو جعفر ، عن الربيع ، عن أبي العالية في قوله : " والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا " ، قال : قلت : لم صارت هذه العشر مع الأشهر الأربعة ؟ قال : لأنه ينفخ فيه الروح في العشر.
5092 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني أبو عاصم ، عن سعيد ، عن قتادة قال : سألت سعيد بن المسيب : ما بال العشر ؟ قال : فيه ينفخ الروح.
* * *
__________
(1) انظر معاني القرآن للفراء 1 : 151 - 152 ، فهذا من كلامه بغير لفظه .

(5/92)


القول في تأويل قوله تعالى : { فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ }
قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بذلك : (1) فإذا بلغن الأجل الذي أبيح لهن فيه ما كان حظر عليهن في عددهن من وفاة أزواجهن - وذلك بعد انقضاء عدهن ، ومضي الأشهر الأربعة والأيام العشرة " فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهن بالمعروف " ، يقول : فلا حرج عليكم أيها الأولياء - أولياء المرأة - فيما فعل المتوفى عنهن حينئذ في أنفسهن ، من تطيب وتزين ونقله من المسكن الذي كن يعتددن فيه ، ونكاح من يجوز لهن نكاحه " بالمعروف " ، يعني بذلك : على ما أذن الله لهن فيه وأباحه لهن. (2) .
* * *
وقد قيل : إنما عنى بذلك النكاح خاصة. وقيل إن معنى قوله : " بالمعروف " إنما هو النكاح الحلال.
* ذكر من قال ذلك :
5093 - حدثنا محمد بن بشار قال ، حدثنا مؤمل قال ، حدثنا سفيان ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : " فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهن بالمعروف " ، قال : الحلال الطيب.
5094 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا حكام ، عن عنبسة ، عن محمد بن عبد الرحمن ، عن القاسم بن أبي بزة ، عن مجاهد : " فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهن بالمعروف " ، قال : المعروف النكاح الحلال الطيب.
5095 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، قال ابن
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة : " يعني تعالى ذكره بقوله " ، والسياق يقتضي ما أثبت .
(2) انظر ما سلف في تفسير " المعروف " 5 : 76 والمراجع هناك في التعليق .

(5/93)


جريج ، قال مجاهد : قوله : " فيما فعلن في أنفسهن بالمعروف " ، قال : هو النكاح الحلال الطيب.
5096 - حدثني موسى قال ، حدثنا عمرو قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي قال : هو النكاح.
5097 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثني الليث قال ، حدثني عقيل ، عن ابن شهاب : " فيما فعلن في أنفسهن بالمعروف " ، قال : في نكاح من هويته ، إذا كان معروفا. (1)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (234) }
قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بذلك : " والله بما تعملون " ، أيها الأولياء ، في أمر من أنتم وليه من نسائكم ، من عضلهن وإنكاحهن ممن أردن نكاحه بالمعروف ، ولغير ذلك من أموركم وأمورهم ، " خبير " ، يعني ذو خبرة وعلم ، لا يخفى عليه منه شيء. (2)
* * *
__________
(1) في المطبوعة " هويته " بالجمع والنون ، وأثبت ما في المخطوطة .
(2) انظر ما سلف في معنى " خيبر " في فهارس اللغة ، ومباحث العربية . * * *
وقد انتهى هنا التقسيم القديم للنسخة التي نقلت عنها مخطوطتنا ، وفيها ما نصه :
" وصلى الله على محمد النبي وعلى آله وسلم كثيرا
على الأصل بلغت القراءة والسماع من أوله بقراءة محمد بن أحمد بن عيسى السعدي ، لأخيه علي وأحمد بن عمر الجهاري ( ؟ ؟) ونصر بن الحسين الطبري ، على القاضي أبي الحسن الخصيبي ، عن أبي محمد الفرغاني ، عن أبي جعفر الطبري ، وقابل به بكتاب القاضي الخصيبي ، فصحت ، وذلك في شعبان سنة ثمان وأربعمائة " .

(5/94)


وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَكِنْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفًا وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (235)

(1)
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ }
قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بذلك : ولا جناح عليكم ، أيها الرجال ، فيما عرضتم به من خطبة النساء ، للنساء المعتدات من وفاة أزواجهن في عددهن ، ولم تصرحوا بعقد نكاح.
والتعريض الذي أبيح في ذلك ، هو ما : -
5098 - حدثنا به ابن حميد قال ، حدثنا جرير ، عن منصور ، عن مجاهد ، عن ابن عباس قوله : " ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة النساء " ، قال : التعريض أن يقول : " إني أريد التزويج " ، و " إني لأحب امرأة من أمرها وأمرها " ، يعرض لها بالقول بالمعروف.
5099 - حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي قال ، حدثنا سفيان ، عن منصور ، عن مجاهد ، عن ابن عباس : " لا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة النساء " ، قال : " إني أريد أن أتزوج " .
5100 - حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا عبد الرحمن قال ، حدثنا شعبة ، عن منصور ، عن مجاهد : عن ابن عباس قال : التعريض ما لم ينصب للخطبة ، (2)
__________
(1) هذا نص أول التقسيم القديم :
" بسم الله الرحمن الرحيم
رب يسر " .
(2) نصب الشيء ينصب نصبا : إذا قصده وتجرد له .

(5/95)


قال مجاهد : قال رجل لامرأة في جنازة زوجها : لا تسبقيني بنفسك! قالت : قد سبقت!
5101 - حدثنا محمد بن المثنى قال ، حدثنا محمد بن جعفر قال ، حدثنا شعبة ، عن منصور ، عن مجاهد ، عن ابن عباس قال : في هذه الآية : " ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة النساء " ، قال : التعريض ، ما لم ينصب للخطبة.
5102 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا حكام ، عن عمرو ، عن منصور ، عن مجاهد ، عن ابن عباس : " فيما عرضتم به من خطبة النساء " ، قال : التعريض أن يقول للمرأة في عدتها : " إني لا أريد أن أتزوج غيرك إن شاء الله " ، و " لوددت أني وجدت امرأة صالحة " ، ولا ينصب لها ما دامت في عدتها.
5103 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس في قوله : " ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة النساء " ، يقول : يعرض لها في عدتها ، يقول لها : " إن رأيت أن لا تسبقيني بنفسك ، ولوددت أن الله قد هيأ بيني وبينك " ، ونحو هذا من الكلام ، فلا حرج.
5104 - حدثني المثنى قال ، حدثنا آدم العسقلاني قال ، حدثنا شعبة ، عن منصور ، عن مجاهد ، عن ابن عباس في قوله : " ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة النساء " ، قال : هو أن يقول لها في عدتها : " إني أريد التزويج ، ووددت أن الله رزقني امرأة " ، ونحو هذا ، ولا ينصب للخطبة.
5105 - حدثني يعقوب قال ، حدثنا ابن علية ، عن ابن عون ، عن محمد ، عن عبيدة في هذه الآية ، قال : يذكرها إلى وليها ، يقول : " لا تسبقني بها " .
5106 - حدثني يعقوب قال ، حدثنا ابن علية ، عن ليث ، عن مجاهد

(5/96)


في قوله : " ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة النساء " ، قال : يقول : " إنك لجميلة ، وإنك لنافقة ، وإنك إلى خير " .
5107 - حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا عبد الرحمن قال ، حدثنا سفيان ، عن ليث ، عن مجاهد أنه كره أن يقول : " لا تسبقيني بنفسك " .
5108 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله تعالى ذكره : " ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة النساء " ، قل : هو قول الرجل للمرأة : " إنك لجميلة ، وإنك لنافقة ، وإنك إلى خير " .
5109 - حدثني المثنى قال ، حدثنا سويد قال ، أخبرنا ابن المبارك ، عن معمر ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : " ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة النساء " ، قال : يعرض للمرأة في عدتها فيقول : والله إنك لجميلة ، وإن النساء لمن حاجتي ، وإنك إلى خير إن شاء الله " .
5110 - حدثني المثنى قال ، حدثنا آدم قال ، حدثنا شعبة ، عن سلمة بن كهيل ، عن مسلم البطين ، عن سعيد بن جبير قال : هو قول الرجل : " إني أريد أن أتزوج ، وإني إن تزوجت أحسنت إلى امرأتي " ، هذا التعريض.
5111 - حدثني المثنى قال ، حدثنا مسلم بن إبراهيم قال ، حدثنا شعبة ، عن سلمة بن كهيل ، عن مسلم البطين ، عن سعيد بن جبير في قوله : " ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة النساء " ، قال : يقول : " لأعطينك ، لأحسنن إليك ، لأفعلن بك كذا وكذا. (1)
5012 - حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا عبد الوهاب قال ، سمعت يحيى بن سعيد قال ، أخبرني عبد الرحمن بن القاسم في قوله : " فيما عرضتم به من خطبة النساء " ، قال : قول الرجل للمرأة في عدتها يعرض بالخطبة : " والله إني فيك
__________
(1) في المخطوطة والمطبوعة " لأحسن إليك " ، والصواب ما أثبت .

(5/97)


لراغب ، وإني عليك لحريص " ، ونحو هذا.
5113 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الوهاب الثقفي قال ، سمعت يحيى بن سعيد يقول : أخبرني عبد الرحمن بن القاسم : أنه سمع القاسم بن محمد يقول : " فيما عرضتم به من خطبة النساء " ، هو قول الرجل للمرأة : " إنك لجميلة ، وإنك لنافقة ، وإنك إلى خير " .
5114 - حدثني المثنى قال ، حدثنا سويد قال ، أخبرنا ابن المبارك ، عن ابن جريج قال : قلت لعطاء : كيف يقول الخاطب ؟ قال : يعرض تعريضا ، ولا يبوح بشيء. يقول : " إن إلي حاجة ، وأبشري ، وأنت بحمد الله نافقة " ، ولا يبوح بشيء. قال عطاء : وتقول هي : " قد أسمع ما تقول " ، ولا تعده شيئا ، ولا تقول : " لعل ذاك " .
5115 - حدثني المثنى قال ، حدثنا سويد بن نصر قال ، أخبرنا ابن المبارك ، عن يحيى بن سعيد قال : حدثني عبد الرحمن بن القاسم : أنه سمع القاسم يقول في المرأة يتوفى عنها زوجها ، والرجل يريد خطبتها ويريد كلامها ، ما الذي يجمل به من القول ؟ قال يقول : " إني فيك لراغب ، وإني عليك لحريص ، وإني بك لمعجب " ، وأشباه هذا من القول.
5116 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا جرير ، عن مغيرة ، عن حماد ، عن إبراهيم في قوله : " ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة النساء " ، قال : لا بأس بالهدية في تعريض النكاح.
5117 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال ، حدثنا هشيم قال ، أخبرنا مغيرة قال : كان إبراهيم لا يرى بأسا أن يهدى لها في العدة ، إذا كانت من شأنه. (1)
5118 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن إسرائيل ، عن جابر ،
__________
(1) قوله : " من شأنه " ، أي من حاجته وإرادته وقصده . يقال : شأن شأنه ، أي قصد قصده .

(5/98)


عن عامر في قوله : " ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة النساء " ، قال يقول : " إنك لنافقة ، وإنك لمعجبة ، وإنك لجميلة " (1) وإن قضى الله شيئا كان " .
5119 - حدثنا عن عمار قال ، حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه قوله : " ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة النساء " ، قال : كان إبراهيم النخعي يقول : " إنك لمعجبة ، وإني فيك لراغب " .
5120 - حدثني يونس بن عبد الأعلى قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، وأخبرني - يعني شبيبا - عن سعيد ، عن شعبة ، عن منصور ، عن الشعبي أنه قال في هذه الآية : " ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة النساء " ، قال : لا تأخذ ميثاقها ألا تنكح غيرك. (2)
5121 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد في قوله : " ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة النساء " ، قال : كان أبي يقول : كل شيء كان ، دون أن يعزما عقدة النكاح ، فهو كما قال الله تعالى ذكره : " ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة النساء " .
5122 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا مهران وحدثني علي قال حدثنا زيد جميعا ، عن سفيان قوله : " ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة النساء " ، والتعريض فيما سمعنا أن يقول الرجل وهي في عدتها : " إنك لجميلة ، إنك إلى خير ، إنك لنافقة ، إنك لتعجبيني " ، ونحو هذا ، فهذا التعريض.
5123 - حدثنا المثنى قال ، حدثنا سويد قال ، أخبرنا ابن المبارك ، عن عبد الرحمن بن سليمان ، عن خالته سكينة ابنة حنظلة بن عبد الله بن حنظلة قالت : دخل علي أبو جعفر محمد بن علي وأنا في عدتي ، فقال : يا ابنة حنظلة ،
__________
(1) في المخطوطة : " وإنك لمعجبة ، لجميلة " ، وهما سواء .
(2) في المطبوعة : " لا يأخذ ميثاقها أن لا تنكح غيره " ، وأثبت ما في المخطوطة .

(5/99)


أنا من علمت قرابتي من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وحق جدي علي ، وقدمي في الإسلام. فقلت : غفر الله لك يا أبا جعفر ، أتخطبني في عدتي ، وأنت يؤخذ عنك! فقال : أو قد فعلت! إنما أخبرك بقرابتي من رسول الله صلى الله عليه وسلم وموضعي! قد دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على أم سلمة ، وكانت عتد ابن عمها أبي سلمة ، فتوفي عنها ، فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر لها منزلته من الله وهو متحامل على يده ، حتى أثر الحصير في يده من شده تحامله على يده ، فما كانت تلك خطبة. (1)
5124 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثني الليث قال ، حدثني عقيل ، عن ابن شهاب : " ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة النساء " ، قال : لا جناح على من عرض لهن بالخطبة قبل أن يحللن ، إذا كنوا في أنفسهن من ذلك. (2)
5125 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال : أخبرني مالك ، عن عبد الرحمن بن القاسم ، عن أييه أنه كان يقول في قول الله تعالى ذكره : " ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة النساء " : أن يقول الرجل للمرأة وهي في عدة من وفاه زوجها : " إنك علي لكريمة ، وإني فيك لراغب ، وإن الله سائق إليك خيرا ورزقا " ، ونحو هذا من الكلام.
* * *
__________
(1) الأثر : 5123 - عبد الرحمن بن سليمان بن عبد الله بن حنظلة غسيل الملائكة بن أبي عامر الراهب " يعرف بابن الغسيل ، وهو جد أبيه ، حنظلة الذي غسلته الملائكة يوم أحد . وقال ابن معين : " ليس به بأس " ، كان يخطئ ويهم ، قال أحمد : صالح . مات سنة 171 . مترجم في التهذيب . و " أبو جعفر محمد بن علي " هو محمد الباقر بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب وابنه جعفر الصادق ، وكان من فقهاء المدينة ، وسيد بني هاشم في زمانه ، جمع العلم والفقه والشرف والديانة والثقة والسؤدد وكان يصلح للخلافة ، وهو أحد الاثنى عشر الذين تعتقد الرافضة عصمتهم - ولا عصمة إلا لنبي! توفى سنة 114 . مترجم في التهذيب ، وتاريخ الإسلام للذهبي 4 : 299 . ولم أجد هذا الخبر إلا في البغوي بهامش تفسير ابن كثير 1 : 567 .
(2) كن الشيء في صدره وأكنه واكتنه : أخفاه وستره .

(5/100)


قال أبو جعفر : واختلف أهل العربية في معنى " الخطبة " .
فقال بعضهم : " الخطبة " الذكر ، و " الخطبة " : التشهد. (1)
وكأن قائل هذا القول ، تأول الكلام : ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من ذكر النساء عندهن. (2) وقد زعم صاحب هذا القول أنه قال : " لا تواعدوهن سرا " ، لأنه لما قال : " ولا جناح عليكم " ، كأنه قال : اذكروهن ، ولكن لا تواعدوهن سرا.
* * *
وقال آخرون منهم : " خطبه ، خطبة وخطبا " . (3) قال : وقول الله تعالى ذكره : ( قَالَ فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّ ) [سورة طه : 95] ، يقال إنه من هذا. قال : وأما " الخطبة " فهو المخطوب [به] ، من قولهم : (4) " خطب على المنبر واختطب " .
* * *
قال أبو جعفر : " والخطبة " عندي هي " الفعلة " من قول القائل : " خطبت فلانة " ك " الجلسة " ، من قوله : " جلس " أو " القعدة " من قوله " قعد " . (5)
__________
(1) هذا قول الأخفش ، وانظر تفسير البغوي 1 : 567 .
(2) في المخطوطة والمطبوعة : " عندهم " وهو لا يستقيم ، والصواب ما أثبت ، وانظر أيضًا تفسير البغوي 1 : 567 .
(3) في المطبوعة : " وقال آخرون منهم : الخطبة أخطب خطبه وخطبا " ، وهو كلام فاسد التركيب ، فيه زيادة من ناسخ . وفي المخطوطة : " وقال آخرون منهم : " الخطبة وخطبه وخطبا " ، وهو فاسد أيضًا ، والصواب ما أثبت . فإن يكن في كلام الطبري نقص أو خرم ، فهو تفسير هذه الكلمة ، وقد أبان عنها صاحب أساس البلاغة فقال : " فلان يخطب عمل كذا : يطلبه . وقد أخطبك الصيد فارمه - أي أكثبك وأمكنك . وأخطبك الأمر ، وهو أمر مخطب : ومعناه : أطلبك - من " طلبت إليه حاجة فأطلبني " . وما خطبك : ما شأنك الذي تخطبه . ومنه : هذا خطب يسير ، وخطب جليل . وهو يقاسي خطوب الدهر " . فقد أبان ما نقلته عن الزمخشري أنه أراد أن يقول : خطب الأمر يخطبه خطبة وخطبا ، أي طلبه . ولم يستوف أبو جعفر تفسير هذه الكلمة في " سورة طه " الآية : 95 ، فأثبت تفسيره هنالك .
(4) هذه الزيادة بين القوسين لا بد منها ، يعني : الكلام المخطوب به .
(5) يعني أنه مصدر ، وانظر ما سلف في وزن " فعلة " في فهارس مباحث العربية في الأجزاء السالفة ، وانظر معاني القرآن للفراء 1 : 152 ، وتفسير أبي حيان 2 : 221 .

(5/101)


ومعنى قولهم : " خطب فلان فلانة " ، سألها خطبه إليها في نفسها ، وذلك حاجته ، من قولهم : " ما خطبك " ؟ بمعنى : ما حاجتك ، وما أمرك ؟
* * *
وأما " التعريض " ، فهو ما كان من لحن الكلام الذي يفهم به السامع الفهم ما يفهم بصريحه. (1)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ }
قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بقوله : " أو أكننتم في أنفسكم " ، أو أخفيتم في أنفسكم ، فأسررتموه ، من خطبتهن ، وعزم نكاحهن وهن في عددهن ، فلا جناح عليكم أيضا في ذلك ، إذا لم تعزموا عقدة النكاح حتى يبلغ الكتاب أجله.
* * *
يقال منه : " أكن فلان هذا الأمر في نفسه ، فهو يكنه إكنانا " ، و " كنه " ، إذا ستره ، " يكنه كنا وكنونا " ، و " جلس في الكن " ولم يسمع " كننته في نفسي " ، (2) وإنما يقال : " كننته في البيت أو في الأرض " ، إذا خبأته فيه ، ومنه قوله تعالى ذكره : ( كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ ) [سورة الصافات : 49] ، أي مخبوء ، ومنه قول الشاعر : (3)
ثلاث من ثلاث قداميات... من اللائي تكن من الصقيع (4)
__________
(1) لحن الكلام : هو الإيماء في الكلام دون التصريح ، وعبارة الطبري في تفسير هذه الكلمة ، عبارة جيدة . ليس لها شبيه في كتب اللغة في شرح هذا الحرف .
(2) ذكر أصحاب اللغة أن ذلك قيل ، واستشهدوا بقول أبي قطيفة : قد يكتم الناس أسرارا فأعلمها ... وما ينالون حتى الموت مكنوني
(3) لم أستطع أن أعرف قائله .
(4) معاني الفراء 1 : 152 ، واللسان (كنن) . قداميات جمع قدامى ، والقدامى واحد . وجمع ، وهو هنا واحد . والقدامى والقوادم في الطير : عشر ريشات في كل جناح . وقوله : " ثلاث من ثلاث قداميات " ، كأنه يريد أنه اختار من قوادم ثلاث من الطير ، ثلاث ريشات من ريشه ، وكأنه يريد ذلك لأسهمه ، يريش الأسهم بها . والصقيع : الذي يسقط بالليل ، شبيه بالثلج .

(5/102)


و " تكن " بالتاء ، وهو أجود ، و " يكن " . (1) ويقال : " أكنته ثيابه من البرد " " وأكنه البيت من الريح " .
* * *
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
5126 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : " أو أكنتم في أنفسكم " ، قال : الإكنان : ذكر خطبتها في نفسه ، لا يبديه لها. هذا كله حل معروف.
5127 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد مثله.
5128 - حدثني موسى قال ، حدثنا عمرو قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي قوله : " أو أكننتم في أنفسكم " ، قال : أن يدخل فيسلم ويهدي إن شاء ، ولا يتكلم بشيء.
5129 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الوهاب الثقفي قال ، سمعت يحيى بن سعيد يقول : أخبرني عبد الرحمن بن القاسم : أنه سمع القاسم بن محمد يقول ، فذكر نحوه.
5130 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد في قوله : " أو أكننتم في أنفسكم " ، قال : جعلت في نفسك نكاحها وأضمرت ذلك.
__________
(1) في المطبوعة : " بالتاء هو أجود " ، وزيادة الواو من المخطوطة . هذه الجملة غير بينة المعنى عندي ، وكأن صوابها " وتكن بالتاء المضمومة ، وهو أجود وتكن " . ويعني أن الأول من " أكن يكن " ، وأن الأخرى من " كن يكن " . كما هو ظاهر من استدلاله هذا . وقد عقب الفراء على هذا البيت بقوله : " وبعضهم يرويه " تكن " من " أكننت " . فهذا يرجح ما ذهبت إليه .

(5/103)


5131 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا مهران وحدثني علي قال ، حدثنا زيد جميعا ، عن سفيان : " أوأكننتم في أنفسكم " ، أن يسر في نفسه أن يتزوجها.
5132 - حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا هوذة قال ، حدثنا عوف ، عن الحسن في قوله : " أو أكننتم في أنفسكم " ، قال : أسررتم.
* * *
قال أبو جعفر : وفي إباحة الله تعالى ذكره ما أباح من التعريض بنكاح المعتدة لها في حال عدتها وحظره التصريح ، (1) ما أبان عن افتراق حكم التعريض في كل معاني الكلام وحكم التصريح ، منه. وإذا كان ذلك كذلك ، تبين أن التعريض بالقذف غير التصريح به ، وأن الحد بالتعريض بالقذف لو كان واجبا وجوبه بالتصريح به ، لوجب من الجناح بالتعريض بالخطبة في العدة ، نظير الذي يجب بعزم عقدة النكاح فيها. وفي تفريق الله تعالى ذكره بين حكميها في ذلك ، الدلالة الواضحة على افتراق أحكام ذلك في القذف.
* * *
القول في تأويل قوله : { عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ }
قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بذلك : علم الله أنكم ستذكرون المعتدات في عددهن بالخطبة في أنفسكم وبألسنتكم ، كما : -
5133 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن يزيد بن إبراهيم ، عن الحسن : " علم الله أنكم ستذكرونهن " ، قال : الخطبة.
__________
(1) قوله : " لها " متعلق بقوله : " التعريض " ، أي : التعريض لها ، وسياق هذه الجملة والتي تليها : " وفي إباحة الله تعالى ذكره . . . ما أبان عن افتراق حكم التعريض " . وقوله : " منه " في الجملة التالية ، أي : افتراق حكم التعريض من حكم التصريح .

(5/104)


5134 - حدثني أبو السائب سلم بن جنادة قال ، حدثنا ابن إدريس ، عن ليث ، عن مجاهد في قوله : " ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة النساء " ، قال : ذكرك إياها في نفسك. قال : فهو قول الله : " علم الله أنكم ستذكرونهن " .
5135 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا ابن أبي زائدة ، عن يزيد بن إبراهيم ، عن الحسن في قوله : " علم الله أنكم ستذكرونهن " ، قال : هي الخطبة.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلَكِنْ لا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا }
قال أبو جعفر : اختلف أهل التأويل في معنى " السر " الذي نهى الله تعالى عباده عن مواعدة المعتدات به.
فقال بعضهم : هو الزنا.
* ذكر من قال ذلك :
5136 - حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا عبد الرحمن قال ، حدثنا همام ، عن صالح الدهان ، عن جابر بن زيد : " ولكن لا تواعدوهن سرا " ، قال : الزنا. (1)
5137 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا المعتمر بن سليمان ، عن أبيه ، عن أبي مجلز قوله : " ولكن لا تواعدوهن سرا " قال : الزنا.
5138 - حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا يحيى قال ، حدثنا سليمان التيمي ، عن أبي مجلز مثله.
5139 - حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا عبد الرحمن قال ، حدثنا سفيان ،
__________
(1) الأثر : 5136 - " صالح الدهان " ، هو صالح بن إبراهيم الدهان الجهني ، أبو نوح . وهو ثقة . ترجم في الجرح والتعديل 2 / 1 / 393 ، وانظر التهذيب 4 : 388 . وجابر بن زيد الأزدي أبو الشعثاء . مترجم في التهذيب ، وروي عن ابن عباس وابن عمر وابن الزبير . مات سنة 93 .

(5/105)


عن سليمان التيمي ، عن أبي مجلز مثله.
5140 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو نعيم قال ، حدثنا سفيان ، عن أبي مجلز : " ولكن لا تواعدوهن سرا " قال : الزنا قيل لسفيان التيمي : ذكره ؟ قال : نعم.
5141 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا المعتمر ، عن أبيه ، عن رجل ، عن الحسن في المواعدة مثل قولة أبي مجلز.
5142 - حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا عبد الرحمن قال ، حدثنا يزيد بن إبراهيم ، عن الحسن قال : الزنا.
5143 - حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا يحيى قال ، حدثنا أشعث وعمران ، عن الحسن مثله.
5144 - حدثنا ابن بشار قال حدثنا ، عبد الرحمن ويحيى قالا حدثنا سفيان ، عن السدي قال : سمعت إبراهيم يقول : " لا تواعدوهن سرا " قال : الزنا.
5145 - حدثنا أحمد بن حازم قال ، حدثنا أبو نعيم قال ، حدثنا سفيان ، عن السدي ، عن إبراهيم مثله.
5146 - حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا عبد الأعلى قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة في قوله : " لا تواعدوهن سرا " قال : الزنا.
5147 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا ابن أبي زائدة ، عن يزيد بن إبراهيم ، عن الحسن : " ولكن لا تواعدوهن سرا " قال : الزنا.
5148 - حدثني المثنى قال ، حدثنا سويد قال ، أخبرنا ابن المبارك ، عن معمر ، عن قتادة ، عن الحسن في قوله : " ولكن لا تواعدوهن سرا " قال : الفاحشة.
5149 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا أبو زهير ، عن جويبر ، عن الضحاك وحدثني يحيى بن أبي طالب قال ، أخبرنا يزيد بن هارون قال ، أخبرنا جويبر عن الضحاك : " لا تواعدوهن سرا " ، قال : السر : الزنا.

(5/106)


5150 - حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : " لا تواعدوهن سرا " ، قال : فذلك السر : الريبة. (1) كان الرجل يدخل من أجل الريبة وهو يعرض بالنكاح ، فنهى الله عن ذلك إلا من قال معروفا.
5151 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثنا هشيم قال ، أخبرنا منصور ، عن الحسن وجويبر ، عن الضحاك وسليمان التيمي ، عن أبي مجلز أنهم قالوا : الزنا.
5152 - حدثنا عن عمار قال ، حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع قوله : " ولكن لا تواعدوهن سرا " ، للفحش والخضع من القول. (2)
5153 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر ، عن قتادة ، عن الحسن : " ولكن لا تواعدوهن سرا " ، قال : هو الفاحشة.
* * *
وقال آخرون : بل معنى ذلك لا تأخذوا ميثاقهن وعهودهن في عددهن أن لا ينكحن غيركم.
* ذكر من قال ذلك :
5154 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثني معاوية بن صالح ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : " لا تواعدوهن سرا " ، يقول : لا تقل لها : " إني عاشق ، وعاهديني أن لا تتزوجي غيري " ، ونحو هذا.
5155 - حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا عبد الرحمن قال ، حدثنا سفيان ، عن مسلم البطين ، عن سعيد بن جبير في قوله : " لا تواعدوهن سرا " ، قال :
__________
(1) في المطبوعة : " الزنية " في هذا الموضع والذي يليه ، والصواب من المخطوطة . والريبة (بكسر الراء) : الشك والظنة والتهمة ، وهو كناية عن كل أمر قبيح يرتاب فيه وفي صاحبه .
(2) الخضع (بفتح فسكون) مصدر خضع الرجل : ألان الكلام للمرأة : وقد ضبط في المخطوطة بضم الخاء ، ولم أجده . و " خضع " من باب " نفع " ، نص على ذلك صاحب معيار اللغة . وفي حديث عمر أن رجلا في زمانه مر برجل وامرأة قد خضعا بينهما حديثا فضربه حتى شجه ، فرفع إلى عمر فأهدره " أي : لينا بينهما الحديث ، وتكلما بما يطمع كلا منهما في الآخر . وسيأتي " خضع القول " أيضًا في تفسيره 22 : 3 (بولاق) ، وسيأتي أيضًا في الأثر رقم : 5162 .

(5/107)


لا يقاضها على كذا وكذا أن لا تتزوج غيره. (1)
5156 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن إسرائيل ، عن جابر ، عن عامر. ومجاهد وعكرمة قالوا : لا يأخذ ميثاقها في عدتها ، أن لا تتزوج غيره.
5157 - حدثنا محمد بن المثنى قال ، حدثنا محمد بن جعفر قال ، حدثنا شعبة ، عن منصور قال : ذكر في عن الشعبي أنه قال في هذه الآية : " لا تواعدوهن سرا " ، قال : لا تأخذ ميثاقها أن لا تنكح غيرك.
5158 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا حكام ، عن عمرو ، عن منصور ، عن الشعبي : " ولكن لا تواعدوهن سرا " ، قال : لا يأخذ ميثاقها في أن لا تتزوج غيره.
5159 - حدثني يعقوب قال ، حدثنا هشيم قال ، أخبرنا إسماعيل بن سالم ، عن الشعبي قال : سمعته يقول في قوله : " لا تواعدوهن سرا " ، قال : لا تأخذ ميثاقها أن لا تنكح غيرك ، ولا يوجب العقدة حتى تنقضي العدة. (2)
5160 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا جرير ، عن منصور ، عن الشعبي : " لا تواعدوهن سرا " ، قال : لا يأخذ عليها ميثاقا أن لا تتزوج غيره.
5161 - حدثني موسى قال ، حدثنا عمرو قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : " ولكن لا تواعدهن سرا " ، يقول : " أمسكي علي نفسك ، فأنا أتزوج " ويأخذ عليها عهدا " لا تنكحي غيري " . (3)
__________
(1) في المطبوعة : " لا يقاصها " ، وهو كذلك في المخطوطة غير منقوط ، وصواب قراءته ما أثبت . قاضاه على الأمر : فصل فيه وأبرمه وحتمه وفرغ منه . وفي كتاب صلح الحديبية : " هذا ما قاضى عليه محمد . . . " وهو شبيه بالمعاهدة .
(2) في المطبوعة : " ويأخذ عليها عهدا أن لا تنكحي " . . . " بزيادة " أن " ، وأثبت ما في المخطوطة ، فهو الصواب الجيد .
(3) في المطبوعة : " ويأخذ عليها عهدا أن لا تنكحي " . . . . " بزيادة " أن " ، وأثبت ما في المخطوطة ، فهو الصواب الجيد .

(5/108)


5162 - حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا يزيد بن زريع قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة : " ولكن لا تواعدوهن سرا " ، قال : هذا في الرجل يأخذ عهد المرأة وهي في عدتها أن لا تتزوج غيره ، فنهى الله عن ذلك وقدم فيه ، وأحل الخطبة والقول بالمعروف ، ونهى عن الفاحشة والخضع من القول. (1)
5163 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا مهران ، وحدثني علي قال ، حدثنا زيد جميعا ، عن سفيان : " ولكن لا تواعدوهن سرا " ، قال : إن تواعدها سرا على كذا وكذا ، " على أن لا تنكحي غيري " .
5164 - حدثني المثنى قال ، حدثنا سويد قال ، أخبرنا ابن المبارك ، عن معمر ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : " لا تواعدوهن سرا " ، قال : موعدة السر أن يأخذ عليها عهدا وميثاقا أن تحبس نفسها عليه ، ولا تنكح غيره.
5165 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد بنحوه.
* * *
وقال آخرون : بل معنى ذلك : أن يقول لها الرجل : " لا تسبقيني بنفسك " .
* ذكر من قال ذلك :
5166 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن أبن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله : " ولكن لا تواعدوهن سرا " ، قال : قول الرجل للمرأة : " لا تفوتيني بنفسك ، فإني ناكحك " ، هذا لا يحل.
5167 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن أبن أبي نجيح ، عن مجاهد قال : هو قول الرجل للمرأة : " لا تفوتيني " .
5168 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا جرير ، عن ليث ، عن مجاهد : " ولكن لا تواعدوهن سرا " ، قال : المواعدة أن يقول : " لا تفوتيني بنفسك " .
__________
(1) انظر التعليق على الأثر السالف : 5152 .

(5/109)


5169 - حدثنا المثنى قال ، حدثنا سويد قال ، أخبرنا ابن المبارك ، عن سفيان ، عن ليث ، عن مجاهد : " ولكن لا تواعدوهن سرا " ، أن يقول : " لا تفوتيني بنفسك " .
* * *
وقال آخرون : بل معنى ذلك : ولا تنكحوهن في عدتهن سرا.
* ذكر من قال ذلك :
5170 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد في قوله : " ولكن لا تواعدوهن سرا " يقول : لا تنكحوهن سرا ، ثم تمسكها ، حتى إذا حلت أظهرت ذلك وأدخلتها.
5171 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد في قوله : " ولكن تواعدوهن سرا " ، قال : كان أبي يقول : لا تواعدوهن سرا ، ثم تمسكها ، وقد ملكت عقدة نكاحها ، فإذا حلت أظهرت ذلك وأدخلتها.
* * *
قال أبو جعفر : وأولى الأقوال بالصواب في تأويل ذلك ، تأويل من قال : " السر " ، في هذا الموضع ، الزنا. وذلك أن العرب تسمي الجماع وغشيان الرجل المرأة " سرا " ، لأن ذلك مما يكون بين الرجال والنساء في خفاء غير ظاهر مطلع عليه ، فيسمى لخفائه " سرا " ، من ذلك قوله رؤبة بن العجاج :
فعف عن أسرارها بعد العسق... ولم يضعها بين فرك وعشق (1)
يعني بذلك : عف عن غشيانها بعد طول ملازمته ذلك ، ومنه قول الحطيئة :
__________
(1) ديوانه : 104 ، واللسان (عسق) (عشق) (فرك) (سرر) ، وفي اللسان في بعض مواده " إسرارها " بالكسر ، وهو خطأ ، وفي بعضها " الغسق " ، وهو خطأ أيضًا . والأسرار جمع سر . والعسق ، مصدر " عسق به يعسق " : لزمه وأولع به . والفرك (بكسر الفاء وسكون الراء) بغضة الرجل امرأته ، أو بغضة امرأته له . وامرأة فارك وفروك ، تكره زوجها . ورجل مفرك (بتشديد الراء) . لا يحظى عند النساء . والعشق (بكسر فسكون) والعشق (بفتحتين) مصدر " عشق يعشق " . والضمير في قوله : " فعف " ، عائد إلى حمار الوحش الذي يصفه ويصف أتنه . والضمير في " أسرارها " عائد إلى الأتن .

(5/110)


ويحرم سر جارتهم عليهم... ويأكل جارهم أنف القصاع (1)
وكذلك يقال لكل ما أخفاه المرء في نفسه : " سرا " . ويقال : " هو في سر قومه " ، يعني : في خيارهم وشرفهم.
فلما كان " السر " إنما يوجه في كلامها إلى أحد هذه الأوجه الثلاثة ، وكان معلوما أن أحدهن غير معني به قوله : " ولكن لا تواعدوهن سرا " ، وهو السر الذي هو معنى الخيار والشرف فلم يبق إلا الوجهان الآخران ، وهو " السر " الذي بمعنى ما أخفته نفس المواعد بين المتواعدين ، (2) " والسر " الذي بمعنى الغشيان والجماع.
فلما لم يبق غيرهما ، وكانت الدلالة واضحة على أن أحدهما غير معني به ، صح أن الآخر هو المعني به.
* * *
فإن قال [قائل] : (3) فما الدلالة على أن مواعدة القول سرا ، غير معني به على ما قال من قال إن معنى ذلك : أخذ الرجل ميثاق المرأة أن لا تنكح غيره ، أو على ما قال من قال : قول الرجل لها : " لا تسبقيني بنفسك " ؟
قيل : لأن " السر " إذا كان بالمعنى الذي تأوله قائلو ذلك ، فلن يخلو ذلك " السر " من أن يكون هو مواعدة الرجل المرأة ومسألته إياها أن لا تنكح غيره أو
__________
(1) ديوانه : 93 ، واللسان (أنف) يمدح بني رياح وبني كليب من بني يربوع . أنف كل شيء : طرفه وأوله . والقصاع جمع قصعة : وهي الجفنة الضخمة . يذكر عفتهم وحفاظهم وامتناعهم من انتهاك حرمة الجارة ، واقتراف الإثم في حقها ، ويصف كرمهم وإيثارهم جارهم بالطعام على أنفسهم ، فلا يتقدمونه إلى الطعام حتى يأخذ منه ما يشتهي وما يكفيه . وقبل البيت : فليس الجار جار بني رياح ... بمقصى في المحل ولا مضاع
هم صنعوا لجارهم ، وليست ... يد الخرقاء مثل يد الصناع
(2) في المطبوعة : " نفس المواعدين المتواعدين " ، والصواب من المخطوطة .
(3) هذه الزيادة استظهرتها من مئات أشباهها مضت .

(5/111)


يكون هو النكاح الذي سألها أن تجيبه إليه ، بعد انقضاء عدتها ، وبعد عقده له ، دون الناس غيره. فإن كان " السر " الذي نهى الله الرجل أن يواعد المعتدات ، هو أخذ العهد عليهن أن لا ينكحن غيره ، فقد بطل أن يكون " السر " معناه : ما أخفى من الأمور في النفوس ، أو نطق به فلم يطلع عليه ، وصارت العلانية من الأمر سرا. وذلك خلاف المعقول في لغة من نزل القرآن بلسانه.
إلا أن يقول قائل هذه المقالة : إنما نهى الله الرجال عن مواعدتهن ذلك سرا بينهم وبينهن ، لا أن نفس الكلام بذلك - وإن كان قد أعلن - سر.
فيقال له إن قال ذلك : فقد يجب أن تكون جائزة مواعدتهن النكاح والخطبة صريحا علانية ، إذ كان المنهي عنه من المواعدة ، إنما هو ما كان منها سرا.
فإن قال : إن ذلك كذلك ، خرج من قول جميع الأمة. على أن ذلك ليس من قيل أحد ممن تأول الآية أن " السر " ها هنا بمعنى المعاهدة أن لا تنكح غير المعاهد.
وإن قال : ذلك غير جائز.
قيل له : فقد بطل أن يكون معنى ذلك : إسرار الرجل إلى المرأة بالمواعدة. لأن معنى ذلك ، لو كان كذلك ، لم يحرم عليه مواعدتها مجاهرة وعلانية. وفي كون ذلك عليه محرما سرا وعلانية ، ما أبان أن معنى " السر " في هذا الموضع ، غير معنى إسرار الرجل إلى المرأة بالمعاهدة أن لا تنكح غيره إذا انقضت عدتها أو يكون ، إذا بطل هذا الوجه ، معنى ذلك : الخطبة والنكاح الذي وعدت المرأة الرجل أن لا تعدوه إلى غيره. فذلك إذا كان ، فإنما يكون بولي وشهود علانية غير سر. وكيف يجوز أن يسمى سرا ، وهو علانية لا يجوز إسراره ؟
وفي بطول هذه الأوجه أن يكون تأويلا لقوله : " ولكن لا تواعدوهن سرا " بما عليه دللنا من الأدلة ، وضوح صحة تأويل ذلك أنه بمعنى الغشيان والجماع.
وإذ كان ذلك صحيحا ، فتأويل الآية : ولا جناح عليكم ، أيها الناس ، فيما

(5/112)


عرضتم به للمعتدات من وفاه أزوجهن ، من خطبة النساء ، وذلك حاجتكم إليهن ، فلم تصرحوا لهن بالنكاح والحاجة إليهن ، إذا أكننتم في أنفسكم ، فأسررتم حاجتكم إليهن وخطبتكم إياهن في أنفسكم ، ما دمن في عددهن ؛ علم الله أنكم ستذكرون خطبتهن وهن في عددهن ، فأباح لكم التعريض بذلك لهن ، وأسقط الحرج عما أضمرته نفوسكم - حكم منه (1) ولكن حرم عليكم أن تواعدوهن جماعا في عددهن ، بأن يقول أحدكم لإحداهن في عدتها : " قد تزوجتك في نفسي ، وإنما أنتظر أنقضاء عدتك " ، فيسألها بذلك القول إمكانه من نفسها الجماع والمباضعة ، فحرم الله تعالى ذكره ذلك.
* * *
القول في تأويل قوله : { إِلا أَنْ تَقُولُوا قَوْلا مَعْرُوفًا }
قال أبو جعفر : ثم قال تعالى ذكره : " إلا أن تقولوا قولا معروفا " ، فاستثنى القول المعروف مما نهي عنه ، من مواعدة الرجل المرأة السر ، وهو من غير جنسه ، ولكنه من الاستثناء الذي قد ذكرت قبل : أن يأتي بمعنى خلاف الذي قبله في الصفة خاصة ، وتكون " إلا " فيه بمعنى " لكن " ، (2) فقوله : " إلا أن تقولوا قولا معروفا " منه - ومعناه : ولكن قولوا قولا معروفا. فأباح الله تعالى ذكره أن يقول لها المعروف من القول في عدتها ، وذلك هو ما أذن له بقوله : " ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة النساء " ، كما : -
5172 - حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا عبد الرحمن قال ، حدثنا سفيان ، عن سلمة بن كهيل ، عن مسلم البطين ، عن سعيد بن جبير : " إلا أن تقولوا
__________
(1) في المطبوعة : " حلما منه " وأثبت صوب ما في المخطوطة .
(2) انظر ما سلف 2 : 263 - 265 / ثم 3 : 204 - 206 .

(5/113)


قولا معروفا " ، قال : يقول : إني فيك لراغب ، وإني لأرجو أن نجتمع.
5173 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثني معاوية بن صالح ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : " إلا أنه تقولوا قولا معروفا " ، قال : هو قوله : " إن رأيت أن لا تسبقيني بنفسك " .
5174 - حدثني المثنى قال ، حدثنا سويد قال ، أخبرنا ابن المبارك ، عن سفيان ، عن ليث ، عن مجاهد : " إلا أن تقولوا قولا معروفا " ، قال : يعني التعريض.
5175 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد : " إلا أن تقولوا قولا معروفا " ، قال : يعني التعريض.
5176 - حدثني موسى قال ، حدثنا عمرو قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : " ولا جناح عليكم فيما عرضتم به خطبة النساء " إلى " حتى يبلغ الكتاب أجله " ، قال : هو الرجل يدخل على المرأة وهي في عدتها فيقول : " والله إنكم لأكفاء كرام ، وإنكم لرغبة ، (1) وإنك لتعجبيني ، وإن يقدر شيء يكن " . فهذا القول المعروف.
5177 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا مهران ، وحدثني علي قال ، حدثنا زيد - قالا جميعا ، قال سفيان : " إلا أن تقولوا قولا معروفا " ، قال يقول : " إني فيك لراغب ، وإني أرجو إن شاء الله أن نجتمع " .
5178 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد في قوله : " إلا أن تقولوا قولا معروفا " ، قال يقول : " إن لك عندي كذا ، ولك عندي كذا ، وأنا معطيك كذا وكذا " . قال : هذا كله وما كان قبل أن يعقد عقدة النكاح ،
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة : " لرعة " ، وهي في المخطوطة غير منقوطة ، وقرأتها كذلك - لأنه أوفق ، ولأني لم أجد لقوله " رعة " معنى . وسمى المرأة " رغبة " ، كما يسميها " هوى " بالمصدر ، أي : يرغب فيك . ومنه الرغيبة : وهو الشيء المرغوب فيه .

(5/114)


فهذا كله نسخه قوله : " ولا تعزموا وعقدة النكاح حتى يبلغ الكتاب أجله " .
5179 - حدثني يحيى بن أبي طالب قال ، أخبرنا يزيد قال ، أخبرنا جويبر ، عن الضحاك : " إلا أن تقولوا قولا معروفا " ، قال : المرأة تطلق أو يموت عنها زوجها ، فيأتيها الرجل فيقول : " احبسي علي نفسك ، فإن لي بك رغبة ، فتقول : " وأنا مثل ذلك " ، فتتوق نفسه لها. (1) فذلك القول المعروف.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ }
قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بقوله : " ولا تعزموا عقدة النكاح " ، ولا تصححوا عقدة النكاح في عدة المرأة المعتدة ، فتوجبوها بينكم وبينهن ، وتعقدوها قبل انقضاء العدة " حتى يبلغ الكتاب أجله " ، يعني : يبلغن أجل الكتاب الذي بينه الله تعالى ذكره بقوله : ( وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا ) ، فجعل بلوغ الأجل للكتاب ، والمعنى للمتناكحين ، أن لا ينكح الرجل المرأة المعتدة ، فيعزم عقدة النكاح عليها حتى تنقضي عدتها ، فيبلغ الأجل الذي أجله الله في كتابه لانقضائها ، كما : -
5180 - حدثنا محمد بن بشار وعمرو بن علي قالا حدثنا عبد الرحمن قال ، حدثنا سفيان ، وحدثنا الحسن بن يحيى قال ، حدثنا عبد الرزاق ، عن الثوري ، عن ليث ، عن مجاهد : " حتى يبلغ الكتاب أجلا " ، قال : حتى تنقضي العدة.
5181 - حدثني موسى قال ، حدثنا عمرو قال ، حدثنا أسباط ، عن
__________
(1) في المخطوطة : " فتؤتي نفسه لها " ، ولم أجدها في مكان آخر ، والذي في المطبوعة لا بأس به ، وهو قريب الدلالة على المعنى .

(5/115)


السدي قوله : " حتى يبلغ الكتاب أجله " ، قال : حتى تنضي أربعة أشهر وعشر.
5182 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : " حتى يبلغ الكتاب أجله " ، قال : حتى تنقضي العدة.
5183 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع مثله.
5184 - حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : " حتى يبلغ الكتاب أجله " ، قال : تنقضي العدة.
5185 - حدثني القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن عطاء الخراساني ، عن ابن عباس قوله : " ولا تعزموا عقدة النكاح حتى يبلغ الكتاب أجله " ، قال : حتى تنقضي العدة.
5186 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا أبو زهير ، عن جويبر ، عن الضحاك قوله : " حتى يبلغ الكتاب أجله " ، قال : لا يتزوجها حتى يخلو أجلها. (1)
5187 - حدثنا عمرو بن علي قال ، حدثنا أبو قتيبة قال ، حدثنا يونس بن أبي إسحاق ، عن الشعبي في قوله : " ولا تعزموا عقدة النكاح حتى يبلغ الكتاب أجله " ، قال : مخافة أن تتزوج المرأة قبل انقضاء العدة. (2)
5188 - حدثنا عمرو بن علي قال ، حدثنا عبد الأعلى قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة : " ولا تعزموا عقدة النكاح حتى يبلغ الكتاب أجله " ، حتى تنقضي العدة.
5189 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا مهران وحدثني علي قال ، حدثنا زيد جميعا ، عن سفيان قوله : " حتى يبلغ الكتاب أجله " ، قال : حتى تنقضي العدة.
* * *
__________
(1) خلا الشيء يخلو خلوا : مضى وانقضى .
(2) الأثر : 5187 - " أبو قتيبة " ، هو : سلم بن قتيبة الشعيري ، أبو قتيبة الخراساني . " ثقة ، ليس به بأس ، يكتب حديثه " ، مات سنة 201 . مترجم في التهذيب .

(5/116)


القول في تأويل قوله تعالى : { وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (235) }
قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بذلك : واعلموا ، أيها الناس ، أن الله يعلم ما في أنفسكم من هواهن ونكاحهن وغير ذلك من أموركم ، فاحذروه. يقول : فاحذروا الله واتقوه في أنفسكم أن تأتوا شيئا مما نهاكم عنه ، من عزم عقدة نكاحهن ، أو مواعدتهن السر في عددهن ، وغير ذلك مما نهاكم عنه في شأنهن في حال ما هن معتدات ، وفي غير ذلك " واعلموا أن الله غفور " ، (1) يعني أنه ذو ستر لذنوب عباده وتغطية عليها ، فيما تكنه نفوس الرجال من خطبة المعتدات ، وذكرهم إياهن في حال عددهن ، وفي غير ذلك من خطاياهم وقوله : " حليم " ، يعني أنه ذو أناة لا يعجل على عباده بعقوبتهم على ذنوبهم.
* * *
القول في تأويل قوله : { لا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ }
قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بقوله : " لا جناح عليكم " ، لا حرج عليكم إن طلقتم النساء. (2)
يقول : لا حرج عليكم في طلاقكم نساءكم وأزواجكم ،
__________
(1) انظر " غفور " فيما سلف ، في فهارس اللغة في الأجزاء السالفة .
(2) انظر تفسير " الجناح " فيما سلف 3 : 230 ، 231 / ثم 4 : 162 ، 566 / ثم 5 : 71

(5/117)


" ما لم تماسوهن " ، (1) يعني بذلك : ما لم تجامعوهن.
* * *
" والمماسة " ، في هذا الموضع ، كناية عن اسم الجماع ، كما : -
5190 - حدثنا حميد بن مسعدة قال ، حدثنا يزيد بن زريع وحدثنا محمد بن بشار قال ، حدثنا محمد بن جعفر قالا جميعا ، حدثنا شعبة ، عن أبي بشر ، عن سعيد بن جبير قال ، قال ابن عباس : المس الجماع ، ولكن الله يكني ما يشاء بما شاء. (2)
5191 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو صالح قال ، حدثني معاوية ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قال : المس : النكاح.
* * *
قال أبو جعفر : وقد اختلف القرأة في قراءة ذلك. (3) فقرأته عامة قرأة أهل الحجاز والبصرة : " ما لم تمسوهن " ، بفتح " التاء " من " تمسوهن " ، بغير " ألف " ، من قولك : مسسته أمسه مسا ومسيسا ومسيسى " مقصور مشدد غير مجرى. وكأنهم اختاروا قراءة ذلك ، إلحاقا منهم له بالقراءة المجتمع عليها في قوله : ( وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ ) [سورة آل عمران : 47 ، سورة مريم : 20].
* * *
وقرأ ذلك آخرون : " ما لم تماسوهن " ، بضم " التاء والألف " بعد " الميم " ، إلحاقا منهم ذلك بالقراءة المجمع عليها في قوله : ( فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ) [سورة المجادلة : 3] ، وجعلوا ذلك بمعنى فعل كل واحد من الرجل والمرأة بصاحبه من قولك : " ماسست الشيء أمماسه مماسة ومساسا. (4)
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة ، نص الآية " تمسوهن " ، وفي التفسير " تماسوهن " ، وهذا دليل على أنها كانت قراءة الطبري في أصله ، أما قراءة كاتب النسخة المخطوطة ، وقراءتنا في مصحفنا هذا ، فهي " تمسوهن " ، وسيذكر الطبري القراءتين .
(2) في المطبوعة : " ما يشاء بما شاء " ، وأثبت ما في المخطوطة .
(3) في المطبوعة : " وقد اختلفت القراء " ، وأثبت ما في المخطوطة . والقَرَأَة (بفتحات) جمع قارئ .
(4) ليس في المطبوعة : " أماسه " وزدتها في المخطوطة .

(5/118)


* * *
قال أبو جعفر : والذي نرى في ذلك ، أنهما قراءتان صحيحتا المعنى ، متفقا التأويل ، وإن كان في إحداهما زيادة معنى ، غير موجبة اختلافا في الحكم والمفهوم.
وذلك أنه لا يجهل ذو فهم إذا قيل له : " مسست زوجتي " ، أن الممسوسة قد لاقى من بدنها بدن الماس ، ما لاقاه مثله من بدن الماس. فكل واحد منهما وإن أفرد الخبر عنه بأنه الذي ماس صاحبه (1) معقول بذلك الخبر نفسه أن صاحبه المسوس قد ماسه. (2) فلا وجه للحكم لإحدى القراءتين مع اتفاق معانيهما ، وكثرة القرأة بكل واحدة منهما (3) بأنها أولى بالصواب من الأخرى ، بل الواجب أن يكون القارئ ، بأيتهما قرأ ، مصيب الحق في قراءته.
* * *
قال أبو جعفر : وإنما عنى الله تعالى ذكره بقوله : " لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن " ، المطلقات قبل الإفضاء إليهن في نكاح قد سمي لهن فيه الصداق. وإنما قلنا أن ذلك كذلك ، لأن كل منكوحة فإنما هي إحدى اثنتين : إما مسمى لها الصداق ، أو غير مسمى لها ذلك. فعلمنا بالذي يتلو ذلك من قوله تعالى ذكره ، أن المعنية بقوله : " لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن " ، إنما هي المسمى لها. لأن المعنية بذلك ، لو كانت غير المفروض لها الصداق ، لما كان لقوله : " أو تفرضوا لهن فريضة " ، معنى معقول. إذ كان لا معنى لقول قائل : " لا جناح عليكم إذا طلقتم النساء ما لم تفرضوا لهن فريضة في نكاح لم تماسوهن فيه ، أو ما لم تفرضوا لهن فريضة " . فإذا كان لا معنى لذلك ، فمعلوم أن الصحيح من التأويل في ذلك : لا جناح عليكم إن طلقتم المفروض لهن من نسائكم الصداق قبل أن تماسوهن ، وغير المفروض لهن قبل الفرض.
* * *
__________
(1) في المخطوطة والمطبوعة : " ماس صاحبه " ، والأجود أن يقول : " مس صاحبه " .
(2) في المخطوطة : " فذلك الخبر نفسه " ، وفي المطبوعة : " كذلك الخبر . . . " ، وكلتاهما فاسدة مسلوبة المعنى .
(3) في المطبوعة : " وكثرة القراءة " ، وهو فاسد ، والقَرَأَة جمع قارئ كما سلف .

(5/119)


لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ (236)

القول في تأويل قوله تعالى : { أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً }
قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بقوله : " أو تفرضوا لهن " ، أو توجبوا لهن. وبقوله : " فريضة " ، صداقا واجبا. كما : -
5192 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو صالح قال ، حدثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس : " أو تفرضوا لهن فريضة " ، قال : الفريضة : الصداق.
* * *
وأصل " الفرض " : الواجب ، (1) كما قال الشاعر :
كانت فريضة ما أتيت كما... كان الزناء فريضة الرجم (2)
يعني : كما كان الرجم الواجب من حد الزنا. ولذلك قيل : " فرض السلطان لفلان ألفين " ، (3) يعني بذلك : أوجب له ذلك ، ورزقه من الديوان. (4)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ }
قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بقوله : " ومتعوهن " ، وأعطوهن ما يتمتعن به من أموالكم ، (5) على أقداركم ومنازلكم من الغنى والإقتار.
* * *
__________
(1) انظر معنى " الفرض " فيما سلف 4 : 121
(2) البيت للنابغة الجعدي ، وقد سلف تخريجه وتفسيره في الجزء 3 : 311 ، 312 / وفي الجزء 4 : 287 .
(3) في المطبوعة : " . . . لفلان ألفين " بإسقاط " في " ، والصواب من المخطوطة .
(4) رزق الأمير جنده : أعطاهم الرزق ، وهو العطاء الذي فرضه لهم . والديوان : الدفتر الذي يكتب فيه أسماء الجيش وأهل العطاء ، وأول من دون الدواوين عمر رضي الله عنه
(5) انظر معنى " المتاع " فيما سلف 1 : 539 ، 540 / 3 : 53 - 55 .

(5/120)


ثم اختلف أهل التأويل في مبلغ ما أمر الله به الرجال من ذلك.
فقال بعضهم : أعلاه الخادم ، ودون ذلك الورق ، (1) ودونه الكسوة.
* ذكر من قال ذلك :
5193 - حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا مؤمل قال ، حدثنا سفيان ، عن إسماعيل ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : متعة الطلاق أعلاه الخادم ، ودون ذلك الورق ، ودون ذلك الكسوة.
5194 - حدثنا أحمد بن إسحاق قال ، حدثنا سفيان ، عن إسماعيل بن أمية ، عن عكرمة ، عن ابن عباس بنحوه.
5195 - حدثنا أحمد قال ، حدثنا أبو أحمد قال ، حدثنا سفيان ، عن داود ، عن الشعبي قوله : " ومتعوهن على الموسع قدره وعلى المقتر قدره " ، قلت له : ما أوسط متعة المطلقة ؟ قال : خمارها ودرعها وجلبابها وملحفتها.
5196 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو صالح قال ، حدثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس قوله : " ومتعوهن على الموسع قدره وعلى المقتر قدره متاعا بالمعروف حقا على المحسنين " ، فهذا الرجل يتزوج المرأة ولم يسم لها صداقا ، ثم يطلقها من قبل أن ينكحها ، فأمر الله سبحانه أن يمتعها على قدر عسره ويسره. فإن كان موسرا متعها بخادم أو شبه ذلك ، وإن كان معسرا متعها بثلاثة أثواب أو نحو ذلك.
5197 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال ، حدثنا ابن علية ، عن داود ، عن الشعبي في قوله : " ومتعوهن على الموسر قدر وعلى المقتر قدره " ، قال : قلت للشعبي : ما وسط ذلك ؟ قال : كسوتها في بيتها ، ودرعها وخمارها وملحفتها وجلبابها.
قال الشعبي : فكان شريح يمتع بخمسمئة.
__________
(1) الورق (بفتح فكسر) : الدراهم المضروبة . والورق (بفتحتين) : المال الناطق من الإبل والغنم .

(5/121)


5198 - حدثنا ابن المثنى قال ، حدثنا عبد الوهاب قال ، حدثنا داود ، عن عامر : أن شريحا كان يمتع بخمسمئة ، قلت لعامر : ما وسط ذلك ؟ قال : ثيابها في بيتها ، درع وخمار وملحفة وجلباب.
5199 - حدثنا ابن المثنى قال ، حدثنا ابن أبي عدي ، عن داود ، عن عمار الشعبي أنه قال : وسط من المتعة ثياب المرأة في بيتها ، درع وخمار وملحفة وجلباب.
5200 - حدثنا عمران بن موسى قال ، حدثنا عبد الوارث قال ، حدثنا داود ، عن الشعبي : أن شريحا متع بخمسمئة. وقال الشعبي : وسط من المتعة ، درع وخمار وجلباب وملحفة.
5201 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع بن أنس في قوله : " لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة ومتعوهن على الموسع قدر وعلى المقتر قدره متاعا بالمعروف حقا على المحسنين " ، قال : هو الرجل يتزوج المرأة ولا يسمى لها صداقا ، ثم يطلقها قبل أن يدخل بها ، فلها متاع بالمعروف ولا صداق لها. قال : أدنى ذلك ثلاثة أثواب ، درع وخمار ، وجلباب وإزار.
5202 - حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة : " لا جناح عليكم إذ طلقتم النساء ما لم تمسوهن " حتى بلغ : " حقا على المحسنين " ، فهذا في الرجل يتزوج المرأة ولا يسمى لها صداقا ، ثم يطلقها قبل أن يدخل بها ، فلها متاع بالمعروف ، ولا فريضة لها. وكان يقال : إذا كان واجدا فلا بد من مئزر وجلباب ودرع وخمار. (1)
5203 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا ابن أبي زائدة ، عن صالح بن صالح ، قال : سئل عامر : بكم يمتع الرجل امرأته ؟ قال : على قدر ماله.
__________
(1) الواجد : القادر ، الذي يجد ما يقضي به دينه أو ما شابه ذلك .

(5/122)


5204 - حدثني علي بن سهل قال ، حدثنا مؤمل قال ، حدثنا شعبة ، عن سعد بن إبراهيم قال : سمعت حميد بن عبد الرحمن بن عوف يحدث عن أمه قالت : كأني أنظر إلى جارية سوداء ، حممها عبد الرحمن أم أبي سلمة حين طلقها. (1)
قيل لشعبة : ما " حممها " ؟ قال. متعها. (2)
5205 - حدثنا ابن المثنى قال ، حدثنا محمد بن جعفر قال ، حدثنا شعبة ، عن سعد بن إبراهيم ، عن حميد بن عبد الرحمن بن عوف ، عن أمه ، بنحوه ، عن عبد الرحمن بن عوف.
5206 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر ، عن أيوب ، عن ابن سيرين قال ، كان يمتع بالخادم ، أو بالنفقة أو الكسوة. قال : ومتع الحسن بن علي - أحسبه قال : بعشرة آلاف.
5207 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر ، عن أيوب ، عن سعد بن إبراهيم : أن عبد الرحمن بن عوف طلق امرأته فمتعها بالخادم.
5208 - حدثت عن عبد الله بن يزيد المقري ، عن سعيد بن أبي أيوب قال ، حدثني عقيل ، عن ابن شهاب : أنه كان يقول في متعة المطلقة : أعلاه الخادم ، وأدناه الكسوة والنفقة. ويرى أن ذلك على ما قال الله تعالى ذكره :
__________
(1) في المطبوعة : " عبد الرحمن بن أم سلمة " وهو خلط فاحش ، والصواب ما أثبته من المخطوطة . وأبو سلمة هو عبد الله الأصغر بن عبد الرحمن بن عوف ، وأمه تماضر ابنة الأصبغ بن عمرو الكلبية ، وهي أول كلبية نكحها قرشي . وإخوة أبي سلمة لأمه تماضر : أحيح وخالد ومريم ، بنو خالد بن عقبة بن أبي معيط ، خلف عليها بعد عبد الرحمن بن عوف.
وكانت العرب تسمي المتعة : التحميم. وعدي " حممها " إلى مفعولين ؛ لأنه في معنى أعطاها إياها .
(2) الأثر : 5204 - سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف الزهري ، رأى ابن عمر ، وروى عن أبيه وعميه حميد وأبي سلمة . مات سنة 127 ، مترجم في التهذيب . وأم حميد بن عبد الرحمن هي : أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط الأموية أخت عثمان بن عفان لأمه ، أسلمت قديما ، وبايعت ، وحبست عن الهجرة إلى أن هاجرت سنة سبع في الهدنة . ولدت لعبد الرحمن بن عوف حميد بن عبد الرحمن وإبراهيم بن عبد الرحمن ، ورويا عنها . مترجمة في التهذيب وغيره .

(5/123)


" على الموسع قدره وعلى المقتر قدره "
* * *
وقال آخرون : مبلغ ذلك - إذا اختلف الزوج والمرأة فيه - قدر نصف صداق مثل تلك المرأة المنكوحة بغير صداق مسمى في عقده. وذلك قول أبي حنيفة وأصحابه.
* * *
قال أبو جعفر : والصواب من القول في ذلك ما قال ابن عباس ومن قال بقوله : من أن الواجب من ذلك للمرأة المطلقة على الرجل على قدر عسره ويسره ، كما قال الله تعالى ذكره : " على الموسع قدره وعلى المقتر قدره " ، لا على قدر المرأة. ولو كان ذلك واجبا للمرأة على قدر صداق مثلها إلى قدر نصفه ، لم يكن لقيله تعالى ذكره : " على الموسع قدره وعلى المقتر قدره " ، معنى مفهوم ولكان الكلام : ومتعوهن على قدرهن وقدر نصف صداق أمثالهن.
وفي إعلام الله تعالى ذكره عباده أن ذلك على قدر الرجل في عسره ويسره ، لا على قدرها وقدر نصف صداق مثلها ، ما يبين عن صحة ما قلنا ، وفساد ما خالفه. وذلك أن المرأة قد يكون صداق مثها المال العظيم ، والرجل في حال طلاقه إياها مقتر لا يملك شيئا ، فإن قضي عليه بقدر نصف صداق مثلها ، ألزم ما يعجز عنه بعض من قد وسع عليه ، فكيف المقدور عليه ؟ (1) وإذا فعل ذلك به ، كان الحاكم بذلك عليه قد تعدى حكم قول الله تعالى ذكره : " على الموسع قدره وعلى المقتر قدره " - ولكن ذلك على قدر عسر الرجل ويسره ، لا يجاوز بذلك خادم أو قيمتها ، إن كان الزوج موسعا. وإن كان مقترا ، فأطاق أدنى ما يكون كسوه لها ، وذلك ثلاثة أثواب ونحو ذلك ، قضي عليه بذلك. وإن كان عاجزا عن ذلك ، فعلى قدر طاقته. وذلك على قدر اجتهاد الإمام العادل عند الخصومة إليه فيه.
* * *
__________
(1) المقدور عليه : المضيق عليه رزقه . قدر عليه رزقه (بالبناء للمجهول) : ضيق .

(5/124)


واختلف أهل التأويل في تأويل قوله. " ومتعوهن " ، هل هو على الوجوب ، أو على الندب ؟
فقال بعضهم : هو على الوجوب ، يقضى بالمتعة في مال المطلق ، كما يقضى عليه بسائر الديون الواجبة عليه لغيره. وقالوا : ذلك واجب عليه لكل مطلقة ، كائنة من كانت من نسائه.
* ذكر من قال ذلك :
5209 - حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا يزيد بن زريع قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قال : كان الحسن وأبو العالية يقولان : لكل مطلقة متاع ، دخل بها أو لم يدخل بها ، وإن كان قد فرض لها.
5210 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال ، حدثنا ابن علية ، عن يونس : أن الحسن كان يقول : لكل مطلقة متاع ، وللتي طلقها قبل أن يدخل بها ولم يفرض لها.
5211 - حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا عبد الوهاب قال ، حدثنا أيوب ، عن سعيد عن جبير في هذه الآية : ( وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ ) [سورة البقرة : 241] ، قال : كل مطلقة متاع بالمعروف حقا على المتقين.
5212 - حدثني يعقوب قال ، حدثنا ابن علية ، عن أيوب قال ، سمعت سعيد بن جبير يقول : لكل مطلقة متاع.
5213 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع قال : كان أبو العالية يقول : لكل مطلقة متعة. وكان الحسن يقول : لكل مطلقة متعة.
5214 - حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا أبو عامر قال ، حدثنا قرة قال ، سئل الحسن ، عن رجل طلق امرأته قبل أن يدخل بها ، وقد فرض لها : هل لها متاع ؟ قال الحسن : نعم والله! فقيل للسائل وهو أبو بكر الهذلي أو ما تقرأ

(5/125)


هذه الآية : ( وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ ) ؟ قال : نعم والله!
* * *
وقال آخرون : المتعة للمطلقة على زوجها المطلقها واجبة ، ولكنها واجبة لكل مطلقة سوى المطلقة المفروض لها الصداق. فأما المطلقة المفروض لها الصداق إذا طلقت قبل الدخول بها ، فإنها لا متعة لها ، وإنما لها نصف الصداق المسمى.
* ذكر من قال ذلك :
5215 - حدثنا ابن المثنى قال ، حدثنا عبد الوهاب قال ، حدثنا عبيد الله ، عن نافع : أن ابن عمر كان يقول : لكل مطلقة متعة ، إلا التي طلقها ولم يدخل بها ، وقد فرض لها ، فلها نصف الصداق ، ولا متعة لها.
5216 - حدثنا تميم بن المنتصر قال ، أخبرنا عبد الله بن نمير ، عن عبيد الله ، عن نافع ، عن ابن عمر بنحوه.
5217 - حدثنا محمد بن بشار قال ، حدثنا ابن أبي عدي وعبد الأعلى ، عن سعيد ، عن قتادة ، عن سعيد بن المسيب - في الذي يطلق امرأته وقد فرض لها - أنه قال في المتاع : قد كان لها المتاع في الآية التي في " الأحزاب " ، (1) فلما نزلت الآية التي في " البقرة " ، جعل لها النصف من صداقها إذا سمى ، ولا متاع لها ، وإذا لم يسم فلها المتاع.
5218 - حدثنا ابن المثنى قال ، حدثنا ابن أبي عدي وعبد الأعلى ، عن سعيد ، عن قتادة ، عن سعيد نحوه.
5219 - حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قال : كان سعيد بن المسيب يقول : إذا لم يدخل بها جعل لها في " سورة
__________
(1) ستأتي آية " سورة الأحزاب " بعد قليل في الأثر رقم 5220 .

(5/126)


الأحزاب " المتاع ، ثم أنزلت الآية التي في " سورة البقرة " : ( وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ ) ، فنسخت هذه الآية ما كان قبلها ، إذا كان لم يدخل بها ، وكان قد سمى لها صداقا ، فجعل لها النصف ولا متاع لها.
5220 - حدثنا ابن المثنى وابن بشار قالا حدثنا محمد بن جعفر قال ، حدثنا شعبة ، عن قتادة ، عن سعيد بن المسيب قال : نسخت هذه الآية : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ ) [سورة الأحزاب : 49] الآية التي في " البقرة " .
5221 - حدثنا ابن بشار وابن المثنى قالا حدثنا عبد الرحمن قال ، حدثنا سفيان ، عن حميد ، عن مجاهد قال : لكل مطلقة متعة ، إلا التي فارقها وقد فرض لها من قبل أن يدخل بها.
5222 - حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا عبد الرحمن قال ، حدثنا سفيان ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد - في التي يفارقها زوجها قبل أن يدخل بها ، وقد فرض لها ، قال : ليس لها متعة.
5223 - حدثني يعقوب قال ، حدثنا ابن علية قال ، حدثنا أيوب ، عن نافع قال : إذا تزوج الرجل المرأة وقد فرض لها ، ثم طلقها قبل أن يدخل بها ، فلها نصف الصداق ، ولا متاع لها. وإذا لم يفرض لها ، فإنما لها المتاع.
5224 - حدثنا يعقوب قال ، حدثنا ابن علية قال ، سئل ابن أبي نجيح وأنا أسمع : عن الرجل يتزاوج ثم يطلقها قبل أن يدخل بها ، وقد فرض لها ، هل لها متاع ؟ قال : كان عطاء يقول : لا متاع لها.

(5/127)


5225 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر ، عن أيوب ، عن نافع ، عن ابن عمر - في التي فرض لها ولم يدخل بها ، قال : إن طلقت ، فلها نصف الصداق ولا متعة لها.
5226 - حدثنا محمد بن المثنى قال ، حدثنا محمد بن جعفر قال ، حدثنا شعبة ، عن الحكم ، عن إبراهيم : أن شريحا كان يقول - في الرجل إذا طلق امرأته قبل أن يدخل بها ، وقد سمى لها صداقا - قال : لها في النصف متاع.
5227 - حدثنا ابن المثنى قال ، حدثنا عبد الرحمن ، عن شعبة ، عن الحكم ، عن إبراهيم ، عن شريح قال : لها في النصف متاع.
* * *
وقال آخرون : المتعة حق لكل مطلقة ، غير أن منها ما يقضى به على المطلق ، ومنها ما لا يقضى به عليه ، ويلزمه فيما بينه وبين الله إعطاؤه.
* ذكر من قال ذلك :
5228 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرازق قال ، أخبرنا معمر ، عن الزهري قال : متعتان ، إحداهما يقضى بها السلطان ، والأخرى حق على المتقين : من طلق قبل أن يفرض ويدخل ، فإنه يؤخذ بالمتعة ، فإنه لا صداق عليه. ومن طلق بعد ما يدخل أو يفرض ، فالمتعة حق.
5229 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو صالح قال ، حدثني الليث ، عن يونس ، عن ابن شهاب ، قال الله : " لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة ومتعوهن على الموسع قدره وعلى المقتر قدره متاعا بالمعروف حقا على المحسنين " ، فإذا تزوج الرجل المرأة ولم يفرض لها ، ثم طلقها من قبل أن يمسها وقبل أن يفرض لها ، فليس عليه إلا متاع بالمعروف ، يفرض لها السلطان بقدر ، وليس عليها عدة. وقال الله تعالى ذكره : " وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم " ، فإذا طلق الرجل المرأة

(5/128)


وقد فرض لها ولم يمسسها ، فلها نصف صداقها ، ولا عدة عليها.
5230 - حدثني محمد بن عبد الرحيم البرقي قال ، حدثنا عمرو بن أبي سلمة قال ، أخبرنا زهير ، عن معمر ، عن الزهري أنه قال : متعتان يقضى بإحداهما السلطان ، ولا يقضى بالأخرى : فالمتعة التي يقضي بها السلطان حقا على المحسنين ، والمتعة التي لا يقضي بها السلطان حقا على المتقين. (1)
* * *
وقال آخرون : لا يقضي الحاكم ولا السلطان بشيء من ذلك على المطلق ، وإنما ذلك من الله تعالى ذكره ندب وإرشاد إلى أن تمتع المطلقة.
* ذكر من قال ذلك :
5231 - حدثنا ابن المثنى قال ، حدثنا محمد بن جعفر قال ، حدثنا شعبة ، عن الحكم : أن رجلا طلق امرأته ، فخاصمته إلى شريح ، فقرأ الآية : ( وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ ) [سورة البقرة : 241] ، قال : إن كنت من المتقين ، فعليك المتعة. ولم يقض لها. قال شعبة : وجدته مكتوبا عندي عن أبي الضحى.
5223 - حدثني يعقوب قال ، حدثنا ابن علية ، عن أيوب ، عن محمد قال : كان شريح يقول في متاع المطلقة ، لا تأب أن تكون من المحسنين ، لا تأب أن تكون من المتقين.
5233 - حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا عبد الرحمن قال ، حدثنا سفيان ، عن أبي إسحاق أن شريحا قال للذي قد دخل بها : إن كنت من المتقين فمتع.
* * *
قال أبو جعفر : وكأن قائلي هذا القول ذهبوا في تركهم إيجاب المتعة فرضا
__________
(1) الأثر : 5230 - عمرو بن أبي سلمة التنيسي أبو حفص الدمشقي ، مترجم في التهذيب و " زهير " ، هو : زهير بن محمد التميمي ، مترجم في التهذيب . قال أحمد في عمرو بن أبي سلمة : " روى عن زهير أحاديث بواطيل ، كأنه سمعها من صدقة بن عبد الله ، فغلظ فقلبها عن زهير " . وكلاهما متكلم فيه .

(5/129)


للمطلقات ، إلى أن قول الله تعالى ذكره : " حقا على المحسنين " ، وقوله : " حقا على المتقين " ، دلالة على أنها لو كانت واجبة وجوب الحقوق اللازمة الأموال بكل حال ، لم يخصص المتقون والمحسنون بأنها حق عليهم دون غيرهم ، بل كان يكون ذلك معموما به كل أحد من الناس.
وأما موجبوها على كل أحد سوى المطلقة المفروض لها الصداق ، فإنهم اعتلوا بأن الله تعالى ذكره لما قال : " وللمطلقات متاع بالمعروف حقا على المتقين " ، كان ذلك دليلا على أن لك مطلقة متاعا سوى من استحدثناه الله تعالى ذكره في كتابه أو على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم. فلما قال : " وإذ طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم " ، كان في ذلك دليل عندهم على أن حقها النصف مما فرض لها ، لأن المتعة جعلها الله في الآية التي قبلها عندهم ، لغير المفروض لها. فكان معلوما عندهم بخصوص الله بالمتعة غير المفروض لها ، أن حكمها غير حكم التي لم يفرض لها إذا طلقها قبل المسيس ، (1) فيما لها على الزوج من الحقوق.
* * *
قال أبو جعفر : والذي هو أولى بالصواب من القول في ذلك عندي ، قول من قال : " لكل مطلقة متعة " ، لأن الله تعالى ذكره قال : " وللمطلقات متاع بالمعروف حقا على المتقين " ، فجعل الله تعالى ذكره ذلك لكل مطلقة ، ولم يخصص منهن بعضا دون بعض. فليس لأحد إحالة ظاهر تنزيل عام ، إلى باطن خاص ، إلا بحجة يجب التسليم لها. (2)
* * *
فإن قال قائل : فإن الله تعالى ذكره قد خص المطلقة قبل المسيس ، إذا كان
__________
(1) المسيس : المس ، مصدر " مس " ، كما سلف آنفًا ص : 118 .
(2) عند هذا الموضع ، انتهى التقسيم القديم الذي نقلت عنه مخطوطتنا ، وفيها بعد هذا ما نصه :
" وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم كثيرا "
ثم يبدأ بعده .
" بسم الله الرحمن الرحيم " .

(5/130)


مفروضا لها ، بقوله : (1) " وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم " ، إذ لم يجعل لها غير النصف من الفريضة ؟ (2)
قيل : إن الله تعالى ذكره إذا دل على وجوب شيء في بعض تنزيله ، ففي دلالته على وجوبه في الموضع الذي دل عليه ، الكفاية عن تكريره ، حتى يدل على بطول فرضه. وقد دل بقوله ، " وللمطلقات متاع بالمعروف " ، على وجوب المتعة لكل مطلقة ، فلا حاجة بالعباد إلى تكرير ذلك في كل آية وسورة. وليس في دلالته على أن للمطلقة قبل المسيس المفروض لها الصداق نصف ما فرض لها ، دلالة على بطول المتعة عنه. لأنه غير مستحيل في الكلام لو قيل : " وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن (3) وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم " والمتعة. (4) فلما لم يكن ذلك محالا في الكلام ، كان معلوما أن نصف الفريضة إذا وجب لها ، لم يكن في وجوبه لها نفي عن حقها من المتعة ، ولما لم يكن اجتماعهما للمطلقة محالا. وكان الله تعالى ذكره قد دل على وجوب ذلك لها ، وإن كانت الدلالة على وجوب أحدهما في آية غير الآية التي فيها الدلالة على وجوب الأخرى ثبت وصح وجوبهما لها.
هذا ، إذا لم يكن على أن للمطلقة المفروض لها الصداق إذا طلقت قبل
__________
(1) في المطبوعة : " قد خصص المطلقة . . . " وأثبت الصواب من المخطوطة .
(2) في المخطوطة والمطبوعة : " غير النصف الفريضة " ، والصواب زيادة " من " ، أو تكون " غير نصف الفريضة " ، بحذف الألف واللام من " النصف " .
(3) في المخطوطة : " تماسوهن " ، وقد أشرنا آنفًا ص : 118 ، تعليق : 1 إلى أنها هي قراءة أبي جعفر ، وأنها كانت مثبتة هكذا في أصله .
(4) يعني : بعطف " والمتعة " على قوله : " فنصف ما فرضتم " .

(5/131)


المسيس ، (1) دلالة غير قول الله تعالى ذكره : " وللمطلقات متاع بالمعروف " ، فكيف وفي قول الله تعالى ذكره : " لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة ومتعوهن " ، الدلالة الواضحة على أن المفروض لها إذا طلقت قبل المسيس ، لها من المتعة مثل الذي لغير المفروض لها منها ؟ وذلك أن الله تعالى ذكره لما قال : " لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة ، " كان معلوما بذلك أنه قد دل به على حكم طلاق صنفين من طلاق النساء : أحدهما المفروض له ، والآخر غير المفروض له. وذلك أنه لما قال : " أو تفرضوا لهن فريضة " ، علم أن الصنف الآخر هو المفروض له ، وأنها المطلقة المفروض لها قبل المسيس. لأنه قال : " لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم يمسوهن ، " ثم قال تعالى ذكره : " ومتعوهن " ، فأوجب المتعة للصنفين منهن جميعا ، المفروض لهن ، وغير المفروض لهن. فمن ادعى أن ذلك لأحد الصنفين ، سئل البرهان على دعواه من أصل أو نظير ، ثم عكس عليه القول في ذلك. فلن يقول في شيء منه قولا إلا ألزم في الآخر مثله.
* * *
قال أبو جعفر : وأرى أن المتعة للمرأة حق واجب ، إذا طلقت ، على زوجها المطلقها ، على ما بينا آنفا - يؤخذ بها الزوج كما يؤخذ بصداقها ، لا يبرئه منها إلا أداؤه إليها أو إلى من يقوم مقامها في قبضها منه ، أو ببراءة تكون منها له. وأرى أن سبيلها سبيل صداقها وسائر ديونها قبله ، يحبس بها إن طلقها فيها ، (2) إذا لم يكن له شيء ظاهر يباع عليه ، إذا امتنع من إعطائها ذلك.
وإنما قلنا ذلك ، لأن الله تعالى ذكره قال : " ومتعوهن ، " فأمر الرجال أن يمتعوهن ، وأمره فرض ، إلا أن يبين تعالى ذكره أنه عنى به الندب والإرشاد ، لما
__________
(1) في المطبوعة : " للمطلقة المفروض الصداق " بإسقاط " لها " ، والصواب من المخطوطة .
(2) في المطبوعة : " يحبس لها " ، وأثبت ما في المخطوطة .

(5/132)


قد بينا في كتابنا المسمى(بلطيف البيان عن أصول الأحكام) ، لقوله : " وللمطلقات متاع بالمعروف " . ولا خلاف بين جميع أهل التأويل أن معنى ذلك : وللمطلقات على أزواجهن متاع بالمعروف. وإذا كان ذلك كذلك ، فلن يبرأ الزوج مما لها عليه إلا بما وصفنا قبل ، من أداء أو إبراء على ما قد بينا.
* * *
فإن ظن ذو غباء أن الله تعالى ذكره إذ قال : " حقا على المحسنين " و " حقا على المتقين " ، أنها غير واجبة ، لأنها لو كانت واجبة لكانت على المحسن وغير المحسن ، والمتقي وغير المتقي فإن الله تعالى ذكره قد أمر جميع خلقه بأن يكونوا من المحسنين ومن المتقين ، وما وجب من حق على أهل الإحسان والتقى ، فهو على غيرهم أوجب ، ولهم ألزم.
وبعد ، فإن في إجماع الحجة على أن المتعة للمطلقة غير المفروض لها قبل المسيس واجبة بقوله : " ومتعوهن " ، وجوب نصف الصداق للمطلقة المفروض لها قبل المسيس بقول الله تعالى ذكره (1) فيما أوجب لهما من
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة : " وجوب نصف الصداق للمطلقة المفروض لها قبل المسيس ، قال الله تعالى ذكره فيما أوجب لها من ذلك . . . " . وقد وقفت طويلا على هذه العبارة ، فلم يخلص لها معنى عندي ، ولم أستحل أن أدعها بغير بيان فسادها ، وإثبات صحة ما رأيته . ومراد الطبري في سياق هذا الاحتجاج الأخير الذي بدأه في هذه الفقرة ، أن يتمم حجته في رد قول من ظن أن المتعة غير واجبة ، لقوله تعالى : " حقا على المحسنين " و " حقا على المتقين " ، فقال : إن قول الله تعالى " ومتعوهن " قد أوجبت المتعة للمطلقة غير المفروض لها قبل المسيس ، - كما أوجب قوله تعالى " فنصف ما فرضتم " ، نصف الصداق للمطلقة المفروض لها قبل المسيس - وهي الآية التي لم يذكر فيها : " حقا على المحسنين " ولا " حقا على المتقين " . ففي إجماع الحجة على وجوب ذلك لهما ، الدليل الواضح على أن قوله تعالى : " وللمطلقات متاع بالمعروف " ، يوجب المتعة لكل مطلقة - " وإن كان قال : حقا على المتقين " بعقب هذه الآية . ثم بين هذه الحجة في الفقرة التالية بيانا شافيا ، فقال إن إجماعهم على إيجاب المتعة للمطلقة غير المفروض لها بقوله : " ومتعوهن " مع تعقيب ذلك بقوله في الآية : " حقا على المحسنين " دليل على أن ذلك كذلك في قوله : " وللمطلقات متاع بالمعروف " ، مع تعقيب ذلك بقوله : " حقا على المتقين " ، فالمتعة واجبة لكل مطلقة ، كما وجبت في الآية الأخرى . من أجل هذا السياق الذي بينته ، رأيت أن نص المخطوطة والمطبوعة فاسد غير دال على معنى ، فاقتضى ذلك أن أجعل " قال الله تعالى ذكره " - " بقول الله تعالى ذكره " ، وأن أزيد بعدها : " فنصف ما فرضتم " ، وأن أجعل " فيما أوجب لها " - " فيما أوجب لهما " على التثنية . هذا ما رجح عندي وثبت وصح ، والحمد لله أولا وآخرا ، وكأنه الصواب في أصل الطبري إن شاء الله .

(5/133)


ذلك (1) الدليل الواضح أن ذلك حق واجب لكل مطلقة بقوله : " وللمطلقات متاع بالمعروف " ، وإن كان قال : " حقا على المتقين " .
ومن أنكر ما قلنا في ذلك ، سئل عن المتعة للمطلقة غير المفروض لها قبل المسيس. فإن أنكر وجوب ذلك خرج من قول جميع الحجة ، (2) ونوظر مناظرتنا المنكرين في عشرين دينارا زكاة ، والدافعين زكاة العروض إذا كانت للتجارة ، وما أشبه ذلك. (3) فإن أوجب ذلك لها ، سئل الفرق بين وجوب ذلك لها ، والوجوب لكل مطلقة ، وقد شرط فيما جعل لها من ذلك بأنه حق على المحسنين ، كما شرط فيما جعل للآخر بأنه حق على المتقين. فلن يقول في أحدهما قولا إلا ألزم في الآخر مثله.
* * *
قال أبو جعفر : واجمع الجميع على أن المطلقة غير المفروض لها قبل المسيس ، لا شيء لها على زوجها المطلقها غير المتعة.
* ذكر بعض من قال ذلك من الصحابة والتابعين رضي الله عنهم :
5234 - حدثنا أبو كريب ويونس بن عبد الأعلى قالا حدثنا ابن عيينة ، عن عمرو بن دينار ، عن عطاء ، عن ابن عباس قال : إذا طلق الرجل امرأته قبل أن يفرض لها وقبل أن يدخل بها ، فليس لها إلا المتاع.
5235 - حدثني يعقوب قال ، حدثنا ابن علية ، عن يونس قال ، قال الحسن : إن طلق الرجل امرأته ولم يدخل بها ولم يفرض لها ، فليس لها إلا المتاع.
__________
(1) قوله : " الدليل الواضح " اسم " إن " في قوله في أول الفقرة : " فإن في إجماع الحجة . . . "
(2) في المخطوطة : " فإن أنكر وجوب من قول جميع الحجة " ، وهو خطأ بين ، وفي المطبوعة : " وجوبه " ورجحت ما أثبت .
(3) يعني بذلك ما كان في إجماع كإجماعهم على وجوب الزكاة في عشرين دينارا ، ووجوب زكاة العروض إذا كانت للتجارة ، فيجادل في أمر المتعة ، بما يجادل به المنكر والدافع لوجوب الزكاة فيهما .

(5/134)


5236 - حدثني يعقوب قال ، حدثنا ابن علية قال ، أخبرنا أيوب ، عن نافع قال : إذا تزوج الرجل المرأة ثم طلقها ولم يفرض لها ، فإنما لها المتاع.
5237 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثني الليث ، عن يونس ، عن ابن شهاب قال : إذا تزوج الرجل المرأة ولم يفرض لها ، ثم طلقها قبل أن يمسها وقبل أن يفرض لها ، فليس لها عليه إلا المتاع بالمعروف.
5238 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله : " لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة ، " قال : ليس لها صداق إلا متاع بالمعروف.
5239 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد بنحوه - إلا أنه قال : ولا متاع إلا بالمعروف.
5240 - حدثني موسى قال ، حدثنا عمرو قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : " لا جناح عليكم إذ طلقتم النساء ما لم تمسوهن " إلى : " ومتعوهن " قال : هذا الرجل توهب له فيطلقها قبل أن يدخل بها ، فإنما عليه المتعة.
5241 - حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قال في هذه الآية : هو الرجل يتزوج المرأة ولا يسمي لها صداقا ، ثم يطلقها قبل أن يدخل بها ، فلها متاع بالمعروف ، ولا فريضة لها.
5242 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع مثله.
5243 - حدثنا عن الحسين بن الفرج قال ، سمعت أبا معاذ يقول ، [حدثنا عبيد بن سليمان قال] ، سمعت الضحاك يقول في قوله : " ما لم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة " ، هذا رجل وهبت له امرأته ، فطلقها من قبل أن يمسها ، فلها المتعة ولا فريضة لها ، وليست عليها عدة.
* * *

(5/135)


قال أبو جعفر : وأما " الموسع " ، فهو الذي قد صار من عيشه إلى سعة وغنى ، يقال منه : " أوسع فلان فهو يوسع إيساعا وهو موسع " .
* * *
وأما " المقتر " ، فهو المقل من المال ، يقال : " قد أقتر فهو يقتر إقتارا ، وهو مقتر " .
* * *
واختلف القرأة في قراءة " القدر " . (1)
فقرأه بعضهم : " على الموسع قدره وعلى المقتر قدره " . بتحريك " الدال " إلى الفتح من " القدر " ، توجيها منهم ذلك إلى الاسم من " التقدير " ، الذي هو من قول القائل : " قدر فلان هذا الأمر " .
* * *
وقرأ آخرون بتسكين " الدال " منه ، توجيها منهم ذلك إلى المصدر من ذلك ، كما قال الشاعر. (2)
وما صب رجلي في حديد مجاشع... مع القدر ، إلا حاجة لي أريدها (3)
* * *
والقول في ذلك عندي أنهما جميعا قراءتان قد جاءت بهما الأمة ، ولا تحيل القراءة بإحداهما معنى في الأخرى ، بل هما متفقتا المعنى. فبأي - القراءتين قرأ القارئ ذلك ، فهو للصواب مصيب.
وإنما يجوز اختيار بعض القراءات على بعض لبينونة المختارة على غيرها بزيادة
__________
(1) في المطبوعة : " واختلف القراء " ، وأثبت ما في المخطوطة ، والمطبوعة تغير نص المخطوطة حيثما ذكر " القَرَأَة " إلى " القراء " ، فلن نشير إليه بعد هذا الوضع .
(2) هو الفرزدق فيما يقال .
(3) ديوانه : 215 نقلا عن اللسان (صبب) ، وهو في اللسان أيضًا في (قدر) ، ومقاييس اللغة 5 : 62 ، والأساس (صبب) ، وإصلاح المنطق : 109 ، وتهذيب إصلاح المنطق 1 : 168 وقال أبو محمد : " ذكر يعقوب أن هذا البيت للفرزدق ، ولم أجده في شعره ولا في أخباره " . وكأن البيت ليس للفرزدق ، لذكره " حديد مجاشع " ، وهو جده . وجرير كان يعيره بأنه " ابن القين " ، فأنا أستبعد أن يذكر الفرزدق في شعره " حديد مجاشع " . وقال التبريزي في شرح البيت : " يقول : كان حبسي قدره الله علي ، وكان لي فيه حاجة ، ولم يكن لي منه بد " . وهو معنى غير بين . ويقال : صب القيد في رجله ، أي قيد .

(5/136)


معنى أوجبت لها الصحة دون غيرها. وأما إذا كانت المعاني في جميعها متفقة ، فلا وجه للحكم لبعضها بأنه أولى أن يكون مقروءا به من غيره.
* * *
قال أبو جعفر : فتأويل الآية إذا : لا حرج عليكم ، أيها الناس ، لأن طلقتم النساء وقد فرضتم لهن ما لم تماسوهن ، (1) وإن طلقتموهن ما لم تماسوهن قبل أن تفرضوا لهن ، ومتعوهن جميعا على ذي السعة والغنى منكم من متاعهن حينئذ بقدر غناه وسعته ، وعلى ذي الإقتار والفاقة منكم منه بقدر طاقته وإقتاره.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ (236) }
قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بذلك : ومتعوهن متاعا. وقد يجوز أن يكون " متاعا " منصوبا قطعا من " القدر " . (2) لأن " المتاع " نكرة ، و " القدر " معرفة.
* * *
ويعني بقوله : " بالمعروف " ، بما أمركم الله به من إعطائكم إياهن ذلك ، (3) بغير ظلم ، ولا مدافعة منكم لهن به. (4)
ويعني بقوله : " حقا على المحسنين " ، متاعا بالمعروف الحق على المحسنين. فلما دل إدخال " الألف واللام " على " الحق " ، وهو من نعت " المعروف " ، و " المعروف " معرفة ، و " الحق " نكرة ، نصب على القطع منه ، (5) كما يقال : " أتاني الرجل راكبا " .
__________
(1) في المخطوطة والمطبوعة : " لأن طلقتم النساء " والسياق يقتضي صواب ما أثبت .
(2) القطع : الحال ، وانظر فهرس المصطلحات في الأجزاء السالفة .
(3) في المطبوعة : " من إعطائكم لهن ذلك " ، وفي المخطوطة " إعطائكم هن " قد سقط منها " إيا " .
(4) انظر معنى " المعروف " فيما سلف 3 : 371 / ثم 4 : 547 ، 548 / 5 : 7 ، 44 ، 76 ، 93 .
(5) القطع : الحال ، وانظر فهرس المصطلحات في الأجزاء السالفة .

(5/137)


وجائز أن يكون نصب على المصدر من جملة الكلام الذي قبله ، كقول القائل : " عبد الله عالم حقا " ، ف " الحق " منصوب من نية كلام المخبر ، كأنه قال : أخبركم بذلك حقا. (1)
والتأويل الأول هو وجه الكلام ، لأن معنى الكلام : فمتعوهن متاعا بمعروف حق على كل من كان منكم محسنا.
* * *
وقد زعم بعضهم أن ذلك منصوب بمعنى : أحق ذلك حقا. والذي قاله من ذلك ، بخلاف ما دل عليه ظاهر التلاوة. لأن الله تعالى ذكره جعل المتاع للمطلقات حقا لهن على أزواحهن ، فزعم قائل هذا القول أن معنى ذلك أن الله تعالى ذكره أخبر عن نفسه أنه يحق أن ذلك على المحسنين. فتأويل الكلام إذا - إذ كان الأمر كذلك - : ومتعوهن على الموسع قدره ، وعلى المقتر قدره متاعا بالمعروف الواجب على المحسنين.
* * *
ويعني بقوله : " المحسنين " ، الذين يحسنون إلى أنفسهم في المسارعة إلى طاعة الله فيما ألزمهم به ، وأدائهم ما كلفهم من فرائضه.
* * *
قال أبو جعفر : فإن قال قائل : إنك قد ذكرت أن " الجناح " هو الحرج ، (2) وقد قال الله تعالى ذكره : " لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن " ، فهل علينا من جناح لو طلقناهن بعد المسيس ، فيوضع عنا بطلاقنا إياهن قبل المسيس ؟ قيل : قد روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " إن الله لا يحب الذواقين ولا الذواقات " . (3)
__________
(1) انظر معاني القرآن للفراء 1 : 154 - 155 .
(2) انظر معنى " الجناح " في فهارس اللغة عن هذا الجزء والأجزاء السالفة .
(3) رجل ذواق : مطلاق كثير النكاح ، كثير الطلاق ، وكذلك المرأة . والذوق : استطراف النكاح وقتا بعد وقت ، كأنه يذوق ويختبر ، ثم يتحول ليذوق غيره .

(5/138)


5244 - حدثنا بذلك ابن بشار قال ، حدثنا ابن أبي عدي وعبد الأعلى ، عن سعيد ، عن قتادة ، عن شهر بن حوشب ، عن النبي صلى الله عليه وسلم. (1)
* * *
وروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : " ما بال أقوام يلعبون بحدود الله ، يقولون : قد طلقتك ، قد راجعتك ، قد طلقتك " .
5245 - حدثنا بذلك ابن بشار قال ، حدثنا مؤمل قال ، حدثنا سفيان ، عن أبي إسحاق ، عن أبي بردة ، عن أبيه ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. (2)
* * *
فجائز أن يكون " الجناح " الذي وضع عن الناس في طلاقهم نساءهم قبل المسيس ، هو الذي كان يلحقهم منه بعد ذوقهم إياهن ، كما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
* * *
__________
(1) الحديث : 5244 - شهر بن حوشب : تابعي ثقة ، كما بينا في : 1489 . فالحديث بهذا الإسناد مرسل . وقد ذكره الهيثمي في مجمع الزوائد 4 : 335 ، من حديث عبادة بن الصامت . وقال : " رواه الطبراني ، وفيه راو لم يسم . وبقية إسناده حسن " . وذكر أيضًا حديثا لأبي موسى ، مرفوعا : " لا تطلق النساء إلا من ريبة ، إن الله تبارك وتعالى لا يحب الذواقين ولا الذواقات " . وقال : " رواه الطبراني في الكبير والأوسط . وأحد أسانيد البزار فيه عمران القطان ، وثقه أحمد وابن حبان ، وضعفه يحيى بن سعيد وغيره " . وليس بين يدي أسانيد هذين الحديثين ، حتى أعرف مدى درجاتهما ، ولا أن شهر بن حوشب روى واحدا منها . وقوله : " الذواقين والذواقات " - قال ابن الأثير : " يعني السريعي النكاح السريعي الطلاق " . وذكره الزمخشري في المجاز من كتاب الأساس . وقال : " كلما تزوج أو تزوجت ، مد عينه أو عينها إلى أخرى أو آخر " .
(2) الحديث : 5245 - هذا إسناد صحيح . ورواه ابن ماجه : 2017 ، عن محمد بن بشار - شيخ الطبري هنا - بهذا الإسناد . وقد مضت الإشارة إليه ، وإلى ما قيل في تعليله والرد عليه . وإلى رواية البيهقي إياه من هذا الوجه ومن رواية موسى بن مسعود عن سفيان الثوري في : 4925 ، 4926 . ولم نكن رأينا رواية الطبري - هذه ، إذ ذاك .

(5/139)


وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (237)

وقد كان بعضهم يقول : معنى قوله في هذا الموضع : " لا جناح " ، لا سبيل عليكم للنساء - إن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن ، ولم تكونوا فرضتم لهن فريضة - في إتباعكم بصداق ولا نفقة. وذلك مذهب ، لولا ما قد وصفت من أن المعني بالطلاق قبل المسيس في هذه الآية صنفان من النساء : أحدهما المفروض لها ، والآخر غير المفروض لها. فإذ كان ذلك كذلك ، فلا وجه لأن يقال : لا سبيل لهن عليكم في صداق ، إذا كان الأمر على ما وصفنا.
* * *
وقد يحتمل ذلك أيضا وجها آخر : وهو أن يكون معناه : لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تماسوهن ، في أي وقت شئتم طلاقهن. لأنه لا سنة في طلاقهن ، فللرجل أن يطلقهن إذا لم يكن مسهن حائضا وطاهرا في كل وقت أحب. وليس ذلك كذلك في المدخول بها التي قد مست ، لأنه ليس لزوجها طلاقها إن كانت من أهل الأقراء - إلا للعدة طاهرا في طهر لم يجامع فيه. فيكون " الجناح " الذي أسقط عن مطلق التي لم يمسها في حال حيضها ، (1) هو " الجناح " الذي كان به مأخوذا المطلق بعد الدخول بها في حال حيضها ، أو في طهر قد جامعها فيه.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلا أَنْ يَعْفُونَ }
قال أبو جعفر : وهذا الحكم من الله تعالى ذكره ، إبانة عن قوله : " لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة " . (2) وتأويل ذلك :
__________
(1) في المخطوطة : " لم يمسهن " وهو خطأ وسهو .
(2) في المخطوطة : " ما لم تماسوهن " ، وهي قراءة الطبري كما أسلفنا مرارا . وستأتي على قراءته في تأويل الآية .

(5/140)


لا جناح عليكم أيها الناس إن طلقتم النساء ما لم تماسوهن وقد فرضتم لهن فريضة ، فلهن عليكم نصف ما كنتم فرضتم لهن من قبل طلاكم إياهن ، يعني بذلك : فلهن عليكم نصف ما أصدقتموهن.
وإنما قلنا : إن تأويل ذلك كذلك ، لما قد قدمنا البيان عنه من أن قوله : " أو تفرضوا لهن فريضه " ، بيان من الله تعالى ذكره لعباده حكم غير المفروض لهن إذا طلقهن قبل المسيس. فكان معلوما بذلك أن حكم اللواتي عطف عليهن ب " أو " ، غير حكم المعطوف بهن بها.
وإنما كرر تعالى ذكره قوله : " وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة " ، وقد مضى ذكرهن في قوله : " لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن " ليزول الشك عن سامعيه واللبس عليهم ، من أن يظنوا أن التي حكمها الحكم الذي وصفه في هذه الآية ، هي غير التي ابتدأ بذكرها وذكر حكمها في الآية التي قبلها.
* * *
وأما قوله : " إلا أن يعفون " ، فإنه يعني : إلا أن يعفو اللواتي وجب لهن عليكم نصف تلك الفريضة ، فيتركنه لكم ، ويصفحن لكم عنه تفضلا منهن بذلك عليكم ، إن كن ممن يجوز حكمه في ماله وهن بوالغ رشيدات ، فيجوز عفوهن حينئذ ما عفون عنكم من ذلك ، فيسقط عنكم ما كن عفون لكم عنه منه. وذلك النصف الذي كان وجب لهن من الفريضة بعد الطلاق وقيل العفو إن عفت عنه - أو ما عفت عنه. (1)
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قالة أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
5246 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثني
__________
(1) السياق : وذلك النصف . . . أو ما عفت عنه .

(5/141)


معاوية بن صالح ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : " وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم " ؛ فهذا الرجل يتزوج المرأة وقد سمى لها صداقا ، ثم يطلقها من قبل أن يمسها ، فلها نصف صداقها ، ليس لها أكثر من ذلك.
5247 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : " وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم " ، (1) قال : إن طلق الرجل امرأته وقد فرض لها ، فنصف ما فرض ، إلا أن يعفون.
5248 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد مثله.
5249 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة : " وإذ طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم " ، فنسخت هذه الآية ما كان قبلها ، إذا كان لم يدخل بها وقد كان سمى لها صداقا ، فجعل لها النصف ولا متاع لها.
5250 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : " وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم " ، قال : هو الرجل يتزوج المرأة وقد فرض لها صداقا ثم طلقها قبل أن يدخل بها ، فلها نصف ما فرض لها ، ولها المتاع ، ولا عدة عليها.
5251 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثنا الليث ، عن يونس ، عن ابن شهاب : " وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم
__________
(1) ساق بقية الآية في المطبوعة ، وأخطأ الناسخ في المخطوطة ، فساق بقيتها ولم يتمها ، ووضع في أول ما أراد حذفه " لا " وفي آخره " إلى " ، وهي علامة الحذف قديما ، تقوم مقام الضرب عليها بالقلم والمداد .

(5/142)


لهن فريضة فنصف ما فرضتم " ، قال : إذا طلق الرجل المرأة وقد فرض لها ولم يمسها ، فلها نصف صداقها ولا عدة عليها.
* * *
* ذكر من قال في قوله : " إلا أن يعفون " القول الذي ذكرناه من التأويل :
5252 - حدثني المثنى قال ، حدثنا حبان بن موسى قال ، أخبرنا ابن المبارك ، قال ، أخبرنا يحيى بن بشر : أنه سمع عكرمة يقول : إذا طلقها قبل أن يمسها وقد فرض لها ، فنصف الفريضة لها عليه ، إلا أن تعفو عنه فتتركه.
5253 - حدثنا عن الحسين قال ، سمعت أبا معاذ قال ، أخبرنا عبيد بن سليمان قال ، سمعت الضحاك يقول في قوله : " إلا أن يعفون " ، قال : المرأة تترك الذي لها.
5254 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثني معاوية بن صالح ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : " إلا أن يعفون " ، هي المرأة الثيب أو البكر يزوجها غير أبيها ، فجعل الله العفو إليهن : إن شئن عفون فتركن ، وإن شئن أخذن نصف الصداق.
5255 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : " إلا أن يعفون " ، تترك المرأة شطر صداقها ، وهو الذي لها كله.
5256 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد مثله.
5257 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع قوله : " إلا إذ يعفون " ، قال : المرأة تدع لزوحها النصف.
5258 - حدثنا حميد بن مسعدة قال ، حدثنا يزيد بن زريع قال ، حدثني

(5/143)


عبد الله بن عون ، عن محمد بن سيرين ، عن شريح : " إلا أن يعفون " ، قال : إن شاءت المرأة عفت فتركت الصداق.
5259 - حدثنا حميد بن مسعدة قال ، حدثنا بشر بن المفضل قال ، حدثنا عبد الله بن عون ، عن محمد بن سيرين ، عن شريح مثله.
5260 - حدثنا ابن المثنى قال ، حدثنا عبد الوهاب قال ، حدثنا عبيد الله ، عن نافع قوله : " إلا أن يعفون " ، هي المرأة يطلقها زوجها قبل أن يدخل بها ، فتعفو عن النصف لزوجها.
5261 - حدثني موسى قال ، حدثنا عمرو قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : " إلا أن يعفون " ، أما أن " يعفون " ، فالثيب أن تدع من صداقها ، أو تدعه كله.
5262 - حدثنا المثنى قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثني الليث ، عن يونس ، عن ابن شهاب : " إلا أن يعفون " ، قال : العفو إليهن ، إذا كانت المرأة ثيبا فهي أولى بذلك ، ولا يملك ذلك عليها ولي ، لأنها قد ملكت أمرها. فإن أرادت أن تعفو فتضع له نصفها الذي عليه من حقها ، جاز ذلك. وإن أرادت أخذه ، فهي أملك بذلك.
5263 - حدثني المثنى قال ، حدثنا حبان بن موسى قال ، أخبرنا ابن المبارك قال ، أخبرنا معمر قال ، وحدثني ابن شهاب : " إلا أن يعفون " ، قال : النساء.
5264 - حدثنا أبو هشام الرفاعي قال ، حدثنا عبيد الله ، عن إسرائيل ، عن السدي ، عن أبي صالح : " إلا أن يعفون " ، قال : الثيب تدع صداقها.
5265 - حدثنا أبو هشام قال ، حدثنا أبو أسامة حماد بن زيد بن أسامة قال ، حدثنا إسماعيل ، عن الشعبي ، عن شريح : " إلا أن يعفون " ، قال قال : تعفو المرأة عن الذي لها كله.
* * *

(5/144)


قال أبو جعفر : ما سمعت أحدا يقول : " حماد بن زيد بن أسامة " ، إلا أبا هشام. (1)
* * *
5266 - حدثنا أبو هشام قال ، حدثنا عبدة ، عن سعيد ، عن قتادة ، عن سعيد بن المسيب قال : إن شاءت عفت عن صداقها يعني في قوله : " إلا أن يعفون " .
5267 - حدثنا أبو هشام قال ، (2) حدثنا عبيد الله ، عن إسرائيل ، عن أبي حصين ، عن شريح قال : تعفو المرأة وتدع نصف الصداق.
5268 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال ، حدثنا ابن علية ، عن ابن جريج قال ، قال الزهري : " إلا أن يعفون " ، الثيبات.
5269 - حدثني يعقوب قال ، حدثنا ابن علية ، عن ابن جريج قال ، قال مجاهد : " إلا أن يعفون " ، قال : تترك المرأة شطرها.
5270 - حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : " إلا أن يعفون " ، يعني النساء.
5271 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد : " إلا أن يعفون " ، إن كانت ثيبا عفت.
5272 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر ، عن الزهري قوله : " إلا أن يعفون " ، يعني المرأة.
5273 - حدثني علي بن سهل قال ، حدثنا زيد وحدثنا ابن حميد قال ، حدثنا مهران جميعا ، عن سفيان : " إلا أن يعفون " ، قال : المرأة إذا لم يدخل بها : أن تترك له المهر ، فلا تأخذ منه شيئا.
* * *
__________
(1) الأثر : 5265 - هو " حماد بن أسامة بن زيد " ، وقد سلفت ترجمته في رقم : 29 ، 51 ، 223 والذي قاله أبو هشام الرفاعي لم يذكر في كتب التراجم .
(2) في المخطوطة والمطبوعة : " ابن هشام " ، والصواب أبو هشام الرفاعي ، الذي مضى في الأسانيد السالفة .

(5/145)


القول في تأويل قوله تعالى : { أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ }
قال أبو جعفر : اختلف أهل التأويل فيمن عنى الله تعالى ذكره بقوله : " الذي بيده عقدة النكاح " .
فقال بعضهم : هو ولي البكر. وقالوا : ومعنى الآية : أو يترك ، الذي يلي على المرأة عقد نكاحها من أوليائها ، للزوج النصف الذي وجب للمطلقة عليه قبل مسيسه فيصفح له عنه ، إن كانت الجارية ممن لا يجوز لها أمر في مالها.
* ذكر من قال ذلك :
5274 - حدثني يعقوب قال ، حدثنا ابن علية ، عن ابن جريج ، عن عمرو بن دينار ، عن عكرمة قال : قال ابن عباس رضي الله عنه : أذن الله في العفو وأمر به ، فإن عفت فكما عفت ، وإن ضنت وعفا وليها جاز وإن أبت.
5275 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثني معاوية بن صالح ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : " أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح " ، وهو أبو الجارية البكر ، جعل الله سبحانه العفو إليه ، ليس لها معه أمر إذا طلقت ، ما كانت في حجره.
5276 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا هشيم قال ، أخبرنا الأعمش ، عن إبراهيم ، عن علقمة : " الذي بيده عقدة النكاح " ، الولي.
5277 - حدثني أبو السائب قال ، حدثنا أبو معاوية ، عن الأعمش ، عن إبراهيم ، قال ، قال علقمة : هو الولي.
5278 - حدثنا أبو هشام قال ، حدثنا وكيع ، عن سفيان ، عن الأعمش ، عن إبراهيم ، عن علقمة أنه قال : هو الولي.
5279 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا معمر ، عن حجاج ، عن النخعي ، عن علقمة قال : هو الولي.

(5/146)


5280 - حدثنا أبو هشام قال ، حدثنا عبيد الله ، عن بيان النحوي ، (1) عن الأعمش ، عن إبراهيم ، عن علقمة وأصحاب عبد الله قالوا : هو الولي.
5281 - حدثنا أبو هشام قال ، حدثنا وكيع ، عن سفيان ، عن الأعمش ، عن إبراهيم ، عن علقمة أنه قال : هو الولي.
5282 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا معمر ، عن حجاج ، أن الأسود بن زيد ، قال : هو الولي.
5283 - حدثنا أبو هشام قال ، حدثنا أبو خالد ، عن شعبة ، عن أبي بشر قال : قال طاوس ومجاهد : هو الولي ثم رجعا فقالا هو الزوج.
5284 - حدثني يعقوب قال ، حدثنا هشيم قال ، أخبرنا أبو بشر قال ، قال مجاهد وطاوس : هو الولي ثم رجعا فقالا هو الزوج.
5285 - حدثنا أبو هشام قال ، حدثنا ابن فضيل ، عن الأعمش ، عن إبراهيم ، عن علقمة قال : هو الولي.
5286 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا جرير ، عن مغيرة ، عن الشعبي قال : زوج رجل أخته ، فطلقها زوجها قبل أن يدخل بها ، فعفا أخوها عن المهر ، فأجازه شريح ثم قال : أنا أعفو عن نساء بني مرة. فقال عامر : لا والله ، ما قضى قضاء قط أحق منه : أن يجيز عفو الأخ في قوله : " إلا أن يعفون أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح " ، فقال فيها شريح بعد : هو الزوج ، إن عفا عن الصداق كله فسلمه إليها كله ، أو عفت هي عن النصف الذي سمى لها ، وإن تشاحا كلاهما أخذت نصف صداقها ، قال : " وأن تعفوا هو أقرب للتقوى " . (2)
__________
(1) هكذا في المخطوطة والمطبوعة : " بيان النحوي " ، وأنا أرجح أنه : شيبان بن عبد الرحمن التميمي النحوي . مترجم في التهذيب يروي عن الأعمش ، ويروي عنه عبيد الله بن موسى . فكأن الصواب " شيبان النحوي " .
(2) الأثر : 5286 - رواه البيهقي في السنن 8 : 251 بإسناده " عن سعيد بن منصور ، عن جرير ، عن مغيرة " بغير هذا اللفظ ، ولكنه يصححه . فقد كان في المطبوعة والمخطوطة " ما قضى قضاء قط أحق منه " ، والصواب من البيهقي ، وما أعرف قومه : " نساء بني مرة " . كأن مرة من أهله ، أخت أو بنته . والله أعلم .

(5/147)


5287 - حدثني يعقوب قال ، حدثنا ابن علية قال ، حدثنا جرير بن حازم ، عن عيسى بن عاصم الأسدي : أن عليا سأل شريحا عن الذي بيده عقدة النكاح ، فقال : هو الولي.
5288 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا هشيم ، قال مغيرة ، أخبرنا عن الشعبي ، عن شريح أنه كان يقول : الذي بيده عقدة النكاح هو الولي - ثم ترك ذلك فقال : هو الزوج.
5289 - حدثني يعقوب قال ، حدثنا هشيم قال ، أخبرنا سيار ، عن الشعبي : أن رجلا تزوج امرأة فوجدها دميمة فطلقها قبل أن يدخل بها ، فعفا وليها عن نصف الصداق ، قال : فخاصمته إلى شريح فقال لها شريح : قد عفا وليك. قال : ثم إنه رجع بعد ذلك ، فجعل الذي بيده عقدة النكاح : الزوج.
5290 - حدثنا ابن بشار وابن المثنى قالا حدثنا عبد الأعلى قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة ، عن الحسن - في الذي بيده عقدة النكاح - قال : الولي.
5291 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا هشيم ، عن منصور أو غيره ، عن الحسن ، قال : هو الولي.
5292 - حدثنا أبو هشام قال ، حدثنا ابن إدريس ، عن هشام ، عن الحسن قال : هو الولي.
5293 - حدثني يعقوب قال ، حدثنا ابن علية ، عن أبي رجاء قال : سئل الحسن عن الذي بيده عقدة النكاح ، قال : هو الولي.
5294 - حدثنا أبو هشام قال ، حدثنا وكيع ، عن يزيد بن إبراهيم ، عن الحسن ، قال : هو الذي أنكحها.
5295 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا هشيم ، عن مغيرة ، عن إبراهيم قال : الذي بيده عقدة النكاح ، هو الولي.
5296 - حدثنا أبو هشام قال ، حدثنا وكيع وابن مهدي ، عن سفيان ، عن منصور ، عن إبراهيم قال : هو الولي.

(5/148)


5297 - حدثنا أبو هشام قال ، حدثنا ابن مهدي ، عن أبي عوانة ، عن مغيرة ، عن إبراهيم والشعبي قالا هو الولي.
5298 - حدثني يعقوب قال ، حدثنا ابن علية قال ، أخبرنا ابن جريج ، عن عطاء قال : هو الولي.
5299 - حدثنا أبو هشام قال ، حدثنا عبيد الله ، عن إسرائيل ، عن السدي ، عن أبي صالح : " أو يعفو الذي بيد عقدة النكاح " ، قال : ولي العذراء.
5300 - حدثني يعقوب قال ، حدثنا ابن علية ، عن ابن جريج قال : قال لي الزهري : " أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح " ، ولي البكر.
5301 - حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : " أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح " ، هو الولي.
5302 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر قال ، أخبرنا ابن طاوس ، عن أبيه وعن رجل ، عن عكرمة قال معمر : وقاله الحسن أيضا قالوا : الذي بيده عقدة النكاح ، الولي.
5303 - حدثنا الحسن قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر ، عن الزهري قال : الذي بيده عقدة النكاح ، الأب.
5304 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا الثوري ، عن منصور ، عن إبراهيم عن علقمة قال : هو الولي.
5305 - حدثني المثنى قال ، حدثنا الحماني قال ، حدثنا شريك ، عن سالم ، عن مجاهد قال : هو الولي.
5306 - حدثني موسى قال ، حدثنا عمرو قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : " الذي بيده عقدة النكاح " ، هو ولي البكر.

(5/149)


5307 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد - في الذي بيده عقدة النكاح - : الوالد ذكره ابن زيد عن أبيه.
5308 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب ، عن مالك ، عن زيد وربيعة : " الذي بيده عقدة النكاح " ، الأب في ابنته البكر ، والسيد في أمته. (1)
5309 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال مالك : وذلك إذا طلقت قبل الدخول بها ، فله أن يعفو عن نصف الصداق الذي وجب لها عليه ، ما لم يقع طلاق.... (2)
5310 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو صالح قال ، حدثني الليث ، عن يونس ، عن ابن شهاب قال : الذي بيدة عقدة النكاح ، هي البكر التي يعفو وليها ، فيجوز ذلك ، ولا يجوز عفوها هي.
5311 - حدثني المثنى قال ، حدثنا حبان بن موسى قال ، أخبرنا ابن المبارك قال ، أخبرنا يحيى بن بشر ، أنه سمع عكرمة يقول : " إلا أن يعفون " ، أن تعفو المرأة عن نصف الفريضة لها عليه فتتركه. فإن هي شحت إلا أن تأخذه ، فلها ولوليها الذي أنكحها الرجل عم ، أو أخ ، أو أب أن يعفو عن النصف ، فإنه إن شاء فعل وإن كرهت المرأة.
5312 - حدثنا سعيد بن الربيع الرازي قال ، حدثنا سفيان ، عن عمرو بن دينار ، عن عكرمة قال : أذن الله في العفو وأمر به ، فإن امرأة عفت جاز عفوها ، وإن شحت وضنت عفا وليها وجاز عفوه. (3) .
__________
(1) الأثر : 5308 - في الموطأ : 528 .
(2) مكان النقط بياض في المطبوعة والمخطوطة . وقد جهدت أن أجد نص مالك فيما بين يدي من الكتب ، فلم أجده .
(3) الخبر : 5312 - سعيد بن الربيع الرازي ، شيخ الطبري : لم نجد له ترجمة بعد طول البحث . وستأتي الرواية عنه أيضًا : 5520 ، دون نسبته الرازي " . وفي المطبوعة " المرادي " - بدل " الرازي " . وهو خطأ . فإن ابن كثير نقل هذا الخبر 1 : 574 ، عن هذا الموضع ، وفيه " الرازي " . وكذلك روى الطبري عنه ، في كتاب " ذيل المذيل " ، الملحق بتاريخه 13 : 53 ، قال : " حدثني حوثرة بن محمد المنقري ، وسعيد بن الربيع الرازي ، قالا : حدثنا سفيان ، عن عمرو . . " . ثم لم نجدهم ذكروا للربيع بن سليمان المرادي ولدا .

(5/150)


5313 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا جرير ، عن منصور ، عن إبراهيم قال : الذي بيده عقدة النكاح ، الولي.
* * *
وقال آخرون : بل الذي بيده عقدة النكاح ، الزوج. قالوا : ومعنى ذلك : أو يعفو الذي بيده نكاح المرأة فيعطيها الصداق كاملا.
* ذكر من قال ذلك :
5314 - حدثنا محمد بن بشار قال ، حدثنا أبو شحمة قال ، حدثنا حبيب ، عن الليث ، عن قتادة ، عن خلاس بن عمرو ، عن علي قال : الذي بيده عقدة النكاح ، الزوج. (1)
5315 - حدثني يعقوب قال ، حدثنا ابن علية قال ، حدثنا جرير بن حازم ، عن عيسى بن عاصم الأسدي : أن عليا سأل شريحا عن الذي بيده عقدة النكاح فقال : هو الولي. فقال علي : لا ولكنه الزوج.
5316 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا إبراهيم قال ، حدثنا جرير بن حازم عن عيسى بن عاصم قال : سمعت شريحا قال : قال : قال لي علي : من الذي
__________
(1) الخبر : 5314 - " أبو عثمة " ؛ هكذا رسم في المخطوطة دون نقط . وأما المطبوعة ففيها " أبو شحمة " !! وهو خطأ . إذ لم نجد من يدعى بها . و " أبو عثمة " : الراجح عندنا أنه " محمد بن خالد بن عثمة " ، وقد مضت ترجمته برقم : 90 ، 91 . وبينا هناك أن " عثمة " أمه . فليس ببعيد أن يكنى باسمها ، خصوصا أنهم لم يذكروا له كنية أخرى . ويرجح أنه هو : أن من الرواة عنه في ترجمته " بندار " ، وهو محمد بن بشار ، الراوي عنه هنا .
و " عثمة " : بفتح العين المهملة وسكون الثاء المثلثة .
" حبيب " ، الذي يروي عن الليث بن سعد هنا : لم نعرف من هو ، ولا وجدنا ما يرشد إليه . وهو هكذا في المخطوطة والمطبوعة . ولو كان محرفا عن " شعيب " - أعني شعيب بن الليث - لم يكن بعيدا . " خلاس " - بكسر الخاء المعجمة وتخفيف اللام - بن عمرو الهجري البصري : تابعي كبير ثقة ثقة . تكلموا في سماعه من علي ، وأن حديثه عنه من صحيفة كانت عنده . ونص البخاري على ذلك في التاريخ الكبير 2 / 1 / 208 .

(5/151)


بيده عقدة النكاح ؟ قلت : ولي المرأة. قال : لا بل هو الزوج.
5317 - حدثنا أبو هشام الرفاعي قال ، حدثنا ابن مهدي قال ، حدثنا حماد بن سلمة ، عن عمار بن أبي عمار ، عن ابن عباس قال : هو الزوج.
5318 - حدثني أحمد بن حازم قال ، حدثنا أبو نعيم قال : قلت لحماد بن سلمة : من الذي بيده عقده النكاح ؟ فذكر عن علي بن زيد ، عن عمار بن أبي عمار ، عن ابن عباس قال : الزوج.
5319 - حدثنا أبو هشام قال ، حدثنا عبيد الله قال ، أخبرنا إسرائيل ، عن خصيف ، عن مجاهد ، عن ابن عباس قال : هو الزوج.
5320 - حدثنا أبو هشام قال ، حدثنا ابن فضيل ، عن الأعمش ، عن إبراهيم ، عن ابن عباس وشريح قالا هو الزوج.
5321 - حدثنا أبو هشام قال ، حدثنا ابن مهدي ، عن عبد الله بن جعفر ، عن واصل بن أبي سعيد ، عن محمد بن جبير بن مطعم : أن أباه تزوج امرأة ثم طلقها قبل أن يدخل بها ، فأرسل بالصداق وقال : أنا أحق بالعفو. (1)
5322 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر ، عن صالح بن كيسان : أن جبير بن مطعم تزوج امرأه ، فطلقها قبل أن يبني بها ، وأكمل لها الصداق ، وتأوّل : " أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح " (2)
5323 - حدثنا أبو هشام قال ، حدثنا ابن إدريس ، عن محمد بن عمرو ،
__________
(1) الأثر : 5321 - عبد الله بن جعفر ، هو المخرمي الزهري ، من ولد المسور بن مخرمة بن نوفل بن أهيب بن عبد مناف . مترجم في التهذيب . و " واصل بن أبي سعيد " مترجم في الجرح والتعديل 4 / 2 / 30 ، والكبير للبخاري 4 / 2 / 172 .
(2) الخبر : 5322 - هكذا ثبت هذا الخبر هنا : " صالح بن كيسان : أن جبير بن مطعم " فيكون منقطعا ، لأن صالح بن كيسان لم يدرك جبير بن مطعم . ثم هو مخالف لما ثبت في مصنف عبد الرزاق 3 : 284 (مخطوط مصور) ، فإن الخبر ثابت فيه " عن صالح بن كيسان : أن نافع بن جبير تزوج . . . " - فيكون الخبر متصل الإسناد ، لأن صالحا يروي عن نافع بن جبير بن مطعم . وهو الصواب ، إن شاء الله . ولعل الطبري أو شيخه الحسن بن يحيى وهم فيه .

(5/152)


عن نافع ، عن جبير : أنه طلق امرأته قبل أن يدخل بها ، فأتم لها الصداق وقال : أنا أحق بالعفو.
5324 - حدثنا حميد بن مسعدة قال ، حدثنا يزيد بن زريع قال ، حدثني عبد الله بن عون ، عن محمد بن سيرين ، عن شريح : " أو يعفو الذي بيدة عقدة النكاح " ، قال : إن شاء الزوج أعطاها الصداق كاملا.
5325 - حدثنا حميد قال ، حدثنا بشر بن المفضل قال ، حدثنا عبد الله بن عون ، عن محمد بن سيرين بنحوه.
5326 - حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا عبد الرحمن قال ، حدثنا سفيان ، عن أبي إسحاق ، عن شريح قال : الذي بيده عقدة النكاح ، الزوج.
5327 - حدثنا ابن المثنى قال ، حدثنا عبد الوهاب قال ، حدثنا داود ، عن عامر : أن شريحا قال : الذي بيده عقدة النكاح ، الزوج. فرد ذلك عليه.
5328 - حدثني أبو السائب قال ، حدثنا أبو معاوية ، عن الأعمش ، عن إبراهيم ، عن شريح قال : الذي بيده عقدة النكاح ، هو الزوج. قال ، وقال إبراهيم : وما يدري شريحا!
5329 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا معمر قال ، حدثنا حجاج ، عن شريح قال : هو الزوج.
5330 - حدثنا أبو كريب قال ، أخبرنا الأعمش ، عن إبراهيم ، عن شريح قال : هو الزوج.
5331 - حدثنا أبو هشام قال ، حدثنا أبو أسامة حماد بن زيد بن أسامة قال ، حدثنا إسماعيل ، عن الشعبي ، عن شريح : " أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح " ، وهو الزوج. (1)
__________
(1) الأثر : 5331 - " حماد بن زيد بن أسامة " ، هو حماد بن أسامة بن زيد ، وانظر الأثر السالف رقم : 5265 ، والتعليق عليه .

(5/153)


5332 - حدثنا أبو هشام قال ، حدثنا عبيد الله ، عن إسرائيل ، عن أبي حصين ، عن شريح قال : " الذي بيده عقدة النكاح " ، قال : الزوج يتم لها الصداق.
5333 - حدثنا أبو هشام قال ، حدثنا أبو معاوية ، عن إسماعيل ، عن الشعبي ، وعن الحجاج ، عن الحكم ، عن شريح ، وعن الأعمش ، عن إبراهيم ، عن شريح قال : هو الزوج.
5334 - حدثنا أبو هشام قال ، حدثنا وكيع قال ، حدثنا إسماعيل ، عن الشعبي ، عن شريح قال : هو الزوج ، إن شاء أتم لها الصداق ، وإن شاءت عفت عن الذي لها.
5335 - حدثني يعقوب قال ، حدثنا ابن علية ، عن أيوب ، عن محمد قال : قال شريح : " الذي بيده عقدة النكاح " ، الزوج.
5336 - حدثني يعقوب قال ، حدثنا ابن علية ، عن ابن أيون ، عن ابن سيرين ، عن شريح : " أن يعفو الذي بيدة عقدة النكاح " ، قال : إن شاء الزوج عفا فكمل الصداق.
5337 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا الثوري ، عن منصور ، عن إبراهيم ، عن شريح قال : هو الزوج.
5338 - حدثنا ابن بشار وابن المثنى قالا حدثنا ابن أبي عدي ، عن عبد الأعلى ، عن سعيد ، عن قتادة ، عن سعيد بن المسيب قال : " الذي بيده عقدة النكاح " ، قال : هو الزوج.
5339 - حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا عبدة ، عن سعيد ، عن قتادة ، عن سعيد بن المسيب : " أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح " ، قال : هو الزوج.
5340 - حدثنا أبو هشام قال ، حدثنا ابن مهدى ، عن حماد بن سلمة ، عن قيس بن سعد ، عن مجاهد قال : هو الزوج.

(5/154)


5341 - حدثنا أبو هشام قال ، حدثنا وكيع قال ، حدثنا سفيان ، عن ليث ، عن مجاهد قال : الزوج.
5342 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى وحدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : " أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح " ، زوجها : أن يتم لها الصداق كاملا.
5343 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر ، عن قتادة ، عن سعيد بن المسيب وعن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد وعن أيوب ، وعن ابن سيرين ، عن شريح قالوا : " الذي بيده عقدة النكاح " ، الزوج.
5344 - حدثني يعقوب قال ، حدثنا ابن علية ، عن ابن جريج قال ، قال مجاهد : " الذي بيده عقدة النكاح " ، الزوج " أن يعفو الذي بيده عقدة النكاح " ، إتمام الزوج الصداق كله.
5345 - حدثني يعقوب قال ، حدثنا ابن علية ، عن ابن جريج ، عن عبد الله بن أبي مليكة قال ، قال سعيد بن جبير : " الذي بيده عقدة النكاح " ، الزوج.
5346 - حدثني يعقوب قال ، حدثنا هشيم قال ، أخبرنا أبو بشر ، عن سعيد بن جبير قال : " الذي بيده عقدة النكاح " ، هو الزوج. قال : وقال مجاهد وطاوس : هو الولي. قال قلت لسعيد : فإن مجاهدا وطاوسا يقولان : هو الولي ؟ قال سعيد : " فما تأمرني إذا ؟ " (1) قال : أرأيت لو أن الولي عفا وأبت المرأة ، أكان
__________
(1) هكذا في المطبوعة ، وفي المخطوطة : " فما أنا مرني " غير معجمة ، ولم أجد الأثر في مكان آخر ، وأنا في شك من صحة هذه العبارة . هذا وقد رواه ابن حزم في المحلى 9 : 512 من طريق " الحجاج بن المنهال ، حدثنا أبو عوانة ، عن أبي بشر - وهو جعفر بن إياس بن أبي وحشية - عن سعيد بن جبير قال : الذي بيده عقدة النكاح ، هو الزوج . وقال مجاهد وطاوس وأهل المدينة : هو الولي . قال فأخبرتهم بقول سعيد بن جبير ، فرجعوا عن قولهم . وانظر السنن الكبرى 8 : 251 ، قريب من لفظ ابن حزم .

(5/155)


يجوز ذلك ؟ فرجعت إليهما فحدثتهما ، فرجعا عن قولهما وتابعا سعيدا.
5347 - حدثنا أبو هشام قال ، حدثنا حميد ، عن الحسن بن صالح ، عن سالم الأفطس ، عن سعيد قال : هو الزوج. (1)
5348 - حدثنا أبو هشام قال ، حدثنا أبو خالد الأحمر ، عن شعبة ، عن أبي بشر ، عن سعيد قال : هو الزوج وقال طاوس ومجاهد : هو الولي - فكلمتهما في ذلك حتى تابعا سعيدا.
5349 - حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا محمد بن جعفر قال ، حدثنا شعبة ، عن أبي بشر ، عن سعيد بن جبير وطاوس ومجاهد بنحوه.
5350 - حدثنا أبو هشام قال ، حدثنا أبو الحسين ، يعني زيد بن الحباب ، عن أفلح بن سعيد قال ، سمعت محمد بن كعب القرظي قال : هو الزوج ، أعطى ما عنده عفوا. (2)
5351 - حدثنا أبو هشام قال ، حدثنا أبو داود الطيالسي ، عن زهير ، عن أبي إسحاق ، عن الشعبي قال : هو الزوج.
5352 - حدثنا محمد بن المثنى قال ، حدثنا عبد الوهاب قال ، حدثنا عبد الله ، عن نافع قال : " الذي بيده عقدة النكاح " ، الزوج - " إلا أن يعفون أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح " ، قال : أما قوله : " إلا أن يعفون " ، فهي المرأة التي يطلقها زوجها قبل أن يدخل بها. فإما أن تعفو عن النصف لزوجها ، وأما أن يعفو الزوج فيكمل لها صداقها.
__________
(1) الأثر : 5347 - " حميد " هو : حميد بن عبد الرحمن الرؤاسي . ثقة ، مات سنة 192 . مترجم في التهذيب . و " الحسن بن صالح " بن صالح الثوري . قال ابن سعد : " كان ناسكا عابدا فقيها حجة ، صحيح الحديث كثيره ، وكان متشيعا " ، مات سنة 169 . مترجم في التهذيب و " سالم الأفطس " ، هو : سالم بن عجلان الأموي . ثقة كثير الحديث . كان يخاصم في الإرجاء . قتل بحران سنة 132 . مترجم في التهذيب .
(2) الأثر : 5350 - في المخطوطة والمطبوعة : " أبو الحسن " ، والصواب " أبو الحسين " ، وهو مترجم في التهذيب ، والجرح والتعديل 1 / 2 / 560 . وفي المخطوطة " أفلح بن سعد " ، والصواب ما في المطبوعة .

(5/156)


5353 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : " الذي بيده عقدة النكاح " ، الزوج.
5354 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن المسعودي ، عن القاسم قال : كان شريح يجاثيهم على الركب (1) ويقول : هو الزوج.
5355 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا محمد بن حرب قال ، حدثنا ابن لهيعة ، عن عمرو بن شعيب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " الذي بيده عقدة النكاح " ، الزوج ، يعفو أو تعفو " . (2)
5356 - حدثنا عن الحسين بن الفرج قال ، سمعت أبا معاذ الفضل بن خالد قال ، أخبرنا عبيد بن سليمان ، قال ، سمعت الضحاك يقول في قوله : " أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح " ، قال : الزوج ، وهذا في المرأة يطلقها زوجها ولم يدخل بها وقد فرض لها ، فلها نصف المهر ، فإن شاءت تركت الذي لها وهو النصف ، وإن شاءت قبضته.
5357 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا مهران ، وحدثني علي قال ، حدثنا زيد جميعا ، عن سفيان : " أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح " ، الزوج.
5358 - حدثني يحيى بن أبي طالب قال ، حدثنا يزيد بن هارون قال ، أخبرنا جويبر ، عن الضحاك قال : " الذي بيده عقدة النكاح " ، الزوج.
__________
(1) يجاثيهم على الركب : أي يقعد لهم بالخصومة ويخاصمهم خصاما شديدا ، وكان الخصم يجثو على ركبتيه ويخاصم ، إذا اشتد الخصام .
(2) الأثر : 5355 - قال ابن كثير في تفسيره 1 : 573 - 574 : " قال ابن أبي حاتم : ذكر ابن لهيعة ، حدثني عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ولى عقدة النكاح ، الزوج - وهكذا أسنده ابن مردويه من حديث عبد الله بن لهيعة ، وقد أسنده ابن جرير عن ابن لهيعة ، عن عمرو بن شعيب أن رسول الله . . . - فذكره ، ولم يقل عن أبيه عن جده " .
وقال البيهقي في السنن 8 : 251 - 252 : " وروي عن ابن لهيعة عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم : ولى عقدة النكاح الزوج . قال البيهقي : " وهذا غير محفوظ ، وابن لهيعة غير محتج به ، والله أعلم " .

(5/157)


5359 - حدثنا ابن البرقي قال ، حدثنا عمرو بن أبي سلمة ، عن سعيد بن عبد العزيز قال : سمعت تفسير هذه الآية : " إلا أن يعفون " ، النساء ، فلا يأخذن شيئا " أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح " ، الزوج ، فيترك ذلك فلا يطلب شيئا.
5360 - ابن حميد قال ، حدثنا جرير ، عن منصور قال ، قال شريح في قوله : " إلا أن يعفون " ، قال : يعفو النساء " أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح " ، الزوج.
* * *
قال أبو جعفر : وأولى القولين في ذلك بالصواب قول من قال : المعني بقوله : " الذي بيده عقدة النكاح " ، الزوج. وذلك لإجماع الجميع على أن ولي جارية بكر أو ثيب ، صبية صغيرة كانت أو مدركة كبيرة ، لو أبرأ زوجها من مهرها قبل طلاقه إياها ، أو وهبه له أو عفا له عنه - أن إبراءه ذلك وعفوه له عنه باطل ، وأن صداقها عليه ثابت ثبوته قبل إبرائه إياه منه. فكان سبيل ما أبرأه من ذلك بعد طلاقه إياها ، سبيل ما أبرأه منه قبل طلاقه إياها.
وأخرى : أن الجميع مجمعون على أن ولي امرأة محجور عليها أو غير محجور عليها ، لو وهب لزوجها المطلقها بعد بينونتها منه درهما من مالها ، على غير وجه العفو منه عما وجب لها من صداقها قبله ، أن هبته ما وهب من ذلك مردودة باطلة. وهم مع ذلك مجمعون على أن صداقها مال من مالها ، فحكمه حكم سائر أموالها.
وأخرى : أن الجميع مجمعون على أن بني أعمام المرأة البكر وبني إخوتها من أبيها وأمها من أوليائها ، وأن بعضهم لو عفا عن مالها [لزوجها ، قبل دخوله بها] أو بعد دخوله بها (1) - : إن عفوه ذلك عما عفا له عنه منه باطل ، وإن حق المرأة
__________
(1) هذه الجملة التي بين القوسين ، استظهرتها من السياق حتى يستقيم الكلام ، وبين أن فيه سقطا قبل قوله : " أو بعد دخوله بها " . والمخطوطة والمطبوعة متفقتان في هذا السقط .

(5/158)


ثابت عليه بحاله. فكذلك سبيل عفو كل ولي لها كائنا من كان من الأولياء ، والدا كان أو جدا أو خالا لأن الله تعالى ذكره لم يخصص بعض الذين بأيديهم عقد النكاح دون بعض في جواز عفوه ، إذا كانوا ممن يجوز حكمه في نفسه وماله.
ويقال لمن أبى ما قلنا ممن زعم أن " الذي بيده عقدة النكاح " ، ولي المرأة : هل يخلو القول في ذلك من أحد أمرين ، إذ كان الذي بيده عقدة النكاح هو الولي عندك : إما أن يكون ذلك كل ولي جاز له تزويج وليته ، أو يكون ذلك بعضهم دون بعض ؟ فلن يجد إلى الخروج من أحد هذين القسمين سبيلا.
فإن قال : إن ذلك كذلك.
قيل له : فأي ذلك عني به ؟
فإن قال : لكل ولي جاز له تزويج وليته.
قيل له : أفجائز للمعتق أمة تزويج مولاته بإذنها بعد عتقه إياها ؟
فإن قال نعم!
قيل له : أفجائز عفوه إن عفا عن صداقها لزوجها بعد طلاقه إياها قبل المسيس ؟
فإن قال : نعم خرج من قول الجميع. وإن قال : لا! قيل له : ولم ؟ وما الذي حظر ذلك عليه وهو وليها الذي بيده عقدة نكاحها ؟
ثم يعكس القول عليه في ذلك ، ويسأل الفرق بينه وبين عفو سائر الأولياء غيره.
وإن قال : لبعض دون بعض.
سئل البرهان على خصوص ذلك ، وقد عمه الله تعالى ذكره فلم يخصص بعضا دون بعض.
ويقال له : من المعني به ، إن كان المراد بذلك بعض الأولياء دون بعض ؟
فإن أومأ في ذلك إلى بعض منهم ، سئل البرهان عليه ، وعكس القول فيه ، وعورض في قوله ذلك بخلاف دعواه. ثم لن يقول في ذلك قولا إلا ألزم في الآخر مثله.
* * *

(5/159)


فإن ظن ظان أن المرأة إذا فارقها زوجها فقد بطل أن يكون بيده عقدة نكاحها ، والله تعالى ذكره إنما أجاز عفو الذي بيده عقدة نكاح المطلقة ، فكان معلوما بذلك أن الزوج غير معني به ، وأن المعني به هو الذي بيده عقدة نكاح المطلقة بعد بينونتها من زوجها. وفي بطول ذلك أن يكون حينئذ بيد الزوج ، صحة القول أنه بيد الولي الذي إليه عقد النكاح إليها. وإذا كان ذلك كذلك ، صح القول بأن الذي بيده عقدة النكاح هو الولي فقد غفل وظن خطأ. (1)
وذلك أن معنى ذلك : أو يعفو الذي بيده عقدة نكاحه ، وإنما أدخلت " الألف واللام " في " النكاح " بدلا من الإضافة إلى " الهاء " التي كان " النكاح " - لو لم يكونا فيه (2) مضافا إليها ، كما قال الله تعالى ذكره : ( فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى ) [سورة النازعات : 41] ، بمعنى : فإن الجنة مأواه ، وكما قال نابغة بني ذبيان :
لهم شيمة لم يعطها الله غيرهم... من الناس ، فالأحلام غير عوازب (3)
__________
(1) قوله : : فقد أغفل . . . " ، جواب " إن " في قوله : " فإن ظن ظان " . وأغفل : دخل في الغفلة ، كما بينته فيما سلف 1 : 151 ، وغيره من المواضع .
(2) في المطبوعة : " لو لم تكن أل فيه " ، والذي حدا بهم إلى هذا التغيير أنها في المخطوطة مضطربة ، كتبت هكذا : " لو لم يكن ما فيه " - الواو ممدودة منقوطة كأنها نون . والصواب ما أثبت . والضمير في " يكونا " إلى " الألف واللام " .
(3) ديوانه : 45 ، وسيأتي في التفسير 13 : 4 (بولاق) من قصيدته في مدح عمرو بن الحارث الأصغر الأعرج الغساني ، وذلك حين فر من النعمان بن المنذر إلى الشام في أمر المتجردة . والضمير في : " لهم " إلى ملوك غسان من بني جفنة . والشيمة : الطبيعة . ورواية الديوان : " من الجود " بدل " من الناس " ورواية الطبري في سياق هذه القصيدة أجود ، لأن البيت جاء بعد وصفهم في الحروب بشدة القتال ، حتى قال قبله : بضرب يزيل الهام عن سكناته ... وطعن كإيزاغ المخاض الضوارب
فالشيمة هنا : هي صبرهم على لأواء القتال . فلا تطير نفوسهم من الروع ، ولا تضطرب عقولهم وتدبيرهم إذا بلغ القتال مبلغا يشتت حكمة الحكيم ، والعوازب جمع عازب ، من قولهم " عزب حلمه " إذا فارقه وبعد عنه .

(5/160)


بمعنى : فأحلامهم غير عوازب. والشواهد على ذلك أكثر من أن تحصى.
* * *
فتأويل الكلام : إلا أن يعفون أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح ، (1) وهو الزوج الذي بيده عقدة نكاح نفسه في كل حال قبل الطلاق وبعده لأن معناه : أو يعفو الذي بيده عقدة نكاحهن ، فيكون تأويل الكلام ما ظنه القائلون أنه الولي ولي المرأة. لأن ولي المرأة لا يملك عقدة نكاح المرأة بغير إذنها ، إلا في حال طفولتها ، وتلك حال لا يملك العقد عليها إلا بعض أوليائها ، في قول أكثر من رأى أن الذي بيده عقدة النكاح الولي. ولم يخصص الله تعالى ذكره بقوله : " أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح " بعضا منهم ، فيجوز توجيه التأويل إلى ما تأولوه ، لو كان لما قالوا في ذلك وجه.
* * *
وبعد ، فإن الله تعالى ذكره إنما كنى بقوله : " وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم إلا أن يعفون " عن ذكر النساء اللاتي قد جرى ذكرهن في الآية قبلها ، وذلك قوله : " لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن " ، والصبايا لا يسمين " نساء " ، وإنما يسمين صبيا أو جواري ، وإنما " النساء " في كلام العرب أجمع ، اسم المرأة ، ولا تقول العرب للطفلة والصبية والصغيرة " امرأة " ، كما لا تقول للصبي الصغير " رجل " .
وإذ كان ذلك كذلك ، وكان قوله : " أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح " ، عند الزاعمين أنه الولي إنما هو : أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح عما وجب لوليته التي تستحق أن يولي عليها مالها إما الصغر وإما السفه ، (2) والله تعالى ذكره إنما اقتص في الآيتين قصص النساء المطلقات لعموم الذكر دون خصوصه ، وجعل
__________
(1) في المخطوطة والمطبوعة " عقدة النكاح " ، والصواب الذي يقتضيه التأويل وسياق الكلام بعده ، هو ما أثبت .
(2) في المخطوطة والمطبوعة : " إما لصغر وإما لسفه " ، والصواب ما أثبت .

(5/161)


لهن العفو بقوله : " إلا أن يعفون " (1) كان معلوما بقوله : " إلا أن يعفون " ، أن المعنيات منهن بالآيتين اللتين ذكرهن فيهما جميعهن دون بعض ، إذ كان معلوما أن عفو من تولى عليه ماله منهن باطل.
وإذ كان ذلك كذلك ، فبين أن التأويل في قوله : أو يعفو الذي بيده عقدة نكاحهن ، يوجب أن يكون لأولياء الثيبات الرشد البوالغ ، من العفو عما وهب لهن من الصداق بالطلاق قبل المسيس ، (2) مثل الذي لأولياء الأطفال الصغار المولى عليهن أموالهن السفه. وفي إنكار القائلين : " إن الذي بيده عقدة النكاح الولي " ، عفو أولياء الثيبات الرشد البوالغ على ما وصفنا ، وتفريقهم بين أحكامهم وأحكام أولياء الأخر - ما أبان عن فساد تأويلهم الذي تأولوه في ذلك.
ويسأل القائلون بقولهم في ذلك ، الفرق بين ذلك من أصل أو نظير ، فلن يقولوا في شيء من ذلك قولا إلا ألزموا في خلافه مثله.
* * *
القول في تأويل قوله : { وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى }
قال أبو جعفر : اختلف أهل التأويل فيمن خوطب بقوله : " وأن تعفوا أقرب للتقوى " .
فقال بعضهم : خوطب بذلك الرجال والنساء.
* ذكر من قال ذلك :
5361 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، سمعت أبن جريج يحدث ، عن عطاء بن أبي رباح ، عن ابن عباس : " وأن تعفوا أقرب للتقوى " ، قال : أقربهما للتقوى الذي يعفو.
__________
(1) السياق من أول العبارة : وإذ كان ذلك كذلك . . . كان معلومًا .
(2) في المخطوطة " السا الرشد " ، وكأنها كانت " النساء الرشد " ولكنها ستأتي بعد أسطر " الثيبات الرشد " . وأنا أرجح أنها في الموضعين " النساء الرشد " .

(5/162)


5362 - حدثنا ابن البرقي قال ، حدثنا عمرو بن أبي سلمة ، عن سعيد بن عبد العزيز قال : سمعت تفسير هذه الآية : " وأن تعفوا أقرب للتقوى " ، قال : يعفون جميعا.
* * *
فتأويل الآية على هذا القول : وأن يعفوا ، أيها الناس ، بعضكم عما وجب له قبل صاحبه من الصداق قبل الافتراق عند الطلاق ، أقرب له إلى تقوى الله.
* * *
وقال آخرون : بل الذي خوطبوا بذلك أزواج المطلقات.
* ذكر من قال ذلك :
5363 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا جرير ، عن مغيرة ، عن الشعبي : " وأن تعفوا أقرب للتقوى " ، : وأن يعفو هو أقرب للتقوى.
* * *
فتأويل ذلك على هذا القول : وأن تعفوا أيها المفارقون أزواجهم ، فتتركوا لهن ما وجب لكم الرجوع به عليهن من الصداق الذي سقتموه إليهن ، أو تتموا لهن - (1) بإعطائكم إياهن الصداق الذي كنتم سميتم لهن في عقدة النكاح إن لم تكونوا سقتموه إليهن - أقرب لكم إلى تقوى الله.
* * *
قال أبو جعفر : والذي هو أولى القولين بتأويل الآية عندي في ذلك. ما قاله ابن عباس ، وهو أن معنى ذلك : وأن يعفو بعضكم لبعض أيها الأزواج والزوجات ، بعد فراق بعضكم بعضا عما وجب لبعضكم قبل بعض ، فيتركه له إن كان قد بقي له قبله. وإن لم يكن بقي له ، فبأن يوفيه بتمامه أقرب لكم إلى تقوى الله.
* * *
__________
(1) في المطبوعة : " أو إليهن بإعطائكم . . . " بياض في أصولها ، وفي المخطوطة : " وأن + بإعطائكم " ؛ كأن الناسخ لم يستطع أن يجيد قراءة الكلمة ، فكتب التاءين في الأول ثم وقف ، ولم يعد . وقد مضت الآثار في إكمال الصداق وإتمامه مثل رقم : 5323 وما بعده وما قبله ، فمن هناك استظهرت صواب هذه الأحرف الناقصة ، وبما يقتضيه معنى الكلام .

