اللهم استجب

سبحانك وبحمدك وأستغفرك أنت الله الشافي الكافي الرحمن الرحيم الغفار الغفور القادر القدير المقتدر الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر الخالق البارئ المصور... الواحد الأحد الواجد الماجد الملك المغيث لا إله إلا أنت وحدك لا شريك لك ..لك الملك ولك الحمد وأنت علي كل شيئ قدير ولا حول ولا قوة إلا بك وأستغفرك اللهم بحق أن لك هذه الأسماء وكل الأسماء الحسني وحق إسمك الأعظم الذي تعلمه ولا أعلمه أسألك أن تَشفني شفاءا لا يُغادر سقما وأن تَكفني كل همي وتفرج كل كربي وتكشف البأساء والضراء عني وأن تتولي أمري وتغفر لي ذنبي وأن تشرح لي صدري وأن تُيسر لي أمري وأن تحلل عُقْدَةً  من لساني يفقهوا قولي وأن تغنني بفضلك عمن سواك اللهم أصلحني: حالي وبالي وأعتقني في الدارين وخُذ بيدي يا ربي وأخرجني من الظلمات الي النور بفضلك  وأن ترحم وتغفر لوالديَّ ومن مات من اخوتي وان تغفر لهم أجمعين وكل من مات علي الايمان والتوبة اللهم آمين  //اللهم تقبل/ واستجب//https://download.tvquran.com/download/selections/315/5cca02c11a61a.mp3

المصحف

 تحميل المصحف

القرآن الكريم وورد word doc icon تحميل المصحف الشريف بصيغة pdf تحميل القرآن الكريم مكتوب بصيغة وورد تحميل سورة العاديات مكتوبة pdf

Translate

بحث هذه المدونة الإلكترونية

الجمعة، 27 مايو 2022

مجلد 2. جامع البيان/ الطبري

 

مجلد 2. جامع البيان في تأويل القرآن  محمد بن جرير بن يزيد بن كثير بن غالب الآملي، أبو جعفر الطبري،
[ 224 - 310 هـ ]

يعني : وجدته ، وكما : -
2448 - حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة : " قالوا بَل نَتبع ما ألفينا عليه آباءنا " ، أي : ما وجدنا عليه آباءنا.
2449 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع مثله.
قال أبو جعفر : فمعنى الآية : وإذا قيل لهؤلاء الكفار : كلوا مما أحلّ الله لكم ، ودَعوا خُطوات الشيطان وطريقه ، واعملوا بما أنزل الله على نبيه صلى الله عليه وسلم في كتابه - استكبروا عن الإذعان للحقّ وقالوا : بل نأتم بآبائنا فنتَّبع ما وجدناهم عليه ، من تحليل ما كانوا يُحلُّون ، وتحريم ما كانوا يحرّمون.
* * *
قال الله تعالى ذكره : " أوَ لو كانَ آباؤهم " - يعني : آباء هؤلاء الكفار الذين مضوا على كفرهم بالله العظيم - " لا يعقلون شيئًا " من دين الله وفرائضه ، وأمره ونهيه ، فيُتَّبعون على ما سَلكوا من الطريق ، ويؤتمُّ بهم في أفعالهم - " ولا يَهتدون " لرشد ، فيهتدي بهم غيرهم ، ويَقتدي بهم من طَلب الدين ، وأراد الحق والصواب ؟
يقول تعالى ذكره لهؤلاء الكفار : فكيف أيها الناس تَتَّبعون ما وجدتم عليه

(3/307)


وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (171)

آباءكم فتتركون ما يأمرُكم به ربكم ، وآباؤكم لا يعقلون من أمر الله شيئًا ، ولا هم مصيبون حقًّا ، ولا مدركون رشدًا ؟ وإنما يَتّبع المتبعُ ذا المعرفة بالشيء المستعملَ له في نفسه ، فأما الجاهل فلا يتبعه - فيما هو به جاهل - إلا من لا عقل له ولا تمييز.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لا يَسْمَعُ إِلا دُعَاءً وَنِدَاءً }
قال أبو جعفر : اختلف أهل التأويل في معنى ذلك.
* * *
فقال بعضهم : معنى ذلك : مثل الكافر في قلة فهمه عن الله ما يُتلى عليه في كتابه ، وسُوء قبوله لما يدعى إليه من توحيد الله ويوعظ به مثلُ البهيمة التي تسمع الصوتَ إذا نُعق بها ، ولا تعقلُ ما يقال لها.
* ذكر من قال ذلك :
2450 - حدثنا هناد بن السريّ قال ، حدثنا أبو الأحوص ، عن سماك ، عن عكرمة ، في قوله : " ومثلُ الذين كفروا كمثل الذي ينعق بما لا يَسمع إلا دعاء ونداءً " قال ، مَثلُ البعير أو مثل الحمار ، تدعوه فيسمع الصوت ولا يفقه ما تقول.
2451 - حدثني محمد بن عبد الله بن زريع قال ، حدثنا يوسف بن خالد السمتي قال ، حدثنا نافع بن مالك ، عن عكرمة ، عن ابن عباس في قوله : " كمثل الذي يَنعق بما لا يَسمع " قال ، هو كمثل الشاة ونحو ذلك. (1) .
__________
(1) الخبر : 2451 - هذا خبر منهار الإسناد . أما " محمد بن عبد الله بن زريع " شيخ الطبري فلم أجد ترجمته . والطبري يروي عن " محمد بن عبد الله بن بزيع " ، ولا أستطيع الترجيح بأنه هو ، حرف اسم جده .
وأما " يوسف بن خالد السمتي " : فهو ضعيف جدًا ، قال فيه ابن معين : " كذاب ، زنديق ، لا يكتب حديثه " . ولا يشتغل بمثله . مترجم في التهذيب ، والكبير 4/2/388 ، وابن سعد 7/2/47 ، وابن أبي حاتم 4/2/221 - 222 . و " السمتي " : بفتح السين وسكون الميم ، نسبة إلى السمت والهيئة . قال ابن سعد : " وقيل له : السمتي - للحيته وهيئته وسمته " !!
نافع بن مالك : هو الأصبحي ، أبو سهيل ، وهو عم الإمام مالك بن أنس ، وهو تابعي ثقة . مترجم في التهذيب ، والكبير 4/2/86 ، وابن أبي حاتم 4/1/453 .

(3/308)


2452 - حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : " ومثل الذين كفروا كمثل الذي يَنعِق بما لا يَسمع إلا دعاءً ونداءً " ، كمثل البعير والحمار والشاة ، إن قلت لبعضها " كُلْ " - لا يعلم ما تقول ، غير أنه يسمع صوتك. وكذلك الكافر ، إن أمرته بخير أو نهيته عن شر أو وَعظته ، لم يعقل ما تقول غير أنه يسمع صوتك.
2453 - حدثني القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج قال ، قال ابن عباس : مثل الدابة تنادى فتسمعُ ولا تعقل ما يقال لها. كذلك الكافر ، يسمع الصوت ولا يعقل.
2454 - حدثنا سفيان بن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن خصيف ، عن مجاهد : " كمثل الذي ينعق بما لا يسمع " قال ، مثل الكافر مثل البهيمة تسمع الصوت ولا تعقل.
2455 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : " كمثل الذي ينعِق " ، مثلٌ ضربه الله للكافر يسمع ما يقال له ولا يعقل ، كمثل البهيمة تسمع النعيقَ ولا تعقل.
2456 - حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : " ومثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاءً ونداءً " ، يقول : مثل الكافر كمثل البعير والشاة ، يسمع الصوت ولا يعقل ولا يدري ما عُني به.

(3/309)


2457 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : " كمثل الذي ينعقُ بما لا يسمع إلا دعاءً ونداءً " قال ، هو مثل ضربه الله للكافر. يقول : مَثل هذا الكافر مثل هذه البهيمة التي تسمع الصوت ولا تدري ما يقال لها. فكذلك الكافر لا ينتفع بما يقال له.
2458 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع قال : هو مَثل الكافر ، يسمع الصوت ولا يعقل ما يقال له.
2459 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج قال ، قال ابن جريج : سألت عطاء ثم قلت له : يقال : لا تعقل - يعني البهيمة - إلا أنها تسمع دُعاء الداعي حين ينعِقُ بها ، فهم كذلك لا يَعقلون وهم يسمعون. فقال : كذلك. قال : وقال مجاهد : " الذي ينعِق " ، الراعي " بما لا يسمع " من البهائم.
2460 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : " كمثل الذي ينعق " الراعي " بما لا يسمع " من البهائم.
2461 - حدثني موسى قال ، حدثنا عمرو ، قال حدثنا أسباط ، عن السدي : " كمثل الذي ينعِق بما لا يَسمع إلا دُعاء ونداءً " ، لا يعقل ما يقال له إلا أن تُدعي فتأتي ، أو ينادَى بها فتذهب. وأما " الذي ينعق " ، فهو الراعي الغنم ، كما ينعق الراعي بما لا يسمع ما يقال له ، إلا أن يُدعى أو ينادى. فكذلك محمد صلى الله عليه وسلم ، يدعو من لا يسمع إلا خرير الكلام ، يقول الله : ( صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ ) [سورة البقرة : 18]
* * *
قال أبو جعفر : ومعنى قائلي هذا القول - في تأويلهم ما تأوَّلوا ، على ما حكيت عنهم - : ومثَلُ وَعْظِ الذين كفروا وواعظهم ، كمثل نَعْق الناعق بغنمه

(3/310)


ونعيقِه بها. فأضيف " المثل " إلى الذين كفروا ، وترك ذكر " الوعظ والواعظ " ، لدلالة الكلام على ذلك. كما يقال : " إذا لقيت فلانًا فعظِّمه تعظيمَ السلطان " ، يراد به : كما تعظم السلطانَ ، وكما قال الشاعر :
فَلَسْتُ مُسَلِّمًا مَا دُمْتُ حَيًّا... عَلَى زَيْدٍ بِتَسْلِيمِ الأمِير (1)
يراد به : كما يُسلِّم على الأمير.
وقد يحتمل أن يكون المعنى - على هذا التأويل الذي تأوله هؤلاء - : ومثل الذين كفروا في قلة فهمهم عن الله وعن رسوله ، كمثل المنعوق به من البهائم ، الذي لا يَفقه من الأمر والنهي غير الصوت. وذلك أنه لو قيل له : " اعتلف ، أورِدِ الماء " ، لم يدر ما يقال له غير الصوت الذي يسمعه من قائله. فكذلك الكافر ، مَثله في قلة فهمه لما يؤمر به وينهى عنه - بسوء تدبُّره إياه وقلة نظره وفكره فيه - مَثلُ هذا المنعوق به فيما أمِر به ونُهِي عنه. فيكون المعنى للمنعوق به ، والكلام خارجٌ على الناعق ، كما قال نابغة بني ذبيان :
وَقَدْ خِفْتُ ، حَتَّى مَا تَزِيدُ مَخَافَتِي... عَلَى وَعِلٍ فِي ذِي المَطَارَة عَاقِلِ (2)
والمعنى : حتى مَا تزيدُ مخافة الوعل على مخافتي ، وكما قال الآخر : (3)
__________
(1) مضى تخريج هذا البيت في هذا الجزء : 281 تعليق : 1 ، وهذا القول في تفسير الآية ذكره الفراء في معاني القرآن 1 : 100 .
(2) ديوانه : 90 ، وسيأتي في التفسير 30 : 146 (بولاق) ، ومجاز القرآن : 65 ، ومعاني القرآن للفراء 1 : 99 ، ومشكل القرآن : 151 ، والإنصاف : 164 ، وأمالي بن الشجرى 1 : 52 ، 324 ، وأمال الشريف 1 : 202 ، 216 ، ومعجم ما استعجم : 1238 . وهو من قصيدة مضى منها تخريج بيت في هذا الجزء : 213 . وقوله : " ذي المطارة " (بفتح الميم) ، وهو اسم جبل . وعاقل : قد عقل في رأس الجبل ، لجأ إليه واعتصم به وامتنع . والوعل : تيس الجبل : يتحصن بوزره من الصياد . وقد ذكر البكري أنه رأى لابن الأعرابي أنه يعني بذي المطارة (بضم الميم) ناقته ، وأنها مطارة الفؤاد من النشاط والمرح . ويعني بذلك : ما عليها من الرحل والأداة . يقول : كأني على رحل هذه الناقة وعلى عاقل من الخوف والفرق .
(3) النابغة الجعدي .

(3/311)


كَانَتْ فَرِيضَةُ مَا تَقُولُ ، كَمَا... كَانَ الزِّنَاءُ فَرِيضَةَ الرَّجْمِ (1)
والمعنى : كما كان الرجمُ فريضة الزنا ، فجعل الزنا فريضة الرجم ، لوضوح معنى الكلام عند سامعه ، وكما قال الآخر :
إنّ سِرَاجًا لَكَرِيمٌ مَفْخَرُه... تَحْلَى بِهِ العَيْنُ إذَا مَا تَجْهَرُهْ (2)
والمعنى : يَحلى بالعين ، فجعله تحلى به العين. (3) ونظائر ذلك من كلام العرب أكثرُ من أن تحصى ، مما تُوجِّهه العرب من خبر ما تخبر عنه إلى ما صاحَبَه ، لظهور معنى ذلك عند سامعه ، فتقول : " اعرِض الحوضَ على الناقة " ، وإنما تعرض الناقة على الحوض ، وما أشبه ذلك من كلامها. (4)
* * *
وقال آخرون : معنى ذلك : ومَثل الذين كفروا في دُعائهم آلهتهم وأوثانهم التي لا تسمع ولا تعقل ، كمثل الذي يَنعق بما لا يسمع إلا دُعاءً ونداءً ، وذلك الصدى الذي يسمع صوته ، ولا يفهم به عنه الناعقُ شيئًا.
فتأويل الكلام على قول قائلي ذلك : ومثل الذين كفروا وآلهتهم - في دعائهم إياها وهي لا تفقه ولا تعقل - كمثل الناعق بما لا يسمعه الناعقُ إلا دعاءً ونداءً ، أي : لا يسمع منه الناعق إلا دعاءَه.
* ذكر من قال ذلك :
__________
(1) سيأتي في التفسير 2 : 198 ، 327 (بولاق) ، ومعاني القرآن للفراء 1 : 99 ، 131 ، ومشكل القرآن : 153 ، والإنصاف : 165 ، وأمالي الشريف 1 : 216 ، والصاحبي : 172 ، وسمط اللآلي : 368 ، واللسان (زنا) . وقال الطبري في 2 : 327 ، " يعني : كما كان الرجم الواجب من حد الزنا " .
(2) سيأتي في التفسير : (2 ؛ 198 بولاق) ، ومعاني القرآن للفراء 1 : 99 ، 131 ، وأمالي الشريف 1 : 216 ، واللسان (حلا) . يقال : " ما في الحي أحد تجهره عيني " ، أي تأخذه عيني فيعجبني . وفي حديث صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول علي : " لم يكن قصيرًا ولا طويلا ، وهو إلى الطول أقرب . من رآه جهره " ، أي عظم في عينه .
(3) هذا الذي مضى أكثر من قول الفراء في معاني القرآن 1 : 99 .
(4) هذا من نص كلام أبي عبيدة في مجاز القرآن : 63 - 64 .

(3/312)


2462 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد في قوله : " ومَثل الذين كفروا كمثل الذي يَنعِق بما لا يَسمعُ إلا دعاءً ونداءً " قال ، الرجل الذي يصيح في جَوف الجبال فيجيبه فيها صوت يُراجعه يقال له " الصَّدى " . فمثل آلهة هؤلاء لَهم ، كمثل الذي يُجيبه بهذا الصوت ، لا ينفعه ، لا يَسمع إلا دعاء ونداء. قال : والعرب تسمي ذلك الصدى.
* * *
وقد تحتمل الآية على هذا التأويل وجهًا آخر غير ذلك. وهو أن يكون معناها : ومثل الذين كفروا في دعائهم آلهتهم التي لا تفقه دعاءَهم ، كمثل الناعق بغنم لهُ من حيث لا تسمعُ صوتَه غنمُه ، فلا تنتفع من نَعقِه بشيء ، غير أنه في عَناء من دعاء ونداء ، فكذلك الكافر في دعائه آلهته ، إنما هو في عناء من دعائه إياها وندائه لها ، ولا ينفعه شيء.
* * *
قال أبو جعفر : وأولى التأويل عندي بالآية ، التأويل الأول الذي قاله ابن عباس ومَن وافقه عليه. وهو أن معنى الآية : ومثل وَعظ الكافر وواعظه ، كمثل الناعق بغنمه ونَعيقه ، فإنه يسمع نَعقه ولا يعقل كلامه ، على ما قد بينا قبل.
فأما وَجه جَواز حذف " وعظ " اكتفاء بالمثل منه ، فقد أتينا على البيان عنه في قوله : ( مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا ) [سورة البقرة : 17] ، وفي غيره من نظائره من الآيات ، بما فيه الكفاية عن إعادته. (1) .
* * *
وإنما اخترنا هذا التأويل ، لأن هذه الآية نزلت في اليهود ، وإياهم عَنى الله تعالى ذكره بها ، ولم تكن اليهود أهل أوثان يَعبدونها ، ولا أهل أصنام يُعظمونها ويرجون نَفعها أو دَفع ضرها. ولا وجه - إذ كان ذلك كذلك - لتأويل من
__________
(1) انظر ما سلف 1 : 318 - 328 ، واطلب ذلك في فهرس العربية من الجزاء السالفة .

(3/313)


تأوّل ذلك أنه بمعنى : مَثل الذين كفروا في ندائهم الآلهة ودُعائهم إياها.
* * *
فإن قال قائل : وما دليلك على أنّ المقصود بهذه الآية اليهود ؟
قيل : دليلنا على ذلك مَا قبلها من الآيات وما بعدها ، فإنهم هم المعنيون به. فكان ما بينهما بأن يكون خبرًا عنهم ، أحق وأولى من أن يكون خبرًا عن غيرهم ، حتى تأتي الأدلة واضحةً بانصراف الخبر عنهم إلى غيرهم. هذا ، مع ما ذكرنا من الأخبار عَمن ذكرنا عنه أنها فيهم نزلت ، والرواية التي روينا عن ابن عباس أنّ الآية التي قبل هذه الآية نزلت فيهم. (1) وبما قُلنا من أن هذه الآية معنيّ بها
__________
(1) هذا موضع مشكل في كلام أبي جعفر رضي الله عنه ، كان ينبغي أن يبينه فضل بيان . فإن صدر عبارته قاض بأن كل الآيات التي قبل هذه الآية نزلت في يهود ، وليس كذلك . ثم عاد بعد قليل يقول : " هذا مع الرواية التي رويناها عن ابن عباس أن الآية التي قبل هذه الآية نزلت فيهم " - يعني في يهود . ولو كان الأمر كما يفهم من صدر عبارته ، لم يكن لنصه بعد ذلك على أن الآية التي " قبل هذه الآية " نزلت فيهم ، فيما روي عن ابن عباس - معنى مفهوم .
والظاهر أن أبا جعفر كان أراد أن يقول : إن الآيات السالفة نزلت في اليهود - إلا الآيات الأخيرة من أول قوله : " إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار " إلى قوله : " وإلهكم إله وحد " (163 - 170) ، فهي قد نزلت في كفار العرب ، وذكر ابن عباس أن الآية الأخيرة : (170) نزلت في يهود أيضًا . ثم إن الآيات بعدها هي ولا شك في يهود وأهل الكتاب ، فلذلك حمل معنى الآية هذه أنه مراد به اليهود . فكأنه جعل الآيات من (163 - 169) اعتراضًا في سرد قصة واحدة ، هي قصة يهود .
فإن لم يكن ذلك كذلك ، فلست أدري كيف يتسق كلامه . فهو منذ بدأ في تفسير هذه الآيات من 163 - 169 لم يذكر إلا أهل الشرك وحدهم ، وبين أن المقصود بقوله تعالى : " يا أيها الناس كلوا مما في الأرض حلالا طيبًا " - هم الذين حرموا على أنفسهم البحائر والسوائب والوصائل (ص 300) ، ثم عاد في تأويل قوله تعالى : " وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون " فقال : فهو ما كانوا يحرمون من البحائر والسوائب والوصائل والحوامي (ص 303 ) . واليهود ، كما أنهم لم يكونوا أهل أوثان يعبدونها ، أو أصنام يعظمونها كما قال أبو جعفر ، فهم أيضًا لم يحرموا بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة كما ذكر في تفسير الآيات السالفة . فهذا تناقض منه ر حمه الله - إلا إذا حمل كلامه على استثناء الآيات التي ذكرت أنه فسرها على أنه مراد بها مشركوا العرب الذين حرموا على أنفسهم ما حرموا من البحائر والسوائب والوصائل .
والصواب من القول عندي ، أن هذه الآية تابعة للآيات السالفة ، وأن قصتها شبيهة بقصة ما قبلها في ذكر المشركين الذي قال الله لهم : " يا أيها الناس كلوا مما في الأرض حلالا طيبًا " ، وأن العود إلى قصة أهل الكتاب هو من أول قوله تعالى : " إن الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب " والآيات التي تليها . وانظر ما سيأتي : 317 ، فإنه قد عاد هناك ، فجعل الآية خاصة بالمشركين من أهل الجاهلية ، بذكره ما حرموا على أنفسهم من المطاعم ، وهو تناقض شديد .

(3/314)


اليهود ، كان عطاء يقول :
2463 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج قال ، قال لي عطاء في هذه الآية : هم اليهود الذين أنزل الله فيهم : ( إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلا ) إلى قوله : ( فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ ) [سورة البقرة : 174 - 175].
* * *
وأما قوله : " يَنعِق " ، فإنه : يُصوِّت بالغنم ، " النَّعيق ، والنُّعاق " ، ومنه قول الأخطل :
فَانْعِقْ بِضَأْنِكَ يَا جَرِيرُ ، فَإِنَّمَا... مَنَّتْكَ نَفْسَكَ فِي الخَلاءِ ضَلالا (1)
يعني : صوِّت به.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ (171) }
قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بقوله : " صُمٌّ بُكمٌ عُميٌ " ، هؤلاء الكفارَ الذين مَثلهم كمثل الذي يَنعق بما لا يسمع إلا دُعاءً ونداءً " صُمٌ " عن الحق فهم لا يسمعون - " بُكمٌ " يعني : خُرسٌ عن قيل الحقّ والصواب ، والإقرار بما أمرهم الله أن يقرُّوا به ، وتبيين ما أمرهم الله تعالى ذكره أن يُبينوه من أمر محمد صلى الله عليه وسلم للناس ، فلا ينطقون به ولا يقولونه ، ولا يبينونه للناس - ، " عُميٌّ "
__________
(1) ديوانه : 50 ، ونقائض جرير والأخطل : 81 ، وطبقات فحول الشعراء : 429 ، ومجاز القرآن : 64 ، واللسان (نعق) وقد مضت أبيات منها في 2 : 38 : 39 ، 492 ، 496 ، وهذا الجزء 3 : 294 ، وقد ذكر قبله حروب رهطه بني تغلب ، ثم قال لجرير : إنما أنت راعي غنم ، فصوت بغنمك ، ودع الحروب وذكرها . فلا علم لك ولا لأسلافك بها . وكل ما تحدث به نفسك من ذلك ضلال وباطل .

(3/315)


يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (172)

عن الهدى وطريق الحق فلا يبصرونه ، (1) . كما : -
2464 - حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا يزيد ، عن سعيد ، عن قتادة قوله : " صُمٌ بكم عمي " ، يقول : صم عن الحق فلا يسمعونه ، ولا ينتفعون به ولا يعقلونه ؛ عُمي عن الحق والهدى فلا يبصرونه ؛ بُكم عن الحقّ فلا ينطقون به.
2465 - حدثني موسى بن هارون قال ، حدثنا عمرو بن حماد قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : " صم بكم عمي " يقول : عن الحق.
2466 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو صالح قال ، حدثني معاوية ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : " صم بكم عمي " ، يقول : لا يسمعون الهدى ولا يبصرونه ولا يعقلونه.
* * *
وأما الرفع في قوله : " صم بكم عمي " ، فإنه أتاهُ من قبل الابتداء والاستئناف ، يدل على ذلك قوله : " فهم لا يعقلون " ، كما يقال في الكلام : " هو أصم لا يسمع ، وهو أبكم لا يتكلم " . (2)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (172) }
قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بقوله : " يا أيها الذين آمنوا " ، يا أيها الذين صدَّقوا الله ورسوله ، وأقروا لله بالعبودية ، وأذعنوا له بالطاعة ، كما : -
2467 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا أبو زهير ، عن
__________
(1) انظر تفسير : " صم " " بكم " " عمي " فيما سلف 1 : 328 - 331 . وقد حمل أبو جعفر معنى الآية هنا على أنه عنى به اليهود وأهل الكتاب . وانظر التعليق السالف ص : 314 ، رقم : 1 .
(2) انظر إعرابه في الآية الأخرى فيما سلف 1 : 329 - 330 .

(3/316)


إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (173)

جويبر ، عن الضحاك في قوله : " يا أيها الذين آمنوا " ، يقول : صدَّقوا.
* * *
" كلوا من طيبات ما رَزَقناكم " ، يعني : اطعَموا من حَلال الرزق الذي أحللناهُ لكم ، فطاب لكم بتحليلي إياه لكم ، مما كنتم تحرِّمونَ أنتم ، ولم أكن حرمته عليكم ، من المطاعم والمشارب. " واشكروا لله " ، يقول : وأثنوا على الله بما هو أهله منكم ، على النعم التي رزقكم وَطيَّبها لكم. " إن كنتم إياه تعبدون " ، يقول : إن كنتم منقادين لأمره سامعين مطيعين ، فكلوا مما أباح لكم أكله وحلله وطيَّبه لكم ، ودعوا في تحريمه خطوات الشيطان.
وقد ذكرنا بعض ما كانوا في جاهليتهم يحرِّمونه من المطاعم ، وهو الذي ندبهم إلى أكله ونهاهم عن اعتقاد تحريمه ، إذْ كان تحريمهم إياه في الجاهلية طاعةً منهم للشيطان ، واتباعًا لأهل الكفر منهم بالله من الآباء والأسلاف. ثم بيّن لهم تعالى ذكره ما حرَّم عليهم ، وفصَّله لهم مُفسَّرًا. (1)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ }
قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بذلك : لا تُحرموا على أنفسكم ما لم أحرمه عليكم أيها المؤمنون بالله وبرسوله منَ البحائر والسوائب ونحو ذلك ، بَل كلوا ذلك ، فإني لم أحرم عليكم غير الميتة والدم ولحم الخنزير ، ومَا أهلّ به لغيري.
* * *
ومعنى قوله : " إنما حَرَّم عليكم الميتة " ، ما حرَّم عليكم إلا الميتة.
__________
(1) في المطبوعة : " وفصل لهم " ، والصواب ما أثبت . وهذا الذي قاله هنا برهان آخر على أن أبا جعفر قد اضطرب في قصة هذه الآيات ، فهو قد عاد وجعل بعض الآيات السالفة ، في مشركي العرب في جاهليتهم ، كما ترى ، وهو بين أيضًا في تفسيرة الآية التالية . انظر ص : 314 ، تعليق : 1 .

(3/317)


" وإنما " : حرف واحدٌ ، ولذلك نصبت " الميتة والدم " ، وغير جائز في " الميتة " إذا جعلت " إنما " حرفًا واحدًا - إلا النصب. ولو كانت " إنما " حرفين ، وكانت منفصلة من " إنّ " ، لكانت " الميتة " مرفوعة وما بعدها. وكان تأويل الكلام حينئذ : إنّ الذي حرم الله عليكم من المطاعم الميتةُ والدمُ ولحمُ الخنزير ، لا غير ذلك. (1)
وقد ذُكر عن بعض القراء أنه قرأ ذلك كذلك ، على هذا التأويل. ولست للقراءة به مستجيزًا وإن كان له في التأويل والعربية وَجه مفهومٌ - لاتفاق الحجة من القراء على خلافه. فغيرُ جائز لأحد الاعتراض عليهم فيما نقلوه مجمعين عليه.
* * *
ولو قرئ في " حرّم " بضم الحاء من " حرّم " ، لكان في " الميتة " وجهان من الرفع. أحدهما : من أن الفاعل غير مسمى ، " وإنما " حرفٌ واحد.
والآخر : " إن " و " ما " في معنى حرفين ، و " حرِّم " من صلة " ما " ، " والميتة " خبر " الذي " مرفوع على الخبر. ولست ، وإن كان لذلك أيضًا وجه ، مستجيزًا للقراءة به ، لما ذكرت.
* * *
وأما " الميتة " ، فإن القرأةَ مختلفة في قراءتها. فقرأها بعضهم بالتخفيف ، ومعناه فيها التشديد ، ولكنه يُخففها كما يخفف القائلون في : " هو هيّن ليّن " " الهيْن الليْن " ، (2) كما قال الشاعر : (3)
لَيْسَ مَنْ مَاتَ فَاسْتَرَاحَ بِمَيْتٍ... إِنَّمَا المَيْتُ مَيِّتُ الأحْيَاءِ (4)
__________
(1) انظر تفصيل هذا في معاني القرآن للفراء 1 : 102 - 103 .
(2) في المطبوعة : " القائلون وهو هين لين . . . " ، وكأن الصواب ما أثبت .
(3) هو عدي بن الرعلاء الغساني ، والرعلاء أمه .
(4) الأصمعيات : 5 ، ومعجم الشعراء : 252 ، وتهذيب الألفاظ : 448 ، واللسان (موت) وحماسة ابن الشجرى : 51 ، والخزانة 4 : 187 ، وشرح شواهد المغني : 138 . من أبيات جيدة صادقة ، يقول بعده : إِنَّمَا المَيْتُ مَنْ يَعِيشُ ذَلِيلاً ... كَاسِفًا بَالُهُ قَلِيلَ الرّجَاءِ
فَأُنَاسٌ يُمَصَّصُونَ ثِمَادًا ... وَأُنَاسٌ حُلُوقُهُمْ فِي المَاء
الثماد الماء القليل يبقى في الحفر . وما أصدق ما قال هذا الأبي الحر .

(3/318)


فجمع بين اللغتين في بيت واحد ، في معنى واحد.
وقرأها بعضهم بالتشديد ، وحملوها على الأصل ، وقالوا : إنما هو " مَيْوِت " ، " فيعل " ، من الموت. ولكن " الياء " الساكنة و " الواو " المتحركة لما اجتمعتا ، " والياء " مع سكونها متقدمة ، قلبت " الواو " " ياء " وشددت ، فصارتا " ياء " مشددة ، كما فعلوا ذلك في " سيد وجيد " . قالوا : ومن خففها ، فإنما طلب الخفة. والقراءةُ بها على أصلها الذي هو أصلها أولى.
* * *
قال أبو جعفر : والصواب من القول في ذلك عندي أن التخفيف والتشديد في " ياء " " الميتة " لغتان معروفتان في القراءة وفي كلام العرب ، فبأيهما قرأ ذلك القارئ فمصيب. لأنه لا اختلاف في معنييهما.
* * *
وأما قوله : " وَمَا أهِلَّ به لغير الله " ، فإنه يعني به : وما ذُبح للآلهة والأوثان يُسمى عليه بغير اسمه ، أو قُصد به غيرُه من الأصنام.
وإنما قيل : " وما أهِلَّ به " ، لأنهم كانوا إذا أرادوا ذبح ما قرَّبوه لآلهتهم ، سموا اسم آلهتهم التي قربوا ذلك لها ، وجَهروا بذلك أصْواتَهم ، فجرى ذلك من أمرهم على ذلك ، حتى قيل لكل ذابح ، سمَّى أو لم يُسمِّ ، (1) جهر بالتسمية أو لم يجهر - : " مُهِلٌّ " . فرفعهم أصواتهم بذلك هو " الإهلال " الذي ذكره الله تعالى فقال : " وما أهِلَّ به لغير الله " . ومن ذلك قيل للملبِّي في حَجة أو عمرة " مُهِلّ " ، لرفعه صوته بالتلبية. ومنه " استهلال " الصبي ، إذا صاح عند سقوطه من بَطن أمه ، " واستهلال " المطر ، وهو صوت وُقوعه على الأرض ، كما قال عمرو بن قميئة :
__________
(1) في المطبوعة : " يسمي بذلك أو لم يسم " ، والصواب ما أثبت ، فعل ماض كالذي يليه .

(3/319)


ظَلَمَ البِطَاحَ لَهُ انْهِلالُ حَرِيصَةٍ... فَصَفَا النِّطَافُ لَهُ بُعَيْدَ المُقْلَعِ (1)
واختلف أهل التأويل في ذلك. فقال بعضهم : يعني بقوله : " وما أهِلَّ به لغير الله " ، ما ذبح لغير الله.
* ذكر من قال ذلك :
2468 - حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة : " وما أهِلّ به لغير الله " قال ، ما ذبح لغير الله.
2469 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : " وما أهلّ به لغير الله " قال ، ما ذبح لغير الله مما لم يُسم عليه.
2470 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : " وما أهلّ به لغير الله " ، ما ذبح لغير الله.
2471 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج قال ، قال ابن جريج ، قال ابن عباس في قوله : " وما أهِلّ به لغير الله " قال ، ما أهِلّ به للطواغيت.
2472 - حدثنا سفيان بن وكيع قال ، حدثنا أبو خالد الأحمر ، عن جويبر ، عن الضحاك قال : " وما أُهلّ به لغير الله " قال ، ما أهل به للطواغيت.
2473 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس : " وما أهِلّ به لغير الله " ، يعني : ما أهِل للطواغيت كلّها. يعني : ما ذبح لغير الله من أهل الكفر ، غير اليهود والنصارى.
2474 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا جرير ، عن عطاء في قول الله : " وما أهِلّ به لغير الله " قال ، هو ما ذبح لغير الله.
* * *
__________
(1) سلف تخريج هذا البيت في 1 : 523 - 524 ، وأن صواب نسبته إلى الحادرة الذبياني .

(3/320)


وقال آخرون : معنى ذلك : ما ذكر عليه غير اسم الله.
* ذكر من قال ذلك :
2475 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع قوله : " وما أهلّ به لغير الله " ، يقول : ما ذكر عليه غير اسم الله.
2476 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد - وسألته عن قوله الله : " وما أهلّ به لغير الله " - قال : ما يذبح لآلهتهم ، الأنصابُ التي يعبدونها أو يسمُّون أسماءَها عليها. قال : يقولون : " باسم فلان " ، كما تقول أنت : " باسم الله " قال ، فذلك قوله : " وما أهلّ به لغير الله " .
2477 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، حدثنا حيوة ، عن عقبة بن مسلم التُّجيبي وقيس بن رافع الأشجعي أنهما قالا أحِل لنا ما ذُبح لعيد الكنائس ، وما أهدي لها من خبز أو لحم ، فإنما هو طعام أهل الكتاب. قال حيوة ، قلت : أرأيت قَول الله : " وما أهِلّ به لغير الله " ؟ قال : إنما ذلك المجوسُ وأهلُ الأوثان والمشركون.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ }
قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بقوله : " فمن اضطر " ، فمن حَلَّت به ضَرورة مجاعة إلى ما حرَّمت عليكم من الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل به لغير الله - وهو بالصفة التي وصفنا - فلا إثم عليه في أكله إن أكله.
* * *

(3/321)


وقوله : فمن " اضطر " " افتعل " من " الضّرورة " .
* * *
و " غيرَ بَاغ " نُصِب على الحال مِنْ " مَنْ " ، فكأنه. قيل : فمن اضطرّ لا باغيًا ولا عاديًا فأكله ، فهو له حلال.
* * *
وقد قيل : إن معنى قوله : " فمن اضطر " ، فمن أكره على أكله فأكله ، فلا إثم عليه.
* ذكر من قال ذلك :
2478 - حدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي قال ، حدثنا أبو أحمد الزبيري قال ، حدثنا إسرائيل ، عن سالم الأفطس ، عن مجاهد قوله : " فمن اضطر غيرَ باغ ولا عاد " قال : الرجل يأخذُه العدو فيدعونه إلى معصية الله.
* * *
وأما قوله : " غيرَ بَاغ ولا عَاد " ، فإن أهل التأويل في تأويله مختلفون.
فقال بعضهم : يعني بقوله : " غير باغ " ، غيرَ خارج على الأئمة بسيفه باغيًا عليهم بغير جَور ، ولا عاديًا عليهم بحرب وعدوان ، فمفسدٌ عليهم السبيلَ.
* ذكر من قال ذلك :
2479 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا ابن إدريس قال ، سمعت ليثًا ، عن مجاهد : " فمن اضطر غيرَ بَاغٍ ولا عاد " قال ، غيرَ قاطع سبيل ، ولا مفارق جماعة ، ولا خارج في معصية الله ، فله الرخصة.
2480 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : " فمن اضطر غيرَ باغ ولا عاد " ، يقول : لا قاطعًا للسبيل ، ولا مفارقًا للأئمة ، ولا خارجًا في معصية الله ، فله الرخصة. ومن خرج بَاغيًا أو عاديًا في معصية الله ، فلا رخصة له وإن اضطُرَّ إليه.
2481 - حدثنا هناد بن السري قال ، حدثنا شريك ، عن سالم ، عن سعيد : " غير باغ ولا عاد " قال ، هو الذي يقطع الطريق ، فليس له رخصة

(3/322)


إذا جاع أن يأكل الميتة ، وإذا عطش أن يشربَ الخمر.
2482 - حدثني المثنى قال ، حدثنا سويد بن نصر قال : أخبرنا ابن المبارك ، عن شريك ، عن سالم - يعني الأفطس - عن سعيد في قوله : " فمن اضطُر غير باغ ولا عاد " قال ، الباغي العادي الذي يقطع الطريق ، فلا رخصة له ولا كرامة.
2483 - حدثني المثنى قال ، حدثنا الحماني قال ، حدثنا شريك ، عن سالم ، عن سعيد في قوله : " فمن اضطُر غير باغ ولا عاد " قال ، إذا خرج في سبيل من سُبُل الله فاضطر إلى شرب الخمر شرب ، وإن اضطر إلى الميتة أكل. وإذا خرج يقطع الطريق ، فلا رخصة له.
2484 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حفص بن غياث ، عن الحجاج ، عن القاسم بن أبي بزة ، عن مجاهد قال : " غيرَ باغ " على الأئمة ، " ولا عاد " قال ، قاطع السبيل.
2485 - حدثنا هناد قال ، حدثنا ابن أبي زائدة ، عن ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : " فمن اضطر غير باغ ولا عاد " قال ، غير قاطع السبيل ، ولا مفارق الأئمة ، ولا خارج في معصية الله فله الرخصة.
2486 - حدثنا هناد قال ، حدثنا أبو معاوية ، عن حجاج ، عن الحكم ، عن مجاهد : " فمن اضطُر غير بَاغ ولا عاد " قال ، غير باغ على الأئمة ، ولا عاد على ابن السبيل.
* * *
وقال آخرون في تأويل قوله : " غيرَ باغ ولا عاد " : غيرَ باغ الحرامَ في أكله ، ولا معتدٍ الذي أبيحَ له منه.
* ذكر من قال ذلك.
2487 - حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا يزيد بن زريع ، عن سعيد ،

(3/323)


عن قتادة قوله : " فمن اضطُرَّ غير باغ ولا عاد " قال ، غير باغ في أكله ، ولا عادٍ : أن يتعدى حلالا إلى حرام ، وهو يجد عنه مَندوحة.
2488 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر ، عن الحسن في قوله : " فمن اضطر غيرَ باغ ولا عاد " قال ، غير باغ فيها ولا معتدٍ فيها بأكلها ، وهو غنيٌّ عنها.
2489 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الرزاق ، عن معمر ، عمن سمع الحسن يقول ذلك.
2490 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال حدثنا أبو تميلة ، (1) عن أبي حمزة ، عن جابر ، عن مجاهد وعكرمة قوله : " فمن اضطر غير باغ ولا عاد " ، " غير باغ " يَبتغيه ، " ولا عادٍ " : يتعدى على ما يُمسك نفسه.
2491 - حدثت عن عمار بن الحسن قال ، حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : " فمن اضطر غير باغ ولا عاد " ، يقول : من غير أن يبتغي حرامًا ويتعداه ، ألا ترى أنه يقول : ( فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ ) [سورة المؤمنون : 7\ سورة المعارج : 31]
2492 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد في قوله : " فمن اضطُرّ غير باغٍ ولا عادٍ " قال ، أن يأكل ذلك بَغيًا وتعديًا عن الحلال إلى الحرام ، ويترك الحلال وهو عنده ، ويتعدى بأكل هذا الحرام. هذا التعدي. ينكر أن يكونا مختلفين ، ويقول : هذا وهذا واحد!
* * *
وقال آخرون تأويل ذلك : فمن اضطر غير باغ في أكله شهوة ، ولا عاد فوق ما لا بُدَّ له منه.
* ذكر من قال ذلك :
2493 - حدثني موسى بن هارون قال ، حدثنا عمرو بن حماد قال ، حدثنا
__________
(1) في المطبوعة : " أبو نميلة " ، والصواب بالتاء . مضت ترجمته برقم : 392 ، 461 .