(5/163)


فإن قال قائل : وما في الصفح عن ذلك من القرب من تقوى الله ، فيقال للصافح العافي عما وجب له قبل صاحبه : فعلك ما فعلت أقرب لك إلى تقوى الله ؟ قيل له : الذي في ذلك من قربه من تقوى الله ، مسارعته في عفوه ذلك إلى ما ندبه الله إليه ، ودعاه وحضه عليه. فكان فعله ذلك - إذا فعله ابتغاء مرضاة الله ، وإيثار ما ندبه إليه على هوى نفسه - معلوما به ، إذ كان مؤثرا فعل ما ندبه إليه مما لم يفرضه عليه على هوى نفسه ، أنه لما فرضه عليه وأوجبه أشد إيثارا ، ولما نهاه أشد تجنبا. وذلك هو قربه من التقوى.
* * *
القول في تأويل قوله : { وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : ولا تغفلوا ، أيها الناس ، الأخذ بالفضل بعضكم على بعض فتتركوه ، (1) ولكن ليتفضل الرجل المطلق زوجته قبل مسيسها ، فيكمل لها تمام صداقها إن كان لم يعطها جميعه. وإن كان قد ساق إليها جميع ما كان فرض لها ، فليتفضل عليها بالعفو عما يجب له ويجوز له الرجوع به عليها ، وذلك نصفه. فإن شح الرجل بذلك وأبى إلا الرجوع بنصفه عليها ، فالتتفضل المرأة المطلقة عليه برد جميعه عليه ، إن كانت قد قبضته منه. وإن لم تكن قبضته ، فتعفو [عن] جميعه. (2) فإن هما لم يفعلا ذلك وشحا وتركا ما ندبهما الله إليه - من أخذ أحدهما على صاحبه بالفضل - فلها نصف ما كان فرض لها في عقد النكاح وله نصفه.
__________
(1) انظر معنى " النسيان " فيما سلف 2 : 9 ، 476 .
(2) ما بين القوسين زيادة يقتضيها السياق .

(5/164)


وبما قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
5364 - حدثنا أحمد بن حازم قال ، حدثنا أبو نعيم قال ، حدثنا ابن أبي ذئب ، عن سعيد بن جبير بن مطعم ، عن أبيه جبير : أنه دخل على سعد بن أبي وقاص فعرض عليه ابنة له فتزوجها ، فلما خرج طلقها وبعث إليها بالصداق. قال : قيل له : فلم تزوجتها ؟ قال : عرضها علي فكرهت ردها! قيل : فلم تبعث بالصداق ؟ قال : فأين الفضل ؟
5365 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا ابن أبي زائدة ، عن ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : " ولا تنسوا الفضل بينكم " . قال : إتمام الزوج الصداق ، أو ترك المرأة الشطر.
5366 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : " ولا تنسوا الفضل بينكم " ، قال : إتمام الصداق ، أو ترك المرأة شطره.
5367 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد مثله.
5368 - حدثنا سفيان بن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن ليث ، عن مجاهد : " ولا تنسوا الفضل بينكم " ، في هذا وفي غيره.
5369 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع في قوله : " ولا تنسوا الفضل بينكم " ، قال : يقول ليتعاطفا.
5370 - حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا يزيد بن زريع قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة : " ولا تنسوا الفضل بينكم إن الله بما تعملون بصير " ، يرغبكم الله في المعروف ، ويحثكم على الفضل.
5371 - حدثنا يحيى بن أبي طالب قال ، حدثنا يزيد قال ، أخبرنا جويبر ،

(5/165)


عن الضحاك في قوله : " ولا تنسوا الفضل بينكم " ، قال : المرأة يطلقها زوجها وقد فرض لها ولم يدخل بها ، فلها نصف الصداق. فأمر الله أن يترك لها نصيبها ، وإن شاء أن يتم المهر كاملا. وهو الذي ذكر الله : " ولا تنسوا الفضل بينكم " .
5372 - حدثني موسى قال ، حدثنا عمرو قال ، حدثنا أسباط ، عن السدى : " ولا تنسوا الفضل بينكم " ، حض كل واحد على الصلة - يعني الزوج والمرأة ، على الصلة.
5373 - حدثني المثنى قال ، حدثنا حبان بن موسى قال ، أخيرنا ابن المبارك قال ، أخبرنا يحيى بن بشر : أنه سمع عكرمة يقول في قول الله : " ولا تنسوا الفضل بينكم " ، وذلك الفضل هو النصف من الصداق ، وأن تعفو عنه المرأة للزوج أو يعفو عنه وليها.
5374 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد في قوله : " ولا تنسوا الفضل بينكم " ، قال : يعفى عن نصف الصداق أو بعضه.
5375 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا مهران وحدثني علي قال ، حدثنا زيد جميعا ، عن سفيان : " ولا تنسوا الفضل بينكم " ، قال : حث بعضهم على بعض في هذا وفي غيره ، حتى في عفو المرأة عن الصداق ، والزوج بالإتمام.
5376 - حدثني يحيى بن أبي طالب قال ، أخبرنا يزيد قال ، أخبرنا جويبر ، عن الضحاك : " ولا تنسوا الفضل بينكم " ، قال : المعروف.
5377 - حدثنا ابن البرقي قال ، حدثنا عمرو ، عن سعيد قال ، سمعت تفسير هذه الآية : " ولا تنسوا الفضل بينكم " ، قال : لا تنسوا الإحسان.
* * *

(5/166)


القول في تأويل قوله تعالى : { إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (237) }
قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بذلك : " إن الله بما تعملون " ، أيها الناس ، مما ندبكم إليه وحضكم عليه ، من عفو بعضكم لبعض عما وجب له قبله من حق بسبب النكاح الذي كان بينكم وبين أزواجكم ، وتفضل بعضكم على بعض في ذلك ، وفي غيره (1) مما تأتون وتذرون من أموركم في أنفسكم وغيركم مما حثكم الله عليه وأمركم به أو نهاكم عنه " بصير " ، يعني بذلك : ذو بصر ، (2) لا يخفى عليه منه شيء من ذلك ، بل هو يحصيه عليكم ويحفظه ، حتى يجازي ذا الإحسان منكم على إحسانه ، وذا الإساءة منكم على إساءته. (3)
* * *
__________
(1) في المخطوطة " ولغيره " ، وفي المطبوعة : " وبغيره " ، والسياق يقتضي ما أثبت .
(2) انظر القول في تفسير " بصير " فيما سلف 2 : 140 ، 376 ، 506 / ثم 5 : 76 .
(3) انتهى عند هذا الموضع جزء من التقسيم القديم الذي نقلت عنه نسختنا ، وفيها ما نصه .
" يتلوه القول في تأويل قوله :
حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى
وصلى الله على سيدنا محمد النبي وآله وصحبه وسلم "
ثم يبتدئ بعده :
" بسم الله الرحمن الرحيم
رب أعن "

(5/167)


حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ (238)

القول في تأويل قوله : { حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى }
قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بذلك : واظبوا على الصلوات المكتوبات في أوقاتهن ، وتعاهدوهن والزَمُوهن ، وعلى الصلاة الوسطى منهنّ.

(5/167)


وبما قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
5378 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق بن الحجاج قال ، حدثنا أبو زهير ، عن الأعمش ، عن مسلم ، عن مسروق في قوله : " حافظوا على الصلوات " ، قال : المحافظة عليها : المحافظة على وقتها ، وعدم السهو عنها.
5379 - حدثني يحيى بن إبراهيم المسعودي قال ، حدثنا أبي ، عن أبيه ، عن جده ، عن الأعمش ، عن مسلم ، عن مسروق في هذه الآية : " حافظوا على الصلوات " ، فالحفاظ عليها : الصلاة لوقتها والسهو عنها : ترك وقتها. (1)
* * *
ثم اختلفوا في " الصلاة الوسطى " . فقال بعضهم : هي صلاة العصر.
* ذكر من قال ذلك :
5380 - حدثنا محمد بن بشار قال ، حدثنا أبو عاصم وحدثنا أحمد بن إسحاق قال ، حدثنا أبو أحمد جميعا قالا حدثنا سفيان ، عن أبي إسحاق ، عن الحارث ، عن علي قال : والصلاة الوسطى " صلاة العصر. (2) .
__________
(1) الأثر : 5379 - هو : يحيى بن إبراهيم بن أبي عبيدة بن معن بن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود المسعودي . روى عن أبيه وجده . قال النسائي : " صدوق " ، وذكره ابن حبان في الثقات مترجم في التهذيب .
(2) الخبر : 5380 - روى أبو جعفر هنا ، في تفسير الصلاة الوسطى 113 خبرا ، بين مرفوع وموقوف وأثر ، على اختلاف الروايات في ذلك ، بعضها صحيح ، وبعضها ضعيف ، مما لم نجده مستوعبا وافيا في غير هذا الموضع من الدواوين . واجتهد - لله دره - حتى أوفى على الغاية ، ثم أبان عن القول الراجح الصحيح : أنها صلاة العصر ، كعادته في الترجيح ، واختيار ما يراه أقوى دليلا . فأولها : هذا الخبر عن علي ، وهو موقوف عليه ، وإسناده ضعيف جدا .
سفيان : هو الثوري الإمام .
أبو إسحاق : هو السبيعي الإمام .
الحارث : هو ابن عبد الله الأعور الهمداني . وهو ضعيف جدا ، كما بينا فيما مضى : 174 .
وهذا الخبر رواه الطحاوي في معاني الآثار 1 : 103 ، من طريق إبراهيم بن طهمان ، عن أبي إسحاق به ، ولم يذكر لفظه ، إحالة على روايات قبله . وسيأتي هذا القول عن علي ، بأسانيد ، فيها صحاح كثيرة 5382 - 5386 ، 5422 - 5429 ، 5444 .

(5/168)


5381 - حدثني محمد بن عبيد المحاربي قال ، حدثنا أبو الأحوص ، عن أبي إسحاق قال ، حدثني من سمع ابن عباس وهو يقول : " حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى " ، قال : العصر. (1)
5382 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا مصعب بن سلام ، عن أبي حيان ، عن أبيه ، عن علي قال : والصلاة الوسطى صلاة العصر. (2)
5383 - حدثني يعقوب قال ، حدثنا ابن علية قال ، حدثنا أبو حيان ، عن أبيه ، عن علي مثله. (3)
5384 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا مصعب عن الأجلح ، عن أبي إسحاق ، عن الحارث قال : سمعت عليا يقول : الصلاة الوسطى صلاة العصر. (4)
5385 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا حكام ، عن عنبسة ، عن أبي إسحاق ،
__________
(1) الخبر : 5381 - وهذا موقوف على ابن عباس أيضًا . وإسناده ضعيف ، لجهالة الرجل المبهم الرواية عنه " من سمع ابن عباس " .
وسيأتي عن ابن عباس ، من أوجه كثيرة : 5413 ، 5416 ، 5433 - 5435 ، 5468 ، 5472 - 5479 ، 5481 .
(2) الخبر : 5382 - هذا إسناد حسن على الأقل . مصعب بن سلام التميمي : صدوق ، وثقه بعضهم ، وضعفه آخرون . والظاهر من ترجمته أن الكلام فيه لأحاديث غلط فيها ، فما لم يثبت غلطه فيه فهو مقبول . وله ترجمة مفصلة في تاريخ بغداد 13 : 108 - 110 . أبو حيان : هو التيمي الكوفي العابد ، واسمه : يحيى بن سعيد بن حيان . وهو ثقة ، كان الثوري يعظمه ويوثقه . أخرج له أصحاب الكتب الستة . أبوه سعيد بن حيان : تابعي ثقة ، روى عن علي ، وأبي هريرة .
(3) الخبر : 5383 - وهذا إسناد صحيح ، متابعة صحيحة من ابن علية لمصعب بن سلام ، في حديثه السابق .
وقد ذكر ابن حزم في المحلى 4 : 259 ، نحو هذا المعنى : " عن يحيى بن سعيد القطان ، عن أبي حيان يحيى بن سعيد التيمي ، حدثني أبي : أن سائلا سأل عليا : أي الصلوات ، يا أمير المؤمنين ، الوسطى ؟ وقد نادى مناديه العصر ، فقال : هي هذه " .
(4) الخبر : 5384 - الأجلح : هو ابن عبد الله الكندي ، وهو ثقة ، تكلم فيه بعضهم بغير حجة . وترجمه البخاري في الكبير 1 / 2 / 68 ، فلم يذكر فيه جرحا .

(5/169)


عن الحارث قال : سألت عليا عن الصلاة الوسطى ، فقال : صلاة العصر. (1)
5386 - حدثني محمد بن عبد الله بن عبد الحكم المصري قال ، حدثنا أبو زرعة وهب بن راشد قال ، أخبرنا حيوة بن شريح قال ، أخبرنا أبو صخر : أنه سمع أبا معاوية البجلي من أهل الكوفة يقول : سمعت أبا الصهباء البكري يقول : سألت علي بن أبي طالب عن الصلاة الوسطى فقال : هي صلاة العصر ، وهي التي فتن بها سليمان بن داود صلى الله عليه وسلم. (2)
5387 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال ، حدثنا ابن علية قال ، أخبرنا سيمان التيمي وحدثنا حميد بن مسعدة قال ، حدثنا بشر بن الفضل قال حدثنا التيمي عن أبي صالح ، عن أبي هريرة أنه قال : " الصلاة الوسطى " صلاة العصر. (3)
__________
(1) الخبر : 5385 - عنبسة : هو ابن سعيد بن الضريس الأسدي . مضى مرارا ، منها : 3356 . وهذا الإسناد والذي قبله ضعيفان ، من أجل الحارث الأعور ، كما قلنا في : 5380 .
(2) الخبر : 5386 - أبو زرعة ، وهب الله بن راشد ، مضى في : 2377 ، 2891 . ووقع في المطبوعة هنا " وهب بن راشد " ، وهو خطأ ، وثبت على الصواب في المخطوطة . أبو صخر : هو حميد بن زياد الخراط ، صاحب العباء ، سكن مصر . وهو ثقة ، أخرج له مسلم في الصحيح .
أبو معاوية البجلي : عقد له صاحب التهذيب ترجمة خاصة في الكنى 12 : 240 ، ونقل عن أبي أحمد الحاكم أنه " عمار الدهني " ، وجعل ذلك قولا . والصحيح أنه هو " عمار بن معاوية الدهني البجلي " ، وهو ثقة ، أخرج له مسلم في الصحيح . وترجمه ابن أبي حاتم 3 / 1 / 390 . و " الدهني " : بضم الدال المهملة وسكون الهاء ، نسبة إلى " دهن بن معاوية " ، بطن من بجيلة .
أبو الصهباء البكري : لم أجد له ترجمة إلا في كتاب ابن أبي حاتم 4 / 2 / 394 ، قال : " أبو الصهباء البكري ، أنه سأل علي بن أبي طالب ، روى عنه سعيد بن جبير " . ثم قال : " سئل أبو زرعة عن اسمه ؟ فقال : لا أعرف اسمه " . ولم يذكر فيه جرحا . وقد استفدنا من هذا الموضع من الطبري أنه روى عنه أيضًا أبو معاوية البجلي ، فارتفعت عنه الجهالة ، وعرف شخصه . فهذا إسناد صحيح .
وقد ذكر ابن حزم في المحلى 4 : 259 ، نحو معناه عن علي ، من وجه آخر ، من رواية سلمة بن كهيل ، عن أبي الأحوص ، عن علي .
وذكر السيوطي 1 : 305 ، نحوه أيضًا ، وذكر كثيرا ممن خرجوه ، منهم : وكيع ، وابن أبي شيبة وعبد بن حميد ، والبيهقي في الشعب .
(3) الخبر : 5387 - أبو صالح : هو السمان الزيات ، مولى جويرية بنت الأحمس ، واسمه : ذكوان . وهو تابعي ثقة ، أخرج له أصحاب الكتب الستة . وهو والد سهيل ، وصالح ، وعبد الله ، روى عنه أولاده وغيرهم ، من التابعين فمن بعدهم .
وهذا الخبر ذكره ابن حزم في المحلى 4 : 258 ، " من طريق يحيى بن سعيد القطان ، عن سليمان التيمي ، عن أبي صالح السمان ، عن أبي هريرة " ، موقوفا . وكذلك رواه البيهقي 1 : 460 - 461 ، من طريق إبراهيم بن عبد الله البصري ، عن الأنصاري ، وهو محمد بن عبد الله بن المثنى الأنصاري ، عن سليمان التيمي ، قال : " فذكره موقوفا " . ثم رواه من طريق عبد الله بن أحمد بن حنبل . عن أبيه ؛ " حدثنا يحيى بن سعيد ، عن التيمي ، فذكره موقوفا " . ثم حكى عن عبد الله بن أحمد ، بالإسناد نفسه متصلا به ، قال : " قال أبي : ليس هو أبو صالح السمان ، ولا باذام . هذا بصري ، أراه ميزان ، يعني : اسمه باذام " . وهذا الظن من الإمام أحمد رحمه الله ، ينفيه تصريح من ذكرنا من الرواة بأنه " أبو صالح السمان " . وأما " أبو صالح ميزان " ، فإنه تابعي آخر ثقة ، مترجم في التهذيب ، والكبير للبخاري 4 /2 / 67 . ولكنهم لم يذكروا له رواية عن أبي هريرة .
بل إنَّه قد رواه البيهقي أيضًا ، قبل ذلك مرفوعا : فرواه من طريق عبد الوهاب بن عطاء ، عن سليمان التيمي ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة ، مرفوعا .
وسيأتي - مرفوعا - من هذا الوجه : 5432 .
وسيأتي - موقوفا - من رواية سليمان التيمي ، عن أبي صالح : 5390 .

(5/170)


5388 - حدثني المثنى قال ، حدثنا سويد قال ، أخبرنا ابن المبارك ، عن معمر ، عن عبد الله بن عثمان بن غنم ، عن ابن لبيبة ، عن أبي هريرة : " حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى " ، ألا وهي العصر ، ألا وهي العصر. (1)
__________
(1) الخبر : 5388 - سويد : هو ابن نصر بن سويد المروزي ، مضى في : 2941 . عبد الله بن عثمان بن خثيم : مضى في : 4341 . وجده " خثيم " : بضم الخاء المعجمة وفتح الثاء المثلثة . ووقع في المطبوعة " غنم " ، وهو خطأ . وثبت على الصواب في المخطوطة .
ابن لبيبة : هو عبد الرحمن بن نافع بن لبيبة الطائفي ، لم أجد له ترجمة إلا في ابن أبي حاتم 2 /2 /294 ، قال : " روى عن أبي هريرة ، وابن عمر . روى عنه عبد الله بن عثمان بن خثيم ، ويعلى بن عطاء " . فهو تابعي معروف ، لم يذكر بجرح ، فهو ثقة . وذكر اسمه عند الطحاوي والسيوطي : " عبد الرحمن بن لبيبة " ، وعند ابن حزم " عبد الرحمن نافع " فقط . كما سيأتي في التخريج .
والخبر رواه الطحاوي في معاني الآثار 1 : 103 - 104 ، من طريق إسماعيل بن عياش ، عن عبد الله بن عثمان بن خثيم ، " عن عبد الرحمن بن لبيبة الطائفي : أنه سأل أبا هريرة . . . " فذكره مطولا .
وذكره السيوطي 1 : 304 ، مطولا ، كرواية الطحاوي . ونسبه إليه وإلى عبد الرزاق في المصنف . وهو تساهل منه . لأن رواية عبد الرزاق مختصرة جدا .
وذكره ابن حزم في المحلى 4 : 258 - 259 ، مطولا ، " من طريق إسماعيل بن إسحاق ، حدثنا علي بن عبد الله ، هو ابن المديني ، حدثنا بشر بن المفضل ، حدثنا عبد الله بن عثمان ، عن عبد الرحمن بن نافع : أن أبا هريرة سئل عن الصلاة الوسطى ؟ . . . " ، فذكره .
وأما رواية عبد الرزاق في المصنف 1 : 182 (مخطوط مصور) - فإنها مختصرة جدا : " عبد الرزاق عن معمر ، عن ابن خثيم ، عن ابن لبيبة ، عن أبي هريرة ، قال : هي العصر " .

(5/171)


5389 - حدثني محمد بن عبد الله بن عبد الحكم قال ، حدثنا أبي وشعيب بن الليث ، عن الليث ، عن يزيد بن الهاد ، عن ابن شهاب ، عن سالم بن عبد الله ، عن عبد الله قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " من فاتته صلاة العصر فكأنما وتر أهله وماله " ، " فكان ابن عمر يرى لصلاة العصر فضيلة للذي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها أنها الصلاة الوسطى. (1)
5390 - حدثني محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا معتمر ، عن أبيه قال ، زعم أبو صالح ، عن أبي هريرة أنه قال : هي صلاة العصر. (2)
__________
(1) الحديث : 5389 - هذا إسناد صحيح جدا . وأصل الحديث المرفوع ، دون رأي ابن عمر في آخره - رواه أحمد في المسند : 4545 ، عن سفيان ، وهو ابن عيينة ، عن الزهري ، عن سالم ، عن أبيه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم . ورواه أصحاب الكتب الستة ، كما في المنتقى : 556 .
ورواه أحمد أيضًا ، من طرق كثيرة ، عن نافع ، عن ابن عمر . بيناها في الاستدراكين : 1299 ، 1542 .
وأما الحديث ، على النحو الذي رواه أبو جعفر هنا ، بزيادة رأي عبد الله بن عمر - : فقد رواه عبد الرزاق في المصنف 1 : 181 ، عن معمر ، عن الزهري ، عن سالم ، عن ابن عمر ، بنحوه ، مختصرا قليلا .
وكذلك ذكره السيوطي 1 : 304 ، ونسبه لعبد الرزاق ، وعبد بن حميد . ونسى أن ينسبه للطبري . وسيأتي بنحوه : 5391 . وذكر ابن حزم في المحلى 4 : 259 - رأى ابن عمر ، دون أن يذكر الحديث المرفوع . وكذلك روى الطحاوي في معاني الآثار 1 : 101 قول ابن عمر ، موقوفا عليه ، صريح اللفظ : " الصلاة الوسطى صلاة العصر " - من طريق عبد الله بن صالح ، ومن طريق عبد الله بن يوسف ، كلاهما عن الليث ، عن ابن الهاد ، عن الزهري ، عن سالم ، عن أبيه .
قوله : " وتر أهله وماله " : هو بالبناء لما لم يسم فاعله . قال ابن الأثير : " أي نقص ، يقال : وترته ، إذا نقصته . فكأنك جعلته وترا بعد أن كان كثيرا . وقيل : هو من الوتر : الجناية التي يجنيها الرجل على غيره ، من قتل أو نهب أو سبي . فشبه ما يلحق من فاتته صلاة العصر بمن قتل حميمه ، أو سلب أهله وماله . يروى بنصب الأهل ورفعه ، فمن نصب جعله مفعولا ثانيا لوتر ، وأضمر فيه مفعولا لم يسم فاعله عائدا إلى الذي فاتته الصلاة . ومن رفع لم يضمر ، وأقام الأهل مقام ما لم يسم فاعله ، لأنهم المصابون المأخوذون . فمن رد النقص إلى الرجل نصبهما ، ومن رده إلى الأهل والمال رفعهما " .
(2) الخبر : 5390 - هو تكرار للخبر : 5387 . وكان مكانه أن يذكر عقبه ، أو عقب الذي بعده . لأن إثباته في هذا الموضع فصل بين حديثي ابن عمر : 5389 ، 5391 - دون ما حاجة لذلك ولا حكمة . و " معتمر " - في هذا الإسناد : هو ابن سليمان التيمي .

(5/172)


5391 - حدثني أحمد بن عبد الرحمن بن وهب قال ، حدثني عمي عبد الله بن وهب قال ، أخبرني عمرو بن الحارث ، عن ابن شهاب ، عن سالم ، عن أبيه ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بنحوه قال ابن شهاب ، وكان ابن عمر يرى أنها الصلاة الوسطى. (1)
5392 - حدثنا محمد بن بشار قال ، حدثنا عفان بن مسلم قال ، حدثنا همام ، عن قتادة ، عن الحسن ، عن أبي سعيد الخدري قال : الصلاة الوسطى : صلاة العصر. (2)
5393 - حدثني محمد بن معمر قال ، حدثنا ابن عامر قال ، حدثنا محمد بن أبي حميد ، عن حميدة ابنة أبي يونس مولاة عائشة قالت : أوصت عائشة لنا بمتاعها ، فوجدت في مصحف عائشة : " حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وهي العصر وقوموا لله قانتين " . (3)
__________
(1) الحديث : 5391 - هو تكرار للحديث : 5389 ، فصل بينهما - دون ما حاجة - بخبر أبي هريرة . فأوجب شبهة أن يكون قوله في هذا الحديث " بنحوه " ، راجعا إلى خبر أبي هريرة . وليس كذلك ، بل هو تكرار للحديث المرفوع ولرأي ابن عمر الذي استنبطه من الحديث .
(2) الخبر : 5392 - عفان بن مسلم بن عبد الله الصفار : ثقة من شيوخ أحمد والبخاري . وأخرج له أصحاب الكتب الستة . وله ترجمة جيدة في تاريخ بغداد 12 : 269 - 277 . الحسن : هو البصري . وقد روى ابن أبي حاتم في المراسيل ، ص : 15 ، عن علي بن المديني ، أن الحسن لم يسمع من أبي سعيد الخدري شيئا ، وكذلك روى نحوه عن بهز . فهذا الخبر منقطع لهذا .
والخبر رواه الطحاوي في معاني الآثار 1 : 103 ، عن ابن مرزوق ، عن عفان عن همام ، بهذا الإسناد . ولم يذكر لفظه ، إحالة على ما قبله .
وسيأتي في : 5451 ، رواية عن أبي سعيد الخدري : أنها الظهر . وهذا هو الذي ذكره السيوطي 1 : 302 نقلا عن الطبري .
وأبو سعيد ممن روي عنه أنها الظهر ، وروي عنه أنها العصر ، كما في ابن كثير 1 : 577 ، 578 ، وفتح الباري 8 : 146 . وقد ذكر الحافظ في الفتح أن أحمد روى عن أبي سعيد - من قوله - أنها صلاة العصر . وهذه الرواية لم أجدها في المسند ، فما أدري : أهي في موضع آخر عرضا غير مسند أبي سعيد ؟ أم في كتاب آخر من كتب أحمد غير المسند ؟ وإن كان مقتضى الإطلاق أن يراد المسند!
(3) الخبر : 5393 - ابن عامر : هكذا ثبت في المخطوطة والمطبوعة! ولست أدري من هو ؟ والراجح - عندنا - أنه خطأ ، صوابه " أبو عامر " ، وهو " أبو عامر العقدي عبد الملك بن عمرو " فهو يروي عن محمد بن أبي حميد ، ويروي عنه محمد بن معمر ، شيخ الطبري .
حميدة ابنة أبي يونس مولاة عائشة : لا أدري من هي ، ولا ما شأنها ؟ لم أجد لها ذكرا في كل المصادر التي بين يدي ، ولا في كتاب الثقات لابن حبان ، فأمرها مشكل حقا . وسيأتي خبران " عن أبي يونس مولى عائشة " : 5466 ، 5467 ، وهذا تابعي معروف ، كما سيأتي ، فلعل هذه ابنته . وقد ذكر السيوطي 1 : 304 نحو هذا الخبر ، هكذا : " وأخرج وكيع عن حميدة ، قالت : قرأت في مصحف عائشة : حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى ، صلاة العصر " .
وكذلك رواه ابن أبي داود في المصاحف ، ص : 84 ، عن محمد بن معمر ، عن أبي عاصم ، عن ابن جريج ، عن ابن أبي حميد ، قال : " أخبرتني حميدة " ، ولم يذكر نسبها .
وستأتي أخبار أخر عن عائشة : 5394 - 4397 ، 5400 ، 5401 ، 5466 ، 5467 .

(5/173)


5394 - حدثني سعيد بن يحيى الأموي قال ، حدثنا أبي قال ، حدثنا ابن جريج قال ، أخبرنا عبد الملك بن عبد الرحمن : أن أمه أم حميد بنت عبد الرحمن سألت عائشة عن الصلاة الوسطى ، قالت : كنا نقرؤها في الحرف الأول على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم : " حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى [قال أبو جعفر : أنه قال] صلاة العصر وقوموا لله قانتين " .
5395 - حدثني عباس بن محمد قال ، حدثنا حجاج قال ، قال ابن جريج : أخبرني عبد الملك بن عبد الرحمن ، عن أمه أم حميد ابنة عبد الرحمن : أنها سألت عائشة ، فذكر نحوه إلا أنه قال : حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وصلاة العصر " . (1)
__________
(1) الحديثان : 5394 ، 5395 - عبد الملك بن عبد الرحمن بن خالد بن أسيد - بفتح الهمزة - القرشي : ثقة ترجمه ابن أبي حاتم 2 /2 /355 ، قال : " روى عن أمه أم حميد ، قالت : سمعت عائشة . روى عنه ابن جريج " . ووهم العقيلي ، فلم يرفع نسبه ، وقال : " من ولد عتاب بن أسيد " . واستدرك عليه الحافظ في لسان الميزان 4 : 65 - 66 ، ونقل ترجمته من ثقات ابن حبان ، نحو كلام ابن أبي حاتم .
أمه " أم حميد ابنة عبد الرحمن " : لم أتوثق من ترجمتها . ففي التهذيب 12 : 465 - ترجمة هكذا : " أم حميد ، ويقال : أم حميدة ، بنت عبد الرحمن ، عن عائشة ، روى ابن جريج عن أبيه عنها " . فإن لم تكنها فلا أدري ؟
وهذان الحديثان بمعنى واحد ، إلا أن في أولهما : " صلاة العصر " ، بدون الواو ، وفي ثانيهما : " وصلاة العصر " ، بإثبات الواو . وهذه الواو العاطفة - في رواية إثباتها : هي من عطف الصفة على الموصوف ، لا عطف المغايرة . كما يدل عليه الرواية الآتية : 5397 ، " وهي صلاة العصر " . وانظر فتح الباري 8 : 148 ، وما يأتي : 5465 - 5468 .
وهذا المعنى - عن عائشة - رواه عبد الرزاق في المصنف 1 : 182 ، عن ابن جريج ، بهذا الإسناد ، ولم يذكر لفظه ، إحالة على رواية قبله ، فيها إثبات الواو .
ورواه ابن حزم في المحلى 4 : 257 - 258 ، بإسناده ، من طريق عبد الرزاق .
ورواه ابن أبي داود في المصاحف ، ص : 84 ، بإسنادين : من طريق أبي عاصم ، ومن طريق حجاج - كلاهما عن ابن جريج ، به . ورواه الطحاوي في معاني الآثار 1 : 102 ، من طريق الحجاج بن محمد ، عن ابن جريج ، به .

(5/174)


5396 - حدثنا سفيان بن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن محمد بن عمرو أبي سهل الأنصاري ، عن القاسم بن محمد ، عن عائشة في قوله : " الصلاة الوسطى " ، قالت : صلاة العصر. (1)
5397 - حدثني المثنى قال ، حدثنا الحجاج قال ، حدثنا حماد ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه قال : كان في مصحف عائشة : " حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وهي صلاة العصر " . (2)
__________
(1) الخبر : 5396 - أبو سهل محمد بن عمرو الأنصاري الواقفي البصري : الراجح عندنا توثيقه ، ترجم له البخاري في الكبير 1 /1 /194 ، فلم يذكر فيه جرحا ، وذكره ابن حبان في الثقات ، ثم ذكره في الضعفاء . وترجمه ابن أبي حاتم 4 /1 /32 ، فذكر الأقوال في تضعيفه فقط . وقال ابن حزم في المحلى 4 : 256 ، " ثقة . روى عنه ابن مهدي ، ووكيع ، ومعمر ، وعبد الله بن المبارك ، وغيرهم " . ووقع في المطبوعة : " محمد بن عمرو وأبي سهل الأنصاري " ! وزيادة الواو قبل الكنية خطأ ، وقع في المخطوطة أيضًا .
ووقع في المطبوعة أيضًا : " قال صلاة العصر " . وهو خطأ واضح . صوابه " قالت " .
والخبر ، ذكر ابن حزم في المحلى 4 : 256 أنه رواه " من طريق عبد الرحمن بن مهدي ، عن أبي سهل محمد بن عمرو الأنصاري ، عن محمد بن أبي بكر ، عن عائشة أم المؤمنين ، قالت : الصلاة الوسطى صلاة العصر " . ثم قال ابن حزم : " فهذه أصح رواية عن عائشة " .
وقوله في الإسناد " عن محمد بن أبي بكر " - هكذا وقع في المحلى ، فلا أدري ، الرواية عن ابن مهدي هكذا ؟ فيكون محمد بن عمرو رواه عن القاسم بن محمد وعن أبيه ! أم هو خطأ من ناسخي المحلى ؟ وأنا أرجح أنه خطأ ؛ لأن محمد بن أبي بكر الصديق قديم الوفاة . وشيوخ محمد بن عمرو كلهم مقارب لطبقة القاسم بن محمد ، ثم إنهم لم يذكروا محمد بن أبي بكر في شيوخ محمد بن عمرو . وأكثر من هذا أنهم لم يذكروا - قط - راويا عن محمد بن أبي بكر ، غير ابنه القاسم بن محمد . ولكن ابن حزم يشير بعد ذلك ، ص : 259 إلى رواية القاسم بن محمد عن عائشة " مثل ذلك " . فالظاهر أن الخطأ قديم ، في الكتب التي نقل عنها ابن حزم .
(2) الخبر : 5397 - المثنى - شيخ الطبري : هو ابن إبراهيم الآملي ، كما بينا فيما مضى : 186 ، 187 . ووقع في ابن كثير ، نقلا عن هذا الموضع : " ابن المثنى " ، وهو خطأ .
الحجاج : هو ابن المنهال الأنماطي ، كما مضى في رواية المثنى عنه : 682 ، 1682 ، 1683 حماد : هو ابن سلمة ، كما تبين من رواية ابن حزم التي سنذكر .
والخبر نقله ابن كثير 1 : 580 ، عن هذا الموضع . ونقله الحافظ في الفتح 8 : 146 ، والسيوطي 1 : 304 ، ولم ينسباه لغير الطبري .
وذكره ابن حزم في المحلى 4 : 254 " عن حماد بن سلمة ، عن هشام بن عروة " . ولكن فيه : " وصلاة العصر " ، بدون كلمة " هي " .
وكذلك هو بنحوه ، في كتاب المصاحف لابن أبي داود ، ص : 83 ، من طريق يزيد ، عن حماد ، عن هشام ، عن أبيه .
ورواه عبد الرزاق في المصنف 1 : 182 ، عن معمر ، عن هشام بن عروة ، قال : " قرأت في مصحف عائشة رضي الله عنها : " حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وصلاة العصر وقوموا لله قانتين " . فلم يذكر كلمة " هي " . وجعله من قراءة هشام نفسه في مصحف عائشة ، لا من روايته عن أبيه .
وهذه الرواية ذكرها السيوطي 1 : 302 ، ونسبها لعبد الرزاق ، وابن أبي داود . ولم أجدها في كتاب المصاحف .

(5/175)


5398 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا وكيع ، عن داود بن قيس قال ، حدثني عبد الله بن رافع مولى أم سلمة قال : أمرتني أم سلمة أن أكتب لها مصحفا وقالت : إذا انتهيت إلى آية الصلاة فأعلمني. فأعلمتها ، فأملت علي : " حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى صلاة العصر " . (1)
5399 - حدثنا عن عمار قال ، حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه قال : كان الحسن يقول : الصلاة الوسطى صلاة العصر. (2)
__________
(1) الخبر : 5398 - داود بن قيس الفراء الدباغ المدني : ثقة حافظ ، كما قال الشافعي . ووثقه ابن المديني وغيره .
عبد الله بن رافع المخزومي ، أبو رافع المدني ، مولى أم سلمة أم المؤمنين عتاقة : تابعي ثقة . وهذا الخبر رواه عبد الرزاق في المصنف 1 : 182 ، عن داود بن قيس ولكن بلفظ : " وصلاة العصر " ، بزيادة الواو .
وكذلك هو في المحلى 4 : 254 ، نقلا عن عبد الرزاق .
وكذلك نقله السيوطي 1 : 303 . ونسبه لوكيع ، وابن أبي شيبة في المصنف ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن أبي داود في المصاحف ، وابن المنذر . ونسى أن ينسبه لعبد الرزاق .
وهو في كتاب المصاحف لابن أبي داود ، ص : 87 - 88 ، من طريق ابن نافع ، وطريق وكيع ، وطريق سفيان - ثلاثتهم عن داود بن قيس . وفي الطريقين الأولين بإثبات الواو ، وفي الثالث بحذفها .
وأشار إليه الحافظ في الفتح 8 : 148 ، ونسبه لابن المنذر ، فقط . ووقع فيه " عبيد الله بن رافع " وهو خطأ من ناسخ أو طابع .
(2) الخبر : 5399 - هو أثر من كلام الحسن ، بإسناد ضعيف مجهول ، بقول الطبري : " حدثت عن عمار " .
وسيأتي بإسناد آخر عن الحسن : 5419 .
وسيأتي نحو معناه عن الحسن ، مرفوعا مرسلا : 5441 .

(5/176)


5400 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا المعتمر ، عن أبيه قال ، حدثنا قتادة ، عن أبي أيوب ، عن عائشة أنها قالت : الصلاة الوسطى صلاة العصر.
5401 - حدثنا محمد بن بشار قال ، حدثنا يحيى ، عن سليمان التيمي ، عن قتادة ، عن أبي أيوب ، عن عائشة مثله. (1)
5402 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا حكام قال ، حدثنا عنبسة ، عن المغيرة ، عن إبراهيم قال : كان يقال : الصلاة الوسطى صلاة العصر.
5403 - حدثت عن عمار قال ، حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع قال : ذكر لنا عن علي بن أبي طالب أنه قال : الصلاة الوسطى صلاة العصر.
5404 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال ، حدثنا هشيم ، عن أبي بشر ، عن سعيد بن جبير قال : صلاة الوسطى صلاة العصر.
5405 - حدثني يعقوب قال ، حدثنا هشيم ، عن أبي بشر ، عن سالم ، عن حفصة : أنها أمرت رجلا يكتب لها مصحفا فقالت : إذا بلغت هذا المكان فأعلمني. فلما بلغ " حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى " ، قال : اكتب
__________
(1) الخبران : 5400 ، 5401 - المعتمر - في الإسناد الأول : هو ابن سليمان التيمي . يحيى - في الإسناد الثاني : هو ابن سعيد القطان .
أبو أيوب : هو يحيى بن مالك المراغي العتكي الأزدي . وهو تابعي ثقة مأمون .
و " المراغي " : نسبة إلى " المراغ " ، وهي بطن من الأزد . و " العتكي " : نسبة إلى " العتيك " ابن الأزد " . فالظاهر أن المراغ من العتيك . وأخطأ ابن حزم في المحلى ، فذكر أن اسم أبي أيوب : " يحيى بن يزيد " . وهو خلاف لما في الدواوين ، بل قد ثبت اسمه في صحيح مسلم 1 : 170 في حديث آخر : " عن قتادة ، عن أبي أيوب ، واسمه : يحيى بن مالك الأزدي ، ويقال المراغي . والمراغ : حي من الأزد " .
والخبر نقله ابن حزم في المحلى 4 : 259 ، عن يحيى بن سعيد القطان ، عن سليمان التيمي ، به . وذكره السيوطي 1 : 305 ، قال : " وأخرج ابن أبي شيبة ، وابن جرير ، من طرق عن عائشة " .

(5/177)


" صلاة العصر " . (1)
5406 - حدثني المثنى قال ، حدثنا حجاج بن المنهال قال ، حدثنا حماد بن سلمة قال ، أخبرنا عبيد الله بن عمر عن نافع ، عن حفصة زوج النبي صلى الله عليه وسلم : أنها قالت لكاتب مصحفها : إذا بلغت مواقيت الصلاة فأخبرني حتى أخبرك بما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم. فلما أخبرها قالت : اكتب ، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وهي صلاة العصر " . (2)
__________
(1) الخبر : 5405 - أبو بشر : هو جعفر بن أبي وحشية ، مضى في : 3348 . وسيأتي هذا الخبر مطولا : 5461 ، من طريق شعبة ، عن أبي بشر ، عن عبد الله بن يزيد الأزدي ، عن سالم . وفيه هناك : " وصلاة العصر " . فظهر أن هذا الإسناد منقطع بين أبي بشر وسالم . وندع الكلام عليه إلى ذاك الموضع ، إن شاء الله .
(2) الخبر : 5406 - نافع مولى ابن عمر : تابعي ثقة . ولكن روايته عن حفصة بنت عمر مرسلة ، كما نص على ذلك ابن أبي حاتم في المراسيل ، ص : 81 ، وكذلك نقل عنه في التهذيب . وهذا الخبر سيأتي أيضًا : 5463 ، من طريق أسد بن موسى ، عن حماد بن سلمة ، بهذا الإسناد .
وفيه : " وصلاة العصر " ، بدل " وهي صلاة العصر " .
وكذلك سيأتي : 5462 ، من طريق عبد الوهاب ، عن عبيد الله . ويدل على انقطاع هذا الإسناد والإسنادين الآتيين : أن ابن أبي داود رواه في المصاحف ، ص 85 ، عن محمد بن بشار - قال : ولم نكتبه عن غيره - : " حدثنا حجاج بن منهال ، حدثنا حماد بن سلمة ، عن عبيد الله ، عن نافع ، عن ابن عمر ، عن حفصة . . . " . وفيه أيضًا : " وصلاة العصر " .
ثم رواه : 85 - 86 ، عن عمه وإسحق بن إبراهيم ، قالا : " حدثنا حجاج ، حدثنا حماد ، قال : أخبرنا عبيد الله بن عمر ، عن نافع ، عن حفصة ، مثله . ولم يذكر فيه ابن عمر " .
فقد ظهر أنه اختلف على الحجاج بن منهال في وصله وانقطاعه . والوصل زيادة ثقة ، فتقبل . وروى نحوه عبد الرزاق في المصنف 1 : 182 ، عن ابن جرير ، قال : " أخبرني نافع : أن حفصة . . . " - وفيه أيضًا : " وصلاة العصر " . ورواية ابن جريج هذه - ذكرها ابن حزم في المحلى 4 : 253 . ونستدرك هنا : أننا أشرنا في التعليق عليه إلى رواية الطبري هذه - : 5406 - وقلنا هناك : " وإسناده صحيح جدا " . وقد تبين لنا الآن أن هذا كان خطأ ، وأن الإسناد ضعيف لانقطاعه ، كما قلنا . نعم إن رواية ابن أبي داود ، التي فيها زيادة " عن ابن عمر " ، دلت على وصل الخبر ، ولكنه إنما يكون صحيحا فيها ، لا في رواية الطبري هذه .
وستأتي أسانيد أخر عن حفصة : 5458 ، 5464 ، 5465 ، 5470 .

(5/178)


5407 - حدثني المثنى قال ، حدثنا الحجاج قال ، حدثنا حماد ، عن عاصم بن بهدلة ، عن زر بن حبيش قال : صلاة الوسطى هي العصر.
5408 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : " حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى " ، كنا نحدث أنها صلاة العصر ، قبلها صلاتان من النهار ، وبعدها صلاتان من الليل.
5409 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا هشيم قال ، أخبرنا جويبر ، عن الضحاك في قوله : " حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى " ، قال : أمروا بالمحافظة على الصلوات. قال : وخص العصر ، " والصلاة الوسطى " ، يعني العصر. (1)
5410 - حدثت عن الحسين بن الفرج قال ، سمعت أبا معاذ قال ، أخبرنا عبيد الله بن سليمان قال ، سمعت الضحاك يقول في قوله : " والصلاة الوسطى " ، هي العصر. (2)
5411 - حدثت عن عمار قال ، حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع قال : ذكر لنا عن علي بن أبي طالب أنه قال : " الصلاة الوسطى " صلاة العصر.
5412 - حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : " حافظوا على الصلوات " - يعني المكتوبات - " والصلاة الوسطى " ، يعني صلاة العصر.
5413 - حدثني أحمد بن إسحاق الأهوازي قال ، حدثنا أبو أحمد قال ، حدثنا قيس ، عن أبي إسحاق ، عن رزين بن عبيد ، عن ابن عباس قال : سمعته يقول : " حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى " ، قال : صلاة العصر. (3)
__________
(1) الخبر : 5409 - في المطبوعة " جبير " بدل " جويبر " . وهو خطأ .
(2) الأثر : 5410 - في المخطوطة والمطبوعة : " عبد الله بن سليمان " ، وهو خطأ . هذا إسناد دائر في التفسير ، أقربه رقم : 5356 .
(3) الخبر : 5413 - أبو أحمد : هو الزبيري ، محمد بن عبد الله بن الزبير الأسدي . قيس : هو ابن الربيع الأسدي الكوفي ، رجحنا توثيقه في : 4842 ، وفي المسند : 661 ، 7115 .
أبو إسحق : هو السبيعي . وفي المطبوعة : " عن ابن إسحاق " ، وهو تحريف ناسخ أو طابع . رزين بن عبيد : تابعي ثقة . ترجمه البخاري في الكبير 2 /1 /296 ، وابن أبي حاتم 1 /2/ 507 - فلم يذكرا فيه جرحا . وهذا كاف في توثيقه .
والخبر سيأتي : 5416 ، من رواية إسرائيل ، وهو ابن يونس بن أبي إسحاق السبيعي ، عن جده أبي إسحاق .
وكذلك رواه البخاري في الكبير ، في ترجمة " رزين " ، من طريق إسرائيل .
وكذلك رواه الطحاوي في معاني الآثار 1 : 102 ، من طريق إسرائيل . ووقع فيه خطأ في اسم التابعي .
وذكره السيوطي 1 : 305 ، " عن رزين بن عبيد : أنه سمع ابن عباس يقرؤها : والصلاة الوسطى صلاة العصر " ! هكذا ذكره السيوطي ، ونسبه لأبي عبيد ، وعبد بن حميد ، والبخاري في تاريخه ، وابن جرير ، والطحاوي ؛ وفيه تساهل ، فاللفظ عند البخاري والطبري والطحاوي ليس النص على قراءة الآية كذلك .
وذكر الهيثمي في مجمع الزوائد 1 : 309 ، أن البزار روى عن ابن عباس : " أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : صلاة الوسطى صلاة العصر " . قال الهيثمي : " ورجاله موثقون "

(5/179)


5414 - حدثني أحمد بن إسحاق قال ، حدثنا أبو أحمد قال ، حدثنا إسرائيل ، عن ثوير ، عن مجاهد قال : الصلاة الوسطى صلاة العصر. (1)
5415 - حدثني يحيى بن أبي طالب قال ، حدثنا يزيد قال ، أخبرنا جويبر ، عن الضحاك قال : الصلاة الوسطى صلاة العصر.
5416 - حدثنا أحمد بن حازم قال ، حدثنا أبو نعيم قال ، حدثنا إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن رزين بن عبيد قال : سمعت ابن عباس يقول : هي صلاة العصر. (2)
5417 - حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا ابن أبي عدي قال ، أنبأنا إسماعيل بن مسلم ، عن الحسن ، عن سمرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " الصلاة الوسطى صلاة العصر " . (3)
__________
(1) الخبر : 5414 - ثوير - بالتصغير - : هو ابن أبي فاختة ، وهو ضعيف جدا . كما مضى في : 3212 . ووقع في المطبوعة " ثور " . وهو خطأ ، وثبت على الصواب في المخطوطة .
(2) الخبر : 5416 - هو تكرار للخبر : 5413 ، بمعناه . وقد سبق الكلام عليه مفصلا .
(3) الخبر : 5417 - إسماعيل بن مسلم : هو المكي ، بصري سكن مكة . وحديثه عندنا حسن ، كما بينا في المسند في حديث آخر : 1689 ، وفي شرح الترمذي 1 : 454 . الحسن : هو البصري . وسمرة : هو ابن جندب الصحابي المعروف .
وسماع الحسن من سمرة ، فيه كلام طويل لأئمة الحديث . والراجح سماعه منه . كما رجحه ابن المديني ، والبخاري ، والترمذي ، والحاكم ، وغيرهم . وانظر في ذلك شرحنا للترمذي 1 : 343 ، والجوهر النقي 5 : 288 - 289 ، وعون المعبود 1 : 369 - 370 ، وغير ذلك من المراجع .
والحديث سيأتي بأسانيد أخر : 5438 - 5439 .
ورواه أحمد في المسند 5 : 7 ، 12 ، 13 - بأسانيد ، من طريق سعيد ، وهو ابن أبي عروبة ، عن قتادة ، عن الحسن ، عن سمرة .
وكذلك رواه الترمذي ، رقم : 182 بشرحنا ، في كتاب الصلاة (1 : 159 - 160 شرح المباركفوري) ، ورواه أيضًا في كتاب التفسير 4 : 77 (شرح المباركفوري) ، من طريق ابن أبي عروبة . وقال في الموضع الأول : " حديث سمرة في الصلاة الوسطى حديث حسن " . وقال في الموضع الثاني : " هذا حديث حسن صحيح " . وكذلك رواه الطحاوي في معاني الآثار 1 : 103 ، من طريق روح بن عبادة ، عن ابن أبي عروبة ، به . مرفوعا . ولم يذكر لفظه ، إحالة على رواية سابقة . ورواه البيهقي 1 : 460 ، من طريق همام ، عن قتادة ، عن الحسن ، عن سمرة . وذكره ابن كثير 1 : 578 - 579 ، عن روايات المسند بأسانيدها . وذكره السيوطي 1 : 304 ، وزاد نسبته لابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد ، والطبراني . وذكره قبله بلفظ : " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى ، وسماها لنا ، وإنما هي صلاة العصر " . ونسبه لأحمد ، وابن جرير ، والطبراني . هكذا قال . ولم أجد هذا اللفظ في المسند ، ولا في تفسير الطبري ، وإن كان موافقا في المعنى لما عندنا فيهما .

(5/180)


5418 - حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا وهب بن جرير قال ، حدثنا أبي قال ، سمعت يحيى بن أيوب يحدث ، عن يزيد بن أبي حبيب ، عن مرة بن مخمر ، عن سعيد بن الحكم قال : سمعت أبا أيوب يقول : صلاة الوسطى صلاة العصر. (1)
__________
(1) الخبر : 5418 - مرة بن مخمر : ترجمه ابن أبي حاتم 4 /1 /366 ، قال : " مرة بن مخمر ، روى عن سعيد بن الحكم ، عن أبي أيوب ، روى عنه يزيد بن أبي حبيب " . ولم أجد له غير هذه الترجمة . ومن عجب أن البخاري لم يترجم له ، في حين أنه أشار إليه مرتين ، في الإشارة إلى هذا الخبر ، كما سيأتي ، ووقع اسمه في المشتبه للذهبي ، ص : 6 " مرة بن حمير " !
وهو خطأ . سعيد بن الحكم : تابعي ثقة . ترجمه البخاري في الكبير 2 /1/ 425 ، قال : " سمع أبا أيوب : " الوسطى العصر " . قاله وهب ، حدثنا أبي سمعت يحيى بن أيوب ، عن يزيد بن أبي حبيب ، عن مرة . ويقال سعد بن أحكم " . وهذه إشارة إلى هذا الإسناد ، إذ رواه الطبري هنا من طريق وهب بن جرير عن أبيه .
ثم ترجم البخاري 2 /2 /53 ، قال : " سعد بن أحكم ، من السفاكة ، بطن من يحصب ثم من حمير ، سمع أبا أيوب . قاله يعقوب بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن ابن إسحاق ، عن يزيد بن أبي حبيب ، عن مرة . وقال وهب بن جرير ، عن أبيه " . ثم انقطع الكلام ، ويظهر أن فيه سقطا ، يفهم مضمونه من الترجمة الماضية .
وترجم ابن أبي حاتم 2 /1 /13 : " سعيد بن الحكم ، مصري روى عن أبي أيوب . روى يزيد بن أبي حبيب ، عن مرة بن مخمر ، عنه " .
وترجم ابن أبي حاتم 2 /1 /81 - 82 : " سعد بن الحكم ، مصري ، من حمير . . . " ، . ثم ذكر نحو ما قاله في " سعيد " .
والذي لا أشك فيه أن ابن أبي حاتم أخطأ في الترجمة الثانية ، إذ أتى بقول ثالث لم يقله أحد ، وهو " سعد بن الحكم " . وإنما الاختلاف فيه بين " سعيد بن الحكم " ، و " سعد بن أحكم " ، كما صنع البخاري . وقد نقل العلامة الشيخ عبد الرحمن اليماني - في تعليقه على الموضع الأول من التاريخ الكبير - أن ابن حبان ذكره على القولين ، كصنيع البخاري ، وأن الأمير ابن ماكولا ذكره كذلك ، وأنه رواه أيضًا " ابن لهيعة ، عن يزيد بن أبي حبيب ، عن مرة بن مخمر الحميري ، عن سعد بن أحكم " .
وكذلك نص على ضبطه " سعد بن أحكم " - الذهبي في المشتبه ، ص : 6 ، والحافظ ابن حجر في تحرير المشتبه (المخطوط مصور عندنا) .
وعندي أن رواية " سعد بن أحكم " أرجح وأقرب إلى الصواب ، لأنه هكذا رواه اثنان عن يزيد بن أبي حبيب ، وهما : ابن إسحاق ، فيما ذكر البخاري ، وابن لهيعة ، فيما ذكر ابن ماكولا . وانفرد يحيى ابن أيوب بتسميته " سعيد بن الحكم " . واثنان أولى بالحفظ والثبت من واحد .
والخبر رواه البخاري في الكبير - إشارة - كما ذكرنا . وذكره السيوطي 1 : 305 ، وزاد نسبته لابن المنذر . أبو أيوب : هو الأنصاري الخزرجي ، الصحابي الجليل . واسمه : " خالد بن زيد " .

(5/181)


5419 - حدثنا ابن سفيان قال ، حدثنا أبو عاصم ، عن مبارك ، عن الحسن قال : صلاة الوسطى صلاة العصر. (1)
* * *
وعلة من قال هذا القول ما : -
5420 - حدثني به محمد بن معمر قال ، حدثنا أبو عامر قال ، حدثنا محمد - يعني ابن طلحة - عن زبيد ، عن مرة ، عن عبد الله قال : شغل المشركون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صلاة العصر حتى اصفرَّت ، أو احمرت - فقال : شغلونا عن الصلاة الوسطى ملأ الله أجوافهم وقبورهم نارا (2)
__________
(1) الخبر : 5419 - ابن سفيان - شيخ الطبري : هكذا ثبت في المخطوطة والمطبوعة ، ولا ندري من هو ؟ ويحتمل أن يكون محرفا عن " ابن سنان " . وهو : " محمد بن سنان القزاز " . مضت روايته عن أبي عاصم ، ورواية الطبري عنه : 157 ، 485 ، 702 .
(2) الحديث : 5420 - أبو عامر : هو العقدي ، عبد الملك بن عمرو .
محمد بن طلحة بن مصرف اليامي ، مضى في : 5088 .
زبيد ، بالتصغير : هو ابن الحارث بن عبد الكريم ، مضى في : 2521
مرة : هو مرة الطيب ، بن شراحيل الهمداني ، مضى أيضًا في : 2521 . عبد الله : هو ابن مسعود الصحابي الكبير .
وهذا الحديث رواه الطبري هنا من طريق أبي عامر العقدي . وسيرويه بعد ذلك : 5421 ، من طريق يزيد بن هرون . ثم : 5430 ، من طريق ثابت بن محمد - ثلاثتهم عن محمد بن طلحة بن مصرف .
وقد رواه أيضًا أبو داود الطيالسي في مسنده : 366 ، عن محمد بن طلحة ، مختصرا . ورواه أحمد في المسند : 3716 ، عن يزيد ، وهو ابن هارون . و : 3829 ، عن خلف بن الوليد . و : 4365 ، عن هاشم ، وهو ابن القاسم أبو النضر - ثلاثتهم عن محمد بن طلحة ، مطولا ومختصرا .
ورواه مسلم 1 : 174 ، عن عون بن سلام ، عن محمد بن طلحة .
ورواه الترمذي : 181 بشرحنا ، مختصرا ، من طريق الطيالسي ، وأبي النضر - كلاهما عن محمد بن طلحة . وقال الترمذي : " هذا حديث حسن صحيح " .
ورواه ابن ماجه : 686 ، من طريق عبد الرحمن بن مهدي ، ويزيد بن هارون - كلاهما عن محمد بن طلحة .
ورواه البيهقي 1 : 460 ، من طريق الفضل بن دكين ، وعون بن سلام - وكلاهما عن محمد بن طلحة . وذكره السيوطي 1 : 303 ، ونسبه لبعض من ذكرنا ولعبد بن حميد ، وابن المنذر .

(5/182)


5421 - حدثني أحمد بن سنان الواسطي قال ، حدثنا يزيد بن هارون قال ، أخبرنا محمد بن طلحة ، عن زبيد عن مرة ، عن عبد الله ، عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه - إلا أنه قال : ملأ الله بيوتهم وقبورهم نارا ، كما شغلونا عن الصلاة الوسطى " . (1)
5422 - حدثنا محمد بن المثنى ومحمد بن بشار قالا حدثنا محمد بن جعفر قال ، حدثنا شعبة قال : سمعت قتادة يحدث ، عن أبي حسان ، عن عبيدة السلماني ، عن علي قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب : شغلونا عن الصلاة الوسطى حتى آبت الشمس ، ملأ الله قبورهم وبيوتهم نارا أو بطونهم نارا شك شعبة في البطون والبيوت. (2)
__________
(1) الحديث : 5421 - أحمد بن سنان الواسطي ، القطان ، الحافظ - شيخ الطبري : ثقة متقن من الأثبات . روى عنه الشيخان وغيرهما . مترجم في تذكرة الحفاظ 2 : 93 - 94 . والحديث مكرر ما قبله .
(2) الحديث : 5422 - أبو حسان الأعرج : اسمه " مسلم " ، دون ذكر اسم أبيه ، في جميع المراجع ، إلا التهذيب وفروعه ورجال الصحيحين ، فإن فيها زيادة " بن عبد الله " . وهو تابعي ثقة ، أخرج له مسلم في صحيحه .
عبيدة - بفتح العين : هو السلماني ، مضت ترجمته في : 245 .
والحديث رواه مسلم 1 : 174 ، عن محمد بن المثنى ومحمد بن بشار - شيخي الطبري هنا - بهذا الإسناد .
ورواه ابن حزم في المحلى 4 : 252 ، من طريق مسلم .
ورواه أحمد في المسند : 1150 ، عن محمد بن جعفر عن شعبة ، بهذا الإسناد .
ثم رواه : 1151 ، عن حجاج ، وهو ابن محمد ، عن شعبة ، به .
ورواه النسائي 1 : 83 ، مختصرا ، من طريق خالد ، عن شعبة .
وسيأتي الحديث من رواية أبي حسان عن عبيدة : 5429 ، 5444 ، ومضى قول علي : " الصلاة الوسطى صلاة العصر " : 4380 ، وأشرنا إلى سائر الروايات الآتية من حديثه ، ومنها هذا الحديث .

(5/183)


5423 - حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا عبد الرحمن قال ، حدثنا سفيان ، عن عاصم ، عن زر قال : قلت لعبيدة السلماني : سل علي بن أبي طالب عن الصلاة الوسطى. فسأله ، فقال : كنا نراها الصبح أو الفجر حتى سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول يوم الأحزاب : " شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر! ملأ الله قبورهم وأجوافهم نارا " ! (1)
__________
(1) الحديث : 5423 - عبد الرحمن : هو ابن مهدي وسفيان : هو الثوري . وعاصم : هو ابن أبي النجود . وزر : هو ابن حبيش . وهذا الحديث من رواية زر بن حبيش عن علي ، بحضرته سؤال عبيدة السلماني وجواب علي . وهو يؤيد رواية أبي حسان الأعرج عن عبيدة : 5422 . والحديث رواه عبد الرزاق في المصنف 1 : 181 - 182 ، عن الثوري ، عن عاصم ، عن زر ابن حبيش ، به . وسيأتي : 5428 ، من رواية إسرائيل ، عن عاصم . ورواه ابن أبي حاتم - فيما نقل عنه ابن كثير 1 : 578 - عن أحمد بن سنان ، عن عبد الرحمن بن مهدي ، بهذا الإسناد . ثم قال ابن كثير : " رواه ابن جرير ، عن بندار ، عن ابن مهدي ، به " . يعني هذا الإسناد . وبندار : هو محمد بن بشار شيخ الطبري . ورواه ابن حزم في المحلى 4 : 252 - 253 ، بإسناده إلى محمد بن أبي بكر المقدمي ، عن يحيى بن سعيد القطان ، وعبد الرحمن بن مهدي ، كلاهما عن سفيان الثوري ، به . ورواه البيهقي 1 : 460 ، من طريق محمد بن كثير ، عن سفيان ، عن عاصم ، عن زر . ورواه ابن ماجه : 684 ، مختصرا ، من طريق حماد بن زيد ، عن عاصم ، عن زر . وأشار ابن حزم في المحلى 4 : 253 ، إلى رواية حماد بن زيد . وذكره السيوطي 1 : 303 ، وزاد نسبته لابن أبي شيبة وعبد بن حميد ، والبخاري والنسائي ، وابن المنذر . وهو تساهل منه في نسبته للبخاري ، فإني لم أجده في البخاري إلا من رواية ابن سيرين عن عبيدة ، كما سيأتي في : 5427 . وإسناد هذا الحديث - من رواية سفيان ، عن عاصم ، عن زر - إسناد صحيح . ومع ذلك فإن الإمام أحمد لم يروه في المسند من هذا الوجه بإسناد صحيح . بل روى نحوه مختصرا : 1287 ، من طريق شعبة ، عن جابر ، وهو الجعفي ، عن عاصم ، عن زر . وهو إسناد ضعيف ، من أجل جابر الجعفي . وروى ابنه عبد الله - في المسند - : 990 ، معناه مختصرا جدا ، بإسناد ضعيف أيضًا .

(5/184)


5424 - حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا عبد الرحمن قال ، حدثنا سفيان ، عن الأعمش ، عن أبي الضحى ، عن شتير بن شكل ، عن علي قال : شغلونا يوم الأحزاب عن صلاة العصر ، حتى سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر! ملأ الله قبورهم وبيوتهم نارا أو أجوافهم نارا (1)
5425 - حدثنا محمد بن المثنى قال ، حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، عن الحكم ، عن يحيى بن الجزار عن علي ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ، يوم الأحزاب ، على فرضة من فرض الخندق ، فقال : " شغلونا
__________
(1) الحديث : 5424 - أبو الضحى : هو مسلم بن صبيح - بضم الصاد المهملة - الهمداني الكوفي ، وهو تابعي ثقة كثير الحديث .
شتير بن شكل بن حميد العبسي : تابعي ثقة ، يقال إنه أدرك الجاهلية . ولذلك ترجمه الحافظ في الإصابة ، في قسم المخضرمين 3 : 219 - 220 . " شتير " : بضم الشين المعجمة وفتح التاء المثناة . و " شكل " : بالشين المعجمة والكاف المفتوحتين . وهذان الاسمان من نادر الأسماء .
والحديث سيأتي : 5426 ، بنحوه من طريق أبي معاوية ، عن الأعمش ، عن مسلم ، وهو أبو الضحى .
ورواه عبد الرزاق في المصنف 1 : 182 ، عن سفيان الثوري ، به .
ورواه أحمد في المسند : 1245 ، عن عبد الرزاق .
ورواه أيضًا : 1036 ، عن عبد الرحمن ، وهو ابن مهدي ، عن سفيان .
ورواه البيهقي 1 : 460 ، من طريق محمد بن شرحبيل بن جعشم ، عن الثوري .
وأما طريق أبي معاوية الآتية : فقد رواه أحمد في المسند : 617 ، 911 ، عن أبي معاوية ، عن الأعمش . ورواه مسلم 1 : 174 ، من طريق أبي معاوية .
وذكره ابن حزم في المحلى 4 : 253 ، من طريق مسلم .
ورواه أيضًا أحمد في المسند : 1298 ، عن محمد بن جعفر ، عن شعبة ، عن الأعمش .
وذكره ابن كثير 1 : 578 ، من رواية أحمد عن أبي معاوية . ثم ذكر أنه رواه مسلم والنسائي .

(5/185)


عن الصلاة الوسطى حتى غربت الشمس! ملأ الله قبورهم وبيوتهم ، نارا أو بطونهم وبيوتهم نارا. (1)
5426 - حدثني أبو السائب وسعيد بن نمير قالا حدثنا أبو معاوية ، عن الأعمش ، عن مسلم ، عن شتير بن شكل ، عن علي قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر! ملأ الله قبورهم وبيوتهم نارا! ثم صلاها بين العشاءين ، بين المغرب والعشاء. (2)
5427 - حدثنا الحسين بن علي الصدائي قال ، حدثنا علي بن عاصم ، عن خالد ، عن محمد بن سيرين ، عن عبيدة السلماني ، عن علي قال ، لم يصل رسول الله صلى الله عليه وسلم العصر يوم الخندق إلا بعد ما غربت الشمس ، فقال : ما لهم! ملأ الله قلوبهم وبيوتهم نارا! منعونا عن الصلاة الوسطى حتى غربت الشمس. (3)
__________
(1) الحديث : 5425 - الحكم : هو ابن عتيبة ، مضى في : 3297 . يحيى بن الجزار العرني الكوفي : تابعي ثقة . وجزم شعبة بأنه لم يسمع من علي بن أبي طالب إلا ثلاثة أحاديث ، هذا أجدها.
والحديث رواه أحمد في المسند : 1305 ، عن محمد بن جعفر ، عن شعبة ، بهذا الإسناد . ورواه أيضًا : 1132 ، عن عبد الرحمن بن مهدي ، عن شعبة .
ورواه مسلم 1 : 174 ، من طريق وكيع ، ومعاذ ، وهو العنبري الحافظ - كلاهما عن شعبة . وأشار ابن كثير 1 : 578 ، إلى رواية مسلم هذه .
ورواه الطحاوي في معاني الآثار 1 : 103 ، من طريق أبي عامر العقدي ، عن شعبة ، بهذا الإسناد . الفرضة : ما انحدر من جانب الخندق في موضع شقه . من " الفرض " : وهو الشق . ومنه " فرضة النهر " : وهو مشرب الماء منه . وهي ثلمة في شاطئه . وفرضة البحر : محط السفن .
(2) الحديث : 5426 - أبو السائب - شيخ الطبري : هو مسلم بن جنادة ، مضى مرارا .
سعيد بن نمير - شيخ الطبري : لم أعرف من هو ؟ ولم أجد له ذكرا ولا ترجمة في شيء من المراجع . وأخشى أن يكون محرفا عن شيء لا أعرفه الآن .
وكلمة " نمير " رسمت في المخطوطة رسما غير واضح ، يمكن أن يكون محرفا عن " يحيى " . فإن يكنه يكن : " سعيد بن يحيى بن الأزهر الواسطي " . وهو ثقة ، يروي عن أبي معاوية ، وهو من طبقة شيوخ الطبري . ولا نجزم ولا نرجح عن غير ثبت .
والحديث مضى : 5424 ، من رواية الثوري عن الأعمش ، وأشرنا إلى هذا ، وإلى تخريجه هناك .
(3) الحديث : 5427 - الحسين بن علي الصدائي : مضى في : 2093 .
علي بن عاصم بن صهيب الواسطي : ثقة من شيوخ أحمد وابن المديني . وبعضهم تكلم فيه ، ورجحنا توثيقه في المسند : 343 .
خالد : هو ابن مهران الحذاء ، مضى في : 1683 .
الحديث رواه أحمد في المسند ، مختصرا قليلا : 994 ، عن يحيى ، وهو القطان ، عن هشام ، وهو ابن حسان ، عن محمد ، وهو ابن سيرين . ورواه أيضًا : 1220 ، عن يزيد ، وهو ابن هرون ، عن هشام . ورواه البخاري 6 : 76 / و7 : 312 / و8 : 145 /و11 : 165 (فتح) ، من طرق عن هشام . ورواه أبو داود : 409 ، من طريق هشام أيضًا . ورواه ابن حزم في المحلى 4 : 252 ، من طريق البخاري . وانظر ما مضى : 5423 .

(5/186)


5428 - حدثنا زكريا بن يحيى الضرير قال ، حدثنا عبيد الله ، عن إسرائيل ، عن عاصم ، عن زر قال : انطلقت أنا وعبيدة السلماني إلى علي ، فأمرت عبيدة أن يسأله عن الصلاة الوسطى فقال : يا أمير المؤمنين ، ما الصلاة الوسطى ؟ فقال : كنا نراها صلاة الصبح ، فبينا نحن نقاتل أهل خيبر ، فقاتلوا ، حتى أرهقونا عن الصلاة ، وكان قبيل غروب الشمس ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : اللهم املأ قلوب هؤلاء القوم الذين شغلونا عن الصلاة الوسطى وأجوافهم نارا أو املأ قلوبهم نار قال : فعرفنا يومئذ أنها الصلاة الوسطى. (1)
5429 - حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة ، عن أبي حسان الأعرج ، عن عبيدة السلماني ، عن علي بن أبي طالب : أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال يوم الأحزاب : اللهم املأ قلوبهم وبيوتهم نارا كما شغلونا أو : كما حبسونا عن الصلاة الوسطى حتى غربت الشمس! (2)
__________
(1) الحديث : 5428 - هذا الحديث في معنى الحديث : 5423 . ولكن هذه الرواية فيها شذوذ ، في أن الحديث كان في غزوة خيبر . والروايات الصحاح كلها على أنه كان في غزوة الأحزاب . ولذلك أفردها السيوطي بالذكر 1 : 303 ، فقال : " وأخرج ابن جرير من وجه آخر عن زر . . . " . فلم ينسبها لغير الطبري ، ولم أجد ما يؤيدها .
بل روى الطحاوي في معاني الآثار 1 : 103 ، من هذا الوجه ، مثل سائر الروايات : فرواه من طريق زائدة بن قدامة ، عن عاصم ، عن زر ، عن علي ، وفيه : " قاتلنا الأحزاب " . ثم روى من طريق سفيان ، عن عاصم ، عن زر ، أنه كلف عبيدة سؤال علي ، قال : " فذكر نحوه " .
(2) الحديث : 5429 - يزيد : هو ابن زريع . وسعيد : هو ابن أبي عروبة . والحديث مضى : 5422 ، من رواية شعبة ، عن قتادة .
ورواه أحمد في المسند : 591 ، عن محمد بن أبي عدي . و : 1134 ، عن عبد الوهاب ، وهو ابن عطاء الخفاف ، و : 1307 ، عن محمد بن جعفر - ثلاثتهم عن سعيد ، وهو ابن أبي عروبة . ورواه أيضًا : 1313 ، عن بهز ، و : 1326 ، عن عفان - كلاهما عن همام ، عن قتادة . ورواه الترمذي 4 : 77 ، عن هناد ، عن عبدة ، عن سعيد بن أبي عروبة ، وقال : " هذا حديث حسن صحيح . وقد روى من غير وجه عن علي " .

(5/187)


5430 - حدثنا سليمان بن عبد الجبار قال ، حدثنا ثابت بن محمد قال ، حدثنا محمد بن طلحة ، عن زبيد ، عن مرة ، عن ابن مسعود قال : حبس المشركون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صلاة العصر حتى اصفرت الشمس أو : احمرت فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : شغلونا عن الصلاة الوسطى! ملأ الله بيوتهم وقلوبهم نارا أو حشا الله قلوبهم وبيوتهم نارا. (1)
5431 - حدثني محمد بن عمارة الأسدي قال ، حدثنا سهل بن عامر قال ، حدثنا مالك بن مغول قال ، سمعت طلحة قال : صليت مع مرة في بيته فسها أو قال : نسي فقام قائما يحدثنا وقد كان يعجبني أن أسمعه من ثقة قال : لما كان يوم الخندق - يعني يوم الأحزاب - قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما لهم! شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر! ملأ الله أجوافهم وقبورهم نارا. (2)
__________
(1) الحديث : 5430 - ثابت بن محمد ، أبو إسماعيل الشيباني العابد : ثقة ، ترجمه البخاري في الكبير 1 /2 /170 . وفي التهذيب كلمة موهمة ، لعلها سبق قلم من الحافظ! قال : ذكره البخاري في الضعفاء ، وأورد له حديثا وبين أن العلة من غيره " ! والبخاري لم يذكره في الضعفاء ، وإنما روى له حديثا - كما قال الحافظ - وبين أن العلة في غيره - فلا شأن له في ضعف الحديث إن كان ضعيفا . وهذه عادة للبخاري في كثير من التراجم .
والحديث مضى : 5420 ، 5421 ، بإسنادين من طريق محمد بن طلحة . وانظر الحديث التالي لهذا .
(2) الحديث : 5431 - هذا الحديث ضعيف من وجهين : أولهما : من جهة " سهل بن عامر البجلي " ، وهو ضعيف جدا ، كما بينا في : 1971 ، وثانيهما : من جهة إرساله . لأن مرة تابعي . مالك بن مغول - بكسر الميم وسكون الغين المعجمة وفتح الواو - بن عاصم ، البجلي : ثقة معروف ، أخرج له أصحاب الكتب الستة .
طلحة : هو ابن مصرف اليامي ، وهو تابعي ثقة باتفاقهم . قال ابن إدريس : " كانوا يسمونه سيد القراء " .
وهذا الحديث في ذاته صحيح . مضى بثلاثة أسانيد صحاح ، من رواية محمد بن طلحة بن مصرف ، عن زبيد ، عن مرة ، عن ابن مسعود : 5420 ، 5421 ، 5430 .

(5/188)


5432 - حدثنا أحمد بن منيع قال ، حدثنا عبد الوهاب ، عن ابن عطاء ، عن التيمي ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : صلاة الوسطى صلاة العصر. (1)
5433 - حدثني علي بن مسلم الطوسي قال ، حدثنا عباد بن العوام ، عن هلال بن خباب ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزاة له ، فحبسه المشركون عن صلاة العصر حتى أمسى بها ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : اللهم املأ بيوتهم وأجوافهم نارا كما حبسونا عن الصلاة الوسطى! (2)
__________
(1) الحديث : 5432 - أحمد بن منيع البغوي الأصم الحافظ - شيخ الطبري : ثقة ، أخرج له الجماعة . عبد الوهاب بن عطاء الخفاف : ثقة من شيوخ أحمد وإسحاق . وثقه ابن معين وغيره . ووقع في المطبوعة هنا : " عبد الوهاب عن ابن عطاء " ! جعله راويين . وهو خطأ لا شك فيه .
التيمي : هو سليمان بن طرخان .
وهذا الحديث مضى موقوفا من كلام أبي هريرة : 5387 ، 5388 ، 5390 . وهو هنا مرفوع بإسناد صحيح . والرفع زيادة من ثقة ، فهي مقبولة .
ورواه البيهقي 1 : 460 ، من طريق محمد بن عبيد الله بن المنادي : " حدثنا عبد الوهاب بن عطاء ، حدثنا سليمان التيمي . . . " .
ونقله ابن كثير 1 : 579 ، عن هذا الموضع من الطبري .
وذكره الحافظ في الفتح 8 : 145 ، ونسبه للطبري .
وذكره السيوطي 1 : 304 ، ونسبه للطبري والبيهقي .
(2) الحديث : 5433 - علي بن مسلم الطوسي - شيخ الطبري : مضت ترجمته في : 4170 . عباد بن العوام - بتشديد الباء والواو فيهما - الواسطي . ثقة ، من شيوخ أحمد .
هلال بن خباب - بالخاء المعجمة وتشديد الباء - العبدي : ثقة مأمون . من شيوخ الثوري وأبي عوانة بينا في شرح المسند : 2303 أنه لم يختلط ولم يتغير ، خلافا لمن قال ذلك .
والحديث رواه أحمد في المسند : 2745 ، عن عبد الصمد ، وهو ابن عبد الوارث ، عن ثابت ، وهو ابن يزيد الأحول ، عن هلال ، وهو ابن خباب ، به .
ورواه الطحاوي في معاني الآثار 1 : 103 ، من طريق أبي عوانة ، عن هلال بن خباب ، به . نحوه . ثم رواه من طريق عباد ، عن هلال .
وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد 1 : 309 . وقال : " رواه أحمد ، والطبراني في الكبير ، والأوسط ، ورجاله موثقون " .
وذكره السيوطي 1 : 303 - 304 ، ونسبه لعبد بن حميد ، وابن جرير ، فقط .
وسيأتي عقب هذا : 5434 ، 5435 ، بنحوه ، من رواية مقسم ، عن ابن عباس .

(5/189)


5434 - حدثنا موسى بن سهل الرملي قال ، حدثنا إسحاق ، عن عبد الواحد الموصلي قال ، حدثنا خالد بن عبد الله عن ابن أبي ليلى ، عن الحكم ، عن مقسم ، عن ابن عباس قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب : شغلونا عن الصلاة الوسطى حتى غابت الشمس! ملأ الله قبورهم وبيوتهم نارا! (1)
5435 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عمرو بن عون قال ، أخبرنا خالد ، عن ابن أبي ليلى ، عن الحكم ، عن مقسم ، عن ابن عباس قال : شغل الأحزاب
__________
(1) الحديث : 5434 - موسى بن سهل الرملي - شيخ الطبري : صدوق ثقة ، كما قال ابن أبي حاتم 4 /1 /146 . ومضت رواية أخرى للطبري عنه : 878 .
إسحاق بن عبد الواحد الموصلي القرشي : ثقة ، ذكره ابن حبان في الثقات ، وفي التهذيب أن أبا علي النيسابوري الحافظ قال فيه : " متروك الحديث " - فيما نقل ابن الجوزي . وجزم الذهبي في الميزان - دون دليل - بأنه واه . وفي التهذيب أن الخطيب روى خبرا باطلا ، من طريق عبد الرحمن بن أحمد الموصلي ، عن إسحاق - هذا - عن مالك ، وقال الخطيب : " الحمل فيه على عبد الرحمن ، وإسحاق بن عبد الواحد لا بأس به " . وترجمه ابن أبي حاتم 1 /1 /229 ، فلم يذكر فيه جرحا . وهذا دليل على توثيقه إياه .
ثم إن إسحاق لم ينفرد برواية هذا الحديث ، فسيأتي - عقبه - من رواية عمرو بن عون ، عن خالد .
وكان في المطبوعة والمخطوطة : " إسحاق ، عن عبد الواحد الموصلي " ، وهو خطأ .
خالد بن عبد الله : هو الطحان ، مضت ترجمته في : 4433 .
ابن أبي ليلى : هو محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى ، وقد بينا فيما مضى في الحديث : 32 أنه صدوق سيئ الحفظ ، ولكنه لم ينفرد برواية هذا الحديث ، فقد سبق قبله بإسناد آخر صحيح عن ابن عباس . الحكم : هو ابن عتيبة ، مضى في : 3297 .
مقسم : هو ابن بجرة ، مضى في : 4086 .
وفي التهذيب عن أحمد - في ترجمة الحكم - أن الحكم لم يسمع من مقسم إلا خمسة أحاديث ، عينها . وليس هذا منها ، فعلى هذا فهو منقطع .
والحديث ذكره الحافظ في الفتح 8 : 146 ، ونسبه لابن المنذر فقط .
وذكره السيوطي 1 : 303 ، وزاد نسبته للطبراني في الكبير ، ولكنه جعله " من طريق مقسم وسعيد بن جبير ، عن ابن عباس " . فلعل رواية سعيد بن جبير تكون عند الطبراني .
ثم وجدت رواية سعيد بن جبير عند الطحاوي ، فرواه في معاني الآثار 1 : 103 ، من طريق محمد ابن عمران بن محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى ، عن أبيه ، عن ابن أبي ليلى - وهو محمد والد عمران - عن الحكم ، عن مقسم وسعيد بن جبير ، عن ابن عباس .
وهذا إسناد جيد متصل . محمد بن عمران بن أبي ليلى ، وأبوه : ثقتان . والحكم بن عتيبة : لم يختلف في سماعه من سعيد بن جبير ، بل روايته عنه ثابتة في الصحيحين في غير هذا الحديث ، كما في كتاب رجال الصحيحين ، ص 100 .

(5/190)


النبي صلى الله عليه وسلم يوم الخندق عن صلاة العصر حتى غربت الشمس ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : شغلونا عن الصلاة الوسطى! ملأ الله قبورهم وبيوتهم نارا أو أجوافهم نارا. (1)
5436 - حدثني المثنى قال ، حدثنا سليمان بن أحمد الحرشي الواسطي قال ، حدثنا الوليد بن مسلم قال ، أخبرني صدقة بن خالد قال ، حدثني خالد بن دهقان ، عن جابر بن سيلان ، عن كهيل بن حرملة قال : سئل أبو هريرة عن الصلاة الوسطى فقال : اختلفنا فيها كما اختلفتم فيها ونحن بفناء بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وفينا الرجل الصالح أبو هاشم بن عتبة بن ربيعة بن عبد شمس ، فقال : أنا أعلم لكم ذلك. فقام فاستأذن على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فدخل عليه ، ثم خرج إلينا فقال : أخبرنا أنها صلاة العصر. (2)
__________
(1) الحديث : 5435 - عمرو بن عون بن أوس الواسطي الحافظ : ثقة ، أخرج له الجماعة . والحديث مكرر ما قبله .
(2) الحديث : 5436 - سليمان بن أحمد الجرشي الشامي ، نزيل واسط : ضعيف ، بل رماه بعضهم بالكذب ، ولكنه لم ينفرد بهذا الحديث ، كما سيجيء . وهو مترجم في الكبير 2 /2 /4 . وقال : " فيه نظر " . وعند ابن أبي حاتم 2 /1 /101 ، وتاريخ بغداد 9 : 49 - 50 ، ولسان الميزان 3 : 72 . صدقة بن خالد الأموي الدمشقي : ثقة . وثقه أحمد ، وابن معين ، وأبو زرعة ، وغيرهم . وأخرج له البخاري في صحيحه .
خالد بن دهقان الدمشقي : ثقة . ترجمه البخاري في الكبير 2 /1 /135 ، وقال : " سمع خالد سبلان ، روى عنه صدقة بن خالد ، ومحمد بن شعيب " . وبذلك ترجمه أيضًا ابن أبي حاتم 1 /2 /329 . خالد سبلان : هو خالد بن عبد الله بن الفرج ، أبو هاشم مولى بني عبس . وهو ثقة ، وثقه أبو مسهر ، كما نقل ابن عساكر ، وترجمه البخاري في الكبير 2 /1 /141 ، قال : " خالد سبلان . عن كهيل بن حرملة الشامي . روى عنه خالد بن دهقان ، وسمع منه سعيد بن عبد العزيز " . ونحو ذلك عند ابن أبي حاتم 1 /2 /363 ، ولم يذكرا فيه جرحا . وترجمه ابن عساكر في تاريخ دمشق (5 : 67 من تهذيبه للشيخ عبد القادر بدران) ، وزاد أنه سمع معاوية وعمرو بن العاص .
" سبلان " : بفتح السين المهملة والباء الموحدة وتخفيف اللام ، كما ضبطه ابن ماكولا ، فيما نقل عنه ابن عساكر ، وكما في المشتبه للذهبي ، ص : 256 . وهو لقب لخالد هذا ، لقب به لعظم لحيته .
والبخاري وابن أبي حاتم لم يذكرا نسب خالد هذا ، بل ترجمه البخاري في " باب السين " فيمن اسمه " خالد " . وابن أبي حاتم ترجمه في باب " خالد " الذين لا ينسبون " .
وإنما ذكر نسبه - الذي ذكرنا - ابن عساكر ، وابن ماكولا في الإكمال ، كما نقل عنه العلامة الشيخ عبد الرحمن اليماني في هوامش التاريخ الكبير وابن أبي حاتم . وذكره الذهبي في المشتبه باسم " خالد بن عبد الله " . وذكر الحافظ في التهذيب 3 : 87 ، في شيوخ " خالد بن دهقان " ، باسم " خالد بن عبد الله سبلان " . فيكون " سبلان " لقب خالد ، كما بينا .
ووقع اسمه في المطبوعة هنا محرفا جدا : " جابر بن سيلان " !! وشتان هذا وذاك والراجح - عندي - أن هذا تحريف من الناسخين ، لم يجدوا في التهذيب أو أحد فروعه . اسم " خالد سبلان " ، ثم وجدوا ترجمة " جابر بن سيلان " (التهذيب 2 : 40) فظنوه هو ، وغيروه إلى ذلك . أو شيئا نحو هذا . وثبت اسمه على الصواب في ابن كثير ، إذ نقله عن هذا الموضع من الطبري ، ولكن زيد فيه " بن " بين الاسم واللقب . والظاهر أنه من تصرف الناسخين .
كهيل بن حرملة النميري : تابعي ثقة ، ترجمه البخاري في الكبير 4 /1 /238 ، وقال : " سمع أبا هريرة . روى عنه خالد سبلان " . ونحو ذلك في ابن أبي حاتم 3 /2 /173 ، ولم يذكرا فيه جرحا . وذكره ابن حبان في الثقات ، ص : 318 .
والحديث رواه ابن حبان في الثقات - في ترجمة كهيل - من طريق أبي مسهر ، وهو عبد الأعلى بن مسهر الدمشقي الثقة الثبت ، عن صدقة بن خالد ، بهذا الإسناد .
وكذلك رواه الطحاوي في معاني الآثار 1 : 103 ، من طريق أبي مسهر .
ورواه الحاكم في المستدرك 3 : 638 ، من طريق العباس بن الوليد بن مزيد ، وهو ثقة من شيوخ الطبري ، مضت ترجمته : 891 ، عن محمد بن شعيب بن شابور ، وهو أحد الثقات الكبار - عن خالد سبلان ، بهذا الإسناد .
ورواه ابن عساكر في تاريخ دمشق ، بإسناده إلى خالد سبلان - في ترجمته ، ولكن مختصره الشيخ عبد القادر بدران حذف الإسناد إليه .
ونقله ابن كثير 1 : 579 ، عن هذا الموضع . ثم قال : " غريب من هذا الوجه جدا " .
وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد 1 : 309 ، وقال : " رواه الطبراني في الكبير ، والبزار ، وقال : لا نعلم روى أبو هاشم بن عتبة عن النبي صلى الله عليه وسلم - إلا هذا الحديث وحديثا آخر . قلت [القائل الهيثمي] : ورجاله موثقون " .
ونقله الحافظ في الفتح 8 : 145 - 146 ، ولم ينسبه لغير الطبري .
ونقله السيوطي 1 : 304 ، ونسبه لابن سعد ، والبزار ، وابن جرير ، والطبراني ، والبغوي في معجمه . ووهم الحافظ في الإصابة جدا ، في ترجمة " أبي هاشم بن عتبة بن ربيعة بن عبد شمس " راوي هذا الحديث 7 : 197 - 198 ، ونسبه لأبي داود ، والترمذي ، والنسائي ، والبغوي ، والحاكم أبي أحمد!! أما كتابا البغوي والحاكم أبي أحمد ، فليسا عندي ، ولا أستطيع أن أقول في نقله عنهما شيئا .
وأما السنن الثلاث ، فأستطيع أن أجزم بأنه ليس في واحد منها ، على اليقين من ذلك . ولذلك لم ينسبه الحافظ نفسه إليها في الفتح . ولذلك ذكره صاحب مجمع الزوائد ، وهو الزوائد على الكتب الستة . ولذلك لم يذكره النابلسي في ذخائر المواريث في ترجمة " أبي هاشم بن عتبة " . وقد نبهت إلى هذا الوهم ، في شرحي للترمذي 1 : 341 - 342 .

(5/191)


5437 - حدثني الحسين بن علي الصدائي قال ، حدثنا أبي ، وحدثنا ابن إسحاق الأهوازي قال ، حدثنا أبو أحمد قالا جميعا ، حدثنا فضيل بن مرزوق ، عن شقيق بن عقبة العبدي ، عن البراء بن عازب قال : نزلت هذه الآية : " حافظوا

(5/192)


على الصلوات وصلاة العصر " ، قال : فقرأناها على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ما شاء الله أن نقرأها. ثم إن الله نسخها فأنزل : " حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وقوموا لله قانتين " ، قال : فقال رجل كان مع شقيق : فهي صلاة العصر ! قال : قد حدثتك كيف نزلت ، وكيف نسخها الله ، والله أعلم. (1)
5438 - حدثنا حميد بن مسعدة قال ، حدثنا يزيد بن زريع ، وحدثنا ابن بشار قال ، حدثنا محمد بن بكر ومحمد بن عبد الله الأنصاري قالا جميعا ، حدثنا سعيد بن أبي عروبة ، وحدثنا !بو كريب قال ، حدثنا عبدة بن سليمان ، ومحمد بن بشر وعبد الله بن إسماعيل ، عن سعيد عن قتادة ، عن الحسن ، عن سمرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : الصلاة الوسطى صلاة العصر. (2)
5439 - حدثني عصام بن رواد بن الجراح قال ، حدثنا أبي قال ، حدثنا سعيد بن بشير ، عن قتادة ، عن الحسن عن سمرة قال : أنبأنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الصلاة الوسطى هي العصر. (3)
__________
(1) الحديث : 5437 - الحسين بن علي الصدائي - شيخ الطبري - وأبوه ، مضيا في 2093 . ابن إسحاق الأهوازي - شيخ الطبري بعد تحويل الإسناد : هو أحمد بن إسحاق بن عيسى ، مضى في : 1841 .
أبو أحمد : هو الزبيري ، محمد بن عبد الله بن الزبير الأسدي .
فضل بن مرزوق الأغر الكوفي : ثقة ، وثقه الثوري ، وابن معين ، وغيرهما . وأخرج له مسلم في صحيحه . ووقع اسمه في المخطوطة والمطبوعة هنا " فضيل بن مسروق " ! وهو خطأ من الناسخين .
شقيق بن عقبة العبدي الكوفي : تابعي ثقة . وثقه أبو داود ، وابن حبان .
والحديث رواه مسلم في صحيحه 1 : 75 ، عن إسحاق بن راهويه ، عن يحيى بن آدم ، عن فضيل بن مرزوق ، به . ثم قال : " ورواه الأشجعي ، عن سفيان الثوري ، عن الأسود بن قيس ، عن شقيق بن عقبة ، عن البراء بن عازب " .
فوهم صاحب التهذيب ، في ترجمة " شقيق بن عقبة " 4 : 363 ، فقال : " له في مسلم حديث واحد في الصلاة الوسطى ، قال : وهو معلق . . . " ، ثم ذكر كلام مسلم . وغفل عن أنه رواه متصلا قبل هذا التعليق مباشرة .
ورواه ابن حزم في المحلى 4 : 258 ، من طريق مسلم .
ورواه الطحاوي في معاني الآثار 1 : 102 ، من طريق محمد بن يوسف الفريابي ، عن فضيل بن مرزوق ، به . ولكن وقع في نسخة الطحاوي : " محمد بن فضيل بن مرزوق " ! وهو خطأ يقينا . ثم ليس في الرواة من يسمى بهذا .
ورواه الحاكم في المستدرك 2 : 281 ، من طريق يحيى بن جعفر بن الزبرقان ، عن أبي أحمد الزبيري ، عن فضيل بن مرزوق ، به . وقال : " هذا حديث صحيح على شرط مسلم ، ولم يخرجاه " . ووافقه الذهبي! وعليهما في ذلك استدراك ، أنه رواه مسلم ، كما ذكرنا .
ورواه البيهقي 1 : 459 ، عن الحاكم ، بإسناده .
ووقع في المستدرك المطبوع بياض في " أبو أحمد الزبيري " . صححناه من البيهقي .
ثم ذكر البيهقي أنه رواه مسلم ، ثم ذكر إشارة مسلم إلى الرواية المعلقة ، رواية الأشجعي عن سفيان الثوري . ثم رواه البيهقي من طريق الأشجعي ، بإسناده متصلا .
والحديث ذكره أيضًا الحافظ في الفتح 1 : 147 ، عن صحيح مسلم .
وذكره السيوطي 1 : 303 ، وزاد نسبته لعبد بن حميد ، وأبي داود في ناسخه . ولكنه لم ينسبه للحاكم . وذكره ابن كثير 1 : 582 ، عن صحيح مسلم . ثم قال : " فعلى هذا تكون هذه التلاوة ، وهي تلاوة الجادة - ناسخة للفظ رواية عائشة وحفصة ولمعناها ، إن كانت الواو دالة على المغايرة . وإلا فلفظها فقط " وهذا فقه دقيق وبديع .
وقوله في متن الحديث : " فقرأناها على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم " - هذا هو الصواب الموافق لسياق القول : " فقرأناها " ، والموافق لسائر الروايات . ورسمت في المطبوعة " فقرأتها " . وهو غير جيد . ولعلها رسمت الأصول المنقول عنها على الكتبة القديمة بدون ألف ولا نقط " فقراتها " - فظنها الناسخ تاء المتكلم ، إذ لم يجد بعدها ألفا . فأثبتها بالتاء على ظنه ومعرفته .
(2) الحديث : 5438 - رواه الطبري عن ثلاثة من شيوخه : حميد بن مسعدة ، ومحمد بن بشار ، وأبي كريب محمد بن العلاء . فحميد رواه له عن شيخ واحد ، وابن بشار عن شيخين ، وأبو كريب عن ثلاثة شيوخ . وهؤلاء الستة : يزيد بن زريع ، ومحمد بن بكر ، ومحمد بن عبد الله الأنصاري ، وعبدة بن سليمان ، ومحمد بن بشر ، وعبد الله بن إسماعيل - رووه جميعا عن سعيد ، وهو ابن أبي عروبة . يزيد بن زريع : مضت ترجمته في : 1769 .
محمد بن بكر بن عثمان البرساني - بضم الباء وسكون الراء : ثقة ، وثقه ابن معين ، وأبو داود ، وغيرهما . وأخرج له أصحاب الكتب الستة .
محمد بن عبد الله بن المثنى بن عبد الله بن أنس بن مالك الأنصاري : ثقة من شيوخ أحمد ، وابن المديني ، والبخاري أخرج له الجماعة .
عبدة بن سليمان الكلابي : مضت ترجمته في : 2323 .
محمد بن بشر بن الفرافصة العبدي : مضى في : 4222 .
عبد الله بن إسماعيل : كوفي ، زعم أبو حاتم - فيما رواه عنه ابنه 2 /2 /3 : أنه مجهول ، وجزم الحافظ المزي في الأطراف بأنه " عبد الله بن إسماعيل بن أبي خالد " ، كما نقل عنه الحافظ ابن حجر في التهذيب .
والحديث مضى : 5417 ، من رواية إسماعيل بن مسلم ، عن الحسن ، عن سمرة . وخرجناه هناك من طريق سعيد بن أبي عروبة ، عن قتادة ، عن الحسن ، عن سمرة . وهي هذه الطريق .
(3) الحديث : 5439 - عصام بن رواد بن الجراح ، وأبوه : مضيا في : 2183 .
سعيد بن بشير الأزدي : مضى في : 126 أنه صدوق يتكلمون في حفظه ، ولكن كان سفيان بن عيينة يصفه بأنه " كان حافظا " . والظاهر أن الكلام فيه عن غير تثبت ، فإنهم أنكروا كثرة ما روى عن قتادة . فروى ابن أبي حاتم عن أبيه ، قال : " قلت لأحمد بن صالح : سعيد بن بشير دمشقي شامي ، كيف هذه الكثرة عن قتادة ؟ قال : كان أبوه بشير شريكا لأبي عروبة ، فأقدم بشير ابنه سعيدا بالبصرة يطلب الحديث مع سعيد بن أبي عروبة " . فهذا هذا . فالإسناد إذن صحيح كالإسناد قبله .

(5/193)


5440 - حدثنا ابن المثنى قال ، حدثنا ابن أبي عدي ، عن شعبة ، عن سليمان ، عن أبي الضحى ، عن شتير بن شكل ، عن أم حبيبة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ، يوم الخندق : شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر حتى غربت الشمس قال أبو موسى : هكذا قال ابن أبي عدي. (1)
__________
(1) الحديث : 5440 - هذا إسناد صحيح على شرط مسلم . وسليمان : هو الأعمش .
وهذا الحديث - عن أم حبيبة - لم أجده في مصدر آخر ، غير هذا الموضع من الطبري ، بل لم أجد إشارة إليه قط ، إلا فيما نقل ابن كثير 1 : 578 ، عن الحافظ أبي محمد عبد المؤمن بن خلف الدمياطي ، أنه ذكر " أم حبيبة " فيمن حكي عنهم القول بأن الصلاة الوسطى هي العصر . وهذه إشارة أرجح أنها إشارة لهذا الحديث ، دون تصريح .
وشتير بن شكل : تابعي قديم ، كما قلنا في : 5424 . ولكن التهذيب ، حين ذكر الصحابة الذين روى عنهم (4 : 311) . قال : " وأم حبيبة ، إن كان محفوظا " ؛ فجهدت أن أعرف إلى أي حديث يشير ؟ إلى هذا الحديث أم غيره ؟
فوجدت أحمد قد روى في المسند : 6 : 325 (حلبي) ، عن محمد بن جعفر ، عن شعبة ، عن منصور ، عن أبي الضحى ، عن شتير بن شكل ، عن أم حبيبة : " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقبل وهو صائم " . وهذا إسناد كالشمس صحة .
ولكن رواه مسلم 1 : 305 ، وابن ماجه : 1685 ، عن أبي بكر بن أبي شيبة وغيره ، عن أبي معاوية ، عن الأعمش ، عن مسلم - وهو أبو الضحى - عن شتير بن شكل ، عن حفصة . ثم رواه مسلم - أعني حديث القبلة للصائم - من طريق أبي عوانة وجرير ، كلاهما عن منصور ، كذلك ، أي من حديث حفصة .
ففهمت أن الإشارة بالتعليل " إن كان محفوظا " ، هي لحديث القبلة للصائم ، وأنهم رجحوا رواية ثلاثة : أبي معاوية عن الأعمش ، وأبي عوانة وجرير عن منصور - في روايتهم ذاك الحديث من حديث حفصة - على رواية شعبة ، في روايته إياه من حديث أم حبيبة! وهذا ترجيح تحكم ، لا دليل عليه .
وشتير بن شكل : سمع عليا ، وابن مسعود ، وحفصة . وهم أقدم موتا من أم حبيبة . والمعاصرة - مع ثقة الراوي ، وبراءته من تهمة التدليس - كافية في الحكم بوصل الحديث . ورواية التابعي حديثا عن صحابي ، لا تنفي أبدا روايته إياه عن صحابي آخر ، بل إن كلا من الروايتين تؤيد الأخرى ، إلا أن يقوم دليل قوي على الخطأ في إحدى الروايتين .
ورواية شتير عن أم حبيبة - إن فرض وجود شبهة فيها في حديث القبلة للصائم - فإن روايته عنها هنا - في حديث الصلاة الوسطى - ترفع كل شبهة ، وتدل على أن روايته عنها محفوظة .
ثم إن رواية ذاك الحديث ، رواها محمد بن جعفر عن شعبة ، ورواية هذا الحديث رواها محمد بن أبي عدي عن شعبة ، وكلاهما لا يدفع عن الحفظ والإتقان والتثبت والمعرفة . وذاك من رواية شعبة عن منصور عن أبي الضحى ، وهذا من روايته عن الأعمش عن أبي الضحى .
وقد استوثق الطبري - رحمه الله - من رواية هذا الحديث هنا ، خشية أن يظن به الخطأ أو بشيخه ، فحكى كلمة شيخه " ابن المثنى " ، وهو : محمد بن المثنى أبو موسى الزمن الحافظ ، إذ استوثق هو أيضًا مما قاله شيخه " ابن أبي عدي " ، وهو : محمد بن إبراهيم بن أبي عدي - فقال : " قال أبو موسى : هكذا قال ابن أبي عدي " . وهذا احتياط دقيق ، قصد به إلى رفع شبهة الخطأ أو التعليل ، عن رواية شعبة هذه .
وشعبة بن الحجاج : أمير المؤمنين في الحديث ، كما قال الثوري . والذي " كان أمة وحده في هذا الشأن " ، كما قال أحمد - لا يدفع عن رواية يرويها ، ولا يحكم عليه بالخطأ فيها ، إلا أن يستبين ذلك عن دلائل قاطعة ، أو كالقاطعة . ولا يكفي في تعليل روايته حديثي أم حبيبة - في قبلة الصائم والصلاة الوسطى - كلمة عابرة : " إن كان محفوظا " !! وشعبة الحافظ الحجة الثقة المأمون .

(5/195)


5441 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال ، حدثنا ابن علية ، عن يونس ، عن الحسن قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى " ، وهي العصر (1)
5442 - حدثنا أحمد بن إسحاق قال ، حدثنا أبو أحمد قال ، حدثنا عبد السلام ، عن سالم مولى أبي نصير قال ، حدثني إبراهيم بن يزيد الدمشقي قال : كنت جالسا عند عبد العزيز بن مروان فقال : يا فلان ، اذهب إلى فلان فقل له : أي شيء سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصلاة الوسطى ؟ فقال رجل جالس : أرسلني أبو بكر وعمر وأنا غلام صغير أسأله عن الصلاة الوسطى ، فأخذ إصبعي الصغيرة فقال : هذه الفجر - وقبض التي تليها. وقال : هذه الظهر - ثم قبض الإبهام فقال : هذه المغرب - ثم قبض التي تليها ثم قال : هذه العشاء - ثم قال : أي أصابعك بقيت ؟ فقلت : الوسطى : فقال : أي صلاة بقيت ؟ قلت : العصر. قال : هي العصر. (2)
__________
(1) الحديث : 5441 - هذا الحديث مرسل . ولكن معناه صحيح ، بما مضى من أحاديث صحاح .
(2) الحديث : 5442 - هذا إسناد مجهول - عندي على الأقل ؟
فلست أدري من " عبد السلام " شيخ أبي أحمد ؟ وفي هذا الاسم كثرة .
سالم مولى أبي نصير : هكذا في المخطوطة والمطبوعة ، وفي ابن كثير 1 : 579 - نقلا عن هذا الموضع : " مسلم مولى أبي جبير " ! ولم أجد هذا ولا ذاك . بل لم أجده أيضًا في ترجمة " سلم " ، لاحتمال التصحيف ، بزيادة ميم في أوله ، أو زيادة ألف بعد السين .
إبراهيم بن يزيد الدمشقي : مترجم في التهذيب ، وأنه كان من حرس عمر بن عبد العزيز ، وترجمه البخاري في الكبير 1 /1 /335 . وابن أبي حاتم 1 /1 /145 ، وترجمه ابن عساكر في تاريخ دمشق ، ونسبه : " النصري من أهل دمشق " . (مختصر تاريخ ابن عساكر 2 : 310) . وذكره ابن حبان في الثقات ، كما في التهذيب .
ولو عرفنا مخرج هذا الحديث ، وعرفنا الروايتين " عبد السلام " وشيخه ، وكانا مقبولين - لكان الحديث جيدا : حسنا أو صحيحا ، لأن الرجل الجالس عند عبد العزيز بن مروان ، الذي حدث به عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، يكون صحابيا ، إذ يخبر أنه أرسله أبو بكر وعمر لسؤال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهما لا يرسلان لمثل هذا السؤال - إن شاء الله - إلا غلاما فاهما مميزا .
ويظهر لي أن الحافظ ابن كثير خفي عليه مخرجه ، فوصفه بعد نقله عن الطبري ، بأنه " غريب جدا " .
ونقله أيضًا السيوطي 1 : 304 ، ولم يقل فيه شيئا ، إلا نسبته للطبري .
وكذلك نقله الحافظ ابن حجر في الفتح 1 : 146 ، عن الطبري - مختصرا .

(5/196)


5443 - حدثت عن عمار بن الحسن قال ، حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع قال : ذكر لنا أن المشركين شغلوهم يوم الأحزاب عن صلاة العصر حتى غابت الشمس ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر حتى غربت الشمس! ملأ الله بيوتهم وقبورهم نارا!
5444 - حدثنا ابن البرقي قال ، حدثنا عمرو ، عن أبي سلمة قال ، حدثنا صدقة ، عن سعيد ، عن قتادة ، عن أبي حسان ، عن عبيدة السلماني ، عن علي بن أبي طالب ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال يوم الأحزاب : اللهم املأ بيوتهم وقبورهم نارا ، كما شغلونا عن الصلاة الوسطى حتى آبت الشمس. (1)
__________
(1) الحديث : 5444 - ابن البرقي : هو أحمد بن عبد الله بن عبد الرحيم ، مضى في : 22 ، 160 . عمرو بن أبي سلمة التنيسي الدمشقي : ثقة ، من شيوخ الشافعي . وله رواية بالموطأ عن مالك .
ووقع في المطبوعة هنا : " عمرو عن أبي سلمة " ! وهو خطأ بين ، من ناسخ أو طابع .
صدقة : هو ابن عبد الله السمين الدمشقي . وهو ضعيف جدا ، كما قال أحمد . وقال مسلم : " منكر الحديث " . وضعفه البخاري ، وابن معين ، وأبو زرعة ، وغيرهم .
سعيد : هو ابن أبي عروبة .
والحديث - وإن كان إسناده هذا ضعيفا - فقد مضى بإسناد صحيح : 5429 ، من رواية يزيد بن زريع ، عن ابن أبي عروبة ، به . وخرجناه هناك .
ومضى أيضًا : 5422 ، بإسناد آخر صحيح ، من رواية شعبة ، عن قتادة .
ومضى معناه من أوجه كثيرة عن علي ، أشرنا إليها في : 5380 .

(5/197)


5445 - حدثني محمد بن عوف الطائي قال ، حدثني محمد بن إسماعيل بن عياش قال ، حدثنا أبي قال ، حدثني ضمضم بن زرعة ، عن شريح بن عبيد ، عن أبي مالك الأشعري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " الصلاة الوسطى صلاة العصر " . (1)
* * *
وقال آخرون : بل الصلاة الوسطى صلاة الظهر.
* ذكر من قال ذلك :
5446 - حدثنا محمد بن بشار قال ، حدثنا عفان قال ، حدثنا همام قال ،
__________
(1) الحديث : 5445 - محمد بن عوف بن سفيان الطائي الحمصي - شيخ الطبري ، حافظ ثقة ، معروف بالتقدم والمعرفة . وهو من الرواة عن أحمد بن حنبل ، له عنه مسائل . ومع ذلك فإن أحمد سمع منه حديثا ، كما في تذكرة الحفاظ ، في ترجمته 2 : 144 - 145 ، وهو مترجم أيضًا في التهذيب . مات سنة 272 .
محمد بن إسماعيل بن عياش الحمصي : ضعيف . قال أبو داود : " لم يكن بذاك ، قد رأيته ، ودخلت حمص غير مرة وهو حي ، وسألت عمرو بن عثمان عنه فذمه " . والظاهر أنهم ضعفوه لروايته عن أبيه دون سماع ، قال أبو حاتم : " لم يسمع من أبيه شيئا ، حملوه على أن يحدث فحدث " ! ومثل هذا جريء على الحديث ، لا يوثق بروايته .
أبوه إسماعيل بن عياش الحمصي : ثقة ، تكلم فيه بعضهم من أجل خطئه في بعض ما يروي عن غير الشاميين ، أما أحاديثه عن أهل الشأم فمقبولة .
ضمضم بن زرعة بن ثوب - بضم الثاء المثلثة وفتح الواو وآخره باء موحدة - الحضرمي الحمصي : ثقة ، وثقه ابن معين ، وضعفه أبو حاتم ، وترجمه البخاري في الكبير 2 /2 /339 ، فلم يذكر فيه جرحا ، وذكره ابن حبان في الثقات .
شريح بن عبيد بن شريح الحضرمي الحمصي : تابعي ثقة .
والحديث نقله ابن كثير 1 : 579 ، عن هذا الموضع . ثم قال : " إسناده لا بأس به " .
وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد - ضمن حديث - وقال : " رواه الطبراني ، وفيه محمد بن إسماعيل بن عياش ، وهو ضعيف " .
وذكره السيوطي 1 : 304 ، ونسبه للطبري والطبراني .

(5/198)


حدثنا قتادة ، عن سعيد بن المسيب ، عن ابن عمر ، عن زيد بن ثابت قال : الصلاة الوسطى صلاة الظهر. (1)
5447 - حدثنا محمد بن عبد الله المخرمي قال ، حدثنا أبو عامر قال ، حدثنا شعبة ، عن قتادة ، عن سعيد بن المسيب ، عن ابن عمر ، عن زيد ، يعني ابن ثابت - مثله. (2)
5448 - حدثنا محمد بن المثنى قال ، حدثنا محمد بن جعفر قال ، حدثنا شعبة ، عن سعد بن إبراهيم قال : سمعت حفص بن عاصم يحدث عن زيد بن
__________
(1) الخبر : 5446 - إسناده صحيح . وهو موقوف من كلام زيد بن ثابت .
ورواه الطحاوي في معاني الآثار 1 : 99 ، عن ابن مرزوق ، عن عفان ، بهذا الإسناد .
ورواه البيهقي 1 : 459 ، من طريق إبراهيم بن مرزوق ، عن عفان ، به .
ورواه عبد الرزاق في المصنف 1 : 182 ، عن سعيد بن بشير ، عن قتادة ، عن ابن المسيب ، عن زيد بن ثابت . فسقط من إسناده " ابن عمر " بين ابن المسيب وزيد . فإما أنه رواه هكذا ، وإما أنه خطأ من الناسخين ؟
وسيأتي هذا المعنى من أوجه مختلفة ، عن زيد بن ثابت : 5447 ، 5448 ، 5449 ، 5450 ، 5452 ، 5453 ، 5454 ، 5458 ، 5459 ، 5460 .
(2) الخبر : 5447 - محمد بن عبد الله بن المبارك المخرمي - بضم الميم وفتح الخاء وكسر الراء المشددة : ثقة حافظ حجة . مضى في : 3730 . مترجم في تاريخ بغداد 5 : 423 - 425 ، وتذكرة الحفاظ 2 : 92 - 93 . ووقع هنا في المخطوطة والمطبوعة " المخزومي " . وهو خطأ .
أبو عامر : هو العقدي ، عبد الملك بن عمرو .
والخبر مكرر ما قبله . وإسناده صحيح أيضًا .
وقد ذكره ابن كثير 1 : 577 ، مع الذي قبله ، دون نسبة .
وذكرهما السيوطي ، وزاد نسبتهما لابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد ، وابن الأنباري في المصاحف .
ثم قال السيوطي : " وأخرج مالك ، وعبد الرزاق ، وابن أبي شيبة ، وأحمد ، وعبد بن حميد ، والبخاري في تاريخه ، وابن جررير ، وابن المنذر ، من طرق ، عن زيد بن ثابت ، قال : " الصلاة الوسطى صلاة الظهر " .
وهذا يصلح إشارة إلى كثير من الروايات الآتية عن زيد بن ثابت .
ورواية مالك ، هي في الموطأ ص : 139 ، عن داود بن الحصين ، عن ابن يربوع المخزومي ، سمع زيد بن ثابت .
ورواية عبد الرزاق ، هي في المصنف 1 : 182 ، عن مالك ، به .

(5/199)


ثابت قال : الصلاة الوسطى الظهر. (1)
5449 - حدثنا ابن المثنى قال ، حدثنا سليمان بن داود قال ، حدثنا شعبة ، وحدثني يعقوب بن إبراهيم قال ، حدثنا ابن علية ، عن شعبة قال ، أخبرني عمر بن سليمان - من ولد عمر بن الخطاب - قال : سمعت عبد الرحمن بن أبان بن عثمان ، يحدث عن أبيه ، عن زيد بن ثابت قال : الصلاة الوسطى هي الظهر. (2)
5450 - حدثنا زكريا بن يحيى بن أبي زائدة قال ، حدثنا عبد الصمد قال ، حدثنا شعبة ، عن عمر بن سليمان هكذا قال أبو زائدة ، عن عبد الرحمن بن أبان ، عن أبيه ، عن زيد بن ثابت في حديثه ، رفعه - : الصلاة الوسطى صلاة الظهر. (3)
__________
(1) الخبر : 5448 - حفص : هو ابن عاصم بن عمر بن الخطاب . وهو تابعي ثقة مجمع عليه . والخبر مكرر ما قبله . وإسناده صحيح كذلك .
(2) الخبر : 5449 - إسناده صحيح .
عمر بن سليمان بن عاصم بن عمر بن الخطاب : ثقة ، وثقه ابن معين ، والنسائي ، وغيرهما . وهو مترجم في التهذيب ، وابن أبي حاتم 3 /1 /112 ، وروي عن ابن معين أنه وصفه بأنه " صاحب حديث زيد بن ثابت " ، وفي التهذيب أنه " قيل في اسمه : عمرو " . وهو ثابت باسم " عمرو " في رواية الدارمي والطحاوي ، كما سنذكر في التخريج ، إن شاء الله .
عبد الرحمن بن أبان بن عثمان بن عفان : ثقة عابد ، قليل الحديث ، وثقه النسائي ، وذكره ابن حبان في الثقات .
أبوه أبان بن عثمان : ثقة من كبار التابعين . وعده يحيى القطان في فقهاء المدينة .
وهذا الخبر موقوف أيضًا على زيد بن ثابت ، كالأخبار الثلاثة قبله .
وذكره ابن كثير 1 : 577 ، قال : " وقال أبو داود الطيالسي ، وغيره ، عن شعبة . . . " ، فساقه بهذا الإسناد .
وكذلك رواه الطحاوي في معاني الآثار 1 : 99 ، من طريق حجاج بن محمد ، عن شعبة ، عن " عمرو بن سليمان " ، به فسمى شيخ شعبة في هذه الرواية " عمرا " . وسيأتي عقب هذا روايته مرفوعا . وهو - عندي - وهم ممن فهم أنه مرفوع .
(3) الحديث : 5450 - إسناده صحيح ، إلا أن في رفعه علة ، سنذكرها إن شاء الله .
زكريا بن يحيى : مضت ترجمته في : 1219 .
عبد الصمد : هو ابن عبد الوارث العنبري .
" عمر بن سليمان " : مضت ترجمته في الخبر الذي قبل هذا . وهكذا ثبت في المطبوعة! فلا يكون هناك معنى لقول الطبري : " هكذا قال أبو زائدة " - يعني شيخه زكريا بن يحيى ، إذ لا اختلاف في اسمه بين هذه الرواية وتلك . ووقع في المخطوطة : " عمر بن سلمان " . فتكون المغايرة بين الروايتين واقعة . ولكني أرجح أن كليهما خطأ ، إذ لم يذكر قول في اسمه أنه " عمر بن سلمان " . والراجح - عندي - أن الصواب في هذا الإسناد " عمرو بن سليمان " . وهو القول الثاني في اسمه عند بعض الرواة ، كما ذكرنا . وقوله في هذه الرواية : " في حديثه رفعه " - يعني أن رفع الحديث إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، وجعل لفظ " الصلاة الوسطى صلاة العصر " - من كلامه صلى الله عليه وسلم .
وكذلك نقل السيوطي 1 : 302 ، " وأخرج ابن جرير في تهذيبه ، من طريق عبد الرحمن بن أبان ، عن أبيه ، عن زيد بن ثابت ، في حديث يرفعه . . . " . ولعله لم يره في تفسير الطبري ، فنقله عن كتابه " التهذيب " . ولفظ السيوطي الذي نقله : " في حديث " - أجود من اللفظ الثابت هنا : " في حديثه " . بل الظاهر أن هذه محرفة من الناسخين .
وعندي أن ادعاء رفع الحديث وهم ممن قاله : اختصر حديثا مطولا ، فأوهم وظن أن كلمة في آخره مرفوعة . وهي واضحة في أصل الحديث أنها موقوفة .
فقد رواه أحمد في المسند 5 : 183 (حلبي) - مطولا - عن يحيى بن سعيد ، عن شعبة ، بهذا الإسناد إلى أبان بن عثمان : " أن زيد بن ثابت خرج من عند مروان نحوا من نصف النهار ، فقلنا : ما بعث إليه الساعة إلا لشيء سأله عنه ، فقمت إليه فسألته ، فقال : أجل ، سألنا عن أشياء ، سمعتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : نضر الله امرءا سمع منا حديثا فحفظه . . . " فذكر حديثا مطولا مرفوعا ، ثم قال في آخره : " وسألنا عن الصلاة الوسطى ، وهي الظهر " . فهذا ظاهر واضح أن مروان سأل زيدا عن الصلاة الوسطى فأجابه ، لم يذكره في الحديث المرفوع ، ولا وصله به .
ورواه الدارمي 1 : 75 ، عن عصمة بن الفضل ، عن حرمى - بفتح الحاء والراء - بن عمارة ، عن شعبة ، عن عمرو بن سليمان ، بهذا الإسناد ، نحو رواية المسند ، مطولا . وفي آخره بعد سياق الحديث المرفوع : " قال : وسألته عن صلاة الوسطى ، فقال : هي الظهر " . فسمى شيخ شعبة في هذه الطريق " عمرا " .
والظاهر من سياق هذه الرواية أن أبان بن عثمان هو الذي سأل زيد بن ثابت عن الصلاة الوسطى . والأمر في هذا قريب . أما الأمر البعيد ، والذي لا يدل عليه سياق الكلام في الروايتين : رواية أحمد ، ورواية الدارمي - فهو الزعم بأن " الصلاة الوسطى " مرفوع من كلام النبي صلى الله عليه وسلم : إنما هو وهم - كما قلنا - ممن اختصر الحديث ، فأخذ آخره دون أن يتأمل سياق القول ومعناه . والقسم المرفوع المطول من هذا الحديث - رواه ابن حبان في صحيحه ، رقم : 66 بتحقيقنا ، من طريق يحيى بن سعيد - شيخ أحمد فيه - وطوى أيضًا الكلمة الموقوفة . وقد خرجناه هناك .
ويؤيد ما قلنا : أن زيد بن ثابت إنما قال هذا استنباطا ، كما سيأتي : 5459 ، 5460 . ولو كان هذا عنده مرفوعا لما جاوزه إلى الاستنباط ، إن شاء الله .

(5/200)


5451 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا عبد الله بن يزيد قال ، حدثنا حيوة بن شريح وابن لهيعة قالا حدثنا أبو عقيل زهرة بن معبد : أن سعيد بن المسيب

(5/201)


حدثه أنه كان قاعدا هو وعروة بن الزبير وإبراهيم بن طلحة ، فقال سعيد بن المسيب : سمعت أبا سعيد الخدري يقول : الصلاة الوسطى هي الظهر. فمر علينا عبد الله بن عمر ، فقال عروة : أرسلوا إلى ابن عمر فاسألوه. فأرسلوا إليه غلاما فسأله ، ثم جاءنا الرسول فقال : يقول : هي صلاة الظهر. فشككنا في قول الغلام ، فقمنا جميعا فذهبنا إلى ابن عمر ، فسألناه فقال : هي صلاة الظهر. (1)
5452 - حدثني يعقوب قال ، حدثنا هشيم قال ، أخبرنا العوام بن حوشب قال ، حدثني رجل من الأنصار ، عن زيد بن ثابت أنه كان يقول : هي الظهر. (2)
5453 - حدثني أحمد بن إسحاق ، حدثنا أبو أحمد قال ، حدثنا ابن أبي ذئب وحدثني المثنى قال ، حدثنا آدم قال ، حدثنا ابن أبي ذئب ، عن
__________
(1) الخبر : 5451 - عبد الله بن يزيد : هو المقرئ . مضت ترجمته في : 3180 . زهرة بن معبد بن عبد الله بن هشام التيمي : تابعي ثقة ، قال ابن أبي حاتم 1 /2 / 615 " أدرك ابن عمر ، ولا أدري سمع منه أم لا ؟ " وتعقبه الحافظ في التهذيب ، بالجزم بأنه سمع منه ، وأن في البخاري ما يدل على ذلك .
إبراهيم بن طلحة : لم أتبين من هو ؟ وليس له رواية في الخبر ، ولا شأن في الإسناد ، إنما كان أحد حاضري المجلس .
والخبر رواه البيهقي 1 : 458 - 459 ، من طريق محمد بن سنان البصري ، عن عبد الله بن يزيد ، به .
وسيأتي : 5457 ، من طريق نافع ، عن زهرة بن معبد ، بنحوه .
وذكره السيوطي 1 : 302 ، ونسبه للبيهقي ، وابن عساكر فقط .
وهذا الخبر على صحة إسناده - فيه أن أبا سعيد الخدري وعبد الله بن عمر يريان أن الصلاة الوسطى هي الظهر .
وقد مضى عن أبي سعيد بإسناد صحيح أيضًا : 5392 ، أنها العصر .
وكذلك مضى عن ابن عمر بإسنادين صحيحين : 5389 ، 5391 ، أنه يرى أنها العصر .
وأبو سعيد وابن عمر ممن اختلفت الرواية عنهما في ذلك على القولين . ذلك أنهما لم يرويا فيه حديثا مرفوعا يكون حجة عليهما ، إنما اجتهدا واستنبطا ما استطاعا ، وانظر ابن كثير 1 : 577 .
(2) الخبر : 5452 - العوام - بتشديد الواو - بن حوشب بن يزيد الشيباني : ثقة مجمع عليه . يروي عن كبار التابعين . ولكنه هنا روى عن رجل مجهول ، صار به الإسناد ضعيفا .

(5/202)


الزبرقان بن عمرو ، عن زيد بن ثابت قال ، الصلاة الوسطى صلاة الظهر. (1)
5454 - حدثنا المثنى قال ، حدثنا الحجاج قال ، حدثنا حماد قال ، أخبرنا عبيد الله ، عن نافع ، عن زيد بن ثابت أنه قال : الصلاة الوسطى : هي صلاة الظهر. (2)
5455 - حدثنا ابن البرقي قال ، حدثنا ابن أبي مريم قال ، أخبرنا نافع بن يزيد قال ، حدثني الوليد بن أبي الوليد أبو عثمان قال ، حدثني عبد الله بن دينار ، عن عبد الله بن عمر : أنه سئل عن الصلاة الوسطى قال : هي التي على أثر الضحى. (3)
5456 - حدثنا ابن البرقي قال ، حدثنا ابن أبي مريم قال ، حدثنا نافع بن يزيد قال ، حدثني الوليد بن أبي الوليد : أن سلمة بن أبي مريم حدثه : أن نفرا من قريش أرسلوا إلى عبد الله بن عمر يسألونه عن الصلاة الوسطى فقال له : هي التي على أثر صلاة الضحى. فقالوا له : ارجع واسأله ، فما زادنا إلا عياء بها !! فمر بهم عبد الرحمن بن أفلح مولى عبد الله بن عمر ، فأرسلوا إليه أيضا فقال : هي التي توجه فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى القبلة. (4)
__________
(1) الخبر : 5453 - هذا الخبر مختصر . وسيأتي مطولا : 5460 ، من هذا الوجه ، من رواية ابن أبي ذئب ، عن الزبرقان .
(2) الخبر : 5454 - الحجاج : هو ابن المنهال . وحماد : يحتمل أن يكون ابن زيد ، وأن يكون ابن سلمة .
عبيد الله : هو ابن عمر بن حفص بن عاصم . ونافع : هو مولى ابن عمر . وأخشى أن تكون روايته عن زيد بن ثابت مرسلة . فما أظنه أدرك طبقته من الصحابة . وقد نص ابن أبي حاتم على أن روايته عن حفصة وعائشة مرسلة .
(3) الخبر : 5455 - ابن أبي مريم : هو سعيد بن أبي مريم ، وهو سعيد بن الحكم ، مضت ترجمته في : 3877 .
نافع بن يزيد الكلاعي المصري : ثقة مأمون ، ثبت في الحديث ، لا يختلف فيه .
الوليد بن أبي الوليد أبو عثمان : تابعي ثقة . وقد حققنا ترجمته في شرح المسند : 5721 .
وهذا الخبر مختصر . وسيأتي عقبه مطولا ، عن تابعي آخر ، غير عبد الله بن دينار .
(4) الخبر : 5456 - مسلم بن أبي مريم ، واسم أبيه : يسار ، السلولي المدني : تابعي ثقة ، روى عنه شعبة ، ومالك ، وابن جريج ، والليث ، وغيرهم . ووقع في المخطوطة والمطبوعة اسمه " سلمة " بدل " مسلم " ، وهو خطأ من الناسخين . وليس في التراجم من يسمى بهذا .
والخبر رواه - بنحوه - الطحاوي 1 : 99 ، من طريق يحيى بن عبد الله بن بكير ، عن موسى بن ربيعة ، عن الوليد بن أبي الوليد المديني ، عن عبد الرحمن بن أفلح : " أن نفرا من أصحابه أرسلوه إلى عبد الله بن عمر . . . " ، فذكر معناه .
وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد 1 : 309 مختصرا ، بنحوه . قال : " وعن عبد الرحمن بن أفلح : أن نفرا من الصحابة أرسلوني إلى ابن عمر ، يسألونه عن الصلاة الوسطى . فقال : كنا نتحدث أنها الصلاة التي وجه فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى القبلة ، الظهر " . وقال : " رواه الطبراني ، ورجاله موثقون " . ونقله السيوطي بنحوه 1 : 301 أكثر اختصارا من هذا ، ونسبه للطبراني في الأوسط " بسند رجاله ثقات " . فروايتا الطحاوي والطبراني تؤيدان رواية ابن جرير هذه ، لأنها عن " عبد الرحمن بن أفلح " الذي أرسله هؤلاء النفر من قريش يسأل ابن عمر .
وموسى بن ربيعة المصري : ثقة ، ترجمه ابن أبي حاتم 4 /1 /142 - 143 . وقال : " سئل أبو زرعة عنه ؟ فقال : كان يكون بمصر ، وهو ثقة لا بأس به " . ولم أجد له ترجمة عند غيره .
والوليد بن أبي الوليد ، كما سمع الخبر من مسلم بن أبي مريم ، سمعه أيضًا من الرسول الذي أرسله النفر من قريش إلى ابن عمر .
و " عبد الرحمن بن أفلح " : مترجم في ابن أبي حاتم 2 /2 /210 : " عبد الرحمن بن أفلح مولى أبي أيوب . وهو أخو كثير بن أفلح . روى عن . . . روى عنه أبو النضر حديث العزلة . سمعت أبي يقول ذلك " . وموضع النقط بياض في أصل كتاب ابن أبي حاتم وقال مصححه العلامة الشيخ عبد الرحمن اليماني : " في الثقات : عن أم ولد أبي أيوب " .
وترجمه ابن سعد 5 : 220 ، هكذا : " عبد الرحمن بن أفلح ، مولى أبي أيوب الأنصاري . وهو رضيع الخارجة بن زيد بن ثابت الأنصاري . وسمع من عبد الله بن عمر بن الخطاب " .
ولم أجد له ترجمة غير ذلك ، فهو هو الذي في هذا الخبر .
ولعل بعض الرواة وهم في جعله " مولى عبد الله بن عمر " .
وقوله " إلا عياء بها " : يقال " عي بالأمر عيا (بالكسر) وعياء " : جهله وأشكل عليه أمره . وفي الحديث : " شفاء العي السؤال " . وذكر المصدر الثاني (عياء) في المعيار للشيرازي .

(5/203)


5457 - حدثني ابن البرقي قال ، حدثنا ابن أبي مريم قال ، أخبرنا نافع قال ، حدثني زهرة بن معبد قال ، حدثني سعيد بن المسيب : أنه كان قاعدا هو وعروة وإبراهيم بن طلحة ، فقال له سعيد : سمعت أبا سعيد يقول : إن صلاة الظهر هي الصلاة الوسطى. فمر علينا ابن عمر ، فقال عروة : أرسلوا إليه فاسألوه. فسأله الغلام فقال : هي الظهر. فشككنا في قول الغلام ، فقمنا إليه جميعا فسألناه ، فقال : هي الظهر. (1)
__________
(1) الخبر : 5457 - نافع في هذا الإسناد : هو نافه بن يزيد ، الذي ترجمنا له في : 5455 . وهذا إسناد صحيح . والخبر مختصر من الخبر الماضي : 5451 ، من رواية حيوة وابن لهيعة ، عن زهرة بن معبد .

(5/204)


5458 - حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا عثمان بن عمر قال ، حدثنا أبو عامر ، عن عبد الرحمن بن قيس ، عن ابن أبي رافع ، عن أبيه - وكان مولى لحفصة - قال : استكتبتني حفصة مصحفا وقالت لي : إذا أتيت على هذه الآية فأعلمني حتى أملها عليك كما أقرأنيها. فلما أتيت على هذه الآية : " حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى " ، أتيتها فقالت : اكتب : " حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وصلاة العصر " . فلقيت أبي بن كعب أو زيد بن ثابت ، فقلت : يا أبا المنذر ، إن حفصة قالت كذا وكذا!! قال : هو كما قالت ، أو ليس أشغل ما نكون عند صلاة الظهر في غنمنا ونواضحنا! (1)
* * *
__________
(1) الحديث : 5458 - عثمان بن عمر بن فارس بن لقيط العبدي : ثقة من شيوخ أحمد وإسحاق ، أخرج له الجماعة .
أبو عامر : هو الخزاز - بمعجمات - واسمه : صالح بن رستم ، وهو ثقة ، وثقه الطيالسي ، وأبو داود ، وغيرهما .
عبد الرحمن بن قيس العتكي ، أبو روح البصري : ثقة . ذكره ابن حبان في الثقات ، وأخرج له هو وابن خزيمة في صحيحيهما ، وترجمه ابن أبي حاتم 2 /2 /277 - 278 ترجمتين : 1320 ، 1321 ، وهما واحد ، ولم يذكر فيه جرحا .
" ابن أبي نافع عن أبيه " : لم أعرف من " ابن أبي رافع " هذا ؟ ولم أجد له ترجمة ، إلا أنه ذكر في التهذيب هكذا ، في ترجمة عبد الرحمن بن قيس العتكي ، في شيوخه الذين روى عنهم .
ويحتمل جدا أن يكون ابنا لعمرو بن رافع ، الذي سيأتي ذكره في شرح : 5463 .
وفي إسناد : 5464 . وهذا الحديث مجهول الإسناد ، كما ترى . وسيأتي بهذا الإسناد واللفظ : 5470 ، إلا حرفا واحدا ، سنذكره .
وذكره السيوطي 1 : 302 ، بنحوه مختصرا قليلا ، قال : " أخرج عبد الرزاق ، والبخاري في تاريخه وابن جرير ، وابن أبي داود في المصاحف عن أبي رافع مولى حفصة . . . " .
فأما ابن جرير ، فهذه روايته . وأما البخاري في التاريخ ، فلم أعرف موضعه منه . وأما عبد الرزاق وابن أبي داود - فلم أجد عندهما من رواية أبي رافع - على اليقين عندي من ذلك . فلا أدري كيف هذا ؟!
وهو حديث مرفوع ، لقول حفصة : " حتى أملها عليك كما أقرأنيها " . وفي الرواية الآتية : " كما أقرئتها " ، بالنباء لما لم يسم فاعله . والذي يقرئ حفصة وتأخذ عنه القرآن ، هو زوجها المنزل عليه الكتاب ، صلى الله عليه وسلم ، كما سيأتي تصريحها بذلك ، في : 5462 ، 5463 ، 5465 .
وقولها " أملها " : هكذا ثبت في المخطوطة . وفي المطبوعة " أمليها " . وكلاهما صحيح ، يقال : " أمللت الكتاب ، وأمليته " . وكلاهما نزل به القرآن : (فليملل وليه بالعدل) . من " أمللت " . و : (فهي تملى عليه بكرة وأصيلا) ، من " أمليت " . قال الفراء : " أمللت : لغة أهل الحجاز وبني أسد . وأمليت : لغة بني تميم وقيس " .
قوله : " فلقيت أبي بن كعب ، أو زيد بن ثابت ، فقلت : يا أبا المنذر " - إلخ : شك الراوي في أيهما لقي ، ثم رجح أنه أبي بن كعب ، إذ أن كنيته : " أبو المنذر " ، وأما زيد فكنيته : " أبو سعيد " ويقال : " أبو خارجة " .
النواضح : جمع " ناضح " ، وهو من الإبل : ما يستقى عليه الماء . ونضح زرعه : سقا بالدلو . يعني : أنهم في شغل بسقي نخيلهم على النواضح من إبلهم .

(5/205)


وعلة من قال ذلك ، ما : -
5459 - حدثنا به محمد بن المثنى قال ، حدثنا محمد بن جعفر قال ، حدثنا شعبة قال ، أخبرني عمرو بن أبي حكيم قال : سمعت الزبرقان يحدث عن عروة بن الزبير ، عن زيد بن ثابت قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي الظهر بالهاجرة ، ولم يكن يصلي صلاة أشد على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم منها ، قال : فنزلت : " حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى " . وقال : " إن قبلها صلاتين وبعدها صلاتين " . (1)
__________
(1) الحديث : 5459 - عمرو بن أبي حكيم : هو عمرو بن كردي ، أبو سعيد الواسطي ، وهو ثقة ، وثقه أبو داود ، والنسائي ، وغيرهما . ورواية شعبة عنه أمارة توثيقه عنده أيضًا .
الزبرقان : هو ابن عمرو بن أمية الضمري ، بذلك جزم ابن سعد 5 : 184 ، ذكره بعد " جعفر ابن عمرو " ، بأنه " لم يفرق البخاري فمن بعده بينهما ، إلا ابن حبان ، ذكر هذا في ترجمة مفردة عن الذي يوي عنه كليب بن صبح " ، ثم أنحى على ابن حبان لما فعل . وهذا عجب من العجب! فإن البخاري أفرد ترجمة " زبرقان ، عن عمرو بن أمية ، روى عنه كليب . ولكنهما فرقا بينهما ، فما أدري ما الذي أنكره احافظ على ابن حبان ؟!
والزبرقان بن عمرو ، هذا : ثقة .
والحديث رواه أحمد في المسند 5 : 183 ، عن محمد بن جعفر ، عن شعبة ، به .
ورواه أبو داود : 411 ، عن محمد بن المثنى - شيخ الطبري هنا - بهذا الإسناد .
ورواه البخاري في الكبير - في ترجمة الزبرقان ، عن إسحاق . عن عبد الصمد ، عن شعبة ، به ، موجزا كعادته .
ورواه الطحاوي في معاني الآثار 1 : 99 ، من طريق عمرو بن مرزوق ، عن شعبة ، به .
وكذلك رواه البيهقي 1 : 458 ، من طريق عمرو بن مرزوق .
وذكره ابن كثير 1 : 577 ، عن رواية المسنج . ثم أشار إلى رواية أبي داود .
وذكره السيوطي 1 : 301 ، وزاد نسبته للروياني ، وأبي يعلى ، والطبراني .
وهذه أسانيد صحاح .
وسيأتي عقب هذا ، مطولا ، غير موصول الإسناد .

(5/206)


5460 - حدثنا مجاهد بن موسى قال ، حدثنا يزيد بن هارون قال : أخبرنا ابن أبي ذئب ، عن الزبرقان قال : إن رهطا من قريش مر بهم زيد بن ثابت فأرسلوا إليه رجلين يسألانه عن الصلاة الوسطى. فقال زيد : هي الظهر. فقام رجلان منهم فأتيا أسامة بن زيد فسألاه عن الصلاة الوسطى فقال : هي الظهر. إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي الظهر بالهجير ، فلا يكون وراءه إلا الصف والصفان ، الناس يكونون في قائلتهم وفي تجارتهم ، فقال رسول الله : " لقد هممت أن أحرق على أقوام لا يشهدون الصلاة بيوتهم! قال : فنزلت هذه الآية : " حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى " . (1)
* * *
وكان آخرون يقرءون ذلك : " حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وصلاة العصر " .
* ذكر من كان يقول ذلك كذلك :
__________
(1) الحديث : 5460 - هو مطول للحديث قبله ، ولكنه هنا منقطع ، كما سنذكر .
ورواه أحمد في المسند 5 : 206 (حلبي) ، عن يزيد - وهو ابن هرون ، عن ابن أبي ذئب ، به ، ولكن في روايته زيادة في أوله : " مر بهم زيد بن ثابت وهم مجتمعون ، فأرسلوا إليه غلامين لهم يسألانه عن الصلاة الوسطى ، فقال : هي العص . فقام إليه رجلان منهم فسألاه ، فقال : هي الظهر " .
ففي رواية أحمد أن زيد بن ثابت قال للغلامين : هي العصر . وأنه قال للرجلين اللذين قاما إليه : هي الظهر . وقد حذف من رواية الطبري هنا سؤال الغلامين وجواب زيد بأنها العصر . وهذه الزيادة ثابتة أيضًا في ابن كثير 1 : 577 ، في نقله الحديث من مسند أحمد .
ولم أجدها في شيء من مصادر هذا الحديث غير ذلك .
ووقع في المسند " حدثنا يزيد بن أبي ذئب ، عن الزبرقان " ! وهو تخليط من الناسخين ، ثبت أيضًا في مخطوطة المسند (م)! فليس في الرواة من هذا اسمه . والحديث حدي " يزيد بن هرون " ، عن " ابن أبي ذئب " ، كما دلت عليه رواية الطبري هنا .
وزادت نسخة ابن كثير تخليطا إلى تخليط . في النقل عن المسند : " حدثنا يزيد بن أبي وهب ، عن الزبرقان " !! ولسنا ندري ، أهو من الناسخين أم من المطبعة ؟!
والحديث رواه أيضًا الطحاوي في معاني الآثار 1 : 99 ، عن الربيع بن سليمان المرادي ، عن خالد بن عبد الرحمن ، عن ابن أبي ذئب ، عن الزبرقان . ولكنه مختصر ، حذف منه ذكر أسامة بن زيد ، وجعل قوله : " إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي الظهر بالهجير . . . " - إلى آخر الحديث - من كلام زيد بن ثابت ، لا من كلام أسامة ، ولعل هذا الاختصار سهو من بعض الرواة .
فقد أشار البخاري إليه من طريق ابن أبي ذئب ، كعادته في الإيجاز ، وأثبت أنه عن زيد وأسامة ، فذكره في ترجمة الزبرقان 2 /1 /397 ، قال :
" وقال هشام : حدثنا صدقة ، عن ابن أبي ذئب ، قال : حدثنا زبرقان الضمري ، عن زيد وأسامة - نحوه " . يعني نحو حديث قبله سنذكره .
ثم قال حدثنا آدم ، حدثنا ابن أبي ذئب ، قال حدثنا زبرقان الضمري - نحوه " .
ثم قال : " ورواه يحيى بن أبي بكير ، عن ابن أبي ذئب نحوه " .
فرواية أسامة بن زيد ثابتة في هذا الحديث من هذا الوجه ، في كل الروايات ، فحذفها وهم .
وكذلك هي ثابتة في مصادر أخر . فقد ذكره السيوطي كاملا 1 : 301 ، ونسبه لأحمد ، وابن منيع والنسائي ، وابن جرير ، والشاشي ، والضياء .
وروى الطيالسي ، نحوه ، مختصرا : 628 ، عن أبي ذئب ، عن الزبرقان ، عن زهرة ، قال " كنا جلوسا عند زيد بن ثابت ، فأرسلوا إلى أسامة بن زيد ، فسألوه عن الصلاة الوسطى ؟ فقال : هي : الظهر ، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصليها بالهجير " .
وكذلك رواه البيهقي 1 : 458 ، من طريق الطيالسي .
وذكره البخاري في الكبير 2 /1 /396 - 697 ، عن أبي داود ، وهو الطيالسي ، به .
ونقله ابن كثير 1 : 577 ، من مسند الطيالسي .
والحديث المطول الذي هنا منقطع الإسناد كما قلنا . ودل على انقطاعه : الإسناد قبله ، الذي فيه رواية الزبرقان عن عروة ، ورواية الطيالسي ، التي فيها روايته عن زهرة .
ولذلك قال ابن كثير - بعد نقله إياه من رواية مسند الإمام أحمد : " والزبرقان : هو ابن عمرو بن أمية الضمري ، لم يدرك أحدا من الصحابة . والصحيح ما تقدم من روايته عن زهر بن معبد ، وعروة . ابن الزبير " .
وقال الهيثمي في مجمع الزوائد 1 : 308 - 309 ، " رواه أحمد ، ورجاله موثقون ، إلا أن الزبرقان لم يسمع من أسامة بن زيد بن ثابت " .
ومما يجدر التنبيه إليه : أن السيوطي نسبه للنسائي - كما ذكرنا - ولكني لم أجده في النسائي . وقد قال الهيثمي في مجمع الزوائد : " رواه النسائي . وقال الشيخ في الأطاف : ليس في السماع ، ولم يذكره أبو القاسم " . يريد أن الحافظ المزي قال ذلك ، فلعله ثابت في رواية بعض الرواة لسنن النسائي دون بعض .
الهاجرة ، والهجير : نصف النهار عند زوال الشمس إلى العصر ، وهو حينئذ أشد الحر .
والقائلة : الظهيرة ، نصف النهار . والقيلولة : نومة نصف النهار ، قال يقيل . وتسمى القيلولة " القائلة " أيضًا . وهو المراد هنا .

(5/207)


5461 - حدثنا محمد بن بشار قال ، حدثنا محمد بن جعفر قال ، حدثنا

(5/208)


شعبة ، عن أبي بشر ، عن عبد الله بن يزيد الأزدي ، عن سالم بن عبد الله : أن حفصة أمرت إنسانا فكتب مصحفا فقالت : إذا بلغت هذه الآية : " حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى " فآذني. فلما بلغ آذنها ، فقالت : اكتب : " حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وصلاة العصر " . (1)
5462 - حدثنا ابن المثنى قال ، حدثنا عبد الوهاب قال ، حدثنا عبيد الله ، عن نافع : أن حفصة أمرت مولى لها أن يكتب لها مصحفا ، فقالت : إذا بلغت هذه الآية : " حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى " ، فلا تكتبها حتى أمليها عليك كما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرؤها. فلما بلغها ، أمرته فكتبها : " حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وصلاة العصر وقوموا الله قانتين " قال نافع : فقرأت ذلك المصحف فوجدت فيه " الواو " . (2)
__________
(1) الخبر : 5461 - أبو بشر : هو جعفر بن أبي وحشية ، مضت ترجمت في : 3348 .
عبد الله بن يزيد الأزدي " . ثقة ، ترجمه ابن أبي حاتم 2 /2 /2000 ، فلم يذكر فيه جرحا ، ونسبه : " الأزدي أو الأزدي " .
والخبر رواه ابن أبي داود في المصاحف - ص : 85 ، عن محمد بن بشار - شيخ الطبري هنا - بهذا الإسناد ، وفيه بعد قوله : " الأزدي " - : " قال ابن أبي داود : وبعضهم يقول : الأودي " .
ونقله ابن كثير 1 : 581 ، عن ذا الموضع من الطبري .
وقد مضى هذا الخبر مختصرا : 5405 ، من رواية هشيم ، عن أبي بشر ، عن سالم ، وظهر من هذه الرواية انقطاع ذاك الإسناد ، إذ سقط منه " عبد الله بن يزيد " بين أبي بشر وسالم .
(2) الحديث : 5462 - عبد الوهاب : هو ابن عبد المجيد الثقفي . مضت تجمت في : 2039 . عبيد الله : هو ابن عمر بن حفص بن عاصم .
والحديث رواه ابن أبي داود ، ص : 86 ، عن محمد بن بشار ، عن عبد الوهاب ، وهو القفي ، بذا الإسناد . ولفظه في آخره : " قال نافع : فقرأت ذلك في المصحف ، فوجدت الواوات " ! هكذا ثبت فيه ، وأخشى أن يكون من تخليط المستشرق ناشر الكتاب .
ورواه البيهقي 1 : 462 ، بنحوه ، من طريق عارم بن الفضل ، عن حماد بن زيد ، عن عبيد الله ، به ، وفي آخره : " قال نافع : فرأيت الواو معلقة " .
قال البيهقي : " وهذا مسند ، إلا أن فيه إرسالا من جهة نافع ، ثم أكده بما أخبر عن رؤيته " .
ونقله ابن كثير 1 : 581 ، عن هذا الموضع من الطبري .
وقد مضى نحو هذا الحديث : 5406 ، من رواية حماد بن سلمة ، عن عبيد الله . وبينا هناك انقطاعه بين نافع وحفصة ، وسيأتي عقب هذا بنحو ، من طريق حماد بن سلمة أيضًا .

(5/209)


5463 - حدثنا الربيع بن سليمان قال ، حدثنا أسد بن موسى قال ، حدثنا حماد بن سلمة ، عن عبيد الله بن عمر ، عن نافع ، عن حفصة زوج النبي صلى الله عليه وسلم : أنها قالت : لكاتب مصحفها : إذا بلغت مواقيت الصلاة فأخبرني حتى آمرك ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول. فلما أخبرها قالت : اكتب ، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وصلاة العصر " . (1)
__________
(1) الحديث : 5463 - هو تكرار للذي قبله ، بنحوه ، إلا أن في هذا التصريح برفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، كمثل الرواية الماضية : 5406 ، من طريق حماد بن سلمة أيضًا ، وهو منقطع بين نافع وحفصة ، كسابقيه .
وهذه الروايات الثلاث المنقطعة بين نافع وحفصة : 5406 ، 5462 ، 5463 - هي في حقيقتها متصلة ، إذ عرفنا الواسطة بينهما ، وهو " عمرو بن رافع " مولى عمر ، أو مولى حفصة بنت عمر . وهو الذي كتب لها المصحف المذكور في هذه الروايات :
فروى نحوه الطحاوي في معاني الآثار 1 : 102 ، من طريق إبراهيم بن سعد ، عن ابن إسحاق ، قال : " حدثني أبو جعفر محمد بن علي ، ونافع مولى عبد الله بن عمر ، أن عمرو بن رافع مولى عمر بن الخطاب حدثهما : أنه كان يكتب المصاحف عى عهد أزواج النبي صلى الله عليه وسلم . قال : استكتبتني حفصة بنت عمر زوج النبي صلى الله عليه وسلم مصحفا ، وقالت لي : إذا بلغت هذه الآية من سورة البقرة فلا تكتبها حتى تأتيني ، فأمليها عليك كما حفظتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم . قال : فلما بلغتها أتيتها بالورقة التي أكتبها ، فقالت : اكتب : " حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وصلاة العصر " . وكذلك رواه ابن أبي داود في المصاحف ، ص : 86 ، من طريق محمد بن إسحاق . بهذا الإسناد ، نحوه .
وكذلك رواه البيهقي 1 : 462 - 463 ، بإسناده من طريق ابن إسحاق ، إلا أن في روايته " عمر بن رافع " بدل " عمرو " ، وكأنه في كلامه يشير إلى أن هذا خطأ من ابن إسحاق . وهو في هذا واهم ، فإن روايتي الطحاوي وابن أبي داود من طريق ابن إسحاق - فيما " عمرو " على الصواب . فالخطأ هو ممن دون ابن إسحاق عنده .
وإسناد الحديث من هذا الوجه صحيح .
أبو جعفر محمد بن علي : هو الباقر ، محمد بن علي بن الحسين علي بن أبي طالب ، وهو تابعي ثقة مجمع عليه .
عمرو بن رافع مولى عمر : تابعي ثقة . ترجمه ابن سعد في الطبقات 5 : 220 ، وابن أبي حاتم 3 /1 /232 ، ووثقه ابن حبان . وقال السيوطي في رجال الموطأ : " ليست له رواية في الكتب الستة ، ولا مسند أحمد " . وفي التهذيب أن البخاري ذكره فقال : " قال بعضهم : عمر بن رافع ، ولا يصح . وقال بعضهم : أبو رافع " . وقال بعضهم أيضًا : " عمرو بن نافع " . وهي ثابتة في رواية ابن أبي داود . والراجح الصحيح : " عمرو بن رافع " ، لثبوته كذلك في روايات أخر لهذا الحديث مرفوعا وموقوفا ، ومنها الروايتان الآتيان عقب هذه .
وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد 6 : 320 " عن عمرو بن رافع مولى عمر بن الخطاب " . وقال : " رواه أبو يعلى ، ورجاله ثقات " .
وذكره السيوطي 1 : 302 ، وزاد نسبته لأبي عبيد ، وعبد بن حميد ، وابن الأنباري في المصاحف . وروى مالك في الموطأ ، نحو هذا الحديث ، ص : 139 ، موقوفا على حفصة - عن زيد بن أسلم ، عن عمرو بن رافع .
وكذلك رواه الطحاوي 1 : 102 ، وابن أبي داود . ص : 86 - 87 ، والبيهقي 1 : 162 - كلهم من طريق مالك ، به .

(5/210)


5464 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا عبدة بن سليمان قال ، حدثنا محمد بن عمرو قال ، حدثني أبو سلمة ، عن عمرو بن رافع مولى عمر قال : كان مكتوبا في مصحف حفصة : " حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وصلاة العصر وقوموا لله قانتين " . (1)
5465 - حدثنا محمد بن عبد الله بن عبد الحكم المصري قال ، حدثنا أبي وشعيب ، عن الليث قال ، حدثنا خالد بن يزيد ، عن ابن أبي هلال ، عن زيد ، عن عمرو بن رافع قال : دعتني حفصة فكتبت لها مصحفا فقالت : إذا بلغت آية الصلاة فأخبرني. فلما كتبت : " حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى " ، قالت : " وصلاة العصر " ، أشهد أني سمعتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم. (2)
__________
(1) الخبر : 5464 - هذا إسناد صحيح . وهو مختصر مما قبله .
وكذلك رواه الطحاوي 1 : 102 ، مختصرا ، من طريق يزيد بن هارون ، عن محمد بن عمرو ، به . ورواه ابن أبي داود ، ص : 87 ، من طريق يزيد ، وهو ابن هارون ، عن محمد بن عمرو ، مطولا . ورواية ابن أبي داود : " وصلاة العصر " ، كرواية الطبري هنا . وأما رواية الطحاوي ففيها : " وهي صلاة العصر " .
وانظر 5458 ، 5470 .
(2) الحديث 5465 - خالد بن يزيد الجمحي الإسكندراني المصري . أبو عبد الحيم : ثقة ، قال ابن يونس : " كان فقيها مفتيا " ، ووثقه أبو زرعة ، والنسائي ، وغيرهما .
ابن أبي هلال : هو سعيد بن أبي هلال الليثي المصري ، مضت ترجمته في : 1495 .
زيد : هو ابن أسلم العدوي ، الفقيه المدني ، وهو تابعي ثقة . روى عنه مالك ، وابن جرير ، والثوري وغيرهم .
عمرو بن رافع : مضت ترجمته في شرح : 5463 .
ووقع هنا في المخطوطة : " عن أبي هلال ، عن زيد بن عمر بن رافع " . وهو تخليط من الناسخ .
والحديث مضى معناه مرارا ، وخرجناه مفصلا .

(5/211)


5466 - حدثني محمد بن عبد الله بن عبد الحكم قال ، حدثني أبي وشعيب بن الليث ، عن الليث قال ، أخبرني خالد بن يزيد ، عن ابن أبي هلال ، عن زيد : أنه بلغه عن أبي يونس مولى عائشة مثل ذلك.
5467 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو صالح قال ، حدثني الليث قال ، حدثني خالد ، عن سعيد ، عن زيد بن أسلم : أنه بلغه عن أبي يونس مولى عائشة ، عن عائشة مثل ذلك. (1)
__________
(1) الحديثان : 5466 ، 5467 - أولهما منقطع بين زيد بن أسلم وأبي يونس ، ثم هو مرسل ، لم تذكر فيه . والثاني منقطع ، ولكن فيه " عن عائشة " .
وهما حديث واحد ، وحقيقته أنه متصل صحيح .
فرواه مالك في الموطأ ، ص : 138 - 139 ، عن زيد بن أسلم ، عن القعقاع بن حكيم ، عن أبي يونس ، قال : " أمرتني عائشة أن أكتب لها مصحفا ، ثم قالت : إذا بلغت هذه الآية فآذني : (حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وقوموا لله قانتين) . فلما بلغتها آذنتها ، فأملت على : " حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وصلاة العصر وقوموا لله قانتين " . قالت عائشة : سمعتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم " .
ورواه أحمد في المسند 6 : 73 (حلبي) ، عن إسحاق ، وهو ابن عيسى الطباع ، عن مالك ، به .
ونقله ابن كثير 1 : 580 ، عن رواية أحمد في هذا الموضع .
ورواه أحمد أيضًا 6 : 178 (حلبي) ، عن عبد الرحمن ، وهو ابن مهدي ، عن مالك . وكذلك رواه مسلم 1 : 174 - 175 ، وأبو داود : 410 ، والترمذي 4 : 76 ، والنسائي 1 : 82 - 83 ، والطحاوي في معاني الآثار 1 : 102 ، وابن أبي داود في المصاحف ، ص : 84 ، والبيهقي 1 : 462 - كلهم من طريق مالك .
وذكره ابن حزم في المحلى 4 : 254 ، من رواية مالك .
وذكره السيوطي 1 : 302 ، وزاد نسبته لعبد بن حميد ، وابن الأنباري في المصاحف .
ورواه ابن أبي داود أيضًا ، ص : 83 - 84 ، بنحوه ، عن محمد بن إسماعيل الأحمسي ، عن جعفر ابن عون ، عن هشام ، وهو ابن سعد ، عن زيد ، عن أبي يونس - فذكره كرواية مالك ، ولكن ليس قولها أنها سمعتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وهذا أيضًا إسناد صحيح ، رواته ثقات .

(5/212)


5468 - حدثنا محمد بن المثنى قال ، حدثنا وهب بن جرير قالا أخبرنا شعبة ، عن أبي إسحاق ، عن عمير بن مريم ، عن ابن عباس : " حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وصلاة العصر " . (1)
- حدثنا مجاهد بن موسى قال ، حدثنا يزيد بن هارون قال ، أخبرنا عبد الملك بن أبي سليمان ، عن عطاء قال : كان عبيد بن عمير يقرأ : " وحافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وصلاة العصر وقوموا لله قانتين " .
5470 - حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا عثمان بن عمر قال ، حدثنا أبو عامر ، عن عبد الرحمن بن قيس ، عن ابن أبي رافع ، عن أبيه - وكان مولى حفصة - قال : استكتبتني حفصة مصحفا وقالت : إذا أتيت على هذه الآية فأعلمني حتى أملها عليك كما أقرئتها. فلما أتيت على هذه الآية : " حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى " ، أتيتها فقالت : اكتب : " حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وصلاة العصر " ، فلقيت أبي بن كعب أو زيد بن ثابت فقلت : يا أبا المنذر ،
__________
(1) الخبر : 5468 - هبيرة ، بضم الهاء وفتح الباء الموحدة ، بن يريم ، بفتح الياء التحتية في أوله وكسر الراء بعدها تحتية ساكنة : مضت ترجمته : 3001 . ووقع اسمه هنا في المخطوطة والمطبوعة " عمير بن مريم " . وهو خطأ . ووقع في المحلى - في رواية هذا الخبر - مرتين " عمير بن يريم " ، ولم نعرف صوابه حين كتبنا التعليق على المحلى ، فذكرنا أقوالا فيما يحتمل من التصويب ، كلها تكلف . ثم استبان الصواب من رواية البيهقي هذا الخبر ، كما سيأتي .
والخبر رواه البيهقي 1 : 463 ، من طريق إبراهيم بن مرزوق ، عن وهب بن جرير ، عن شعبة ، عن أبي إسحاق - وهو السبيعي - عن هبيرة بن يريم ، عن ابن عباس ، ولم يذكر لفظه .
وذكره ابن حزم في المحلى 4 : 254 ، تعليقا - عن يحيى بن سعيد القطان ، عن شعبة ، عن أبي إسحاق ، به ، بلفظ : " وصلاة العصر " .
ثم ذكره 4 : 255 ، تعليقا أيضًا - عن وكيع ، عن شعبة ، به بلفظ : " صلاة العصر " ، وقال : " هكذا بلا واو " .
ورواه ابن أبي داود في المصاحف ، ص : 77 ، عن محمد بن بشار ، عن محمد [وهو ابن جعفر] ، عن شعبة ، به ، بلفظ : " وصلاة العصر " . ووقع في الإسناد أيضًا " عمير بن يريم " . وصوابه : " هبيرة " ، كما قلنا آنفًا .
وذكره السيوطي 1 : 303 ، وزاد نسبته لابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد . ووقع أيضًا : " عمير بن مريم " .

(5/213)


إن حفصه قالت كذا وكذا. قال : هو كما قالت! أو ليس أشغل ما نكون عند صلاة الظهر في نواضحنا وغنمنا ؟ (1)
* * *
وقال آخرون : بل الصلاة الوسطى صلاة المغرب.
* ذكر من قال ذلك :
5471 - حدثنا أحمد بن إسحاق قال ، حدثنا أبو أحمد قال ، حدثنا عبد السلام ، عن إسحاق بن أبي فروة ، عن رجل عن قبيصة بن ذؤيب قال : الصلاة الوسطى صلاة المغرب ، ألا ترى أنها ليست بأقلها ولا أكثرها ، ولا تقصر في السفر ، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يؤخرها عن وقتها ولم يعجلها ؟ (2)
* * *
قال أبو جعفر : ووجه قبيصة بن ذؤيب قوله : " الوسطى " إلى معنى : التوسط الذي يكون صفة للشيء ، يكون عدلا بين الأمرين ، كالرجل المعتدل القامة ، الذي لا يكون مفرطا طوله ولا قصيرة قامته ، ولذلك قال : " ألا ترى أنها ليست بأقلها ولا أكثرها " .
* * *
وقال آخرون : بل الصلاة الوسطى التي عناها الله بقوله : " حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى " ، هي صلاة الغداة.
* ذكر من قال ذلك :
5472 - حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا عفان قال ، حدثنا همام قال ، حدثنا
__________
(1) الحديث : 5470 - مضى بهذا الإسناد : 5458 ، وفصلنا القول فيه هناك . وثبت هنا في المطبوعة ، كما ثبت هناك " أمليها " - بدل " أملها " . وانظر أيضًا : 5464 ، 5465 .
(2) الحديث : 5471 - هذا إسناد منهار ، لا شيء!
عبد السلام : هو ابن حرب ، وهو ثقة . مضى في : 1184 .
إسحاق بن أبي فروة : هو إسحاق بن عبد الله بن أبي فروة المدني ، وهو ضعيف جدا . قال ابن معين : " كذاب " . وقال أبو حاتم : " متروك الحديث " . وقال البخاري : " تركوه " . وقال أيضًا : " نهى أحمد بن حنبل عن حديثه " .
ثم رواه إسحاق - على ضعفه - عن رجل مبهم فزاده ضعفا ، مما جعله " عن قبيصة بن ذؤيب " ، مرسلا ، فضاعف ضعفه .
وقبيصة بن ذؤيب بن حلحلة الخزاعي : تابعي كبير ثقة ، من علماء هذه الأمة وفقهائها ، ولكن أنى يصل هذا الإسناد إليه ؟!
وهذا الحديث نقله السيوطي 1 : 305 ، ولم ينسبه لغير الطبري .
ونقل ابن كثير 1 : 582 ، والحافظ في الفتح 8 : 147 - القول بأنها المغرب ، عن قبيصة بن ذؤيب ، نقلا عن رواية الطبري وحده! وما كان لهما أن ينسباه إليه مع انهيار إسناده! فالقول لا ينسب لعالم إلا أن يثبت عنه . وهذا لم يثبت عن قبيصة .

(5/214)


قتادة ، عن صالح أبي الخليل ، عن جابر بن زيد ، عن ابن عباس قال : الصلاة الوسطى صلاة الفجر. (1)
5473 - حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا ابن أبي عدي وعبد الوهاب ومحمد بن جعفر ، عن عوف ، عن أبي رجاء قال : صليت مع ابن عباس الغداه في مسجد البصرة ، فقنت بنا قبل الركوع وقال : هذه الصلاة الوسطى التي قال الله :
__________
(1) الخبر : 5472 - صالح أبو الخليل : هو صالح بن أبي مريم الضبعي ، كنيته : أبو الخليل . مضى في : 1899 ، 3343 . ووقع في المطبوعة : " صالح بن الخليل " . وهو خطأ ، والصواب من المخطوطة .
والخبر رواه الطحاوي 1 : 101 ، عن ابن مرزوق ، عن عفان ، بهذا الإسناد .
ورواه البيهقي 1 : 461 ، من طريق إبراهيم بن مروزق ، عن عفان ، بهذا الإسناد .
وذكره السيوطي 1 : 301 ، ولم ينسبه لغير الطبري والبيهقي .
ورواه النسائي 1 : 102 في حديث مطول ، رواه عن أبي عاصم ، عن حبان بن هلال ، عن حبيب ، عن عمرو بن هرم ، عن جابر بن زيد ، عن ابن عباس ، قال : " أدلج رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم عرس ، فلم يستيقظ حتى طلعت الشمس أو بعضها ، فلم يصل حتى ارتفعت الشمس ، فصلى . وهي صلاة الوسطى " .
فالحديث مرفوع ، إلا بيان أنها صلاة الوسطى ، فإنه موقوف على ابن عباس من كلامه ، كما هو ظاهر .
وهذا إسناد صحيح . حبان بن هلال الباهلي : ثقة . قال أحمد : " إليه المنتهى في التثبت بالبصرة " . و " حبان " في هذا : بفتح الحاء وتشديد الباء الموحدة .
حبيب : هو ابن أبي حبيب الأنماطي الجرمي - بفتح الجيم وسكون الراء . وهو ثقة/ لينه بعضهم دون حجة . وذكر البخاري في الكبير 1 /2 /313 في ترجمته ، عن حبان ، قال " حدثنا حبيب بن أبي حبيب الجرمي ، ثقة " . ولم يذكر فيه جرحا .
عمرو بن هرم الأزدي البصري : ثقة ، وثقه أحمد ، وابن معين ، وأبو حاتم وغيرهم .
جابر بن زيد : هو أبو الشعثاء الأزدي البصري ، وهو تابعي ثقة عالم مشهور ، مجمع عليه .

(5/215)


" وقوموا لله قانتين " .
5474 - حدثني يعقوب قال ، حدثنا ابن علية ، عن عوف ، عن أبي رجاء العطاردي قال : صليت خلف ابن عباس ، فذكر نحوه.
5475 - حدثنا عباد بن يعقوب الأسدي قال ، حدثنا شريك ، عن عوف الأعرابي ، عن أبي رجاء العطاردي قال : صليت خلف ابن عباس الفجر ، فقنت فيها ورفع يديه ثم قال : هذه الصلاة الوسطى التي أمرنا الله أن نقوم فيها قانتين.
5476 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا هشيم قال ، أخبرنا عوف ، عن أبي رجاء قال : صلى بنا ابن عباس الفجر ، فلما فرغ قال : إن الله قال في كتابه : " حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى " ، فهذه الصلاة الوسطى .
5477 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا مروان ، يعني ابن معاوية - ، عن عوف ، عن أبي رجاء العطاردي ، عن ابن عباس نحوه. (1)
5478 - حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا عبد الوهاب قال ، حدثنا عوف ،
__________
(1) الأخبار : 5473 - 5477 ، كلها بمعنى ، وكلها من رواية عوف ، وهو ابن أبي جميلة الأعرابي ، عن أبي رجاء ، وهو العطاردي .
وعوف بن أبي جميلة : مضى في : 2905 .
وأبو رجاء العطاردي : هو عمران بن ملحان ، وهو تابعي قديم مخضرم ، ثقة . أخرج له الجماعة . عمر عمرا طويلا ، أزيد من 120سنة .
وعباد بن يعقوب الرواجني الأسدي - شيخ الطبري في الإسناد (5475) - : ثقة في الحديث ، شيعي في الرأي . روى عنه البخاري ، والترمذي ، وابن خزيمة ، وغيرهم .
والخبر رواه الطحاوي 1 : 101 ، من طريق أبي عاصم الضحاك بن مخلد ، عن عوف به .
ورواه البيهقي 1 : 461 ، من طريق عمرو بن حبيب ، عن عوف ، به .
ونقله ابن كثير 1 : 576 ، عن روايات الطبري هذه .
وذكره الحافظ في الفتح 8 : 146 ، عن الطبري .
وذكره السيوطي 1 : 301 ، وزاد نسبته لعبد الرزاق ، وابن أبي شيبة في المصنف ، وابن الأنباري في المصاحف ، وعبد بن حميد ، وابن المنذر .
وهو في مصنف عبد الرزاق 1 : 83 ، مختصرا ، عن جعفر بن سليمان ، وهو الضبعي ، عن عوف . والخبر بالإسنادين الأولين : 5473 ، 5474 سيأتي بهما مجموعين في سياق واحد : 5533 .

(5/216)


عن أبي المنهال ، عن أبي العالية ، عن ابن عباس : أنه صلى الغداة في مسجد البصرة ، فقنت قبل الركوع وقال : هذه الصلاة الوسطى التي ذكر الله : " حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وقوموا لله قانتين " . (1)
5479 - حدثنا محمد بن المثنى قال ، حدثنا عبد الوهاب قال ، حدثنا المهاجر ، عن أبي العالية قال : سألت ابن عباس بالبصرة ها هنا ، وإن فخذه لعلى فخذي ، فقلت : يا أبا فلان ، أرأيتك صلاة الوسطى التي ذكر الله في القرآن ، ألا تحدثني أي صلاة هي ؟ قال : وذلك حين انصرفوا من صلاة الغداة ، فقال : أليس قد صليت المغرب والعشاء الآخرة ؟ قال قلت : بلى! قال : ثم صليت هذه ؟ قال : ثم تصلي الأولى والعصر ؟ قال قلت : بلى! قال : فهي هذه. (2)
5480 - حدثنا محمد بن عيسى الدامغاني قال ، أخبرنا ابن المبارك قال ، أخبرنا الربيع بن أنس ، عن أبي العالية قال : صليت خلف عبد الله بن قيس بالبصرة زمن عمر صلاة الغداة ، قال : فقلت لرجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى جنبي : ما الصلاة الوسطى ؟ قال : هذا الصلاة. (3)
__________
(1) الخبر : 5478 - هذا إسناد صحيح . عبد الوهاب : هو ابن عبد المجيد الثقفي .
أبو المنهال : هو سيار بن سلامة الرياحي البصري . وهو ثقة معروف ، أخرج له الجماعة .
أبو العالية : هو رفيع بن مهران الرياحي البصري . مضى في : 184 ، 1783 .
والخبر نقله ابن كثير 1 : 576 ، عن هذا الموضع .
وكذلك نقله السيوطي 1 : 301 .
وأشار الحافظ في الفتح 8 : 146 ، إلى هذا الخبر مع الأخبار الثلاثة بعده - إشارة واحدة .
(2) الخبر : 5479 - وهذا إسناد صحيح .
المهاجر : هو ابن مخلد ، أبو مخلد ، مولى البكرات . وهو ثقة ، لينه بعضهم . وترجمه البخاري في الكبير 4 /1 /381 ، فلم يذكر فيه جرحا .
وهذا الخبر لم يذكره ابن كثير ولا السيوطي ، إنما أشار إليه الحافظ في الفتح مع الذي قبله واللذين بعده ، كما قلنا آنفًا .
(3) الخبر : 5480 - الربيع بن أنس البكري الخراساني : تابعي ثقة . ترجمه البخاري في الكبير 2 /1 /248 ، وابن سعد 7 /2 /102 - 103 ، وابن أبي حاتم 1 /2 / 454 .
عبد الله بن قيس ، الذي صلى خلفه أبو العالية : هو أبو موسى الأشعري رضي الله عنه . كما بين ذلك في رواية الطحاوي هذا الخبر .
وهذا الخبر رواه أبو العالية عن رجل من الصحابة لم يذكر اسمه . وجهالة الصحابي لا تضر ، كما هو معروف عند أهل العلم بالحديث .
ورواه الطحاوي 1 : 101 ، من طريق أبي داود ، عن عبد الله بن المبارك ، بهذا الإسناد .
ونقله ابن كثير 1 : 576 ، عن هذا الموضع من الطبري .
وكذلك ذكره السيوطي 1 : 301 ، وزاد نسبته لعبد بن حميد ، وابن الأنباري .
وإسناده صحيح ، وسيأتي بنحوه : 5482 بإسناد ضعيف .

(5/217)


5481 - حدثني المثنى قال ، حدثنا الحجاج قال ، حدثنا حماد قال ، أخبرنا عوف ، عن خلاس بن عمرو ، عن ابن عباس : أنه صلى الفجر فقنت قبل الركوع ، ورفع إصبعيه وقال : هذه الصلاة الوسطى. (1)
5482 - حدثت عن عمار بن الحسن قال ، حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع ، عن أبي العالية : أنه صلى مع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الغداة ، فلما أن فرغوا قال ، قلت لهم : أيتهن الصلاة الوسطى ؟ قالوا : التي صليتها قبل. (2)
5483 - حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا ابن عثمة قال ، حدثنا سعيد بن
__________
(1) الخبر : 5481 - خلاس بن عمرو : مضى في : 5314 . وهذا إسناد صحيح .
والخبر ذكره ابن كثير 1 : 576 ، موجزا منسوبا لابن جرير . ولم يذكره السيوطي .
(2) الخبر : 5482 - هو في معنى الخبر : 5480 ، ولكن هذا ضعيف الإسناد لإبهام الشيخ الذي روى عنه الطبري .
وذكره ابن كثير 1 : 576 ، فقال : " وروى من طريق أخرى عن البيع . . . " . يعني هذه الرواية .
ومع هذا فإن مخرج الخبر معروف بإسناد صحيح ، غير هذا الذي جهله الطبري .
فرواه عبد الرزاق في المصنف 1 : 183 ، " عبد أبي جعفر الرازي ، عن الربيع بن أنس ، عن أبي العالية ، قال : صلينا مع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الغداة ، فلما فرغنا قلت : أي صلاة صلاة الوسطى ؟ قال : التي صليت الآن " .
فلا يضر بعد جهالة شيخ الطبري ، لأن عبد الرزاق عن أبي جعفر الرازي - والد ابن أبي جعفر - مباشرة .
وأبو جعفر : مضت ترجمته في : 164 .
ولذلك ذكر السيوطي 1 : 301 هذا الخبر ، نسبه لعبد الرزاق ، وابن جرير .

(5/218)


بشير ، عن قتادة ، عن جابر بن عبد الله قال : الصلاة الوسطى صلاة الصبح. (1)
5484 - حدثنا مجاهد بن موسى قال ، حدثنا يزيد بن هارون قال ، أخبرنا عبد الملك بن أبي سليمان قال : كان عطاء يرى أن الصلاة الوسطى صلاة الغداة.
5485 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا يحيى بن واضح قال ، حدثنا الحسين بن واقد ، عن يزيد النحوي ، عن عكرمة في قوله : " والصلاة الوسطى " ، قال : صلاة الغداة.
5486 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله تعالى ذكره : " حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى " ، قال : الصبح.
5487 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد مثله.
5488 - حدثت عن عمار بن الحسن قال ، حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن حصين ، عن عبد الله بن شداد بن الهاد قال : الصلاة الوسطى صلاة الغداة.
5489 - حدثت عن عمار قال ، حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع في قوله : " حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى " ، قال : الصلاة الوسطى صلاة الغداة.
* * *
وعلة من قال هذه المقالة : أن الله تعالى ذكره قال : " حافظوا على الصلوات
__________
(1) الخبر : 5483 - إسناده صحيح .
ابن عثمة : هو محمد بن خالد ، و " عثمة " أمه . مضى في : 90 ، 5314 .
والخبر نقله ابن كثير 1 : 576 ، عن هذا الموضع .
وذكره السيوطي 1 : 301 ، ولم ينسبه لغير الطبري .

(5/219)


والصلاة الوسطى وقوموا لله قانتين " ، بمعنى : وقوموا لله فيها قانتين. قال : فلا صلاة مكتوبة من الصلوات الخمس فيها قنوت سوى صلاة الصبح ، فعلم بذلك أنها هي دون غيرها.
* * *
وقال آخرون : هي إحدى الصلوات الخمس ، ولا نعرفها بعينها.
* ذكر من قال ذلك :
5490 - حدثني يونس بن عبد الأعلى قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، حدثني هشام بن سعد قال : كنا عند نافع ، ومعنا رجاء بن حيوة ، فقال لنا رجاء : سلوا نافعا عن الصلاة الوسطى. فسألناه ، فقال : قد سأل عنها عبد الله بن عمر رجل فقال : هي فيهن ، فحافظوا عليهن كلهن. (1)
5491 - حدثنا أحمد بن إسحاق قال ، حدثنا أبو أحمد ، عن قيس بن الربيع ، عن نسير بن ذعلوق أبي طعمة قال : سألت الربيع بن خثيم عن الصلاة الوسطى ، قال : أرأيت إن علمتها كنت محافظا عليها ومضيعا سائرهن ؟ قلت : لا! فقالا فإنك إن حافظت عليهن فقد حافظت عليها. (2)
__________
(1) الخبر : 5490 - وهذا إسناد صحيح . هشام بن سعد المدني : ثقة . تكلم فيه بعضهم من جهة حفظه . وترجمه البخاري في الكبير 4 /2 /200 ، فلم يذكر فيه جرحا . وقال : " سمع نافعا " .
والخبر ذكره السيوطي 1 : 300 ، ونسبه لابن جرير ، وابن أبي حاتم .
وذكره الحافظ في الفتح 8 : 147 ، وأنه أخرجه ابن أبي حاتم " بإسناد حسن ، عن نافع " . وأنه " آخر ما صححه ابن أبي حاتم " .
وأشار ابن كثير 1 : 582 ، إلى روايته عند ابن أبي حاتم فقط . ثم قال : " وفي صحته نظر . والعجب أن هذا القول اختاره الشيخ أبو عمر بن عبد البر النمري ، إمام ما وراء البحر [يعني الأندلس] . وإنها لإحدى الكبر ؛ إذا اختار مع اطلاعه وحفظه ، ما لم يقم عليه دليل من كتاب ولا سنة ولا أثر " !!
هكذا قال ابن كثير . والظاهر من سياق هذا الخبر : أن ابن عمر يريد الحض على المحافظة على الصلوات كلها ، لا أنه يريد أنها غير معينة . وقد صح عنه تعيينها في قولين : العصر ، والظهر . انظر ما مضى : 5389 ، 5391 ، 5451 ، 5455 .
ولا معنى للإنكار على ابن عبد البر ، فإنه لم ينفرد بذلك . وقد اختاره أيضًا إمام الحرمين من الشافعية ، كما ذكر الحافظ في الفتح 8 : 147 .
(2) الخبر : 5491 - نسير بن ذعلوق أبو طعمة : تابعي ثقة . وثقه ابن معين وغيره .
" نسير " : بضم النون وفتح السين المهملة ، و " ذعلوق " : بضم الذال المعجمة وسكون العين المهملة وضم اللام ، " أبو طعمة " : بضم الطاء وسكون العين المهملتين ، وهي كنية " نسير " .
ووقع اسم في المخطوطة " سير " بدون النون . وهو خطأ . ووقع فيها وفي المطبوعة : " بن ذعلوق ، عن أبي فطيمة " ! وهو خطأ سخيف . فليس في الرواة من يسمى بهذا . بل هو : " عن نسير بن ذعلوق أبي طعمة " ذكر باسمه ونسبه وكنيته . فأخطأ الناسخون ، فحرفوا " طعمة " إلى " فطيمة " ؛ ثم زادوا الخطأ تخليطا ، فزادوا بين الرجل وكنيته حرف " عن " .
ونسير معروف بالرواية عن الربيع بن خثيم ، وهو الذي سأله .
الربيع بن خثيم : مضى في : 1430 . ووقع في المطبوعة هنا " خيثم " ، كما وقع فيها هناك . وهو خطأ صوابه " خثيم " : بضم الخاء المعجمة وفتح الثاء المثلثة وسكون الياء التحتية . وثبت على الصواب في المخطوطة .
وهذا القول عن الربيع بن خثيم ، نقله عنه أيضًا الحافظ في الفتح 8 : 147 ، وذكر أنه قال به أيضًا : سعيد بن جبير وشريح القاضي .

(5/220)


5492 - حدثنا ابن بشار وابن المثنى قالا حدثنا محمد بن جعفر قال ، حدثنا شعبة قال : سمعت قتادة يحدث عن سعيد بن المسيب قال : كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه هكذا يعني مختلفين في الصلاة الوسطى وشبك بين أصابعه. (1)
* * *
قال أبو جعفر : والصواب من القول في ذلك ما تظاهرت به الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم التي ذكرناها قبل في تأويله : وهو أنها العصر.
والذي حث الله تعالى ذكره عليه من ذلك ، نظير الذي روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحث عليه. كما : -
5493 - حدثني به أحمد بن محمد بن حبيب الطوسي قال ، حدثنا يعقوب بن إبراهيم قال ، حدثنا أبي ، عن محمد بن إسحاق قال ، حدثني يزيد بن أبي حبيب ، عن خير بن نعيم الحضرمي ، عن عبد الله بن هبيرة النسائي قال :
__________
(1) الخبر : 5492 - إسناده صحيح جدا .
والخبر نقله ابن كثير 1 : 583 ، عن هذا الموضع .
وكذلك نقله الحافظ في الفتح 8 : 147 ، عن ابن جرير ، وقال : " بإسناد صحيح " .
ونقله السيوطي 1 : 300 ، ولم ينسبه لغير الطبري .

(5/221)


وكان ثقة ، عن أبي تميم الجيشاني ، عن أبي بصرة الغفاري قال : صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة العصر ، فلما انصرف قال : إن هذه الصلاة فرضت على من كان قبلكم فتوانوا فيها وتركوها ، فمن صلاها منكم أضعف أجره ضعفين ، ولا صلاة بعدها حتى يرى الشاهد والشاهد : النجم. (1)
5494 - حدثني علي بن داود قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثني الليث قال ، حدثني خير بن نعيم ، عن ابن هبيرة ، عن أبي تميم الجيشاني : أن أبا بصرة الغفاري قال : صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة العصر بالمخمص فقال : إن هذه الصلاة فرضت على من كان قبلكم فضيعوها وتركوها ، فمن حافظ عليها منكم أوتي أجرها مرتين. (2)
* * *
وقال صلى الله عليه وسلم : " بكروا بالصلاة في يوم الغيم ، فإنه من فاتته العصر حبط عمله " .
__________
(1) الحديث : 5493 - أحمد بن محمد بن حبيب الطوسي ، شيخ الطبري : لم أجد له ترجمة ، ولكن رواية الطبري عنه ثابتة في تاريخه مرارا .
يعقوب : هو ابن إبراهيم بن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف .
يزيد بن أبي حبيب المصري : مضت ترجمته في : 4348 .
خير بن نعيم بن مرة الحضرمي المصري ، قاضي مصر : ثقة . قال يزيد بن أبي حبيب : " ما أدركت من قضاة مصر ، ص : 348 - 352 .
" خير " : بفتح الخاء المعجمة وسكون الياء التحتية ، وكتب في المخطوطة - في هذه الرواية والتي بعدها - غير منقوط . وكتب في المطبوعة - في الموضعين - " جبر " ، وهو تصحيف .
عبد الله بن هبيرة السبائي : مضت ترجمته في : 1914 . و " السبائي " ! بفتح السين المهملة والباء الموحدة ثم همزة مقصورة ، نسبة إلى " سبأ بن يشجب " . ووقع في المطبوعة " النسائي " ! وهو تصحيف جاهل .
أبو تميم الجيشاني : هو عبد الله بن مالك بن أبي الأسحم الجيشاني الرعييني المصري ، وأصله من اليمن . وهو من كبار التابعين ، ولد في حياة النبي صلى الله عليه وسلم ، وهو ثقة معروف . وترجم له الحافظ في الإصابة ، في الكنى 7 : 25 ، وأحال على موضعه في الأسماء ولكنه لم يذكره حيث أشار!
" الجيشاني " : بفتح الجيم وسكون الياء التحتية ثم شين معجمة ، نسبة إلى " جيشان " : قبيل كبير من اليمن .
أبو بصرة الغفاري : صحابي معروف ، روى عنه بعض الصحابة وبعض التابعين . واختلف في اسمه : والراجح الذي جزم به البخاري في الكبير 2 /1 /114 أنه " حميل - بضم الحاء المهملة - بن بصرة " . وكذلك هو في التهذيب ، وذكره ابن أبي حاتم 1 /1 /517 في حرف الجيم ، في اسم " جميل " . وترجمه الحافظ في الإصابة ، في الكنى 7 : 20 .
و " بصرة " : بفتح الباء الموحدة وسكون الصاد المهملة . ووقع في المخطوطة - في هذا الحديث والذي بعده - " نصرة " . في المطبوعة في الموضعين " نضرة " . وكلاما خطأ وتصحيف ، وهذا التصحيف في كنيته قديم . وقع فيه الدبري راوي المصنف عن عبد الرزاق ، (المصنف 1 : 183) . وقال أبو سعيد راويه عن الدبري راوي المصنف عن عبد الرزاق ، (المصنف 1 : 183) . وقال أبو سعيد راويه عن الدبري : " هكذا قال الدبري : أبو نصرة ، بالصاد والنون في أصله وكذا قال الدبري . والصواب : " أبو بصرة " .
والحديث رواه أحمد في المسند 6 396 - 397 ، عن يعقوب ، وهو ابن إبراهيم بن سعد ، بهذا الإسناد .
ورواه مسلم 1 : 228 ، عن زهير بن حرب ، عن يعقوب ، بهذا الإسناد . ولم يذكر لفظه ، إحالة على الرواية التي قبله ، وهي التالية لهذا هنا .
ورواه أحمد أيضًا 6 : 397 ، عن يحيى بن إسحاق ، عن ابن لهيعة ، عن عبد الله بن هبيرة ، بهذا الإسناد ، نحوه .
وسيأتي عقب هذا بإسناد آخر .
وقوله هنا وفي الرواية الآتية : " فرضت على من كان قبلكم " - في رواية المسند عن يعقوب : " عرضت " ، بدل " فرضت " . وكذلك في روايته عن يحيى بن إسحاق . وكذلك في سائر الروايات التي سنذكر في الحديث التالي ، وأنا أرجح أن ما هنا تحريف من الناسخين .
(2) الحديث : 5494 - علي بن داود بن يزيد التميمي القنطري ، شيخ الطبري : ثقة ، وثقه الخطيب وغيره . مترجم في التهذيب ، وتاريخ بغداد 11 : 424 - 425 .
عبد الله بن صالح : هو أبو صالح ، كاتب الليث بن سعد . مضت ترجمته في : 186 .
والحديث رواه أحمد 6 : 397 (حلبي) ، عن يحيى بن إسحاق ، عن ليث بن سعد ، بهذا الإسناد . ولم يذكر لفظه ، إحالة على رواية ابن لهيعة قبله .
ورواه مسلم 1 : 228 ، عن قتيبة بن سعيد ، عن الليث ، به - وساق لفظه .
ورواه البيهقي 1 : 448 ، من طريق يحيى بن بكير ، عن الليث ، به .
ورواه النسائي 1 : 90 ، عن قتيبة ، كرواية مسلم عن قتيبة نفسه . ولكن وقع في طبعتي النسائي بمصر خطأ في الإسناد ، ففيهما : " الليث عن خالد بن نعيم الحضرمي ، عن ابن جبيرة " ! والظاهر أنه خطأ قديم من بعض الناسخين ، إذ ثبت الخطأ نفسه في مخطوطة الشيخ عابد السندي ، ولكن ثبت الإسناد على الصواب في نسخة النسائي المطبوعة في الهند سنة 1296 ، ص : 92 . ولم يقع هذا الخطأ للحفاظ الذين ترجموا لرواة الكتب الستة ، إذن لأشاروا إليه . ولم يفعلوا .
ونقله ابن كثير 1 : 580 ، من رواية المسند من طريق ابن لهيعة . ثم أشار إلى روايتي مسلم والنسائي ووقع فيه هناك تحيف مطبعي كثير .
وذكره السيوطي 1 : 299 ، ونسبه لمسلم ، والنسائي ، والبيهقي .
" المخمص " : بضم الميم وفتح الخاء المعجمة وتشديد الميم الثانية مفتوحة وآخره صاد مهملة . وهو طريق في جبل عير إلى مكة ، كما قال ياقوت . واختلف في ضبطه : فضبط بالقلم في ياقوت بفتحة فوق الميم وسكون على الخاء وكسرة تحت الميم الثانية ، ولم ينص ياقوت بالكتابة على ضبطه . وقال الفيروزبادي " والمخمص ، كمنزل : اسم طريق " . ونقل شارحه الزبيدي أن الصاغاني ضبطه " كمقعد " . وبهذا ضبطه البكري في معجم ما استعجم ، ص : 1197 ، وقال : " موضع في ديار بني كنانة " . فالظاهر من هذا أنه غير الذي في هذا الحديث .
والعبرة هنا بالرواية المتلقاة عن الثقات الأثبات حفاظ السنة . فالذي ضبطناه به هو الثابت في نسخ مسلم المعتمدة الموثقه ، مثل مخطوطة الشطي التي عندي ، ومثل طبعة الآستانة 2 : 208 . ويؤيد هذا ويوكده ضبطه فيه ضبط رواية ولغة ، لا ضبط لغة فقط . وهو الذروة العليا في الإتقان .
ووقع في مطبوعة الطبري هنا بدله " بالمغمس " ، بالغين المعجمة والسين . وهو اسم موضع آخر ، ولكنه غير الذي في هذه الرواية . فالظاهر أنه تصحيف أو تحريف من الناسخين .

(5/222)


5495 - حدثنا بذلك أبو كريب قال ، حدثنا وكيع ، وحدثني محمد بن عبد الله بن عبد الحكم قال ، حدثنا أيوب بن سويد ، [عن الأوزاعي ، عن يحيى بن كثير] عن أبي قلابة ، عن أبي المهاجر ، عن بريدة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم. (1)
__________
(1) الحديث : 5495 - وقع هذا الإسناد ناقصا راويين في المخطوطة والمطبوعة . وقد اضطررت لزيادتهما بين قوسين : [عن الأوزاعي ، عن يحيى بن أبي كثير] ، حتى يستقيم الإسناد .
فأما أولا : فإن وكيعا وأيوب بن سويد لم يدركا أن يرويا عن أبي قلابة ، وكلاهما يروي عن الأوزاعي .
وأما ثانيا : فإن هذا الحديث حديث الأوزاعي ، عرف به ، وعرف أنه خالف غيره في إسناده ومتنه . ونص على ذلك الأئمة .
وأما ثالثا : فإن تخريجه إنما هو على هذا النحو ، كما سيأتي في التخريج ، إن شاء الله .
وقد رواه أبو جعفر هنا من طريقين : رواه عن أبي كريب عن وكيع ، ورواه عن محمد بن عبد الله ابن عبد الحكم عن أيوب بن سويد - ثم يجتمع الإسنادان . فيرويه وكيع وأيوب بن سويد ، عن الأوزاعي ، عن يحيى بن أبي كثير ، عن أبي قلابة .
وأيوب بن سويد الرملي ، أبو مسعود السيباني : ضعفه أحمد ، وابن معين ، وغيرهما . وقال البخاري في الكبير 1 /1 / 417 : " يتكلمون فيه " . وقد قلت في شرح الحديث 7000 من المسند ، ج11 ص204 : " عندي أن أعدل ما قيل فيه ، ما نقل الحافظ في التهذيب عن ابن حبان في الثقات ، قال : كان رديء الحفظ ، يخطئ ، يتقي حديثه من رواية ابنه محمد بن أيوب عنه ، لأن أخباره إذا سبرت من غير رواية ابنه عنه ، وجد أكرها مستقيمة " .
ثم هو لم ينفرد هنا برواية هذا الحديث ، بل رواه معه وكيع . ووكيع هو وكيع .
و " السيباني " ، بفتح السين المهملة : نسبة إلى " سيبان " ، بطن من حمير .
وأبو المهاجر : تابعي ، كما هو ظاهر من الإسناد . ولم يقولوا فيه شيئا ، إلا أن الأوزاعي ذكره هكذا في الإسناد ، وأن المحفوظ : " عن أبي قلابة ، عن أبي المليح ، عن بريدة " . كما سيأتي .
والحديث - من هذا الوجه - رواه أحمد في المسند 5 : 361 (حلبي) ، عن وكيع : " حدثنا الأوزاعي ، عن يحيى بن أبي كثير ، عن أبي قلابة ، عن أبي المهاجر ، عن بريدة ، قال : كما معه في غزاة ، قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : بكروا بالصلاة في اليوم الغنيم ، فإنه من فاته صلاة العصر فقد حبط عمله " .
وكذلك رواه ابن ماجه : 694 ، من طريق الوليد بن مسلم : " حدنا الأوزاعي ، حدثني يحيى ابن أبي كير ، عن أبي قلابة . . . " فذكره بنحوه .
وكذلك رواه البيهقي في السنن الكبري 1 : 444 ، من طريق عيسى بن يونس بن أبي إسحاق السبيعي ، عن الأوزاعي ، بهذا الإسناد ، نحوه .
وأما الرواية التي خالفها الأوزاعي :
فهي ما روى البخاري 2 : 26 (فتح) ، عن مسلم بن إبراهيم ، عن هشام - وهو الدستوائي - : " أخبرنا يحيى بن أبي كير ، عن أبي قلابة ، عن أبي المليح ، قال : كنا مع بريدة في غزوة ، في يوم ذي غنيم ، فقال : بكروا بصلاة العصر ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال : من ترك صلاة العصر فقد حبط عمله " .
ثم رواه البخاري مرة أخرى 2 : 53 (فتح) ، عن معاذ بن فضالة ، عن هشام ، عن يحيى ، بهذا الإسناد نحوه . وقد جعل البخاري عنوان الباب لهذا الحديث : " باب التبكير بالصلاة في يوم غيم " . وهذا يدل على أنه لا يرى ضعف رواية الأوزاعي ، وإن لم تكن على شرطه ، وهذه عادته . ولذلك قال الحافظ : " من عادة البخاري أن يترجم ببعض ما اشتمل عليه ألفاظ الحديث ، ولو لم يوردها ، بل ولو لم يكن على شرطه .
وقال الحافظ في الموضع الأول : " وتابع هشاما على هذا الإسناد عن يحيى بن أبي كير - : شيبان ، ومعمر ، وحديثهما عند أحمد . وخالفهم الأوزاعي ، فرواه عن يحيى ، عن أبي قلابة ، عن أبي المهاجر ، عن بريدة . والأول هو المحفوظ . وخالفهم أيضًا في سياق المتن " .
يعني لأن الأوزاعي جعل الأمر بالتبكير في صلاة الغيم ، من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم . والآخرون جعلوه من كلام بريدة . وأن المرفوع هو : " من فاتته العصر فقد حبط عمله " .
وأنا أميل إلى صحة الروايتين ، إذ هما من مخرجين : فأحد الروايين سمع الصحابي يقوله من عند نفسه ، والآخر يقوله مرفوعا . ومثل هذا كثير .
وقد وهم الحافظ ابن كثير وهما شديدا ، حين ذكر رواية الأوزاعي 1 : 580 ، وقال إنها " في الصحيح " ! فإن رواية الأوزاعي لم يروها من أصحاب الكتب الستة إلا ابن ماجه . والرواية الأخرى - رواية هشام الدستوائي - لم يروها منهم إلا البخاري والنسائي . ووقع في نسخة ابن كثير خطأ في الإسناد . نرجح أنه من الناسخين .
ورواية هشام الدستوائي ، رواها أيضًا أحمد في المسند 5 : 349 - 350 ، 357 ، 360 (حلبي) ورواه النسائي 1 : 83 ، والبيهقي 1 : 444 .
ورواية شيبان ، ومعمر ، عن يحيى بن أبي كثير ، اللتين أشار الحافظ إلى أنهما عند أحمد - ما في المسند 5 : 350 ، 360 (حلبي) .
وذكر السيوطي 1 : 299 آخره المرفوع في الروايتين ، وزاد نسبته لابن أبي شيبة .

(5/224)


* * *

(5/225)


وقال صلى الله عليه وسلم : " من فاتته صلاة العصر فكأنما وتر أهله وماله " . (1)
* * *
5497 - وقال صلى الله عليه وسلم : " من صلى قبل طلوع الشمس وقبل غروبها لم يلج النار " (2) .
* * *
فحث صلى الله عليه وسلم على المحافظة عليها حثا لم يحث مثله على غيرها من الصلوات ، وإن كانت المحافظة على جميعها واجبة ، فكان بينا بذلك أن التي خص الله بالحث على المحافظة عليها ، (3) بعد ما عم الأمر بها جميع المكتوبات ، هي التي اتبعه فيها نبيه صلى الله عليه وسلم ، فخصها من الحض عليها بما لم يخصص به غيرها من الصلوات ، وحذر أمته من تضييعها ما حل بمن قبلهم من الأمم التي وصف أمرها ، ووعدهم من الأجر على المحافظة عليها ضعفي ما وعد على غيرها من سائر الصلوات.
وأحسب أن ذلك كان كذلك ، لأن الله تعالى ذكره جعل الليل سكنا ، والناس من شغلهم بطلب المعاش والتصرف في أسباب المكاسب هادئون ، إلا القليل منهم ، وللمحافظة على فرائض الله وإقام الصلوات المكتوبات فارغون. (4) وكذلك
__________
(1) الحديث : 5496 - ووقع في المطبوعة هنا : " قال " بدون واو العطف ، ودون ذكر الصلاة على رسول الله صلى عليه وسلم . فأوهم هذا الصنيع أن هذا الحديث متن للإسناد السابق . وهو غير مستقيم . والصواب ما أثبتنا عن المخطوطة : أن هذا حديث آخر مستأنف ، ذكره الطبري دون إسناد .
وقد مضى من حديث عبد الله بن عمر ، بإسناده : 5389 .
(2) الحديث : 5497 - هذا حديث معلق أيضًا ، ذكره الطبري دون إسناد .
وهو حديث صحيح ، رواه مسلم 1 : 175 - 176 ، عن عمارة بن رويبة ، قال : " سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : لن يلج النار أحد صلى قبل طلوع الشمس وقبل غروبها . يعني الفجر والعصر " .
ورواه أيضًا أبو داود والنسائي ، كما في ذخائر المواريث ، رقم : 5537 .
ولعل الطبري رواه بالمعنى .
(3) في المطبوعة : " حض الله " ، وفي المخطوطة غي منقوطة ، وصواب قراءتها هو ما أثبت ، والسياق قاطع بوجوب قراءتها كذلك .
(4) في المطبوعة : " فازعون " ، وفي المخطوطة غير منقوطة ، والصواب ما أثبت .

(5/226)


ذلك في صلاة الصبح ، لأن ذلك وقت قليل من يتصرف فيه للمكاسب والمطالب ، ولا مؤونة عليهم في المحافظة عليها. وأما صلاة الظهر ، فان وقتها وقت قائلة الناس واستراحتهم من مطالبهم ، في أوقات شدة الحر وامتداد ساعات النهار ، ووقت توديع النفوس والتفرغ لراحة الأبدان في أوان البرد وأيام الشتاء وأن المعروف من الأوقات لتصرف الناس في مطالبهم ومكاسبهم ، والاشتغال بسعيهم لما لا بد منه لهم من طلب أقواتهم - وقتان من النهار.
أحدهما أول النهار بعد طلوع الشمس إلى وقت الهاجرة. وقد خفف الله تعالى ذكره فيه عن عباده عبء تكليفهم في ذلك الوقت ، وثقل ما يشغلهم عن سعيهم في مطالبهم ومكاسبهم ، وإن كان قد حثهم في كتابه وعلى لسان رسوله في ذلك الوقت على صلاة ، ووعدهم عليها الجزيل من ثوابه ، من غير أن يفرضها عليهم ، وهي صلاة الضحى.
والآخر منهما آخر النهار ، وذلك من بعد إبراد الناس إمكان التصرف وطلب المعاش صيفا وشتاء ، إلى وقت مغيب الشمس. وفرض عليهم فيه صلاة العصر ، ثم حث على المحافظة عليها لئلا يضيعوها لما علم من إيثار عباده أسباب عاجل دنياهم وطلب معايشهم فيها ، على أسباب آجل آخرتهم بما حثهم به عليه في كتابه ، وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم ، ووعدهم من جزيل ثوابه على المحافظة عليها ما قد ذكرت بعضه في كتابنا هذا ، وسنذكر باقيه في كتابنا الأكبر إن شاء الله من(كتاب أحكام الشرائع).
* * *
قال أبو جعفر : وإنما قيل لها " الوسطى " لتوسطها الصلوات المكتوبات الخمس ، وذلك أن قبلها صلاتين ، وبعدها صلاتين ، وهي بين ذلك وسطاهن.
* * *
" والوسطى " " الفعلى " من قول القائل : " وسطت القوم أسطهم سطة ووسوطا " ، إذا دخلت وسطهم. ويقال للذكر فيه : " هو أوسطنا " وللأنثى : " هي وسطانا " . (1)
* * *
__________
(1) انظر معنى " الوسط " فيما سلفه 3 : 141 ، 172 .

(5/227)


القول في تأويل قوله : { وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ (238) }
قال أبو جعفر : اختلف أهل التأويل في معنى قوله " قانتين " .
فقال بعضهم : معنى " القنوت " ، الطاعة. ومعنى ذلك : وقوموا لله في صلاتكم مطيعين له فيما أمركم به فيها ونهاكم عنه.
* ذكر من قال ذلك :
5498 - حدثني علي بن سعيد الكندي قال ، حدثنا عبد الله بن المبارك ، عن ابن عون ، عن الشعبي في قوله : " وقوموا لله قانتين " ، قال : مطيعين.
5499 - حدثني أبو السائب سلم بن جنادة قال ، حدثنا ابن إدريس ، عن ابن عون ، عن الشعبي مثله.
5500 - حدثني ابن حميد قال ، حدثنا يحيى بن واضح قال ، حدثنا أبو المنيب ، عن جابر بن زيد : " وقوموا لله قانتين " ، يقول : مطيعين. (1) .
5501 - حدثني أبو السائب قال ، حدثنا ابن إدريس ، عن عثمان بن الأسود ، عن عطاء : " وقوموا لله قانتين " ، قال : مطيعين.
5502 - حدثنا أحمد بن عبدة الحمصي قال ، حدثنا أبو عوانة ، عن ابن يشر ، عن سعيد بن جبير في قوله : " وقوموا لله قانتين " ، قال : مطيعين. (2)
5503 - حدثنا محمد بن بشار قال ، حدثنا عبد الرحمن قال ، حدثنا سفيان ،
__________
(1) الأثر : 5500 - " أبو المنيب " ، هو : عبيد الله بن عبد الله العتكي ، مضى في رقم : 1634 .
(2) الأثر : 5502 - هكذا في المطبوعة والمخطوطة " أحمد بن عبدة الحمصي " ، ولم أجده منسوبا حمصيا ، وقد مضى في الإسناد رقم : 59 " الضبي " وروي عنه في التاريخ أيضًا ، و " أحمد بن عبدة الضبي " ، هو أبو عبد الله البصري ، مات سنة 245 ، مترجم في التهذيب .

(5/228)


عن الربيع بن أبي راشد ، عن سعيد بن جبير أنه سئل عن " القنوت " ، فقال : القنوت الطاعة. (1)
5504 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا يحيى بن واضح قال ، حدثنا عبيد بن سليمان ، عن الضحاك قال : القنوت ، الذي ذكره الله في القرآن ، إنما يعني به الطاعة.
5505 - حدثني يحيى بن أبي طالب قال ، أخبرنا يزيد بن هارون قال ، أخبرنا جويبر ، عن الضحاك : " وقوموا لله قانتين " ، قال : إن أهل كل دين يقومون لله عاصين ، فقوموا أنتم لله طائعين.
5506 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا أبو زهير ، عن جويبر ، عن الضحاك في قوله : " وقوموا لله قانتين " ، قال : قوموا لله مطيعين في كل شيء ، وأطيعوه في صلاتكم.
5507 - حدثت عن الحسين بن الفرج قال ، سمعت أبا معاذ قال ، أخبرنا عبيد قال ، سمعت الضحاك يقول : " وقوموا لله قانتين " ، القنوت الطاعة ، يقول : لكل أهل دين صلاة ، يقومون في صلاتهم لله عاصين ، فقوموا لله مطيعين.
5508 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثني معاوية بن صالح ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قوله : " قانتين " ، يقول : مطيعين.
5509 - حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : " وقوموا لله قانتين " ، قال : مطيعين.
5510 - حدثني المثنى قال ، حدثنا الحماني قال ، حدثني شريك ، عن
__________
(1) الأثر : 5503 - " الربيع بن أبي راشد " ، هو أخو : " جامع بن أبي راشد الكوفي " ، سمع سعيد بن جبير ، وروى عنه مالك بن مغول ، وسيفان الثوري ، وشريك ، مترجم في الكبير للبخاري 2 /1 /250 ، والجرح 1 / 2 / 461 .

(5/229)


سالم ، عن سعيد : " وقوموا لله قانتين " ، يقول : مطيعين.
5511 - حدثني عمران بن بكار الكلاعي قال ، حدثنا خطاب بن عثمان قال ، حدثنا أبو روح عبد الرحمن بن سنان السكوني حمصي لقيته بأرمينية قال ، سمعت الحسن بن أبي الحسن يقول في قوله : " وقوموا لله قانتين " ، قال : طائعين.
5512 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله : " وقوموا لله قانتين " ، قال : مطيعين.
5513 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد مثله.
5514 - حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : " وقوموا لله قانتين " ، يقول : مطيعين.
5515 - حدثنا أحمد بن إسحاق قال ، حدثنا أبو أحمد الزبيري قال ، حدثنا فضيل بن مرزوق ، عن عطية قال : كانوا يأمرون في الصلاة بحوائجهم ، حتى أنزلت : " وقوموا لله قانتين " ، فتركوا الكلام. قال : " قانتين " ، مطيعين.
5516 - حدثني محمد بن عمارة الأسدي قال ، حدثنا عبيد الله بن موسى قال ، أخبرنا فضيل ، عن عطية في قوله : " وقوموا لله قانتين " ، قال : كانوا يتكلمون في الصلاة بحوائجهم حتى نزلت : " وقوموا لله قانتين " ، فتركوا الكلام في الصلاة.
5517 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج قال ، قال ابن عباس في قوله : " وقوموا لله قانتين " ، قال : كان أهل دين يقومون فيها عاصين ، فقوموا أنتم لله مطيعين.
5518 - حدثنا الربيع بن سليمان قال ، حدثنا أسد بن موسى قال ، حدثنا ابن لهيعة قال ، حدثنا دراج ، عن أبي الهيثم ، عن أبي سعيد ، عن رسول الله صلى

(5/230)


الله عليه وسلم أنه قال : كل حرف في القرآن فيه " القنوت " ، فإنما هو الطاعة " . (1)
5519 - حدثنا العباس بن الوليد قال ، أخبرني أبي قال ، حدثنا سعيد بن عبد العزيز قال : القنوت طاعة الله ، يقول الله تعالى ذكره : " وقوموا لله قانتين " ، مطيعين.
5520 - حدثنا سعيد بن الربيع قال ، حدثنا سفيان قال ، قال ابن طاوس : كان أبي يقول : القنوت طاعة الله.
* * *
وقال آخرون : " القنوت " في هذه الآية ، السكوت. وقالوا : تأويل الآية : وقوموا لله ساكتين عما نهاكم الله أن تتكلموا به في صلاتكم.
* ذكر من قال ذلك :
5521 - حدثني موسى بن هارون قال ، حدثنا عمرو قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : " وقوموا لله قانتين " ، القنوت ، في هذه الآية ، السكوت.
5522 - حدثني موسى قال ، حدثنا عمرو قال : حدثنا أسباط ، عن السدى في خبر ذكره ، عن مرة ، عن ابن مسعود قال : كنا نقوم في الصلاة فنتكلم ، ويسأل الرجل صاحبه عن حاجته ، ويخبره ، ويردون عليه إذا سلم ، حتى أتيت أنا فسلمت فلم يردوا علي السلام ، فاشتد ذلك علي ، فلما قضى النبي صلى الله عليه وسلم صلاته قال : إنه لم يمنعني أن أرد عليك السلام إلا أنا أمرنا أن
__________
(1) الحديث 5518 - دراج أبو السمح ، وأبو الهيثم سليمان بن عمرو : ترجمنا لما فيما مضى : 1387 .
والحديث رواه أحمد في المسند : 11734 (3 : 75 حلبي) ، عن حسن ، وهو ابن موسى الأشيب ، عن ابن لهيعة ، بهذا الإسناد .
وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد 6 : 320 ، وقال : " رواه أحمد ، وأبو يعلى ، والطبراني في الأوسط . وفي إسناد أحمد ، وأبي يعلى ، : ابن لهيعة ، وهو ضعيف " . وابن لهيعة : ليس بضعيف ، كما قلنا مضى : 2941 . وانظر الأثر الآتي رقم : 7050 ، حيث رواه بإسناد آخر إلى ابن لهيعة .

(5/231)


نقوم قانتين لا نتكلم في الصلاة والقنوت : السكوت. (1)
5523 - حدثني محمد بن عبيد المحاربي قال ، حدثنا الحكم بن ظهير ، عن عاصم ، عن زر ، عن عبد الله قال : كنا نتكلم في الصلاة ، فسلمت على النبي صلى الله عليه وسلم فلم يرد علي ، فلما انصرف قال : قد أحدث الله أن لا تكلموا في الصلاة ، ونزلت هذه الآية : " وقوموا لله قانتين " . (2)
5524 - حدثنا عبد الحميد بن بيان السكري قال ، أخبرنا محمد بن يزيد ، وحدثنا أبو كريب قال ، حدثنا ابن أبي زائدة ، وابن نمير ، ووكيع ، ويعلى بن عبيد جميعا ، عن إسماعيل بن أبي خالد ، عن الحارث بن شبل ، عن أبي عمرو الشيباني ، عن زيد بن أرقم قال : كنا نتكلم في الصلاة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، يكلم أحدنا صاحبه في الحاجة ، حتى نزلت هذه الآية : " حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وقوموا لله قانتين " ، فأمرنا بالسكوت. (3)
__________
(1) الحديث : 5522 - هذا الإسناد من تفسير السدي . وقد مضى شرحه مفصلا في الخبر : 168 . وأما هذا الحديث بعينه ، فقد ذكره السيوطي 1 : 306 ، ولم ينسبه لغير الطبري . ولكن في لفظه : و " يسارر الرجل صاحبه " - بدل : " ويسأل الرجل صاحبه عن حاجته " .
وانظر الحديث التالي لهذا ، والحديث : 5526 .
(2) الحديث : 5523 - وهذا الإسناد ضعيف جدا ، من أجل الحكم بن ظهير . وقد بينا ضعفه فيما مضى : 249 .
والحديث - من هذا الوجه - ذكره السيوطي 1 : 306 ، ولم ينسبه لغير الطبري . وانظر الحديث الذي قبله ، والحديث الآتي : 5526 .
(3) الحديث : 5524 - عبد الحميد بن بيان السكري - شيخ الطبري : مضى في رقم 30 ، بوصف " القناد " ، وهما واحد معنى .
الحارث بن شبيل بن عوف الكوفي : ثقة . قال ابن معين - فيما روى عنه ابن أبي حاتم 1 /2 /76 - 77 : " لا يسأل عن مثله " . يعني لجلالته .
و " شبيل " : بالشين المعجمة مصغرا . وفي المطبوعة " شبل " . والتصويب من المخطوطة ، ولكن يقال فيه قول آخر أن اسم أبيه " شبل " . وأشار الحافظ في التهذيب إلى أن هذا القول شبه خطأ من المزي صاحب تهذيب الكمال ، وأنه تبع في ذلك الكلاباذي ، لأن البخاري وابن أبي حاتم فرقا بين " الحارث بن شبيل " و " الحارث بن شبل " . وأن الأول كوفي ثقة ، والثاني بصري ضعيف . وحقا لقد فرقا بينهما في الكبير 1 /2 /268 - 269 ، وابن أبي حاتم 1 / 2 /76 - 77 . ولكن البخاري مع فرقة بينهما ، حكى في ترجمة " ابن شبيل " أنه يقال فيه أيضًا " ابن شبل " . فلم يخطئ المزي ولا الكلاباذي فيما حكيا من القول الآخر .
أبو عمرو الشيباني : و سعد بن إياس الكوفي . وهو تابعي قديم مخضرم ، أدرك الجاهلية كبيرا ، وعاش 120 سنة ، وهو مجمع على ثقته .
والحديث رواه أحمد في المسند 4 : 368 (حلبي) عن يحيى بن سعيد القطان ، عن إسماعيل بن أبي خالد ، به .
وكذلك رواه البخاري في الصحيح 3 : 59 ، و 8 : 149 ، وفي التاريخ الكبير 1 /2 /269 . ومسلم 1 : 151 - كلاهما من طريق إسماعيل بن أبي خالد ، به .
وكذلك رواه البيهقي في السنن الكبرى 1 : 248 ، من طريق إسماعيل .
ورواه أيضًا أبو جعفر النحاس ، في كتاب الناسخ والمنسوخ ، ص : 16 ، من طريق إسماعيل وقال : " وهذا إسناد صحيح " .
ونقله ابن كثير 1 : 583 - 306 ، من رواية المسند . ثم قال : " رواه الجماعة ، سوى ابن ماجه ، من طرق ، عن إسماعيل ، به " .
وذكره السيوطي 1 : 305 - 306 ، وزاد نسبته إلى وكيع ، وسعيد بن منصور ، وعبد بن حميد ، وأبي داود ، والترمذي ، والنسائي ، وابن خزيمة ، والطحاوي ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وابن حبان ، والطبراني . ولكن وقع فيه اسم الصحابي : " زيد بن أسلم " ! وهذا خطأ مطبعي يقينا ، صوابه : " زيد بن أرقم " .

(5/232)


5525 - حدثنا هناد بن السري قال ، حدثنا أبو الأحوص ، عن سماك ، عن عكرمة في قوله : " وقوموا لله قانتين " ، قال : كانوا يتكلمون في الصلاة ، يجيء خادم الرجل إليه وهو في الصلاة فيكلمه بحاجته ، فنهوا عن الكلام.
5526 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا هارون بن المغيرة عن عنبسة ، عن الزبير بن عدي ، عن كلثوم بن المصطلق ، عن عبد الله بن مسعود قال : إن النبي صلى الله عليه وسلم كان عودني أن يرد علي السلام في الصلاة ، فأتيته ذات يوم فسلمت فلم يرد علي ، وقال : إن الله يحدث في أمره ما يشاء ، وإنه قد أحدث لكم في الصلاة أن لا يتكلم أحد إلا بذكر الله ، وما ينبغي من تسبيح وتمجيد : " وقوموا لله قانتين " . (1)
__________
(1) الحديث : 5526 - هذا إسناد صحيح .
هارون بن المغيرة بن حكيم البجلي . وعنبسة ، وهو ابن سعيد بن الضريس قاضي الري . والزبير بن عدي قاضي الري : مضوا في : 3356 .
كلثوم بن المصطلق الخزاعي : تابعي ثقة . خلط بعضهم بينه وبين آخرين يختلفان عنه نسبا ورواية . والحق أنهم ثلاثة ، كما صنع البخاري 4 /1 /226 - 227 ، بالأرقام : 976 ، 977 ، 978 .
وابن أبي حاتم 3 /2 /163 - 164 ، بالأرقام : 922 ، 923 ، 625 .
والحديث - من هذا الوجه ، وبهذا اللفظ - ذكره السيوطي 1 : 306 ، ولم ينسبه لغير الطبري . وقد قصر السيوطي في ذلك . فإن الحديث رواه النسائي 1 : 181 ، من طريق سفيان ، وهو الثوري ، عن الزبير بن عدي ، بهذا الإسناد ، وبلفظ أطول قليلا .
وهو في معنى الحديثين الماضيين : 5522 ، 5523 ، إلا أن إسناد الأول محل نظر ، وإسناد الثاني ضعيف جدا ، وهذا إسناده صحيح .
وأصل المعنى ثابت عن ابن مسعود ، في المسند ، والصحيحين ، وغيرهما ، إلا أنه ليس فيه النص على آية (قوموا لله قانتين) .
فروى أحمد في المسند : 3563 ، من حديث علقمة ، عن ابن مسعود ، قال : " كنا نسلم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في الصلاة ، فيرد علينا . فلما رجعنا من عند النجاشي سلمنا عليه فلم يرد علينا . فقلنا : يا رسول الله ، كنا نسلم عليك في الصلاة فترد علينا ؟ فقال : إن في الصلاة لشغلا " .
وكذلك رواه البخاري 3 : 58 - 59 ، ومسلم : 1 : 151 - كلاهما من حديث علقمة عن ابن مسعود .
وانظر المسند : 3575 ، 3884 ، 3885 ، 3944 ، 4145 .

(5/233)


5527 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد في قوله : " وقوموا لله قانتين " ، قال : إذا قمتم في الصلاة فاسكتوا ، لا تكلموا أحدا حتى تفرغوا منها. قال : والقانت المصلي الذي لا يتكلم.
* * *
وقال آخرون : " القنوت " في هذه الآية ، الركوع في الصلاة والخشوع فيها. وقالوا في تأويل الآية : وقوموا لله في صلاتكم خاشعين ، خافضي الأجنحة ، غير عابثين ولا لاعبين.
* ذكر من قال ذلك :
5528 - حدثني سلم بن جنادة قال ، حدثنا ابن إدريس ، عن ليث ، عن مجاهد : " وقوموا لله قانتين " ، قال : فمن القنوت طول الركوع ، وغض البصر ، وخفض الجناح ، والخشوع من رهبة الله. كان العلماء إذا قام أحدهم يصلي يهاب الرحمن أن يلتفت ، أو أن يقلب الحصى ، أو يعبث بشيء ، أو يحدث نفسه بشيء من أمر الدنيا إلا ناسيا.

(5/234)


5529 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا جرير ، عن ليث ، عن مجاهد نحوه إلا أنه قال : فمن القنوت الركود والخشوع.
5530 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا حكام ، عن عنبسة ، عن ليث ، عن مجاهد : " وقوموا لله قانتين " ، قال : من القنوت الخشوع ، وخفض الجناح من رهبة الله. وكان الفقهاء من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم إذا قام أحدهم إلى الصلاة ، لم يلتفت ، ولم يقلب الحصى ، ولم يحدث نفسه بشيء من أمر الدنيا إلا ناسيا حتى ينصرف.
5531 - حدثت عن عمار بن الحسن قال ، حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن ليث ، عن مجاهد في قوله " وقوموا لله قانتين " ، قال : إن من القنوت الركود ، ثم ذكر نحوه.
5532 - حدثنا عن عمار قال ، حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع في قوله : " وقوموا لله قانتين " ، قال : القنوت الركود - يعني القيام في الصلاة والانتصاب له.
* * *
وقال آخرون : بل " القنوت " ، في هذا الموضع ، الدعاء. قالوا : تأويل الآية : وقوموا لله راغبين في صلاتكم. (1)
* ذكر من قال ذلك :
5533 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال ، حدثنا ابن علية وحدثنا ابن بشار قال ، حدثنا ابن أبي عدي وعبد الوهاب ومحمد بن جعفر جميعا ، عن عوف ، عن أبي رجاء ، قال : صليت مع ابن عباس الغداة في مسجد البصرة ، فقنت بنا قبل الركوع ، وقال : هذه الصلاة الوسطى التي قال الله : " وقوموا لله قانتين " . (2)
__________
(1) أخشى أن يكون الصواب " داعين " ، ولكن " راغبين " صحيحة المعنى ، لأن الراغب إلى ربه إنما رغبته دعاؤه ، والقنوت : دعاء رغبة .
(2) الحديث : 5533 - مضى بالإسنادين جميعا مفرقين : 5473 ، 5474 . وجمعهما أبو جعفر هنا سياقا واحدا .

(5/235)


قال أبو جعفر : وأولى هذه الأقوال بالصواب في تأويل قوله : " وقوموا لله قانتين " ، قول من قال : تأويله : " مطيعين " .
وذلك أن أصل " القنوت " ، الطاعة ، وقد تكون الطاعة لله في الصلاة بالسكوت عما نهى الله [عنه] من الكلام فيها. (1) ولذلك وجه من وجه تأويل " القنوت " في هذا الموضع ، إلى السكوت في الصلاة أحد المعاني التي فرضها الله على عباده فيها إلا عن قراءة قرآن أو ذكر له بما هو أهله. ومما يدل على أنهم قالوا ذلك كما وصفنا ، قول النخعي ومجاهد الذي : -
5534 - حدثنا به أحمد بن إسحاق الأهوازي قال ، حدثنا أبو أحمد الزبيري ، عن سفيان ، عن منصور ، عن إبراهيم ، ومجاهد قالا كانوا يتكلمون في الصلاة ، يأمر أحدهم أخاه بالحاجة ، فنزلت " وقوموا لله قانتين " ، قال : فقطعوا الكلام. و " القنوت " : السكوت ، و " القنوت " الطاعة.
* * *
فجعل إبراهيم ومجاهد " القنوت " سكوتا في طاعة الله ، على ما قلنا في ذلك من التأويل.
وقد تكون الطاعة لله فيها بالخشوع ، وخفض الجناح ، وإطالة القيام ، وبالدعاء ، لأن كل [ذلك] غير خارج من أحد معنيين : (2) من أن يكون مما أمر به المصلي ، أو مما ندب إليه ، والعبد بكل ذلك لله مطيع ، وهو لربه فيه قانت. و " القنوت " : أصله الطاعة لله ، ثم يستعمل في كل ما أطاع الله به العبد.
* * *
فتأويل الآية إذا : حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى ، وقوموا لله فيها مطيعين ، بترك بعضكم فيها كلام بعض وغير ذلك من معاني الكلام ، سوى قراءة
__________
(1) في المطبوعة : " عما نهى الله من الكلام " ، وفي المخطوطة " عما نهاه الله " ، والزيادة بين القوسين لا بد منها ، كأنها سقط من ناسخ .
(2) في المطبوعة : " لأن كلا غير خارج " ، وفي المخطوطة : " لأن كل غير خارج " ، فرجحت سقوط " ذلك " من ناسخ المخطوطة ، واجتهد مصحح المطبوعة .

(5/236)


فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (239)

القرآن فيها ، أو ذكر الله بالذي هو أهله ، أو دعائه فيها ، غير عاصين لله فيها بتضييع حدودها ، والتفريط في الواجب لله عليكم فيها وفي غيرها من فرائض الله.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالا أَوْ رُكْبَانًا }
قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بذلك : وقوموا لله في صلاتكم مطيعين له لما قد بيناه من معناه فإن خفتم من عدو لكم ، أيها الناس ، تخشونهم على أنفسكم في حال التقائكم معهم أن تصلوا قياما على أرجلكم بالأرض قانتين لله فصلوا " رجالا " ، مشاة على أرجلكم ، وأنتم في حربكم وقتالكم وجهاد عدوكم " أو ركبانا " ، على ظهور دوابكم ، فإن ذلك يجزيكم حينئذ من القيام منكم ، قانتين. (1)
* * *
ولما قلنا من أن معنى ذلك كذلك ، جاز نصب " الرجال " بالمعنى المحذوف. وذلك أن العرب تفعل ذلك في الجزاء خاصة ، لأن ثانيه شبيه بالمعطوف على أوله. ويبين ذلك أنهم يقولون : " إن خيرا فخيرا ، وإن شرا فشرا " ، بمعنى : إن تفعل خيرا تصب خيرا ، وإن تفعل شرا تصب شرا ، فيعطفون الجواب على الأول لانجزام الثاني بجزم الأول. فكذلك قوله : " فإن خفتم فرجالا أو ركبانا " ، بمعنى : إن خفتم أن تصلوا قياما بالأرض ، فصلوا رجالا.
* * *
" والرجال " جمع " راجل " و " رجل " ، وأما أهل الحجاز فإنهم يقولون لواحد " الرجال " " رجل " ، مسموع منهم : " مشى فلان إلى بيت الله حافيا رجلا " ، (2)
__________
(1) في المخطوطة : " من القيام منكم أو قانتين " ، بزيادة " أو " ، وهو لا معنى له ، إلا أن يكون في الكلام سقطا ، وتركت ما في المطبوعة على حاله ، فهو مستقيم .
(2) هذا البيان عن لغات العرب في " رجل " ، غي مستوفي في كتب اللغة .

(5/237)


وقد سمع من بعض أحياء العرب في واحدهم " رجلان " ، كما قال بعض بني عقيل :
على إذا أبصرت ليلى بخلوة... أن ازدار بيت الله رجلان حافيا (1)
فمن قال " رجلان " للذكر ، قال للأنثى " رجلى " ، وجاز في جمع المذكر والمؤنث فيه أن يقال : " أتى القوم رجالى ورجالى " مثل " كسالى وكسالى " .
* * *
وقد حكي عن بعضهم أنه كان يقرأ ذلك : " فإن خفتم فرجالا " مشددة. وعن بعضهم أنه كان يقرأ : " فرجالا " ، (2) وكلتا القراءتين غير جائزة القراءة بها عندنا ، لخلافها القراءة الموروثة المستفيضة في أمصار المسلمين. (3)
* * *
وأما " الركبان " ، فجمع " راكب " ، يقال : " هو راكب ، وهم ركبان وركب وركبة وركاب وأركب وأركوب " ، يقال : " جاءنا أركوب من الناس وأراكيب " .
* * *
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
5535 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال ، حدثنا هشيم قال ، أخبرنا مغيرة ، عن إبراهيم قال : سألته عن قوله : " فرجالا أو ركبانا " ، قال : عند المطاردة ، يصلى حيث كان وجهه ، راكبا أو راجلا ويجعل السجود أخفض من الركوع ، ويصلي ركعتين يومئ إيماء.
5536 - حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا سفيان ،
__________
(1) اللسان (رجل) ، عن ابن الأعرابي ، واستشهد به ابن هشام في " باب الحال " وتعدده للمفرد ، وروايته : " . . . ليلى بخفية زيارة بيت الله . . . " . وقوله : " ازدار " هو " افتعل " من " الزيارة " .
(2) يعني بضم الراء وتخفيف الجيم المفتوحة ، وهي مذكورة في شواذ القراءات .
(3) في المطبوعة : " بخلاف القراءة الموروثة " ، والصواب ما في المخطوطة .

(5/238)


عن مغيرة عن إبراهيم في قوله : " فرجالا أو ركبانا " قال : صلاة الضراب ركعتين ، يومئ إيماء.
5537 - حدثني أحمد بن إسحاق قال ، حدثنا أبو أحمد ، عن سفيان ، عن مغيرة ، عن إبراهيم قوله : " فرجالا أو ركبانا " ، قال : يصلي ركعتين حيث كان وجهه ، يومئ إيماء.
5538 - حدثنا أحمد بن إسحاق قال ، حدثنا أبو أحمد قال ، حدثنا إسرائيل ، عن سالم ، عن سعيد بن جبير. " فرجالا أو ركبانا " ، قال : إذا طردت الخيل فأومئ إيماء.
5539 - حدثنا أحمد قال ، حدثنا أبو أحمد قال ، حدثنا سفيان ، عن مالك ، عن سعيد قال : يومئ إيماء.
5540 - حدثنا أحمد قال ، حدثنا أبو أحمد قال ، حدثنا هشيم ، عن يونس ، عن الحسن : " فرجالا أو ركبانا " ، قال : إذا كان عند القتال صلى راكبا أو ماشيا حيث كان وجهه ، يومئ إيماء.
5541 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله : " فإن خفتم فرجالا أو ركبانا " ، أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم في القتال على الخيل ، فإذا وقع الخوف فليصل الرجل على كل جهة قائما أو راكبا ، أو كما قدر على أن يومئ برأسه أو يتكلم بلسانه.
5542 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد بنحوه إلا أنه قال : أو راكبا لأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم. وقال أيضا : أو راكبا ، أو ما قدر أن يومئ برأسه وسائر الحديث مثله.
5543 - حدثنا يحيى بن أبي طالب قال ، حدثنا يزيد قال ، أخبرنا جويبر ،

(5/239)


عن الضحاك في قوله : " فإن خفتم فرجالا أو ركبانا " ، قال : إذا التقوا عند القتال وطلبوا أو طلبوا أو طلبهم سبع ، فصلاتهم تكبيرتان إيماء ، أي جهة كانت.
5544 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عمرو بن عون قال ، حدثنا هشيم قال ، أخبرنا جويبر ، عن الضحاك في قوله : " رجالا أو ركبانا " ، قال : ذلك عند القتال ، (1) يصلي حيث كان وجهه ، راكبا أو راجلا إذا كان يطلب أو يطلبه سبع ، فليصل ركعة ، يومئ إيماء ، فإن لم يستطع فليكبر تكبيرتين.
5545 - حدثنا سفيان بن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن الفضل بن دلهم ، عن الحسن : " فإن خفتم فرجالا أو ركبانا " ، قال : ركعة وأنت تمشي ، وأنت يوضع بك بعيرك ويركض بك فرسك ، على أي جهة كان. (2)
5546 - حدثني موسى قال ، حدثنا عمرو قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : " فإن خفتم فرجالا أو ركبانا " ، أما " رجالا " فعلى أرجلكم ، إذا قاتلتم ، يصلي الرجل يومئ برأسه أينما توجه ، والراكب على دابته يومئ برأسه أينما توجه. (3)
__________
(1) في المطبوعة : " ذاك عند القتال " ، وأثبت ما في المخطوطة .
(2) وضع البعير يضع وضعا ، وأوضعه أيضاعا : وهو سير حثيث وإن كان لا يبلغ أقصى الجهد .
(3) عند هذا انتهى جزء من التقسيم القديم الذي نقلت عنه المخطوطة ، فيها هنا ما نصه :
" وصلى الله على محمد النبي وعلى آل وصحبه وسلم كثيرا
على الأصل المنقول منه هذه النسخة :
بغلت بالسماع وأخي علي حرسه الله ، وأبو الفتح أحمد بن عمر الجهاري ، ومحمد بن علي الأرموي ، ونصر بن الحسين الطبري - بقراءتي على القاضي أبي الحسن الخصيب بن عبد الله ، عن أبي محمد الفرغاني ، عن أبي جعفر الطبري . وذلك في شعبان من سنة ثمان وأربعمئة ، وهو يقابلني بكتابه . وكتب محمد بن أحمد بن عيسى السعدي في التاريخ ، وسمع عبد الرحيم بن أحمد (النحوي ؟ ؟) من موضع سماعه إلى هاهنا مع الجماعة " .

(5/240)


5547 - (1) حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة : " فإن خفتم فرجالا أو ركبانا " ، الآية ، أحل الله لك إذا كنت خائفا عند القتال ، أن تصلي وأنت راكب ، وأنت تسعى ، تومئ برأسك من حيث كان وجهك ، إن قدرت على ركعتين ، وإلا فواحدة.
5548 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر ، عن ابن طاوس ، عن أبيه : " فإن خفتم فرجالا أو ركبانا " ، قال : ذاك عند المسايفة.
5549 - حدثني المثنى قال ، حدثنا سويد قال ، أخبرنا ابن المبارك ، عن معمر ، عن الزهري في قوله : " فإن خفتم فرجالا أو ركبانا " ، قال : إذا طلب الأعداء فقد حلَّ لهم أن يصلوا قِبَل أي جهة كانوا ، رجالا أو ركبانا ، يومئون إيماء ركعتين وقال قتادة : تجزي ركعة.
5550 - حدثت عن عمار قال ، حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع في قوله : " فإن خفتم فرجالا أو ركبانا " ، قال : كانوا إذا خشوا العدو صلوا ركعتين ، راكبا كان أو راجلا.
5551 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا جرير ، عن مغيرة ، عن إبراهيم في قوله : " فإن خفتم فرجالا أو راكبانا " ، قال : يصلي الرجل في القتال المكتوبة على دابته وعلى راحلته حيث كان جهه ، يومئ إيماء عند كل ركوع وسجود ، ولكن السجود أخفض من الركوع. فهذا حين تأخذ السيوف بعضها بعضا ، هذا في المطاردة.
5552 - حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا معاذ بن هشام قال ، حدثني أبي قال : كان قتادة يقول : إن استطاع ركعتين وإلا فواحدة ، يومئ إيماء ، إن شاء راكبا أو راجلا قال الله تعالى ذكره : " فإن خفتم فرجالا أو ركبانا " .
__________
(1) بدأ في التقسيم القديم :
" بسم الله الرحمن الرحيم "

(5/241)


5553 - حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا معاذ بن هشام قال ، حدثني أبي ، عن قتادة ، عن الحسن قال ، في الخائف الذي يطلبه العدو ، قال : إن استطاع أن يصلي ركعتين ، وإلا صلى ركعة.
5554 - حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا معاذ عبد الرحمن قال ، حدثنا سفيان ، عن يونس ، عن الحسن قال : ركعة.
5555 - حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا عبد الرحمن قال ، حدثنا شعبة قال : سألت الحكم وحمادا وقتادة عن صلاة المسايفة ، فقالوا : ركعة .
5556 - حدثنا محمد بن بشار قال ، حدثنا عبد الرحمن قال ، حدثنا شعبة قال : سألت الحكم وحمادا وقتادة ، عن صلاة المسايفة ، فقالوا : يومئ إيماء حيث كان وجهه.
5557 - حدثنا ابن المثنى قال ، حدثنا محمد بن جعفر ، عن حماد والحكم وقتادة : أنهم سئلوا عن الصلاة عند المسايفة ، فقالوا : ركعة حيث وجهك.
5558 - حدثني أبو السائب قال ، حدثنا ابن فضيل ، عن أشعث بن سوار قال : سألت ابن سيرين عن صلاة المنهزم فقال : كيف استطاع.
5559 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال ، حدثنا ابن علية ، عن سعيد بن يزيد ، عن أبي نضرة ، عن جابر بن غراب قال : كنا نقاتل القوم وعلينا هرم بن حيان ، فحضرت الصلاة فقالوا : الصلاة ، الصلاة ! فقال هرم : يسجد الرجل حيث كان وجهه سجدة. قال : ونحن مستقبلو المشرق. (1)
5560 - حدثني يعقوب قال ، حدثنا ابن علية ، عن الجريري ، عن أبي
__________
(1) الأثر : 5559 - " جابر بن غراب النمري البصري " ، روى عن هرم بن حيان ، روى عنه أبو نصرة . مترجم في الكبير 1 /2 /209 ، والجرح والتعديل 1 /1 / 497 . وكان في المطبوعة والمخطوطة : " جابر بن عراب " ، وهو تصحيف . و " سعيد بن يزيد " ، و " أبو مسلمة " الآتي في رقم : 5561 . وهذا الأثر رواه ابن حزم في المحلى 5 : 36 من طريق : " شعبة عن أبي مسلمة سعيد بن يزيد ، عن أبي نضرة . . . " ، بغير هذا اللفظ كما سيأتي في رقم : 5561 .

(5/242)


نضرة قال : كان هرم بن حيان على جيش ، فحضروا العدو فقال : يسجد كل رجل منكم تحت جنته حيث كان وجهه سجدة ، أو ما استيسر فقلت لأبي نضرة : ما " ما استيسر " ؟ قال : يومئ. (1)
5561 - حدثنا سوار بن عبد الله قال ، حدثنا بشر بن المفضل قال ، حدثنا أبو مسلمة ، عن أبي نضرة قال ، حدثني جابر بن غراب قال : كنا مع هرم بن حيان نقاتل العدو مستقبلي المشرق ، فحضرت الصلاة فقالوا : الصلاة! فقال : يسجد الرجل تحت جنته سجدة. (2)
5562 - حدثني المثنى قال ، حدثنا سويد بن نصر قال ، أخبرنا ابن المبارك ، عن عبد الملك بن أبي سليمان ، عن عطاء في قوله : " فإن خفتم فرجالا أو ركبانا " ، قال : تصلي حيث توجهت راكبا وماشيا ، وحيث توجهت بك دابتك ، تومئ إيماء للمكتوبة.
5563 - حدثني سعيد بن عمرو السكوني قال ، حدثنا هبة بن الوليد قال ، حدثنا المسعودي قال ، حدثني يزيد الفقير ، عن جابر بن عبد الله قال : صلاة الخوف ركعة. (3)
__________
(1) الأثر : 5560 - هو مختصر الذي قبله والذي يليه ، غير مرفوع إلى جابر بن غراب . وفي المخطوطة : " فحصروا العدو " بالصاد المهملة ، وكأن الصواب ما في المطبوعة . كما تدل عليه معاني الأثرين : السالف والتالي . وفي المطبوعة : " تحت جيبه " وفي المخطوطة : " تحت حسه " غي منقوطة . والصواب من المحلى 5 : 36 . والجنة (بضم الجيم وتشديد النون) : هي ما واراك من السلاح واستترت به ، كالدروع وغيره من لباس الوقاية في الحرب . في المطبوعة : " ما استيسر " ، بحذف " ما " الثانية الاستفهامية ، وهو خطأ .
(2) الأثر : 5561 - انظر الأثرين السالفين ، والتعليق عليهما . وفي المطبوعة : " مستقبل المشرق " ، وهو خطأ ناسخ . وفي المطبوعة : " تحت جيبه " كما في رقم : 5560 ، وفي المخطوطة : " تحت حسه " غير منقوطة ، والصواب من المحلى 5 : 36 ، ونص ما رواه : " وعن شعبة ، عن أبي مسلمة سعيد بن يزيد ، عن أبي نضرة ، عن جابر بن غراب ، كنا مصافي العدو بفارس ، ووجوهنا إلى المشرق ، فقال هرم بن حيان : ليركع كل إنسان منكم ركعة تحت جنته حيث كان وجهه " .
(3) الأثر : 5563 - " سعيد بن عمرو بن سعيد السكوني " أبو عثمان الحمصي ، روى عن بقية ، والمعافى بن عمران الحمصي وغيرهما . وعنه النسائي ، صدوق ، ذكره ابن حبان في القات . مترجم في التهذيب . و " بقية بن الوليد " ، قال أحمد ، وسئل عن بقية وإسماعيل بن عياش : " بقية أحب إلي ، وإذا حدث عن قوم ليسوا بمعروفين فلا تقبلوا عنه " . وكان في المطبوعة والمخطوطة : " هبة بن الوليد " وهو خطأ . والصواب من تفسير ابن كثبر 1 : 585 . و " المسعودي " ، هو : عبد الرحمن بن عبد الله المسعودي . و " يزيد الفقير " هو : يزيد بن صهيب الفقير ، أبو عثمان الكوفي ، روي عن جابر وأبي سعيد وابن عمر ، ثقة صدوق . وسمي " الفقير " ، لأنه كان يشكو فقار ظهره . مترجم في التهذيب وغيره . وانظر السنن الكبرى 3 : 263 ، والمحلى 5 : 35 .

(5/243)


5564 - حدثنا أحمد بن إسحاق قال ، حدثنا أبو أحمد قال ، حدثنا موسى بن محمد الأنصاري ، عن عبد الملك ، عن عطاء في هذه الآية قال : إذا كان خائفا صلى على أي حال كان. (1) .
5565 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال مالك - وسألته عن قول الله : " فرجالا أو ركبانا " - قال : راكبا وماشيا ، ولو كانت إنما عنى بها الناس ، لم يأت إلا " رجالا " وانقطعت الآية. (2) إنما هي " رجال " : مشاة ، وقرأ : (3) ( يَأْتُوكَ رِجَالا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ )[سورة الحج : 87] ، قال : يأتون مشاة وركبانا.
* * *
قال أبو جعفر : الخوف الذي للمصلي أن يصلي من أجله المكتوبة ماشيا راجلا وراكبا جائلا (4) الخوف على المهجة عند السلة والمسايفة في قتال من أمر
__________
(1) الأثر : 5564 " موسى بن محمد الأنصاري " ، يعد في الكوفيين ، مترجم في الكبير للبخاري 4 /1 /294 ، وابن أبي حاتم 4 /1 /160 ، وهو ثقة .
(2) في المخطوطة والمطبوعة : " انقطعت الألف " ، وقد استظهر مصحح الطبعة الأميرية أنها " وانقطعت الآية " ، وأرجح أنها الصواب ، والناسخ في هذا الموضع من النسخة عجل كثير السهو والخطأ ، كما رأيت فيما مضى ، وكما سترى فيما يأتي . وقد خلط بعضهم في تعليقه على هذا الموضع من الطبري .
(3) في المطبوعة : " وعن يأتوك رجالا . . . " ، وهو خطأ لا شك فيه . أما المخطوطة ففيها " ومزايا ترك " ، وصواب تحريفها وتصحيفها ، هو ما أثبت . ويعني أن مالكا استدل بهذه الآية على معنى " فرجالا " كما هو بين .
(4) الجائل : هو الذي يجول في الحرب جولة على عدوه ، وجولته : دورانه وهو على فرسه ليستمكن من قرنه .

(5/244)


بقتاله ، (1) من عدو للمسلمين ، أو محارب ، أو طلب سبع ، أو جمل صائل ، أو سيل سائل فخاف الغرق فيه. (2)
وكل ما الأغلب من شأنه هلاك المرء منه إن صلى صلاة الأمن ، فإنه إذا كان ذلك كذلك ، فله أن يصلي صلاة شدة الخوف حيث كان وجهه ، يومئ إيماء لعموم كتاب الله : " فإن خفتم فرجالا أو ركبانا " ، ولم يخص الخوف على ذلك على نوع من الأنواع ، بعد أن يكون الخوف ، صفته ما ذكرت.
* * *
وإنما قلنا إن الخوف الذي يجوز للمصلي أن يصلي كذلك ، هو الذي الأغلب منه الهلاك بإقامة الصلاة بحدودها ، وذلك حال شدة الخوف ، لأن : -
5566 - محمد بن حميد وسفيان بن وكيع حدثاني قالا حدثنا جرير ، عن عبد الله بن نافع ، عن أبيه ، عن ابن عمر قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم في صلاة الخوف : يقوم الأمير وطائفة من الناس معه فيسجدون سجدة واحدة ، ثم تكون طائفة منهم بينهم وبين العدو. ثم ينصرف الذين سجدوا سجدة مع أميرهم ، ثم يكونون مكان الذين لم يصلوا ، ويتقدم الذين لم يصلوا فيصلون مع أميرهم سجدة واحدة. ثم ينصرف أميرهم وقد قضى صلاته ، ويصلي بعد صلاته كل واحد من الطائفتين سجدة لنفسه ، وإن كان خوف أشد من ذلك " فرجالا أو ركبانا " . (3)
__________
(1) في المطبوعة : " الخوف على المهمة عند السلمة " ، وهو خلط غث . وفي المخطوطة : " الخوف على المهمة عند المسلة " ، والصواب ما أثبت من قراءتي لهذا النص . والمهجة : الروح ، وخالص النفس . والسلة : استلال السيوف ، يقال : " أتيناهم عند السلة " ، أي عند استلال السيوف إذا حمي الوطيس .
(2) صال الجمل يصول ، فهو صائل وصؤول : وذلك إذا وثب على راعيه فأكله ، وواثب الناس يأكلهم ويعدو عليهم ويطردهم من مخافته .
(3) الحديث : 5566 - جرير : هو ابن عبد الحميد الضبي . عبد الله بن نافع مولى ابن عمر : ضعيف جدا . قال فيه البخاري في الضعفاء : " منكر الحديث " . فصلنا القول في تضعيفه في المسند : 4769 .
وهذا الحديث هكذا رواه جرير عن عبد الله بن نافع ، عن أبيه ، عن ابن عمر - مرفوعا .
وكذلك رواه ابن ماجه : 12587 ، عن محمد بن الصباح ، عن جرير ، عن عبيد الله بن عمر ، عن نافع ، عن ابن عمر - مرفوعا أيضًا . وإسناده صحيح . وأشار الحافظ في الفتح 2 : 360 إلى رواية ابن ماجه هذه ، وقال : " وإسناده جيد " .
ورواه - بمعناه - مالك في الموطأ ، ص : 184 ، " عن نافع : أن عبد الله بن عمر كان إذا سئل عن صلاة الخوف قال . . . " ، فذكر نحوه من كلام ابن عمر ، ثم قال في آخره : " قال مالك : قال نافع : لا أرى عبد الله بن عمر حدثه إلا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم " .
وكذلك رواه البخاري 8 : 150 ، عن عبد الله بن يوسف ، عن مالك .
وروى الشافعي في الأم 1 : 197 ، عن مالك - قطعه من أوله ، ثم أشار إلى سائره وذكر آخره . وكذلك رواه البيهقي3 : 256 ، من طريق الشافعي عن مالك .
وذكره السيوطي 1 : 308 ، من رواية مالك ، وزاد نسبته لعبد الرزاق .
فهذا الشك في رفعه من نافع عند مالك - ثم الجزم برفعه في رواية عبيد الله بن عمر العمري عن نافع عند ابن ماجه - : يقويان رواية جرير عن عبد الله بن نافع ، التي هنا .

(5/245)


5567 - حدثني سعيد بن يحيى الأموي قال ، حدثني أبي قال ، حدثنا ابن جريح ، عن موسى بن عقبة ، عن نافع ، عن ابن عمر قال : إذا اختلطوا - يعني في القتال - فإنما هو الذكر ، وأشارة بالرأس. قال ابن عمر : قال النبي صلى الله عليه وسلم : وإن كانوا أكثر من ذلك ، فيصلون قياما وركبانا " . (1)
* * *
ففصل النبي بين حكم صلاة الخوف في غير حال المسايفة والمطاردة ، وبين حكم صلاة الخوف في حال شدة الخوف والمسايفة ، على ما روينا عن ابن عمر. فكان معلوما بذلك أن قوله تعالى ذكره : " فإن خفتم فرجالا أو ركبانا " ، إنما عنى به الخوف الذي وصفنا صفته.
__________
(1) الحديث : 5567 - سعيد بن يحيى بن سعيد الأموي : مضت ترجمته في : 2255 .
وهذا الحديث رواه البخاي 3 : 259 (فتح) ، عن سعيد بن يحيى - شبخ الطبري - بهذا الإسناد ولم يذكر لفظه كاملا . وذكر الحافظ ، ص : 360 ، رواية الطبري هذه ، أيضاحا لرواية البخاري .
ورواه البيهقي 3 : 255 - 256 ، من طريق الهيثم بن خلف الدوري ، عن سعيد بن يحيى الأموي ، به . وذكر لفظه ، ثم أشار إلى رواية البخاري .
وقوله : " اختلطوا " : يعني اختلط الجيشان ، حال المسايفة والالتحام . وهكذا ثبت هذا الحرف في الفتح نقلا عن الطبري ، والسنن الكبرى للبيهقي ، ووقع في المخطوطة والمطبوعة : " اختلفوا " - بالفاء بدل الطاء . وهو تحريف من الناسخين .
وقوله : " وإشارة بالرأس " : يعني أنهم يصلون بالإيماء ، يذكرون ويقرءون ، ويشيرون إلى الركوع والسجود . وهذا هو الثابت في الفتح والسنن الكبرى . ووقع في المخطوطة والمطبوعة : " وأشار بالرأس " . وهو تحريف أيضًا .

(5/246)


وبنحو الذي روى ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم ، روى عن ابن عمر أنه كان يقول :
5568 - حدثني يعقوب قال ، حدثنا ابن علية ، عن أيوب ، عن نافع ، عن ابن عمر أنه قال : في صلاة الخوف : يصلى بطائفة من القوم ركعة ، وطائفة تحرس. ثم ينطلق هؤلاء الذين صلى بهم ركعة حتى يقوموا مقام أصحابهم. ثم يحيي أولئك فيصلي بهم ركعة ، ثم يسلم ، وتقوم كل طائفة فتصلي ركعة. قال : فإن كان خوف أشد من ذلك " فرجالا أو ركبانا " . (1)
* * *
وأما عدد الركعات في تلك الحال من الصلاة ، فإني أحب أن لا يقصر من عددها في حال الأمن. وإن قصر عن ذلك فصلى ركعة ، رأيتها مجزئة ، لأن : -
5569 - بشر بن معاذ حدثني قال ، حدثنا أبو عوانة ، عن بكر بن الأخنس ، عن مجاهد ، عن ابن عباس قال : فرض الله الصلاة على لسان نبيكم صلى الله عليه وسلم في الحضر أربعا ، وفي السفر ركعتين ، وفي الخوف ركعة. (2)
* * *
__________
(1) الخبر : 5568 - هذا موقوف على ابن عمر ، صريحا ، وهو في معنى الحديث الماضي : 5566 .
(2) الحديث : 5569 بكير بن الأخنس الليثي الكوفي : تابعي ثقة . و " بكير " : بالتصغير . ووقع في المطبوعة " بكر " - بدون الياء ، وهو خطأ .
والحديث رواه أحمد بن المسند : 2124 عن يزيد ، و : 2293 ، عن عفان ، و : 3332 ، عن وكيع - ثلاثتهم عن أبي عوانة ، به .
ورواه البخاري في التاريخ الكبير - موجزا كعادته - في ترجمة بكير 1 /2 /112 ، عن أبي نعيم ، عن أبي عوانة . ورواه مسلم 1 : 192 ، عن أربعة شيوخ ، عن أبي عوانة .
وكذلك رواه البيهقي في السنن الكبرى 3 : 135 ، من طريق يحيى بن يحيى ، عن أبي عوانة . ورواه أحمد أيضًا : 2177 ، عن القاسم بن مالك المزني ، عن أيوب بن عائذ ، عن بكير بن الأخنس ، به .
وكذلك رواه مسلم 1 : 192 ، من طريق القاسم بن مالك .
ورواه البيهقي 3 : 263 - 264 ، بإسنادين من طريق أيوب بن عائذ . وذكره ابن كثير 1 : 585 ، وزاد نسبته لأبي داود ، والنسائي ، وابن ماجه .

(5/247)


القول في تأويل قوله : { فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (239) }
قال أبو جعفر : وتأويل ذلك : " فإذا أمنتم " ، أيها المؤمنون ، من عدوكم أن يقدر على قتلكم في حال اشتغالكم بصلاتكم التي فرضها عليكم - ومن غيره ممن كنتم تخافونه على أنفسكم في حال صلاتكم - فاطمأننتم ، " فاذكروا الله " في صلاتكم وفي غيرها بالشكر له والحمد والثناء عليه ، على ما أنعم به عليكم من التوفيق لإصابة الحق الذي ضل عنه أعداؤكم من أهل الكفر بالله ، كما ذكركم بتعليمه إياكم من أحكامه ، وحلاله وحرامه ، وأخبار من قبلكم من الأمم السالفة ، والأنباء الحادثة بعدكم - في عاجل الدنيا وآجل الآخرة ، التي جهلها غيركم وبصركم ، من ذلك وغيره ، إنعاما منه عليكم بذلك ، فعلمكم منه ما لم تكونوا من قبل تعليمه إياكم تعلمون.
* * *
وكان مجاهد يقول في قوله : " فإذا أمنتم " ، ما : -
5570 - حدثنا به أبو كريب قال ، حدثنا وكيع ، عن سفيان ، عن ليث ، عن مجاهد : " فإذا أمنتم " ، قال : خرجتم من دار السفر إلى دار الإقامة.
* * *
وبمثل الذي قلنا من ذلك قال ابن زيد :
5571 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد في قوله : " فإذا أمنتم فاذكروا الله " ، قال : فإذا أمنتم فصلوا الصلاة كما افترض الله عليكم - إذا جاء الخوف كانت لهم رخصة.
* * *
وقوله ها هنا : " فاذكروا الله " ، قال : الصلاة ، " كما علمكم ما لم تكونوا تعلمون " . (1)
* * *
__________
(1) من أول قوله : " وقوله ها هنا : اذكروا الله . . . " إلى آخر هذه الفقرة ، هي من كلام مجاهد في الأثر : 5570 فيما أرجح ، وأخشى أن يكون الناسخ قد أفسد سياق الكلام ، وأنا أرجح ان قوله آنفًا : " وبمثل الذي قلنا من ذلك قال ابن زيد " ثم الأثر رقم 5571 ، ينبغي أن يكون مقدما على الأثر : 5570 . وأرجح أن قوله : " وقوله ها هنا " كلام فاسد ، وأن " ها هنا " كانت في الأصل القديم إشارة إلى تأخير الكلام من أول قوله : " وكان مجاهد يقول . . . " ثم الأثر : 5570 ، إلى ما بعد الأثر : 5571 ، فيكون السياق :
" فعلمكم منه ما لم تكونوا من قبل تعليمه إياكم تعلمون . وبمثل الذي قلنا من ذلك قال ابن زيد :
5570 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب . . .
وكان مجاهد يقول في قوله : " فإذا أمنتم " ما : -
5571 - حدنا به أبو كريب ، قال حدثنا وكيع ، عن سفيان ، عن ليث ، عن مجاهد : " فإذا أمنتم " ، قال : خرجتم من السفر إلى دار الإقامة . وقوله : " اذكروا الله " ، قال : الصلاة ، " كما علمكم ما لم تكونوا تعلمون " .
قال أبو جعفر : وهذا القول الذي ذكرنا عن مجاهد . . . "
هذا ما أرجح أن أصل الطبري كان عليه ، وأخطأ الناسخ فهم إشارة الناسخ قبله بقوله : " ها هنا " يعني نقل الكلام من هناك إلى " ها هنا " . ولكني لم أستجز هذا التغيير في المطبوعة ، وإن كنت لا أشك فيما رجحته

(5/248)


قال أبو جعفر : وهذا القول الذي ذكرنا عن مجاهد ، قول غيره أولى بالصواب منه ، لإجماع الجميع على أن الخوف متى زال ، فواجب على المصلي المكتوبة - وإن كان في سفر - أداؤها بركوعها وسجودها وحدودها ، وقائما بالأرض غير ماش ولا راكب ، كالذي يجب عليه من ذلك إذا كان مقيما في مصره وبلده ، إلا ما أبيح له من القصر فيها في سفره. ولم يجر في هذه الآية للسفر ذكر ، فيتوجه قوله : " فاذكروا الله كما علمكم ما لم تكونوا تعلمون " ، إليه. و إنما جرى ذكر الصلاة في حال الأمن ، وحال شده الخوف ، فعرف الله سبحانه وتعالى عباده صفة الواجب عليهم من الصلاة فيهما. (1) ثم قال : " فإذا أمنتم " فزال الخوف ، فأقيموا صلاتكم
__________
(1) في المخطوطة : " وصفه الواجب عليهم " ، والصواب ما في المطبوعة .

(5/249)


وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (240)

وذكري فيها وفي غيرها ، مثل الذي أوجبته عليكم قبل حدوث حال الخوف.
وبعد ، (1) فإن كان جرى للسفر ذكر ، ثم أراد الله تعالى ذكره تعريف خلقه صفة الواجب عليهم من الصلاة بعد مقامهم ، لقال : فإذا أقمتم فاذكروا الله كما علمكم ما لم تكونوا تعلمون ولم يقل : " فإذا أمنتم " .
وفي قوله تعالى ذكره : " فإذا أمنتم " ، الدلالة الواضحة على صحة قول من وجه تأويل ذلك إلى الذي قلنا فيه ، وخلاف قول مجاهد. (2)
* * *
القول في تأويل قوله : { وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لأزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ }
قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بذلك : " والذين يتوفون منكم " ، أيها الرجال ويذرون أزواجا يعني زوجات كن له نساء في حياته ، بنكاح لا ملك يمين. ثم صرف الخبر عن ذكر من ابتدأ الخبر بذكره ، نظير الذي مضى من ذلك في قوله : ( وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا ) [سورة البقرة : 234] (3) إلى الخبر عن ذكر أزواجهم. وقد ذكرنا وجه
__________
(1) في المطبوعة : " قبل حدوث حال الخوف وبعده ، فإن كان جرى للسفر ذكر . . . " وهو خلط قبيح ، جعل بعض المصححين يضع مكان " فإن كان جرى " ، " فلو كان جرى . . . " فترك الكلام خلطا لا معنى له ، وصحح ما ليس في حاجة إلى تصحيح!! هذا ، والصواب ما في المخطوطة كما أثبته .
(2) في المطبوعة : " وإلى خلاف قول مجاهد " ، بزيادة " إلى " ، وهي زيادة فاسدة مفسدة . وقوله : " خلاف " معطوف على قوله : " على صحة قول . . . "
(3) اقتصر في المخطوطة والمطبوعة على ذكر الآية إلى قوله : " ويذرون أزواجا " ، فأتممتها للبيان .

(5/250)


ذلك ، ودللنا على صحة القول فيه في نظيره الذي قد تقدم قبله ، فأغنى ذلك عن إعادته في هذا الموضع. (1)
* * *
ثم قال تعالى ذكره : " وصية لأزواجهم " ، فاختلفت القرأة في قراءة ذلك : فقرأ بعضهم : " وصية لأزواجهم " ، بنصب " الوصية " ، بمعنى : فليوصوا وصية لأزواجهم ، أو : عليهم [أن يوصوا] وصية لأزواجهم. (2)
* * *
و قرأ آخرون : ( وَصِيِّةٌ لأزْوَاجِهِمْ )برفع " الوصية " .
* * *
ثم اختلف أهل العربية في وجه رفع " الوصية " .
فقال بعضهم : رفعت بمعنى : كتبت عليهم الوصية. واعتل في ذلك بأنها كذلك في قراءة عبد الله. (3)
فتأويل الكلام على ما قاله هذا القائل : والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا ، كتبت عليهم وصية لأزواجهم - ثم ترك ذكر " كتبت " ، ورفعت " الوصية " بذلك المعنى ، وإن كان متروكا ذكره.
* * *
وقال آخرون منهم : بل " الوصية " مرفوعة بقوله : " لأزواجهم " فتأول : لأزواجهم وصية.
* * *
والقول الأول أولى بالصواب في ذلك ، وهو أن تكون " الوصية " إذا رفعت مرفوعة بمعنى : كتبت عليكم وصية لأزواجكم. لأن العرب تضمر النكرات مرافعها قبلها إذا أضمرت ، فإذا أظهرت بدأت به قبلها ، فتقول : " جاءني رجل اليوم " ،
__________
(1) انظر ما سلف في هذا الجزء : 77 - 79 .
(2) ما بين القوسين زيادة لا يستقيم الكلام إلا بها .
(3) قراءة عبد الله بن مسعود : { كتب عليكم الوصية لأزواجكم } انظر شواذ القراءات لابن خالويه : 15 ، ومعاني القرآن للفراء : 1/156 ، وغيرها المصححون .

(5/251)


وإذا قالوا : " رجل جاءني اليوم " لم يكادوا أن يقولونه إلا والرجل حاضر يشيرون إليه ب " هذا " ، (1) أو غائب قد علم المخبر عنه خبره ، أو بحذف " هذا " وإضماره وإن حذفوه ، لمعرفة السامع بمعنى المتكلم ، كما قال الله تعالى ذكره : (سورة أنزلناها) [سورة النور : 1] و( بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ) [سورة التوبة : 1] ، فكذلك ذلك في قوله : " وصية لأزواجهم " .
* * *
قال أبو جعفر : وأولى القراءتين بالصواب في ذلك عندنا قراءة من قرأه رفعا ، لدلالة ظاهر القرآن على أن مقام المتوفى عنها زوجها في بيت زوجها المتوفى حولا كاملا كان حقا لها قبل نزول قوله : ( وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا ) [سورة البقرة : 234] ، وقبل نزول آية الميراث (2) ولتظاهر الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بنحو الذي دل عليه الظاهر من ذلك ، أوصى لهن أزواجهن بذلك قبل وفاتهن ، أو لم يوصوا لهن به.
* * *
فإن قال قائل : وما الدلالة على ذلك ؟
قيل : لما قال الله تعالى ذكره : " والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا وصية لأزواجهم " ، وكان الموصي لا شك ، إنما يوصي في حياته بما يأمر بإنفاذه بعد وفاته ، (3) وكان محالا أن يوصي بعد وفاته ، كان تعالى ذكره إنما جعل لامرأة الميت سكن الحول بعد وفاته (4) ، (5) علمنا أنه حق لها وجب في ماله بغير وصية منه
__________
(1) في المخطوطة " لم يكادوا أن يقولونه . . . " ، وفي المطبوعة : " أن يقولوه " ، وأرجح أن الصواب ما أثبت بإسقاط " أن " التي في المخطوطة .
(2) انظر ما سيأتي ص : 254 - 258 .
(3) في المطبوعة : " يؤمر بإنفاذه . . . " ، والصواب من المخطوطة .
(4) في المطبوعة : " فكان تعالى ذكره إنما جعل . . . " بالفاء مكان الواو ، والصواب من المخطوطة . وفي المطبوعة : " سكنى الحول " ، وأثبت ما في المخطوطة ، وهما سواء .
(5) في المطبوعة : " علما بأنه حق لها " ، وفي المخطوطة " علمنا به حق " غير منقوطة ، والصواب ما أثبت ، وسياق الجملة : " لما قال الله تعالى . . . وكان الموصى . . . وكان محالا . . . وكان تعالى ذكره . . . علمنا أنه حق . . . "

(5/252)


لها ، إذ كان الميت مستحيلا أن يكون منه وصية بعد وفاته.
* * *
ولو كان معنى الكلام على ما تأوله من قال : " فليوص وصية " ، لكان التنزيل : والذين تحضرهم الوفاة ويذرون أزواجا ، وصية لأزواجهم ، (1) كما قال : ( كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ ) [سورة البقرة : 18]
* * *
وبعدُ ، فلو كان ذلك واجبًا لهن بوصية من أزواجهن المتوفّين ، لم يكن ذلك حقًّا لهن إذا لم يوص أزواجهن لهن قبل وفاتهم ، ولكان قد كان لورثتهم إخراجهن قبل الحول ، (2) وقد قال الله تعالى ذكره : " غير إخراج " . ولكن الأمر في ذلك بخلاف ما ظنه في تأويله قارئُه : " وصيةً لأزواجهم " ، بمعنى : أن الله تعالى كان أمر أزواجهن بالوصية لهنّ. وإنما تأويل ذلك : والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجًا ، كتب الله لأزواجهم عليكم وصية منه لهن أيها المؤمنون - أن لا تخرجوهن من منازل أزواجهن حولا كما قال تعالى ذكره في " سورة النساء " ( غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ )[سورة النساء : 12] ، ثم ترك ذكر : " كتب الله " ، اكتفاء بدلالة الكلام عليه ، ورفعت " الوصية " بالمعنى الذي قلنا قبل.
* * *
فإن قال قائل : فهل يجوز نصب " الوصية " [على الحال ، بمعتى موصين] لهن وصية ؟ (3)
__________
(1) هذا رد الطبري على من قرأها بالنصب .
(2) في المطبوعة : " ولكان لورثتهم إخراجهن " بإسقاط " قد كان " ، وفي المخطوطة : " ولكان لورثتهم قد كان إخراجهن " ، بتقديم " لورثتهم " ، والصواب ما أثبت .
(3) كان مكان ما بين القوسين بياض في المخطوطة والمطبوعة ، وهذه الزيادة بين القوسين استظهرتها من سياق الكلام . وهو يريد في كلامه الآتي خروج الحال مصدرا نحو قولهم : " طلع بغتة ، وجاء ركضا ، وقتلته صبرا ، ولقيته كفاحا " . وانظر سيبوبه 1 : 186 ، وأوضح المسالك 1 : 195 وغيرهما . هذا ما استطعت أن أقدره من كلام أبي جعفر ورده هذا القول ، وكأنه الصواب إن شاء الله .

(5/253)


قيل : لا لأن ذلك إنما كان يكون جائزا لو تقدم " الوصية " من الكلام ما يصلح أن تكون الوصية خارجة منه ، فأما ولم يتقدمه ما يحسن أن تكون منصوبة بخروجها منه ، فغير جائز نصبها بذلك المعنى.
* * *
* ذكر بعض من قال : إن سكنى حول كامل كان حقا لأزواج المتوفين بعد موتهم على ما قلنا (1) أوصى بذلك أزواجهن لهن أو لم يوصوا لهن به ، وأن ذلك نسخ بما ذكرنا من الأربعة الأشهر والعشر والميراث.
5572 - حدثني المثنى قال ، حدثنا الحجاج بن منهال قال ، حدثنا همام بن يحيى قال : سألت قتادة عن قوله : " والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا وصية لأزواجهم متاعا إلى الحول غير إخراج " ، فقال : كانت المرأة إذا توفي عنها زوجها كان لها السكنى والنفقة حولا في مال زوجها ، ما لم تخرج. ثم نسخ ذلك بعد في " سورة النساء " ، فجعل لها فريضة معلومة : الثمن إن كان له ولد ، والربع إن لم يكن له ولد ، وعدتها أربعة أشهر وعشرا ، فقال تعالى ذكره : ( وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا ) [سورة البقرة : 234] ، فنسخت هذه الآية ما كان قبلها من أمر الحول.
5573 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع في قوله : " والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا وصية لأزواجهم متاعا إلى الحول غير إخراج " الآية ، قال : كان هذا من قبل أن تنزل آية الميراث ، فكانت المرأة إذا توفي عنها زوجها كان لها السكنى والنفقة حولا إن شاءت ، فنسخ ذلك في " سورة النساء " ، فجعل لها فريضة معلومة : جعل لها الثمن إن كان له ولد ، وإن لم يكن له ولد فلها الربع ، وجعل عدتها أربعة أشهر وعشر ، فقال : ( وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا ).
__________
(1) انظر ما سلف ص : 252 والتعليق رقم : 3 .

(5/254)


5574 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثني معاوية بن صالح ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قوله : " والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا وصية لأزواجهم متاعا إلى الحول غير إخراج " ، فكان الرجل إذا مات وترك امرأته ، اعتدت سنة في بيته ، ينفق عليها من ماله ، ثم أنزل الله تعالى ذكره بعد : ( وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا ) ، فهذه عدة المتوفى عنها زوجها. إلا أن تكون حاملا فعدتها أن تضع ما في بطنها. وقال في ميراثها : ( وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ )[سورة النساء : 12] ، فبين الله ميراث المرأة ، وترك الوصية والنفقة.
5575 - حدثنا عن الحسين بن الفرج قال سمعت أبا معاذ قال ، سمعت عبيد الله بن سليمان قال ، سمعت الضحاك يقول في قوله : " وصية لأزواجهم متاعا إلى الحول غير إخراج " ، كان الرجل إذا توفي أنفق على امرأته في عامه إلى الحول ، ولا تزوج حتى تستكمل الحول. وهذا منسوخ : نسخ النفقة عليها الربع والثمن من الميراث ، ونسخ الحول أربعة أشهر وعشر.
5576 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا أبو زهير ، عن جويبر ، عن الضحاك في قوله : " والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا وصيه لأزواجهم متاعا إلى الحول غير إخراج " ، قال : الرجل إذا توفي أنفق على امرأته إلى الحول ، ولا تزوج حتى يمضي الحول ، فأنزل الله تعالى ذكره : ( وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا ) ، فنسخ الأجل الحول ، ونسخ النفقة الميراث الربع والثمن.
5577 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج قال : سألت عطاء عن قوله : " والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا وصية لأزواجهم متاعا إلى الحول غير إخراج " ، قال : كان ميراث المرأة من زوجها

(5/255)


من ربعه : (1) أن تسكن إن شاءت من يوم يموت زوجها إلى الحول ، يقول : " فإن خرجن فلا جناح عليكم " الآية ، ثم نسخها ما فرض الله من الميراث قال ، وقال مجاهد : " وصية لأزواجهم " سكنى الحول ، ثم نسخ هذه الآية الميراث.
5578 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد : كان لأزواج الموتى حين كانت الوصية ، نفقة سنة. فنسخ الله ذلك الذي كتب للزوجة من نفقة السنة بالميراث ، فجعل لها الربع أو الثمن وفي قوله : ( وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا ) ، قال : هذه الناسخة.
* * *
* ذكر من قال : كان ذلك يكون لهن بوصية من أزواجهن لهن به :
5579 - حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : " والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا " الآية ، قال : كانت هذه من قبل الفرائض ، فكان الرجل يوصي لامرأته ولمن شاء. ثم نسخ ذلك بعد ، فألحق الله تعالى بأهل المواريث ميراثهم ، وجعل للمرأة إن كان له ولد الثمن ، وإن لم يكن له ولد فلها الربع. وكان ينفق على المرأة حولا من مال زوجها ، ثم تحول من بيته. فنسخته العدة أربعة أشهر وعشرا ، ونسخ الربع أو الثمن الوصية لهن ، فصارت الوصية لذوي القرابة الذين لا يرثون.
5580 - حدثني موسى قال ، حدثنا عمرو قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : " والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا وصية لأزواجهم " ، إلى " فيما فعلن في أنفسهن من معروف " ، يوم نزلت هذه الآية ، كان الرجل إذا مات أوصى لامرأته
__________
(1) في المطبوعة : " من ريعه " بالياء المثناة التحتية . وليس لها معنى هنا . والربع : المنزل والدار والمسكن ، وفي حديث أسامة أنه قال له : " هل ترك لنا عقيل من ربع ؟ " : أي منزل ، والجمع رباع وربوع وأربع . وهذه الكلمة " من ربعه " أسقطها الدر المنثور من روايته للأثر 1 : 309 .

(5/256)


بنفقتها وسكناها سنة ، وكانت عدتها
أربعة أشهر وعشرا ، فإن هي خرجت حين تنقضي أربعة أشهر وعشرا ، انقطعت عنها النفقة ، فذلك قوله : " فإن خرجن " ، وهذا قبل أن تنزل آية الفرائض ، فنسخه الربع والثمن ، فأخذت نصيبها ، ولم يكن لها سكنى ولا نفقة.
5581 - حدثني أحمد بن المقدام قال ، حدثنا المعتمر قال ، سمعت أبي قال ، يزعم قتادة أنه كان يوصى للمرأة بنفقتها إلى رأس الحول.
* * *
* ذكر من قال : " نسخ ذلك ما كان لهن من المتاع إلى الحول ، من غير تبيينه على أي وجه كان ذلك لهن " : (1)
5582 - حدثنا محمد بن بشار قال ، حدثنا عبد الرحمن قال ، حدثنا سفيان ، عن حبيب ، عن إبراهيم في قوله : " والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا وصيه لأزواجهم متاعا إلى الحول " ، قال : هي منسوخة.
5583 - حدثنا الحسن بن الزبرقان قال ، حدثنا أسامة ، عن سفيان ، عن حبيب بن أبي ثابت قال : سمعت إبراهيم يقول ، فذكر نحوه.
5584 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا يحيى بن واضح ، عن حصين ، عن يزيد النحوي ، عن عكرمة والحسن البصري قالا " والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا وصية لأزواجهم متاعا إلى الحول غير إخراج " ، نسخ ذلك بآية الميراث وما فرض لهن فيها من الربع والثمن ، ونسخ أجل الحول أن جعل أجلها أربعة أشهر وعشرا.
5585 - حدثنا يعقوب بن إبراهيم قال ، حدثنا ابن علية ، عن يونس ، عن ابن سيرين ، عن ابن عباس : أنه قام يخطب الناس ها هنا ، فقرأ لهم سورة
__________
(1) في المطبوعة : " من غير بينة " ، والصواب ما في المخطوطة .

(5/257)


البقرة ، فبين لهم فيها ، (1) فأتى على هذه الآية : ( إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأقْرَبِينَ ) [سورة البقرة : 180] ، قال : فنسخت هذه. ثم قرأ حتى أتى على هذه الآية : " والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا " إلى قوله : " غير إخراج " ، فقال : وهذه . (2)
* * *
وقال آخرون : هذه الآية ثابتة الحكم ، لم ينسخ منها شيء.
* ذكر من قال ذلك :
5586 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله : ( وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا )[سورة البقرة : 234] ، قال : كانت هذه للمعتدة ، تعتد عند أهل زوجها ، واجبا ذلك عليها ، فأنزل الله : " والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا وصية لأزواجهم متاعا إلى الحول غير إخراج " ، إلى قوله : " من معروف " . قال : جعل الله لهم تمام السنة ، سبعة أشهر وعشرين ليلة ، وصية : إن شاءت سكنت في وصيتها ، وإن شاءت خرجت ، وهو قول الله تعالى ذكره : " غير إخراج فإن خرجن فلا جناح عليكم " ، قال : والعدة كما هي واجبة.
5587 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد مثله.
5588 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى وحدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل عن ابن أبي نجيح ، عن عطاء ، عن ابن عباس أنه قال : نسخت هذه الآية عدتها عند أهله ، تعتد
__________
(1) في المطبوعة : " فبين لهم فيها " ، والصواب ما في المخطوطة ورقم : 2652 ، أي فسر لهم منها ما فسر .
(2) الأثر : 5585 - مضى مختصرا برقم : 2652 .

(5/258)


حيث شاءت ، وهو قول الله : " غير إخراج " . قال عطاء : إن شاءت اعتدت عند أهله وسكنت في وصيتها ، وإن شاءت خرجت ، لقول الله تعالى ذكره : " فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهن " قال عطاء : جاء الميراث بنسخ السكنى ، تعتد حيث شاءت ولا سكنى لها.
* * *
قال أبو جعفر : وأولى هذه الأقوال عندي في ذلك بالصواب أن يقال : إن الله تعالى ذكره كان جعل لأزواج من مات من الرجال بعد موتهم ، سكنى حول في منزله ، ونفقتها في مال زوجها الميت إلى انقضاء السنة ، (1) ووجب على ورثة الميت أن لا يخرجوهن قبل تمام الحول من المسكن الذي يسكنه ، وإن هن تركن حقهن من ذلك وخرجن ، لم تكن ورثة الميت من خروجهن في حرج. ثم إن الله تعالى ذكره نسخ النفقة بآية الميراث ، وأبطل مما كان جعل لهن من سكنى حول سبعة أشهر وعشرين ليلة ، وردهن إلى أربعة أشهر وعشر ، على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم.
5589 - حدثني محمد بن عبد الله بن عبد الحكم قال ، حدثنا حجاج قال ، أخبرنا حيوة بن شريح ، عن ابن عجلان ، عن سعيد بن إسحاق بن كعب بن عجرة ، وأخبره عن عمته زينب ابنة كعب بن عجرة ، عن فريعة أخت أبي سعيد الخدري : أن زوجها خرج في طلب عبد له ، فلحقه بمكان قريب فقاتله ، وأعانه عليه أعبد معه فقتلوه ، فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت : إن زوجها خرج في طلب عبد له ، فلقيه علوج فقتلوه ، وإني في مكان ليس فيه أحد غيري ، وإن أجمع لأمري أن أنتقل إلى أهلي! فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم : بل امكثي مكانك حتى يبلغ الكتاب أجله. (2)
__________
(1) في المخطوطة : " إلى انقضاء وجب " ، وما بينهما بياض ، وما في المطبوعة أشبه بالصواب
(2) الحديث : 5589 - حجاج : هو ابن رشدين بن سعد . وهو الذي يروي عن حيوة بن شريح ، ويروي عنه محمد بن عبد الله بن عبد الحكم . وهو - عندنا - ثقة . وقد مضت ترجمته مفصلة في : 763 .
ابن عجلان : هو محمد بن عجلان المدني الثقة ، مضى في : 304 .
سعد بن إسحاق بن كعب بن عجرة : مضى في : 5090 . وقد وقع في المطبوعة هنا " سعيد " بدل " سعد " - كما وقع فيما مضى . والأشهر ما أثبتنا .
والحديث مضى مختصرا : 5090 ، من رواية فليح بن سليمان ، عن سعد بن إسحاق ، بهذا الإسناد . وفصلنا القول في تخريجه ، مطولا ومختصرا ، كأنا استوعبنا هناك ما وجدنا من طرقه ، إلا روايات الطحاوي فقد رواه في معاني الآثار 2 : 45 - 46 بتسعة أسانيد . وإلا الطريق التي هنا ، فلم نكن رأيناها . ثم لم نجد هذه الطريق في شيء من الدواوين ، غير الطبري .
أما الحديث في ذاته فصحيح ، ورواياته الصحاح - التي أشرنا إليها هناك : مطولة مفصلة بأكثر مما هنا .
فريعة بنت مالك ، أخت أبي سعيد : هي بضم الفاء بالتصغير ، في أكثر الروايات . ووقع اسمها في المخطوطة هنا " الفارعة " . ولم أجدها في شيء من الروايات هكذا ، إلا في إحدى روايات النسائي 2 : 113 . وكذلك لم يذكر الحافظ في الإصابة هذ الرواية إلا عن رواية النسائي .
والحديث ذكره ابن كثير 1 : 588 - 589 ، عن رواية الموطأ ، التي أشرنا إليها فيما مضى . وهي في الموطأ ، ص : 591 .

(5/259)


وأما قوله : " متاعا " ، فإن معناه : جعل ذلك لهن متاعا ، أي الوصية التي كتبها الله لهن.
وإنما نصب " المتاع " ، لأن في قوله : " وصية لأزواجهم " ، معنى متعهن الله ، فقيل : " متاعا " ، مصدرا من معناه لا من لفظه.
* * *
وقوله : " غير إخراج " ، فإن معناه أن الله تعالى ذكره جعل ما جعل لهن من الوصية متاعا منه لهن إلى الحول ، لا إخراجا من مسكن زوجها يعني : لا إخراج فيه منه حتى ينقضي الحول. فنصب " غير " على النعت ل " لمتاع " ، كقول القائل : " هذا قيام غير قعود " ، بمعنى : هذا قيام لا قعود معه ، أو : لا قعود فيه.
* * *
وقد زعم بعضهم أنه منصوب بمعنى : لا تخرجوهن إخراجا ، وذلك خطأ من القول. لأن ذلك إذا نصب على هذا التأويل ، كان نصبه من كلام آخر غير الأول ، وإنما هو منصوب بما نصب " المتاع " على النعت له. (1)
* * *
__________
(1) انظر معاني القرآن للفراء 1 : 156 .

(5/260)


القول في تأويل قوله : { فَإِنْ خَرَجْنَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (240) }
قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بذلك : أن المتاع الذي جعله الله لهن إلى الحول في مال أزواجهن بعد وفاتهم وفي مساكنهم ، ونهى ورثته عن إخراجهن ، إنما هو لهن ما أقمن في مساكن أزواجهن ، وأن حقوقهن من ذلك تبطل بخروجهن إن خرجن من منازل أزواجهن قبل الحول من قبل أنفسهن ، بغير إخراج من ورثة الميت.
ثم أخبر تعالى ذكره أنه لا حرج على أولياء الميت في خروجهن وتركهن الحداد على أزواجهن. لأن المقام حولا في بيوت أزواجهن والحداد عليه تمام حول كامل ، لم يكن فرضا عليهن ، وإنما كان ذلك إباحة من الله تعالى ذكره لهن إن أقمن تمام الحول محدات. فأما إن خرجن فلا جناح على أولياء الميت ولا عليهن فيما فعلن في أنفسهن من معروف ، وذلك ترك الحداد. يقول : فلا حرج عليكم في التزين إن تزينّ وتطيبن وتزوجن ، لأن ذلك لهن.
وإنما قلنا : " لا حرج عليهنّ في خروجهن " ، وإن كان إنما قال تعالى ذكره : " فلا جناح عليكم " ، لأن ذلك لو كان عليهن فيه جناح ، لكان على أولياء الرجل فيه جناح بتركهم إياهن والخروج ، مع قدرتهم على منعهنّ من ذلك. ولكن لما لم يكن عليهن جناح في خروجهن وترك الحداد ، وضع عن أولياء الميت وغيرهم الحرج فيما فعلن من معروف ، وذلك في أنفسهن.
وقد مضت الرواية عن أهل التأويل بما قلناه في ذلك قبل.
* * *
وأما قوله : " والله عزيز حكيم " ، فإنه يعني تعالى ذكره : " والله عزيز " ، في انتقامه ممن خالف أمره ونهيه وتعدى حدوده من الرجال والنساء ، فمنع من

(5/261)


وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (241)

كان من الرجال نساءهم وأزواجهم ما فرض لهن عليهم في الآيات التي مضت قبل : من المتعة والصداق والوصية ، وإخراجهن قبل انقضاء الحول ، وترك المحافظة على الصلوات وأوقاتها ومنع من كان من النساء ما ألزمهن الله من التربص عند وفاة أزواجهن عن الأزواج ، وخالف أمره في المحافظة على أوقات الصلوات " حكيم " ، فيما قضى بين عباده من قضاياه التي قد تقدمت في الآيات قبل قوله : " ولله عزيز حكيم " ، وفي غير ذلك من أحكامه وأقضيته.
* * *
القول في تأويل قوله جل ذكره { وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (241) }
قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بذلك : ولمن طلق من النساء على مطلقها من الأزواج ، " متاع " . يعني بذلك : ما تستمتع به من ثياب وكسوة أو نفقة أو خادم ، وغير ذلك مما يستمتع به. وقد بينا فيما مضى قبل معنى ذلك ، واختلاف أهل العلم فيه ، والصواب من القول من ذلك عندنا ، بما فيه الكفاية من إعادته. (1)
* * *
وقد اختلف أهل العلم في المعنية بهذه الآية من المطلقات.
فقال بعضهم : عني بها الثيِّبات اللواتي قد جومعن. قالوا : وإنما قلنا ذلك ، لأن [الحقوق اللازمة للمطلقات] غير المدخول بهن في المتعة ، (2) قد بينها الله
__________
(1) انظر معنى " المتاع " فيما سلف 1 : 539 ، 540 /ثم 3 : 53 - 55 /ثم الموضع الذي عناه الطبري هنا : 120 - 135 .
(2) في المخطوطة : " لأن غير المدخول بهن " ، وبينهما بياض ، فجاءت المطبوعة وصلت الكلام : " لأن غير المدخول بهن " فاختلت الجملة ، واستظهرت ما زدته بين القوسين من معنى الآيات .

(5/262)


تعالى ذكره في الآيات قبلها ، فعلمنا بذلك أن في هذه الآية بيان أمر المدخول بهن في ذلك.
* ذكر من قال ذلك :
5590 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى بن ميمون ، عن ابن أبي نجيح ، عن عطاء في قوله : " وللمطلقات متاع بالمعروف حقا على المتقين " ، قال : المرأة الثيب يمتعها زوجها إذا جامعها بالمعروف.
5591 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد مثله وزاد فيه : ذكره شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن عطاء.
* * *
وقال آخرون : بل في هذه الآية دلالة على أن لكل مطلقة متعة ، وإنما أنزلها الله تعالى ذكره على نبيه صلى الله عليه وسلم ، لما فيها من زيادة المعنى الذي فيها على ما سواها من آي المتعة ، إذ كان ما سواها من آي المتعة إنما فيه بيان حكم غير الممسوسة إذا طلقت ، وفي هذه بيان حكم جميع المطلقات في المتعة.
* ذكر من قال ذلك :
5592 - حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا عبد الوهاب قال ، حدثنا أيوب ، عن سعيد بن جبير في هذه الآية : " وللمطلقات متاع بالمعروف حقا على المتقين " ، قال : لكل مطلقة متاع بالمعروف حقا على المتقين.
5593 - حدثنا المثنى قال ، حدثنا حبان بن موسى قال ، أخبرنا ابن المبارك قال ، أخبرنا يونس ، عن الزهري - في الأمة يطلقها زوجها وهي حبلى - قال : تعتد في بيتها. وقال : لم أسمع في متعة المملوكة شيئا أذكره ، (1) وقد قال الله تعالى ذكره : " متاع بالمعروف حقا على المتقين " ، ولها المتعة حتى تضع.
__________
(1) في المطبوعة : " وقال : لم أسمع . . . " ، وأثبت ما في المخطوطة .

(5/263)


5594 - حدثني المثنى قال ، حدثنا حبان بن موسى (1) قال ، أخبرنا ابن المبارك قال ، أخبرنا ابن جريج ، عن عطاء قال : قلت له : أللأمة من الحر متعة ؟ قال : لا. قلت : فالحرة عند العبد ؟ قال : لا وقال عمرو بن دينار : نعم ، " وللمطلقات متاع بالمعروف حقا على المتقين " .
* * *
وقال آخرون : إنما نزلت هذه الآية ، لأن الله تعالى ذكره لما أنزل قوله : ( وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ )[سورة البقرة : 236] ، قال رجل من المسلمين : فإنا لا نفعل إن لم نرد أن نحسن. فأنزل الله : " وللمطلقات متاع بالمعروف حقا على المتقين " ، فوجب ذلك عليهم.
* ذكر من قال ذلك :
5595 - حدثني يونس بن عبد الأعلى قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد في قوله : " ومتعوهن على الموسع قدره وعلى المقتر قدره متاعا بالمعروف حقا على المحسنين " ، فقال رجل : فإن أحسنت فعلت ، وإن لم أرد ذلك لم أفعل! فأنزل الله : " وللمطلقات متاع بالمعروف حقا على المتقين " .
* * *
قال أبو جعفر : والصواب من القول في ذلك ما قاله سعيد بن جبير ، من أن الله تعالى ذكره أنزلها دليلا لعباده على أن لكل مطلقة متعة. لأن الله تعالى ذكره ذكر في سائر آي القرآن التي فيها ذكر متعة النساء ، خصوصا من النساء ، فبين في الآية التي قال فيها : ( لا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً )[سورة البقرة : 236] ، وفي قوله : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
__________
(1) في المخطوطة والمطبوعة : " هناد بن موسى " ، وليس في الرواة أحد بهذا الاسم . والصواب ما أثبت/ انظر الأثر قبله رقم : 5593 ، وفي مواضع كثيرة قبل ذلك بمثل هذا الإسناد .

(5/264)


كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آَيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (242)

إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ )[سورة الأحزاب : 49] ، ما لهن من المتعة إذا طلقن قبل المسيس ، وبقوله : ( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ )[سورة الأحزاب : 28] ، حكم المدخول بهن ، وبقي حكم الصبايا إذا طلقن بعد الابتناء بهن ، وحكم الكوافر والإماء. فعم الله تعالى ذكره بقوله : " وللمطلقات متاع بالمعروف " ذكر جميعهن ، وأخبر بأن لهن المتاع ، كما خص المطلقات الموصوفات بصفاتهن في سائر آي القرآن ، (1) ولذلك كرر ذكر جميعهن في هذه الآية.
* * *
وأما قوله : ( حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ ) ، فإنا قد بينا معنى قوله : " حقا " ، ووجه نصبه ، والاختلاف من أهل العربية في قوله : ( حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ )[سورة البقرة : 236] ، ففي ذلك مستغنى عن إعادته في هذا الموضع. (2)
* * *
فأما " المتقون " : فهم الذين اتقوا الله في أمره ونهيه وحدوده ، فقاموا بها على ما كلفهم القيام بها خشية منهم له ، ووجلا منهم من عقابه.
وقد تقدم بيان تأويل ذلك نصا بالرواية. (3)
* * *
القول في تأويل قوله : { كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (242) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره ، كما بينت لكم ما يلزمكم لأزواجكم ويلزم أزواجكم لكم ، أيها المؤمنون ، وعرفتكم أحكامي والحق الواجب لبعضكم على بعض
__________
(1) في المطبوعة : " كما أبان المطلقات . . . " ، وفي المخطوطة : " كما المطلقات " وما بين الكلامين بياض ، واستظهرت من قوله : " نعم الله تعالى . . . " ، أن اللفظ الناقص في البياض هو " خص " ، أو معنى يشبهه ويقاربه .
(2) انظر ما سلف في هذا الجزء : 137 ، 138 .
(3) انظر فهارس اللغة فيما سلف مادة " وقى " .

(5/265)


أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ (243)

في هذه الآيات ، فكذلك أبين لكم سائر الأحكام في آياتي التي أنزلتها على نبيي محمد صلى الله عليه وسلم في هذا الكتاب ، لتعقلوا - أيها المؤمنون بي وبرسولي - حدودي ، فتفهموا اللازم لكم من فرائضي ، وتعرفوا بذلك ما فيه صلاح دينكم ودنياكم ، وعاجلكم وآجلكم ، فتعلموا به ليصلح ذات بينكم ، وتنالوا به الجزيل من ثوابي في معادكم.
* * *
القول في تأويل قوله : { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ }
قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره : " ألم تر " ، ألم تعلم ، يا محمد ؟ وهو من " رؤية القلب " لا رؤية العين " ، (1) لأن نبينا محمدا صلى الله عليه وسلم لم يدرك الذين أخبر الله عنهم هذا الخبر ، و " رؤية القلب " : ما رآه ، وعلمه به. (2) فمعنى ذلك : ألم تعلم يا محمد ، الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف ؟
* * *
ثم اختلف أهل التأويل في تأويل قوله : " وهم ألوف " .
فقال بعضهم : في العدد ، بمعنى جماع " ألف " .
* ذكر من قال ذلك :
5596 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي وحدثنا عمرو بن علي قال ، حدثنا وكيع قال ، حدثنا سفيان ، عن ميسرة النهدي ، عن المنهال بن عمرو ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس في قوله : " ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم
__________
(1) انظر ما سلف في معنى " الرؤية " 3 : 75 - 79 .
(2) في المطبوعة : " وعلمه به " بزيادة الواو ، وهي فاسدة ، والصواب من المخطوطة .

(5/266)


وهم ألوف حذر الموت " ، كانوا أربعة آلاف ، خرجوا فرارا من الطاعون ، قالوا : " نأتي أرضا ليس فيها موت " ! حتى إذا كانوا بموضع كذا وكذا ، قال لهم الله : " موتوا " . فمر عليهم نبي من الأنبياء ، فدعا ربه أن يحييهم ، فأحياهم ، فتلا هذه الآية : " إن الله لذو فضل على الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون " . (1)
5597 - حدثنا أحمد بن إسحاق قال ، حدثنا أبو أحمد قال ، حدثنا سفيان ، عن ميسرة النهدي ، عن المنهال ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : " ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت " ، قال : كانوا أربعة آلاف خرجوا فرارا من الطاعون ، فأماتهم الله ، فمر عليهم نبي من الأنبياء ، فدعا ربه أن يحييهم حتى يعبدوه ، فأحياهم.
5598 - حدثنا محمد بن سهل بن عسكر قال ، أخبرنا إسماعيل بن عبد الكريم قال ، حدثني عبد الصمد : أنه سمع وهب بن منبه يقول : أصاب ناسا من بني إسرائيل بلاء وشدة من الزمان ، فشكوا ما أصابهم وقالوا : " يا ليتنا قد متنا فاسترحنا مما نحن فيه " ! فأوحى الله إلى حزقيل : إن قومك صاحوا من البلاء ، وزعموا أنهم ودوا لو ماتوا فاستراحوا ، وأي راحة لهم في الموت ؟ أيظنون أني لا أقدر أن أبعثهم بعد الموت ؟ فانطلق إلى جبانة كذا وكذا ، فإن فيها أربعة آلاف قال وهب : وهم الذين قال الله : " ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت " فقم فيهم فنادهم ، وكانت عظامهم قد تفرقت ، فرقتها الطير والسباع. فناداهم حزقيل فقال : (2) " يا أيتها العظام إن الله يأمرك أن تجتمعي " ! فاجتمع عظام كل
__________
(1) الأثران : 5596 ، 5597 - أخرجه الحاكم في المستدرك 2 : 281 ، وقال : " هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه " ، وقال الذهبي " ميسرة ، لم يرويا له وروى له البخاري في الأدب المفرد . وانظر ابن كثير 1 : 590 ، والدر المنثور 1 : 310 . و " ميسرة " ، هو : " ميسرة بن حبيب النهدي " ، مترجم في التهذيب .
(2) في المخطوطة : " فناداه " ، وعلى الهاء من فوق حرف " ط " ، وفي الدر المنثور 1 : 311 " فنادى حزقيل " ، وفي المطبوعة : " فناداهم " ، وأثبت ما في تاريخ الطبري 1 : 237 .

(5/267)


إنسان منهم معا. (1) ثم نادى ثانية حزقيل فقال : " أيتها العظام ، إن الله يأمرك أن تكتسي اللحم " ، فاكتست اللحم ، وبعد اللحم جلدا ، فكانت أجسادا. ثم نادى حزقيل الثالثة فقال : " أيتها الأرواح ، إن الله يأمرك أن تعودي في أجسادك " ! (2) فقاموا بإذن الله ، وكبروا تكبيرة واحدة. (3)
5599 - حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : " ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف " ، يقول : عدد كثير خرجوا فرارا من الجهاد في سبيل الله ، فأماتهم الله ، ثم أحياهم وأمرهم أن يجاهدوا عدوهم ، فذلك قوله : ( وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ).
5600 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا حكام ، عن عنبسة ، عن أشعث بن أسلم البصري قال : بينما عمر يصلي ويهوديان خلفه وكان عمر إذا أراد أن يركع خوى (4) فقال أحدهم لصاحبه ، (5) أهو هو ؟ فلما انفتل عمر قال : (6)
__________
(1) بعد هذا في الدر المنثور 1 : 311 : [ثم قال : " أيتها العظام ، إن الله يأمرك أن ينبت العصب والعقب " فتلازمت واشتدت بالعصب والعقب] . وفي تاريخ الطبري : " يا أيتها العظام النخرة "
(2) في المطبوعة : " إلى أجسادك " ، وأثبت ما في المخطوطة ، وتاريخ الطبري ، والدر المنثور .
(3) الأثر : 5598 : " محمد بن سهل بن عسكر " التميمي ، أبو بكر النجاري الحافظ الجوال قال النسائي وابن عدي : " ثقة " سكن بغداد ومات بها سنة 251 ، مترجم في التهذيب و " إسماعيل بن عبد الكريم بن معقل بن منبه الصنعاني " ، روى عن ابن عمه إبراهيم بن عقيل ، وعمه عبد الصمد بن معقل ، وروى عنه أحمد بن حنبل ، قال النسائي : ليس به بأس ، وذكره ابن حبان في الثقات . توفي باليمن سنة 210 . مترجم في التهذيب . والأثر رواه الطبري بهذا الإسناد في التاريخ 1 : 237 ، والدر المنثور 1 : 311 .
(4) خوى الرجل في سجوده : تجافى وفرج ما بين عضديه وجنبيه وفي الحديث : أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا سجد خوى .
(5) في المطبوعة : " فقال أحدهم " ، والصواب من المخطوطة وتاريخ الطبري .
(6) انفتل فلان من صلاته : انصرف بعد قضائها ، ومثله : " فتل وجهه عن القوم " ، صرفه ولواه عنهم .

(5/268)


أرأيت قول أحدكما لصاحبه : أهو هو ؟ (1) فقالا إنا نجده في كتابنا : (2) " قرنا من حديد ، يعطى ما يعطى حزقيل الذي " أحيى الموتى بإذن الله " . فقال عمر : ما نجد في كتاب الله " حزقيل " ولا " أحيى الموتى بإذن الله " ، إلا عيسى. فقالا أما تجد في كتاب الله( وَرُسُلا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ ) ، (3) [سورة النساء : 164] ، فقال عمر : بلى! قالا وأما إحياء الموتى فسنحدثك : إن بني إسرائيل وقع عليهم الوباء ، فخرج منهم قوم حتى إذا كانوا على رأس ميل أماتهم الله ، فبنوا عليهم حائطا ، حتى إذا بليت عظامهم بعث الله حزقيل فقام عليهم فقال شاء الله ، (4) فبعثهم الله له ، فأنزل الله في ذلك : " ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف " ، الآية. (5)
5601 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا حكام ، عن عنبسة ، عن الحجاج بن أرطأة قال : كانوا أربعة آلاف.
__________
(1) في المخطوطة والمطبوعة : " رأيت " بغير همزة استفهام ، والصواب من الطبري ، والدر المنثور . وقول العرب " أرأيت كذا " ، يريدون به معنى الاستخبار ، بمعنى أخبرني عن كذا .
(2) في المطبوعة وتاريخ الطبري : " إنا نجد في كتابنا " ، وفي المخطوطة والد المنثور : " نجده " وهو الذي أثبت . وفي تاريخ الطبري بعد " يعطي ما أعطى حزقيل " . والقرن (بفتح فسكون) : الحصن ، والقرن أيضًا : الجبيل المنفرد . وقرن الجبل : أعلاه .
(3) في المطبوعة : " رسلا لم يقصصهم " بحذف الواو ، وبالياء من " يقصصهم " ، وفي المخطوطة كذلك إلا أن " الياء " غير منقوطة ، وأثبت نص الآية ، على ما جاءت في تاريخ الطبري .
(4) في المطبوعة : " فقام عليهم ما شاء الله " ، والصواب من المراجع والمخطوطة .
(5) الأثر : 5600 - رواه الطبري في تاريخه 1 : 238 ، وأخرجه السيوطي في الدر المنثور 1 : 311 . وفي المطبوعة والمخطوطة والدر : " أشعث بن أسلم البصري " ، وفي التاريخ " أشعث عن سالم النصري " ، و " أشعث بن أسلم العجلي البصري ثم الربعي " ، روى عن أبيه أنه رأى أبا موسى الأشعري ، روى عنه سعيد بن أبي عروبة . مترجم في ابن أبي حاتم 1 /1 /269 . وأما " سالم النصري " ، فهو : سالم بن عبد الله النصري ، هو " سالم سبلان " ، مترجم في التهذيب وابن أبي حاتم 2 /1 /184 ، روى عن عمان وعائشة وأبي سعيد ، وأبي هريرة . روى عنه سعيد المقبري ، وبكير بن عبد الله وغيرهما . وأنا أظن أن الذي في التاريخ أقرب إلى الصواب .