(3/324)


أسباط ، عن السدي : " فمن اضطر غير باغ ولا عاد " . أمَّا " باغ " ، فيبغي فيه شهوته. وأما " العادي " ، فيتعدى في أكله ، يأكل حتى يشبع ، ولكن يأكل منه قدر ما يُمسك به نفسه حتى يبلغ به حاجته.
* * *
قال أبو جعفر : وأولى هذه الأقوال بتأويل الآية قول من قال : فمن اضطر غير باغ بأكله ما حُرم عليه من أكله ، ولا عاد في أكله ، وله عن ترك أكله - بوجود غيره مما أحله الله له - مندوحة وغنى.
وذلك أن الله تعالى ذكره لم يرخّصْ لأحد في قتل نفسه بحال. وإذ كان ذلك كذلك ، فلا شك أن الخارجَ على الإمام والقاطعَ الطريقَ ، وإن كانا قد أتيا ما حرَّم الله عليهما : من خروج هذا على من خرج عليه ، وسَعي هذا بالإفساد في الأرض ، فغيرُ مبيح لهما فعلهما ما فعلا مما حرّم الله عليهما - ما كان حرّم الله عليهما قبل إتيانهما ما أتيا من ذلك - من قتل أنفسهما. [ورَدُّهما إلى محارم الله عليهما بعد فعلهما ، ما فعلا وإن كان قد حرم عليهما ما كان مرخصا لهما قبل ذلك من فعلهما ، وإن لم نرَ رَدَّهما إلى محارم الله عليهما تحريما ، (1) فغير مرخِّص لهما ما كان عليهما قبل ذلك حرامًا]. فإذ كان ذلك كذلك ، فالواجبُ على قُطاع الطريق والبغاة على الأئمة العادلة ، الأوبةُ إلى طاعة الله ، والرجوعُ إلى ما ألزمهما الله الرجوع إليه ، والتوبةُ من معاصي الله - لا قتلُ أنفسهما بالمجاعة ، فيزدادان إلى إثمهما إثمًا ، وإلى خلافهما أمرَ الله خلافًا. (2)
__________
(1) في المطبوعة : " وإن لم يؤدهما إلى محارم الله عليهما تحريمًا " . وهو تصحيف مفسد قد آذى من أراد أن يفهم عن الطبري ما يقول . و " المحارم " : كل ما حرم الله سبحانه علينا فهو من محارم الله . وانظر التعليق التالي .
(2) هذه الفقرة رد على القول الأول ، قول من ذهب إلى أن " الباغي " هو الخارج على الأئمة ، وأن " العادي " هو قاطع الطريق ، وأنهما لفعلهما ذلك مستثنيان من حكم الآية في الترخيص للمضطر أن يأكل مما حرم الله عليه . ولكن العبارة في الأصل فاسدة ، لا يكاد يكون لها معنى . ولم أستجز أن أدعها في الأصل على ما هي عليه . وهكذا كانت في الأصل :
[بل ذلك من فعلهما ، وإن لم يؤدهما إلى محارم الله عليهما تحريمًا ، فغير مرخص لهما ما كان عليهما قبل ذلك حراما] .
وهو كلام لا يستقيم ، وقد اجتهدت فرأيت أنه سقط من ناسخ كلامه سطر كامل فيما أرجح ، بين قوله : " من قتل أنفسهما " وقوله : " قبل ذلك من فعلهما " فبقيت " قبل " وحدها ، فجاء ناسخ آخر فلم يستبن معنى ما يكتب ، فجعل " قبل " " بل " ، ظنًا منه أن ذلك يقيم المعنى على وجه من الوجوه . فاضطرب الكلام كما ترى اضطرابًا لا يخلص إلى شيء مفهوم . وزاده فسادًا واضطرابًا تصحيف قوله : " وإن لم نر ردهما " بما كتب : " وإن لم يؤدهما " ، فخلص إلى كلام ضرب عليه التخليط ضربًا!
وقد ساق الطبري في هذه الفقرة حجتين لرد قول من قال إن الباغي هو الخارج على الإمام ، وإن العادي هو قاطع السبيل .
فالحجة الأولى : أن الباغي والعادي ، وإن كان كلاهما قد أتى فعلا محرمًا ، فإن إتيان هذا الفعل المحرم ، لا يجعل قتل أنفسهما مباحًا لهما ، إذ هو محرم عليهما قبل إتيانهما ما أتيا من محارم الله عليهما .
والحجة الأخرى : أن الله قد رخص لكل مضطر أن يأكل مما حرم عليه ، فاستثناء الباغي والعادي من رخصة الله للمضطر . لا يعد عنده تحريمًا ، بل هو رد إلى ما كان محرمًا عليهما قبل البغي أو العدوان . ومع ذلك فإن هذا الرد إلى ما كان محرمًا عليهما ، وإن كان قد حرم عليهما ما كان مرخصًا لهما ولكل مضطر قبل البغي والعدوان ، فإنه لا يرخص لهما قتل أنفسهما ، وهو حرام عليهما قبل البغي والعدوان .
وإذن ، فالواجب عليهما أن يتوبا ، لا أن يقتلا أنفسهما بالمجاعة ، فيزدادان إثمًا إلى إثمهما ، وخلافًا إلى خلافهما بالبغي والعدوان أمر الله .

(3/325)


وأما الذي وجَّه تأويل ذلك إلى أنه غيرُ باغ في أكله شهوة ، فأكل ذلك شهوة ، لا لدفع الضرورة المخوف منها الهلاك - مما قد دخل فيما حرمه الله عليه - فهو بمعنى ما قلنا في تأويله ، وإن كان للفظه مخالفًا.
فأما توجيه تأويل قوله : " ولا عاد " ، و لا آكل منه شبعه ، ولكن ما يمسك به نفسه ، فإن ذلك ، بعض معاني الاعتداء في أكله. ولم يخصص الله من معاني الاعتداء في أكله معنى ، فيقال عنى به بعض معانيه.
فإذ كان ذلك كذلك ، فالصواب من القول ما قلنا : من أنه الاعتداء في كل معانيه المحرّمة.
* * *
وأما تأويل قوله : " فلا إثم عليه " ، يقول : من أكل ذلك على الصفة التي وصفنا ، فلا تبعة عليه في أكله ذلك كذلك ولا حَرج.
* * *

(3/326)


القول في تأويل قوله تعالى : { إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (173) }
قال أبو جعفر : يعني بقوله تعالى ذكره : " إنّ الله غَفور رحيم " ، " إنّ الله غَفورٌ " إن أطعتم الله في إسلامكم ، فاجتنبتم أكل ما حرم عليكم ، وتركتم اتباعَ الشيطان فيما كنتم تحرمونه في جاهليتكم - طاعةً منكم للشيطان واقتفاءً منكم خُطواته - مما لم أحرمه عليكم لما سلف منكم ، في كفركم وقبل إسلامكم ، في ذلك من خطأ وذنب ومعصية ، فصافحٌ عنكم ، وتارك عقوبتكم عليه ، " رحيم " بكم إن أطعتموه.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلا }
قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بقوله : " إنّ الذينَ يَكتمون ما أنزل الله من الكتاب " ، أحبارَ اليهود الذين كتموا الناس أمرَ محمد صلى الله عليه وسلم ونبوّته ، وهم يجدونه مكتوبًا عندهم في التوراة ، برُشًى كانوا أُعطوها على ذلك ، كما : -
2494 - حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا يزيد بن زريع قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : " إنّ الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب " الآية كلها ، هم أهل الكتاب ، كتموا ما أنزل الله عليهم وبَين لهم من الحق والهدى ، من بعث محمد صلى الله عليه وسلم وأمره.
2495 - حدثنا المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع في قوله : (إنّ الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب ويَشترون

(3/327)


به ثمنًا قليلا) قال : هم أهل الكتاب ، كتموا ما أنزل الله عليهم من الحق والإسلامَ وشأنَ محمد صلى الله عليه وسلم.
2496 - حدثني موسى بن هارون قال ، حدثنا عمرو قال حدثنا أسباط ، عن السدي : " إن الذين يكتمون مَا أنزل الله منَ الكتاب " ، فهؤلاء اليهود ، كتموا اسم محمد صلى الله عليه وسلم.
2497 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن عكرمة قوله : " إنّ الذين يكتمونَ ما أنزل الله من الكتاب " ، والتي في " آل عمران " ( إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلا ) [سورة آل عمران : 77] نزلتا جميعًا في يهود.
* * *
وأما تأويل قوله : " ويَشترون به ثمنًا قليلا " ، فإنه يعني : يبتاعون به. " والهاء " التي في " به " ، من ذكر " الكتمان " . فمعناه : ابتاعوا بكتمانهم ما كتموا الناس من أمر محمد صلى الله عليه وسلم وأمر نبوَّته ثمنًا قليلا. وذلك أنّ الذي كانوا يُعطَوْن على تحريفهم كتابَ الله وتأويلهِمُوه على غير وجهه ، وكتمانهم الحق في ذلك اليسيرَ من عرض الدنيا ، كما : -
2498 - حدثني موسى بن هارون قال ، حدثنا عمرو قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : " ويشترون به ثمنًا قليلا " قال ، كتموا اسم محمد صلى الله عليه وسلم ، وأخذوا عليه طمعًا قليلا فهو الثمن القليل.
* * *
وقد بينت فيما مضى صفة " اشترائهم " ذلك ، بما أغنى عن إعادته هاهنا.
* * *

(3/328)


إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (174)

القول في تأويل قوله تعالى : { أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلا النَّارَ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (174) }
قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بقوله : " أولئك " ، - هؤلاء الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب في شأن محمد صلى الله عليه وسلم بالخسيس من الرِّشوة يُعطَوْنها ، فيحرِّفون لذلك آيات الله ويغيِّرون معانيها " ما يأكلون في بطونهم " - بأكلهم ما أكلوا من الرُّشى على ذلك والجعالة ، (1) وما أخذوا عليه من الأجر " إلا النار " - يعني : إلا ما يوردهم النار ويُصْليهموها ، كما قال تعالى ذكره : ( إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا ) [سورة النساء : 10] معناه : ما يأكلون في بطونهم إلا ما يوردهم النار بأكلهم. فاستغنى بذكر " النار " وفهم السامعين معنى الكلام ، عن ذكر " ما يوردهم ، أو يدخلهم " . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال جماعة من أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
2499 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : " أولئك مَا يَأكلون في بُطونهم إلا النار " ، يقول : ما أخذوا عليه من الأجر.
* * *
فإن قال قائل : فهل يكون الأكل في غير البطن فيقال : " ما يأكلون في بطونهم " ؟
قيل : قد تقول العرب : " جُعت في غير بطني ، وشَبعتُ في غير بطني " ، فقيل : في بُطونهم لذلك ، كما يقال : " فعل فُلان هذا نفسُه " . وقد بينا ذلك في غير هذا الموضع ، فيما مضى. (2)
__________
(1) الجعل (بضم فسكون) والجعالة (مثلثة الجيم) : أجر مشروط يجعل للقائل أو الفاعل شيئًا .
(2) انظر ما سلف 2 : 272 ، وهذا الجزء 3 : 159 - 160 .

(3/329)


أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ (175)

وأما قوله : " ولا يُكلِّمهمُ الله يَومَ القيامة " ، يقول : ولا يكلمهم بما يحبون ويشتهون ، فأما بما يسُوءهم ويكرَهون ، فإنه سيكلمهم. لأنه قد أخبر تعالى ذكره أنه يقول لهم - إذا قالوا : ( رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ ) الآيتين [سورة المؤمنون : 107 - 108].
* * *
وأما قوله : " ولا يُزكِّيهم " ، فإنه يعني : ولا يطهِّرهم من دَنس ذنوبهم وكفرهم ، (1) " ولهم عذاب أليم " ، يعني : مُوجع (2)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ }
قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بقوله : " أولئك الذين اشترَوُا الضلالة بالهدى " ، أولئك الذين أخذوا الضلالة ، وتركوا الهدى ، وأخذوا ما يوجب لهم عذاب الله يوم القيامة ، وتركوا ما يُوجب لهم غفرانه ورضْوَانه. فاستغنى بذكر " العذاب " و " المغفرة " ، من ذكر السبب الذي يُوجبهما ، لفهم سامعي ذلك لمعناه والمراد منه. وقد بينا نظائر ذلك فيما مضى. (3) وكذلك بينا وجه " اشتروا الضلالة بالهدى " باختلاف المختلفين ، والدلالة الشاهدة بما اخترنا من القول ، فيما مضى قبل ، فكرهنا إعادته. (4)
* * *
__________
(1) انظر ما سلف 1 : 573 - 574 ، وهذا الجزء 3 : 88 .
(2) انظر ما سلف 1 : 283 . ثم 2 : 140 ، 377 ، 506 ، 540 .
(3) انظر ما سلف فهارس مباحث العربية .
(4) انظر ما سلف 1 : 311 - 315 .

(3/330)


القول في تأويل قوله تعالى : { فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ (175) }
قال أبو جعفر : اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك. فقال بعضهم معنى ذلك : فما أجرأهم على العمل الذي يقرِّبُهم إلى النار.
* ذكر من قال ذلك :
2500 - حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة : " فما أصْبَرهم على النار " ، يقول : فما أجرأهم على العمل الذي يقربهم إلى النار.
2501 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : " فما أصْبَرهم على النار " ، يقول : فما أجرأهم عليها.
2502 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عمرو بن عون قال ، حدثنا هشيم ، عن بشر ، عن الحسن في قوله : " فما أصْبرهم على النار " قال ، والله ما لهم عليها من صبر ، ولكن ما أجرأهم على النار.
2503 - حدثنا أحمد بن إسحاق قال ، حدثنا أبو أحمد الزبيري قال ، حدثنا مسعر وحدثني المثنى قال ، حدثنا أبو بكير قال ، حدثنا مسعر ، عن حماد ، عن مجاهد ، أو سعيد بن جبير ، أو بعض أصحابه : " فما أصبرهم على النار " ، ما أجرأهم.
2504 - حدثت عن عمار بن الحسن قال ، حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع قوله : " فما أصبرهم على النار " ، يقول : ما أجرأهم وأصبرهم على النار.
* * *
وقال آخرون : بل معنى ذلك : فما أعملهم بأعمال أهل النار.
* * *

(3/331)


* ذكر من قال ذلك :
2505 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : " فما أصْبرهم على النار " قال ، ما أعملهم بالباطل.
2506 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد مثله.
* * *
واختلفوا في تأويل " ما " التي في قوله : " فما أصبرهم على النار " . فقال بعضهم : هي بمعنى الاستفهام ، وكأنه قال : فما الذي صبَّرهم ؟ أيُّ شيء صبرهم ؟ (1)
* ذكر من قال ذلك :
2507 - حدثني موسى بن هارون قال ، حدثنا عمرو قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : " فما أصبرَهم على النار " ، هذا على وجه الاستفهام. يقول : مَا الذي أصبرهم على النار ؟
2508 - حدثني عباس بن محمد قال ، حدثنا حجاج الأعور قال ، أخبرنا ابن جريج قال ، قال لي عطاء : " فما أصبرهم على النار " قال ، ما يُصبِّرهم على النار ، حين تَركوا الحق واتبعوا الباطل ؟
2509 - حدثنا أبو كريب قال : سُئل أبو بكر بن عياش : " فما أصبرهم على النار " قال ، هذا استفهام ، ولو كانت من الصبر قال : " فما أصبرُهم " ، رفعًا. قال : يقال للرجل : " ما أصبرك " ، ما الذي فعل بك هذا ؟
2510 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد في قوله : " فما أصبرهم على النار " قال ، هذا استفهام. يقول ما هذا الذي صبَّرهم على النار حتى جَرأهم فعملوا بهذا ؟
* * *
__________
(1) وذلك قول أبي عبيدة في مجاز القرآن : 64 .

(3/332)


وقال آخرون : هو تعجُّب. يعني : فما أشد جراءتهم على النار بعَملهم أعمال أهل النار!
* ذكر من قال ذلك :
2511 - حدثنا سفيان بن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن ابن عيينة ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : " فما أصبرهم على النار " قال ، ما أعملهم بأعمال أهل النار!
وهو قول الحسن وقتادة ، وقد ذكرناه قبل. (1)
* * *
فمن قال : هو تعجُّب - وجَّه تأويلَ الكلام إلى : " أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى والعذابَ بالمغفرة " ، فما أشد جراءتهم - بفعلهم ما فعلوا من ذلك - على ما يوجب لهم النار! كما قال تعالى ذكره : ( قُتِلَ الإنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ ) [سورة عبس : 17] ، تعجبًا من كفره بالذي خَلقه وسَوَّى خلقه.
* * *
فأما الذين وجهوا تأويله إلى الاستفهام ، فمعناه : هؤلاء الذين اشتروا الضلالة بالهدى والعذاب بالمغفرة ، فما أصبرهم على النار - والنار لا صبر عليها لأحد - حتى استبدلوها بمغفرة الله فاعتاضوها منها بدلا ؟
* * *
قال أبو جعفر : وأولى هذه الأقوال بتأويل الآية قول من قال : ما أجرأهم على النار ، بمعنى : ما أجرأهم على عَذاب النار وأعملهم بأعمال أهلها. وذلك أنه مسموع من العرب : " ما أصبرَ فلانًا على الله " ، بمعنى : ما أجرأ فلانًا على الله! (2) وإنما يعجب الله خَلقه بإظهار الخبر عن القوم الذين يكتمون ما أنزل الله تبارك وتعالى من أمر محمد صلى الله عليه وسلم ونبوَّته ، واشترائهم بكتمان ذلك ثَمنًا قليلا
__________
(1) انظر ما سلف رقم : 2501 ، 2502 .
(2) انظر خبر ذلك في معاني القرآن للفراء 1 : 103 .

(3/333)


ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (176)

من السحت والرشى التي أعطوها - على وَجه التعجب من تقدمهم على ذلك. (1) مع علمهم بأنّ ذلك موجبٌ لهم سَخط الله وأليم عقابه.
وإنما معنى ذلك : فما أجرأهم علي عذاب النار! ولكن اجتزئ بذكر " النار " من ذكر " عذابها " ، كما يقال : " ما أشبه سخاءك بحاتم " ، بمعنى : ما أشبه سَخاءك بسخاء حاتم ، " وما أشبه شَجاعتك بعنترة " . (2)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (176) }
قال أبو جعفر : أما قوله : " ذلك بأن الله نزل الكتاب بالحق " ، فإنه اختلف في المعنيِّ ب " ذلك " .
* * *
فقال بعضهم : معنيُّ " ذلك " ، فعلُهم هذا الذي يفعلون من جراءتهم على عذاب النار ، في مخالفتهم أمر الله ، وكتمانهم الناسَ ما أنزل الله في كتابه ، وأمرَهم ببيانه لهم من أمر محمد صلى الله عليه وسلم وأمر دينه من أجل أن الله تبارك تعالى " نزل الكتاب بالحق " ، وتنزيله الكتاب بالحق هو خبرُه عنهم في قوله لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : ( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ * خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ) [سورة البقرة : 6 - 7] فهم - مع ما أخبر الله عنهم من أنهم لا يؤمنون - لا يكون منهم غيرُ اشتراء الضلالة بالهدى والعذاب بالمغفرة.
__________
(1) قدم ، وتقدم ، وأقدم ، واستقدم ، كلها بمعنى واحد ، إذا كان جرئيًا فاقتحم .
(2) انظر معاني القرآن للفراء 1 : 103 ، أيضًا .

(3/334)


وقال آخرون : معناه : " ذلك " معلومٌ لهم ، بأن الله نزل الكتاب بالحق ، لأنّا قد أخبرنا في الكتاب أنّ ذلك لهم ، والكتابُ حَق.
كأن قائلي هذا القول كان تأويل الآية عندهم : ذلك العذاب الذي قال الله تعالى ذكره ، فما أصبرهم عليه معلومٌ أنه لهم. لأن الله قد أخبر في مواضع من تنزيله أن النار للكافرين ، وتنزيله حق ، فالخبر عن " ذلك " عندهم مُضمر.
* * *
وقال آخرون : معنى " ذلك " ، أن الله وصف أهل النار ، فقال : " فما أصبرهم على النار " ، ثم قال : هذا العذاب بكفرهم. و " هذا " هاهنا عندهم ، هي التي يجوز مكانها " ذلك " ، (1) كأنه قال : فعلنا ذلك بأن الله نزل الكتاب بالحق فكفروا به. قال : فيكون " ذلك " - إذا كان ذلك معناه - نصبًا ، ويكون رفعًا بالباء.
* * *
قال أبو جعفر : وأولى الأقوال بتأويل الآية عندي : أن الله تعالى ذكره أشار بقوله : " ذلك " ، إلى جميع ما حواه قوله : " إنّ الذين يَكتمونَ مَا أنزلَ الله من الكتاب " ، إلى قوله : " ذلك بأن الله نزل الكتاب بالحق " ، من خبره عن أفعال أحبار اليهود ، وذكره ما أعد لهم تعالى ذكره من العقاب على ذلك ، فقال : هذا الذي فعلته هؤلاء الأحبارُ من اليهود بكتمانهم الناسَ ما كتموا من أمر محمد صلى الله عليه وسلم ونبوته مع علمهم به ، طلبًا منهم لعرَض من الدنيا خسيس - وبخلافهم أمري وطاعتي وذلك - من تركي تطهيرَهم وتزكيتهم وتكليمهم ، وإعدادي لهم العذاب الأليم - بأني أنزلت كتابي بالحق ، فكفروا به واختلفوا فيه.
فيكون في " ذلك " حينئذ وجهان من الإعراب : رفعٌ ونصب. والرفع ب " الباء " ، والنصب بمعنى : فعلت ذلك بأني أنزلت كتابي بالحق ، فكفروا به واختلفوا فيه. وترك ذكر " فكفروا به واختلفوا " ، اجتزاءً بدلالة ما ذكر من الكلام عليه.
* * *
__________
(1) انظر ما سلف 1 : 225 - 227 في بيان " ذلك " ، و " هذا " .

(3/335)


وأما قوله : " وإنّ الذينَ اختلفوا في الكتاب لفي شقاق بعيد " ، يعني بذلك اليهودَ والنصارى. اختلفوا في كتاب الله ، فكفرت اليهودُ بما قصَّ الله فيه من قَصَص عيسى ابن مريم وأمه. وصَدقت النصارى ببعض ذلك ، وكفروا ببعضه ، وكفروا جميعًا بما أنزل الله فيه من الأمر بتصديق محمد صلى الله عليه وسلم. فقال لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : إن هؤلاء الذين اختلفوا فيما أنزلت إليك يا محمد لفي منازعة ومفارقة للحق بعيدة من الرشد والصواب ، كما قال الله تعالى ذكره : ( فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ ) [سورة البقرة : 137] كما :
2512 - حدثني موسى قال ، حدثنا عمرو قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : " وإنّ الذين اختلفوا في الكتاب لفي شقاق بعيد " ، يقول : هم اليهود والنصارى. يقول : هم في عَداوة بعيدة. وقد بَينتُ معنى " الشقاق " ، فيما مضى. (1)
* * *
__________
(1) انظر ما سلف في هذا الجزء 3 : 115 ، 116 .

(3/336)


لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآَتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآَتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (177)

القول في تأويل قوله تعالى : { لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ }
قال أبو جعفر : اختلف أهل التأويل في تأويل قوله ذلك. فقال بعضهم : معنى ذلك : ليس البرَّ الصلاةُ وحدها ، ولكن البرّ الخصال التي أبينها لكم.
2513 - حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : " ليسَ البرّ أن تُولوا وُجُوهكم قِبَل

(3/336)


المشرق والمغرب " ، يعني : الصلاة. يقول : ليس البر أن تصلوا ولا تَعملوا ، فهذا منذ تحوَّل من مكة إلى المدينة ، ونزلت الفرائض ، وحدَّ الحدود. فأمر الله بالفرائض والعمل بها.
2514 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : " ليس البر أن تُولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب " ، ولكنّ البر ما ثبت في القلوب من طاعة الله.
2515 - حدثني القاسم قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد مثله.
2516 - حدثني القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن ابن عباس قال : هذه الآية نزلت بالمدينة : " ليس البر أن تُولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب " ، يعني : الصلاة. يقول : ليس البر أن تصلوا ولا تعملوا غيرَ ذلك. قال ابن جريج ، وقال مجاهد : " ليس البرّ أن تُولوا وجوهكم قبَل المشرق والمغرب " ، يعني السجود ، ولكن البر ما ثبت في القلب من طاعة الله.
2517 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثنا أبو تميلة ، (1) عن عبيد بن سليمان ، عن الضحاك بن مزاحم ، أنه قال فيها ، قال يقول : ليس البر أن تصلوا ولا تعملوا غير ذلك. وهذا حين تحوّل من مكة إلى المدينة ، فأنزل الله الفرائض وحدَّ الحدود بالمدينة ، وأمر بالفرائض أن يؤخذ بها.
* * *
وقال آخرون : عنى الله بذلك اليهود والنصارى. وذلك أن اليهود تصلي فتوجِّه قبل المغرب ، والنصارى تصلي فتوَجَّه قبل المشرق ، فأنزل الله فيهم هذه الآية ، يخبرهم فيها أن البرّ غير العمل الذي يعملونه ، ولكنه ما بيناه في هذه الآية
* ذكر من قال ذلك :
__________
(1) في المطبوعة : " أبو نميلة " بالنون ، والصواب ما أثبت . وانظر الأثر رقم : 2490 والتعليق عليه .

(3/337)


2518 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر ، عن قتادة قال : كانت اليهود تصلي قبَل المغرب والنصارى تصلي قبل المشرق ، فنزلت : " ليس البر أن تولوا وُجُوهكم قبل المشرق والمغرب " .
2519 - حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا يزيد بن زريع قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : " ليس البر أن تُولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر " ، ذُكر لنا أن رَجلا سأل نبي الله صلى الله عليه وسلم عن البر فأنزل الله هذه الآية. وذُكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم دعا الرجل فتلاها عليه. وقد كان الرجلُ قبل الفرائض إذا شهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا عبده ورسوله ثم مات على ذلك يُرْجى له ويطمع له في خير ، فأنزل الله : " ليسَ البر أن تولوا وجوهَكم قبل المشرق والمغرب " . وكانت اليهود تَوجَّهت قبل المغرب ، والنصارى قبل المشرق - " ولكن البر من آمنَ بالله واليوم الآخر " الآية.
2520 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع بن أنس قال : كانت اليهود تصلي قبل المغرب ، والنصارى قبل المشرق ، فنزلت : " ليس البر أن تُولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب " .
* * *
قال أبو جعفر : وأولى هذين القولين بتأويل الآية ، القول الذي قاله قتادة والربيع بن أنس : أن يكون عنى بقوله : " ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب " ، اليهودَ والنصارَى. لأن الآيات قبلها مضت بتوبيخهم ولَومهم ، والخبر عنهم وعما أُعدّ لهم من أليم العذاب. وهذا في سياق ما قبلها ، إذْ كان الأمر كذلك ، - " ليس البر " ، - أيها اليهود والنصارى ، أنْ يولي بعضُكم وجهه قبل المشرق وبعضُكم قبل المغرب ، " ولكنّ البر مَنْ آمن بالله واليوم الآخر وَالملائكة والكتاب " الآية.
* * *

(3/338)


فإن قال قائل : فكيف قيل : " ولكن البر من آمن بالله " ، وقد علمت أن " البر " فعل ، و " مَنْ " اسم ، فكيف يكون الفعل هو الإنسان ؟
قيل : إن معنى ذلك غيرَ ما توهمته ، وإنما معناه : ولكنّ البرَّ برُّ من آمن بالله واليوم الآخر ، (1) فوضع " مَنْ " موضع الفعل ، اكتفاءً بدلالته ، ودلالة صلته التي هي له صفةٌ ، مَنْ الفعل المحذوف ، كما تفعله العرب ، فتضع الأسماء مواضع أفعالها التي هي بها مشهورة ، فتقول : " الجود حاتم ، والشجاعة عنترة " ، و " إنما الجود حاتم والشجاعة عنترة " ، ومعناها : الجُود جود حاتم فتستغني بذكر " حاتم " إذ كان معروفًا بالجود ، من إعادة ذكر " الجود " بعد الذي قد ذكرته ، فتضعه موضع " جوده " ، لدلالة الكلام على ما حذفته ، استغناء بما ذكرته عما لم تذكره. (2) كما قيل : ( وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا ) [سورة يوسف : 82] والمعنى : أهل القرية ، وكما قال الشاعر ، وهو ذو الخِرَق الطُّهَوي :
حَسِبْتَ بُغَامَ رَاحِلَتِي عَنَاقًا!... وَمَا هي ، وَيْبَ غَيْرِكَ بالعَنَاقِ (3)
يريد : بُغَامَ عنَاق ، أو صوتَ [عناق] ، (4) كما يقال : " حسبت صياحي أخاك " ، يعني به : حسبتَ صياحي صياحَ أخيك.
* * *
وقد يجوز أن يكون معنى الكلام : ولكن البارَّ مَنْ آمن بالله ، فيكون " البر " مصدرًا وُضع موضعَ الاسم. (5)
* * *
__________
(1) في المطبوعة : " ولكن البر كمن آمن بالله " وهو خطأ محض ، صوابه ما أثبت .
(2) انظر ما سلف : 2 : 61 ، 359 وهذا الجزء 3 : 334 .
(3) سلف تخريجه في هذا الجزء 3 : 103 تعليق : 3 .
(4) الزيادة بين القوسين لا بد منها .
(5) هذا قول أبي عبيدة في مجاز القرآن : 65 ، وذكره الفراء في معاني القرآن 1 : 104 .

(3/339)


القول في تأويل قوله تعالى : { وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ }
قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بقوله : " وآتى المالَ على حُبه " ، وأعطى مَاله في حين محبته إياه ، وضِنِّه به ، وشُحِّه عليه ، (1) . كما : -
2521 - حدثنا أبو كريب وأبو السائب قالا حدثنا ابن إدريس قال ، سمعت ليثًا ، عن زبيد ، عن مرة بن شراحيل البكيلي ، عن عبد الله بن مسعود : " وآتَى المالَ على حُبه " ، أي : يؤتيه وهو صَحيحٌ شحيحٌ ، يأمل العيش ويخشى الفقر. (2)
2522 - حدثنا محمد بن بشار قال ، حدثنا عبد الرحمن - وحدثنا الحسن بن يحيى قال أخبرنا عبد الرزاق - قالا جميعًا ، عن سفيان ، عن زُبيد الياميّ ،
__________
(1) انظر معنى " الإيتاء " فيما سلف 1 : 574/2 : 160 ، 317 .
(2) الخبر : 2521 - ابن إدريس : هو عبد الله بن إدريس بن يزيد الأودي ، مضى في : 438 ، 2030 .
ليث : هو ابن أبي سليم ، مضى في شرح : 1497 .
زبيد - بالباء الموحدة مصغرًا : هو ابن الحارث بن عبد الكريم اليامي ، وهو ثقة ثبت . مترجم في التهذيب ، والكبير 2/1/411 ، وابن سعد 6 : 216 ، وابن أبي حاتم 1/2/623 .
مرة بن شراحيل : وهو الهمداني الكوفي ، من كبار التابعين ، كما مضى توثيقه : 168 ، وهو مترجم في التهذيب 10 : 88 - 89 ، والكبير 4/2/5 ، وابن سعد 6 : 79 ، وابن أبي حاتم 4/1/366 . و " البكيلي " - بفتح الباء الموحدة وكسر الكاف : نسبه إلى " بكيل " ، وهم بطن من همدان . انظرالاشتقاق لابن دريد ، ص : 250 ، 256 ، 312 ، وجمهرة الأنساب لابن حزم ص : 372 - 373 . وكذلك نسب مرة إلى " بكيل " في كتاب ابن أبي حاتم ، وهو الصواب . ووقع في التهذيب بدلها " السكسكي " ؛ وهو تصحيف لا شك فيه ، فإن " السكسك " : هو ابن أشرس بن كندة . وشتان بين همدان وكندة ، إنما يجتمعان بعد بضعة جدود ، في " زيد بن كهلان بن سبأ " . انظر جمهرة الأنساب ، ص : 405 ، وما قبلها .

(3/340)


عن مرة ، عن عبد الله : " وآتى المالَ على حُبه " قال ، وأنت صحيح ، تأمل العيش ، وتخشى الفقر. (1)
2523 - حدثنا محمد بن المثنى قال ، حدثنا محمد بن جعفر قال ، حدثنا شعبة ، عن زبيد اليامي ، عن عبد الله أنه قال في هذه الآية : " وآتى المال على حبه " قال ، وأنت حريصٌ شحيحٌ ، تأمل الغنى ، وتخشى الفقر.
2524 - حدثنا أحمد بن نعمة المصري قال ، حدثنا أبو صالح قال ، حدثنا الليث قال ، حدثنا إبراهيم بن أعين ، عن شعبة بن الحجاج ، عن زبيد اليامي ، عن مرة الهمداني قال ، قال عبد الله بن مسعود في قول الله : " وآتى المال على حبه ذوي القربى " ، قال : حريصًا شحيحًا ، يأمل الغنى ويَخشى الفقر. (2)
__________
(1) الخبر : 2522 - عبد الرحمن : هو ابن مهدي الإمام . وسفيان هو الثوري . فالطبري يرويه من طريق ابن مهدي . ومن طريق عبد الرزاق - كلاهما عن سفيان .
والخبر في تفسير عبد الرزاق ، ص : 15 ، وفيه : " وأنت صحيح شحيح " ، بزيادة " شحيح " .
(2) الخبر : 2524 - شيخ الطبري " أحمد بن نعمة المصري " : لم أجد له ترجمة . أبو صالح : هو عبد الله بن صالح ، كاتب الليث . الليث : هو ابن سعد إمام أهل مصر .
إبراهيم بن أعين الشيباني البصري ، نزل مصر : ضعيف : قال البخاري : " فيه نظر في إسناده " . وقال أبو حاتم : " هذا شيخ بصري ، ضعيف الحديث ، منكر الحديث وقع إلى مصر " . مترجم في التهذيب وفرق بينه وبين " إبراهيم بن أعين " آخر ثقة . وترجم ابن أبي حاتم 1/1/87 ثلاث تراجم . والبخاري 1/1/272 ترجمة واحدة .
وهذه الأسانيد الثلاثة : 2521 - 2523 ، لخبر موقوف اللفظ على ابن مسعود . وهو في الحقيقة مرفوع حكمًا ، إذ مثل هذا لا يعرف بالرأي . وسيأتي معناه موقوفًا عليه أيضًا : 2529 ، 2531 . وكذلك رواه الحاكم 2 : 272 ، من رواية منصور ، عن زبيد ، عن مرة ، عن ابن مسعود ، موقوفًا . وقال : " هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ، ولم يخرجاه " . ووافقه الذهبي . ونسبه السيوطي 1 : 170 - 171 لابن المبارك ، ووكيع ، وغيرهما . ثم ذكر أنه رواه الحاكم أيضًا " عن ابن مسعود ، مرفوعًا " . وكذلك نقل ابن كثير 1 : 388 أن الحاكم رواه مرفوعًا . ولم أجده مرفوعًا في المستدرك . ثم ذكر ابن كثير الرواية الموقوفة ، وزعم أنها أصح .
وهذا المعنى ثابت أيضًا في حديث مرفوع صحيح ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم - وقد سئل : أي الصدقة أعظم أجرًا ؟ - فقال : " أن تصدق وأنت صحيح شحيح ، تخشى الفقر وتأمل البقاء ، ولا تمهل حتى إذا بلغت الحلقوم قلت : لفلان كذا ، وقد كان لفلان " . رواه أحمد في المسند : 7159 ، 7401 . ورواه البخاري ومسلم وأبو داود ، كما بينا هناك .

(3/341)


2525 - حدثنا أبو كريب ويعقوب بن إبراهيم قالا حدثنا هشيم قال ، أخبرنا إسماعيل بن سالم ، عن الشعبي ، سمعته يُسْأل : هل على الرجل حَق في ماله سوى الزكاة ؟ قال : نعم! وتلا هذه الآية : " وآتى المالَ على حُبه ذَوي القربى واليتامى والمساكينَ وابنَ السبيل والسائلين وفي الرقاب وأقام الصلاة وآتى الزكاة " .
2526 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا سُويد بن عمرو الكلبي قال ، حدثنا حمّاد بن سلمة قال ، أخبرنا أبو حمزة قال ، قلت للشعبي : إذا زكَّى الرجلُ ماله ، أيطيبُ له ماله ؟ فقرا هذه الآية : " ليس البر أنْ تُولوا وجوهَكم قبل المشرق والمغرب " إلى " وآتى المال على حُبه " إلى آخرها ، ثم قال : حدثتني فاطمة بنت قيس أنها قالت : يا رسول الله ، إنّ لي سبعين مثقالا من ذَهَب. فقال : اجعليها في قَرَابتك. (1)
2527 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا يحيى بن آدم ، عن شريك قال ، حدثنا أبو حمزة ، فيما أعلم - عن عامر ، عن فاطمة بنت قيس أنها سمعته يقول : إنّ في المال لحقًّا سوَى الزكاة. (2)
2528 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال ، حدثنا ابن علية ، عن أبي حيان
__________
(1) الحديث : 2526 - سويد بن عمرو الكلبي : ثقة من شيوخ أحمد . مترجم في التهذيب ، والكبير 2/2/149 ، وابن أبي حاتم 2/1/239 .
أبو حمزة : هو ميمون الأعور القصاب ، وهو ضعيف جدًا . مترجم في التهذيب ، والكبير 4/1/343 ، وابن أبي حاتم 4/1/235 - 236 .
وهذا الحديث بهذا السياق لم أجده في موضع آخر . وقد روى قريب من معناه ، بإسناد آخر أشد ضعفًا . فروى الدارقطني في سننه ، ص : 205 ، من طريق أبي بكر الهذلي ، عن شعيب بن الحبحاب ، عن الشعبي ، عن فاطمة بنت قيس ، قالت : " أتيت النبي صلى الله عليه وسلم بطوق فيه سبعون مثقالا من ذهب ، فقلت : يا رسول الله ، خذ منه الفريضة ، فأخذ منه مثقالا وثلاثة أرباع مثقال " . وقال الدارقطني : " أبو بكر الهذلي : متروك ، ولم يأت به غيره " . وقد مضى بيان ضعف الهذلي هذا : 597 .
(2) الحديث : 2527 - شريك : هو ابن عبد الله بن أبي شريك ، النخعي القاضي ، وهو ثقة . مترجم في التهذيب ، والكبير 2/2/238 ، وابن أبي حاتم 2/1/365 - 367 .
وقوله : " عن فاطمة بنت قيس : أنها سمعت " : يعني النبي صلى الله عليه وسلم . كما هو ظاهر من سياق القول ، ومن الروايات الأخر . وسيأتي الحديث أيضًا : 2530 - وتخريجه هناك ، إن شاء الله .