(5/269)


5602 - حدثني موسى بن هارون قال ، حدثنا عمرو قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : " ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف " ، إلى قوله : " ثم أحياهم " ، قال : كانت قرية يقال لها داوردان قبل واسط ، (1) وقع بها الطاعون ، فهرب عامة أهلها فنزلوا ناحية منها ، فهلك من بقي في القرية وسلم الآخرون ، فلم يمت منهم كبير. (2) فلما ارتفع الطاعون رجعوا سالمين ، فقال الذين بقوا : أصحابنا هؤلاء كانوا أحزم منا ، لو صنعنا كما صنعوا بقينا! ولئن وقع الطاعون ثانية لنخرجن معهم! فوقع في قابل فهربوا ، وهم بضعة وثلاثون ألفا ، حتى نزلوا ذلك المكان ، وهو واد أفيح ، (3) فناداهم ملك من أسفل الوادي وآخر من أعلاه : أن موتوا ! فماتوا ، حتى إذا هلكوا وبليت أجسادهم ، مر بهم نبي يقال له حزقيل ، فلما رآهم وقف عليهم فجعل يتفكر فيهم ويلوى شدقه وأصابعه ، (4) فأوحى الله إليه : يا حزقيل ، أتريد أن أريك فيهم كيف أحييهم ؟ قال : وإنما كان تفكره أنه تعجب من قدرة الله عليهم فقال : نعم! فقيل له : ناد! فنادى : " يا أيتها العظام ، إن الله يأمرك أن تجتمعي! " ، فجعلت تطير العظام بعضها إلى بعض ، حتى كانت أجسادا من عظام ، ثم أوحى الله إليه أن ناد : " يا أيتها العظام ، إن الله يأمرك أن تكتسي لحما " ، فاكتست لحما ودما ، وثيابها التي ماتت فيها وهي عليها. ثم قيل له : ناد ! فنادى : " يا أيتها الأجساد إن الله يأمرك أن تقومي " ، فقاموا.
5603 - حدثني موسى قال ، حدثنا عمرو قال ، حدثنا أسباط ، قال : فزعم منصور بن المعتمر ، عن مجاهد : أنهم قالوا حين أحيوا : " سبحانك ربنا وبحمدك
__________
(1) في المخطوطة : " دار وردان " بزيادة راء ، والصواب ما في تاريخ الطبري ، والدر المنثور ، ومعجم البلدان ، وهي من نواحي شرقي واسط ، بينهما فرسخ .
(2) في التاريخ : " فلم يمت منهم كثير " .
(3) الأفيح والفياح : الواسع المنتشر النواحي ، ويقال : روضة فيحاء ، من ذلك .
(4) في المطبوعة : " يلوي شدقيه " ، وأثبت ما في المخطوطة وتاريخ الطبري . ولوى شدقه : أماله متعجبا مما يرى ويشهد .

(5/270)


لا إله إلا أنت " ، فرجعوا إلى قومهم أحياء يعرفون أنهم كانوا موتى ، سحنة الموت على وجوههم ، (1) لا يلبسون ثوبا إلا عاد دسما مثل الكفن ، (2) حتى ماتوا لآجالهم التي كتبت لهم. (3)
5604 - حدثنا أحمد بن إسحاق قال ، حدثنا أبو أحمد قال ، حدثنا عبد الرحمن بن عوسجة ، عن عطاء الخراساني : " ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف " ، قال : كانوا ثلاثة آلاف أو أكثر.
5605 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج قال ، قال ابن عباس : كانوا أربعين ألفا وثمانية آلاف ، (4) حظر عليهم حظائر ، وقد أروحت أجسادهم وأنتنوا ، (5) فإنها لتوجد اليوم في ذلك السبط من اليهود تلك الريح ، وهم ألوف فرارا من الجهاد في سبيل الله ، فأماتهم الله ثم أحياهم ، فأمرهم بالجهاد ، فذلك قوله : " وقاتلوا في سبيل الله " الآية.
5606 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة قال ، حدثنا محمد بن إسحاق ،
__________
(1) السحنة (بفتح فسكون) : الهيئة واللون والحال ، وبشرة الوجه والمنظر .
(2) في المخطوطة والمطبوعة : " إلا عاد كفنا دسما " ، وضبط في التاريخ بضم الدال وسكون السين ، وهو خطأ ، فإن هذا جمع أدسم ودسما ، وليس هذا مقام جمع . وقوله : " كفنا دسما مثل الكفن " ليس بلبسان عربي ، فحذفتها وأثبت ما في التاريخ ، وأما الرواية الأخرى في الدر المنثور فهي : " إلا عاد كفنا دسما " ، بحذف " مثل الكفن " ، فهذه أو تلك هي الصواب .
والدسم : ودك اللحم والشحم . وفلان : دسم الثوب وأدسم الثوب ، إذا كان ثوبه متلطخا وسخا قد علق به وضر اللحم والشحم . وأكفان الموتى دسم ، لما يسيل من أجسادهم بعد تهرئهم وتعفن أبدانهم .
(3) الأثران : 5602 ، 5603 - في تاريخ الطبري 1 : 237 ، 238 ، والدر المنثور 1 : 310 بغير هذا اللفظ .
(4) في المخطوطة والمطبوعة " أو ثمانية آلاف " ، وهو لا يستقيم ، والصواب في الدر المنثور 1 : 311 .
(5) الحظائر جمع حظيرة : ما أحاط بالشيء ، تكون من قصب وخشب ، ليقي البرد والريح والعادية . وحظ حظيرة : اتخذها . والحظر : الحبس والمنع . أروح الماء واللحم وغيرهما وأراح : تغيرت رائحته وأنتن .

(5/271)


عن وهب بن منبه أن كالب بن يوقنا لما قبضه الله بعد يوشع ، (1) خلف فيهم - يعني في بني إسرائيل - حزقيل بن بوزي (2) وهو ابن العجوز ، وإنما سمي " ابن العجوز " أنها سألت الله الولد وقد كبرت وعقمت ، فوهبه الله لها ، فلذلك قيل له " ابن العجوز " وهو الذي دعا للقوم الذين ذكر الله في الكتاب لمحمد صلى الله عليه وسلم كما بلغنا : " ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت فقال لهم الله موتوا ثم أحياهم إن الله لذو فضل على الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون " . (3) .
5607 - حدثني ابن حميد قال ، حدثنا سلمة قال ، حدثني محمد بن إسحاق قال : بلغني أنه كان من حديثهم أنهم خرجوا فرارا من بعض الأوباء من الطاعون ، أو من سقم كان يصيب الناس حذرا من الموت ، وهم ألوف ، حتى إذا نزلوا بصعيد من البلاد قال لهم الله : " موتوا " ، فماتوا جميعا. فعمد أهل تلك البلاد فحظروا عليهم حظيرة دون السباع ، ثم تركوهم فيها ، وذلك أنهم كثروا عن أن يغيبوا. فمرت بهم الأزمان والدهور ، حتى صاروا عظاما نخرة ، فمر بهم حزقيل بن بوزى ، (4) فوقف عليهم ، فتعجب لأمرهم ودخلته رحمة لهم ، (5) فقيل له : أتحب أن يحييهم الله ؟ فقال : نعم! فقيل له : نادهم فقل : (6) " أيتها العظام الرميم التي قد رمت وبليت ، ليرجع كل عظم إلى صاحبه " . فناداهم بذلك ، فنظر إلى العظام تواثب يأخذ بعضها بعضا. ثم قيل له : قل : " أيها اللحم والعصب والجلد ، اكس العظام بإذن ربك " ، قال : فنظر إليها والعصب يأخذ العظام ثم اللحم والجلد والأشعار ، حتى استووا خلقا ليست فيهم الأرواح. ثم دعا لهم بالحياة ، فتغشاه من السماء شيء
__________
(1) في التاريخ : " يوفنا " بالفاء .
(2) في التاريخ : " بوذي " بالذال .
(3) الأثر : 5606 - في تاريخ الطبري 1 : 237 ، ثم 238 مختصرا ، والدر المنثور : 1 : 311 .
(4) في التاريخ : " بوذى " بالذال .
(5) في المخطوطة والمطبوعة : " ودخله رحمة . . . " ، وأثبت ما في تاريخ الطبري .
(6) في المخطوطة والمطبوعة : " نادهم فقال . . . " ، والصواب من التاريخ .

(5/272)


كربه حتى غشي عليه منه ، (1) ثم أفاق والقوم جلوس يقولون : " سبحان الله ، سبحان الله " قد أحياهم الله. (2)
* * *
وقال آخرون : معنى قوله " وهم ألوف " وهم مؤتلفون. (3)
* ذكر من قال ذلك :
5608 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب ، قال ابن زيد في قول الله : " ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت فقال لهم الله موتوا ثم أحياهم " ، قال : قرية كانت نزل بها الطاعون ، فخرجت طائفة منهم وأقامت طائفة ، فألح الطاعون بالطائفة التي أقامت ، والتي خرجت لم يصبهم شيء. (4) ثم ارتفع ، ثم نزل العام القابل ، فخرجت طائفة أكثر من التي خرجت أولا فاستحر الطاعون بالطائفة التي أقامت. فلما كان العام الثالث ، نزل فخرجوا بأجمعهم وتركوا ديارهم ، فقال الله تعالى ذكره : " ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف " ، ليست الفرقة أخرجتهم ، كما يخرج للحرب والقتال ، قلوبهم مؤتلفة ، إنما خرجوا فرارا. فلما كانوا حيث ذهبوا يبتغون الحياة ، قال لهم الله : " موتوا " ، في المكان الذي ذهبوا إليه يبتغون فيه الحياة. فماتوا ، ثم أحياهم الله ، " إن الله لذو فضل على الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون " . قال : ومر بها رجل وهي عظام تلوح ، (5) فوقف
__________
(1) في المخطوطة : " فتغساه من السماء كربه " غير منقوطة . وفي المطبوعة : " فتغشاهم من السماء كدية " ، وهذا كلام بلا معنى ، وما أثبته هو نص الطبري في التاريخ . وكربه الأمر : غشيه واشتد عليه وأخذ بنفسه ، فهو مكروب النفس .
(2) الأثر : 5607 - في تاريخ الطبري 1 : 238 .
(3) يعني أنه جمع " إلف " (بكسر الهمزة وسكون اللام) . وقال ابن سيده في " ألوف " : " وعندي أنه جمع آلف ، كشاهد وشهود " ، وانظر سائر كتب التفسير .
(4) في المطبوعة : " لم يصبها " ، وأثبت ما في المخطوطة .
(5) لاح البرق والسيف والعظم يلوح : تلألأ ولمح ، وذلك لبياض العظام في ضوء الشمس .

(5/273)


ينظر فقال : " أنى يحيي هذه الله بعد موتها ؟ " ، فأماته الله مائة عام. (1)
* * *
* ذكر الأخبار عمن قال : كان خروج هؤلاء القوم من ديارهم فرارا من الطاعون.
5609 - حدثنا عمرو بن علي قال ، حدثنا ابن أبي عدي ، عن الأشعث ، عن الحسن في قوله : " ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت " ، قال. خرجوا فرارا من الطاعون ، فأماتهم قبل آجالهم ، ثم أحياهم إلى آجالهم.
5610 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر ، عن الحسن في قوله : 34 " ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت " ، قال : فروا من الطاعون ، فقال لهم الله : " موتوا " ! ثم أحياهم ليكملوا بقية آجالهم.
5611 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن عمرو بن دينار في قول الله تعالى ذكره : " ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت " ، قال : وقع الطاعون في قريتهم ، فخرج أناس وبقي أناس ، فهلك الذين بقوا في القرية ، وبقي الآخرون. ثم وقع الطاعون في قريتهم الثانية ، فخرج أناس وبقي أناس ، ومن خرج أكثر ممن بقي. فنجى الله الذين خرجوا ، وهلك الذين بقوا. فلما كانت الثالثة خرجوا بأجمعهم إلا قليلا فأماتهم الله ودوابهم ، ثم أحياهم فرجعوا إلى بلادهم [وقد أنكروا قريتهم ، ومن تركوا]. وكثروا بها ، حتى يقول بعضهم لبعض : من أنتم ؟ (2)
__________
(1) الأثر : 5608 - أخرجه السيوطي في الدر المنثور 1 : 311 مختصرا . وسيأتي مختصرا برقم : 5905 .
(2) في المخطوطة : " فرجعوا إلى بلادهم ، وقد قريتهم ومن تركوا ، وكثروا بها ، يقول بعضهم لبعض " ، بياض بين الكلام ، أما المطبوعة فقد أسقطت هذا البياض ، فجعلت الكلام : " فرجعوا إلى بلادهم وكروا بها ، حتى يقول بعضهم لبعض " ، بزيادة " حتى " ، فآثرت أن استظهر معنى الكلام ، فأثبت ما في المخطوطة ، وظننت أن مكان البياض ما أثبت . هذا ولم أجد هذا الأثر في مكان آخر .

(5/274)


5612 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح قال : سمعت عمرو بن دينار يقول : وقع الطاعون في قريتهم ثم ذكر نحو حديث محمد بن عمرو ، عن أبي عاصم.
5613 - حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا سويد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة : " ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف " الآية ، مقتهم الله على فرارهم من الموت ، فأماتهم الله عقوبة ، ثم بعثهم إلى بقية آجالهم ليستوفوها ، ولو كانت آجال القوم جاءت ما بعثوا بعد موتهم.
5614 - حدثت عن عمار بن الحسن قال ، حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن حصين ، عن هلال بن يساف في قوله تعالى : " ألم تر إلى الذين خرجوا " الآية ، قال : هؤلاء القوم من بني إسرائيل ، (1) كان إذا وقع فيهم الطاعون خرج أغنياؤهم وأشرافهم ، وأقام فقراؤهم وسفلتهم. قال : فاستحر الموت على المقيمين منهم ، ونجا من خرج منهم. فقال الذين خرجوا : لو أقمنا كما أقام هؤلاء ، لهلكنا كما هلكوا ! وقال المقيمون : لو ظعنا كما ظعن هؤلاء ، لنجونا كما نجوا ! فظعنوا جميعا في عام واحد ، أغنياؤهم وأشرافهم وفقراؤهم وسفلتهم. فأرسل عليهم الموت فصاروا عظاما تبرق. قال : فجاءهم أهل القرى فجمعوهم في مكان واحد ، فمر بهم نبي فقال : يا رب لو شئت أحييت هؤلاء فعمروا بلادك وعبدوك! قال : أو أحب إليك أن أفعل ؟ قال نعم! قال : فقل : كذا وكذا ، فتكلم به ، فنظر إلى العظام ، وإن العظم ليخرج من عند العظم الذي ليس منه إلى العظم الذي هو منه. ثم تكلم بما أمر ، فإذا العظام تكسى لحما. ثم أمر بأمر فتكلم به ، فإذا هم قعود يسبحون ويكبرون. ثم قيل لهم : ( وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ )
__________
(1) في المطبوعة : " كان هؤلاء القوم من بني إسرائيل ، إذا وقع فيهم الطاعون " وفي المخطوطة : " كان هؤلاء قوما من بني إسرائيل ، كان إذا وقع . . . " ، وضرب الناسخ على ألف " قوما " ، وجعلها " قوم " ، فتبين لي أن " كان " زائدة من الناسخ ، كما جاءت على الصواب في الدر المنثور 1 : 311 .

(5/275)


5615 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، أخبرني سعيد بن أبي أيوب ، عن حماد بن عثمان ، عن الحسن : أنه قال في الذين أماتهم الله ثم أحياهم قال : هم قوم فروا من الطاعون ، فأماتهم الله عقوبة ومقتا ، ثم أحياهم لآجالهم. (1)
* * *
قال أبو جعفر : وأولى القولين في تأويل قوله : " وهم ألوف " بالصواب ، قول من قال : " عنى بالألوف كثرة العدد " دون قول من قال : " عنى به الائتلاف " ، بمعنى ائتلاف قلوبهم ، وأنهم خرجوا من ديارهم من غير افتراق كان منهم ولا تباغض ، ولكن فرارا : إما من الجهاد ، وإما من الطاعون لإجماع الحجة على أن ذلك تأويل الآية ، ولا يعارض بالقول الشاذ ما استفاض به القول من الصحابة والتابعين.
* * *
وأولى الأقوال - في مبلغ عدد القوم الذين وصف الله خروجهم من ديارهم - بالصواب ، قول من حد عددهم بزيادة عن عشرة آلاف ، دون من حده بأربعة آلاف ، وثلاثة آلاف ، وثمانية آلاف. وذلك أن الله تعالى ذكره أخبر عنهم أنهم كانوا ألوفا ، وما دون العشرة آلاف لا يقال لهم : " ألوف " . وإنما يقال " هم آلاف " ، إذا كانوا ثلاثة آلاف فصاعدا إلى العشرة آلاف. وغير جائز أن يقال : هم خمسة ألوف ، أو عشرة ألوف.
وإنما جمع قليله على " أفعال " ، (2) ولم يجمع على " أفعل " مثل سائر الجمع القليل الذي يكون ثاني مفرده ساكنا (3) للألف التي في أوله. وشأن العرب في كل
__________
(1) الأثر : 5615 - " حماد بن عثمان " ، وروى عن عبد العزيز الأعمى عن أنس . روى عنه سعيد بن أبي أيوب ، وروى عن الحسن البصري قال ابن أبي حاتم : " سألت أبي عن حماد بن عثمان فقال : هو مجهول " . ترجم له البخاري في الكبير 2 /1 /20 ، وابن أبي حاتم 1 /2 /144 .
(2) في المخطوطة : " وإنما جمع قليله وكثيره على أفعال " ، وزيادة " كثيره " خطأ ، والصواب ما في المطبوعة .
(3) في المخطوطة : " وعلى سائر مثل الجمع القليل " ، والصواب ما في المطبوعة .

(5/276)


حرف كان أوله ، ياء أو واوا أو ألفا ، اختيار جمع قليله على أفعال ، كما جمعوا " الوقت " " أوقاتا " و " اليوم " " أياما " ، و " اليسر " و " أيسارا " ، للواو والياء اللتين في أول ذلك. وقد يجمع ذلك أحيانا على " أفعل " ، إلا أن الفصيح من كلامهم ما ذكرنا ، ومنه قول الشاعر : (1)
كانوا ثلاثة آلف وكتيبة... ألفين أعجم من بني الفدام (2)
* * *
وأما قوله : " حذر الموت " ، فإنه يعني : أنهم خرجوا من حذر الموت ، فرارا منه. (3) كما : -
5616 - حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ،
__________
(1) هو بكير ، أصم بني الحارث بن عباد .
(2) النقائض : 645 ، وتاريخ الطبري 2 : 155 ، والأغاني 20 : 139 ، واللسان (ألف) وغيرها . وهذا البيت من أبيات له في يوم ذي قار ، وهو اليوم الذي انتصفت فيه العرب من العجم ، وهزمت كسرى أبرويز بن هرمز . وكانت وقعة ذي قار بعد يوم بدر بأشهر ، فلما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم خبرها قال : " هذا يوم انتصفت فيه العرب من العجم ، وبي نصروا " . وكانت بنو شيبان في هذا اليوم أهل جد وحد ، فمدحهم الأعشى وبكير الأصم .
هذا وقد روى الطبري هنا " كانوا ثلاثة آلف " ، ورواية المراجع جميعا :
" عربا ثلاثة آلف . . . "
وذلك أن كسرى عقد للنعمان بن زرعة على تغلب والنمر ، وعقد لخالد بن يزيد البهراني على قضاعة وإياد ، وعقد لإياس بن قبيصة على جميع العرب ، ومعه كتيبتاه : الشهباء والدوسر ، فكانت العرب ثلاثة آلف . وعقد أيضًا للهامرز التستري على ألف من الأساورة ، وعقد الخنابزين على ألف ، فكانت العجم ألفين . (الأغاني 20/134) ، فهذا تصحيح الرواية المجمع عليها وبيانها ، وأول هذه الأبيات : إن كنت ساقية المدامة أهلها ... فاسقي على كرم بني همام
وأبا ربيعة كلها ومحلما ... سبقا بغاية أمجد الأيام
ضربوا بني الأحرار يوم لقوهم ... بالمشرفي على مقيل الهام
عربا ثلاثة آلف . . . ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وعنى بقوله : " بني الفدام " ، الفرس . وذلك أن المجوس كان مما يتدينون به أنهم إذا شرابا ، شدوا على أفواههم خرقة كاللثام ، فسميت هذه الطائفة منهم : بنو الفدام .
(3) انظر ما سلف 1 : 354 ، 355 في تفسير : " حذر الموت " وإعرابها .

(5/277)


حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : " حذر الموت " ، فرارا من عدوهم ، حتى ذاقوا الموت الذي فروا منه. فأمرهم فرجعوا ، وأمرهم أن يقاتلوا في سبيل الله ، وهم الذين قالوا لنبيهم : ( ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ )[سورة البقرة : 246]
* * *
قال أبو جعفر : وإنما حث الله تعالى ذكره عباده بهذه الآية ، على المواظبة على الجهاد في سبيله ، (1) والصبر على قتال أعداء دينه. وشجعهم بإعلامه إياهم وتذكيره لهم ، أن الإماتة والإحياء بيديه وإليه ، دون خلقه وأن الفرار من القتال والهرب من الجهاد ولقاء الأعداء ، إلى التحصن في الحصون ، والاختباء في المنازل والدور ، غير منج أحدا من قضائه إذا حل بساحته ، ولا دافع عنه أسباب منيته إذا نزل بعقوته ، (2) كما لم ينفع الهاربين من الطاعون الذين وصف الله تعالى ذكره صفتهم في قوله : " ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت " فرارهم من أوطانهم ، وانتقالهم من منازلهم إلى الموضع الذي أملوا بالمصير إليه السلامة ، وبالموئل النجاة من المنية ، حتى أتاهم أمر الله ، فتركهم جميعا خمودا صرعى ، وفي الأرض هلكى ، ونجا مما حل بهم الذين باشروا كرب الوباء ، وخالطوا بأنفسهم عظيم البلاء.
* * *
القول في تأويل قوله : { إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ (243) }
قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بذلك : إن الله لذو فضل ومن. على خلقه ، بتبصيره إياهم سبيل الهدى ، وتحذيره لهم طرق الردى ، وغير ذلك من نعمه التي
__________
(1) في المطبوعة : " في سبيل الله " وأثبت ما في المخطوطة .
(2) في المخطوطة والمطبوعة : " بعقوبته " ، وهي في المخطوطة غير منقوطة . وعقوة الدار : ساحتها وما حولها قريبا منها . يقال : نزل بعقوته ، ونزلت الخيل بعقوة العدو .

(5/278)


ينعمها عليهم في دنياهم ودينهم ، وأنفسهم وأموالهم - كما أحيى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت بعد إماتته إياهم ، وجعلهم لخلقه مثلا وعظة يتعظون بهم ، عبرة يعتبرون بهم ، وليعلموا أن الأمور كلها بيده ، فيستسلموا لقضائه ، ويصرفوا الرغبة كلها والرهبة إليه. (1)
ثم أخبر تعالى ذكره أن أكثر من ينعم عليه من عباده بنعمه الجليلة ، ويمن عليه بمننه الجسيمة ، يكفر به ويصرف الرغبة والرهبة إلى غيره ، ويتخذ إلها من دونه ، كفرانا منه لنعمه التي توجب أصغرها عليه من الشكر ما يفدحه ، ومن الحمد ما يثقله ، فقال تعالى ذكره : " ولكن أكثر الناس لا يشكرون " ، يقول : لا يشكرون نعمتي التي أنعمتها عليهم ، وفضلي الذي تفضلت به عليهم ، بعبادتهم غيري ، وصرفهم رغبتهم ورهبتهم إلى من دوني ممن لا يملك لهم ضرا ولا نفعا ، ولا يملك موتا ولا حياة ولا نشورا. (2)
* * *
__________
(1) في المطبوعة : " فيستسلمون . . . ويصرفون " ، وفي المخطوطة : " فيستسلمون . . . ويصرفوا "
(2) عند هذا الموضع انتهى جزء من التقسيم القديم ، وفي المخطوطة بعده ما نصه :
" وصلى الله على سيدنا محمد النبي وعلى آله وسلم كثيرا " .
ثم يبدأ التقسيم التالي بما نصه :
" بسم الله الرحمن الرحيم
رب أعن "

(5/279)


وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (244)

القول في تأويل قوله : { وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (244) }
قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بذلك : " وقاتلوا " ، أيها المؤمنون " في سبيل الله " ، يعني : في دينه الذي هداكم له ، (1) لا في طاعة الشيطان أعداء دينكم ، (2) الصادين عن سبيل ربكم ، ولا تحتموا عن قتالهم عند لقائهم ، ولا تجبنوا عن حربهم ، (3) فإن بيدي حياتكم وموتكم. ولا يمنعن أحدكم من لقائهم وقتالهم حذر الموت وخوف المنية على نفسه بقتالهم ، فيدعوه ذلك إلى التعريد عنهم والفرار منهم ، (4) فتذلوا ، ويأتيكم الموت الذي خفتموه في مأمنكم الذي وألتم إليه ، (5) كما أتى الذين خرجوا من ديارهم فرارا من الموت ، الذين قصصت عليكم قصتهم ، فلم ينجهم فرارهم منه من نزوله بهم حين جاءهم أمري ، وحل بهم قضائي ، ولا ضر المتخلفين وراءهم ما كانوا لم يحذروه ، إذ دافعت عنهم مناياهم ، وصرفتها عن حوبائهم ، (6) فقاتلوا في سبيل الله من أمرتكم بقتاله من أعدائي وأعداء ديني ، فإن من حيي منكم فأنا أحييه ، (7) ومن قتل منكم فبقضائي كان قتله.
__________
(1) انظر ما سلف في تفسير : " سبيل الله " 3 : 583 ، 592 ، والمراجع هناك .
(2) " أعداء . . . " مفعول " قاتلوا " ، والسياق : " قاتلوا أيها المؤمنون . . . أعداء دينكم " .
(3) في المخطوطة " ولا تحموا عن قتاله عند لقائهم ، ولا تحبوا عن حربهم " غير منقوطة ، بإفراد ضمير " قتاله " ، فغيرها مصححوا المطبوعة ، إذ لم يحسنوا قراءتها فجعلوها : " ولا تجبنوا عن لقائهم ، ولا تقعدوا عن حربهم " غيروا وبدلوا واسقطوا وفعلوا ما شاءوا!! . وقوله : " ولا تحتموا عن قتالهم " من قولهم : احتميت من كذا وتحاميته : إذا اتقيته وامتنعت منه . و " من " و " عن " في هذا الموضع سواء .
(4) في المطبوعة : " فيدعوه ذلك إلى التفريد " ، وهو خطأ ، وزاده خطأ بعض من علق على التفسير ، بشرح هذا اللفظ المنكر . والتعريد : الفرار وسرعة الذهاب في الهزيمة . يقال : " عرد الرجل عن قوله " ، إذا أحجم عنه ونكل وفر .
(5) وأل إلى المكان يئل ، وؤولا ووئيلا ووألا : لجأ إليه طلب النجاة . والموئل : الملجأ .
(6) الحوباء : النفس ، أو ورع القلب .
(7) في المطبوعة : " فأنا أحيحه " ، وأثبت ما في المخطوطة .

(5/280)


ثم قال تعالى ذكره لهم : واعلموا ، أيها المؤمنون ، أن ربكم " سميع " لقول من يقول من منافقيكم لمن قتل منكم في سبيلي : لو أطاعونا فجلسوا في منازلهم ما قتلوا " عليم " بما تجنه صدورهم من النفاق والكفر وقلة الشكر لنعمتي عليهم ، (1) وآلائي لديهم في أنفسهم وأهليهم ، ولغير ذلك من أمورهم وأمور عبادي.
يقول تعالى ذكره لعباده المؤمنين : فاشكروني أنتم بطاعتي فيما أمرتكم من جهاد عدوكم في سبيلي ، وغير ذلك من أمري ونهيي ، إذ كفر هؤلاء نعمي. واعلموا أن الله سميع لقولهم ، وعليم بهم وبغيرهم وبما هم عليه مقيمون من الإيمان والكفر ، والطاعة والمعصية ، محيط بذلك كله ، حتى أجازي كلا بعمله ، إن خيرا فخيرا ، وإن شرا فشرا.
* * *
قال أبو جعفر : ولا وجه لقول من زعم أن قوله : " وقاتلوا في سبيل الله " ، أمر من الله الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف بالقتال ، بعد ما أحياهم. لأن قوله : " وقاتلوا في سبيل الله " ، لا يخلو - إن كان الأمر على ما تأولوه - من أحد أمور ثلاثة :
إما أن يكون عطفا على قوله : " فقال لهم الله موتوا " ، وذلك من المحال أن يميتهم ، ويأمرهم وهم موتى بالقتال في سبيله.
أو يكون عطفا على قوله : " ثم أحياهم " ، وذلك أيضا مما لا معنى له. لأن قوله : " وقاتلوا في سبيل الله " ، أمر من الله بالقتال ، وقوله : " ثم أحياهم " ، خبر عن فعل قد مضى. وغير فصيح العطف بخبر مستقبل على خبر ماض ، لو كانا جميعا خبرين ، لاختلاف معنييهما. فكيف عطف الأمر على خبر ماض ؟
أو يكون معناه : ثم أحياهم وقال لهم : قاتلوا في سبيل الله ، ثم أسقط " القول " ،
__________
(1) في المطبوعة : " بما تخفيه صدورهم " ، وأثبت ما في المخطوطة . وأجن الشيء : ستره وكتمه وأخفاه .

(5/281)


مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (245)

كما قال تعالى ذكره : ( إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا )[سورة السجدة : 12] ، بمعنى يقولون : ربنا أبصرنا وسمعنا. وذلك أيضا إنما يجوز في الموضع الذي يدل ظاهر الكلام على حاجته إليه ، ويفهم السامع أنه مراد به الكلام وإن لم يذكر. فأما في الأماكن التي لا دلالة على حاجة الكلام إليه ، فلا وجه لدعوى مدع أنه مراد فيها.
* * *
القول في تأويل قوله : { مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً }
قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بذلك : من هذا الذي ينفق في سبيل الله ، فيعين مضعفا ، (1) أو يقوي ذا فاقة أراد الجهاد في سبيل الله ، ويعطي منهم مقترا ؟ وذلك هو القرض الحسن الذي يقرض العبد ربه.
وإنما سماه الله تعالى ذكره " قرضا " ، لأن معنى " القرض " إعطاء الرجل غيره ماله مملكا له ، ليقضيه مثله إذا اقتضاه. فلما كان إعطاء من أعطى أهل الحاجة والفاقة في سبيل الله ، إنما يعطيهم ما يعطيهم من ذلك ابتغاء ما وعده الله عليه من جزيل الثواب عنده يوم القيامة ، سماه " قرضا " ، إذ كان معنى " القرض " في لغة العرب ما وصفنا.
وإنما جعله تعالى ذكره " حسنا " ، لأن المعطي يعطي ذلك عن ندب الله إياه وحثه له عليه ، احتسابا منه. فهو لله طاعة ، وللشياطين معصية. (2) وليس
__________
(1) أضعف الرجل فهو مضعف : ضعفت دابته ، يعينه بإبداله دابة غيرها .
(2) في المطبوعة : " وللشياطين معصية " ، وفي المخطوطة : " وللسلطان " ، وهو سهو من الناسخ .

(5/282)


ذلك لحاجة بالله إلى أحد من خلقه ، ولكن ذلك كقول العرب : " عندي لك قرض صدق ، وقرض سوء " ، للأمر يأتي فيه للرجل مسرته أو مساءته ، (1) كما قال الشاعر : (2)
كل امرئ سوف يجزى قرضه حسنا... أو سيئا ، ومدينا بالذي دانا (3)
* * *
فقرض المرء : ما سلف من صالح عمله أو سيئه. وهذه الآية نظيرة الآية التي قال الله فيها تعالى ذكره : (4) ( مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ) [سورة البقرة : 261].
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك كان ابن زيد يقول :
5617 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد في قوله : " من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا " ، قال : هذا في سبيل الله " فيضاعفه له أضعافا كثيرة " ، قال : بالواحد سبعمئة ضعف.
5618 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر ، عن زيد بن أسلم قال : لما نزلت : " من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له أضعافا كثيرة " ، جاء ابن الدحداح إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا نبي الله ، ألا أرى ربنا يستقرضنا ؟ مما أعطانا لأنفسنا! وإن لي أرضين : إحداهما بالعالية ، والأخرى بالسافلة ، وإني قد جعلت خيرهما صدقة! قال : فكان النبي صلى الله
__________
(1) في المطبوعة " يأتي فيه الرجل . . . " ، وفي المخطوطة : " يأتي فيه الرجل " غير منقوطة ، ونقل أبو حيان في تفسيره 2 : 248 هذا القول عن الأخفش ، ونصه : " لأمر تأتي مسرته أو مساءته " ، ولكني استظهرت قراءتها كما أثبت ، فجميع ما مضى تحريف .
(2) هو أمية بن أبي الصلت .
(3) ديوانه : 63 ، واللسان (قرض) ، وروايته " أو مدينا مثل ما دنا " ، وفي الديوان : " كالذي دانا " .
(4) في المطبوعة : " قال الله فيها تعالى ذكره " ، وأثبت ما في المخطوطة .

(5/283)


عليه وسلم يقول : " كم من عذق مذلل لابن الدحداح في الجنة! (1) .
5619 - حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة : أن رجلا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم لما سمع بهذه الآية قال : " أنا أقرض الله " ، فعمد إلى خير حائط له فتصدق به. قال ، وقال قتادة : يستقرضكم ربكم كما تسمعون ، وهو الولي الحميد ويستقرض عباده. (2)
5620 - حدثنا محمد بن معاوية الأنماطي النيسابوري قال ، حدثنا خلف بن خليفة ، عن حميد الأعرج ، عن عبد الله بن الحارث ، عن عبد الله بن مسعود قال : لما نزلت : " من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا " ، قال أبو الدحداح :
__________
(1) الحديث : 5618 - هذا حديث مرسل ، فهو ضعيف الإسناد ، لأن زيد بن أسلم تابعي ، ولم يذكر من حدثه به من الصحابة .
والحديث ثابت في تفسير عبد الرزاق ، ص : 31 (مخطوط مصور) ، عن معمر ، به .
وهو عند السيوطي 1 : 312 ، ولم ينسبه لغير عبد الرزاق والطبري .
وقد ذكر ابن كثير 1 : 594 أن ابن مردويه روى نحو الحديث الآتي : 5620 " من حديث عبد الرحمن بن زيد بن أسلم ، عن أبيه ، عن عمر ، مرفوعا بنحوه " .
وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم : ضعيف جدا ، كما بينا في : 185 فلا قيمة لهذا الرواية .
وسيأتي عقب هذا حديث آخر مرسل بمعناه ، ثم : 5620 ، من حديث ابن مسعود . ونرجئ بيان أصل القصة حتى نتحدث عنها هناك .
قوله " ابن الدحداح " و " لابن الدحاح " : هذا هو الثابت في تفسير عبد الرزاق ، وهو الذي أثبتناه هنا . وفي المخطوطة - فيهما - " الدحداحة " . وفي المطبعة " أبو الدحداح " ، و " لأبي الدحداح " . وما في تفسير عبد الرزاق أرجح ، لأنه الأصل الذي روى عنه الطبري .
قوله : " إنما أعطانا لأنفسنا " : هو الثابت عند عبد الرزاق ، وهو أجود . وكان في المطبوعة " مما " بدل " إنما " .
" العذق " (بفتح فسكون) : النخلة . أما " العذق " - بكسر العين : فهو عرجون النخلة . و " المذلل " - بفتح اللام الأولى مشددة : الذي قد دليت عناقيده ، حتى يسهل اجتناء ثمرته ، لدنوها من قاطفها .
(2) الحديث : 5619 - وهذا مرسل أيضًا ، فهو ضعيف الإسناد ، وآخره موقوف من كلام قتادة . وذكره السيوطي 1 : 312 ، ونسبه لعبد بن حميد ، وابن جرير ، فقط . ولم يذكر كلام قتادة في آخره .
في المخطوطة : " ويسعر عباده " ، هكذا غير معجمة ولا مبينة ، وتركت ما في المطبوعة على حاله ، فهو في سياقة المعنى . والأثر في الدر المنثور 1 : 321 ، ولكنه أسقط هذه الجملة الأخيرة عن قتادة .

(5/284)


يا رسول الله ، أو إن الله يريد منا القرض ؟! قال : نعم يا أبا الدحداح! قال : يدك! قال : (1) .
فناوله يده ، قال : فإني قد أقرضت ربي حائطي ، حائطا فيه ستمئة نخلة. ثم جاء يمشي حتى أتى الحائط وأم الدحداح فيه في عيالها ، فناداها : يا أم الدحداح! قالت : لبيك ! قال : اخرجي! قد أقرضت ربي حائطا فيه ستمئة نخلة. (2)
* * *
__________
(1) في المطبوعة : " قال : يدك قبل ، فناوله " ، وفي المخطوطة : " يدك قيل " ثم وضع ألفا على رأس الياء بعد القاف ، كأن أراد أن يجعلها " قال " كما أثبتها ورجحتها ، لنص مجمع الزوائد 9 : 324 : " قال : أرنا يدك . قال : فناوله يده " .
(2) الحديث : 5620 - وهذا إسناد ضعيف جدا .
محمد بن معاوية بن يزيد الأنماطي - شيخ الطبري : ثقة مترجم في التهذيب ، وتاريخ بغداد 3 : 274 - 275 .
خلف بن خليفة بن صاعد الأشجعي : ثقة ، تغير في آخر عمره ، مات نحو سنة 181 ، وهو ابن 101 سنة ، وقد فصلنا القول في ترجمته في المسند : 5885 .
حميد الأعرج الكوفي القاص : هو حميد بن علي ، على ما جزم به البخاري في +الكثير 1/ 2 / 351 ، والضعفاء ، ص : 9 . ويقال : " حميد بن عطاء " وهو الذي جزم به ابن أبي حاتم 1 / 2 / 226 - 227 ، وابن حبان في كتاب المجروحين ، رقم : 265 . وهو ضعيف جدا . قال البخاري : " منكر الحديث " . وقال أبو حاتم : " ضعيف الحديث ، منكر الحديث ، قد لزم عبد الله بن الحارث عن ابن مسعود ، ولا يعرف لعبد الله بن الحارث عن ابن مسعود شيء! " . وقال ابن حبان : " يروى عن عبد الله بن الحرث عن ابن مسعود - نسخة كأنها موضوعة . لا يحتج بخبره إذا انفرد " .
عبد الله بن الحارث الزبيدي النجراني المكتب : ثقة . سبق في ترجمة الراوي عنه قول أبي حاتم أنه لا يعرف له شيء عن ابن مسعود . فالبلاء في هذه الرواية من حميد الأعرج .
وهذا الحديث رواه أيضًا ابن أبي حاتم ، عن الحسن بن عرفة ، عن خلف بن خليفة ، بهذا الإسناد . على ما نقله عنه ابن كثير 1 : 593 - 594 .
وذكره السيوطي 1 : 312 ، وزاد نسبته لسعيد بن منصور ، وابن سعد ، والبزار ، وابن المنذر ، والحكيم الترمذي في نوادر الأصول ، والطبراني ، والبيهقي في شعب الإيمان .
وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد 6 : 320 ، بنحوه . وقال : " رواه البزار ، ورجاله ثقات " . ثم ذكره مرة أخرى 9 : 324 بلفظ آخر نحوه . وقال : " رواه أبو يعلى ، والطبراني ، ورجالهما ثقات . ورجال أبي يعلى رجال الصحيح " .
هكذا قال الهيثمي في الموضعين . وليس عندي إسناد من الأسانيد التي نسبه إليها ، ولا الكتب التي ذكرها السيوطي ، إلا ابن سعد . ولم أجده فيه ، لأن النسخة المطبوعة من طبقات ابن سعد تنقص كثيرا من الكتاب ، كما هو معروف .
ولقصة أبي الدحداح أصل آخر صحيح . من حديث أنس ، رواه أحمد في المسند : 12509 (3 : 146 حلبي) ، بإسناد صحيح : " عن أنس : أن رجلا قال : يا رسول الله ، إن لفلان نخلة ، وأنا أقيم حائطي بها ، فأمره أن يعطيني حتى أقيم حائطي بها ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : أعطها إياه بنخلة في الجنة ، فأبى ، فأتاه أبو الدحداح ، فقال : بعني نخلتك بحائطي! ففعل ، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم ، . فقال : يا رسول الله ، إني قد ابتعت النخلة بحائطي ، قال : فاجعلها له ، فقد أعطيتكها . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : كم من عذق راح ، لأبي الدحداح ، في الجنة . قالها مرارا ، قال : فأتى امرأته فقال : يا أم الدحداح ، اخرجي من الحائط ، فإني قد بعته بنخلة في الجنة . فقالت : ربح البيع ، أو كلمة تشبهها " .
وحديث أنس هذا في مجمع الزوائد 9 : 323 - 324 . وقال : " رواه أحمد ، والطبراني ، ورجالهما رجال الصحيح " . ووقع في مطبوعة مجمع الزوائد سقط نحو سطر أثناء الحديث ، يصحح من هذا الموضع .
وله أصل ثان صحيح . فروى مسلم في صحيحه 1 : 264 ، عن جابر بن سمرة ، قال : " صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على ابن الدحداح ، ثم أتى بفرس عري ، فعقله رجل فركبه ، فجعل يتوقص به ، ونحن نتبعه نسعى خلفه ، قال : فقال رجل من القوم : إن لنبي صلى الله عليه وسلم قال : كم من عذق معلق أو مدلى في الجنة لابن الدحداح " . " أو قال شعبة : لأبي الدحداح " .
و " أبو الدحداح " : هو ثابت بن الدحداح ، أو ابن الدحداحة . ويكنى " أبا الدحداح " أو " أبا الدحداحة " ، مترجم في الإصابة 1 : 199 . ثم ترجمه في الكنى 7 : 57 - 58 ، وذكر الخلاف في أنه واحد أو اثنان . ثم زعم أن الحق أن الثاني غير الأول! واستدل بحديث نقله من رواية أبي نعيم ضعيف ، وأن في إسناده رجلا " واهى الحديث " !! فسقط الاستدلال به دون ريب .
الحائط : بستان النخيل إذا كان عليه جدار يحيط به ، فإن لم يكن عليه الحائط فهو " ضاحية " .

(5/285)


وأما قوله : " فيضاعفه له أضعافا كثيرة " ، فإنه عدة من الله تعالى ذكره مقرضه ومنفق ماله في سبيل الله من إضعاف الجزاء له على قرضه ونفقته ، ما لا حد له ولا نهاية ، كما : -
5621 - حدثني موسى بن هارون قال ، حدثنا عمرو قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : " من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له أضعافا كثيرة " ، قال : هذا التضعيف لا يعلم أحد ما هو.
وقد : -
5622 - وقد حدثني المثنى قال ، حدثنا سويد بن نصر قال ، أخبرنا ابن المبارك ، عن ابن عيينة ، عن صاحب له يذكر عن بعض العلماء قال : إن الله أعطاكم

(5/286)


الدنيا قرضا ، وسألكموها قرضا ، فإن أعطيتموها طيبة بها أنفسكم ، ضاعف لكم ما بين الحسنة إلى العشر إلى السبعمئة ، إلى أكثر من ذلك. وإن أخذها منكم وأنتم كارهون ، فصبرتم وأحسنتم ، كانت لكم الصلاة والرحمة ، وأوجب لكم الهدى. (1)
* * *
قال أبو جعفر : وقد اختلفت القرأة في قراءة قوله : (فيضاعفه) بالألف ورفعه ، بمعنى : الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له نسق " يضاعف " على قوله : " يقرض " .
* * *
وقرأه آخرون بذلك المعنى : (فيضعفه) ، غير أنهم قرءوا بتشديد " العين " وإسقاط " الألف " .
* * *
وقرأه آخرون : (فيضاعفه له) بإثبات " الألف " في " يضاعف " ونصبه ، بمعنى الاستفهام. فكأنهم تأولوا الكلام : من المقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له ؟ فجعلوا قوله : " فيضاعفه " جوابا للاستفهام ، وجعلوا : " من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا " اسما. لأن " الذي " وصلته ، بمنزلة " عمرو " و " زيد " . فكأنهم وجهوا تأويل الكلام إلى قول القائل : " من أخوك فتكرمه " ، لأن الأفصح في جواب الاستفهام بالفاء إذا لم يكن قبله ما يعطف به عليه من فعل مستقبل نصبه.
* * *
قال أبو جعفر : وأولى هذه القراءات عندنا بالصواب ، قراءة من قرأ : (فيضاعفه له) بإثبات " الألف " . ورفع " يضاعف " . لأن في قوله : " من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا " معنى الجزاء . والجزاء إذا دخل في جوابه " الفاء " ، لم يكن جوابه
__________
(1) يريد قول الله تعالى في [سورة البقرة : 156 ، 157] { الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ }

(5/287)


ب " الفاء " لا رفعا. فلذلك كان الرفع في " يضاعفه " أولى بالصواب عندنا من النصب. وإنما اخترنا " الألف " في " يضاعف " من حذفها وتشديد " العين " ، لأن ذلك أفصح اللغتين وأكثرهما على ألسنة العرب.
* * *
القول في تأويل قوله : { وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ }
قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بذلك : أنه الذي بيده قبض أرزاق العباد وبسطها ، دون غيره ممن ادعى أهل الشرك به أنهم آلهة ، واتخذوه ربا دونه يعبدونه. وذلك نظير الخبر الذي روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، الذي : -
5623 - حدثنا به محمد بن المثنى ومحمد بن بشار قالا حدثنا حجاج وحدثني عبد الملك بن محمد الرقاشي قال ، حدثنا حجاج وأبو ربيعة قالا حدثنا حماد بن سلمة ، عن ثابت وحميد وقتادة ، عن أنس قال : غلا السعر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال فقالوا : يا رسول الله ، غلا السعر فأسعر لنا! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الله الباسط القابض الرازق ، وإني لأرجو أن ألقى الله ليس أحد يطلبني بمظلمة في نفس ومال " . (1) .
* * *
__________
(1) الحديث : 5623 - عبد الملك بن محمد الرقاشي أبو قلابة - شيخ الطبري : مضت ترجمته في : 4331 .
الحجاج ؛ هو ابن المنهال الأنماطي .
أبو ربيعة : هو زيد بن عوف القطعي ، ولقبه " فهد " . تكلموا فيه كثيرا لأحاديث رواها عن حماد بن سلمة . وأما البخاري فقال في الكبير 2/1/ 369 : " سكتوا عته " . وهو مترجم أيضًا في ابن أبي حاتم 1/2/ 570 - 571 ، ولسان الميزان .
ومهما يكن من شأنه ، فإنه لم ينفرد بهذا الحديث ، فلا يؤثر فيه ضعفه إن كان ضعيفا .
والحديث صحيح بهذا الإسناد ، من جهة الحجاج بن المنهال ، ومن الروايات الأخر التي سنذكر .
فرواه أحمد في المسند : 12618 (3 : 156 حلبي) ، عن سريج ويونس بن محمد ، عن حماد ابن سلمة ، عن قتادة وثابت البناني ، عن أنس .
ورواه أيضًا : 14102 ( 3 : 286 حلي) ، عن عفان ، عن حماد بن سلمة ، عن قتادة وثابت وحميد ، عن أنس .
ورواه الترمذي 2 : 271 - 272 ، وابن ماجه : 2200 - كلاهما من طريق الحجاج بن النهال بهذا الإسناد . قال الترمذي : " هذا حديث حسن صحيح " .
ورواه أبو دواد : 3451 ، من طريق عفان ، عن حماد ، به .
وذكره السيوطي 1 : 313 ، وزاد نسبته للبيهقي في السنن .

(5/288)


قال أبو جعفر : يعني بذلك صلى الله عليه وسلم : أن الغلاء والرخص والسعة والضيق بيد الله دون غيره. فكذلك قوله تعالى ذكره : ، " والله يقبض ويبسط " ، يعني بقوله : " يقبض " ، يقتر بقبضه الرزق عمن يشاء من خلقه ويعني بقوله : و " يبسط " يوسع ببسطة الرزق على من يشاء منهم.
وإنما أراد تعالى ذكره بقيله ذلك ، حث عباده المؤمنين - الذين قد بسط عليهم من فضله ، فوسع عليهم من رزقه - على تقوية ذوي الإقتار منهم بماله ، ومعونته بالإنفاق عليه وحمولته على النهوض لقتال عدوه من المشركين في سبيله ، (1) فقال تعالى ذكره : من يقدم لنفسه ذخرا عندي بإعطائه ضعفاء المؤمنين وأهل الحاجة منهم ما يستعين به على القتال في سبيلي ، فأضاعف له من ثوابي أضعافا كثيرة مما أعطاه وقواه به ؟ فإني - أيها الموسع - (2) الذي قبضت الرزق عمن ندبتك إلى معونته وإعطائه ، لأبتليه بالصبر على ما ابتليته به والذي بسطت عليك لأمتحنك بعملك فيما بسطت عليك ، فأنظر كيف طاعتك إياي فيه ، فأجازي كل واحد منكما على قدر طاعتكما لي فيما ابتليتكما فيه وامتحنتكما به ، من غنى وفاقة ، وسعة وضيق ، عند رجوعكما إلي في آخرتكما ، ومصيركما إلي في معادكما.
* * *
__________
(1) الحمولة (بفتح الحاء) : كل ما يحمل عليه الناس من إبل وحمير وغيرها . والحمولة (بضم الحاء) الأحمال والأثقال . هذا وأخشى أن يكون صواب العبارة في الأصل " بالأنفاق عليه وعلىحملته " وقوله : " علي النهوض " متعلق بقوله : " ومعونته " .
(2) في المطبوعة : " فإني أنا الموسع الذى قبضت " ، وهو كلام لا يستقيم أبدا ، و الصواب ما في المخطوطة . و " الموسع " : الغني الذى كثر ماله . من قولهم : " أوسع الرجل " ، صار ذا سعة وغنى وكثر ماله . وقال الله تعالى : " علي الموسع قدره وعلي المقتر قدره " . وانظر ما سلف في تفسير " الوسع " في هذا الجزء : 45 . وسياق العبارة " فانى .... الذي قبضت " .

(5/289)


وبنحو الذي قلنا في ذلك قال من بلغنا قوله من أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
5624 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد في قوله : " من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا " الآية ، قال : علم أن فيمن يقاتل في سبيله من لا يجد قوة ، وفيمن لا يقاتل في سبيله من يجد غنى ، فندب هؤلاء فقال : " من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له أضعافا كثيرة والله يقبض ويبسط " ؟ قال : بسط عليك وأنت ثقيل عن الخروج لا تريده ، (1) وقبض عن هذا وهو يطيب نفسا بالخروج ويخف له ، فقوه مما في يدك ، يكن لك في ذلك حظ.
* * *
القول في تأويل قوله : { وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (245) }
قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بذلك : وإلى الله معادكم ، أيها الناس ، فاتقوا الله في أنفسكم أن تضيعوا فرائضه وتتعدوا حدوده ، وأن يعمل من بسط عليه منكم من رزقه بغير ما أذن له بالعمل فيه ربه ، وأن يحمل المقتر منكم - إذ قبض عن رزقه - إقتاره على معصيته ، والتقدم على ما نهاه ، (2) فيستوجب بذلك عند مصيره إلى خالقه ، ما لا قبل له به من أليم عقابه. (3)
* * *
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة : " يبسط عليك " مضارعا ، وهو لا يطابق قوله بعد : " وقبض " . فجعلتها " بسط " ، وإن شئت جعلت الأخرى : " ويقبض " ، كما في الدر المنثور 1 : 313 ، وأنا أرجع الأولى .
(2) في المطبوعة : " وأن يحل بالمقتر منكم فقبض عنه رزقه ، إقتاره .... " ، وهو كلام فاسد وفي المخطوطة : " وأن يحمل المقتر منكم فقبض عنه رزقه . . . " وهو لا يستقيم أيضًا ، ورجحت أن تكون الأولى " المقتر " كما في المخطوطة ، وأن تكون الأخرى " إذ قبض " ، أو " بقبضه عنه ... " وسياق الجملة : " وأن يحمل المقتر منكم ... إقتاره علي معصيته) .
(3) في المطبوعة : " فيستوجب بذلك منه بمصيره . . . وهو كلام شديد الخلل . وفي المخطوطة : " عنه مصيره " ، وظاهر أن الهاء المرسلة من " عنه " ، دال " عند " .

(5/290)


وكان قتادة يتأول قوله : " وإليه ترجعون " ، وإلى التراب ترجعون. (1)
5625 - حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة : " وإليه ترجعون " ، من التراب خلقهم ، وإلى التراب يعودون. (2)
* * *
__________
(1) في المخطوطة : " و إلى الثواب " ، و " من الثواب ... " وهو ظاهر الفساد ، ولكنه دليل علي شدة سهو الناسخ في هذا الموضع من الكتاب ، كما رأيت من تصحيفه وتحريفه في المواضع السابقة من التعليق .
(2) في المخطوطة : " و إلى الثواب " ، و " من الثواب... " وهو ظاهر الفساد ، ولكنه دليل علي شدة سهو الناسخ في هذا الموضع من الكتاب ، كما رأيت من تصحيفه وتحريفه في المواضع السابقة من التعليق .

(5/291)


أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (246)

القول في تأويل قوله : { أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلإ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ }
قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بقوله : " ألم تر " ، ألم تر ، يا محمد ، بقلبك ، (1) فتعلم بخبري إياك ، يا محمد " إلى الملأ " ، يعني : إلى وجوه بني إسرائيل وأشرافهم ورؤسائهم " من بعد موسى " ، يقول : من بعد ما قبض موسى فمات " إذ قالوا لنبي لهم ابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله " . فذكر لي أن النبي الذي قال لهم ذلك شمويل (2) بن بالى (3) بن علقمة (4) بن يرحام (5) بن إليهو (6) بن تهو بن
__________
(1) انظر معنى " ألم تر " ، و " الرؤية " فيما سلف : ص : 266 ، والمراجع في التعليق .
(2) ساذكر في التعليقات الآتية ما جاء في هذا النسب من الأسماء ، على رسمها في كتاب القوم الذي بين أيدينا ، من أخبار الأيام الأول . في الإصحاح السادس . و " شمويل " هناك هو " صموئيل " .
(3) " بالي " ، لم يرد له ذكر في نسب " شمويل " من كتاب القوم ، بل هو عندهم " صموئيل بن " القانة " .
(4) (ألقانة)
(5) ( يروحام) . وفي المطبوعة : " برحام " خطأ ، وهو في المخطوطة غير منقوط وأما في تاريخ الطبري 1 : 242 فهو بالحاء المعجمة .
(6) ( إيليئيل) . الظاهر أنه هو " إليهو " .

(5/291)


صوف (1) بن علقمة بن ماحث (2) بن عموصا (3) بن عزريا بن صفنية (4) بن علقمة بن أبي ياسف (5) بن قارون (6) بن يصهر (7) بن قاهث (8) بن لاوي بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم.
5626 - حدثنا بذلك ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، (9) عن وهب بن منبه.
5627 - وحدثني أيضا المثنى بن إبراهيم قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا إسماعيل بن عبد الكريم قال ، حدثني عبد الصمد بن معقل : أنه سمع وهب بن منبه يقول : هو شمويل ، هو شمويل - ولم ينسبه كما نسبه ابن إسحاق. (10)
* * *
وقال السدي : بل اسمه شمعون. وقال : إنما سمي " شمعون " ، لأن أمه دعت الله أن يرزقها غلاما ، فاستجاب الله لها دعاءها ، فرزقها ، فولدت غلاما فسمته
__________
(1) (توح) ، وفي المطبوعة : " يهو صوق " ، وهو خطأ ، وفي المخطوطة " بهو صوف " غير منقوط ، وكلاهما أسقط " بن " بين الكلمتين . و الصواب من تاريخ الطبري . و " توح " مذكور في كتاب القوم ، في كتاب صموئيل الأول ، الإصحاح الأول برسم : " توحو " .
(2) ( محث) .
(3) (عما ساى) والنسب في كتاب القوم بعد ذلك : " عما ساى بن ألقانة بن يوثيل بن عز ريا بن صفنيا بن تحث بن أسير بن أبياساف " ، وبعضه لم يذكر في النسب الذي رواه الطبري ، وفيما رواه بعد ذلك تقديم و تاخير كما ترى .
(4) (صفنيا) ، وفي المطبوعة و المخطوطة : " صفية " .
(5) ( أبياساف) وفي المطبوعة : " أبى ياسق " ، وفي المخطوطة " أبي ياسف " .
(6) (قورح) .
(7) ( يصهار) .
(8) ( قهات) .
(9) في المطبوعة و المخطوطة : " عن أبي إسحق " ، وهو خطأ ، وهو إسناد دائر في الطبري عن " محمد بن إسحق " صاحب السيرة .
(10) في المخطوطة و المطبوعة : " كما نسبه إسحاق " ، وهو خطأ ظاهر ، وانظر التعليق السالف .

(5/292)


" شمعون " ، تقول : الله تعالى سمع دعائي.
5628 - حدثني [بذلك] موسى قال ، حدثنا عمرو قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي. (1)
* * *
فكأن " شمعون " " فعلون " عند السدي ، من قولها : إنَّه سمع الله دعاءها. (2)
* * *
5629 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد قوله : " ألم تر إلى الملإ من بني إسرائيل من بعد موسى إذ قالوا لنبي لهم " ، قال : شمؤل. (3)
* * *
وقال آخرون : بل الذي سأله قومه من بني إسرائيل أن يبعث لهم ملكا يقاتلون في سبيل الله ، يوشع (4) بن نون بن أفراثيم (5) بن يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم.
5630 - حدثني بذلك الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : ( وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ ) ، قال : كان نبيهم الذي بعد موسى يوشع بن نون ، قال : وهو أحد الرجلين اللذين أنعم الله عليهما. (6)
* * *
وأما قوله : " ابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله " ، فاختلف أهل التأويل في
__________
(1) ما بين القوسين زيادة يقتضيها السياق ، كما في إسناد الأثر السالف ،
(2) في المطبوعة : " من قولها سمع " أسقط " أنه " وأثبت ما في المخطوطة .
(3) في المطبوعة : " شمعون " ، وهو خطأ لا شك فيه ، و الصواب ما في المخطوطة والدر المنثور 1 : 315 .
(4) (يشوع) .
(5) (أفرايم) ، وفي المطبوعة( أفراثيم) ، و الصواب ما أثبت من التاريخ 1 : 225 ، وفي المخطوطة غير منقوطة .
(6) يعني المذكورين في قوله تعالى في [ سورة المائدة : 23] { قَالَ رَجُلَانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا } ، الآية .

(5/293)


السبب الذي من أجله سأل الملأ من بني إسرائيل نبيهم ذلك.
فقال بعضهم : كان سبب مسألتهم إياه ، ما : -
5631 - حدثنا به محمد بن حميد قال ، حدثنا سلمة بن الفضل قال ، حدثني محمد بن إسحاق ، عن وهب بن منبه قال : خلف بعد موسى في بني إسرائيل يوشع بن نون ، يقيم فيهم التوراة وأمر الله حتى قبضه الله. ثم خلف فيهم كالب بن يوفنا (1) يقيم فيهم التوراة وأمر الله حتى قبضه الله تعالى. ثم خلف فيهم حزقيل (2) بن بوزي ، وهو ابن العجوز. ثم إن الله قبض حزقيل ، وعظمت في بني إسرائيل الأحداث ، ونسوا ما كان من عهد الله إليهم ، حتى نصبوا الأوثان وعبدوها من دون الله. فبعث الله إليهم إلياس (3) بن نسى (4) بن فنحاص (5) بن العيزار (6) بن هارون بن عمران نبيا. وإنما كانت الأنبياء من بني إسرائيل بعد موسى ، يبعثون إليهم بتجديد ما نسوا من التوراة. وكان إلياس مع ملك من ملوك بني إسرائيل يقال له أحاب ، (7) وكان يسمع منه ويصدقه. فكان إلياس يقيم له أمره. وكان سائر بني إسرائيل قد اتخذوا صنما يعبدونه من دون الله ، فجعل إلياس يدعوهم إلى الله ، وجعلوا لا يسمعون منه شيئا ، إلا ما كان من ذلك الملك. والملوك متفرقة بالشام ، كل ملك
__________
(1) ( يفنة) وفي المطبوعة : " يوقنا " ، و الصواب من المخطوطة و التاريخ 1 : 238 .
(2) ( حزقيال) في كتاب القوم .
(3) (إيليا) ، وهو " إيليا التشبى " مذكور في " الملوك الأول " إصحاح : 17 .
(4) لم أجد نسب " إيليا " ، وقوله : " نسى " لم أجده . وهو في المخطوطة " سى " غير منقوطة ولا واضحة ، وفي تاريخ الطبري 1 : 239 " إلياس بن ياسين " .
(5) ( فينحاس) .
(6) (العازار) .
(7) (أخاب) " في الملوك الأول " الإصحاح : 16 ، 17 . وهو في المطبوعة والتاريخ والمخطوطة : " أحاب " ، مهمل الحاء .

(5/294)


له ناحية منها يأكلها. (1) فقال ذلك الملك الذي كان إلياس معه يقوم له أمره ، ويراه على هدى من بين أصحابه يوما : يا إلياس ، والله ما أرى ما تدعو إليه الناس إلا باطلا! والله ما أرى فلانا وفلانا - وعدد ملوكا من ملوك بني إسرائيل (2) - قد عبدوا الأوثان من دون الله ، إلا على مثل ما نحن عليه ، يأكلون ويشربون ويتنعمون مملكين ، (3) ما ينقص من دنياهم [أمرهم الذي تزعم أنه باطل] ؟ (4) وما نرى لنا عليهم من فضل. ويزعمون - (5) والله أعلم - أن إلياس استرجع وقام شعر رأسه وجلده ، ثم رفضه وخرج عنه. ففعل ذلك الملك فعل أصحابه ، عبد الأوثان ، وصنع ما يصنعون. (6) ثم خلف من بعده فيهم اليسع ، (7) فكان فيهم ما شاء الله أن يكون ، ثم قبضه الله إليه. وخلفت فيهم الخلوف ، وعظمت فيهم الخطايا ، وعندهم التابوت يتوارثونه كابرا عن كابر ، فيه السكينة وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون. فكانوا لا يلقاهم عدو فيقدمون التابوت ويزحفون به معهم ، (8) إلا هزم الله ذلك العدو. (9) ثم خلف فيهم ملك يقال له إيلاء ، (10) وكان الله قد بارك لهم في جبلهم من إيليا ، لا يدخله عليهم عدو ، ولا يحتاجون معه إلى غيره. وكان أحدهم - فيما يذكرون - يجمع التراب على الصخرة ، ثم ينبذ فيه الحب ، فيخرج الله له ما يأكل سنته هو وعياله. ويكون لأحدهم الزيتونة ، فيعتصر منها ما يأكل هو وعياله سنته. فلما عظمت أحداثهم ، وتركوا عهد الله إليهم ، نزل بهم عدو فخرجوا إليه ، وأخرجوا معهم التابوت كما كانوا يخرجونه ، ثم زحفوا به ، فقوتلوا حتى استلب من بين أيديهم. فأتى ملكهم إيلاء فأخبر أن التابوت قد أخذ واستلب ، فمالت عنقه ، فمات كمدا عليه. فمرج أمرهم عليهم ، (11) ووطئهم عدوهم ، حتى أصيب من أبنائهم ونسائهم. (12) وفيهم نبي لهم قد كان الله بعثه إليهم ، فكانوا لا يقبلون منه شيئا ، يقال له " شمويل " ، (13) وهو الذي ذكر الله لنبيه محمد : " ألم تر إلى الملأ من بني إسرائيل من بعد موسى إذ قالوا لنبي لهم ابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله " إلى قوله : " وقد أخرجنا من ديارنا وأبنائنا " ، يقول الله : " فلما كتب عليهم القتال تولوا إلا قليلا منهم " ، إلى قوله : " إن في ذلك لآية لكم إن كنتم مؤمنين " .
قال ابن إسحاق : فكان من حديثهم فيما حدثني به بعض أهل العلم ، عن وهب بن منبه : أنه لما نزل بهم البلاء ووطئت بلادهم ، كلموا نبيهم شمويل بن بالي فقالوا : " ابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله " . وإنما كان قوام بني إسرائيل الاجتماع على الملوك ، وطاعة الملوك أنبياءهم. وكان الملك هو يسير بالجموع ، والنبي يقوم له أمره ويأتيه بالخبر من ربه. فإذا فعلوا ذلك صلح أمرهم ، فإذا عتت ملوكهم وتركوا أمر أنبيائهم فسد أمرهم. فكانت الملوك إذا تابعتها الجماعة على الضلالة تركوا أمر
__________
(1) (يأكلها) أي يغلب عليها ، ويصير له ما لها وخراجها . وفي حديث عمرو بن عنبسة : ( ومأكول حمير من آكلها ، الماكول : الرعية - والآكلون : الملوك . وهم يسمون سادة الأحياء الذين يأخذون المرباع وغيره " الآكال " ، وفي الحديث : " أمرت بقرية تأكل القرى " ، هي المدنية ، أي يغلب أهلها بالإسلام على غيرها من القرى .
(2) في المطبوعة : " يعدد ملوكا . . " وأثبت ما في المخطوطة ، وفي تاريخ الطبري : " يعد " .
(3) في المطبوعة : " مالكين " ، وفي المخطوطة : " ملكين " ، وأثبت ما في تاريخ الطبري .
(4) الزيادة التي بين القوسين من تاريخ الطبري ، ولا يستقيم الكلام إلا بها .
(5) في المطبوعة : " ويزعمون " وأثبت ما في المخطوطة والتاريخ .
(6) إلى هذا الموضع رواه الطبري بإسناده هذا في تاريخه1 : 239 / ثم الذي يليه في 1 / 240 فصلت بينهما روايات أخرى .
(7) (أليشع) في كتاب القوم .
(8) في المطبوعة والمخطوطة : " وكانوا . . . " ، وأثبت ما في التاريخ ، فهو أجود .
(9) بعد هذا في التاريخ ما نصه : " والسكنية - فيما ذكر ابن إسحق ، عن وهب بن منبه ، من بعض أهل إسرائيل - رأس هرة ميتة ، فإذا صرخت في التابوت بصراخ هرة ، أيقنوا بالنصر وجاءهم الفتح .
(10) ( عالي) في كتاب القوم وفي تاريخ الطبري " إيلاف " . والمرجح أن الذي في المطبوعة والمخطوطة هو الصواب ، لقربه من لفظ " عالي " وإن كان الطبري قد ذكر في تاريخه 1 : 243 " عيلى " ، . وعالي ، من عظماء كهنة بني إسرائيل وقضى لهم أربعين سنة . وخبر موت عالي عند استلاب التابوت ، مذكور في كتاب القوم " صموئيل الأول " الإصحاح الرابع .
(11) في تاريخ الطبري : " فمرج أمرهم بينهم " . ومرج الأمر : اختلط والتبس واضطرب في الفتنة .
(12) إلى هذا الموضع ، انتهى ما رواه الطبري في التاريخ 1 : 240 - 241 .
(13) (صموئيل) في كتاب القوم .

(5/295)


الرسل ، ففريقا يكذبون فلا يقبلون منه شيئا ، وفريقا يقتلون. فلم يزل ذلك البلاء بهم حتى قالوا له : " ابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله " . فقال لهم : إنه ليس عندكم وفاء ولا صدق ولا رغبة في الجهاد. فقالوا : إنما كنا نهاب الجهاد ونزهد فيه ، أنا كنا ممنوعين في بلادنا لا يطؤها أحد ، فلا يظهر علينا فيها عدو ، فأما إذ بلغ ذلك ، فإنه لا بد من الجهاد ، فنطيع ربنا في جهاد عدونا ، ونمنع أبناءها ونساءنا وذرارينا.
5632 - حدثت عن عمار بن الحسن قال ، حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع في قوله : " ألم تر إلى الملإ من بني إسرائيل " إلى : " والله عليم بالظالمين " ، قال الربيع : ذكر لنا - والله أعلم - أن موسى لما حضرته الوفاة ، استخلف فتاه يوشع بن نون على بني إسرائيل ، وأن يوشع بن نون سار فيهم بكتاب الله التوراة وسنة نبيه موسى. ثم إن وشع بن نون توفي ، واستخلف فيهم آخر ، فسار فيهم بكتاب الله وسنة نبيه موسى صلى الله عليه وسلم. ثم استخلف آخر فسار فيهم بسيرة صاحبيه. ثم استخلف آخر فعرفوا وأنكروا. ثم استخلف آخر ، فأنكروا عامة أمره. ثم استخلف آخر فأنكروا أمره كله. ثم إن بني إسرائيل أتوا نبيا من أنبيائهم حين أوذوا في أنفسهم وأموالهم ، (1) فقالوا له : سل ربك أن يكتب علينا القتال! فقال لهم ذلك النبي : " هل عسيتم إن كتب عليكم القتال ألا تقاتلوا " ، إلى قوله : " والله يؤتي ملكه من يشاء والله واسع عليم " .
5633 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج في قوله : " ألم تر إلى الملإ من بني إسرائيل من بعد موسى إذ قالوا لنبي لهم ابعث لنا ملكا " ، قال قال ابن عباس : هذا حين رفعت التوراة واستخرج أهل الإيمان ، وكانت الجبابرة قد أخرجتهم من ديارهم وأبنائهم. (2)
__________
(1) في المطبوعة : " في نفوسهم " ، وأثبت ما في المخطوطة .
(2) استخرج (بالبناء للمجهول) : حمل على الخروج من بلاده . وهذا لفظ لم يذكره أصحاب المعاجم ، وهو عربية معرقة .

(5/297)


5634 - حدثت عن الحسين بن الفرج قال ، سمعت أبا معاذ قال ، أخبرنا عبيد بن سليمان قال ، سمعت الضحاك يقول في قوله : " إذ قالوا لنبي لهم ابعث لنا ملكا " ، قال : هذا حين رفعت التوراة واستخرج أهل الإيمان.
* * *
وقال آخرون : كان سبب مسألتهم نبيهم ذلك ، ما : -
5635 - حدثني به موسى بن هارون قال ، حدثنا عمرو قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : " ألم تر إلى الملإ من بني إسرائيل من بعد موسى إذ قالوا لنبي لهم ابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله " ، قال : كانت بنو إسرائيل يقاتلون العمالقة ، وكان ملك العمالقة جالوت ، (1) وأنهم ظهروا على بني إسرائيل فضربوا عليهم الجزية وأخذوا توراتهم. وكانت بنو إسرائيل يسألون الله أن يبعث لهم نبيا يقاتلون معه. وكان سبط النبوة قد هلكوا ، فلم يبق منهم إلا امرأة حبلى ، فأخذوها فحبسوها في بيت ، رهبة أن تلد جارية فتبدلها بغلام ، لما ترى من رغبة بني إسرائيل في ولدها. فجعلت المرأة تدعو الله أن يرزقها غلاما ، فولدت غلاما فسمته شمعون. (2) فكبر الغلام ، فأرسلته يتعلم التوراة في بيت المقدس ، (3) وكفله شيخ من علمائهم وتبناه. فلما بلغ الغلام أن يبعثه الله نبيا ، أتاه جبريل والغلام نائم إلى جنب الشيخ وكان لا يتمن عليه أحدا غيره (4) فدعاه بلحن الشيخ : " يا شماول! " ، (5) فقام
__________
(1) ( جليات) في كتاب القوم .
(2) في تاريخ الطبري بعد قوله شمعون : " تقول " : الله سمع دعائي " . وانظر الأثر السالف رقم : 5628 وما قبله وما بعده .
(3) في المطبوعة : " فأرسلته يتعلم " ، وأثبت ما في المخطوطة والتاريخ .
(4) في المطبوعة : " لا يأتمن " ، وفي تاريخ الطبري مطبوعة مصر : " لايئتمن " في الأوربية والمخطوطة : " لا يتمن " . وأمنه وأمنه وائتمنه واتمنه (بتشديد التاء) سواء ، وانظر تعليق صاحب اللسان على قول من قال إن الأخيرة نادرة .
(5) اللحن : اللغة و اللهجة . وفي التاريخ : " شمويل " ، وظاهر هذا الخبر يدل على أن " شمعون " هو " شمويل " وأنهما لغتان بمعنى واحد . وانظر الآثار السالفة 5626 - 5629 ، والتعليقات عليها .

(5/298)


الغلام فزعا إلى الشيخ ، فقال : يا أبتاه ، دعوتني ؟ فكره الشيخ أن يقول : " لا " فيفزع الغلام ، فقال : يا بني ارجع فنم! فرجع فنام. ثم دعاه الثانية ، فأتاه الغلام أيضا فقال : دعوتني ؟ فقال : ارجع فنم ، فإن دعوتك الثالثة فلا تجبني! فلما كانت الثالثة ، ظهر له جبريل فقال : اذهب إلى قومك فبلغهم رسالة ربك ، فإن الله قد بعثك فيهم نبيا. فلما أتاهم كذبوه وقالوا : استعجلت بالنبوة ولم تئن لك! (1) وقالوا : إن كنت صادقا فابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله ، آية من نبوتك! فقال لهم شمعون : عسى إن كتب عليكم القتال أن لا تقاتلوا. (2)
* * *
قال أبو جعفر : وغير جائز في قول الله تعالى ذكره : " نقاتل في سبيل الله " إذا قرئ " بالنون " غير الجزم ، على معنى المجازاة وشرط الأمر. فإن ظن ظان أن الرفع فيه جائز وقد قرئ بالنون ، بمعنى : الذي نقاتل به في سبيل الله ، (3) فإن ذلك غير جائز. لأن العرب لا تضمر حرفين. (4) ولكن لو كان قرئ ذلك " بالياء " لجاز رفعه ، لأنه يكون لو قرئ كذلك صلة ل " الملك " ، فيصير تأويل الكلام حينئذ : ابعث لنا الذي يقاتل في سبيل الله ، كما قال تعالى ذكره : ( وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ ) [سورة البقرة : 129] ، لأن قوله " يتلو " من صلة الرسول. (5)
* * *
__________
(1) في المطبوعة " ولم تنل لك " وهو تصحيف . وفي تاريخ الطبري : " ولم تبالك " ، من المبالاة ، وهي ليست بشيء . وفي الدر المنثور : " ولم يأن لك " ، وفي المخطوطة : " ولم تنل لك " وظاهر أنها " تئن " . من " آن يئين أينا " : أي حان . مثل " أني لك يأني " ، بمعناه ، أي لم تبلغ بعد أوان أن تكون نبيا .
(2) الأثر : 5635 - في تاريخ الطبري 1 : 242 ، والدر المنثور 1 : 315 ، وفي المطبوعة ختم الأثر بقوله : " والله أعلم " ، وهي زيادة من ناسخ لا معنى لها هنا ، وليست في المخطوطة .
(3) في المخطوطة والمطبوعة : " الذي نقاتل " بحذف " به " ، وهو خطأ يدل عليه السياق ، وما جاء في معاني القرآن للفراء 1 : 157 .
(4) يعني " الذي " و " به " .
(5) انظر معاني القرآن للفراء 1 : 157 - 162 ، فهو قد استوعب القول في هذه القراءة ، وفي هذا الباب من العربية . و " الصلة " : التابع ، كالنعت والحال ، ويعني به نعت النكرة ، هنا .

(5/299)


القول في تأويل قوله : { قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلا تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلا قَلِيلا مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (246) }
قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بذلك : قال النبي الذي سألوه أن يبعث لهم ملكا يقاتلوا في سبيل الله : " هل عسيتم " ، هل ، تعدون (1) " إن كتب " ، يعني : إن فرض عليكم القتال (2) " ألا تقاتلوا " ، يعني : أن لا تفوا بما تعدون الله من أنفسكم ، من الجهاد في سبيله ، فإنكم أهل نكث وغدر وقلة وفاء بما تعدون ؟ " قالوا وما لنا ألا نقاتل في سبيل الله " ، يعني : قال الملأ من بني إسرائيل لنبيهم ذلك : وأي شيء يمنعنا أن نقاتل في سبيل الله عدونا وعدو الله " وقد أخرجنا من ديارنا وأبنائنا " ، بالقهر والغلبة ؟
* * *
فإن قال لنا قائل : وما وجه دخول " أن " في قوله : " وما لنا ألا نقاتل في سبيل الله " ، وحذفه من قوله : ( وَمَا لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ ) ؟ [سورة الحديد : 8]
قيل : هما لغتان فصيحتان للعرب : تحذف " أن " مرة مع قولها : (3) " ما لك " ، فتقول : " ما لك لا تفعل كذا " ، بمعنى : ما لك غير فاعله ، كما قال الشاعر : (4)
* ما لك ترغين ولا ترغو الخلف * ...
__________
(1) انظر هذا التفسير في مجاز القرآن لأبي عبيدة 1 : 77 .
(2) انظر معنى " كتب " فيما سلف 3 : 357 ، 364 - 365 ، 409/ 4 : 297 .
(3) في المطبوعة والمخطوطة : " مع قولنا " ، والسياق الآتي يقتضي ما أثبت .
(4) لم أعرف قائله ، وإن كنت أذكر أنى قرأته مع أبيات أخر من الرجز . وهو في معاني القرآن للفراء 1 : 163 ، واللسان (خلف) . والخلفة (بفتح الخاء وكسر اللام) الناقة الحامل ، وجمعها خلف ، وهو نادر ، وهذا البيت شاهده ، وإنما الجمع السائر أن يقال للنوق الحوامل " مخاض " ، كقولهم : " امرأة ، ونسوه " ، وهذا الراجز يقول لناقته : ما زغاؤك ، والحوامل لا ترغو ؟ يعني أنها إنما ترغو حنينا إلى بلاده وبلادها . حيث فارق من كان يحب ، كما قال الشماطيط الغطفاني لناقته : أرار الله مخك في السلامى ... إلى من بالحنين تشوقينا!!
فإني مثل ما تجدين وجدي ، ... ولكني أسر وتعلنينا!
وبي مثل الذي بك ، غير أني ... أجل عن العقال ، وتعقلينا!
هذا ، وقد كان في المطبوعة " ملك ترعين ولا ترعوا الخلف " ، وهو في المخطوطة على الصواب ، ولكنه غير منقوط كعادة ناسخها في كثير من المواضع .

(5/300)


وذلك هو الكلام الذي لا حاجة بالمتكلم به إلى الاستشهاد على صحته ، لفشو ذلك على ألسن العرب.
وتثبت " أن " فيه أخرى ، توجيها لقولها : " ما لك " إلى معناه ، إذ كان معناه : ما منعك ؟ كما قال تعالى ذكره : ( مَا مَنَعَكَ أَلا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ ) [سورة الأعراف : 12] ، ثم قال في سورة أخرى في نظيره : ( مَا لَكَ أَلا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ ) [سورة الحجر : 32] ، فوضع " ما منعك " موضع " ما لك " ، و " ما لك " موضع " ما منعك " ، لاتفاق معنييهما ، وإن اختلفت ألفاظهما ، كما تفعل العرب ذلك في نظائره مما تتفق معانيه وتختلف ألفاظه ، كما قال الشاعر : (1)
يقول إذا اقلولى عليها وأقردت : ... ألا هل أخو عيش لذيذ بدائم? (2)
__________
(1) هو الفرزدق .
(2) ديوانه : 863 ، والنقائض : 753 ، ومعاني القرآن للفراء 1 : 164 ، واللسان (قرد) (قلا) (هلل) يهجمو جريرا ، ويعرض بالبعث ، وقبله ، يعرض بأن قوم جرير ، وهم كليب بن يربوع ، كان يغشون الأتن : وليس كليبي ، إذا جن ليله ... إذا لم يجد ريح الأتان ، بنائم
يقول - إذا اقلولي ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وفي المطبوعة : " تقول " . وقد شرحه ابن بري على هذه الرواية شرحا فاسدا جدا في " قرد " ، وشرحه ابن الأعرابي أيضًا في (قلا) على هذه الرواية ، فكان أيضًا شرحا شديد الفساد . ورغم أنه أراد امرأة يزنى بها . والصواب أنه أراد ما ذكرت من غشيان إناث الحمير ، لا إناث البشر!! وقوله : " اقلولي " أي علا على ظهرها مستوفزا قلقا لا يستقر ، واختيار الفرزدق لهذا الحرف عجب من العجب في تصوير ما أراد . وأقرد الرجل وغيره : سكن وتماوت . يريد أن الأتان قد رضيت فأسمحت فسكت له . فلما بلغ ذلك منه ومنها قال : " ألا هل أخو عيش لذيذ بدائم " ، يكشف عن شدة حبه وشغفه بذلك ، وأنه يأسف ويتحسر علي أنه أمر ينقضي ولا يدوم . وقد زعموا أن " هل " هنا بمعنى الجحد أي ليس أخو عيش لذيذ بدائم . (اللسان : هلل) .

(5/301)


فأدخل في " دائم " " الباء " مع " هل " ، وهي استفهام. وإنما تدخل في خبر " ما " التي في معنى الجحد ، لتقارب معنى الاستفهام والجحد. (1)
* * *
وكان بعض أهل العربية يقول : (2) أدخلت " أن " في : " ألا تقاتلوا " ، لأنه بمعنى قول القائل : ما لك في ألا تقاتل. ولو كان ذلك جائزا ، لجاز أن يقال : " ما لك أن قمت وما لك أنك قائم " ، وذلك غير جائز. لأن المنع إنما يكون للمستقبل من الأفعال ، كما يقال : " منعتك أن تقوم " ، ولا يقال : " منعتك أن قمت " ، فلذلك قيل في " مالك " : " مالك ألا تقوم " ولم يقل : " ما لك أن قمت " .
* * *
وقال آخرون منهم : (3) " أن " ها هنا زائدة بعد " ما لنا " ، كما تزاد بعد " لما " و " لو " ، (4) وهي تزاد في هذا المعنى كثيرا. قال : ومعناه : وما لنا لا نقاتل في سبيل الله ؟ فأعمل " أن " وهي زائدة ، وقال الفرزدق :
لو لم تكن غطفان لا ذنوب لها... إذن للام ذوو أحسابها عمرا (5)
__________
(1) انظر معاني القرآن للفراء 1 : 163 - 164 ، وقد استوفى الكلام فيما فتحه الطبري .
(2) هو الكسائي ، كما صرح به الفراء في معاني القرآن 1 : 165 .
(3) هو أبو الحسن الأخفش ، كما يتبين من تفسير أبي حيان والقرطبي والمغني .
(4) في المطبوعة : " زائدة بعد فلما ولما ولو " ، وهو تخليط . وفي المخطوطة " بعد مليما . . . " مضطربة الكتبة ، فالصواب عندي أن تكون : " مالنا " ، ولما أخطأ الناسخ الكتابة والقراءة ، حذف " كما تزاد " ، وهذا هو صواب المعنى والحمد لله
(5) ديوانه : 283 ، وسيأتي في التفسير 9 : 165 ، والخزانة 2 : 87 ، والعيى (الخزانة) 2 : 322 يهجو عمر بن هبيرة الفزاري وهو أحد الأمراء وعمال سليمان بن عبد الملك . وقومه . فزارة ابن ذبيان ، من ولد غطفان بن سعد بن قيس عيلان بن مضر . وهو شعر جيد في بابه ، وقبل البيت أبيات منها : يا قيس عيلان ، إني كنت قلت لكم ... يا قيس عيلان : أن لا تسرعوا الضجرا
إني متى أهج قوما لا أدع لهم ... سمعا ، إذ استمعوا صوتي ، ولا بصرا
ثم قال بعد ذلك أبيات : لو لم تكن غطفان . . . . . . .
هذا مجمع من رأيت يذهب إلى إن " الذنوب " جمع " ذنب " ، وهو عندي ليس بشيء ، وإنما انحطوا في آثار الأخفش ، حين استشهد بالبيت على إعمال " لا " الزائدة . وصواب البيت عندي (لا ذنوب لها) وليس في البيت شاهد عندئذ . والظاهر أن الأخفش أخطأ في الاستشهاد به . والذنوب( بفتح الذال) : الخط والنصب ، وأصله الدلو الملأى . وهو بهذا المعنى في قوله تعالى : { فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوبًا مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحَابِهِمْ } ، أي حظا من العذاب . قال الفراء : " الذنوب الدلو العظيمة ، ولكن العرب تذهب به إلى الحظ والنصيب " . وقال الزمخشري : " ولهم ذنوب من كذا " أي نصيب ، قال عمرو ابن شأس : وفي كل حي قد خبطت بنعمة ... فحق لشأس من نداك ذنوب
أقول : يقول الفرزدق : لو لم تكن غطفان خسيسة لاحظ لها من الشرف والحسب والمروءة - " إذن للام ذوو أحسابها عمرا " . وبذلك يبرأ البيت من السخف ومن تكلف النحاة . هذا وانظر هجاء الفرزدق لعمر بن هبيرة في طبقات فحول الشعراء : 287 - 288وقوله : فسد الزمان وبدلت أعلامه ... حتى أمية عن فزارة تنزع
يقول : تبدلت الدنيا ، حتى صارت أمية تحتمي بفزارة وتصدر عن رأيها . يتعجب من ذلك لخسة فزارة عنده .

(5/302)


والمعنى : لو لم تكن غطفان لها ذنوب " ولا " زائدة فأعملها. (1)
وأنكر ما قال هذا القائل من قوله الذي حكينا عنه ، آخرون. وقالوا : غير جائز أن تجعل " أن " زائدة في الكلام وهو صحيح في المعنى وبالكلام إليه الحاجة قالوا : والمعنى : ما يمنعنا ألا نقاتل - فلا وجه لدعوى مدع أن " أن " زائدة ، معنى مفهوم صحيح. قالوا : وأما قوله :
* لو لم تكن غطفان لا ذنوب لها * ...
__________
(1) استشهد بهذا على إعمال الزائدة وهو " لا " ، كما أعملت " أن " في الآية .

(5/303)


فإن " لا " غير زائدة في هذا الموضع ، لأنه جحد ، والجحد إذا جحد صار إثباتا. قالوا : فقوله : " لو لم تكن غطفان لا ذنوب لها " ، إثبات الذنوب لها ، كما يقال : " ما أخوك ليس يقوم " ، بمعنى : هو يقوم.
* * *
وقال آخرون : معنى قوله : " ما لنا ألا نقاتل " : ما لنا ولأن لا نقاتل ، ثم حذفت " الواو " فتركت ، كما يقال في الكلام : " ما لك ولأن تذهب إلى فلان " ، فألقي منها " الواو " ، لأن " أن " حرف غير متمكن في الأسماء. وقالوا : نجيز أن يقال : " ما لك أن تقوم " ، ولا نجيز : " ما لك القيام " ، لأن القيام اسم صحيح و " أن " اسم غير صحيح. وقالوا : قد تقول العرب : " إياك أن تتكلم " ، بمعنى : إياك وأن تتكلم.
* * *
وأنكر ذلك من قولهم آخرون وقالوا : لو جاز أن يقال ذلك على التأويل الذي تأوله قائل من حكينا قوله ، لوجب أن يكون جائزا : " ضربتك بالجارية وأنت كفيل " ، بمعنى : وأنت كفيل بالجارية وأن تقول : " رأيتك إيانا وتريد " ، بمعنى : " رأيتك وإيانا تريد " . (1) لأن العرب تقول : " إياك بالباطل تنطق " ، قالوا : فلو كانت " الواو " مضمرة في " أن " ، لجاز جميع ما ذكرنا ، ولكن ذلك غير جائز ، لأن ما بعد " الواو " من الأفاعيل غير جائز له أن يقع على ما قبلها ، (2) واستشهدوا على فساد قول من زعم أن " الواو " مضمرة مع " أن " بقول الشاعر :
فبح بالسرائر في أهلها... إياك في غيرهم أن تبوحا (3)
__________
(1) في المطبوعة : " رأيتك أبانا ويزيد ، بمعنى : رأيتك وأبانا يزيد " ، وهو كلام ساقط هالك . والصواب من المخطوطة ، وإن كان غير منقوط الحروف ، ومن معاني القرآن للفراء 1 : 165 .
(2) " الأفاعيل " الأفعال . ووقوعها على ما قبلها ، إما بالعمل فيه أو بالتعليق به .
(3) لم أعرف قائله ، وهو في معاني القرآن للفراء 1 : 165 ، والسرائر جمع سريرة ، والسريرة : السر هنا .

(5/304)


وأنَّ " أن تبوحا " ، لو كان فيها " واو " مضمرة ، لم يجز تقديم " في غيرهم " عليها. (1)
* * *
وأما تأويل قوله تعالى : " وقد أخرجنا من ديارنا وأبنائنا " ، فإنه يعني : وقد أخرج من غلب عليه من رجالنا ونسائنا من ديارهم وأولادهم ، ومن سبي. وهذا الكلام ظاهره العموم وباطنه الخصوص ، لأن الذين قالوا لنبيهم : " ابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله " ، كانوا في ديارهم وأوطانهم ، وإنما كان أخرج من داره وولده من أسر وقهر منهم.
* * *
وأما قوله : " فلما كتب عليهم القتال تولوا إلا قليلا منهم " ، يقول : فلما فرض عليهم قتال عدوهم والجهاد في سبيله " تولوا إلا قليلا منهم " ، يقول : أدبروا مولين عن القتال ، وضيعوا ما سألوه نبيهم من فرض الجهاد.
والقليل الذي استثناهم الله منهم ، هم الذين عبروا النهر مع طالوت. وسنذكر سبب تولي من تولى منهم ، وعبور من عبر منهم النهر بعد إن شاء الله ، إذا أتينا عليه.
* * *
يقول الله تعالى ذكره : " والله عليم بالظالمين " ، يعني : والله ذو علم بمن ظلم منهم نفسه ، فأخلف الله ما وعده من نفسه ، وخالف أمر ربه فيما سأله ابتداء أن يوجبه عليه.
* * *
وهذا من الله تعالى ذكره تقريع لليهود الذين كانوا بين ظهراني مهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، في تكذيبهم نبينا محمدا صلى الله عليه وسلم ، ومخالفتهم أمر ربهم. يقول الله تعالى ذكره لهم : إنكم ، يا معشر اليهود ، عصيتم الله وخالفتم أمره فيما سألتموه أن يفرضه عليكم ابتداء ، من غير أن يبتدئكم ربكم بفرض ما عصيتموه
__________
(1) في المخطوطة والمطبوعة : " تقديم غيرهم " بإسقاط " في " ، والصواب من معاني القرآن للفراء 1 : 166 ، وقد استوفى الكلام في ذلك ، وكأن ما هنا منقول عنه بنصه .

(5/305)


وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (247)

فيه ، فأنتم بمعصيته - فيما ابتدأكم به من إلزام فرضه - أحرى.
* * *
وفي هذا الكلام متروك قد استغني بذكر ما ذكر عما ترك منه. وذلك أن معنى الكلام : " قالوا : وما لنا ألا نقاتل في سبيل الله وقد أخرجنا من ديارنا وأبنائنا " فسأل نبيهم ربهم أن يبعث لهم ملكا يقاتلون معه في سبيل الله ، فبعث لهم ملكا ، وكتب عليهم القتال " فلما كتب عليهم القتال تولوا إلا قليلا منهم والله عليم بالظالمين " .
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ }
قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بذلك : وقال للملأ من بني إسرائيل نبيهم شمويل : إن الله قد أعطاكم ما سألتم ، وبعث لكم طالوت ملكا. فلما قال لهم نبيهم شمويل ذلك ، قالوا : أنى يكون لطالوت الملك علينا ، وهو من سبط بنيامين بن يعقوب وسبط بنيامين سبط لا ملك فيهم ولا نبوة ونحن أحق بالملك منه ، لأنا من سبط يهوذا بن يعقوب " ولم يؤت سعة من المال " ، يعني : ولم يؤت طالوت كثيرا من المال ، لأنه سقاء وقيل : كان دباغا.
* * *
وكان سبب تمليك الله طالوت على بني إسرائيل ، وقولهم ما قالوا لنبيهم شمويل : " أنى يكون له الملك علينا ونحن أحق بالملك منه ولم يؤت سعة من المال " ، ما : -
5636 - حدثنا به ابن حميد قال ، حدثنا سلمة بن الفضل قال ، حدثني محمد بن إسحاق قال ، حدثني بعض أهل العلم ، عن وهب بن منبه قال : لما قال الملأ من بني إسرائيل لشمويل بن بالي ما قالوا له ، سأل الله نبيهم شمويل أن يبعث

(5/306)


لهم ملكا ، فقال الله له : انظر القرن الذي فيه الدهن في بيتك ، (1) فإذا دخل عليك رجل فنش الدهن الذي في القرن ، (2) فهو ملك بني إسرائيل ، فادهن رأسه منه وملكه عليهم ، وأخبره بالذي جاءه - (3) فأقام ينتظر متى ذلك الرجل داخلا عليه. (4) وكان طالوت رجلا دباغا يعمل الأدم ، (5) وكان من سبط بنيامين بن يعقوب. وكان سبط بنيامين سبطا لم يكن فيه نبوة ولا ملك. فخرج طالوت في طلب دابة له أضلته ، (6) ومعه غلام له. فمرا ببيت النبي عليه السلام ، فقال غلام طالوت لطالوت : لو دخلت بنا على هذا النبي فسألناه عن أمر دابتنا ، فيرشدنا ويدعو لنا فيها بخير! فقال طالوت. ما بما قلت من بأس! فدخلا عليه ، فبينما هما عنده يذكران له شأن دابتهما ويسألانه أن يدعو لهما فيها ، إذ نش الدهن الذي في القرن ، فقام إليه النبي عليه السلام فأخذه ، ثم قال لطالوت : قرب رأسك! فقربه ، فدهنه منه ، ثم قال : أنت ملك بني إسرائيل الذي أمرني الله أن أملكك عليهم! وكان اسم " طالوت " بالسريانية : شاول (7) بن قيس بن أبيال (8) بن ضرار (9) بن يحرب (10) بن أفيح بن آيس (11) بن بنيامين بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم فجلس عنده ، وقال الناس : ملك طالوت!! فأتت عظماء بني إسرائيل نبيهم وقالوا له : ما شأن طالوت يملك علينا ، وليس في بيت النبوة المملكة ؟ قد عرفت أن النبوة والملك في آل لاوي وآل يهوذا ! فقال لهم : " إن الله اصطفاه عليكم وزاده بسطة في العلم والجسم " .
5637 - حدثنا المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا إسماعيل ، عن عبد الكريم ، عن عبد الصمد بن معقل ، عن وهب بن منبه قال : قالت بنو إسرائيل لأشمويل : (12) ابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله ! قال : قد كفاكم الله القتال ! قالوا : إنا نتخوف من حولنا ، فيكون لنا ملك نفزع إليه ! فأوحى الله إلى أشمويل : أن ابعث لهم طالوت ملكا ، وادهنه بدهن القدس. فضلت حمر لأبي طالوت ، (13)
فأرسله وغلاما له يطلبانها ، فجاءا إلى أشمويل يسألانه عنها ، (14) فقال : إن الله قد بعثك ملكا على بني إسرائيل. قال : أنا ؟ قال : نعم! قال : أو ما علمت أن سبطي أدنى أسباط بني إسرائيل ؟ (15) قال : بلى. قال : أفما علمت أن قبيلتي أدنى قبائل سبطي ؟! قال : بلى! قال : أما علمت أن بيتي أدنى بيوت قبيلتي ؟ قال :
__________
(1) القرن : قرن الثور وغيره ، وكأنه أراد هنا : القنينة التي يكون فيها الدهن والطيب ، وكأنهم كانوا يتخذونها من قرون البقر وغيرها ، وقد سموا المحجمة التي يحتجم بها " قرنا " ولم أجد هذا الحرف بهذا المعنى في كتب اللغة ، ولكنه صحيح كما رأيت .
(2) نش الماء ينش نشا : ونشيشا : صوت عند الغليان .
(3) في المخطوطة " بالذي حاه " غير منقوطة ، ولولا أن في المطبوعة ، صواب أيضًا ، لقلت إنها : " بالذي حباه الله " ، يعني الملك .
(4) هكذا جاءت هذه الجملة في المطبوعة والمخطوطة والدر المنثور 1 : 351 . وأخشى أن تكون " متى " زائدة ، أو تكون " مأتى ذلك الرجل 00 " .
(5) الأدم جمع أديم . وهو جمع عزيز ، وقال سيبوله : هو اسم للجمع . قال التوزي : " الجلد أول ما يدبغ فهو أديم ، فإذا رد في الدباغ مرة أخرى فهو اللديم " .
(6) يقال : أضله الأمر : إذا ذهب عنه وفارقه فلم يقدر عليه . وهذا من عجيب العربية . وفي المخطوطة : " أطلته " ، وهو خطأ ، والصواب ما في المطبوعة والدر المنثور .
(7) في المخطوطة والمطبوعة : " شادل " . والصواب من التاريخ 1 : 247 ، والدر المنثور 1 : 315 ، وهو كذلك في كتاب القوم .
(8) (أبيئيل) في كتاب القوم .
(9) (صرور) في كتاب القوم .
(10) (بكورة) في كتاب القوم ، وفي التاريخ " بحرت " ، وكأنها الصواب .
(11) لم أجد في كتاب القوم ، وفي التاريخ (أيش) .
(12) في تاريخ الطبري 1 : 244 " لأشمويل " ، وفيما سيأتي بعد " أشمويل " في سائر المواضع .
وكذلك في المخطوطة ، أما المطبوعة ، فكان فيما " لشمويل " ، وفي سائر المواضع " شمويل " فأثبيت ما في المخطوطة والتاريخ .
(13) في المطبوعة : " وضلت " ، وأثبت ما في المخطوطة والتاريخ .
(14) في المخطوطة والمطبوعة : " فجاؤوا . . . يسألونه عنها " ، والصواب ما في التاريخ كما أثبته .
(15) في المخطوطة والمطبوعة : " وما علمت " وأثبت ما في التاريخ ، وهو مقتضى السياق .

(5/307)


بلى! قال : فبأية آية ؟ قال : بآية أنك ترجع وقد وجد أبوك حمره ، وإذا كنت بمكان كذا وكذا نزل عليك الوحي! فدهنه بدهن القدس. فقال لبني إسرائيل : " إن الله قد بعث لكم طالوت ملكا قالوا أنى يكون له الملك علينا ونحن أحق بالملك منه ولم يؤت سعة من المال قال إن الله اصطفاه عليكم وزاده بسطة في العلم والجسم " .
5638 - حدثني موسى بن هارون قال ، حدثنا عمرو بن حماد قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي قال : لما كذبت بنو إسرائيل شمعون ، (1) وقالوا له : إن كنت صادقا ، فابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله آية من نبوتك. قال لهم شمعون : عسى أن كتب عليكم القتال ألا تقاتلوا ؟ " قالوا وما لنا ألا نقاتل في سبيل الله " الآية دعا الله ، فأتي بعصا تكون مقدارا على طول الرجل الذي يبعث فيهم ملكا ، فقال : إن صاحبكم يكون طوله طول هذه العصا ، فقاسوا أنفسهم بها فلم يكونوا مثلها. وكان طالوت رجلا سقاء يسقي على حمار له ، فضل حماره ، فانطلق يطلبه في الطريق. فلما رأوه دعوه فقاسوه بها ، فكان مثلها ، فقال لهم نبيهم : " إن الله قد بعث لكم طالوت ملكا " . قال القوم : ما كنت قط أكذب منك الساعة! ونحن من سبط المملكة ، وليس هو من سبط المملكة ، ولم يؤت سعة من المال فنتبعه لذلك! فقال النبي : " إن الله اصطفاه عليكم وزاد بسطة في العلم والجسم " . (2)
5639 - حدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي قال ، حدثنا أبو أحمد الزبيري قال ، حدثنا شريك ، عن عمرو بن دينار ، عن عكرمة قال : كان طالوت سقاء يبيع الماء.
5640 - حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قال : بعث الله طالوت ملكا ، وكان من سبط بنيامين ، سبط لم يكن فيهم
__________
(1) انظر الأثر السالف : 5635 ، وما قبله في الاختلاف في اسم هذا النبي عليه السلام .
(2) الأثر : 5638 - هو تتمة الأثر السالف : 5635 ، وهو في تاريخ الطبري بعلوله 1 : 242 - 243 .

(5/309)


مملكة ولا نبوة. وكان في بني إسرائيل سبطان : سبط نبوة ، وسبط مملكة. وكان سبط النبوة سبط لاوي ، إليه موسى وسبط المملكة يهوذا ، إليه داود وسليمان. فلما بعث من غير سبط النبوة والمملكة ، أنكروا ذلك وعجبوا منه وقالوا : " أنى يكون له الملك علينا ونحن أحق بالملك منه " ؟ قالوا : وكيف يكون له الملك علينا وليس من سبط النبوة ولا من سبط المملكة ! فقال الله تعالى ذكره : " إن الله اصطفاه عليكم " .
5641 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : " ابعث لنا ملكا " ، قال لهم نبيهم : " إن الله قد بعث لكم طالوت ملكا. قالوا : " أنى يكون له الملك علينا " ؟ قال : وكان من سبط لم يكن فيهم ملك ولا نبوة ، فقال : " إن الله اصطفاه عليكم وزاده بسطة في العلم والجسم " .
5642 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا أبو زهير ، عن جويبر ، عن الضحاك في قوله : " وقال لهم نبيهم إن الله قد بعث لكم طالوت ملكا " ، وكان في بني إسرائيل سبطان : سبط نبوة ، وسبط خلافة ، فلذلك قالوا : " أنى يكون له الملك علينا " ؟ يقولون : ومن أين يكون له الملك علينا ، وليس من سبط النبوة ولا سبط الخلافة " ؟ قال : " إن الله اصطفاه عليكم وزاده بسطة في العلم والجسم " .
5643 - حدثت عن الحسين بن الفرج قال ، سمعت أبا معاذ قال ، حدثنا عبيد بن سليمان ، قال ، سمعت الضحاك بن مزاحم يقول في قوله : " أنى يكون له الملك علينا " ، فذكر نحوه.
5644 - حدثت عن عمار بن الحسن قال ، حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع قال : لما قالت بنو إسرائيل لنبيهم : سل ربك أن يكتب علينا القتال! فقال لهم ذلك النبي : " هل عسيتم إن كتب عليكم القتال " ؟ الآية ، قال : فبعث الله طالوت ملكا. قال : وكان في بني إسرائيل سبطان : سبط نبوة وسبط مملكة ، ولم يكن طالوت من سبط النبوة ولا من سبط المملكة. فلما بعث لهم

(5/310)


ملكا ، أنكروا ذلك وعجبوا وقالوا : " أنى يكون له الملك علينا ونحن أحق بالملك منه ولم يؤت سعة من المال " ؟ قالوا : وكيف يكون له الملك علينا وليس من سبط النبوة ولا من سبط المملكة ؟ فقال : " إن الله اصطفاه عليكم " الآية.
5645 - حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قال : أما ذكر طالوت إذ قالوا : " أنى يكون له الملك علينا ونحن أحق بالملك منه ولم يؤت سعة من المال " ؟ فإنهم لم يقولوا ذلك إلا أنه كان في بني إسرائيل سبطان : كان في أحدهما النبوة ، وكان في الآخر الملك ، فلا يبعث إلا من كان من سبط النبوة ، ولا يملك على الأرض أحد إلا من كان من سبط الملك. وأنه ابتعث طالوت حين ابتعثه وليس من أحد السبطين ، واختاره عليهم ، وزاده بسطة في العلم والجسم. ومن أجل ذلك قالوا : " أنى يكون له الملك علينا ونحن أحق بالملك منه " ، وليس من واحد من السبطين ؟ قال : ف " إن الله اصطفاه عليكم " إلى : " والله واسع عليم " .
5646 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج قال ، قال ابن عباس قوله : " ألم تر إلى الملإ من بني إسرائيل من بعد موسى " الآية ، هذا حين رفعت التوراة واستخرج أهل الإيمان ، وكانت الجبابرة قد أخرجتهم من ديارهم وأبنائهم " فلما كتب عليهم القتال " ، وذلك حين أتاهم التابوت. قال : وكان من بني إسرائيل سبطان : سبط نبوة وسبط خلافة ، فلا تكون الخلافة إلا في سبط الخلافة ، ولا تكون النبوة إلا في سبط النبوة ، فقال لهم نبيهم : " إن الله قد بعث لكم طالوت ملكا قالوا أنى يكون له الملك علينا ونحن أحق بالملك منه " ، وليس من أحد السبطين : لا من سبط النبوة ، ولا سبط الخلافة ؟ " قال إن الله اصطفاه عليكم " ، الآية. (1)
* * *
__________
(1) الأثر : 5646 - هو تتمة الأثر السالف : 5633 .

(5/311)


وقد قيل : إن معنى " الملك " في هذا الموضع : الإمرة على الجيش.
* ذكر من قال ذلك :
5647 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج قال ، قال مجاهد قوله : " إن الله قد بعث لكم طالوت ملكا " ، قال : كان أمير الجيش.
5648 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد بمثله إلا أنه قال : كان أميرا على الجيش.
* * *
قال أبو جعفر : وقد بينا معنى " أنى " ، ومعنى " الملك " ، فيما مضى ، فأغنى ذلك عن إعادته في هذا الموضع. (1)
* * *
القول في تأويل قوله : { قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ }
قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بقوله : " إن الله اصطفاه عليكم " ، قال نبيهم شمويل لهم : " إن الله اصطفاه عليكم " ، يعني : اختاره عليكم ، كما : -
5649 - حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : " اصطفاه عليكم " ، اختاره. (2)
5650 - حدثني المثنى قال حدثنا إسحاق قال ، حدثنا أبو زهير ، عن جويبر ، عن الضحاك : " إن الله اصطفاه عليكم " ، قال : اختاره عليكم.
__________
(1) انظر تفسير " أنى " فيما سلف 4 : 398 - 416 ، وتفسير معنى " الملك " فيما سلف 1 : 148 - 150 ، ثم 2 : 488 .
(2) انظر تفسير " الاصطفاء " فيما سلف 3 : 91 .

(5/312)


5651 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد : " إن الله اصطفاه عليكم " ، اختاره.
* * *
وأما قوله : " وزاده بسطة في العلم والجسم " ، فإنه يعني بذلك أن الله بسط له في العلم والجسم ، وآتاه من العلم فضلا على ما أتى غيره من الذين خوطبوا بهذا الخطاب. وذلك أنه ذكر أنه أتاه وحي من الله ، وأما " في الجسم " ، فإنه أوتي من الزيادة في طوله عليهم ما لم يؤته غيره منهم. كما : -
5652 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا إسماعيل بن عبد الكريم قال ، حدثني عبد الصمد بن معقل ، عن وهب بن منبه قال : لما قالت بنو إسرائيل : " أنى يكون له الملك علينا ونحن أحق بالملك منه ولم يؤت سعة من المال قال إن الله اصطفاه عليكم وزاده بسطة في العلم والجسم " . قال : واجتمع بنو إسرائيل فكان طالوت فوقهم من منكبيه فصاعدا.
* * *
وقال السدي : أتى النبي صلى الله عليه وسلم بعصا تكون مقدارا على طول الرجل الذي يبعث فيهم ملكا ، فقال : إن صاحبكم يكون طوله طول هذه العصا. فقاسوا أنفسهم بها ، فلم يكونوا مثلها. فقاسوا طالوت بها فكان مثلها.
5653 - حدثني بذلك موسى قال ، حدثنا عمرو قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي. (1)
* * *
وقال آخرون : بل معنى ذلك : " إن الله اصطفاه عليكم وزاده " مع اصطفائه إياه " بسطة في العلم والجسم " . يعني بذلك : بسط له مع ذلك في العلم والجسم.
* ذكر من قال ذلك :
5654 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد : " إن الله اصطفاه عليكم وزاده بسطة في العلم والجسم " ، بعد هذا.
* * *
__________
(1) الأثر : 5653 - هو بعض الأثر السالف : 5638 .

(5/313)


القول في تأويل قوله : { وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (247) }
قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بذلك : أن الملك لله وبيده دون غيره يؤتيه " يؤتيه " ، يقول : يؤتي ذلك من يشاء ، فيضعه عنده ويخصه به ، ويمنعه من أحب من خلقه. (1) يقول : فلا تستنكروا ، يا معشر الملإ من بني إسرائيل ، أن يبعث الله طالوت ملكا عليكم ، وإن لم يكن من أهل بيت المملكة ، فإن الملك ليس بميراث عن الآباء والأسلاف ، ولكنه بيد الله يعطيه من يشاء من خلقه ، فلا تتخيروا على الله.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال جماعة من أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
5655 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة قال ، حدثني ابن إسحاق قال ، حدثني بعض أهل العلم ، عن وهب بن منبه : " والله يؤتي ملكه من يشاء " ، الملك بيد الله يضعه حيث شاء ، ليس لكم أن تختاروا فيه.
5656 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج قال ، قال ابن جريج قال ، مجاهد : ملكه سلطانه.
5657 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : " والله يؤتي ملكه من يشاء " ، سلطانه.
* * *
وأما قوله : " والله واسع عليم " ، فإنه يعني بذلك " والله واسع " بفضله فينعم به على من أحب ، ويريد به من يشاء (2) " عليم " بمن هو أهل لملكه الذي
__________
(1) في المطبوعة : " ويمنحه من أحب... " ، وأثبت ما في المخطوطة .
(2) في المخطوطة : " فينعم له ، والصواب ما في المطبوعة : وفي المطبوعة : " ويريد به من يشاء " ، وفي المخطوطة : " ويريد فيه... " غير منقوطة وصواب قراءتها ما أثبت .

(5/314)


وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آَيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آَلُ مُوسَى وَآَلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (248)

يؤتيه ، وفضله الذي يعطيه ، فيعطيه ذلك لعلمه به ، وبأنه لما أعطاه أهل : إما للإصلاح به ، وإما لأن ينتفع هو به. (1)
* * *
القول في تأويل قوله : { وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ }
قال أبو جعفر : وهذا الخبر من الله تعالى ذكره عن نبيه الذي أخبر عنه به ، دليل على أن الملأ من بني إسرائيل الذين قيل لهم هذا القول ، لم يقروا ببعثة الله طالوت عليهم ملكا إذ أخبرهم نبيهم بذلك ، وعرفهم فضيلته التي فضله الله بها ، ولكنهم سألوه الدلالة على صدق ما قال لهم من ذلك وأخبرهم به. فتأويل الكلام ، إذ كان الأمر على ما وصفنا : " والله يؤتي ملكه من يشاء والله واسع عليم " ، فقالوا له : ما آية ذلكإن كنت من الصادقين ؟ (2) " قال لهم نبيهم إن آية ملكه أن يأتيكم التابوت " . وهذه القصة (3) وإن كانت خبرا من الله تعالى ذكره عن الملإ من بني إسرائيل ونبيهم ، وما كان من ابتدائهم نبيهم بما ابتدءوا به من مسألته أن يسأل الله لهم أن يبعث لهم ملكا يقاتلون معه في سبيله ، ونبأً عما كان منهم من تكذيبهم نبيهم بعد علمهم بنبوته ، (4) ثم إخلافهم الموعد الذي وعدوا الله ووعدوا رسوله ، من
__________
(1) في المخطوطة : " وإما لا نه " وبينهما بياض على قدر كلمة ، ولم أستطع أن أجد كلمة في البياض ، وتركت ما في المطبوعة على حاله ، وإن كنت لا أرضاه كل الرضى .
(2) في المطبوعة : " فقالوا له : ائت بآية على ذلك ... " ، وفي المخطوطة : " مما أتى به ذلك " وقد ضرب على الباء من " أتى " . واستظهرت قراءتها كما أثبتها ، لقوله تعالى بعد : " إن آية ملكه " .
(3) في المطبوعة : " هذه القصة " بإسقاط الواو ، وإسقاطها مخل بالكلام .
(4) في المطبوعة : " بناء عما كان منهم من تكذيبهم " ، وهو غث من الكلام . وفي المخطوطة : " بنا عما كان . . . " غير منقوطة ، و الصواب ما أثبت مع زيادة " الواو " عطفا على قوله : " وإن كانت خبرا . . . " .

(5/315)


الجهاد في سبيل الله ، بالتخلف عنه حين استنهضوا لحرب من استنهضوا لحربه ، وفتح الله على القليل من الفئة ، مع تخذيل الكثير منهم عن ملكهم وقعودهم عن الجهاد معه (1) فإنه تأديب لمن كان بين ظهراني مهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذراريهم وأبنائهم يهود قريظة والنضير ، وأنهم لن يعدوا في تكذيبهم محمدا صلى الله عليه وسلم فيما أمرهم به ونهاهم عنه مع علمهم بصدقه ، ومعرفتهم بحقيقة نبوته ، بعد ما كانوا يستنصرون الله به على أعدائهم قبل رسالته ، وقبل بعثة الله إياه إليهم وإلى غيرهم (2) أن يكونوا كأسلافهم وأوائلهم الذين كذبوا نبيهم شمويل بن بالي ، مع علمهم بصدقه ، ومعرفتهم بحقية نبوته ، وامتناعهم من الجهاد مع طالوت لما ابتعثه الله ملكا عليهم ، بعد مسألتهم نبيهم ابتعاث ملك يقاتلون معه عدوهم ويجاهدون معه في سبيل ربهم ، ابتداء منهم بذلك نبيهم ، وبعد مراجعة نبيهم شمويل إياهم في ذلك (3) وحض لأهل الإيمان بالله وبرسوله من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم على الجهاد في سبيله ، وتحذير منه لهم أن يكونوا في التخلف عن نبيهم محمد صلى الله عليه وسلم عند لقائه العدو ، ومناهضته أهل الكفر بالله وبه ، على مثل الذي كان عليه الملأ من بني إسرائيل في تخلفهم عن ملكهم طالوت إذ زحف لحرب عدو الله جالوت ، وإيثارهم الدعة والخفض على مباشرة حر الجهاد والقتال في سبيل الله (4) وشحذ منه لهم على الإقدام على مناجزة أهل الكفر به الحرب ، وترك تهيب قتالهم أن قل عددهم وكثر عدد أعدائهم واشتدت شوكتهم بقوله : ( قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ ) [سورة البقرة : 249] ، (5) وإعلام منه تعالى ذكره عباده المؤمنين به أن بيده النصر والظفر والخير والشر.
* * *
وأما تأويل قوله : " قال لهم نبيهم " ، فإنه يعني : للملأ من بني إسرائيل الذين قالوا لنبيهم : " ابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله " .
* * *
وقوله : " إن آية ملكه " ، : إن علامة ملك طالوت (6) التي سألتمونيها دلالة على صدقي في قولي : إن الله بعثه عليكم ملكا ، وإن كان من غير سبط المملكة " أن يأتيكم التابوت فيه سكينة من ربكم " ، وهو التابوت الذي كانت بنو إسرائيل إذا لقوا عدوا لهم قدموه أمامهم ، وزحفوا معه ، فلا يقوم لهم معه عدو ، ولا يظهر عليهم أحد ناوأهم ، حتى ضيعوا أمر الله ، (7) وكثر اختلافهم على أنبيائهم ، فسلبهم الله إياه مرة بعد مرة ، يرده إليهم في كل ذلك ، حتى سلبهم آخرها مرة فلم يرده عليهم ، (8) ولن يرد إليهم آخر الأبد. (9)
* * *
ثم اختلف أهل التأويل في سبب مجيء التابوت الذي جعل الله مجيئه إلى بني إسرائيل آية لصدق نبيهم شمويل على قوله : " إن الله قد بعث لكم طالوت ملكا " ، وهل كانت بنو إسرائيل سلبوه قبل ذلك فرده الله عليهم حين جعل مجيئه آية لملك طالوت ، أو لم يكونوا سلبوه قبل ذلك ، ولكن الله ابتدأهم به ابتداء ؟
فقال بعضهم : بل كان ذلك عندهم من عهد موسى وهارون يتوارثونه ، (10) حتى سلبهم إياه ملوك من أهل الكفر به ، ثم رده الله عليهم آية لملك طالوت. وقال في
__________
(1) سياق الجملة : وهذه القصة ، وإن كانت خبرا من الله00 0 ونبأ عما كان منهم... فإنه تأديب... " .
(2) سياق هذه الجملة : " وأنهم لن يعدوا في تكذيبهم محمدا... أن يكونوا كأسلافهم... " .
(3) قوله : " وحض... " معطوف على قوله آنفًا : " فإنه تأديب... " .
(4) قوله : " وشخذ... " معطوف ثان على قوله آنفًا : " فإنه تأديب... " .
(5) قوله : " وإعلام... " معطوف ثالث على قوله : " فإنه تأديب... " .
(6) انظر تفسير " آية " فيما سلف 1 : 106 / 2 : 397 ، 398 ، 553 / 3 : 184 / 4 : 271 .
(7) في المطبوعة والمخطوطة : " حتى منعوا أمر الله " . وهو تصحيف لا معنى له ، والصواب ما أثبت .
(8) في المطبوعة : " حتى سلبهم آخر مرة " ، والذي في المخطوطة هو الصواب الجيد ، وإن كانت الأخرى قريبة من الصواب على ضعف .
(9) في المخطوطة : " ولم يرده إليهم آخر الأبد " ، وهو خطأ بين .
(10) في المطبوعة : " كان ذلك عندهم " ، بحذف " بل " .

(5/316)


سبب رده عليهم ما أنا ذاكره وهو ما : -
5658 - حدثني به المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا إسماعيل بن عبد الكريم قال ، حدثني عبد الصمد بن معقل : أنه سمع وهب بن منبه قال : كان لعيلي الذي ربى شمويل ، ابنان شابان أحدثا في القربان شيئا لم يكن فيه. كان مسوط القربان الذي كانوا يسوطونه به كلابين (1) فما أخرجا كان للكاهن الذي يسوطه ، (2) فجعله ابناه كلاليب. (3) وكانا إذا جاء النساء يصلين في القدس يتشبثان بهن. فبينا شمويل نائم قبل البيت الذي كان ينام فيه عيلي ، إذ سمع صوتا يقول : أشمويل!! (4) فوثب إلى عيلي فقال : لبيك! ما لك! دعوتني ؟ فقال : لا! ارجع فنم! فرجع فنام ، ثم سمع صوتا آخر يقول : أشمويل !! فوثب إلى عيلي أيضا ، فقال : لبيك ! ما لك ! دعوتني ؟ فقال : لم أفعل ، ارجع فنم ، فإن سمعت شيئا فقل : " لبيك " مكانك ، " مرني فأفعل " ! فرجع فنام ، فسمع صوتا أيضا يقول : أشمويل !! فقال : لبيك أنا هذا! مرني أفعل! قال : انطلق إلى عيلي فقل له : " منعه حب الولد أن يزجر ابنيه أن يحدثا في قدسي وقرباني ، وأن يعصياني ، فلأنزعن منه الكهانة ومن ولده ، ولأهلكنه وإياهما " ! فلما أصبح سأله عيلي فأخبره ، ففزع لذلك فزعا شديدا. فسار إليهم عدو ممن
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة : " كان مشرط القربان الذي يشرطونه به " ، وهو خطأ لا معنى له ، والصواب من تاريخ الطبري 1 : 243 . والمسوط (بكسر الميم) : المسواط خشبة أو ما يشبهها ، يحرك بها ما في القدر ليختلط . ساط الشيء في القدر يسوطه سوطا : إذا حركة وخاصه ، ليختلط ويمتزج . وقربان اليهود هذا هو " التقدمة " ، كانت من دقيق مع زيت ولبان ، يؤخذ قليل من الدقيق المقدم والزيت وكل اللبان ، ويوقد على المذبح ، أو يعمل منه قطائف علي صاج ، وأما البقية فكانت للكمهنة (قاموس الكتاب المقدس 2 : 208) . والكلاب (يضم الكاف وتشديد اللام) : سفود من حديد أو خشب ، في رأسه عقافة معطوفة كالخطاف ، وجمعه : " كلاليب " .
(2) في المطبوعة والمخطوطة : " للكاهن الذي يستوطنه " ، وهو خطأ ، صوابه من التاريخ .
(3) في المطبوعة والمخطوطة : " فجعل ابناه... " ، والصواب من التاريخ .
(4) في المخطوطة والتاريخ في هذا الموضع و ما بعده : " أشمويل " ، والذي قبله : " شمويل " ، وأثبت ما فيهما ، كما سلف قريبا ص : 308 ، تعليق : 5 .

(5/318)


حولهم ، فأمر ابنيه أن يخرجا بالناس فيقاتلا ذلك العدو. فخرجا وأخرجا معهما التابوت الذي كان فيه اللوحان وعصا موسى لينصروا به. (1) فلما تهيئوا للقتال هم وعدوهم ، جعل عيلي يتوقع الخبر : ماذا صنعوا ؟ فجاءه رجل يخبره وهو قاعد على كرسيه : إن ابنيك قد قتلا وإن الناس قد انهزموا! قال : فما فعل التابوت ؟ قال : ذهب به العدو! قال : فشهق ووقع على قفاه من كرسيه فمات. وذهب الذين سبوا التابوت حتى وضعوه في بيت آلهتهم ، ولهم صنم يعبدونه ، فوضعوه تحت الصنم ، والصنم من فوقه ، فأصبح من الغد والصنم تحته وهو فوق الصنم. ثم أخذوه فوضعوه فوقه وسمروا قدميه في التابوت ، فأصبح من الغد قد تقطعت يدا الصنم ورجلاه ، وأصبح ملقى تحت التابوت. فقال بعضهم لبعض : قد علمتم أن إله بني إسرائيل لا يقوم له شيء ، فأخرجوه من بيت آلهتكم! فأخرجوا التابوت فوضعوه في ناحية من قريتهم ، فأخذ أهل تلك الناحية التي وضعوا فيها التابوت وجع في أعناقهم ، فقالوا : ما هذا ؟! فقالت لهم جارية كانت عندهم من سبي بني إسرائيل : لا تزالون ترون ما تكرهون ما كان هذا التابوت فيكم! فأخرجوه من قريتكم! قالوا : كذبت! قالت : إن آية ذلك أن تأتوا ببقرتين لهما أولاد لم يوضع عليهما نير قط ، ثم تضعوا وراءهم العجل ، (2) ثم تضعوا التابوت على العجل وتسيروهما وتحبسوا أولادهما ، فإنهما تنطلقان به مذعنتين ، (3) حتى إذا خرجتا من أرضكم ووقعتا في أرض بني إسرائيل كسرتا نيرهما ، وأقبلتا إلى أولادهما. ففعلوا ذلك ، فلما خرجتا من أرضهم ووقعتا في أدنى أرض بني إسرائيل كسرتا نيرهما ، وأقبلتا إلى أولادهما. ووضعتاه في خربة فيها حصاد من بني إسرائيل ، (4) ففزع إليه بنو إسرائيل وأقبلوا إليه ، فجعل لا يدنو منه أحد إلا مات. فقال لهم نبيهم شمويل : اعترضوا ، (5) فمن آنس من نفسه قوة فليدن منه. فعرضوا عليه الناس ، فلم يقدر أحد يدنو منه إلا رجلان من بني إسرائيل ، (6) أذن لهما بأن يحملاه إلى بيت أمهما ، وهي أرملة. فكان في بيت أمهما حتى ملك طالوت ، فصلح أمر بني إسرائيل مع أشمويل. (7)
5659 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق قال ، حدثني بعض أهل العلم ، عن وهب بن منبه قال : قال شمويل لبني إسرائيل لما قالوا له : أنى يكون له الملك علينا ونحن أحق بالملك منه ولم يؤت سعة من المال ؟ قال إن الله اصطفاه عليكم وزاده بسطة في العلم والجسم ، وإن آية ملكه وإن تمليكه من قبل الله أن يأتيكم التابوت ، فيرد عليكم الذي فيه من السكينة وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون ، وهو الذي كنتم تهزمون به من لقيكم من العدو ، وتظهرون به عليه. قالوا : فإن جاءنا التابوت فقد رضينا وسلمنا! وكان العدو الذين أصابوا التابوت أسفل من الجبل جبل إيليا فيما بينهم وبين مصر ، وكانوا أصحاب أوثان ، وكان فيهم جالوت. وكان جالوت رجلا قد أعطي بسطة في الجسم ، وقوة في البطش ، وشدة في الحرب ، مذكورا بذلك في الناس. وكان التابوت حين استبي قد جعل في قرية من قرى فلسطين يقال لها : " أزدود " ، (8) فكانوا قد جعلوا التابوت في
__________
(1) في التاريخ : " لينتصروا به " ، أي ليجلبوا النصر لأنفسهم به .
(2) في المطبوعة : " وراءهم " والصواب من التاريخ والمخطوطة . والنير : الخشبة التي تكون على عنق الثور بأداتها .
(3) في المطبوعة : " ينطلقان مذعنين " ، والصواب من المخطوطة والتاريخ .
(4) في المطبوعة : " حضار " ، وفي المخطوطة : " حصار " ، غير منقوطة ، والصواب ما في التاريخ .
(5) في التاريخ : " اعرضوا " ، وهما سواء .
(6) في التاريخ : " فلم يقدر أحد على أن يدنو منه " ، والذي في المخطوطة والمطبوعة حسن .
(7) الأثر : 5658 - في التاريخ 1 : 243 - 244 ، وهو صدر الأثر السالف رقم : 5637 ، وساقهما الطبري في التاريخ سياقا واحدا .
(8) في المطبوعة : " يقال لها : أردن " ، وهو خطأ لا شك فيه ، وأما ما في المخطوطة فهو ، " أردود " بالراء ، وأنا أظنه بالزاي وأثبته كذلك . فإنه الذي في كتاب القوم في " كتاب صموئيل الأول " الإصحاح الخامس : " أشدود " ، وقال صاحب قاموسهم : " أشدود " (حصن ، معقل) ، إحدى مدن فلسطين الخمس المحالفة... وموقعها على ثلاثة أميال من البحر المتوسط بين غزة ويافا . قال : وهي الآن قرية حقيرة تسمى : أسدود ، وفي جوارها خرائب كثيرة " . والذي يرجع ما ظننته أنها بالزاي أن ابن كثير قال في تفسيره 1 : 602 أنه يقال لها : " أزدوه " ، وقال مصحح التفسير بهامشه أنها في نسخة الأزهر : " أزدرد " . وفي البغوي بهامش ابن كثير 1 : 601 " أزدود " كما أثبتها .

(5/319)


كنيسة فيها أصنامهم. فلما كان من أمر النبي صلى الله عليه وسلم ما كان : من وعد بني إسرائيل أن التابوت سيأتيهم - جعلت أصنامهم تصبح في الكنيسة منكسة على رؤوسها ، وبعث الله على أهل تلك القرية فأرا ، تبيت الفأرة الرجل فيصبح ميتا ، (1) قد أكلت ما في جوفه من دبره. قالوا : تعلمون والله ، لقد أصابكم بلاء ما أصاب أمة من الأمم مثله ، (2) وما نعلمه أصابنا إلا مذ كان هذا التابوت بين أظهرنا!! مع أنكم قد رأيتم أصنامكم تصبح كل غداة منكسة ، شيء لم يكن يصنع بها حتى كان هذا التابوت معها! فأخرجوه من بين أظهركم. فدعوا بعجلة فحملوا عليها التابوت ، ثم علقوها بثورين ، ثم ضربوا على جنوبهما ، وخرجت الملائكة بالثورين تسوقهما ، فلم يمر التابوت بشيء من الأرض إلا كان قدسا. فلم يرعهم إلا التابوت على عجلة يجرها الثوران ، حتى وقف على بني إسرائيل ، فكبروا وحمدوا الله ، وجدوا في حربهم ، واستوسقوا على طالوت. (3)
5660 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج قال : قال ابن عباس : لما قال لهم نبيهم : إن الله اصطفى طالوت عليكم وزاده بسطة في العلم والجسم - أبوا أن يسلموا له الرياسة ، حتى قال لهم : " إن آية ملكه أن يأتيكم التابوت فيه سكينة من ربكم " . فقال لهم : أرأيتم إن جاءكم التابوت فيه سكينة من ربكم وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون تحمله للملائكة!!
__________
(1) في المطبوعة : " تثبت الفأرة " ، وليست صوابا ، والذي في المخطوطة " تبيت " غير منقوطة وصواب قراءتها ما أثبت . بيت القوم العدو : أتوهم في جوف الليل فأوقعوا بهم وهم في غفلة عنه . والاسم : " البيات " ، وفي البغوي 1 : 601 (بهامش ابن كثير) : " فكانت الفأرة تبيت مع الرجل " .
(2) في المطبوعة : " أمة من الأمم قبلكم " ، وفي المخطوطة : " أمة من الأمم قبله " ، والذي أثبت أقرب إلى رسم المخطوطة ، مع التصحيف فيها .
(3) في المطبوعة : " واستوثقوا " . وهو خطأ والصواب ما في المخطوطة . ومعناه : اجتمعوا على طاعته . وأصله من " الوسق " وهو ضم الشيء إلى الشيء ، وفي حديث أحد : " استوسقوا كما يستوسق جرب الغم . أي : استجمعوا وانضموا . وفي حديث النجاشي : " واستوسق عليه أمر الحبشة " ، أي اجتمعوا على طاعته . وهو المراد هنا . وانظر ما سيأتي في الأثر : 5707 .

(5/321)


وكان موسى حين ألقى الألواح تكسرت ورفع منها. فنزل فجمع ما بقي فجعله في ذلك التابوت قال ابن جريج ، أخبرني يعلى بن مسلم ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : أنه لم يبق من الألواح إلا سدسها. قال : وكانت العمالقة قد سبت ذلك التابوت - والعمالقة فرقة من عاد كانوا بأريحا - فجاءت الملائكة بالتابوت تحمله بين السماء والأرض وهم ينظرون إلى التابوت ، حتى وضعته عند طالوت. فلما رأوا ذلك قالوا : نعم ! فسلموا له وملكوه. قال : وكان الأنبياء إذا حضروا قتالا قدموا التابوت بين يديهم. ويقولون : إن آدم نزل بذلك التابوت وبالركن. وبلغني أن التابوت وعصا موسى في بحيرة طبرية ، وأنهما يخرجان قبل يوم القيامة.
5661 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا عبد الصمد بن معقل : أنه سمع وهب بن منبه يقول : إن أرميا لما خرب بيت المقدس وحرقت الكتب ، وقف في ناحية الجبل فقال : " أنى يحيى هذه الله بعد موتها ، فأماته الله مئة عام " . ثم رد الله من رد من بني إسرائيل على رأس سبعين سنة من حين أماته ، يعمرونها ثلاثين سنة تمام المئة. فلما ذهبت المئة ، رد الله إليه روحه ، وقد عمرت ، فهي على حالتها الأولى. (1)
(2) ................................................................................
................................................................................
................................................................................
فلما أراد أن يرد عليهم التابوت ، أوحى الله إلى نبي من أنبيائهم : إما دانيال وإما غيره : إن كنتم تريدون أن يرفع عنكم المرض ، فأخرجوا عنكم هذا التابوت ! قالوا : بآية ماذا ؟ قال : بآية أنكم تأتون ببقرتين صعبتين لم تعملا عملا قط ، فإذا نطرتا
__________
(1) الأثر : 5661 - سيأتي هذا الأثر نفسه برقم : 5912 وهو أثر " مبتور " بلا شك ولم أستطع أن أتمه ، وانظر التعليق على الأثر التالي المذكور آنفًا .
(2) أما موضع النقط هذا ، فإنه سقط بلا شك فيه ، فإن خبر أرميا السالف ، لا يمكن أن يكون هذا الكلام من صلته ، فإن فيه ذكر رد التابوت في عهد طالوت وداود ، وهما قبل أرميا بدهر طويل . وأخشى أن يكون الناسخ قد قدم ورقة على ورقة في النسخة العتيقة ، أو تخطى وجها من الكتاب الذي نسخ منه . وليس من الممكن إتمام هذا النقص ، فلذلك فصلت بين الكلامين بهذه النقط ، حتى يتيح الله نسخة أقدم من النسخ التي بين أيدينا تسد هذا الخرم أو تصحح مكان الكلام .
وهذا الذي بعد النقط ، خبر عن القرية التي وضع فيها التابوت حين سبي ، كما ذكر في الأثر رقم : 5658 ، وهو أثر ضاع صدره عن وهب بن منبه ، كما هو واضح في السياق الآتي . ولم أجد صدره في شيء من الكتب التي بين يدي . هذا ونسختنا في الموضع كثيرة الخطأ السهو ، كما يتبين ذلك من خط كاتبها ، ومن الأخطاء السالفة التي ذكرتها في التعليقات .

(5/322)


إليه وضعتا أعناقهم للنير حتى يشد عليهما ، (1) ثم يشد التابوت على عجل ، ثم يعلق على البقرتين ، ثم يخليان فيسيران حيث يريد الله أن يبلغهما. ففعلوا ذلك ، ووكل الله بهما أربعة من الملائكة يسوقونهما ، فسارت البقرتان سيرا سريعا ، حتى إذا بلغتا طرف القدس كسرتا نيرهما ، وقطعتا حبالهما ، وذهبتا. فنزل إليهما داود ومن معه ، فلما رأى داود التابوت حجل إليه فرحا به فقلنا لوهب : ما حجل إليه ، قال : شبيه بالرقص فقالت له امرأته : لقد خففت حتى كاد الناس يمقتونك لما صنعت! قال : أتبطئيني عن طاعة ربي!! لا تكونين لي زوجة بعد هذا. ففارقها.
* * *
وقال آخرون : بل التابوت الذي جعله الله آية لملك طالوت كان في البرية ، وكان موسى صلى الله عليه وسلم خلفه عند فتاه يوشع ، فحملته الملائكة حتى وضعته في دار طالوت. (2)
__________
(1) في المخطوطة : " فإذا نظرتا إليها " ، والصواب ما في المطبوعة .
(2) عند هذا الموضع انتهى جزء من التقسيم القديم الذي نقلت عنه نسختنا ، وفيها هنا ما نصه :
" يتلوه إن شاء الله تعالى : ذكر من قال ذلك :
وصلى الله على محمد النبي و على آله وسلم كثيرا .
على الأصل .
بلغت بالقراءة من أوله والسماع على القاضي أبي الحسن الخصيب ، عن عبدالله ، عن أبي محمد الفرغاني ، عن أبي جعفر الطبري ، والقاضي ينظر في كتابه . وسمع معي أخي على حرسه الله ، وأبو الفتح أحمد بن عمر الجهاري ( ؟ ؟) ونصر بن الحسين الطبري ، ومحمد بن علي ... وعبدالرحيم بن أحمد البخاري . وكتب محمد بن أحمد بن عيسى السعدي ، في شعبان سنة ثمان وأربعمئة بمصر "
" ثم يتلو في أول الجزء التالي :
" بسم الله الرحمن الرحيم
رب يسر " .

(5/323)


* ذكر من قال ذلك :
5662 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد ، قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة في قوله : " إن آية ملكه أن يأتيكم التابوت فيه سكينة من ربكم " ، الآية : كان موسى تركه عند فتاه يوشع بن نون وهو بالبرية ، وأقبلت به الملائكة تحمله حتى وضعته في دار طالوت فأصبح في داره.
5663 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع في قوله : " إن آية ملكه أن يأتيكم التابوت " الآية ، قال : كان موسى - فيما ذكر لنا - ترك التابوت عند فتاه يوشع بن نون وهو في البرية. فذكر لنا أن الملائكة حملته من البرية حتى وضعته في دار طالوت ، فأصبح التابوت في داره.
* * *
قال أبو جعفر : وأولى القولين في ذلك بالصواب ما قاله ابن عباس ووهب بن منبه : من أن التابوت كان عند عدو لبني إسرائيل كان سلبهموه. وذلك أن الله تعالى ذكره قال مخبرا عن نبيه في ذلك الزمان قوله لقومه من بني إسرائيل : " إن آية ملكه أن يأتيكم التابوت " ، و " الألف واللام " لا تدخلان في مثل هذا من الأسماء إلا في معروف عند المتخاطبين به. وقد عرفه المخبر والمخبر. فقد علم بذلك أن معنى الكلام : إن آية ملكه أن يأتيكم التابوت الذي قد عرفتموه ، الذي كنتم تستنصرون به ، فيه سكينة من ربكم. ولو كان ذلك تابوتا من التوابيت غير معلوم عندهم قدره

(5/324)


ومبلغ نفعه قبل ذلك ، لقيل : إن آية ملكه أن يأتيكم تابوت فيه سكينة من ربكم.
* * *
فإن ظن ذو غفلة أنهم كانوا قد عرفوا ذلك التابوت وقدر نفعه وما فيه وهو عند موسى ويوشع ، فإن ذلك ما لا يخفى خطؤه. وذلك أنه لم يبلغنا أن موسى لاقى عدوا قط بالتابوت ولا فتاه يوشع ، بل الذي يعرف من أمر موسى وأمر فرعون ما قص الله من شأنهما ، وكذلك أمره وأمر الجبارين. وأما فتاه يوشع ، فإن الذين قالوا هذه المقالة ، زعموا أن يوشع خلفه في التيه حتى رد عليهم حين ملك طالوت. فإن كان الأمر على ما وصفوه ، فأي الأحوال للتابوت الحال التي عرفوه فيها ، فجاز أن يقال : إن آية ملكه أن يأتيكم التابوت الذي قد عرفتموه وعرفتم أمره ؟ وفي فساد هذا القول بالذي ذكرنا ، (1) أبين الدلالة على صحة القول الآخر ، إذ لا قول في ذلك لأهل التأويل غيرهما.
* * *
وكانت صفة التابوت فيما بلغنا ، كما : -
5664 - حدثنا محمد بن عسكر والحسن بن يحيى قالا أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا بكار بن عبد الله قال : سألنا وهب بن منبه عن تابوت موسى : ما كان ؟ قال : كان نحوا من ثلاثة أذرع في ذراعين. (2)
* * *
__________
(1) في المطبوعة : " ففساد هذا القول " ، " والصواب ما في المخطوطة .
(2) الأثر : 5664 - " محمد بن عسكر " ، هو محمد بن سهل بن عسكر ، سلف في رقم : 5598 . بكار بن عبدالله اليماني ، روي عن وهب منبه . روى عنه بن ابن المبارك ، وهشام بن يوسف وعبدالرزاق . قال أحمد : ثقة . مترجم في الكبير 1/2/120 ، وابن أبي حاتم 1/1 /408 .

(5/325)


القول في تأويل قوله : { فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ }
قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بقوله : " فيه " ، في التابوت " سكينة من ربكم " .
* * *
واختلف أهل التأويل في معنى " السكينة " .
فقال بعضهم : هي ريح هفافة لها وجه كوجه الإنسان.
* ذكر من قال ذلك :
5665 - حدثنا عمران بن موسى قال ، حدثنا عبد الوارث بن سعيد قال ، حدثنا محمد بن جحادة ، عن سلمة بن كهيل ، عن أبي وائل ، عن علي بن أبي طالب قال : السكينة ، ريح هفافة لها وجه كوجه الإنسان.
5666 - حدثنا محمد بن بشار قال ، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي قال ، حدثنا سفيان وحدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا سفيان عن سلمة بن كهيل ، عن أبي الأحوص ، عن علي قال : السكينة لها وجه كوجه الإنسان ، ثم هي ريح هفافة.
5667 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال ، حدثنا هشيم ، عن العوام بن حوشب ، عن سلمة بن كهيل ، عن علي بن أبي طالب في قوله : " فيه سكينة من ربكم " ، قال : ريح هفافة لها صورة وقال يعقوب في حديثه : لها وجه (1) وقال ابن المثنى : كوجه الإنسان.
5668 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا جرير ، عن منصور ، عن سلمة بن كهيل قال ، قال علي : السكينة لها وجه كوجه الإنسان ، وهي ريح هفافة. (2)
__________
(1) في المخطوطة : " كما وجه " ، وما بينهما بياض ، ولعل أقرب ذلك ما في المطبوعة .
(2) في المخطوطة : " هى ريح " بإسقاط الواو .

(5/326)


5669 - حدثنا هناد بن السري قال ، حدثنا أبو الأحوص ، عن سماك بن حرب ، عن خالد بن عرعرة قال ، قال علي : السكينة ريح خجوج ، ولها رأسان. (1)
5670 - حدثنا محمد بن المثنى قال ، حدثنا محمد بن جعفر قال ، حدثنا شعبة ، عن سماك قال : سمعت خالد بن عرعرة ، يحدث عن علي ، نحوه.
5671 - حدثنا ابن المثنى قال ، حدثنا أبو داود قال ، حدثنا شعبة ، وحماد بن سلمة ، وأبو الأحوص ، كلهم عن سماك ، عن خالد بن عرعرة ، عن علي ، نحوه. (2)
* * *
وقال آخرون : لها رأس كرأس الهرة وجناحان.
* ذكر من قال ذلك :
5672 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله تعالى : " فيه سكينة من ربكم " ، قال : أقبلت السكينة [ والصرد] وجبريل مع إبراهيم من الشأم (3) قال ابن أبي نجيح ، سمعت مجاهدا يقول : السكينة لها رأس كرأس الهرة وجناحان.
5673 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد نحوه.
5674 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي قال ، حدثنا سفيان ، عن ليث ، عن مجاهد قال : السكينة لها جناحان وذنب.
__________
(1) الأثر : 5669 - هو بعض الأثر السالف رقم : 2058 في ذكر بناء الكعبة .
(2) الأثران : 5670 ، 5671 - انظر الأثران السالفان : 2059 ، 2060 .
(3) ما بين القوسين ، زيادة من الأثار التي رويت عن مجاهد في ذلك ، في تاريخ مكة للأزرقي 1 : 22 - 28 ، ونصه في لسان العرب (صرد) . والصرد(بضم الصاد وفتح الراء : طائر أبقع ضخم يكون في الشجر وشعب الجبال لا يقدر عليه أحد ، وهو من سباع الطير .

(5/327)


5675 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا الثوري ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد قال : لها جناحان وَذَنَب مثل ذنب الهرة.
* * *
وقال آخرون : بل هي رأس هرة ميتة.
* * *
* ذكر من قال ذلك :
5677 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن وهب بن منبه ، عن بعض أهل العلم من بني إسرائيل قال : السكينة رأس هرة ميتة ، كانت إذا صرخت في التابوت بصراخ هر ، أيقنوا بالنصر وجاءهم الفتح.
* * *
وقال آخرون : إنما هي طست من ذهب من الجنة ، كان يغسل فيه قلوب الأنبياء.
* ذكر من قال ذلك :
5678 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا عثمان بن سعيد قال ، حدثنا الحكم بن ظهير ، عن السدي ، عن أبي مالك ، عن ابن عباس : " فيه سكينة من ربكم " ، قال : طست من ذهب من الجنة ، كان يغسل فيه قلوب الأنبياء.
5679 - حدثني موسى بن هارون قال ، حدثنا عمرو قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : " فيه سكينة من ربكم " ، السكينة : طست من ذهب يغسل فيها قلوب الأنبياء ، أعطاها الله موسى ، وفيها وضع الألواح. وكانت الألواح ، فيما بلغنا ، من در وياقوت وزبرجد.
* * *
وقال آخرون : " السكينة " ، روح من الله تتكلم.
* ذكر من قال ذلك :
5680 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا بكار

(5/328)


بن عبد الله ، قال ، سألنا وهب بن منبه فقلنا له : السكينة ؟ قال : روح من الله يتكلم ، إذا اختلفوا في شيء تكلم فأخبرهم ببيان ما يريدون.
5681 - حدثنا محمد بن عسكر قال ، حدثنا عبد الرزاق قال ، حدثنا بكار بن عبد الله : أنه سمع وهب بن منبه ، فذكر نحوه. (1)
وقال آخرون : " السكينة " ، ما يعرفون من الآيات فيسكنون إليه.
* ذكر من قال ذلك :
5682 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج قال : سألت عطاء بن أبي رباح عن قوله : " فيه سكينة من ربكم " ، الآية ، قال : أما السكينة فما يعرفون من الآيات ، يسكنون إليها.
* * *
وقال آخرون : " السكينة " ، الرحمة.
* ذكر من قال ذلك :
5683 - حدثت عن عمار بن الحسن قال ، حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : " فيه سكينة من ربكم " ، أي رحمة من ربكم.
* * *
وقال آخرون : " السكينة " ، هي الوقار.
* ذكر من قال ذلك :
5684 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : " فيه سكينة من ربكم " ، أي وقار.
* * *
قال أبو جعفر : وأولى هذه الأقوال بالحق في معنى " السكينة " ، ما قاله عطاء بن أبي رباح : من الشيء تسكن إليه النفوس من الآيات التي تعرفونها. وذلك أن
__________
(1) الأثران : 5680 ، 5681 - " محمد بن عسكر " ، و " بكار بن عبد الله " . انظر التعليق على الأثر رقم : 5664 .

(5/329)


" السكينة " في كلام العرب " الفعيلة " ، من قول القائل : " سكن فلان إلى كذا وكذا " إذا اطمأن إليه وهدأت عنده نفسه " فهو يسكن سكونا وسكينة " ، مثل قولك : " عزم فلان هذا الأمر عزما وعزيمة " ، و " قضى الحاكم بين القوم قضاء وقضية " ، ومنه قول الشاعر : (1)
لله قبر غالها! ماذا يجن?... لقد أجن سكينة ووقارا
* * *
وإذا كان معنى " السكينة " ما وصفت ، فجائز أن يكون ذلك على ما قاله علي بن أبي طالب على ما روينا عنه ، وجائز أن يكون ذلك على ما قاله مجاهد على ما حكينا عنه ، وجائز أن يكون ما قاله وهب بن منبه وما قاله السدي ، لأن كل ذلك آيات كافيات تسكن إليهن النفوس ، وتثلج بهن الصدور. وإذا كان معنى " السكينة " ما وصفنا ، فقد اتضح أن الآية التي كانت في التابوت ، التي كانت النفوس تسكن إليها لمعرفتها بصحة أمرها ، إنما هي مسماة بالفعل وهي غيره ، (2) لدلالة الكلام عليه.
* * *
القول في تأويل قوله : { وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ }
قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بقوله : " وبقية " ، الشيء الباقي ، من قول القائل : " قد بقي من هذا الأمر بقية " ، وهي " فعلية " منه ، نظير " السكينة " من " سكن " .
* * *
__________
(1) أنشده ابن بري لأبي عريف الكليبي . وأنا في شك من صحة اسمه .
(2) يعني بقوله : " الفعل " مصدر الفعل " سكن " ، وهو " السكينة " ، كما يقال : " رجل عدل " ، فلو سميت الرجل " عدلا " ، كان مسمى بالفعل ، وهو غيره .

(5/330)


وقوله : " مما ترك آل موسى وآل هارون " ، يعني به : من تركة آل موسى ، وآل هارون.
* * *
واختلف أهل التأويل في " البقية " التي كانت بقيت من تركتهم.
فقال بعضهم : كانت تلك " البقية " عصا موسى ورضاض الألواح. (1)
* ذكر من قال ذلك :
5685 - حدثنا حميد بن مسعدة قال ، حدثنا بشر بن المفضل قال ، حدثنا داود ، عن عكرمة قال : أحسبه عن ابن عباس أنه قال في هذه الآية : " وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون " ، قال : رضاض الألواح.
5686 - حدثنا محمد بن عبد الله بن بزيع قال ، حدثنا بشر قال ، حدثنا داود ، عن عكرمة قال داود : وأحسبه عن ابن عباس مثله.
5687 - حدثنا ابن المثنى قال ، حدثنا أبو الوليد قال ، حدثنا حماد ، عن داود بن أبي هند ، عن عكرمة ، عن ابن عباس في هذه الآية : " وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون " ، قال : عصا موسى ورضاض الألواح .
5688 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة : " وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون " ، قال : فكان في التابوت عصا موسى ورضاض الألواح ، فيما ذكر لنا .
5689 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : " وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون " ، قال : البقية عصا موسى ورضاض الألواح.
5690 - حدثني موسى قال ، حدثنا عمرو قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : " وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون " ، أما البقية ، فإنها عصا موسى
__________
(1) انظر صفحة 332 ، تعليق : 1 .