(3/342)


قال ، حدثني مزاحم بن زفر قال ، كنت جالسًا عند عطاء فأتاه أعرابي فقال له : إن لي إبلا فهل عليّ فيها حقٌّ بعد الصدقة ؟ قال : نعم! قال : ماذا ؟ قال : عَاريَّة الدلو ، وطُروق الفحل ، والحلَب. (1)
2529 - حدثني موسى بن هارون قال : حدثنا عمرو بن حماد قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي ، ذكره عن مرة الهمداني في : " وآتى المالَ على حُبه " قال : قال عبد الله بن مسعود : تُعطيه وأنت صحيحٌ شحيحٌ ، تطيل الأمل ، وتخاف الفقر. وذكر أيضًا عن السدي أن هذا شيء واجبٌ في المال ، حق على صاحب المال أن يفعله ، سوى الذي عليه من الزكاة.
2530 - حدثنا الربيع بن سليمان قال ، حدثنا أسد قال ، حدثنا سويد بن عبد الله ، عن أبي حمزة ، عن عامر ، عن فاطمة بنت قيس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " في المال حق سوى الزكاة ، وتلا هذه الآية : " ليس البر " إلى آخر الآية. (2)
__________
(1) في المطبوعة : " عارية الذلول " ، وهو خطأ . في حديث عبد الله مسعود : " كنا نعد الماعون على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم : عارية الدلو والقدر " ، وفي حديث أبي هريرة أنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم : " فما حق الإبل ؟ قال : تعطى الكريمة ، وتمنح الغزيرة ، وتفقر الظهر ، وتطرق الفحل ، وتسقى اللبن " . وفي حديث عبيد بن عمير قال قال رجل : يا رسول الله ، ما حق الإبل - فذكره نحوه - زاد : " وإعارة دلوها " . (سنن أبي داود 2 : 167 ، 168 باب حقوق المال) .
وطرق الفحل الناقة يطرقها طرقًا وطروقًا : قعا عليها وضربها . وإطراق الفحل : إعارته للضراب . والحلب (بفتحتين) : اللبن المحلوب ، سمي بمصدره من : حلب الناقة يحلبهَا وحلبًا وحلابًا .
(2) الحديث : 2530 - أسد : هو ابن موسى ، الذي يقال له " أسد السنة " . مضى في : 23 . سويد بن عبد الله هكذا ثبت في المطبوعة . وعندي أنه خطأ ، صواب " شريك بن عبد الله " ، الذي مضى في الإسناد السابق : 2527 . فإن الحديث معروف أنه من رواية شريك . ثم ليس في الرواة - الذين رأينا تراجمهم - من يسمى " سويد بن عبد الله " إلا رجلا له شأن لا بهذا الإسناد ، لم يعرف إلا بخبر آخر منكر ، وهو مترجم في لسان الميزان .
وهذا الحديث تكرار للحديث : 2527 بأطول منه قليلا . ورواه أيضًا الدارمي 1 : 385 ، عن محمد بن الطفيل . والترمذي 2 : 22 ، من طريق الأسود بن عامر ، وعن الدارمي عن محمد بن الطفيل . وابن ماجه : 1789 ، من طريق يحيى بن آدم . والبيهقي في السنن الكبرى 4 : 84 ، من طريق شاذان - كلهم عن شريك ، بهذا الإسناد ، مطولا ومختصرًا .
قال الترمذي : " هذا حديث ليس إسناده بذاك . أبو ميمون الأعور يضعف " .
وقال البيهقي : " فهذا حديث يعرف بأبي حمزة ميمون الأعور ، كوفي ، وقد جرحه أحمد بن حنبل ويحيى بن معين ، فمن بعدهما من حفاظ الحديث " .
ونقل ابن كثير 1 : 389 - 390 أنه رواه أيضًا ابن أبي حاتم ، عن يحيى بن عبد الحميد . ورواه ابن مردويه ، من حديث آدم بن أبي إياس ، ويحيى بن عبد الحميد - كلاهما عن شريك ، ثم ذكر أنه أخرجه ابن ماجه ، والترمذي .
ووقع لفظ الحديث في ابن ماجه مغلوطًا ، بنقيض معناه . بلفظ : " ليس في المال حق سوى الزكاة " !
وهذا خطأ قديم في بعض نسخ ابن ماجه . وحاول بعض العلماء الاستدلال على صحة هذا اللفظ عند ابن ماجه ، كما في التلخيص الحبير للحافظ ابن حجر ، ص 177 ، وشرح الجامع الصغير للمناوي : 7641 .
ولكن رواية الطبري الماضية : 2527 - وهي من طريق يحيى بن آدم ، التي رواه منها ابن ماجه : تدل على أن اللفظ الصحيح هو ما في سائر الروايات .
ويؤيد ذلك أن ابن كثير نسب الحديث للترمذي وابن ماجه ، معًا ، ولم يفرق بين روايتهما ، وكذلك صنع النابلسي في ذخائر المواريث : 11699 ، إذ نسبه إليهما حديثًا واحدًا .
ويؤيد أيضًا أن البيهقي ، بعد أن رواه قال : " والذي يرويه أصحابنا في التعاليق : ليس في المال حق سوى الزكاة - فلست أحفظ فيه إسنادًا . والذي رويت في معناه ما قدمت ذكره " . ولو كان في ابن ماجه على هذا اللفظ ، لما قال ذلك ، إن شاء الله .

(3/343)


2531 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا جرير ، عن منصور ، عن زبيد اليامي ، عن مرة بن شراحيل ، عن عبد الله في قوله : " وآتى المالَ على حُبه " قال ، أن يعطي الرجلُ وهو صحيح شحيحٌ به ، يأمل العيش ويخاف الفقر.
* * *
قال أبو جعفر : فتأويل الآية : وأعطى المال - وهو له محب ، حريصٌ على جمعه ، شحيح به - ذَوي قَرابته فوصل به أرحامهم.
وإنما قلت عنى بقوله : " ذوي القرْبى " ، ذوي قرابة مؤدِّي المال على حُبه ، للخبر الذي رَوَى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من أمره فاطمةُ بنت قيس
2532 - وقوله صلى الله عليه وسلم حين سئل : أيُّ الصَّدقة أفضَل ؟ قال : جُهْد المُقِلّ على ذي القَرَابة الكاشح. (1)
* * *
__________
(1) الحديث : 2532 - معناه ثابت من حديث أبي هريرة . رواه أحمد في المسند : 8687 (2 : 358 حلبي) : " عن أبي هريرة : أنه قال : يا رسول الله أي الصدقة أفضل ؟ قال : جهد المقل ، وابدأ بمن تعول " .
وذكره المنذري في الترغيب والترهيب 2 : 28 ، وقال : " رواه أبو داود ، وابن خزيمة في صحيحه ، والحاكم ، وقال : صحيح على شرط مسلم " .
وروى الحاكم في المستدرك 1 : 406 ، عن أم كلثوم بنت عقبة ، قالت : " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أفضل الصدقة على ذي الرحم الكاشح " . وقال الحاكم : " هذا حديث صحيح على شرط مسلم ، ولم يخرجاه " ، ووافقه الذهبي .
وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد 3 : 116 ، وقال : " رواه الطبراني في الكبير ، ورجاله رجال الصحيح " ، وذكر قبله أحاديث أخر بنحوه .
والكاشح : المبغض : قال ابن الأثير : " العدو الذي يضمر عداوته ، ويطوي عليهما كشحه ، أي باطنه " .
والكاشح الذي يضمر لك العداوة ، كأنه يطويها في كشحه . وهو ما بين الخاصرة إلى الضلع ، أو يعرض عنك بوجهه ويوليك كشحه .

(3/344)


وأما " اليتامى " " والمساكين " ، فقد بينا معانيهما فيما مضى. (1)
* * *
وأما " ابن السبيل " ، فإنه المجتاز بالرَّجل. ثم اختلف أهل العلم في صفته. فقال بعضهم : هو الضيفُ من ذلك.
* ذكر من قال ذلك :
2533 - حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : " وابن السبيل " قال ، هو الضيف قال : قد ذُكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان يقول : " من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خَيرًا أو ليسكت. قال : وكان يَقول : حَق الضيافة ثلاثُ ليال ، فكل شيء أضافه بَعد ذَلك صدقة. (2)
* * *
__________
(1) انظر ما سلف في معنى " مسكين " 2 : 137 ، 293 ، ومعنى : " ذي القربى " ، و " اليتامى " 2 : 292 .
(2) الحديث : 2533 - هو حديث مرسل ، يقول قتادة - وهو تابعي - : " قد ذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان يقول . . " ، فذكره .
و " سعيد " الذي يروي عن قتادة : هو سعيد بن أبي عروبة . و " يزيد " الراوي عنه : هو يزيد بن زريع .
والحديث ثبت معناه ضمن حديث رواه مسلم 2 : 45 ، من حديث أبي شريح العدوي الخزاعي : " من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه جائزته ، قالوا : وما جائزته يا رسول الله ؟ قال : يومه وليلته ، والضيافة ثلاثة أيام ، فما كان وراء ذلك فهو صدقة عليه ، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرًا أو ليصمت " . ورواه أيضًا أحمد ، وسائر أصحاب الكتب الستة ، كما في الفتح الكبير 3 : 231 .

(3/345)


وقال بعضهم : هو المسافر يمر عليك.
* ذكر من قال ذلك :
2534 - حدثنا سفيان بن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن جابر ، عن أبي جعفر : " وابن السبيل " قال ، المجتاز من أرض إلى أرض.
2535 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الرزاق ، عن معمر ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد وقتادة في قوله : " وابن السبيل " قال ، الذي يمر عليك وهو مسافر.
2536 - حدثني المثنى قال ، حدثنا سويد بن نصر قال ، أخبرنا ابن المبارك ، عمن ذكره ، عن ابن جريج عن مجاهد وقتادة مثله.
* * *
وإنما قيل للمسافر " ابن السبيل " ، لملازمته الطريق - والطريق هو " السبيل " - فقيل لملازمته إياه في سفره : " ابنه " ، كما يقال لطير الماء " ابن الماء " لملازمته إياه ، وللرجل الذي أتت عليه الدهور " ابن الأيام والليالي والأزمنة " ، ومنه قول ذي الرمة :
وَرَدْتُ اعْتِسَافًا وَالثُّرَيَّا كَأَنَّهَا... عَلَى قِمَّةِ الرَّأْسِ ابْنُ مَاءٍ مُحَلِّقُ (1)
* * *
__________
(1) ديوابنه : 401 ، وهو متعلق ببيت قبله : وَمَاءٍ قَدِيمِ العَهْدِ بالناسِ جنٍ ... كَأَنَّ الدَّبَى مَاءَ الغَضَا فِيهِ يَبْصُقُ
الآجن المتغير . والدبى : صغار الجراد . والغضى : شجر . كأن الجراد رعته ، فبصقت فيه رعيها فهو أصفر أسود . والاعتساف : الاقتحام والسير على غير هدى . والمحلق : العالي المرتفع . وابن الماء : هو طير الغرانيق ، يعرف بالكركي ، والإوز العراقي ، وهو أبيض الصدر ، أحمر المنقار ، أصفر العين . يقول الأقيشر ، يصف مجلس شراب : كَأَنَّهُنَّ وأَيْدِي الشَّرْبِ مُعْمَلَةٌ ... إِذَا تَلأْلأَْنَ فِي أَيْدِي الغَرَانِيقِ
بَنَاتُ ماءِ ، تُرى بيضًا جَاجِئُها ... حُمْرًا مَنَاقِرُهَا ، صُفْرَ الحَمَالِيقِ
والثريا : نجوم كثيرة مجتمعة ، سميت بالمفرد . جعلها " على قمة " ، وذلك في جوف الليل ، ترى بيضاء زاهرة .

(3/346)


وأما قوله : " والسائلين " ، فإنه يعني به : المستطعمين الطالبين ، كما : -
2537 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا ابن إدريس ، عن حصين ، عن عكرمة في قوله : " والسائلين " قال ، الذي يسألك.
* * *
وأما قوله : " وفي الرقاب " ، فإنه يعني بذلك : وفي فك الرقاب من العبودة ، وهم المكاتبون الذين يسعون في فك رقابهم من العبودة ، (1) بأداء كتاباتهم التي فارقوا عليها سادَاتهم.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا }
قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بقوله : " وأقامَ الصلاة " ، أدام العمل بها بحدودها ، وبقوله " وآتى الزكاة " ، أعطاها على مَا فَرضها الله عليه. (2)
* * *
__________
(1) العبودة والعبودية واحد ، ولا فعل له عند أبي عبيد . وقال اللحياني فعله " عبد " على زنة " كرم " .
(2) انظر معنى " إقامة الصلاة " و " إيتاء الزكاة " فيما سلف 1 : 572 - 574 ، ومواضع أخرى ، اطلبها في فهرس اللغة .

(3/347)


فإن قال قائل : وهل من حقٍّ يجب في مال إيتاؤه فرضًا غير الزكاة ؟
قيل : قد اختلف أهل التأويل في ذلك :
فقال بعضهم : فيه حقوقٌ تجبُ سوى الزكاة واعتلُّوا لقولهم ذلك بهذه الآية ، وقالوا : لما قال الله تبارك وتعالى : " وآتَى المالَ على حُبه ذَوي القربى " ، ومن سمى الله معهم ، ثم قال بعد : " وأقامَ الصلاةَ وآتى الزكاة " ، علمنا أن المالَ - الذي وَصَف المؤمنين به أنهم يُؤتونه ذَوي القربى ، ومن سمَّى معهم - غيرُ الزكاة التي ذكر أنهم يؤتونها. لأن ذلك لو كان مالا واحدًا لم يكن لتكريره معنى مفهوم. قالوا : فلما كان غيرَ جائز أن يقول تعالى ذكره قولا لا معنى له ، علمنا أنّ حكم المال الأول غيرُ الزكاة ، وأن الزكاة التي ذكرها بعد غيره. قالوا : وبعد ، فقد أبان تأويل أهل التأويل صحة ما قلنا في ذلك.
وقال آخرون : بل المال الأول هو الزكاة ، ولكن الله وصَف إيتاء المؤمنين مَنْ آتوه ذلك ، في أول الآية. فعرَّف عباده - بوصفه ما وصف من أمرهم - المواضعَ التي يجب عليهم أن يضَعوا فيها زكواتهم ، ثم دلّهم بقوله بعد ذلك : " وآتى الزكاة " ، أن المال الذي آتاه القومُ هو الزكاة المفروضةُ كانت عليهم ، إذ كان أهلُ سُهمانها هم الذين أخبرَ في أول الآية أن القوم آتوهم أموالهم.
* * *
وأما قوله : " والموفون بَعهدهم إذا عاهدوا " ، فإن يعني تعالى ذكره : والذين لا ينقضون عَهد الله بعد المعاهدة ، ولكن يوفُون به ويتمُّونه على ما عاهدوا عليه من عاهدوه عليه. كما : -
2538 - حدثت عن عمار بن الحسن قال ، حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع بن أنس في قوله : " والموفون بعهدهم إذا عاهدوا " قال ، فمن أعطى عهدَ الله ثم نقضه ، فالله ينتقم منه. ومن أعطى ذمة النبي صلى الله عليه

(3/348)


وسلم ثم غَدر بها ، فالنبي صلى الله عليه وسلم خصمه يومَ القيامة.
* * *
وقد بينت " العهد " فيما مضى ، بما أغنى عن إعادته هاهنا. (1)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ }
قال أبو جعفر : وقد بينا تأويل " الصبر " فيما مضى قبل. (2)
فمعنى الكلام : والمانعين أنفسهم - في البأساء والضراء وحين البأس - مما يكرهه الله لَهم ، الحابسيها على ما أمرهم به من طاعته. ثم قال أهل التأويل في معنى " البأساء والضراء " بما : -
2539 - حدثني به الحسين بن عمرو بن محمد العنقزيّ (3) قال ، حدثني أبي - وحدثني موسى قال ، حدثنا عمرو بن حماد - قالا جميعًا ، حدثنا أسباط عن السدي ، عن مرة الهمداني ، عن ابن مسعود أنه قال : أما البأساءُ فالفقر ، وأما الضراء فالسقم .
2540 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي - وحدثني المثنى قال ، حدثنا الحماني - قالا جميعًا ، حدثنا شريك ، عن السدي ، عن مرة ، عن عبد الله في قوله : " والصابرين في البأساء والضراء " قال ، البأساء الجوع ، والضراء المرضُ.
2541 - حدثنا أحمد بن إسحاق قال ، حدثنا أبو أحمد قال ، حدثنا شريك ، عن السدي ، عن مرة عن عبد الله قال : البأساء الحاجة ، والضراءُ المرضُ.
2542 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال حدثنا سعيد ، عن قتادة قال :
__________
(1) انظر ما سلف 1 : 410 - 415 ، 557 / ثم هذا الجزء 3 : 20 .
(2) انظر ما سلف 2 : 10 - 11 ، 124 / ثم هذا الجزء 3 : 214 .
(3) في المطبوعة " العبقري " ، والصواب ما أثبته ، وقد ترجم له فيما سلف رقم : 1625 .

(3/349)


كنا نُحدِّث أن البأساء البؤس والفقر ، وأن الضراء السُّقم. وقد قال النبي أيوب صلى الله عليه وسلم( أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ) [سورة الأنبياء : 83].
2543 - حدثت عن عمار بن الحسن قال ، حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع في قوله : " والصابرين في البأساء والضراء " قال ، البؤس : الفاقة والفقر ، والضراء : في النفس ، من وَجع أو مرَض يصيبه في جسده.
2544 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : " البأساء والضراء " قال ، البأساء : البؤس ، والضراء : الزمانة في الجسد.
2545 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو نعيم قال ، حدثنا عبيد ، عن الضحاك قال : " البأساء والضراء " ، المرض. (1)
2546 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج : " والصابرين في البأساء والضراء " قال ، البأساء : البؤس والفقر ، والضراء : السقم والوجع.
2547 - حدثنا أحمد بن إسحاق قال ، حدثنا أبو أحمد قال ، حدثنا عبيد بن الطفيل قال : سمعت الضحاك بن مزاحم يقول في هذه الآية : " والصابرين في البأساء والضراء " ، أما البأساء : الفقر ، والضراء : المرض. (2)
* * *
قال أبو جعفر : وأما أهل العربية : فإنهم اختلفوا في ذلك. فقال بعضهم :
__________
(1) الأثر : 2545 - أخشى أن يكون قد سقط من هذا الأثر شيء . وهو تفسير " البأساء " ، وذكر " الضراء " قبل قوله : " المرض " ، وسيأتي على الصواب في الأثر الذي يليه .
(2) الخبر : 2547 - عبيد بن الطفيل : كنيته : " أبو سيدان " ، بكسر السين المهملة وسكون الياء التحتية ثم دال مهملة ، كما سيأتي باسمه وكنيته : 2555 . وهو الغطفاني ، يروي عنه أيضًا وكيع ، وأبو نعيم الفضل بن دكين ، قال أبو حاتم : " صالح ، لا بأس به " . وهو مترجم في التقريب ، والخلاصة وابن أبي حاتم 2/2/409 .

(3/350)


" البأساء والضراء " ، مصدر جاء على " فعلاء " ليس له " أفعل " لأنه اسم ، كما قد جاء " أفعل " في الأسماء ليس له " فعلاء " ، نحو " أحمد " . وقد قالوا في الصفة " أفعل " ، ولم يجيء له " فعلاء " ، فقالوا : " أنت من ذلك أوْجل " ، ولم يقولوا : " وجلاء " .
وقال بعضهم : هو اسم للفعل. فإن " البأساء " ، البؤس ، " والضراء " الضر. وهو اسم يقع إن شئت لمؤنث ، وإن شئت لمذكر ، كما قال زهير :
فَتُنْتَجْ لَكُمْ غِلْمَانَ أَشْأَمَ ، كُلُّهُمْ... كَأَحْمَرِ عَادٍ ، ثُمَّ تُرْضِعْ فَتَفْطِمِ (1)
يعني فتنتج لكم غلمان شؤم.
وقال بعضهم : لو كان ذلك اسمًا يجوز صرفه إلى مذكر ومؤنث ، لجازَ إجراء " أفعل " في النكرة ، ولكنه اسم قام مقام المصدر. والدليل على ذلك قوله : " لئن طَلبت نُصرتهم لتجدنَّهم غير أبعدَ " ، (2) بغير إجراء. وقال : إنما كان اسما للمصدر ، لأنه إذا ذُكر علم أنه يُراد به المصدر.
وقال غيره : لو كان ذلك مصدرًا فوقع بتأنيث ، لم يقع بتذكير ، ولو وَقَع
__________
(1) ديوانه : 20 ، من معلقته الفريدة . وهي من أبياته في صفة الحرب ، التي قال في بدئها ، قبل هذا البيت : وَمَا الحَرْبُ إِلاَّ مَا عَلِمْتُمْ وَذُقْتُمُ ... وَمَا هُوَ عَنْهَا بِالحَدِيث المُرَجَّمِ
مَتَى تَبْعَثُوهَا ، تَبْعَثُوهَا ذَمِيمَةً ، ... وتَضْرَ ، إذا ضَرَّيْتُمُوهَا فَتَضْرَمِ
فَتَعْرُكَكُم عَرْكَ الرَّحَا بِثِفَالِهَا ... وَتلْقَحْ كِشافًا ، ثم تُنْتَجْ فَتُتْئِمِ
يقول : إن الحرب تلقح كما تلقح الناقة ، فتأتي بتوأمين في بطن . وقوله : " أحمر عاد " يعني أحمر ثمود ، فأخطأ ولم يبال أيهما قال . وأحمر ثمود ، هو قدار ، عاقر ناقة الله فأهلكهم ربهم بما فعلوا . يقول : إن الحرب ترضع مشائيمها وتقوم عليهم حتى تفطمهم بعد أن يبلغوا السعي لأنفسهم في الشر .
(2) يقال " فلان غير أبعد " ، أي لا خير فيه . ويقال : " ما عند فلان أبعد " أي لا طائل عنده . قال رجل لابنه : " إن غدوت على المربد ربحت عنا ، أو رجعت بغير أبعد " ، أي بغير منفعة .

(3/351)


بتذكير ، لم يقع بتأنيث. لأن من سُمي ب " أفعل " لم يصرف إلى " فُعلى " ، ومن سُمي ب " فُعلى " لم يصرف إلى " أفعل " ، لأن كل اسم يبقى بهيئته لا يصرف إلى غيره ، ولكنهما لغتان. فإذا وقع بالتذكير ، كان بأمر " أشأم " ، وإذا وقع " البأساء والضراء " ، (1) وقع : الخلة البأساء ، والخلة الضراء. وإن كان لم يُبن على " الضراء " ، " الأضر " ، ولا على " الأشأم " ، " الشأماء " . لأنه لم يُردْ من تأنيثه التذكير ، ولا من تذكيره التأنيث ، كما قالوا : " امرأة حسناء " ، ولم يقولوا : " رجل أحسن " . وقالوا : " رجل أمرد " ، ولم يقولوا : " امرأة مرداء " . فإذا قيل : " الخصلة الضراء " و " الأمر الأشأم " ، دل على المصدر ، ولم يحتج إلى أن يكون اسمًا ، وإن كان قد كَفَى من المصدر.
وهذا قول مخالفٌ تأويلَ من ذكرنا تأويله من أهل العلم في تأويل " البأساء والضراء " ، وإن كان صحيحًا على مذهب العربية. وذلك أن أهل التأويل تأولوا " البأساء " بمعنى : البؤس ، " والضراء " بمعنى : الضر في الجسد. وذلك من تأويلهم مبني على أنهم وجَّهوا " البأساءَ والضراء " إلى أسماء الأفعال ، دون صفات الأسماء ونعوتها. فالذي هو أولى ب " البأساء والضراء " ، على قول أهل التأويل ، أن تكون " البأساء والضراء " أسماء أفعال ، فتكون " البأساء " اسمًا " للبؤس " ، و " الضراء " اسمًا " للضر " .
* * *
وأما " الصابرين " فنصبٌ ، وهو من نعت " مَن " على وجه المدح. (2) لأن من شأن العرب - إذا تطاولت صفةُ الواحد - الاعتراضُ بالمدح والذم بالنصب أحيانًا ، وبالرفع أحيانًا ، (3) كما قال الشاعر : (4)
__________
(1) يعني : إذا وقع بالتأنيث : وقع بمعنى : الخلة البأساء والخلة الضراء .
(2) يريد " من " في قوله تعالى : " ولكن البر من آمن . . . "
(3) انظر ما سلف 1 : 329 .
(4) لم أعرف قائله .

(3/352)


إلَى المَلِكِ القَرْمِ وَابْنِ الهُمَامِ... وَلَيْثَ الكَتِيبَةِ فِي المُزْدَحَمْ (1) وَذَا الرَّأْيِ حِينَ تُغَمُّ الأمُورُ... بِذَاتِ الصَّلِيلِ وذَاتِ اللُّجُمْ (2)
فنصب " ليث الكتيبة " وذا " الرأي " على المدح ، والاسم قبلهما مخفُوضٌ لأنه من صفة واحد ، ومنه قول الآخر : (3)
فَلَيْتَ الَّتِي فِيهَا النُّجُومُ تَوَاضَعَت... عَلَى كُلِّ غَثٍّ مِنْهُمُ وسَمِينِ (4) غيُوثَ الوَرَى فِي كُلِّ مَحْلٍ وَأَزْمَةٍ... أُسُودَ الشَّرَى يَحْمِينَ كُلَّ عَرِينِ (5)
* * *
وقد زعم بعضهم أن قوله : (6) " والصابرين في البأساء " ، نصبٌ عطفًا على " السائلين " .
__________
(1) معاني القرآن للفراء 1 : 105 ، والإنصاف : 195 ، وأمالي الشريف 1 : 205 ، وخزانة الأدب 1 : 216 . والقرم . السيد المعظم المقدم في المعرفة وتجارب الأمور . والمزدحم : حومة القتال حيث يزدحم الكماة . يمدحه بالجرأة في القتال .
(2) وغم الأمر يغم (بالبناء للمجهول) : استعجم وأظلم ، وصار المرء منه في لبس لا يهتدي لصوابه . والصليل : صوت الحديد . يعني بذات الصليل كتيبة من الرجالة يصل حديد بيضها وشكتها وسلاحها . وذات اللجم : كتيبة من الفرسان . يذكر ثباته واجتماع نفسه ورأيه حين تطيش العقول في صليل السيوف وكر الخيول في معركة الموت . فقوله : " بذات الصليل " متعلق بقوله : " تغم الأمور " .
(3) لم أعرف قائلهما .
(4) معاني القرآن للفراء 1 : 106 ، وأمالي الشريف 1 : 206 . وقوله : " تواضعت " ، هو عندي " تفاعل " من قولهم : وضع الباني الحجر توضيعًا : نضد بعضه على بعض . ومنه التوضع : وهو خياطة الجبة بعد وضع القطن . ومنه أيضًا : وضعت النعامة بيضها : إذا رثدته ووضعت بعضه فوق بعض ، وهو بيض موضع : منضود بعضه على بعض . يقول : ليت السماء قد انضمت على جميعهم ، فكانوا من نجومها . وقوله : " غث منهم وسمين " ، مدح ، يعني : ليس فيهم غث ، فغثهم حقيق بأن يكون من أهل العلاء .
(5) المحل : الجدب والقحط . ورواية الفراء والشريف : " ولزبة " . والأزمة والأزبة واللزبة ، بمعنى واحد : وهي شدة السنة والقحط . وروايتهما أيضًا : " غيوث الحيا " . والحيا : الخصب ، ويسمى المطر حيا ، لأنه سبب الخصب . والثرى : موضع تأوي إليه الأسود .
(6) هذا القول ذكره الفراء في معاني القرآن 1 : 108 ، ورده .

(3/353)


كأن معنى الكلام كان عنده : وآتى المال على حبه ذَوي القربَى واليتامَى والمساكين ، وابنَ السبيل والسائلينَ والصابرين في البأساء والضراء. وظاهرُ كتاب الله يدلّ على خطأ هذا القول ، وذلك أنّ " الصابرين في البأساء والضراء " ، هم أهل الزمانة في الأبدان ، وأهلُ الإقتار في الأموال. وقد مضى وصف القوم بإيتاء - مَنْ كان ذلك صفته - المالَ في قوله : " والمساكينَ وابنَ السبيل والسائلين " ، وأهل الفاقة والفقر ، هم أهل " البأساء والضراء " ، لأن من لم يكن من أهل الضراء ذا بأساء ، لم يكن ممن له قبولُ الصدقة ، وإنما له قبولها إذا كان جامعًا إلى ضرائه بأساء ، وإذا جمع إليها بأساء ، كان من أهل المسكنة الذين قد دخلوا في جملة " المساكين " الذين قد مضى ذكرهم قبل قوله : " والصابرين في البأساء " . وإذا كان كذلك ، ثم نصب " الصابرين في البأساء " بقوله " وآتى المال على حبه " ، كان الكلام تكريرًا بغير فائدة معنى. كأنه قيل : وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامَى والمساكينَ. والله يتعالى عن أن يكون ذلك في خطابه عبادَه. ولكن معنى ذلك : ولكنّ البر مَن آمن بالله واليوم الآخر ، والموفون بعهدهم إذا عاهدوا ، والصابرين في البأساء والضراء. " والموفون " رفعٌ لأنه من صفة " مَنْ " ، و " مَنْ " رفعٌ ، فهو معرب بإعرابه. " والصابرين " نصب - وإن كان من صفته - على وجه المدح الذي وصفنا قبل.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { وَحِينَ الْبَأْسِ }
قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بقوله : " وحين البأس " ، والصابرين في وقت البأس ، وذلك وَقت شدة القتال في الحرب ، كما : -
2548 - حدثني الحسين بن عمرو بن محمد العنقزيّ قال ، حدثنا أبي قال ،

(3/354)


حدثنا أسباط ، عن السدي ، عن مرة ، عن عبد الله في قول الله : " وحين البأس " قال ، حين القتال. (1)
2549 - حدثني موسى قال ، حدثنا عمرو قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي ، عن مرة ، عن عبد الله مثله.
2550 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : " وحين البأس " القتال.
2551 - حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا يزيد ، عن سعيد ، عن قتادة قوله : " وحين البأس " ، أي عندَ مواطن القتال.
2552 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، حدثنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر ، عن قتادة : " وحين البأس " ، القتال.
2553 - حدثت عن عمار بن الحسن قال ، حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع ، " وحين البأس " ، عند لقاء العدو.
2554 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو نعيم قال ، حدثنا عبيدة ، عن الضحاك : " وحين البأس " ، القتال
2555 - حدثنا أحمد بن إسحاق قال ، حدثنا أبو أحمد قال ، حدثنا عبيد بن الطفيل أبو سيدان قال ، سمعت الضحاك بن مزاحم يقول في قوله : " وحين البأس " قال ، القتال. (2)
* * *
__________
(1) الأثر : 2548 - في المطبوعة : " العبقري " ، وقد مضى مرارا خطأ ، وصححناه . وانظر ترجمته في رقم : 1625 .
(2) الخبران : 2554 - 2555 أبو نعيم في أولهما ؛ هو الفضل بن دكين . وأبو أحمد في ثانيهما : هو الزبيري ، محمد بن عبد الله بن الزبير . وباقي الإسناد ، مضى في : 2547 .

(3/355)


القول في تأويل قوله تعالى : { أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (177) }
قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بقوله : " أولئك الذين صدقوا " ، من آمن بالله واليوم الآخر ، ونعتهم النعتَ الذي نعتهم به في هذه الآية. يقول : فمن فعل هذه الأشياء ، فهم الذين صدقوا الله في إيمانهم ، وحققوا قولهم بأفعالهم - لا مَنْ ولَّى وجهه قبل المشرق والمغرب وهو يخالف الله في أمره ، وينقض عهده وميثاقه ، ويكتم الناسَ بَيانَ ما أمره الله ببيانه ، ويكذِّب رسله.
* * *
وأما قوله : " وأولئك هُم المتقون " ، فإنه يعني : وأولئك الذين اتقوا عقابَ الله ، فتجنَّبوا عصيانه ، وحَذِروا وعده ، فلم يتعدَّوا حدوده. وخافوه ، فقاموا بأداء فرائضه.
* * *
وبمثل الذي قلنا في قوله : " أولئك الذين صَدقوا " ، كان الربيع بن أنس يقول :
2556 - حدثت عن عمار بن الحسن قال ، حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : " أولئك الذين صدقوا " قال ، فتكلموا بكلام الإيمان ، فكانت حقيقتُه العمل ، صَدقوا الله. قال : وكان الحسن يقول : هذا كلام الإيمان ، وحقيقتُه العمل ، فإن لم يكن مع القول عملٌ فلا شيء.
* * *

(3/356)


يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ (178)

القول في تأويل قوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأنْثَى بِالأنْثَى }
قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بقوله : " كتب عليكم القصاص في القتلى " ، فُرض عليكم.
* * *
فإن قال قائل : أفرضٌ على وليّ القتيل القصاصُ من قاتل وَليّه ؟
قيل : لا ولكنه مباح له ذلك ، والعفو ، وأخذُ الدية.
فإن قال قائل : وكيف قال : " كتب عليكم القصاص " ؟
قيل : إن معنى ذلك على خلاف ما ذهبتَ إليه ، وإنما معناه : يا أيها الذين آمنوا كُتب عليكم القصَاص في القتلى الحرّ بالحرّ والعبدُ بالعبد والأنثى بالأنثى ، أي أن الحر إذا قتل الحرَّ ، فَدم القاتل كفءٌ لدم القتيل ، والقصاصُ منه دون غيره من الناس ، فلا تجاوزوا بالقتل إلى غيره ممن لم يقتل ، فإنه حرام عليكم أن تقتلوا بقتيلكم غيرَ قاتله.
والفرض الذي فرضَ الله علينا في القصاص ، هو ما وصفتُ من ترك المجاوزة بالقصاص قَتلَ القاتل بقتيله إلى غيره ، لا أنه وجب علينا القصاص فرضًا وجُوب فرضِ الصلاة والصيام ، حتى لا يكون لنا تركه. ولو كان ذلك فرضًا لا يجوز لنا تركه ، لم يكن لقوله : " فَمن عُفي لهُ من أخيه شيء " ، معنى مفهوم. لأنه لا عفو بعد القصاص فيقال : " فمن عفي له من أخيه شيء " .
* * *
وقد قيل : إن معنى القصاص في هذه الآية ، مقاصَّة ديات بعض القتلى بديات بعض. وذلك أن الآية عندهم نزلت في حِزبين تحاربوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقتل بعضهم بعضًا ، فأُمِر النبيُّ صلى الله عليه وسلم أن يُصْلح بينهم بأن تَسقط ديات نساء أحد الحزبين بديات نساء الآخرين ، ودياتُ رجالهم

(3/357)


بديات رجالهم ، وديات عبيدهم بديات عبيدهم ، قصاصًا. فذلك عندهم مَعنى " القصاص " في هذه الآية.
* * *
فإن قال قائل : فإنه تعالى ذكره قال : " كُتب عليكم القصَاص في القتلى الحر بالحرّ والعبدُ بالعبد والأنثى بالأنثى " ، فما لنا أن نقتص للحر إلا من الحر ، ولا للأنثى إلا من الأنثى ؟
قيل : بل لنا أن نقتص للحر من العبد ، وللأنثى من الذكر بقول الله تعالى ذكره : ( وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا ) [سورة الإسراء : 33] ، وبالنقل المستفيض عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال :
2557 - المسلمون تتكافأ دماؤهم. (1)
* * *
فإن قال : فإذ كان ذلك ، فما وجه تأويل هذه الآية ؟
قيل : اختلف أهلُ التأويل في ذلك. فقال بعضهم : نزلت هذه الآية في قوم كانوا إذا قتل الرجل منهم عَبد قوم آخرين ، لم يرضوا من قتيلهم بدم قاتله ، من أجل أنه عَبد ، حتى يقتلوا به سَيّده. وإذا قتلت المرأة من غيرهم رجلا لم يرضوا من دم صاحبهم بالمرأة القاتلة ، حتى يقتلوا رجلا من رهط المرأة وعشيرتها. فأنزل الله هذه الآية ، فأعلمهم أن الذي فُرض لهم من القصاص أن يقتلوا بالرجل الرجلَ القاتل دون غيره ، وبالأنثى الأنثى القاتلة دون غيرها من الرجال ، وبالعبد العبدَ القاتلَ دون غيره من الأحرار ، فنهاهم أن يتعدَّوا القاتل إلى غيره في القصاص.
* ذكر من قال ذلك :
2558 - حدثني محمد بن المثنى قال ، حدثنا أبو الوليد - وحدثني المثنى
__________
(1) الحديث : 2557 - رواه الطبري هنا معلقًا ، دون إسناد . وقد رواه أحمد في المسند : 6797 ، من حديث عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده - وهو عبد الله بن عمرو بن العاص : " المسلمون تكافأ داؤهم ، ويسعى بذمتهم أدناهم ، وهم يد على من سواهم " . ورواه بنحوه أيضًا ابن ماجه : 2685 . ورواه أحمد ، بألفاظ مختلفة ، مطولا ومختصرًا : 6692 ، 6970 ، 7012 .

(3/358)


قال ، حدثنا الحجاج - قالا حدثنا حماد ، عن داود بن أبي هند ، عن الشعبي في قوله : " الحر بالحرّ والعبدُ بالعبد والأنثى بالأنثى " قال ، نزلت قي قبيلتين من قبائل العرب اقتتلتا قتال عُمِّيَّة ، فقالوا : نقتل بعبدنا فلانَ ابن فلان ، وبفلانة فلانَ بن فلان ، فأنزل الله : " الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى " . (1)
2559 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : " كتب عليكم القصَاص في القتلى الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى " قال ، كان أهل الجاهلية فيهم بَغْيٌ وطاعة للشيطان ، فكان الحيّ إذا كان فيهم عُدة ومَنعة ، فقيل عبدُ قوم آخرين عبدًا لهم ، قالوا : لا نقتل به إلا حرًّا! تعززًا ، لفضلهم على غيرهم في أنفسهم. وإذا قُتلت لهم امرأة قتلتها امرأةُ قوم آخرين قالوا : لا نقتل بها إلا رجلا! فأنزل الله هذه الآية يخبرهم أنّ العبدَ بالعبد والأنثى بالأنثى ، فنهاهم عن البغي. ثم أنزل الله تعالى ذكره في سورة المائدة بعد ذلك فقال : ( وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأنْفَ بِالأنْفِ وَالأذُنَ بِالأذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ ) [سورة المائدة : 45].
2560 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : " كتب عليكم القصاص في القتلى " قال ، لم يكن لمن قبلنا ديةٌ ، إنما هُو القتل ، أو العفوُ إلى أهله. فنزلت هذه الآية في قوم كانوا أكثر من غيرهم ، فكانوا إذا قتل من الحيّ الكثير عبدٌ قالوا : لا نقتل به إلا حُرًّا. وإذا قتلت منهم امرأة قالوا : لا نقتل بها إلا رجلا. فأنزل الله : " الحرّ بالحرّ والعبدُ بالعبد والأنثى بالأنثى " .
__________
(1) العمية (بضم العين أو كسرها ، وتشديد الميم وتشديد الياء) : الغواية والكبر واللجاجة في الباطل والفتنة والضلالة . وفي الحديث : " من قاتل تحت راية عمية ، يغضب لعصبة ، أو ينصر عصبة ، أو يدعو لعصبة ، فقتل ، قتل قتلة جاهلية " . وقال أحمد بن حنبل : هو الأمر الأعمى للعصبية ، لا تستبين ما وجهه .

(3/359)


2561 - حدثني محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا المعتمر قال ، سمعت داود ، عن عامر في هذه الآية : " كتب عليكم القصَاص في القتلى الحر بالحرّ والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى " قال ، إنما ذلك في قتال عُمية ، (1) إذا أصيب من هؤلاء عبدٌ ومن هؤلاء عبدٌ ، تكافآ ، وفي المرأتين كذلك ، وفي الحرّين كذلك. هذا معناه إن شاء الله.
2562 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد قال ، دخل في قول الله تعالى ذكره : " الحر بالحر " ، الرجل بالمرأة ، والمرأةُ بالرجل. وقال عطاء : ليس بينهما فَضل.
* * *
وقال آخرون : بل نزلت هذه الآية في فريقين كان بينهم قتالٌ على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقتل من كلا الفريقين جماعةٌ من الرجال والنساء ، فأُمِر النبي صلى الله عليه وسلم أن يُصلح بينهم ، بأن يجعل ديات النساء من كل واحد من الفريقين قصاصًا بديات النساء من الفريق الآخر ، وديات الرجال بالرجال ، وديات العبيد بالعبيد ، فذلك معنى قوله : " كتب عليكم القصاص في القتلى " .
* ذكر من قال ذلك :
2563 - حدثنا موسى بن هارون قال : حدثنا عمرو بن حماد قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي قوله : " كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر والعبدُ بالعبد والأنثى بالأنثى " قال ، اقتتل أهل ملتين من العرب ، أحدهما مسلم والآخر معاهد ، في بعض ما يكون بين العرب من الأمر ، فأصلح بينهم النبيُّ صلى الله عليه وسلم - وقد كانوا قَتلوا الأحرار والعبيد والنساء - على أن يؤدِّي الحرُّ ديةَ الحر ، والعبد دية العبد ، والأنثى دية الأنثى ، فقاصَّهم بعضَهم من بعض.
2564 - حدثني المثنى قال ، حدثنا سويد بن نصر قال ، أخبرنا عبد الله
__________
(1) سلف شرح " عمية " في ص : 359 ، تعليق : 1 .

(3/360)


بن المبارك ، عن سفيان ، عن السدي ، عن أبي مالك قال : كان بين حيين من الأنصار قتالٌ ، كان لأحدهما على الآخر الطَّوْلُ (1) فكأنهم طلبوا الفضْل. فجاء النبي صلى الله عليه وسلم ليصلح بينهم ، فنزلت هذه الآية : " الحرُّ بالحرِّ والعبدُ بالعبد والأنثى بالأنثى " ، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم الحر بالحر ، والعبد بالعبد ، والأنثى بالأنثى .
2566 - حدثنا المثنى قال ، حدثنا سويد بن نصر قال ، أخبرنا ابن المبارك ، عن شعبة ، عن أبي بشر قال : سمعت الشعبي يقول في هذه الآية : " كتب عليكم القصاص في القتلى " قال ، نزلت في قتال عُمية. قال شعبة : كأنه في صلح. قال : اصطلحوا على هذا.
2567 - حدثنا محمد بن بشار قال ، حدثنا محمد بن جعفر قال ، حدثنا شعبة عن أبي بشر قال : سمعت الشعبي يقول في هذه الآية : " كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى " قال ، نزلت في قتال عُمية " ، (2) قال : كان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم.
* * *
وقال آخرون : بل ذلك أمرٌ من الله تعالى ذكره بمقاصَّة دية الحرّ ودية العبد ، ودية الذكر ودية الأنثى ، في قتل العمد - إن اقتُصَّ للقتيل من القاتل ، والتراجع بالفضل والزيادة بين ديتي القتيل والمقتص منه.
* ذكر من قال ذلك :
2568 - حدثت عن عمار بن الحسن قال ، حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع قوله : " يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر والعبدُ بالعبد والأنثى بالأنثى " قال ، حُدِّثنا عن علي بن أبي طالب أنه
__________
(1) الطول : الفضل والعلو .
(2) سلف شرح " عمية " في ص : 359 ، تعليق : 1 .

(3/361)


كان يقول : أيما حُرّ قتل عبدًا فهو قَوَدٌ به ، فإن شاء موالي العبد أن يقتلوا الحر قتلوه ، وقاصُّوهم بثمن العبد من دية الحرّ ، وأدَّوا إلى أولياء الحرّ بقية ديته. وإن عبدٌ قتل حرًّا فهو به قَودٌ ، فإن شاء أولياء الحرّ قتلوا العبد وقاصُّوهم بثمن العبد ، وأخذوا بقية دية الحرّ ، وإن شاءوا أخذوا الدية كلها واستحيَوُا العبد. وأيُّ حرّ قتل امرأة فهو بها قَوَدٌ ، فإن شاء أولياء المرأة قَتلوه وأدّوا نصفَ الدية إلى أولياء الحرّ. وإن امرأة قتلتْ حُرًّا فهي به قَوَدٌ ، فإن شاء أولياء الحر قتلوها وأخذوا نصف الدية ، وإن شاءوا أخذوا الدية كلها واستحيوها ، وإن شَاءوا عفوْا.
2569 - حدثنا محمد بن بشار قال ، حدثنا هشام بن عبد الملك قال ، حدثنا حماد بن سلمة ، عن قتادة ، عن الحسن : أن عليًّا قال في رجل قتل امرأته ، قال : إن شاءوا قَتلوه وغَرِموا نصف الدية.
2570 - حدثنا محمد بن بشار قال ، حدثنا يحيى ، عن سعيد ، عن عوف ، عن الحسن قال : لا يُقتل الرجل بالمرأة ، حتى يُعطوا نصف الدية.
2571 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا جرير ، عن مغيرة ، عن سماك ، عن الشعبي ، قال ، في رجل قَتل امرأته عمدًا ، فأتوا به عليًّا فقال : إن شئتم فاقتلوه ، ورُدُّوا فضل دية الرجل على دية المرأة.
* * *
وقال آخرون : بل نزلت هذه الآية في حال مَا نزلت ، والقومُ لا يقتلون الرجل بالمرأة ، ولكنهم كانوا يقتلون الرجل بالرجل ، والمرأة بالمرأة ، حتى سَوَّى الله بين حكم جميعهم بقوله : ( وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ ) [سورة المائدة : 45] ، فجعل جميعَهم قَوَدَ بعضهم ببعض.
* ذكر من قال ذلك :
2572 - حدثنا المثنى قال ، حدثنا أبو صالح قال ، حدثني معاوية بن صالح ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قوله : " والأنثى بالأنثى " ،

(3/362)


وذلك أنهم كانوا لا يقتلون الرجل بالمرأة ، ولكن يقتلون الرجل بالرجل والمرأة بالمرأة ، فأنزل الله تعالى : " النفس بالنفس " ، فجعل الأحرار في القصاص سَواءً فيما بينهم ، في العمد رجالهم ونساؤُهم ، في النفس وما دون النفس. وجعل العبيد مستوين فيما بينهم في العمد ، في النفس وما دون النفس ، رجالهم ونساؤُهم.
* * *
قال أبو جعفر : (1) فإذ كان مُختلَفًا الاختلافُ الذي وصفتُ ، فيما نزلت فيه هذه الآية ، فالواجب علينا استعمالها ، فيما دلت عليه من الحُكم ، بالخبر القاطع العذرَ. وقد تظاهرت الأخبار عن رَسول الله صلى الله عليه وسلم بالنقل العامِّ : أن نفس الرجل الحر قَوَدٌ قصَاصًا بنفس المرأة الحرة. فإذ كان ذلك كذلك ، وكانت الأمَّة مختلفة في التراجع بفضل مَا بين دية الرجل والمرأة - على ما قد بَيَّنا من قول عليّ وغيره - كان واضحًا (2) فسادُ قول من قال بالقصاص في ذلك. والتراجع بفضل ما بين الديتين ، بإجماع جميع أهل الإسلام : على أن حرامًا على الرجل أن يتلف من جَسده عضوًا بعوض يأخذه على إتلافه ، فدعْ جميعَه وعلى أن حرامًا على غيره إتلاف شيء منه - مثل الذي حُرِّم من ذلك - بعوَض يُعطيه عليه. (3) فالواجب أن تكون نفسُ الرجل الحر بنفس المرأة الحرة قَوَدًا.
وإذ كان ذلك كذلك ، كان بيّنًا بذلك أنه لم يرد بقوله تعالى ذكره : " الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى " أن لا يقادَ العبدُ بالحرّ ، وأن لا تُقتل الأنثى بالذكر ولا الذكر بالأنثى. وإذْ كان ذلك كذلك ، كان بيِّنًا أن الآية معنيٌّ بها أحد المعنيين الآخرين. إمّا قولنا : من أنْ لا يُتَعدَّى بالقصاص إلى غير القاتل والجاني ، فيؤخذ بالأنثى الذكر وبالعبد الحر. وإمّا القول الآخر : وهو أن تكون
__________
(1) قوله : " فإذا كان مختلف " هو تمام قوله في رد السؤال في ص : 358 س : 11 . " قيل : اختلف أهل التأويل في ذلك . . " .
(2) في المطبوعة : " وكان واضحًا " ، والصواب حذف الواو .
(3) سياق العبارة : " كان واضحًا فساد من قال بالقصاص . . . بإجماع جميع أهل الإسلام على أن حرامًا على الرجل . . . وعلى أن حرامًا على غيره . . . " .

(3/363)


الآية نزلت في قوم بأعيانهم خاصة أمِرَ النبي صلى الله عليه وسلم أن يجعل ديات قتلاهم قصَاصًا بعضها من بعض ، كما قاله السدي ومن ذكرنا قوله.
وقد أجمع الجميع - لا خلاف بينهم - على أن المقاصَّة في الحقوق غير واجبة ، وأجمعوا على أن الله لم يقض في ذلك قضاء ثم نَسخه. وإذ كان كذلك ، وكان قوله تعالى ذكره : " كُتب عليكم القصَاص " ينبئ عن أنه فَرضٌ ، كان معلومًا أن القول خلافُ ما قاله قائل هذه المقالة. لأن ما كان فرضًا على أهل الحقوق أن يفعلوه ، فلا خيارَ لهم فيه. والجميع مجمعون على أنّ لأهل الحقوق الخيارَ في مقاصَّتهم حقوقهم بعضَها من بعض. فإذْ تبيَّنَ فسادُ هذا الوجه الذي ذكرنا ، فالصحيح من القول في ذلك هو ما قلنا.
* * *
فإن قال قائل : إذْ ذكرتَ أن معنى قوله : " كتب عليكم القصاص " - بمعنى : فُرض عليكم القصاص : لا يعرف (1) لقول القائل : " كتب " معنًى إلا معنى : خط ذلك ، فرسم خطًّا وكتابًا ، فما برهانك على أن معنى قوله : " كتب " فُرِض ؟
قيل : إن ذلك في كلام العرب موجودٌ ، وفي أشعارهم مستفيض ، ومنه قول الشاعر : (2)
كُتِبَ القَتْلُ وَالقِتَالُ عَلَيْنَا... وَعَلَى المُحْصَنَاتِ جَرُّ الذُّيُولِ (3)
__________
(1) في المطبوعة : " ولا يعرف . . . " والصواب حذف الواو . والسياق : فإن قال قائل . . - لا يعرف " وما بينهما فصل . والذي ذكره في معنى " كتب " قد سلف في ص : 357 .
(2) هو عمر بن أبي ربيعة ، أو عبد الله بن الزبير الأسدي .
(3) ديوان عمر : 421 ، والبيان والتبيين 2 : 236 ، والكامل 2 : 154 ، وتاريخ الطبري 7 : 158 ، وأنساب الأشراف 5 : 264 ، والأغاني 9 : 229 . ولهذا الشعر خبر . وذلك أن مصعب بن الزبير ، لما خرج إلى المختار بن أبي عبيد الثقفي المتنبئ فظفر به وقتله ، كان فيمن أخذ امرأته عمرة بنت النعمان بن بشير ، فلما سألها عنه قالت : رحمة الله عليه ، إن كان عبدًا من عباد الله الصالحين : فكتب مصعب إلى أخيه عبد الله إنها تزعم أنه نبي! فأمر بقتلها . وقتلها الذي تولى قتلها قتلا فظيعًا ، فاستنكره الناس ، وقالوا فيه ، وممن عمر : إِنَّ مِنْ أَعْجَبِ العَجَائِبِ عِنْدي ... قَتْلُ بيضاءَ حُرَّةٍ عُطْبُولِ
قُتِلَتْ هكذا عَلَى غَيْرِ جُرْم ... إِنَّ لِلهِ دَرَّهَا من قَتِيلِ
كُتِبَ القتل . . . ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

(3/364)


وقولُ نَابغةَ بني جعدة :
يَا بِنْتَ عَمِّي ، كِتَابُ اللهِ أَخْرَجَنِي... عَنْكُم ، فَهَلْ أَمْنَعَنَّ اللهَ مَا فَعَلا! (1)
وذلك أكثر في أشعارهم وكلامهم من أن يحصى. غير أن ذلك ، وإن كان بمعنى : فُرض ، فإنه عندي مأخوذ من " الكتاب " الذي هو رسمٌ وخَط. وذلك أن الله تعالى ذكره قد كتب جميعَ ما فرَض على عباده وما هم عاملوه في اللوح المحفوظ ، فقال تعالى ذكره في القرآن : ( بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ ) [سورة البروج : 21 - 22] وقال : ( إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ ) [سورة الواقعة : 77 - 78]. فقد تبين بذلك أن كل ما فرضه علينا ، ففي اللوح المحفوظ مكتوبٌ.
فمعنى قوله : - إذ كان ذلك كذلك - " كُتب عليكم القصاص " ، كتب عليكم في اللوح المحفوظ القصَاصُ في القتلى ، فَرضًا ، أن لا تقتلوا بالمقتول غير قاتله.
* * *
وأما " القصاص " فإنه من قول القائل : " قاصصتُ فلانًا حقّي قِبَلهُ من حَقه قبلي ، قصاصًا ومُقاصَّة " . فقتل القاتل بالذي قتله " قصاص " ، لأنه مفعول به مثلُ الذي فعَل بمن قتله ، وإن كان أحد الفعلين عُدوانًا والآخر حَقًّا. فهما وإن اختلفا من هذا الوجه ، فهما متفقان في أن كل واحد قد فعَل بصاحبه مثل
__________
(1) اللسان (كتب) وأساس البلاغة (كتب) ، والمقاييس 5 : 159 ، ويروي " يا ابنة عمي " ، وفي الأساس : " أخرني " ، فأخشى أن تكون خطأ من ناسخ .

(3/365)


الذي فعل صاحبه به. وجعل فعل وَليّ القتيل الأوّل إذا قتل قاتل وليه - قصاصًا ، إذ كان بسبب قتله استحق قتلَ من قتله ، فكأن وليّه المقتول هو الذي وَلى قَتل قاتله ، فاقتص منه.
* * *
وأما " القتلى " فإنها جمع " قتيل " كما " الصرعى " جمع " صريع " ، والجرحى جمع " جريح " . وإنما يجمع " الفعيل " على " الفعلى " ، إذا كان صفة للموصوف به ، بمعنى الزمانة والضرر الذي لا يقدر معه صاحبه على البراح من موضعه ومصرعه ، (1) نحو القتلى في معاركهم ، والصرعى في مواضعهم ، والجرحى ، وما أشبه ذلك.
* * *
فتأويل الكلام إذًا : فُرض عليكم ، أيها المؤمنون ، القصاصُ في القتلى : أن يُقتص الحر بالحرّ ، والعبد بالعبد ، والأنثى بالأنثى. ثم ترك ذكر " أن يقتص " اكتفاءً بدلالة قوله : " كُتب عليكم القصاص " عليه.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ }
قال أبو جعفر : اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك.
فقال بعضهم : تأويله : فمن تُرك له من القتل ظلمًا ، من الواجب كان لأخيه عليه من القصَاص - وهو الشيء الذي قال الله : " فمن عُفي له من أخيه شيء " - فاتباعٌ من العافي للقاتل بالواجب له قبَله من الدية ، وأداءٌ من المعفوِّ عنه ذلك إليه بإحسان.
* ذكر من قال ذلك :
__________
(1) انظر ما سلف في تفسير " أسرى " 2 : 311 .

(3/366)


2573 - حدثنا أبو كريب وأحمد بن حماد الدولابي قالا حدثنا سفيان بن عيينة ، عن عمرو ، عن مجاهد ، عن ابن عباس : " فمن عفي له من أخيه شيء " ، فالعفو : أن يقبل الدية في العمد. واتباع بالمعروف : أن يطلب هذا بمعروف ، ويؤدِّي هذا بإحسان.
2574 - حدثني المثنى قال ، حدثنا حجاج بن المنهال قال ، حدثنا حماد بن سلمة قال ، حدثنا عمرو بن دينار ، عن جابر بن زيد ، عن ابن عباس أنه قال في قوله : " فمن عُفي له من أخيه شيءٌ فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان " ، فقال : هو العمد ، يرضى أهله بالدية ، واتباع بالمعروف : أُمر به الطالب وأداء إليه بإحسان من المطلوب.
2575 - حدثنا محمد بن علي بن الحسن بن شقيق قال ، حدثنا أبي - وحدثني المثنى قال ، حدثنا سويد بن نصر - قالا جميعًا ، أخبرنا ابن المبارك ، عن محمد بن مسلم ، عن عمرو بن دينار ، عن مجاهد ، عن ابن عباس قال ، الذي يقبل الدية ، ذلك منه عفوٌ واتباعٌ بالمعروف ، ويؤدِّي إليه الذي عُفي له من أخيه بإحسان. (1)
2576 - حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : " فمن عُفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف وأداءٌ إليه بإحسان " ، وهي الدية : أن يحسن الطالبُ الطلبَ وأداء إليه بإحسان : وهو أن يحسن المطلوبُ الأداءَ.
2577 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : " فمن عُفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف
__________
(1) الخبر : 2575 - محمد بن علي بن الحسن بن شقيق ، شيخ الطبري ، مضت الرواية عنه أيضًا : 1591 . وسيأتي أيضًا : 2594 . ووقع في المطبوعة هنا " سفيان " بدل " شقيق " . وهو خطأ وتصحيف . فلا يوجد في الرواة من يسمى " محمد بن علي بن الحسن بن سفيان " ، ولا باسم أبيه .

(3/367)


وأداء إليه بإحسان " ، والعَفُوُّ : الذي يعفو عن الدم ويَأخذ الدية.
2578 - حدثنا سفيان قال ، حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : " فمن عُفي له من أخيه شيء " قال ، الدية.
2579 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن يزيد ، عن إبراهيم ، عن الحسن : " وأداء إليه بإحسان " قال ، على هذا الطالب أن يطلبَ بالمعروف ، وعلى هذا المطلوب أن يؤدي بإحسان.
2580 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : " فمن عُفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف " ، والعفوُّ : الذي يعفو عن الدم ، ويأخذ الدية.
2581 - حدثني محمد بن المثنى قال ، حدثنا أبو الوليد قال ، حدثنا حماد ، عن داود بن أبي هند ، عن الشعبي في قوله : " فمن عُفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان " قال ، هو العمد ، يرضى أهله بالدية.
2582 - حدثني المثنى قال ، حدثنا الحجاج قال ، حدثنا حماد ، عن داود ، عن الشعبي مثله.
2583 - حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : " فمن عُفي له من أخيه شَيء فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان " ، يقول : قُتل عمدًا فعُفي عنه ، وقبلت منه الدية. يقول : " فاتباع بالمعروف " ، فأمر المتبع أن يتبع بالمعروف ، وأمرَ المؤدِّي أن يؤدي بإحسان ، والعمد قَوَدٌ إليه قصاص ، لا عَقل فيه ، (1) إلا أن يرضَوا بالدية. فإن رضوا بالدية ، فمئة خَلِفَة. (2) فإن قالوا : لا نرضى إلا بكذا وكذا. فذاك لهم.
__________
(1) العقل : الدية ، سميت عقلا ، لأن الدية كانت عند العرب في الجاهلية إبلا ، لأنها كانت أموالهم . فكان القاتل يسوق الدية إلى فناء ورثة المقتول ، فيعقلها بالعقل ويسلمها إلى أوليائه .
(2) الخلفة (بفتح الخاء وكسر اللام) : الحامل من النوق . وليس لها جمع من لفظها ، بل يقال هي " مخاض " ، كما يقال : امرأة ونساء .

(3/368)


2584 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : " فاتباعٌ بالمعروف وأداء إليه بإحسان " قال ، يتبع به الطالبُ بالمعروف ، ويؤدي المطلوب بإحسان.
2585 - حدثت عن عمار قال ، حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع ، في قوله : " فمن عُفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان " ، يقول : فمن قتل عمدًا فعفي عنه ، وأخذت منه الدية ، يقول : " فاتباع بالمعروف " ، أمِر صاحبُ الدية التي يأخذها أن يتبع بالمعروف ، وأمِر المؤدِّي أن يؤدي بإحسان.
2586 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج قال ، قلت لعطاء : قوله : " فمن عُفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان " قال ، ذلك إذا أخذ الدية ، فهو عفوٌ.
2587 - حدثنا الحسن قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج قال ، أخبرني القاسم بن أبي بزة ، عن مجاهد قال : إذا قبل الدية فقد عفا عن القصاص ، فذلك قوله : " فمن عُفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان " ، قال ابن جريج : وأخبرني الأعرج ، عن مجاهد مثل ذلك ، وزاد فيه : - فإذا قبل الدية فإن عليه أن يتبع بالمعروف ، وعلى الذي عُفى عنه أن يُؤدي بإحسان.
2588 - حدثنا المثنى قال ، حدثنا مسلم بن إبراهيم قال ، حدثنا أبو عقيل قال ، قال الحسن : أخذ الدية عفوٌ حَسن.
2589 - حدثنا يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد : " وأداء إليه بإحسان " قال ، أنتَ أيها المعفوُّ عنه.
2590 - حدثني محمد بن سعد ، قال : حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : " فمن عفي له من أخيه شيء فاتباع

(3/369)


بالمعروف وأداء إليه بإحسان " ، وهو الدية ، أن يحسن الطالب وأداء إليه بإحسان : هو أن يُحسن المطلوب الأداء.
* * *
وقال آخرون معنى قوله : " فمن عُفي " ، فمن فَضَل له فضل ، وبقيتْ له بقية. وقالوا : معنى قوله : " من أخيه شيء " : من دية أخيه شيء ، أو من أرْش جراحته ، (1) فاتباع منه القاتلَ أو الجارحَ الذي بَقي ذلك قبله - بمعروف ، وأداء من القاتل أو الجارح إليه ما بقي قبله له من ذلك بإحسان.
وهذا قول من زعم أن الآية نزلت - أعني قوله : " يا أيها الذين آمنوا كُتب عَليكم القصاص في القتلى " - في الذين تحاربوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأُمِر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يُصلح بينهم ، فيقاصَّ ديات بعضهم من بعض ، ويُردّ بعضُهم على بعض بفضل إن بَقي لهم قبل الآخرين. وأحسب أن قائلي هذا القول وَجَّهوا تأويل " العفو " - في هذا الموضع - إلى : الكثرة من قول الله تعالى ذكره : ( حَتَّى عَفَوْا ) [سورة الأعراف : 95]. فكأنّ معنى الكلام عندهم : فمن كثر له قبَل أخيه القاتل.
* ذكر من قال ذلك :
2591 - حدثني موسى بن هارون قال ، حدثنا عمرو بن حماد قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : " فمنَ عُفي له من أخيه شيء " ، يقول : بقي له من دية أخيه شَيءٌ أو من أرش جراحته ، فليتبع بمعروف ، وليؤدِّ الآخرُ إليه بإحسان.
* * *
والواجب على تأويل القول الذي روينا عن علي والحسن - في قوله : " كُتب عليكم القصاص " أنه بمعنى : مُقاصّة دية النفس الذكَر من دية نَفس الأنثى ، والعبد من الحر ، والتراجع بفضل ما بين ديتي أنفسهما - أن يكون معنى قوله :
__________
(1) الأرش : دية الجنايات والجراحات كالشجة ونحوها .

(3/370)


" فمنْ عُفي له من أخيه شيء " ، فمن عُفي له من الواجب لأخيه عليه - من قصَاص دية أحدهما بدية نفس الآخر ، إلى الرِّضى بدية نفس المقتول ، فاتباع من الوليّ بالمعروف ، وأداء من القاتل إليه ذلك بإحسان.
* * *
قال أبو جعفر : وأولى الأقوال عندي بالصواب في قوله : " فمن عُفي له من أخيه شيء " : فمن صُفح له - من الواجب كان لأخيه عليه من القود - عن شيء من الواجب ، على دية يأخذها منه ، فاتباعٌ بالمعروف من العافي عن الدم ، الراضي بالدية من دم وليه وأداء إليه - من القاتل - ذلك بإحسان. لما قد بينا من العلل فيما مضى قبل : من أنّ معنى قول الله تعالى ذكره : " كُتب عليكم القصاص " ، إنما هو القصَاص من النفوس القاتلة أو الجارحة أو الشاجَّة عمدًا. كذلك " العفو " أيضًا عن ذلك.
وأما معنى قَوله : " فاتباع بالمعروف " ، فإنه يعني : فاتباع على ما أوجبه الله لهُ من الحقّ قبَل قاتل وليه ، من غير أن يزداد عليه ما ليس له عليه - في أسنان الفرائض أو غير ذلك (1) - أو يكلفه ما لم يوجبه الله له عليه ، كما : -
2592 - حدثني بشر بن معاذ قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قال : بلغنا عن نبي الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " من زاد أو ازداد بعيرًا " - يعني في إبل الديات وفرائضها - فمن أمر الجاهلية. (2)
* * *
وأما إحسان الآخر في الأداء ، فهو أداءُ ما لَزِمه بقتله لولي القتيل ، على
__________
(1) الفرائض جمع فريضة : وهو البعير المأخوذ في الزكاة ، سمى فريضة لأنه فرض واجب على رب المال ، ثم اتسع فيه حتى سمى البعير فريضة في غير الزكاة .
(2) الحديث : 2592 - هذا حديث مرسل ، إذ يرويه " قتادة " ، وهو تابعي . ولم أجده في مكان آخر ولا ذكره السيوطي .

(3/371)


ما ألزمه الله وأوجبه عليه ، من غير أن يبخسه حقًّا له قبله بسبب ذلك ، أو يحوجه إلى اقتضاءٍ ومطالبة.
* * *
فإن قال لنا قائل : وكيف قيل : " فاتباعٌ بالمعروف وأداء إليه بإحسان " ، ولم يَقل فاتباعًا بالمعروف وأداءً إليه بإحسان ، كما قال : ( فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ ) [سورة محمد : 4] ؟ قيل : لو كان التنزيل جاء بالنصب ، وكان : فاتباعًا بالمعروف وأداءً إليه بإحسان - كان جائزًا في العربية صحيحًا ، على وجْه الأمر ، كما يقال : " ضربًا ضَربًا وإذا لقيت فلانًا فتبجيلا وتعظيمًا " ، غير أنه جاءَ رفعًا ، وهو أفصح في كلام العرب من نصبه. وكذلك ذلك في كل ما كان نظيرًا له ، مما يكون فرضًا عامًّا - فيمن قد فعل ، وفيمن لم يفعل إذا فعل - لا ندبًا وحثًّا. ورفعه على معنى : فمن عفي له من أخيه شيء ، فالأمر فيه : اتباعٌ بالمعروف وأداءٌ إليه بإحسان ، أو فالقضاء والحكم فيه : اتباع بالمعروف.
وقد قال بعض أهل العربية : رفع ذلك على معنى : فمن عفي له من أخيه شيء ، فعليه اتباعٌ بالمعروف. وهذا مذهب ، والأول الذي قلناه هو وجه الكلام. وكذلك كلّ ما كان من نظائر ذلك في القرآن ، فإن رفعَه على الوجه الذي قُلناه. وذلك مثل قوله : ( وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ ) [سورة المائدة : 95] ، وقوله : ( فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ ) [سورة البقرة : 229]. وأما قوله : ( فَضَرْبَ الرِّقَابِ ) ، فإن الصواب فيه النصب ، وهو وجه الكلام ، لأنه على وجه الحثّ من الله تعالى ذكره عبادَه على القتل عند لقاء العدو ، كما يقال : " إذا لقيتم العدو فتكبيرًا وتهليلا " ، على وجه الحضّ على التكبير ، لا على وجه الإيجاب والإلزام. (1)
* * *
__________
(1) انظر معاني القرآن للفراء 1 : 109 - 110 .

(3/372)


القول في تأويل قوله تعالى : { ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ }
قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بقوله : " ذلك " ، هذا (1) الذي حكمت به وسَننته لكم ، من إباحتي لكم - أيتها الأمة - العفوَ عن القصاص من قاتل قتيلكم ، على دية تأخذونها فتملكونها ملككم سائر أموالكم التي كنت مَنعتها مَن قبلكم من الأمم السالفة " تخفيف من ربكم " ، يقول : تخفيف مني لكم مما كنت ثَقَّلته على غيركم ، بتحريم ذلك عليهم " ورحمة " ، مني لكم. كما : -
2593 - حدثنا أبو كريب وأحمد بن حماد الدولابي قالا حدثنا سفيان ، عن عمرو بن دينار ، عن مجاهد ، عن ابن عباس قال : كان في بني إسرائيل القصاصُ ولم تكن فيهم الدية ، فقال الله في هذه الآية : " كُتب عليكم القصاصُ في القتلى الحر بالحر " إلى قوله : " فمَن عُفي له من أخيه شيء " ، فالعفو : أن يقبل الدية في العمد " ذلك تخفيف من ربكم " . يقول : خفف عنكم ما كان على مَنْ كان قبلكم : أن يطلب هذا بمعروف ، ويؤدي هذا بإحسان. (2)
__________
(1) انظر " ذلك " بمعنى " هذا " 1 : 235 - 237 / ثم هذا الجزء 3 : 335 .
(2) الحديث : 2593 - أحمد بن حماد بن سعيد بن مسلم الأنصاري الرازي الدولابي : هو والد " أبي بشر محمد بن أحمد الدولابي " صاحب كتاب الكنى والأسماء . وقد رفعنا نسبه نقلا عن تذكرة الحفاظ 2 : 291في ترجمة ابنه الحافظ . وأحمد بن حماد هذا : ثقة ، ترجمه ابن أبي حاتم1/1/49 ، فلم يذكر فيه جرحًا ، وذكر أن أباه أبا حاتم سمع منه .
سفيان : هو ابن عيينة .
والحديث رواه عبد الرزاق في تفسيره ، ص : 16 ، بنحوه . بإسنادين : عن معمر ، عن أبي نجيح ، عن مجاهد . وعن ابن عيينة - كالإسناد هنا إلى مجاهد - عن ابن عباس .
ورواه البخاري 12 : 183 (فتح) ، عن قتيبة بن سعيد ، عن سفيان . بهذا الإسناد .
وذكره السيوطي1 : 173 ، وزاد نسبته لسعيد بن منصور ، وابن أبي شيبة ، والنسائي ، وابن أبي حاتم ، وابن حبان ، وغيرهم .
وذكره ابن كثير 1 : 394 ، من رواية سعيد بن منصور ، عن سفيان . ثم قال : " وقد رواه غير واحد عن عمرو . وأخرجه ابن حبان في صحيحه عن عمرو بن دينار " . فقد سها - رحمه الله - عن أن البخاري رواه في صحيحه ، فنسبه لصحيح ابن حبان ، ولم يذكر البخاري .

(3/373)


2594 - حدثنا محمد بن علي بن الحسن بن شقيق قال ، حدثنا أبي قال ، حدثنا عبد الله بن المبارك ، عن محمد بن مسلم ، عن عمرو بن دينار ، عن مجاهد ، عن ابن عباس قال : كان مَنْ قبلكم يقتلون القاتل بالقتيل ، لا تقبل منهم الدّية ، فأنزل الله : " يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر " إلى آخر الآية ، " ذلك تخفيفٌ من ربكم " ، يقول : خفف عنكم ، وكان على مَنْ قبلكم أنّ الدية لم تكن تقبل ، فالذي يَقبل الدية ذلك منه عَفوٌ.
2595 - حدثني المثنى قال ، حدثنا الحجاج بن المنهال قال ، حدثنا حماد بن سلمة قال ، أخبرنا عمرو بن دينار ، عن جابر بن زيد ، عن ابن عباس : " ذلك تخفيف من ربكم ورحمة " - مما كان على بني إسرائيل ، يعني : من تحريم الدية عليهم.
2596 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، عن ابن عباس قال : كان على بني إسرائيل قصاص في القتل ، ليس بينهم دية في نَفس ولا جَرْح ، وذلك قول الله : ( وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ ) الآية كلها [سورة المائدة : 45] ، وخفف الله عن أمة محمد صلى الله عليه وسلم ، فقبل منهم الدية في النفس وفي الجراحة ، وذلك قوله تعالى : " ذلك تخفيفٌ من ربكم " بينكم.
2597 - حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : " ذلك تخفيف من ربكم ورحمة " ، وإنما هي رحمة رَحم الله بها هذه الأمة ، أطعمهم الدية ، وأحلَّها لهم ، ولم تحلَّ لأحد قبلهم. فكان أهل التوراة إنما هو القصاص أو العفو ، وليس بينهما أرْش ، وكان أهل الإنجيل إنما هو عفوٌ ، أمروا به. فجعل الله لهذه الأمة القوَد والعفو والدية إن شاءوا ، أحلها لهم ، ولم تكن لأمة قبلهم.
2598 - حدثت عن عمار بن الحسن قال ، حدثنا ابن أبي جعفر ، عن

(3/374)


أبيه ، عن الربيع بمثله سواء ، غير أنه قال : ليس بينهما شيء.
2599 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : " كتب عليكم القصاص في القتلى " قال ، لم يكن لمن قبلنا دية ، إنما هو القتل أو العفو إلى أهله. فنزلت هذه الآية في قوم كانوا أكثرَ من غيرهم.
2600 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج قال ، وأخبرني عمرو بن دينار ، عن ابن عباس قال : إنّ بني إسرائيل كان كتب عليهم القصاص ، وخفف عن هذه الأمة - وتلا عمرو بن دينار : " ذلك تخفيف من رَبكم ورحمة " .
* * *
وأما على قول من قال : القصاص في هذه الآية معناه : قصاصُ الديات بعضها من بعض ، على ما قاله السدي ، فإنه ينبغي أن يكون تأويله : هذا الذي فعلتُ بكم أيها المؤمنون من قصاص ديات قَتلى بعضكم بديات بعض ، وترك إيجاب القوَد على الباقين منكم بقتيله الذي قَتله وأخذه بديته تخفيفٌ منّي عنكم ثِقْلَ ما كان عليكُم من حكمي عليكم بالقوَد أو الدية ، ورحمة مني لكم.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ (178) }
قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بقوله : " فمن اعتدى بعد ذلك " ، فمن تجاوز ما جَعله الله له بعدَ أخذه الدّية ، اعتداءً وظلمًا إلى ما لم يُجعل له من قتل قاتِل وليه وسفك دمه ، فله بفعله ذلك وتعدِّيه إلى ما قد حرمته عليه ، عذابٌ أليم.

(3/375)


وقد بينت معنى " الاعتداء " فيما مضى بما أغنى عن إعادته. (1) وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
2601 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : " فمن اعتدى بعد ذلك " ، فقتل ، " فله عذابٌ أليم " .
2602 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : " فمن اعتدى " ، بعد أخذ الدية ، " فله عذاب أليم " .
2603 - حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا يزيد بن زريع ، عن سعيد ، عن قتادة قوله : " فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم " ، يقول : فمن اعتدى بعد أخذه الدية فقتل ، فله عذاب أليم. قال : وذُكِر لنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول : " لا أعافي رجلا قَتل بَعد أخذه الدية. (2)
__________
(1) انظر ما سلف 2 : 307 .
(2) الحديث : 2603 - وهذا رواه أيضًا قتادة - التابعي - مرفوعًا ، فهو مرسل . وكذلك ذكره السيوطي 1 : 173 ، عن قتادة ، ونسبه للطبري وابن المنذر فقط .
وقد روى المرفوع منه - عبد الرزاق في تفسيره ، ص : 16 ، عن معمر ، عن قتادة مرسلا أيضًا .
ثم ذكر السيوطي اللفظ المرفوع ، ونسبه لسمويه في فوائده ، عن سمره . وقد قصر فيه جدًا ، كما قصر في الجامع الصغير : 9701 ، إذ ذكره أيضًا ، ونسبه للطيالسي - فقط - عن جابر ، يعني جابر بن عبد الله .
وحديث الطيالسي - عن جابر - : هو في مسنده : 1763 ، عن حماد بن سلمة ، عن مطر الوراق ، عن رجل ، عن جابر ، فذكره مرفوعًا .
وقد رواه أحمد في المسند : 14968 ، عن عفان ، عن حماد بن سلمة : " أخبرنا مطر ، عن رجل ، أحسبه الحسن ، عن جابر بن عبد الله " . وكذلك رواه أبو داود في السنن : 4507 ، عن موسى بن إسماعيل ، عن حماد بن سلمة ، به .
فتقصير السيوطي : أن نسبه للطيالسي وحده ، وهو في أحد الكتب الستة ومسند أحمد .
وعلى كل حال ، فحديث جابر ضعيف ، لأن إسناده رجلا مبهمًا ، أو رجل شك فيه مطر الوراق .
وحديث الحسن عن سمرة ، ذكره أيضًا ابن كثير 1 : 395 قال ، " وقال سعيد بن أبي عروبة ، عن قتادة ، عن الحسن ، عن سمرة . . . " ، فذكره مرفوعًا .
فهذا إسناد يمكن أن يكون صحيحًا ، لو علمنا إسناده إلى سعيد بن أبي عروبة ، ومن الذي رواه من طريقه ؟ إذا لم أجده بعد طول البحث . ولو وجدناه لكان وصلا لهذا المرسل الذي رواه الطبري من طريق سعيد بن أبي عروبة عن قتادة .