(5/331)


ورضاضة الألواح. (1)
5691 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : " وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون " ، عصا موسى وأثور من التوراة. (2)
5692 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الوهاب الثقفي ، عن خالد الحذاء ، عن عكرمة في هذه الآية : " وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون " ، قال : التوراة ورضاض الألواح والعصا قال إسحاق ، قال وكيع : ورضاضه كسره.
5693 - حدثني يعقوب قال ، حدثنا ابن علية ، عن خالد ، عن عكرمة في قوله : " وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون " ، قال : رضاض الألواح.
* * *
وقال آخرون : بل تلك " البقية " عصا موسى وعصا هارون ، وشيء من الألواح. (3)
* ذكر من قال ذلك :
5694 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا جابر بن نوح ، عن إسماعيل ، عن ابن أبي خالد ، عن أبي صالح : " أن يأتيكم التابوت فيه سكينة من ربكم وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون " ، قال : كان فيه عصا موسى وعصا هارون ، ولوحان من التوراة ، والمن. (4)
__________
(1) رضاض الشيء (بضم الراء) : كساره (بضم الكاف) ، وهو ما تكسر منه ، وقطعه . ورض الشيء رضا : كسره فصار قطعا . و " رضاضة " بالتاء في آخر رقم : 5690 ، وهي عربية صحيحة ، وإن لم تذكر في المعاجم . ومثلها في مطول هذا الأثر في التاريخ 1 : 243 .
(2) في المطبوعة : " وأمور من التوراة " . وفي المخطوطة : " وأسور من التوارة " . ورجحت قراءتها " وأثور " جمع أثر : وهو بقية الشيء ، وما بقى من رسم الشيء ، وجمعه آثار وأثور . وهي هنا بمعنى الرضاض .
(3) في المخطوطة : " بل ذلك البقية... " ، والذي في المطبوعة أجود الصواب .
(4) الأثر : 5694 - في الدر المنثور 1 : 317 مطولا . وفي المخطوطة والمطبوعة : " عن إسماعيل عن ابن أبي خالد " ، والصواب ما أثبت ، وهو الذي يروي عنه جابر بن نوح ، مترجم التهذيب .

(5/332)


5695 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا ابن إدريس قال ، سمعت أبي ، عن عطية بن سعد في قوله : " وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون " ، قال : عصا موسى ، وعصا هارون ، وثياب موسى ، وثياب هارون ، ورضاض الألواح.
* * *
وقال آخرون : بل هي العصا والنعلان.
* ذكر من قال ذلك :
5696 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، سألت الثوري عن قوله : " وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون " ، قال : منهم من يقول : البقية قفيز من من ورضاض الألواح - ومنهم من يقول : العصا والنعلان. (1)
* * *
وقال آخرون : بل كان ذلك العصا وحدها.
* ذكر من قال ذلك :
5697 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا بكار بن عبد الله قال ، قلنا لوهب بن منبه : ما كان فيه ؟ يعني في التابوت قال : كان فيه عصا موسى والسكينة. (2)
* * *
وقال آخرون : بل كان ذلك ، رضاض الألواح وما تكسر منها.
* ذكر من قال ذلك :
5698 - حدثنا القاسم قال ، حدثني حجاج قال ، قال ابن جريج ، قال ابن عباس في قوله : " وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون " ، قال : كان موسى حين ألقى الألواح تكسرت ورفع منها ، فجعل الباقي في ذلك التابوت.
__________
(1) القفيز : مكيال من المكاييل ، كان عند أهل العراق ثمانية مكاكيك .
(2) الأثر 5697 - بكار بن عبدالله اليماني ، مضى في الآثار : 5664 ، 5680 ، 5681 ، وكان في المطبوعة والمحفوظة " بكار عن عبدالله " ، وهو خطأ محض .

(5/333)


5699 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج قال ، سألت عطاء بن أبي رباح عن قوله : " وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون " ، [قال] العلم والتوراة. (1)
* * *
وقال آخرون : بل ذلك الجهاد في سبيل الله.
* ذكر من قال ذلك :
5700 - حدثت عن الحسين بن الفرج قال ، سمعت أبا معاذ قال ، أخبرنا عبيد الله بن سليمان قال ، سمعت الضحاك يقول في قوله : " وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون " ، يعني ب " البقية " ، القتال في سبيل الله ، وبذلك قاتلوا مع طالوت ، وبذلك أمروا.
قال أبو جعفر : وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال : إن الله تعالى ذكره أخبر عن التابوت الذي جعله آية لصدق قول نبيه صلى الله عليه الذي قال لأمته : (2) " إن الله قد بعث لكم طالوت ملكا " أن فيه سكينة منه ، وبقية مما تركه آل موسى وآل هارون. (3) وجائز أن يكون تلك البقية : العصا ، وكسر الألواح ، والتوراة ، أو بعضها ، والنعلين ، والثياب ، والجهاد في سبيل الله وجائز أن يكون بعض ذلك ، وذلك أمر لا يدرك علمه من جهة الاستخراج ولا اللغة ، ولا يدرك علم ذلك إلا بخبر يوجب عنه العلم. ولا خبر عند أهل الإسلام في ذلك للصفة التي وصفنا. وإذ كان كذلك ، فغير جائز فيه تصويب قول وتضعيف آخر غيره ، إذ كان جائزا فيه ما قلنا من القول.
* * *
__________
(1) زدت ما بين القوسين : لظني أنها سقطت من الناسخ لعجلته ، كما يتبين من خطه في هذا الموضع .
(2) في المطبوعة : " لصدق قول نبيه صلى الله عليه وسلم لأمته " ، زاد : " وسلم " ، وأسقط " الذي قال " ، والصواب من المخطوطة .
(3) في المطبوعة : " مما تركه آل موسى " ، وأثبت ما في المخطوطة .

(5/334)


القول في تأويل قوله : { تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ }
قال أبو جعفر : اختلف أهل التأويل في صفة حمل الملائكة ذلك التابوت.
فقال بعضهم : معنى ذلك : تحمله بين السماء والأرض ، حتى تضعه بين أظهرهم.
* ذكر من قال ذلك :
5701 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج قال ، قال ابن عباس : جاءت الملائكة بالتابوت تحمله بين السماء والأرض وهم ينظرون إليه ، حتى وضعته عند طالوت.
5702 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد : لما قال لهم يعني النبي ، لبني إسرائيل : " والله يؤتي ملكه من يشاء " . قالوا : فمن لنا بأن الله هو آتاه هذا! ما هو إلا لهواك فيه! قال : إن كنتم قد كذبتموني واتهمتمون ، فإن آية ملكه : " أن يأتيكم التابوت فيه سكينة من ربكم " ، الآية. قال : فنزلت الملائكة بالتابوت نهارا ينظرون إليه عيانا ، حتى وضعوه بين أظهرهم ، فأقروا غير راضين ، وخرجوا ساخطين ، وقرأ حتى بلغ : " والله مع الصابرين " .
5703 - حدثني موسى قال ، حدثنا عمرو قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي قال : لما قال لهم نبيهم : " إن الله اصطفاه عليكم وزاده بسطة في العلم والجسم " ، قالوا : فإن كنت صادقا فأتنا بآية أن هذا ملك ! قال : " إن آية ملكه أن يأتيكم التابوت فيه سكينة من ربكم وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون تحمله الملائكة " . وأصبح التابوت وما فيه في دار طالوت ، فآمنوا بنبوة شمعون ، وسلموا ملك طالوت.
5704 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا

(5/335)


معمر ، عن قتادة في قوله : " تحمله الملائكة " ، قال : تحمله حتى تضعه في بيت طالوت.
* * *
وقال آخرون : معنى ذلك : تسوق الملائكة الدواب التي تحمله.
* ذكر من قال ذلك :
5705 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا الثوري ، عن بعض أشياخه قال : تحمله الملائكة على عجلة على بقرة.
5706 - حدثنا الحسن قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا عبد الصمد بن معقل : أنه سمع وهب بن منبه يقول : وكل بالبقرتين اللتين سارتا بالتابوت أربعة من الملائكة يسوقونهما ، فسارت البقرتان بهما سيرا سريعا ، حتى إذا بلغتا طرف القدس ذهبتا.
* * *
قال أبو جعفر : وأولى القولين في ذلك بالصواب قول من قال : " حملت التابوت الملائكة حتى وضعته لها في دار طالوت قائما بين أظهر بني إسرائيل " . (1) وذلك أن الله تعالى ذكره قال : " تحمله الملائكة " ، ولم يقل : تأتي به الملائكة. وما جرته البقر على عجل. وإن كانت الملائكة هي سائقتها ، فهي غير حاملته. لأن " الحمل " المعروف ، هو مباشرة الحامل بنفسه حمل ما حمل ، فأما ما حمله على غيره وإن كان جائزا في اللغة أن يقال " حمله " بمعنى معونته الحامل ، (2) وبأن حمله كان عن سببه فليس سبيله سبيل ما باشر حمله بنفسه ، في تعارف الناس إياه
__________
(1) في المطبوعة : " حتى وضعته في دار طالوت " بإسقاط " لها " ، أي لبني إسرائيل . وفي المطبوعة : " في دار طالوت بين أظهر بني إسرائيل " بإسقاط " قائما " ، وكانت هذه اللفظة في المخطوطة : " ما بين أظهر لبني إسرائيل " ، وقرأتها : " قائما " .
(2) في المخطوطة والمطبوعة : " أن يقال في حمله بمعنى معونته " ، والصواب إسقاط " في " .

(5/336)


بينهم. وتوجيه تأويل القرآن إلى الأشهر من اللغات ، أولى من توجيهه إلى الأنكر ، (1) ما وُجد إلى ذلك سبيل.
* * *
القول في تأويل قوله : { إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (248) }
قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بذلك : أن نبيه أشمويل قال لبني إسرائيل : إن في مجيئكم التابوت فيه سكينة من ربكم وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون حاملته الملائكة " لآية لكم " ، يعني : لعلامة لكم ودلالة ، (2) أيها الناس ، على صدقي فيما أخبرتكم : أن الله بعث لكم طالوت ملكا ، أن كنتم قد كذبتموني فيما أخبرتكم به من تمليك الله إياه عليكم ، واتهمتموني في خبري إياكم بذلك " إن كنتم مؤمنين " ، يعني بذلك : (3) إن كنتم مصدقي عند مجيء الآية التي سألتمونيها على صدقي فيما أخبرتكم به من أمر طالوت وملكه.
* * *
وإنما قلنا ذلك معناه ، لأن القوم قد كانوا كفروا بالله في تكذيبهم نبيهم وردهم عليه قوله : " إن الله قد بعث لكم طالوت ملكا " ، بقولهم : " أنى يكون له الملك علينا ونحن أحق بالملك منه " ، وفي مسألتهم إياه الآية على صدقه. فإذ كان ذلك منهم كفرا ، (4)
فغير جائز أن يقال لهم وهم كفار : لكم في مجيء التابوت آية إن كنتم من أهل الإيمان بالله ورسوله : وليسوا من أهل الإيمان بالله ولا برسوله. ولكن الأمر في ذلك على ما وصفنا من معناه ، لأنهم سألوا الآية
__________
(1) في المطبوعة : " أولى من توجيهه إلى أن لا يكون الأشهر00 " ، وهو خلط من كلم الموسومين!! وفي المخطوطة " إلى إلى أن لا يلر " . وضرب على " إلى " الثانية . وصواب قراءته ما قرأت ، وقد مضى مثله مرارا في كلام الطبري .
(2) انظر معنى " آية " فيما سلف قريبا : 317 تعليق : 1 وفيه المراجع .
(3) انظر تفسير " الإيمان " بمعنى " التصديق " فيما سلف من الأجزاء . في فهارس للغة .
(4) في المطبوعة : " فإن كان ذلك منهم " ، والصواب ما في المخطوطة .

(5/337)


على صدق خبره إياهم ليقروا بصدقه ، فقال لهم : في مجيء التابوت - على ما وصفه لهم - آية لكم إن كنتم عند مجيئه كذلك مصدقي بما قلت لكم وأخبرتكم به.
* * *

(5/338)


فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (249)

القول في تأويل قوله تعالى : { فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلا قَلِيلا مِنْهُمْ }
قال أبو جعفر : وفي هذا الخبر من الله تعالى ذكره ، متروك قد استغني بدلالة ما ذكر عليه عن ذكره. ومعنى الكلام : " إن في ذلك لآية لكم إن كنتم مؤمنين " ، فأتاهم التابوت فيه سكينة من ربهم وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون تحمله الملائكة ، فصدقوا عند ذلك نبيهم وأقروا بأن الله قد بعث طالوت ملكا عليهم ، وأذعنوا له بذلك. يدل على ذلك قوله : " فلما فصل طالوت بالجنود " . وما كان ليفصل بهم إلا بعد رضاهم به وتسليمهم الملك له ، لأنه لم يكن ممن يقدر على إكراههم على ذلك ، فيظن به أنه حملهم على ذلك كرها.
* * *
وأما قوله : " فصل " فإنه يعني به : شخص بالجند ورحل بهم.
* * *
وأصل " الفصل " القطع ، يقال ، منه : " فصل الرجل من موضع كذا وكذا " ، يعني به قطع ذلك ، فجاوزه شاخصا إلى غيره ، " يفصل فصولا " ، و " فصل العظم والقول من غيره ، فهو يفصله فصلا " ، إذا قطعه فأبانه ، و " فصل الصبي فصالا " ، إذا قطعه عن اللبن (1) . و " قول فصل " ، يقطع فيفرق بين الحق والباطل لا يرد.
* * *
__________
(1) انظر تفسير " الفصال " فيما سلف من هذا الجزء : 67 .

(5/338)


وقيل : إن طالوت فصل بالجنود يومئذ من بيت المقدس وهم ثمانون ألف مقاتل ، لم يتخلف من بني إسرائيل عن الفصول معه إلا ذو علة لعلته ، أو كبير لهرمه ، أو معذور لا طاقة له بالنهوض معه.
* ذكر من قال ذلك :
5707 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق قال ، حدثني بعض أهل العلم ، عن وهب بن منبه قال : خرج بهم طالوت حين استوسقوا له ، ولم يتخلف عنه إلا كبير ذو علة ، أو ضرير معذور ، أو رجل في ضيعة لا بد له من تخلف فيها. (1)
5708 - حدثني موسى قال ، حدثنا عمرو قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي قال : لما جاءهم التابوت آمنوا بنبوة شمعون ، وسلموا ملك طالوت ، فخرجوا معه وهم ثمانون ألفا. (2)
* * *
قال أبو جعفر : فلما فصل بهم طالوت على ما وصفنا ، قال : " إن الله مبتليكم بنهر " ، يقول : إن الله مختبركم بنهر ، ليعلم كيف طاعتكم له.
* * *
وقد دللنا على أن معنى " الابتلاء " ، الاختبار ، فيما مضى بما أغنى عن إعادته. (3)
* وبما قلنا في ذلك كان قتادة يقول.
5709 - حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة في قول الله تعالى : " إن الله مبتليكم بنهر " ، قال : إن الله يبتلي خلقه بما يشاء ، ليعلم من يطيعه ممن يعصيه.
* * *
__________
(1) الأثر : 5707 - استوسقوا له : اجتمعوا له بالطاعة : ودانوا ، (انظر ما سلف ص : 231) في آخر الأثر : 5659 ، والتعليق عليه . والضرير : المرض المهزول ، قد أضر به المرض .
(2) الأثر : 5708 - في التاريخ 1 : 243 من خبر طويل مضى أكثره فيما سلف .
(3) انظر ما سلف 2 : 49/3 : 7 ، 220 .

(5/339)


وقيل : إن طالوت قال : " إن الله مبتليكم بنهر " ، لأنهم شكوا إلى طالوت قلة المياه بينهم وبين عدوهم ، وسألوه أن يدعو الله لهم أن يجري بينهم وبين عدوهم نهرا ، فقال لهم طالوت حينئذ ما أخبر عنه أنه قاله من قوله : " إن الله مبتليكم بنهر " .
* ذكر من قال ذلك :
5710 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق قال ، حدثني بعض أهل العلم ، عن وهب بن منبه قال : لما فصل طالوت بالجنود قالوا : إن المياه لا تحملنا ، فادع الله لنا يجري لنا نهرا! فقال لهم طالوت : " إن الله مبتليكم بنهر " الآية.
* * *
" والنهر " الذي أخبرهم طالوت أن الله مبتليهم به ، قيل : هو نهر بين الأردن وفلسطين.
* ذكر من قال ذلك :
5712 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع قال : " إن الله مبتليكم بنهر " ، قال الربيع : ذكر لنا ، والله أعلم ، أنه نهر بين الأردن وفلسطين.
5712 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة : " إن الله مبتليكم بنهر " ، قال : ذكر لنا أنه نهر بين الأردن وفلسطين.
5713 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر ، عن قتادة قوله : " إن الله مبتليكم بنهر " ، قال : هو نهر بين الأردن وفلسطين.
5714 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن ابن عباس : فلما فصل طالوت بالجنود غازيا إلى جالوت ، قال طالوت لبني إسرائيل : " إن الله مبتليكم بنهر " ، قال : نهر بين فلسطين والأردن ، نهر عذب الماء طيبه.

(5/340)


وقال آخرون : بل هو نهر فلسطين.
* ذكر من قال ذلك :
5715 - حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قال : " إن الله مبتليكم بنهر " ، فالنهر الذي ابتلي به بنو إسرائيل ، نهر فلسطين.
5716 - حدثني موسى قال ، حدثنا عمرو قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : " إن الله مبتليكم بنهر " ، هو نهر فلسطين.
* * *
وأما قوله : " فمن شرب منه فليس مني ومن لم يطعمه فإنه مني إلا من اغترف غرفة بيده فشربوا منه إلا قليلا منهم " . فإنه خبر من الله تعالى ذكره عن طالوت بما قال لجنوده ، إذ شكوا إليه العطش ، فأخبر أن الله مبتليهم بنهر ، (1) ثم أعلمهم أن الابتلاء الذي أخبرهم عن الله به من ذلك النهر ، هو أن من شرب من مائه فليس هو منه يعني بذلك : أنه ليس من أهل ولايته وطاعته ، ولا من المؤمنين بالله وبلقائه. ويدل على أن ذلك كذلك قول الله تعالى ذكره : ( فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ ) ، فأخرج من لم يجاوز النهر من الذين آمنوا ، ثم أخلص ذكر المؤمنين بالله ولقائه عند دنوهم من جالوت وجنوده بقوله : ( قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ ) ، وأخبرهم أنه من لم يطعمه يعني : من لم يطعم الماء من ذلك النهر. " والهاء " في قوله : " فمن شرب منه " ، وفي قوله : " ومن لم يطعمه " ، عائدة على " النهر " ،
__________
(1) في المخطوطة والمطبوعة : " 00 عن طالوت أنه قال لجنوده ، 00 فأخبر أن الله " ، وهي عبارة لا تستقيم علي جادة الكلام ، فجعلت " أنه " ، " بما " ، وجعلت " فأخبر " ، " فأخبرهم " . وأعود فأقول إن الناسخ في هذا الموضع كثير السهو والخطأ من فرط عجلته .

(5/341)


والمعنى لمائه. وإنما ترك ذكر " الماء " اكتفاء بفهم السامع بذكر النهر لذلك : (1) أن المراد به الماء الذي فيه.
* * *
ومعنى قوله : " لم يطعمه " ، لم يذقه ، يعني : ومن لم يذق ماء ذلك النهر فهو مني يقول : هو من أهل ولايتي وطاعتي ، والمؤمنين بالله وبلقائه. ثم استثنى من " من " في قوله : " ومن لم يطعمه " ، المغترفين بأيديهم غرفة ، (2) فقال : ومن لم يطعم ماء ذلك النهر ، (3) إلا غرفة يغترفها بيده ، فإنه مني.
* * *
ثم اختلفت القرأة في قراءة قوله : " إلا من اغترف غرفة بيده " .
فقرأه عامة قرأة أهل المدينة والبصرة : (غرفة) ، بنصب " الغين " من " الغرفة " بمعنى الغرفة الواحدة ، من قولك ، " اغترفت غرفة " ، و " الغرفة " ، و " الغرفة " هي الفعل
__________
(1) في المخطوطة والمطبوعة : " كذلك " ، والصواب ما أثبت ، وسياق العبارة : اكتفاء بفهم السامع لذلك بذكر النهر : أن المراد00
(2) أكثر المفسرين قد جعل الاستثناء من قوله : " فن شرب منه " ، وقال أبوحيان في تفسيره 1 : 265 وقال : " وقع في بعض التصانيف ما نصه : " إلا من اغترف " ، استثناء من الأولى ، وإن شئت من الثانية ، لأنه حكم على أن من لم يطعمه فإنه منه ، فيلزم في الاستثناء من هذا أن من اغترف منه بيده غرفة فليس منه . والأمر ليس كذلك ، لأنه مفسوح لهم الاغتراف غرفة باليد دون الكروع فيه . وهو ظاهر الاستثناء من الأولى ، لأنه حكم فيها : أن من شرب منه فليس منه ، فيلزم في الاستثناء أن من اغترف غرفة بيده منه ، فإنه منه ، إذ هو مفسوح له في ذلك . وهكذا الإستثناء ، يكون من النفى إثباتا ، ومن الإثبات نفيا ، على الصحيح من المذاهب في هذه المسالة " .
وانظر أيضًا تعليق ابن المنير على الكشاف بهامش 1 : 149 - 150 ، وأما العكبري في إعراب القرآن إنه قال : " إلا من اغترب - استثناء من الجنس ، وموضعه نصب . وأنت بالخيار ، إن شئت جعلته استثناء من " من الأولى ، وإن شئت من " من " الثانية " . وهذا يرجع صواب معنى الطبري ، وصواب ما صححناه ، فإنهكان في المخطوطة والمطبوعة : " ثم استثنى من قوله00 " . والمخطوطة كما أسلف مرارا مضطربة في هذا الموضع ، وفي مواضع من أشياء ذلك . وسترى ذلك في التعليق التالي .
والظاهر أن الطبري أراد أن القوم كانوا فئتين : فئه شربت من الماء ، وفئة مؤمنة لم تطعم من الماء إلا غرفة . وبذلك يصح كل ما قاله . وهذا بين سيأتي بعد في ص 348 - 350 أن من جاوز مع طالوت النهر : الذي لم يشرب من الماء إلا الغرفة ، والكافر الذي شرب منه الكثير " . وكأن المؤمنين جميعا - عنده - قد شربوا من الماء غرفة . هذا ما أرجحه ، والله ولى التوفيق .
(3) في المخطوطة : " فقالوا : من لم يطعم ومن لم يطعم ماء ذلك النهر00 " وهو خلط من الكلام .

(5/342)


بعينه من " الاغتراف " . (1) .
* * *
وقرأه آخرون بالضم ، بمعنى الماء الذي يصير في كف المغترف. ف " الغرفة " الاسم " ، و " الغرفة " المصدر.
* * *
وأعجب القراءتين في ذلك إلي ، ضم " الغين " في " الغرفة " ، بمعنى : إلا من اغترف كفا من ماء لاختلاف " غرفة " إذا فتحت غينها ، وما هي له مصدر. وذلك أن مصدر " اغترف " ، " اغترافة " ، وإنما " غرفة " مصدر : " غرفت " . فلما كانت " غرفة " مخالفة مصدر " اغترف " ، كانت " الغرفة " التي بمعنى الاسم على ما قد وصفنا ، أشبه منها ب " الغرفة " التي هي بمعنى الفعل. (2)
* * *
قال أبو جعفر : وذكر لنا أن عامتهم شربوا من ذلك الماء ، فكان من شرب منه عطش ، ومن اغترف غرفة روي .
* ذكر من قال ذلك :
5717 - حدثني بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة : " فمن شرب منه فليس مني ومن لم يطعمه فإنه مني إلا من اغترف غرفة بيده فشربوا منه إلا قليلا منهم " ، فشرب القوم على قدر يقينهم. أما الكفار فجعلوا يشربون فلا يروون ، وأما المؤمنون فجعل الرجل يغترف غرفة بيده فتجزيه وترويه.
5718 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر ، عن قتادة : " فمن شرب منه فليس مني ومن لم يطعمه فإنه مني إلا من اغترف غرفة بيده " ، قال : كان الكفار يشربون فلا يروون ، وكان المسلمون يغترفون غرفة فيجزيهم ذلك.
__________
(1) " الفعل " يعني المصدر ، كما سلف آنفًا ص : 330 تعليق : 1 ، وكما سيصرح به الجمل التالية إلى آخر الكلام .
(2) هذا تفصيل جيد قلما تصيبه في كتب اللغة . وانظر اللسان مادة (غرف) وقوله الكسائي وغيره في ذلك .

(5/343)


5719 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : " فمن شرب منه فليس مني ومن لم يطعمه فإنه مني إلا من اغترف غرفة بيده فشربوا منه إلا قليلا منهم " ، يعني المؤمنين منهم. وكان القوم كثيرا ، فشربوا منه إلا قليلا منهم يعني المؤمنين منهم. كان أحدهم يغترف الغرفة فيجزيه ذلك ويرويه.
5720 - حدثني موسى قال ، حدثنا عمرو قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : قال لما أصبح التابوت وما فيه في دار طالوت ، آمنوا بنبوة شمعون ، وسلموا ملك طالوت ، فخرجوا معه وهم ثمانون ألفا. وكان جالوت من أعظم الناس وأشدهم بأسا ، فخرج يسير بين يدي الجند ، ولا يجتمع إليه أصحابه حتى يهزم هو من لقي. فلما خرجوا قال لهم طالوت : " إن الله مبتليكم بنهر فمن شرب منه فليس مني ومن لم يطعمه فإنه مني " ، فشربوا منه هيبة من جالوت ، فعبر منهم أربعة آلاف ، (1) ورجع ستة وسبعون ألفا ، فمن شرب منه عطش ، ومن لم يشرب منه إلا غرفة روي. (2) .
5721 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد : ألقى الله على لسان طالوت حين فصل بالجنود ، فقال : لا يصحبني أحد إلا أحد له نية في الجهاد. فلم يتخلف عنه مؤمن ، ولم يتبعه منافق ، ... رجعوا كفارا ، لكذبهم في قيلهم إذ قالوا : " لن نمس هذا الماء غرفة ولا غير " (3) وذلك
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة : " فعبر منهم " بإسقاط " معه " ، وأثبتها من التاريخ .
(2) الأثر : 5720 - هو جزء من الخبر الذي في التاريخ 1 : 242 - 243 ، وقد جزأه الطبري في هذا التفسير في مواضع كثيرة أشرنا إليها رقم : 5635 ، 5638 ، 5679 ، 5690 ، 5708 .
(3) في المخطوطة : " ولم تتبعه منافق ، رجعوا كفارا ، فلما رأى قلتهم قالوا : لن نمس هذه الماء " وكلتا العبارتين لا تستقيم في الحالتين . وأنا أرجح أنه قد سقط من الناسخ سطر أو بعض سطر ، معناه : أن بعض الذين خرجوا معه ، رجعوا كفارا لكذبهم في قيلهم ذلك . و الذى يرجح ذلك عندي أنه يقول بعد " قال : وأخذ البقية الغرفة " ، فهذا دليل على أنه قد أجرى قبل ذلك ذكر الذين شربوا من النهر . فن هذا ، وقد كان في المطبوعة : " ولا غيرها " ، فأثبت ما في المخطوطة ، فهو صواب .

(5/344)


أنه قال لهم : " إن الله مبتليكم بنهر " ، الآية ، فقالوا : لن نمس من هذا ، غرفة ولا غير غرفة (1) قال : وأخذ البقية الغرفة فشربوا منها حتى كفتهم ، وفضل منهم. (2) قال : والذين لم يأخذوا الغرفة أقوى من الذين أخذوها.
5722 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج قال ، قال ابن عباس في قوله : " فمن شرب منه فليس مني ومن لم يطعمه فإنه مني إلا من اغترف غرفة بيده " ، فشرب كل إنسان كقدر الذي في قلبه. فمن اغترف غرفة وأطاعه ، روي لطاعته. (3) ومن شرب فأكثر ، عصى فلم يرو لمعصيته.
5723 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق في حديث ذكره ، عن بعض أهل العلم ، عن وهب بن منبه في قوله : " فمن شرب منه فليس مني ومن لم يطعمه فإنه مني إلا من اغترف غرفة بيده " ، يقول الله تعالى ذكره : " فشربوا منه إلا قليلا منهم " ، وكان - فيما يزعمون - من تتابع منهم في الشرب الذي نهي عنه لم يروه ، ومن لم يطعمه إلا كما أمر : غرفة بيده ، أجزاه وكفاه.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ }
قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بقوله : " فلما جاوزه هو " ، فلما جاوز النهر طالوت. " والهاء " في " جاوزه " عائدة على " النهر " ، و " هو " كناية
__________
(1) في المطبوعة : " لن نمس من هذا " بزيادة " من " ، وأثبت ما في المخطوطة .
(2) في المطبوعة : " فشربوا منها " ، وأثبت ما في المخطوطة .
(3) في المطبوعة : " روي بطاعته " والذي أثبت ، أشبه بالمخطوطة وبالصواب .

(5/345)


اسم طالوت وقوله : " والذين آمنوا معه " ، يعني : وجاوز النهر معه الذين آمنوا ، قالوا : لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده.
* * *
ثم اختلف في عدة من جاوز النهر معه يومئذ ، ومن قال منهم : " لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده " .
فقال بعضهم : كانت عدتهم عدة أهل بدر : ثلثمئة رجل وبضعة عشر رجلا.
* ذكر من قال ذلك :
5724 - حدثنا هارون بن إسحاق الهمداني قال ، حدثنا مصعب بن المقدام وحدثنا أحمد بن إسحاق قال ، حدثنا أبو أحمد الزبيري قالا جميعا ، حدثنا إسرائيل قال ، حدثنا أبو إسحاق ، عن البراء بن عازب قال : كنا نتحدث أن عدة أصحاب بدر على عدة أصحاب طالوت الذين جاوزوا النهر معه ، ولم يجز معه إلا مؤمن : ثلثمئة وبضعة عشر رجلا. (1)
5725 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا أبو بكر قال ، حدثنا أبو إسحاق ، عن البراء قال : كنا نتحدث أنَّ أصحاب بدر يوم بدر كعدة أصحاب طالوت ، ثلثمئة رجل وثلاثة عشر رجلا الذين جاوزوا النهر. (2)
__________
(1) الحديث : 5724 - هذا الحديث عن البراء بن عازب في عدة أهل بدر . وقد رواه الطبري بستة أسانيد ، كلها عن أبي إسحاق السبيعي ، عن البراء بن عازب .
ورواه أحمد في المسند 4 : 290 (حلبي) ، عن وكيع عن أبيه - هو الجراح بن مليح - وسفيان . وهو الثوري ، وإسرائيل ، ثلاثتهم عن أبي إسحاق ، عن البراء .
ورواه البخاري 8 : 228 ، من طريق زهير ، ومن طريق إسرائيل ، ومن طريق الثوري - ثلاثتهم عن أبي إسحاق ، به .
وذكره ابن كثير 1 : 603 ، عن روايات الطبري ، ملخصة الأسانيد . ثم ذكر أنه رواه البخاري .
وذكره السيوطي 1 : 318 ، وزاد نسبته لابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والبيهقي في الدلائل . ولكنه نسي أن ينسبه لأحمد .
(2) الحديث : 5725 - أبو بكر - الراوى عن أبي إسحاق : هو ابن عياش .
وقد ذكر أخي السيد محمود محمد شاكر أنه وجد في المخطوطة ، في آخر هذا الحديث " كلمة غريبة جدا ، بعد قوله " الذين جاوزوا النهر " وهي " فسكت " - واضحة جدا . ولم أجدها في مكان آخر ولم أستطع أن أعرف ما هي . وقد حذفت في المطبوعة " .
وأقول : إني لم أجد - أيضًا - هذه الكلمة ، ولم أستطع أن أعرف ما هي ؟ ولذلك رأينا حذفها من مطبوعتنا هذه ، مع بيان ذلك ، أداء للأمانة العلمية .

(5/346)


5726 - حدثنا محمد بن بشار قال ، حدثنا أبو عامر قال ، حدثنا سفيان ، عن أبي إسحاق ، عن البراء قال : كنا نتحدث أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كانوا يوم بدر ثلثمئة وبضعة عشر رجلا على عدة أصحاب طالوت من جاز معه ، وما جاز معه إلا مؤمن. (1)
5727 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن أبي إسحاق ، عن البراء بنحوه. (2)
5728 - حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا مؤمل قال ، حدثنا سفيان ، عن أبي إسحاق ، عن البراء قال : كنا نتحدث أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كانوا يوم بدر على عدة أصحاب طالوت يوم جاوزوا النهر ، وما جاوز معه إلا مسلم. (3)
5729 - حدثنا أحمد بن إسحاق قال ، حدثنا أبو أحمد قال ، حدثنا مسعر ، عن أبي إسحاق ، عن البراء مثله. (4)
5730 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قال : ذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه يوم بدر : أنتم بعدة
__________
(1) احديث : 5726 - أبو عامر : هو العقدي ، عبد الملك بن عمرو .
(2) الحديث : 5727 - والد وكيع : هو الجراح بن مليح بن عدي الرؤاسي ، وهو ثقة ، تكلم فيه بغير حجة ، كما بينا في شرح المسند ، في الحديث : 650 . ورواية وكيع عن أبيه هذا الحديث - هي إحدى روايات المسند ، التي أشرنا إليها في الحديث الماضي : 5724 .
(3) الحديث : 5728 - مؤمل : هو ابن إسماعيل العدوى . وسفيان - في هذا والذي قبله : هو الثوري .
(4) الحديث : 5729 - أبو أحمد : هو الزبيري ، محمد بن عبدالله بن الزبير الأسدي . مسعر : هو ابن كدام ، مضت ترجمته في : 1974 .

(5/347)


أصحاب طالوت يوم لقي. وكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر ثلثمئة وبضعة عشر رجلا.
5731 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع قال : محص الله الذين آمنوا عند النهر ، وكانوا ثلثمئة ، وفوق العشرة ودون العشرين ، فجاء داود صلى الله عليه وسلم فأكمل به العدة.
* * *
وقال آخرون : بل جاوز معه النهر أربعة آلاف ، وإنما خلص أهل الإيمان منهم من أهل الكفر والنفاق ، حين لقوا جالوت.
* ذكر من قال ذلك :
5732 - حدثني موسى بن هارون قال ، حدثنا عمرو قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي قال : عبر مع طالوت النهر من بني إسرائيل أربعة آلاف ، فلما جاوزه هو والذين آمنوا معه فنظروا إلى جالوت ، رجعوا أيضا وقالوا : " لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده " . فرجع عنه أيضا ثلاثة آلاف وستمئة وبضعة وثمانون ، وخلص في ثلثمئة وبضعة عشر ، عدة أهل بدر. (1)
5733 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج قال ، قال ابن عباس : لما جاوزه هو والذين آمنوا معه ، قال الذين شربوا : " لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده " .
* * *
قال أبو جعفر : وأولى القولين في ذلك بالصواب ما روي عن ابن عباس وقاله السدي; وهو أنه جاوز النهر مع طالوت المؤمن الذي لم يشرب من النهر إلا الغرفة ، والكافر الذي شرب منه الكثير. ثم وقع التمييز بينهم بعد ذلك برؤية جالوت
__________
(1) الأثر : 5732 - هو جزء من الأثر الطويل الذى رواه في التاريخ 1 : 242 - 243 ، وجزأه في التفسير ، كما أشرنا إليه في التعليق على الأثر : 5720 . ورواية أبي جعفر هنا : " وخلص في ثلثمئة وبضعة عشر " ، وفي التاريخ " وتسعة عشر " .

(5/348)


ولقائه ، وانخزل عنه أهل الشرك والنفاق (1) وهم الذين قالوا : " لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده " ومضى أهل البصيرة بأمر الله على بصائرهم ، وهم أهل الثبات على الإيمان ، فقالوا : " كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين " .
* * *
فإن ظن ذو غفلة أنه غير جائز أن يكون جاوز النهر مع طالوت إلا أهل الإيمان الذين ثبتوا معه على إيمانهم ، ومن لم يشرب من النهر إلا الغرفة ، لأن الله تعالى ذكره قال : " فلما جاوزه هو والذين آمنوا معه " ، فكان معلوما أنه لم يجاوز معه إلا أهل الإيمان ، على ما روي به الخبر عن البراء بن عازب ، ولأن أهل الكفر لو كانوا جاوزوا النهر كما جاوزه أهل الإيمان ، لما خص الله بالذكر في ذلك أهل الإيمان (2) فإن الأمر في ذلك بخلاف ما ظن. وذلك أنه غير مستنكر أن يكون الفريقان - أعني فريق الإيمان وفريق الكفر جاوزوا النهر ، وأخبر الله نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم ، عن المؤمنين بالمجاوزة ، لأنهم كانوا من الذين جاوزوه مع ملكهم وترك ذكر أهل الكفر ، وإن كانوا قد جاوزوا النهر مع المؤمنين .
والذي يدل على صحة ما قلنا في ذلك ، قول الله تعالى ذكره : " فلما جاوزه هو والذين آمنوا معه قالوا : لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده قال الذين يظنون أنهم ملاقو الله كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله " ، فأوجب الله تعالى ذكره أن " الذين يظنون أنهم ملاقو الله " ، هم الذين قالوا عند مجاوزة النهر : " كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله " ، دون غيرهم الذين لا يظنون أنهم ملاقو
__________
(1) في المطبوعة : " وانخذل عنه " ، بالذال ، وهو خطأ غث لا يقال هنا ، والصواب في المخطوطة . وانخزل عنه : انقطع وانفرد ، وفي حديث آخر : " انخزل عبدالله بن أبي من ذلك المكان " ، أي انفرد ورجع بقومه .
(2) السياق : " فإن ظن ذو غفلة00 فإن الأمر في ذلك بخلاف ما ظن " .

(5/349)


الله - وأن " الذين لا يظنون أنهم ملاقو الله " ، هم الذين قالوا : " لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده " . وغير جائز أن يضاف الإيمان إلى من جحد أنه ملاقي الله ، أو شك فيه. (1)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { قَالُوا لا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (249) }
قال أبو جعفر : اختلف أهل التأويل في أمر هذين الفريقين أعني القائلين : " لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده " ، والقائلين : " كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله " ، من هما ؟
فقال بعضهم : الفريق الذين قالوا : " لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده " ، هم أهل كفر بالله ونفاق ، وليسوا ممن شهد قتال جالوت وجنوده ، لأنهم انصرفوا عن طالوت ومن ثبت معه لقتال عدو الله جالوت ومن معه ، وهم الذين عصوا أمر الله لشربهم من النهر.
* ذكر من قال ذلك :
5734 - حدثني موسى قال ، حدثنا عمرو قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي بذلك.
* * *
وهو قول ابن عباس. وقد ذكرنا الرواية بذلك عنه آنفا. (2)
* * *
5735 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن
__________
(1) هذه حجة بينة ماضية ، تتضمن من البصر والفهم والدقة ما ينبغي أن يوقف عنده .
(2) انظر الأثر رقم : 5722 .

(5/350)


ابن جريج : " قال الذين يظنون أنهم ملاقو الله " ، الذين اغترفوا وأطاعوا ، الذين مضوا مع طالوت المؤمنون ، وجلس الذين شكوا.
* * *
وقال آخرون : كلا الفريقين كان أهل إيمان ، ولم يكن منهم أحد شرب من الماء إلا غرفة ، بل كانوا جميعا أهل طاعة ، ولكن بعضهم كان أصح يقينا من بعض. وهم الذين أخبر الله عنهم أنهم قالوا : " كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله " . والآخرون كانوا أضعف يقينا. وهم الذين قالوا : " لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده " .
* ذكر من قال ذلك :
5736 - حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة : " فلما جاوزه هو والذين آمنوا معه قالوا لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده قال الذين يظنون أنهم ملاقو الله كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين " ، ويكون [والله] المؤمنون بعضهم أفضل جدا وعزما من بعض ، وهم مؤمنون كلهم. (1)
5737 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : " كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله " ، أن النبي قال لأصحابه يوم بدر : أنتم بعدة أصحاب طالوت : ثلثمئة. قال قتادة : وكان مع النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر ثلثمئة وبضعة عشر.
5438 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد : الذين لم يأخذوا الغرفة أقوى من الذين أخذوا ، وهم الذين قالوا : " كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين " .
* * *
ويجب على القول الذي روي عن البراء بن عازب : أنه لم يجاوز النهر مع طالوت
__________
(1) ما بين القوسين زيادة من المخطوطة .

(5/351)


إلا عدة أصحاب بدر - أن يكون كلا الفريقين اللذين وصفهما الله بما وصفهما به ، أمرهما على نحو ما قال فيهما قتادة وابن زيد.
* * *
قال أبو جعفر : وأولى القولين في تأويل الآية ما قاله ابن عباس والسدي وابن جريج ، وقد ذكرنا الحجة في ذلك فيما مضى قبل آنفا. (1)
* * *
وأما تأويل قوله : " قال الذين يظنون أنهم ملاقو الله " ، فإنه يعني : قال الذين يعلمون ويستيقنون أنهم ملاقو الله. (2)
5739 - حدثني موسى قال ، حدثنا عمرو قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي " قال الذين يظنون أنهم ملاقو الله " ، الذين يستيقنون.
* * *
فتأويل الكلام : قال الذين يوقنون بالمعاد ويصدقون بالمرجع إلى الله ، للذين قالوا : " لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده " " كم من فئة قليلة " ، يعني ب " كم " ، كثيرا ، غلبت فئة قليلة " فئة كثيرة بإذن الله " ، يعني : بقضاء الله وقدره (3) " والله مع الصابرين " ، يقول : مع الحابسين أنفسهم على رضاه وطاعته. (4)
* * *
وقد أتينا على البيان عن وجوه " الظن " ، وأن أحد معانيه : العلم اليقين ، بما يدل على صحة ذلك فيما مضى ، فكرهنا إعادته. (5)
* * *
وأما " الفئة " ، فإنهم الجماعة من الناس ، لا واحد له من لفظه ، وهو مثل " الرهط " و " النفر " ، يجمع (6) " فئات " ، و " فئون " في الرفع ، و " فئين " في
__________
(1) انظرما سلف : 349 ، 350 .
(2) انظر القول في قوله : " ملاقو الله " فيما سلف 2 : 20 - 22 /4 : 419 .
(3) انظر تفسي " الإذن " فيما سلف 2 : 449 ، 450/ 4 : 287 ، 371 .
(4) انظر معنى " الصبر " فيما سلف 2 : 11 ، 124/ 3 : 214 ، 349 ، وفهارس اللغة .
(5) انظر ما سلف 2 : 17 - 20/ ثم : 265 .
(6) في المطبوعة : " جمعه " ، وأثبت ما في المخطوطة .

(5/352)


وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (250)

النصب والخفض ، بفتح نونها في كل حال. و " فئين " بالرفع بإعراب نونها بالرفع وترك الياء فيها ، وفي النصب " فئينا " ، وفي الخفض " فئين " ، فيكون الإعراب في الخفض والنصب في نونها. وفي كل ذلك مقرة فيها " الياء " على حالها. فإن أضيفت قيل : " هؤلاء فئينك " ، (1) بإقرار النون وحذف التنوين ، كما قال الذين لغتهم : " هذه سنين " ، في جمع " السنة " : " هذه سنينك " ، بإثبات النون وإعرابها وحذف التنوين منها للإضافة. وكذلك العمل في كل منقوص مثل " مئة " و " ثبة " و " قلة " و " عزة " : فأما ما كان نقصه من أوله ، فإن جمعه بالتاء ، مثل " عدة وعدات " ، و " صلة وصلات " .
* * *
وأما قوله : " والله مع الصابرين " فإنه يعني : والله معين الصابرين على الجهاد في سبيله وغير ذلك من طاعته ، وظهورهم ونصرهم على أعدائه الصادين عن سبيله ، المخالفين منهاج دينه.
* * *
وكذلك يقال لكل معين رجلا على غيره : " هو معه " ، بمعنى هو معه بالعون له والنصرة. (2)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (250) }
قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بقوله : " ولما برزوا لجالوت وجنوده " ، ولما برز طالوت وجنوده لجالوت وجنوده.
* * *
__________
(1) في المطبوعة : " فئنك " ، وهو خطأ .
(2) انظر تفسير " فيما سلف 3 : 214 .

(5/353)


فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآَتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ (251)

ومعنى قوله : " برزوا " صاروا بالبراز من الأرض ، وهو ما ظهر منها واستوى. ولذلك قيل للرجل القاضي حاجته : " تبرز " ، لأن الناس قديما في الجاهلية ، إنما كانوا يقضون حاجتهم في البراز من الأرض. وذلك كما قيل : (1) " تغوط " ، لأنهم كانوا يقضون حاجتهم في " الغائط " من الأرض ، وهو المطمئن منها ، فقيل للرجال : " تغوط " أي صار إلى الغائط من الأرض.
* * *
وأما قوله : " ربنا أفرغ علينا صبرا " ، فإنه يعني أن طالوت وأصحابه قالوا : " ربنا أفرغ علينا صبرا " ، يعني أنزل علينا صبرا.
* * *
وقوله : " وثبت أقدامنا " ، يعني : وقو قلوبنا على جهادهم ، لتثبت أقدامنا فلا نهزم عنهم " وانصرنا على القوم الكافرين " ، الذين كفروا بك فجحدوك إلها وعبدوا غيرك ، واتخذوا الأوثان أربابا.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ }
قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بقوله : " فهزموهم " ، (2) فهزم طالوت وجنوده أصحاب جالوت ، وقتل داود جالوت.
وفي هذا الكلام متروك ، ترك ذكره اكتفاء بدلالة ما ظهر منه عليه. وذلك أن معنى الكلام : " ولما برزوا لجالوت وجنوده قالوا ربنا أفرغ علينا صبرا وثبت
__________
(1) في المخطوطة والمطبوعة : " لذلك كما قيل " ، والسياق يقتضي ما أثبت ، وليست " لذلك " من تمام الجملة السالفة .
(2) في المخطوطة والمطبوعة : " يعني تعالى ذكره بقوله فهزم طالوت... " ، والسياق يقتضي زيادة " فهزموهم " من نص الآية .

(5/354)


أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين " ، فاستجاب لهم ربهم ، فأفرغ عليهم صبره وثبت أقدامهم ، ونصرهم على القوم الكافرين " فهزموهم بإذن الله " ولكنه ترك ذكر ذلك اكتفاء بدلالة قوله : " فهزموهم بإذن الله " ، على أن الله قد أجاب دعاءهم الذي دعوه به.
* * *
ومعنى قوله : " فهزموهم بإذن الله " ، فلوهم بقضاء الله وقدره. (1) يقال منه : " هزم القوم الجيش هزيمة وهزيمى " . (2)
* * *
" وقتل داود جالوت " . وداود هذا هو داود بن إيشى ، (3) نبي الله صلى الله عليه وسلم. وكان سبب قتله إياه ، كما : -
5740 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا بكار بن عبد الله قال ، سمعت وهب بن منبه يحدث قال : لما خرج أو قال : لما برز طالوت لجالوت ، قال جالوت : أبرزوا إلي من يقاتلني ، فإن قتلني فلكم ملكي ، وإن قتلته فلي ملككم! فأتي بداود إلى طالوت ، فقاضاه إن قتله أن ينكحه ابنته ، (4) وأن يحكمه في ماله. فألبسه طالوت سلاحا ، فكره داود أن يقاتله بسلاح ، (5) وقال : إن الله لم ينصرني عليه ، لم يغن السلاح! فخرج إليه بالمقلاع ، وبمخلاة فيها أحجار ، ثم برز له. قال له جالوت : أنت تقاتلني! ! قال داود :
__________
(1) انظر معنى الإذن فيما سلف قريبا : 352 ، تعليق : 3 . ومراجعة هناك ، وأما قوله " فلوهم " ، فهو من قولهم : " فللت الجيش فلا " ، هزمته وكسرته . وكان في المخطوطة و المطبوعة : " قتلوهم " من القتل ، وهو خطأ لا خير فيه ، فإن الهزيمة الانكسار ، لا القتل . وهزمه : كسره ، لا قتله .
(2) " هزيمى " بكسر الهاء وتشديد الزاى المكسورة ، وميم مفتوحة للألف المقصورة .
(3) ( يسى) في كتاب القوم ، (صموئيل الأول : الإصحاح السابع عشر) .
(4) قاضاه على كذا : صالحه عليه ، وهو من القضاء الفصل والحكم ، ومثله ما جاء في صلح الحديبية : " هذا ما قاضى عليه محمد " .
(5) قوله " بسلاح " ليست في المطبوعة ولا المخطوطة ، وهي لا غنى عنها ، زدتها من نص الأثر في الدر المنثور 1 : 318 - 319 .

(5/355)


نعم! قال : ويلك! ما خرجت إلا كما يخرج إلى الكلب بالمقلاع والحجارة! (1) لأبددن لحمك ، (2) ولأطعمنّه اليوم الطير والسباع! فقال له داود : بل أنت عدو الله شر من الكلب! فأخذ داود حجرا ورماه بالمقلاع ، فأصابت بين عينيه حتى نفذ في دماغه ، (3) فصرع جالوت وانهزم من معه ، واحتز داود رأسه. فلما رجعوا إلى طالوت ، ادّعى الناس قتل جالوت ، فمنهم من يأتي بالسيف ، وبالشيء من سلاحه أو جسده ، وخبأ داود رأسه. فقال طالوت : من جاء برأسه فهو الذي قتله! فجاء به داود ، ثم قال لطالوت : أعطني ما وعدتني! فندم طالوت على ما كان شرط له ، وقال : إن بنات الملوك لا بد لهن من صداق وأنت رجل جريء شجاع ، فاحتمل صداقها ثلثمئة غلفة من أعدائنا. (4) وكان يرجو بذلك أن يقتل داود. فغزا داود وأسر منهم ثلثمئة وقطع غلفهم ، وجاء بها. فلم يجد طالوت بدا من أن يزوجه ، ثم أدركته الندامة. فأراد قتل داود حتى هرب منه إلى الجبل ، فنهض إليه طالوت فحاصره. فلما كان ذات ليلة سلط النوم على طالوت وحرسه ، فهبط إليهم داود فأخذ إبريق طالوت الذي كان يشرب منه ويتوضأ ، وقطع شعرات من لحيته وشيئا من هدب ثيابه ، (5) ثم رجع داود إلى مكانه فناده : أن [ قد نمت ونام] حرسك ، (6) فإني لو شئت أقتلك البارحة فعلت ، فإنه هذا إبريقك ، وشيء من شعر لحيتك وهدب ثيابك! وبعث [ به] إليه ، (7) فعلم طالوت أنه لو شاء قتله ، فعطفه ذلك عليه فأمنه ، وعاهده بالله لا يرى منه بأسا. ثم انصرف. ثم كان في آخر أمر طالوت أنه كان يدس لقتله. وكان طالوت لا يقاتل عدوا إلا هزم ، حتى مات قال بكار : وسئل وهب وأنا أسمع : أنبيا كان طالوت يوحى إليه ؟ فقال : لم يأته وحي ، ولكن كان معه نبي يقال له أشمويل يوحى إليه ، وهو الذي ملك طالوت.
5741 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق قال ، كان داود النبي وإخوة له أربعة ، معهم أبوهم شيخ كبير ، فتخلف أبوهم ، وتخلف معه داود من بين إخوته في غنم أبيه يرعاها له ، وكان من أصغرهم. وخرج إخوته الأربعة مع طالوت ، فدعاه أبوه وقد تقارب الناس ودنا بعضهم من بعض.
قال ابن إسحاق : وكان داود ، فيما ذكر لي بعض أهل العلم عن وهب بن منبه : رجلا قصيرا أزرق ، (8) قليل شعر الرأس ، وكان طاهر القلب نقيه (9) فقال له أبوه : يا بني ، إنا قد صنعنا لإخوتك زادا يتقوون به على عدوهم ، فاخرج به إليهم ، فإذا دفعته إليهم فأقبل إلي سريعا! فقال : أفعل. فخرج وأخذ معه ما حمل لإخوته ، ومعه مخلاته التي يحمل فيها الحجارة ، ومقلاعه الذي كان يرمي به عن غنمه. حتى إذا فصل من عند أبيه ، فمر بحجر فقال : يا داود! خذني فاجعلني في مخلاتك تقتل بي جالوت ، فإني حجر يعقوب! فأخذه فجعله في مخلاته ، ومشى. فبينا هو يمشي إذ مر بحجر آخر فقال : يا داود! خذني فاجعلني في مخلاتك تقتل بي
__________
(1) في المخطوطة : " أما رحب إلا كما تخرج " ، وفي المطبوعة : " إما تخرج إلي إلا كما يخرج " والذي في الدر المنثور ، إقرب إلى ما في المخطوطة ، مع نسخ الناسخ في هذا الموضع خاصة .
(2) في المخطوطة : " لأردن لحمك " ، وكأن ما في المطبوعة هو الصواب ، وكذلك هو في الدر المنثور .
(3) في المطبوعة والدر المنثور : " فأصابت بين عينيه ونفذت " ، وأثبت ما في المخطوطة .
(4) الغلفة والغرلة والقلفة (بضم أولها وسكون ثانيها " ، هو الغشاء الذي يقع عليه الختان من عورة الرجل .
(5) هدب الثوب وهدبته : طرفه مما يلي طرته .
(6) في المطبوعة والمخطوطة : " فناداه أن... حرسك " بياض بينهما ، وهكذا رأيت أن تكون ولو اختار أن تكون : " أن بدل حرسك " ، لكان حسنا أيضًا .
(7) ما بين القوسين زيادة يتقضيها السياق .
(8) قوله : " أزرق " ، يريد أزرق العينين ، وكانت العرب تتشاءم من الزرق . (انظر الحيوان 5 : 330 - 333) .
(9) هذه الفقرة من الأثر ، رواها أبو جعفر في تاريخه 1 : 247 .

(5/356)


جالوت ، فإني حجر إسحاق ! فأخذه فجعله في مخلاته ، ثم مضى. فبينا هو يمشي إذ مر بحجر فقال : يا داود! خذني فاجعلني في مخلاتك تقتل بي جالوت ، فإني حجر إبراهيم! فأخذه فجعله في مخلاته. ثم مضى بما معه حتى انتهى إلى القوم ، فأعطى إخوته ما بعث إليهم معه. وسمع في العسكر خوض الناس بذكر جالوت وعظم شأنه فيهم ، (1) وبهيبة الناس إياه ، وبما يعظمون من أمره ، (2) فقال لهم : والله إنكم لتعظمون من أمر هذا العدو شيئا ما أدري ما هو! ! والله إني لو أراه لقتلته! فأدخلوني على الملك. فأدخل على الملك طالوت ، فقال : أيها الملك ، إني أراكم تعظمون شأن هذا العدو! والله إني لو أراه لقتلته! فقال : يا بني! ما عندك من القوة على ذلك ؟ (3) وما جربت من نفسك ؟ (4) قال : قد كان الأسد يعدو على الشاة من غنمي فأدركه ، فآخذ برأسه ، فأفك لحييه عنها ، فآخذها من فيه ، (5) فادع لي بدرع حتى ألقيها علي. فأتي بدرع فقذفها في عنقه ، ومثل فيها ملء عين طالوت ونفسه ومن حضره من بني إسرائيل ، (6) فقال طالوت : والله ، لعسى الله أن يهلكه به! فلما أصبحوا رجعوا إلى جالوت ، فلما التقى الناس قال داود : أروني جالوت! فأروه إياه على فرس عليه لأمته ، (7) فلما رآه جعلت الأحجار الثلاثة تواثب من مخلاته ، فيقول هذا : خذني! ويقول هذا : خذني! ويقول هذا : خذني! فأخذ أحدها فجعله في مقذافه ، ثم فتله به ، ثم أرسله ، فصك به بين عيني جالوت فدمغه ، (8) وتنكس عن دابته ، فقتله. ثم انهزم جنده ، وقال الناس : قتل داود جالوت! وخلع طالوت وأقبل الناس على داود مكانه ، حتى لم يسمع لطالوت بذكر إلا أن أهل الكتاب يزعمون أنه لما رأى انصراف بني إسرائيل عنه إلى داود ، هم بأن يغتال داود وأراد قتله ، فصرف الله ذلك عنه وعن داود ، وعرف خطيئته ، والتمس التوبة منها إلى الله.
* * *
وقد روي عن وهب بن منبه في أمر طالوت وداود قول خلاف الروايتين اللتين ذكرنا قبل ، وهو ما : -
5742 - حدثني به المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا إسماعيل بن عبد الكريم قال ، حدثني عبد الصمد بن معقل : أنه سمع وهب بن منبه قال : لما سلمت بنو إسرائيل الملك لطالوت ، أوحى إلى نبي بني إسرائيل : (9) أن قل لطالوت فليغز أهل مدين ، فلا يترك فيها حيا إلا قتله ، فإني سأظهره عليهم. فخرج بالناس حتى أتى مدين ، فقتل من كان فيها إلا ملكهم فإنه أسره ، وساق مواشيهم. فأوحى الله إلى أشمويل : ألا تعجب من طالوت إذ أمرته بأمري فاختل فيه ، (10) فجاء بملكهم أسيرا ، وساق مواشيهم! فالقه. فقل له : لأنزعن الملك من بيته ثم لا يعود فيه إلى يوم القيامة ، فإني إنما أكرم من أطاعني ، وأهين من هان
__________
(1) في المخطوطة : " سمع دوحرص الناس بذكر جالوت " ، ولم يتبين لي كيف كانت ، ولا ما هي ، فتركت ما في المطبوعة على حاله ، فإنه قريب المعنى صحيحه .
(2) في المخطوطة والمطبوعة : " ومما يعظمون " ، وما أثبت أشبه بالسياق . والمخطوطة كثيرة التحريف والتصحيف هنا كما ترى .
(3) في المطبوعة : " فأتني ما عندك من القوة " ، وهو كلام سخيف . والصواب من المخطوطة ، لم يحسن الطابع أو الناسخ قراءتها . والنظر ما سيأتي في الأثر : 5742 ، وقوله : " يا بني " ، وسؤاله : " هل آنست من نفسك شيئا " ، ص :
(4) في المخطوطة والمطبوعة : " ومما جربت " ، والسياق يوجب ما أثبت .
(5) اللحيان العظمان اللذان فيهما الأسنان . وهما حائطا الفم ، الواحد " لحى " (بفتح فسكون) .
(6) في المطبوعة : " ومثل فيها فملأ عين طالوت " ، وفي المخطوطة : " وسل فيها مل عين طالوت " .
غير منقوطة ولا بينة . وأثبت " مثل " من المطبوعة ، وكأنها قربية من الصواب . وفي المطبوعة : " ومن حضر " ، وأثبت في المخطوطة .
(7) اللأمة (بفتح فسكون) : الدرع الحصينة وبيضة الرأس ، من لباس الحرب .
(8) دمغه دمغا : شجه ، حتى بلغت الشجة الدماغ . وهذه الشجة تسمى " الدامغة " .
(9) في المخطوطة : " أوحى إلى بني بني إسرائيل " ، وفي المطبوعة : " أوحى إلى نبي بني إسرائيل " ، وأثبت ما في تاريخ الطبري .
(10) في المطبوعة : " فاختان فيه " ، من الخيانة . وكان في المخطوطة : " فاختار فيه " ، من الاختيار ، أي اختار ما شاء منه ولم ينفذه على وجهه تماما . وأثبت ما في التاريخ . و " اختل " من الخلل : وهو الفساد والوهن في الأمر ، وترك إبرامه وإحكامه . يقال : " أخل بالأمر " ، لم يف به . و " أخل بمكانه " : غاب عنه وتركه . فمعنى " أختل فيه " . أي ضعف فيه وأدخل عليه الخلل . ولم أجد نصها في كتب اللغة ، ولكنها عربية البناء .
هذا ، وكان في المخطوطة والمطبوعة : " إذ أمرته فاختان " ، بحذف " بأمري " ، وأثبتها من التاريخ .

(5/358)


عليه أمري! فلقيه فقال له : (1) ما صنعت!! لم جئت بملكهم أسيرا ، ولم سقتَ مواشيهم ؟ قال : إنما سقت المواشي لأقربها. (2) قال له أشمويل : إن الله قد نزع من بيتك الملك ، ثم لا يعود فيه إلى يوم القيامة! فأوحى الله إلى أشمويل : أن انطلق إلى إيشى ، فيعرض عليك بنيه ، فادهن الذي آمرك بدهن القدس ، يكن ملكا على بني إسرائيل. فانطلق حتى أتى إيشى فقال : اعرض علي بنيك! فدعا إيشى أكبر ولده ، فأقبل رجل جسيم حسن المنظر ، فلما نظر إليه أشمويل أعجبه فقال : الحمد لله ، إن الله لبصير بالعباد! فأوحى الله إليه : إن عينيك يبصران ما ظهر ، وإني أطلع على ما في القلوب ، ليس بهذا! فقال : ليس بهذا ، (3) اعرض علي غيره ، فعرض عليه ستة في كل ذلك يقول : ليس بهذا. فقال : هل لك من ولد غيرهم ؟ فقال : بلى! لي غلام أمغر ، (4) وهو راع في الغنم . فقال : أرسل إليه. فلما أن جاء داود ، جاء غلام أمغر ، فدهنه بدهن القدس وقال لأبيه : اكتم هذا ، فإن طالوت لو يطلع عليه قتله. فسار جالوت في قومه إلى بني إسرائيل ، فعسكر ، وسار طالوت ببني إسرائيل وعسكر ، وتهيئوا للقتال. فأرسل جالوت إلى طالوت : لم يقتل قومي وقومك ؟ (5) ابرز لي ، أو أبرز لي من شئت ، فإن قتلتك كان الملك لي ، وإن قتلتني كان الملك لك. فأرسل طالوت في عسكره صائحا : من يبرز لجالوت ، فإن قتله فإن الملك يُنْكحه ابنته ، ويشركه في ملكه. (6) فأرسل إيشى داود إلى إخوته قال الطبري ، هو أيشى ، ولكن قال المحدث : إشى (7) وكانوا في العسكر فقال : اذهب فزود إخوتك ، (8) وأخبرني خبر الناس ماذا صنعوا ؟ فجاء إلى إخوته وسمع صوتا : إن الملك يقول : من يبرز لجالوت! فإن قتله أنكحه الملك ابنته. فقال داود لإخوته : ما منكم رجل يبرز لجالوت فيقتله وينكح ابنة الملك ؟ فقالوا : إنك غلام أحمق! ومن يطيق جالوت ، وهو من بقية الجبارين!! فلما لم يرهم رغبوا في ذلك قال : فأنا أذهب فأقتله! فانتهروه وغضبوا عليه ، فلما غفلوا عنه ذهب حتى جاء الصائح فقال : أنا أبرز لجالوت! فذهب به إلى الملك ، فقال له : لم يجبني أحد إلا غلام من بني إسرائيل ، هو هذا! قال : يا بني ، أنت تبرز لجالوت فتقاتله! قال : نعم. قال : وهل آنست من نفسك شيئا ؟ قال : نعم ، كنت راعيا في الغنم فأغار علي الأسد ، فأخذت بلحييه ففككتهما. فدعا له بقوس وأداة كاملة ، فلبسها وركب الفرس ، ثم سار منهم قريبا ، ثم صرف فرسه ، فرجع إلى الملك ، فقال الملك ومن حوله : جبن الغلام! فجاء فوقف على الملك ، فقال : ما شأنك ؟ قال داود : إن لم يقتله الله لي ، لم يقتله هذا الفرس وهذا السلاح! فدعني فأقاتل كما أريد. فقال : نعم يا بني. فأخذ داود مخلاته فتقلدها ، وألقى فيها أحجارا ، وأخذ مقلاعه الذي كان يرعى به ، (9) ثم مضى نحو جالوت. فلما دنا من عسكره قال : أين جالوت يبرز لي ؟ فبرز له على فرس عليه السلاح كله ، فلما رآه جالوت قال : إليك أبرز ؟! قال نعم. قال : فأتيتني بالمقلاع والحجر كم يؤتى إلى الكلب! قال : هو ذاك. قال : لا جرم أني سوف أقسم لحمك بين طير السماء وسباع الأرض! قال داود : أو يقسم الله لحمك! فوضع داود حجرا في مقلاعه ثم دوره فأرسله نحو جالوت ، فأصاب أنف البيضة التي على جالوت حتى خالط دماغه ، فوقع من فرسه. فمضى داود إليه فقطع رأسه بسيفه ، فأقبل به في مخلاته ، وبسلبه يجره ، حتى ألقاه بين يدي طالوت ، ففرحوا فرحا شديدا. وانصرف طالوت ، فلما كان داخل المدينة سمع الناس يذكرون داود ، فوجد في نفسه. (10) فجاءه داود فقال : أعطني امرأتي! فقال : أتريد ابنة الملك بغير صداق ؟ فقال داود : ما اشترطت علي صداقا ، وما لي من شيء!! قال : لا أكلفك إلا ما تطيق ، أنت رجل جريء ، وفي جبالنا هذه جراجمة يحتربون الناس ، (11) وهم غلف ، فإذا قتلت منهم مئتي رجل فأتني بغلفهم. (12) فجعل كلما قتل منهم رجلا نظم غلفته في خيط ، حتى نظم مئتي غلفة. ثم جاء بهم إلى طالوت فألقى بها إليه (13) فقال : ادفع إلي امرأتي ، قد جئت بما اشترطت. فزوجه ابنته ، (14) وأكثر الناس ذكر داود ، وزاده عند الناس عجبا. (15) فقال طالوت لابنه : لتقتلن داود! قال : سبحان الله ، ليس بأهل ذلك منك! قال : إنك غلام أحمق! ما أراه إلا سوف يخرجك وأهل بيتك من الملك! فلما سمع ذلك من أبيه انطلق إلى أخته فقال لها : إني قد خفت أباك أن يقتل زوجك داود ، فمريه أن يأخذ حذره ويتغيب منه. فقالت له امرأته ذلك ، فتغيب. فلما أصبح أرسل طالوت من يدعو له داود ، وقد صنعت امرأته على فراشه كهيئة النائم ولحفته. فلما جاء رسول طالوت قال : أين داود ؟ ليجب الملك! فقالت له : بات شاكيا ونام الآن ، ترونه على الفراش. فرجعوا إلى طالوت فأخبروه ذلك ، فمكث ساعة ثم أرسل إليه ، فقالت : هو نائم لم يستيقظ بعد. فرجعوا إلى الملك فقال : ائتوني به وإن كان نائما ! فجاؤوا إلى الفراش فلم يجدوا عليه أحدا ، فجاؤوا الملك فأخبروه ، فأرسل إلى ابنته فقال : ما حملك على أن تكذبين ؟ قالت : هو أمرني بذلك ، وخفت إن لم أفعل أمره أن يقتلني! وكان داود فارا في الجبل حتى قتل طالوت وملك داود بعده.
5743 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد قال : كان طالوت أميرا على الجيش ، فبعث أبو داود مع داود بشيء إلى إخوته ، فقال داود لطالوت : ماذا لي فأقتل جالوت ؟ قال : لك ثلث ملكي ، وأنكحك ابنتي. (16) فأخذ مخلاته ، فجعل فيها ثلاث مروات ، (17) ثم سمى حجارته تلك : " إبراهيم ، وإسحاق ، ويعقوب " ، ثم أدخل يده فقال : باسم إلهي وإله آبائي إبراهيم وإسحاق ويعقوب! فخرج على " إبراهيم " ، فجعله في مرجمته ، فخرقت ثلاثا وثلاثين بيضة عن رأسه ، وقتلت ثلاثين ألفا من ورائه.
5744 - حدثني موسى قال ، حدثنا عمرو قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي قال : عبر يومئذ النهر مع طالوت أبو داود فيمن عبر ، مع ثلاثة عشر ابنا له ، وكان داود أصغر بنيه. فأتاه ذات يوم فقال : يا أبتاه ، ما أرمي بقذافتي شيئا إلا صرعته! فقال : أبشر يا بني! فإن الله قد جعل رزقك في قذافتك. ثم أتاه مرة أخرى فقال : يا أبتاه ، لقد دخلت بين الجبال فوجدت أسدا رابضا ، فركبت عليه فأخذت بأذنيه ، فلم يهجني! (18) قال : أبشر يا بني! فإن هذا خير يعطيكه
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة بإسقاط " له " ، وأثبتها من التاريخ .
(2) أي : لأجعلها قربانا لله ، يذبحها قربانا .
(3) قوله : " فقال : ليس بهذا " ، ساقطة من المخطوطة والمطبوعة ، وأثبتها من التاريخ .
(4) في المخطوطة والمطبوعة : " بني لي غلام... " ، وأثبت ما في التاريخ . وقوله " أمغر " هنا ، ليست في المخطوطة ولا المطبوعة ، وأثبتها من التاريخ . والأمغر : الذي في وجهه حمرة وبياض . وفي كتاب القوم (صموئيل الأول ، الإصحاح السادس عشر) أنه كان أشقر .
(5) في المطبوعة : " لم تقتل قومي وأقتل قومك " ، وأثبت ما في المخطوطة والتاريخ .
(6) عند هذا الموضع ، انتهى ما رواه الطبري في تاريخه 1 : 247 - 248 من هذا الأثر .
(7) هذه الجملة المعترضة ثابتة في المخطوطة ، وحذفت من المطبوعة .
(8) في المخطوطة والمطبوعة : " فرد إخوتك " ، وليس صحيحا ، بل الصحيح أنه أرسله بزاد إلى إخوته كما سلف في الماضية ، وكأن الصواب " فزود " ، أو " بزاد إخوتك " .
(9) هكذا في المخطوطة و المطبوعة ، وأجدر أن يقال : " يرمي به " .
(10) وجد في نفسه : أي غضب ، فلم يظهر غضبه ، وحسده على ما أصاب من ذكر الناس له .
(11) الجراجمة : نبط الشام . واحتربه : استلبه وانتهبه ، يقول : هم لصوص يستلبون الناس وينتهبونهم .
(12) الغلف (بضم فسكون) جمع أغلف " ، وهو الذي لم يختتن . وأما " فأتني بغلفهم " فهو جمع غلفة (بضم فسكون) : وهي الغرلة التي يقع عليها الختان .
(13) في المخطوطة : " مئتي غلفة إلى طالوت " ، وما بينهما بياض ، وقد تركت ما في المطبوعة على حاله ، لأنه سياق لا بأس به ، إلا أنه كان فيها : " ثم جاء بهم إلى طالوت فألقى إليه " ، فجعلتها كما ترى .
(14) في المخطوطة : " قد... وأكثر الناس " ما بعد " قد " بياض ، وتركت ما في المطبوعة على حاله ، لوفائه بالسياق .
(15) كأنها في المخطوطة تقرأ : " ورأوه عند الناس عجبا " ، ولكني لم أستطع تحققها ، فتركت ما في المطبوعة كما هو ، فهو قريب المعنى .
(16) في المطبوعة : " ثلث مالي " ، والذى في المخطوطة : " ثلث مللى " ، فرجحت أنها " ملكي " لما سيأتي في الأثر رقم : 5744 ، 5747 .
(17) مروات جمع مروة ، والمرو : حجارة بيض براقة ، تكون فيها النار ، والمرو أصلب الحجارة .
(18) هاج الشيء يهيجه : أزعجه ونفره . يعني : لم يزعجني عن مكاني منه .

(5/360)


الله. ثم أتاه يوما آخر فقال : يا أبتاه إني لأمشي بين الجبال فأسبّح ، فما يبقى جبل إلا سبح معي! فقال : أبشر يا بني! فإن هذا خير أعطاكه الله. وكان داود راعيا ، وكان أبوه خلفه يأتي إليه وإلى إخوته بالطعام. (1) فأتى النبي (2) [عليه السلام] بقرن فيه دهن ، (3) وسَنَوَّرٍ من حديد ، (4) فبعث به إلى طالوت فقال : إن صاحبكم الذي يقتل جالوت يوضع هذا القرن على رأسه فيغلي حتى يدهن منه ، ولا يسيل على وجهه ، يكون على رأسه كهيئة الإكليل ، ويدخل في هذا السَّنَوَّر فيملأه. (5) فدعا طالوت بني إسرائيل فجربهم به ، فلم يوافقه منهم أحد. (6) فلما فرغوا ، قال طالوت لأبي داود : هل بقي لك من ولد لم يشهدنا ؟ قال : نعم! بقي ابني داود ، وهو يأتينا بطعام. (7) فلما أتاه داود ، مر في الطريق بثلاثة أحجار فكلمنه وقلن له : خذنا يا داود تقتل بنا جالوت ! قال : فأخذهن فجعلهن في مخلاته. وكان طالوت قال : من قتل جالوت زوجته ابنتي وأجريت خاتمه في ملكي. فلما جاء داود ، وضعوا القرن على رأسه فغلى حتى ادهن منه ، ولبس السَّنَوَّر فملأه وكان رجلا مسقاما مصفارا (8) ولم يلبسه أحد إلا تقلقل فيه. فلما لبسه داود تضايق الثوب عليه حتى تنقض. (9) . ثم مشى إلى جالوت وكان جالوت من أجسم الناس وأشدهم فلما نظر إلى داود قذف في قلبه الرعب منه ، فقال له : يا فتى! ارجع ، فإني أرحمك أن أقتلك! قال داود : لا بل أنا أقتلك! فأخرج الحجارة فجعلها في القذافة ، كلما رفع حجرا سماه ، (10) فقال : هذا باسم أبي إبراهيم ، والثاني باسم أبي إسحاق ، والثالث باسم أبي إسرائيل. ثم أدار القذافة فعادت الأحجار حجرا واحدا ، ثم أرسله فصك به بين عيني جالوت ، فنقبتُ رأسَه فقتلته ، (11) ثم لم تزل تقتل كل إنسان تصيبه ، تنفذ منه حتى لم يكن يحيا لها أحد. فهزموهم عند ذلك ، وقتل داود جالوت ، ورجع طالوت ، فأنكح داود ابنته ، وأجرى خاتمه في ملكه. فمال الناس إلى داود فأحبوه. فلما رأى ذلك طالوت وجد في نفسه وحسده ، فأراد قتله. فعلم به داود أنه يريد به ذلك ، فسجى له زق خمر في مضجعه ، (12) فدخل طالوت إلى منام داود وقد هرب داود ، فضرب الزق ضربة فخرقه ، فسالت الخمر منه ، فوقعت قطرة من خمر في فيه ، فقال : يرحم الله داود! ما كان أكثر شربه للخمر!! ثم إن داود أتاه من القابلة في بيته وهو نائم ، فوضع سهمين عند رأسه ، وعند رجليه ، وعن يمينه وعن شماله سهمين سهمين ، (13) ثم نزل. فلما استيقظ طالوت بصر بالسهام فعرفها ، فقال : يرحم الله داود! هو خير مني ، ظفرت به فقتلته ، وظفر بي فكف عني! ثم إنه ركب يوما فوجده يمشي في البرية وطالوت على فرس ، فقال طالوت : اليوم أقتل داود ! وكان داود إذا فزع لا يدرك فركض على أثره طالوت ، ففزع داود فاشتد فدخل غارا ، (14) وأوحى الله إلى العنكبوت فضربت عليه بيتا. فلما انتهى طالوت إلى الغار ، نظر إلى بناء العنكبوت فقال : لو كان دخل ها هنا لخرق بيت العنكبوت!! فخيل إليه ، (15) فتركه. (16)
5745 - حدثت عن عمار بن الحسن قال ، حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع قال : ذكر لنا أن داود حين أتاهم كان قد جعل معه مخلاة فيها ثلاثة أحجار. وإن جالوت برز لهم فنادى : ألا رجل لرجل ! فقال طالوت : من يبرز له ؟ وإلا برزت له ؟ فقام داود فقال : أنا! فقام له طالوت فشد عليه درعه ، فجعل يراه يشخص فيها ويرتفع ، (17) فعجب من ذلك طالوت ، فشد عليه أداته كلها وإن داود رماهم بحجر من تلك الحجارة ، فأصاب في القوم ، ثم رمى الثانية بحجر ، فأصاب فيهم ، ثم رمى الثالثة فقتل جالوت. فآتاه الله الملك والحكمة وعلمه مما يشاء ، وصار هو الرئيس عليهم ، وأعطوه الطاعة.
5746 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، حدثني ابن زيد في قول الله تعالى ذكره : ( أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلإ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ ) ، فقرأ حتى بلغ : ( فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلا قَلِيلا مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ ) ، قال : أوحى الله إلى نبيهم : إن في ولد فلان رجلا يقتل الله به جالوت ، ومن علامته هذا القرن تضعه على رأسه فيفيض ماء. فأتاه فقال : إن الله أوحى إلي أن في ولدك رجلا
__________
(1) في تاريخ الطبري : " يأتي أبيه وإلي إخوته " ، والصواب ما في التفسير .
(2) قوله : " فأتى النبي... " إلى آخر الكلام ، يوهم القارئ أنه منقطع ، وليس كذلك ، فإن الطبري كعادته يقسم الأثر ويجزئه في مواضع من تفسيره . وهذا الأثر الذي هنا ، تتمة الآثار السالفة : 5720 ، 5732 ، كما أشرنا إليه في التعليق هناك ، وكما سنشير إليه بعد . والنبي هو شمعون ، كما مضى في تلك الآثار .
(3) انظر تفسير " القرن " فيما سلف : 307 ، تعليق : 1 .
(4) في المطبوعة : " وبثوب من حديد " ومثله في الدر المنثور ، وهو خطأ ، وفي المخطوطة في المواضع الآتية كلها ، وفي تاريخ الطبري ، وتفسير البغوي : " وتنور من حديد " ، والتنور : نوع من الكموانين ، وهو لا يصلح هنا . أما " السنور " ( بفتح السين والنون والواو المشدة المفتوحة) : فهو لبوس من قد (وهو الجلد المبوغ) يلبس في الحرب كالدرع . ورجح ذلك ما روي آنفًا ص : 358 ، أن داود أتي بدرع فقذفها في عنقه . وما سيأتي في رقم : 5746 ، 5747 .
(5) في المطبوعة : " وبثوب من حديد " ومثله في الدر المنثور ، وهو خطأ ، وفي المخطوطة في المواضع الآتية كلها ، وفي تاريخ الطبري ، وتفسير البغوي : " وتنور من حديد " ، والتنور : نوع من الكموانين ، وهو لا يصلح هنا . أما " السنور " ( بفتح السين والنون والواو المشدة المفتوحة) : فهو لبوس من قد (وهو الجلد المبوغ) يلبس في الحرب كالدرع . ورجح ذلك ما روي آنفًا ص : 358 ، أن داود أتي بدرع فقذفها في عنقه . وما سيأتي في رقم : 5746 ، 5747 .
(6) في المخطوطة والمطبوعة : " فجربهم فلم يوافقه " بإسقاط " به " وأثبت ما في التاريخ .
(7) في المطبوعة : " بطعامنا " ، وأثبت ما في المخطوطة والتاريخ .
(8) رجل مسقام ، وامرأة مسقام أيضًا : كثير السقم لا يكاد يبرأ . مصفار من قولهم : اصفار لونه : غلبته ، وذلك من المرض والضعف .
(9) يقال : تنقضت الغرفة وغيرها : تشققت ، وسمع لها نقيض ، وهو صوت التكسر والتشقق .
وكان في المطبوعة : " ينقض " بالياء التحتية ، والصواب من المخطوطة والتاريخ .
(10) زدت " منها " من التاريخ .
(11) في المطبوعة : " فنقب رأسه فقتله " ، والصواب من التاريخ ، ومن المخطوطة على بعض الخطأ فيها .
(12) سجى الشيء والميت : غطاه ومد عليه ثوبا . والزق (بكسر الزاى) : جلد الشاة يسلخ من رجل واحدة ، ومن رأسه وعنقه ، ثم يعالج حتى يكون سقاء ، وكانوا أكثر ما يتخذونه للخمر .
(13) في المخطوطة والمطبوعة : " سهمين " مرة واحدة ، وأثبت ما في التاريخ ، وهو الصواب .
وقوله بعد : " ثم نزل " ، زيادة من التاريخ ليست في المخطوطة ولا المطبوعة .
(14) اشتد : عدا عدوا سريعا . والشد : العدو السريع .
(15) قوله : " خيل إليه " ، يعني دخلته الشبهة في أمره ، لما أشكل عليه ، ولم أجد هذا التعبير بنصه في كتب اللغة ، ولكنه صحيح العربية ، من قولهم : " أخال الشيء " : أي اشتبه .
(16) الأثر : 5744 - هو تمام الآثار السالفة التي أشرت إليها في التعليق على الأثرين : 5720 ، 5732 ، كما أشرت إليه آنفًا في التعليقات القريبة . وهو في الدر المنثور1 : 319 ، وتفسير البغوي (بهامش ابن كثير) 1 : 604 - 608 ، بغير هذا اللفظ ، وإن كان قريبا منه .
(17) شخص يشخص شخوصا : ارتفع وعلا .

(5/364)


يقتل الله به جالوت! (1) فقال : نعم يا نبي الله! قال : فأخرج له اثني عشر رجلا أمثال السواري ، (2) وفيهم رجل بارع عليهم ، (3) فجعل يعرضهم على القرن فلا يرى شيئا ، فيقول لذلك الجسيم : ارجع! فيردده عليه. فأوحى الله إليه : إنا لا نأخذ الرجال على صورهم ، ولكنا نأخذهم على صلاح قلوبهم. قال : يا رب ، قد زعم أنه ليس له ولد غيره! فقال : كذب! فقال : إن ربي قد كذبك! وقال : إن لك ولدا غيرهم! فقال : صدق يا نبي الله ، (4) . لي ولد قصير استحييت أن يراه الناس ، فجعلته في الغنم! قال : فأين هو ؟ قال في شعب كذا وكذا ، من جبل كذا وكذا. فخرج إليه ، فوجد الوادي قد سال بينه وبين البقعة التي كان يريح إليها ، (5) قال : ووجده يحمل شاتين يجيز بهما ولا يخوض بهما السيل. (6) فلما رآه قال : هذا هو لا شك فيه! هذا يرحم البهائم ، فهو بالناس أرحم! قال : فوضع القرن على رأسه ففاض. (7) فقال له : ابن أخي! هل رأيت ها هنا من شيء يعجبك ؟ (8) قال : نعم ، إذا سبحت ، سبحت معي الجبال ، وإذا أتى النمر أو الذئب أو السبع أخذ شاة ، قمت إليه فافتح لحييه عنها فلا يهيجني! قال : وألفى معه صفنه. (9) قال : فمر بثلاثة أحجار ينتزى بعضها على بعض ، (10) كل واحد منها يقول : أنا الذي يأخذ! ويقول هذا : لا! بل إياي يأخذ! ويقول الآخر مثل ذلك. قال : فأخذهن جميعا فطرحهن في صُفْنِه. فلما جاء مع النبي صلى الله عليه وسلم وخرجوا ، قال لهم نبيهم : " إن الله قد بعث لكم طالوت ملكا " ، فكان من قصة نبيهم وقصتهم ما ذكر الله في كتابه ، وقرأ حتى بلغ : " والله مع الصابرين " . قال : واجتمع أمرهم وكانوا جميعا ، وقرأ : " وانصرنا على القوم الكافرين " . (11) وبرز جالوت على بِرْذَوْن له أبلق ، في يده قوس نُشَّاب ، (12) فقال : من يبرز ؟ أبرزوا إلي رأسكم! قال : ففظع به طالوت ، (13) قال : فالتفت إلى أصحابه فقال : من رجل يكفيني اليوم جالوت ؟ فقال داود : أنا. فقال : تعال! قال : فنزع درعا له ، فألبسه إياها. قال : ونفخ الله من روحه فيه حتى ملأه. قال : فرمى بنشابة فوضعها في الدرع. قال : فكسرها داود ولم تضره شيئا ، ثلاث مرات ، ثم قال له : خذ الآن! فقال داود : اللهم اجعله حجرا واحدا. قال : وسمى واحدا إبراهيم ، وآخر إسحاق ، وآخر يعقوب. قال : فجمعهن جميعا فكن حجرا واحدا. قال : فأخذهن وأخذ مقلاعا ، فأدارها ليرمي بها فقال : أترميني كما يرمي السبع والذئب ؟ أرمني بالقوس! قال : لا أرميك اليوم إلا بها! فقال له مثل ذلك أيضا ، فقال : نعم! وأنت أهون علي من الذئب! فأدارها وفيها أمر الله وسلطان الله. قال : فخلى سبيلها مأمورة. قال : فجاءت مظلة فضربت بين عينيه حتى خرجت من قفاه ، (14) ثم قتلت من أصحابه وراءه كذا وكذا ، وهزمهم الله.
5747 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج قال : لما قطعوا ذلك يعني النهر الذي قال الله فيه مخبرا عن قيل طالوت لجنوده : " إن الله مبتليكم بنهر " وجاء جالوت ، وشق على طالوت قتاله ، فقال طالوت للناس : لو أن جالوت قتل ، أعطيت الذي يقتله نصف ملكي ، وناصفته كل شيء أملكه! فبعث الله داود وداود يومئذ في الجبل راعي غنم ، وقد غزا مع طالوت تسعة إخوة لداود ، وهم أبدّ منه ، (15) وأغنى منه ، (16) وأعرف في الناس منه ، وأوجه عند طالوت منه ، فغزوا وتركوه في غنمهم فقال داود حين ألقى الله في نفسه ما ألقى ، وأكرمه : لأستودعن ربي غنمي اليوم ، ولآتين الناس ، (17) فلأنظرن ما الذي بلغني من قول الملك لمن قتل جالوت! فأتى داود إخوته ، فلاموه
__________
(1) في المطبوعة : " أن في ولد فلان... " مرة أخرى ، والصواب من المخطوطة والتاريخ .
(2) السواري جمع السارية : وهي الأسطوانة ، من حجارة أو آجر ، وفي الحديث أنه نهى أن يصل بين السواري ، وهي أسطوانة المسجد ، وذلك في صلاة الجماعة ، من أجل انقطاع الصف .
(3) برع يبرع فهو بارع : تم في كل فضيلة وجمال ، وفاق أصحابه في العلم وغيره . ويقال : امرأة بارعة : فائقة الجمال والعقل . وكل مشرف يفوق ويعلو ، فهو بارع وفارغ . وفي التاريخ " بارع " بحذف " عليهم " وهما سواء ، وسيأتي وصفه بعد قليل بأنه " الجسيم " ، وهما بمعنى متقارب .
(4) في المطبوعة : " صدق " بإسقاط " قد " ، وهي في المخطوطة والتاريخ .
(5) في المخطوطة والمطبوعة : " بينه وبين التي يريح... " : والصواب من التاريخ . وأراح غنمه وأبله يريحها إراحة . ردها إلى مراحها حيث تأوي إليه ليلا . والمراح (بضم الميم) : مأوى الإبل والغنم .
وهو من الرواح ، وهو السير بالعشي .
(6) في المطبوعة والمخطوطة : " يحمل شاتين ، يجوز بهما ، ولا يخوض " بإسقاط " شاتين " " الثانية " وأسقطت المطبوعة : " السيل " الأولى ، فأثبت ما في التاريخ وهو الصواب . يقال : " جاز المكان وأجازه " بمعنى واحد . وفي حديث الصراط : " فأكون أنا وأمتي أول من يجيز عليه " بضم الياء .
(7) عند هذا الموضع انتهى ما رواه الطبري في تاريخه من هذا الأثر الطويل 1 : 247 .
(8) أعجبه الأمر يعجبه : استخرج عجبه به ، إذ يراه أمرا عجيبا .
(9) في المطبوعة ، أسقط بين الكلامين : " قال " ، وهي لا بد منها ، لأن الحديث غير متصل ، كما سترى الذي يليه : " قال فمر... " ، يعني دواد . والصفن (بضم فسكون) : خريطة الراعي ، يكون فيها طعامه وزاده وما يحتاج إليه .
(10) في المطبوعة : " يأثر بعضها على بعض " ، وهو كلام بلا معنى . وفي المخطوطة : " ينترى " غير منقوطة وهذا صواب قراءتها . وانتزى فلان على فلان وتنزى عليه : إذا تسرع إليه بالشر وتواثبا .
من " النزو " ، وهو الوثب .
(11) عند هذا الموضع انتهى جزء من التقسيم القديم الذي نقلت عنه نسختنا ، وفيها ما نصه :
" يتلوه : وبرز جالوت على برذون أبلق في يده قوس نشاب
وصلى الله على محمد النبي وآله وسلم كثيرا "
ثم بعد ذلك :
" بسم الله الرحمن الرحيم
رب يسر " .
(12) في المطبوعة : " قوس ونشاب " ، وأثبت ما في المخطوطة .
(13) أفظعه الأمر ، وفظع به فظاعة وفظعا (بفتحتين) واستفظعه وأفظعه : رآه فظيعا ، فهاله وغلبه ، فلم يثق بأن يطيقه .
(14) أظل الشيء يظل : أقبل ودنا . وفي حديث مالك : " فلما أظل قادما حضرني بثى " .
(15) في المطبوعة : أند منه " ، ولا يظهر لها معنى . وفي المخطوطة " أند " غير منقوطة ، وقرأتها كذلك من " البدد " ، وهو عرض ما بين المنكبين ، وعظم الخلق ، وتباعد ما بين الأعضاء . وهذه صفة إخوته كما سلف في آثار ماضية . هذا على أنهم يقولون في الصفة : " رجل أبد ، وامرأة بداء " .
(16) في المطبوعة : " وأعتى منه " ، وفي المخطوطة : " وأعنى منه " ، وكأن الصواب ما أثبت .
(17) في المخطوطة : " ولا / ببر " ، في سطرين ، وكأن الصواب ما في المطبوعة .

(5/367)


حين أتاهم ، فقالوا : لم جئت ؟ قال : لأقتل جالوت ، فإن الله قادر أن أقتله. (1) فسخروا منه قال ابن جريج ، قال مجاهد : كان بعث أبو داود مع داود بشيء إلى إخوته ، فأخذ مخلاة فجعل فيها ثلاث مروات ، ثم سماهن " إبراهيم " و " إسحاق " و " يعقوب " قال ابن جريج ، قالوا : وهو ضعيف رث الحال ، فمر بثلاثة أحجار فقلن له : خذنا يا داود فقاتل بنا جالوت! فأخذهن داود وألقاهن في مخلاته. فلما ألقاهن سمع حجرا منهن يقول لصاحبه : أنا حجر هارون الذي قتل بي ملك كذا وكذا. قال الثاني : أنا حجر موسى الذي قتل بي ملك كذا وكذا. قال الثالث : أنا حجر داود الذي أقتل جالوت! فقال الحجران : يا حجر داود ، نحن أعوان لك! فصرن حجرا واحدا. وقال الحجر : يا داود ، اقذف بي ، فإني سأستعين بالريح وكانت بيضته ، فيما يقولون والله أعلم ، فيها ستمئة رطل (2) فأقع في رأس جالوت فأقتله! قال ابن جريج ، وقال مجاهد : سمى واحدا إبراهيم ، والآخر إسحاق ، والآخر يعقوب ، وقال : باسم إلهي وإله آبائي إبراهيم وإسحاق ويعقوب! وجعلهن في مرجمته - قال ابن جريج : فانطلق حتى نفذ إلى طالوت (3) فقال : إنك قد جعلت لمن قتل جالوت نصف ملكك ونصف كل شيء تملكه! أفلي ذلك إن قتلته ؟ قال : نعم! والناس يستهزئون بداود ، وإخوة داود أشد من هنالك عليه. وكان طالوت لا ينتدب إليه أحد زعم أنه يقتل جالوت إلا ألبسه درعا عنده ، فإذا لم تكن قدرا عليه نزعها عنها. (4) وكانت درعا سابغة من دروع طالوت ، فألبسها داود ، فلما رأى قدرها عليه أمره أن يتقدم. فتقدم داود ، فقام مقاما لا يقوم فيه أحد ، وعليه الدرع. فقال له جالوت : ويحك! من أنت ؟ إني أرحمك! ليتقدم إلي غيرك من هذه الملوك! أنت إنسان ضعيف مسكين! فارجع. فقال داود : أنا الذي أقتلك بإذن الله ، ولن أرجع حتى أقتلك! فلما أبي داود إلا قتاله ، تقدم جالوت إليه ليأخذه بيده مقتدرا عليه ، فأخرج الحجر من المخلاة ، فدعا ربه ورماه بالحجر ، فألقت الريح بيضته عن رأسه ، فوقع الحجر في رأس جالوت حتى دخل في جوفه فقتله قال ابن جريج ، وقال مجاهد : لما رمى جالوت بالحجر خرق ثلاثا وثلاثين بيضة عن رأسه ، وقتلت من ورائه ثلاثين ألفا ، قال الله تعالى : " وقتل داود جالوت " . فقال داود لطالوت : ف لي بما جعلت. (5) فأبى طالوت أن يعطيه ذلك. فانطلق داود فسكن مدينة من مدائن بني إسرائيل حتى مات طالوت. فلما مات عمد بنو إسرائيل إلى داود فجاؤوا به فملّكوه ، وأعطوه خزائن طالوت ، وقالوا : لم يقتل جالوت إلا نبي! قال الله : " وقتل داود جالوت وآتاه الله الملك والحكمة وعلمه مما يشاء " .
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ }
قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بذلك : وأعطى الله داود الملك والحكمة وعلمه مما يشاء " والهاء " في قوله : " وآتاه الله " ، عائدة على داود " والملك " السلطان (6) " والحكمة " ، النبوة. (7) وقوله : " وعلمه مما يشاء " ، يعني : علمه صنعة الدروع والتقدير في السرد ، كما قال الله تعالى ذكره : ( وعلمناه صنعة لبوس
__________
(1) " قادر " من قولهم : " قدر الله الشيء وقدره " ، قضاه .
(2) ما بين الخطين ، كلام معترض بين كلام الحجر . والضمير في " بيضته " ، لجالوت .
(3) قوله : " فانطلق " الضمير لداود .
(4) القدر(بفتحتين ، وفتح وسكون) : المقدار ، أي على مقداره وعلى قدره .
(5) في المطبوعة : " وف بما جعلت " ، وفي المخطوطة " ولي بما جعلت " ، وصواب قراءتها ما أثبت وقواه : " ف " هو الأمر من قولهم : " وفى له بالشيء يفي " . أمر على حرف واحد .
(6) انظر تفسير " الملك " فيما سلف 1 : 148 - 150/ 2 : 488/ وهذا : 311 ، 312 ، 314 .
(7) انظر تفسير " الحكمة " فيما سلف 3 : 87 ، 88 ، 211/ وهذا : 16 ، 17 .

(5/370)


لكم لتحصنكم من بأسكم ) [سورة الأنبياء : 80].
* * *
وقد قيل إن معنى قوله : " وآتاه الله الملك والحكمة " ، أن الله آتَى داودَ ملك طالوت ونبوَّة أشمويل.
* ذكر من قال ذلك :
5748 - حدثني موسى قال ، حدثنا عمرو قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي قال : مُلِّك داودُ بعدما قتل طالوتَ ، وجعله الله نبيًّا ، وذلك قوله : " وآتاه الله الملك والحكمة " ، قال : الحكمة هي النبوة ، آتاه نبوّة شمعون وملك طالوت.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ (251) }
قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بذلك : ولولا أنّ الله يدفع ببعض الناس وهم أهل الطاعة له والإيمان به بعضًا ، وهم أهلُ المعصية لله والشرك به - كما دفعَ عن المتخلِّفين عن طالوتَ يوم جالوت من أهل الكفر بالله والمعصية له ، وقد أعطاهم ما سألوا ربَّهم ابتداءً : من بَعْثةِ ملك عليهم ليجاهدوا معه في سبيله بمن جاهد معه من أهل الإيمان بالله واليقين والصبر ، جالوتَ وجنوده (1) " لفسدت الأرض " ، يعني : لهلك أهلها بعقوبة الله إياهم ، ففسدت بذلك الأرض (2) ولكن الله ذو منٍّ على خلقه وتطوُّلٍ عليهم ، بدفعه بالبَرِّ من خلقه عن الفاجر ، وبالمطيع عن العاصي منهم ، وبالمؤمن عن الكافر.
* * *
__________
(1) سياق هذا الجملة " كما دفع عن المتخلفين عن جالوت ... بمن جاهد معه... جالوت وجنوده " ، على دأب أبي جعفر في الفصل الطويل المتتابع .
(2) انظر معنى " الفساد فيما سلف 1 : 287 ، 416/ 4 : 239 ، 243 ، 244 .

(5/372)


وهذه الآية إعلامٌ من الله تعالى ذكره أهلَ النفاق الذين كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، المتخلِّفين عن مَشاهده والجهادِ معه للشكّ الذي في نفوسهم ومرض قلوبهم ، والمشركين وأهلِ الكفر منهم ، وأنه إنما يدفع عنهم معاجَلَتهم العقوبة على كفرهم ونفاقهم بإيمان المؤمنين به وبرسوله ، الذين هم أهل البصائر والجدّ في أمر الله ، وذوو اليقين بإنجاز الله إياهم وعدَه على جهاد أعدائه وأعداء رسوله ، من النصر في العاجل ، والفوز بجنانه في الآجل. (1)
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
5749 - حدثني محمد بن عمر قال ، حدثنا أبو عاصم عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله : " ولولا دفعُ الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض " ، يقول : ولولا دفع الله بالبَرِّ عن الفاجر ، وببقية أخلاف الناس بعضهم عن بعض ، (2) " لفسدت الأرض " ، بهلاك أهلها.
5750 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : " ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض " ، يقول : ولولا دفاع الله بالبَرِّ عن الفاجر ، وببقية أخلاف الناس بعضهم عن بعض (3) لهلك أهلها.
5751 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن حنظلة ، عن أبي مسلم قال : سمعت عليًّا يقول : لولا بقية من المسلمين فيكم لهلكتم.
__________
(1) في المطبوعة : " في الآخرة " ، وفي المخطوطة : " في الأخر " ، ولو شاء أن يجعلها على ذلك لقال : " من النصر في العاجلة ، والفوز بجنانه في الآخرة " . ولكني أجده تصحيف ما أثبت .
(2) في المطبوعة : " بالبار " ، وأثبت ما في المخطوطة .
(3) في المخطوطة والدر المنثور 1 : 320 " أخلاق الناس " ، والأخلاف جمع خلف ، بمعنى الذين خلفوا الصالحين من أهل البر والصلاح والتقوى .

(5/373)


5752 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع في قوله : " ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض " ، يقول : لهلك من في الأرض .
5753 - حدثني أبو حميد الحمصي أحمد بن المغيرة قال ، حدثنا يحيى بن سعيد قال ، حدثنا حفص بن سليمان ، عن محمد بن سوقة ، عن وبرة بن عبد الرحمن ، عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الله ليدفع بالمؤمن الصالح عن مئةِ أهلِ بيت من جيرانه البلاءَ " ، ثم قرأ ابن عمر : " ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض " . (1)
5754 - حدثني أحمد أبو حميد الحمصي قال ، حدثنا يحيى بن سعيد قال ، حدثنا عثمان بن عبد الرحمن ، عن محمد بن المنكدر ، عن جابر بن عبد الله قال :
__________
(1) الحديث : 5753 - أحمد بن المغيرة ، أبو حميد الحمصي - شيخ الطبري : هو أحمد بن محمد بن المغيرة بن سيار ، نسب هنا إلى جده . وهو ثقة ، روى عنه النسائي ووثقه . وترجمه ابن أبي حاتم 1/ 1/ 72 ، باسم : " أحمد بن محمد بن سيار " ، وقال " كتب عنه ، وهو صدوق ثقة " .
يحيى بن سعيد : هو العطار الأنصاري ، أبو زكريا ، الشامي الحمصي . ضعفه ابن معين وغيره . وقال أبو داود : " جائز الحديث " . وقال محمد بن مصفي الحمصي الحافظ : " حدثنا يحيى بن سعيد العطار ، ثقة " . فهذا بلديه وتلميذه يوثقه ، والظن أن يكون أعرف به من غيره . وترجمه البخاري في الكبير 4/2/277 ، فلم يذكر فيه جرحًا . وجازف ابن حبان - في كتاب المجروحين - مجازفة شديدة دون برهان ، فقال : " كان ممن يروي الموضوعات عن الأثبات ، والمعضلات عن الثقات ، لا يجوز الاحتجاج به بحال ، ولا الرواية عنه إلا على سبيل الاعتبار لأهل الصناعة " .
حفص بن سليمان : هو الأسدي البزاز الكوفي القارئ ، صاحب " قراءة حفص " المعروفة ، التي يقرأ لها الناس بمصر وغيرها . وهو ضعيف جدًا ، متروك الحديث ، على إمامته في القراءة . وقد بينت ضعفه مفصلا في شرح المسند : 1267 .
محمد بن سوقة - بضم السين المهملة - الغنوي الكوفي العابد : ثقة متفق عليه .
وبرة بن عبد الرحمن : تابعي ثقة معروف ، أخرج له الشيخان وغيرهما .
والحديث ذكره ابن كثير 1 : 606 607 ، عن هذا الموضع . وقال : " وهذا إسناد ضعيف . فإن يحيى بن سعيد هذا : هو العطار الحمصي ، هو ضعيف جدًا " .
وذكره الذهبي في الميزان ، في ترجمة " يحيى بن سعيد العطار " 3 : 290 - عن يحيى هذا ، بهذا الإسناد .

(5/374)


قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن الله ليُصلح بصلاح الرجل المسلم ولدَه وولد ولدِه ، وأهلَ دُوَيْرَته ودُويْراتٍ حوله ، ولا يزالون في حفظ الله ما دام فيهم. (1)
* * *
قال أبو جعفر : وقد دللنا على قوله : " العالمين " ، وذكرنا الرواية فيه . (2)
* * *
وأما القرأة ، فإنها اختلفت في قراءة قوله : " ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض " .
فقرأته جماعة من القرأة : (وَلَوْلا دَفْعُ اللهِ) على وجه المصدر ، من قول القائل :
__________
(1) الحديث : 5754 - عثمان بن عبدالرحمن : هكذا في نقل ابن كثير إياه عن هذا الموضع . فإنه يكنه يكن " عثمان بن عبدالرحمن بن عمر بن سعد بن أبي وقاص المدني " ، فهو من الطبقة ، ولكنه لم يذكر في شيوخ " يحيى بن سعيد العطار " ، ولا في الرواة عن " محمد بن المنكدر " . ولم نجد فيما رأينا من ترجم من اسمه " عثمان بن عبدالرحمن " - من يستقيم به الإسناد غيره .
وهذا الوقاصي : ضعيف جدًا ، رماه ابن معين بالكذب . وقال أبو حاتم : " متروك الحديث ، ذاهب الحديث ، كذاب " . وقال البخاري في الضعفاء ، ص : 25 : " تركوه " .
والراجح - عندي - أن اسم هذا الراوي محرف في نسخ الطبري . وأكاد أجزم أن صوابه " عنبسة بن عبدالرحمن " فهو الذي يروي عن محمد بن المنكدر ، ويروي عنه يحيى بن سعيد العطار .
وقد يؤيد ذلك : أن كاتب المخطوطة رسم هذا الاسم بدون ألف بعد الميم - على الكتبة القديمة - " عثمن " . ولكن يظهر أنه كتبه على تردد ، عن نسخة غير واضحة الرسم . لأنه بسط آخر الكلمة فكتب النون مبسوطة كأنها سين ، ثم اشتبه عليه الاسم ، فاصطنع الحرف المبسوط جعله نونًا . وتغيير الحرفين قبله سهل : ينقط النون بثلاث نقط فتصير ثاء مثلثة ، ثم يدير نبرة الباء فتكون ميما . ويخرج الاسم من " عنبسة " إلى " عثمن " .
وأيًا ما كان الراوي هنا " عثمان " أو " عنبسة " - فالحديث واهي الإسناد منهار ، لا تقول له قائمة .
فإن " عنبسة بن عبدالرحمن بن عنبسة بن سعيد بن العاص " : ضعيف جدًا .
قال أبو حاتم : " هو متروك الحديث ، كان يضع الحديث " .
واسم جده " عنبسة " كاسمه . ووقع في التهذيب محرفًا " عيينة " . وهو خطأ مطبعي .
والحديث ذكره ابن كثير 1 : 607 ، وقال : " وهذا أيضًا غريب ضعيف ، لما تقدم أيضًا " ! يريد لضعف " يحيى بن سعيد العطار " . وقد بينا في الحديث السابق أنه غير ضعيف .
وذكره السيوطي 1 : 320 ، ونسبه الطبري " بسند ضعيف " . ثم لم ينسبه لغير الطبري .
(2) انظر ما سلف 1 : 143 - 146/ 2 : 23 - 26 .

(5/375)


" دفعَ الله عن خلقه فهو يدفع دفعًا " . واحتجت لاختيارها ذلك ، بأن الله تعالى ذكره هو المتفرِّد بالدفع عن خلقه ، ولا أحد يُدافعه فيغالبه.
* * *
وقرأت ذلك جماعة أُخَر من القرأة : (1) ( وَلَوْلا دِفَاعُ اللهِ النَّاسَ ) على وجه المصدر ، من قول القائل : " دافع الله عن خلقه فهو يُدافع مدافعة ودفاعًا " واحتجت لاختيارها ذلك بأن كثيرًا من خلقه يعادون أهل دين الله وولايته والمؤمنين به ، فهو بمحاربتهم إياهم ومعادتهم لهم ، لله مُدافعون بظنونهم ، (2) ومغالبون بجهلهم ، والله مُدافعهم عن أوليائه وأهل طاعته والإيمان به.
* * *
قال أبو جعفر : والقول في ذلك عندي أنهما قراءتان قد قرأت بهما القرأة ، وجاءت بهما جماعة الأمة ، وليس في القراءة بأحد الحرفين إحالةُ معنى الآخر. وذلك أن من دافع غيره عن شيء فمدافعه عنه بشيء دافع. (3) ومتى امتنع المدفوع عن الاندفاع ، فهو لمدافعه مدافع. (4) ولا شك أن جالوت وجنوده كانوا بقتالهم طالوت وجنوده محاولين مغالبة حزب الله وجنده ، وكان في محاولتهم ذلك محاولةُ مغالبة الله ودفاعه عما قد تضمن لهم من النُّصرة. وذلك هو معنى " مدافعة الله " عن الذين دافع الله عنهم بمن قاتل جالوت وجنوده من أوليائه. فبيِّنٌ إذًا أن سَواءً قراءةُ من قرأ : (5) ( وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ ) ، وقراءة من قرأ : (ولولا دفاع الله الناس بعضهم ببعض) ، في التأويل والمعنى.
* * *
__________
(1) في المطبوعة : " جماعة أخرى من القراء " ، وأثبت ما في المخطوطة .
(2) في المطبوعة : " مدافعون بباطلهم " ، وأثبت ما في المخطوطة .
(3) في المطبوعة : " فمدافعه عنه دافع " ، وفي المخطوطة : " فمدافعة عنه ليس دافع " غير واضحة ، والصواب ما أثبت . وذلك لأن الله دافع الكفار عما تضمن للمؤمنين من النصرة ببعض الناس . فصح إذًا أن عبارة الطبري تقتضي أن تكون الكلمة " بشيء " .
(4) في المطبوعة : " لمدافعه مدافع " والصواب من المخطوطة .
(5) في المطبوعة : " فتبين إذًا " ، والصواب من المخطوطة .

(5/376)


تِلْكَ آَيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (252)

القول في تأويل قوله تعالى : { تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (252) }
قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بقوله : " تلك آيات الله " (1) هذه الآيات التي اقتص الله فيها أمر الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت ، وأمر الملأ من بني إسرائيل من بعد موسى الذين سألوا نبيهم أن يبعث لهم طالوت ملكا وما بعدها من الآيات إلى قوله : " والله ذو فضل على العالمين " .
ويعني بقوله : " آيات الله " ، حججه وأعلامه وأدلته. (2) .
* * *
يقول الله تعالى ذكره : فهذه الحجج التي أخبرتك بها يا محمد ، وأعلمتك من قدرتي على إماتة من هرب من الموت في ساعة واحدة وهم ألوف ، وإحيائي إياهم بعد ذلك ، وتمليكي طالوت أمر بني إسرائيل ، بعد إذ كان سقاء أو دباغا من غير أهل بيت المملكة ، وسلبي ذلك إياه بمعصيته أمري ، وصرفي ملكه إلى داود لطاعته إياي ، ونصرتي أصحاب طالوت ، مع قلة عددهم ، وضعف شوكتهم على جالوت وجنوده ، مع كثرة عددهم ، وشدة بطشهم (3) حججي على من جحد نعمتي ، وخالف أمري ، وكفر برسولي من أهل الكتابين التوراة والإنجيل ، العالمين بما اقتصصت عليك من الأنباء الخفية ، التي يعلمون أنها من عندي ، (4) .
لم تتخرصها ولم تتقولها أنت يا محمد ، لأنك أمي ، ولست ممن قرأ الكتب ، فيلتبس عليهم أمرك ، ويدعوا أنك قرأت ذلك فعلمته من بعض أسفارهم ولكنها حججي عليهم أتلوها
__________
(1) انظر مجيء " ذلك " و " تلك " بمعنى : " هذا ، وهذه " ، فيما سلف 1 : 225 - 227/ 3 : 335 .
(2) انظر تفسير " الآية " فيما سلف 1 : 106 ، ثم هذا الجزء : 337 والمراجع في التعليق هناك .
(3) في المطبوعة : " حجج على من جحد " ، وأثبت ما في المخطوطة . والسياق : " فهذه الحجج... حججي " .
(4) في المخطوطة : " من الأنباء الحصه " غير منقوطة ولا بينة ، وما في المطبوعة صحيح المعنى .

(5/377)


عليك يا محمد ، بالحق اليقين كما كان ، لا زيادة فيه ، ولا تحريف ، ولا تغيير شيء منه عما كان " وإنك " يا محمد " لمن المرسلين " ، يقول : إنك لمرسل متبع في طاعتي ، وإيثار مرضاتي على هواك ، فسألك في ذلك من أمرك سبيل من قبلك من رسلي الذين أقاموا على أمري ، وآثروا رضاي على هواهم ، ولم تغيرهم الأهواء ، ومطامع الدنيا ، كما غير طالوت هواه ، وإيثاره ملكه ، على ما عندي لأهل ولايتي ، ولكنك مؤثر أمري كما آثره المرسلون الذين قبلك.
* * *

(5/378)


تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآَتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آَمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ (253)

القول في تأويل قوله تعالى : { تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ }
قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بقوله : " تلك " ، الرسل الذين قص الله قصصهم في هذه السورة ، كموسى بن عمران وإبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب وشمويل وداود ، وسائر من ذكر نبأهم في هذه السورة. يقول تعالى ذكره : هؤلاء رسلي فضلت بعضهم على بعض ، فكلمت بعضهم والذي كلمته منهم موسى صلى الله عليه وسلم ورفعت بعضهم درجات على بعض بالكرامة ورفعة المنزلة ، كما : -
5755 - حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قول الله تعالى ذكره : " تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض " ، قال : يقول : منهم من كلم الله ، ورفع بعضهم على بعض درجات. يقول : كلم الله موسى ، وأرسل محمدا إلى الناس كافة.
5756 - حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد بنحوه.
* * *

(5/378)


ومما يدل على صحة ما قلنا في ذلك :
5757 - قول النبي صلى الله عليه وسلم : " أعطيت خمسا لم يعطهن أحد قبلي : بعثت إلى الأحمر والأسود ، ونصرت بالرعب ، فإن العدو ليرعب مني على مسيرة شهر ، وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا ، وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد كان قبلي ، وقيل لي : سل تعطه ، فاختبأتها شفاعة لأمتي ، فهي نائلة منكم إن شاء الله من لا يشرك بالله شيئا " (1) .
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ }
قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بقوله : (2) " وآتينا عيسى ابن مريم البينات " ، وآتينا عيسى ابن مريم الحجج والأدلة على نبوته : (3) من إبراء الأكمه والأبرص ، وإحياء الموتى ، وما أشبه ذلك ، مع الإنجيل الذي أنزلته إليه ، فبينت فيه ما فرضت عليه.
* * *
ويعني تعالى ذكره بقوله : " وأيدناه " ، وقويناه وأعناه (4) " بروح القدس " ، يعني بروح الله ، وهو جبريل. وقد ذكرنا اختلاف أهل العلم في معنى روح
__________
(1) الأثر : 5757 - ساقه بغير إسناد ، وقد اختلف ألفاظه ، وهو من حديث ابن عباس في المسند رقم : 2742 ، والمسند 5 : 145 ، 147 ، 148 ، 161 ، 162 (حلبي) والمستدرك 2 : 424 ورواه مسلم بغير اللفظ 5 : 3 ، والبخاري ، (الفتح 1 : 369 ، 444) مواضع أخرى . وهو حديث صحيح .
(2) في المطبوعة والمخطوطة : " يعنى تعالى ذكره بذلك " ، وهو لا يستقيم .
(3) انظر تفسير " البينات " فيما سلف 2 : 328/ 4 : 271 ، والمراجع هناك ، وانظر فهرس اللغة .
(4) انظر تفسير " أيد " فيما سلف 2 : 319 ، 320 .

(5/379)


القدس والذي هو أولى بالصواب من القول في ذلك فيما مضى قبل ، فأغنى ذلك عن إعادته في هذا الموضع (1) .
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ }
قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بذلك : ولو أراد الله " ما اقتتل الذين من بعدهم " ، (2) يعني من بعد الرسل الذين وصفهم بأنه فضل بعضهم على بعض ، ورفع بعضهم درجات ، وبعد عيسى ابن مريم ، وقد جاءهم من الآيات بما فيه مزدجر لمن هداه الله ووفقه.
* * *
ويعني بقوله : " من بعد ما جاءتهم البينات " ، يعني : من بعد ما جاءهم من آيات الله ما أبان لهم الحق ، وأوضح لهم السبيل.
* * *
وقد قيل : إن " الهاء " و " الميم " في قوله : " من بعدهم " ، من ذكر موسى وعيسى. * ذكر من قال ذلك :
5758 - حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : " ولو شاء الله ما اقتتل الذين من بعدهم من بعد ما جاءتهم البينات " ، يقول : من بعد موسى وعيسى.
__________
(1) انظر ما سلف 2 : 320 - 323 .
(2) في المطبوعة ، أتم الآية : " من بعد ما جاءتهم البينات " ، وأثبت ما في المخطوطة .

(5/380)


5759 - حدثت عن عمار ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع قوله : " ولو شاء الله ما اقتتل الذين من بعدهم من بعد ما جاءتهم البينات " يقول : من بعد موسى وعيسى.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ (253) }
قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بذلك : ولكن اختلف هؤلاء الذين من بعد الرسل ، لما لم يشأ الله منهم تعالى ذكره أن لا يقتتلوا ، فاقتتلوا من بعد ما جاءتهم البينات من عند ربهم بتحريم الاقتتال والاختلاف ، وبعد ثبوت الحجة عليهم بوحدانية الله ورسالة رسله ووحي كتابه ، فكفر بالله وبآياته بعضهم ، وآمن بذلك بعضهم. فأخبر تعالى ذكره : أنهم أتوا ما أتوا من الكفر والمعاصي ، (1) بعد علمهم بقيام الحجة عليهم بأنهم على خطأ ، تعمدا منهم للكفر بالله وآياته.
ثم قال تعالى ذكره لعباده : " ولو شاء الله ما اقتتلوا " ، يقول : ولو أراد الله أن يحجزهم - بعصمته وتوفيقه إياهم - عن معصيته فلا يقتتلوا ، ما اقتتلوا ولا اختلفوا " ولكن الله يفعل ما يريد " ، بأن يوفق هذا لطاعته والإيمان به فيؤمن به ويطيعه ، ويخذل هذا فيكفر به ويعصيه.
* * *
__________
(1) في المخطوطة : " أتوا ما أنزل من الكفر " ، وهو سهو فاحش من شدة عجلة الكاتب ، كما تتبين ذلك جليا من تغيُّر خطه في هذا الموضع أيضًا .

(5/381)


يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ (254)

القول في تأويل قوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ (254) }
قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بذلك : يا أيها الذين آمنوا أنفقوا في سبيل الله مما رزقناكم من أموالكم ، وتصدقوا منها ، وآتوا منها الحقوق التي فرضناها عليكم. وكذلك كان ابن جريج يقول فيما بلغنا عنه :
5760 - حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج قوله : " يا أيها الذين آمنوا أنفقوا مما رزقناكم " ، قال : من الزكاة والتطوع.
* * *
" من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة " ، يقول : ادخروا لأنفسكم عند الله في دنياكم من أموالكم ، بالنفقة منها في سبيل الله ، والصدقة على أهل المسكنة والحاجة ، وإيتاء ما فرض الله عليكم فيها ، وابتاعوا بها ما عنده مما أعده لأوليائه من الكرامة ، بتقديم ذلك لأنفسكم ، ما دام لكم السبيل إلى ابتياعه ، بما ندبتكم إليه ، وأمرتكم به من النفقة من أموالكم " من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه " ، يعني من قبل مجيء يوم لا بيع فيه ، يقول : لا تقدرون فيه على ابتياع ما كنتم على ابتياعه - بالنفقة من أموالكم التي رزقتكموها - بما أمرتكم به ، أو ندبتكم إليه في الدنيا قادرين ، (1) لأنه يوم جزاء وثواب وعقاب ، لا يوم عمل واكتساب وطاعة ومعصية ، فيكون لكم إلى ابتياع منازل أهل الكرامة بالنفقة حينئذ - أو
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة : " بالنفقة من أموالكم التي أمرتكم به " ، وهو كلام مختل ، سقط فيما أرجح ما أثبته : " رزقتكموها ، بما " . وسياق العبارة : ما كنتم على ابتياعه...بما أمرتكم به... قادرين " . والذي بينهما فواصل .

(5/382)


بالعمل بطاعة الله ، سبيل (1) .
ثم أعلمهم تعالى ذكره أن ذلك اليوم مع ارتفاع العمل الذي ينال به رضى الله أو الوصول إلى كرامته بالنفقة من الأموال ، (2) إذ كان لا مال هنالك يمكن إدراك ذلك به يوم لا مخالة فيه نافعة كما كانت في الدنيا ، فإن خليل الرجل في الدنيا قد كان ينفعه فيها بالنصرة له على من حاوله بمكروه وأراده بسوء ، والمظاهرة له على ذلك. فآيسهم تعالى ذكره أيضا من ذلك ، لأنه لا أحد يوم القيامة ينصر أحدا من الله ، بل( الأخِلاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلا الْمُتَّقِينَ ) كما قال الله تعالى ذكره ، (3) وأخبرهم أيضا أنهم يومئذ مع فقدهم السبيل إلى ابتياع ما كان لهم إلى ابتياعه سبيل في الدنيا بالنفقة من أموالهم ، والعمل بأبدانهم ، وعدمهم النصراء من الخلان ، والظهراء من الإخوان (4) لا شافع لهم يشفع عند الله كما كان ذلك لهم في الدنيا ، فقد كان بعضهم يشفع في الدنيا لبعض بالقرابة والجوار والخلة ، وغير ذلك من الأسباب ، فبطل ذلك كله يومئذ ، كما أخبر تعالى ذكره عن قيل أعدائه من أهل الجحيم في الآخرة إذا صاروا فيها : ( فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ ) [الشعراء : 100 - 101]
* * *
وهذه الآية مخرجها في الشفاعة عام والمراد بها خاص ، وإنما معناه : " من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة " ، لأهل الكفر بالله ، لأن أهل
__________
(1) في المطبوعة و المخطوطة : " فيكون لهم إلى ابتياع... " والصواب في هذا السياق : " لكم وقوله : " سبيل " اسم كان في " فيكون لكم إلى ابتياع... " .
(2) ارتفاع العمل : انقضاؤه وذهابه . يقال : " ارتفع الخصام بينهما " ، و " ارتفع الخلاف " أي انقضى وذهب ، فلم يبق ما يختلفان عليه أو يختصمان . وهو مجاز من " ارتفع الشيء ارتفاعا " : إذا علا . وهذا معنى لم تقيده المعاجم ، وهو عربى صحيح كثير الورود في كتب العلماء ، ن وقد سلف في كلام أبي جعفر ، وشرحته ولا أعرف موضعه الساعة .
(3) هى آية " سورة الزخرف " : 67 .
(4) النصراء جمع نصير . والخلان جمع خليل : والظهراء جمع ظهير : وهو المعين الذي يقوى ظهرك ويشد أزرك .

(5/383)


ولاية الله والإيمان به ، يشفع بعضهم لبعض. وقد بينا صحة ذلك بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع (1) .
* * *
وكان قتادة يقول في ذلك بما : -
5761 - حدثنا به بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة في قوله : " يا أيها الذين آمنوا أنفقوا مما رزقناكم من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة " ، قد علم الله أن ناسا يتحابون في الدنيا ، ويشفع بعضهم لبعض ، فأما يوم القيامة فلا خلة إلا خلة المتقين.
* * *
وأما قوله : " والكافرون هم الظالمون " ، فإنه يعني تعالى ذكره بذلك : والجاحدون لله المكذبون به وبرسله " هم الظالمون " ، يقول : هم الواضعون جحودهم في غير موضعه ، والفاعلون غير ما لهم فعله ، والقائلون ما ليس لهم قوله.
* * *
وقد دللنا على معنى " الظلم " بشواهده فيما مضى قبل بما أغنى عن إعادته (2) .
* * *
قال أبو جعفر : وفي قوله تعالى ذكره في هذا الموضع : " والكافرون هم الظالمون " ، دلالة واضحة على صحة ما قلناه ، وأن قوله : " ولا خلة ولا شفاعة " ، إنما هو مراد به أهل الكفر ، فلذلك أتبع قوله ذلك : " والكافرون هم الظالمون " . فدل بذلك على أن معنى ذلك : حرمنا الكفار النصرة من الأخلاء ، والشفاعة من الأولياء والأقرباء ، ولم نكن لهم في فعلنا ذلك بهم ظالمين ، إذ كان ذلك جزاء منا لما سلف منهم من الكفر بالله في الدنيا ، بل الكافرون هم الظالمون أنفسهم بما أتوا من الأفعال التي أوجبوا لها العقوبة من ربهم.
* * *
__________
(1) انظر ما سلف 2 : 23 ، 33 .
(2) انظر معنى " الكفر " فيما سلف من فهارس اللغة / ومعنى " الظلم " فيما سلف 1 : 523 ، 524 ، وفي فهارس اللغة .

(5/384)


فإن قال قائل : وكيف صرف الوعيد إلى الكفار والآية مبتدأة بذكر أهل الإيمان ؟
قيل له : إن الآية قد تقدمها ذكر صنفين من الناس : أحدهما أهل كفر ، والآخر أهل إيمان ، وذلك قوله : " ولكن اختلفوا فمنهم من آمن ومنهم من كفر " . ثم عقب الله تعالى ذكره الصنفين بما ذكرهم به ، بحض أهل الإيمان به على ما يقربهم إليه من النفقة في طاعته (1) وفي جهاد أعدائه من أهل الكفر به ، قبل مجيء اليوم الذي وصف صفته. وأخبر فيه عن حال أعدائه من أهل الكفر به ، إذ كان قتال أهل الكفر به في معصيته ونفقتهم في الصد عن سبيله ، فقال تعالى ذكره : يا أيها الذين آمنوا أنفقوا أنتم مما رزقناكم في طاعتي ، إذ كان أهل الكفر بي ينفقون في معصيتي من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه فيدرك أهل الكفر فيه ابتياع ما فرطوا في ابتياعه في دنياهم ولا خلة لهم يومئذ تنصرهم مني ، ولا شافع لهم يشفع عندي فتنجيهم شفاعته لهم من عقابي. وهذا يومئذ فعلي بهم جزاء لهم على كفرهم ، (2) وهم الظالمون أنفسهم دوني ، لأني غير ظلام لعبيدي. وقد : -
5762 - حدثني محمد بن عبد الرحيم ، قال : حدثني عمرو بن أبي سلمة ، قال : سمعت عمر بن سليمان ، يحدث عن عطاء بن دينار أنه قال : الحمد لله الذي قال : " والكافرون هم الظالمون " ، ولم يقل : " الظالمون هم الكافرون " .
* * *
__________
(1) في المطبوعة : " يحض " بالياء في أوله ، فعلا . وهي في المخطوطة غير منقوطة ، وصواب قراءتها بباء الجر ، اسما . وقوله : " بحض " ، متعلق بقوله : " ثم عقب الله " .
(2) في المخطوطة والمطبوعة : " وهذا يومئذ فعل بهم " ، وصواب السياق يقتضى ما أثبت .

(5/385)


اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (255)

القول في تأويل قوله تعالى : { اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ }
قال أبو جعفر : قد دللنا فيما مضى على تأويل قوله : " الله " (1) .
* * *
وأما تأويل قوله : " لا إله إلا هو " فإن معناه : النهي عن أن يعبد شيء غير الله الحي القيوم الذي صفته ما وصف به نفسه تعالى ذكره في هذه الآية. يقول : " الله " الذي له عبادة الخلق " الحي القيوم " ، لا إله سواه ، لا معبود سواه ، يعني : ولا تعبدوا شيئا سوى الحي القيوم الذي لا يأخذه سِنة ولا نوم ، (2) والذي صفته ما وصف في هذه الآية.
* * *
وهذه الآية إبانة من الله تعالى ذكره للمؤمنين به وبرسوله عما جاءت به أقوال المختلفين في البينات (3) من بعد الرسل الذين أخبرنا تعالى ذكره أنه فضل بعضهم على بعض واختلفوا فيه ، فاقتتلوا فيه كفرا به من بعض ، وإيمانا به من بعض. فالحمد لله الذي هدانا للتصديق به ، ووفقنا للإقرار.
* * *
وأما قوله : " الحي " فإنه يعني : الذي له الحياة الدائمة ، والبقاء الذي لا أول له بحد ، ولا آخر له بأمد ، (4) إذ كان كل ما سواه فإنه وإن كان حيا
__________
(1) انظر تفسير " الله " فيما سلف 1 : 122 - 126 .
(2) في المطبوعة : " ولا تعبدوا شيئا سواه الحي القيوم " ، والصواب من المخطوطة .
(3) في المطبوعة : " المختلفين في البينات " ، بزيادة " في " ، وهو خطأ مخل بالكلام ، والصواب ما في المخطوطة ، و " البينات " فاعل " جاءت به " ، و " المختلفين " مفعوله . والجملة التي بين الخطين ، معترضة ، وقةله : بعد " واختلفوا فيه فاقتتلوا فيه... " ، عطف على قوله : " عما جاءت به... " .
(4) في المطبوعة : " لا أول له يحد " بالياء ، فعلا ، ثم جعل التي تليها " ولا آخر له يؤمد " ، فأتى بفعل عجيب لا وجود له في العربية ، وفي المخطوطة : " بحد " غير منقوطة وصواب قراءتها بباء الجر في أوله . وفيها " بأمد " كما أثبت ، والأمد : الغاية التي ينتهى إليها . بقول : ليس له أول له حد يبدأ منه وليس له آخر له أمد ينتهى إليه .

(5/386)


فلحياته أول محدود ، وآخر ممدود ، ينقطع بانقطاع أمدها ، (1) وينقضي بانقضاء غايتها.
* * *
وبما قلنا في ذلك قال جماعة من أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
5763 - حدثت عن عمار بن الحسن ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع قوله : " الحي " حي لا يموت.
5764 - حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع ، مثله.
* * *
قال أبو جعفر : وقد اختلف أهل البحث في تأويل ذلك (2) .
فقال بعضهم : إنما سمي الله نفسه " حيا " ، لصرفه الأمور مصارفها وتقديره الأشياء مقاديرها ، فهو حي بالتدبير لا بحياة.
وقال آخرون : بل هو حي بحياة هي له صفة.
وقال آخرون : بل ذلك اسم من الأسماء تسمى به ، فقلناه تسليما لأمره (3) .
* * *
__________
(1) في المطبوعة : " وآخر مأمود " ، أتى أيضًا بالعجب في تغيير المخطوطة ، وباستخراج كلمة لا يجيزها اشتقاق العربية ، ولم تستعمل في كلام قط . وفي المخطوطة " ممدود " كما أثبتها . وهي من قولهم : " مد له في كذا " أي طويل له فيه . بل أولى من ذلك أن يقال إنها من " المد " ، وهي الطائفة من الزمان .
وقد استعملو من المدة : " ماددت القوم " . أي جعلت لهم مدة ينهون إليها . وفي الحديث : " يا ويح قريش ، لقد نهكتهم الحرب! ما ضرهم لو ماددناهم مدة " ، أي جعلنا لهم مدة ، وهي زمان الهدنة . وقال ابن حجر في مقدمته الفتح : 182 " قوله : (في المدة التي فيها أبا سفيان) : أي جعل بينه وبينه مدة صلح ، ومنه : (إن شاؤوا ماددتهم) . فهو " فاعل " من " المد " . ولا شك أن الثلاثى منه جائز أن يقال : " مد له مدة " أي جعل له مدة ينتهى من عند آخرها . وكأتى قرأتها في بعض كتب السير ، فأرجو أن أظفر بها فأقيدها إن شاء الله ، فمعنى قوله : " وآخر ممدود ينقطع بانقطاع أمدها " أي : آخر قد ضربت له مدة ينقطع بانقطاع غايتها .
(2) هذه أول مرة يستعمل فيها الطبري : " أهل البحث " ، ويعنى بذلك أهل النظر من المتكلمين .
(3) في المطبوعة : " فقلناه " ، وما في المخطوطة صواب أيضًا جيد .

(5/387)


وأما قوله : " القيوم " ، فإنه " الفيعول " من " القيام " وأصله " القيووم " ، : سبق عين الفعل ، وهي " واو " ، " ياء " ساكنة ، فأدغمتا فصارتا " ياء " مشددة.
وكذلك تفعل العرب في كل " واو " كانت للفعل عينا ، سبقتها " ياء " ساكنة. ومعنى قوله : " القيوم " ، القائم برزق ما خلق وحفظه ، كما قال أمية : (1) .
لم تخلق السماء والنجوم... والشمس معها قمر يعوم (2) قدره المهيمن القيوم... والجسر والجنة والجحيم (3) إلا لأمر شأنه عظيم
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
5765 - حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله : " القيوم " ، قال : القائم على كل شيء.
5766 - حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، عن ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : " القيوم " ، قيم كل شيء ، يكلؤه ويرزقه ويحفظه.
5767 - حدثني موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : " القيوم " وهو القائم.
__________
(1) هو : أمية بن أبي الصلت الثقفى .
(2) ديوانه : 57 ، والقرطبي 3 : 271 ، وتفسير أبي حيان 25 : 277 . وفي المطبوعة والقرطبي " قمر يقوم " ، وهو لا معنى له ، والصواب في المخطوطة وتفسير أبي حيان . عامت النجوم تعوم عوما : جرب ، مثل قولهم : " سبحت النجوم في الفلك تسبح سبحا "
(3) في المراجع كلها " والحشر " ، وهو خطأ وتصحيف لا ريب فيه عندي ، وهو في المخطوطة " والحسر " غير منقوطة ، وصواب قراءتها " الجسر " كما أثبت . وفي حديث البخاري : " ثم يؤتى بالجسر " قال ابن حجر : أي الصراط ، وهو كالقنطرة بين الجنة والنار ، يمر عليها المؤمنون . ولم يذكر في بابه في كتب اللغة ، فليقيد هناك ، فإن هذا هو سبب تصحيف هذه الكلمة . وفي بعض المراجع : " والجنة والنعيم " ، والذي في الطبري هو الصواب . هذا وشعر أمية كثير خلطه .

(5/388)


5768 - حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا أبو زهير ، عن جويبر ، عن الضحاك : " الحي القيوم " ، قال : القائم الدائم.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ }
قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بقوله : " لا تأخذه سنة " ، لا يأخذه نعاس فينعس ، ولا نوم فيستثقل نوما.
* * *
" والوسن " خثورة النوم ، (1) ومنه قول عدي بن الرقاع :
وسنان أقصده النعاس فرنقت... في عينه سنة وليس بنائم (2)
__________
(1) الخثورة : نقيض الرقة ، يقال : " خثر اللبن والعسل ونحوهما " ، إذا ثقل وتجمع ، والمجاز منه قولهم : " فلان خاثر النفس " أي ثقيلها ، غير طيب ولا نشيط ، قد فتر فتورا . واستعمله الطبري استعمالا بارعا ، فجعل للنوم " خثورة " ، وهي شدة الفتور ، كأنه زالت رقته واستغلط فثقل ، وهذا تعبير لم أجده قبله .
(2) من أبيات له في الشعر والشعراء : 602 ، والأغانى 9 : 311 ، ومجاز القرآن 1 : 78 ، واللسان (وسن) (رنق) ، وفي جميعها مراجع كثيرة ، وقبل البيت في ذكرها صاحبته " أم القاسم " :
وكأنها وسط النساء أعارها ... عينيه أحور من جاذر جاسم
وسنان أقصده النعاس .......... ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
يصطاد يقظان الرجال حديثها ... وتطير بهجتها بروح الحالم
والجآذر بقر الوحش ، وهي حسان العيون . وجاسم : موضع تكثر فيه الجآذر . و " أقصده النعاس " قتله النعاس وأماته . يقال : " عضته حبة فإقصدته " ، أي قتلته على المكان - أي من فوره . و " رفقت " أي خالطت عينه . وأصله من ترنيق الماء ، وهو تكديره بالطين حتى يغلب على الماء . وحسن أن يقال هو من ترنيق الطائر بجناحيه ، وهو رفرفته إذا خفق بجناحيه في الهواء فثبت ولم يطر ، وهذا المجازأعجب إلى في الشعر .

(5/389)


ومن الدليل على ما قلنا : من أنها خثورة النوم في عين الإنسان ، قول الأعشى ميمون بن قيس :
تعاطى الضجيع إذا أقبلت... بعيد النعاس وقبل الوسن (1)
وقال آخر : (2)
باكرتها الأغراب في سنة النو... م فتجري خلال شوك السيال (3)
__________
(1) ديوانه : 15 ، وهو يلي البيت الذي سلف 1 : 345 ، 346 ، وفي ذكر نساء استمع بهن :
إذا هن نازلن أقرانهن ... وكان المصاع بما في الجون
تعاطى الضجيع........... ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
صريفية طيبا طعمها ... لها زبد بين كوب ودن
وقوله " تعاطى " من قولهم للمرأة : " هى تعاطى خلها " أي صاحبها - أن تناوله قبلها وريقها .
وقوله : " أقبلت " ، هو عندي بمعنى : سامحت وطاوعت وانقادت ، من " القبول " وهو الرضا . ولم يذكر ذلك أصحاب اللغة ، ولكنه جيد في العربية ، شبيه بقولهم : " أسمحت " ، من السماح ، إذا أسهلت وانقادت ووافقت ما يطلبه صاحبها . وذلك هو الجيد عندي . ليس من الإقبال على الشيء . بل من القبول . ويروي مكمان ذلك : " إذا سامها " ، ورواية الديوان : " بعيد الرقاد وعند الوسن "
والصريفية : الخمر الطيبة ، جعلها صريفية ، لأنها أخذت من الدن ساعتئذ ، كاللبن الصريف وهو اللبن الذي ينصرف من الضرع حارا إذا حلب . وفي الديون : " صليفية " ، باللام ، والصواب بالراء يقول : إذا انقادت لصاحبها بعيد رقادها ، أو قبل وسنها ، عاطته من ريقها خمرا صرفا تفور بالزبد بين الكوب و الدن ، ولم يمض وقت عليها فتفسد . يقول : ريفها هو الخمر ، في يقظتها قبل الوسن - وذلك بدء فتور الفس وتغير الطباع - وبعد لومها ، وقد تغيرت أفواه البشر واستكرهت روائحها ينفي عنها العيب في الحالين . وذلك قل أن يكون في النساء أو غيرهن .
(2) هو الاعشى أيضًا
(3) ديوانه : 5 ، واللسان (غرب) ، من قصيدة جليلة ، أفضى فيها إلى ذكر صاحبته له يقول قبله :
وكأن الخمر العتيق من الإسفنط ... ممزوجة بماء زلال باكرتها الأغراب ....................... ... ...............................
الإسفنط : أجود أنواع الخمر وأغلاها . وباكرتها ، أي في أول النهار مبادرة إليها .
والأغراب جمع غرب (بفتح فسكمون) ، وهو القدح . والسيال : شجر سبط الأغصان ، عليه شوك أبيض أصوله أمثال ثنايا اعذارى ، وتشبه به أسنانهن يقول : إذا نامت لم يتغير طيب ثغرها ، بل كأن الخمر تجرى بين ثناياها طيبة الشذا . وقوله : " باكرتها الأغراب " ، وهو كفوله في الشعر السالف أنها " صريفية " أي أخذت من دنها لسعتها . يقول : ملئت الأقداح منها بكرة ، يعنى تبادرت إليها الأقداح من دنها ، وذلك أطيب لها .
هذا ، وقد جاء في شرح الديوان : الأغراب : حد الأسنان وبياضها ، وأظال في شرحه ، ولكنى لا أرتضيه ، والذي شرحته موجود في اللسان ، وهو أعرق في الشعر ، وفي فهمه .

(5/390)


يعني عند هبوبها من النوم ووسن النوم في عينها ، يقال منه : " وسن فلان فهو يوسن وسنا وسنة وهو وسنان " ، إذا كان كذلك.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
5769 - حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : حدثني معاوية بن صالح ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قوله تعالى : " لا تأخذه سنة " قال : السنة : النعاس ، والنوم : هو النوم (1) .
5770 - حدثني محمد بن سعد ، قال : حدثني أبي ، قال : حدثني عمي ، قال : حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : " لا تأخذه سنة " السنة : النعاس.
5771 - حدثنا الحسن بن يحيي ، قال : أخبرنا عبد الرازق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة والحسن في قوله : " لا تأخذه سنة " قالا نعسة.
5772 - حدثني المثنى ، قال ، حدثنا عمرو بن عون ، قال : أخبرنا هشيم ، عن جويبر ، عن الضحاك في قوله : " لا تأخذه سنة ولا نوم " قال : السنة : الوسنة ، وهو دون النوم ، والنوم : الاستثقال ،
5773 - حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا أبو زهير ، عن
__________
(1) يعنى أن النوم معروف ، والسنة غير النوم ، وانظر الأثر الآتي : 5772 وما بعده .

(5/391)


جويبر ، عن الضحاك : " لا تأخذه سنة ولا نوم " السنة : النعاس ، والنوم : الاستثقال.
5774 - حدثني يحيي بن أبي طالب ، قال : أخبرنا يزيد ، قال : أخبرنا جويبر ، عن الضحاك ، مثله سواء.
5775 - حدثني موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : " لا تأخذه سنة ولا نوم " أما " سنة " ، فهو ريح النوم الذي يأخذ في الوجه فينعس الإنسان (1) .
5776 - حدثت عن عمار ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : " لا تأخذه سنه ولا نوم " قال : " السنة " ، الوسنان بين النائم واليقظان.
5777 - حدثني عباس بن أبي طالب ، قال : حدثنا منجاب بن الحرث ، قال : حدثنا علي بن مسهر ، عن إسماعيل عن يحيى بن رافع : " لا تأخذه سنه " قال : النعاس (2) .
5778 - حدثني يونس ، قال أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : " لا تأخذه سنة ولا نوم " قال : " الوسنان " : الذي يقوم من النوم لا يعقل ، حتى
__________
(1) في المخطوطة " ريح " غير منقوطة . والريح هنا : الغلبة والقوة ، كما جاء في شعر أعشى فهو أو سليك بن السلكة .
أتنظران قليلا ريث غفلتهمأوتعدوان فإن الريح للعادى
أي الغلبة . وربما قرئت أيضًا : " الرنح " (بفتح الراء وسكون النون) وهو الدوار . ومنه : " ترنح من السكر " إذا تمايل ، و " رنح به " (بالبناء للمجهول مشددة النون) إذا دير به كالمغشى عليه ، أو اعتراه وهن في عظامه من ضرب أو فزع أو سكر .
(2) الأثر : 5777 - " عباس بن أبي طالب " ، هو : " عباس جعفر بن الزبرقان " مضت ترجمته في رقم : 880 ، و " المنجاب بن الحارث " ، مضت ترجمته في رقم : 322 - 328 ، و " على بن مسهر القرشي " الكوفي الحافظ ، روي عن يحيى بن سعيد الأنصاري ، وهشام بن عروة ، واسماعيل بن أبي خلد . ثقة ، مات سنة 189 . مترجم في التهذيب . و " اسناعيل " هو " اسماعيل بن أبي خالد الأحمس " روي عن أبيه ، وأبيجحيفة ، ن وعبدالله بن أبي أوفى ، وعمرو بن حريث ، وأبي كاهل ، وهؤلاء صحابة . وعن زيد بن وهب والشعبي وغيرهما من كبار التابعين . كان ثقة ثبتا . مات سنه 146 . مترجم في التهذيب . و " يحيى بن رافع " أبو عيسى الثقفى . روي عن عثمان وأبي هريرة ، وروى عنه إسماعيل بن أبي خالد . مترجم في الكبير 4/ 2/ 273 ، وابن أبي حاتم 4/2/ 143 .

(5/392)


ربما أخذ السيف على أهله.
* * *
قال أبو جعفر : وإنما عنى تعالى ذكره بقوله : " لا تأخذه سنة ولا نوم " لا تحله الآفات ، ولا تناله العاهات. وذلك أن " السنة " و " النوم " ، معنيان يغمران فهم ذي الفهم ، ويزيلان من أصاباه عن الحال التي كان عليها قبل أن يصيباه.
* * *
فتأويل الكلام ، إذ كان الأمر على ما وصفنا : " الله لا إله إلا هو الحي " الذي لا يموت " القيوم " على كل ما هو دونه بالرزق والكلاءة والتدبير والتصريف من حال إلى حال " لا تأخذه سنة ولا نوم " ، لا يغيره ما يغير غيره ، ولا يزيله عما لم يزل عليه تنقل الأحوال وتصريف الليالي والأيام ، بل هو الدائم على حال ، والقيوم على جميع الأنام ، لو نام كان مغلوبا مقهورا ، لأن النوم غالب النائم قاهره ، ولو وسن لكانت السموات والأرض وما فيهما دكا ، لأن قيام جميع ذلك بتدبيره وقدرته ، والنوم شاغل المدبر عن التدبير ، والنعاس مانع المقدر عن التقدير بوسنه. (1) كما :
5779 - حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر قال : أخبرني الحكم بن أبان ، (2) عن عكرمة مولى ابن عباس في قوله : " لا يأخذه سنة ولا نوم " أن موسى سأل الملائكة : هل ينام الله ؟ فأوحى الله إلى الملائكة ، وأمرهم أن يؤرقوه ثلاثا فلا يتركوه ينام. ففعلوا ، ثم أعطوه قارورتين فأمسكوه ، ثم تركوه وحذروه أن يكسرهما. قال : فجعل ينعس وهما في يديه ،
__________
(1) في المطبوعة : " يمانع " بالياء في أوله ، وهو خطأ لا خير فيه . وإنما أخطأ قراءة المخطوطة للفتحة على الميم ، اتصلت بأولها .
(2) في المطبوعة والمخطوطة " وأخبرنى الحكم " ، وكأن الصواب حذف الواو " أخبرنا معمر قال ، أخبرنى الحكم بن أبان " كما أثبته فإن معمرا يروي عن الحكم بن أبان . انظر ترجمته في التهذيب ، وكما جاء في ابن كثير 2 : 11 على الصواب . وقال بمقبه : " وهو من أخبار بني إسرائيل ، وهو مما يعلم أن موسى عليه السلام لا يخفى عليه مثل هذا من أمر الله عز وجل ، وهو منزه عنه " . وأصاب ابن كثير الحق ، فإن أهل الكتاب ينسبون إلى أنبياء الله ، ما لو تركوه لكان خيرا لهم .

(5/393)


في كل يد واحدة. قال : فجعل ينعس وينتبه ، وينعس وينتبه ، حتى نعس نعسة ، فضرب بإحداهما الأخرى فكسرهما قال معمر : إنما هو مثل ضربه الله ، يقول : فكذلك السموات والأرض في يديه.
5780 - حدثنا إسحاق بن أبي إسرائيل ، قال : حدثنا هشام بن يوسف ، عن أمية بن شبل ، عن الحكم بن أبان ، عن عكرمة ، عن أبي هريرة ، قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يحكي عن موسى صلى الله عليه وسلم على المنبر ، قال : وقع في نفس موسى : هل ينام الله تعالى ذكره ؟ فأرسل الله إليه ملكا فأرّقه ثلاثا ، ثم أعطاه قارورتين في كل يد قارورة ، أمره أن يحتفظ بهما. قال : فجعل ينام وتكاد يداه تلتقيان ، ثم يستيقظ فيحبس إحداهما عن الأخرى ، ثم نام نومة فاصطفقت يداه وانكسرت القارورتان. قال : ضرب الله مثلا له أن الله لو كان ينام لم تستمسك السماء والأرض (1) .
* * *
__________
(1) الأثر : 5780 - " إسحق بن أبى إسرائيل - واسمه إبراهيم - بن كما مجرا ، أبو يعقوب المروزي " نزيل بغداد . روى عنه البخاري في الأدب المفرد ، وأبو داود والنسائى وغيرهم . قال ابن معين : " من ثقات المسلمين ، ما كتب حديثا قط عن أحد من الناس ، إلا ما خطه هو في ألواحه أو كتابه " .
وكرهه أحمد لوقفه في أن القرآن كلام الله غير مخلوق ، فتركه الناس حتى كان الناس يمرون بمسجده ، وهو فيه وحيد لا يقربه أحد . وقال أبو زرعة : " عندي أنه لا يكذب ، وحدث بحديث منكر " . مات سنه 240 . مترجم في التهذيب .
و " هشام بن يوسف الصنعائي " قاضي صنعاء ، ثقة . روى عنه الأئمة كلهم . روي عن معمر ، وابن جريج ، والقاسم بن فياض ، والثوري ، وغيرهم . قال عبد الرزاق : " إن حدثكم القاضي - يعنى هشام بن يوسف - فلا عليكم أن لا تكتبوا عن غيره " . مترجم في التهذيب .
و " أمية بن شبل الصنعائي " ، سمع الحكم بن أبان طاوس . روى عنه هشام بن يوسف وعبدالرزاق ، وثقه ابن معين ، مترجم في الكبير 1/2/ 12 ، ولم يذكر فيه جرحا ، وابن أبي حاتم 1/ 1/ 302 ، ولسان الميزان 1 : 467 . وقال الحافظ في لسان الميزان : " له حديث منكر ، رواه عن الحكم بن أبان عن عكرمة ، عن أبي هريرة ، مرفوعا ، قال " وقع في نفس موسى عليه السلام ، هل ينام الله " ، الحديث ، رواه عنه هشام بن يوسف ، وخالفه معمر ، عن الحكم ، عن عكمرمة ، فوقفة ، وهو أقرب . ولا يسوغ أن يكون هذا وقعا في نفس موسى عليه السلام ، وإنما روي أن بني إسرائيل سألوا موسى عن ذلك " .
وساق ابن كثير في تفسير 1 : 11 ، هذه الآثار ، ثم قال : " وأغرب من هذا كله ، الحديث الذي رواه ابن جرير : حدثنا إسحق بن أبي إسرائيل... " ، وساق الخبر ، ثم قال : " وهذا حديث غريب ، والأظهر أنه إسرائيل لا مرفوع ، والله أعلم " . والذي قاله ابن حجر قاطع في أمر هذا الخبر .