(3/376)


2604 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : " فمن اعتدى بعد ذلك " قال ، هو القتل بعد أخذ الدية. يقول : من قتل بعد أنْ يأخذ الدية فعليه القتلُ ، لا تُقبلُ منه الدية. (1)
2605 - حدثت عن عمار بن الحسن قال ، حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع قوله : " فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم " ، يقول : فمن اعتدى بعد أخذه الديةَ ، فله عذاب أليم.
2606 - حدثنا سفيان بن وكيع قال ، حدثني أبي ، عن يزيد بن إبراهيم ، عن الحسن قال ، كان الرجل إذا قتل قتيلا في الجاهلية فرَّ إلى قومه ، فيجيء قومه فيصالحون عنه بالدية قال ، فيخرج الفارُّ وقد أمن على نفسه قال ، فيُقتل ثم يُرْمى إليه بالدية ، فذلك " الاعتداء " .
2607 - حدثني المثنى قال ، حدثنا مسلم بن إبراهيم قال ، حدثنا أبو عقيل قال ، سمعت الحسن في هذه الآية : " فمن عُفي لهُ من دم أخيه شيء " قال ، القاتلُ إذا طُلب فلم يُقدر عليه ، وأُخِذ من أوليائه الدية ، ثم أمن ، فأخِذ فقُتِل. قال الحسن : ما أكل عُدوانٌ.
2608 - حدثني المثنى قال ، حدثنا مسلم قال ، حدثنا القاسم قال ، حدثنا هارون بن سليمان قال ، قلت لعكرمة : من قتل بعد أخذه الدية ؟ قال : إذًا يُقتل! أما سمعت الله يقول : " فمن اعتدى بعدَ ذلك فله عذابٌ أليم " ؟
2609 - حدثني موسى بن هارون قال ، حدثنا عمرو قال ، حدثنا أسباط ،
__________
(1) الخبر : 2604 - رواه الطبري من طريق عبد الرزاق . وهو في تفسيره ، ص 16 ، بهذا الإسناد .

(3/377)


عن السدي : " فمن اعتدى بعد ذلك " ، بعد مَا يأخذ الدية ، فيقتل " فلا عذابٌ أليم " .
2610 - حدثني محمد بن سعد قال ، حدثنى أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : " فمن اعتدى بعد ذلك " ، يقول : فمن اعتدى بعد أخذه الدية ، فله عذاب أليم.
2611 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد في قوله : " فمن اعتدى بعد ذلك فله عذابٌ أليم " قال ، أخذ العَقْل ، ثم قَتل بعد أخذ العقل قاتلَ قتيله ، فله عذاب أليم.
* * *
واختلفوا في معنى " العذاب الأليم " الذي جعله الله لمن اعتدى بعد أخذه الدية من قاتل وليِّه.
فقال بعضهم : ذلك " العذابُ " هو القتلُ بمن قتله بعد أخذ الدية منه ، وعفوه عن القصاص منه بدم وليِّه.
* ذكر من قال ذلك :
2612 - حدثني يعقوب بن إبراهيم الدورقي قال ، حدثنا هشيم قال ، أخبرنا جويبر ، عن الضحاك في قوله : " فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم " قال ، يقتل ، وهو العذاب الأليم يقول : العذاب المُوجع.
2613 - حدثني يعقوب قال ، حدثني هشيم قال ، حدثنا أبو إسحاق ، عن سعيد بن جبير أنه قال ذلك.
2614 - حدثني المثنى قال ، حدثنا مسلم بن إبراهيم قال ، حدثنا القاسم قال ، حدثنا هارون بن سليمان ، عن عكرمة : " فمن اعتدى بعد ذلك فله عذابٌ أليم " قال ، القتلُ.
* * *
وقال بعضهم : ذلك " العذابُ " عقوبة يعاقبه بها السلطان على قدر ما يَرَى من عقوبته.

(3/378)


* ذكر من قال ذلك :
2615 - حدثني القاسم بن الحسن قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج قال ، قال ابن جريج ، أخبرني إسماعيل بن أمية ، عن الليث غير أنه لم ينسبه ، وقال : ثقة : أن النبي صلى الله عليه وسلم أوجبَ بقسَمٍ أو غيره أن لا يُعفي عن رَجل عَفا عن الدم وأخذ الدية ، ثم عَدا فَقتل ، قال ابن جريج : وأخبرني عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز قال : في كتاب لعمرَ عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ، و " الاعتداء " الذي ذكر الله : أنّ الرجل يأخذ العقلَ أو يقتصُّ ، أو يقضي السلطان فيما بين الجراح ، ثم يعتدي بعضُهم من بعد أن يستوعبَ حقه. فمن فعل ذلك فقد اعتدى ، والحكم فيه إلى السلطان بالذي يرى فيه من العقوبة قال : ولو عفا عنه ، لم يكن لأحد من طلبة الحق أن [يعفو] (1) لأن هذا من الأمر الذي أنزل الله فيه قوله : ( فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ ) [سورة النساء : 59]. (2)
2616 - حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا عبد الواحد بن زياد ، عن يونس ،
__________
(1) الذي بين القوسين ، هكذا في الأصل . وصوابه فيما أرجح " أن يقتله " . ولم أجد الخبر ، ولا كتاب عمر الذي ذكره .
(2) الحديث : 2615 - هو في الحقيقة حديثان ، رواهما ابن جريج ، ولم أجدهما في مكان آخر . ولكني لا أسيغ لفظهما أن يكون من ألفاظ النبوة ، ولا عليه شيء من نورها . وهو بألفاظ الفقهاء أشبه!
فأولهما : رواه ابن جريج ، عن إسماعيل بن أمية ، عن رجل اسمه " الليث " : " غير أنه لم ينسبه " - فلا أعرف من " الليث " هذا ؟ وأما إسماعيل بن أمية : فإنه ثقة ، يروي عن التابعين . مترجم في التهذيب . والكبير 1/51/34 ، وابن أبي حاتم 1/1/159 ، ونسب قريش : 182 ، وجمهرة الأنساب لابن حزم : 74 .
وثانيهما : رواه ابن جريج ، عن عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز ، عن " كتاب لعمر عن النبي صلى الله عليه وسلم " . والظاهر أنه يريد كتابًا لعمر بن عبد العزيز . ومن المحتمل أن يكون كتابًا لعمر بن الخطاب .
وعبد العزيز بن أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز : ثقة ، وثقه ابن معين وغيره . مترجم في التهذيب . وابن أبي حاتم 2/2/389 .

(3/379)


عن الحسن : في رجل قُتل فأخذت منه الدية ، ثم إن وليَّه قَتل به القاتل. قال الحسن : تؤخذ منه الدية التي أخذ ، ولا يُقتل به. (1)
* * *
قال أبو جعفر : وأولى التأويلين بقوله : " فمن اعتدى بعد ذلك فله عذابٌ أليم " ، تأويلُ من قال : فمن اعتدى بعد أخذه الدية ، فَقتلَ قاتلَ وليه ، فله عذاب أليم في عاجل الدنيا ، وهو القتل. لأن الله تعالى جعل لكل وليِّ قتيلٍ قُتل ظلمًا ، سلطانًا على قاتل وليه ، فقال تعالى ذكره( وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ ) [سورة الإسراء : 33]. فإذ كان ذلك كذلك : وكان الجميع من أهل العلم مجمعين على أن من قَتل قاتلَ وليه بعد عفوه عنه وأخذِه منه دية قتيله ، أنه بقتله إياه له ظالم في قتله - كان بَيِّنًا أن لا يولِّي من قَتله ظُلمًا كذلك ، السلطانَ عليه في القصاص والعفو وأخذ الدية ، أيّ ذلك شاء. (2) وَإذا كان ذلك كذلك ، كان معلومًا أن ذلك عذابُه ، لأن من أقيم عليه حدُّه في الدنيا ، كان ذلك عقوبته من ذنبه ، ولم يكن به متَّبَعًا في الآخرة ، على ما قد ثبت به الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. (3)
__________
(1) الخبر : 2616 - بشر بن معاذ ، شيخ الطبري ، مضى في : 352 . ونزيد هنا أنه ثقة معروف ، مترجم في التهذيب ، وابن أبي حاتم 1/1/368 ، وذكر أن أباه كتب عنه ، وأنه سئل عنه ، فقال : " صالح الحديث صدوق " . وهو يروي عن قدماء الشيوخ ، مثل " حماد بن زيد " المتوفى سنة 179 ، وعبد الواحد بن زياد ، شيخه هنا ، المتوفى تلك السنة .
عبد الواحد بن زياد العبدي البصري : أحد الأعلام الثقات . مترجم في التهذيب ، والصغير للبخاري : 202 ، وذكر أنه مات سنة 179 ، وابن أبي حاتم 3/1/20 - 21 ، وابن سعد 7/2/44 .
يونس : هو ابن عبيد بن دينار العبدي ، وهو ثقة ، من أوثق أصحاب الحسن وأثبتهم . مترجم في التهذيب . والكبير 4/2/402 ، والصغير : 160 ، وابن سعد 7/2/23 - 24 ، وابن ابي حاتم 4/2/242 .
(2) في هذه العبارة غموض ، وأخشى أن يكون قد سقط من الكلام شيء ، ولكن المعنى العام ظاهر .
(3) كالذي رواه البخاري من حديث عبادة بن الصامت قال : " بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم في رهط فقال : أبايعكم على أن لا تشركوا بالله شيئًا ، ولا تسرقوا ، ولا تقتلوا أولادكم ، ولا تأتوا ببهتان تفترونه بين أيديكم وأرجلكم ، ولا تعصوني في معروف . فمن وفى منكم فأجره على الله ، ومن أصاب من ذلك شيئًا فأخذ به في الدنيا ، فهو كفارة له وطهور ، ومن ستره الله فذلك إلى الله ، إن شاء عذبه وإن شاء غفر له " (البخاري : كتاب الحدود 8 : 162) .

(3/380)


وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (179) كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (180)

وأما ما قاله ابن جريج : من أن حكم من قَتل قاتل وَليِّه بعد عفوه عنه ، وأخذِه دية وليِّه المقتول - إلى الإمام دُون أولياء المقتول ، فقولٌ خلافٌ لما دلَّ عليه ظاهرُ كتاب الله ، وأجمع عليه علماء الأمة. وذلك أنّ الله جعل لوليّ كل مقتول ظلمًا السلطانَ دون غيره ، من غير أن يخصّ من ذلك قتيلا دون قتيل. فسواءٌ كان ذلك قتيلَ وليّ من قتله أو غيره. ومن خص من ذلك شيئًا سئل البرهان عليه من أصلٍ أو نظير ، وعُكِس عليه القول فيه ، ثم لن يقول في شيء من ذلك قولا إلا ألزم في الآخر مثله. ثم في إجماع الحجة على خلاف ما قاله في ذلك ، مكتفًى في الاستشهاد على فساده بغيره.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الألْبَابِ }
قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بقوله : " ولكم في القصَاص حَياةٌ يا أولي الألباب " ، ولكم يا أولي العقول ، فيما فرضتُ عليكم وأوجبتُ لبعضكم على بعض ، من القصاص في النفوس والجراح والشجاج ، مَا مَنع به بعضكم من قتل بعض ، وقَدَع بعضكم عن بعض ، فحييتم بذلك ، فكان لكم في حكمي بينكم بذلك حياة. (1)
* * *
واختلف أهل التأويل في معنى ذلك.
فقال بعضهم في ذلك نحو الذي قلنا فيه.
* ذكر من قال ذلك :
__________
(1) قدعه يقدعه قدعًا : كفه . ومنه : " اقدعوا هذه الأنفس فإنها طلعة " ، أي كفوها عما تشتهي وتريد .

(3/381)


2617 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : " ولكم في القصَاص حياةٌ يا أولي الألباب " قال ، نكالٌ ، تَناهٍ.
2618 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا ابن أبي زائدة ، عن ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : " ولكم في القصاص حياة " قال ، نكالٌ ، تَناهٍ.
2619 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد مثله.
2620 - حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا يزيد ، عن سعيد ، عن قتادة : " ولكم في القصاص حياة " ، جعل الله هذا القصاص حياة ، ونكالا وعظةً لأهل السفه والجهل من الناس. وكم من رجل قد هَمّ بداهية ، لولا مخافة القصاص لوقع بها ، ولكن الله حَجز بالقصاص بعضهم عن بعض ؛ وما أمر الله بأمر قط إلا وهو أمر صلاح في الدنيا والآخرة ، ولا نهي الله عن أمر قط إلا وهو أمر فساد في الدنيا والدين ، والله أعلم بالذي يُصلح خَلقه.
2621 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : " ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب " قال ، قد جعل الله في القصاص حياة ، إذا ذكره الظالم المتعدي كفّ عن القتل.
2622 - حدثت عن عمار بن الحسن قال ، حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع قوله : " ولكم في القصاص حياة " الآية ، يقول : جعل الله هذا القصاص حياة وعبرة لكم. كم من رجل قد هَمّ بداهية فمنعه مخافة القصاص أن يقع بها! وإن الله قد حجز عباده بعضهم عن بعض بالقصاص.
2623 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد قوله : " ولكم في القصاص حياة " قال ، نكالٌ ، تناهٍ. قال ابن جريج : حَياةٌ. مَنعةٌ.

(3/382)


2624 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد في قوله : " ولكم في القصاص حياة " قال ، حياةٌ ، بقية. (1) إذا خاف هذا أن يُقتل بي كفّ عني ، لعله يكون عدوًّا لي يريد قتلي ، فيذكر أن يُقْتَل في القصاص ، فيخشى أن يقتل بي ، فيكفَّ بالقصاص الذي خافَ أن يقتل ، لولا ذلك قتل هذا.
2625 - حدثت عن يعلى بن عبيد قال ، حدثنا إسماعيل ، عن أبي صالح في قوله : " ولكم في القصاص حياة " قال ، بقاء.
* * *
وقال آخرون : معنى ذلك : ولكم في القصاص من القاتل بقاء لغيره ، لأنه لا يقتل بالمقتول غيرُ قاتله في حكم الله. وكانوا في الجاهلية يقتلون بالأنثى الذكر ، وبالعبد الحرّ.
* ذكر من قال ذلك :
2626 - حدثني موسى بن هارون قال ، حدثنا عمرو بن حماد قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : " ولكم في القصاص حياة " ، يقول : بقاء ، لا يقتل إلا القاتل بجنايته.
* * *
وأما تأويل قوله : " يا أولي الألباب " ، فإنه : يا أولي العقول. " والألباب " جمع " اللب " ، و " اللب " العقل.
* * *
وخص الله تعالى ذكره بالخطاب أهلَ العقول ، لأنهم هم الذين يعقلون عن الله أمره ونهيه ، ويتدبّرون آياته وحججه دونَ غيرهم.
* * *
__________
(1) بقية : أي إبقاء . وأخشى أن تكون " تقية " بالتاء ، أي اتقاء ، كما يدل عليه سائر الأثر . وكلتاهما صحيحة المعنى .

(3/383)


القول في تأويل قوله تعالى : { لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (179) }
قال أبو جعفر : وتأويل قوله : " لعلكم تتقون " ، أي تتقون القصاص ، فتنتَهون عن القتل ، كما : -
269 - حدثني به يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد في قوله : " لعلكم تتقون " قال ، لعلك تَتقي أن تقتله ، فتقتل به.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (180) }
قال أبو جعفر : يعني بقوله تعالى ذكره : " كُتب عليكم " ، فُرض عليكم ، أيها المؤمنون ، الوصية إذا حضر أحدكم الموتُ إن تَرَك خَيرًا - والخير : المال للوالدين والأقربين الذين لا يرثونه ، بالمعروف : وهو مَا أذن الله فيه وأجازه في الوصية مما لم يجاوز الثلث ، ولم يتعمّد الموصي ظُلم وَرَثته حقًّا على المتقين يعني بذلك : فرض عليكم هذا وأوجبه ، وجعله حقًّا واجبًا على من اتقى الله فأطاعه أن يعمل به.
* * *
فإن قال قائل : أوَفرضٌ على الرجل ذي المال أن يُوصى لوالديه وأقربيه الذين لا يرثونه ؟
قيل : نعم.

(3/384)


فإن قال : فإن هو فرَّط في ذلك فلم يوص لهم ، أيكون مضيِّعًا فرضًا يَحْرَج بتضييعه ؟
قيل : نعم.
فإن قال : وما الدلالة على ذلك ؟
قيل : قول الله تعالى ذكره : " كُتبَ عليكم إذا حَضر أحدكم الموتُ إن تَرَك خيرًا الوصيَّةُ للوالدين والأقربين " ، فأعلم أنه قد كتبه علينا وفرَضه ، كما قال : ( كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ ) [سورة البقرة : 183] ، ولا خلاف بين الجميع أن تارك الصيام وهو عليه قادر ، مضيع بتركه فرضًا لله عليه. فكذلك هو بترك الوصية لوالديه وأقربيه ولهُ ما يوصي لهم فيه ، مُضِيعٌ فَرْضَ الله عز وجل.
فإن قال : فإنك قد علمت أن جماعة من أهل العلم قالوا : الوصيةُ للوالدين والأقربين منسوخةٌ بآية الميراث ؟
قيل له : وخالفهم جماعةٌ غيرهم فقالوا : هي محكمةٌ غيرُ منسوخة. وإذا كان في نسخ ذلك تنازع بين أهل العلم ، لم يكن لنا القضاءُ عليه بأنه منسوخٌ إلا بحجة يجب التسليم لها ، إذ كان غير مستحيل اجتماعُ حكمُ هذه الآية وحكمُ آية المواريث في حال واحدةٍ على صحة ، بغير مدافعةِ حكم إحداهما حُكمَ الأخرى - وكان الناسخ والمنسوخ هما المعنيان اللذان لا يجوز اجتماع حكمهما على صحة في حالة واحدة ، لنفي أحدهما صَاحبه.
وبما قلنا في ذلك قال جماعة من المتقدمين والمتأخرين.
* ذكر من قال ذلك :
2628 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال ، حدثنا هشيم ، عن جويبر ، عن الضحاك أنه كان يقول : من مات ولم يُوص لذوي قرابته. فقد ختم عمله بمعصية.
2629 - حدثني سَلم بن جنادة. (1) قال ، حدثنا أبو معاوية عن الأعمش ،
__________
(1) في المطبوعة : " سالم بن جنادة " . وهو خطأ . وقد مضى مرارًا ، وانظر ترجمته في رقم : 48 .

(3/385)


عن مسلم ، عن مسروق : أنه حضر رجلا فوصَّى بأشياء لا تنبغي ، فقال له مسروق : إنّ الله قد قسم بينكم فَأحسن القَسْم ، وإنه من يرغب برأيه عن رَأي الله يُضِلّه ، أوصِ لذي قرابتك ممن لا يرثك ، ثم دع المال على ما قسمه الله عليه.
2630 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا أبو تميلة يحيى بن واضح قال ، حدثنا عبيد ، عن الضحاك قال : لا تجوز وصية لوارث ، ولا يُوصي إلا لذي قرابة ، فإن أوصَى لغير ذي قرابة فقد عمل بمعصية ؛ إلا أن لا يكون قرابة ، فيوصي لفقراء المسلمين.
2631 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا جرير ، عن مغيرة قال : العجبُ لأبي العالية أعتقته امرأة من بني رياح وأوصى بماله لبني هاشم!
2632 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا جرير ، عن رجل ، عن الشعبي قال : لم يكن له [مَوَال] ، ولا كرامة. (1)
2633 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال ، حدثنا ابن علية قال ، حدثنا
__________
(1) في المطبوعة : " لم يكن له حال ولا كرامة " . وهو خطأ بلا شك عندي . فإن هذا الخبر تعليق على الخبر السالف الذي تعجب فيه المغيرة من فعل أبي العالية : أعتقته امرأة من بني رياح ، وأوصى بماله لبني هاشم! فرد الشعبي تعجب المغيرة فقال : إن أبا العالية لا موالي له ، ولا كرامة لأحد .
وخبر ذلك أن أبا العالية اشترته امرأة ، ثم ذهبت به إلى المسجد ، فقبضت على يده . فقالت : اللهم اذخره عندك ذخيرة ، اشهدوا يا أهل المسجد أنه سائبة لله ، ليس لأحد عليه سبيل إلا سبيل معروف . قال أبو العالية : والسائبة يضع نفسه حيث شاء . (ابن سعد 7/1/81) .
والسائبة : العبد يعتق على أن لا ولاء له . واختلف الفقهاء في ميراث السائبة ، إذا ترك ميراثًا : أيرثه معتقه ، أم لا يحل له أن يرزأ من ماله شيئًا ؟ قيل : لما هلك أبو العالية أتى مولاه بميراثه ، فقال : هو سائبة! وأبى أن يأخذه . وفي حديث عمر : " السائبة والصدقة ليومهما " قال أبو عبيدة : أي ليوم القيامة ، واليوم الذي كان أعتق سائبته وتصدق بصدقة فيه . يقول : فلا يرجع إلى الانتفاع بشيء منها بعد ذلك في الدنيا . وانظر ترجمة سالم مولى أبي حذيفة (ابن سعد 3/1/60) فقد كان سائبة ، وقتل يوم اليمامة في عهد أبي بكر ، فأرسل أبو بكر ماله لمولاته فأبت أن تقبله ، فجعله عمر في بيت المال .
فهذا ما أراد الشعبي أن يقول : إن أبا العالية سائبة ، فهو لا موالي له ، وماله يضعه حيث شاء ، ولا كراهة في ذلك لأحد من الموالي ، لأن ذلك هو حكم السائبة .
هذا ما رأيت في تصحيح هذه الجملة ، ولم أجدها في مكان آخر ، فأسأل الله أن أكون قد بلغت التوفيق ، وجنبت الزلل .

(3/386)


أيوب ، عن محمد قال : قال عبد الله بن معمر في الوصية : من سمَّى ، جعلناها حَيثُ سَمَّي - ومن قال : حيثُ أمرَ الله ، جعلناها في قرابته.
2634 - حدثني محمد بن عبد الأعلى الصنعاني قال ، حدثنا المعتمر قال ، حدثنا عمران بن حُدير (1) قال : قلت لأبي مجلز : الوصية على كل مسلم واجبةٌ ؟ قال : على من تركَ خيرًا.
2635 - حدثنا سوّار بن عبد الله قال ، حدثنا عبد الملك بن الصباح قال ، حدثنا عمران بن حدير (2) قال : قلت للاحق بن حُميد : الوصية حق على كل مسلم ؟ قال : هي حق على من ترك خيرًا.
* * *
واختلف أهل العلم في حكم هذه الآية.
فقال بعضهم : لم ينسخ الله شيئًا من حكمها ، وإنما هي آية ظاهرُها ظاهرُ عموم في كل والد ووالدة والقريب ، والمرادُ بها في الحكم البعضُ منهم دون الجميع ، وهو من لا يرث منهم الميت دون من يَرث. وذلك قول من ذكرت قوله ، وقول جماعة آخرين غيرهم مَعهم.
ذكر قول من لم يُذْكَر قولُه منهم في ذلك :
2636 - حدثنا محمد بن بشار قال ، حدثنا معاذ بن هشام قال ، حدثني أبي ، عن قتادة ، عن جابر بن زيد : في رجل أوصى لغير ذي قرابة وله قرابةٌ محتاجون ، قال : يُرَدّ ثلثا الثلث عليهم ، وثلث الثلث لمن أوصى له به.
2637 - حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا معاذ قال ، حدثنا أبي ، عن قتادة ، عن الحسن وجابر بن زيد وعبد الملك بن يعلى أنهم قالوا - في الرجل يُوصي لغير ذي
__________
(1) في المطبوعة : " عمران بن جرير " ، وهو خطأ ، والصواب ما أثبت . وهو عمران بن حدير السدوسي أبو عبيده البصري ، صلى على جنازة خلف أنس . روى عن أبي مجلز ، وأبي قلابة ، وغيرهما وعنه
وأبو مجلز ، هو لاحق بن حميد ، المذكور في الإسناد التالي .
(2) في المطبوعة : " عمران بن جرير " ، وهو خطأ ، والصواب ما أثبت . وهو عمران بن حدير السدوسي أبو عبيده البصري ، صلى على جنازة خلف أنس . روى عن أبي مجلز ، وأبي قلابة ، وغيرهما وعنه
وأبو مجلز ، هو لاحق بن حميد ، المذكور في الإسناد التالي .

(3/387)


قرابته وله قرابة ممن لا يرثه قال ، كانوا يجعلون ثُلثي الثلث لذوي القرابة ، وثلث الثلث لمن أوصى له به.
2638 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال ، حدثنا هشيم قال ، أخبرنا حميد ، عن الحسن أنه كان يقول : إذا أوصى الرجل لغير ذي قرابته بثُلثه فلهم ثلث الثلث ، وثلثا الثلث لقرابته.
2639 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال أخبرنا معمر ، عن ابن طاوس ، عن أبيه قال : من أوصى لقوم وسماهم ، وترك ذوي قرابته محتاجين ، انتُزِعتْ منهم وَرُدَّتْ إلى ذوي قرابته.
* * *
وقال آخرون : بل هي آية قد كان الحكم بها واجبًا وعُمل به بُرهة ، ثم نَسخ الله منها بآية المواريث الوصيةَ لوالدي المُوصِي وأقربائه الذين يرثونه ، وأقرّ فرضَ الوصية لمن كان منهم لا يرثه.
* ذكر من قال ذلك :
2640 - حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا يزيد بن زريع قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة في قوله : " كُتب عليكم إذا حَضر أحدكم الموت إن تَرك خيرًا الوصيةُ للوالدين والأقربين " ، فجعلت الوصية للوالدين والأقربين ، ثم نُسخ ذلك بعد ذلك ، فجعل لهما نصيبٌ مفروضٌ ، فصارت الوصية لذوي القرابة الذين لا يرثون ، وجُعل للوالدين نصيبٌ معلوم ، ولا تجوز وصية لوارث.
2641 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : " إذ تَرَك خيرًا الوصية للوالدين والأقربين " قال ، نسخ الوالدان منها ، وترك الأقربون ممن لا يرث.
2642 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قوله : " إن تَرَك خيرًا الوصية للوالدين

(3/388)


والأقربين " قال ، نَسخ من يَرث ، ولم ينسخ الأقربين الذين لا يرثون.
2643 - حدثنا يحيى بن نصر قال ، حدثنا يحيى بن حسان قال ، حدثنا سفيان ، عن ابن طاوس ، عن أبيه قال : كانت الوصية قبلَ الميراث للوالدين والأقربين ، فلما نزل الميراث ، نَسخ الميراثُ من يرث ، وبقي من لا يرث. فمن أوصَى لذي قَرابته لم تجز وصيتُه. (1) .
2644 - حدثني المثنى قال ، حدثنا سُويد بن نصر قال ، أخبرنا ابن المبارك ، عن إسماعيل المكي ، عن الحسن في قوله : " إن ترك خيرًا الوصية للوالدين والأقربين " قال ، نَسخ الوالدين وأثبتَ الأقربين الذين يُحرَمون فلا يرثون.
2645 - حدثني المثنى قال ، حدثنا سويد قال ، أخبرنا ابن المبارك ، عن مبارك بن فضالة ، عن الحسن في هذه الآية : " الوصية للوالدين والأقربين " قال ، للوالدين منسوخة ، والوصيةُ للقرابة وإن كانوا أغنياءَ.
2646 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثني معاوية بن صالح ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قوله : " إن تَرَك خيرًا الوصية للوالدين والأقربين " ، فكان لا يرث مع الوالدين غيرُهم ، إلا وصية إن كانت للأقربين ،
__________
(1) الخبر : 2643 - يحيى بن نصر ، شيخ الطبري : لم أعرف من هو ؟ ولم أجد في الرواة من يدعي بهذا ، إلا رجلا قديمًا لم يدركه الطبري ، وهو " يحيى " بن نصر بن حاجب القرسي " ، مات سنة 215 قبل أن يولد أبو جعفر . وهو مترجم في ابن أبي حاتم 4/2/193 ، وتاريخ بغداد 14 : 159 - 160 ، ولسان الميزان 6 : 278 - 279 .
وفي تاريخ بغداد 14 : 225 - 226 ترجمة " يحيى بن أبي نصر ، أبو سعد الهروي " ، واسم أبيه منصور بن الحسن " . وهذا توفي سنة 287 . ولكن يبعد أن يسمع من " يحيى بن حسان " المتوفى سنة 208 .
وفي التهذيب 11 : 292 - 293 ترجمة ثالثة : " يحيى بن النضر بن عبد الله الأصبهاني الدقاق " ، يروي عن أبي داود الطيالسي ، ويروي عنه أبو بكر بن أبي داود السجستاني . وهو مترجم أيضًا في تاريخ إصبهان 2 : 257 - 258 . فهذا من هذه الطبعة . ومن المحتمل جدًا أن يكون هو الذي روى عنه الطبري هنا .
وأما شيخه " يحيى بن حسان " : فهو التنيسي البكري ، وهو ثقة . مترجم في التهذيب ، والكبير 4/2/269 ، والصغير : 229 ، وابن أبي حاتم 4/2/135 .

(3/389)


فأنزل الله بعد هذا : ( وَلأبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأمِّهِ الثُّلُثُ ) [سورة النساء : 11] ، فبين الله سبحانه ميراث الوالدين ، وأقرّ وصية الأقربين في ثلث مال الميت.
2647 - حدثني علي بن داود قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثني معاوية بن صالح ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قوله : " إن ترَك خيرًا الوصيةُ للوالدين والأقربين " ، فنسخ من الوصية الوالدين ، وأثبت الوصية للأقربين الذين لا يرثون.
2648 - حدثت عن عمار قال ، حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع قوله : " كتب عليكم إذا حَضر أحدكم الموتُ إنْ تَرك خيرًا الوصية للوالدين والأقربين بالمعروف " قال ، كان هذا من قبل أن تُنزل " سورة النساء " ، فلما نزلت آية الميراث نَسخَ شأنَ الوَالدين ، فألحقهما بأهل الميراث ، وصارت الوصية لأهل القرابة الذين لا يرثون.
2649 - حدثني المثنى قال ، حدثنا الحجاج بن المنهال قال ، حدثنا حماد بن سلمة قال ، أخبرنا عطاء بن أبي ميمونة قال : سألت مسلم بن يَسار ، والعلاء بن زياد عن قول الله تبارك وتعالى : " إن ترك خيرًا الوصيةُ للوالدين والأقربين " ، قالا في القرابة.
2650 - حدثني المثنى قال ، حدثنا الحجاج قال ، حدثنا حماد ، عن إياس بن معاوية قال : في القرابة.
* * *
وقال آخرون : بل نَسخ الله ذلك كله وفرضَ الفرائض والمواريث ، فلا وصية تجب لأحد على أحد قريبٍ ولا بعيدٍ.
* ذكر من قال ذلك :
2651 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله :

(3/390)


" إن تَرَك خيرًا الوصية للوَالدين والأقربين " الآية ، قال : فنسخ الله ذلك كله وفرضَ الفرائض.
2652 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال ، حدثنا ابن علية ، عن يونس ، عن ابن سيرين ، عن ابن عباس : أنه قام فخطب الناس هاهنا ، فقرأ عليهم " سورة البقرة " ليبين لهم منها ، فأتى على هذه الآية : " إن ترك خيرًا الوصية الوالدين والأقربين " قال ، نُسخت هذه.
2653 - حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : " إن ترك خيرًا الوصية للوالدين والأقربين " ، نسخت الفرائضُ التي للوالدين والأقربين الوصيةَ.
2654 - حدثني محمد بن بشار قال ، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي قال ، حدثنا سفيان ، عن جهضم ، عن عبد الله بن بدر قال ، سمعت ابن عمر يقول في قوله : " إن تَرَك خيرًا الوصيةُ للوالدين والأقربين " قال ، نسختها آيةُ الميراث. قال ابن بشار : قال عبد الرحمن : فسألت جهضمًا عنه فلم يحفظه.
2655 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا يحيى بن واضح قال ، حدثنا الحسين بن واقد ، عن يزيد النحوي ، عن عكرمة والحسن البصري قالا " إن تَرَك خيرًا الوصية للوالدين والأقربين " ، فكانت الوصية كذلك حتى نسختها آية الميراث.
2656 - حدثني أحمد بن المقدام قال ، حدثنا المعتمر قال ، سمعت أبي قال ، زعم قتادة ، عن شريح في هذه الآية : " إن ترك خيرًا الوصية للوالدين والأقربين " قال ، كان الرجل يُوصي بماله كله ، حتى نزلت آية الميراث.
2657 - حدثنا أحمد بن المقدام قال ، حدثنا المعتمر قال ، سمعت أبي قال ، زعم قتادة : أنه نسختْ آيتا المواريث في " سُورة النساء " ، الآيةَ في " سُورة البقرة " في شأن الوصية.
2658 - حدثني محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى ،

(3/391)


عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله : " إن تَرك خيرًا الوصيةُ للوالدين والأقربين " قال ، كان الميراث للوَلد ، والوصية للوالدين والأقربين ، وهي منسوخة.
2659 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد قال : كان الميراث للولد ، والوصية للوالدين والأقربين ، وهي منسوخة ، نسختها آيةٌ في " سورة النساء " : ( يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ ) [سورة النساء : 11]
2660 - حدثني موسى بن هارون قال ، حدثنا عمرو بن حماد قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : " كُتب عليكم إذا حَضر أحدكم الموت إن ترك خيرًا الوصيةُ للوالدين والأقربين " ، أما الوالدان والأقربون ، فيوم نزلت هذه الآية كان الناس ليس لهم ميراث معلومٌ ، إنما يُوصي الرجل لوالده ولأهله فيقسم بينهم ، حتى نسختها " النساء " ، فقال : ( يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ ) .
2661 - حدثني يعقوب قال ، حدثنا ابن علية قال ، حدثنا أيوب ، عن نافع : أن ابن عمر لم يُوصِ ، وقال : أمّا مالي ، فالله أعلمُ ما كنت أصنع فيه في الحياة ، وأما رِباعي فما أحب أن يَشْرَك ولدي فيها أحد.
2662 - حدثني محمد بن خلف العسقلاني قال ، حدثنا محمد بن يوسف قال ، حدثنا سفيان ، عن نسير بن ذعلوق قال ، قال عروة - يعني ابن ثابت - لربيع بن خُثيم : (1) أوْصِ لي بمصحفك. قال : فنظر إلى أبيه فقال : ( وَأُولُو الأرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ ) [سورة الأنفال : 75].
2663 - حدثنا علي بن سهل قال ، حدثنا يزيد ، عن سفيان ، عن الحسن بن عبد الله ، عن إبراهيم قال : ذكرنا له أن زيدًا وطلحة كانا يشدِّدان في الوصية ، فقال : ما كان عَليهما أن يفعلا مات النبي صلى الله عليه وسلم ولم يُوصِ ، وأوصَى أبو بكر ، أيِّ ذلك فعلتَ فحسنٌ.
__________
(1) في المطبوعة : " بن خثيم " ، وأثبت ما في التهذيب ، وانظر ترجمته .

(3/392)


2664 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا الثوري ، عن الحسن بن عبد الله ، عن إبراهيم قال : ذكر عنده طلحة وزيد فذكر مثله.
* * *
وأما " الخير " الذي إذا تركه تاركٌ وجب عليه الوصية فيه لوالديه وأقرَبيه الذين لا يرثون ، فهو : المال ، كما : -
2665 - حدثني المثنى بن إبراهيم قال ، حدثنا عبد الله بن صالح ، عن معاوية بن صالح ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قوله : " إن تَرك خيرًا " ، يعني مالا.
2666 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله : " إن ترك خيرًا " ، مالا.
2667 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة (1) قال ، حدثنا شبل ، عن أبي نجيح ، عن مجاهد : " إن تَرَك خيرًا " ، كان يقول : الخير في القرآن كله : المال ، ( لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ ) [سورة العاديات : 8] ، الخير : المال - ( إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي ) [سورة ص : 32] ، المال - ( فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا ) [سورة النور : 33] ، المال و( إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ ) ، المالُ.
2668 - حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة : " إن ترك خيرًا الوصية " ، أي : مالا. (2)
2669 - حدثني موسى بن هارون قال ، حدثنا عمرو بن حماد قال ، حدثنا
__________
(1) في المطبوعة : " أبو جعفر " والصواب " أبو حذيفة " ، وهو إسناد دائر في التفسير أقربه آنفًا رقم : 2659 .
(2) الأثر : 2668 - في المطبوعة : " حدثنا بشر بن معاذ قال حدثنا سعيد " أسقط " حدثنا يزيد " ، وهو إسناد دائر في التفسير أقربه آنفًا رقم : 2640 .

(3/393)


أسباط عن السدي : " إن تَرك خيرًا الوصية " ، أما " خيرًا " ، فالمالُ.
2670 - حدثت عن عمار بن الحسن قال ، حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : " إن ترك خيرًا " قال ، إن ترك مالا.
2671 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قوله : " إن ترك خيرًا " قال ، الخيرُ المال.
2672 - حدثني المثنى قال ، حدثنا سويد قال ، أخبرنا ابن المبارك ، عن الحسن بن يحيى ، عن الضحاك في قوله : " إن ترك خيرًا الوصية " قال ، المال. ألا ترى أنه يقول : قال شعيب لقومه : ( إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ ) [سورة هود : 84] يعني الغني.
2673 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، أخبرنا محمد بن عمرو اليافعي ، عن ابن جريج ، عن عطاء بن أبي رباح ، تلا " كُتب عليكم إذا حَضر أحدكم الموتُ إن ترك خيرًا " ، قال عطاء : الخير فيما يُرى المال.
* * *
ثم اختلفوا في مبلغ المال الذي إذا تركه الرجل كان ممن لزمه حكم هذه الآية.
فقال بعضهم : ذلك ألف درهم.
* ذكر من قال ذلك :
2674 - حدثني المثنى قال ، حدثنا الحجاج بن المنهال قال ، حدثنا همام بن يحيى ، عن قتادة في هذه الآية : " إن تَرَك خيرًا الوصية " قال ، الخيرُ ألف فما فوقه.
2675 - حدثني المثنى قال ، حدثنا الحجاج قال ، حدثنا حماد قال ، أخبرنا هشام بن عروة ، عن عروة : أن علي بن أبي طالب دخل على ابن عم لهُ يعوده ، فقال : إنّي أريد أن أوصي. فقال علي : لا توص ، فإنك لم تترك خيرًا فتوصي.
قال : وكان ترك من السبعمئة إلى التسعمئة.

(3/394)


2676 - حدثني يونس بن عبد الأعلى قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، حدثني عثمان بن الحكم الحزامي (1) وابن أبي الزناد ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن علي بن أبي طالب : أنه دخل على رجل مريض ، فذكر لهُ الوصية ، فقال : لا تُوص ، إنما قال الله : " إن تَرك خيرًا " ، وأنت لم تترك خيرًا. قال ابن أبي الزناد فيه : فدع مَالك لبنيك.
2677 - حدثنا محمد بن بشار قال ، حدثنا عبد الرحمن قال ، حدثنا سفيان ، عن منصور بن صفية ، عن عبد الله بن عيينة - أو : عتبة ، الشك مني - : أنّ رجلا أراد أن يوصي وله ولد كثير ، وترك أربعمئة دينار ، فقالت عائشة : ما أرى فيه فضلا.
2678 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه قال : دخل عليٌّ علَى مولى لهم في الموت وله سبعمئة درهم ، أو ستمئة درهم ، فقال : ألا أوصي ؟ فقال : لا! إنما قال الله : " إن ترك خيرًا " ، وليس لك كثير مال.
* * *
وقال بعضهم : ذلك ما بين الخمسمئة درهم إلى الألف.
* ذكر من قال ذلك :
2679 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر ، عن قتادة ، عن أبان بن إبراهيم النخعيّ في قوله : " إن ترك خيرًا " قال ، ألف درهم إلى خمسمئة.
* * *
وقال بعضهم : الوصية واجبة من قليل المال وكثيره.
* ذكر من قال ذلك :
__________
(1) ضبطه في الخلاصة " بكسر المهملة " وفي التهذيب والميزان " الجذامي " بجيم مضمومة ، ثم ذال معجمة .

(3/395)


فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (181)

2680 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر ، عن الزهري قال : جعل الله الوصية حقًّا ، مما قل منه أو كثر.
* * *
قال أبو جعفر : وأولى هذه الأقوال بالصواب في تأويل قوله : " كُتبَ عَليكم إذا حَضر أحدكم الموت إن ترك خيرًا الوصية " ما قال الزهري. لأن قليلَ المال وكثيره يقع عليه " خيرٌ " ، ولم يحدّ الله ذلك بحدٍّ ، ولا خص منه شيئًا فيجوز أن يحال ظاهر إلى باطن. فكلّ من حضرته منيَّته وعنده مالٌ قلّ ذلك أو كثر ، فواجبٌ عليه أن يوصي منه لمن لا يرثه من آبائه وأمهاته وأقربائه الذين لا يرثونه بمعروف ، كما قال الله جل ذكره وأمرَ به.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ }
قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بذلك : فمن غيَّر ما أوصَى به الموصِي - من وصيته بالمعروف لوالديه أو أقربيه الذين لا يرثونه - بعد ما سمع الوصية ، فإنما إثم التبديل على من بَدَّل وصيته.
* * *
فإن قال لنا قائل : وعلامَ عادت " الهاء " التي في قوله : " فمن بدّله " ؟
قيل : على محذوف من الكلام يدل عليه الظاهر. وذلك هو أمر الميت ، وإيصاؤه إلى من أوصَى إليه ، بما أوصَى به ، لمن أوْصَى له.
ومعنى الكلام : " كُتب عليكم إذا حَضر أحدكم الموت إن ترك خيرًا الوصية للوالدين والأقربين بالمعروف حقًّا عَلى المتقين " ، فأوصوا لهم ، فمن بدل ما أوصيتم به لهم بعد ما سَمعكم توصون لَهم ، فإنما إثم ما فعل من ذلك عليه دونكم.

(3/396)


وإنما قلنا إن " الهاء " في قوله : " فمن بدله " عائدة على محذوف من الكلام يدل عليه الظاهرُ ، لأن قوله : " كُتب عليكم إذا حَضر أحدكم الموتُ إن ترك خيرًا الوصية " من قول الله ، وأنّ تبديل المبدِّل إنما يكون لوصية الموصِي. فأما أمرُ الله بالوصية فلا يقدر هو ولا غيره أن يبدِّله ، فيجوز أن تكون " الهاء " في قوله : " فمن بدله " عائده على " الوصية " .
وأما " الهاء " في قوله : " بعد ما سمعه " ، فعائدة على " الهاء " الأولى في قوله : " فمن بَدَّله " .
وأما " الهاء " التي في قوله : " فإنما إثمه " ، فإنها مكنيُّ " التبديل " ، كأنه قال : فإنما إثم ما بدَّل من ذلك على الذين يبدلونه.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
2681 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : " فمن بدَّله بَعد ما سمعه " قال ، الوصية.
2682 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد مثله.
2683 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو صالح قال ، حدثني معاوية بن صالح ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس في قوله : " فمن بدَّله بعد ما سمعه فإنما إثمه على الذين يبدِّلونه " ، وقد وقعَ أجر الموصي على الله وبَرئ من إثمه ، وإن كان أوصى في ضِرَارٍ لم تجز وصيته ، كما قال الله : ( غَيْرَ مُضَارٍّ ) [سورة النساء : 12]
2684 - حدثنا الحسين بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : " فمن بدَّله بعد ما سمعه " ، قال : من بدّل الوصية بعد ما سمعها ، فإثم ما بدَّل عليه.

(3/397)


2685 - حدثني موسى بن هارون قال ، حدثنا : عمرو بن حماد قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : " فمن بدَّله بعد ما سمعه فإنما إثمه على الذين يبدلونه " ، فمن بدَّل الوصية التي أوصى بها ، وكانت بمعروف ، فإنما إثمها على من بدَّلها. إنه قد ظلم.
2686 - حدثني المثنى قال ، حدثنا حجاج بن المنهال قال ، حدثنا حماد ، عن قتادة : أن عطاء بن أبي رباح قال في قوله : " فمن بدَّله بعد ما سمعه فإنما إثمه على الذين يبدّلونه " ، قال : يُمضَى كما قال.
2687 - حدثنا سفيان بن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن يزيد بن إبراهيم ، عن الحسن : " فمن بدّله بعد ما سمعه " ، قال : من بدل وصية بعد ما سمعها.
2688 - حدثني المثنى قال ، حدثنا حجاج قال ، حدثنا يزيد بن إبراهيم ، عن الحسن في هذه الآية : " فمن بدّله بعد ما سمعه فإنما إثمه على الذين يبدِّلونه " ، قال : هذا في الوصية ، من بدَّلها من بعد ما سمعها ، فإنما إثمه على من بَدَّله.
2689 - حدثنا ابن بشار وابن المثنى قالا حدثنا معاذ بن هشام قال ، حدثني أبي ، عن قتادة ، عن عطاء وسالم بن عبد الله وسليمان بن يسار أنهم قالوا : تُمضى الوصية لمن أوصَى له به إلى هاهنا انتهى حديث ابن المثنى ، وزاد ابن بشار في حديثه قال قتادة : وقال عبد الله بن معمر : أعجبُ إليّ لو أوْصى لذوي قرابته ، وما يعجبني أن أنزعه ممن أوصَى له به. قال قتادة : وأعجبه إليّ لمن أوصى له به ، قال الله عز وجل : " فمن بدَّله بعدَ ما سمعه فإنما إثمه على الذين يبدّلونه " .
* * *

(3/398)


القول في تأويل قوله تعالى : { إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (181) }
قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بذلك : " إن الله سميع " لوصيتكم التي أمرتكم أن تُوصوا بها لآبائكم وأمهاتكم وأقربائكم حين توصون بها ، أتعدلون فيها على ما أذِنت لكم من فعل ذلك بالمعروف ، أم تَحيفون فتميلون عن الحق وتجورون عن القصد ؟ " عليمٌ " بما تخفيه صدوركم من الميل إلى الحق ، والعدل ، أم الجور والحيْف.
* * *

(3/399)


فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (182)

القول في تأويل قوله تعالى : { فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (182) }
قال أبو جعفر : اختلف أهل التأويل في تأويل هذه الآية.
فقال بعضهم : تأويلها : فمن حضر مريضًا وهو يوصي عند إشرافه على الموت ، فخاف أن يخطئ في وصيته فيفعل ما ليس له ، أو أن يعمد جورًا فيها فيأمر بما ليس له الأمر به ، فلا حرج على من حَضره فسمع ذلك منه أنْ يصلح بينه وبين وَرَثته ، بأن يأمره بالعدل في وصيته ، وأن ينهاهم عن مَنعه مما أذن الله له فيه وأباحه له.
* ذكر من قال ذلك :
2690 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : " فمن خَافَ من مُوص جَنفًا أو إثمًا فأصلح بينهم فلا إثم عليه " ، قال : هذا حين يُحْضَر الرجلُ وهو يموت ، فإذا

(3/399)


أسرف أمروه بالعدل ، وإذا قصَّر قالوا : افعل كذا ، أعطِ فلانًا كذا.
2691 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد قوله : " فمن خَافَ من مُوص جَنفا أو إثما " ، قال : هذا حين يُحْضَر الرجلُ وهو في الموت ، فإذا أشرف على الجور أمروه بالعدل ، (1) وإذا قصر عن حق قالوا : افعل كذا ، أعط فلانًا كذا.
* * *
وقال آخرون : بل معنى ذلك : فمن خافَ - من أولياء ميت ، (2) أو وَالِي أمر المسلمين - من مُوص جنفا في وصيته التي أوصى بها الميت ، فأصلح بين وَرَثته وبين الموصى لهم بما أوصَى لهم به ، فرد الوصية إلى العدل والحقّ ، فلا حرج ولا إثم.
* ذكر من قال ذلك :
2692 - حدثني المثنى ، حدثنا أبو صالح كاتب الليث ، حدثني معاوية بن صالح ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس في قوله : " فمن خاف من مُوص جَنفًا " - يعني : إثْمًا - يقول : إذا أخطأ الميت في وصيته أو حاف فيها ، فليس على الأولياء حرجٌ أن يردوا خطأه إلى الصواب.
2693 - حدثنا الحسن بن يحيى ، (3) حدثنا عبد الرزاق ، أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : " فمن خافَ من مُوص جَنفًا أو إثمًا " ، قال : هو الرجل يُوصي
__________
(1) في المطبوعة : " فإذا أشرف على الموت أمروه بالعدل " ، وهو لا يستقيم مع سياق الخبر ، ولا مع الخبر الذي قبله عن مجاهد أيضًا . ورجحت أن يكون الناسخ صحف " الجور " فجعلها " الموت " أو سها أو سبق قلمه . أو لعله أخطأ وصحف وزاد ، وأن أصل عبارته كالسياق قبله : " فإذا أسرف أمروه بالعدل " . وكلاهما جائز ، وصواب في المعنى .
(2) في المطبوعة : " أوصياء ميت " ، وهما سواء .
(3) في المطبوعة : " الحسن بن عيسى " وهو خطأ صرف ، وهو إسناد دائر في التفسير أقربه إلينا رقم : 2684 .

(3/400)


فيحيف في وصيته ، فيردها الوليّ إلى الحقّ والعدل. (1)
2694 - حدثنا بشر بن معاذ ، حدثنا يزيد بن زريع ، عن سعيد ، عن قتادة قوله : " فمن خاف من مُوص جَنفًا أو إثمًا " ، وكان قتادة يقول : من أوصى بجورٍ أو حيْف في وصيته فردها وَليّ المتوفى أو إمام من أئمة المسلمين ، إلى كتاب الله وإلى العدل ، فذاك له.
2695 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الرحمن بن سعد وابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : " فمن خَافَ من مُوص جَنفًا أو إثمًا " ، فمن أوصى بوصية بجور ، فردَّه الوصيُّ إلى الحق بعد موته ، فلا إثم عليه - قال عبد الرحمن في حديثه : " فاصلح بينهم " ، يقول : رده الوصيّ إلى الحق بعد موته ، فلا إثم عليه.
2696 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا قبيصة ، عن سفيان ، عن أبيه ، عن إبراهيم : " فمن خافَ من مُوص جَنفًا أو إثمًا فأصْلح بينهم " ، قال : رده إلى الحق.
2697 - حدثنا أحمد بن إسحاق قال ، حدثنا أبو أحمد الزبيري قال ، حدثنا إسرائيل ، عن سعيد بن مسروق ، عن إبراهيم قال ، سألته عن رجل أوصى بأكثر من الثلث ؟ قال : اردُدها. ثم قرأ : " فمن خاف من مُوص جَنفًا أو إثمًا " .
2698 - حدثنا عمرو بن علي قال ، حدثنا خالد بن يزيد صاحب اللؤلؤ قال ، حدثنا أبو جعفر الرازي ، عن الربيع بن أنس : " فمن خاف من مُوص جَنفًا أو إثمًا فأصلح بينهم فلا إثم عليه " ، قال : رده الوصي إلى الحق بعد موته ، فلا إثم على الوصي.
* * *
وقال بعضهم : بل معنى ذلك : فمن خاف من موص جنفًا أو إثمًا في عطيته
__________
(1) في المطبوعة : " الوالي " ، والصواب ما أثبت ، أي ولي الميت .

(3/401)


عند حضور أجله بعضَ ورثته دون بعض ، فلا إثم على من أصلح بينهم يعني : بين الورثة.
* ذكر من قال ذلك :
2699 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثنا حجاج ، عن ابن جريج قال : قلت لعطاء قوله : " فمن خاف من موص جَنفًا أو إثمًا " ، قال : الرجل يحيف أو يأثم عند موته ، فيعطي ورثته بعضَهم دون بعض ، يقول الله : فلا إثم على المصلح بينهم. فقلت لعطاء : أله أن يُعطي وارثه عند الموت ، إنما هي وصية ، ولا وصية لوارث ؟ قال : ذلك فيما يَقسم بينهم.
* * *
وقال آخرون : معنى ذلك : فمن خاف من مُوص جنفًا أو إثمًا في وصيته لمن لا يرثه ، بما يرجع نفعه على من يَرثه ، فأصلح بينَ وَرَثته ، فلا إثم عليه.
* ذكر من قال ذلك :
2700 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج قال ، قال ابن جريج ، أخبرني ابن طاوس ، عن أبيه أنه كان يَقول : جَنفُه وإثمه ، أنْ يوصي الرجل لبني ابنه ليكونَ المالُ لأبيهم ، وتوصي المرأة لزوج ابنتها ليكون المال لابنتها ؛ وذو الوارث الكثير والمالُ قليل ، فيوصي بثلث ماله كله ، فيصلح بينهم الموصَى إليه أو الأمير. قلت : أفي حياته أم بعد موته ؟ قال : ما سمعنا أحدًا يقول إلا بعد موته ، وإنه ليوعظ عند ذلك.
2701 - حدثني الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا ابن عيينة ، عن ابن طاوس ، عن أبيه في قوله : " فمن خافَ من موص جَنفًا أو إثمًا فأصلح بينهم " ، قال : هو الرجل يوصي لولد ابنته.
* * *
وقال آخرون : بل معنى ذلك : فمن خاف من موص لآبائه وأقربائه جَنفًا على بعضهم لبعض ، فأصلح بين الآباء والأقرباء ، فلا إثم عليه.
* ذكر من قال ذلك :

(3/402)


2702 - حدثني موسى بن هارون قال ، حدثنا عمرو بن حماد قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : " فمن خافَ من مُوص جَنفًا أو إثمًا فأصلح بينهم فلا إثم عليه " . أما " جنفًا " : فخطأ في وصيته ، وأما " إثمًا " : فعمدًا يَعمد في وصيته الظلم. فإن هذا أعظمُ لأجره أن لا يُنفذها ، ولكن يصلح بينهم على ما يرى أنه الحق ، ينقص بعضًا ويزيد بعضًا. قال : ونزلت هذه الآية في الوالدين والأقربين.
2703 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد في قوله : " فمن خافَ من مُوص جَنفًا أو إثمًا فأصلح بينهم فلا إثم عليه " ، قال : " الجنَف " أن يحيف لبعضهم على بعض في الوصية ، " والإثم " أن يكون قد أثم في أبويه بعضهم على بعض ، " فأصلح بينهم " الموصَى إليه بين الوالدين والأقربين - الابن والبنون هُم " الأقربون " - فلا إثم عليه. فهذا الموصَى الذي أوْصى إليه بذلك ، وجعل إليه ، فرأى هذا قد أجنفَ لهذا على هذا ، فأصلح بينهم فلا إثم عليه ، فعجز الموصِي أن يوصي كما أمره الله تعالى ، وعجز الموصَى إليه أن يصلح ، فانتزع الله تعالى ذكره ذلك منهم ، ففرضَ الفرائض.
* * *
قال أبو جعفر : وأولى الأقوال في تأويل الآية أن يكون تأويلها : فمن خاف من مُوصٍ جَنفًا أو إثمًا وهو أن يميل إلى غير الحق خطأ منه ، أو يتعمد إثمًا في وصيته ، بأن يوصي لوالديه وأقربيه الذين لا يرثونه بأكثر مما يجوز له أن يوصي لهم به من ماله ، وغير ما أذن الله له به مما جاوز الثلث أو بالثلث كله ، وفي المال قلة ، وفي الوَرَثة كثرةٌ فلا بأس على من حضره أن يصلح بين الذين يُوصَى لهم ، وبين ورثة الميت ، وبين الميت ، بأن يأمرَ الميت في ذلك بالمعروف ويعرِّفه ما أباح الله له في ذلك وأذن له فيه من الوصية في ماله ، وينهاه أن يجاوز في وصيته المعروف الذي قال الله تعالى ذكره في كتابه : " كُتب عليكم إذا حضر أحدكم الموتُ إن ترك خيرًا الوصية للوالدين والأقربين بالمعروف " ، وذلك هو " الإصلاح " الذي

(3/403)


قال الله تعالى ذكره : " فأصلح بينهم فلا إثم عليه " . وكذلك لمن كان في المال فَضْل وكثرةٌ وفي الورثة قِلة ، فأراد أن يقتصر في وصيته لوالديه وأقربيه عن ثلثه ، فأصلح من حَضرَه بينه وبين ورثته وبين والديه وأقربيه الذين يريد أن يوصى لهم ، بأن يأمر المريض أن يزيد في وصيته لهم ، ويبلغ بها ما رَخّص الله فيه من الثلث. فذلك أيضًا هو من الإصلاح بينهم بالمعروف.
وإنما اخترنا هذا القول ، لأن الله تعالى ذكره قال : " فمن خَاف من موص جَنفًا أو إثمًا " ، يعني بذلك : فمن خاف من موص أن يَجْنَف أو يَأثم. فخوفُ الجنف والإثم من الموصي ، إنما هو كائن قبل وقوع الجنف والإثم ، فأما بعد وجوده منه ، فلا وجه للخوف منه بأن يَجنف أو يأثم ، بل تلك حال مَنْ قد جَنفَ أو أثم ، ولوْ كان ذلك معناه لقيل : فمن تبيّن من مُوص جَنفًا أو إثمًا - أو أيقن أو علم - ولم يقل : فمن خَافَ منه جَنفًا.
* * *
فإن أشكل ما قلنا من ذلك على بعض الناس فقال : فما وجه الإصلاح حينئذ ، والإصلاح إنما يكون بين المختلفين في الشيء ؟
قيل : إنّ ذلك وإن كان من معاني الإصلاح ، فمن الإصلاح الإصلاحُ بين الفريقين ، (1) فيما كان مخوفًا حدوثُ الاختلاف بينهم فيه ، بما يؤمن معه حُدوث الاختلاف. لأن " الإصلاح " ، إنما هو الفعل الذي يكون معه إصلاحُ ذات البين ، فسواء كان ذلك الفعل الذي يكون معه إصلاح ذات البين - قبلَ وقوع الاختلاف أو بعد وقوعه.
فإن قال قائل : فكيف قيل : " فأصلح بينهم " ، ولم يجر للورثة ولا للمختلفين ، أو المخوف اختلافهم ، ذكرٌ ؟
__________
(1) في المطبوعة : " فمن الإصلاح بين الفريقين . . " ، والصواب زيادة ، " الإصلاح " ، كما يدل عليه السياق .

(3/404)


قيل : بل قد جرى ذكر الذين أمر تعالى ذكره بالوصية لهم ، وهم والدا المُوصي وأقربوه ، والذين أمروا بالوصية في قوله : " كُتب عليكم إذا حَضر أحدكم الموتُ إن تَركَ خيرًا الوصية للوالدين والأقربين بالمعروف " ، ثم قال تعالى ذكره : " فمن خافَ من مُوص " - لمن أمرته بالوصية له - " جَنفًا أو إثمًا فأصلح بينهم " - وبين من أمرته بالوصية له - " فلا إثم عليه " . والإصلاح بينه وبينهم ، هو إصلاح بينهم وبين ورثة الموصي.
* * *
قال أبو جعفر : وقد قرئ قوله : " فمنْ خَافَ منْ مُوص " بالتخفيف في " الصاد " والتسكين في " الواو " - وبتحريك " الواو " وتشديد " الصاد " .
فمن قرأ ذلك بتخفيف " الصاد " وتسكين " الواو " ، فإنما قرأه بلغة من قال : " أوصيتُ فلانًا بكذا " .
ومن قرأ بتحريك " الواو " وتشديد " الصاد " ، قرأه بلغة من يقول : " وصَّيت فلانًا بكذا " . وهما لغتان للعرب مشهورتان : " وصَّيتك ، وأوصيتك " (1)
وأما " الجنف " ، فهو الجورُ والعدول عن الحق في كلام العرب ، ومنه قول الشاعر : (2)
هُمُ المَوْلَى وَإِنْ جَنَفُوا عَلَيْنَا... وَإِنَّا مِنْ لِقَائِهِمُ لَزُورُ (3)
يقال منه : " جَنف الرجل على صاحبه يَجنَف " - إذا مال عليه وجَار - " جَنفًا " .
* * *
__________
(1) انظر تفسير (وصى) فيما سلف من هذا الجزء 3 : 93 - 96 .
(2) هو عامر الخصفي ، من بني خصفة بن قيس عيلان .
(3) مجاز القرآن لأبي عبيدة : 66 ، 67 ، ومشكل القرآن : 219 ، واللسان (جنف) (ولي) . والمولى : ابن العم ، وأقام المفرد مقام الجمع ، وأراد " المولى " ، قال أبو عبيدة هو كقوله تعالى : (ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا) وزور جمع أزور : وهو المائل عن الشيء . يقول : هم أبناء عمنا ، ونحن نكره أن نلاقيهم فنقاتلهم ، لما لهم من حق الرحم .

(3/405)


فمعنى الكلام من خاف من موص جَنفًا له بموضع الوصية ، وميلا عن الصواب فيها ، وجورًا عن القصد أو إثمًا بتعمده ذلك على علم منه بخطأ ما يأتي من ذلك ، فأصلح بينهم ، فلا إثم عليه.
* * *
وبمثل الذي قلنا في معنى " الجنف " " والإثم " ، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
2704 - حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس في قوله : " فمن خاف من موص جَنفًا " ، يعني بالجنف : الخطأ.
2705 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا جابر بن نوح ، عن عبد الملك ، عن عطاء : " فمن خاف من موص جَنفًا " ، قال : ميلا.
2706 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال ، حدثنا هشيم قال ، أخبرنا عبد الملك ، عن عطاء مثله.
2707 - حدثنا عمرو بن علي قال ، حدثنا خالد بن الحارث ويزيد بن هارون قالا حدثنا عبد الملك ، عن عطاء مثله.
2708 - حدثني يعقوب قال ، حدثنا هشيم قال ، أخبرنا جويبر ، عن الضحاك قال : الجنفُ الخطأ ، والإثم العمد.
2709 - حدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي قال ، حدثنا [أبو أحمد] الزبيري قال ، حدثنا هشيم ، عن جويبر ، عن عطاء مثله.
2710 - حدثني موسى قال ، حدثنا عمرو قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : " فمن خاف من مُوص جَنفًا أو إثمًا " ، أما " جَنفًا " فخطأ في وصيته ، وأما " إثمًا " : فعمدًا ، يعمد في وصيته الظلم. (1)
2711 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ،
__________
(1) الأثر : 2710 - مضى رقم : 2702 مطولا .

(3/406)


عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : " فمن خَافَ من مُوص جنفًا أو إثمًا " ، قال : خطأً أو عمدًا. (1)
2712 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الرحمن بن سعد وابن أبي جعفر ، عن أبي جعفر ، عن الربيع : " فمن خَاف من مُوص جَنفًا أو إثمًا " ، قال : الجنف الخطأ ، والإثم العمد.
2713 - حدثنا عمرو بن علي قال ، حدثنا خالد بن يزيد صاحب اللؤلؤ قال ، حدثنا أبو جعفر ، عن الربيع بن أنس مثله.
2714 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا قبيصة ، عن سفيان ، عن أبيه ، عن إبراهيم : " فمن خاف من مُوص جَنفًا أو إثمًا " ، قال : الجنف : الخطأ ، والإثم العمد.
2715 - حدثنا أحمد بن إسحاق قال ، حدثنا أبو أحمد قال ، حدثنا فضيل بن مرزوق ، عن عطية : " فمن خاف من مُوص جَنفًا " ، قال : خطأ ، " أو إثمًا " متعمدًا.
2716 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الرزاق ، عن ابن عيينة ، عن ابن طاوس ، عن أبيه : " فمن خَافَ من مُوص جَنفًا " ، قال : ميلا.
2717 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد في قوله : " جَنفًا " حَيْفًا ، " والإثم " ميله لبعض على بعض. وكلّه يصير إلى واحد ، كما يكون " عفوًّا غَفورًا " و " غَفورًا رَحيمًا " .
2718 - حدثنا القاسم قال حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن
__________
(1) الأثر : 2711 - كان في المطبوعة : " فمن خاف من موص جنفًا " قال : جنفًا إثما " ، وهي عبارة مضطربة فاسدة ، فلم أستجز تركها على فسادها ونقلت قول مجاهد الذي أخرجه سفيان بن عيينة وعبد بن حميد فيما نقله السيوطي في الدر المنثور 1 : 175 .

(3/407)


جريج قال ، قال ابن عباس : الجنف " الخطأ ، والإثم : العمد.
2719 - حدثت عن الحسين بن الفرج قال ، حدثنا الفضل بن خالد قال ، حدثنا عبيد بن سليمان ، عن الضحاك قال : الجنف الخطأ ، والإثم العمد. (1)
* * *
وأما قوله : " إنّ الله غَفورٌ رَحيم " ، فإنه يعني : والله غَفورٌ للموصي (2) فيما كان حدَّث به نفسه من الجنف والإثم ، إذا تَرَك أن يأثم ويَجنف في وصيته ، فتجاوزَ له عما كان حدَّث به نفسه من الجور ، إذ لم يُمْضِ ذلك فيُغْفِل أن يؤاخذه به (3) " رحيمٌ " بالمصلح بينَ المُوصي وبين من أراد أن يَحيف عليه لغيره ، أو يَأثَم فيه له.
* * *
__________
(1) الخبر : 2719 - الحسين بن الفرج الخياط البغدادي : شيخ لا يعبأ بروايته ، قال فيه ابن معين : " كذاب ، صاحب سكر ، شاطر " ؛ مترجم في ابن أبي حاتم 1/2/62 - 63 ، وتاريخ إصبهان 1 : 266 - 267 ، وتاريخ بغداد 8 : 84 - 86 ، ولسان الميزان 2 : 307 . والطبري يروي عنه في التفسير كثيرًا بإسناد مجهول ، يقول : " حدثت عن الحسين بن الفرج " . ولعل ذلك من أجل ضعف حديثه ، فلا يصل الإسناد إليه . وصرح في بعض مرات في التاريخ باسم من حدثه عنه ، انظر التاريخ 1 : 30 ، 42 .
ويقع اسمه في المطبوعة على الصواب ، كما في 2898 . وكثيرًا ما يقع خطأ مصفحًا : " الحسن بن الفرج " ، كما في هذا الموضع ، وكما في : 2750 . ومن ذلك ما مضى : 691 ، وقلت هناك : " لم أعرف من هو ؟ " . فيصحح في ذاك الموضع ، وحيثما جاء في التفسير .
الفضل بن خالد : مضت ترجمته : 691 .
(2) كان في المطبوعة : " غفور رحيم للموصى . . " ، وليس صوابًا ، وسياق عبارته دال على صواب ما أثبتنا .
(3) في المطبوعة : " فيفعل أن يؤاخذه به " ، ولعل الصواب ما أثبت .

(3/408)


يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183)

القول في تأويل قوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183) }
قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بقوله : " يا أيها الذين آمنوا " ، يا أيها الذين آمنوا بالله ورسوله وصدقوا بهما وأقرُّوا. (1)
ويعني بقوله : " كتب عليكم الصيام " ، فرض عليكم الصيام. (2)
و " الصيام " مصدر ، من قول القائل : " صُمت عن كذا وكذا " - يعني : كففت عنه - " أصوم عَنه صوْمًا وصيامًا " . ومعنى " الصيام " ، الكف عما أمر الله بالكف عنه. ومن ذلك قيل : " صَامت الخيل " ، إذا كفت عن السير ، ومنه قول نابغة بني ذبيان :
خَيْلٌ صِيَامٌ ، وخَيْلٌ غَيْرُ صَائِمَةٍ... تَحْتَ العَجَاجِ ، وأُخْرَى تَعْلُكُ اللُّجُمَا (3)
ومنه قول الله تعالى ذكره : ( إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا ) [سورة مريم : 26] يعني : صمتًا عن الكلام.
* * *
وقوله : " كما كُتب على الذين من قبلكم " ، يعني فرض عليكم مثل الذي فرض على الذين منْ قبلكم.
* * *
__________
(1) انظر تفسير " الإيمان " فيما سلف 1 : 234 - 235 ، والمراجع في فهرس اللغة .
(2) انظر تفسير " كتب " فيما سلف في هذا الجزء 3 : 357 ، 364 ، 365 .
(3) ديوانه : 106 (زيادات) واللسان (علك) (صام) . ولكنه من قصيدته التي أولها : بَانَتْ سُعَادُ وَأَمْسَى حَبْلُهَا انْجَذَمَا
وقد فسر " صامت الخليل " بأنها الإمساك عن السير ، وعبارة اللغة ، " صام الفرس " إذا قام في آريه لا يعتلف ، أو قام ساكنًا لا يطعم شيئًا . وقال أبو عبيدة : كل ممسك عن طعام أو كلام أو سير ، فهو صائم . والعجاج : الغبار الذي يثور ، يعني أنها في المعركة لا تقر . وعلك الفرس لجامه : لاكه وحركه في فيه .

(3/409)


قال أبو جعفر : ثم اختلف أهل التأويل في الذين عنى الله بقوله : " كما كُتبَ على الذين من قبلكم " ، وفي المعنى الذي وَقعَ فيه التشبيه بين فرضِ صَومنا وصوم الذين من قبلنا.
فقال بعضهم : الذين أخبرنا الله عن الصوم الذي فرضه علينا ، أنه كمثل الذي كان عليهم ، هم النصارى. وقالوا : التشبيه الذي شَبه من أجله أحدَهما بصاحبه ، هو اتفاقهما في الوقت والمقدار الذي هو لازم لنا اليوم فرضُه.
* ذكر من قال ذلك :
2720 - حدثت عن يحيى بن زياد ، عن محمد بن أبان [القرشي] ، عن أبي أمية الطنافسي ، عن الشعبي أنه قال : لو صُمت السنة كلها لأفطرت اليوم الذي يشك فيه فيقال : من شعبان ، ويقال : من رمضان. وذلك أن النصارى فُرض عليهم شهر رَمضان كما فرض علينا فحوَّلوه إلى الفصل. وذلك أنهم كانوا ربما صاموه في القيظ يعدون ثلاثين يومًا. (1) ثم جاء بعدهم قرن فأخذوا بالثقة من أنفسهم ، فصاموا قبل الثلاثين يومًا وبعدها يومًا. ثم لم يزل الآخر يُستن سنّة القرن الذي قبله حَتى صارت إلى خمسين. (2) فذلك قوله : " كتبَ عليكم الصيام كما كتبَ عَلى الذين من قَبلكم " ، (3)
* * *
__________
(1) في معاني القرآن للفراء : " فعدوه ثلاثين يومًا " .
(2) في معاني القرآن : " يستن سنة الأول حتى صارت . . " .
(3) الخبر : 2720 - يحيى بن زياد أبو زكرياء : هو الفراء الإمام النحوي ، وهو ثقة معروف مترجم في التهذيب . وتاريخ بغداد 14 : 149 - 155 . وفي دواوين كثيرة .
محمد بن ابان : نقل أخي السيد محمود محمد شاكر أن هذا الخبر مذكور في كتاب " معاني القرآن " للفراء رواه عن " محمد بن أبان القرشي " . ومحمد بن أبان القرشي : هو " محمد بن أبان بن صالح بن عمير " ، مولى لقريش . ترجمه البخاري في الكبير 1/1/34 ، برقم 50 . وقال : " يتكلمون في حفظه " وذكر في الصغير مرتين ، ص : 188 ، 214 . وقال في أولاهما : " يتكلمون في حفظ محمد بن أبان ، لا يعتمد عليه " . وقال في الضعفاء ، ص : 30 " ليس بالقوي " .
وكذلك ترجمه ابن أبي حاتم 3/2/199 ، برقم : 1119 ، وروى تضعيفه عن يحيى بن معين .
والراجح عندي أنه هو الذي روى عنه الفراء ، فإن ابن أبي حاتم ذكر من الرواة عن القرشي هذا - أبا داود الطيالسي ، وهو من طبقة الفراء .
وأما ترجمته في التهذيب 9 : 2 - 3 فإنها مختلة مضطربة ، خلط فيها بين هذا وبين " محمد بن أبان الواسطي " ، وشتان بينهما . والواسطي مترجم عند البخاري ، برقم : 48 ، وعند ابن ابي حاتم ، برقم : 1121 . وكلاهما لم يذكر فيه جرحًا .
" عن أبي أمية الطنافسي " : كذا ثبت هنا . وليس لأبي أمية الطنافسي ترجمة ولا ذكر ، فيما رأينا من المراجع . وإنما المترجم ابنه " عبيد بن أبي أمية " . وهو الذي يروي عن الشعبي . وهو مترجم في التهذيب وابن أبي حاتم 2/2/401 .
وهذا الخبر في معاني القرآن للفراء 1 : 111 ، ونقله السيوطي 1 : 176 ، ولم ينسبه لغير الطبري . ولكنه اختصره جدًا . +كأنه تلخيص لا نقل .

(3/410)


وقال آخرون : بل التشبيه إنما هو من أجل أنّ صومهم كان من العشاء الآخرة إلى العشاء الآخرة. وذلك كان فرضُ الله جَل ثناؤه على المؤمنين في أول ما افترض عليهم الصوم. ووافق قائلو هذا القول القائلي القولَ الأوَّلَ : أن الذين عَنى الله جل ثناؤه بقوله : " كما كُتبَ على الذين من قبلكم " ، النصارى.
* ذكر من قال ذلك :
2721 - حدثني موسى بن هارون قال ، حدثنا عمرو بن حماد قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : " يا أيها الذين آمنوا كُتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم " ، أما الذين من قبلنا : فالنصارى ، كتب عليهم رمضان ، وكتب عليهم أن لا يأكلوا ولا يشربوا بعد النوم ، ولا ينكحوا النساءَ شهر رمضان. فاشتد على النصارى صيامُ رمَضان ، وجعل يُقَلَّبُ عليهم في الشتاء والصيف. فلما رأوا ذلك اجتمعوا فجعلوا صيامًا في الفصل بين الشتاء والصيف ، وقالوا : نزيد عشرين يومًا نكفّر بها ما صنعنا! فجعلوا صيامهم خمسين. فلم يزل المسلمون على ذلك يَصنعون كما تصنع النصارى ، حتى كان من أمر أبي قيس بن صرمة وعمر بن الخطاب ، ما كان ، (1) فأحل الله لهم الأكل والشرب والجماعَ إلى طُلوع الفجر.
__________
(1) سيأتي خبر أبي صرمة وعمر في الآثار رقم : 2935 - 2952 .

(3/411)


2722 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : " كتب عليكم الصيامُ كما كتب على الذين من قبلكم " ، قال : كتب عليهم الصوم من العتمة إلى العتمة.
* * *
وقال آخرون : الذين عَنى الله جل ثناؤه بقوله : " كما كتب على الذين من قبلكم " ، أهل الكتاب.
* ذكر من قال ذلك :
2723 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : " يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم " ، أهل الكتاب.
* * *
وقال بعضهم : بل ذلك كان على الناس كلهم.
* ذكر من قال ذلك :
2724 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : " كتب عليكم الصيامُ كما كتب على الذين من قبلكم " ، قال : كتب شهرُ رمضان على الناس ، كما كُتب على الذين من قبلهم. قال : وقد كتب الله على الناس قبل أن ينزل رمضانُ صَوْمَ ثلاثة أيام من كل شهر.
2725 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : " يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم " ، رمضانُ ، كتبه الله على من كان قَبلهم.
* * *
قال أبو جعفر : وأولى هذه الأقوال بالصواب قول من قال : معنى الآية :
يا أيها الذين آمنوا فُرض عليكم الصيام كما فرض على الذين من قبلكم من أهل الكتاب ، " أيامًا معدودات " ، وهي شهر رمضان كله. لأن مَن بعدَ إبراهيم

(3/412)


أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (184)

صلى الله عليه وسلم كان مأمورًا باتباع إبراهيم ، وذلك أن الله جل ثناؤه كان جَعله للناس إمامًا ، وقد أخبرنا الله عز وجل أن دينه كان الحنيفيةَ المسلمةَ ، فأمر نبينا صلى الله عليه وسلم بمثل الذي أمر به مَنْ قبله من الأنبياء.
وأما التشبيه ، فإنما وقع على الوقت. وذلك أن مَنْ كان قبلنا إنما كان فرِض عليهم شهر رمضان ، مثل الذي فُرض علينا سواء.
* * *
وأما تأويل قوله : " لعلكم تَتقون " ، فإنه يعني به : لتتقوا أكل الطعام وشرب الشراب وجماع النساء فيه. (1) يقول : فرضت عليكم الصوم والكفّ عما تكونون بترك الكف عنه مفطرين ، لتتقوا ما يُفطركم في وقت صومكم.
* * *
وبمثل الذي قُلنا في ذلك قال جماعة من أهل التأويل :
* ذكر من قال ذلك :
2726 - حدثني موسى قال ، حدثنا عمرو قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : أما قوله : " لعلكم تتقون " ، يقول : فتتقون من الطعامِ والشرابِ والنساءِ مثل ما اتقوا - يعني : مثل الذي اتقى النصارى قبلكم.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ }
قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره ، كتب عليكم أيها الذين آمنوا - الصيامُ أيامًا معدودات.
ونصبَ " أيامًا " بمضمر من الفعل ، كأنه قيل : كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قَبلكم ، أن تصوموا أيامًا معدودات ، كما يقال : " أعجبني الضربُ ، زيدًا " .
* * *
__________
(1) انظرتفسير " لعل " بمعنى " لكي " 1 : 364 ، 365 / ثم 2 : 69 ، 161 ، واطلبه في الفهرس أيضًا .

(3/413)


وقوله : " كما كتب على الذين من قبلكم " من الصيام ، كأنه قيل : كتب عليكم الذي هو مثل الذي كتب على الذين من قبلكم : أن تصوموا أيامًا معدودات.
* * *
ثم اختلف أهل التأويل فيما عَنى الله جل وعز بقوله : " أيامًا معدودات " .
فقال بعضهم : " الأيام المعدودات " ، صومُ ثلاثة أيام من كل شهر. قال : وكان ذلك الذي فُرض على الناس من الصيام قبل أن يُفرض عليهم شهرُ رمضان.
* ذكر من قال ذلك :
2727 - حدثنا المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن عطاء قال : كان عليهم الصيامُ ثلاثة أيام من كل شهر ، ولم يُسمِّ الشهرَ أيامًا معدودات. قال : وكان هذا صيام الناس قبل ، ثم فرض الله عز وجل على الناس شهرَ رمصان.
2728 - حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : " يا أيها الذين آمنوا كُتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون " ، وكان ثلاثةَ أيام من كل شهر ، ثم نسخ ذلك بالذي أنزل من صيام رمضان. فهذا الصوم الأول ، من العتمة.
2729 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا يونس بن بكير قال ، حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله بن عتبة. عن عمرو بن مرة ، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى ، عن معاذ بن جبل : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم المدينة فصامَ يومَ عاشوراء وثلاثة أيام من كل شهر ، ثم أنزل الله جل وعزّ فرضَ شهر رمضان ، فأنزل الله : " يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قَبلكم " حتى بلغ : " وَعلى الذين يُطيقونه فدية طعامُ مِسكين " . (1)
__________
(1) الحديث : 2729 - يونس بن بكير : مضت ترجمته ، في : 1605 . ووقع في المطبوعة هنا " بشر بن بكير " ، وهو خطأ واضح . وسيأتي هذا الحديث بهذا الإسناد - بأطول مما هنا - على الصواب ، برقم : 2733 .
عبد الرحمن بن عبد الله بن عتبة : هو المسعودي ، وهو ثقة ، تكلموا فيه بأنه تغير في آخر حياته قبل موته بسنة أو سنتين . مات سنة 160 . مترجم في التهذيب . وابن سعد 6 : 254 ، وابن أبي حاتم 2/2/250 - 252 .
وهذا الحديث قطعة من حديث مطول ، في أحوال الصلاة ، وفي أحوال الصيام . مضت قطعة صغيرة منه ، في شأن الصلاة إلى بيت المقدس : 2156 ، من طريق أبي داود الطيالسي ، عن المسعودي .
ورواه أحمد في المسند بطوله 5 : 246 - 247 (حلبي) ، عن أبي النضر ، يزيد بن هارون - كلاهما عن المسعودي . وكذلك رواه أبو داود السجستاني : 507 ، من طريق أبي داود الطيالسي ، ويزيد بن هارون .
وروى الحاكم في المستدرك 2 : 274 ، شطره الذي في أحوال الصيام ، من طريق أبي النضر ، عن المسعودي . وقال : " هذا حديث صحيح الإسناد ، ولم يخرجاه " . ووافقه الذهبي .
ونقله ابن كثير 1 : 402 - 404 ، كاملا ، عن رواية المسند . بإسنادها . وذكره السيوطي ، كاملا أيضًا 1 : 175 - 176 ، وزاد نسبته لابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والبيهقي في سننه .