(5/394)


القول في تأويل قوله تعالى : { لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلا بِإِذْنِهِ }
قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بقوله : " له ما في السموات وما في الأرض " أنه مالك جميع ذلك بغير شريك ولا نديد ، وخالق جميعه دون كل آلهة ومعبود (1) .
وإنما يعنى بذلك أنه لا تنبغي العبادة لشيء سواه ، لأن المملوك إنما هو طوع يد مالكه ، وليس له خدمة غيره إلا بأمره. يقول : فجميع ما في السموات والأرض ملكي وخلقي ، فلا ينبغي أن يعبد أحد من خلقي غيري وأنا مالكه ، لأنه لا ينبغي للعبد أن يعبد غير مالكه ، ولا يطيع سوى مولاه.
* * *
وأما قوله : " من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه " يعني بذلك : من ذا الذي يشفع لمماليكه إن أراد عقوبتهم ، إلا أن يخليه ، ويأذن له بالشفاعة لهم. (2) وإنما قال ذلك تعالى ذكره لأن المشركين قالوا : ما نعبد أوثاننا هذه إلا ليقربونا إلى الله زلفى! (3) فقال الله تعالى ذكره لهم : لي ما في السموات وما في الأرض مع السموات والأرض ملكا ، فلا ينبغي العبادة لغيري ، فلا تعبدوا الأوثان التي تزعمون أنها تقربكم مني زلفى ، فإنها لا تنفعكم عندي ولا تغني عنكم شيئا ، ولا يشفع عندي أحد لأحد إلا بتخليتي إياه والشفاعة لمن يشفع له ، من رسلي وأوليائي وأهل طاعتي.
* * *
__________
(1) انظر ما سلف في تفسير : " له ما في السموات... " ، 2 : 537 .
(2) انظر معنى " شفع " فيما سلف 2 : 31 - 33 ، وما سلف قريبا : 382 - 384 . ومعنى " الإذن " فيما سلف 2 : 449 ، 450/ ثم4 : 286 ، 370/ ثم هذا 352 ، 355 .
(3) هذا تأويل آية " سورة الزمر " : 3 .

(5/395)


القول في تأويل قوله تعالى : { يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلا بِمَا شَاءَ }
قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بذلك أنه المحيط بكل ما كان وبكل ما هو كائن علما ، لا يخفى عليه شيء منه.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
5781 - حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن منصور ، عن الحكم : " يعلم ما بين أيديهم " ، الدنيا " وما خلفهم " ، الآخرة.
5782 - حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : " يعلم ما بين أيديهم " ، ما مضى من الدنيا " وما خلفهم " من الآخرة.
5783 - حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج ، قال : قال ابن جريج قوله : " يعلم ما بين أيديهم " ما مضى أمامهم من الدنيا " وما خلفهم " ما يكون بعدهم من الدنيا والآخرة.
5784 - حدثني موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : " يعلم ما بين أيديهم " ، قال : [ وأما ] " ما بين أيديهم " ، فالدنيا " وما خلفهم " ، فالآخرة (1) .
* * *
وأما قوله : " ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء " ، فإنه يعني تعالى ذكره : أنه العالم الذي لا يخفي عليه شيء محيط بذلك كله ، (2)
__________
(1) زيادة ما بين القوسين ، لاغنى عنها .
(2) انظر تفسير " الإحاطة " فيما سلف 2 : 284 .

(5/396)


محص له دون سائر من دونه وأنه لا يعلم أحد سواه شيئا إلا بما شاء هو أن يعلمه ، فأراد فعلمه ، وإنما يعني بذلك : أن العبادة لا تنبغي لمن كان بالأشياء جاهلا فكيف يعبد من لا يعقل شيئا البتة من وثن وصنم ؟! يقول : أخلصوا العبادة لمن هو محيط بالأشياء كلها ، (1) يعلمها ، لا يخفي عليه صغيرها وكبيرها.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
5786 - حدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : " ولا يحيطون بشيء من علمه " يقول : لا يعلمون بشيء من علمه " إلا بما شاء " ، هو أن يعلمهم (2) .
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ }
قال أبو جعفر : اختلف أهل التأويل في معنى " الكرسي " الذي أخبر الله تعالى ذكره في هذه الآية أنه وسع السموات والأرض.
فقال بعضهم : هو علم الله تعالى ذكره.
* ذكر من قال ذلك :
5787 - حدثنا أبو كريب وسلم بن جنادة ، قالا حدثنا ابن إدريس ، عن مطرف ، عن جعفر بن أبي المغيرة ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : " وسع كرسيه " قال : كرسيه علمه.
5788 - حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا مطرف ،
__________
(1) في المطبوعة : " أخلصوا " ، وأثبت ما في المخطوطة ، وهو الصواب .
(2) سقط من الترقيم : 5785 ، سهوا .

(5/397)


عن جعفر بن أبي المغيرة ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، مثله وزاد فيه : ألا ترى إلى قوله : " ولا يؤوده حفظهما " ؟
* * *
وقال آخرون : " الكرسي " : موضع القدمين.
* ذكر من قال ذلك :
5789 - حدثني علي بن مسلم الطوسي ، قال : حدثنا عبد الصمد بن عبد الوارث ، قال : حدثني أبي ، قال : حدثني محمد بن جحادة ، عن سلمة بن كهيل ، عن عمارة بن عمير ، عن أبي موسى ، قال : الكرسي : موضع القدمين ، وله أطيط كأطيط الرحل (1) .
5790 - حدثني موسى بن هاوون ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : " وسع كرسيه السموات والأرض " ، فإن السموات والأرض في جوف الكرسي ، والكرسي بين يدي العرش ، وهو موضع قدميه.
5791 - حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا أبو زهير ، عن جويبر ، عن الضحاك قوله : " وسع كرسيه السموات والأرض " ، قال : كرسيه الذي يوضع تحت العرش ، الذي يجعل الملوك عليه أقدامهم ،
5792 - حدثنا أحمد بن إسحاق ، قال : حدثنا أبو أحمد الزبيري ، عن سفيان ، عن عمار الدهني ، عن مسلم البطين ، قال : الكرسي : موضع القدمين (2) .
__________
(1) الأثر : 5789 - " علي بن مسلم بن سعيد الطوسي " نزيل بغداد . روى عنه البخاري ، وأبو داود ، والنسائي ، ثقة ، مات سنة 253 ، مترجم في التهذيب . و " عمارة بن عمير التيمي " ، رأى عبدالله لابن عمرو ، وروي عن الأسود بن يزيد النخعي ، والحارث بن سويد التيمي ، وإبراهيم بن أبي موسى الأشعري . لم يدرك أبا موسى . والحديث منقطع . وخرجه السيوطي في الدر المنثور 1 : 327 ، ونسبه لابن المنذر ، وأبي الشيخ ، والبيهقى في الأسماء والصفات .
الأطيط : صوت الرحل والنسع الجديد ، وصوت الباب ، وهو صوت متمدد خشن ليس كالصرير بل أخشن .
(2) الأثر : 5792 - خرجه ابن كثير في تفسيره 2 : 13 من طريق سفيان عن عمار الدهني ، عن مسلم البطين ، عن سعيد بن جبير عن ابن عباس ، ونسبه لوكيع في تفسيره . ورواه الكاكم في المستدرك 2 : 282 مثله ، موقوفا علي ابن عباس ، وقال : " صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه " . ووافقه الذهبى قال ابن كثير : " وقد رواه ابن مردويه ، من طريق الحاكم بن ظهير الفزارى الكوفي ، وهو متروك ، عن السدى عن أبيه عن أبي هريرة مرفوعا ، ولا يصح أيضًا " . وانظر مجمع الزوائد 6 : 323 : والفتح 8 : 149 .

(5/398)


5793 - حدثني عن عمار ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : " وسع كرسيه السموات والأرض " ، قال : لما نزلت : " وسع كرسيه السموات والأرض " قال أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : يا رسول الله هذا الكرسي وسع السموات والأرض ، فكيف العرش ؟ فأنزل الله تعالى : ( وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ ) إلى قوله : ( سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ) [الزمر : 67] (1) .
5794 - حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : " وسع كرسيه السموات والأرض " قال ابن زيد : فحدثني أبي قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما السموات السبع في الكرسي إلا كدراهم سبعة ألقيت في ترس قال : وقال أبو ذر : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ما الكرسي في العرش إلا كحلقة من حديد ألقيت بين ظهري فلاة من الأرض (2) .
* * *
وقال آخرون : الكرسي : هو العرش نفسه.
* ذكر من قال ذلك :
5795 - حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا أبو زهير ، عن جويبر ، عن الضحاك ، قال : كان الحسن يقول : الكرسي هو العرش.
* * *
قال أبو جعفر : ولكل قول من هذه الأقوال وجه ومذهب ، غير أن الذي هو أولى بتأويل الآية ما جاء به الأثر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو ما : -
__________
(1) الأثر : 5793 - لم يرد في تفسير الآية من " سورة الزمر " .
(2) الأثر : 5794 - أثر أبي ذر ، خرجه السيوطي في الدر المنثور 1 : 328 ، ونسبه لأبي الشيخ في العظمة ، وابن مردويه ، والبيهقي في الأسماء والصفات ، وخرجه ابن كثير في تفسيره 2 : 13 وساق لفظ ابن مردويه وإسناده ، من طريق محمد بن عبدالتميمي ، عن القاسم بن محمد الثقفي ، عن أبي إدريس الخولاني ، عن أبي ذر .

(5/399)


5796 - حدثني به عبد الله بن أبي زياد القطواني ، قال : حدثنا عبيد الله بن موسى ، قال : أخبرنا إسرائيل ، عن أبى إسحاق ، عن عبد الله بن خليفة ، قال : أتت امرأة النبي صلى الله عليه وسلم ، فقالت : ادع الله أن يدخلني الجنة! فعظم الرب تعالى ذكره ، ثم قال : إن كرسيه وسع السموات والأرض ، وأنه ليقعد عليه فما يفضل منه مقدار أربع أصابع - ثم قال بأصابعه فجمعها - وإن له أطيطا كأطيط الرحل الجديد ، إذا ركب ، من ثقله " (1) .
5797 - حدثني عبد الله بن أبى زياد ، قال : حدثنا يحيى بن أبي بكر ، عن إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن عبد الله بن خليفة ، عن عمر ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، بنحوه.
5798 - حدثنا أحمد بن إسحاق ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن عبد الله بن خليفة ، قال : جاءت امرأة ، فذكر نحوه (2) .
* * *
__________
(1) الأثر : 5796 - " عبدالله بن أبي زياد القطواني " ، هو " عبدالله بن الحكم بن أبي زيادة " سلفت ترجمته برقم : 2247 . و " عبيدالله بن موسي بن أبي المختار ، وأسمه باذام ، العبسى مولاهم " ، روى عنه البخاري ، وروى عنه هو والباقون بواسطة أحمد بن أبي سريج الرازى ، وأحمد بن إسحق البخاري ، وأبي بكر بن أبي شبية ، وعبدالله بن الحكم القطواني وغيرهم . ثقة صدوق حسن الحديث ، كان عالما بالقرآن رأسا فيه ، وأثبت أصحاب إسرائيل . مترجم في التهذيب .
و " عبدالله بن خليفة الهمداني الكوفي " روي عن عمر وجابر ، روى عنه أبو إسحق السبيعى ذكره ابن حبان في الثقات . مترجم في التهذيب . وهكذا روى الطبري هذا الأثر موقوفا ، وخرجه ابن كثير وفي تفسيره 2 : 13 من طريق إسرائيل ، عن أبي إسحق ، عن عبدالله بن خليفة ، عن عمر رضي الله عنه .
قال ابن كثير : " وقد رواه الحافظ البزار في مسنده المشهور ، وعبد بن بن حميد ، وابن جرير في تفسيريهما ، والطبراني ، وابن أبي عاصم في كتابي السنة ، لها ، والحافظ الضياء في كتابه المختار من حديث أبي إسحق السبيعي ، عن عبدالله بن خليفة ، وليس بذاك المشهور . وفي سماعه من عمر نظطر : ثم منهم من يرويه عنه ، عن عمر موقوفا - قلت : كما رواه الطبري هنا - ومنهم من يرويه عن عمر مرسلا ، ومنهم من يزيد في متنه زيادة غربية - قلت : وهي زيادة الطبري في هذا الحديث - ومنهم من يحذفها . وأغرب من هذا حديث جبير بن مطعم في صفة العرش ، كما رواه أبو داود في كتاب السنة من سنته (رقم : 4726) ، والله أعلم " .
قال بيده : أشار بها ، وانظر ما سلف من تفسير الطبري لذلك في 2 : 546 - 548 .
(2) الأثران : 5797 ، 5798 - يحيى بن أبي بكير ، واسمه نسر ، الأسدي " ، أبو زكريا الكرماني الأصل . سكن بغداد ، روي عن بن عثمان ، وإبراهيم بن طهمان ، وإسرائيل ، وزائدة .
روى عنه الستة ، ويعقوب بن إبراهيم الدورقي ، ومحمد بن أحمد بن أحمد بن أبي خلف ، وغيرهم . ذكره ابن حبان في الثقات . مات سنة 208 أو 209 . مترجم في التهذيب . وكان في المطبوعة " يحيى بن أبي بكر " وهو خطأ .
وهذا الأثر ، والذي يليه ، إسنادان آخران للأثر السالف رقم : 5796 ، فانظر التعليق عليهما .

(5/400)


وأما الذي يدل على صحته ظاهر القرآن فقول ابن عباس الذي رواه جعفر بن أبي المغيرة ، عن سعيد بن جبير ، عنه أنه قال : " هو علمه " (1) . وذلك لدلالة قوله تعالى ذكره : " ولا يؤوده حفظهما " على أن ذلك كذلك ، فأخبر أنه لا يؤوده حفظ ما علم ، وأحاط به مما في السموات والأرض ، وكما أخبر عن ملائكته أنهم قالوا في دعائهم : ( رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا ) [غافر : 7] ،
__________
(1) العجب لأبي جعفر ، كيف تناقض قوله في هذا الموضع ! فإنه بدأ فقال : إن الذي هو أولى بتأويل الآية ما جاء به الأثر عن رسول الله صلي الله عليه وسلم ، من الحديث في صفة الكرسي ، ثم عاد في هذا الموضع يقول : وأما الذي يدل على صحته ظاهر القرآن ، فقول ابن عباس أنه علم الله سبحانه . فإما هذا وإما هذا ، وغير ممكن أن يكون أولى التأويلات في معنى " الكرسي " هو الذي جاء في الحديث الأول ، ويكون معناه أيضًا " العلم " ، كما زعم أنه دل على صحته ظاهر القرآن . وكيف يجمع في تأويل واحد ، معنيان مختلفان في الصفة والجوهر ! ! وإذا كان خبر جعفر بن أبي المغيرة ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، صحيح الإسناد ، فإن الخبر الآخر الذي رواه مسلم البطين ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، صحيح الإسناد علىشرط الشيخين ، كما قال الحاكم ، وكما في مجمع الزوائد 6 : 323 " رواه الطبراني ، ورجاله رجال الصحيح " ، كما بينته في التعليق على الأثر : 5792 . ومهما قيل فيها ، فلن يكون أحدهما أرجح من الآخر إلا بمرجح يجب التسليم له . وأما أبو منصور الأزهري فقد قال في ذكر الكرسي : " والصحيح عن ابن عباس ما رواه عمار الدهنى ، عن مسلم البطين ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس أنه قال : " الكرسي موضع القدمين ، وأما العرش فإنه لا يقدر قدره . قال : وهذه رواية اتفق أهل العلم على صحتها . قال : ومن روى عنه في الكرسي أنه العلم ، فقد أبطل " ، وهذا هو قول أهل الحق إن شاء الله .
وقد أراد الطبري أن يستدل بعد بأن الكرسي هو " العلم " ، بقوله تعالى : " ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلما " ، فلم لم يجعل " الكرسي " هو " الرحمة " ، وهما في آية واحدة ؟ ولم يجعلها كذلك لقوله تعالى في سورة الأعراف : 156 : " قال عذابي أصيب به من أشاء ورحمتي وسعت كل شيء " ؟ واستخراج معنى الكرسي من هذه الآية كما فعل الطبري ، ضعيف جدا ، يجل عنه من كان مثله حذرا ولطفا ودقة .
وأما ما ساقه بعد من الشواهد في معنى " الكرسي " ، فإن أكثره لا يقوم على شيء ، وبعضه منكر التأويل ، كما سأبينه بعد إن شاء الله . وكان يحسبه شاهدا ودليلا أنه لم يأت في القرآن في غير هذا الموضع ، بالمعنى الذي قالوه ، وأنه جاء في الآية الأخرى بما ثبت في صحيح اللغة من معنى " الكرسي " ، وذلك قوله تعالى في " سورة ص " : " ولقد فتنا سليمان وألقينا على كرسيه جسدا ثم أناب " . وكتبه محمود محمد شاكر .

(5/401)


فأخبر تعالى ذكره أن علمه وسع كل شيء ، فكذلك قوله : " وسع كرسيه السموات والأرض " .
* * *
قال أبو جعفر : وأصل " الكرسي " العلم. (1) ومنه قيل للصحيفة يكون فيها علم مكتوب " كراسة " ، ومنه قول الراجز في صفة قانص :
* حتى إذا ما احتازها تكرسا * (2)
.
يعني علم. ومنه يقال للعلماء " الكراسي " ، لأنهم المعتمد عليهم ، كما يقال : " أوتاد الأرض " . يعني بذلك أنهم العلماء الذي تصلح بهم الأرض ، (3) ومنه قول الشاعر : (4)
يحف بهم بيض الوجوه وعصبة... كراسي بالأحداث حين تنوب (5)
يعني بذلك علماء بحوادث الأمور ونوازلها. والعرب تسمي أصل كل شيء " الكرس " ، يقال منه : " فلان كريم الكرس " ، أي كريم الأصل ، قال العجاج :
__________
(1) أخشى أن يكون الصواب : " وأصل الكرس : العلم " (بفتح الكاف وسكون الراء) مما رواه ابن العرابى من قولهم : " كرس الرجل " (بفتح ثم كسر) : إذا ازدحم علمه على قلبه . وجعل أبي جعفر هذا أصلا ، عجب أي عجب! فمادة اللغة تشهد على خلافه ، وتفسير ابن الأعرابى هذا أيضًا شاهد على خلافه . وأنما أصل المادة (كرس) من تراكم الشيء وتلبد بعضه على وتجمعه . وقوله بعد : " ومنه قيل للصحيفة كراسة " ، والأجود أن يقال : إنه من تجمع أوراقه بعضها على بعض ، أو ضم بعضها إلى بعض .
(2) لم أجد الرجز ، وقوله : " احتازها " ، أي حازها وضمها إلى نفسه . ولا أدرى إلى أي شيء يعود الضمير : إلى القانص أم إلى كلبه ؟ والاستدلال بهذا الرجز على أنه يعنى بقوله : " تكرس " ، علم ، لا دليل عليه ، حتى نجد سائر الشعر ، ولم يذكره أحد من أصحاب اللغة .
(3) هذا التفسير مأخوذ من قول قطرب كما سيأتى ، أنهم العلماء ، ولكن أصل مادة اللغة يدل على أن أصل ذلك هو ذلك هو الشيء الثابت الذي يعتمد عليه ، كالكرسي الذي يجلس عليه ، وتسمية العلماء بذلك مجاز محض .
(4) لم أعرف قائله .
(5) لم أجد البيت ، إلا فيمن نقل عن الطبري ، وفي أساس البلاغة (كرس) أنشده بعد قوله : " ويقال للعلماء الكراسي - عن قطرب " وأنشد البت . ولم أجد من ذكر ذلك من ثقات أهل اللغة .

(5/402)


قد علم القدوس مولى القدس... أن أبا العباس أولى نفس... * بمعدن الملك الكريم الكِرْس * (1)
يعني بذلك : الكريم الأصل ، ويروى :
* في معدن العز الكريم الكِرْس *
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (255) }
قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بقوله : " ولا يؤوده حفظهما " ، ولا يشق عليه ولا يثقله.
* * *
يقال منه : " قد آدني هذا الأمر فهو يؤودني أودا وإيادا " ، (2) ويقال : " ما آدك فهو لي آئد " ، يعني بذلك : ما أثقلك فهو لي مثقل.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
5799 - حدثنا المثنى بن إبراهيم ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال :
__________
(1) ديوانه : 78 ، واللسان (قدس) (كرس) . و " القدس " هو الله - سبحانه الطاهر المنزه عن العيوب والنقائص . والقدس . ومولاها : ربها . وقد سلف تفسير معنى " القدس " و " القدس " في هذا التفسير 1 : 475 ، 476/ 2 : 322 ، 323 . و " أبو العباس " هو أبو العباس السفاح ، الخليفة العباسي . وروى صاحب اللسان " القديم الكرس " ، و " المعدن " (بفتح الميم وكسر الدال) : مكان كل شيء وأصله الثابت ، ومنه : " معدن الذهب والفضة " ، وهو الموضع الذي ينبت الل فيه الذهب والفضة ، ثم تستخرج منه ، وهو المسمى في زماننا " المنجم " . يقول : أبو العباس أولى نفس بالخلافة ، الثابتة الأصل الكريمته .
(2) قوله : " إيادا " مصدر لم أجده في كتب اللغة ، زادناه الطبري .

(5/403)


حدثني معاوية بن صالح ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : " ولا يؤوده حفظهما " يقول : لا يثقل عليه.
5800 - حدثني محمد بن سعد ، قال : حدثني أبي ، قال : حدثني عمي ، قال : حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : " ولا يؤوده حفظهما " قال : لا يثقل عليه حفظهما.
5801 - حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : " ولا يؤوده حفظهما " لا يثقل عليه لا يجهده حفظهما.
5802 - حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر عن الحسن وقتادة في قوله : " ولا يؤوده حفظهما " قال : لا يثقل عليه شيء.
5803 - حدثني محمد بن عبد الله بن بزيع ، قال : حدثنا يوسف بن خالد السمتي ، قال : حدثنا نافع بن مالك ، عن عكرمة ، عن ابن عباس في قوله : " ولا يؤود حفظهما " قال : لا يثقل عليه حفظهما.
5804 - حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا ابن أبي زائدة وحدثنا يحيى بن أبي طالب ، قال : أخبرنا يزيد قالا جميعا : أخبرنا جويبر ، عن الضحاك : " ولا يؤوده حفظهما " قال : لا يثقل عليه.
5805 - حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا يحيى بن واضح ، عن عبيد ، عن الضحاك ، مثله.
5806 - حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : سمعته يعني خلادا يقول : سمعت أبا عبد الرحمن المديني يقول في هذه الآية : " ولا يؤوده حفظهما " ، قال : لا يكبر عليه (1) .
5807 - حدثنا محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى بن
__________
(1) في المخطوطة والمطبوعة : " يكثر عليه " والصواب ما أثبت : " كبر عليه " ، ثقل عليه .

(5/404)


ميمون ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله : " ولا يؤوده حفظهما " قال : لا يكرثه (1) .
5808 - حدثني موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : " ولا يؤوده حفظهما " قال : لا يثقل عليه.
5809 - حدثت عن عمار ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع قوله : " ولا يؤوده حفظهما " يقول : لا يثقل عليه حفظهما.
5810 - حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : " ولا يؤوده حفظهما " قال : لا يعز عليه حفظهما.
* * *
قال أبو جعفر : " والهاء " ، و " الميم " و " الألف " في قوله : " حفظهما " ، من ذكر " السموات والأرض " . فتأويل الكلام : وسع كرسيه السموات والأرض ، ولا يثقل عليه حفظ السموات والأرض.
* * *
وأما تأويل قوله : " وهو العلي " فإنه يعني : والله العلي.
* * *
و " العلي " " الفعيل " من قولك : " علا يعلو علوا " ، إذا ارتفع ، " فهو عال وعلي " ، " والعلي " ذو العلو والارتفاع على خلقه بقدرته.
* * *
وكذلك قوله : " العظيم " ، ذو العظمة ، الذي كل شيء دونه ، فلا شيء أعظم منه. كما : -
5811 - حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : حدثني معاوية بن صالح ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : " العظيم " ، الذي قد كمل في عظمته.
* * *
__________
(1) كرثه الأمر يكرثه : اشتد عليه وبلغ منه المشقة .

(5/405)


قال أبو جعفر : واختلف أهل البحث في معنى قوله : (1) .
" وهو العلي " .
فقال بعضهم : يعني بذلك; وهو العلي عن النظير والأشباه ، (2) وأنكروا أن يكون معنى ذلك : " وهو العلي المكان " . وقالوا : غير جائز أن يخلو منه مكان ، ولا معنى لوصفه بعلو المكان ، لأن ذلك وصفه بأنه في مكان دون مكان.
* * *
وقال آخرون : معنى ذلك : وهو العلي على خلقه بارتفاع مكانه عن أماكن خلقه ، لأنه تعالى ذكره فوق جميع خلقه وخلقه دونه ، كما وصف به نفسه أنه على العرش ، فهو عال بذلك عليهم.
* * *
وكذلك اختلفوا في معنى قوله : " العظيم " .
فقال بعضهم : معنى " العظيم " في هذا الموضع : المعظم ، صرف " المفعل " إلى " فعيل " ، كما قيل للخمر المعتقة ، " خمر عتيق " ، كما قال الشاعر : (3) .
وكأن الخمر العتيق من الإس... فنط ممزوجة بماء زلال (4)
وإنما هي " معتقة " . قالوا : فقوله " العظيم " معناه : المعظم الذي يعظمه خلقه ويهابونه ويتقونه. قالوا : وإنما يحتمل قول القائل : " هو عظيم " ، أحد معنين : أحدهما : ما وصفنا من أنه معظم ، والآخر : أنه عظيم في المساحة والوزن. قالوا : وفي بطول القول بأن يكون معنى ذلك : أنه عظيم في المساحة والوزن ، صحة القول بما قلنا.
* * *
__________
(1) انظر ما سلف في ذكره " أهل البحث " فيما سلف قريبا : 387 ، التعليق : 2 .
(2) في المخطوطة : " النظر " ، بغير ياء . و " النظر " (بكسر فسكون) ، مثل " النظير " ، مثل : " ند ونديد " . وجائز أن يكون " النظر " (بضمتين) جمع " نظير " ، وهم يكسر " فعيلا " الصفة ، على " فعل " ، بضمتين تشبيها له " بفعيل " الاسم ، كما قالوا في " جديد ، جدد " ، و " نذير ، نذر " . أما النظائر جمع نظير ، فهو شاذ عن بابه .
(3) هو الأعشى .
(4) ديوانه : 5 ، وقد مضى هذا البيت في تعليقنا آنفًا : 390 ، تعليق : 3 . والزلال : الماء الصافى العذب البارد السائغ في الحلق .

(5/406)


لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (256)

وقال آخرون : بل تأويل قوله : " العظيم " هو أن له عظمة هي له صفة.
وقالوا : لا نصف عظمته بكيفية ، ولكنا نضيف ذلك إليه من جهة الإثبات ، (1) .
وننفي عنه أن يكون ذلك على معنى مشابهة العظم المعروف من العباد. لأن ذلك تشبيه له بخلقه ، وليس كذلك. وأنكر هؤلاء ما قاله أهل المقالة التي قدمنا ذكرها ، وقالوا : لو كان معنى ذلك أنه " معظم " ، لوجب أن يكون قد كان غير عظيم قبل أن يخلق الخلق ، وأن يبطل معنى ذلك عند فناء الخلق ، لأنه لا معظم له في هذه الأحوال.
* * *
وقال آخرون : بل قوله : إنه " العظيم " وصف منه نفسه بالعظم. وقالوا : كل ما دونه من خلقه فبمعنى الصغر لصغرهم عن عظمته.
* * *
القول في تأويل قوله : { لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ }
قال أبو جعفر : اختلف أهل التأويل في معنى ذلك.
فقال بعضهم : نزلت هذه الآية في قوم من الأنصار - أو في رجل منهم - كان لهم أولاد قد هودوهم أو نصروهم ، فلما جاء الله بالإسلام أرادوا إكراههم عليه ، فنهاهم الله عن ذلك ، حتى يكونوا هم يختارون الدخول في الإسلام.
* ذكر من قال ذلك :
5812 - حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا ابن أبي عدي ، عن شعبة ،
__________
(1) الإثبات : إثبات الصفات لله سبحانه كما وصف نفسه ، بلا تأويل ، خلافا للمعتزلة وغيرهم وانظر ما سلف 1 : 189 ، تعليق : 1 .

(5/407)


عن أبي بشر ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : كانت المرأة تكون مقلاتا ، فتجعل على نفسها إن عاش لها ولد أن تهوده. فلما أجليت بنو النضير كان فيهم من أبناء الأنصار ، فقالوا : لا ندع أبناءنا! فأنزل الله تعالى ذكره : " لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي " .
5813 - حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا سعيد ، عن أبي بشر ، عن سعيد بن جبير ، قال : كانت المرأة تكون مقلى ولا يعيش لها ولد قال شعبة. وإنما هو مقلات فتجعل عليها إن بقي لها ولد لتهودنه. قال : فلما أجليت بنو النضير كان فيهم منهم ، فقالت الأنصار : كيف نصنع بأبنائنا ؟ فنزلت هذه الآية : " لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي " . قال : من شاء أن يقيم أقام ، ومن شاء أن يذهب ذهب (1) .
5814 - حدثنا حميد بن مسعدة ، قال : حدثنا بشر بن المفضل ، قال : حدثنا داود وحدثني يعقوب قال : حدثنا ابن علية ، عن داود عن عامر ، قال : كانت المرأة من الأنصار تكون مقلاتا لا يعيش لها ولد ، فتنذر إن عاش ولدها أن تجعله مع أهل الكتاب على دينهم ، فجاء الإسلام وطوائف من أبناء الأنصار على دينهم ، فقالوا : إنما جعلناهم على دينهم ، ونحن نرى أن دينهم أفضل من ديننا! وإذ جاء الله بالإسلام فلنكرهنهم! فنزلت : " لا إكراه في الدين " ، فكان
__________
(1) الأثران : 5812 ، 5813 - في ابن كثير 2 : 15 ، والدر المنثور 1 : 329 قال ابن كثير : " رواه أبو داود والنسائي جميعا عن بندار به ، ومن وجوه أخرى عن شعبة به نحوه . ورواه ابن أبي حاتم وابن حبان في صحيحه من حديث شعبة به " . والسنن الكبرى للبيهقى 9 : 186 ، وسنن أبي داود - 3 : 78 - 79 رقم : 2682 . وكان في المطبوعة والمخطوطة في رقم 5813 ، " حدثنا محمد بن جعفر ، عن سعيد " ، وهو خطأ صوابه " شعبة " . وقوله : " قال : من شاء أن يقيم أقام " وهو من كلام سعيد بن جبير ، كما في السنن للبيهقى . والحديث مرفوع هناك إلى ابن عباس وهو الصواب ولكني تركت ما في الطبري على حاله .
وامرأة مقلت (بضم الميم) ومقلات (بكسر الميم) ، هى المرأة التي لايعيش لها ولد . ويأتى أيضًا " مقلات " ، أنها المرأة التي ليس لها إلا ولد واحد . ولكن الأول هو المراد في هذا الأثر .

(5/408)


فصل ما بين من اختار اليهودية والإسلام ، فمن لحق بهم اختار اليهودية ، ومن أقام اختار الإسلام ولفظ الحديث لحميد.
5815 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا معتمر بن سليمان ، قال : سمعت داود ، عن عامر ، بنحو معناه إلا أنه قال : فكان فصل ما بينهم ، إجلاء رسول الله صلى الله عليه وسلم بني النضير ، فلحق بهم من كان يهوديا ولم يسلم منهم ، وبقي من أسلم.
5816 - حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا عبد الأعلى ، قال : حدثنا داود ، عن عامر بنحوه إلا أنه قال : إجلاء النضير إلى خيبر ، فمن اختار الإسلام أقام ، ومن كره لحق بخيبر (1) .
5817 - حدثني ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن أبي إسحاق ، عن محمد بن أبي محمد الحرشي مولى زيد بن ثابت عن عكرمة ، أو عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قوله : " لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي " ، قال : نزلت في رجل من الأنصار من بني سالم بن عوف يقال له الحصين ، كان له ابنان نصرانيان ، وكان هو رجلا مسلما ، فقال للنبي صلى الله عليه وسلم : ألا أستكرههما فإنهما قد أبيا إلا النصرانية ؟ فأنزل الله فيه ذلك (2) .
5818 - حدثني المثنى قال : حدثنا حجاج بن المنهال ، قال : حدثنا أبو عوانة ، عن أبي بشر ، قال : سألت سعيد بن جبير عن قوله : " لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي " قال : نزلت هذه في الأنصار ، قال : قلت خاصة! قال : خاصة! قال : كانت المرأة في الجاهلية تنذر إن ولدت ولدا أن تجعله في اليهود ،
__________
(1) الآثار 5814 - 5816 - هى ألفاظ مختلفة لحديث واحد ، وانظر 1 : 329 ، وقال " : أخرجه عبد بن حميد وابن المنذر " ، ثم انظر الأثرين رقم : 5823 ، 5824 فيما يأتي بعد .
(2) الأثر : 5817 - انظر ما قاله الحافظ ابن حجر في تحقيق اسم الصحابي في " حصين الأنصاري " غير منسوب ، ثم في باب الكنى " أبو الحصين الأنصاري السالمي " ، وفيهما تحقيق جيد .
وانظر تفسير ابن 2 : 15 ، والدر المنثور 1 : 329 . وانظر الأثر التالي رقم : 5819 .

(5/409)


تلتمس بذلك طول بقائه. قال : فجاء الإسلام وفيهم منهم ، فلما أجليت النضير قالوا : يا رسول الله ، أبناؤنا وإخواننا فيهم ، قال : فسكت عنهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأنزل الله تعالى ذكره : " لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي " قال : فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " قد خير أصحابكم ، فإن اختاروكم فهم منكم ، وإن اختاروهم فهم منهم " قال : فأجلوهم معهم (1) .
5819 - حدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي قوله : " لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي " إلى : " لا انفصام لها " قال : نزلت في رجل من الأنصار يقال له أبو الحصين : كان له ابنان ، فقدم تجار من الشام إلى المدينة يحملون الزيت. فلما باعوا وأرادوا أن يرجعوا أتاهم ابنا أبي الحصين ، فدعوهما إلى النصرانية ، فتنصرا فرجعا إلى الشام معهم. فأتى أبوهما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال (2) إن ابني تنصرا وخرجا ، فأطلبهما ؟ فقال : " لا إكراه في الدين " (3) .
ولم يؤمر يومئذ بقتال أهل الكتاب ، وقال : أبعدهما الله! هما أول من كفر! فوجد أبو الحصين في نفسه على النبي صلى الله عليه وسلم حين لم يبعث في طلبهما ، فنزلت : ( فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ) [ سورة النساء : 65] ثم إنه نسخ : " لا إكراه في الدين " فأمر بقتال أهل الكتاب في " سورة براءة " (4) .
__________
(1) الأثر : 5818 - في السنن الكبرى للبيهقى 9 : 186 من طريق سعيد بن منصور عن أبي عوانة ، وذكره السيوطي في الدر المنثور 1 : 329 وزاد نسبته إلى " سعيد بن منصور ، وعبدبن حميد ، وابن المنذر " وفيها زيادة : " كانت المرأة في الجاهلية إذا كانت نزورا مقلاتا تنذر لئن ولدت ولدا لتجعلنه في اليهود " وسائر الخبر سواء . وكتب في البيهقي والدر المنثور " مقلاة " بالتاء المربوطة وهو خطأ ، و " امرأة نزرة " (بفتح وكسر " وامرأة نزور " قليلة الولد . وفي الدر " نزورة " وهو خطأ .
(2) في المطبوعة : " إلى رسول الله صلى عليه وسلم " ، والصواب من المخطوطة والدر المنثور .
(3) في المطبوعة : إتمام الآية " قد تبين الرشد من الغى " ، وليس في المخطوطة ولا الدر المنثور .
(4) الأثر : 5819 - في الدر المنثور 1 : 329 ، وزاد نسبته إلى أبي داود في ناسخه ، وابن المنذر ، وأشار إليه ابن كثير في تفسيره 2 : 15 . هذا ولم يذكر أبو جعفر هذا الأثر في تفسير آية " سورة النساء " ، ولم يجعلها قولا غير الأقوال التي ذكرها . وهو دليل على اختصاره هذا التفسير ، كما رووا عنه .

(5/410)


5820 - حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله : " لا إكراه في الدين " قال : كانت في اليهود بني النضير ، (1) أرضعوا رجالا من الأوس ، فلما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بإجلائهم ، قال أبناؤهم من الأوس : لنذهبن معهم ، ولندينن بدينهم! فمنعهم أهلوهم ، وأكرهوهم على الإسلام ، ففيهم نزلت هذه الآية.
5821 - حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن سفيان وحدثنا أحمد بن إسحاق ، قال : حدثنا أبو أحمد جميعا ، عن سفيان ، عن خصيف ، عن مجاهد : " لا إكراه في الدين " ، قال : كان ناس من الأنصار مسترضعين في بني قريظة ، فأرادوا أن يكرهوهم على الإسلام ، فنزلت : " لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي " .
5822 - حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني الحجاج ، عن ابن جريج ، قال : قال مجاهد : كانت النضير يهودا فأرضعوا ، ثم ذكر نحو حديث محمد بن عمرو ، عن أبي عاصم قال ابن جريج ، وأخبرني عبد الكريم ، عن مجاهد : أنهم كانوا قد دان بدينهم أبناء الأوس ، (2) دانوا بدين النضير.
5823 - حدثني المثنى ، قال : لنا إسحاق ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن داود بن أبي هند ، عن الشعبي : أن المرأة من الأنصار كانت تنذر إن عاش ولدها لتجعلنه في أهل الكتاب ، فلما جاء الإسلام قالت الأنصار :
__________
(1) في المطبوعة : " كانت في اليهود يهود أرضعوا... " ، وفي المخطوطة كانت اليهود يهودا أرضعوا " وهما خطأ . وفي الدر المنثور 1 : 329 : " كانت النضير أرضعت " . واستظهرت أن تكون العبارة أثبتها ، سقط من الناسخ " بني النضير " - أو يكون صوابها كما سيأتى في الأثر رقم : 5822 : " كانت النضير يهودا... " .
(2) في المخطوطة : " قد دانوا بدينهم أبناء الأوس " ، وأخشى أن يكون ما في المطبوعة أصح .

(5/411)


يا رسول الله ألا نكره أولادنا الذين هم في يهود على الإسلام ، فإنا إنما جعلناهم فيها ونحن نرى أن اليهودية أفضل الأديان ؟ فلما إذ جاء الله بالإسلام ، (1) .
أفلا نكرههم على الإسلام ؟ فأنزل الله تعالى ذكره : " لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي " .
5824 - حدثت عن عمار ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن داود ، عن الشعبي مثله وزاد : قال : كان فصل ما بين من اختار اليهود منهم وبين من اختار الإسلام ، إجلاء بني النضير ، فمن خرج مع بني النضير كان منهم ، ومن تركهم اختار الإسلام (2) .
5825 - حدثني يونس ، قال : أخبرنا بن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : " لا إكراه في الدين " إلى قوله : " العروة الوثقى " قال : قال منسوخ.
5826 - حدثني سعيد بن الربيع الرازي ، قال : حدثنا سفيان ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، ووائل ، عن الحسن : أن أناسا من الأنصار كانوا مسترضعين في بني النضير ، فلما أجلوا أراد أهلوهم أن يلحقوهم بدينهم ، فنزلت : " لا إكراه في الدين " .
* * *
وقال آخرون : بل معنى ذلك : لا يكره أهل الكتاب على الدين إذا بذلوا الجزية ، ولكنهم يقرون على دينهم. وقالوا : الآية في خاص من الكفار ، ولم ينس منها شيء.
* ذكر من قال ذلك :
5827 - حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن
__________
(1) في المطبوعة : " فلما أن جاء الإسلام " ، وفي المخطوطة : " فلما إذ جاء " ، وصواب ذلك ما أثبت .
(2) الأثران : 5823 ، 5824 - انظر الآثار السالفة : 5814 - 5816 .

(5/412)


قتادة : " لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي " ، قال : أكره عليه هذا الحي من العرب ، لأنهم كانوا أمة أميه ليس لهم كتاب يعرفونه ، فلم يقبل منهم غير الإسلام. ولا يكره عليه أهل الكتاب إذا أقروا بالجزية أو بالخراج ، ولم يفتنوا عن دينهم ، فيخلى عنهم (1) .
5828 - حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا سليمان قال : حدثنا أبو هلال ، قال : حدثنا قتادة في قوله : " لا إكراه في الدين " ، قال : هو هذا الحي من العرب ، أكرهوا على الدين ، لم يقبل منهم إلا القتل أو الإسلام ، وأهل الكتاب قبلت معهم الجزية ، ولم يقتلوا.
5829 - حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا الحكم بن بشير ، قال : حدثنا عمرو بن قيس ، عن جويبر ، عن الضحاك في قوله : " لا إكراه في الدين " ، قال : أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقاتل جزيرة العرب من أهل الأوثان ، فلم يقبل منهم إلا " لا إله إلا الله " ، أو السيف. ثم أمر فيمن سواهم بأن يقبل منهم الجزية ، فقال : " لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي " .
5830 - حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : " لا إكراه في الدين " ، قال : كانت العرب ليس لها دين ، فأكرهوا على الدين بالسيف. قال : ولا يكره اليهود ولا النصارى والمجوس ، إذا أعطوا الجزية.
5831 - حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا ابن عيينة ، عن ابن أبي نجيح ، قال : سمعت مجاهدا يقول لغلام له نصراني : يا جرير أسلم. ثم قال : هكذا كان يقال لهم.
5832 - حدثني محمد بن سعد ، قال : حدثني أبي ، قال : حدثني عمي ، قال :
__________
(1) في المخطوطة : " فخلى عنهم " ، وهما سواء .

(5/413)


حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : " لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي " ، قال : وذلك لما دخل الناس في الإسلام ، وأعطى أهل الكتاب الجزية.
* * *
وقال آخرون : هذه الآية منسوخة ، وإنما نزلت قبل أن يفرض القتال.
* ذكر من قال ذلك :
5833 - حدثني يونس بن عبد الأعلى ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرني يعقوب بن عبد الرحمن الزهري قال : سألت زيد بن أسلم عن قول الله تعالى ذكره : " لا إكراه في الدين " ، قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة عشر سنين لا يكره أحدا في الدين ، فأبى المشركون إلا أن يقاتلوهم ، فاستأذن الله في قتالهم فأذن له.
* * *
قال أبو جعفر : وأولى هذه الأقوال بالصواب قول من قال : نزلت هذه الآية في خاص من الناس - وقال : عنى بقوله تعالى ذكره : " لا إكراه في الدين " ، أهل الكتابين والمجوس وكل من جاء إقراره على دينه المخالف دين الحق ، وأخذ الجزية منه ، وأنكروا أن يكون شيء منها منسوخا (1) .
وإنما قلنا هذا القول أولى الأقوال في ذلك بالصواب ، لما قد دللنا عليه في كتابنا( كتاب اللطيف من البيان عن أصول الأحكام ) : من أن الناسخ غير كائن ناسخا إلا ما نفى حكم المنسوخ ، فلم يجز اجتماعهما. فأما ما كان ظاهره العموم من الأمر والنهي ، وباطنه الخصوص ، فهو من الناس والمنسوخ بمعزل (2) .
وإذ كان ذلك كذلك وكان غير مستحيل أن يقال : لا إكراه لأحد ممن أخذت منه الجزية في الدين ، ولم يكن في الآية دليل على أن تأويلها بخلاف ذلك ، وكان المسلمون جميعا قد نقلوا عن نبيهم صلى الله عليه وسلم أنه
__________
(1) في المخطوطة : " منسوخ " ، والصواب ما في المطبوعة .
(2) انظر ما قاله فيما سلف في شرط النسخ 3 : 358 ، 563 .

(5/414)


أكره على الإسلام قوما فأبى أن يقبل منهم إلا الإسلام ، وحكم بقتلهم إن امتنعوا منه ، وذلك كعبدة الأوثان من مشركي العرب ، وكالمرتد عن دينه دين الحق إلى الكفر ومن أشبههم ، وأنه ترك إكراه الآخرين على الإسلام بقبوله الجزية منه وإقراره على دينه الباطل ، وذلك كأهل الكتابين ومن أشبههم (1) كان بينا بذلك أن معنى قوله : " لا إكراه في الدين " ، إنما هو لا إكراه في الدين لأحد ممن حل قبول الجزية منه بأدائه الجزية ، ورضاه بحكم الإسلام.
ولا معنى لقول من زعم أن الآية منسوخة الحكم ، بالإذن بالمحاربة.
* * *
فإن قال قائل : فما أنت قائل فيما روي عن ابن عباس وعمن روي عنه : من أنها نزلت في قوم من الأنصار أرادوا أن يكرهوا أولادهم على الإسلام ؟
قلنا : ذلك غير مدفوعة صحته ، ولكن الآية قد تنزل في خاص من الأمر ، ثم يكون حكمها عاما في كل ما جانس المعنى الذي أنزلت فيه. فالذين أنزلت فيهم هذه الآية - على ما ذكر ابن عباس وغيره - إنما كانوا قوما دانوا بدين أهل التوراة قبل ثبوت عقد الإسلام لهم ، فنهى الله تعالى ذكره عن إكراههم على الإسلام ، وأنزل بالنهي عن ذلك آية يعم حكمها كل من كان في مثل معناهم ، ممن كان على دين من الأديان التي يجوز أخذ الجزية من أهلها ، وإقرارهم عليها ، على النحو الذي قلنا في ذلك.
* * *
قال أبو جعفر : ومعنى قوله : " لا إكراه في الدين " . لا يكره أحد في دين الإسلام عليه ، (2) وإنما أدخلت " الألف واللام " في " الدين " ، تعريفا للدين الذي عنى الله بقوله : (3) " لا إكراه فيه " ، وأنه هو الإسلام.
__________
(1) سياق الجملة : " وإذ كان ذلك كذلك ... كان بينا " . وما بين الخطين ، عطوف متتابعة فاصلة بينهما .
(2) " عليه " ، أي على الإسلام .
(3) في المطبوعة والمخطوطة : " تصريفا للدّين " ، وهو تحريف ، والصواب الواضح ما أثبت .

(5/415)


وقد يحتمل أن يكون أدخلتا عقيبا من " الهاء " المنوية في " الدين " ، (1) فيكون معنى الكلام حينئذ : وهو العلي العظيم ، لا إكراه في دينه ، قد تبين الرشد من الغي. وكأن هذا القول أشبه بتأويل الآية عندي.
* * *
قال أبو جعفر : وأما قوله : " قد تبين الرشد " ، فإنه مصدر من قول القائل : " رشدت فأنا أرشد رشدا ورشدا ورشادا " ، وذلك إذا أصاب الحق والصواب (2) .
* * *
وأما " الغي " ، فإنه مصدر من قول القائل : " قد غوى فلان فهو يغوى غيا وغواية " ، وبعض العرب يقول : " غوى فلان يغوى " ، والذي عليه قراءة القرأة : ( مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى ) [ سورة النجم : 2] بالفتح ، وهي أفصح اللغتين ، وذلك إذا عدا الحق وتجاوزه ، فضل.
* * *
فتأويل الكلام إذا : قد وضح الحق من الباطل ، واستبان لطالب الحق والرشاد وجه مطلبه ، فتميز من الضلالة والغواية ، فلا تكرهوا من أهل الكتابين ومن أبحت لكم أخذ الجزية منه ، (3) .
[ أحدا] على دينكم ، دين الحق ، فإن من حاد عن الرشاد بعد استبانته له ، فإلى ربه أمره ، وهو ولي عقوبته في معاده.
* * *
القول في تأويل قوله : { فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ }
قال أبو جعفر : اختلف أهل التأويل في معنى " الطاغوت " .
فقال بعضهم : هو الشيطان.
__________
(1) قوله : " عقيبا " أي بدلا وخلفا منه . أصله من العقيب : وهو كل شيء أعقب شيئا .
وعقيبك : هو الذي يعاقبك في العمل ، يعمل مرة ، وتعمل أنت مرة .
(2) انظر ما سلف في معنى " رشد " 3 : 484 ، 485 .
(3) أي ، فلا تكرهوا من أهل الكتاب... أحدا على دينكم...والزيادة مما يقتضيه السياق .

(5/416)


* ذكر من قال ذلك :
5834 - حدثنا محمد بن بشار قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن أبي إسحاق ، عن حسان بن فائد العبسي قال : قال عمر بن الخطاب : الطاغوت : الشيطان (1) .
5835 - حدثني محمد بن المثنى ، قال : حدثني ابن أبي عدي ، عن شعبة ، عن أبي إسحاق ، عن حسان بن فائد ، عن عمر ، مثله.
5836 - حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا عبد الملك ، عمن حدثه ، عن مجاهد ، قال : الطاغوت : الشيطان.
5837 - حدثني يعقوب ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا زكريا ، عن الشعبي ، قال : الطاغوت : الشيطان.
5838 - حدثنا المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا أبو زهير ، عن جويبر ، عن الضحاك في قوله : " فمن يكفر بالطاغوت " قال : الشيطان.
5839 - حدثنا بشر بن معاذ ، قال ، حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : الطاغوت : الشيطان.
5840 - حدثني موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي في قوله : " فمن كفر بالطاغوت " بالشيطان.
* * *
وقال آخرون : الطاغوت : هو الساحر.
* ذكر من قال ذلك :
5841 - حدثنا محمد بن المثنى ، قال : حدثنا عبد الأعلى قال : حدثنا داود ،
__________
(1) الأثر : 5834 - " حسان بن فائد العبسي " . روى عنه أبو إسحق السبيعي . قال أبو حاتم " شيخ " ، وقال البخاري يعد في الكوفيين . وذكره ابن حبان في ثقات التابعين . مترجم في التهذيب ، والكبير 2/ 1/ 28 ، وابن أبي حاتم 1/2 /223 . وكان في المطبوعة : " العنسي " ، والصواب من المخطوطة . وهذا الأثر ساقه ابن كثير بتمامه في تفسيره 2 : 16 - 17

(5/417)


عن أبي العالية ، أنه قال : الطاغوت : الساحر.
* * *
وقد خولف عبد الأعلى في هذه الرواية ، وأنا أذكر الخلاف بعد (1) .
* * *
5842 - حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا حميد بن مسعدة ، قال : حدثنا عوف ، عن محمد ، قال : الطاغوت : الساحر (2) .
* * *
وقال آخرون : بل " الطاغوت " هو الكاهن.
* ذكر من قال ذلك :
5843 - حدثني ابن بشار ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، عن أبي بشر ، عن سعيد بن جبير ، قال : الطاغوت : الكاهن (3) .
5844 - حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا عبد الوهاب ، قال : حدثنا داود ، عن رفيع ، قال : الطاغوت : الكاهن (4) .
5845 - حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج : " فمن يكفر بالطاغوت " ، قال : كهان تنزل عليها شياطين ، يلقون على ألسنتهم وقلوبهم أخبرني أبو الزبير ، عن جابر بن عبد الله ، أنه سمعه يقول : - وسئل عن الطواغيت التي كانوا يتحاكمون إليها فقال - : كان في جهينة واحد ، وفي أسلم واحد ، وفي كل حي واحد ، وهي كهان ينزل عليها الشيطان.
* * *
__________
(1) في لأثر الآتي رقم : 5844 .
(2) الأثر : 5842 - حماد بن مسعدة ، سلف ترجمته في رقم : 3056 . وكان في المطبوعة " حميد بن مسعدة " ، وهو هنا خطأ ، صوابه من المخطوطة . أما " حميد بن مسعدة ، فهو شيخ الطبري ، سلف ترجمته في الأثر رقم : 196 .
(3) الأثر : 5843 - كان في المطبوعة والمخطوطة : " حدثنا محمد بن جعفر ، قال حدثنا سعيد " ، والصواب " شعبة " ، وانظر مثل ذلك في هذا الإسناد نفسه مما سلف رقم : 5813 ، والتعليق عليه .
(4) الأثر 5844 - رفيع ، هو أبو العالية الرياحي ، وقد مضت ترجمته مرارا فيما سلف .

(5/418)


قال أبو جعفر : والصواب من القول عندي في " الطاغوت " ، أنه كل ذي طغيان على الله ، فعبد من دونه ، إما بقهر منه لمن عبده ، وإما بطاعة ممن عبده له ، وإنسانا كان ذلك المعبود ، أو شيطانا ، أو وثنا ، أو صنما ، أو كائنا ما كان من شيء.
* * *
وأرى أن أصل " الطاغوت " ، " الطغووت " من قول القائل : " طغا فلان يطغوا " ، إذا عدا قدره ، فتجاوز حده ، ك " الجبروت " " من التجبر " ، و " الخلبوت " من " الخلب " ، (1) . ونحو ذلك من الأسماء التي تأتي على تقدير " فعلوت " بزيادة الواو والتاء. ثم نقلت لامه - أعني لام " الطغووت " فجعلت له عينا ، وحولت عينه فجعلت مكان لامه ، كما قيل : " جذب وجبذ " ، و " جاذب وجابذ " ، و " صاعقة وصاقعه " ، وما أشبه ذلك من الأسماء التي على هذا المثال.
* * *
فتأويل الكلام إذا : فمن يجحد ربوبية كل معبود من دون الله ، فيكفر به " ويؤمن بالله " ، يقول : ويصدق بالله أنه إلهه وربه ومعبوده (2) " فقد استمسك بالعروة الوثقى " ، يقول : فقد تمسك بأوثق ما يتمسك به من طلب الخلاص لنفسه من عذاب الله وعقابه ، كما : -
5846 - حدثني أحمد بن سعيد بن يعقوب الكندي ، قال : حدثنا بقية بن الوليد ، قال : حدثنا ابن أبي مريم ، عن حميد بن عقبة ، عن أبي الدرداء : أنه عاد مريضا من جيرته ، فوجده في السوق وهو يغرغر ، لا يفقهون ما يريد.
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة " الحلبوت من الحلب " بالحاء المملة ، والصواب ما أثبت . يقال : " رجل خلبوت وامرأة خلبوت " ، وهو المخادع الكذوب ، وجاء في الشعر ، وما أصدق ما قال هذا العربى ، وما أبصره بطباع الناس ، وما أصدقه على زماننا هذا :
ملكتم فلما أن ملكتم خلبتم ... وشرالملوك الغادر الخلبوت
.
(2) اطلب معنى " الإيمان " فيما سلف في فهارس اللغة .

(5/419)


فسألهم : يريد أن ينطق ؟ قالوا : نعم يريد أن يقول : " آمنت بالله وكفرت بالطاغوت " . قال أبو الدرداء : وما علمكم بذلك ؟ قالوا : لم يزل يرددها حتى انكسر لسانه ، فنحن نعلم أنه إنما يريد أن ينطق بها. فقال أبو الدرداء : أفلح صاحبكم! إن الله يقول : " فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا الفصام لها والله سميع عليم " (1) .
* * *
__________
(1) الأثر : 5846 - " أحمد بن سعيد بن يعقوب الكندي " ، أبو العباس ، روي عن بقية بن الوليد ، وعثمان بن سعيد الحمصي ، روى عنه النسائي . وذكره ابن حبان في الثقات . مترجم في التهذيب وابن أبي حاتم 1/1 / 53 . و " حميد بن عقبة " ، هو : حميد بن عقبة بن رومان بن زرارة القرشي و " يقال ، الفلسطيني . سمع ابن عمر ، وأبا الدرداء . وروى عنه أبو بكر بن مريم والوليد بن سليمان بن أبي السائب . قال أحمد : " حدثنا أبو الغيرة : سألت أبا بكر فقلت : حميد بن عقبة أراه كبيرا ، وأنت تحدث عنه عن أبي الدرداء ؟ قال : حدثني أن كل شيء حدثني عن أبي الدرداء ، سمعه من أبي الدرداء " ، مترجم في الكبير 1/ 2/ 347 ، وابن أبي حاتم 1/ 2 /226 ، وتعجيل المنفعة : 106 .
يقال : " فلان في السوق ، وفي السياق " أي في النزع عند الموت ، كأن روحه تساق لتخرج من بدنه . و " هو يسوق نفسه ويسوق بنفسه " : أي يعالج سكرة الموت ونزعه . ويقال : " غرغر فلان يغرغر " جاد بنفسه عند الموت ، و " الغرغرة " تردد الروح في الحلق ، وأكثر ذلك أن يكون معها صوت ، كغرغرة الماء في الحلق . وقوله : " حتى انكسر لسانه " : أي عجز عن النطق . وكل من عجز عن شيء ، فقد انكسر عنه . وهو هنا عبارة جيدة تصور ما يكون في لسان الميت . * * *
وعند هذا الموضع انتهى جزء من التقسيم القديم الذي نقلت عنه نسختنا ، وفيها ما نصه :
" يتلوه القول في تأويل قوله : فقد استمسك بالعروة الوثقى .
وصلى الله على سيدنا محمد النبي وعلى آله وسلم كثيرا "
ثم يبدا الجزء بعده :
" بسم الله الرحمن الرحيم ،
رب يسر " .

(5/420)


القول في تأويل قوله : { فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى }
قال أبو جعفر : " والعروة " ، في هذا المكان ، مثل للإيمان الذي اعتصم به المؤمن ، فشبهه في تعلقه به وتمسكه به ، بالمتمسك بعروة الشيء الذي له عروة يتمسك بها ، إذ كان كل ذي عروة فإنما يتعلق من أراده بعروته.
وجعل تعالى ذكره الإيمان الذي تمسك به الكافر بالطاغوت المؤمن بالله ، ومن أوثق عرى الأشياء بقوله : " الوثقى "
* * *
و " الوثقى " ، " فعلى " من " الوثاقة " . يقال في الذكر : " هو الأوثق " ، وفي الأنثى : " هي الوثقى " ، كما يقال : " فلان الأفضل ، وفلانة الفضلى " .
* * *
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
5847 - حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : " بالعروة الوثقى " ، قال : الإيمان.
5848 - حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله.
5849 - حدثني موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي ، قال : " العروة الوثقى " ، هو الإسلام.
5850 - حدثنا أحمد بن إسحاق ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا سفيان ، عن أبي السوداء ، عن جعفر - يعني ابن أبي المغيرة - عن سعيد بن جبير قوله : " فقد استمسك بالعروة الوثقى " ، قال : لا إله إلا الله (1) .
__________
(1) الأثر : 5850 ، 5851 - " أبو السوداء " ، هو : " عمرو بن عمران النهدي " ، روي عن المسيب بن عبدخير ، وأبي مجلز ، وعبدالرحمن بن باسط والضحاك بن مزاحم ، وروى عنه حفص ابن عبدالرحمن بن سوقة والسفيانان . ثقه ، مترجم في التهذيب .

(5/421)


5851 - حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن أبي السوداء النهدي ، عن سعيد بن جبير مثله.
5852 - حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا أبو زهير ، عن جويبر ، الضحاك : " فقد استمسك بالعروة الوثقى " ، مثله.
* * *
القول في تأويل قوله : { لا انْفِصَامَ لَهَا }
قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بقوله : " لا انفصام لها " ، لا انكسار لها. " والهاء والألف " ، في قوله : " لها " عائد على " العروة " .
* * *
ومعنى الكلام : فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله ، فقد اعتصم من طاعة الله بما لا يخشى مع اعتصامه خذلانه إياه ، وإسلامه عند حاجته إليه في أهوال الآخرة ، كالمتمسك بالوثيق من عرى الأشياء التي لا يخشى انكسار عراها (1) .
* * *
وأصل " الفصم " الكسر ، ومنه قول أعشى بني ثعلبة :
ومبسمها عن شتيت النبات... غير أكس ولا منفصم (2)
* * *
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة : " كالتمسك بالوثيق " . والصواب الذي يقتضيه السياق ما أثبت .
(2) ديوانه : 2 من قصيدة من جيد شعر الأعشى ، وقبله أبيات من تمام معناه : أتهجر غانية أم تلم ... أم الحبل واه بها منجذم
أم الرشد أحجى فإن امرءا ... سينفعه علمه إن علم
كما راشد تجدن امرءا ... تبين ، ثم انتهى إذ قدم
عصى المشفقين إلى غيه ... وكل نصيح له يتهم
وما كان ذلك إلا الصبا ... وإلا عقاب امرئ قد أثم
ونظرة عين على غرة ... محل الخليط بصحراء زم
ومبسمها .............. ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
فبانت وفي الصدر صدع لها ... كصدع الزجاجة ما يلتئم
وقوله : " ومبسهما " منصوب عطفا ما قبله ، وهو مصدر ميمى ، أي ابتسامها . والشتيت : المتفرق المفلج ، يعنى : عن ثغرها شتيت النبات ، غير متراكب نبتة الأسنان . والأكس ، من الكسس (بفتحتين) : وهو أن يكون الحنك الأعلى أقصر من الأسفل ، فتكون الثنيتان العلييان وراء السفليين من داخل الفم . وهو عيب في الخلفية . ورواية الديوان : " منقصم " وهي أجود معنى . يقال : ينصدع الشيء دون أن يبين . وأما " القصم " فهو أن ينكسر كسرا فيه بينونة . ولكن الطبري استشهد به على " الفصم " بالفاء . وكلاهما عيب .
وكان البيت مصحفا في المطبوعة : " ... عن سنب النبات غير كسر " ، والصواب في المخطوطة ، ولكنه غير منقوط فأساؤوا قراءته .

(5/422)


وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
5853 - حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : " لا انفصام لها " ، قال : لا يغير الله ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم.
5854 - حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله.
5855 - حدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : " لا انفصام لها " ، قال : لا انقطاع لها.
* * *
القول في تأويل قوله : { وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (256) }
قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره : " والله سميع " ، إيمان المؤمن بالله وحده ، الكافر بالطاغوت ، عند إقراره بوحدانية الله ، وتبرئه من الأنداد والأوثان التي تعبد

(5/423)


من دون الله " عليم " بما عزم عليه من توحيد الله وإخلاص ربوبيته قلبه ، (1) وما انطوى عليه من البراءة من الآلهة والأصنام والطواغيت ضميره ، وبغير ذلك مما أخفته نفس كل أحد من خلقه ، لا ينكتم عنه سر ، ولا يخفى عليه أمر ، حتى يجازي كلا يوم القيامة بما نطق به لسانه ، وأضمرته نفسه ، إن خيرا فخيرا ، وإن شرا فشرا.
* * *
__________
(1) السياق : " بما عزم عليه... قلبه " ، مرفوعا فاعل " عزم " .

(5/424)


اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آَمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (257)

القول في تأويل قوله : { اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ }
قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بقوله : " الله ولي الذين آمنوا " ، نصيرهم وظهيرهم ، يتولاهم بعونه وتوفيقه (1) " يخرجهم من الظلمات " يعني بذلك : (2) .
يخرجهم من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان. وإنما عنى ب " الظلمات " في هذا الموضع ، الكفر. وإنما جعل " الظلمات " للكفر مثلا لأن الظلمات حاجبة للأبصار عن إدراك الأشياء وإثباتها ، وكذلك الكفر حاجب أبصار القلوب عن إدراك حقائق الإيمان والعلم بصحته وصحة أسبابه. فأخبر تعالى ذكره عباده أنه ولي المؤمنين ، ومبصرهم حقيقة الإيمان وسبله وشرائعه وحججه ، وهاديهم ، فموفقهم لأدلته المزيلة عنهم الشكوك ، بكشفه عنهم دواعي الكفر ، وظلم سواتر [عن ] أبصار القلوب. (3) .
__________
(1) انظر تفسيره " الولى " فيما سلف 2 : 488 ، 489 / ثم : 563 ، 564 .
(2) انظر القول في " الظلمات " فيما سلف 1 : 338 .
(3) الزيادة بين القوسين ، لا غنى عنها ، وليست في المطبوعة ولا المخطوطة .

(5/424)


ثم أخبر تعالى ذكره عن أهل الكفر به ، فقال : " والذين كفروا " ، يعني الجاحدين وحدانيته " أولياؤهم " ، يعني نصراؤهم وظهراؤهم الذين يتولونهم " الطاغوت " ، يعني الأنداد والأوثان الذين يعبدونهم من دون الله " يخرجونهم من النور إلى الظلمات " ، يعني ب " النور " الإيمان ، على نحو ما بينا " إلى الظلمات " ، ويعني ب " الظلمات " ظلمات الكفر وشكوكه ، الحائلة دون أبصار القلوب ورؤية ضياء الإيمان وحقائق أدلته وسبله.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل :
* ذكر من قال ذلك :
5856 - حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : " الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور " ، يقول : من الضلالة إلى الهدى " والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت " ، الشيطان : " يخرجونهم من النور إلى الظلمات " ، يقول : من الهدى إلى الضلالة.
5857 - حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا أبو زهير ، عن جويبر ، عن الضحاك : " الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور " ، الظلمات : الكفر ، والنور : الإيمان " والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات " ، يخرجونهم من الإيمان إلى الكفر. (1) .
5858 - حدثت عن عمار ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع ، في قوله تعالى ذكره : " الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور " ، يقول : من الكفر إلى الإيمان " والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات " ، يقول : من الإيمان إلى الكفر.
__________
(1) في المخطوطة : " من الظلمات إلى الكفر " ، وهو خطأ بين جدا .

(5/425)


5859 - حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن منصور ، عن عبدة بن أبي لبابة ، عن مجاهد أو مقسم في قول الله : " الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات " ، قال : كان قوم آمنوا بعيسى ، وقوم كفروا به ، فلما بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم آمن به الذين كفروا بعيسى ، وكفر به الذين آمنوا بعيسى أي : يخرج الذين كفروا بعيسى إلى الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم (1) " والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت " ، آمنوا بعيسى وكفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم قال : " يخرجونهم من النور إلى الظلمات " . (2) .
5860 - حدثنا المثنى ، قال : حدثنا الحجاج بن المنهال ، قال : حدثنا المعتمر بن سليمان ، قال : سمعت منصورا ، عن رجل ، عن عبدة بن أبي لبابة قال في هذه الآية : " الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور " ، إلى " أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون " ، قال : هم الذين كانوا آمنوا بعيسى ابن مريم ، فلما جاءهم محمد صلى الله عليه وسلم كفروا به ، وأنزلت فيهم هذه الآية. (3) .
* * *
قال أبو جعفر : وهذا القول الذي ذكرناه عن مجاهد وعبدة بن أبي لبابة
__________
(1) في المطبوعة : " أي : يخرج الذين آمنوا إلى الإيمان بمحمد... " ، وهو لايستقيم ، وفي المخطوطة : " فلما بعث الله محمدا آمن به الذين كفروا بعيسى ، وكفر به الذين آمنوا بعيسى إلى الإيمان بمحمد... " سقط من الناسخ لعجلته : " أي يخرج الذين كفروا بعيسى " ، وهو ما أثبته استظهارا من سياق الكلام ، ومن الأثر بالتالي ، على خطئه فيه ، ومن الدر المنثور 1 : 230 ، وانظر التعليق على الأثر التالي .
(2) الأثر : 5859 ، - " عبدة بن أبي لبابة الأسدي " روي عن ابن عمر وزر بن حبيش وأبي وائل ومجاهد وغيرها من ثقات أهل الكوفة . مترجم في التهذيب ، وكان في المطبوعة والمخطوطة في هذا الموضع " عبدالله بن أبي لبابة " " ، وهو خطأ ، وسيأتي فيهما على الصواب في الأثر التالي .
(3) في المطبوعة والمخطوطة : " فلما جاءهم محمد صلى الله عليه آمنوا به " . والصواب ما أثبت ، أخطأ في نسخه وعجل . وانظر الدر المنثور 1 : 230 ، ففيه الصواب ، وهو الذي يدل عليه سياق الطبري فيما سيأتي أيضًا .

(5/426)


يدل على أن الآية معناها الخصوص ، وأنها - إذ كان الأمر كما وصفنا - نزلت فيمن كفر من النصارى بمحمد صلى الله عليه وسلم ، وفيمن آمن بمحمد صلى الله عليه وسلم من عبدة الأوثان الذين لم يكونوا مقرين بنبوة عيسى ، وسائر الملل التي كان أهلها يكذِّب بعيسى.
* * *
فإن قال قائل : أو كانت النصارى على حق قبل أن يبعث محمد صلى الله عليه وسلم فكذَّبوا به ؟
قيل : من كان منهم على ملة عيسى ابن مريم صلى الله عليه وسلم فكان على حق ، وإياهم عنى الله تعالى ذكره بقوله : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ) [النساء : 136].
* * *
فإن قال قائل : فهل يحتمل أن يكون قوله : " والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونكم من النور إلى الظلمات " ، أن يكون معنيا به غير الذين ذكر مجاهد وعبدة : (1) أنهم عنوا به من المؤمنين بعيسى ، أو غير أهل الردة والإسلام ؟ (2) .
قيل : نعم يحتمل أن يكون معنى ذلك : والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يحولون بينهم وبين الإيمان ، ويضلونهم فيكفرون ، فيكون تضليلهم إياهم حتى يكفروا إخراجا منهم لهم من الإيمان ، يعني صدهم إياهم عنه ، وحرمانهم إياهم خيره ، وإن لم يكونوا كانوا فيه قبل ، كقول الرجل : " أخرجني والدي من ميراثه " ، إذا ملك ذلك في حياته غيره ، فحرمه منه حظَّه (3) ولم يملك ذلك القائل هذا
__________
(1) في المطبوعة : " مجاهد وغيره " . وهي في المخطوطة : " عنده " غير منقوطة وإنما عنى عبدة ابن أبي لبابة ، كما في الآثار السالفة ، وما بعدها .
(2) في المخطوطة والمطبوعة : " الردة والإسلام " وهو هنا عطف لا يستقيم ، فإنه إنما عنى المرتدة عن الإسلام .
(3) في المطبوعة : " فحرمه منه خطيئة " ، وهو كلام خلو من المعنى . وفي المخطوطة : " فحرمه منه حطه " غير منقوطة ، وكلها فاسدة . أن المعنى : إذا ملك الميراث غير أبيه ، فحرمه حظه من ميراث أبيه . والحظ : النصيب .

(5/427)


الميراث قط فيخرج منه ، ولكنه لما حرمه ، وحيل بينه وبين ما كان يكون له لو لم يحرمه ، قيل : " أخرجه منه " ، وكقول القائل : " أخبرني فلان من كتيبته " ، يعني لم يجعلني من أهلها ، ولم يكن فيها قط قبل ذلك. فكذلك قوله : " يخرجونهم من النور إلى الظلمات " ، محتمل أن يكون إخراجهم إياهم من الإيمان إلى الكفر على هذا المعنى ، (1) وإن كان الذي قاله مجاهد وغيره أشبه بتأويل الآية. (2) .
* * *
فإن قال لنا قائل : وكيف قال : " والذين كفروا أولياءهم الطاغوت يخرجونهم من النور " ، فجمع خبر " الطاغوت " بقوله : " يخرجونهم " ، و " الطاغوت " واحد ؟
قيل : إن " الطاغوت " اسم لجماع وواحد ، وقد يجمع " طواغيت " . وإذا جعل واحده وجمعه بلفظ واحد ، كان نظير قولهم : " رجل عدل ، وقوم عدل " و " رجل فطر وقوم فطر " ، (3) وما أشبه ذلك من الأسماء التي تأتي موحدا في اللفظ واحدها وجمعها ، (4) وكما قال العباس بن مرداس :
فَقُلْنَا أَسْلِمُوا إِنَّا أَخُوكُمْ... فَقَدْ بَرِئَتْ مِنَ الإِحَنِ الصُّدُورُ (5)
* * *
__________
(1) في المطبوعة : " يحتمل " بالياء في أوله ، وأثبت ما في المخطوطة .
(2) في المطبوعة والمخطوطة معا : " مجاهد وغيره " ، وهو خطأ ، وانظر التعليق السالف : ص : 427 تعليق : 1 .
(3) أي رجل مفطر ، وقوم مفطرون .
(4) في المطبوعة : " التي تأتي موحدة في اللفظ... " ، وفي المخطوطة : " التي يأتي موحد في اللفظ " والصواب ما أثبت .
(5) سيرة ابن هشام 4 : 95 واللسان (أخو) ومجاز القرآن 1 : 79 ، من قصيدة له طويلة في يوم حنين ، وفي هزيمة هوازن : ويذكر قارب بن الأسود وفراره من بني أبيه ، وذا الخمار وحبسه قومه للموت ، وبعد البيت : كأن القوم - إذ جاؤوا إلينا ... من البغضاء بعد السلم - عور
وهو يخاطب هوازن بن منصور بن عكرمة ، إخوة سليم بن منصور ، وهم قوم العباس بن مرداس السلمي . وهذا البيت يجعلونه شاهدا على جمع " أخ " بالواو والنون كقول عقيل بن علقة المري : وكان بنو فزارة شر عم ... وكنت لهم كشر بني الأخينا
فقوله : " أخوكم " ، أي : إخوتكم . فهذا وجه آخر غير الذي استشهد له بهذا البيت والشاهد على قوله الطبري ما جاء في الأثر : " أنتم الوالد ونحن الولد " . والإحن جمع إحنة : وهي الحقد الغالب .

(5/428)


القول في تأويل قوله : { أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (257) }
قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بذلك : هؤلاء الذين كفروا " أصحاب النار " ، أهل النار الذين يخلدون فيها - يعني في نار جهنم - دون غيرهم من أهل الإيمان ، إلى غير غاية ولا نهاية أبدا. (1) .
* * *
القول في تأويل قوله : { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ }
قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بقوله : " ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه " ألم تر ، يا محمد ، بقلبك (2) .
" الذي حاج إبراهيم " ، يعني الذي خاصم (3)
__________
(1) انظر تفسير " أصحاب النار " " وخالدون " فيما سلف 2 : 286 ، 287/ 4 : 317 .
(2) انظر تفسير " الرؤية " فيما سلف 3 : 75 - 79 /3 : 160 / وهذا الجزء : 266 ، 291 .
(3) انظر معنى " حاج " فيما سلف 3 : 121 - 200 .

(5/429)


" إبراهيم " ، يعني : إبراهيم نبي الله صلى الله عليه وسلم " في ربه أن آتاه الله الملك " ، يعني بذلك : حاجه فخاصمه في ربه ، لأن الله آتاه الملك.
* * *
وهذا تعجيب من الله تعالى ذكره نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم ، من الذي حاج إبراهيم في ربه. ولذلك أدخلت " إلى " في قوله : " ألم تر إلى الذي حاج " ، وكذلك تفعل العرب إذا أرادت التعجيب من رجل في بعض ما أنكرت من فعله ، قالوا : " ما ترى إلى هذا " ؟! والمعنى : هل رأيت مثل هذا ، أو كهذا ؟! (1) .
* * *
وقيل : إن " الذي حاج إبراهيم في ربه " جبار كان ببابل يقال له : نمرود بن كنعان بن كوش بن سام بن نوح وقيل : إنه نمرود بن فالخ بن عابر بن شالخ بن أرفخشذ بن سام بن نوح.
* ذكر من قال ذلك :
5861 - حدثني محمد بن عمرو ، حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله : " ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه إذ آتاه الله الملك " ، قال : هو نمرود بن كنعان.
5862 - حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله.
5863 - حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو نعيم ، عن سفيان ، عن ليث ، عن مجاهد ، مثله.
5864 - حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن النضر بن عربي ، عن مجاهد ، مثله. (2) .
__________
(1) انظر معاني القرآن للفراء 1 : 170 .
(2) الأثر : 5864 - " النضر بن عربي الباهلي " مضت ترجمته في : 1307 ، وكان في المطبوعة والمخطوطة : " بن عدي " ، وهو خطأ .

(5/430)


5865 - حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : " ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه " ، قال : كنا نحدث أنه ملك يقال له نمروذ ، (1) وهو أول ملك تجبر في الأرض ، وهو صاحب الصرح ببابل.
5866 - حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، قال : هو اسمه نمروذ ، وهو أول ملك تجبر في الأرض ، حاج إبراهيم في ربه.
5867 - حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع في قوله : " ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه إذ آتاه الله الملك " ، قال : ذكر لنا أن الذي حاج إبراهيم في ربه كان ملكا يقال له نمروذ ، وهو أول جبار تجبر في الأرض ، وهو صاحب الصرح ببابل.
5868 - حدثنا موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي ، قال : هو نمروذ بن كنعان.
5869 - حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد : هو نمروذ.
5870 - حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، مثله.
5871 - حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، قال : أخبرني زيد بن أسلم ، بمثله.
5872 - حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : أخبرني عبد الله بن كثير أنه سمع مجاهدا يقول : هو نمرود قال ابن جريج : هو نمرود ، ويقال إنه أول ملك في الأرض.
* * *
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة : " كنا نتحدث " ، وما أثبت هو الصواب .

(5/431)


أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آَتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (258)

القول في تأويل قوله : { إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (258) }
قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بذلك : ألم تر ، يا محمد ، إلى الذي حاج إبراهيم في ربه حين قال له إبراهيم : " ربي الذي يحيي ويميت " ، يعني بذلك : ربي الذي بيده الحياة والموت ، يحيي من يشاء ويميت من أراد بعد الإحياء. قال : أنا أفعل ذلك ، فأحيي وأميت ، أستحيي من أردت قتله فلا أقتله ، فيكون ذلك مني إحياء له وذلك عند العرب يسمى " إحياء " ، كما قال تعالى ذكره : ( وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا ) [سورة المائدة : 32] وأقتل آخر ، فيكون ذلك مني إماتة له. قال إبراهيم صلى الله عليه وسلم : فإن الله الذي هو ربي يأتي بالشمس من مشرقها ، فأت بها - إن كنت صادقا أنك إله - من مغربها! قال الله تعالى ذكره : " فبهت الذي كفر " ، يعني انقطع وبطلت حجته.
* * *
يقال منه : " بهت يبهت بهتا " . وقد حكي عن بعض العرب أنها تقول بهذا المعنى : " بهت " . ويقال : " بهت الرجل " إذا افتريت عليه كذبا " بهتا وبهتانا وبهاتة " . (1) .
* * *
وقد روي عن بعض القرأة أنه قرأ : " فبهت الذي كفر " ، بمعنى : فبهت إبراهيم الذي كفر.
* * *
__________
(1) " بهاتة " ، مصدر لم أجده في كتب اللغة ، وهو صحيح في القياس .

(5/432)


وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
5873 - حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة في قوله : " إذ قال إبراهيم ربي الذي يحيي ويميت ، قال أنا أحيي وأميت " ، وذكر لنا أنه دعا برجلين ففتل أحدهما واستحي الآخر ، فقال : أنا أحيي هذا! أنا أستحيي من شئت ، وأقتل من شئت! قال إبراهيم عند ذلك : " فإن الله يأتي بالشمس من المغرب فأت بها من المغرب " ، " فبهت الذي كفر والله لا يهدي القوم الظالمين " .
5874 - حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قال : " أنا أحيي وأميت " ، أقتل من شئت ، وأستحيي من شئت ، أدعه حيا فلا أقتله. وقال : ملك الأرض مشرقها ومغربها أربعة نفر : مؤمنان وكافران ، فالمؤمنان : سليمان بن داود وذو القرنين ، والكافران : بختنصر ونمرود بن كنعان ، لم يملكها غيرهم.
5875 - حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن زيد بن أسلم : أول جبار كان في الأرض نمروذ ، (1) . فكان الناس يخرجون فيمتارون من عنده الطعام ، فخرج إبراهيم يمتار مع من يمتار ، فإذا مر به ناس قال : من ربكم ؟ قالوا : أنت! حتى مر إبراهيم ، قال : من ربك ؟ قال : الذي يحيي ويميت ؟ قال : أنا أحيي وأميت! قال إبراهيم : فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب! فبهت الذي كفر. قال : فرده بغير طعام. قال : فرجع إبراهيم على أهله ، (2) .
فمر على كثيب أعفر ، (3) فقال : ألا آخذ من هذا ، فآتي به
__________
(1) في التاريخ : " نمرود " بالدال المهملة ، وفي المخطوطة كذلك ، إلا أنها لا تعجم المعجم .
وكلاهما جائز ، بالدال المهملة والذال المعجمة .
(2) في المخطوطة والمطبوعة : " على أهله " ، والجيد ما في تاريخ الطبري ، وهو ما أثبت .
(3) في المطبوعة : " على كثيب من رمل أعفر " بهذه الزيادة ، وليست في المخطوطة ولا في التاريخ والأعفر : الرمل الأحمر ، أو تخالطه الحمرة .

(5/433)


أهلي ، (1) فتطيب أنفسهم حين أدل عليهم! فأخذ منه فأتى أهله. قال : فوضع متاعه ثم نام ، فقامت امرأته إلى متاعه ، ففتحته ، فإذا هي بأجود طعام رآه أحد (2) ، فصنعت له منه ، فقربته إليه ، وكان عَهِد أهلَه ليس عندهم طعام ، (3) فقال : من أين هذا ؟ قالت : من الطعام الذي جئت به! فعلم أن الله رزقه ، فحمد الله. ثم بعث الله إلى الجبار ملكا أن آمن بي وأتركك على ملكك! قال : وهل رب غيري ؟! فجاءه الثانية ، فقال له ذلك ، فأبى عليه. ثم أتاه الثالثة فأبى عليه ، فقال له الملك : اجمع جموعك إلى ثلاثة أيام! فجمع الجبار جموعه ، فأمر الله الملك ، ففتح عليه بابا من البعوض ، فطلعت الشمس ، فلم يروها من كثرتها ، فبعثها الله عليهم فأكلت لحومهم ، وشربت دماءهم ، فلم يبق إلا العظام ، والملك كما هو لم يصبه من ذلك شيء. فبعث الله عليه بعوضة ، فدخلت في منخره ، فمكث أربعمئة سنة يضرب رأسه بالمطارق ، وأرحم الناس به من جمع يديه وضرب بهما رأسه. وكان جبارا أربعمئة عام ، فعذبه الله أربعمائة سنة كملكه ، وأماته الله. (4) وهو الذي بنى صرحا إلى السماء فأتى الله بنيانه من القواعد ، وهو الذي قال الله : ( فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ ) (5) [النحل : 26].
5876 - حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرني عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في قول الله : " ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه " ، قال : هو نمروذ كان بالموصل والناس يأتونه ، فإذا دخلوا عليه ، قال : من ربكم ؟ فيقولون : أنت!
__________
(1) في التاريخ : " هلاّ " (بفتح الهاء وتشديد اللام) وهما سواء ، " ألاّ " أيضًا مشددة اللام .
(2) في المطبوعة : " فإذا هى بأجود طعام رأته " ، والذي أثبت نص المخطوطة والتاريخ ، فليت شعرى لم غيره المغيرون في الطبع ! ! .
(3) الأثر : 5875 - في المطبوعة : " وكان عهده بأهله أنه ليس عندهم طعام " ، وأثبت ما في المخطوطة . والتاريخ ، وعجب لهؤلاء المبدلين ، استدلوا الركيك الموضوع ، بالجزء المرفوع! ! والأثر في التاريخ الطبري 1 : 148 .
(4) في المطبوعة : " ثم أماته الله " ، وأثبت ما في المخطوطة والتاريخ .
(5) في المخطوطة : " فأتي الله بنيانه من القواعد " ، ثم أراد أن يصححها ، فكررها كما هى ، ولم يضرب على الأولى .

(5/434)


فيقول : أميروهم. (1) فلما دخل إبراهيم ، ومعه بعير خرج يمتار به لولده ، قال : فعرضهم كلهم ، فيقول : من ربكم ؟ فيقولون : أنت! فيقول : أميروهم! (2) حتى عرض إبراهيم مرتين ، فقال : من ربك! ؟ قال : ربي الذي يحيي ويميت! قال : أنا أحيي وأميت ، إن شئت قتلتك فأمتك ، وإن شئت استحييتك. قال إبراهيم : فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب!! " فبهت الذي كفر والله لا يهدي القوم الظالمين " . قال : أخرجوا هذا عني فلا تميروه شيئا! فخرج القوم كلهم قد امتاروا ، وجوالقا إبراهيم يصطفقان ، (3) حتى إذا نظر إلى سواد جبال أهله ، قال : ليحزني صبيتي إسماعيل وإسحاق! (4) لو أني ملأت هذين الجوالقين من هذه البطحاء ، فذهبت بهما ، قرت عينا صبيي ، حتى إذا كان الليل أهرقته! قال : فملأهما ، ثم خيطهما ، ثم جاء بهما. فترامى عليهما الصبيان فرحا ، وألقى رأسه في حجر سارة ساعة ، ثم قالت : ما يجلسني! قد جاء إبراهيم تعبا لغبا ، (5) لو قمت فصنعت له طعاما إلى أن يقوم! قال : فأخذت وسادة فأدخلتها مكانها ، وانسلت قليلا قليلا لئلا توقظه. قال : فجاءت إلى إحدى الغرارتين ففتقتها ، فإذا حواري من النقي لم يروا مثله عند أحد قط ، (6) فأخذت منه فعجنته وخبزته ، (7) فلما أتت توقظ إبراهيم جاءته حتى وضعته بين يديه ، فقال : أي شيء هذا يا سارة ؟ قالت : من جوالقك ، لقد جئت وما عندنا قليل ولا كثير قال : فذهب ينظر إلى الجوالق الآخر فإذا هو مثله ، فعرف من أين ذاك.
5877 - حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع ، قال : لما قال له إبراهيم : ربي الذي يحيي ويميت قال هو - يعني نمروذ : فأنا أحيي وأميت فدعا برجلين ، فاستحي أحدهما ، وقتل الآخر ، قال : أنا أحيي وأميت ، قال : أي أستحيي من شئت فقال إبراهيم : فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب " فبهت الذي كفر والله لا يهدي القوم الظالمين " .
5878 - حدثني موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي ، قال : لما خرج إبراهيم من النار ، أدخلوه على الملك ، ولم يكن قبل ذلك دخل عليه فكلمه ، وقال له : من ربك ؟ قال : ربي الذي يحيي ويميت قال نمروذ : أنا أحيي وأميت! أنا أدخل أربعة نفر بيتا ، فلا يطعمون ولا يسقون ، حتى إذا هلكوا من الجوع أطعمت اثنين وسقيتهما فعاشا ، وتركت اثنين فماتا. فعرف إبراهيم أن له قدرة بسلطانه وملكه على أن يفعل ذلك ، قال له إبراهيم : فإن ربي الذي يأتي بالشمس من المشرق ، فأت بها من المغرب! فبهت الذي كفر ، وقال : إن هذا إنسان مجنون! فأخرجوه ، ألا ترون أنه من جنونه اجترأ على آلهتكم فكسرها ، وأن النار لم تأكله! وخشي أن يفتضح في قومه أعني نمروذ وهو قول الله تعالى ذكره : ( وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ ) [سورة الأنعام : 83] ، فكان يزعم أنه رب وأمر بإبراهيم فأخرج.
5879 - حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : أخبرني عبد الله بن كثير أنه سمع مجاهدا يقول : قال : أنا أحيي وأميت ، أحيي فلا أقتل ، وأميت من قتلت قال ابن جريج ، كان أتى
__________
(1) في المطبوعة : " ميروهم " ، وأثبت ما في المخطوطة ، وهما صواب . ماره يميره ، وأماره : إذا أتاهم بالميرة (وهى الطعام المجلوب) ، ومار القوم وأمارهم أيضًا : إذا أعطاهم الميرة .
(2) في المطبوعة : " ميروهم " ، وأثبت ما في المخطوطة ، وهما صواب . ماره يميره ، وأماره : إذا أتاهم بالميرة (وهى الطعام المجلوب) ، ومار القوم وأمارهم أيضًا : إذا أعطاهم الميرة .
(3) الجُوالق (يضم الجيم ، وكسر اللام أو فتحها) ، وجمعه جوالق وجوالقات ، وهو وعاء من الأوعية ، نسميه ونحرفه اليوم " شوال " . واصطفق الشيء : اضطرب ، يعنى من فراغهما .
(4) في المطبوعة : " ليحزنني " ، والصواب ما في المخطوطة .
(5) لغب : قد أعيى أشد الإعياء . من اللغوب . وأكثر ما يقولون : لاغب ، أما " لغب " ، فهو قليل في كلامهم ، وهو هنا اتباع .
(6) الحواري (بضم الخاء وتشديد الواو ، والراء مفتوحة) : وهو لباب الدقيق الأبيض وأخلصه وأجوده . والنقى : وهو البر إذا جرى فيه الدقيق .
(7) في المطبوعة : " فطحنته وعجنته " ، وفي المخطوطة " فعجنته وعجنته " . واستظهرت أن تكون كما أثبتها .

(5/435)


برجلين ، فقتل أحدهما ، وترك الآخر ، فقال : أنا أحيي وأميت ، قال : أقتل فأميت من قتلت ، وأحيي قال : استحيي فلا أقتل.
5880 - حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، قال : حدثني محمد بن إسحاق ، قال : ذكر لنا والله أعلم : أن نمروذ قال لإبراهيم فيما يقول : أرأيت إلهك هذا الذي تعبد وتدعو إلى عبادته ، (1) وتذكر من قدرته التي تعظمه بها على غيره ، ما هو ؟ قال له إبراهيم : ربي الذي يحيي ويميت. قال نمرود : فأنا أحيي وأميت! فقال له إبراهيم : كيف تحيي وتميت ؟ قال : آخذ رجلين قد استوجبا القتل في حكمي ، فأقتل أحدهما فأكون قد أمته ، وأعفو عن الآخر فأتركه وأكون قد أحييته! فقال له إبراهيم عند ذلك : فإن الله يأتي بالشمس من المشرق ، فأت بها من المغرب ، أعرف أنه كما تقول! فبهت عند ذلك نمروذ ، ولم يرجع إليه شيئا ، وعرف أنه لا يطيق ذلك. يقول تعالى ذكره : " فبهت الذي كفر " ، يعني وقعت عليه الحجة يعني نمروذ.
* * *
قال أبو جعفر : وقوله : " والله لا يهدي القوم الظالمين " ، يقول : والله لا يهدي أهل الكفر إلى حجة يدحضون بها حجة أهل الحق عند المحاجة والمخاصمة ، لأن أهل الباطل حججهم داحضة.
* * *
وقد بينا أن معنى " الظلم " وضع الشيء في غير موضعه ، (2) والكافر وضع جحوده ما جحد في غير موضعه ، فهو بذلك من فعله ظالم لنفسه.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال ابن إسحاق.
__________
(1) في المطبوعة : " الذي تعبده وتدعو إلى عبادته " ، وفي المخطوطة " الذي تعبدونه وتدعو ... " صواب قراءتها ما أثبت .
(2) انظر تفسير " الظلم " فيما سلف 1 : 523 ، 524 / 2 : 369 ، 519 ، ثم أخيرا ما سلف قريبا : 384 .

(5/437)


أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِئَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِئَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آَيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (259)

5881 - حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، قال : حدثني محمد بن إسحاق : " والله لا يهدي القوم الظالمين " ، أي : لا يهديهم في الحجة عند الخصومة ، لما هم عليه من الضلالة.
* * *
القول في تأويل قوله : { أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ }
قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بقوله : " أو كالذي مر على قرية " ، نظير الذي عنى بقوله : " ألم تر الذي حاج إبراهيم في ربه " ، من تعجيب محمد صلى الله عليه وسلم منه.
* * *
وقوله : " أو كالذي مر على قرية " عطف على قوله : " ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه " ، وإنما عطف قوله : " أو كالذي " على قوله : " إلى الذي حاج إبراهيم في ربه " ، وإن اختلف لفظاهما ، لتشابه معنييهما. لأن قوله : " ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه " ، بمعنى : هل رأيت ، يا محمد ، كالذي حاج إبراهيم في ربه ؟ ثم عطف عليه بقوله : " أو كالذي مر على قرية " لأن من شأن العرب العطف بالكلام على معنى نظير له قد تقدمه ، وإن خالف لفظه لفظه.
* * *
وقد زعم بعض نحويي البصرة أن " الكاف " في قوله ، " أو كالذي مر على قرية " ، زائدة ، وأن المعنى : ألم ترى إلى الذي حاج إبراهيم ، أو الذي مر على قرية.
* * *
وقد بينا قبل فيما مضى أنه غير جائز أن يكون في كتاب الله شيء لا معنى له ، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. (1) .
* * *
__________
(1) انظر ما سلف 1 : 439 - 441 / 2 : 331 ، 400 .

(5/438)


واختلف أهل التأويل في " الذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها " .
فقال بعضهم : هو عزير.
* ذكر من قال ذلك :
5882 - حدثنا محمد بن بشار ، قال ، حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن أبي إسحاق ، عن ناحية بن كعب. " أو كالذي مر على قرية خاوية على عروشها " قال : عزير. (1) .
5883 - حدثنا ابن حميد. قال : حدثنا يحيى بن واضح ، قال : حدثنا أبو خزيمة ، قال : سمعت سليمان بن بريدة في قوله : " أو كالذي مر على قرية " قال : هو عزير.
5884 - حدثنا بشر ، قال ، حدثنا يزيد. قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : " أو كالذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها " قال ، ذكر لنا أنه عزير.
5885 - حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتاده [مثله]. (2) .
5886 - حدثت عن عمار ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه قوله : " أو كالذي مر على قرية " قال : قال الربيع : ذكر لنا والله أعلم أن الذي أتى على القرية هو عزير.
5887 - حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج عن ابن حريج ، عن عكرمة : " أو كالذي مر على قرية وهي خاويه على عروشها " قال : عزير.
__________
(1) الأثر : 5882 - " ناجية بن كعب الأسدي " روي عن علي ، وعمار بن ياسر ، وعبدالله ابن مسعود . روى عنه أبو إسحق السبيعي ، وأبو حسان الأعرج ، ويونس بن أبي إسحق . مترجم في التهذيب ، والكبير 4/ 2/ 107 ، وابن أبي حاتم 4/ 1/486 .
(2) الزيادة بين القوسين لا بد منها .

(5/439)


5888 - حدثني موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط عن السدي : " أو كالذي مر على قرية " قال : عزير.
5889 - حدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد بن سليمان ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : " أو كالذي مر على قرية وهي خاويه على عروشها " إنه هو عزير.
5890 - حدثني يونس ، قال : قال لنا سلم الخواص : كان ابن عباس يقول : هو عزير. (1) .
* * *
وقال آخرون : هو أورميا بن حلقيا ، (2) وزعم محمد بن إسحاق أن أورميا هو الخضر.
5891 - حدثنا بذلك ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، قال : حدثنا ابن إسحاق ، قال : اسم الخضر فيما كان وهب بن منبه يزعم عن بني إسرائيل - أورميا بن حلقيا ، وكان من سبط هارون بن عمران. (3) .
* ذكر من قال ذلك :
5892 - حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : حدثنا عبد الصمد بن معقل أنه سمع وهب بن منبه يقول في قوله : " أنى يحيي هذه الله
__________
(1) الأثر : 5890 - " يونس " ، هو يونس بن عبدالأعلى سلفت ترجمته مرارا . و " سلم الخواص " هو : سلم بن ميمون الخواص الرازى الزاهد ، من كبار الصوفية . دفن كتبه ، وكان يحدث من حفظه فيغلط . قال ابن حبان : كان من كبار عباد أهل الشام ، غلب عليه الصلاح ، حتى غفل عن حفظ الحديث وإتقانه ، فلا يحتج به . مترجم في لسان الميزان ، وفي الجرح 2/1/ 267 . وكان في المطبوعة : " سالم الخواص " ، وهو خطأ ، والصواب من المخطوطة .
(2) هو في كتاب القوم (إرميا) . وكان في المطبوعة مثله ، ولكنى أثبت ما في المخطوطة لأنه مضى عليه في جميع ما يأتي ، وكذلك كان يرسم في غيره من الكتب . انظر " سفر أرميا " في كتابهم .
(3) هذا القول رده الطبري ونقضه في تاريخه 1 : 194 ، وما قبلها .

(5/440)


بعد موتها " ، أن أورميا لما خرب بيت المقدس وحرقت الكتب ، وقف في ناحية الجبل ، فقال : " أنى يحيي هذه الله بعد موتها " . (1) .
5893 - حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، قال : حدثني ابن إسحاق ، عمن لا يتهم ، عن وهب بن منبه ، قال : هو أورميا.
5894 - حدثني محمد بن عسكر ، قال : حدثنا إسماعيل بن عبد الكريم ، قال : سمعت عبد الصمد بن معقل ، عن وهب بن منبه ، مثله.
5895 - حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى بن ميمون ، عن قيس بن سعد ، عن عبد الله بن عبيد بن عمير في قول الله : " أو كالذي مر على قرية وهي خاويه على عروشها " ، قال : كان نبيا وكان اسمه أورميا.
5896 - حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن قيس بن سعد ، عن عبد الله بن عبيد ، مثله.
5897 - حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرني بكر بن [مضر] ، قال : يقولون والله أعلم : إنه أورميا. (2) .
* * *
قال أبو جعفر : وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال : إن الله تعالى ذكره عجب نبيه صلى الله عليه وسلم ممن قال - إذ رأى قرية خاوية على عروشها - " أنى يحيي هذه الله بعد موتها " ، مع علمه أنه ابتدأ خلقها من غير شيء ، فلم يقنعه علمه بقدرته على ابتدائها حتى قال : أنى يحييها الله بعد موتها! ولا بيان عندنا من الوجه الذي يصح من قِبَلِهِ البيان على اسم قائل ذلك. وجائز أن يكون ذلك
__________
(1) الأثر : 5892 - هو بعض الأثر السالف رقم : 5661 .
(2) الأثر : 5897 - في المطبوعة والمخطوطة بياض مكان ما بين القوسين وقد زدته استظهارا من الأسانيد السالفة . وقد مضت ترجمة " بكر بن مضر المصري " في رقم : 2031 ، وانظر هذا الإسناد فيما سيأتي رقم : 5929 - 5949 .

(5/441)


عزيرا ، وجائز أن يكون أورميا ، ولا حاجة بنا إلى معرفة اسمه ، إذ لم يكن المقصود بالآية تعريف الخلق اسم قائل ذلك ، وإنما المقصود بها تعريف المنكرين قدرة الله على إحيائه خلقه بعد مماتهم ، وإعادتهم بعد فنائهم ، وأنه الذي بيده الحياة والموت من قريش ، ومن كان يكذب بذلك من سائر العرب (1) وتثبيت الحجة بذلك على من كان بين ظهراني مهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم من يهود بني إسرائيل ، بإطلاعه نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم على ما يزيل شكهم في نبوته ، ويقطع عذرهم في رسالته ، إذ كانت هذه الأنباء التي أوحاها إلى نبيه محمد صلى الله عليه وسلم في كتابه ، من الأنباء التي لم يكن يعلمها محمد صلى الله عليه وسلم وقومه ، ولم يكن علم ذلك إلا عند أهل الكتاب ، ولم يكن محمد صلى الله عليه وسلم وقومه منهم ، بل كان أميا وقومه أميون ، (2) فكان معلوما بذلك عند أهل الكتاب من اليهود الذين كانوا بين ظهراني مهاجَرِه ، أن محمدا صلى الله عليه وسلم لم يعلم ذلك إلا بوحي من الله إليه. ولو كان المقصود بذلك الخبر عن اسم قائل ذلك ، لكانت الدلالة منصوبة عليه نصبا يقطع العذر ويزيل الشك ، ولكن القصد كان إلى ذم قِيله ، فأبان تعالى ذكره ذلك لخلقه.
* * *
واختلف أهل التأويل في " القرية " التي مر عليها القائل : " أنى يحيي هذه الله بعد موتها " .
فقال بعضهم : هي بيت المقدس.
* ذكر من قال ذلك :
5898 - حدثني محمد بن سهل بن عسكر ومحمد بن عبد الملك ، قالا حدثنا إسماعيل بن عبد الكريم ، قال : حدثني عبد الصمد بن معقل أنه سمع وهب بن
__________
(1) السياق : " تعريف المنكرين ... من قريش ... " . وسياق ما بين الخطين : وإنما المقصود بها تعريف المنكرين ... وتثبيت الحجة ... " .
(2) يعنى بالأمي : الذي لا كتاب له ، وانظر تفسير " الأمي " فيما سلف 2 : 257 - 259 .

(5/442)


منبه ، قال : لما رأى أورميا هدم بيت المقدس كالجبل العظيم ، قال : " أنى يحيي هذه الله بعد موتها " .
5899 - حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا عبد الصمد بن معقل أنه سمع وهب بن منبه ، قال : هي بيت المقدس.
5900 - حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، قال : حدثني ابن إسحاق عمن لا يتهم أنه سمع وهب بن منبه يقول ذلك.
5901 - حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قال : ذكر لنا أنه بيت المقدس ، أتى عليه عزير بعد ما خربه بخت نصر البابلي.
5902 - حدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ ، قال : حدثنا عبيد بن سليمان ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : " أو كالذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها " ، أنه مر على الأرض المقدسة.
5903 - حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن عكرمة في قوله : " أو كالذي مر على قرية " قال : القرية : بيت المقدس ، مر بها عزير بعد إذ خربها بخت نصر. (1) .
5904 - حدثنا عن عمار ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : " أو كالذي مر على قرية " قال : القرية بيت المقدس ، مر عليها عزير وقد خربها بخت نصر.
* * *
وقال آخرون : بل هي القرية التي كان الله أهلك فيها الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت ، فقال لهم الله موتوا.
* ذكر من قال ذلك :
__________
(1) في المطبوعة : " بختنصر " ، كلمة واحدة ، وكذلك في التاريخ وغيره ، ولكن المخطوطة في هذا الموضع وكل ما يليه كتبت كلمتين مفصولتين ، فأثبتها كما هى ، فهى صواب أيضًا .

(5/443)


5905 - حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قول الله تعالى ذكره : ( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ ) ، قال : قرية كان نزل بها الطاعون ثم اقتص قصتهم التي ذكرناها في موضعها عنه ، إلى أن بلغ( فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ) ، في المكان الذي ذهبوا يبتغون فيه الحياة ، (1) فماتوا ثم أحياهم الله ، ( إ ن الله لذو فضل على الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون ) [ سورة البقرة : 243]. قال : ومر بها رجل وهي عظام تلوح ، فوقف ينظر ، فقال : " أنَّى يحيي هذه الله بعد موتها ، فأماته الله مائة عام ثم بعثه " إلى قوله " لم يتسنه " . (2) .
* * *
قال أبو جعفر : والصواب من القول في ذلك كالقول في اسم القائل : " أنَّى يحيي هذ الله بعد موتها " سواءً لا يختلفان.
* * *
القول في تأويل قوله : { وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا }
قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بقوله : " وهي خاويه " وهي خالية من أهلها وسكانها.
* * *
يقال من ذلك : " خوَت الدار تخوِي خوَاء وخُوِيًّا " ، وقد يقال للقرية : " خَوِيَت " ، والأول أعرب وأفصح. وأما في المرأة إذا كانت نُفَساء فإنه يقال : " خَوِيَت تَخْوَى خَوًى " منقوصًا ، وقد يقال فيها : " خَوَت تخوِي ، كما يقال في
__________
(1) في الأثر السالف : 5608 - " ذهبوا إليه " بزيادة " إليه " .
(2) الأثر : 5905 - هو بعض الأثر : 5608 .

(5/444)


الدار. وكذلك : " خَوِيَ الجوف يخوَى خوًى شديدًا " ، (1) ولو قيل في الجوف ما قيل في الدار وفي الدار ما قيل في الجوف كان صوابًا ، غير أن الفصيح ما ذكرت.
* * *
وأما " العُرُوش " ، فإنها الأبنية والبيوت ، واحدها " عَرْش " ، وجمع قليله " أعرُش " . (2) .
وكل بناء فإنه " عرش " . ويقال : " عَرَش فلان دارًا يعرِش ويعرُش عرشًا " ، (3) ومنه قول الله تعالى ذكره : ( وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ ) [ سورة الأعراف : 137] يعني يبنون ، ومنه قيل : " عريش مكه " ، يعني به : خيامها وأبنيتها (4) .
* * *
وبمثل الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك.
5906 - حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج ، قال ، قال ابن جريج ، قال ابن عباس : " خاوية " ، خراب قال ابن جريج : بلغنا أن عُزيرًا خرج فوقف على بيت المقدس وقد خرَّبه بخت نصَّر ، (5) فوقف
__________
(1) في المطبوعة : " خواء شديدًا " ، والصواب من المخطوطة ، هذا على أنه يقال في ذلك أيضًا ، " خواء " ممدودًا ، ولكن القصر أعلى .
(2) هكذا جاء في المخطوطة والمطبوعة : " أعرش " ، والذي نص عليه أصحاب اللغة " أعراش " ، وكلاهما جمع قلة ، ولم يذكروا " أعرش " فيما رأيت ، ولكنها قياس الباب ، فإن " فعل " (بفتح فسكون) يغلب على جمعه في جمعه في القلة " أفعل " (بضم العين) مثل فلس وأفلس ، إلا أن يكون أجوف ، واويًا أو بائيًا ، فإن الغالب في قلته " أفعال " مثل ثوب وأثواب ، وبيت وأبيات . فعن هذا يتبين أن نص الطبري صحيح جار على قياس اللغة ، وأن جمعه على " أعراش " مما شذ عن بابه .
(3) في المطبوعة : " عرش فلان ويعرش ويعرش وعرش عريشًا " ، وهو لا يستقيم ، وإنما أراد تصحيح ما كان في المخطوطة فأفسده ، وإذ لم يحسن قراءته ، وفي المخطوطة : " عرش فلان إذا يعرش ويعرش عرشًا " ولكنه كتب أولا " تعرشا " غير منقوطة ثم عاد فوضع العين " ع " في رأس الكلمة " يعر " فلما رأي المصحح في النص " إذا " حذفها ، وتصرف في سائره ، ولم يحسن التصرف! .
(4) في اللسان : " العروش بيوت مكة " وفي حديث ابن عمر : " أنه كان يقطع التلبية إذا نظر إلى عروش مكة " . قال ابن الأثير : " بيوت مكة ، لأنها كانت عيدانًا تنصب ويظلل عليها " وقالوا : وهي بيوت أهل الحاجة منهم .
(5) انظر التعليق السالف ص : 443 رقم : 1 .

(5/445)


فقال : أبعد ما كان لك من القدس والمقاتِلةِ والمال ما كان!! فحزن. (1) .
5907 - حدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ ، قال : حدثنا عبيد بن سليمان ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : " وهي خاوية على عروشها " قال : هي خراب.
5908 - حدثنا عن عمار ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع ، قال : مرّ عليها عزير وقد خرَّبها بخت نصر.
5909 - حدثت موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : " وهي خاويه على عروشها " يقول : ساقطة على سُقُفِها.
* * *
القول في تأويل قوله : { قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ }
قال أبو جعفر : ومعنى ذلك فيما ذُكر لنا : (2) .
أنّ قائله لما مرَّ ببيت المقدس أو بالموضع الذي ذكر الله أنه مرّ به خرابا بعد ما عهدهُ عامرًا قال : أنَّى يحيي هذه الله بعد خرابها ؟ (3) .
فقال بعضهم : (4) . كان قيله ما قال من ذلك شكًّا في قدرة الله على إحيائه.
__________
(1) في المطبوعة : " من المقدس " ، وهو خطأ صرف ، والقدس : الطهر والتنزيه والبركة .
(2) في المطبوعة والمخطوطة : " ومعنى ذلك فيما ذكرت أن... " ، وهو لا يستقيم ، وصواب السياق ما أثبت .
(3) في المطبوعة : ذكر نص الآية " بعد موتها " ، وأثبت ما في المخطوطة ، وهو الصواب ، ليكون تفسرا لقواه : " بعد موتها " ، كما يدل عليه السياق . وانظر تفسير " الموت " بمعنى : خراب الأرض ، ودثور عمارتها ، فيما سلف 3 : 274 .
(4) في المخطوطة والمطبوعة : " فقال بعضهم " ، كأنه متصل بما قبله ، ولو كان ذلك كذلك لفسد سائر الكلام واضطراب ، ولاحتاج الطبري أن يذكر أقوال آخرين فيما يأتي ، ولكنه لم يفعل .
فالصواب الذي يقتضيه السياق ، فيما سبق بعد تصحيحه ، وفيما يستقبل ، يوجب ما أثبت .

(5/446)


فأراه الله قُدرته على ذلك يضربه المثلَ له في نفسه ، ثم أراه الموضع الذي أنكر قُدرته على عمارته وإحيائه ، أحيا ما رآه قبل خرابه ، وأعمرَ ما كان قبل خرابه. (1) .
* * *
وذلك أن قائل ذلك كان - فيما ذكر لنا - عهده عامرًا بأهله وسكانه ، ثم رآه خاويًا على عروشه ، قد باد أهله ، وشتَّتهم القتل والسباء ، فلم يبق منهم بذلك المكان أحدٌ ، وخربت منازلهم ودورهم ، فلم يبق إلا الأثر. فلما رآه كذلك بعد للحال التي عهده عليها ، قال : على أيّ وَجه يُحيي هذه الله بعد خرابها فيعمُرها ، (2) . استنكارًا فيما - قاله بعض أهل التأويل - فأراه كيفية إحيائه ذلك بما ضربه له في نفسه ، وفيما كان في إدواته وفي طعامه ، (3) . ثم عرّفه قدرته على ذلك وعلى غيره بإظهاره على إحيائه ما كان عجبًا عنده في قدرة الله إحياؤه رَأْيَ عينه حتى أبصره ببصره (4) ، فلما رأى ذلك قال : ( أعلمُ أنّ الله على كل شيء قدير ).
* * *
وكان سبب قِيله ذلك ، كالذي : -
5910 - حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عمن لا يتهم ، عن وهب بن منبه اليماني أنه كان يقول : قال الله لأرميا حين بعثه نبيًّا إلى
__________
(1) قوله : " أحيى ما رآه... " و " أعمر ما كان ... " ، هو " أفعل " التفضيل من " الحياة " و " العمارة " ، وليسا فعلين ، أي أحسن حياة ، وأكثر عمرانا .
(2) انظر تفسير " أني " فيما سلف 4 : 413 - 416 /وهذا الجزء 5 : 312 .
(3) في المطبوعة : " وفيما كان من شرابه وطعامه " ، لم يحسن قراءة المخطوطة لتصحيفها . وفي المخطوطة : " وفيما كان من إدا وبه وطعامه " ، وصواب هذه الجملة المصحفة ما أثبت . والإداوة (بكسر الهمزة) : هي إناء صغير من جلد يتخذ للماء ، وجمعها " أداوى " بفتح الواو ، وزدت " في " بين " وطعامه " لضرورتها في السياق .
(4) في المطبوعة : " بإظهاره إحياء ما كان عجبًا. لرأي عينه " ، وفي المخطوطة : " بإظهاره إحيائه ما كان .. " وسائره مثله. والصواب ما أثبت ، وسياق العبارة : بإظهاره على إحيائه ذلك رأي عينه " ، بحذف اللام من " لرأي " ، ونصب " رأي " يقول : أظهره على إحياء ما أحيي رأي العين .

(5/447)


بني إسرائيل : (1) . " يا أرميا ، من قبل أنْ أخلقك اخترتك ، ومن قبل أن أصوِّرك في رَحِم أمك قدَّستك ، (2) . ومن قبل أن أخرجك من بطنها طهَّرتك ، ومن قبل أن تبلغ السعي نبَّيتُك ، (3) . ومن قبل أن تبلغ الأشُدَّ اخترتك ، (4) . ولأمر عظيم اجتبيتك ، فبعث الله تعالى ذكره إرميا إلى ملك بني إسرائيل يسدده ويرشده ، ويأتيه بالبر من الله فيما بينه وبينه; قال : ثم عظمت الأحداث في بني إسرائيل ، وركبوا المعاصي ، واستحلّوا المحارم ، ونسوا ما كان الله صنع بهم ، وما نجاهم من عدوهم سَنْحاريب ، فأوحى الله إلى أورميا : (5) . أن ائت قومك من بني إسرائيل ، فاقصص عليهم ما آمرك به ، وذكِّرهم نعمتي عليهم وعرِّفهم أحداثهم ثم ذكر ما أرسل الله به أرميا إلى قومه من بني سرائيل (6) . قال : ثم أوحى الله إلى أرميا : إنّي مهلك بني إسرائيل بيافث - ويافثُ أهل بابل ، وهم من ولد يافث بن نوح - فلما سمع أرميا وحيَ ربّه ، صاح وبكى وشقّ ثيابه ، ونبذ الرماد على رأسه ، فقال : ملعون يومٌ ولدت فيه ، ويومٌ لُقِّيت فيه التوراة ، (7) . ومن شر أيامي يومٌ ولدت فيه ، فما أُبْقِيتُ آخرَ الأنبياء إلا لما هو شر علي! (8) . لو أراد بي خيرًا ما جعلني آخر الأنبياء من بني إسرائيل! فمن أجلي تصيبهم الشِّقوة والهلاك! فلما سمع الله تضرُّع الخضر وبكاءه وكيف يقول ، (9) . ناداه : أورميا! أشقّ عليك ما أوحيت إليك ؟ قال : نعم يا رب ، أهلكني قبل أن أرى في بني إسرائيل ما لا أُسَرّ به ، (10) . فقال الله : وعزتي العزيزة ، (11) . لا أهلك بيت المقدس وبني إسرائيل حتى يكون الأمر من قِبَلك في ذلك! ففرح عند ذلك أورميا لما قال له ربه ، وطابت نفسه ، وقال : لا والذي بعث موسى وأنبياءه بالحق ، لا آمر ربي بهلاك بني إسرائيل أبدًا! (12) . ثم أتى ملكَ بني إسرائيل ، وأخبره بما أوحى الله إليه ، ففرح واستبشر وقال : إن يعذِّبنا ربُّنا فبذنوب كثيرة قدَّمناها لأنفسنا ، وإن عفا عنا فبقدرته.
ثم إنهم لبثوا بعد هذا الوحي ثلاث سنين لم يزدادوا إلا معصية ، وتمادوا في الشر ، (13) . وذلك حين اقترب هلاكهم ، فقلّ الوحيُ ، حتى لم يكونوا يتذكرون الآخرة ، (14) . وأمسك عنهم حين ألهتهم الدنيا وشأنُها ، فقال ملكهم : يا بني إسرائيل انتهوا عما أنتم عليه قبل أن يمسَّكم بأسٌ من الله ، وقبل أن يُبعث عليكم ملوكٌ لا رحمة لهم بكم ، (15) . فإن ربكم قريب التوبة ، مبسوط اليدين بالخير ، رحيم بمن
__________
(1) انظر ما سلف في ص 440 ، وكتابتها هناك " أورميا " ، وهي هنا كما أثبتها . وستأتي بعد أسطر على ما سلف .
(2) في تاريخ الطبري : " في بطن أمك " ، سواء .
(3) في المطبوعة : " نبأتك " ، وأثبت ما في المخطوطة والتاريخ . ولأجود ترك الهمزة فيه ، وحمله على لفظ " النبي " ونباه : جعله نبيا أو كتبه عنده نبيا . و " تنبى الكذاب " ، إذا ادعى النبوة .
(4) في التاريخ : " اختبرتك " ، وما في التفسير ، هو الجيد الصواب . وسيأتي اختلاف في بعض اللفظ لا أقيده حتى أجده صالحا للتعيين .
(5) أثبت ما في المخطوطة في هذا الموضع وانظر التعليق السالف رقم : 1 .
(6) ما بين الخطين من كلام أبي جعفر ، فقد قطع سياق الخبر ، وانتقل إلي ما أراد ، والذي يأتي يبدأ في تاريخه في ج 1 : 287 .
(7) في المطبوعة والمخطوطة : " لقيت التوراة " ، وزدت " فيه " من التاريخ ، وهي أجود . وفي التاريخ : " لقنت " من التلقين ، والذي في المطبوعة والمخطوطة صواب جدا . لقي الشيء يلقاه (بتشديد القاف والبناء للمجهول) : علمه ، ونبه إليه ، ولقنه . فهما سواء في المعنى . وبذلك جاء في كتاب الله :
(وما يلقاها إلا الذين صبروا ، وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم) .
(8) في المخطوطة : " إلا لما هو أشر على " ، ولا بأس بها .
(9) " الخضر " هو " أرميا " نفسه ، فيما زعم وهب بن منبه راوي هذا الأثر ، كما سلف ذلك عنه في رقم : 5891 .
(10) في المخطوطة والمطبوعة : " أهلكنى في بني إسرائيل " سقط منها " قبل أن أروي " ، وأثبت صوابها من التاريخ .
(11) في التاريخ : " وعزتي وجلالي " والذي في المخطوطة والمطبوعة قسم عزيز قلما أصبته فيما قرأت .
(12) " لا آمر ربي " يعنى : لا أسأله ذلك ولا أدعوه . وهو مجاز من الأمر " جيد عربي فصيح ، وقلما تصيبه في كتب اللغة ، وقلما تصيب الشاهد عليه . وذلك أنه إذا دعا قال : " رب أهلكهم " ، فذلك دعاء ، وكل دعاء يقتضى هذا الفعل الأمر ، وليس بأمر لله ، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا . وهذا المجاز في النفى ، أجود منه في الإثبات . وانظر ما سيأتي في الخبر ص : 450 ، وتعليق : ك 4 .
(13) في التاريخ : " وتماديا في الشر " وهو أجود .
(14) في المطبوعة : " حتى لم يكونوا " ، وأثبت ما في المخطوطة والتاريخ ، وهو العربي الصحيح .
(15) في التاريخ : " وقيل أن يبعث الله عليكم قوما لا رحمة لهم بكم " .

(5/448)


تاب إليه! (1) . فأبوا عليه أن ينزعوا عن شيء مما هم عليه ، (2) . وإن الله ألقى في قلب بخت نصر بن نبوذراذان [ بن سنحاريب بن دارياس بن نمروذ بن فالغ بن عابر ونمروذ صاحب إبراهيم صلى الله عليه وسلم ، الذي حاجّه في ربّه ] (3) . أن يسير إلى بيت المقدس ، ثم يفعل فيه ما كان جده سنحاريب أراد أن يفعله ، فخرج في ستمائة ألف راية يريد أهل بيت المقدس; فلما فصَل سائرًا ، أتى ملكَ بني إسرائيل الخبرُ أن بخت نصّر أقبلَ هو وجنوده يريدكم. فأرسل الملك إلى أرميا ، فجاءه فقال : يا أرميا ، أين ما زعمت لنا أنّ ربنا أوحى إليك أن لا يُهلك أهل بيت المقدس حتى يكون منك الأمرُ في ذلك ؟ (4) .
(5) . فقال أرميا للملك : إنّ ربي لا يخلف الميعاد ، وأنا به واثق.
فلما اقترب الأجل ، ودنا انقطاع ملكهم ، وعزم الله على هلاكهم ، بعث الله مَلَكًا من عنده ، فقال له : اذهب إلى أرميا فاستفته وأمره بالذي يستفتيه فيه.
فأقبل الملك إلى أرميا ، وقد تمثَّل له رجلا من بني إسرائيل ، (6) . فقال له أرميا : من أنت ؟ قال : رجل من بني إسرائيل أستفتيك في بعض أمري ، فأذن له ، فقال المَلَك : يا نبيَّ الله أتيتك أستفتيك في أهل رَحِمي ، وصلتُ أرحامهم بما أمرني الله به ، لم آت إليهم إلا حَسَنًا ، ولم آلُهم كرامة ، فلا تزيدهم كرامتي إياهم إلا إسخاطًا لي ، فأفتني فيهم يا نبي الله ؟ فقال له : أحسن فيما بينك وبين الله ،
__________
(1) في المطبوعة : " رحيم من تاب عليه " ، والصواب من المخطوطة والتاريخ .
(2) " نزع عن الشيء ينزع نزوعا " : كف وانتهى .
(3) في المطبوعة " بختنصر بن نعون بن زادان ، والصواب من المخطوطة والتاريخ . وهذا الزيادة بين القوسين ، لم تكن في المخطوطة ، ولكنى زدتها من التاريخ ، لحاجة الكلام إليها بعد في ذكر سنحاريب ، وأنه جد بخت نصر . وقوله : " بن نبوذراذان " هو في كتاب القوم (بن نبو بولا سار) ، وأما " نبوذراذان " ، فهو مذكور عندهم أنه رئيس حامية " بنو خذ ناصر " ، وهو " بخت نصر " . وهذا النسب قد ساقه الطبري قبل هذا الموضع في تاريخه 1 : 283 مع بعض الاختلاف .
(4) الأمر : الدعاء والسؤال . وانظر التعليق السالف ص : 449 ، تعليق : 4 .
(5) في المطبوعة " وقد تمثل " بالواو ، وأثبت ما في المخطوطة والتاريخ ، وهو جيد جدا .
(6) في المطبوعة : " رجل ... " بحذف " أنا " وأثبت ما في المخطوطة والتاريخ .

(5/450)


وصِلْ ما أمرك الله به أن تصل ، وأبشر بخير. فانصرف عنه الملَك; فمكث أيامًا ثم أقبل إليه في صورة ذلك الرجل الذي جاءه ، فقعد بين يديه ، فقال له أرميا : من أنت ؟ قال : أنا الرجل الذي أتيتك في شأن أهلي! (1) . فقال له نبي الله ، أو ما طهُرت لك أخلاقهم بعد ، (2) . ولم تر منهم الذي تحب ؟ فقال : يا نبي الله ، والذي بعثك بالحق ما أعلم كرامةً يأتيها أحدٌ من الناس إلى أهل رحمه إلا وقد أتيتها إليهم وأفضلَ من ذلك! فقال النبي : ارجعْ إلى أهلك فأحسنْ إليهم ، أسأل الله الذي يصلح عباده الصالحين أن يصلح ذات بينكم ، (3) . وأن يجمعكم على مرضاته ، ويجنِّبكم سخطه! فقام الملك من عنده ، فلبث أيامًا ، وقد نزل بخت نصّر وجنوده حول بيت المقدس أكثر من الجراد ، (4) . ففزع بنو إسرائيل فزعًا شديدًا ، وشق ذلك على ملك بني إسرائيل ، فدعا أرميا ، فقال : يا نبي الله ، أين ما وعدك الله ؟ فقال : إني بربي واثق.
ثم إن الملك أقبل إلى أرميا وهو قاعد على جدار بيت المقدس يضحك ويستبشر بنصر ربه الذي وعده ، فقعد بين يديه ، فقال له أرميا : من أنت ؟ قال : أنا الذي كنت استفتيتك في شأن أهلي مرتين ، (5) . فقال له النبي : أو لم يأن لهم أن يفيقوا من الذي هم فيه ؟ فقال الملك : يا نبي الله ، كل شيء كان يصيبني منهم قبلَ اليوم كنت أصبر عليه ، وأعلم أنّ ما بهم في ذلك سخطي ، (6) . فلما
__________
(1) في التاريخ وحده : " أتيتك أستفتيك في شأن أهلي " .
(2) يقال : " رجل طاهر الأخلاق " ، أي يتنزه عن دنس الأخلاق ، ويكف عن الإثم .
(3) في التاريخ : " واسأل الله " ، بالواو في أوله ، وكأنه أمر للرجل . وأن يكون دعاء من النبي له ، أقرب وأحسن .
(4) في المطبوعة : " بجنوده " ، وفي المخطوطة " جنوده " بغير واو ، وأثبت ما في التاريخ ، وفيه أيضًا : " بأكثر من الجراد " .
(5) في التاريخ : " أتيتك في شأن أهلي ... " .
(6) في المطبوعة : " أنما قصدهم في ذلك سخطي " ، وفي التاريخ : " أن مآ لهم في ذلك سخطي " وفي المخطوطة : " أنما نهم في ذلك سخطي " ، والأول تبديل للنص ، والآخران تصحيف ، صوابه ما أثبت .
يقال : " ما بك إلا مساءتى " ، أي ما تريد إلا مساءتى . فكذلك قوله : " أن ما بهم في ذلك سخطي " ، أن الذي يريدون في فعلهم ذلك ، سخطي واستثارة غضبى .

(5/451)


أتيتهم اليوم رأيتهم في عمل لا يرضي الله ، ولا يحبه الله ، فقال النبي : على أي عمل رأيتهم ؟ قال : يا نبي الله رأيتهم على عمل عظيم من سَخَط الله ، فلو كانوا على مثل ما كانوا عليه قبل اليوم لم يشتدَّ عليهم غضبي ، (1) . وصبرتُ لهم ورَجوتهم ، ولكن غضبتُ اليوم لله ولك ، (2) . فأتيتك لأخبرك خبرهم ، وإني أسألك بالله - الذي هو بعثك بالحق إلا ما دعوت عليهم ربّك أن يهلكهم. (3) . فقال أرميا : يا مالك السماوات والأرض ، (4) . إن كانوا على حق وصواب فأبقهم ، وإن كانوا على سخطك وعمل لا ترضاه ، فأهلكهم! فلما خرجت الكلمة مِن فِيّ أرميا أرسل الله صاعقة من السماء في بيت المقدس ، فالتهبَ مكان القُربان وخُسف بسبعة أبواب من أبوابها; فلما رأى ذلك أرميا صَاح وشق ثيابه ، ونَبَذ الرَّماد على رأسه ، فقال يا ملك السماء ، ويا أرحم الراحمين ، أين ميعادك الذي وعدتني ؟ فنودي : أرميا ، إنه لم يصبهم الذي أصابهم إلا بفُتياك التي أفتيتَ بها رسولنا ، فاستيقن النبي أنها فتياه التي أفتى بها ثلاثَ مرات ، وأنه رسول ربه ، فطار إرميا حتى خالط الوحوش. ودخل بخت نصر وجنوده بيت المقدس ، فوطئ الشام ، وقتل بني إسرائيل حتى أفناهم ، وخرَّب بيت المقدس ، ثم أمر جنوده أن يملأ كل رجل منهم ترسه ترابًا ثم يقذفه في بيت المقدس ، فقذفوا فيه التراب حتى ملأوه ، ثم انصرف راجعًا إلى أرض بابل ، واحتمل معه سبايا بني إسرائيل ، وأمرهم أن يجمعوا من كان في بيت المقدس كلهم ، فاجتمع عنده كل صغير وكبير من بني إسرائيل ، فاختار منهم سبعين ألف صبي; (5) . فلما خرجت غنائم جنده ، وأراد أن يقسمهم فيهم ، قالت له الملوك الذين كانوا معه : أيها الملك ، لك غنائمنا كلها ، واقسم بيننا هؤلاء الصبيان الذين اخترتهم من بني إسرائيل! ففعل ، فأصاب كل واحد منهم أربعةُ غلمة ، وكان من أولئك الغلمان : " دانيال " ، و " عزاريا " ، و " ميشايل " ، و " حنانيا " . (6) . وجعلهم بخت نصر ثلاث فرق : فثلثًا أقر بالشام ، وثلثًا سَبَى ، وثلثًا قتل. وذهب بآنية بيت المقدس حتى أقدمها بابل. (7) . وبالصبيان السبعين الألف حتى أقدمهم بابل ، (8) . فكانت هذه الوقعةَ الأولى التي ذكر الله تعالى ذكره ببني إسرائيل ، بإحداثهم وظلمهم. (9) .
فلما ولّى بخت نصر عنه راجعًا إلى بابل بمن معه من سبايا بني إسرائيل ، أقبل أرميا على حمار له معه عصيرٌ من عنب في زُكْرَة وسَلَّة تين ، (10) . حتى أتى إيليا ، فلما وقف عليها ، ورأى ما بها من الخراب دخله شك ، فقال : أنّى يحيي هذه الله بعد موتها فأماته الله مائة عام وحماره وعصيرُه وسلة تينه عنده حيث أماته
__________
(1) في المطبوعة وحدها : " ولو كانوا ... " بالواو لا بالفاء .
(2) في المطبوعة وحدها : " ولكن غضبت ... " .
(3) في المطبوعة وحدها : " الذي بعثك " بحذف " هو " .
(4) في المطبوعة وحدها : " يا مالك السموات... " .
(5) في المطبوعة : " تسعين ألف صبى " ، وفي المخطوطة : " سبعين صبى " بإسقاط " ألف " ، أما في التاريخ : " فاختار منهم مئة ألف صبى " ، ولكنه عاد بعد ذلك فروي سيأتي : " وذهب بالصبيان السبعين الألف " ، فأخشى أن يكون ما في التاريخ خطأ ، صوابه " فاختار منهم سبعين ألف صبى من مئة ألف صبى " .
(6) " عزريا " ، " ميشائيل " ، " حننيا " هكذا رسم أسمائهم في " سفر دانيال " الإصحاح الأول . وكان في المطبوعة : " مسايل " وأثبت ما في المخطوطة والتاريخ . وفي التاريخ بعد هذا الموضع تعداد هؤلاء الغلمان من أسباط بني إسرائيل .
(7) في المطبوعة وحدها : " بأسبية بيت المقدس " ، وهو خطأ لا معنى له هنا .
(8) في المطبوعة والمخطوطة : " التسعين الألف " . وهو يخالف ما مضى من الخبر في المخطوطة كما أسلفنا في التعليق : 1 ، وأثبت ما في التاريخ .
(9) في المطبوعة وحدها : " الواقعة الأولى التي ذكر الله... " ، ثم يلي ذلك في المخطوطة والمطبوعة " ...تعالى ذكره نبي الله بإحداثهم... " ، والصواب من التاريخ .
(10) الزكرة (بضم فسكون) : زق صغير من أدم يجعل فيه الشراب . وفي التاريخ " ركوة " ، والصواب ما في التفسير ، فإن " الركوة " (بكسر فسكون) : إناء صغير من جلد يشرب فيه الماء ، هو كالكوب لا كالزق .

(5/452)


الله ، وأمات حماره معه. (1) . فأعمى الله عنه العيون ، فلم يره أحد ، ثم بعثه الله تعالى ، فقال له : كم لبثت ؟ قال : لبثت يومًا أو بعض يوم! قال : بل لبثتَ مائة عام فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنَّه " ، يقول : لم يتغير " وانظر إلى حمارك ولنجعلك آيه للناس وانظر إلى العظام كيف ننشزها ثم نكسوها لحمًا " فنظر إلى حماره يَاتَصِل بعضٌ إلى بعض - (2) . وقد كان مات معه - (3) . بالعروق والعصب ، ثم كيف كسي ذلك منه اللحمَ حتى استوى ، (4) . ثم جرى فيه الروح ، فقام ينهق ، ونظر إلى عصيره وتينه ، فإذا هو على هيئته حين وَضعه لم يتغير. فلما عاين من قدرة الله ما عاين قال : ( أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ). ثم عمَّر الله أرميا بعد ذلك ، فهو الذي يُرَى بفلوات الأرض والبلدان.
5911 - حدثني محمد بن عسكر وابن زنجويه ، قالا حدثنا إسماعيل بن عبد الكريم ، قال : حدثني عبد الصمد بن معقل أنه سمع وهب بن منبه يقول : أوحى الله إلى أرميا وهو بأرض مصر : أن الحق بأرض إيليا ، فإن هذه ليست لك بأرضِ مقامٍ ، فركب حماره ، حتى إذا كان ببعض الطريق ، ومعه سلة من عنب وتين ، وكان معه سقاءٌ جديدٌ فملأه ماء. فلما بدا له شخص بيت المقدس وما
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة : " ومات حماره معه " ، وأثبت ما في التاريخ .
(2) في المطبوعة وحدها : " يتصل بعضه إلى بعض " وأثبت ما في المخطوطة والتاريخ وما سيأتي رقم : 5933 ، وفي التاريخ " يتصل " كالمطبوعة . وأما قوله : " ياتصل " وأصلها " يفتعل " من " وصل " فأصل الفعل " ارتصل ، يوتصل ، فهو موتصل " ، فلغة أهل الحجاز وقريش خاصة : أن لا تدغم هذه الواو وأشباهها ، وغيرها يدغم فيقول " ايتصل ، ياتصل ، فهو موتصل " ومن " وفق " يقول : " ايتفق ياتفق ، فهو موتفق " وما أشبهه ذلك ، وقد جرى الشافعي في الرسالة على استعمال ذلك . انظر الفقرات رقم 95 ، 569 ، 574 ، 662 ، 1275 ، 1333 ، وتعليق أخى السيد أحمد على الفقرة رقم 95 . وفي الحديث : " كان اسم نبله عليه السلام : الموتصلة " ، سميت بذلك تفاؤلا بوصولها إلى العدو .
وانظر التعليق على الأثر رقم : 5933 فيما سيأتي .
(3) في المطبوعة والمخطوطة : " وقد مات معه " بحذف " كان " وأثبت ما في التاريخ ، وما سيأتي رقم : 5933 .
(4) في المطبوعة : " ثم كيف كسى... " ، وسيأتي في رقم : 5933 ، كما أثبته ، وهو الصواب .

(5/454)


حوله من القُرى والمساجد ، ونظر إلى خراب لا يوصف ، (1) . ورأى هَدْمَ بيت المقدس كالجبل العظيم ، قال : (2) . أنَّى يحيي هذه الله بعد موتها ؟ وسار حتى تبوَّأ منها منزلا فربط حماره بحبل جديد. وعلَّق سقاءه ، وألقى الله عليه السُّبات; فلما نام نزع الله روحه مائة عام; فلما مرّت من المائة سبعون عامًا ، أرسل الله مَلَكًا إلى مَلِك من ملوك فارس عظيم يقال له : يوسك " ، (3) . فقال : إن الله يأمرك أن تنفر بقومك فتعمِّر بيت المقدس وإيليا وأرضها ، حتى تعود أعمَر ما كانت ، فقال الملك : أنظرني ثلاثه أيام حتى أتأهب لهذا العمل ولما يصلحه من أداء العمل ، فأنظره ثلاثة أيام ، فانتدب ثلاثمائة قَهْرَمان ، ودفع إلى كل قَهْرَمَان ألف عامل ، وما يصلحه من أداة العمل ، (4) . فسار إليها قهارمته ، ومعهم ثلاثمائة ألف عامل; (5) . فلما وقعوا في العمل ، ردّ الله روح الحياة في عين أرميا ، وآخِرُ جسده ميت ، (6) . فنظر إلى إيليا وما حولها من القُرى والمساجد والأنهار والحُروث تعمل وتعمِّر وتتجدد ، (7) . حتى صارت كما كانت. وبعد ثلاثين سنة تمام المائه ، رد إليه الروح ، فنظر إلى طعامه وشرابه لم يتسنَّه ، ونظر إلى حماره واقفًا كهيئته يوم ربطه لم يطعم ولم يشرب ، ونظر إلى الرُّمة في عنق الحمار لم تتغير جديدة ، (8) . وقد أتى على ذلك ريحُ مائة عام ، وبرد مائة عام ، وحرُّ مائة عام ، لم تتغير ولم تنتقض شيئًا ، (9) . وقد نحل جسم أرميا من البلى ، فأنبت الله له لحمًا جديدًا ، ونشز عظامه وهو ينظر ، فقال له الله : ( انظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنه وانظر إلى حمارك ولنجعلك آيه للناس وانظر إلى العظام كيف نُنْشِزها ثم نكسوها لحمًا فلما تبين لهُ قال أعلم أن الله على كل شيء قدير ). (10) .
5912 - حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا عبد الصمد بن معقل أنه سمع وهب بن منبه يقول في قوله : ( أنّى يحيي هذه الله بعد موتها ) : أن أرميا لما خُرِّب بيت المقدس وحُرِّقت الكتب ، وقف في ناحية الجبل ، فقال : ( أنَّى يحيي هذه الله بعد موتها ، فأماته الله مائة عام ) ثم ردّ الله من رد من بني إسرائيل على رأس سبعين سنة من حين أماته يعمرونها ثلاثين سنة تمام المائة; فلما ذهبت المائة ردّ الله روحه وقد عمِّرت على حالها الأولى ، فجعل ينظر إلى العظام كيف تلتام بعضها إلى بعض ، (11) . ثم نظر إلى العظام كيف تكسى عصبًا ولحمًا. فلما تبين له ذلك قال : ( أعلم أن الله على كل شيء قدير ) فقال الله تعالى ذكره : ( انظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنَّه ) قال : فكان طعامه تينًا
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة " ونظر إلى خراب " والصواب حذف هذه الواو ، وانظر التعليق التالي .
(2) في المطبوعة : " ورأى هدم... " ، وفي المخطوطة : " وسياق المعنى يقتضى إثبات ما في المخطوطة ، وحذف الواو من " ونظر " كما سلف في التعليق قبله .
(3) لم أعرف صحة هذا الاسم ولم أجده في كتاب آخر .
(4) القهرمان : من أمناء الملك وخاصته ، كالخازن والوكيل الحافظ لما تحت يده ، والقائم بأمور الرجل .
(5) في المطبوعة : " قهرمته " ، والقهارمة جمع قهرمان .
(6) في المطبوعة : " وآخر جسده ميتا " ، والصواب ما في المخطوطة في هذا الموضع ، وفيما سيأتي في المخطوطة والمطبوعة رقم : 5938 وقوله : " آخر " هنا بمعنى : الباقى بعد رده الروح رأسه . وهو مجاز عربي لا يعاب . وانظر التعليق على رقم : 5938 فيما سيأتي بعد .
(7) هكذا في المطبوعة والمخطوطة : " والحروث " ، وأخشى أن يكون الصواب : " والحراث " جمع حارث ، وهو الذي يحرث الأرض .
(8) الرمة (بضم الراء ، أو كسرها ، وتشديد الميم) : قطعة من حبل يقيد به الأسير ، أو يوضع في عنق البعير ، وأصحاب اللغة يقولون : هي القطعة البالية . ولكنه هنا استعملها بغير هذه الصفة ، بل وصفها بأنها رمة جديدة ، وهو جيد لا بأس به .
(9) في المخطوطة والمطبوعة : " لم تنتقص " بالصاد المهملة ، وهو خطأ ، والصواب ما أثبت .
انتض الحبل وغيره ، فسد ما أبرمت منه وضعت قواه وبليت . وقوله : " شيئا " ، أي قليلا ولا كثيرا ، وهو تعبير جيد في العربية .
(10) الأثر : 5911 - " محمد بن عسكر " ، هو : محمد بن سهل بن عسكر البخاري ، مضت ترجمته في رقم : 5598 . و " ابن زنجويه " رجلان : محمد بن عبد الملك بن زنجويه البغدادي ، روى عنه الأربعة وعبدالله بن أحمد وآخرون . مات سنه 258 . وهو ثقة كثير الخطأ ،
والآخر : حميد بن مخلد بن قتيبة الأزدى ، روى عنه أبو داود ، والنسائي ، وأبو زرعة ، وأبو حاتم وغيرهم . كان حسن الفقه ، وكتب ورحل ، وكان رأسا في العلم ، قال أبو عبيد القاسم بن سلام : " ما قدم علينا من فتيان خراسان مثل ابن زنجويه وابن شبويه " . اختلف في وفاته بين سنة 247 ، إلى سنة 251 .
وأطن هذا هو شيخ الطبري ، ولعل فيما يأتي ما يرجح تعيينه إن شاء الله .
(11) التأم الشيء يلتئم ، والتام يلتام (بتسهيل الهمزة) : إذا انضم بعضه إلى بعض واجتمع .

(5/455)


في مِكتل ، وقلّة فيها ماء. (1) .
5913 - حدثني موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : ( أو كالذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها ) وذلك أن عُزَيْرًا مرّ جائيًا من الشام على حمار له معه عصيرٌ وعنب وتين; فلما مرّ بالقرية فرآها ، وقف عليها وقلَّب يده وقال : كيف يحيي هذه الله بعد موتها ؟ ليس تكذيبًا منه وشكًّا فأماته الله وأمات حِمارَه فهلكا ، ومرّ عليهما مائة سنة. ثم إن الله أحيا عزيرًا فقال له : كم لبثت ؟ قال : لبثت يومًا أو بعض يوم! قيل له : بل لبثت مائة عام! فانظر إلى طعامك من التين والعنب ، وشرابك من العصير ( لم يتسنَّه ) ، الآية.
* * *
القول في تأويل قوله : { ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ }
قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بقوله : ( ثم بعثه ) ، ثم أثاره حيًّا من بعد مماته.
* * *
وقد دللنا على معنى " البعث " ، فيما مضى قبل. (2) .
* * *
وأما معنى قوله( كم لبثت ) فإن " كم " استفهام في كلام العرب عن مبلغ العدد ، (3) . وهو في هذا الموضع نصب ب " لبثت " ، وتأويله : قال الله له :
__________
(1) الأثر : 5912 - قد مضى مبتورا في رقم 5661 ، وانظر التعليق عليه هناك . و " المكتل " (بكسر الميم) : الزبيل الذي يجعل فيه التمر أو العنب أو غيرهما .
(2) انظر ما سلف 2 : 84 ، 85 .
(3) انظر ما سلف في معنى " كم " في هذا الجزء 5 : 352 .

(5/457)


كم قدرُ الزمان الذي لبثتَ ميتًا قبل أن أبعثك من مماتك حيًّا ؟ قال المبعوث بعد مماته : لبثتُ ميتًا إلى أن بعثتني حيًّا يومًا واحدًا أو بعض يوم.
* * *
وذكر أن المبعوث هو أرميا ، أو عزيرٌ ، أو من كان ممن أخبر الله عنه هذا الخبر.
* * *
وإنما قال : ( لبثت يومًا أو بعض يوم ) لأن الله تعالى ذكره كان قبض رُوحه أول النهار ، ثم ردّ روحه آخرَ النهار بعد المائة عام فقيل له : ( كم لبثت ) ؟ قال : لبثت يومًا; وهو يرى أنّ الشمس قد غربت. فكان ذلك عنده يومًا لأنه ذُكر أنه قبض روحه أول النهار وسئل عن مقدار لبثه ميتًا آخر النهار ، وهو يرى أن الشمس قد غربت ، فقال : ( لبثت يومًا ) ، ثم رأى بقية من الشمس قد بقيت لم تغرب ، فقال : ( أو بعض يوم ) ، بمعنى : بل بعض يوم ، كما قال تعالى ذكره : ( وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ ) [الصافات : 147] ، بمعنى : بل يزيدون. (1) . فكان قوله : ( أو بعض يوم ) رجوعًا منه عن قوله : ( لبثت يومًا ).
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال جماعة من أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
5914 - حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : ( ثم بعثه قال كم لبثتَ قال لبثت يومًا أو بعض يوم ) ، قال : ذكر لنا أنه مات ضُحًى ، ثم بعثه قبل غيبوبة الشمس ، فقال : ( لبثت يومًا ). ثم التفت فرأى بقية من الشمس ، فقال : ( أو بعض يوم ). فقال : ( بل لبثت مائة عام ).
5915 - حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ،
__________
(1) انظر ما سلف في " أو " بمعنى " بل " 2 : 235 - 237 .

(5/458)


عن قتادة : ( أنى يحيي هذه الله بعد موتها ) قال : مر على قرية فتعجّب ، فقال : ( أنّى يحيي هذه الله بعد موتها ) فأماته الله أوّل النهار ، فلبث مائة عام ، ثم بعثه في آخر النهار ، فقال : ( كم لبثت) ؟ قال : ( لبثت يومًا أو بعض يوم ) ، قال : ( بل لبثت مائة عام ).
5916 - حدثت عن عمار بن الحسن ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، قال : قال الربيع : أماته الله مائة عام ، ثم بعثه ، قال : ( كم لبثت ) ؟ قال : ( لبثت يومًا أو بعض يوم ). قال : ( بل لبثت مائة عام ).
5917 - حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال ، حدثني حجاج ، قال : قال ابن جريج : لما وقفَ على بيت المقدس وقد خرّبه بخت نصر ، قال : ( أنّى يحيي هذه الله بعد موتها )! كيف يعيدها كما كانت ؟ فأماته الله. قال : وذكر لنا أنه مات ضُحى ، وبعث قبل غروب الشمس بعد مائة عام ، فقال : ( كم لبثت ) ؟ قال : ( يومًا ). فلما رأى الشمس ، قال : ( أو بعض يوم ).
* * *
القول في تأويل قوله : { فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ }
قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بقوله : ( فانطر إلى طعامك وشرابك لم يتسنَّه ) لم تغيِّره السِّنون التي أتت عليه.
* * *
وكان طعامه - فيما ذكر بعضهم - سلة تين وعنب ، وشرابه قلة ماء.
وقال بعضهم : بل كان طعامه سلة عنب وسلة تين ، وشرابه زِقًّا من عصير. (1) .
وقال آخرون : بل كان طعامه سلة تين ، وشرابه دَنَّ خمر - أو زُكْرَةَ خمر. (2) .
__________
(1) في المخطوطة والمطبوعة : " زق " بالرفع ، والنصب أجود .
(2) الزكرة (بضم فسكون) : سقاء صغير من أدم يجعل فيه شراب أو خل .