(3/414)


2730 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر ، عن قتادة قال : قد كتب الله تعالى ذكره على الناس ، قَبل أن ينزل رمضان ، صومَ ثلاثة أيام من كل شهر.
* * *
وقال آخرون : بل الأيام الثلاثةُ التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصومُها قبل أن يفرض رمضان ، كان تَطوعًا صوْمهُنّ ، وإنما عنى الله جل وعز بقوله : " كتب عليكم الصيامُ كما كتب على الذين من قبلكم أيامًا معدودات " ، أيامَ شَهر رمضان ، لا الأيامَ التي كان يصومهن قبل وُجوب فرض صَوم شهر رمضان.
* ذكر من قال ذلك :
2731 - حدثنا محمد بن المثنى قال ، حدثنا محمد بن جعفر ، عن شعبة ، عن عمرو بن مرة ، قال ، حدثنا أصحابنا : أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قدم عليهم أمرَهم بصيام ثلاثة أيام من كل شهر تطوعًا لا فريضةً. قال : ثم نزل صيام رمضان - قال أبو موسى : قوله : " قال عمرو بن مرة : حدثنا أصحابنا "

(3/415)


يريد ابن أبي ليلى ، كأنّ ابنَ أبي ليلى القائلُ : " حدثنا أصحابنا " . (1)
2732 - حدثنا ابن المثنى قال ، حدثنا أبو داود قال ، حدثنا شعبة قال ، سمعت عمرو بن مرة قال ، سمعت ابن أبي ليلى ، فذكر نحوه.
* * *
__________
(1) الحديث : 2731 - وهذه قطعة من الحديث السابق ، الطويل ، الذي أشرنا إليه في : 2729 ، ولكنه هنا مروي من طريق آخر ، طريق شعبة عن عمرو بن مرة . ويقول هنا عمرو بن مرة " حدثنا أصحابنا : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم " ، إلخ . فلو أخذ هذا على ظاهره ، لكان مرسلا . فلذلك فسره أبو موسى - وهو محمد بن المثنى شيخ الطبري - بأن الذي قال هذا هو عبد الرحمن بن أبي ليلى . ثم تلاه المثنى بالرواية بعده : 2732 ، عن أبي داود - وهو الطيالسي - عن شعبة " قال : سمعت عمرو بن مرة ، قال : سمعت ابن أبي ليلى " . وهذا هو الإسناد الذي أشرنا آنفًا إلى رواية الطبري قطعة أخرى من الحديث ، به ، في : 2156 .
والظاهر أن ابن المثنى سمع الحديث من محمد بن جعفر مرتين أو أكثر ، إحداها على هذا الوجه الذي هنا ، وبعضها على الوجه الواضح الصريح ، بذكر ابن أبي ليلى .
فقد روى الحديث - كله - أبو داود السجستاني في السنن : 506 ، بإسنادين ، أحدهما إسناد الطبري هذا ، أعني عن محمد بن المثنى . فقال أبو داود : " حدثنا عمرو بن مرزوق ، أخبرنا شعبة ، عن عمرو بن مرة ، قال : سمعت ابن أبي ليلى - ح - وحدثنا ابن المثنى ، حدثنا محمد بن جعفر ، عن شعبة ، عن عمرو بن مرة ، سمعت ابن أبي ليلى ، قال ، أحيلت الصلاة ثلاثة أحوال ، وحدثنا أصحابنا : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال . . . " .
فأعاد في الإسناد الثاني - في طريق شعبة - قول عمرو بن مرة : " سمعت ابن أبي ليلى " . ولعله أراد بهذه الإعادة ، التي فيها التصريح باسم ابن أبي ليلى ، رفع التوهم أن يظن أن تلك الرواية التي لم يصرح فيها محمد بن جعفر باسم " ابن أبي ليلى " تعلل هذه الرواية الصريحة .
أو يؤيد هذا قول الطبري - عقب الحديث - : " قال أبو موسى : قوله " قال عمرو بن مرة حدثنا أصحابنا " - يريد ابن أبي ليلى ، كأن ابن أبي ليلى القائل : حدثنا أصحابنا " . وأبو موسى : هو محمد بن المثنى نفسه ، شيخ الطبري وأبي داود . فحين حدث بالرواية المبهمة - التي في الطبري هنا - فسرها بالرواية الأخرى الموضحة ، وصرح في تفسيره بأن القائل " حدثنا أصحابنا " هو ابن أبي ليلى ، لا عمرو بن مرة . تحرزًا من إيهام أن الإسناد يكون مرسلا إذا كان القائل ذلك هو عمرو بن مرة .
وقد عقب الطبري على ذلك ، بالإسناد من طريق أبي داود الطيالسي ، الذي فيه التصريح بسماع عمرو بن مرة ذلك من ابن أبي ليلى : 2732 .
وقول ابن أبي ليلى " حدثنا أصحابنا " - يريد به الصحابة ، مثل معاذ وغيره . وابن أبي ليلى من كبار التابعين . ويؤيد هذا رواية البخاري 4 : 164 (فتح) ، قطعة من الحديث نفسه المطول ، رواية معلقة بصيغة الجزم . فقال : " وقال ابن نمير : حدثنا الأعمش ، حدثنا عمرو بن مرة ، حدثنا ابن أبي ليلى حدثنا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم " . وقال الحافظ : " وصله أبو نعيم في المستخرج ، والبيهقي من طريقه . . . وهذا الحديث أخرجه أبو داود ، من طريق شعبة والمسعودي ، عن الأعمش مطولا ، في الأذان ، والقبلة ، والصيام . واختلف في إسناده اختلافًا كثيرًا . وطيق ابن نمير هذه أرجحها " .

(3/415)


قال أبو جعفر : وقد ذكرنا قول من قال : عنى بقوله : " كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم " ، شهرَ رمضان.
* * *
وأولى ذلك بالصواب عندي قولُ من قال : عنى الله جل ثناؤه بقوله : " (أيامًا معدودات) ، أيامَ شهر رمضان. وذلك أنه لم يأت خبرٌ تَقوم به حُجة بأنّ صومًا فُرِض على أهل الإسلام غيرَ صوم شهر رمضان ، ثم نسخ بصوم شهر رمضان ، وأن الله تعالى قَد بيَّن في سياق الآية ، (1) أنّ الصيامَ الذي أوجبه جل ثناؤه علينا هو صيام شهر رمضان دون غيره من الأوقات ، بإبانته ، عن الأيام التي أخبر أنه كتب علينا صومَها بقوله : " شهرُ رَمضان الذي أنزلَ فيه القرآن " . فمن ادعى أن صومًا كان قد لزم المسلمين فرضُه غير صوم شهر رمضان الذين هم مجمعون على وجوب فرض صومه - ثم نسخ ذلك - سئل البرهانَ على ذلك من خبر تقوم به حُجة ، إذ كان لا يعلم ذلك إلا بخبر يقطع العذرَ.
وإذ كان الأمر في ذلك على ما وصفنا للذي بينا ، فتأويل الآية : كتب عليكم أيها المؤمنون الصيامُ كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون ، أيامًا معدودات هي شهر رمضان. وجائز أيضًا أن يكون معناه : " كتب عليكم الصيام " ، كتب عليكم شهر رمضان.
* * *
وأما " المعدودات " : فهي التي تعدّ مبالغها وساعاتُ أوقاتها. ويعني بقوله : " معدودات " ، مُحْصَيَاتٍ.
* * *
__________
(1) في المطبوعة : " وبأن الله تعالى . . . " ، وهو خطأ . ليس معطوفًا على قوله : " بأن صومًا . . " بل هو عطف على قوله : " وذلك أنه لم يأت خبر . . . "

(3/417)


القول في تأويل قوله تعالى : { فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ }
قال أبو جعفر : يعني بقوله جل ثناؤه : " فمن كان منكم مريضًا " ، (1) من كان منكم مريضًا ، ممن كلِّف صَومه أو كان صحيحًا غير مريض وكان على سَفر ، " فعدة من أيام أخر " ، يقول : فعليه صوم عدة الأيام التي أفطرها في مرضه أو في سفره ، " من أيام أخر " ، يعني : من أيام أخر غير أيام مرضه أو سفره.
* * *
والرفع في قوله : " فعدةٌ منْ أيام أخر " ، نظير الرفع في قوله : " فاتباع بالمعروف " . وقد مضى بيان ذلك هنالك بما أغنى عن إعادته. (2)
* * *
وأما قوله : " وَعلى الذين يُطيقونه فديةٌ طَعامُ مسكين " ، فإنّ قراءة كافة المسلمين : " وعلى الذين يُطيقونه " ، وعلى ذلك خطوط مصاحفهم. وهي القراءة التي لا يجوز لأحد من أهل الإسلام خلافُها ، لنقل جميعهم تصويبَ ذلك قرنًا عن قرن.
وكان ابن عباس يقرؤها فيما روي عنه : " وعلى الذين يُطوَّقونه " . (3)
* * *
ثم اختلف قُرّاء ذلك : " وَعلى الذين يُطيقونه " في معناه.
فقال بعضهم : كان ذلك في أول ما فرض الصوم ، وكان من أطاقه من المقيمين صامَه إن شاء ، وإن شاء أفطره وَافتدى ، فأطعم لكل يوم أفطره مسكينًا ، حتى نُسخ ذلك.
* ذكر من قال ذلك :
__________
(1) نص هذا الجزء من الآية لم يكن في المطبوعة ، وأثبته على نهجه في التفسير .
(2) انظر ما سلف في هذا الجزء 3 : 373 .
(3) انظر رفض هذه القراءة فيما سيأتي : 438 .

(3/418)


2733 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا يونس بن بكير قال ، حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله بن عتبة ، عن عمرو بن مرة ، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى ، عن معاذ بن جبل قال : " إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم المدينة فصامَ يوم عاشوراء وثلاثة أيام من كل شهر ، ثم إنّ الله جل وعز فرض شهر رَمضان ، فأنزل الله تعالى ذكره : " يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام " حتى بلغ " وعلى الذين يطيقونه فديةٌ طعام مسكين " ، فكان من شاء صامَ ، ومن شاء أفطر وأطعمَ مسكينًا. ثم إن الله عز وجل أوجب الصيام على الصحيح المقيم ، وثبت الإطعام للكبير الذي لا يستطيع الصوم ، فأنزل الله عز وجل : " فمن شَهد منكم الشهر فليصمه ومن كان مريضًا أو عَلى سفر " إلى آخر الآية. (1)
2734 - حدثنا محمد بن المثنى قال ، حدثنا محمد بن جعفر ، عن شعبة ، عن عمرو بن مرة ، قال حَدثنا أصحابنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قدم عليهم أمرهم بصيام ثلاثة أيام من كل شهر تطوعًا غيرَ فريضة. قال : ثم نزل صيام رمضان. قال : وكانوا قومًا لم يتعودوا الصيام. قال : وكان يشتد عليهم الصوم. قال : فكان من لم يصم أطعمَ مسكينًا ، ثم نزلت هذه الآية : " فمن شهد منكم فليصمه ومن كان مريضًا أو على سفر فعدة من أيام أخر " ، فكانت الرخصة للمريض والمسافر ، وأمرنا بالصيام. قال محمد بن المثنى قوله : " قال عمرو : حدثنا أصحابنا " ، يريد ابنَ أبي ليلى. كأن ابن أبي ليلى القائل : " حدثنا أصحابنا " .
2735 - حدثنا ابن المثنى قال ، حدثنا أبو داود قال ، حدثنا شعبة قال ، سمعت عمرو بن مرة قال ، سمعت ابن أبي ليلى فذكر نحوه. (2)
__________
(1) الحديث : 2733 - هو قطعة من الحديث الذي خرجناه في : 2729 - أطول من الرواية الماضية .
(2) الحديثان : 2734 ، 2735 - وهذان أيضًا قطعتان من الحديث الذي أشرنا إليه في : 2731 ، 2732 ، وقد صرح الطبري في أولهما - هنا - باسم " محمد بن المثنى " ، الذي ذكره هناك بكنيته " قال أبو موسى " .

(3/419)


2736 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا جرير ، عن منصور ، عن إبراهيم ، عن علقمة في قوله : " وَعلى الذين يُطيقونه فديةٌ طعامُ مسكين " ، قال : كان من شاء صام ، ومن شاء أفطر وأطعم نصف صاع مسكينًا ، فنسخها : " شهرُ رَمَضَان " إلى قوله : " فمن شَهد منكم الشهر فليصمه " .
2737 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا جرير ، عن مغيرة ، عن إبراهيم ، بنحوه - وزاد فيه ، قال : فنسختها هذه الآية ، وصارت الآية الأولى للشيخ الذي لا يستطيع الصوم ، يتصدق مكانَ كل يوم على مسكين نصفَ صاع.
2738 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا يحيى بن واضح أبو تميلة قال ، حدثنا الحسين ، عن يزيد النحوي ، عن عكرمة والحسن البصري قوله : " وَعلى الذين يُطيقونه فديةٌ طعامُ مسكين " ، فكان من شاء منهم أن يصومَ صَام ، ومن شاء منهم أن يَفتدي بطعام مسكين افتدى وتَمَّ له صومه. ثم قال : " فمن شَهد منكم الشهرَ فليصمه " ، ثم استثنى من ذلك فقال : " ومنْ كان مريضًا أوْ عَلى سفر فعدةٌ من أيام أخر " .
2739 - حدثنا أبو هشام الرفاعي قال ، حدثنا ابن إدريس قال : سألت الأعمش عن قوله : " وعلى الذين يُطيقونه فديةٌ طعامُ مسكين " ، فحدثنا عن إبراهيم ، عن علقمة. قال : نسختها : " فمن شَهد منكم الشهر فليصمه " . (1)
2740 - حدثنا عمر بن المثنى قال ، حدثنا عبد الوهاب قال ، حدثنا عبد الله ، عن نافع ، عن ابن عمر قال : نَسَخت هذه الآية - يعني : " وَعلى الذين يُطيقونه فديةٌ طعامُ مسكين " - التي بَعدها : " فمن شَهد منكم الشهرَ فَليصمه ومن كان
__________
(1) الأثر : 2739 - أبو هشام الرفاعي محمد بن يزيد بن محمد بن كثير بن رفاعة العجلي ، قاضي بغداد ، روى عن عبد الله بن إدريس وحفص بن غياث ، روى عنه مسلم والترمذي وابن ماجه وغيرهم . ذكره ابن حبان في الثقات ، وقال : يخطئ ويخالف . وقال ابن أبي حاتم . سالت أبي عنه فقال : ضعيف يتكلمون فيه ، وله كتاب في القراءات ، مات سنة 248 .

(3/420)


مريضًا أو على سَفر فعدة من أيام أخر " . (1)
2741 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا ابن إدريس قال ، سمعت الأعمش ، عن إبراهيم ، عن علقمة في قوله : " وعلى الذين يطيقونه فدية طعامُ مسكين " ، قال : نسختها : " فمن شهد منكم الشهر فليصمه " .
2742 - حدثنا الوليد بن شجاع أبو همام قال ، حدثنا علي بن مُسهر ، عن عاصم ، عن الشعبي قال : نزلت هذه الآية : " وعلى الذين يُطيقونه فديةٌ طعامُ مسكين " ، كان الرجل يُفطر فيتصدق عن كل يوم على مسكين طعامًا ، ثم نزلت هذه الآية : " فمن شهد منكم الشهر فليصمه ومن كان مريضًا أو على سفر فعدةٌ من أيام أخر " ، فلم تنزل الرّخصةُ إلا للمريض والمسافر.
2743 - حدثنا هناد بن السري قال ، حدثنا علي بن مسهر ، عن عاصم ،
__________
(1) الحديث : 2740 - عمر بن المثنى : هكذا في المطبوعة ، وأنا أرجح أن يكون صوابه " محمد بن المثنى " شيخ الطبري الذي يروي عنه كثيرًا . ولم أجد من يسمى " عمر بن المثنى " إلا رجلا واحدًا ، ذكر في التهذيب ولسان الميزان على أنه من التابعين . ثم لم أجترئ على تصحيحه هنا ، لاحتمال أن يكون من شيوخ الطبري الذين لم نجد تراجمهم .
عبد الوهاب : هو ابن عمر المجيد الثقفي ، مضت ترجمته في : 2029 .
عبد الله : هو ابن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب ، عرف بلقب " العمري " ، وهو ثقة ، مترجم في التهذيب ، وابن أبي حاتم 2/2/109 - 110 .
ومن المحتمل أن يكون في المطبوعة خطأ ، وأن يكون صوابه " عبيد الله " بالتصغير ، وهو أخو عبد الله أكبر منه وأوثق عند أئمة الجرح والتعديل ، وهو أحد الفقهاء السبعة ، مترجم في التهذيب . وابن أبي حاتم 2/2/326 - 327 . وهو وأخوه يشتركان في كثير من الشيوخ ، منهم " نافع مولى ابن عمر " .
وإنما ظننت هذا الاحتمال ، لأن الحديث مروي من حديث " عبيد الله " ، كما سنذكر ، إن شاء الله :
فرواه البيهقي في السنن الكبرى 4 : 200 ، من طريق عبد الوهاب الثقفي ، " عن عبيد الله بن عمر ، عن نافع ، عن ابن عمر " .
ورواه البخاري مختصرا 4 : 164 ، و 8 : 136 ، من طريق عبد الأعلى ، وهو ابن عبد الأعلى عن عبيد الله ، عن نافع ، عن ابن عمر .
ورواه البيهقي أيضًا من أحد طريقي البخاري .
والحديث صحيح بكل حال . وذكره السيوطي 1 : 178 ، وزاد نسبته إلى وكيع ، وسعيد بن منصور وابن أبي شيبة في المصنف ، وابن المنذر .

(3/421)


عن الشعبي قال : نزلت هذه الآية للناس عامة : " وعلى الذين يُطيقونه فديةٌ طعامُ مسكين " ، وكان الرجل يفطر ويتصدق بطعامه على مسكين ، ثم نزلت هذه الآية : " ومن كان مريضًا أو على سفر فعدة من أيام أخر " ، قال : فلم تنزل الرخصة إلا للمريض والمسافر.
2744 - حدثنا هناد قال ، حدثنا وكيع ، عن ابن أبي ليلى قال : دخلت على عطاء وهو يأكل في شهر رمضان ، فقال : إني شيخ كبيرٌ ، إن الصومَ نزل ، فكان من شاء صام ، ومن شاء أفطر وأطعم مسكينًا ، حتى نزلت هذه الآية : " فمن شَهد منكم الشهر فليصمه ومَنْ كان مريضًا أو على سفر فعدة من أيام أخر " ، فوجب الصوم على كل أحد ، إلا مريض أو مسافر أو شيخ كبير مثلي يَفتدي.
2745 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو صالح قال ، حدثني الليث قال ، أخبرني يونس ، عن ابن شهاب قال : قال الله : " يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيامُ كما كتب عَلى الذين منْ قبلكم " ، قال ابن شهاب : كتب الله الصيام علينا ، فكان من شاء افتدى ممن يطيق الصيامَ من صحيح أو مريض أو مسافر ، ولم يكن عليه غير ذلك. فلما أوجب الله على من شهد الشهرَ الصيامَ ، فمن كان صحيحًا يُطيقه وضع عنه الفدية ، وكان من كان على سفر أو كان مريضًا فعدة من أيام أخر. قال : وبقيت الفديةُ التي كانت تُقبل قبل ذلك للكبير الذي لا يُطيق الصيام ، والذي يعرض له العطشُ أو العلة التي لا يستطيع معها الصيام.
2746 - حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قال ، جعل الله في الصوم الأوّل فدية طعام مسكين ، فمن شاء من مسافر أو مقيم أن يُطعم مسكينًا ويفطر ، كان ذلك رخصةً له. فأنزل الله في الصوم الآخِر : " فعدة من أيام أخر " ، ولم يذكر الله في الصوم الآخر فدية طعام مسكين ، فنُسِخت الفدية ، وَثبت في الصوم الآخر :

(3/422)


" يُريد الله بكم اليسرَ ولا يُريد بكم العسر " ، وهو الإفطار في السفر ، وجعله عدةً من أيام أخَر.
2747 - حدثني أحمد بن عبد الرحمن بن وهب قال ، أخبرني عمي عبد الله بن وهب قال ، أخبرني عمرو بن الحارث قال ، بكَيْر بن عبد الله ، عن يزيد مولى سلمة بن الأكوع ، عن سلمة بن الأكوع أنه قال : كنا في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم من شاء صام ، ومن شاء أفطر وافتدى بطعام مسكين ، حتى أنزلت : " فمن شهد منكم الشهر فليصمه " . (1)
2748 - حدثني المثنى قال ، حدثنا سويد قال ، أخبرنا ابن المبارك ، عن عاصم الأحول ، عن الشعبي في قوله : " وعلى الذين يُطيقونه فدية طعامُ مسكين " ،
__________
(1) الحديث : 2747 - أحمد بن عبد الرحمن بن وهب ، المصري ، ابن أخي عبد الله بن وهب ثقة من شيوخ مسلم وابن خزيمة . تكلم فيه بعضهم فلم ينصفه . وأهل بلده أعرف به . فقال ابن أبي حاتم : " سألت محمد بن عبد الحكم عنه ؟ فقال : ثقة ، ما رأينا إلا خيرًا ، قلت : سمع من عمه ؟ قال : إي والله " . مترجم في التهذيب ، وابن أبي حاتم 1/1/59 - 60 .
" بكير بن عبد الله بن الأشج " المدني نزيل مصر : تابعي ثقة ، قال ابن وهب : " ما ذكر مالك بن أنس بكير بن الأشج إلا قال : كان من العلماء " . مترجم في التهذيب ، والكبير 1/2/113 ، وابن أبي حاتم 1/1/403 - 404 .
" بكير " : بالتصغير . ووقع في المطبوعة " بكر " بغير الياء ، وهو خطأ . فليس لبكر بن عبد الله المزني رواية في هذا الحديث . والحديث حديث " بكير بن عبد الله " .
يزيد مولى سلمة بن الأكوع : هو يزيد بن أبي عبيد الحجازي ، وهو تابعي ثقة . مترجم في التهذيب ، والكبير 4/2/348 - 349 ، وابن أبي حاتم 4/2/280 .
وقال البخاري في الصحيح - بعد روايته هذا الحديث - : " مات بكير قبل يزيد " . وهو كما قال ، فإن بكير بن عبد الله مات سنة 127 ، وقيل غير ذلك ، إلى سنة 127 . وأما يزيد مولى سلمة فإنه مات سنة 146 أو 147 . فسمع عمرو بن الحارث هذا الحديث من بكير عن يزيد - في حياة يزيد .
والحديث رواه مسلم 1 : 315 ، عن عمرو بن سواد العامري ، عن ابن وهب ، بهذا الإسناد . وكذلك رواه البيهقي 4 : 200 ، من طريق بحر بن نصر ، عن ابن وهب .
ورواه البخاري 8 : 136 ، ومسلم 1 : 315 ، والبيهقي 4 : 200 - كلهم من حديث قتيبة بن سعيد ، عن بكر بن مضر ، عن عمرو بن الحارث ، عن بكير .
وذكره السيوطي 1 : 177 - 178 ، وزاد نسبته للدارمي ، وابن خزيمة ، وابن حبان ، والحاكم ، وغيرهم .

(3/423)


قال : كانت للناس كلهم : فلما نزلت : " فمن شهد منكم الشهر فليصمه " ، أمِروا بالصوم والقضاء ، فقال : " ومن كان مريضًا أو على سفر فعدة من أيام أخر " .
2749 - حدثنا هناد قال ، حدثنا علي بن مسهر ، عن الأعمش ، عن إبراهيم في قوله : " وعلى الذين يُطيقونه فديةٌ طعامُ مسكين " ، قال : نسختها الآية التي بعدها : وأن تصوموا خيرٌ لكم إنْ كنتم تعلمون.
2750 - حدثنا هناد قال ، حدثنا وكيع ، عن محمد بن سليمان ، عن ابن سيرين ، عن عبيدة : " وَعلى الذين يُطيقونه فديةٌ طعامُ مسكين " ، قال : نسختها الآية التي تليها : " فمن شَهد منكم الشهر فليصمه " .
2751 - حدثت عن الحسين بن الفرج قال ، حدثنا الفضل بن خالد قال ، حدثنا عبيد بن سليمان ، عن الضحاك قوله : " كتب عليكم الصيام " الآية ، فُرض الصوم من العتمة إلى مثلها من القابلة ، فإذا صلى الرجل العتمة حَرُم عليه الطعام والجماع إلى مثلها من القابلة. ثم نزل الصوم الآخِر بإحلال الطعام والجماع بالليل كله ، وهو قوله : ( وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأسْوَدِ ) إلى قوله : ( ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ ) ، وأحل الجماع أيضًا فقال : ( أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ ) ، وكان في الصوم الأول الفدية ، فمن شاء من مسافر أو مقيم أن يُطعم مسكينًا ويفطرَ فعل ذلك ، ولم يذكر الله تعالى ذكره في الصوم الآخر الفديةَ ، وقال : " فعدةٌ من أيام أخر " ، فنسخ هذا الصومُ الآخِرُ الفديةَ. (1)
* * *
وقال آخرون : بل كان قوله : " وَعلى الذينَ يُطيقونه فدية طعامُ مسكين " ، حُكمًا خاصًّا للشيخ الكبير والعجوز الذين يُطيقان الصوم ، كان مرخصًا لهما
__________
(1) الخبر : 2751 - " الحسين بن الفرج " : ثبت في المطبوعة هنا " الحسن " . وهو خطأ ، كما بينا في : 2719 .

(3/424)


أن يَفديا صومهما بإطعام مسكين ويفطرا ، ثم نسخ ذلك بقوله : " فمن شَهد منكم الشهرَ فليصمه " ، فلزمهما من الصوم مثل الذي لزم الشاب إلا أن يعجزا عن الصوم ، فيكون ذلك الحكم الذي كان لهما قبلَ النسخ ثابتًا لهما حينئذ بحاله.
* ذكر من قال ذلك.
2752 - حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا يزيد بن زريع قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة ، عن عَزْرة ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : كان الشيخُ الكبير والعجوزُ الكبيرةُ وهما يطيقان الصوم ، رُخص لهما أن يفطرَا إن شاءا ويطعما لكلّ يوم مسكينًا ، ثم نَسخَ ذلك بعد ذلك : " فمن شَهد منكم الشهر فليصمه ومَنْ كان مريضًا أو عَلى سفر فعدةٌ من أيام أخر " ، وثبت للشيخ الكبير والعجوز الكبيرة ، إذا كانا لا يطيقان الصوم ، وللحبلى والمرضع إذا خافتا.
2753 - حدثني المثنى قال ، حدثنا سويد قال ، أخبرنا ابن المبارك ، عن سعيد ، عن قتادة ، عن عروة عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : " وَعلى الذين يُطيقونه " ، قال : الشيخ الكبير ، والعجوز الكبيرة ، ثم ذكر مثل حديث بشر عن يزيد. (1)
__________
(1) الحديثان : 2752 - 2753 - سعيد : هو ابن أبي عروبة .
عزرة - بفتح العين والراء بينهما زاي ساكنة : هو ابن عبد الرحمن بن زرارة الخزاعي ، وهو ثقة . مترجم في التهذيب ، والكبير 4/1/65 ، وابن أبي حاتم 3/2/21 - 22 .
ووقع في المطبوعة هنا ، وفي سنن أبي المطبوعة " عروة " بدل " عزرة " ، وهو تصحيف . والتصويب من السنن مخطوطة الشيخ عابد السندي ، ومن السنن الكبرى للبيهقي .
والحديث رواه أبو داود : 2318 (2 : 266 عون المعبود) ، من طريق ابن أبي عدي ، عن سعيد ، عن قتادة ، بهذا الإسناد ، نحوه .
ورواه البيهقي في السنن الكبرى 4 : 230 ، من طريق روح بن عبادة ، ومن طريق مكي بن إبراهيم - كلاهما عن سعيد بن أبي عروبة ، به .
ثم رواه من طريق أبي داود في السنن ، قال : " عن سعيد ، فذكره " . يعني بهذا الإسناد . فلو كانت رواية أبي داود من طريق " عروة " لذكر ذلك ، ولم يحل إسناد أبي داود على إسناده السابق الذي فيه " عن عزرة " .
وذكره السيوطي 1 : 177 - وزاد نسبته لسعيد بن منصور ، وعبد بن حميد ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم .
وروى البخاري 8 : 135 ، نحو معناه ، من طريق عمرو بن دينار ، عن عطاء ، عن ابن عباس وكذلك رواه النسائي 1 : 318 - 319 ، من طريق عمرو بن دينار .

(3/425)


2754 - حدثنا محمد بن بشار قال ، حدثنا معاذ بن هشام قال ، حدثني أبي ، عن قتادة ، عن عكرمة قال : كان الشيخ والعجوز لهما الرخصة أن يفطرا ويُطعما بقوله : " وعلى الذين يطيقونه فديةٌ طعامُ مسكين " . قال : فكانت لهم الرخصة ، ثم نسخت بهذه الآية : " فمن شهد منكم الشهر فليصمه " ، فنسخت الرخصة عن الشيخ والعجوز إذا كانا يطيقان الصوم ، وبقيت الحاملُ والمرضعُ أن يفطرَا ويُطعما.
2755 - حدثني المثنى قال ، حدثنا حجاج بن المنهال قال ، حدثنا همام بن يحيى قال ، سمعت قتادة يقول في قوله : " وعلى الذين يطيقونه فديةٌ طعامُ مسكين " ، قال : كان فيها رخصة للشيخ الكبير والعجوز الكبيرة وهما يطيقان الصومَ أن يطعما مكانَ كل يوم مسكينًا ويفطرا ، ثم نسخ ذلك بالآية التي بعدها فقال : " شهرُ رَمضَانَ " إلى قوله : " فعدةٌ من أيام أخر " ، فنسختها هذه الآية. فكان أهل العلم يُرَوْن ويرجُون الرخصةَ تثبت للشيخ الكبير والعجوز الكبيرة إذا لم يطيقا الصومَ أن يفطرا ويُطعما عن كل يوم مسكينًا ، وللحبلى إذا خشيت على ما في بطنها ، وللمرضع إذا ما خشيت على ولدها.
2756 - حدثت عن عمار بن الحسن قال ، حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع في قوله : " وَعلى الذين يطيقونه فدية طعامُ مسكين " ، فكان الشيخ والعجوز يطيقان صوم رمضان ، فأحل الله لهما أن يفطراه إن أرادا ذلك ، وعليهما الفدية لكل يَوم يفطرانه طعامُ مسكين ، فأنزل الله بعد ذلك : " شهرُ

(3/426)


رَمضانَ الذي أنزل فيه القرآن " ، إلى قوله : " فعدةٌ من أيام أخر " .
* * *
وقال آخرون ممن قرأ ذلك : " وَعلى الذين يُطيقونه " ، لم ينسخ ذلك ولا شيء منه ، وهو حكم مثبتٌ من لَدُنْ نزلت هذه الآية إلى قيام الساعة ، وقالوا : إنما تأويل ذلك : وعلى الذين يطيقونه - في حال شبابهم وَحداثتهم ، وفي حال صحتهم وقوتهم - إذا مَرضوا وكبروا فعجزوا من الكبر عن الصوم ، فدية طعام مسكين لا أنَّ القوم كان رُخِّص لهم في الإفطار - وهم على الصوم قادرون - إذا افتدوا.
* ذكر من قال ذلك :
2757 - حدثني موسى بن هارون قال ، حدثنا عمرو بن حماد قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : " وَعلى الذين يطيقونه فديةٌ طعامُ مسكين " ، قال : أما الذين يطيقونه ، فالرجل كان يطيقه وقد صام قَبل ذلك ، ثم يعرض له الوَجع أو العطش أو المرض الطويل ، أو المرأة المرضعُ لا تستطيع أن تصوم ، فإن أولئك عليهم مكانَ كل يوم إطعام مسكين ، فإن أطعم مسكينًا فهو خيرٌ له ، ومن تكلف الصيام فصامه فهو خيرٌ له.
2758 - حدثنا هناد قال ، حدثنا عبدة ، عن سعيد بن أبي عروبة ، عن قتادة ، عن عَزْرَة ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : إذا خَافت الحاملُ على نفسها ، والمرضع على ولدها في رمضان ، قال : يفطران ويطعمان مكانَ كل يوم مسكينًا ، ولا يقضيان صومًا. (1)
__________
(1) الخبر : 2758 - هناد : هو ابن السري ، مضت ترجمته : 2058 . وعبدة : هو ابن سليمان الكلابي ، مضت ترجمته : 2323 . وهذا الخبر في معنى الحديثين الماضيين : 2751 ، 2752 ، من رواية سعيد بن أبي عروبة ، عن قتادة ، عن عزرة ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس . وذانك حديثان ، لأنهما إخبار من ابن عباس عن نسخ الفدية وجواز الإفطار عامة ، وإثباتهما في حق الشيخ الكبير ومن ذكر معه هناك . وأما هذا فإنه فتوى من ابن عباس .
ووقع هنا في المطبوعة " عروة " بدل " عزرة " ، كما كان في ذينك الحديثين . فأثبتنا الصواب هنا كما أثبتناه هناك .

(3/427)


2759 - حدثنا هناد قال ، حدثنا عبدة ، ... ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : أنه رَأى أمَّ ولدٍ له حاملا أو مُرضعًا ، فقال : أنت بمنزلة الذي لا يُطيقه ، عليك أن تطعمي مكانَ كل يوم مسكينُا ، ولا قَضَاء عليك. (1)
2760 - حدثنا هناد قال ، حدثنا عبدة ، عن سعيد ، عن نافع ، عن علي بن ثابت ، عن نافع ، عن ابن عمر ، مثل قول ابن عباس في الحامل والمرضع. (2)
__________
(1) الخبر : 2759 - وهذا الخبر كسابقه ، فتوى أخرى من ابن عباس لأم ولده ، بمعنى التي قبلها . ولكن وقع هنا في المطبوعة سقط في الإسناد ، بين " عبدة " و " سعيد بن جبير " نرجع أن صوابه كالإسناد السابق . ولكن لم نستجز أن نثبته عن غير ثبت ، فوضعنا أصفارًا موضع السقط .
ويدل على صحة هذا السقط : أن الدارقطني روى هذا الخبر ، في سننه ، ص : 250 ، من طريق روح ، وهو ابن عبادة : " حدثنا سعيد ، عن قتادة ، عن عزرة ، عن سعيد بن جبير : أن ابن عباس قال لأم ولد له . . " . ثم قال الدارقطني عقبه : " إسناد صحيح " .
وذكره السيوطي 1 : 179 ، وزاد نسبته لعبد بن حميد .
(2) الخبر : 2760 - وهذا إسناد صحيح ، موقوف على ابن عمر .
علي بن ثابت بن عمرو بن أخطب البصري الأنصاري : ثقة ، ترجمه ابن أبي حاتم 3/1/177 ، ولم أجد ترجمته في موضع آخر . وملخص ما قال : روى عن نافع ، ومحمد بن يزيد ، ومحمد بن زياد . روى عنه سعيد بن أبي عروبة ، وعمران القطان ، وحماد بن سلمة ، وسويد بن إبراهيم . ثم روى عن أحمد بن حنبل ، قال : " علي بن ثابت بن أبي زيد الأنصاري : ثقة ، حدث عنه سعيد بن أبي عروبة ، وحماد زيد ، وأخوه عزرة بن ثابت ، وأخوه محمد بن ثابت " . ثم ذكر ابن أبي حاتم ، أنه سأل أباه " عن علي بن ثابت ، أخي عزرة ومحمد ابني ثابت ؟ فقال : لا بأس به " .
ووجدت البخاري ذكره في الكبير 1/1/50 ، والصغير ، ص : 171 ، في ترجمة أخيه محمد بن ثابت " .
وجدهم " عمرو بن أخطب الأنصاري " ، كنيته : أبو زيد ، وقد اشتهر بكنيته . ترجمه ابن سعد 7/17 - 18 ، قال : " وله مسجد ينسب إليه بالبصرة " .
وبقية الإسناد - قبل علي بن ثابت وبعده - ثقات معروفون ، كما هو ظاهر .
ولم يذكر الطبري لفظ خبر ابن عمر :
وذكره السيوطي 1 : 179 ، عن نافع : " قال : أرسلت إحدى بنات ابن عمر تسأله عن صوم رمضان وهي حامل ؟ قال : تفطر وتطعم كل يوم مسكينًا " ، ونسبه لعبد بن حميد ، وابن أبي حاتم ، والدارقطني .
والدارقطني رواه ص : 250 ، بإسنادين : من طريق حماد ، عن أيوب ، عن نافع عن ابن عمر : " أن امرأته سألته وهي حبلى ؟ فقال : أفطري وأطعمي عن كل يوم مسكينًا ، ولا تقضي " .
ثم رواه من طريق أبي أسامة ، عن عبيد الله ، عن نافع قال : " كانت بنت لابن عمر تحت رجل من قريش ، وكانت حاملا ، فأصابها عطش في رمضان ، فأمرها ابن عمر أن تفطر وتطعم عن كل يوم مسكينًا " .