(5/459)


وقد ذكرنا فيما مضى قول بعضهم في ذلك ، (1) . ونذكر ما فيه فيما يستقبل إن شاء الله.
* * *
وأما قوله : ( لم يتسنَّه ) ففيه وجهان من القراءة :
أحدهما : " لَمْ يَتَسَنَّ " بحذف " الهاء " في الوصل ، وإثباتها في الوقف. ومن قرأه كذلك فإنه يجعل الهاء في " يتسنَّه " زائدة صلة ، (2) . كقوله : ( فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ ) [ الأنعام : 90 ] وجعل " تفعّلت " منه : (3) . " تسنَّيتُ تسنِّيًا " ، واعتل في ذلك بأن " السنة " تجمع سنوات ، فيكون " تفعلت " على صحة. (4) .
ومن قال في " السنة " " سنينة " فجائز على ذلك وإن كان قليلا أن يكون " تسنَّيت " (5) . " تفعَّلت " ، بدّلت النون ياء لما كثرت النونات كما قالوا : " تظنَّيت " وأصله " الظن " ; وقد قال قوم : هو مأخوذ من قوله : ( مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ ) [ الحجر : 26 ، 28 ، 33 ] وهو المتغير. وذلك أيضًا إذا كان كذلك ، فهو أيضًا مما بُدِّلت نونه ياء. (6) .
وهو قراءة عامة قراء الكوفة.
* * *
__________
(1) يعنى الآثار التي سلفت في خبر " الذي مر على القرية " .
(2) " صلة " أي زيإدة وحشوا بمعنى الإلغاء ، انظر ما سلف 1 : 190 ، 405 ، تعليق : 4/ 406 تعليق : 2ثم : 548 .
(3) في المطبوعة : " فعلت " وهو خطأ ، وأما المخطوطة ، فقد كتب الناسخ هذه الكلمة مضطربة فلم يحسن ناشر المطبوعة أن يقرأها على وجهها ، وسيأتي بعد قليل جدا ذكر " تفعلت " ، هذه ، مما يدل على صواب قراءتنا .
(4) في المطبوعة : " على نهجه " والصواب في المخطوطة : " على صحه " ، ولكنها لما كانت غير منقوطة تصرف الطابع فيها ما شاء ! ! وفي معاني القرآن للفراء واللسان " على صحة " فلذلك أثبتها منهما .
(5) في المطبوعة : " تسننت " بالنونات ، والصواب ما أثبت من المخطوطة ، ومعاني القرآن للفراء .
(6) هذا برمته من كلام الفراء في معاني القرآن 1 : 172 ، 173 واللسان (سنة) مع قليل من الخلاف في بعض اللفظ00

(5/460)


والآخر منهما : إثبات " الهاء " في الوصل والوقف. ومن قرأه كذلك ، فإنه يجعل " الهاء " في " يتسنَّه " لامَ الفعل ، ويجعلها مجزومة ب " لم " ، ويجعل " فعلت " منه : " تسنَّهت " ، و " يفعل " : " أتسنَّه تسنُّها " ، (1) وقال في تصغير " السنة " : " سُنيهة " و " سنيَّة " ، " أسنيتُ عند القوم " و " أسنهتُ عندهم " ، إذا أقمت سنة. (2) .
وهذه قراءة عامة قرأة أهل المدينة والحجاز.
* * *
قال أبو جعفر : والصواب من القراءة عندي في ذلك إثباتُ " الهاء " في الوصل والوقف ، لأنها مثبتةٌ في مصحف المسلمين ، ولإثباتها وجهٌ صحيح في كلتا الحالتين في ذلك.
* * *
ومعنى قوله : ( لم يتسنَّه ) ، لم يأت عليه السنون فيتغيَّر ، على لغة من قال : " أسنهت عندكم أسْنِه " : إذا أقام سنة ، وكما قال الشاعر : (3) .
وَلَيْسَتْ بِسَنْهَاءٍ وَلا رُجَّبِيَّةٍ... وَلكِنْ عَرَايَا فِي السِّنِينَ الجَوائِحِ (4)
__________
(1) أراد هنا بقوله " فعل " و " يفعل " الماضي والمضارع ، وهو غير قوله " تفعلت " السالفة التي صححناها كما جاء في ص : 460 ، التعليق رقم : 3 .
(2) في المطبوعة حذف وزيادة وتغيير ، كان فيها : " وقال في تصغير السنة سنيهه ، ومنه : أسهنت عند القوم وتسهنت عندهم " ، وأثبت ما في المخطوطة ، وهو أيضًا صواب ، وإن كانت الشبهة قد دخلت عليه من ذكر " سنية " و " أسنيت " ، ولكن جائز أن يكون قائل هذا القول ممن يرى جواز كليهما ، فلذلك أثبته كما كان في المخطوطة ، ولا يبدل إلا بحجة ، وسيأتي كلام الطبري بعد قليل : " أن ذلك وجه صحيح في كلتا الحالتين " .
(3) سويد بن الصامت الأنصاري ، ويقال : أحيحة بن الجلاح .
(4) معاني القرآن للفراء 1 : 173 . والأمالى 1 : 21 ، وسمط اللآلى : 361 ، وتهذيب الألفاظ : 520 ، واللسان (عرا) (قرح) (سنه) (خور) (رجب) ، والإصابة في ترجمته ، من أبيات يقولها في دين كان قد أدانه فطولب به ، فاستغلت في قضائه بقومه فقصر واعنه . وترتيبها فيها أستظهر : وَأَصْبَحْتُ قد أنكَرْتُ قوْمِي كَأَنَّنِي ... جَنَيْتُ لَهُمْ بالدَّيْنِ إحْدَى الفَضَائِحِ
أَدِينُ ، وَمَا دَيْنِي عَلَيْهِم بِمَغْرَمٍ ... وِلكِنْ عَلَى الشُّمِّ الجِلاَدِ القَرَاوِحِ
عَلَى كُلِّ خَوَّارٍ ، كَأَنَّ جُذُوعَها ... طُلِينَ بِقَارٍ أوْ بِحَمْأَةِ مَائِحِ
وَلَيْسَتْ بِسَنْهَاءٍ وَلاَ رُجَّبِيَّةٍ ... وَلَكنْ عَرَايَا فِي السِّنِينِ الجَوَائِحِ
أَدِينُ عَلَى أَثْمَارِهَا وَأُصُولِهَا ... لِمَوْلًى قَرِيبٍ أو لآخَرَ نَازِحِ
دان يدين : استقرض مالا . والشم : الطوال . والجلاد : الشديدة الصبر على العطش والحر والبرد ، يعنى النخل . والقراوح جمع قراوح : وهي النخلة التي انجرد كربها وطالت ، وذلك أجود لها . والخوار : الغزيرة الحمل . وجعلها مطلية بالفار أو بالحمأة ، لأن جذوعها إذا كانت كذلك فهو أشد لها وأكرم . والمائح : الذي يمتاح من البئر ، أي يستقي . والسنهاء : التي حملت عاما ، ولم تحمل آخر ، وهذا من عيب النخل . وقوله : " رجبية " (بضم الراء وتشديد الجيم المفتوحة ، أو فتحها بغير تشديد) وكلتاهما نسبة شاذة إلى الرجبة (بضم فسكون) : وذلك أن تعمد النخلة الكريمة إذا خيف عليها أن تقع لطولها وكثر حملها ، فيبني تحتها دكان ترجب به - أي تعمد به . وذلك حين تبلغ إلى الضعف ، ولكنه يكرمها بذلك . والعرايا جمع عربة : وهي التي يوهب ثمرها في عامها . يفعل بها ذلك لكرمه . والجوائح : السنين المجدبة الشداد التي تجتاح المال .
يقول لقومه : قد جئت أستدينكم ، على أن أؤدي من نخلي ومالي ، ففيم الجزع ؟ أتخافون أن يكون ديني مغرما تغرمونه! ! وهذه نخلي أصف لكم من جودتها وكرمها ما أنتم به أعلم .

(5/461)


فجعل " الهاء " في " السنة " أصلا وهي اللغة الفصحى.
* * *
وغير جائز حذف حرف من كتاب الله في حال وقف أو وصل لإثباته وجه معروف في كلامها.
فإن أعتلّ معتلٌ بأن المصحف قد ألحقت فيه حروف هنّ زوائد على نية الوقف ، والوجه في الأصل عند القراءة حذفهنّ ، وذلك كقوله : ( فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ ) [الأنعام : 90] وقوله : ( يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ ) [الحاقة : 25] فإن ذلك هو مما لم يكن فيه شك أنه من الزوائد ، وأنه ألحق على نية الوقف. فأما ما كان محتملا أن يكون أصلا للحرف غيرَ زائد ، فغير جائز وهو في مصحف المسلمين مثبتٌ صرفُه إلى أنه من الزوائد والصلات. (1) .
__________
(1) انظر معنى " الصلة " فيما سلف قريبا ص : 460 تعليق : 2 .

(5/462)


على أن ذلك ، وإن كان زائدا فيما لا شك أنه من الزوائد ، (1) . فإن العرب قد تصل الكلام بزائد ، فتنطق به على نحو منطقها به في حال القطع ، فيكون وَصْلها إياه وقطعُها سواء. وذلك من فعلها دلالة على صحة قراءة من قرأ جميع ذلك بإثبات " الهاء " في الوصل والوقف. غير أنّ ذلك ، وإن كان كذلك ، فلقوله : ( لم يتسنّه ) حكمٌ مفارقٌ حكمَ ما كان هاؤه زائدا لا شك في زيادته فيه. (2) .
* * *
ومما يدل على صحة ما قلنا ، من أن " الهاء " في " يتسنه " من لغة من قال : " قد أسنهت " ، و " المسانهة " ، ما : -
5918 - حدثت به عن القاسم بن سلام ، قال : حدثنا ابن مهدي ، عن أبي الجراح ، عن سليمان بن عمير ، قال : حدثني هانئ مولى عثمان ، قال : كنت الرسول بين عثمان وزيد بن ثابت ، فقال زيد : سله عن قوله : " لم يتسنّ " ، أو " لم يتسنَّه " ، فقال عثمان : اجعلوا فيها " هاء " .
5919 - حدثت عن القاسم وحدثنا محمد بن محمد العطار ، عن القاسم ، وحدثنا أحمد والعطار جميعًا ، عن القاسم ، قال : حدثنا ابن مهدي ، عن ابن المبارك ، قال : حدثني أبو وائل شيخ من أهل اليمن عن هانئ البربري ، قال : كنت عند عثمان وهم يعرضون المصاحف ، فأرسلني بكتف شاة إلى أبيّ بن كعب فيها : " لَمْ يَتَسَنَّ " و " فَأَمْهِلِ الْكَافِرِين " [ الطارق : 17] و " لا تَبْدِيلَ لِلْخَلْقِ " [ الروم : 30 ].
__________
(1) في المطبوعة : " وإن كان زائدا " ، والصواب ما في المخطوطة .
(2) في المطبوعة : " ما كان هاؤه زائدا لا شك في زيادته فيه " بالتذكير ، وهو صواب جدا ، ولكن لا أدرى لم غير نص المخطوطة .

(5/463)


قال : فدعا بالدواة ، فمحا إحدى اللامين وكتب( لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ) ومحا " فأمْهِلْ " وكتب( فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ ) وكتب : ( لَمْ يَتَسَنَّهْ ) ألحق فيها الهاء. (1) .
* * *
قال أبو جعفر : ولو كان ذلك من " يتسنى " أو " يتسنن " لما ألحق فيه أبيّ " هاء " لا موضع لها فيه ، (2) ولا أمرَ عثمان بإلحاقها فيها.
وقد روي عن زيد بن ثابت في ذلك نحو الذي روي فيه عن أبيّ بن كعب.
* * *
قال أبو جعفر : واختلف أهل التأويل في تأويل قوله : ( لم يتسنَّه ).
فقال بعضهم بمثل الذي قلنا فيه من أن معناه : لم يتغير.
* ذكر من قال ذلك :
5920 - حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة بن المفضل ، عن محمد بن إسحاق ، عمن لا يتهم ، عن وهب بن منبه : ( لم يتسنَّه ) لم يتغير.
5921 - حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : ( لم يتسنَّه ) لم يتغير.
5922 - حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، مثله.
5923 - حدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ،
__________
(1) الأثر : 5918 - " هانئ " هو هانئ البربري ، مولي عثمان بن عفان مترجم في الكبير 4/ 2/ 229 ، وابن أبي حاتم 4/ 2/ 100 ، وسليمان بن " ، روي عن هانئ مولي عثمان روى عنه عبد الله بن المبارك . مترجم في الكبير 2/ 2/ 30 ، وابن أبي حاتم 2/ 1/ 133 . أما " أبو الجراح " فلم أعرفه ، وانظر الأثر التالي ، فإني أخشى أن يكون إسنادهما قد اختلط ، فإن ابن المبارك هو الذي يروي عن " سليمان بن عمير " . وانظر الدر المنثور 1 : 323 .
(2) في المخطوطة : " لما ألحق فيه أبي هو لا موضع فيه " هذا فاسد ، والذي في المطبوعة مستقيم .

(5/464)


عن السدي : ( فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنه ) يقول : " فانظر إلى طعامك " من التين والعنب " وشرابك " من العصير " لم يتسنه " ، يقول : لم يتغير فيحمُض التين والعنب ، ولم يختمر العصير ، هما حُلوان كما هما. وذلك أنه مرّ جائيًا من الشام على حمار له ، معه عصير وعنب وتين ، فأماته الله ، وأمات حماره ، ومر عليهما مائة سنة. (1) .
5924 - حدثت عن الحسين بن الفرج ، قال : سمعت أبا معاذ ، قال : أخبرنا عبيد بن سليمان ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : ( فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنه ) يقول : لم يتغير ، وقد أتى عليه مائة عام.
5925 - حدثني المثنى ، قال : أخبرنا إسحاق ، قال : حدثنا أبو زهير ، عن جويبر ، عن الضحاك ، بنحوه.
5926 - حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله ، قال : حدثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس قوله : ( لم يتسنه ) لم يتغير.
5927 - حدثنا سفيان ، قال : حدثنا أبي ، عن النضر ، عن عكرمة : ( لم يتسنه ) لم يتغير.
5928 - حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد : ( لم يتسنه ) لم يتغير في مائة سنة.
5929 - حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرني بكر بن مضر ، قال : يزعمون في بعض الكتب أن أرميا كان بإيليا حين خرّبها بخت نصر ، فخرج منها إلى مصر فكان بها. فأوحى الله إليه أن اخرج منها إلى بيت المقدس. فأتاها فإذا هي خربة ، فنظر إليها فقال : " أنَّى يحيي هذه الله بعد موتها " ؟ فأماته الله مائة عام ثم بعثه ، فإذا حمارُه حي قائم على رباطه ، وإذا طعامه سَلُّ عنب
__________
(1) الأثر : 5923 - هو تمام الأثر السالف رقم : 5913 .

(5/465)


وسَلُّ تين ، لم يتغير عن حاله (1) .
قال يونس : قال لنا سلم الخواص : (2) . كان طعامه وشرابه سل عنب ، وسل تين ، وزِقَّ عصير.
* * *
وقال آخرون : معنى ذلك : لم ينتن.
* ذكر من قال ذلك :
5930 - حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد قوله : ( لم يتسنه ) لم ينتن.
5931 - حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله.
5932 - حدثني القاسم قال ، حدثنا الحسن قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال ، قال مجاهد قوله : ( إلى طعامك ) قال : سَلُّ تين ( وشرابك ) ، دنُّ خمر ( لم يتسنه ) ، يقول : لم ينتن.
* * *
قال أبو جعفر : وأحسب أن مجاهدًا والربيع ومن قال في ذلك بقولهما ، (3) . رأوا أن قوله : ( لم يتسنه ) من قول الله تعالى ذكره : ( مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ ) [الحجر : 26 ، 28 ، 33] بمعنى المتغير الريح بالنتن ، من قول القائل : " تسنَّن " . وقد بينت الدلالة فيما مضى على أنّ ذلك ليس كذلك. (4) .
فإن ظن ظانّ أنه من " الأسَن " من قول القائل : " أسِنَ هذا الماء يأسَنُ أسَنًا ،
__________
(1) الرباط : ما ربط به ، وأراد هنا الموضع الذي ربط فيه ، وهو المربط . و " السل و السلة " ، سواء : وهو الجؤنة التي يحمل فيها الخبز وغيره . ويقال " سل " جمع " سلة " ، وهو من الجموع العزيزة ، لأنه مصنوع غير مخلوق ، لا يكون الفارق بينه وبين واحده التاء ، مثل عنب وعنبه ، وبر وبرة .
(2) في المطبوعة : " سالم الخواص " ، وهو خطأ ، والصواب من المخطوطة ، وهو سلم بن ميمون الخواص ، مضت ترجمته في رقم : 5890 .
(3) لم يذكر الطبري خبرا عن " الربيع " قبل ، فأخشى أن يكون سقط من الناسخ خبره ، وقد مضى قول الربيع في تفسير بعض هذه الآية فيما سلف بإسناده رقم : 5916 .
(4) انظر ما سلف ، ص : 460 .

(5/466)


كما قال الله تعالى ذكره : ( فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ ) [محمد : 15] ، فإنّ ذلك لو كان كذلك ، لكان الكلام : فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتأسَّن ، ولم يكن " يتسنه " .
* * *
[ فإن قيل ] : (1) . فإنه منه ، غير أنه ترك همزه.
قيل : فإنه وإن ترك همزه ، فغير جائز تشديدُ نونه ، لأن " النون " غير مشددة ، وهي في " يتسنَّه " مشددة ، ولو نطق من " يتأسن " بترك الهمزة لقيل : " يَتَسَّنْ " بتخفيف نونه بغير " هاء " تلحق فيه. ففي ذلك بيان واضح أنه غير جائز أن يكون من " الأسَن " .
* * *
القول في تأويل قوله : { وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ }
قال أبو جعفر : اختلف أهل التأويل في تأويل قوله : ( وانظر إلى حمارك ).
فقال بعضهم : معنى ذلك : وانظر إلى إحيائي حمارَك ، وإلى عظامه كيف أنشِزها ثم أكسوها لحمًا.
ثم اختلف متأولو ذلك في هذا التأويلَ.
فقال بعضهم : قال الله تعالى ذكره ذلك له ، بعد أن أحياه خلقًا سويًّا ، ثم أراد أن يحيي حماره تعريفًا منه تعالى ذكره له كيفية إحيائه القرية التي رآها خاوية على عروشها ، فقال : ( أنى يحيي هذه الله بعد موتها ) ؟ مستنكرًا إحياء الله إياها.
* ذكر من قال ذلك :
5933 - حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عمن لا يتهم ،
__________
(1) ما بين القوسين زيادة لا بد منها حتى يستقيم الكلام .

(5/467)


عن وهب بن منبه ، قال : بعثه الله فقال : ( كم لبثت قال لبثتُ يومًا أو بعض يوم ) إلى قوله : ( ثم نكسوها لحمًا ) قال : فنظر إلى حماره ياتصل بعضٌ إلى بعض (1) . وقد كان مات معه بالعروق والعصب ، ثم كسا ذلك منه اللحم حتى استوى ثم جرى فيه الروح ، فقام ينهق. ونظر إلى عصيره وتينه ، فإذا هو على هيئته حين وضعه لم يتغير. فلما عاين من قدرة الله ما عاين ، قال : ( أعلم أن الله على كل شيء قدير ). (2) .
5934 - حدثني موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : ثم إن الله أحيا عُزيرًا ، فقال : كم لبثت ؟ قال : لبثت يومًا أو بعض يوم. قال : بل لبثت مائة عام! فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنَّه ، وانظر إلى حمارك قد هلك وبليت عظامه ، وانظر إلى عظامه كيف نُنشِزُها ثم نكسوها لحمًا.
فبعث الله ريحًا ، فجاءت بعظام الحمار من كل سهل وجبل ذهبت به الطير والسباع ، فاجتمعت ، فركّب بعضها في بعض وهو ينظر ، فصار حمارًا من عظام ليس له لحمٌ ولا دمٌ. ثم إن الله كسا العظام لحمًا ودمًا ، فقام حمارًا من لحم ودم وليس فيه روح. ثم أقبل مَلَكٌ يمشي حتى أخذ بمنخر الحمار ، فنفخ فيه فنهق الحمار ، فقال : ( أعلم أنه الله على كل شيء قديرٌ ).
* * *
قال أبو جعفر : فتأويل الكلام على ما تأوله قائلُ هذا القول : وانظر إلى إحيائنا حمارك ، وإلى عظامه كيف نُنشِزُها ثم نكسوها لحمًا ، ولنجعلك آية للناس فيكون في قوله : ( وانظر إلى حمارك ) ، متروك من الكلام ، استغني بدلالة ظاهره عليه من ذكره ، وتكون الألف واللام في قوله : ( وانظر إلى العظام ) بدلا من " الهاء " المرادة في المعنى ، لأن معناه : وانظر إلى عظامه - يعني : إلى عظام الحمار.
* * *
__________
(1) في المطبوعة : " يتصل بعض إلى بعض " ، وقد مضى في رقم 5910 ، أن المخطوطة هناك " ياتصل " ، وعلقت عليها في ص : 454 ، تعليق : 2 وقد جاءت هنا في المخطوطة " ياتصل " أيضًا ، فهذا حجة قاطعة على صواب نص المخطوطة في هذين الموضعين المتابعدين . فراجع ما كتب هناك .
(2) الأثر : 5933 - هو آخر الأثر السالف رقم : 5910 .

(5/468)


وقال آخرون منهم : بل قال الله تعالى ذكره ذلك له بعد أن نفخ فيه الروح في عينه. (1) . قالوا : وهي أول عضو من أعضائه نفخ الله فيه الروح ، وذلك بعد أن سواه خلقًا سويًّا ، وقبل أن يحيى حماره.
* ذكر من قال ذلك :
5935 - حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قال : كان هذا رجلا من بني إسرائيل نُفخ الروح في عينيه ، فينظر إلى خلقه كله حين يحييه الله ، (2) . وإلى حماره حين يحييه الله.
5936 - حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد مثله.
5937 - حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : بدأ بعينيه فنفخ فيهما الروح ، ثم بعظامه فأنشزها ، ثم وَصَل بعضها إلى بعض ، ثم كساها العصب ، ثم العروق ، ثم اللحم. ثم نظر إلى حماره ، فإذا حماره قد بَلي وابيضَّت عظامه في المكان الذي ربطه فيه ، فنودي : " يا عظام اجتمعي ، فإن الله منزلٌ عليك روحًا " ، فسعى كل عظم إلى صاحبه ، فوصل العظام ، ثم العصب ، ثم العروق. ثم اللحم ، ثم الجلد ، ثم الشعر ، وكان حماره جَذَعًا ، فأحياه الله كبيرًا قد تشنَّن ، (3) . فلم يبق منه إلا الجلد من طول الزمن. وكان طعامه سَلَّ عنب ، وشرابه دَنَّ خمر. قال ابن جريج عن مجاهد : نفخ الروح في عينيه ، ثم نظر بهما إلى خلقه كله حين نشره الله ، وإلى حماره حين يحييه الله.
* * *
__________
(1) في المطبوعة : " في عينه " بالإفراد ، وأثبت ما في المخطوطة .
(2) في المطبوعة : " فنظر " ، وفي المخطوطة : " فنظر " غير منقوطة والصواب كما قرأتها لك .
(3) الجذع (بفتحتين) : الصغير السن من الحيران وغيره . وتشنن الجلد والسقاء : إذا يبس وتشنج من القدم أو من الهرم .

(5/469)


وقال آخرون : بل جعل الله الروح في رأسه وبصره ، وجسدُه ميتٌ ، (1) . فرأى حماره قائمًا كهيئته يوم ربطه ، وطعامه وشرابه كهيئته يوم حَلَّ البقعة. ثم قال الله له : انظر إلى عظام نفسك كيف ننشزها.
* ذكر من قال ذلك :
5938 - حدثني محمد بن سهل بن عسكر ، قال : حدثنا إسماعيل بن عبد الكريم ، قال : حدثني عبد الصمد بن معقل أنه سمع وهب بن منبه يقول : ردَّ الله روح الحياة في عين أرْميا وآخرُ جسده ميت ، (2) . فنظر إلى طعامه وشرابه لم يتسنَّه ، ونظر إلى حماره واقفًا كهيئته يوم ربطه ، لم يطعم ولم يشرب ، ونظر إلى الرُّمة في عنق الحمار لم تتغير ، جديدةً. (3) .
5940 - حدثت عن الحسين ، قال : (4) . سمعت أبا معاذ ، قال : حدثنا عبيد بن سليمان ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : ( فأماته الله مائة عام ثم بعثه ) ، فنظر إلى حماره قائمًا قد مكث مائة عام ، وإلى طعامه لم يتغير قد أتى عليه مائة عام ، ( وانظر إلى العظام كيف نُنشرها ثم نكسوها لحمًا) فكان أول شيء أحيا الله منه رأسَه ، فجعل ينظر إلى سائر خلقه يُخلق.
5941 - حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا أبو زهير ، عن جويبر ، عن الضحاك في قوله : ( فأماته الله مائة عام ثم بعثه ) فنظر إلى حماره قائمًا ، وإلى طعامه وشرابه لم يتغير ، فكان أول شيء خلق منه رأسه ، فجعل ينظر
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة : " وجسده ميتا " ، وهو خطأ ، ويدل على صواب ما أثبت ، الآثار التالية .
(2) يعنى بقوله : " وآخر جسده ميت " ، أي سائره وباقيه ، وقد جاءت هذه الكلمة هنا على الصواب في المطبوعة والمخطوطة ، وقد مضت في المطبوعة في الأثر رقم : 5911 ، محرفة ، فهذا دليل آخر على صواب قراءتنا للنص .
(3) الأثر : 5938 - انظر الأثر السالف رقم : 5911 ، والتعليق عليه .
(4) في المطبوعة والمخطوطة : " الحسن " ، وهو خطأ ، بل هو " الحسين بن الفرج " ، وهو إسناد دائر في التفسير ، أقربه رقم : 5924 .

(5/470)


إلى كل شيء منه يوصل بعضه إلى بعض. فلما تبيَّن له ، قال : ( أعلم أنَّ الله على كل شيء قدير ).
5942 - حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قال : ذُكر لنا أنه أول ما خلق الله منه رأسَه ، ثم ركبت فيه عيناه ، ثم قيل له : انظر! فجعل ينظر ، فجعلت عظامه تَواصَلُ بعضها إلى بعض ، وبِعَيْن نبيّ الله عليه السلام كان ذلك ، فقال : ( أعلم أن الله على كل شيء قدير ).
5943 - حدثت عن عمار ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : ( وانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنَّه وانظر إلى حمارك ) وكان حماره عنده كما هو ( ولنجعلك آيه للناس ) ، وانظر إلى العظام كيف ننشزها). قال الربيع : ذكر لنا والله أعلم أنه أول ما خلق منه عيناه ، ثم قيل انظر! فجعل ينظر إلى العظام يَتواصل بعضها إلى بعض ، وذلك بعينيه ، فقال : (1) .( أعلم أن الله على كل شيء قدير ).
4644 - حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرنا ابن زيد قال قوله : ( وانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنَّه وانظر إلى حمارك) واقفًا عليك منذ مائة سنة ( ولنجعلك آية للناس وانظر إلى العظام ) يقول : وانظر إلى عظامك كيف نحييها حين سألتنا : " كيف نحيي هذه " ؟ (2) . قال : فجعل الله الروح في بصره وفي لسانه ، ثم قال : ادع الآن بلسانك الذي جعل الله فيه الروح ، وانظر ببصرك. قال : فكان ينظر إلى الجمجمة. قال : فنادى : ليلحق كل عظم بأليفه. قال : فجاء كل عظم إلى صاحبه ، حتى اتصلت وهو يراها ، حتى أن الكِسْرة من العظم لتأتي إلى الموضع الذي انكسرت منه ، فتلصَقُ به حتى وصل إلى جمجمته ،
__________
(1) في المخطوطة والمطبوعة : " فقيل : أعلم... " ، وهو سبق قلم من الناسخ .
(2) في المطبوعة : " كيف نحيى هذه الأرض بعد موتها " ، وليس ذلك في المخطوطة ، بل الذي أثبت ، وهما سواء .

(5/471)


وهو يرى ذلك. فلما اتصلت شدها بالعصب والعروق ، وأجرى عليها اللحم والجلد ، ثم نفخ فيها الروح ، ثم قال : ( انظر إلى العظام كيف ننشرها ثم نكسوها لحمًا ) فلما تبين له ذلك ، ( قال أعلم أن الله على شيء قدير ) . قال : ثم أمر فنادى تلك العظام التي قال : ( أنَّى يُحيي هذه الله بعد موتها ) كما نادى عظام نفسه ، ثم أحياها الله كما أحياهُ.
5945 - حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرني بكر بن مضر ، قال : يزعمون في بعض الكتب أن الله أمات أرميا مائة عام ، ثم بعثه ، (1) فإذا حمارُه حيٌّ قائمٌ على رباطه. قال : وردَّ الله إليه بصره ، وجعل الروح فيه قبل أن يبعث بثلاثين سنة ، ثم نظر إلى بيت المقدس وكيف عمر وما حوله. قال : فيقولون والله أعلم : إنه الذي قال الله تعالى ذكره : ( أوْ كالذي مرّ على قرية وهي خاوية ...) ، الآية. (2) .
* * *
ومعنى الآية على تأويل هؤلاء : وانظر إلى حمارك ، ولنجعلك آية للناس ، وانظر إلى عظامك كيف ننشزها بعد بلاها ، ثم نكسوها لحمًا ، فنحييها بحياتك ، فتعلم كيف يحيي الله القرى وأهلها بعد مماتها.
* * *
__________
(1) في المطبوعة : " أرميا " ، وأثبت ما في المخطوطة ، وقد سلف مثل ذلك مرارا ، حتى في الأثر الواحد ، انظر ما سلف - ص : 448 تعليق : 1 .
(2) عند هذا الموضع ، انتهى جزء من التقسيم القديم الذي نقلت منه نسختنا ، وفيها ما نصه :
" يتلوهُ : ومعنى الآية على تأويل هؤلاء :
وانظر إلى حمارك ولنجعلك آية للناس . * * *
وصلى الله على سيدنا محمد النبيّ وآله وصحبه وسلم كثيرًا "
ثم يبدأ بعده بما نصه :
" بسم الله الرحمن الرحيم
رب يسر يا كريم " .

(5/472)


قال أبو جعفر : وأولى الأقوال في هذه الآية بالصواب قولُ من قال : إن الله تعالى ذكره بعث قائل : ( أنَّى يحيي هذه الله بعد موتها ) من مماته ، ثم أراه نظير ما استنكر من إحياء الله القرية التي مرّ بها بعد مماتها عيانًا من نفسه وطعامه وحماره. فحمل تعالى ذكره ما أراه من إحيائه نفسه وحماره مثلا لما استنكر من إحيائه أهل القرية التي مرّ بها خاويةً على عروشها ، وجعل ما أراه من العِبرة في طعامه وشرابه ، عبرة له وحجة عليه في كيفية إحيائه منازل القرية وجِنانها. وذلك هو معنى قول مجاهد الذي ذكرناه قبل.
وإنما قلنا : ذلك أولى بتأويل الآية ، لأنّ قوله : ( وانظر إلى العظام ) إنما هو بمعنى : وانظر إلى العظام التي تراها ببصرك كيف ننشزُها ، ثم نكسوها لحمًا.
وقد كان حماره أدركه من البلى في قول أهل التأويل جميعًا نظيرُ الذي لحق عظامَ من خوطب بهذا الخطاب ، فلم يمكن صرف معنى قوله : ( وانظر إلى العظام ) إلى أنه أمرٌ له بالنظر إلى عظام الحمار دون عظام المأمور بالنظر إليها ، ولا إلى أنه أمر له بالنطر إلى عظام نفسه دون عظام الحمار.وإذْ كان ذلك كذلك ، وكان البلى قد لحق عظامه وعظام حماره ، كان الأولى بالتأويل أن يكون الأمرُ بالنظر إلى كل ما أدركه طرفه مما قد كان البلى لحقه ، لأن الله تعالى ذكره جعل جميع ذلك عليه حجة وله عبرةً وعظةً.
* * *
القول في تأويل قوله : { وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ }
قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بذلك : ( ولنجعلك آيه للناس ) أمتناك مائة عام ثم بعثناك.
وإنما أدخلت " الواو " مع اللام التي في قوله : ( ولنجعلك آيه للناس ) وهو

(5/473)


بمعنى " كي " ، لأن في دخولها في كي وأخواتها دِلالة على أنها شرطٌ لفعلٍ بعدها ، بمعنى : ولنجعلك كذا وكذا فعلنا ذلك. (1) . ولو لم تكن قبل " اللام " أعني " لام " كي " واو " ، كانت " اللام " شرطًا للفعل الذي قبلها ، وكان يكون معناه : وانظر إلى حمارك ، لنجعلك آية للناس.
* * *
وإنما عنى بقوله : ( ولنجعلك آية ) ، ولنجعلك حجة على من جهل قدرتي ، وشكَّ في عظمتي ، (2) . وأنا القادر على فعل ما أشاء من إماتة وإحياء ، وإنشاء ، وإنعام وإذلال ، وإقتار وإغناء ، بيدي ذلك كلُّه ، لا يملكه أحد دوني ، ولا يقدر عليه غيري.
* * *
وكان بعض أهل التأويل يقول : كان آية للناس ، بأنه جاء بعد مائة عام إلى ولده وولد ولده ، شابًّا وهم شيوخ.
* ذكر من قال ذلك :
5946 - حدثني المثنى ، قال : أخبرنا إسحاق ، قال : حدثنا قبيصة بن عقبة ، عن سفيان ، قال : سمعت الأعمش يقول : ( ولنجعلك آيه للناس ) قال : جاء شابًّا وولده شيوخ.
* * *
وقال آخرون : معنى ذلك أنه جاء وقد هلك من يعرفه ، فكان آية لمن قدِم عليه من قومه.
* ذكر من قال ذلك :
5947 - حدثني موسى ، قال ، حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي ، قال : رجع إلى أهله ، فوجد داره قد بيعت وبُنيت ، وهلك من كان يعرفه ،
__________
(1) انظر معاني القرآن 1 : 173 .
(2) انظر معنى " آية " فيما سلف في هذا الجزء 5 : 377 ، والتعليق : 2 ، ومراجعه هناك .

(5/474)


فقال : اخرجوا من داري! قالوا : ومن أنت ؟ قال : أنا عزير! قالوا : أليس قد هلك عزيرٌ منذ كذا وكذا!! قال : فإن عزيرًا أنا هو ، كان من حالي وكان! فلما عرفوا ذلك ، خرجوا له من الدار ودفعوها إليه.
* * *
قال أبو جعفر : والذي هو أولى بتأويل الآية من القول ، أن يقال : أن الله تعالى ذكره ، أخبر أنه حمل الذي وصف صفته في هذه الآية حُجة للناس ، فكان ذلك حُجة على من عرفه من ولده وقوْمه ممن علم موته ، وإحياءَ الله إياه بعد مماته ، وعلى من بُعث إليه منهم.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا }
قال أبو جعفر : دللنا فيما مضى قبلُ على أنّ العظام التي أمِر بالنظر إليها ، هي عظام نفسه وحماره ، وذكرنا اختلاف المختلفين في تأويل ذلك ، وما يعني كل قائل بما قاله في ذلك بما أغنى عن إعادته.
* * *
وأما قوله : ( كيف ننشزُها ) فإن القرأة اختلفت في قراءته.
فقرأ بعضهم : ( وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ) بضم النون وبالزاي ، وذلك قراءة عامة قرأة الكوفيين ، بمعنى : وانظر كيف نركّب بعضها على بعض ، وننقل ذلك إلى مواضع من الجسم.
* * *
وأصل " النشوز " : الارتفاع ، (1) . ومنه قيل : " قد نشز الغلام " ، إذا ارتفع
__________
(1) جاء في المطبوعة والمخطوطة " وأصل النشز " : الارتفاع " ، وأنا أرى صوابه : " النشوز " ، لأنه هو المصدر ، ولا مصدر لهذا الفعل غيره في رواية أهل اللغة ، ومحال أن يدع الطبري المعروف إلى المجهول . والمخطوطة في هذا الوضع سيئة جدا ، كثيرة التصحيف والإهمال ، وبحضه لم أشر إليه لشدة وضوحه ، وفساد خط كاتبه وإهماله ، كما ترى في التعليق التالي .

(5/475)


طوله وشبَّ ، ومنه " نشوز المرأة " على زوجها. (1) . ومن ذلك قيل للمكان المرتفع من الأرض : " نَشَز ونَشْز ونشاز " ، (2) . فإذا أردت أنك رفعته ، قلت : " أنشزته إنشازًا " ، و " نشز هو " ، إذا ارتفع.
* * *
فمعنى قوله : ( وانظر إلى العظام كيف ننشزها ) في قراءة من قرأ ذلك بالزاي : كيف نرفعُها من أماكنها من الأرض فنردُّها إلى أماكنها من الجسد. (3) .
* * *
وممن تأول ذلك هذا التأويل جماعة من أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
5948 - حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : حدثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس في قوله : ( كيف ننشزها ) كيف نُخرجها.
5949 - حدثني موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : ( كيف ننشزها ) قال : نحرِّكها.
* * *
وقرأ ذلك آخرون : " وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِرُهَا " بضم النون. قالوا : من قول القائل ، " أنشرَ الله الموتى فهو يُنشِرهم إنشارًا " ، وذلك قراءة عامة قرأة أهل المدينة ، بمعنى : وانظر إلى العظام كيف نحييها ، ثم نكسوها لحمًا.
* ذكر من قال ذلك :
5950 - حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : " كيف نُنشِرها " قال : انظر إليها حين يحييها الله. (4) .
__________
(1) في المخطوطة : " وفيه نشور المرأة على وجهها " ، وهذا دليل على شدة إهماله .
(2) في المخطوطة : " نشر ونشره ونشاره " ، وهو خطأ كله ، والصواب ما أثبت .
(3) في المخطوطة : " فبرزها إلى أماكنها " ، وهو فاسد . وفي المطبوعة : " الجسم " ، ورددته إلى المخطوطة .
(4) في المخطوطة والمطبوعة : " نظر إليها " ، والصواب ما أثبت .

(5/476)


5951 - حدثنا المثنى قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله.
5952 - حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة مثله.
5953 - حدثنا يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : " وانظر إلى العظام كيف نُنشرُها " قال : كيف نحييها.
* * *
واحتج بعض قرَأة ذلك بالراء وضم نون أوله ، بقوله : ( ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ ) [ عبس : 22 ] ، فرأى أنّ من الصواب إلحاق قوله : " وانظر إلى العظام كيف ننشرها " به. (1) .
* * *
وقرأ ذلك بعضهم : " وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نَنْشُرُهَا " ، بفتح النون من أوله وبالراء. كأنّه وجّه ذلك إلى مثل معنى : نَشْرِ الشيء وطيِّه. (2) . وذلك قراءة غير محمودة ، لأن العرب لا تقول : نشر الموتى ، وإنما تقول : " أنشر الله الموتى " ، فنشروا هم " بمعنى : أحياهم فحيُوا هم. ويدل على ذلك قوله : ( ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ ) وقوله : ( أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الأرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ ) [ الأنبياء : 21 ] ؛ (3) .. وعلى أنه إذا أريد به حَيِي ، الميت وعاش بعد مماته ، قيل : " نَشَر " ، ومنه قول أعشى بني ثعلبة : (4) .
حَتَّى يَقُولَ النَّاسَ مِمَّا رَأَوْا : ... يَا عَجَبًا لِلْمَيِّتِ النَّاشِرِ (5)
__________
(1) هو ابن عباس ، فيما روى الفراء في معاني القرآن 1 : 173 .
(2) هو الحسن ، فيما روى الفراء في معاني القرآن 1 : 173 .
(3) سقت الآية بتمامها ، وفي المطبوعة والمخطوطة : " آلهة من الأرض هم ينشرون " .
(4) في المطبوعة والمخطوطة بإسقاط : " ومنه " ، وهو غير مستقيم .
(5) ديوانه : 105 ، وسيأتي في التفسير 19 : 14 / 25 : 32 / 30 : 36 (بولاق) وهو في أكثر الكتب ، وقد مضى بيتان منها في 1 : 474 ، تعليق : 2 /3 : 131 . وقبله يذكر صاحبته ، فأجاد وأبدع : عَهْدِي بِهَا فِي الحَيِّ قَدْ سُرْبِلَتْ ... هَيْفَاءَ مِثْلَ المُهْرَةِ الضَّامِرِ
قَدْ نَهَدَ الثَّدْيُ عَلَى نَحْرِهَا ... فِي مُشْرِقٍ ذِي صَبَحٍ نَاثِرِ
لَوْ أَسْنَدَتْ مَيْتًا إلَى نَحْرِهَا ... عَاشَ ، وَلَمْ يُنْقَلْ إِلى قَابِرِ
حتَّى يَقُولَ الناسُ . . . ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
الصبح (بفتحتين) بريق اللون والحلى والسلاح ، تراه مشربًا كالجمر يتلألأ . ونائر : نير . يقال : " نار الشيء فهو نير ونائر " و " أنار فهو منير " .

(5/477)


وروي سماعًا من العرب : " كان به جَرَبٌ فنَشَر " ، إذا عاد وَحَيِيَ. (1) .
* * *
قال أبو جعفر : والقول في ذلك عندي أنّ معنى " الإنشاز " ومعنى " الإنشار " متقاربان ، لأن معنى " الإنشاز " : التركيبُ والإثبات ورد العظام إلى العظام ، ومعنى " الإنشار " إعادة الحياة إلى العظام. (2) . وإعادتها لا شك أنه ردُّها إلى أماكنها ومواضعها من الجسد بعد مفارقتها إياها. فهما وإن اختلفا في اللفظ ، فمتقاربا المعنى. وقد جاءت بالقراءة بهما الأمة مجيئًا يقطعُ العذر ويوجب الحجة ، فبأيِّهما قرأ القارئ فمصيب ، لانقياد معنييهما ، (3) . ولا حجة توجب لإحداهما القضاءَ بالصواب على الأخرى. (4) .
* * *
__________
(1) انظر معاني القرآن للفراء 1 : 30 .
(2) في المخطوطة والمطبوعة : " ...ورد العظام من العظام ، وإعادتها لا شك ... " وهذا كلام لا يستقيم قط ، والنسخة في هذا الموضع محرفة أشد التحريف ، والناسخ كثير الإهمال والإسقاط كما سلف في التعليقات الماضية ، فلذلك اجتهدت في تصحيح هذا ، وما يليه حتى يستقيم معناه ولفظه .
(3) في المخطوطة : " لا نعماد ومعنها " ، والصواب ما في المطبوعة . وقوله : " لانقياد معنييهما " ، أي لاستقامة معنييهما واستوائهما وتساوقهما على نهج واحد لا يختلف ، كأن يقود أحدهما الآخر . وانظر ما مضى 4 : 105 تعليق : 1 ، في قوله : " قاد قوله " وتفسير قولهم : " هذا لا يستقيم على قود كلامك " .
(4) في المطبوعة : " لإحداهما من القضاء " بزيادة " من " ، وفي المخطوطة " لأحدهما من القضاء " بزيادة وخطأ ، والصواب ما أثبت .

(5/478)


فإن ظنّ ظانٌ أن " الإنشارَ " إذا كان إحياءً ، (1) . فهو بالصواب أولى ، لأن المأمور بالنظر إلى العظام وهي تنُشر إنما أمر به ليرى عيانًا ما أنكره بقوله : ( أنَّى يحيي هذه الله بعد موتها ) ؟ [ فقد أخطأ ]. (2) . فإن إحياء العظام لا شك في هذا الموضع ، إنما عنى به ردُّها إلى أماكنها من جسد المنظور إليه ، وهو يُحيى ، (3) . لإعادة الروح التي كانت فارقتها عند الممات. (4) . والذي يدل على ذلك قوله : ( ثم نكسوها لحمًا ). ولا شك أن الروح إنما نفخت في العظام التي أنشزت بعد أن كسيت اللحم. (5)
وإذ كان ذلك كذلك ، (6) . وكان معنى " الإنشاز " تركيب العظام وردها إلى أماكنها من الجسد ، وكان ذلك معنى " الإنشار " . (7) . وكان معلومًا استواء معنييهما ، وأنهما متفقا المعنى لا مختلفاه ، ففي ذلك إبانة عن صحة ما قلنا فيه.
* * *
وأما القراءة الثالثة ، فغير جائزةٍ القراءةُ بها عندي ، وهي قراءة من قرأ : " كَيْفَ نَنْشُرُهَا " بفتح النون وبالراء ، لشذوذها عن قراءة المسلمين ، وخروجها عن الصحيح الفصيح من كلام العرب.
* * *
__________
(1) في المخطوطة : " إذا كان حيا " خطأ صرف ، وفي المطبوعة : " إذا كان إحياء " ، وهو الصواب ، إلا أن حق الكلام في هذا الموضع " إذ " لا " إذا " .
(2) زدت ما بين القوسين ، لأنه مما يقتضيه السياق . ولا معنى لالتماس تصحيح هذه الجملة ، بتعليق قوله : فإن إحياء العظام... " جوابا لقوله : " فإن ظن ظان... " .
(3) يحيى " بالبناء للمجهول ، من " الإحياء " .
(4) في المطبوعة والمخطوطة : " لا إعادة الروح... " ، وهو خطأ بين ، بدل عليه سياق ما بعده . فإنه يعنى أن " إحياء العظام " مركب من أمرين : رد العظام إلى أماكنها ، وإعادة الروح إليها . وسترى ذلك في حجته بعد .
(5) في المطبوعة والمخطوطة : " العظام التي أنشرت " بالراء ، وهو خطأ ، والصواب بالزاى ، أى ركبت وردت إلى مواضعها .
(6) في المطبوعة والمخطوطة : " وإذا كان ذلك كذلك " ، والصواب " إذ " .
(7) قوله : " وكان ذلك معنى الإنشار " ، وكان معنى الإنشار أيضًا ، هو رد العظام إلى أما كنها من الجسد لإعادة الروح التي كانت فارقتها عند الممات ، كما سلف منذ قليل .

(5/479)


القول في تأويل قوله : { ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا }
قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بقوله : (1) .( ثم نكسوها ) أي العظام( لحمًا ) ، و " الهاء " التي في قوله : ( ثم نكسوها لحمًا ) من ذكر العظام.
* * *
ومعنى " نكسوها " : نُلبسها ونُواريها به كما يواري جسدَ الإنسان كسوتُه التي يلبَسُها. وكذلك تفعل العرب ، تجعل كل شيء غطَّى شيئًا وواراه ، لباسًا له وكُسوة ، (2) . ومنه قول النابغة الجعدي : (3) .
فَالْحَمْدُ للهِ إِذْ لَمْ يَأْتِنِي أَجَلِي... حَتَّى اكْتَسَيْتُ مِنَ الإسْلامِ سِرْبَالا (4)
فجعل الإسلام - إذ غطَّى الذي كان عليه فواراه وأذهبه - كُسوةً له وسِربالا.
* * *
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة : " بذلك " مكان " بقوله " ، وهو لا يستقيم .
(2) انظر ما سلف في معنى " لباس " و " كسوة " 3 : 489 - 492 / ثم هذا الجزء : 44 .
(3) وينسب هذا البيت إلى " لبيد بن ربيعة العامري " وإلى " قردة بن نفاثة السلولي " ، وقال ابن عبد البر في الاستيعاب : 228 : " وقد قال أكثر أهل الأخبار أن لبيدًا لم يقل شعرًا منذ أسلم .
وقال بعضهم : لم يقل في الإسلام إلا قوله : ... " وذكر البيت ، ثم قال : وقد قيل إن هذا البيت لقردة بن نفاثة السلولى ، وهو أصح عندي " . ثم عاد في ص 536 ، فذكر قردة بن نفائة السلولى فقال : " كان شاعرًا ، قدم على رسوله الله صلى الله عليه وسلم في من بني سلول ، فأمّره عليهم بعد أن أسلم وأسلموا ، فأنشأ يقول : بَانَ الشَّبَابُ فَلَمْ أَحْفِلْ بِهِ بَالاَ ... وَأَقْبَلَ الشَّيْبُ والإِسْلاَمُ إِقْبَالاَ
وَقَدْ أُرَوِّي نَدِيمِي مِنْ مُشَعْشَعَةٍ ... وَقَدْ أُقَلِّبُ أَوْرَاكًا وَأَ كْفَالاَ
الْحَمْدُ لله . . . . . . . . . . . ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وقد قيل إن البيت للبيد . قال أبو عبيدة : لم يقل لبيد في الإسلام غيره " . وذكر ذلك أبو الفرج في أغانيه 14 : 94 ، وغيره . وانظر معجم الشعراء : 338 ، 339 ، والشعر والشعراء : 232 والمعمرين 66 ، وديوان لبيد ، الزيادات : 56 . وغيرها كثير .
(4) انظر التعليق السالف ، وهذا البيت ثابت في قصيدة النابغة (في ديوانه : 86) ، في هجائه ابن الحيا ، والحيا أمه ، واسمه سوار بن أوفي القشيري - وكان هجا الجعدي وسب أخواله من الأزد ، وهم بأصبهان متجاورون ، فقال في ذلك قصيدته التي أولها : إِمَّا تَرَي ظُلَلَ الأَيَّامِ قَدْ حَسَرَتْ ... عنِّي ، وشَمَّرْتُ ذَيْلاً كَانَ ذَيَّالاَ
.

(5/480)


القول في تأويل قوله : { فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (259) }
قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بقوله : ( فلما تبيَّنَ له ) ، فلما اتضح له عيانًا ما كان مستنكرًا من قدرة الله وعظمته عنده قبل عيانه ذلك (1) .( قال : أعلم ) الآن بعد المعاينة والإيضاح والبيان (2) .( أن الله على كل شيء قدير ).
* * *
ثم اختلفت القرأة في قراءة قوله : ( قال أعلم أن الله ).
فقرأه بعضهم : " قَالَ اعْلَمْ " على معنى الأمر بوصل " الألف " من " اعلم " ، وجزم " الميم " منها. وهي قراءة عامة قرأة أهل الكوفة. ويذكرون أنها في قراءة عبد الله : " قِيلَ اعْلَمْ " على وجه الأمر من الله الذي أحيي بعد مماته ، (3) . فأمر بالنظر إلى ما يحييه الله بعد مماته. وكذلك روي عن ابن عباس.
5954 - حدثني أحمد بن يوسف التغلبي ، قال : حدثنا القاسم بن سلام ، قال : حدثني حجاج ، عن هارون ، قال : هي في قراءة عبد الله : " قِيلَ اعْلَمْ أَنَّ اللهَ " على وجه الأمر. (4) .
__________
(1) انظر معنى " بين " فيما سلف في فهارس اللغة من الأجزاء السالفة .
(2) في المطبوعة : " بعد المعاينة والاتضاح به والبيان " وهو فاسد مريض ، والصواب من المخطوطة .
(3) في المطبوعة : " للذي أحيى " وما في المخطوطة عين الصواب .
(4) الأثر : 5954 - " أحمد بن يوسف التغلبي " ، الأحوال ، صاحب أبي عبيد القاسم بن سلام ، مشهور بذلك . روى عن سليمان بن حرب ، ومسلم بن إبراهيم ، ورويم بن زيد ، وأبي عبيد القاسم ابن سلام وغيرهم . روى عنه أبو عبد الله نفطويه النحوي ، ومحمد بن مخلد ، وأبو عمرو بن السماك ، ومكرم بن أحمد ، وغيرهم . قال عبد الله بن أحمد : " ثفة " ، مات سنة 272 ، وصحبته لأبي عبيد القاسم ابن سلام ترجم عندي أنه المعنى في الأثر السالف رقم : 5919 ، وانظر التعليق عليه . وفي المطبوعة والمخطوطة : " الثعلبي " . وهو خطأ .

(5/481)


5955 - حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن ابن طاوس ، عن أبيه أحسبه ، شكَّ أبو جعفر الطبري ، سمعت ابن عباس يقرأ : " فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ اعْلَمْ " قال : إنما قيل ذلك له.
5956 - حدثت عن عمار ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع ، قال : ذكر لنا ، والله أعلم ، أنه قيل له " انظر " ! فجعل ينظر إلى العظام كيف يتواصَلُ بعضها إلى بعض ، وذلك بعينيه ، فقيل : " اعلم أن الله على كل شيء قدير " .
* * *
قال أبو جعفر : فعلى هذا القول تأويل ذلك : فلما تبيَّن من أمر الله وقدرته ، قال الله له : اعلم الآن أن الله على كل شيء قدير. ولو صَرف متأوِّلٌ قوله : " قال اعلم " - وقد قرأه على وجه الأمر - إلى أنه من قِبَل المخبَرِ عنه بما اقتصّ في هذه الآية من قصته كان وجهًا صحيحًا ، وكان ذلك كما يقول القائل : " اعلم أن قد كان كذا وكذا " ، على وجه الأمر منه لغيره وهو يعني به نفسه.
* * *
وقرأ ذلك آخرون : ( قَالَ أَعْلَمُ ) ، على وجه الخبر عن نفسه للمتكلم به ، بهمز ألف " أعلم " وقطعها ، ورفع الميم ، بمعنى : فلما تبين له من قدرة الله وعظيم سلطانه بمعاينته ما عاينه ، قال المتبيِّن ذلك : (1) .
أعلم الآن أنا أنّ الله على كل شيء قدير.
وبذلك قرأ عامة قرأة أهل المدينة ، (2) . وبعض قرأة أهل العراق. وبذلك من
__________
(1) في المخطوطة : " قال أليس ذلك أعلم الآن ... " ، وهو كلام يرتكس في الفساد ارتكاسًا .
وفي المخطوطة : " المسن " غير منقوطة ، وهي الصواب عين الصواب .
(2) سقط من الناسخ " قرأة " في هذا الموضع والذي يليه ، وكتبها في الهامش مرة واحدة ، لم يكررها ، ولذلك أثبتها الطابع في موضع واحد ، هو الأخير منهما .

(5/482)


التأويل تأوَّله جماعة من أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
5957 - حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عمن لا يتهم ، عن وهب بن منبه ، قال : لما عاين من قدرة الله ما عاينَ ، قال : ( أعلم أن الله على كل شيء قدير ).
5958 - حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا عبد الصمد بن معقل أنه سمع وهب بن منبه يقول : ( فلما تبين له قال أعلم أنّ الله على كل شيء قدير ).
5959 - حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قال : بعين نبيّ الله صلى الله عليه وسلم (1) . ، يعني إنشازَ العظام فقال : ( أعلم أن الله على كل شيء قدير ).
5960 - حدثني موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي ، قال : قال عزير عند ذلك - يعني عند معاينة إحياء الله حماره - ( أعلم أنّ الله على كل شيء قدير ).
5961 - حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا أبو زهير ، عن جويبر ، عن الضحاك ، قال : جعل ينظر إلى كل شيء منه يوصلُ بعضه إلى بعض ، ( فلما تبين له قال أعلم أنّ الله على كل شيء قدير ).
5962 - حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، نحوه.
* * *
وأولى القراءتين بالصواب في ذلك قراءة من قرأ : " اعْلَمْ " بوصل
__________
(1) في المطبوعة : " يعنى نبي الله عليه السلام " ، وفي المخطوطة مضطربة وغير منقوطة ، فمن أجل ذلك لم يحسن قراءتها . أي : أن إنشاز العظام كان بعين النبي ، يراه عيانا ، وقد مضى مثل ذلك آنفًا في رقم : 5942 .

(5/483)


" الألف " وجزم " الميم " على وجه الأمر من الله تعالى ذكره للذي قد أحياه بعد مماته ، بالأمر بأن يعلم أن الله الذي أراه بعينيه ما أراه من عظيم قدرته وسلطانه ، من إحيائه إياه وحمارَه بعد موت مائة عام وبَلائه ، حتى عادَا كهيئتهما يوم قبض أرواحهما ، وحفظِه عليه طعامه وشرابه مائة عام حتى ردَّه عليه كهيئته يوم وضعه غير متغير (1) . على كل شيء قادرٌ كذلك. (2)
وإنما اخترنا قراءة ذلك كذلك وحكمنا له بالصواب دون غيره; لأن ما قبله من الكلام أمرٌ من الله تعالى ذكره : قولا للذي أحياه الله بعد مماته ، وخطابًا له به ، وذلك قوله : ( فانظر إلى طعامك وشرَابك لم يتسنَّه وانظر إلى حمارك ... وانظر إلى العظام كيف ننشزها ) ، فلما تبين له ذلك جوابًا عن مسألته ربَّه : ( أنى يحيي هذه الله بعد موتها )! قال الله له : " اعلم أن الله " الذي فعل هذه الأشياء على ما رأيت على غير ذلك من الأشياء قديرٌ كقدرته على ما رأيت وأمثاله ، (3) . كما قال تعالى ذكره لخليله إبراهيم صلى الله عليه وسلم بعد أن أجابه عن مسألته إياه في قوله : ( رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى ) ( وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ) (4) . فأمر إبراهيم بأن يعلم ، بعد أن أراه كيفية إحيائه الموتى ، أنه عزيز حكيم. فكذلك أمر الذي سأل فقال : ( أنّى يحيي هذه الله بعد موتها ) ؟ بعد أن أراه كيفية إحيائه إياها أن يعلم أنّ الله على كل شيء قدير. (5) .
* * *
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة : " وحفظ عليه طعامه... " ، وهو اختلال في الكلام ، والصواب ما أثبت . وقوله : " وحفظه " مجرور معوطف على قوله : " من إحيائه إياه وحماره... " .
(2) قوله : " على كل شيء قادر كذلك " متعلق بقوله : بأن يعلم أن الله... على كل شيء قادر " ، وما بينهما صفة لله تعالى ، فصلت بين اسم " إن " وخبرها .
(3) سياق هذه الجملة كالسالفة في التعليق السالف : " أعلم أن الله...على غير ذلك من الأشياء قدير " .
(4) هي الآية التالية من " سورة البقرة " .
(5) في المخطوطة والمطبوعة : " وكذلك أمر الذي سأل ... " بالواو ، والصواب بالفاء .
هذا وانظر ما قاله الفراء في معاني القرآن 1 : 173 - 174 .

(5/484)


وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (260)

القول في تأويل قوله : { وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي }
قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بذلك : ألم تر إذ قال إبراهيم : ربِّ أرني. وإنما صلح أن يعطف بقوله : ( وإذ قال إبراهيم ) على قوله : ( أو كالذي مرّ على قرية ) ، وقوله : ( ألم تر إلى الذي حاجّ إبراهيم في ربه ) لأن قوله : ( ألم تر ) ليس معناه : ألم تر بعينيك ، وإنما معناه : ألم تر بقلبك ، فمعناه : ألم تعلم فتذكر ، (1) . فهو وإن كان لفظه لفظ " الرؤية " فيعطف عليه أحيانًا بما يوافق لفظه من الكلام ، وأحيانًا بما يوافق معناه.
* * *
واختلف أهل التأويل في سبب مسألة إبراهيم ربَّه أن يريه كيف يحيي الموتى. فقال بعضهم : كانت مسألته ذلك ربَّه ، أنه رأى دابة قد تقسَّمتها السباعُ والطيرُ ، فسأل ربه أن يريه كيفية إحيائه إياها ، مع تفرق لحومها في بطون طير الهواء وسباع الأرض ليرى ذلك عيانًا ، فيزداد يقينًا برؤيته ذلك عيانًا إلى علمه به خبرًا ، فأراه الله ذلك مثلا بما أخبر أنه أمره به.
* ذكر من قال ذلك :
5963 - حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد بن زريع ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : ( وإذ قال إبراهيم رب أرني كيف تحيي الموتى ) ذكر لنا أنّ خليل الله إبراهيم صلى الله عليه وسلم أتى على دابة توزعتها الدوابّ والسباع ، فقال : ( رب أرني كيف تحيي الموتى قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي ).
5964 - حدثنا عن الحسن ، قال : سمعت أبا معاذ ، قال : أخبرنا عبيد ،
__________
(1) انظر معنى " الرؤية " فيما سلف من هذا الجزء 5 : 429 ، والتعليق عليه رقم : 2 .

(5/485)


قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : ( رب أرني كيف تحيي الموتى ) قال : مر إبراهيم على دابة ميت قد بَلي وتقسَّمته الرياح والسباعُ ، فقام ينظر ، فقال : (1) . سبحان الله! كيف يحيي الله هذا ؟ وقد علم أن الله قادرٌ على ذلك : فذلك قوله : ( رب أرني كيف تحيي الموتى ).
5965 - حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج ، قال : قال ابن جريج : بلغني أن إبراهيم بينا هو يسير على الطريق ، إذا هو بجيفة حمار عليها السباع والطير قد تمزَّعت لحمها ، (2) . وبقي عظامها. فلما ذهبت السِّباع ، وطارت الطير على الجبال والآكام ، فوقف وتعجب ، (3) . ثم قال : ربّ قد علمتُ لتجمعنَّها من بطون هذه السباع والطير! ربّ أرني كيف تحيي الموتى! قال : أولم تؤمن ، قال : بلى! ولكن ليس الخبر كالمعاينة.
5966 - حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد : مر إبراهيم بحوت نصفه في البرّ ، ونصفه في البحر ، فما كان منه في البحر فدواب البحر تأكله ، وما كان منه في البرِّ فالسباع ودواب البر تأكله ، فقال له الخبيث : (4) . يا إبراهيم ، متى يجمع الله هذا من بطون هؤلاء ؟ فقال : يا رب ، أرني كيف تحيي الموتى! قال : أولم تؤمن ؟ قال : بلى! ولكن ليطمئن قلبي!
* * *
وقال آخرون : بل كان سبب مسألته ربَّه ذلك ، المناظرةُ والمحاجَّة التي جرت بينه وبين نمرود في ذلك.
* ذكر من قال ذلك :
__________
(1) في المخطوطة : " فقدم ينظر " ، والصواب ما في المطبوعة .
(2) تمزع القوم الشيء : تقاسموا وفرقوه بينهم ، . من التمزيع : وهو التقطيع والتفريق .
(3) في المخطوطة والمطبوعة : " فوقف " بالفاء ، والأجود حذفها .
(4) الخبيث ، يعنى إبليس لعنه الله .

(5/486)


5967 - حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، قال : حدثني محمد بن إسحاق ، قال : لما جرى بين إبراهيم وبين قومه ما جرى مما قصَّه الله في " سورة الأنبياء " ، قال نمروذ ، فيما يذكرون ، لإبراهيم : أرأيت إلهك هذا الذي تعبد وتدعو إلى عبادته ، وتذكُر من قدرته التي تعظِّمه بها على غيره ، ما هو ؟ قال له إبراهيم : ربي الذي يحيي ويميت ! قال نمروذ : أنا أحيي وأميت ! فقال له إبراهيم : كيف تحيي وتميت ؟ ثم ذكر ما قصّ الله من محاجته إياه قال : فقال إبراهيم عند ذلك : رب أرني كيف تحيي الموتى ، قال : أولم تؤمن ؟ قال : بلى ولكن ليطمئن قلبي من غير شكّ في الله تعالى ذكره ولا في قدرته ، ولكنه أحبَّ أن يعلم ذلك وتاق إليه قلبه فقال : " ليطمئن قلبي " ، أي : ما تاق إليه إذا هو علمه.
* * *
قال أبو جعفر : وهذان القولان - أعني الأول وهذا الآخر - متقاربا المعنى في أن مسألة إبراهيم ربه أن يريه كيف يحيي الموتى ، كانت ليرى عيانًا ما كان عنده من علم ذلك خبرًا.
* * *
وقال آخرون : بل كانت مسألته ذلك ربَّه عند البشارة التي أتته من الله بأنه اتخذه خليلا فسأل ربه أن يريه عاجلا من العلامة له على ذلك ، ليطمئن قلبه بأنه قد اصطفاه لنفسه خليلا ويكون ذلك لما عنده من اليقين مؤيِّدًا.
* ذكر من قال ذلك :
5968 - حدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي ، قال : لما اتخذ الله إبراهيم خليلا سأل ملك الموت ربَّه أن يأذن له أن يبشر إبراهيم بذلك ، فأذن له ، فأتى إبراهيم وليس في البيت ، فدخل داره وكان إبراهيم أغيرَ الناس ، إن خرج أغلق الباب فلما جاء ووجد في داره رجلا

(5/487)


ثار إليه ليأخذه ، (1) . قال : من أذن لك أن تدخل داري ؟ قال ملك الموت : أذن لي رب هذه الدار ، قال إبراهيم : صدقت ! وعرف أنه ملك الموت. قال : من أنت ؟ قال : أنا ملك الموت جئتك أبشِّرك بأن الله قد اتخذك خليلا! فحمد الله وقال : يا ملك الموت ، أرني الصورة التي تقبض فيها أنفاسَ الكفار. قال : يا إبراهيم لا تطيق ذلك. قال : بلى. قال : فأعرِضْ! فأعرضَ إبراهيم ثم نظر إليه ، فإذا هو برجل أسود تنال رأسه السماء يخرج من فيه لهب النار ، ليس من شعرة في جسده إلا في صورة رجل أسود يخرج من فيه ومسامعه لهبُ النار. فغشي على إبراهيم ، ثم أفاقَ وقد تحول ملك الموت في الصورة الأولى ، فقال : يا ملك الموت ، لو لم يلقَ الكافر عند الموت من البلاء والحزن إلا صورتَك لكفاه ، فأرني كيف تقبض أنفاس المؤمنين ؟ قال : فأعرض! فأعرض إبراهيم ، ثم التفت ، فإذا هو برجل شابّ أحسنِ الناس وجهًا وأطيبه ريحًا ، (2) . في ثياب بيض ، فقال : يا ملك الموت ، لو لم يكن للمؤمن عند ربّه من قرَّة العين والكرامة إلا صورتك هذه ، لكان يكفيه.
فانطلق ملك الموت ، وقام إبراهيم يدعو ربه يقول : رب أرني كيف تحيي الموتى حتى أعلم أني خليلك!قال : أولم تؤمن بأني خليلك ؟ يقول : تصدق قال : بلى! ولكن ليطمئن قلبي بِخُلولتك. (3) .
__________
(1) في المطبوعة : " فلما جاء وجد في داره رجلا ، فثار إليه ليأخذه قال " ، وأثبت ما في المخطوطة .
(2) من العربي المعرق ، عود الضمير على الجمع مذكرًا مفردًا ، كما جاء في الخبر ، وكما جاء في خبر عمار بن ياسر (ابن سعد 3 /1 /183) : " كان عمار بن ياسر من أطول الناس سكوتًا وأقله كلامًا " وكما في الحديث : " خبر النساء صوالح قريش ، أحناه على ولد في صغره ، وأرعاه على زوج في ذات يده " ، وكقول ذي الرمة . وَمَيَّةُ أَحْسَنُ الثَّقَلَيْنِ جِيدًا ... وَسَالِفَةً ، وَأَحْسَنُهُ قَذَالاَ
.
(3) الخلة (بضم وفتح اللام المشددة) والخلالة (بفتح الخاء وكسرها) والخلولة والخلالة (بضم الخاء) : الصداقة .

(5/488)


5969 - حدثنا أحمد بن إسحاق ، قال : حدثنا أبو أحمد الزبيري ، قال : حدثنا عمرو بن ثابت ، عن أبيه ، عن سعيد بن جبير : ( ولكن ليطمئن قلبي ) قال : بالخُلَّة. (1) .
* * *
وقال آخرون : قال ذلك لربه لأنه شك في قدرة الله على إحياء الموتى.
* ذكر من قال ذلك :
5970 - حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن أيوب في قوله : ( ولكن ليطمئن قلبي ) قال : قال ابن عباس : ما في القرآن آية أرْجَى عندي منها. (2) .
5971 - حدثنا محمد بن المثنى ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، قال : سمعت زيد بن علي يحدث عن رجل ، عن سعيد بن المسيب ، قال : اتَّعد عبد الله بن عباس وعبد الله بن عمرو أن يجتمعا. قال : ونحن يومئذ شَبَبَة ، فقال أحدهما لصاحبه : أي آية في كتاب الله أرجى لهذه الأمة ؟ فقال عبد الله بن عمرو : ( قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ ) (3) . [ الزمر : 53 ] حتى ختم الآية. فقال ابن عباس : أمَّا إن كنت تقول : إنها ، وإن أرجى منها لهذه
__________
(1) الأثر : 5969 - " عمرو بن ثابت بن هرمز البكري " ويقال له : عمرو بن أبي المقدام روى عن أبيه ، وأبي إسحاق السبيعي ، والأعمش وغيرهم ، روى عنه أبو داود الطيالسي ، وسهل بن حماد ، ويحيى بن آدم وغيرهم . قال ابن المبارك : " لا تحدثوا عن عمرو بن ثابت ، فإنه كان يسب السلف " ، وضعفه أبو زرعة وابن معين والبخاري . وقال أبو داود في السنن : " رافضي خبيث وكان رجل سوء " . مات سنة 172 ، مترجم في التهذيب . وأبو : ثابت بن هرمز أبو المقدام .
روى عن سعيد بن المسيب وسعيد بن جبير وغيرها . وروى عنه ابنه والثوري وشعبة وغيرهم . كان شيخًا عاليًا صاحب سنة . مترجم في التهذيب .
(2) الأثر : 5970 - أخرجه السيوطي في الدر المنثور 1 : 335 ونسبه لعبد الرزاق وابن جرير . وقوله : " أرجي " أفعل تفضيل من " الرجاء " ، وهو الأمل نقيض اليأس .
(3) زدت في أول الآية : " قل " على سنن القراءة .

(5/489)


الأمة قول إبراهيم صلى الله عليه وسلم : ( رب أرني كيف تحيي الموتى قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي ). (1) .
5972 - حدثنا القاسم ، قال : حدثني الحسين ، قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : سألت عطاء بن أبي رباح ، عن قوله : ( وإذ قال إبراهيم رب أرني كلف تحيي الموتى قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي ) قال : دخل قلبَ إبراهيم بعضُ ما يدخل قلوبَ الناس ، فقال : ( رب أرني كيف تحيي الموتى قال أولم تؤمن قال بلى ) ، قال : ( فخذ أربعةً من الطير) ، ليريه.
5973 - حدثني زكريا بن يحيى بن أبان المصري ، قالا حدثنا سعيد بن تليد ، قال : حدثنا عبد الرحمن بن القاسم ، قال : حدثني بكر بن مضر ، عن عمرو بن الحارث ، عن يونس بن يزيد ، عن ابن شهاب ، قال : أخبرني أبو سلمة بن عبد الرحمن وسعيد بن المسيب ، عن أبي هريرة : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " نحنُ أحق بالشك من إبراهيم ، قال : رب أرني كيف تحيي الموتى ، قال أولم تؤمن ؟ قال بلى ولكن ليطمئن قلبي " . (2) .
__________
(1) الأثر : 5971 - خرجه السيوطي في الدر المنثور 1 : 335 ، ونسبه لعبد بن حميد ، وابن المنذر وابن جرير ، والحاكم قال : " وصححه " . وهو في المستدرك بغير هذا اللفظ 1 : 60 من طريق " بشر بن حجر السامي ، حدثنا عبد العزيز بن أبي سلمة ، عن محمد بن المنكدر قال : التقى ابن عباس وابن عمرو ، فقال له ابن عباس... " ثم قال : " صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه " ، وتعقبه الذهبي فقال : " فيه انقطاع " . وكأن علة انقطاعه أن عبد العزيز بن أبي سلمة لم يدرك محمد بن المنكدر ، فإنه مات سنة 130 .
هذا : ومعنى قوله : " أما إن كنت تقول إنها " ، فإن في الجملة حذوفًا جارية على لغة العرب في الاجتزاء ، ومعناه : " أما إن كنت تقول ذلك ، إنها لمن أرجى الآيات ، وأرجى منها قول إبراهيم .
وحذف خبر " إن " كثير في العربية ، من ذلك ما جاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم : " أن المهاجرين قالوا : يا رسول الله ، إن الأنصار قد فضلونا ، إنهما آوونا ، وفعلوا بنا وفعلوا ، فقال : ألستم تعرفون ذلك لهم ؟ قالوا : بلى ! قال : فإن ذلك " . فقوله " فإن ذلك " ، معناه : فإن ذلك مكافأة منكم لهم ، أي معرفتكم بصنيعهم وإحسانهم ، مكافأة لهم . قال أبو عبيد : " وهذا اختصار من كلام العرب ، يكتفي منه بالضمير ، لأنه قد علم ما أراد به قائله " ، انظر أمالي ابن الشجري 1 : 322 ، وغيره .
(2) الأثر : 5973 - " زكريا بن يحيى بن أبان المصري " ، لم أجد له ترجمة فيما بين يدي من الكتب . و " سعيد بن تليد " ، هو : " سعيد بن عيسى بن تليد الرعيني " نسب إلى جده . روى عنه البخاري وروى له النسائي بواسطة عبد الرحمن بن عبد الله بن الحكم المصري . كان ثقة ثبتا في الحديث .
وعبد الرحمن بن القاسم بن خالد العتقي المصري " . روى عن مالك الحديث والمسائل ، وعن بكر بن مضر ، ونافع بن أبي نعيم القاري . قال ابن يونس : " ذكر أحمد بن شعيب النسوي ونحن عنده ، عبد الرحمن بن القاسم ، فأحسن الثناء عليه وأطنب " وذكره ابن حبان في الثقات وقال : " كان خيرًا فاضلًا ممن تفقه على مالك ، وفرع على أصوله ، وذب عنها ، ونصر من انتحلها " . مترجم في التهذيب . و " عمرو ابن الحارث بن يعقوب الأنصاري المصري " . روى عن أبيه وسالم بن أبي النضر ، والزهري ويحيى بن سعيد الأنصاري ، وعبد الرحمن بن القاسم ، ويونس بن يزيد الأيلى وهو من أقرانه . روى عنه مجاهد ابن جبر وصالح بن كيسان ، وهما أكبر منه ، وقتادة وبكير بن الأشج ، وهما من شيوخه ، ورشدين ابن سعد ، وبكر بن مضر وغيرهم . وهو ثقة . قال أبو حاتم : " كان أحفظ أهل زمانه ، ولم يكن له نظير في الحفظ " وقال سعيد بن عفير : " كان أخطب الناس وأرواهم " . مترجم في التهذيب . وانظر بقية تخريجه في الأثر التالي .

(5/490)


5974 - حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرني يونس عن ابن شهاب وسعيد بن المسيب ، عن أبي هريرة ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : فذكر نحوه. (1) .
* * *
قال أبو جعفر : وأولى هذه الأقوال بتأويل الآية ، ما صحَّ به الخبر عن رسول الله صلى أنه قال ، وهو قوله : " نحن أحق بالشك من إبراهيم ، قال : رب أرني كيف تحيي الموتى ؟ قال أولم تؤمن ؟ " وأن تكون مسألته ربَّه ما سأله أن يُريه من إحياء الموتى لعارض من الشيطان عرضَ في قلبه ، كالذي ذكرنا عن ابن زيد آنفًا : (2) . من أن إبراهيم لما رأى الحوت الذي بعضه في البر وبعضه في البحر ، قد تعاوره دواب البر ودواب البحر وطير الهواء ، ألقى الشيطان في نفسه فقال : متى يجمع الله هذا من بطون هؤلاء ؟ فسأل إبراهيم حينئذ ربه أن يريه كيف يحيي الموتى ، ليعاين ذلك عيانًا ، فلا يقدر بعد ذلك الشيطان أن يلقي في قلبه مثل الذي ألقي
__________
(1) الأثر : 5974 - هذا الحديث رواه البخاري في صحيحه ، قال : " حدثنا أحمد بن صالح ، حدثني ابن وهب " كمثل إسناد الطبري . وبمثل لفظه في الإسناد السابق . انظر الفتح 8 : 150 ، 151 ، واستوفى الكلام فيه الحافظ في الفتح أيضًا في شرح " كتاب أحاديث الأنبياء " ، من البخاري (الفتح 6 : 293 ، 294) ، وأشار إلى إسناد ابن جرير السالف . وانظر كلام الحافظ في إسناده .
(2) يعنى الأثر رقم : 5966 ، والذي قاله الطبري من تمام الأثر فيما أرجح .

(5/491)


فيه عند رؤيته ما رأى من ذلك. فقال له ربه : ( أولم تؤمن ) ؟ يقول : أولم تصدق يا إبراهيم بأني على ذلك قادر ؟ قال : بلى يا رب! لكن سألتك أن تريني ذلك ليطمئن قلبي ، فلا يقدر الشيطان أن يلقي في قلبي مثل الذي فعل عند رُؤيتي هذا الحوت.
5975 - حدثني بذلك يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، عن ابن زيد. (1) .
* * *
ومعنى قوله : ( ليطمئن قلبي ) ليسكن ويهدأ باليقين الذي يستيقنه.
* * *
وهذا التأويل الذي. قلناه في ذلك هو تأويل الذين وجَّهوا معنى قوله : ( ليطمئن قلبي ) إلى أنه : ليزداد إيمانًا أو إلى أنه : ليوقن. (2) .
* ذكر من قال ذلك : ليوقن أو ليزداد يقينًا أو إيمانًا. (3) .
5976 - حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا أبو نعيم ، عن سفيان ، عن قيس بن مسلم ، عن سعيد بن جبير : ( ليطمئن قلبي ) قال : ليوقن. (4) .
5977 - حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان. وحدثنا أحمد بن إسحاق ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا سفيان ، عن أبي الهيثم ، عن سعيد بن جبير : ( ليطمئن قلبي ) قال : ليزداد يقيني.
5978 - حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا أبو زهير ، عن جويبر ، عن الضحاك : ( ولكن ليطمئن قلبي ) يقول : ليزداد يقينًا.
5979 - حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : ( ولكن ليطمئن قلبي ) قال : وأراد نبي الله إبراهيم ليزداد يقينًا إلى يقينه.
5980 - حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : قال معمر وقال قتادة : ليزداد يقينًا.
__________
(1) الأثر : 5975 - هو من تمام الأثر الذي أشرت إليه رقم : 5966 .
(2) في المخطوطة والمطبوعة : " ليوفق " ، في هذه المواضع الثلاثة ، وهو خطأ لا معنى له ، وصوابها ما أثبت ، من تفسير القرطبي 3 : 300 .
(3) في المخطوطة والمطبوعة : " ليوفق " ، في هذه المواضع الثلاثة ، وهو خطأ لا معنى له ، وصوابها ما أثبت ، من تفسير القرطبي 3 : 300 .
(4) في المخطوطة والمطبوعة : " ليوفق " ، في هذه المواضع الثلاثة ، وهو خطأ لا معنى له ، وصوابها ما أثبت ، من تفسير القرطبي 3 : 300 .

(5/492)


5981 - حدثنا عن عمار ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : ( ولكن ليطمئن قلبي ) قال : أراد إبراهيم أن يزداد يقينًا.
5982 - حدثني المثنى ، قال : حدثنا محمد بن كثير البصري ، قال : حدثنا إسرائيل ، قال : حدثنا أبو الهيثم ، عن سعيد بن جبير : ( ليطمئن قلبي ) قال : ليزداد يقيني.
5983 - حدثني المثنى ، قال : حدثنا الفضل بن دكين ، قال : حدثنا سفيان ، عن أبي الهيثم ، عن سعيد بن جبير : ( ولكن ليطمئن قلبي ) قال : ليزداد يقينًا.
5984 - حدثنا صالح بن مسمار ، قال : حدثنا زيد بن الحباب ، قال : حدثنا خلف بن خليفة ، قال : حدثنا ليث بن أبي سليم ، عن مجاهد وإبراهيم في قوله : ( ليطمئن قلبي ) قال : لأزداد إيمانًا مع إيماني.
5985 - حدثنا صالح ، قال : حدثنا زيد ، قال : أخبرنا زياد ، عن عبد الله العامري ، قال : حدثنا ليث ، عن أبي الهيثم ، عن سعيد بن جبير في قول الله : ( ليطمئن قلبي ) قال : لأزداد إيمانًا مع إيماني.
* * *
وقد ذكرنا فيما مضى قولَ من قال : معنى قوله : ( ليطمئن قلبي ) بأني خليلك. (1) .
* * *
وقال آخرون : معنى قوله : ( ليطمئن قلبي ) لأعلم أنك تجيبني إذا دعوتك ، وتعطيني إذا سألتك.
* ذكر من قال ذلك :
__________
(1) الأثران رقم : 5968 ، 5969 .

(5/493)


5986 - حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : حدثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس قوله : ( ليطمئن قلبي ) قال : أعلم أنك تجيبني إذا دعوتك ، وتعطيني إذا سألتك.
* * *
وأما تأويل قوله : ( قال أولم تؤمن ) ، فإنه : أولم تصدق ؟ (1) . كما : -
5987 - حدثني موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي.
5988 - وحدثنا أحمد بن إسحاق ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا سفيان ، عن قيس بن مسلم ، عن سعيد بن جبير قوله : ( أولم تؤمن ) قال : أولم توقن بأني خليلك ؟
5989 - حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : ( أولم تؤمن ) قال : أولم توقن.
* * *
القول في تأويل قوله : { قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ }
قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بذلك : قال الله له : ( فخذ أربعة من الطير ) ، فذكر أن الأربعة من الطير : الديكُ ، والطاوُوس ، والغرابُ ، والحمام.
* ذكر من قال ذلك :
5990 - حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، قال : حدثني محمد بن إسحاق ، عن بعض أهل العلم : أن أهل الكتاب الأول يذكرون أنه أخذ طاووسا ، وديكًا ، وغرابًا ، وحمامًا.
5991 - حدثنا المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن
__________
(1) انظر فهارس اللغة فيما سلف " الإيمان " بمعنى التصديق .

(5/494)


ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قال : الأربعة من الطير : الديك ، والطاووس ، والغراب ، والحمام.
5992 - حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج : ( قال فخذ أربعة من الطير ) قال ابن جريج : زعموا أنه ديك ، وغراب ، وطاووس ، وحمامة.
5993 - حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد : ( قال فخذ أربعة من الطير ) قال : فأخذ طاووسًا ، وحمامًا ، وغرابًا ، وديكًا; مخالِفةٌ أجناسُها وألوانُها.
* * *
القول في تأويل قوله : { فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ }
قال أبو جعفر : اختلفت القرأة في قراءة ذلك ، فقرأته عامة قرأة أهل المدينة والحجاز والبصرة : ( فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ) بضم الصاد من قول القائل : " صُرْت إلى هذا الأمر " (1) . إذا ملت إليه " أصُورُ صَوَرًا " ، ويقال : " إني إليكم لأصْوَر " أي : مشتاق مائل ، ومنه قول الشاعر : (2) .
اللهُ يَعْلَمُ أنَّا فِي تَلَفُّتِنَا... يَوْمَ الفِرَاقِ إلَى أَحْبَابِنَا صُورُ (3)
وهو جمع " أصْور ، وصَوْراء ، وصُور ، مثل أسود وسوداء " ومنه قول الطرماح :
__________
(1) في المخطوطة والمطبوعة : " صرت هذا الأمر " بإسقاط " إلى " ، والصواب ما أثبت .
(2) غير معروف قائله ، وأنشده الفراء .
(3) اللسان (صور) والخزانة 1 : 58 ، وشرح شواهد المغني : 266 وغيرها كثير ، وكان في المطبوعة هنا : " إلى أحبابنا " ، وأثبت ما في المخطوطة . وبعد البيت بيت من الشواهد المستفيضة : وَأَنَّنِي حَوْثُمَا يَثْنِي الهَوَى بَصَرِي ... مِنْ حَوْثُمَا سَلَكُوا أَدْنُو فَأَنْظُورُ
.

(5/495)


عَفَائِفُ إِلا ذَاكَ أَوْ أَنْ يَصُورَهَا... هَوًى ، والْهَوَى للعَاشِقِينَ صَرُوعُ (1)
يعني بقوله : " أو أن يصورها هوى " ، يميلها.
* * *
فمعنى قوله : ( فصُرْهن إليك ) اضممهن إليك ووجِّههن نحوك ، كما يقال : " صُرْ وجهك إليّ " ، أي أقبل به إليّ. ومن وَجَّه قوله : ( فصرهن إليك ) إلى هذا التأويل ، كان في الكلام عنده متروك قد ترك ذكرُه استغناءً بدلالة الظاهر عليه. ويكون معناه حينئذ عنده : قال : ( فخذ أربعةً من الطير فصرهن إليك ) ، ثم قطعهن ، ( ثم اجعل على كل جبل منهن جزءًا ).
* * *
وقد يحتمل أن يكون معنى ذلك إذا قرئ كذلك بضم " الصاد " : قطِّعهن ، كما قال توبة بن الحميِّر :
فَلَمَّا جَذَبْتُ الحَبْلَ أَطَّتْ نُسُوعُهُ... بِأَطْرَافِ عِيدَانٍ شَدِيدٍ أُسُورُهَا...
__________
(1) ديوانه : 152 ، وهو من أبيات جياد ، قبله : إِذَا ذُكِرَتْ سَلْمَى لَهُ ، فَكَأَنَّمَا ... تَغَلْغَلَ طِفْلٌ فِي الفُؤَادِ وَجِيعُ
وَإِذْ دَهْرُنَا فِيهِ اغْتِرَارٌ ، وَطَيْرُنَا ... سَوَاكِنٌ فِي أَوْكَارِهِنَّ وُقُوعُ
قَضَتْ مِنْ عِيَافٍ وَالطَّرِيدَةِ حَاجَةً ... فَهُنَّ إلى لَهْوِ الحَدِيثِ خُضُوعُ
عَفَائِفُ إلاّ ذَاكَ . . . . . . ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
فَآلَيْتُ أَلْحَى عَاشِقًا مَا سَرَى القَطَا ... وَأَجْدَرَ من وادِي نَطَاةَ وَلِيعُ
قوله : " طفل " ، أي من هم الهوى والحب ، ينمو منذ كانوا أطفالا . وعياف ، والطريدة ، لعبتان من لعب صبيان الأعراب ، فيقول : إن سلمى وأترابها ، قد أدركن وكبرن ، فترفعن عن لعب الصغار والأحداث ، وحبب إليهن الحديث والغزل . فهن يخضعن له ويملن ، ولكنهن عفيفات مسلمات ، ليس لهن من نزوات الصبا إلا الأحاديث والغزل ، وإلا أن يعطف قلوبهن الهوى والعشق ، والهوى صروع قتال ، يصرع من يلم به . فلما رأى ذلك منهز ومن نفسه ، أقسم أن لا يلوم محبًّا على فرط عشقه . وقوله : " أجدر " أي أخرج الشجر ثمره كالحمص . والوليع : طلع النخل . ووادي نطاة : بخبير ، وهو كثير النخل .

(5/496)


فَأَدْنَتْ لِيَ الأسْبَابَ حَتَّى بَلَغْتُهَا... بِنَهْضِي وَقَدْ كَادَ ارْتِقَائِي يَصُورُهَا (1)
يعني : يقطعها. وإذا كان ذلك تأويل قوله : ( فصرهن ) ، كان في الكلام تقديم وتأخير ، ويكون معناه : فخذ أربعة من الطير إليك فصِرهن ويكون " إليك " من صلة " خذ " .
* * *
وقرأ ذلك جماعة من أهل الكوفة : " فَصِرْهُنَّ إِلَيْكَ " بالكسر ، بمعنى قطعهن.
وقد زعم جماعة من نحويي الكوفة أنهم لا يعرفون : " فصُرهن " ولا " فصرهن " بمعنى قطعهن ، في كلام العرب - وأنهم لا يعرفون كسر " الصاد " وضمها في ذلك إلا بمعنى واحد ، وأنهما جميعًا لغتان بمعنى " الإمالة " وأن كسر " الصاد " منها لغة في هذيل وسليم; وأنشدوا لبعض بني سليم : (2) .
وَفَرْعٍ يَصِيرُ الجِيدَ وَحْفٍ كَأَنَّهُ... عَلَى الِّليتِ قِنْوَانُ الكُرُوم الدَّوَالِح (3)
__________
(1) هذان البيتان من قصيدة طويلة عندي في شعر توبة بن الحير . والبيت الأول هنا ينبغي أن يؤخر ، لأن المعنى لا يستقيم على رواية أبي جعفر : وترتيبها في رواية شعره ، مع اختلاف الرواية : فَنَادَيْتُ لَيْلَى ، والحُمُولُ كَأَنَّهَا ... مَوَاقِيرُ نَخْلٍ زَعْزَعَتْهَا دُبُورَها
فَقَالَتْ : أَرَى أَنْ لا تُفِيدَكَ صُحْبَتِى ... لِهَيْبَةِ أعْدَاءٍ تَلَظَّى صُدُورُهَا
فَمَدَّتْ لِيَ الأَسْبَابَ حتَّى بَلَغْتُهَا ... بِرِفْقِي ، وَقَدْ كَادَ ارْتِقَائِي يَصُورُهَا
فَلَمَّا دَخَلْتُ الخِدْرَ أَطَلَّتْ نُسُوعُهُ ... وَأَطْرَافُ عِيْدَانٍ شَدِيدٍ أُسُورُهَا
ورواية الطبري " فلما جذبت الحبل " و " بأطراف عبدان " ، ليست جيدة ، والأسباب جمع سبب : وهي الحبال ، حتى يصعد إليها في خدرها . وقوله " نهضي " في روايته ، أي نهوضي وحركتي من حيث كنت مختفيًا . وأط الرحل يئط : سمع صوت عيدانه وصريرها . والنسوع جمع نسع : وهو سير مضفور تشديد به الرحال . كانت الحبال جديدة فأطت وسمع صوتها . والأسور جمع أسر : وهو عقد الخلق وقوته . أي أن العيدان جديدة شديدة القوى . متينة . فذلك أشد لأطيطها .
(2) لا أعرف قائله .
(3) معاني القرآن للفراء 1 : 174 . اللسان (صير) الفرع الشعر التام الحثل ، وحف أسود حسن كثير عزيز ، الليت صحفة العنق . وهما الليتان ، قنوان : جمع قنو (بكسر فسكون) وهو عذق النحل وما فيه من الرطب . والدوالح جمع دالح : وهو المثقل بالحمل هنا . وأصله فيما يمشي ، يقال بعير دالح : إذا مشى بحمله الثقيل مشيًا غير منبسط . وكذلك السحاب دالح ، أي مثقل بطيء المر . وهي استعارة جيدة محكمة .

(5/497)


يعني بقوله : " يصير " ، يميل وأنّ أهل هذه اللغة يقولون : " صاروه وهو يصيره صَيرًا " ، " وصِرْ وَجهك إليّ " ، أي أمله ، كما تقول : " صُره " . (1) .
* * *
وزعم بعض نحويي الكوفة أنه لا يعرف لقوله : ( فصُرهن ) ولا لقراءة من قرأ : " فصرهن " بضم " الصاد " وكسرها ، وجهًا في التقطيع ، (2) . إلا أن يكون " فصِرْ هن إليك " ! في قراءة من قرأه بكسر " الصاد " من المقلوب ، وذلك أن تكون " لام " فعله جعلت مكان عينه ، وعينه مكان لامه ، فيكون من " صَرَى يصري صَرْيًا " ، فإن العرب تقول : " بات يَصْرِي في حوضه " : إذا استقى ، ثم قطع واستقى ، (3) . ومن ذلك قول الشاعر : (4) .
صَرَتْ نَطْرَةً لَوْ صَادَفَتْ جَوْزَ دَارِعٍ... غَدَا وَالْعَوَاصِي مِنْ دَمِ الجَوْفِ تَنْعَرُ (5)
" صَرَت " ، قطعتْ نظرة ، ومنه قول الآخر : (6) .
يَقُولُونَ : إنّ الشَّأَمَ يَقْتُلُ أَهْلَهُ... فَمَنْ لِي إِذَا لَمْ آتِهِ بِخُلُودِ... تَعَرَّبَ آبَائِي ، فَهَلا صَرَاهُمُ... مِنَ المَوْتِ أَنْ لَمْ يَذْهَبُوا وَجُدُودِي!? (7)
__________
(1) انظر ما سلف في معاني القرآن للفراء 1 : 174 .
(2) أي : بمعنى التقطيع .
(3) هذا بيان جيد ، لا تجده في كتب اللغة .
(4) لم أعرف قائله .
(5) اللسان (نعر) (عصا) ، ومعاني القرآن 1 : 174 - جوز كل شيء : وسطه ، والدراع : لابس الدرع . والعواصى جمع عاص ، يقال : " عرق عاص " وهو الذي لا يرقأ و لا ينقطع دمه ، كأنه يعصى في الانقطاع الذي يبغي منه ولا يطيع ، وأشد ما يكون ذلك في عروق الجوف . ونعر العرق بالدم : إذا فار فورانًا لا يرقأ ، كأن له صوتًا من شدة خروج الدم منه . فهو نعار ونعور .
(6) لم أعرف قائلهما .
(7) معاني القرآن للفراء 1 : 174 ، معجم ما استعجم : 773 ، اللسان (عرب) (شأم) .
وتعرب القوم : أقاموا بالبادية ، ولم يحضروا القرى . يقول سكن آبائي وجدودي البوادي وأقاموا فيها ولم يحضروا القرى ، فلم يك ذلك نجاة لهم من المنايا . وقوله : " وجدودي ، عطف على " آبائي " ، ورواية البيت في اللسان أجود : تَعَرَّبَ آبائِي ، فَهَلاَّ صَرَاهُمُ ... مِنَ المَوْتِ رَمْلاَ عَالِجٍ وزَرُودِ
وهما موضعان مصحان من أرض العرب .

(5/498)


يعني : قطعهم ، ثم نقلت ياؤها التي هي لام الفعل فجعلت عينا للفعل ، وحوّلت عينها فجعلت لامها ، فقيل : " صار يصير " ، كما قيل : " عَثِي يَعْثَى عَثًا " ، ثم حولت لامها ، فجعلت عينها ، فقيل : " عاث يعيث. (1) .
* * *
فأما نحويو البصرة فإنهم قالوا : ( فصرهن إليك ) سواء معناه إذا قرئ بالضم من الصاد وبالكسر في أنه معنيٌّ به في هذا الموضع التقطيع. قالوا : وهما لغتان : إحداهما : " صار يصور " ، والأخرى : " صَار يصير " ، واستشهدوا على ذلك ببيت توبة بن الحمير الذي ذكرنا قبل ، وببيت المعلَّى بن جَمَّال العبدي (2) .
وَجَاءَت خُلْعَةٌ دُهْسٌ صَفَايَا... يَصُورُ عُنُوقَهَا أَحْوَى زَنِيمُ (3)
__________
(1) انظر ما سلف من ذلك في 2 : 123 ، 124 .
(2) في المطبوعة والمخطوطة : " بن حماد " ، وهو تصحيف ، فإن المراجع كلها اتفقت على أنه " ابن جمال " بالجيم أو " بني حمال " بالحاء . وهو ينسب لأوس بن حجر التميمي ، ولآخر غيره يقال له : أوس بن حجر كما ترى في المراجع المذكورة بعد .
(3) مجاز القرآن لأبي عبيدة 1 : 81 وأمالي القالي 2 : 52 ، والتنبيه : 93 ، وسمط اللآلي : 685 ، 686 ، ثم في لسان العرب (ظأب) (ظاب) (صور) (دهس) (خلع) (صوع) (عنق) (زنم) ، وفي كتب أخرى ، ويأتي البيت منسوبًا لأوس بن حجر هكذا : يَصُوعُ عُنُوقَهَا أَحْوَى زَنِيمٌ ... لَهُ ظَأْب كمَا صَخِبَ الغرِيمُ
وهو بيت ملفق ، وصواب رواية الشعر مادة (زنم) من اللسان : وجَاءَتْ خُلْعَةٌ دُهْسٌ صَفَايَا ... يَصُوعُ عُنُوقَهَا أَحْوَى زَنِيمُ
يُفَرِّقُ بَيْنَهَا صَدْعٌ رَبَاعٌ ... لَهُ ظَأْبٌ كَما صَخِبَ الغَرِيمُ
الخلعة بكسر الخاء وضمها : خيار المال ، يعنى المعزي التي سيقت إليه ، كانت كلها خيارًا . والدهس جمع دهساء : وهي من المعزى ، السوادء المشربة حمرة لا تغلو . وقوله : " يصوع " هذه الرواية أخرى بمعنى يفرق . وذلك إذا أراد سفادها . والتيس إذا أرسل في الشاء صاعها ، أي فرقها إذا أراد سفادها . والتيس إذا أرسل في الشاء صاعها ، أي فرقها إذا أراد سفادها . وعنوق جمع عناق : وهي أنثي المعز . وهو جمع عزيز . والأحوى : الذي تضرب حمرته إلى السواد ، يعنى تيس المعز ، ويعنى أنه كريم . والزنيم : الذي له زنمتان في حلقة . والصدع (بفتح الصاد وسكون الدال أو فتحها) : وهو الفتى الشاب المدمج الخلق ، الصلب القوي . ورباع : أي دخل في السنة الرابعة ، وذلك في عز شبابه وقوته . وظأب التيس : صوته وجلبته وصياحه وصخبه ، وهو أشد ما يكون منه عند السفاد . والغريم : الذي له الدين على المدين ، ويقال للمدين غريم . يقول : إذا أراد سفادها هاج وفرقها ، وكان له صخب كصخب صاحب الدين على المدين الذي يماطله ويماحكمه ويلويه دينه .

(5/499)


بمعنى : يفرِّق عنوقها ويقطعها وببيت خنساء :
*لَظَلَّتْ الشُّمُّ مِنْهَا وَهْيَ تَنْصَارُ* (1)
يعني بالشم : الجبال ، أنها تتصدع وتتفرق - وببيت أبي ذؤيب :
فَانْصَرْنَ مِنْ فَزَعٍ وَسَدَّ فُرُوجَهُ... غُبْرٌ ضَوَارٍ : وَافِيَانِ وَأَجْدَعُ (2)
قالوا : فلقول القائل : " صُرْت الشيء " ، معنيان : أملته ، وقطعته. وحكوا سماعًا : " صُرْنا به الحكم " : فصلنا به الحكم.
* * *
__________
(1) مجاز القرآن لأبي عبيدة 1 : 81 وفيه مراجعه . والبيت ليس في ديوانها .
(2) ديوانه : 12 المفضليات : 873 ، ومجاز القرآن لأبي عبيدة : 81 ، والأضداد للأصمعي وابن السكيت 33 ، 187 . وهذه الرواية التي رواها أبو عبيدة والأصمعي وابن السكيت والطبري " فانصرن " ، رواية غربية ، وهي في سياقه الشعر أغرب . وأنا أنكر معناها وأجده مخلا بالشعر . وذلك أن سياقه في صفة ثور الوحش ، ثور من قد تقضى شبايه ، لم تزل كلاب القناص تروعه حتى شعفت فؤاده . فإذا أصبح الصباح داخله الفزع خشية أن يباكره صياد بكلا به . فهو لا يزال يرمي بعينه في غيوب الأرض ثم يغضي ليتسمع ، فيصدق سمعه ما يرى . وهو عندئذ واقف في الشمس يتشمس من ندى الليل ، فيقول أبو ذؤيب : فَغَدَا يُشَرِّقُ مَتْنَهُ ، فَبَدَا لَهُ ... أُولَى سَوَابِقِها قَرِيبًا تُوزَعُ
يقول : بدت له طلائع الكلاب قد دنت منه ، والقناص يكفها حتى يرسلها جميعا عليه . فَاهْتَاجَ من فَرَعٍ ، وسَدَّ فُرُوجَهُ ... غُبْرٌ ضَوَارٍ : وَافِيَانِ وَأَجْدَعُ
يقول هاجه الفزع فعدا عدوًا شديدًا والكلاب من خلفه وحواليه قد أخذت عليه مذهبه . ويروى " فانصاع من فزع " أي ذهب في شق . والغبر الضواري : هي كلاب الصياد ، " منها وافيان " : كلبان سالما الأذنين . والأجدع : مقطوع الأذن . إما علامة له ، وإما من طول ممارسته لصيد الثيران وضربها له بقرونها حتى انقطعت آذانه .

(5/500)


قال أبو جعفر : وهذا القول الذي ذكرناه عن البصريين : من أن معنى الضم في " الصاد " من قوله : ( فصرهن إليك ) والكسر ، سواء بمعنى واحد - وأنهما لغتان ، معناهما في هذا الموضع : فقطعهن - وأنّ معنى " إليك " تقديمها قبل " فصرهن " ، من أجل أنها صلة قوله : " فخذ " (1) . أولى بالصواب من قول الذين حكينا قولهم من نحويّي الكوفيين ، الذي أنكروا أن يكون للتقطيع في ذلك وجه مفهوم إلا على معنى القلب الذي ذكرت - (2) . لإجماع أهل التأويل على أن معنى قوله : ( فصرهن ) غير خارج من أحد معنيين : إما " قطِّعهن " ، وإما " اضْمُمْهن إليك " ، بالكسر قرئ ذلك أو بالضم. ففي إجماع جميعهم على ذلك على غير مراعاة منهم كسر الصاد وضمها ، ولا تفريق منهم بين معنيي القراءتين ، أعني الكسر والضم أوضح الدليل على صحّة قول القائلين من نحويي أهل البصرة في ذلك ما حكينا عنهم من القول ، وخطأ قول نحويي الكوفيين; لأنهم لو كانوا إنما تأولوا قوله : ( فصرهن ) بمعنى فقطعهن ، على أنّ أصل الكلام " فاصرهن " ، ثم قلبت فقيل : " فصِرْهن " بكسر " الصاد " ، لتحول " ياء " ، " فاصرهن " مكان رائه ، وانتقال رائه مكان يائه ، لكان لا شكّ - مع معرفتهم بلغتهم وعلمهم بمنطقهم - قد فصلوا بين معنى ذلك إذا قرئ بكسر صاده ، وبينه إذا قرئ بضمها ، إذ كان غير جائز لمن قلب " فاصِرهن " إلى " فصِرهن " أن يقرأه " فصُرْهن " بضم " الصاد " ، وهم ، مع اختلاف قراءتهم ذلك ، قد تأولوه تأويلا واحدًا على أحد الوجهين اللذين ذكرنا. ففي ذلك أوضحُ الدليل على خطأ قول من قال : إن ذلك إذا قرئ بكسر " الصاد " بتأويل : التقطيع ، مقلوب من : " صَرِي يَصْرَى " إلى " صار يصير " وجهل من زعم أن قول القائل : " صار يصور " ، و " صار يصير " غير معروف في كلام العرب بمعنى : قطع.
* * *
__________
(1) قوله " أولى بالصواب " ، خبر قوله : " وهذا القول الذي ذكرناه... أولى بالصواب... " .
(2) سياق العبارة : " ... أولى بالصواب... لإجماع جميع أهل التأويل... " .

(5/501)


ذكر من حضرنا قوله في تأويل قول الله تعالى ذكره : ( فصرهن ) أنه بمعنى : فقطّعهن.
5994 - حدثنا سليمان بن عبد الجبار ، قال : حدثنا محمد بن الصلت ، قال : حدثنا أبو كدينة ، عن عطاء ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : ( فصرهن ) قال : هي نبطيَّة ، فشقِّقْهن. (1) .
5995 - حدثني محمد بن المثنى ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، عن أبي جَمْرة ، عن ابن عباس أنه قال في هذه الآية : ( فخذ أربعة من الطير فصرهن إليك ) ، قال : إنما هو مثلٌ. قال : قطعهن ، ثم اجعلهن في أرباع الدنيا ، رُبعًا ههنا ، ورُبعًا ههنا ، ثم ادعهن يأتينك سعيًا. (2) .
5996 - حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : حدثني معاوية ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : ( فصرهن ) قال : قطعهن.
5997 - حدثني يعقوب ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا حصين ، عن أبي مالك في قوله : ( فصرهن إليك ) يقول : قطعهن.
5998 - حدثني المثنى ، قال : حدثنا عمرو بن عون ، قال : أخبرنا هشيم ، عن حصين ، عن أبي مالك ، مثله.
5999 - حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا يحيى بن يمان ، عن أشعث ، عن
__________
(1) الأثر : 5994 - " سليمان بن عبد الجبار بن زريق الخياط " . قال ابن أبي حاتم : سئل عنه أبي فقال : صدوق ، وسمعت حجاج ابن الشاعر يبالغ في الثناء عليه ويذكره بالخير . مترجم في التهذيب ، وتاريخ بغداء 9 : 52 . و " محمد بن الصلت بن الحجاج الأسدي " مضى برقم : 3002 . و " أبو كدينة " هو : يحيى بن المهلب البجلى . مضى في رقم 4193 بغير ترجمة . قال ابن معين وأبو داود والنسائي : ثقة . مترجم في التهذيب .
(2) الأثر : 5995 - " أبو جمرة " هو : نصر بن عمران بن عصام الضبعي . روى عن أبيه وابن عباس وابن عمر وغيرهم . وعنه شعبة وإبراهيم بن طهمان وابنه علقمة وغيرها . مترجم في التهذيب .
وقد مضى غير مترجم في رقم : 3250 ، وسقط في الطبع من اسمه راء " جمرة " . وفي المطبوعة والمخطوطة " أبو حمزة " ، وهو خطأ .

(5/502)


جعفر ، عن سعيد : ( فصرهن ) قال : قال جناح ذِه عند رأس ذِه ، ورأس ذِه عند جناح ذِه.
6000 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا المعتمر بن سليمان ، عن أبيه ، قال : زعم أبو عمرو ، عن عكرمة في قوله : ( فصرهن إليك ) قال : قال عكرمة بالنبطيَّة : قطّعهن.
6001 - حدثنا أحمد بن إسحاق ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا إسرائيل ، عن يحيى ، عن مجاهد : ( فصرهن إليك ) قال : قطعهن.
6002 - حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : ( فصرهن إليك ) انتفهن بريشهن ولحومهن تمزيقًا ، (1) ثم اخلط لحومهن بريشهن.
6003 - حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : ( فصرهن إليك ) قال : انتفهن بريشهن ولحومهن تمزيقًا. (2)
6004 - حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد بن زريع ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : ( فصرهن إليك ) أمر نبيُّ الله عليه السلام أن يأخذ أربعة من الطير فيذبحهن ، ثم يخلط بين لحومهن وريشهن ودمائهن.
6005 - حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : ( فصرهن إليك ) قال : فمزقهن. قال : أمر أن يخلط الدماء بالدماء ، والريش بالريش ، " ثم اجعل على كل جبل منهن جزءًا " .
6006 - حدثت عن الحسين بن الفرج ، قال : سمعت أبا معاذ ، قال : أخبرنا
__________
(1) هكذا جاء في الموضعين ، في المخطوطة والمطبوعة ، إلا أنها في المطبوعة : " انتفهن " منقوطة ، وفي المخطوطة : " اسفهن " غير منقوطة . وأنا أرى أن أقرأها : " أشبعهن ، ريشهن ولحومهن تمزيقا " ، أو حرفًا يقارب هذا المعنى .
(2) هكذا جاء في الموضعين ، في المخطوطة والمطبوعة ، إلا أنها في المطبوعة : " انتفهن " منقوطة ، وفي المخطوطة : " اسفهن " غير منقوطة . وأنا أرى أن أقرأها : " أشبعهن ، ريشهن ولحومهن تمزيقا " ، أو حرفًا يقارب هذا المعنى .

(5/503)


عبيد بن سليمان ، قال : سمعت الضحاك : ( فصرهن إليك ) يقول : فشقِّقهن ، وهو بالنبطية " صرّى " ، وهو التشقيق.
6007 - حدثني موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : ( فصرهن إليك ) يقول قطعهن.
6008 - حدثنا عن عمار ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع في قوله : ( فصرهن إليك ) يقول : قطعهن إليك ومزقهن تمزيقًا.
6009 - حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : ( فصرهن إليك ) أي قطعهن ، وهو " الصَّوْر " في كلام العرب.
* * *
قال أبو جعفر : ففيما ذكرنا من أقوال من روينا في تأويل قوله : ( فصرهن إليك ) أنه بمعنى : فقطعهن إليك ، دلالةٌ واضحة على صحة ما قلنا في ذلك ، وفساد قول من خالفنا فيه.
وإذ كان ذلك كذلك ، فسواءٌ قرأ القارئ ذلك بضم " الصاد " : " فصُرْهن " إليك أو كسرها " فصِرْهن " إذ كانت لغتين معروفتين بمعنى واحد. (1) . غير أن الأمر وإن كان كذلك ، فإن أحبّهما إليّ أن أقرأ به " فصُرْهن إليك " بضم " الصاد " ، لأنها أعلى اللغتين وأشهرهما ، وأكثرهما في إحياء العرب.
* * *
[ وأما قول من تأوّل قوله : ( فصرهن إليك ) بمعنى : اضممهن إليك ووجّهن نحوك واجمعهن ، فهو قولٌ قال به من أهل التأويل نفر قليل ]. (2) .
__________
(1) في المطبوعة : " أن كانت اللغتان معروفتين " ، لم يحسن قراءة المخطوطة ، لسرعة الكاتب فيما كتب وإهماله .
(2) هذا الذي بين القوسين زيادة استظهرتها من سياق التفسير ، وهو رده على القول الأول الذي مضى في ص 469 س 3 إلى 7 ، ولم يعد ثانية إلى ذكره . وكان مكانه في المطبوعة : " وعند نفر قليل من أهل التأويل أنها بمعنى : أوثق " . وهو تصرف من ناسخ قديم أو طابع . أما المخطوطة ، فكان نصها هكذا متصلا بما قبله وما بعده . " وأكثرهما في أحياء العرب من أهل التأويل نفر قليل " ذكر من قال ذلك " . والذي استظهرته أقرب إلى سياق التفسير إن شاء الله . وهذا دليل آخر على شدة إهمال الناسخ في كثير من المواضع لعجلته وقلة حذره .

(5/504)


* ذكر من قال ذلك :
6010 - حدثني محمد بن سعد ، قال : حدثني أبي ، قال : حدثني عمي ، قال : حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : ( فصرهن إليك ) " صرهن " : أوثِقْهُنّ.
6011 - حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قلت لعطاء قوله : ( فصرهن إليك ) قال : اضممهن إليك.
6012 - حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد : ( فصرهن إليك ) قال : اجمعهن.
* * *
القول في تأويل قوله : { ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا }
قال أبو جعفر : اختلف أهل التأويل في تأويل قوله : ( ثم اجعل على كل جبل منهن جزءًا ).
فقال بعضهم : يعني بذلك : على كل ربع من أرباع الدنيا جزءًا منهن.
* ذكر من قال ذلك :
6013 - حدثني المثنى ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، عن أبي جمرة ، عن ابن عباس : ( ثم اجعل على كل جبل منهن جزءًا ) قال : اجعلهن في أرباع الدنيا : ربعًا ههنا ، وربعًا ههنا ، وربعًا ههنا ، وربعًا ههنا ، ( ثم ادعهن يأتينك سعيا ). (1) .
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة : " عن أبي حمزة " ، وهو خطأ . انظر ما سلف من التعليق على الأثر : 5995 .

(5/505)


6014 - حدثني محمد بن سعد ، قال : حدثني أبي ، قال : حدثني عمي ، قال : حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : ( ثم اجعل على كل جبل منهن جزءًا ) قال : لما أوثقهن ذبحهن ، ثم جعل على كل جبل منهن جزءًا.
6015 - حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : قال : أمر نبي الله أن يأخذ أربعة من الطير فيذبحهن ، ثم يخلط بين لحومهن وريشهن ودمائهن ، ثم يجزئهن على أربعة أجبُل ، فذكر لنا أنه شكل على أجنحتهن ، (1) وأمسك برؤوسهن بيده ، فجعل العظم يذهب إلى العظم ، والريشة إلى الريشة ، والبَضعة إلى البَضعة ، وذلك بعين خليل الله إبراهيم صلى الله عليه وسلم. ثم دعاهن فأتينه سعيًا على أرجلهن ، ويلقي كل طير برأسه. (2) . وهذا مثل آتاه الله إبراهيم ، يقول : كما بعث هذه الأطيار من هذه الأجبل الأربعة ، كذلك يبعث الله الناسَ يوم القيامة من أرباع الأرض ونواحيها.
6016 - حدثت عن عمار ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع ، قال : ذبحهن ، ثم قطعهن ، ثم خلط بين لحومهن وريشهن ، ثم قسّمهن على أربعة أجزاء ، فجعل على كل جبل منهن جزءًا ، فجعل العظم يذهب إلى العظم ، والريشة إلى الريشة ، والبَضعة إلى البَضعة ، وذلك بعين خليل الله إبراهيم. ثم دعاهن فأتينه سعيًا ، يقول : شدًّا على أرجلهن. وهذا مثل أراه الله إبراهيم ، يقول : كما بعثتُ هذه الأطيار من هذه الأجبل الأربعة ، كذلك يبعث الله الناس يوم القيامة من أرباع الأرض ونواحيها.
6017 - حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، قال : حدثنا ابن إسحاق ، عن بعض أهل العلم : أن أهل الكتاب يذكرون أنه أخذَ الأطيار الأربعة ، ثم قطَّع
__________
(1) لم أفهم لقوله : " شكل على أجنحتهن " معنى ، ولعل فيها تصحيفًا لم أتبينه ، ولعل معناه أنه نثر ريش أجنحتهن . ولم أجد الخبر في مكان آخر .
(2) في المطبوعة والمخطوطة : " ويلقي كل طير برأسه " ، والصواب زيادة " إلى " .

(5/506)


كل طير بأربعة أجزاء ، ثم عمد إلى أربعة أجبال ، فجعل على كل جبل ربعًا من كل طائر ، فكان على كل جبل ربع من الطاووس ، وربع من الديك ، وربع من الغراب وربع من الحمام. ثم دعاهن فقال : " تعالين بإذن الله كما كنتُن " ، فوثب كل ربع منها إلى صاحبه حتى اجتمعن ، فكان كل طائر كما كان قبل أن يقطعه. ثم أقبلن إليه سعيًا ، كما قال الله. وقيل : يا إبراهيم هكذا يجمع الله العباد ، ويحيي الموتى للبعث من مشارق الأرض ومغاربها ، وشامِها ويَمنها! فأراه الله إحياء الموتى بقدرته ، حتى عرف ذلك ، يعني : ما قال نمروذ من الكذب والباطل. (1) .
6018 - حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد : ( ثم اجعل على كل جبل منهن جزءًا ) قال : فأخذ طاووسًا ، وحمامة ، وغرابًا ، وديكًا ، ثم قال : فرّقهن ، اجعل رأس كل واحد وجؤشوش الآخر وجناحي الآخر ورجلي الآخر معه. (2) . فقطعهن وفرقهن أرباعًا على الجبال ، ثم دعاهن فجئنه جميعًا ، فقال الله : كما ناديتهن فجئنَك ، فكما أحييت هؤلاء وجمعتهن بعدَ هذا ، فكذلك أجمع هؤلاء أيضًا - يعني الموتى.
* * *
وقال آخرون : بل معنى ذلك : ثم اجعل على كل جبل من الأجبال التي كانت الأطيار والسباع التي كانت تأكل من لحم الدابة التي رآها إبراهيم ميتة ، فسأل إبراهيم عند رؤيته إياها ، أن يريه كيف يحييها وسائر الأموات غيرها. وقالوا : كانت سبعة أجبال.
* كر من قال ذلك :
6019 - حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : لما قال إبراهيم ما قال عند رؤيته الدابة التي تفرقت الطيرُ
__________
(1) في المطبوعة : " بغير ما قال نمرود... " وفي المخطوطة : " بعير ما قال " غير منقوطة ، وصواب قراءته ما أثبت . وهذا تفسير للإشارة في قوله : " حتى عرف ذلك " .
(2) الجؤشوش : الصدر . يقال : " مضى جؤشوش من الليل " أي : صدر منه ، مجاز من ذلك .

(5/507)


والسباع عنها حين دنا منها ، وسأل ربّه ما سأل قال : ( فخذ أربعة من الطير ) قال ابن جريج : فذبحها ثم اخلط بين دمائهن وريشهن ولحومهن ، (1) . ثم اجعل على كل جبل منهن جزءًا حيث رأيت الطيرَ ذهبت والسباعَ. قال : فجعلهن سبعة أجزاء ، وأمسك رؤوسهن عنده ، ثم دعاهن بإذن الله ، فنظر إلى كل قطرة من دم تطير إلى القطرة الأخرى ، وكل ريشة تطير إلى الريشة الأخرى ، وكل بَضْعة وكل عظم يطير بعضه إلى بعض من رؤوس الجبال ، حتى لقيت كل جثة بعضها بعضًا في السماء ، ثم أقبلن يسعَيْن ، حتى وصلت رأسها.
6020 - حدثني موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي ، قال : ( فخذ أربعة من الطير فصرهن إليك ) ، ثم اجعل على سبعة أجبال ، فاجعل على كل جبل منهن جزءًا ، ثم ادعهن يأتينك سعيًا! فأخذ إبراهيم أربعة من الطير ، فقطّعهن أعضاء ، لم يجعل عضوًا من طير مع صاحبه. ثم جعل رأس هذا مع رجل هذا ، وصدر هذا مع جناح هذا ، وقسَّمهن على سبعة أجبال ، ثم دعاهن فطار كل عضو إلى صاحبه ، ثم أقبلن إليه جميعًا.
* * *
وقال آخرون : بل أمره الله أن يجعل ذلك على كل جبل.
* ذكر من قال ذلك :
6021 - حدثني محمد بن عمرو ، قال ، حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : ( ثم اجعل على كل جبل منهن جزءًا ) ، قال : ثم بدِّدهن على كل جبل يأتينك سعيًا ، وكذلك يُحيي الله الموتى.
6022 - حدثني المثنى ، قال ، حدثنا أبو حذيفة ، قال ، حدثنا شبل عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : ثم اجعلهن أجزاء على كل جبل ، ثم ادعهن يأتينك سعيًا ، كذلك يحيى الله الموتى. هو مثل ضربه الله لإبراهيم.
__________
(1) في المخطوطة والمطبوعة : " ثم خلط... " ، فعل ماض ، والصواب ما أثبت .

(5/508)


6023 - حدثنا القاسم ، قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثنا حجاج قال ، قال ابن جريج ، قال مجاهد : ( ثم اجعل على كل جبل منهن جزءًا ) ثم بددهن أجزاءً على كل جبل ثم( ادعهن ) ، تعالين بإذن الله. فكذلك يُحيي الله الموتى. مثل ضربه الله لإبراهيم صلى الله عليه وسلم.
6024 - حدثني المثنى ، قال : حدثني إسحاق ، قال : حدثنا أبو زهير ، عن جويبر ، عن الضحاك ، قال : أمره أن يُخالف بين قوائمهن ورؤوسهن وأجنحتهن ، ثم يجعل على كل جبل منهن جزءًا.
6025 - حدثت عن الحسين بن الفرج قال ، سمعت أبا معاذ قال ، أخبرنا عبيد قال ، سمعت الضحاك يقول في قوله : ( ثم اجعل على كل جبل منهن جزءًا ) ، فخالف إبراهيم بين قوائمهن وأجنحتهن.
* * *
قال أبو جعفر : وأولى التأويلات بالآية ما قاله مجاهد ، وهو أن الله تعالى ذكره أمرَ إبراهيم بتفريق أعضاء الأطيار الأربعة بعد تقطيعه إياهن ، على جميع الأجبال التي كان يصل إبراهيم في وقت تكليف الله إياه تفريقَ ذلك وتبديدَها عليها أجزاء. لأن الله تعالى ذكره قال له : ( ثم اجعل على كل جبل منهن جزءًا ) و " الكل " حرف يدل على الإحاطة بما أضيف إليه ، لفظه واحد ومعناه الجمع. (1) .
فإذا كان ذلك كذلك ، فلن يجوز أن تكون الجبال التي أمر الله إبراهيمَ بتفريق أجزاء الأطيار الأربعة ، عليها خارجةً من أحد معنيين : إما أن تكون بعضًا ، أو جميعا. (2) .
فإن كانت " بعضًا " فغير جائز أن يكون ذلك البعض إلا ما كان لإبراهيم
__________
(1) انظر ما سلف في معنى " كل " 3 : 195 .
(2) في المطبوعة والمخطوطة : " أو جمعا " ، والصواب ما أثبت ، وسيأتي على الصواب بعد قليل في المخطوطة .

(5/509)


السبيلُ إلى تفريق أعضاء الأطيار الأربعة عليه.
أو يكون " جميعا " ، فيكون أيضًا كذلك. (1) .
وقد أخبر الله تعالى ذكره أنه أمره بأن يجعل ذلك على " كل جبل " ، وذلك إما كل جبل وقد عرفهن إبراهيم بأعيانهن ، (2) وإمَّا ما في الأرض من الجبال.
فأما قول من قال : " إن ذلك أربعة أجبل " ، وقول من قال : " هن سبعة " ، فلا دلالة عندنا على صحة شيء من ذلك فنستجيز القول به ، وإنما أمر الله إبراهيم صلى الله عليه وسلم أن يجعل الأطيار الأربعة أجزاء متفرقة على كل جبل ، ليري إبراهيم قدرته على جمع أجزائهن وهنَّ متفرقات متبدِّدات في أماكن مختلفة شتى ، حتى يؤلف بعضهن إلى بعض ، فيعدن كهيئتهن قبل تقطيعهن وتمزيقهن وقبل تفريق أجزائهن على الجبال أطيارًا أحياءً يطرن ، فيطمئنّ قلب إبراهيم ، ويعلم أنّ كذلك جَمْعُ الله أوصال الموتى لبعث القيامة ، (3) . وتأليفه أجزاءهم بعد البلى وردّ كل عضو من أعضائهم إلى موضعه كالذي كان قبل الردَى. (4) .
* * *
قال أبو جعفر : و " الجزْء " من كل شيء هو البعض منه ، كان منقسمًا جميعه عليه على صحة أو غير منقسم. فهو بذلك من معناه مخالف معنى " السهم " . لأن " السهم " من الشيء ، هو البعض المنقسم عليه جميعه على صحة. ولذلك كثر استعمال الناس في كلامهم عند ذكرهم أنصباءَهم من المواريث : " السهام " دون " الأجزاء " . (5) .
* * *
__________
(1) في المطبوعة : " جمعا " ، وأثبت ما في المخطوطة .
(2) في المطبوعة : " من كل جبل وقد عرفهن... " في المخطوطة : " ... قد عرفهن " بغير واو . وقد زدت " من أجبل " حتى تستقيم العبارة ، مستظهرًا مما مضى .
(3) في المطبوعة : " أن كذلك يجمع الله... " وأثبت ما في المخطوطة .
(4) في المطبوعة : " قبل الرد " ، والصواب من المخطوطة . والردى : الهلاك .
(5) هذه تفرقة جيدة قلما تصيبها في كتب اللغة ، فقيدها .

(5/510)


وأما قوله : ( ثم ادعهن ) فإن معناه ما ذكرت آنفًا عن مجاهد ، أنه قال : هو امه أمر أن يقول لأجزاء الأطيار بعد تفريقهن على كل جبل : " تعالين بإذن الله " .
* * *
فإن قال قائل : أمِر إبراهيم أن يدعوهنّ وهن ممزَّقات أجزاء على رؤوس الجبال أمواتًا ، أم بعد ما أحيِين ؟ فإن كان أمر أن يدعوهنّ وهن ممزقات لا أرواح فيهن ، فما وجه أمر من لا حياة فيه بالإقبال ؟ وإن كان أمر بدعائهن بعد ما أحيين ، فما كانت حاجة إبراهيم إلى دعائهن ، وقد أبصرهن يُنْشرن على رؤوس الجبال ؟ قيل : إن أمر الله تعالى ذكره إبراهيمَ صلى الله عليه وسلم بدعائهن وهن أجزاء متفرقات ، إنما هو أمر تكوين كقول الله للذين مسخهم قرَدة بعد ما كانوا إنسًا : ( كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ ) [ البقرة : 65 ] لا أمرَ عبادةٍ ، فيكون محالا إلا بعد وجُود المأمور المتعبَّد.
* * *
القول في تأويل قوله : { وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (260) }
قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بذلك : ( واعلم ) يا إبراهيم ، أن الذي أحيا هذه الأطيار بعد تمزيقك إياهن ، وتفريقك أجزاءهن على الجبال ، فجمعهن وردّ إليهن الروح ، حتى أعادهن كهيئتهنّ قبل تفريقكَهُنّ ( عزيز ) ، في بطشه إذا بطش بمن بطش من الجبابرة والمتكبرة ، الذين خالفوا أمرَه ، وعصوا رُسله ، وعبدوا غيره ، وفي نقمته حتى ينتقم منهم ( حكيم ) في أمره.
* * *
6026 - حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، قال : حدثنا ابن إسحاق : ( واعلم أن الله عزيز حكيم ) ، قال : عزيز في بطشه ، حكيم في أمره.

(5/511)


مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِئَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (261)

6027 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : ( واعلم أن الله عزيز ) في نقمته ( حكيم ) في أمره.
* * *
القول في تأويل قوله : { مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ }
قال أبو جعفر : وهذه الآية مردودة إلى قوله : ( مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ) [ البقرة : 245 ] والآياتُ التي بعدها إلى قوله : ( مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله ) ، من قصص بني إسرائيل وخبرهم مع طالوت وجالوت ، وما بعد ذلك من نبإ الذي حاجّ إبراهيم مع إبراهيم ، وأمْرِ الذي مرّ على القرية الخاوية على عروشها ، وقصة إبراهيم ومسألته ربَّه ما سأل ، مما قد ذكرناه قبل (1) . اعتراض من الله تعالى ذكره بما اعترضَ به من قصصهم بين ذلك ، احتجاجًا منه ببعضه على المشركين الذين كانوا يكذبون بالبعث وقيام الساعة وحضًّا منه ببعضه للمؤمنين على الجهاد في سبيله الذي أمرهم به في قوله : ( وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ) [ البقرة : 244 ] ، يعرّفهم فيه أنه ناصرهم وإن قل عددهم وكثر عدَد عدوّهم ، ويعدهم النصرة عليهم ، ويعلّمهم سنته فيمن كان على منهاجهم من ابتغاء رضوان الله أنه مؤيدهم ، وفيمن كان على سبيل أعدائهم من الكفار بأنه خاذلهم ومفرِّق جمعهم ومُوهِنُ كيدهم وقطعًا منه ببعض عذرَ اليهود الذين كانوا بين ظهرَانَيْ مُهاجرَ رسول الله صلى الله عليه وسلم ، بما أطلع نبيَّه عليه من خفي أمورهم ،
__________
(1) سياق الجملة : " والآيات التي بعدها... اعتراض من الله تعالى... " مبتدأ وخبره .

(5/512)


ومكتوم أسرار أوائلهم وأسلافهم التي لم يعلمها سواهم ، ليعلموا أن ما آتاهم به محمد صلى الله عليه وسلم من عند الله ، وأنه ليس بتخرُّص ولا اختلاق ، وإعذارًا منه به إلى أهل النفاق منهم ، ليحذروا بشكِّهم في أمر محمد صلى الله عليه وسلم أن يُحلَّ بهم من بأسه وسطوته ، مثل الذي أحلَّهما بأسلافهم الذين كانوا في القرية التي أهلكها ، فتركها خاوية على عروشها.
ثم عاد تعالى ذكره إلى الخبر عن( الذي يقرض الله قرضًا حسنًا ) وما عنده له من الثواب على قَرْضه ، فقال : ( مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله ) يعني بذلك : مثل الذين ينفقون أموالهم على أنفسهم في جهاد أعداء الله بأنفسهم وأموالهم ( كمثل حبة ) من حبات الحنطة أو الشعير ، أو غير ذلك من نبات الأرض التي تُسَنْبل رَيْعَها سنبلة بذرها زارع (1) . " فأنبتت " ، يعني : فأخرجت ( سبع سنابلَ في كل سنبلة مائة حبة ) ، يقول : فكذلك المنفق ماله على نفسه في سبيل الله ، له أجره سبعمائة ضعف على الواحد من نفقته. كما : -
6028 - حدثني موسى بن هارون قال ، حدثنا عمرو بن حماد قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : ( كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة ) فهذا لمن أنفق في سبيل الله ، فله أجره سبعمائة. (2) .
6029 - حدثنا يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد في قوله : ( مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة والله يضاعف لمن يشاء ) ، قال : هذا الذي ينفق على نفسه في سبيل الله ويخرُج.
__________
(1) في المطبوعة : " تسنبل سنبلة بذرها زارع " ، وضع " سنبلة " مكان " ريعها " ، ظنها محرفة .
وريع البذر : فضل ما يخرج من البزر على أصله . وهو من " الريع " بمعنى النماء والزيادة . والمعنى : تسنبل أضعافها زيادة وكثرة .
(2) في المطبوعة : " فله سبع مائة " بحذف " أجره " ، وفي
المخطوطة : " فله سبعمائة " بياض بين الكلمتين ، وأتممت العبارة من الدر المنثور 1 : 336 ، وفيه : " فله أجره سبعمائة مرة " .

(5/513)


6030 - حدثنا عن عمار قال ، حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع قوله : ( مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة ) الآية ، فكان من بايع النبي صلى الله عليه وسلم على الهجرة ، ورابط مع النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة ، ولم يلق وجهًا إلا بإذنه ، (1) . كانت الحسنة له بسبعمائة ضعف ، ومن بايع على الإسلام كانت الحسنة له عشر أمثالها.
* * *
قال أبو جعفر : فإن قال قائل : وهل رأيتَ سنبلة فيها مائة حبة أو بلغتْك فضرب بها مثل المنفقَ في سبيل الله ماله ؟ (2) .
قيل : إن يكن ذلك موجودًا فهو ذاك ، (3) . وإلا فجائز أن يكون معناه : كمثل سنبلة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة ، إنْ جَعل الله ذلك فيها.
ويحتمل أن يكون معناه : في كل سنبلة مائة حبة; يعني أنها إذا هي بذرت أنبتت مائة حبة فيكون ما حدث عن البذر الذي كان منها من المائة الحبة ، مضافًا إليها ،
__________
(1) في المخطوطة : " لم يلف وجها " ، والذي في المطبوعة لا بأس به ، وإن كنت في شك منه .
وفي الدر المنثور 1 : 336 " لم يذهب وجها " .
(2) في هامش المخطوطة تعليق على هذا السؤال ، وهو أول تعليق أجده على هذه النسخة بخط غير حط كاتبها ، وهو مغربي كما سيتبين مما كتب ، وبعض الحروف متآكل عند طرف الهامش ، فاجتهدت في قراءتها :
" أقول : بل ذلك ثابت محقّق مشاهدٌ في البلاد ، وأكثر منه . فإن سنبل تلك البلاد يكثر حبّه وفروعه إلى ما يقارب الفتر . ولقد عدت من فروع حبة واحدة ثلاثة وستين فرعًا ، وشاهدت من ذلك مرارًا . فقد أراني بعض أصحابي جملة من ذلك... ، كان أقل ما عددناه للحبة ثلاثة عشر سنبلة إلى ما يبلغ أو يزيد على ما ذكرت أولًا من العدد . كتبه محمد بن محمود الجزائري الحنفي "
ثم انظر ما قاله القرطبي وغيره في سائر كتب التفسير .
(3) في المخطوطة : " قيل قيل أن يكون ذلك موجود فهو ذاك " ، وهو خطأ ولا شك ، وما في المطبوعة جيد في السياق .

(5/514)


لأنه كان عنها. وقد تأوّل ذلك على هذا الوجه بعض أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
6031 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا أبو زهير ، عن جويبر ، عن الضحاك قوله : ( مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة ) ، قال : كل سنبلة أنبتت مائة حبة ، فهذا لمن أنفق في سبيل الله : ( والله يضاعف لمن يشاء والله واسع عليم ).
* * *
القول في تأويل قوله : { وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ }
قال أبو جعفر : اختلف أهل التأويل في تأويل قوله : ( والله يضاعف لمن يشاء ). فقال بعضهم : الله يضاعف لمن يشاء من عباده أجرَ حسناته بعد الذي أعطى غير منفق في سبيله ، دون ما وعد المنفق في سبيله من تضعيف الواحدة سبعمائة. فأما المنفق في سبيله ، فلا ينقصة عما وعده من تضعيف السبعمائة بالواحدة. (1) .
* ذكر من قال ذلك :
6032 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا أبو زهير ، عن جويبر ، عن الضحاك ، قال : هذا يضاعف لمن أنفق في سبيل الله - يعني السبعمائة -
__________
(1) كانت هذه الجملة كلها في المطبوعة : " والله يضاعف لمن يشاء من عباده أجر حسناته ، بعد الذي أعطى المنفق في سبيله من التضعيف الواحدة سبعمائة . فأما المنفق في سبيله فلا نفقة ما وعده من تضعيف السبعمائة بالواحدة " . وقد غيروا ما كان في المخطوطة لأنه فاسد بلا شك وهذا نصه : " والله يضاعف لمن يشاء أجر حسناته ، بعد الذي أعطى المنفق في سبيله من التضعيف الواحدة سبعمائة . فأما المنفق في سبيله عما وعده من تضعيف السبعمائة بالواحدة " . ولكنى استظهرت من سياق التفسير بعد ، أن الصواب غير ما في المطبوعة ، وأن في الكلام تصحيفًا وسقطًا ، أتممته بما يوافق المعنى الذي قاله هؤلاء ، كما يتبين من كلام أبي جعفر فيما بعد .

(5/515)


( والله يضاعف لمن يشاء والله واسع عليم ) ، يعني لغير المنفق في سبيله.
* * *
وقال آخرون : بل معنى ذلك : والله يضاعف لمن يشاء من المنفقين في سبيله على السبعمائة إلى ألفي ألف ضعف. وهذا قول ذكر عن ابن عباس من وجه لم أجد إسناده ، فتركت ذكره.
* * *
قال أبو جعفر : والذي هو أولى بتأويل قوله : ( والله يضاعف لمن يشاء ) والله يضاعف على السبعمائة إلى ما يشاء من التضعيف ، لمن يشاء من المنفقين في سبيله. لأنه لم يجر ذكر الثواب والتضعيف لغير المنفق في سبيل الله ، فيجوز لنا توجيه ما وعد تعالى ذكره في هذه الآية من التضعيف ، إلى أنه عِدَة منه على [ العمل في غير سبيله ، أو ] على غير النفقة في سبيل الله. (1) .
* * *
القول في تأويل قوله : { وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (261) }
قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بذلك : ( والله واسع ) ، أن يزيد من يشاء من خلقه المنفقين في سبيله على أضعاف السبعمائة التي وعده أن يزيده (2) .( عليم ) من يستحق منهم الزيادة ، كما : -
6033 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد في قوله : ( والله يضاعف لمن يشاء والله واسع عليم ) قال : ( واسع ) أن يزيد من سعته ( عليم ) ، عالم بمن يزيده.
* * *
__________
(1) زدت ما بين القوسين ، لأنه مما يقتضيه سياق الكلام والتركيب .
(2) انظر تفسير " واسع " و " عليم " فيما سلف 2 : 537 ، وانظر فهارس اللغة أيضًا .

(5/516)


الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (262)

وقال آخرون : معنى ذلك : ( والله واسع ) ، لتلك الأضعاف ( عليم ) بما ينفق الذين ينفقون أموالهم في طاعة الله.
* * *
القول في تأويل قوله : { الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (262) }
قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بذلك : المعطيَ ماله المجاهدين في سبيل الله معونةً لهم على جهاد أعداء الله. يقول تعالى ذكره : الذين يعينون المجاهدين في سبيل الله بالإنفاق عليهم وفي حَمُولاتهم ، وغير ذلك من مؤنهم ، (1) . ثم لم يتْبع نفقته التي أنفقها عليهم منًّا عليهم بإنفاق ذلك عليهم ، ولا أذى لهم. فامتنانه به عليهم ، بأن يظهر لهم أنه قد اصطنع إليهم - بفعله وعطائه الذي أعطاهموه تقوية لهم على جهاد عدوهم - معروفا ، ويبدي ذلك إما بلسان أو فعل. وأما " الأذى " فهو شكايته إياهم بسبب ما أعطاهم وقوّاهم من النفقة في سبيل الله ، أنهم لم يقوموا بالواجب عليهم في الجهاد ، وما أشبه ذلك من القول الذي يؤذي به من أنفَق عليه.
وإنما شَرَط ذلك في المنفق في سبيل الله ، وأوجبَ الأجر لمن كان غير مانٍّ ولا مؤذٍ مَن أنفق عليه في سبيل الله ، لأن النفقة التي هي في سبيل الله : ما ابتغي به وجه الله وطلب به ما عنده. (2) . فإذا كان معنى النفقة في سبيل الله هو ما وصفنا ، فلا وجه لمنّ المنفق على من أنفق عليه ، لأنه لا يدَ له قِبَله ولا صَنيعة يستحق بها
__________
(1) في المخطوطة والمطبوعة : " الذين يعينون المجاهدين " بالجمع/ وسياق الجمل بعده بالإفراد ، وهو غير جائز .
(2) في المطبوعة : " مما ابتغى به " ، والصواب ما في المخطوطة .

(5/517)


عليه - إن لم يكافئه - عليها المنَّ والأذى ، إذ كانت نفقته ما أنفق عليه احتسابًا وابتغاءَ ثواب الله وطلبَ مرضاته ، وعلى الله مثوبته ، دون من أنفق ذلك عليه.
* * *
وبنحو المعنى الذي قلنا في ذلك قال جماعة من أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
6034 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : ( الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله ثم لا يتبعون ما أنفقوا منًّا ولا أذى لهم أجرهم عند ربهم ) ، (1) . علم الله أن أناسًا يمنون بعطيَّتهم ، فكره ذلك وقدَّم فيه فقال : ( قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ ). (2) .
6035 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد : قال للآخرين يعني : قال الله للآخرين ، وهم الذين لا يخرجون في جهاد عدوهم : ( الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله ثم لا يتبعون ما أنفقوا منًّا ولا أذى ) ، قال : فشرَط عليهم. قال : والخارجُ لم يشرُط عليه قليلا ولا كثيرًا - يعني بالخارج ، الخارجَ في الجهاد الذي ذكر الله في قوله : ( مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة ) الآية قال ابن زيد : وكان أبي يقول : إن آذاك من يعطي من هذا شيئًا أو يقوِّي فقويت في سبيل الله ، (3) . فظننتَ أنه يثقل عليه سلامُك ، فكفَّ سلامَك عنه. قال ابن زيد : فنهى عن خير الإسلام. (4) . قال : وقالت امرأة لأبي : يا أبا أسامة ، تدلُّني على رجل يخرج في سبيل الله حقًّا ، فإنهم لا يخرجون إلا
__________
(1) أتم الآية في المطبوعة ، وأثبت ما في المخطوطة .
(2) في المخطوطة : " قول معروف ومعرفة " ، وهو دال على كثرة سهو الناسخ في هذا الموضع من المخطوطة كما أسلفت مرارًا .
(3) في المطبوعة : " إن أذن لك أن تعطي من هذا شيئًا أو تقوى فقويت في سبيل الله " وهو غير مفهوم ، وهو تصرف فيما كان في المخطوطة ، ونصه : " إن أذن لك أن تعطي من هذا شيئًا أو تقوى في سبيل الله " . واستظهرت صواب قراءتها كما أثبته ، وقد أشرت مرارًا لكثرة سهو الناسخ في هذا من كتابته . والذي أثبته أشبه بما دل عليه سائر قوله .
(4) في المطبوعة : " فهو خير من السلام " ، ولا معنى له وفي المخطوطة " فنهي خير من الإسلام " وهو أيضًا بلا معنى ، وأظن الصواب ما أثبت . وذلك أن زيد بن أسلم قال : " فكف عنه سلامك " فنهاه عن أن يلقي عليه السلام . فعلق ابنه ابن زيد على قول أبيه أنه : " نهى عن خير الإسلام " ، إشارة إلى ما رواه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجه ، عن عبد الله بن عمرو بن العاص : " أن رجلًا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم : أي الإسلام خير ؟ قال : تطعم الطعام ، وتقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف " فالسلام خير الإسلام ، وهو ما نهى عنه ابن زيد من أوذي .

(5/518)


ليأكلوا الفواكه!! عندي جعبة وأسهُمٌ فيها. (1) . فقال لها : لا بارك الله لك في جعبتك ، ولا في أسهمك ، فقد آذيتيهم قبل أن تعطيهم! قال : وكان رجل يقول لهم : اخرجوا وكلوا الفواكه!
6036 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا أبو زهير ، عن جويبر ، عن الضحاك قوله : ( لا يتبعون ما أنفقوا منًّا ولا أذى ) قال : أن لا ينفق الرجل ماله ، خيرٌ من أن ينفقه ثم يتبعه منًّا وأذى.
* * *
وأما قوله : ( لهم أجرهم عند ربهم ) ، فإنه يعني للذين ينفقون أموالهم في سبيل الله على ما بيَّنَ. و " الهاء والميم " في " لهم " عائدة على " الذين " .
* * *
ومعنى قوله : ( لهم أجرهم عند ربهم ) ، لهم ثوابهم وجزاؤهم على نفقتهم التي أنفقوها في سبيل الله ، ثم لم يتبعوها منًّا ولا أذى. (2) .
* * *
وقوله : ( ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون ) ، (3) . يقول : وهم مع ما لهم من الجزاء والثواب على نفقتهم التي أنفقوها على ما شرطنا ( لا خوف عليهم ) عند مقدمهم على الله وفراقهم الدنيا ، ولا في أهوال القيامة ، وأن ينالهم من مكارهها أو يصيبهم فيها من عقاب الله ( ولا هم يحزنون ) على ما خلفوا وراءهم في الدنيا. (4) .
* * *
__________
(1) أخشى أن يكون الناسخ سها كما سها فيما سلف ، وأن يكون صوابها " وفيها أسهم " ، والذي هنا مقبول .
(2) انظر معنى " أجر " فيما سلف 2 : 148 ، 513 .
(3) انظر تفسير : " ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون " فيما سلف 2 : 148 ، 513 .
(4) عند هذا الموضع انتهى المجلد الرابع من مخطوطتنا ، وفي آخره ما نصه :
" آخر المجلد الرابع من كتاب البيان يتلوه في الخامس إن شاء الله تعالى ، القول في تأويل قوله : " قول معروف ومغفرة خير من صدقة يتبعها أذى والله غني حليم "
وكان الفراغ منه في شهر ذي الحجة سنة أربع عشرة وسبعمائة والحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا "
ثم يبدأ الجزء الخامس ، وفي طرته .
" الجزء الخامس من جامع البيان في تأويل القرآن تأليف الشيخ الإمام أبي جعفر محمد بن جرير الطبري "
ثم يلي ذلك نص وقف لله تعالى ، استغنينا عن إثباته هنا . ثم يفتح الجزء :
" بسم الله الرحمن الرحيم
رب أعنْ " .

(5/519)


قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ (263)

القول في تأويل قوله : { قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ (263) }
قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بقوله : ( قول معروف ) ، قولٌ جميل ، ودعاءُ الرجل لأخيه المسلم (1) .. ( ومغفرة ) ، يعني : وسترٌ منه عليه لما علم من خَلَّته وسوء حالته (2) . ( خير ) عند الله ( من صدقة ) يتصدقها عليه ( يتبعها أذى ) ، يعني يشتكيه عليها ، ويؤذيه بسببها ، كما : -
6037 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا أبو زهير ، عن
__________
(1) انظر تفسير " المعروف " فيما سلف 3 : 371 ، 372 / ثم 4 : 547 ، 548 / 5 : 7 ، 44 ، 76 ، 93 ، 173 .
(2) انظر تفسير " المغفرة " 2 : 109 ، 110 ، وفهارس اللغة .

(5/520)


يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (264)

جويبر ، عن الضحاك : ( قول معروف ومغفرة خير من صدقة يتبعها أذى ) يقول : أن يمسك ماله خير من أن ينفق ماله ثم يتبعه منًّا وأذى.
* * *
وأما قوله : ( غنيّ حليم ) فإنه يعني : " والله غني " عما يتصدقون به ( حليم ) ، حين لا يعجل بالعقوبة على من يَمنُّ بصدقته منكم ، ويؤذي فيها من يتصدق بها عليه. (1) .
وروي عن ابن عباس في ذلك ، ما : -
6038 - حدثنا به المثنى قال ، حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : حدثني معاوية ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : ( الغني ) ، الذي كمل في غناه ، و( الحليم ) ، الذي قد كمل في حلمه.
* * *
القول في تأويل قوله : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالأذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ }
قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بذلك : ( يا أيها الذين آمنوا ) ، صدّقوا الله ورسوله ( لا تبطلوا صدقاتكم ) ، يقول : لا تبطلوا أجورَ صدَقاتكم بالمنّ والأذى ، كما أبطل كفر الذي ينفق ماله ( رئاء الناس ) ، وهو مراءاته إياهم بعمله ، وذلك أن ينفق ماله فيما يرى الناسُ في الظاهر أنه يريد الله تعالى ذكره فيحمدونه عليه ، وهو غيرُ مريدٍ به الله ولا طالب منه الثواب ، (2) . وإنما ينفقه كذلك ظاهرًا
__________
(1) انظر تفسير " حليم " فيما سلف 5 : 117 .
(2) في المخطوطة والمطبوعة : " وهو مريد به غير الله " ، وهو سهو من الناسخ ، والسياق يقتضي أن تقدم " غير " ، وهو نص المعنى .

(5/521)


ليحمده الناس عليه فيقولوا : هو سخيّ كريم ، وهو رجل صالحٌ " فيحسنوا عليه به الثناء ، وهم لا يعلمون ما هو مستبطن من النية في إنفاقه ما أنفق ، فلا يدرون ما هو عليه من التكذيب بالله تعالى ذكره واليوم الآخر.
* * *
وأما قوله : ( ولا يؤمن بالله واليوم الآخر ) ، فإن معناه : ولا يصدق بوحدانية الله ورُبوبيته ، ولا بأنه مبعوث بعد مماته فمجازًى على عمله ، فيجعل عمله لوجه الله وطلب ثوابه وما عنده في معاده. وهذه صفة المنافق; وإنما قلنا إنه منافق ، لأن المظهرَ كفرَه والمعلنَ شركه ، معلوم أنه لا يكون بشيء من أعماله مرائيًا. لأن المرائي هو الذي يرائي الناس بالعمل الذي هو في الظاهر لله ، وفي الباطن مريبة سريرةُ عامله ، مرادٌه به حمد الناس عليه. (1) . والكافر لا يُخِيلُ على أحدٍ أمرُه أن أفعاله كلها إنما هي للشيطان (2) - إذا كان معلنًا كفرَه - لا لله. ومن كان كذلك ، فغير كائن مرائيًا بأعماله.
* * *
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
6039 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال أبو هانئ الخولاني ، عن عمرو بن حريث ، قال : إن الرجل يغزو ، لا يسرق ولا يزني ولا يَغُلّ ، لا يرجع بالكفاف! فقيل له : لم ذاك ؟ قال : إن الرجل ليخرج ، (3) . فإذا أصابه من
__________
(1) في المطبوعة : " وفي الباطن عامله مراده به حمد الناس عليه " ، وهو تصرف من الطابع ، وفي المخطوطة : " وفي الباطن مربيه عامله مراد به حمد الناس عليه " ، وهي غير مفهومة المعنى ، وبين أنه قد سقط منها " سريرة " من قوله " مربية سريرة عامله " ، وهو إشارة إلى ما مر في تفسيره قبل من قوله : " فلا يدرون ما هو عليه من التكذيب بالله تعالى ذكره واليوم الآخر " . فاستظهرت أن الصواب زيادة " سريرة " ، لتتفق مع معاني ما قال أبو جعفر رحمه الله .
(2) أخال عليه الأمر يخيل : أشكل عليه واستبهم . وسياق الجملة بعد ذلك : " إنما هي للشيطان لا لله " .
(3) في المطبوعة : " قال : فإن الرجل " ، وفي المخطوطة : " فإن إن الرجل " تصحيف والصواب ما أثبت .

(5/522)


بلاءِ الله الذي قد حكم عليه ، سبَّ ولعَن إمامَه ولعَن ساعة غزا ، وقال : لا أعود لغزوة معه أبدًا! فهذا عليه ، وليس له مثلُ النفقة في سبيل الله يتبعها منٌّ وأذى. فقد ضرب الله مثلها في القرآن : ( يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صَدقاتكم بالمنّ والأذى ) ، حتى ختم الآية. (1) .
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (264) }
قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بذلك : فمثل هذا الذي ينفق ماله رئاء الناس ، ولا يؤمن بالله واليوم الآخر و " الهاء " في قوله : ( فمثله ) عائدة على " الذي " ( كمثل صفوان ) ، و " الصفوان " واحدٌ وجمعٌ ، فمن جعله جمعًا فالواحدة " صفوانة " ، (2) . بمنزلة " تمرة وتمر " و " نخلة ونخل " . ومن جعله واحدًا ، جمعه " صِفْوان ، وصُفِيّ ، وصِفِيّ " ، (3) . كما قال الشاعر : (4) .
* مَوَاقعُ الطَّيْرِ عَلَى الصُّفِيِّ * (5)
__________
(1) الأثر : 6039 - " أبو هانئ الخولاني " : هو : حميد بن هانئ المصري من ثفات التابعين ، روى عن عمرو بن حريث وغيره . وروى عنه الليث وابن لهيعة وابن وهب وغيرهم من أهل مصر مات سنة 142 . و " عمرو بن حريث " ، هو الذي يروي عنه أهل الشام ، وهو غير " عمرو بن حريث بن عمرو بن عثمان المخزومي الكوفي . وانظر ترجمته في التهذيب 8 : 18 .
(2) في المطبوعة : " واحد وجمع ، فمن جعله جمعا " ، وأثبت ما في المخطوطة .
(3) انظر ما سلف في تفسير " الصفا " 3 : 224 ، 225 ، وقوله : جمعه صفوان " يعنى : بكسر الصاد وسكون الفاء ، وهو قول الكسائي ، وقد تعقبوه وخطئوه في شاذ مذهبه . انظر القرطبي 3 : 313 ، وتفسير أبي حيان 2 : 302 ، ومن أجل ذلك أسقطه أصحاب اللغة من كتبهم .
(4) هو الأخيل الطائي .
(5) سلف شرح هذا البيت وتخريجه 3 : 224 ، وسقط ذكر هذا الموضع في التخريج السالف فأثبته هناك .

(5/523)


و " الصفوان " هو " الصفا " ، وهي الحجارة الملس.
* * *
وقوله : ( عليه تراب ) ، يعني : على الصفوان ترابٌ ( فأصابه ) يعني : أصاب الصفوان ( وابل ) ، وهو المطر الشديد العظيم ، كما قال أمرؤ القيس :
سَاعَةً ثُمَّ انْتَحَاهَا وَابِلٌ... سَاقِطُ الأكْنَافِ وَاهٍ مُنْهَمِرُ (1)
يقال منه : " وَبلت السماء فهي تَبِل وَبْلا " ، وقد : " وُبلت الأرض فهي تُوبَل " .
* * *
وقوله : ( فتركه صلدًا ) يقول : فترك الوابلُ الصفوانَ صَلدًا.
و " الصلد " من الحجارة : الصلب الذي لا شيء عليه من نبات ولا غيره ، وهو من الأرَضين ما لا ينبت فيه شيء ، وكذلك من الرؤوس ، (2) . كما قال رؤبة :
لَمَّا رَأَتْنِي خَلَقَ المُمَوَّهِ... بَرَّاقَ أَصْلادِ الجَبِينِ الأجْلَهِ (3)
__________
(1) ديوانه : 90 ، وطبقات فحول الشعراء : 79 ، وغيرهما كثير . وهو من أبيات روائع ، في صفة المطر والسيل أولها : دِيَمةٌ هَطْلاَءُ فِيهَا وَطَفٌ ... طَبَقَ الأَرْضِ تَحَرَّي ، وَتَدِرّْ
ثم قال بعد قليل : " ساعة " أي فعلت ذلك ساعة ، " ثم انتحاها " أي قصدها ، والضمير فيه إلى " الشجراء " في بيت سباق . و " ساقط الأكناف " ، قد دنا من الأرض دنوًّا شديدًا ، كأن نواحيه تتهدم على الشجراء . " منهمر " : متتابع متدفق . واقرأ تمام ذلك في شرح الطبقات .
(2) هذا البيان عن معاني " صلد " ، لا تصيبه في كثير من كتب اللغة .
(3) ديوانه : 165 من قصيدة مضى الاستشهاد بأبيات منها في 1 : 123 ، 309 ، 310 /2 : 222 ، والضمير في " رأتني " إلى صحابته التي ذكرها في أول الشعر و " خلق " : بال . و " المموه " يقال : : وجه مموه " أي مزين بماء الشباب ، ترقرق شبابه وحسنه . وقوله " خلق المموه " ، بحذف " الوجه " الموصوف بذلك . يقول : قد بلي شبابي وأخلق . " أصلاد الجبين " ، يعني أن جبينه قد زال شعره ، فهو يبرق كأنه صفاة ملساء لا نبات عليها . و " الأجله " . الأنزع الذي انحسر شعره عن جانبي جبهته ومقدم جبينه ، وذلك كله بعد أن كان كما وصف نفسه : * بَعْدَ غُدَانِيِّ الشَّبَابِ الأَبْلَهِ *
فاستنكرته صاحبته ، بعد ما كان بينه وبينها في شبابه ما كان ، وليت شعري ماذا كان يبغي رؤبة منها ، وقد صار إلى المصير الذي وصف نفسه! ! .

(5/524)


ومن ذلك يقال للقدر الثخينة البطيئة الغلي : " قِدْرٌ صَلود " ، " وقد صَلدت تصْلُدُ صُلودًا ، ومنه قول تأبط شرًّا :
وَلَسْتُ بِجِلْبٍ جِلْبِ رَعْدٍ وَقِرَّةٍ... وَلا بِصَفًا صَلْدٍ عَنِ الخَيْرِ أعْزَلِ (1)
* * *
ثم رجع تعالى ذكره إلى ذكر المنافقين الذين ضرب المثلَ لأعمالهم ، فقال : فكذلك أعمالهم بمنزلة الصَّفوان الذي كان عليه تراب ، (2) . فأصابه الوابلُ من المطر ، فذهب بما عليه من التراب ، فتركه نقيًّا لا تراب عليه ولا شيء يراهُم المسلمون في الظاهر أنّ لهم أعمالا - كما يُرى التراب على هذا الصفوان - بما يراؤونهم به ، فإذا كان يوم القيامة وصاروا إلى الله ، اضمحلّ ذلك كله ، لأنه لم يكن لله ،
__________
(1) اللسان (جلب) (عزل) ، وغيرهما . ولم أجد القصيدة ، ولكني وجدت منها أبياتًا متفرقة ورواية اللسان والمطبوعة وغيرهما : وَلَسْتُ بِجِلْبٍ جِلْبِ رِيحٍ وَقِرَّةٍ ... وَلاَ بِصَفًا صَلْدٍ عَنِ الخَيْرِ مَعْزِلِ
ولكنه في المطبوعة واللسان أيضًا " جلب ليل " ، والظاهر أن المطبوعة نقلت البيت من اللسان (جلب) دون إشارة إلى ما كان في المخطوطة ، ولكنى أثبت رواية المخطوطة ، فإنها لا تغير وهي سليمة المعاني .
الجلب (بكسر الجيم أو ضمها وسكون اللام) : هو السحاب المعترض تراه كأنه جبل ، ويقال أيضًا : هو السحاب الرقيق الذي لا ماء فيه . ورواية الطبري في المخطوطة تقتضي المعنى الأول : والقرة (بكسر القاف) والقر (بضمها) : البرد الشديد ، يقول : لست امرءًا خاليا من الخير ، بل مطيفًا بالأذى ، كهذا السحاب المخيل المتراكم ، مخيف برعده ، ويلذغ ببرده ، ولا غيث معه . أما رواية اللسان وغيره ، فشرحها على معنى السحاب الرقيق جيد . وقوله : " أعزل " من " عزل الشيء يعزله " إذا نحاه جانبًا وأبعده ، كما سموا الزمل المنقطع المنفرد المنعزل " أعزل " ، فهو من صميم مادة اللغة ، وإن لم يأتوا عليه في كتب اللغة بشاهد . وهذا شاهده بلا شك . أما قوله في الرواية الأخرى " معزل " فهو بمعنى ذلك أيضًا : معتزل عن الخير ، أو معزول عنه . وهو مصدر ميمي من ذلك ، جاء صفة ، كما قالوا : " رجل عدل " ، وكما قالوا " فلان شاهد مقنع " أي رضا يقنع به ، مصدر ميمي من " قنع " ، وهذا بيان لا تجده في كتب اللغة فقيده واحفظه .
(2) في المخطوطة : " عليه ثواب " ، وهو تصحيف غث ، ولكنه دليل على شدة إهمال الناسخ وعجلته .

(5/525)


كما ذهب الوابل من المطر بما كانَ على الصفوان من التراب ، فتركه أملسَ لا شيء عليه
فذلك قوله : ( لا يقدرون ) ، يعني به : الذين ينفقون أموالهم رئاء الناس ، ولا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ، يقول : لا يقدرون يوم القيامة على ثواب شيء مما كسبوا في الدنيا ، لأنهم لم يعملوا لمعادهم ، ولا لطلب ما عند الله في الآخرة ، ولكنهم عملوه رئاء الناس وطلبَ حمدهم. وإنما حظهم من أعمالهم ، ما أرادوه وطلبوه بها.
* * *
ثم أخبر تعالى ذكره أنه( لا يهدي القوم الكافرين ) ، يقول : لا يسدّدهم لإصابة الحق في نفقاتهم وغيرها ، فيوفقهم لها ، وهم للباطل عليها مؤثرون ، ولكنه يتركهم في ضلالتهم يعمهون (1) .
فقال تعالى ذكره للمؤمنين : لا تكونوا كالمنافقين الذين هذا المثل صفةُ أعمالهم ، فتبطلوا أجور صدقاتكم بمنِّكم على من تصدقتم بها عليه وأذاكم لهم ، كما أبطل أجر نفقة المنافق الذي أنفق ماله رئاء الناس ، وهو غير مؤمن بالله واليوم الآخر ، عند الله. (2) .
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
6040 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : ( يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى ) فقرأ حتى بلغ : ( على شيء مما كسبوا ) ، فهذا مثل ضربه الله لأعمال الكفار يوم القيامة يقول : لا يقدرون على شيء مما كسبوا يومئذ ، كما ترك هذا المطر الصفاةَ الحجرَ ليس
__________
(1) في المخطوطة : " ولكنه تركهم " ، والصواب ما في المخطوطة .
(2) في المخطوطة : " واليوم عند الله " سقط منه " الآخر " ، وهو دليل على ما أسلفت من عجلته .

(5/526)


عليه شيء ، أنقى ما كان عليه. (1) .
6041 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : ( لا تبطلوا صدقاتكم بالمن ) إلى قوله : ( والله لا يهدي القوم الكافرين ) ، هذا مثل ضربه الله لأعمال الكافرين يوم القيامة ، يقول : لا يقدرون على شيء مما كسبوا يومئذ ، كما ترك هذا المطر الصفا نقيًّا لا شيء عليه.
6042 - حدثني موسى قال ، حدثنا عمرو قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : ( لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى ) إلى قوله : ( على شيء مما كسبوا ) أما الصفوان الذي عليه تراب ، فأصابه المطر فذهب ترابه فتركه صلدًا. فكذلك هذا الذي ينفق ماله رياء الناس ، (2) . ذهب الرياءُ بنفقته ، كما ذهب هذا المطر بتراب هذا الصفا فتركه نقيًّا ، فكذلك تركه الرياء لا يقدر على شيء مما قدم. فقال للمؤمنين : ( لا تبطلوا صدقاتكم بالمنّ والأذى ) فتبطل كما بطلت صَدقة الرياء.
6043 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا أبو زهير ، عن جويبر ، عن الضحاك ، قال : أن لا ينفق الرجل ماله ، خير من أن ينفقه ثم يتبعه منًّا وأذى. فضرب الله مثله كمثل كافر أنفق ماله لا يؤمن بالله ولا باليوم الآخر ، فضرب الله مثلهما جميعًا : ( كمثل صفوان عليه تراب فأصابه وابل فتركه صلدًا ) فكذلك من أنفق ماله ثم أتبعه منًّا وأذى.
6044 - حدثني محمد بن سعد ، قال : حدثنى أبي ، قال : حدثني عمي ، قال : حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : ( يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى ) إلى( كمثل صفوان عليه تراب فأصابه وابل فتركه صلدًا ) ليس عليه شيء ، وكذلك المنافق يوم القيامة لا يقدر على شيء مما كسب.
6045 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، قال :
__________
(1) في المطبوعة : " أنقى ما كان " ، حذف " عليه " ، كأنه استنكرها ، وهي معرقة في الصواب .
أي : أنقى ما كان عليه من النقاء .
(2) في المطبوعة : " فكذا هذا الذي ينفق " ، لا أدرى لم غير ما في المخطوطة .

(5/527)


قال ابن جريج في قوله : ( لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى ) قال : يمنّ بصدقته ويؤذيه فيها حتى يبطلها.
6046 - حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : ( ثم لا يتبعون ما أنفقوا منا ولا أذى) ، فقرأ : ( يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى) حتى بلغ : ( لا يقدرون على شيء مما كسبوا ) ثم قال : أترى الوابل يدع من التراب على الصفوان شيئًا ؟ فكذلك منُّك وأذاك لم يدع مما أنفقت شيئًا. وقرأ قوله : ( يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى) ، وقرأ : ( وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ ) ، فقرأ حتى بلغ : ( وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ ). [البقرة : 270 - 272]. (1) .
* * *
القول في تأويل قوله عز وجل : { صَفْوَانٍ }
قد بينا معنى " الصفوان " بما فيه الكفاية ، (2) . غير أنا أردنا ذكر من قال مثل قولنا في ذلك من أهل التأويل.
6047 - حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : ( كمثل صفوان ) كمثل الصفاة.
6048 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا أبو زهير ، عن جويبر ، عن الضحاك : ( كمثل صفوان ) والصفوان : الصفا.
6049 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع ، مثله.
__________
(1) ما في المخطوطة والمطبوعة : " وما أنفقتم من خير فلأنفسكم " ، وهو خطأ ظاهر ، والصواب أنه يعني آيات سورة البقرة التي بينتها كما أثبتها .
(2) انظر ما سلف قريبًا ص : 523 ، 524 والمراجع في التعليق عليه .

(5/528)


6050 - حدثني موسى قال ، حدثنا عمرو قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : أما( صفوان ) ، فهو الحجر الذي يسمى " الصَّفاة " .
6051 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة ، مثله.
6052 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو صالح قال ، حدثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس قوله : ( صفوان ) يعني الحجر.
* * *
القول في تأويل قوله عز وجل : { فَأَصَابَهُ وَابِلٌ }
قد مضى البيان عنه. (1) . وهذا ذكر من قال قولنا فيه :
6053 - حدثني موسى قال ، حدثنا عمرو قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : أما وابل : فمطر شديد.
6054 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا أبو زهير ، عن جويبر ، عن الضحاك : ( فأصابه وابل ) والوابل : المطر الشديد.
6055 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة ، مثله.
6056 - حدثت عن عمار قال ، حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع ، مثله.
* * *
القول في تأويل قوله عز وجل : { فَتَرَكَهُ صَلْدًا }
* ذكر من قال نحو ما قلنا في ذلك :
6057 - حدثني موسى قال ، حدثنا عمرو قال ، حدثنا أسباط ، عن
__________
(1) انظر ما سلف قريبا ص : 524 .

(5/529)


السدي : ( فتركه صلدًا ) يقول نقيًّا.
6058 - حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي ، قال : حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : ( فتركه صلدًا ) قال : تركها نقية ليس عليها شيء.
6059 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، قال : قال ابن جريج ، قال ابن عباس قوله : ( فتركه صلدًا ) قال : ليس عليه شيء.
6060 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق ، قال حدثنا ، أبو زهير ، عن جويبر ، عن الضحاك : ( صلدًا) فتركه جردًا.
6061 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال : خبرنا معمر ، عن قتادة : ( ، فتركه صلدًا ) ليس عليه شيء.
6062 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو صالح قال ، حدثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس : ( فتركه صلدًا ) ليس عليه شيء.
* * *

(5/530)


وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآَتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (265)

القول في تأويل قوله عز وجل : { وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ }
قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه : ( ومثل الذين ينفقون أموالهم ) فيصَّدَّقون بها ، ويحملون عليها في سبيل الله ، ويقوُّون بها أهل الحاجة من الغزاة والمجاهدين في سبيل الله ، وفي غير ذلك من طاعات الله ، طلب مرضاته (1) .
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة : " طلب مرضاته ، وتثبيتًا يعنى بذلك وتثبيتًا من أنفسهم يعنى لهم وهو كلام مختل ، والظاهر أن الناسخ لجلج في كتابته فأعاد وكرر ، فحذفت " وتثبيتًا يعني بذلك " وأضفت " بذلك وتثبيتا " بعد " يعنى الثانية التي بقيت .

(5/530)


( وتثبيتًا من أنفسهم ) يعني بذلك : وتثبيتًا لهم على إنفاق ذلك في طاعة الله وتحقيقًا ، من قول القائل : " ثَبَّتُّ فلانًا في هذا الأمر " - إذ صححت عزمَه ، وحققته ، وقويت فيه رأيه - " أثبته تثبيتًا " ، كما قال ابن رواحة :
فَثَبَّتَ اللهُ مَا آتَاكَ مِنْ حَسَنٍ تَثْبِيتَ مُوسَى ، وَنَصْرًا كَالَّذِي نُصِرُوا (1)
* * *
وإنما عنى الله جل وعز بذلك : أن أنفسهم كانت موقنة مصدقة بوعد الله إياها فيما أنفقت في طاعته بغير منّ ولا أذى ، فثبتَتْهم في إنفاق أموالهم ابتغاء مرضاة الله ، وصححت عزمهم وآراءهم ، (2) . يقينًا منها بذلك ، (3) . وتصديقًا بوعد الله إياها ما وعدها. ولذلك قال من قال من أهل التأويل في قوله : ( وتثبيتًا ) ، وتصديقًا ومن قال منهم : ويقينًا لأن تثبيت أنفس المنفقين أموالَهم ابتغاء مرضاة الله إياهم ، (4) . إنما كان عن يقين منها وتصديق بوعد الله.
* ذكر من قال ذلك من أهل التأويل :
6063 - حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا يحيى قال ، حدثنا سفيان ، عن أبي موسى ، عن الشعبي : ( وتثبيتًا من أنفسهم ) ، قال : تصديقًا ويقينًا.
__________
(1) سيرة ابن هشام 4 : 16 ، وابن سعد 3/ 2 /81 ، والمختلف والمؤتلف للآمدي : 126 والاستيعاب 1 : 305 ، وطبقات فحول الشعراء : 188 ، من أبيات يثني فيها على رسول رب العالمين . وروى الآمدي وابن هشام السطر الثاني " في المرسلين ونصرًا كالذي نصروا " . ولما سمع رسول الله عليه وسلم هذا البيت ، أقبل عليه بوجهه مبتسمًا وقال : " وإياك فثبت الله " .
(2) في المخطوطة : " فيثبتهم في إنفاق أموالهم... " ، وهو سهو من الناسخ ، أو خطأ في قراءة النسخة التي نقل عنها . وفي المطبوعة : " فثبتهم...وصحح عزمهم " ، فغير ما في المخطوطة ، وجعل " صححت " ، " صحح " ، لم يفهم ما أراد الطبري . وانظر التعليق التالي .
(3) في المطبوعة : " وأراهم " ، ومثلها في المخطوطة ، والصواب " وآراءهم " كما أثبتها . يعنى أن نفوسهم صححت عزمهم وآراءهم في إنفاق أموالهم . وهذا ما يدل عليه تفسير الطبري . لقولهم " ثبت فلانا في الأمر " ، كما سلف منذ قليل .
(4) " إياهم " مفعول المصدر " تثبيت " ، أي أن أنفسهم ثبتتهم في الإنفاق .

(5/531)


6064 - حدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي قال ، حدثنا أبو أحمد قال ، حدثنا سفيان ، عن أبي موسى ، عن الشعبي : ( وتثبيتًا من أنفسهم ) قال : وتصديقًا من أنفسهم ثبات ونُصرة.
6065 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : ( وتثبيتًا من أنفسهم ) ، قال : يقينًا من أنفسهم. قال : التثبيت اليقين.
6066 - حدثني يونس قال ، حدثنا علي بن معبد ، عن أبي معاوية ، عن إسماعيل ، عن أبي صالح في قوله : ( وتثبيتًا من أنفسهم ) يقول : يقينًا من عند أنفسهم.
* * *
وقال آخرون : معنى قوله : ( وتثبيتًا من أنفسهم ) أنهم كانوا يتثبتون في الموضع الذي يضعون فيه صدقاتهم.
* ذكر من قال ذلك :
6067 - حدثنا محمد بن بشار قال ، حدثنا مؤمل قال ، حدثنا سفيان ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : ( وتثبيتًا من أنفسهم ) قال : يتثبتون أين يضعون أموالهم.
6068 - حدثني المثنى قال ، حدثنا سويد بن نصر قال ، حدثنا ابن المبارك ، عن عثمان بن الأسود ، عن مجاهد : ( وتثبيتًا من أنفسهم ) ، فقلت له : ما ذلك التثبيت ؟ قال : يتثبتون أين يضعون أموالهم.
6069 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن عثمان بن الأسود ، عن مجاهد : ( وتثبيتًا من أنفسهم ) ، قال : كانوا يتثبتون أين يضعونها.
6070 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن علي بن علي بن رفاعة ، عن الحسن في قوله : ( وتثبيتًا من أنفسهم ) ، قال : كانوا يتثبتون أين يضعون أموالهم - يعني زكاتهم.

(5/532)


6071 - حدثني المثنى قال ، حدثنا سويد قال ، حدثنا ابن المبارك ، عن علي بن علي ، قال : سمعت الحسن قرأ : ( ابتغاء مرضاة الله وتثبيتًا من أنفسهم ) ، قال : كان الرجل إذا همّ بصدقة تثبّت ، فإن كان لله مضى ، وإن خالطه شك أمسك.
* * *
قال أبو جعفر : وهذا التأويل الذي ذكرناه عن مجاهد والحسن ، تأويل بعيد المعنى مما يدل عليه ظاهر التلاوة ، وذلك أنهم تأولوا قوله : ( وتثبيتًا من أنفسهم ) ، بمعنى : " وتثبُّتًا " ، فزعموا أنّ ذلك إنما قيل كذلك ، لأن القوم كانوا يتثبتون أين يضعون أموالهم. ولو كان التأويل كذلك ، لكان : " وتثبتًا من أنفسهم " ; لأن المصدر من الكلام إن كان على " تفعَّلت " " التفعُّل " ، (1) . فيقال : " تكرمت تكرمًا " ، و " تكلمت تكلمًا " ، وكما قال جل ثناؤه : ( أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ ) [النحل : 47] ، من قول القائل : " تخوّف فلان هذا الأمر تخوفًا " . فكذلك قوله : ( وتثبيتًا من أنفسهم ) ، لو كان من " تثبَّت القومُ في وضع صدقاتهم مواضعها " ، لكان الكلام : " وتثبُّتًا من أنفسهم " ، لا " وتثبيتًا " . ولكن معنى ذلك ما قلنا : من أنه : وتثبيتٌ من أنفس القوم إياهم ، بصحة العزم واليقين بوعد الله تعالى ذكره.
* * *
فإن قال قائل : وما تنكر أن يكون ذلك نظيرَ قول الله عز وجل : ( وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلا ) [المزمل : 8] ، ولم يقل : " تبتُّلا " .
قيل : إن هذا مخالف لذلك. وذلك أن هذا إنما جاز أن يقال فيه : " تبتيلا " لظهور " وتبتَّل إليه " ، فكان في ظهوره دلالةٌ على متروك من الكلام الذي منه
__________
(1) في المطبوعة : " إن كان على تفعلت " ، وأثبت ما في المخطوطة ، وعبارة الطبري عربية محكمة ، بمعنى : لأن المصدر من الكلام الذي كان... " .

(5/533)


قيل : " تبتيلا " . وذلك أن المتروك هو : " تبتل فيبتلك الله إليه تبتيلا " . وقد تفعل العرب مثلَ ذلك أحيانا : تخرج المصادر على غير ألفاظ الأفعال التي تقدمتها ، إذا كانت الأفعال المتقدمة تدل على ما أخرجت منه ، كما قال جل وعز : ( وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الأرْضِ نَبَاتًا ) [نوح : 17] ، وقال : ( وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا ) [آل عمران : 37] ، و " النبات " : مصدر " نبت " . وإنما جاز ذلك لمجيء " أنبت " قبله ، فدل على المتروك الذي منه قيل " نباتًا " ، والمعنى : " والله أنبتكم فنبتم من الأرض نباتًا " . وليس [ في ] قوله : ( وتثبيتًا من أنفسهم ) كلامًا يجوز أن يكون متوهَّمًا به أنه معدول عن بنائه ، (1) . ومعنى الكلام : " ويتثبتون في وضع الصدقات مواضعها " ، فيصرف إلى المعاني التي صرف إليها قوله : ( وتبتَّل إليه تبتيلا ) ، وما أشبه ذلك من المصادر المعدولة عن الأفعال التي هي ظاهرة قبلها.
* * *
وقال آخرون : معنى قوله : ( وتثبيتًا من أنفسهم ) ، احتسابًا من أنفسهم.
* ذكر من قال ذلك :
6073 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة : ( وتثبيتًا من أنفسهم ) يقول : احتسابًا من أنفسهم. (2) .
* * *
قال أبو جعفر : وهذا القول أيضًا بعيد المعنى من معنى " التثبيت " ، لأن التثبيت لا يعرف في شيء من الكلام بمعنى " الاحتساب " ، إلا أن يكون أراد مفسِّرُه كذلك : أن أنفس المنفقين كانت محتسبة في تثبيتها أصحابها. فإن كان ذلك كان عنده معنى الكلام ، فليس الاحتساب بمعنًى حينئذ للتثبيت ، فيترجَم عنه به.
* * *
__________
(1) في المطبوعة : " وليس قوله...كلامًا يجوز " بالنصب ، وفي المخطوطة : " وليس قوله...كلام يجوز " بالرفع ، وظاهر أن الصواب ما أثبت من زيادة : " في " ، بمعنى أنه ليس في الجملة فعل سابق يتوهم به أن المصدر معدول به عن بنائه .
(2) سقط من الترقيم سهوا رقم : 6072 .

(5/534)


القول في تأويل قوله تعالى : { كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ }
قال أبو جعفر : يعني بذلك جل وعز : ومثل الذين ينفقون أموالهم ، فيتصدقون بها ، ويُسبِّلُونها في طاعة الله بغير منٍّ على من تصدقوا بها عليه ، ولا أذى منهم لهم بها ، ابتغاء رضوان الله وتصديقًا من أنفسهم بوعده ( كمثل جنة ) .
* * *
و " الجنة " : البستان. وقد دللنا فيما مضى على أن " الجنة " البستان ، بما فيه الكفاية من إعادته. (1) .
* * *
( برَبْوة ) والرَّبوة من الأرض : ما نشز منها فارتفع عن السيل. وإنما وصفها بذلك جل ثناؤه ، لأن ما ارتفع عن المسايل والأودية أغلظ ، وجنان ما غلُظ من الأرض أحسنُ وأزكى ثمرًا وغرسًا وزرعًا ، مما رقَّ منها ، ولذلك قال أعشى بني ثعلبة في وصف روضة :
مَا رَوْضَةٌ مِنْ رِيَاضِ الحَزْنِ مُعْشِبَةٌ... خَضْرَاءُ جَادَ عَلَيْهَا مُسْبِلٌ هَطِلُ (2)
__________
(1) انظر ما سلف 1 : 384 .
(2) ديوانه : 43 ، وسيأتي هو والأبيات التي تليه في التفسير 21 : 19 (بولاق) ، من قصيدته البارعة المشهورة . يصف شذا صاحبته حين تقوم : إِذَا تَقُومُ يَضُوعُ المِسْكُ أَصْوِرَةً ... وَالزَّنْبَقُ الوَرْدُ مِن أَرْدَانِهَا شَمِلُ
مَا رَوْضَةٌ مِن رِيَاضِ الحَزْنِ مُعْشِبَةٌ ... خَضْرَاءُ جَادَ عَلَيْها مُسْبِلٌ هَطِلُ
يُضَاحِكُ الشَّمسَ مِنْهَا كَوْكَبٌ شَرِقٌ ... مُؤَزَّرٌ بعَميم النَّبْتِ مُكْتَهِلُ
يَوْمًا بِأَطْيَبَ منها نَشْرَ رَائِحَةٍ ... وَلا بِأَحْسَنَ مِنْهَا إِذْ دَنَا الأُْصُلُ
ضاع المسك يضوع ، وتضوع : تحرك وسطع رائحته . وأصورة جمع صوار : وهو وعاء المسك ، أو القطعة منه . والورد : الأحمر ، وهو أجود الزنبق . وشمل : شامل ، عدل به من " فاعل " إلى " فعل " . والحزن : موضع في أرضى بني أسد وبني يربوع ، وهو أرض غليظة كثيرة الرياض ممرعة ، وهو مربع من أجل مرابع العرب . مسبل : مرسل ماء على الأرض . هطل : متفرق غزيز دائم والكوكب : النور والزهر ، يلمع كأنه كوكب . شرق : ريان ، فهو أشد لبريقه وصفائه .
مؤزر : قد صار عليه النبات كالإزار يلبسه اللابس ، تغطى الخضرة أعواده . ونبت عميم : ثم وطال والتف .
واكتهل النور : بلغ منتهى نمائه ، وذلك أحسن له . يقول : ما هذه الروضة التي وصف زهرها ونباتها ما وصف... بأطيب من صاحبته إذا قامت في أول يومها ، حين تتغير الأفواه والأبدان من وخم النوم .
والأصل جمع أصيل : وهو وقت العشي ، حين تفتر الأبدان من طول تعب يومها ، فيفسد رائحتها الجهد والعرق .

(5/535)


فوصفها بأنها من رياض الحزن ، لأن الحزون : غرسها ونباتها أحسن وأقوى من غروس الأودية والتلاع وزروعها.
* * *
وفي " الربوة " لغات ثلاث ، وقد قرأ بكل لغة منهنّ جماعة من القرأة ، وهي " رُبوة " بضم الراء ، وبها قرأت عامة قرأة أهل المدينة والحجاز والعراق.
و " رَبوة " بفتح الراء ، وبها قرأ بعض أهل الشام ، وبعض أهل الكوفة ، ويقال إنها لغة لتميم. و " رِبوه " بكسر الراء ، وبها قرأ - فيما ذكر - ابن عباس.
* * *
قال أبو جعفر : وغير جائز عندي أن يقرأ ذلك إلا بإحدى اللغتين : إما بفتح " الراء " ، وإما بضمها ، لأن قراءة الناس في أمصارهم بإحداهما. وأنا لقراءتها بضمها أشدّ إيثارًا مني بفتحها ، لأنها أشهر اللغتين في العرب. فأما الكسر ، فإنّ في رفض القراءة به ، دِلالةٌ واضحة على أن القراءة به غير جائزة.
* * *
وإنما سميت " الربوة " لأنها " ربت " فغلظت وعلت ، من قول القائل : " ربا هذا الشيء يربو " ، إذا انتفخ فعظُم.
* * *
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
6074 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : ( كمثل جنة بربوة ) ، قال : الربوة المكان الظاهرُ المستوي.

(5/536)


6075 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر قال ، قال مجاهد : هي الأرض المستوية المرتفعة.
6076 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة : ( كمثل جنة بربوة ) يقولا بنشز من الأرض.
6077 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا أبو زهير ، عن جويبر ، عن الضحاك : ( كمثل جنة بربوة ) والربوة : المكان المرتفع الذي لا تجري فيه الأنهار ، (1) والذي فيه الجِنان.
6078 - حدثني موسى قال ، حدثنا عمرو قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي قوله : ( بربوة ) ، برابية من الأرض.
6079 - حدثنا عن عمار قال ، حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : ( كمثل جنة بربوة ) ، والربوة النشز من الأرض.
6080 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج ، قال : قال ابن جريج ، قال ابن عباس : ( كمثل جنه بربوة ) ، قال : المكان المرتفع الذي لا تجري فيه الأنهار.
* * *
وكان آخرون يقولون : هي المستوية.
* ذكر من قال ذلك :
6081 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر ، عن الحسن في قوله : ( كمثل جنه بربوة ) ، قال : هي الأرض المستوية التي تعلو فوق المياه.
* * *
قال أبو جعفر : وأما قوله : ( أصابها وابل ) فإنه يعني جل ثناؤه : أصاب
__________
(1) في المخطوطة : " الذي تجري فيه الأنهار " ، وأثبت ما في المطبوعة ، لأنه موافق ما في الدر المنثور 1 : 339 ، ولأنه هو صواب المعنى ، ولأنه سيأتي على الصواب بعد قليل في الأثر : 6080 .

(5/537)


الجنة التي بالربوة من الأرض ، وابلٌ من المطر ، وهو الشديد العظيم القطر منه. (1) .
* * *
وقوله : ( فآتت أكلها ضعفين ) ، فإنه يعني الجنة : أنها أضعف ثمرها ضعفين حين أصابها الوابل من المطر.
* * *
و " الأكل " : هو الشيء المأكول ، وهو مثل " الرُّعْب والهُزْء " ، (2) . وما أشبه ذلك من الأسماء التي تأتي على " فُعْل " . وأما " الأكل " بفتح " الألف " وتسكين " الكاف " ، فهو فِعْل الآكل ، يقال منه : " أكلت أكلا وأكلتُ أكلة واحدة " ، كما قال الشاعر : (3) .
وَمَا أَكْلَةٌ إنْ نِلْتُها بِغَنِيمَةٍ ، وَلا جَوْعَةٌ إِنْ جُعْتُهَا بِغَرَام (4)
ففتح " الألف " ، لأنها بمعنى الفعل. ويدلك على أن ذلك كذلك قوله : " ولا جَوْعة " ، وإن ضُمت الألف من " الأكلة " كان معناه : الطعام الذي أكلته ، فيكون معنى ذلك حينئذ : ما طعام أكلته بغنيمة.
* * *
__________
(1) انظر تفسير " وابل " فيما سلف قريبا ص : 524 .
(2) في المطبوعة : " والهدء " ، وأثبت ما في المخطوطة . ولم يشر الطبري إلى ضم الكاف في " الأكل " وهي قراءتنا في مصحفنا .
(3) أبو مضرس النهدي .
(4) حماسة الشجري : 24 ، من أبيات جياد ، وقبله ، بروايته ، وهي التي أثبتها : وإنِّي لَمِنْ قَوْمٍ إذا حَارَبُوا العِدَى ... سَمَوا فَوْقَ جُرْدٍ للطِّعَانِ كِرَامِ
وإنِّي إذَا مَا القُوتُ قَلَّ لَمُؤْثِرٌ ... رَفِيقِي عَلى نفْسِي بِجُلِّ طَعَامِي
فمَا أكْلَةٌ إنْ نِلْتُهَا بِغَنِيمَةٍ ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وكان في المطبوعة : " وما أكلة أكلتها " ، وفي المخطوطة : " وما أكله إن أكلتها " ، وظاهر أن الناسخ أخطأ فوضع " أكلتها " مكان " نلتها " ، وإن كلام الطبري في شرح البيت يوهم روايته : " وما أكلته أكلتها... " . وقوله : " بغرام " ، أي بعذاب شديد . والغرام : اللازم من العذاب والشر الدائم .

(5/538)


وأما قوله : ( فإن لم يصيبها وابل فطلّ ) فإن " الطل " ، هو النَّدَى والليِّن من المطر ، كما : -
6082 - حدثنا عباس بن محمد قال ، حدثنا حجاج قال ، قال ابن جريج : ( فطل ) ندى عن عطاء الخراساني ، عن ابن عباس.
6083 - حدثني موسى قال ، حدثنا عمرو قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : أما " الطل " ، فالندى.
6084 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة : ( فإن لم يصيبها وابل فطلّ ) ، أي طشٌ.
6085 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا أبو زهير ، عن جويبر ، عن الضحاك : ( فطلّ ) قال : الطل : الرذاذ من المطر ، يعني : الليّن منه.
6086 - حدثت عن عمار قال ، حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : ( فطل ) أي طشٌ.
* * *
قال أبو جعفر : وإنما يعني تعالى ذكره بهذا المثل : كما ضعَّفتُ ثمرة هذه الجنة التي وصفتُ صفتها حين جاد الوابل ، فإن أخطأ هذا الوابل ، فالطل كذلك. يضعِّف الله صَدقة المتصدِّق والمنفق ماله ابتغاء مرضاته وتثبيتًا من نفسه ، من غير مَنِّ ولا أذى ، قلَّت نفقته أو كثرت ، لا تخيب ولا تُخلِف نفقته ، كما تضعَّف الجنة التي وصف جل ثناؤه صفتها ، قل ما أصابها من المطر أو كثُر لا يُخلِف خيرُها بحال من الأحوال.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال جماعة أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
6087 - حدثني موسى قال ، حدثنا عمرو قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي قوله : ( فآتت أكلها ضعفين فإن لم يصيبها وابل فطل ) ، يقول : كما أضعفتُ

(5/539)


ثمرة تلك الجنة ، فكذلك تُضاعف ثمرة هذا المنفق ضِعفين.
6088 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة : ( فآتت أكلها ضعفين فإن لم يصبها وابل فطل ) ، هذا مثل ضربه الله لعمل المؤمن ، يقول : ليس لخيره خُلْف ، كما ليس لخير هذه الجنة خُلْف على أيّ حال ، إمَّا وابلٌ ، وإمّا طلّ.
6089 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا أبو زهير ، عن جويبر ، عن الضحاك ، قال : هذا مثل من أنفق ماله ابتغاء مرضاة الله.
6090 - حدثت عن عمار قال ، حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع قوله : ( الذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضاة الله ). الآية ، قال : هذا مثل ضربه الله لعمل المؤمن.
* * *
فإن قال قائل : وكيف قيل : ( فإن لم يصيبها وابل فطل ) وهذا خبرٌ عن أمر قد مضى ؟
قيل : يراد فيه " كان " ، ومعنى الكلام : فآتت أكلها ضعفين ، فإن لم يكن الوابلُ أصابها ، أصابها طل. وذلك في الكلام نحو قول القائل : " حَبَست فرسين ، فإن لم أحبس اثنين فواحدًا بقيمته " ، بمعنى : " إلا أكن " - لا بدَّ من إضمار " كان " ، لأنه خبر. (1) . ومنه قول الشاعر : (2) .
إِذَا مَا انْتَسَبْنَا لَمْ تَلِدْنِي لَئِيمَةٌ... وَلَمْ تَجِدِي مِنْ أَنْ تُقِرِّي بها بُدَّا (3)
* * *
__________
(1) هذا كله في معاني القرآن للفراء 1 : 178 .
(2) زائدة بن صعصعة الفقعسي .
(3) سلف تخريجه وبيانه في 2 : 165 ، 353 .

(5/540)


القول في تأويل قوله : { وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (265) }
قال أبو جعفر : يعني بذلك : ( والله بما تعملون ) أيها الناس ، في نفقاتكم التي تنفقونها ( بصير ) ، لا يخفي عليه منها ولا من أعمالكم فيها وفي غيرها شيء ، يعلم مَنِ المنفق منكم بالمنّ والأذى ، والمنفق ابتغاء مرضاة الله وتثبيتًا من نفسه ، فيُحصي عليكم حتى يجازيَ جميعكم جزاءه على عمله ، إن خيرًا فخيرًا ، وإن شرًّا فشرًّا.
وإنما يعني بهذا القول جل ذكره ، التحذيرَ من عقابه في النفقات التي ينفقها عباده وغير ذلك من الأعمال أن يأتي أحدٌ من خلقه ما قد تقدّم فيه بالنهي عنه ، أو يفرّطَ فيما قد أمر به ، لأن ذلك بمرأى من الله ومَسمَع ، يعلمه ويحصيه عليهم ، وهو لخلقه بالمرصاد. (1) .
* * *
القول في تأويل قوله : { أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ }
قال أبو جعفر : ومعنى ذلك : (2) .( يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى كالذي ينفق ماله رئاء الناس ولا يؤمن بالله واليوم الآخر فمثله كمثل صَفوان عليه تراب فأصابه وابلٌ فتركه صلدًا لا يقدرون على شيء مما كسبوا ) ( أيود أحدكم أن تكون له جنة من نخيل وأعناب تجري من تحتها الأنهار له فيها
__________
(1) في المطبوعة : " بخلقه " . لم يحسن قراءة المخطوطة .
(2) في المطبوعة : " يعنى تعالى ذكره " . لا أدرى لم غيره الطابع .

(5/541)


من كل الثمرات وأصَابه الكبر) ، الآية. (1)
* * *
ومعنى قوله : ( أيود أحدكم ) ، أيحب أحدكم ، (2) . أن تكون له جنة - يعني بستانًا (3) . ( من نخيل وأعناب تجري من تحتها الأنهار ) ، يعني : من تحت الجنة (وله فيها من كل الثمرات ) ، و " الهاء " في قوله : ( له ) عائدة على " أحد " ، و " الهاء " و " الألف " في : ( فيها ) على الجنة ، ( وأصابه ) ، يعني : وأصاب أحدكم ( الكبر وله ذريه ضعفاء ).
* * *
وإنما جعل جل ثناؤه البستانَ من النخيل والأعناب الذي قال جل ثناؤه لعباده المؤمنين : أيود أحدكم أن تكون له (4) . مثلا لنفقة المنافق التي ينفقها رياء الناس ، لا ابتغاء مرضاة الله ، فالناس - بما يظهر لهم من صدقته ، وإعطائه لما يعطى وعمله الظاهر - يثنون عليه ويحمدونه بعمله ذلك أيام حياته (5) . في حسنه كحسن البستان وهي الجنة التي ضربها الله عز وجل لعمله مثلا (6) . من نخيل وأعناب ، له فيها من كل الثمرات ، لأن عمله ذلك الذي يعمله في الظاهر في الدنيا ، له فيه من كل خير من عاجل الدنيا ، يدفع به عن نفسه ودمه وماله وذريته ، ويكتسب به المحمَدة وحسن الثناء عند الناس ، ويأخذ به سهمه من المغنم مع أشياء كثيرة يكثر إحصاؤها ، فله في ذلك من كل خير في الدنيا ، كما وصف جل ثناؤه الجنة التي وصف مثلا لعمله ، بأن فيها من كل الثمرات. (7) .
* * *
__________
(1) يعنى أبو جعفر : أن هذه الآية ، مردودة على الآية السابقة التي ساقها .
(2) انظر تفسير " ود " فيما سلف 2 : 470 .
(3) انظر تفسير " جنة " فيما سلف قريبا : 535 تعليق : 1 ، ومراجعه .
(4) وضعت هذا الرقم على هذه المواضع جميعًا لكي أبين سياق هذه الجملة المتراكبة ، وهذا سياقها ، وما بين ذلك فصول متتابعة : " وإنما جعل ثناؤه البستان... مثلا لنفقة المنافق... في حسنه كحسن البستان وهي الجنة... من نخيل وأعناب... " .
(5) وضعت هذا الرقم على هذه المواضع جميعا لكي أبين سياق هذه الجملة المتراكبة ، وهذا سياقها ، وما بين ذلك فصول متتابعة : " وإنما جعل ثناؤه البستان... مثلا لنفقة المنافق... في حسنه كحسن البستان وهي الجنة... من نخيل وأعناب... " .
(6) وضعت هذا الرقم علىهذه المواضع جميعا لكي أبين سياق هذه الجملة المتراكبة ، وهذا سياقها ، وما بين ذلك فصول متتابعة : " وإنما جعل ثناؤه البستان... مثلا لنفقة المنافق... في حسنه كحسن البستان وهي الجنة... من نخيل وأعناب... " .
(7) في المطبوعة والمخطوطة : " بعمله " والصواب ما أثبت ، وسياق الجملة : " كما وصف جل ثناؤه الجنة ، ... بأن فيها من كل الثمرات " .

(5/542)


ثم قال جل ثناؤه : ( وأصابه الكبر وله ذرية ضعفاء) ، يعني أنّ صاحب الجنة أصابه الكبر ( وله ذرية ضعفاء ) صغارٌ أطفال (1) .( فأصابها ) يعني : فأصاب الجنة - ( إعصار فيه نار فاحترقت ) ، يعني بذلك أنّ جنته تلك أحرقتها الريح التي فيها النار ، في حال حاجته إليها ، وضرورته إلى ثمرتها بكبره ، وضعفه عن عمارتها ، وفي حال صغر ولده وعجزه عن إحيائها والقيام عليها. فبقي لا شيء له ، أحوج ما كان إلى جنته وثمارها ، بالآفة التي أصابتها من الإعصار الذي فيه النار.
يقول : فكذلك المنفق ماله رياء الناس ، أطفأ الله نوره ، وأذهب بهاء عمله ، وأحبط أجره حتى لقيه ، وعاد إليه أحوج ما كان إلى عمله ، حين لا مُسْتَعْتَبَ له ، (2) . ولا إقالة من ذنوبه ولا توبة ، واضمحل عمله كما احترقت الجنة التي وصف جل ثناؤه صفتها عند كبر صاحبها وطفولة ذريته أحوجَ ما كان إليها فبطلت منافعها عنه.
* * *
وهذا المثل الذي ضربه الله للمنفقين أموالهم رياء الناس في هذه الآية ، نظير المثل الآخر الذي ضربه لهم بقوله : ( فمثله كمثل صفوان عليه ترابٌ فأصابه وابلٌ فتركه صلدًا لا يقدرون على شيء مما كسبوا ).
* * *
قال أبو جعفر : وقد تنازع أهل التأويل في تأويل هذه الآية ، إلا أن معاني قولهم في ذلك وإن اختلفت تصاريفهم فيها عائدةٌ إلى المعنى الذي قلنا في ذلك ، وأحسنهم إبانة لمعناها وأقربهم إلى الصواب قولا فيها السدي.
__________
(1) قد مضت " ذرية " فيما سلف 3 : 19 ، 73 ، ولم يفسرها . وذلك من اختصاره لتفسيره كما بينا في مقدمة الجزء الأول ، وكما جاء في ترجمته .
(2) لا مستعتب : أي لا استقالة ولا استدراك ولا استرضاء لله تعالى : من قولهم : " استعتبت فلانًا " أي استقلت مما فعلت ، وطلبت رضاه ، ورجعت عن الإساءة إليه .

(5/543)


6091 - حدثني موسى قال ، حدثنا عمرو قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : ( أيود أحدكم أن تكون له جنةٌ من نخيل وأعناب تجري من تحتها الأنهار له فيها من كل الثمرات وأصابه الكبر ولا ذرية ضعفاه فأصابها إعصار فيه نار فاحترقت ) هذا مثل آخر لنفقة الرياء. إنه ينفق ماله يرائي الناس به ، فيذهب ماله منه وهو يرائي ، فلا يأجره الله فيه. فإذا كان يوم القيامة واحتاجَ إلى نفقته ، وجدها قد أحرقها الرياء ، فذهبت كما أنفق هذا الرجل على جنته ، حتى إذا بلغت وكثر عياله واحتاج إلى جنته جاءت ريح فيها سَموم فأحرقت جنته ، فلم يجد منها شيئًا. (1) . فكذلك المنفق رياء.
6092 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله عز وجل : ( أيود أحدكم أن تكون له جنة من نخيل وأعناب ) كمثل المفرِّط في طاعة الله حتى يموت. قال ، يقول : أيود أحدكم أن يكون له دنيا لا يعمل فيها بطاعة الله ، كمثل هذا الذي له جنات تجري من تحتها الأنهار ، ( له فيها من كل الثمرات وأصابه الكبر وله ذرية ضعفاء فأصابها إعصارٌ فيه نار فاحترقت ) ، فمثله بعد موته كمثل هذا حين أحرقت جنته وهو كبير ، لا يغني عنها شيئًا ، وولده صغار لا يغنون عنها شيئًا ، وكذلك المفرِّط بعد الموت كل شيء عليه حَسْرة.
6093 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله.
6094 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا جرير ، عن عبد الملك ، عن عطاء ، قال : سأل عُمر الناس عن هذه الآية فما وجد أحدًا يشفيه ، حتى قال ابن عباس وهو خلفه : يا أمير المؤمنين ، إنِّي أجد في نفسي منها شيئًا ، قال : فتلفت إليه ، فقال : تحوَّل ههنا ، لم تحقّر نفسك ؟ قال : هذا مثل ضربه الله عز وجل
__________
(1) في المخطوطة : " ريح فيها سمره " الهاء الأخيرة متصلة بالراء ، ولم أجد لها وجها ، والذي في المطبوعة ، هو ما في الدر المنثور 1 : 340 ، وفي سائر الآثار الأخرى .

(5/544)


فقال : أيودُّ أحدكم أن يعمل عمره بعمل أهل الخير وأهل السعادة ، حتى إذا كان أحوجَ ما يكون إلى أن يختمه بخير حين فني عمره ، واقترب أجله ، ختم ذلك بعمل من عمل أهل الشقاء ، فأفسده كله فحرقه أحوج ما كان إليه.
6095 - حدثنا ابن وكيع قال : حدثنا أبي ، عن محمد بن سليم ، عن ابن أبي مليكة : أن عمر تلا هذه الآية : " أيود أحدكم أن تكون له جنة من نخيل وأعناب " ، قال : هذا مثل ضرب للإنسان : يعمل عملا صالحًا ، حتى إذا كان عنده آخر عمره أحوجَ ما يكون إليه ، عمل عمل السوء. (1) .
6096 - حدثني المثنى ، قال : حدثنا سويد ، قال : أخبرنا ابن المبارك ، عن ابن جريج ، قال : سمعت أبا بكر بن أبي مليكة يخبر عن عبيد بن عمير أنه سمعه يقول : سأل عمر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : فيم تَرَون أنزلت : " أيود أحدكم أن تكون له جنة من نخيل وأعناب " ؟ فقالوا : الله أعلم. فغضب عمر فقال : قولوا : " نعلم " أو " لا نعلم " . فقال ابن عباس : في نفسي منها شيء ، يا أمير المؤمنين. فقال عمر : قل يا ابن أخي ، ولا تحقِّر نفسك! قال ابن عباس : ضربت مثلا لعمل. قال عمر : أي عمل ؟ قال : لعمل. فقال عمر : رجل عنيٌّ يعمل الحسنات ، ثم بعث الله له الشيطان ، فعمل بالمعاصي حتى أغرق أعماله كلها قال : وسمعت عبد الله بن أبي مليكة يحدث نحو هذا عن ابن عباس ، سمعه منه. (2) .
__________
(1) الأثر : 6095 - " محمد بن سليم المكي أبو عثمان " . روي عن ابن أبي مليكة ، قال الحافظ ابن حجر : " ولم أر له رواية عن غيره " . روى عنه وكيع بن الجراح ، وعبد الله بن داود الخريبي ، وأبو عاصم النبيل . مترجم في التهذيب . وهذا الأثر أشار إليه في الفتح 8 : 151 في كلامه عن الأثر : 6096 .
(2) الأثر : 6096 - رواه البخاري من طريق هشام بن يوسف ، عن ابن جريج ، وأشار الحافظ في الفتح 8 : 151 ، إلى رواية الطبري له من طريق ابن المبارك ، عن ابن جريج . وكان في
المطبوعة : " رحل عنى " مهملة ، والصواب ما أثبت من المراجع . وانظر التعليق التالي .

(5/545)


6097 - حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : سمعت أبا بكر بن أبي مليكة يخبر أنه سمع عبيد بن عمير قال : ابن جريج : وسمعت عبد الله بن أبي مليكة ، قال : سمعت ابن عباس قالا جميعًا : إن عمر بن الخطاب سأل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر نحوه إلا أنه قال عمر : للرجل يعمل بالحسنات ، ثم يُبعث له الشيطان فيعمل بالمعاصي. (1) .
6098 - حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : سألت عطاء عنها ثم قال ابن جريج : وأخبرني عبد الله بن كثير ، عن مجاهد قالا ضربت مثلا للأعمال قال ابن جريج : وقال ابن عباس : ضربت مثلا للعمل ، يبدأ فيعمل عملا صالحًا ، فيكون مثلا للجنة التي من نخيل وأعناب تجري من تحتها الأنهار ، له فيها من كل الثمرات - ثم يسيء في آخر عمره ، فيتمادى على الإساءة حتى يموت على ذلك ، فيكون الإعصار الذي فيه النار التي أحرقت الجنة ، مثلا لإساءته التي مات وهو عليها. قال ابن عباس : الجنة عيشُه وعيش ولده فاحترقت ، فلم يستطع أن يدفع عن جنته من أجل كبره ، ولم يستطع ذريته أن يدفعوا عن جنتهم من أجل صغرهم حتى احترقت.
يقول : هذا مثله ، تلقاه وهو أفقر ما كان إليّ ، فلا يجد له عندي شيئًا ، (2) ولا يستطيع أن يدفع عن نفسه من عذاب الله شيئًا ، ولا يستطيع من كبره وصغر أولاده أن يعملوا جنة ، (3) كذلك لا توبة إذا انقطع العمل حين مات قال
__________
(1) الأثر : 6097 - رواه الحاكم في المستدرك 2 : 283 ، وأشار إليه الحافظ في الفتح 8 : 151 وهو مكرر الذي قبله . وسلقه الحاكم بلفظة وقال " وهذا حديث صحيح على شرط الشيخين ، ولم يخرجاه " ووافقه الذهبي .
(2) في المطبوعة : " تلقاه " ، وفي المخطوطة " للعال " مصحفة مضطربة الخط ، وهذا صواب قراءتها .
(3) في المخطوطة : " من كبره وصغره أن يعملوا جنته " ، وما في المطبوعة أشبه بالصواب .

(5/546)


ابن جريج ، عن مجاهد : سمعت ابن عباس قال : هو مثل المفرِّط في طاعة الله حتى يموت قال ابن جريج ، وقال مجاهد : أيود أحدكم أن تكون له دنيا لا يعمل فيها بطاعة الله ، كمثل هذا الذي له جنة ؟ فمثله بعد موته كمثل هذا حين أحرقت جنته وهو كبير لا يغني عنها شيئًا ، (1) وأولاده صغار ولا يغنون عنه شيئًا. وكذلك المفرِّط بعد الموت ، كل شيء عليه حسرة.
6099 - حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : " أيود أحدكم أن تكون له جنة من نخيل وأعناب تجري من تحتها الأنهار " الآية ، يقول : أصابها ريح فيها سموم شديدة (2) " كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون " ، : فهذا مثلٌ ، فاعقلوا عن الله جل وعز أمثاله ، فإنه قال : ( وَتِلْكَ الأمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلا الْعَالِمُونَ ) [سورة العنكبوت : 43] ، هذا رجل كبرت سنه ، ورَقَّ عظمه ، وكثر عياله ، (3) ثم احترقت جنته على بقية ذلك ، كأحوج ما يكون إليه ، يقول : أيحب أحدكم أن يضلَّ عنه عمله يوم القيامة كأحوج ما يكون إليه ؟
6100 - حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : " أيود أحدكم أن تكون له جنةٌ " إلى قوله : " فاحترقت " يقول : فذهبت جنته كأحوج ما كان إليها حين كبرت سِنُّه وضعُف عن الكسب " وله ذرية ضعفاء " لا ينفعونه. قال : وكان الحسن يقول : " فاحترقت " فذهبت أحوجَ ما كان إليها ، فذلك قوله : أيود أحدكم أن يذهب عمله أحوجَ
__________
(1) في المطبوعة : " حين أحرقت جنته " ، وأثبت ما في المخطوطة .
(2) في المطبوعة : " سموم شديدة " ، و " السموم " مذكر ، ويؤنث ، لمعنى الريح الحارة .
(3) في المخطوطة والمطبوعة : " دق عظمه " ، والصواب بالراء ، وفي حديث عثمان : " كبرت سني ، ورق عظمي " ، وقولهم : " رق عظم فلان " ، أي كبر وضعف . والرقق (بفتحتين) . ضعف العظام ، قال الشاعر في ناقته : خَطَّارَةٌ بَعْدَ غِبّ الجَهْدِ نَاجِيةٌ ... لم تَلْقَ فِي عَظْمِهَا وَهْنًا وَلا رَقَقَا
.

(5/547)


ما كان إليه ؟
6101 - حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : ضرب الله مثلا حسنًا ، وكل أمثاله حسنٌ تبارك وتعالى. وقال قال : (1) " أيود أحدكم أن تكون له جنة من نخيل " إلى قوله : " فيها من كل الثمرات " يقول : صنعه في شبيبته ، فأصابه الكبر وله ذرية ضعفاء عند آخر عمره ، فجاءه إعصار فيه نار فاحترق بستانه ، فلم يكن عنده قوة أن يغرس مثله ، ولم يكن عند نسله خير يعودون عليه. وكذلك الكافر يوم القيامة ، إذا رُدّ إلى الله تعالى ليس له خيرٌ فيستعتب ، (2) كما ليس له قوة فيغرس مثل بستانه ، (3) ولا يجد خيرًا قدم لنفسه يعود عليه ، كما لم يغن عن هذا ولده ، وحُرِم أجره عند أفقرِ ما كان إليه ، كما حرم هذا جنته عند أفقر ما كان إليها عند كبره وضعف ذريته. وهو مثل ضربه الله للمؤمن والكافر فيما أوتيا في الدنيا : كيف نجَّى المؤمنَ في الآخرة ، وذخر له من الكرامة والنعيم ، وخزَن عنه المال في الدنيا ، وبسط للكافر في الدنيا من المال ما هو منقطعٌ ، وخزَن له من الشر ما ليس بمفارقه أبدًا ، ويخلد فيها مهانًا ، من أجل أنه [ فخر على صاحبه] ووثق بما عنده ، (4) ولم يستيقن أنه ملاق ربه. (5) .
__________
(1) في المخطوطة : " وقال قال أيوب : أيود أحدكم " ، وقوله : " أيوب " لا معنى له هنا ، ليس في هذا الإسناد من اسمه " أيوب " ، ولو كان أيضًا ، لكان سياقًا مضطربًا . وظاهر أن " أيوب " هي " أيود " ، والناسخ في هذا الموضع قد اضطرب . كما سترى في التعليق التالي . وصحته ما جاء في الدر المنثور 1 : 340 ، كما سترى بعد .
(2) كان بين الكلمات في المخطوطة بياض هكذا : " ذرية ضعفاء عمره فجاءه إعصار فيه نار فاحترقت عنده قوة إن نسله خير يعودون الكافر يوم القيامة إذا رد إلى خير فيستعتب " ، وهو مع البياض خلط من الكلام ! وأثبت ما في المطبوعة ، وهو نص الأثر كما أخرجه السيوطي في الدر المنثور 1 : 340 ، ونسبه لابن جرير ، وأبي حاتم . وابن كثير في التفسير 2 : 38 ، 39 .
(3) في المخطوطة والمطبوعة : " كما ليس له قوة " ، والصواب من الدر المنثور ، وابن كثير .
(4) الذي بين القوسين هو ما ثبت في المطبوعة ، أما المخطوطة فكانت : " من أكل أنه ووثق بما عنده " بياض . ولم أجد بقية الأثر في المراجع السالفة ، فتركت ما استظهره طابع المطبوعة على حاله . ولو استظهرته لقلت : " من أجل أنه كفر بلقاء ربه " ، والله أعلم .
(5) الأثر : 6101 - في الدر المنثور 1 : 340 ، وابن كثير 2 : 38 ، 39 ، كما أسلفت .

(5/548)


6102 - حدثت عن عمار ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : " أيود أحدكم أن تكون له جنة " ، الآية ، قال : [هذا مثل ضربه الله] : أيود أحدكم أن تكون له جنة من نخيل وأعناب [ له فيها من كل الثمرات] ، والرجل [قد كبر سنه وضعف] ، وله أولاد صغار [وابتلاهم الله] في جنتهم ، (1) فبعث الله عليها إعصارًا فيه نار فاحترقت ، (2) فلم يستطع الرجل أن يدفع عن جنته من الكبر ، (3) ولا ولده لصغرهم ، فذهبت جنته أحوجَ ما كان إليها. يقول : أيحب أحدكم أن يعيش في الضلالة والمعاصي حتى يأتيه الموت ، فيجيء يوم القيامة قد ضلّ عنه عمله أحوجَ ما كان إليه ؟ فيقول : ابن آدم ، أتيتني أحوجَ ما كنت قطُّ إلى خير ، فأين ما قدمت لنفسك ؟
6103 - حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد : وقرأ قول الله عز وجل : " يا أيها الذين آمنوا لا تُبطلوا صدقاتكم بالمنّ والأذى " ، ثم ضرب ذلك مثلا فقال : " أيود أحدكم أن تكون له جنّة من نخيل وأعناب " ، حتى بلغ " فأصابها إعصار فيه نار فاحترقت " . قال : جرت أنهارها وثمارها ، وله ذرية ضعفاء ، فأصابها إعصار فيه نار فاحترقت. أيودُّ أحدكم هذا ؟ كما يتجمَّل أحدكم إذ يخرُج من صدقته ونفقته ، (4) حتى إذا كان له عندي جنّة وجرت أنهارها وثمارها ،
__________
(1) الذي وضعته بين الأقواس ، هو ما استظهر الطابع في المطبوعة فيما أرجح ، وكان مكانه في المخطوطة بياض .
(2) كان في المخطوطة : " فبعث الله عنها إعصار فيه نار " ، وهو تحريف وخطأ ، وما في المطبوعة أشبه بالصواب .
(3) في المخطوطة : " من الكفر " . وهو خطأ بين .
(4) في المطبوعة " فما يحمل " ، وفي المخطوطة " كما يحمل " ، ثم فيهما جميعًا : " أن يخرج " ، وهو كلام لا مفهوم له . واستظهرت قراءاتها كذلك ، لأن الذي يخرج نفقته رئاء الناس ، إنما يتجمل بذلك عندهم . وهذا هو الصواب سياق الأثر . والمخطوطة كما تبين من التعليقات السالفة ، فاسدة كل الفساد من اضطراب كتابة الناسخ ، ومن عجلته ، أو عجزه عن قراءة النسخة التي نقل عنها .

(5/549)


وكانت لولده وولد ولده أصابها ريح إعصار فحرقها.
6104 - حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا زهير ، عن جويبر ، عن الضحاك في قوله : " أيود أحدكم أن تكون له جنة من نخيل وأعناب تجري من تحتها الأنهار " ، رجل غرس بستانًا فيه من كل الثمرات ، فأصابه الكبر ، وله ذرية ضعفاء ، فأصابها إعصار فيه نار فاحترقت ، فلا يستطيع أن يدفع عن بستانه من كبره ، ولم يستطع ذريته أن يدفعوا عن بستانه ، فذهبت معيشته ومعيشة ذريته. فهذا مثل ضربه الله للكافر ، يقول : يلقاني يوم القيامة وهو أحوج ما يكون إلى خير يصيبه ، فلا يجد له عندي خيرًا ، ولا يستطيع أن يدفع عن نفسه من عذاب الله شيئًا.
* * *
قال أبو جعفر : وإنما دللنا أن الذي هو أولى بتأويل ذلك ما ذكرناه ، لأن الله جل ثناؤه تقدَّم إلى عباده المؤمنين بالنهي عن المنّ والأذى في صدقاتهم ، ثم ضرب مثلا لمن منَّ وآذى من تصدق عليه بصدقة ، فمثَّله بالمرائي من المنافقين المنفقين أموالهم رئاء الناس. وكانت قصة هذه الآية وما قبلها من المثل ، نظيرةَ ما ضرب لهم من المثل قبلها ، فكان إلحاقُها بنظيرتها أولى من حمل تأويلها على أنه مثلُ ما لم يَجر له ذكر قبلها ولا معها. (1)
* * *
فإن قال لنا قائل : وكيف قيل : " وأصابه الكبر " ، وهو فعل ماض ، فعطف به على قوله : " أيود أحدكم " ؟
قيل : إن ذلك كذلك ، لأن قوله : " أيود " ، يصح أن يوضع فيه " لو " مكان " أن " فلما صلحت ب " لو " و " أن " ومعناهما جميعًا الاستقبال ، استجازت العرب أن
__________
(1) انظر ما قاله القرطبي في تفسيره 3 : 318 ، في رد اختيار ابن جرير في تفسيره . ومذهب ابن جرير أوثق وأضبط في البيان ، وفي الاستدلال .

(5/550)


يردّوا " فعل " بتأويل " لو " على " يفعل " مع " أن " (1) فلذلك قال : " فأصابها " ، وهو في مذهبه بمنزلة " لو " ، إذْ ضارعت " أن " في معنى الجزاء ، فوضعت في مواضعها ، وأجيبت " أن " بجواب " لو " و " لو " بجواب " أن " ، فكأنه قيل : أيود أحدكم لو كانت له جنة من نخيل وأعناب ، تجري من تحتها الأنهار ، له فيها من كل الثمرات وأصابه الكبر ؟ (2) .
فإن قال : وكيف قيل ههنا : " وله ذرية ضعفاء " ، وقال في [النساء : 9] ، ( وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا ) ؟
قيل : لأن " فعيلا " يجمع على " فعلاء " و " فِعال " ، فيقال : " رجل ظريف من قوم ظرفاء وظراف.
* * *
وأما " الإعصار " ، فإنه الريح العاصف ، تهب من الأرض إلى السماء كأنها عمود ، تجمع " أعاصير " ، ومنه قول يزيد بن مفرغ الحميري :
أُنَاسٌ أَجَارُونَا فَكَانَ جِوارُهُمْ... أَعَاصِيرَ مِنْ فَسْوِ العِرَاقِ المُبَذَّرِ (3)
* * *
__________
(1) أي : أن يردوا الفعل الماضي بتأويل " لو " على الفعل المضارع مع " أن " .
(2) هذا نص مقالة الفراء في معاني القرآن 1 : 175 ، وقد استوفى الباب هناك . وانظر ما سلف في جواب " لو " بالماضي من الفعل 2 : 458 /3 : 184 ، 185 ، والتعليق هناك .
(3) تاريخ الطبري 6 : 178 ، والأغاني 17 : 178 : وسيأتي في التفسير 15 : 53 مصحفًا أيضًا : " من فسق العراق المبذر " . والبيت في المطبوعة والمخطوطة هنا : " من سوء العراق المنذر " ، وهو كلام بلا معنى ، ولكنى رأيت شارحًا شرحه على ذلك ، فأشهد الله كاد يقتلني من فرط الضحك ! وهو من أبيات ثلاثة قالها ابن مفرغ في خبره مع بن زياد ، حين هجاه ، وهجا معاوية بن أبي سفيان (وانظر ما سلف 4 : 293 وتعليق : 2) وفارق عبادًا مقبلًا إلى البصرة ، فطاف بأشرافها من قريش يسجير بهم ، فما كان منهم إلا الوعد ، ثم أتي المنذر بن الجارود (من عبد القيس) فأجاره وأدخله داره ، ووشى الوشاة به إلى عبيد الله بن زيادة أنه دار المنذر . وكان المنذر في مجلس عبيد الله ، فلم يشعر إلى بابن مفرغ قد أقيم على رأسه ، فقام المنذر فقال : أيها الأمير ، قد أجرته! فقال : يا منذر ، واله يمدحنك وأباك ويهجوني أنا وأبي ، ثم تجيره على ! فأمر به فسقى دواء وحمل على حمار يطاف به وهو يسلح في ثيابه من جراء الدواء ، فقال عندئذ لعبيد الله بن زياد : يَغْسِلُ المَاءُ مَا صَنَعْتَ وَقَولِي ... راَسِخٌ مِنْكَ فِي العِظَامِ البَوالِى
ثم هجا المنذر بن الجارود فقال : تَرَكْتُ قُرَيْشًا أَنْ أُجَاوِرَ فِيهمُ ... وَجَاورْتُ عبدَ القَيْس أَهْلَ المُشَقَّرِ
أُناسٌ أَجَارُونَا فَكَانَ جِوَارُهُمْ ... أَعَاصِيرَ مِنْ فَسْوِ العِرَاقِ المبَذَّرِ
فَأَصْبَحَ جَارِي مِنْ جَذِيمةَ نَائمًا ... ولا يمنَعُ الجِيرَانَ غَيْرُ المُشَمِّرِ
وقوله : " من فسو العراق " ، وذلك أن عبد القيس ونبي حنيفة وغيرهم من أهل البحرين وما جاورها ، كانوا يعيرون بالفسو ، لأن بلادهم بلاد نخل فيأكلونه ، ويحدث في أجوافهم الرياح والقراقير . والمبذر : من التبذير ، وهو الإسراف في المال وتشتيه وتفريقه . وهذه صفة قد انتزعها ابن مفرغ أحسن انتزاع في هذا الموضع ، فجعلت سخرتته بالمنذر بن الجارود ، ألذع ما تكون ، مع روعة قوله : " أعاصير " !!
قد جاء الأخطل بعد ذلك فهجا ابنه أيضًا مالك بن المنذر بن الجارود ، فقال له : وَعَبْدُ القَيْسِ مُصْفَرٌ لِحَاهَا ... كَأَنَّ فُسَاءَهَا قِطَعُ الضَّبَابِ!!
فبلغ منه ما بلغ!! ، وانظر طبقات فحول الشعراء : 298 ، 299 ، والتعليق هناك .

(5/551)


قال أبو جعفر : واختلف أهل التأويل في تأويل قوله : " إعصار فيه نار فاحترقت " .
فقال بعضهم : معنى ذلك : ريح فيها سموم شديدةٌ.
* ذكر من قال ذلك :
6105 - حدثني محمد بن عبد الله بن بزيع ، قال : حدثنا يوسف بن خالد السمتي ، قال : حدثنا نافع بن مالك ، عن عكرمة ، عن ابن عباس في قوله : " إعصار فيه نار " ، ريح فيها سموم شديدةٌ.
6106 - حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا ابن عطية ، قال : حدثنا إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن التميمي ، عن ابن عباس في : " إعصارٌ فيه نار " ، قال : السموم الحارة التي خلق منها الجانّ ، التي تحرق.

(5/552)


6107 - حدثنا أحمد (1) قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا شريك ، عن أبي إسحاق ، عن التميمي ، عن ابن عباس : " فأصابها إعصار فيه نار فاحترقت " ، قال : هي السموم الحارة التي لا تبقى أحدًا. (2) .
6108 - حدثنا المثنى ، قال : حدثنا الحماني ، قال : حدثنا شريك ، عن أبي إسحاق ، عن التميمي ، عن ابن عباس : " إعصار فيه نار فاحترقت " التي تقتل.
6109 - حدثنا أحمد بن إسحاق ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عمن ذكره ، عن ابن عباس ، قال : إن السموم التي خلق منها الجان جزء من سبعين جزءًا من النار.
6110 - حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : " إعصار فيه نار فاحترقت " ، هي ريح فيها سموم شديدٌ.
6111 - حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قال ابن عباس : " إعصار فيه نار " ، قال : سموم شديد.
6112 - حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : " إعصار فيه نار " ، يقول : أصابها ريح فيها سموم شديدة.
6113 - حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، نحوه.
6114 - حدثني موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة : " حدثنا حميد " ، والصواب : " أحمد " ، وهو : " أحمد بن إسحق الأهوازي " ، كما سلف مئات من المرات في روايته عن أبي أحمد الزبيري ، فاطلبه في الفهارس ، وانظر الآتي رقم : 6109 .
(2) في المطبوعة حذف قوله : " لا تبقي أحدًا " ، وعلق عليه بقوله : " في بعض النسخ زيادة : " التي لا تضر أحدًا " ، وهي في المخطوطة كذلك ، ولكن الناسخ أفسد الكلمة ، وصوابها كما أثبت : " لا تبقى أحدًا " . وسيأتي في حديث التميمي عن عباس ، وهو الحديث التالي : " التي تقتل " . فهذا هذا .

(5/553)


أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآَيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (266)

السدي : " إعصار فيه نار فاحترقت " أما الإعصار فالريح ، وأما النار فالسموم.
6115 - حدثت عن عمار ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : " إعصار فيه نار " ، يقول : ريح فيها سموم شديد.
* * *
وقال آخرون : هي ريح فيها برد شديد.
* ذكر من قال ذلك :
6116 - حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، قال : كان الحسن يقول في قوله : " إعصار فيه نار فاحترقت " ، فيها صِرٌّ وبرد. (1)
6117 - حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا أبو زهير ، عن جويبر ، عن الضحاك : " إعصار فيه نار فاحترقت " ، يعني بالإعصار ، ريح فيها بَرْدٌ.
* * *
القول في تأويل قوله : { كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ 266 }
قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه : كما بيَّن لكم ربُّكم تبارك وتعالى أمَر النفقة في سبيله ، وكيف وجْهُها ، وما لكم وما ليس لكم فعله فيها كذلك يبين لكم الآيات سوى ذلك ، فيعرّفكم أحكامها وحلالها وحرامها ، ويوضح لكم حُججها ، إنعامًا منه بذلك عليكم " لعلكم تتفكرون " ، يقول : لتتفكروا بعقولكم ، فتتدبّروا وتعتبروا بحجج الله فيها ، وتعملوا بما فيها من أحكامها ، فتطيعوا الله به.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
__________
(1) الصر (بكسر الصاد) . البرد الذي يضرب النبات ويحرقه .

(5/554)


يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآَخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (267)

* ذكر من قال ذلك :
6118 - حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا الثوري ، قال : قال مجاهد : " لعلكم تتفكرون " قال : تطيعون.
6119 - حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس : " كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون " يعني في زوال الدنيا وفنائها ، وإقبال الآخرة وبقائها.
* * *
القول في تأويل قوله : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا }
قال أبو جعفر : يعني جل ثناؤه بقوله : " يا أيها الذين آمنوا " ، صدقوا بالله ورسوله وآي كتابه.
* * *
ويعني بقوله : " أنفقوا " ، زكُّوا وتصدقوا ، كما : -
6120 - حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله ، قال : حدثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس قوله : " أنفقوا من طيبات ما كسبتم " يقول : تصدَّقوا.
* * *
القول في تأويل قوله : { مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ }
يعني بذلك جل ثناؤه : زكوا من طيّب ما كسبتم بتصرُّفكم إما بتجارة ، وإما بصناعة من الذهب والفضة.
ويعني ب " الطيبات " ، الجياد ، يقول : زكوا أموالكم التي اكتسبتموها حلالا وأعطوا في زكاتكم الذهبَ والفضة ، الجيادَ منها دون الرديء ، كما : -

(5/555)


6121 - حدثنا محمد بن المثنى ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، عن شعبة ، عن الحكم ، عن مجاهد في هذه الآية : " يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم " قال : من التجارة.
6122 - حدثني موسى بن عبد الرحمن ، قال : حدثنا زيد بن الحباب ، قال : وأخبرني شعبة ، عن الحكم ، عن مجاهد ، مثله.
6123 - حدثني حاتم بن بكر الضبّي ، قال : حدثنا وهب ، عن شعبة ، عن الحكم ، عن جاهد ، مثله.
6124 - حدثني المثنى ، قال : حدثنا آدم ، قال : حدثنا شعبة ، عن الحكم ، عن مجاهد في قوله : " أنفقوا من طيبات ما كسبتم " ، قال : التجارة الحلال.
6125 - حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن عطاء بن السائب ، عن عبد الله بن معقل : " أنفقوا من طيبات ما كسبتم " ، قال : ليس في مال المؤمن من خبيث ، ولكن لا تيمموا الخبيث منه تنفقون.
6126 - حدثني عصام بن روّاد بن الجراح ، قال : حدثنا أبي ، قال : حدثنا أبو بكر الهذلي ، عن محمد بن سيرين ، عن عبيدة ، قال : سألت علي بن أبي طالب صلوات الله عليه عن قوله : " يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم " قال : من الذهب والفضة.
6127 - حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : " من طيبات ما كسبتم " ، قال : التجارة.
6128 - حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله.
6129 - حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس قوله : " أنفقوا من طيبات ما كسبتم " يقول : من

(5/556)


أطيب أموالكم وأنفَسِه. (1) .
6130 - حدثني موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : " يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم " ، قال : من هذا الذهب والفضة. (2) .
* * *
القول في تأويل قوله جل وعز : { وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الأرْضِ }
قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه : وأنفقوا أيضا مما أخرجنا لكم من الأرض ، فتصدقوا وزكوا من النخل والكرم والحنطة والشعير ، وما أوجبت فيه الصدقة من نبات الأرض. كما : -
6131 - حدثني عصام بن رواد ، قال : ثني أبي ، قال : حدثنا أبو بكر الهذلي ، عن محمد بن سيرين ، عن عبيدة ، قال : سألت عليا صلوات الله عليه عن قول الله عز وجل : " ومما أخرجنا لكم من الأرض " ، قال : يعني من الحب والثمر وكل شيء عليه زكاة.
6132 - حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد قوله : " ومما أخرجنا لكم من الأرض " ، قال : النخل.
6133 - حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد : " ومما أخرجنا لكم من الأرض " ، قال : من ثمر النخل.
__________
(1) الأثر : 6129 - في الدر المنثور 1 : 346 ، وسيأتي الأثر بتمامه في رقم : 6152 وقوله : " من أطيب أموالكم وأنفسه " ، وهو صحيح في العربية ، يعود ضمير المفرد ، على الجمع في " أفعل " ، وقد مضى ما قلنا في ذلك التعليق على الأثر : 5968 ، وإن اختلفت العبارتان وافترقتا . وانظر همع الهوامع 1 : 59 .
(2) في المطبوعة : حذف " هذا " لغير شيء !! .

(5/557)


6134 - حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا هشيم ، قال : حدثنا شعبة ، عن الحكم ، عن مجاهد قوله : " يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم " ، قال : من التجارة " ومما أخرجنا لكم من الأرض " ، من الثمار.
6135 - حدثني موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : " ومما أخرجنا لكم من الأرض " ، قال : هذا في التمر والحب.
* * *
القول في تأويل قوله جل وعز : { وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ }
قال أبو جعفر : يعني بقوله جل ثناؤه " ولا تيمموا الخبيث " ، ولا تعمدوا ، ولا تقصدوا.
* * *
وقد ذكر أن ذلك في قراءة عبد الله : ( ولا تؤموا) من " أممت " ، (1) وهذه من " يممت " ، (2) والمعنى واحد وإن اختلفت الألفاظ.
* * *
يقال : " تأممت فلانا " ، و " تيممته " ، و " أممته " ، بمعنى : قصدته وتعمدته ، كما قال ميمون بن قيس الأعشى :
تيممت قيسا وكم دونه من الأرض من مهمه ذي شزن (3)
وكما : -
__________
(1) في المطبوعة : " ولا تأمموا " ، وكذلك في القرطبي ، ولكن أبا حيان في تفسيره 1 : 328 قد نص على أن الطبري حكى قراءة عبد الله : " ولا تأملوا " من " أمت " ، فوافق ما في المخطوطة ، فأثبتها كذلك ، وهي الصواب إن شاء الله .
(2) في المخطوطة والمطبوعة : " تيممت " ، وهو سقيم ، والصواب ما أثبت . وأموا المكان ويموه ، بمعنى واحد ، وهي على البدل ، أبدلت الهمزة ياء ، ولذلك كانت في مادة (أمم) من دواوين اللغة ، غير الجوهري .
(3) ديوانه : 16 ، وسيأتي في التفسير 5 : 69 (بولاق) . وهو من قصيدته التي أثنى فيها على قيس بن معد يكرب الكندي ، وهي أول كلمة قالها له . وقد مضت منها أبيات في 1 : 345 ، 346 ، /3 : 191/5 : 390 وامهمه : الفلاة المقفرة البعيدة ، لا ماء بها ولا أنيس ، والشزن والشزونة : الغلظ من الأرض .

(5/558)


6136 - حدثنا موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : " ولا تيمموا الخبيث " ، ولا تعمدوا.
6137 - حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة : " ولا تيمموا " لا تعمدوا.
6138 - حدثت عن عمار ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن قتادة ، مثله.
* * *
القول في تأويل قوله : { وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ }
قال أبو جعفر : يعني جل ثناؤه ب " الخبيث " : الرديء ، غير الجيد ، يقول : لا تعمدوا الرديء من أموالكم في صدقاتكم فتصدقوا منه ، ولكن تصدقوا من الطيب الجيد.
* * *
وذلك أن هذه الآية نزلت في سبب رجل من الأنصار علق قنوا من حشف - (1) في الموضع الذي كان المسلمون يعلقون صدقة ثمارهم - صدقة من تمره.
* ذكر من قال ذلك :
6139 - حدثني الحسين بن عمرو بن محمد العنقزي ، قال : حدثنا أبي ، عن أسباط ، عن السدي ، عن عدي بن ثابت ، عن البراء بن عازب في قول الله عز وجل : " يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم ومما أخرجنا لكم من
__________
(1) القنو : الكباسة ، وهي العذق التام بشماريخه ورطبه ، هو في التمر ، بمنزله العنقود من العنب ، وجمعه : أقناء . والحشف : هو من التمر ما لم ينو ، فإذا يبس صلب وفسد ، لا طعم له ولا لحاء ولا حلاوة .

(5/559)


الأرض " إلى قوله : " والله غني حميد " ، قال : نزلت في الأنصار ، كانت الأنصار إذا كان أيام جذاذ النخل أخرجت من حيطانها أقناء البسر ، فعلقوه على حبل بين الأسطوانتين في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فيأكل فقراء المهاجرين منه. فيعمد الرجل منهم إلى الحشف فيدخله مع أقناء البسر ، يظن أن ذلك جائز.
فأنزل الله عز وجل فيمن فعل ذلك : " ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون " ، قال لا تيمموا الحشف منه تنفقون. (1) .
6140 - حدثني موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، زعم السدي ، عن عدي بن ثابت ، عن البراء بن عازب بنحوه إلا أنه قال : فكان يعمد بعضهم ، فيدخل قنو الحشف ويظن أنه جائز عنه في كثرة ما يوضع من الأقناء ، فنزل فيمن فعل ذلك : " ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون " ، القنو الذي قد حشف ، ولو أهدي إليكم ما قبلتموه. (2) .
6141 - حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا مؤمل ، قال : حدثنا سفيان ، عن السدي ، عن أبي مالك ، عن البراء بن عازب ، قال : كانوا يجيئون في الصدقة بأردإ
__________
(1) الأثر : 6139 - الحسين بن عمرو بن محمد العنقزي ، مضى في رقم 1625 : 1883 ، وهو لين يتكلمون فيه . وأبوة : عمرو بن محمد ، ثقة جائز الحديث . أخرجه الحاكم في المستدرك ، : 2 : 285 من طريق عمرو بن طلحة القناد ، عن أسباط بن نصر ، وقال : " هذا حديث غريب صحيح على شرطه مسلم ، ولم يخرجاه " ، وافقه الذهبى . وذكره ابن كثير في تفسير 2 : 40 ، 41 ونسبه للحاكم ، وأنه قال : " صحيح على شرط البخاري ومسلم ولم يخرجاه " فاختلف نص كلام الحاكم .
وسيأتي تمامه برقم : 6159 ، 6167 .
قوله : " جذاذ النخل " بالذال هنا وفي المستدرك . وجذ النخل جذاذا ، صرمه . والأشهر فيه بالدال المهملة : " جد النخل يجده جدادا " ، صرمه وقطف ثمره . والحيطان جمع حائط : وهو بستان النخل يكون عليه حائط ، فإذا لم يكن عليه حائط . فهو ضاحية .
وقوله : " أقناء البسر " الأقناء جمع قنو ، وقد سلف في التعليق الماضي . والبسر : التمر قبل أن يرطب ، سمى كذلك لغضاضته ، واحدته بسرة ، ثم هو بعد البسر ، رطب ، ثم تمر .
(2) الأثر : 6140 - هذا إسناد آخر للخبر السالف وسيأتي تمامه برقم : 6160 وحشف التمر : صار حشفا . وقد مضى تفسيره في التعليق ص : 559 رقم : 1 . وقوله : " جائز عنه " ، أي سائغ مجزي عنه من قولهم : " جاز جوازا " ، وأجاز له الشيء وجوزه : إذا سوغ له ما صنعه وأمضاه . وهو تعبير نادر لم تقيده كتب اللغة ، ولكنه عربي معرق .

(5/560)


تمرهم وأردإ طعامهم ، فنزلت : " يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم " الآية. (1) .
6142 - حدثني عصام بن رواد ، قال : حدثنا أبي ، قال : حدثنا أبو بكر الهذلي ، عن ابن سيرين ، عن عبيدة السلماني ، قال : سألت عليا عن قول الله : " يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم ومما أخرجنا لكم من الأرض ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون " ، قال : فقال علي : نزلت هذه الآية في الزكاة المفروضة ، كان الرجل يعمد إلى التمر فيصرمه ، (2) فيعزل الجيد ناحية. فإذا جاء صاحب الصدقة أعطاه من الرديء ، فقال عز وجل : " ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون " .
6143 - حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : ثني عبد الجليل بن حميد اليحصبي ، أن ابن شهاب حدثه ، قال : ثني أبو أمامة بن سهل بن حنيف في الآية التي قال الله عز وجل : " ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون " قال : هو الجعرور ، ولون حبيق ، فنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يؤخذ في الصدقة. (3) .
__________
(1) الأثر : 6141 - رواه البيهقي في السنن 4 : 136 من طريق أبي حذيفة ، عن سفيان ، عن السدي بغير هذا اللفظ ، وأتم منه .
(2) صرم النخل والشجر يصرمه صرما وصراما : قطع ثمرها واجتناها ، مثل الجذاذ والجداد فيما سلف في التعليقات ص : 560 .
(3) الأثر : 6143 - عبد الجليل بن حميد اليحصبي ، أبو مالك المصري . روي عن الزهري ، ويحيى بن سعيد وأيوب السختياني ، وروى عنه ابن عجلان ، وهو من أقرانه ، وموسى بن سلمة ، وابن وهب ، وغيرهم من المصريين . قال النسائي ، " ليس به بأس " ، وذكره ابن حبان في الثقات . مات سنة 148 ، مترجم في التهذيب . وهذا الأثر روته النسائي ، عن يونس بن عبد الأعلى والحارث بن مسكين ، عن ابن وهب ، عن عبد الجليلي بن حميد ، في السنن 5 : 43 ، وآخره " ... أن تؤخذ الصدقة الرذالة " . وروي من طرق أخرى في سنن أبي داود 2 : 149 رقم : 1607 ، والحاكم في المستدرك 2 : 284 من طريق سفيان ابن حسين عن الزهري ، ومن طريق سليمان بن كثير عن الزهري وقال : " صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه " ووافقه الذهبي ، والبيهقي في السنن 4 : 136 ، وانظر تفسير ابن كثير 2 : 42 ، 43 .
الجعرور (بضم الجيم) . ضرب من التمر صغار لا خير فيه . واللون : نوع من النخل ، قيل : هو الدقل ، وقيل : النخل كله ما خلا البرني والعجوة ، تسميه أهل المدينة " الألوان " . وابن حبيق : رجل نسب إليه هذا النخل الرديء ، فقيل : لون الحبيق . وتمره رديء أغبر صغير ، مع طول فيه .

(5/561)


6144 - حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : " ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون " ، قال : كانوا يتصدقون - يعني من النخل - بحشفه وشراره ، فنهوا عن ذلك ، وأمروا أن يتصدقوا بطيبه.
6145 - حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : " يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم " إلى قوله : " واعلموا أن الله غني حميد " ، ذكر لنا أن الرجل كان يكون له الحائطان على عهد نبي الله صلى الله عليه وسلم ، فيعمد إلى أردئهما تمرا فيتصدق به ، ويخلط فيه من الحشف ، فعاب الله ذلك عليهم ونهاهم عنه.
6146 - حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : " ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون " ، قال : تعمد إلى رذالة مالك فتصدق به ، (1) ولست بآخذه إلا أن تغمض فيه.
6147 - حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن يزيد بن إبراهيم ، عن الحسن قال : كان الرجل يتصدق برذالة ماله ، فنزلت : " ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون " .
6148 - حدثنا المثنى ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : أخبرنا عبد الله بن كثير : أنه سمع مجاهدا يقول : " ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون " ، قال : في الأقناء التي تعلق ، (2) فرأى فيها حشفا ، فقال :
__________
(1) رذالة كل شيء : أردؤه حين ينتقى جيده ، ويبقي رديئه . وهو من رذالة الناس ورذالهم . (بضم الراء فيها جميعا) .
(2) قوله : " التي تعلق " مكانها بياض في المخطوطة . وقوله بعد : " فرأى فيها حشفا " ، أي رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم .

(5/562)


ما هذا ؟ قال ابن جريج : سمعت عطاء يقول : علق إنسان حشفا في الأقناء التي تعلق بالمدينة ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما هذا ؟ بئسما علق هذا!! فنزلت : " ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون " .
* * *
وقال آخرون : معنى ذلك : ولا تيمموا الخبيث من الحرام منه تنفقون ، (1) .
وتدعوا أن تنفقوا الحلال الطيب.
* ذكر من قال ذلك :
6149 - حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد - وسألته عن قول الله عز وجل : " ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون " ، - قال : الخبيث : الحرام ، لا تتيممه تنفق منه ، فإن الله عز وجل لا يقبله.
* * *
قال أبو جعفر : وتأويل الآية هو التأويل الذي حكيناه عمن حكينا [عنه] من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، [لصحة إسناده] ، واتفاق أهل التأويل في ذلك (2)
دون الذي قاله ابن زيد. (3) .
* * *
القول في تأويل قوله : { وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ }
قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه : ولستم بآخذي الخبيث في حقوقكم ، و " الهاء " في قوله : " بآخذيه " من ذكر الخبيث " إلا أن تغمضوا فيه " ، يعني : إلا أن تتجافوا في أخذكم إياه عن بعض الواجب لكم من حقكم ، فترخصوا فيه لأنفسكم.
__________
(1) في المخطوطة والمطبوعة : " فيه تنفقون " ، وهو خطأ بين .
(2) الزيادة بين الأقواس لا بد منها حتى يستقيم الكلام . (عنه) ساقطة من المخطوطة والمطبوعة .
أما الزيادة الثانية ، فمكانها بياض في المخطوطة ، فأغفله الطابع وساق الكلام سياقا واحدا
(3) في المخطوطة : " قاله ابن " وبعد ذلك بياض . والذي في المطبوعة هو الصواب .

(5/563)


يقال منه : " أغمض فلان لفلان عن بعض حقه ، فهو يغمض ، ومن ذلك قول الطرماح بن حكيم :
لم يفتنا بالوتر قوم وللضيـ م رجال يرضون بالإغماض (1)
* * *
قال أبو جعفر : واختلف أهل التأويل في تأويل ذلك.
فقال بعضهم : معنى ذلك : ولستم بآخذي الرديء من غرمائكم في واجب حقوقكم قبلهم ، إلا عن إغماض منكم لهم في الواجب لكم عليهم.
* ذكر من قال ذلك :
6150 - حدثنا عصام بن رواد ، قال : حدثنا أبي ، قال : حدثنا أبو بكر الهذلي ، عن محمد بن سيرين ، عن عبيدة قال : سألت عليا عنه فقال : " ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه " ، يقول : ولا يأخذ أحدكم هذا الرديء حتى يهضم له.
6151 - حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا مؤمل ، قال : حدثنا سفيان ، عن السدي ، عن أبي مالك ، عن البراء بن عازب : " ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه " ، يقول : لو كان لرجل على رجل ، فأعطاه ذلك لم يأخذه ، إلا أن يرى أنه قد نقصه من حقه. (2) .
__________
(1) ديوانه : 86 ، من قصيدة مجد فيها قومه ، وقبله : : إننا معشر شمائلنا الصبر ، ... إذا الخوف مال بالأحفاض
نصر للذليل في ندوة الحي ، ... مرائيب للثأي المنهاض
من يرم جمعهم يجدهم مر ... اجيح حماة للعزل الأحراض
الأحفاض : الإبل الصغار الضعاف ، ويعنى الضعاف من الناس ، لا يصبرون في حرب . مرائيب : من الرأب ، وهو الإصلاح ، مصلحون . والثأى : الفساد . والمنهاض : الذي فسد بعد صلاح فلا يرجى إصلاح إلا بمشقة . مراجيح : حلماء لا يستخفهم شيء . والأحراض : الضعاف الذين لا يقاتلون . والإغماض : التغاضي والمساهلة . يقول نحن أهل بأس وسطوة ، فما أصاب منا أحد فنجا من انتقامنا ، ولسنا كأقوام يرضون بالضيم ، فيتغاضون عن إدراك تأثرهم ممن نال منهم .
(2) الأثر : 6151 - هو من تمام الأثر : 6141 .

(5/564)


6152 - حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله ، قال : حدثنا معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس قوله : " ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه " ، يقول : لو كان لكم على أحد حق ، فجاءكم بحق دون حقكم ، لم تأخذوا بحساب الجيد حتى تنقصوه ، فذلك قوله : " إلا أن تغمضوا فيه " ، فكيف ترضون لي ما لا ترضون لأنفسكم ، وحقي عليكم من أطيب أموالكم وأنفسها ؟ (1) .
وهو قوله : ( لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ ). [ سورة آل عمران : 92].
6153 - حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : " ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه " قال : لا تأخذونه من غرمائكم ولا في بيوعكم إلا بزيادة على الطيب في الكيل.
6154 - حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : حدثنا أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : " يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم ومما أخرجنا لكم من الأرض ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه " ، وذلك أن رجالا كانوا يعطون زكاة أموالهم من التمر ، فكانوا يعطون الحشف في الزكاة ، فقال : لو كان بعضهم يطلب بعضا ثم قضاه ، لم يأخذه إلا أن يرى أنه قد أغمض عنه حقه.
6155 - حدثت عن عمار ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع قوله : " ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه " يقول : لو كان لك على رجل دين فقضاك أردأ مما كان لك عليه ، هل كنت تأخذ ذلك منه إلا وأنت له كاره ؟
6156 - حدثني يحيى بن أبي طالب ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا جويبر ، عن الضحاك في قوله : " يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم "
__________
(1) في المطبوعة : " وأنفسها " وأثبت ما في المخطوطة . وهذا الأثر بنصه وتمامه في الدر المنثور 1 : 346 ، وانظر التعليق على الأثر : 6129 ، وقوله : " وأنفسه " بضمير الإفراد .

(5/565)


إلى قوله : " إلا أن تغمضوا فيه " قال : كانوا - حين أمر الله أن يؤدوا الزكاة - يجيء الرجل من المنافقين بأردإ طعام له من تمر وغيره ، فكره الله ذلك وقال : " أنفقوا من طيبات ما كسبتم ومما أخرجنا لكم من الأرض " ، يقول : " لستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه " ، يقول : لم يكن رجل منكم له حق على رجل فيعطيه دون حقه فيأخذه ، إلا وهو يعلم أنه قد نقصه فلا ترضوا لي ما لا ترضون لأنفسكم فيأخذ شيئا ، وهو مغمض عليه ، أنقص من حقه.
* * *
وقال آخرون : معنى ذلك : ولستم بآخذي هذا الرديء الخبيث - إذا اشتريتموه من أهله - بسعر الجيد ، إلا بإغماض منهم لكم في ثمنه.
* ذكر من قال ذلك :
6157 - حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن عمران بن حدير ، عن الحسن : " ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه " ، قال : لو وجدتموه في السوق يباع ، ما أخذتموه حتى يهضم لكم من ثمنه.
6158 - حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : " ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه " ، يقول : لستم بآخذي هذا الرديء بسعر هذا الطيب إلا أن يغمض لكم فيه.
* * *
وقال آخرون : معناه : ولستم بآخذي هذا الرديء الخبيث لو أهدي لكم ، إلا أن تغمضوا فيه ، فتأخذوه وأنتم له كارهون ، على استحياء منكم ممن أهداه لكم.
* ذكر من قال ذلك :
6159 - حدثني الحسين بن عمرو بن محمد العنقزي ، قال : حدثنا أبي ، عن أسباط ، عن السدي ، عن عدي بن ثابت ، عن البراء بن عازب : " ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه " ، قال : لو أهدي لكم ما قبلتموه إلا على استحياء من صاحبه ، أنه بعث إليك بما لم يكن له فيه حاجة. (1) .
__________
(1) الأثر : 6159 - هو تمام الأثر السالف : 6139 .

(5/566)


6160 - حدثني موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، قال : زعم السدي ، عن عدي بن ثابت ، عن البراء نحوه إلا أنه قال : إلا على استحياء من صاحبه ، وغيظا أنه بعث إليك بما لم يكن له فيه حاجة. (1) .
* * *
وقال آخرون : معنى ذلك : ولستم بآخذي هذا الرديء من حقكم إلا أن تغمضوا من حقكم.
* ذكر من قال ذلك :
6161 - حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن عطاء ، عن ابن معقل : " ولستم بآخذيه " ، يقول : ولستم بآخذيه من حق هو لكم " إلا أن تغمضوا فيه " ، يقول : أغمض لك من حقي.
* * *
وقال آخرون : معنى ذلك : ولستم بآخذي الحرام إلا أن تغمضوا على ما فيه من الإثم عليكم في أخذه.
* ذكر من قال ذلك :
6162 - حدثني يونس ، قال : حدثنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد : وسألته عن قوله : " ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه " - قال : يقول : لست آخذا ذلك الحرام حتى تغمض على ما فيه من الإثم قال : وفي كلام العرب : أما والله لقد أخذه ، ولقد أغمض على ما فيه " وهو يعلم أنه حرام باطل.
* * *
قال أبو جعفر : والذي هو أولى بتأويل ذلك عندنا أن يقال : إن الله عز وجل حث عباده على الصدقة وأداء الزكاة من أموالهم ، وفرضها عليهم فيها ، (2) .
فصار ما فرض من ذلك في أموالهم ، حقا لأهل سهمان الصدقة. ثم أمرهم تعالى ذكره أن
__________
(1) الأثر : 6160 - هو تمام الأثر السالف : 6140 .
(2) " وفرضها عليهم " أي الزكاة . " فيها " : في أموالهم .

(5/567)


يخرجوا من الطيب - وهو الجيد من أموالهم - الطيب. (1) وذلك أن أهل السهمان شركاء أرباب الأموال في أموالهم ، بما وجب لهم فيها من الصدقة بعد وجوبها.
فلا شك أن كل شريكين في مال فلكل واحد منهما بقدر ملكه ، وليس لأحدهما منع شريكه من حقه من الملك الذي هو فيه شريكه ، بإعطائه - بمقدار حقه منه - من غيره مما هو أردأ منه أو أخس. (2) فكذلك المزكي ماله ، حرم الله عليه أن يعطي أهل السهمان مما وجب لهم في ماله من الطيب الجيد من الحق ، فصاروا فيه شركاء (3) من الخبيث الرديء غيره ، ويمنعهم ما هو لهم من حقوقهم في الطيب من ماله الجيد ، كما لو كان مال رب المال رديئا كله غير جيد ، فوجبت فيه الزكاة وصار أهل سهمان الصدقة فيه شركاء بما أوجب الله لهم فيه لم يكن عليه أن يعطيهم الطيب الجيد من غير ماله الذي منه حقهم.
فقال تبارك وتعالى لأرباب الأموال : زكوا من جيد أموالكم الجيد ، ولا تيمموا الخبيث الرديء ، تعطونه أهل سهمان الصدقة ، وتمنعونهم الواجب لهم من الجيد الطيب في أموالكم ، (4) ولستم بآخذي الرديء لأنفسكم مكان الجيد الواجب لكم قبل من وجب لكم عليه ذلك من شركائكم وغرمائكم وغيرهم ، إلا عن إغماض منكم وهضم لهم وكراهة منكم لأخذه. يقول : ولا تأتوا من الفعل إلى من وجب له في أموالكم حق ، ما لا ترضون من غيركم أن يأتيه إليكم في حقوقكم الواجبة لكم في أموالهم.
فأما إذا تطوع الرجل بصدقة غير مفروضة ، فإني وإن كرهت له أن يعطي فيها إلا أجود ماله وأطيبه ، لأن الله عز وجل أحق من تقرب إليه بأكرم الأموال
__________
(1) قوله : " الطيب " الثانية ، مفعول " يخرجوا " .
(2) في المطبوعة " أو أحسن " ، وهو فاسد كل الفساد . والصواب من المخطوطة .
(3) سياق الجملة : أن يعطى أهل السهمان... من الخبيث الرديء غيره .
(4) في المطبوعة : " وتمنعونهم الواجب... " ، والذي في المخطوطة صواب ، معطوف على : " ولا تيمموا الخبيث " .

(5/568)


وأطيبها ، والصدقة قربان المؤمن فلست أحرم عليه أن يعطي فيها غير الجيد ، لأن ما دون الجيد ربما كان أعم نفعا لكثرته ، أو لعظم خطره وأحسن موقعا من المسكين ، وممن أعطيه قربة إلى الله عز وجل من الجيد ، لقلته أو لصغر خطره وقلة جدوى نفعه على من أعطيه. (1) .
* * *
وبمثل ما قلنا في ذلك قال جماعة أهل العلم.
* ذكر من قال ذلك :
6163 - حدثنا محمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب ، قال : حدثنا يزيد بن زريع ، قال : حدثنا سلمة بن علقمة ، عن محمد بن سيرين ، قال : سألت عبيدة عن هذه الآية : " يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم ومما أخرجنا لكم من الأرض ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه " ، قال : ذلك في الزكاة ، الدرهم الزائف أحب إلي من التمرة.
6164 - حدثني يعقوب ، قال : حدثنا ابن علية ، قال : حدثنا سلمة بن علقمة ، عن محمد بن سيرين ، قال : سألت عبيدة عن ذلك ، فقال : إنما ذلك في الزكاة ، والدرهم الزائف أحب إلي من التمرة.
6165 - حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا ابن إدريس ، عن هشام ، عن ابن سيرين ، قال : سألت عبيدة عن هذه الآية : " يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم ومما أخرجنا لكم من الأرض ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون ولستم بآخذيه " ، فقال عبيدة : إنما هذا في الواجب ، ولا بأس أن يتطوع الرجل بالتمرة ، والدرهم الزائف خير من التمرة.
__________
(1) سياق هذه الجملة : ربما كان أعم نفعا لكثرته...وأحسن موقعا من المسكين... من الجيد لقلته...

(5/569)


6166 - حدثني أبو السائب ، قال : حدثنا ابن إدريس ، عن هشام ، عن ابن سيرين في قوله : " ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون " قال : إنما هذا في الزكاة المفروضة ، فأما التطوع فلا بأس أن يتصدق الرجل بالدرهم الزائف ، والدرهم الزائف خير من التمرة.
* * *
القول في تأويل قوله : { وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (267) }
قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه : واعلموا أيها الناس أن الله عز وجل غني عن صدقاتكم وعن غيرها ، (1) وإنما أمركم بها ، وفرضها في أموالكم ، رحمة منه لكم ليغني بها عائلكم ، (2) .
ويقوي بها ضعيفكم ، ويجزل لكم عليها في الآخرة مثوبتكم ، لا من حاجة به فيها إليكم.
* * *
ويعني بقوله : " حميد " ، أنه محمود عند خلقه بما أولاهم من نعمه ، وبسط لهم من فضله. كما : -
6167 - حدثني الحسين بن عمرو بن محمد العنقزي ، قال : حدثنا أبي ، عن أسباط ، عن السدي ، عن عدي بن ثابت ، عن البراء بن عازب في قوله : " والله غني حميد " عن صدقاتكم. (3) .
* * *
__________
(1) انظر تفسير " غنى " فيما سلف من هذا الجزء 5 : 521 .
(2) العائل : الفقير . عال الرجل يعيل علية : افتقر .
(3) الأثر : 6167 - هو تمام الأثر السالف : 6139 .

(5/570)


الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (268)

القول في تأويل قوله : { الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلا }
قال أبو جعفر : يعني بذلك تعالى ذكره : " الشيطان يعدكم " ، أيها الناس - بالصدقة وأدائكم الزكاة الواجبة عليكم في أموالكم (1) - أن تفتقروا " ويأمركم بالفحشاء " ، يعني : ويأمركم بمعاصي الله عز وجل ، وترك طاعته (2) " والله يعدكم مغفرة منه " (3) يعني أن الله عز وجل يعدكم أيها المؤمنون ، أن يستر عليكم فحشاءكم ، بصفحه لكم عن عقوبتكم عليها ، فيغفر لكم ذنوبكم بالصدقة التي تتصدقون " وفضلا " يعني : ويعدكم أن يخلف عليكم من صدقتكم ، فيتفضل عليكم من عطاياه ويسبغ عليكم في أرزاقكم. (4) .
كما : -
6168 - حدثنا محمد بن حميد ، قال : حدثنا يحيى بن واضح ، قال : حدثنا الحسين بن واقد ، عن يزيد النحوي ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، قال : اثنان من الله ، واثنان من الشيطان : " الشيطان يعدكم الفقر " ، يقول : لا تنفق مالك ، وأمسكه عليك ، فإنك تحتاج إليه ويأمركم بالفحشاء والله يعدكم مغفرة منه " ، على هذه المعاصي " وفضلا " في الرزق.
6169 - حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : " الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء والله يعدكم مغفرة منه وفضلا " ، يقول : مغفرة لفحشائكم ، وفضلا لفقركم.
6170 - حدثنا هناد ، قال : حدثنا أبو الأحوص ، عن عطاء بن السائب ،
__________
(1) قوله : " بالصدقة... " ، أي بسبب الصدقة ، وهي جملة فاصلة ، والسياق " يعدكم... أن تفتقروا " ، كما هو بين .
(2) انظر ما سلف في تفسير " الفحشاء " 3 : 302 .
(3) انظر تفسير " المغفرة " ، فيما سلف من فهارس اللغة .
(4) انظر تفسير " الفضل " فيما سلف 2 : 344 /ثم 5 : 164 .

(5/571)


عن مرة ، عن عبد الله ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن للشيطان لمة من ابن آدم ، وللملك لمة : فأما لمة الشيطان ، فإيعاد بالشر وتكذيب بالحق. وأما لمة الملك ، فإيعاد بالخير ، وتصديق بالحق. فمن وجد ذلك ، فليعلم أنه من الله وليحمد الله ، ومن وجد الأخرى فليتعوذ بالله من الشيطان ، ثم قرأ : " الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء " . (1)
6171 - حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا الحكم بن بشير بن سليمان ، قال : حدثنا عمرو ، عن عطاء بن السائب ، عن مرة ، عن عبد الله ، قال : إن للإنسان من الملك لمة ، ومن الشيطان لمة. فاللمة من الملك إيعاد بالخير ، وتصديق بالحق ، واللمة من الشيطان إيعاد بالشر وتكذيب بالحق. وتلا عبد الله : " الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء والله يعدكم مغفرة منه وفضلا " قال عمرو : وسمعنا في هذا الحديث أنه كان يقال : إذا أحس أحدكم من لمة الملك شيئا فليحمد الله ، وليسأله من فضله ، وإذا أحس من لمة الشيطان شيئا ، فليستغفر الله وليتعوذ من الشيطان. (2) .
6172 - حدثني يعقوب ، قال : حدثنا ابن علية ، قال : حدثنا عطاء بن السائب ، عن أبي الأحوص أو عن مرة قال : قال عبد الله : ألا إن للملك لمة وللشيطان لمة. فلمة الملك : إيعاد بالخير وتصديق بالحق ، ولمة الشيطان إيعاد بالشر وتكذيب بالحق ، وذلكم بأن الله يقول : (3) .
" الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء والله يعدكم مغفرة منه وفضلا والله واسع عليم " ، فإذا وجدتم من هذه شيئا فاحمدوا الله عليه ، وإذا وجدتم من هذه شيئا فتعوذوا بالله من الشيطان. (4) .
__________
(1) الحديث : 6170 - أبو الأحوص : هو سلام بن سليم الكوفي الحافظ . سبق توثيقه : 20158 .
عطاء بن السائب : مضى في : 158 ، 4433 أنه تغير في آخر عمره ، وأن من سمع منه قديما فحديثه صحيح . والظاهر من مجموع كلامهم أن اختلاطه كان حين قدم البصرة . قال أبو حاتم : " في حديث البصريين عنه تخاليط كثيرة ، لأنه قدم عليهم في آخر عمره " . وعطاء كوفي ، والراوي عنه هنا أبو الأحوص كوفي أيضًا . فالظاهر أنه سمع منه قبل الاختلاط .
مرة : هو مرة الطيب ، وهو ابن شراحيل الهمداني الكوفي . مضت ترجمته : 2521 .
عبد الله : هو ابن مسعود .
والحديث رواه الترمذي 4 : 77 - 78 ، عن هناد - وهو ابن السري ، شيخ الطبري هنا - بهذا الإسناد . وقال : " هذا حديث حسن غريب [وفي بعض نسخه : حسن صحيح غريب] . وهو حديث أبي الأحوص . لا نعرفه مرفوعا إلا من حديث أبي الأحوص " .
وذكره ابن كثير 2 : 44 ، من رواية ابن أبي حاتم ، عن أبي زرعة ، عن هناد . ووقع في إسناده هناك تخليط من الناسخين . ثم أشار إلى بعض رواياته مرفوعا وموقوفا .
وذكر ابن كثير أنه رواه أيضًا النسائي في كتاب التفسير من سننه ، عن هناد بن السري . وأنه رواه ابن حبان في صحيحه ، عن أبي يعلي الموصلي ، عن هناد . وكتاب التفسير في النسائي إنما هو في السنن الكبرى .
وذكره السيوطي 1 : 348 ، وزاد نسبته لابن المنذر ، والبيهقي في الشعب .
وسيأتي بنحوه ، موقونا على ابن مسعود : 6171 ، 6172 ، 6174 ، 6176 ، من رواية عطاء ، عن مرة ، عن مسعود . ويأتي موقونا أيضًا : 6173 ، من رواية الزهري ، عن عبيد الله ، عن ابن مسعود . و : 6175 ، من رواية المسيب بن رافع ، عن عامر بن عبدة ، عن ابن مسعود .
وكأن الترمذي - وتبعه ابن كثير - يريدان الإشارة إلى تعليل هذا الإسناد المرفوع ، برواية الحديث موقوفا . ولكن هذه علة غير قادحة بعد صحة الإسناد . فإن الرفع زيادة من ثقة ، فهي مقبولة .
وأيضًا : فإن هذا الحديث مما يعلم بالرأي ، ولا يدخله القياس ، فلا يعلم إلا بالوحي من المعصوم صلى الله عليه وسلم . فالروايات الموقوفة لفظا ، هي مرفوعة حكما .
(2) الحديث : 6171 - الحكم بن بشير بن سلمان : مضت ترجمته في : 1497 . ووقع اسم جده في المطبوعة هنا " سليمان " ، وهو خطأ .
عمرو : هو ابن قيس الملائي . مضت ترجمته في : 886 .
والحديث في معنى ما قبله . وهو هنا موقوف لفظا ، ولكنه مرفوع حكما ، كما ذكرنا . ولكن قول عمرو بن قيس في آخره : " وسمعنا في هذا الحديث أنه كان يقال... " - يكون بلاغا منقطعا في هذا الإسناد ، وأن كان صحيحا في ذاته بالأسانيد الأخر .
(3) في المطبوعة : " وذلكم بأن الله... " بزيادة واو ، وأثبت ما في المخطوطة .
(4) الحديث : 6172 - أبو الأحوص - شيخ عطاء بن السائب : هو عوف بن مالك ابن نضلة ، وهو تابعي ثقة معروف ، وثقه ابن معين وغيره .
وتردد عطاء بن السائب في أنه عن " أبي الأحوص " هذا ، أو عن " مرة الطيب " - لا يؤثر في صحة الحديث ، فأنه انتقال من ثقة إلى ثقة . ولعله مما أخطأ فيه عطاء ، لأن ابن علية بصري ، فيكون ممن سمع منه بعد تغيره . وقد نص على ذلك الدار قطي ، كما في ترجمة عطاء في التهذيب .
ولكن ذكر ابن كثير 2 : 44 أنه رواه " مسعر ، عن عطاء بن السائب ، عن أبي الأحوص عوف بن مالك بن نضلة ، عن ابن مسعود . فجعله من قوله . فهذا يثبت حفظ رواية عطاء إياه عن أبي الأحوص أيضًا . لأن مسعر بن كدام كوفي قديم ، من طبقة شعبة والثوري ، فهو ممن سمع من عطاء قبل تغيره .
ولم يشر ابن كثير إلى شيء من الروايات الموقوفة لهذا الحديث ، إلا إلى رواية مسعر وحده . والروايات الموقوفة بين يديه في الطبري ستة كما ترى .

(5/572)


6173 - حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن الزهري ، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة ، عن عبد الله بن مسعود في قوله : " الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء " ، قال : إن للملك لمة ، وللشيطان لمة. فلمة الملك إيعاد بالخير وتصديق بالحق ، فمن وجدها فليحمد الله ؛ ولمة الشيطان : إيعاد بالشر وتكذيب بالحق ، فمن وجدها فليستعذ بالله. (1) .
6174 - حدثني المثنى بن إبراهيم ، قال : حدثنا حجاج بن المنهال ، قال : حدثنا حماد بن سلمة ، قال : أخبرنا عطاء بن السائب ، عن مرة الهمداني أن ابن مسعود قال : إن للملك لمة ، وللشيطان لمة. فلمة الملك : إيعاده بالخير وتصديق بالحق ، ولمة الشيطان : إيعاد بالشر وتكذيب بالحق. (2) فمن أحس من لمة الملك شيئا فليحمد الله عليه ، ومن أحس من لمة الشيطان شيئا فليتعوذ بالله منه. ثم تلا هذه الآية : " الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء والله يعدكم مغفرة منه وفضلا والله واسع عليم " . (3) .
6175 - حدثني المثنى ، قال : حدثنا سويد بن نصر ، قال : أخبرنا ابن المبارك ، عن فطر ، عن المسيب بن رافع ، عن عامر بن عبدة ، عن عبد الله ، بنحوه. (4) .
__________
(1) الحديث : 6173 - وهذا إسناد صحيح آخر للحديث ، من وجه آخر ، يؤيد رواية عطاء بن السائب . وهو وإن كان موقوفا لفظا فهو مرفوع حكما ، كما قلنا من قبل .
(2) في المطبوعة : " إيعاد بالخير ... إيعاد بالشر " بغير إضافتها إلى الضمير . وأثبت ما في المخطوطة ، وهو صواب . وصواب أيضًا يقرآا جميعا " ايعادةٌ " ، على معنى المرة من " الإيعاد " .
(3) الحديث : 6174 - وهذا إسناد صحيح . لأن حماد بن سلمة سمع من عطاء قبل تغيره ، كما نص عليه يعقوب بن سفيان وابن الجارود ، في نقل التهذيب عنهما 7 : 207 .
(4) الحديث : 6175 - فطر - بكسر الفاء وسكون الطاء المهملة وآخره راء : هو ابن خليفة الكوفي ، وهو ثقة ، وثقه أحمد ، وابن معين ، وغيرهما .
المسيب بن رافع الكاهلي الكوفي : تابعي ثقة ، مضى في : 128 .
عامر بن عبدة - بفتح العين المهملة والباء الموحدة - البجلي ، أبو إياس الكوفي : تابعي ثقة ، والكني للدولابي 1 : 115 ، والمشتبه للذهبي ، ص : 339 .
وهذا إسناد ثالث للحديث صحيح ، من وجه آخر ، يؤيد روايات عطاء عن مرة ، وأبي الأحوص عن ابن مسعود ، ورواية الزهري عن عبيد الله بن عبدالله بن عتبة عن ابن مسعود .

(5/574)


6176 - حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن عطاء ، عن مرة بن شراحيل ، عن عبد الله بن مسعود ، قال : إن للشيطان لمة ، وللملك لمة ، فأما لمة الشيطان فتكذيب بالحق وإيعاد بالشر ، وأما لمة الملك : فإيعاد بالخير وتصديق بالحق. فمن وجد ذلك فليعلم أنه من الله وليحمد الله عليه. ومن وجد الأخرى فليستعذ من الشيطان. ثم قرأ : " الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء والله يعدكم مغفرة منه وفضلا " . (1) .
* * *
القول في تأويل قوله : { وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (268) }
قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره : " والله واسع " الفضل الذي يعدكم أن يعطيكموه من فضله وسعة خزائنه (2) " عليم " بنفقاتكم وصدقاتكم التي تنفقون وتصدقون بها ، يحصيها لكم حتى يجازيكم بها عند مقدمكم عليه في آخرتكم.
* * *
__________
(1) الحديث : 6176 - وهذا إسناد حسن ، لأن سماع جرير - وهو ابن عبدالحميد الضبي - من عطاء كان بعد تغيره ولكنه يرتفع إلى درجة الصحة بالمتابعات السابقة الصحيحة .
(2) انظر تفسير " واسع عليم " فيما سلف 2 : 537 /ثم 5 : 516 .

(5/575)


يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (269)

القول في تأويل قوله : { يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا }
قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه : يؤتي الله الإصابة في القول والفعل من يشاء من عباده ، ومن يؤت الإصابة في ذلك منهم ، فقد أوتي خيرا كثيرا.
* * *
واختلف أهل التأويل في ذلك.
فقال بعضهم ، " الحكمة " التي ذكرها الله في هذا الموضع ، هي : القرآن والفقه به.
* ذكر من قال ذلك :
6177 - حدثنا المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : حدثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس في قوله : ( وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا ) ، يعني : المعرفة بالقرآن ناسخه ومنسوخه ، ومحكمه ومتشابهه ، ومقدمه ومؤخره ، وحلاله وحرامه ، وأمثاله.
6178 - حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : " يؤتي الحكمة من يشاء " ، قال : الحكمة : القرآن ، والفقه في القرآن.
6179 - حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : " يؤتي الحكمة من يشاء ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا " ، والحكمة : الفقه في القرآن.
6180 - حدثنا محمد بن عبد الله الهلالي ، قال : حدثنا مسلم بن إبراهيم ، قال : حدثنا مهدي بن ميمون ، قال : حدثنا شعيب بن الحبحاب ، عن أبي العالية :

(5/576)


" ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا " ، قال : الكتاب والفهم به. (1) .
6181 - حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن ليث ، عن مجاهد قوله : " يؤتي الحكمة من يشاء " الآية ، قال : ليست بالنبوة ، ولكنه القرآن والعلم والفقه.
6182 - حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قال ابن عباس : الفقه في القرآن.
* * *
وقال آخرون : معنى " الحكمة " ، الإصابة في القول والفعل.
* ذكر من قال ذلك :
6183 - حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن ابن أبي نجيح ، قال : سمعت مجاهدا قال : " ومن يؤت الحكمة " ، قال : الإصابة.
6184 - حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله عز وجل : " يؤتي الحكمة من يشاء " ، قال : يؤتي إصابته من يشاء.
6185 - حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : " يؤتي الحكمة من يشاء " ، قال : الكتاب ، يؤتي إصابته من يشاء .
* * *
__________
(1) الأثر : 6180 - " محمد بن عبد الله الهلالي " هو : محمد بن عبد الله بن عبيد بن عقيل الهلالي ، أبو مسعود البصري ، روي عن جده عبيد بن عقيل ، وعثمان بن عمر بن فارس ، وعمرو ابن عاصم الكلابى وغيرهم ، وروى عنه أبو داود ، والنسائي ، وابن ماجه وغيرهم . قال النسائي : " لا بأس به " . وقال مسلمة : " ثقة " . " مسلم بن إبراهيم " الأزدي الفراهيدي ، أبو عمرو البصري الحافظ . قال ابن معين : " ثقة مأمون " . وكان يقول : " ما أتيت حلالا ولا حراما قط " ، وقال أبو حاتم : " كان لا يحتاج إليه " . وكان من المتقنين . مات سنة 222 . " مهدي بن ميمون " الأزدي المعولي . كان ثقة وذكره ابن حبان في الثقات . مات سنة 171 . " شعيب بن الحبحاب " و " المعولي " بكسر الميم وسكون العين المهملة وفتح الواو .
وكان في المطبوعة : " والفهم فيه " . وهي صواب في المعنى ، جيد في العربية وأثبت ما في المخطوطة ، وهو أيضًا صواب جيد .

(5/577)


وقال آخرون : هو العلم بالدين.
* ذكر من قال ذلك :
6186 - حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد : " يؤتي الحكمة من يشاء " العقل في الدين ، وقرأ : " ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا " .
6187 - حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد : الحكمة : العقل.
6188 - حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قلت لمالك : وما الحكمة ؟ قال : المعرفة بالدين ، والفقه فيه ، والاتباع له.
* * *
وقال آخرون : " الحكمة " الفهم.
* ذكر من قال ذلك :
6190 - حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي قال : حدثنا سفيان ، عن أبي حمزة ، عن إبراهيم ، قال : الحكمة : هي الفهم. (1) .
* * *
وقال آخرون : هي الخشية.
* ذكر من قال ذلك :
6191 - حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع في قوله : " يؤتي الحكمة من يشاء ومن يؤت الحكمة " الآية ، قال : " الحكمة " الخشية ، لأن رأس كل شيء خشية الله. وقرأ : ( إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ ). [ سورة فاطر : 28].
* * *
__________
(1) الأثر : 6190 - " أبو حمزة " هو أبو حمزة الأعور القصاب الكوفي ، وهو صاحب إبراهيم النخعي . قال البخاري : " ليس بذاك " . وقال : " ضعيف ذاهب الحديث " . قال أبو موسى : " ما سمعت يحيى ولا عبد الرحمن يحدثان عن : سفيان ، عن أبي حمزة ، قط " . وقال ابن عدي : " وأحاديثه خاصة عن إبراهيم ، مما لا يتابع عليه " . مترجم في التهذيب .

(5/578)


وقال آخرون : هي النبوة.
* ذكر من قال ذلك :
6192 - حدثني موسى قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي قوله : " يؤتي الحكمة من يشاء ومن يؤت الحكمة " ، الآية ، قال : الحكمة : هي النبوة.
* * *
وقد بينا فيما مضى معنى " الحكمة " - وأنها مأخوذة من " الحكم " وفصل القضاء ، وأنها الإصابة - بما دل على صحته ، فأغنى ذلك عن تكريره في هذا الموضع. (1) .
* * *
وإذا كان ذلك كذلك معناه ، (2) كان جميع الأقوال التي قالها القائلون الذين ذكرنا قولهم في ذلك داخلا فيما قلنا من ذلك ، لأن الإصابة في الأمور إنما تكون عن فهم بها وعلم ومعرفة. وإذا كان ذلك كذلك ، كان المصيب عن فهم منه بمواضع الصواب في أموره مفهما خاشيا لله فقيها عالما ، (3) .
وكانت النبوة من أقسامه. لأن الأنبياء مسددون مفهمون ، وموفقون لإصابة الصواب في بعض الأمور ، " والنبوة " بعض معاني " الحكمة " .
* * *
فتأويل الكلام : يؤتي الله إصابة الصواب في القول والفعل من يشاء ، ومن يؤته الله ذلك فقد آتاه خيرا كثيرا.
* * *
__________
(1) انظر تفسير " الحكمة " فيما سلف 3 : 87 ، 88 ، 211 /ثم 5 : 15 ، 16 ، 371 .
(2) في المطبوعة : " فإذا كان ذلك... " بالفاء ، ولا معنى لتغيير ما هو في المخطوطة .
(3) في المطبوعة : " فهما خاشيا... " . وفي المخطوطة : " ففهما " ، والصواب قراءتها كما أثبت ، بدليل معناه الذي أراده ، من إدخال الأنبياء في معنى ذلك ، وبدليل قوله بعد : " مفهمون... " .

(5/579)


القول في تأويل قوله : { وَمَا يَذَّكَّرُ إِلا أُولُو الألْبَابِ (269) }
قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه : وما يتعظ بما وعظ به ربه في هذه الآيات التي وعظ فيها المنفقين أموالهم بما وعظهم به غيرهم (1) فيها وفي غيرها من آي كتابه (2) فيذكر وعده ووعيده فيها ، فينزجر عما زجره عنه ربه ، ويطيعه فيما أمره به " إلا أولوا الألباب " ، يعني : إلا أولوا العقول ، الذين عقلوا عن الله عز وجل أمره ونهيه. (3) .
فأخبر جل ثناؤه أن المواعظ غير نافعة إلا أولي الحجا والحلوم ، وأن الذكرى غير ناهية إلا أهل النهي والعقول.
* * *
__________
(1) في المطبوعة : " بما وعظ به غيرهم " ، وهو غير مستقيم تمام الاستقامة في السياق . وفي المخطوطة : " بما وعظهم به غيرهم " ، والصواب أن تزاد " الواو " قبل " غيرهم " ، ليستقيم السياق .
(2) سياق الجملة : " وما يتعظ بما وعظه به ربه في هذه الآيات... فيذكر وعده ووعيده... " وما بينهما فصل .
(3) انظر تفسير " الألباب " فيما سلف 3 : 383 / 4 : 162 .

(5/580)


وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (270)

القول في تأويل قوله : { وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (270) }
قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه : وأي نفقة أنفقتم - يعني أي صدقة تصدقتم - (1) أو أي نذر نذرتم يعني " بالنذر " ، ما أوجبه المرء على نفسه تبررا في طاعة الله ، وتقربا به إليه : من صدقة أو عمل خير " فإن الله يعلمه " ،
__________
(1) انظر تفسير " النفقة " فيما سلف 5 : 555 .

(5/580)


أي أن جميع ذلك بعلم الله ، (1) لا يعزب عنه منه شيء ، ولا يخفى عليه منه قليل ولا كثير ، ولكنه يحصيه أيها الناس عليكم حتى يجازيكم جميعكم على جميع ذلك.
فمن كانت نفقته منكم وصدقته ونذره ابتغاء مرضاة الله وتثبيتا من نفسه ، جازاه بالذي وعده من التضعيف ، ومن كانت نفقته وصدقته رئاء الناس ونذوره للشيطان ، جازاه بالذي أوعده ، من العقاب وأليم العذاب ، كالذي : -
6193 - حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله عز وجل : " وما أنفقتم من نفقة أو نذرتم من نذر فإن الله يعلمه " ، ويحصيه.
6194 - حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله.
* * *
ثم أوعد جل ثناؤه من كانت نفقته رياء ونذوره طاعة للشيطان فقال : " وما للظالمين من أنصار " ، يعني : وما لمن أنفق ماله رئاء الناس وفي معصية الله ، وكانت نذوره للشيطان وفي طاعته " من أنصار " ، وهم جمع " نصير " ، كما " الأشراف " جمع " شريف " . (2) ويعني بقوله : " من أنصار " ، من ينصرهم من الله يوم القيامة ، فيدفع عنهم عقابه يومئذ بقوة وشدة بطش ، ولا بفدية.
* * *
وقد دللنا على أن " الظالم " هو الواضع للشيء في غير موضعه. (3) .
* * *
وإنما سمى الله المنفق رياء الناس ، والناذر في غير طاعته ، ظالما ، لوضعه إنفاق ماله في غير موضعه ، ونذره في غير ماله وضعه فيه ، فكان ذلك ظلمه.
* * *
__________
(1) في المخطوطة : " فإن الله يعلم " ، والصواب هنا ما في المطبوعة . ثم في المطبوعة : " جميع ذلك بعلم الله " ، وأثبت الصواب من المخطوطة .
(2) انظر معنى " النصر " و " النصير " فيما سلف 2 : 489 ، 564 .
(3) انظر تفسير " الظلم " فيما سلف 1 : 523 ، 524 /2 : 369 ، 519/ 4 : 584 ، وغيرها من المواضع ، اطلبها في فهرس اللغة .

(5/581)


إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (271)

قال أبو جعفر : فإن قال لنا قائل : فكيف قال : " فإن الله يعلمه " ، ولم يقل : " يعلمهما " ، وقد ذكر النذر والنفقة.
قيل : إنما قال : " فإن الله يعلمه " ، لأنه أراد : فإن الله يعلم ما أنفقتم أو نذرتم ، فلذلك وحد الكناية. (1) .
* * *
القول في تأويل قوله : { إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ }
قال أبو جعفر : يعني بقوله جل ثناؤه : " إن تبدوا الصدقات " ، إن تعلنوا الصدقات فتعطوها من تصدقتم بها عليه " فنعما هي " ، يقول : فنعم الشيء هي " وإن تخفوها " ، يقول : وإن تستروها فلم تعلنوها (2) " وتؤتوها الفقراء " ، يعني : وتعطوها الفقراء في السر (3) " فهو خير لكم " ، يقول : فإخفاؤكم إياها خير لكم من إعلانها. وذلك في صدقة التطوع ، كما : -
6195 - حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : " إن تبدوا الصدقات فنعما هي وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم " ، كل مقبول إذا كانت النية صادقة ، وصدقة السر أفضل. وذكر لنا أن الصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار.
6196 - حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع ، في قوله : " إن تبدوا الصدقات فنعما هي وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم " ، قال : كل مقبول إذا كانت النية صادقة ،
__________
(1) الكناية ، والمكني : هو الضمير ، في اصطلاح الكوفيين والبغداديين وغيرهم .
(2) في المخطوطة والمطبوعة : " فلن تعلنوها " ، وهو فاسد السياق ، والصواب ما أثبت ،
(3) انظر معنى " الإيتاء " ، في مادة " أتى " من فهارس اللغة فيما سلف .

(5/582)


والصدقة في السر أفضل. وكان يقول : إن الصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار.
6197 - حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله ، قال : حدثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس قوله : " إن تبدوا الصدقات فنعما هي وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم " ، فجعل الله صدقة السر في التطوع تفضل علانيتها بسبعين ضعفا ، وجعل صدقة الفريضة : علانيتها أفضل من سرها ، يقال بخمسة وعشرين ضعفا ، وكذلك جميع الفرائض والنوافل في الأشياء كلها. (1) .
6198 - حدثني عبد الله بن محمد الحنفي ، قال : حدثنا عبد الله بن عثمان ، قال : حدثنا عبد الله بن المبارك ، قال : سمعت سفيان يقول في قوله : " إن تبدوا الصدقات فنعما هي وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم " ، قال : يقول : هو سوى الزكاة. (2) .
* * *
وقال آخرون : إنما عنى الله عز وجل بقوله : " إن تبدوا الصدقات فنعما هي " ، إن تبدوا الصدقات على أهل الكتابين من اليهود والنصارى فنعما هي ، وإن تخفوها وتؤتوها فقراءهم فهو خير لكم. قالوا : وأما ما أعطى فقراء المسلمين من زكاة وصدقة تطوع ، فإخفاؤه أفضل من علانيته.
* ذكر من قال ذلك :
6199 - حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : ثني عبد الرحمن بن شريح ، أنه سمع يزيد بن أبي حبيب يقول : إنما نزلت هذه الآية : (3) " إن تبدوا الصدقات فنعما هي " ، في الصدقة على اليهود والنصارى. (4) .
__________
(1) في المطبوعة : " في الأشياء كلها " ، وأثبت ما في المخطوطة .
(2) الأثر 6198 - مضى رجال هذا الإسناد برقم : 5000 ، 5009 ، ويأتي برقم : 6200 .
(3) في المطبوعة : " هذه آية " وهو خطأ ، والصواب من المخطوطة .
(4) الأثر : 6199 - " عبد الرحمن بن شريح بن عبد الله بن محمود بن المعافري " ، أبو شريح الاسكندراني . قال أحمد : ثقة : توفي بالإسكندرية سنة 167 ، وكانت له عبادة وفضل .
مترجم في التهذيب .

(5/583)


6200 - حدثني عبد الله بن محمد الحنفي ، قال : أخبرنا عبد الله بن عثمان ، قال : أخبرنا ابن المبارك ، قال : أخبرنا ابن لهيعة ، قال : كان يزيد بن أبي حبيب يأمر بقسم الزكاة في السر قال عبد الله : أحب أن تعطى في العلانية يعني الزكاة.
* * *
قال أبو جعفر : ولم يخصص الله من قوله : " إن تبدوا الصدقات فنعما هي " [ شيئا دون شيء] ، فذلك على العموم إلا ما كان من زكاة واجبة ، (1) فإن الواجب من الفرائض قد أجمع الجميع على أن الفضل في إعلانه وإظهاره سوى الزكاة التي ذكرنا اختلاف المختلفين فيها مع إجماع جميعهم على أنها واجبة ، فحكمها في أن الفضل في أدائها علانية ، حكم سائر الفرائض غيرها.
* * *
القول في تأويل قوله : { وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ }
قال أبو جعفر : اختلف القرأة في قراءة ذلك.
فروي عن ابن عباس أنه كان يقرؤه : ( وتكفر عنكم ) بالتاء.
ومن قرأه كذلك. فإنه يعني به : وتكفر الصدقات عنكم من سيئاتكم.
* * *
وقرأ آخرون : ( وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ ) بالياء ، بمعنى : ويكفر الله عنكم بصدقاتكم ، على ما ذكر في الآية من سيئاتكم.
* * *
__________
(1) هكذا جاءت الجملة في المخطوطة والمطبوعة ، فزدت ما بين القوسين لتستقيم العبارة بعض الاستقامة ، ولا أشك أنه كان في الكلام سقط من ناسخ ، فأتمته بأقل الألفاظ دلالة على المعنى .
وقد مضى كثير من سهو الناسخ في القسم من التفسير ، وسيأتي في هذا القسم من التفسير ، وسيأتي بعد قليل دليل على ذلك في رقم : 6209 .

(5/584)


وقرأ ذلك بعد عامة قراء أهل المدينة والكوفة والبصرة ، ( ونكفر عنكم ) بالنون وجزم الحرف ، يعني : وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء نكفر عنكم من سيئاتكم بمعنى : مجازاة الله عز وجل مخفي الصدقة بتكفير بعض سيئاته بصدقته التي أخفاها.
* * *
قال أبو جعفر : وأولى القراءات في ذلك عندنا بالصواب قراءة من قرأ : ( ونكفر عنكم ) بالنون وجزم الحرف ، على معنى الخبر من الله عن نفسه أنه يجازي المخفي صدقته من التطوع ابتغاء وجهه من صدقته ، بتكفير سيئاته. وإذا قرئ كذلك ، فهو مجزوم على موضع " الفاء " في قوله : " فهو خير لكم " . لأن " الفاء " هنالك حلت محل جواب الجزاء.
* * *
فإن قال لنا قائل : وكيف اخترت الجزم على النسق على موضع " الفاء " ، وتركت اختيار نسقه على ما بعد الفاء ، وقد علمت أن الأفصح من الكلام في النسق على جواب الجزاء الرفع ، وإنما الجزم تجويزه ؟ (1) .
قيل : اخترنا ذلك ليؤذن بجزمه أن التكفير - أعني تكفير الله من سيئات المصدق لا محالة داخل فيما وعد الله المصدق أن يجازيه به على صدقته. لأن ذلك إذا جزم ، مؤذن بما قلنا لا محالة ، ولو رفع كان قد يحتمل أن يكون داخلا فيما وعده الله أن يجازيه به ، وأن يكون خبرا مستأنفا أنه يكفر من سيئات عباده المؤمنين ، على غير المجازاة لهم بذلك على صدقاتهم ، لأن ما بعد " الفاء " في جواب الجزاء استئناف ، فالمعطوف على الخبر المستأنف في حكم المعطوف عليه ، في أنه غير داخل في الجزاء ، ولذلك من العلة ، اخترنا جزم " نكفر " عطفا به على موضع
__________
(1) في المطبوعة : " تجويز " بغير إضافة ، وأثبت ما في المخطوطة .

(5/585)


الفاء من قوله : " فهو خير لكم " وقراءته بالنون. (1) .
* * *
فإن قال قائل : وما وجه دخول " من " في قوله : " ونكفر عنكم من سيئاتكم " قيل : وجه دخولها في ذلك بمعنى : ونكفر عنكم من سيئاتكم ما نشاء تكفيره منها دون جميعها ، ليكون العباد على وجل من الله فلا يتكلوا على وعده ما وعد على الصدقات التي يخفيها المتصدق فيجترئوا على حدوده ومعاصيه.
* * *
وقال بعض نحويي البصرة : معنى " من " الإسقاط من هذا الموضع ، (2) ويتأول معنى ذلك : ونكفر عنكم سيئاتكم.
* * *
القول في تأويل قوله : { وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (271) }
قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه : " والله بما تعملون " في صدقاتكم ، من إخفائها ، وإعلان وإسرار بها وجهار ، (3) وفي غير ذلك من أعمالكم " خبير " يعني بذلك ذو خبرة وعلم ، (4) لا يخفى عليه شيء من ذلك ، فهو بجميعه محيط ، ولكله محص على أهله ، حتى يوفيهم ثواب جميعه ، وجزاء قليله وكثيره.
* * *
__________
(1) هذا من دقيق نظر أبي جعفر في معاني التأويل ، ووجوده اختيار القراءات . ولو قد وصلنا كتابه في القراءات ، الذي ذكره في الجزء الأول : 148 ، وذكر فيه اختياره من القراءة ، والعلل الموجبة صحة ما اختاره - لجاءنا كتاب لطيف المداخل والمخارج ، فيما نستظهر .
(2) " الإسقاط " يعنى به : الزيادة ، والحذف ، وهو الذي يسمى أيضًا " صلة " ، كما مضى مرارا ، واطلبه في فهرس المصطلحات .
(3) في المطبوعة : " وإجهار " ، والصواب من المخطوطة .
(4) انظر تفسير " خبير " فيما سلف 1 : 496 /ثم 5 : 94 .

(5/586)


لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ (272)

القول في تأويل قوله عز وجل : { لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلأنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ (272) }
قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بذلك : ليس عليك يا محمد هدى المشركين إلى الإسلام ، فتمنعهم صدقة التطوع ، ولا تعطيهم منها ليدخلوا في الإسلام حاجة منهم إليها ، ولكن الله هو يهدي من يشاء من خلقه إلى الإسلام فيوفقهم له ، فلا تمنعهم الصدقة ، كما : -
6201 - حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا ابن يمان ، عن أشعث ، عن جعفر ، عن شعبة ، قال : كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يتصدق على المشركين ، فنزلت : " وما تنفقون إلا ابتغاء وجه الله " ، فتصدق عليهم.
6202 - حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا أبو داود ، عن سفيان ، عن الأعمش ، عن جعفر بن إياس ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال : كانوا لا يرضخون لقراباتهم من المشركين ، فنزلت : " ليس عليك هداهم ولكن الله يهدي من يشاء " . (1) .
6203 - حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن رجل ،
__________
(1) الأثر : 6202 - " جعفر بن إياس " ، هو ابن أبي وحشية اليشكري ، أبو بشر الواسطي . ثقة ، وهو من أثبت الناس في سعيد بن جبير . واختلف في سنة وفاته بين سنة 123 وسنة : 131 . مترجم في التهذيب . وروي الأثر ابن كثير في تفسيره 2 : 49 عن أبي عبدالرحمن النسائي بإسناده ، وقال : وكذا رواه أبو حذيفة ، وابن المبارك ، وأبو أحمد الزبيري ، وأبو داود الحضرمي ، عن سفيان - وهو الثوري - به " . ولم ينسبه لأبي جعفر ، وهذا دليل على ما قدمته في تصدير الأجزاء السالفة أن ابن كثير وغيره ، قد أقلوا النقل عن أبي جعفر بعد الجزء الأول من تفسيره .
" رضخ له من ماله يرضخ رضخا ، ورضخ له من ماله رضيخة " : أعطاه عطية مقاربة ، بين القليل والكثير .

(5/587)


عن سعيد بن جبير ، قال : كانوا يتقون أن يرضخوا لقراباتهم من المشركين ، حتى نزلت : " ليس عليك هداهم ولكن الله يهدي من يشاء " .
6204 - حدثنا محمد بن بشار وأحمد بن إسحاق ، قالا حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا سفيان ، عن الأعمش ، عن جعفر بن إياس ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال : كانوا لا يرضخون لأنسبائهم من المشركين ، فنزلت : " ليس عليك هداهم ولكن الله يهدي من يشاء " فرخص لهم.
6205 - حدثنا المثنى ، قال : حدثنا سويد ، قال : أخبرنا ابن المبارك ، عن سفيان ، عن الأعمش ، عن جعفر بن إياس ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال : كان أناس من الأنصار لهم أنسباء وقرابة من قريظة والنضير ، وكانوا يتقون أن يتصدقوا عليهم ، ويريدونهم أن يسلموا ، فنزلت : " ليس عليك هداهم... " الآية.
6206 - حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، وذكر لنا أن رجالا من أصحاب نبي الله قالوا : أنتصدق على من ليس من أهل ديننا ؟ فأنزل الله في ذلك القرآن : " ليس عليك هداهم " .
6207 - حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع في قوله : " ليس عليك هداهم ولكن الله يهدي من يشاء " ، قال : كان الرجل من المسلمين إذا كان بينه وبين الرجل من المشركين قرابة وهو محتاج ، فلا يتصدق عليه ، يقول : ليس من أهل ديني!! فأنزل الله عز وجل : " ليس عليك هداهم " الآية.
6208 - حدثني موسى ، قال : (1) حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن
__________
(1) الأثر : 6208 - في المطبوعة والمخطوطة : " حدثنا محمد ، قال حدثنا عمرو... " ، والصواب " موسى " وهو موسى بن هارون ، عن عمرو بن حماد " وهو إسناد دائر من أول التفسير . وسيأتي هذا الأثر نفسه ، وتتمته برقم : 6211 ، وبإسناده على صوابه . وقد مضى بيان أخي السيد أحمد عن هذا الإسناد في الأثر رقم : 168 .

(5/588)


السدي قوله : " ليس عليك هداهم ولكن الله يهدي من يشاء ، وما تنفقوا من خير فلأنفسكم " ، أما " ليس عليك هداهم " ، فيعني المشركين ، وأما " النفقة " فبين أهلها.
6209 - حدثني المثنى ، قال : حدثنا الحماني ، قال : حدثنا يعقوب القمي ، عن جعفر بن أبي المغيرة ، عن سعيد بن جبير قال : كانوا يتصدقون [ على فقراء أهل الذمة ، فلما كثر فقراء المسلمين قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا تتصدقوا إلا على أهل دينكم . فنزلت : هذه الآية ، مبيحة للصدقة على من ليس من دين الإسلام ]. (1) .
* * *
..........................................................................
..........................................................................
* * *
كما : -
6210 - حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : " يوف إليكم وأنتم لا تظلمون " ، قال : هو مردود عليك ، فمالك ولهذا تؤذيه وتمن عليه ؟ إنما نفقتك لنفسك وابتغاء وجه الله ، والله يجزيك. (2) .
* * *
__________
(1) الأثر : 6209 - كان الكلام مبتورا في الموضع من المخطوطة والمطبوعة ، ولكن الناسخ ساقه سياقا واحدا هكذا : " كانوا يتصدقون ، كما حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب... " وقد أشرت في ص : 584 ، التعليق : وغيره من تعليقاتي السالفة ، إلى ما وقع فيه الناسخ من الغفلة والسهو .
وقد زدت ما بين القوسين مما رواه القرطبي في تفسيره 3 : 337 ، قال روي سعيد بن جبير مرسلا عن النبي صلى الله عليه وسلم في سبب نزول هذه الآية : " أن المسلمين كانوا يتصدقون على فقراء أهل الذمة . . . " إلى آخر ما نقلت . فرجحت أن هذا الأثر الساقط من هذا الموضع ، فأثبته بنصه من القرطبي ، ولكن بقى صدر الكلام الآتي مبتورا ، فوضعت نقطا مكان هذا البتر .
(2) الأثر : 6210 - ما قبل هذا الأثر بتر لا أستطيع أن أقدر مبلغه . وأخرج الأثر السيوطي في الدر المنثور 1 : 357 - 358 .

(5/589)


لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (273)

القول في تأويل قوله : { لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الأرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (273) }
قال أبو جعفر : أما قوله : " للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله " ، فبيان من الله عز وجل عن سبيل النفقة ووجهها. ومعنى الكلام : وما تنفقوا من خير فلأنفسكم تنفقون للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله.
" واللام " التي في " الفقراء " مردودة على موضع " اللام " في " فلأنفسكم " كأنه قال : " وما تنفقوا من خير " - يعني به : وما تتصدقوا به من مال فللفقراء الذين أحصروا في سبيل الله. فلما اعترض في الكلام بقوله : " فلأنفسكم " ، فأدخل " الفاء " التي هي جواب الجزاء فيه ، تركت إعادتها في قوله : " للفقراء " ، إذ كان الكلام مفهوما معناه ، كما : -
6211 - حدثني موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي قوله : " ليس عليك هداهم ولكن الله يهدي من يشاء وما تنفقوا من خير فلأنفسكم " ، أما : " ليس عليك هداهم " ، فيعني المشركين. وأما " النفقة " فبين أهلها ، فقال : " للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله " . (1) .
* * *
وقيل : إن هؤلاء الفقراء الذين ذكرهم الله في هذه الآية ، هم فقراء المهاجرين عامة دون غيرهم من الفقراء.
* ذكر من قال ذلك :
__________
(1) الأثر : 6211 - انظر الأثر السالف رقم : 6208 والتعليق عليه .

(5/590)


6212 - حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : " للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله " ، مهاجري قريش بالمدينة مع النبي صلى الله عليه وسلم ، أمر بالصدقة عليهم.
6213 - حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه قوله : " للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله " الآية ، قال : هم فقراء المهاجرين بالمدينة.
6214 - حدثني موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدى : " للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله " ، قال : فقراء المهاجرين.
* * *
القول في تأويل قوله عز وجل : { الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ }
قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بذلك : الذين جَعلهم جهادُهم عدوَّهم يُحْصِرون أنفسَهم فيحبسونها عن التصرُّف فلا يستطيعون تصرّفًا. (1) .
* * *
وقد دللنا فيما مضى قبلُ على أن معنى " الإحصار " ، تصيير الرجل المحصَر بمرضه أو فاقته أو جهاده عدوَّه ، وغير ذلك من علله ، إلى حالة يحبس نفسَه فيها عن التصرُّف في أسبابه ، بما فيه الكفاية فيما مضى قبل. (2) .
* * *
وقد اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك ، (3) .
فقال بعضهم : في ذلك بنحو الذي قلنا فيه.
* ذكر من قال ذلك :
__________
(1) التصرف : الكسب . يقال " فلان يصرف لعياله ، ويتصرف لهم ، ويصطرف " ، أي يكتسب لهم. وهو من الصرف والتصرف : وهو التقلب والحيلة .
(2) انظر ما سلف 4 : 21 - 26 .
(3) في المخطوطة : " وقال : اختلف أهل التأويل... " . وهما سواء .

(5/591)


6215 - حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : " الذين أحصروا في سبيل الله " ، قال : حَصَروا أنفسهم في سبيل الله للغزو.
6216 - حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : " للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله " ، قال : كانت الأرض كلُّها كفرًا ، لا يستطيع أحدٌ أن يخرج يبتغي من فضل الله ، إذا خرج خرج في كُفر وقيل : كانت الأرضُ كلها حربًا على أهل هذا البلد ، وكانوا لا يتوجَّهون جهة إلا لهم فيها عدوّ ، فقال الله عز وجل : " للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله " الآية ، كانوا ههنا في سبيل الله.
* * *
وقال آخرون : بل معنى ذلك : الذين أحصرهم المشركون فمنعوهم التصرُّف.
* ذكر من قال ذلك :
6217 - حدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : " للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله " ، حصرهم المشركون في المدينة.
* * *
قال أبو جعفر : ولو كان تأويل الآية على ما تأوله السدّيّ ، لكان الكلام : للفقراء الذين حُصروا في سبيل الله ، ولكنه " أحصِروا " ، فدلّ ذلك على أن خوفهم من العدوّ الذي صيَّر هؤلاء الفقراء إلى الحال التي حَبَسوا - وهم في سبيل الله - أنفسَهم ، لا أنّ العدوَّ هم كانوا الحابِسِيهم.
وإنما يقال لمن حبسه العدوّ : " حصره العدوّ " ، وإذا كان الرّجل المحبَّس من خوف العدوّ ، قيل : " أحصره خوفُ العدّو " . (1) .

(1) انظر تفضيل ذلك فيما سلف 4 : 21 - 26 .

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

تابع أخبار مكة وما جاء فيها من الآثار

أخبار مكة وما جاء فيها من الآثار   ج1وج2. ج / 1 ص -3- بسم الله الرحمن الرحيم مقدمة التحقيق: لا نعرف عن بدايات التأليف في...