(3/428)


2761 - حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قال : ذُكر لنا أن ابن عباس قال ، لأم ولد له حبلى أو مرضع : أنت بمنزلة الذين لا يطيقونه ، عليك الفداءُ ولا صومَ عليك. هذا إذا خافت على نفسها.
2762 - حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : " وَعلى الذين يطيقونه فدية طعامُ مسكين " ، هو الشيخ الكبير كان يُطيق صومَ شهر رمضان وهو شاب ، فكبر وهو لا يستطيع صومَه ، فليتصدق على مسكين واحد لكل يوم أفطرَه ، حين يُفطر وحينَ يَتسحَّر.
2763 - حدثنا هناد قال ، حدثنا عبدة ، عن منصور ، عن مجاهد ، عن ابن عباس نحوه - غير أنه لم يقل : حين يُفطر وحين يَتسحر.
2764 - حدثنا هناد قال ، حدثنا حاتم بن إسماعيل ، عن عبد الرحمن بن حرملة ، عن سعيد بن المسيب أنه قال في قول الله تعالى ذكره : " فديةٌ طعامُ مسكين " ، قال : هو الكبير الذي كان يصوم فكبر وعجز عنه ، وهي الحامل التي ليس عليها الصيام. فعلى كل واحد منهما طعامُ مسكين : مُدٌّ من حنطة لكلّ يوم حتى يمضيَ رَمضان.
* * *
وقرأ ذلك آخرون : " وَعَلَى الَّذِينَ يُطَوَّقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ " ، وقالوا : إنه الشيخ الكبير والمرأة العجوز اللذان قد كبرا عن الصوم ، فهما يكلفان الصوم ولا يطيقانه ، فلهما أن يفطرا ويطعما مكانَ كلّ يوم أفطراه مسكينًا. وقالوا : الآية ثابتة الحكم منذ أنزلت ، لم تنسخ ، وأنكروا قول من قال : إنها منسوخة.
* ذكر من قال ذلك :
2765 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم ، حدثنا ابن جريج ،

(3/429)


عن عطاء ، عن ابن عباس أنه كان يقرؤها : " يُطوَّقونه " .
2766 - حدثنا هناد قال ، حدثنا علي بن مسهر ، عن عصام ، عن عكرمة ، عن ابن عباس أنه كان يقرأ : " وَعلى الذين يُطوقونه فديةٌ طعامُ مسكين " ، قال : فكان يقول : هي للناس اليوم قائمة.
2767 - حدثنا هناد قال ، حدثنا وكيع ، عن سفيان ، عن منصور ، عن مجاهد ، عن ابن عباس أنه كان يقرؤها : " وَعلى الذين يُطوَّقونه فديةٌ طعامُ مسكين " ، قال : وكان يقول : هي للناس اليوم قائمة.
2768 - حدثنا هناد قال ، حدثنا قبيصة ، عن سفيان ، عن منصور ، عن مجاهد ، عن ابن عباس أنه كان يقرؤها : " وعلى الذين يُطوَّقونه " ، ويقول : هو الشيخ الكبير يُفطر ويُطعِم عنه.
2769 - حدثنا محمد بن بشار قال ، حدثنا عبد الوهاب قال ، حدثنا أيوب ، عن عكرمة أنه قال في هذه الآية : " وعلى الذين يُطوَّقونه " ، - وكذلك كان يقرؤها - : إنها ليست منسوخة ، كلِّف الشيخُ الكبير أن يُفطر ويطعم مكان كل يوم مسكينًا.
2770 - حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا محمد بن جعفر قال ، حدثنا شعبة ، عن أبي بشر ، عن سعيد بن جبير أنه قرأ : " وعلى الذين يُطوَّقونه " .
2771 - حدثنا هناد قال ، حدثنا وكيع ، عن عمران بن حدَير ، عن عكرمة قال : " الذين يُطيقونه " يصومونه ، ولكن الذين " يُطوَّقونه " ، يعجزون عنه.
2772 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا ابن جريج قال ، حدثني محمد بن عباد بن جعفر ، عن أبي عمرو مولى عائشة ، أن عائشة كانت تقرأ : " يُطوَّقونه " .
2773 - حدثنا الحسن قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا ابن جريج ، عن عطاء أنه كان يقرؤها " يطوَّقونه " . قال ابن جريج : وكان مجاهد يقرؤها كذلك.

(3/430)


2774 - حدثنا حميد بن مسعدة قال حدثنا بشر بن المفضل قال : حدثنا خالد ، عن عكرمة : " وعلى الذين يُطيقونه " قال ، قال ابن عباس : هو الشيخُ الكبير. (1)
2775 - حدثنا إسماعيل بن موسى السديّ قال ، أخبرنا شريك ، عن سالم ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : " وعلى الذين يُطوَّقونه " قال : يَتجشمونه يَتكلفونه. (2)
2776 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا ابن إدريس ، عن مسلم الملائي ، عن مجاهد ، عن ابن عباس في قوله : " وعلى الذين يُطيقونه فدية طعامُ مسكين " ، قال : الشيخ الكبير الذي لا يُطيق فيفطر ويُطعم كل يوم مسكينًا.
2777 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد وعطاء ، عن ابن عباس في قول الله : " وَعلى الذين يُطيقونه " ، قال : يُكلَّفونه ، فديةٌ طعامُ مسكين واحد. قال : فهذه آية منسوخةٌ لا يرخص فيها إلا للكبير الذي لا يُطيق الصيام ، أو مريض يعلم أنه لا يُشفى.
2778 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن عمرو بن دينار ، عن عطاء ، عن ابن عباس قال : " الذين يطيقونه " ، يتكلَّفونه ، فديةٌ طعام مسكين واحد ، ولم يُرخَّص هذا إلا للشيخ الذي لا يُطيق الصوم ، أو المريض الذي يعلم أنه لا يشفى - هذا عن مجاهد.
2779 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن
__________
(1) الأثر : 2774 - أخشى أن يكون الصواب هنا : " يطوقونه " .
(2) الأثر : 2775 - إسماعيل بن موسى السدي الفزاري ، قيل : هو ابن بنت السدي الكبير إسماعيل بن عبد الرحمن ، مات سنة 245 .

(3/431)


ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، عن ابن عباس أنه كان يقول : ليست بمنسوخة.
2780 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو صالح قال ، حدثني معاوية ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس في قوله : " وَعلى الذين يُطيقونه فديةٌ طعامُ مسكين " ، يقول : من لم يطق الصوم إلا على جَهد ، فله أن يفطر ويطعم كل يوم مسكينًا ، والحاملُ والمرضعُ والشيخُ الكبيرُ والذي به سُقمٌ دائم.
2781 - حدثنا هناد قال ، حدثنا عبيدة ، عن منصور ، عن مجاهد ، عن ابن عباس في قول الله تعالى ذكره : " وعلى الذين يطيقونه فديةٌ طعامُ مسكين " ، قال : هو الشيخ الكبير ، والمرء الذي كان يصومُ في شبابه فلما كبر عجز عن الصوم قبل أن يموتَ ، فهو يطعم كل يوم مسكينًا - قال هناد : قال عبيدة : قيل لمنصور : الذي يطعم كل يوم نصف صاعٍ ؟ قال : نعم. (1)
2782 - حدثنا هناد قال ، حدثنا مروان بن معاوية ، عن عثمان بن الأسود قال : سألتُ مجاهدًا عن امرأة لي وافقَ تاسعها شهرَ رَمضان ، ووافق حرًّا شديدًا ، فأمرني أن تُفطر وتُطعم. قال : وقال مجاهد : وتلك الرخصة أيضًا في المسافر والمريض ، فإن الله يقول : " وعلى الذين يُطيقونه فديةٌ طعامُ مسكين " .
2783 - حدثنا هناد قال ، حدثنا أبو معاوية ، عن عاصم ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : الحاملُ والمرضعُ والشيخُ الكبير الذي لا يستطيع الصوم ، يفطرون في رمضان ، ويطعمون عن كل يوم مسكينًا ، ثم قرأ : " وعلى الذينَ
__________
(1) الخبر : 2781 - عبيدة ، بفتح العين : هو ابن حميد ، بضم الحاء ، بن صهيب الحذاء ، وهو ثقة ، وثقه ابن معين وغيره ، وأخرج له البخاري في الصحيح . مترجم في التهذيب ، والصغير للبخاري ، ص : 212 ، وابن سعد 7/2/72 - 73 ، وابن أبي حاتم 3/1/92 - 93 ، وتاريخ بغداد 11 : 120 - 123 .

(3/432)


يُطيقونه فديةٌ طعامُ مسكين " . (1)
2784 - حدثنا علي بن سَعيد الكندي قال ، حدثنا حفص ، عن حجاج ، عن أبي إسحاق ، عن الحارث ، عن علي في قوله : " وعلى الذين يُطيقونه فديةٌ طعام مسكين " ، قال : الشيخ الكبير الذي لا يستطيع الصوَم ، يُفطر ويطعم مكانَ كل يوم مسكينًا. (2)
2785 - حدثني المثنى قال ، حدثنا الحجاج قال ، حدثنا حماد ، عن عمرو بن دينار ، عن عطاء ، عن ابن عباس قال : " وعلى الذين يُطيقونه فديةٌ طعامُ مسكين " ، قال : هم الذين يتكلفونه ولا يطيقونه ، الشيخُ والشيخة.
2786 - حدثني المثنى قال ، حدثنا الحجاج قال ، حدثنا حَماد ، عن الحجاج ، عن أبي إسحاق ، عن الحارث ، عن علي قال : هو الشيخُ والشيخة.
2787 - حدثني المثنى قال ، حدثنا حجاج قال ، حدثنا حماد ، عن عمران بن حُدير ، عن عكرمة أنه كان يقرؤها : " وَعلى الذين يُطيقونه " فأفطروا.
2788 - حدثني المثنى قال ، حدثنا سويد قال ، أخبرنا ابن المبارك ، عن عاصم ، عمن حدثه عن ابن عباس قال : هي مثبتةٌ للكبير والمرضع والحامل ، وعلى الذين يُطيقونَ الصيام.
2789 - حدثنا المثنى قال ، حدثنا سويد قال ، حدثنا ابن المبارك ، عن ابن جريج قال : قلت لعطاء : ما قوله : " وعلى الذين يطيقونه " ؟ قال : بلغنا أن الكبير إذا لم يستطع الصوم يفتدي من كل يوم بمسكين. قلت : الكبيرُ الذي
__________
(1) الأثر 2783 - أبو معاوية الضرير محمد بن خازم التميمي السعدي . قال ابن سعد : " كان ثقة كثير الحديث ، يدلس ، كان مرجئا . مات سنة 193 .
(2) الأثر 2784 - في المطبوعة : " علي بن سعد " . علي بن سعيد بن مسروق الكندي أبو الحسن الكوفي روى عن حفص بن غياث وابن المبارك وغيرهما . وروى عنه الترمذي والنسائي وأبو حاتم ، قال أبو حاتم : صدوق ، وذكره ابن حبان في الثقات ، توفي سنة 249 .

(3/433)


لا يستطيعُ الصوم ، أو الذي لا يستطيعه إلا بالجهد ؟ قال : بل الكبير الذي لا يستطيعه بجهد ولا بشيء ، فأما مَن استطاع بجهد فليصمه ، ولا عذر له في تركه.
2790 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج قال : أخبرني عبد الله بن أبي يزيد : " وَعلى الذين يُطيقونه " الآية ، كأنه يعني الشيخَ الكبير - قال ابن جريج : وأخبرني ابن طاوس ، عن أبيه أنه كان يقول : نزلت في الكبير الذي لا يَستطيع صيامَ رمضان ، فيفتدي من كل يوم بطعام مسكين. قلت له : كم طعامه ؟ قال : لا أدري ، غير أنه قال : طعام يوم.
2791 - حدثني المثنى قال ، حدثنا سويد قال ، أخبرنا ابن المبارك ، عن الحسن بن يحيى ، عن الضحاك في قوله : " فديةٌ طعامُ مسكين " ، قال : الشيخ الكبير الذي لا يطيق الصومَ ، يفطر ويطعم كل يوم مسكينًا.
* * *
قال أبو جعفر : وأولى هذه الأقوال بتأويل الآية قول من قال : " وَعلى الذين يُطيقونه فديةٌ طعامُ مسكين " ، منسوخٌ بقول الله تعالى ذكره : " فمن شَهد منكم الشهر فَليصمه " .
لأن " الهاء " التي في قوله : " وَعلى الذين يُطيقونه " ، من ذكر " الصيام " ومعناه : وعلى الذين يطيقون الصيام فدية طعامُ مسكين. فإذْ كان ذلك كذلك ، وكان الجميعُ من أهل الإسلام مجمعينَ على أن من كان مُطيقًا من الرجال الأصحاء المقيمين غير المسافرين صوْمَ شهر رمضان ، فغير جائز له الإفطار فيه والافتداء منه بطعام مسكين - كان معلومًا أنّ الآية منسوخةٌ.
هذا ، مع ما يؤيد هذا القول من الأخبار التي ذكرناها آنفًا عن مُعاذ بن جبل ، وابن عمر ، وسلمة بن الأكوع : من أنهم كانوا - بعد نزول هذه الآية على عَهد رسول الله صلى الله عليه وسلم - في صوم شهر رمضان بالخيار بين صومه

(3/434)


وسُقوط الفدية عنهم ، وبين الإفطار والافتداء من إفطاره بإطعام مسكين لكل يوم ؛ وأنهم كانوا يفعلون ذلك حتى نزلت : " فمن شهد منكم الشهر فليصمه " ، فألزموا فرضَ صومه ، وبطل الخيار والفديةُ.
* * *
فإن قال قائل : وكيف تدَّعي إجماعًا من أهل الإسلام على أنّ من أطاق صومه وهو بالصفة التي وصفت ، فغير جائز له إلا صومُه وقد علمت قول من قال : الحامل والمرضعُ إذا خافتا على أولادهما ، لهما الإفطار ، وإن أطاقتا الصوم بأبدانهما ، مع الخبر الذي رُوي في ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، الذي :
2792 - حدثنا به هناد بن السري قال ، حدثنا قبيصة ، عن سفيان ، عن أيوب ، عن أبي قلابة ، عن أنس قال : أتيتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم وهو يَتغدَّى ، فقال : " تعالَ أحدِّثك ، إن الله وَضع عن المسافر والحامل والمرضع الصومَ وشَطرَ الصلاة " ؟ (1)
__________
(1) الحديث : 2792 - قبيصة : هو ابن عقبة السوائي ، مضت ترجمته : 489 ، وأشرنا هناك إلى الكلام في روايته عن سفيان الثوري ، وأنه غير مقبول ، ونزيد هنا أن الشيخين أخرجا له في الصحيحين من روايته عن الثوري ، كما في كتاب رجال الصحيحين ، ص : 422 .
أبو قلابة - بكسر القاف وتخفيف اللام : هو عبد الله بن زيد الجرمي - بفتح الجيم وسكون الراء - أحد الأعلام الحفاظ من التابعين . مترجم في التهذيب ، وابن سعد 7/1/133 - 135 . وابن أبي حاتم 2/2/57 - 58 ، ورجال الصحيحين : 251 ، وتذكرة الحفاظ 1 : 88 - 89 .
أنس - في هذا الحديث فقط : هو أنس بن مالك الكعبي ، من بني كعب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة بن معاوية بن بكر بن هوزان . وهو صحابي ليس له رواية عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا هذا الحديث الواحد . وبعضهم يذكر في نسبته " القشيري " يذهبون إلى أن " قشيرًا " هو ابن كعب بن ربيعة . وهذا هو الثابت في بعض كتب الأنساب ، مثل الاشتقاق لابن دريد ، ص : 181 ، وجمهرة الأنساب لابن حزم ، ص : 271 ، 272 ، وقلدهم الحافظ في التهذيب . ولكن البخاري قال في ترجمته في التاريخ الكبير 1/2/30 : " وكعب إخوة قشير " . وقال ابن أبي حاتم في ترجمته 1/2/286 : " من بني عبد الله بن كعب ، وكعب أخو قشير " . وفي رواية أبي داود لهذا الحديث - كما سيأتي في التخريج إن شاء الله - : " عن أنس بن مالك ، رجل من بني عبد الله بن كعب ، إخوة بني قشير " . وقال الحافظ في الإصابة 1 : 73 " وهذا هو الصواب ، وبذلك جزم البخاري في ترجمته . وعلى هذا فهو كعبي ، لا قشيري ولأن قشيرًا هو ابن كعب ، ولكعب ابن اسمه عبد الله . فهو من إخوة قشير ، لا من قشير نفسه " .
و " أنس بن مالك " - في الرواة ، خمسة نفر : " أنس بن مالك " بن النضر الأنصاري خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم . وهو المراد في أكثر الأحاديث عند إطلاق اسم " أنس " . ثم " أنس بن مالك الكعبي " - هذا الذي هنا . وهذان صحابيان . و " أنس بن مالك بن أبي عامر الأصبحي " ، " والد الإمام " مالك بن أنس " ، وهو تابعي . ثم " أنس بن مالك الصيرفي " ، شيخ خلاد بن يحيى . و " أنس بن مالك " شيخ لأبي داود الطيالسي . وهذان متأخران ، يرويان عن التابعين . وقد ترجم ابن أبي حاتم لهؤلاء الخمسة . وترجم البخاري في الكبير الثلاثة الأول فقط . وذكرهم كلهم ابن الجوزي في تلقيح فهوم أهل الأثر ، ص : 320 . وقال في شأن " الكعبي " هذا ، وأشار إلى حدجيثه الذي هنا - : روى هذا الحديث الثوري ، عن أيوب ، عن أبي قلابة ، عن أنس [يعني الكعبي] . وعند الثوري بهذا الإسناد عن أنس الأنصاري أحاديث " .
وهذا حق . ولذلك كان إطلاق اسم " أنس " هنا غير مستساغ ممن أطلقه ، سواء أكان الطبري أم أحد شيوخ الإسناد ، لما فيه من الإيهام .
والحديث رواه البخاري في الكبير 1/2/30 ، عن قبيصة - شيخ هناد في هذا الإسناد - وعن محمد بن يوسف ، كلاهما عن الثوري ، به . موجزًا كعادته . وصرح في الإسناد بأنه " عن أنس بن مالك الكعبي " .
ورواه النسائي 1 : 315 - 316 ، عن عمر بن محمد بن الحسن - هو ابن التل - عن أبيه ، عن الثوري ، به ، بلفظ : " إن الله وضع عن المسافر ، يعني نصف الصلاة ، والصوم ، وعن الحامل والمرضع " .
ورواه أحمد في المسند 5 : 29 (حلبي) عن ابن علية ، عن أيوب ، قال : " كان أبو قلابة حدثني بهذ الحديث ، ثم قال لي : هل لك في الذي حدثنيه ؟ قال : فدلني عليه ، فأتيته ، فقال : حدثني قريب لي يقال له أني بن مالك . . " . فذكره بقصة في أوله .
ففي هذه الرواية أن بين أبي قلابة وأنس الكعبي رجلا مبهمًا هو الذي حدثه به عنه .
وكذلك ذكر البخاري أن بينهما رجلا : فرواه عقب ذاك ، عن يحيى بن موسى ، عن عبد الرزاق عن معمر ، عن أيوب ، عن أبي قلابة " عن رجل من بني عامر : أن رجلا يقال له أنس حدثه : أنه قدم المدينى - نحوه " .
وأنا أرى ترجيح رواية قبيصة ومحمد بن يوسف ، التي ليس فيها الرجل المبهم ، وقد تابعهما عليها محمد بن الحسن التل . فإن الثوري أحفظ من معمر ومن ابن علية معًا ، وهو المقدم على من خالفه في الحفظ والإتقان .
وللحديث إسناد آخر ، من وجه آخر . رواه أبو هلال محمد بن سليم الراسبي ، عن عبد الله بن سوادة ، عن أنس الكعبي ، وهو إسناد جيد ، بل صحيح ، وأبو هلال الراسبي : ثقة لا بأس به . وعبد الله بن سوادة بن حنظلة القشيري : ثقة أيضًا .
فرواه أحمد في المسند 4 : 347 (حلبي) ، عن وكيع ، وعن عفان . ورواه عقبة ابنه عبد الله عن شيبان . ورواه أحمد أيضًا 5 : 29 (حلبي) ، عن عبد الصمد . ورواه ابن سعد في الطبقات 7/1/30 ، عن وكيع وعفان . ورواه أبو داود : 2408 ، عن شيبان بن فروخ . ورواه الترمذي 2 : 42 ، عن أبي كريب ويوسف بن عيسى ، عن وكيع . ورواه ابن ماجه : 1667 ، عن أبي بكر بن أبي شيبة وعلي بن محمد ، عن وكيع . ورواه البيهقي 4 : 231 ، من طريق عبيد الله بن موسى ، وأبي نعيم . كل هؤلاء وكيع ، وعفان ، وشيبان ، وعبد الصمد ، وعبيد الله بن موسى ، وأبو نعيم - رووه عن أبي هلال الراسبي ، عن عبد الله بن سوادة ، عن أنس الكعبي ، به مطولا ، في قصة .
وهذا إسناد متصل بالسماع ، لأن ابن سعد قال عقب روايته : " قال عفان في الحديث كله : حدثنا قال : حدثنا ، إلى آخره " . فهذا نص على سماع كل شيخ ممن قبله إلى الصحابي .
وقال الترمذي : " حديث أنس بن مالك الكعبي : حديث حسن . ولا نعرف لأنس بن مالك هذا ، عن النبي صلى الله عليه وسلم - غير هذا الحديث الواحد " . ونقل الحافظ في التهذيب 1 : 379 ، عن الترمذي أنه " صححه " . ولكن الذي في أيدينا من نسخ الترمذي قوله " حديث حسن " فقط . فتستفاد زيادة تصحيحه من نقل الحافظ .

(3/435)


قيل : إنّا لم ندَّع إجماعًا في الحامل والمرضع ، وإنما ادعينا في الرجال الذين

(3/436)


وصفنا صفتهم. فأما الحامل والمرضع ، فإنما علمنا أنهنّ غير معنيات بقوله : (وعلى الذين يطيقونه) وخلا الرجال أن يكونوا معنيين به ، (1) لأنهن لو كن معنيات بذلك دون غيرهن من الرجال ، لقيل : وعلى اللواتي يُطقنه فدية طعامُ مسكين ، لأن ذلك كلام العرب ، إذا أفرد الكلامُ بالخبر عنهنّ دُون الرجال. فلما قيل : " وعلى الذين يُطيقونه " ، كان معلومًا أنّ المعنيَّ به الرجالُ دون النساء ، أو الرجالُ والنساء. فلما صحّ بإجماع الجميع - على أنّ من أطاق من الرجال المقيمين الأصحاء صومُ شهر رمضان ، فغيرُ مرخص له في الإفطار والافتداء ، فخرج الرجال من أن يكونوا معنيين بالآية ، وعُلم أن النساء لم يُردن بها لما وصفنا : من أن الخبر عن النساء إذا انفرد الكلامُ بالخبر عنهن : " وعلى اللواتي يطقنه " ، والتنزيل بغير ذلك.
وأما الخبر الذي روي عن النبي صلى الله عليه وسلم ، فإنه إن كان صحيحًا ، فإنما معناه : أنه وضَع عن الحامل والمرضع الصومَ ما دامتا عاجزتين عنه ، حتى تُطيقا فتقضيا ، كما وُضع عن المسافر في سفره ، حتى يقيم فيقضيه - لا أنهما أُمِرتا بالفدية والإفطار بغير وجوب قضاء ، ولو كان في قول النبي صلى الله عليه وسلم : " إن الله وضع عن المسافر والمرضع والحامل الصوم " ، دلالةٌ على أنه صلى الله عليه وسلم إنما عنى أن الله تعالى ذكره وضع عنهم بقوله : " وعلى الذين يُطيقونه
__________
(1) " خلا الرجال " أي خرجوا من قولهم : " أنا منك خلاء ، وخلي " ، أي بريء منك . ويقال : " هو خلو من هذا الأمر " أي خارج ، أو خال منه .

(3/437)


فدية طعامُ مسكين " ، لوجب أن لا يكون على المسافر إذا أفطر في سفره قضاء ، وأن لا يلزمه بإفطاره ذلك إلا الفدية ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد جمع بين حُكمه وبين حكم الحامل والمرضع. وذلك قولٌ ، إن قاله قائلٌ ، خلافٌ لظاهر كتاب الله ، ولما أجمع عليه جميع أهل الإسلام.
* * *
وقد زعم بعض أهل العربية من أهل البصرة أنّ معنى قوله : " وعلى الذين يطيقونه " ، وعلى الذين يطيقون الطعام. وذلك لتأويل أهل العلم مخالفٌ.
* * *
وأما قراءة من قرأ ذلك : " وعلى الذين يُطوَّقونه " فقراءة لمصاحف أهل الإسلام خلافٌ ، وغير جائز لأحد من أهل الإسلام الاعتراض بالرأي على ما نقله المسلمون وِرَاثة عن نبيهم صلى الله عليه وسلم نقلا ظاهرًا قاطعًا للعذر. لأن ما جاءت به الحجة من الدين ، هو الحق الذي لا شك فيه أنه من عند الله. ولا يُعترض على ما قد ثَبت وقامت به حُجة أنه من عند الله ، بالآراء والظنون والأقوال الشاذة.
* * *
وأما معنى " الفدية " فإنه : الجزاء ، من قولك : " فديت هذا بهذا " ، أي جزيته به ، وأعطيته بدلا منه.
* * *
ومعنى الكلام : وعلى الذين يُطيقون الصيام جزاءُ طعام مسكين ، لكلّ يوم أفطرَه من أيام صيامه الذي كتب عليه.
* * *
وأما قوله : " فدية طعامُ مسكين " ، فإنّ القرأة مختلفةٌ في قراءته. فبعضٌ يقرأ بإضافة " الفدية " إلى " الطعام " ، وخفض " الطعام " - وذلك قراءة عُظْم قراء أهل المدينة (1) - بمعنى : وعلى الذين يطيقونه أن يفدوه طعامَ مسكين.
__________
(1) في المطبوعة : " معظم قراء " ، وصواب لفظ الطبري ما أثبت ، كما مضى مرارًا ، وكما سيأتي بعد قليل على الصواب . ومعنى الحرفين سواء ، على كل حال .

(3/438)


فلما جعل مكان " أن يفديه " " الفدية " أضيف إلى " الطعام " ، كما يقال " لزمني غَرامةُ درهم لك " ، بمعنى : لزمني أن أغرَم لك درهمًا.
وآخرون يقرأونه بتنوين " الفدية " ، ورفع " الطعام " ، بمعنى الإبانة في " الطعام " عن معنى " الفدية " الواجبة على من أفطر في صومه الواجب ، كما يقال : " لزمني غرامةٌ ، درهمٌ لك " ، فتبين " بالدرهم " عن معنى " الغرامة " ما هي ؟ وما حدُّها ؟ وذلك قراءةُ عُظْم قُراء أهل العراق.
* * *
قال أبو جعفر : وأولى القراءتين بين الصواب قراءة من قرأ " فديةُ طعام " بإضافة " الفدية " إلى " الطعام " ، لأن " الفدية " اسم للفعل ، وهي غير " الطعام " المفديّ به الصوم.
وذلك أن " الفِدْية " مصدر من قول القائل : " فَديت صَوم هذا اليوم بطعام مسكين أفديه فدية " ، كما يقال : " جلست جِلْسة ، ومَشيتُ مِشْية " . " والفدية " فعل ، و " الطعام " غيرها. فإذْ كان ذلك كذلك ، فبيِّنٌ أن أصَحّ القراءتين إضافة " الفدية " إلى " الطعام " ، (1) وواضحٌ خطأ قول من قال : إن ترك إضافة " الفدية " إلى الطعام ، أصح في المعنى ، من أجل أن " الطعام " عنده هو " الفدية " . فيقال لقائل ذلك : قد علمنا أن " الفدية " مقتضية مفديًّا ، ومفديًّا به ، وفدية. فإن كان " الطعام " هو " الفدية " " والصوم " هو المفديّ به ، فأين اسم فعل المفتدي الذي هو " فدية " إنّ هذا القول خطأ بين غير مشكل.
* * *
وأما " الطعام " فإنه مضاف إلى " المسكين " . والقرأة في قراءة ذلك مختلفون.
فقرأه بعضهم بتوحيد " المسكين " ، بمعنى : وعلى الذين يطيقونه فدية طعام
__________
(1) في المطبوعة : " فتبين أن أصح القراءتين . . " ، ومثل هذا التحريف كثير فيما مضى ، والصواب ما أثبت ، وقوله بعد : " وواضح خطأ قول القائل . . " ، معطوف عليه . فهذا هو صواب السياق .

(3/439)


مسكين واحد لكل يوم أفطره ، كما : -
2793 - حدثني محمد بن يزيد الرفاعي قال ، حدثنا حسين الجعفي ، عن أبي عمرو أنه قرأ : " فديةٌ " - رفع منون - " طعام " - رفع بغير تنوين - " مسكين " ، وقال : عن كل يوم مسكين. وعلى ذلك عُظْم قراء أهل العراق.
* * *
وقرأه آخرون بجمع " المساكين " ، " فدية طعام مَساكين " بمعنى : وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مساكين عن الشهر ، إذا أفطر الشهر كله ، كما : -
2794 - حدثنا أبو هشام محمد بن يزيد الرفاعي ، عن يعقوب ، عن بشار ، عن عمرو ، عن الحسن : " طعام مساكين " ، عن الشهر كله.
* * *
قال أبو جعفر : وأعجبُ القراءتين إليّ في ذلك قراءة من قرأ : " طعام مسكين " على الواحد ، بمعنى : وعلى الذين يطيقونه عن كل يوم أفطروه فدية طعام مسكين. لأن في إبانة حُكم المفطر يومًا واحدًا ، وصُولا إلى معرفة حُكم المفطر جميع الشهر - وليس في إبانة حكم المفطر جميعَ الشهر ، وصولٌ إلى إبانة حكم المفطر يومًا واحدًا ، وأيامًا هي أقل من أيام جميع الشهر - ، وأن كل " واحد " يُترجم عن " الجميع " ، وأن " الجميع " لا يترجم به عن " الواحد " . فلذلك اخترنا قراءة ذلك بالتوحيد. (1)
* * *
واختلف أهل العلم في مبلغ الطعام الذي كانوا يطعمون في ذلك إذا أفطروا.
فقال بعضهم : كان الواجبُ من طعام المسكين لإفطار اليوم الواحد نصف صاع من قمح.
وقال بعضهم : كان الواجب من طعام المسكين لإفطار اليوم ، مدًّا من قمح ومن سائر أقواتهم.
__________
(1) الترجمة : البدل ، كما سلف مرارًا . انظر 2 : 340 ، وفهرس المصطلحات .

(3/440)


وقال بعضهم : كان ذلك نصف صاع من قمح ، أو صاعًا من تمر أو زبيب.
وقال بعضهم : ما كان المفطر يتقوَّته يومَه الذي أفطرَه.
وقال بعضهم : كان ذلك سحورًا وَعشاءً ، يكون للمسكين إفطارًا.
وقد ذكرنا بعض هذه المقالات فيما مضى قبل ، فكرهنا إعادة ذكرها.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ }
قال أبو جعفر : اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك. فقال بعضهم بما : -
2795 - حدثنا محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد وعطاء ، عن ابن عباس : " فمن تطوع خيرًا " ، فزاد طعامَ مسكين آخر ، " فهو خيرٌ له وأن تصومُوا خيرٌ لكم " .
2796 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن عمرو بن دينار ، عن عطاء ، عن ابن عباس مثله.
2797 - حدثنا هناد قال ، حدثنا وكيع ، عن سفيان ، عن خصيف ، عن مجاهد في قوله : " فمن تطوع خيرًا " ، قال : من أطعم المسكين صاعًا.
2798 - حدثني المثنى قال ، حدثنا سويد قال ، أخبرنا ابن المبارك ، عن معمر ، عن ابن طاوس ، عن أبيه : " فمن تطَوع خيرًا فهو خيرٌ له " ، قال : إطعامُ مَساكين عن كل يوم ، فهو خير له.
2799 - حدثني المثنى قال ، حدثنا سويد قال ، أخبرنا ابن المبارك ، عن حنظلة ، عن طاوس : " فمن تطوع خيرًا " ، قال : طعامُ مسكين.
2800 - حدثني المثنى قال ، حدثنا سويد قال ، أخبرنا ابن المبارك ، عن

(3/441)


حنظلة ، عن طاوس نحوه.
2801 - حدثنا محمد بن بشار قال ، حدثنا عبد الرحمن قال ، حدثنا سفيان ، عن ليث ، عن طاوس : " فمن تطوع خيرًا " ، قال : طعام مسكين.
2802 - حدثني المثنى قال ، حدثنا حجاج قال ، حدثنا حماد ، عن ليث عن طاوس مثله.
2803 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا عمرو بن هارون قال ، حدثنا ابن جريج ، عن عطاء أنه قرأ : " فمن تطوع " - بالتاء خفيفة [الطاء] - " خيرًا " ، قال : زاد على مسكين. (1)
2804 - حدثني موسى بن هارون قال ، حدثنا عمرو قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : " فمن تَطوع خيرًا فهو خيرٌ له " ، فإن أطعم مسكينين فهو خير له.
2805 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج قال ، قال ابن جريج ، أخبرني ابن طاوس ، عن أبيه : " فمن تطوع خيرًا فهو خير له " ، قال : من أطعم مسكينًا آخر.
* * *
وقال آخرون : معنى ذلك ، فمن تطوع خيرًا فصامَ مع الفدية.
* ذكر من قال ذلك :
2806 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو صالح قال ، حدثني الليث قال ، أخبرني يونس ، عن ابن شهاب : " فمن تطوع خيرًا فهو خيرٌ له " ، يريد أن من صامَ مع الفدية فهو خير له.
* * *
وقال آخرون : معنى ذلك : فمن تطوع خيرًا فزاد المسكين على قَدر طعامه.
* ذكر من قال ذلك :
__________
(1) الزيادة بين القوسين لا بد منها ، وإلا فسد الكلام . والقراءة الأخرى في هذه الكلمة : " يَطَّوَّعْ " بياء الغيبة ، وفتح الياء ، وتشديد الطاء وفتحها ، وتشد الواو وفتحها ، وجزم العين .

(3/442)


2807 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج قال ، قال ابن جريج قال ، مجاهد : " فمن تطوع خيرًا " ، فزاد طعامًا ، " فهو خير له " .
* * *
قال أبو جعفر : والصواب من القول في ذلك عندنا أن الله تعالى ذكره عمم بقوله : " فمن تطوع خيرًا " ، فلم يخصص بعض معاني الخير دون بعض. فإنّ جَمْع الصَوْم مع الفدية من تطوُّع الخير ، وزيادةُ مسكين على جزاء الفدية من تطوُّع الخير. وجائز أن يكون تعالى ذكره عنى بقوله : " فمن تطوع خيرًا " ، أيَّ هذه المعاني تطوّع به المفتدي من صومه ، فهو خير له. لأن كل ذلك من تطوع الخير ، ونوافل الفضل.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (184) }
قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بقوله : " وأنْ تَصوموا " ، ما كتب عليكم من شهر رمضان ، " فهو خير لكم " من أن تفطروه وتفتدوا ، كما : -
2808 - حدثني موسى بن هارون قال ، حدثنا عمرو بن حماد قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : " وأنْ تَصوموا خيرٌ لكم " ، ومن تكلف الصيامَ فصامه فهو خيرٌ له.
2809 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو صالح قال ، حدثني الليث قال ، حدثني يونس ، عن ابن شهاب : " وأن تَصُوموا خيرٌ لكم " ، أي : إن الصيامَ خير لكم من الفدية.
2810 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى ،

(3/443)


شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآَنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (185)

عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : " وأن تصومُوا خيرٌ لكم " .... (1)
* * *
وأما قوله : " إن كنتم تعلمون " ، فإنه يعني : إن كنتم تعلمون خيرَ الأمرين لكم أيها الذين آمنوا ، من الإفطار والفدية ، أو الصوم على ما أمركم الله به.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ }
قال أبو جعفر : " والشهر " ، فيما قيل ، أصله من " الشهرة " . يقال منه : " قد شَهر فلانٌ سَيْفه " - إذا أخرجه من غمده فاعترض به من أراد ضربه - " يشهرُه شهرًا " . وكذلك " شَهر الشهر " ، إذا طلع هلاله ، " وأشهرْنا نحن " ، إذا دخلنا في الشهر.
* * *
وأما " رمضان " ، فإن بعض أهل المعرفة بلغة العرب كان يزعم أنه سمى بذلك لشدة الحرِّ الذي كان يكون فيه ، حتى تَرْمَض فيه الفِصَال ، (2) كما يقال للشهر الذي يُحجّ فيه " ذو الحجة " ، والذي يُرتبع فيه " ربيع الأول ، وربيع الآخر " .
* * *
وأما مجاهد فإنه كان يكره أن يقال : " رمضان " ، ويقول : لعله اسمٌ من أسماء الله.
2811 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو نعيم قال ، حدثنا سفيان ، عن
__________
(1) الأثر : 2810 - سقط آخره ، ولم أجده في المراجع . ولكن صوابه كالذي قبله : من الإفطار والفدية ، كما هو ظاهر .
(2) الفصال جمع فصيل : وهو ولد الناقة إذا فصل عن أمه . ورمض الفصال : أن تحترق الرمضاء - وهو الرمل - فتبرك الفصال من شدة حرها ، وإحراقها أخفافها وفراسنها . ورمضت قدمه من الرمضاء : احترقت .

(3/444)


مجاهد : أنه كره أن يقال : " رمضان " ، ويقول : لعله اسم من أسماء الله لكن نقول كما قال الله : " شهر رمضان " .
* * *
وقد بينت فيما مضى أن " شهر " مرفوع على قوله : " أيامًا معدودات " ، هن شهر رمضان. (1) وجائز أن يكون رفعه بمعنى : ذلك شهر رمضان ، وبمعنى : كتب عليكم شهرُ رمضان.
وقد قرأه بعض القراء " شهرَ رَمضان " نصبًا ، بمعنى : كتب عليكم الصيام أن تصوموا شهرَ رمضان. وقرأه بعضهم نصبًا بمعنى : أن تصوموا شهرَ رمضان خيرٌ لكم إن كنتم تعلمون وقد يجوز أيضًا نصبه على وجه الأمر بصومه ، كأنه قيل : شهرَ رمضان فصومُوه. وجائز نصبه على الوقت ، كأنه قيل : كتب عليكم الصيام في شهر رمضان.
* * *
وأما قوله : " الذي أنزل فيه القرآن " ، فإنه ذكر أنه نزل في ليلة القدر من اللوح المحفوظ إلى سماء الدنيا ، في ليلة القدر من شهر رمضان. ثم أنزل إلى محمد صلى الله عليه وسلم على ما أراد الله إنزاله إليه ، كما : -
2812 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا أبو بكر بن عياش ، عن الأعمش ، عن حسان بن أبي الأشرَس عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : أنزل القرآن جملةً من الذكر في ليلة أربع وعشرين من رمضان ، فجُعل في بيت العزَّة - قال أبو كريب : حدثنا أبو بكر ، وقال ذلك السدي.
2813 - حدثني عيس بن عثمان قال ، حدثنا يحيى بن عيسى ، عن الأعمش ، عن حسان ، عن سعيد بن جبير قال : نزل القرآن جملة واحدةً في ليلة القدر في شهر رمضان ، فجعل في سماء الدنيا. (2)
__________
(1) انظر ما سلف آنفًا : 415 ، 417 .
(2) الأثر : 2813 - في المطبوعة : " يحيى عن عيسى " ، وهو خطأ . وانظر التعليق على الأثر رقم : 300 .

(3/445)


2814 - حدثنا أحمد بن منصور قال ، حدثنا عبد الله بن رجاء قال ، حدثنا عمران القطان ، عن قتادة ، عن أبي المليح ، عن واثلة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " نزلت صُحف إبراهيم أول ليلة من شهر رمضان ، وأنزلت التوراةُ لست مَضَين من رمضان ، وأنزل الإنجيل لثلاثَ عَشرة خلت ، وأنزل القرآن لأربع وعشرين من رمضان. (1)
2815 - حدثني موسى قال ، حدثنا عمرو قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : " شهرُ رَمضان الذي أنزل فيه القرآن " . أما " أنزل فيه القرآن " ، فإن ابن عباس قال : شهر رمضان ، والليلةُ المباركة ليلةُ القدر ، فإن ليلة القدر هي الليلة المباركة ، وهي في رمضان ، نزل القرآن جملةً واحدة من الزُّبُر إلى البيت المعمور ، وهو " مواقع النجوم " في السماء الدنيا حيث وقع القرآن ، ثم نزل محمد صلى الله عليه وسلم بعد ذلك في الأمر والنهي وفي الحروب رَسَلا رَسَلا. (2)
2816 - حدثنا ابن المثنى قال ، حدثنا عبد الوهاب قال ، حدثنا داود ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : أنزل الله القرآن إلى السماء الدنيا في ليلة القدر ، فكان الله إذا أراد أن يُوحِيَ منه شيئًا أوحاه ، فهو قوله : ( إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ ) [سورة القدر : 1].
__________
(1) الحديث : 2814 - عبد الله بن رجاء بن عمرو الغداني : ثقة من شيوخ البخاري . و " الغداني " : بضم الغين المعجمة وتخفيف الدال المهملة .
عمران القطان : هو عمران بن داور ، مضى في : 126 . وكنيته " أبو العوام " .
أبو المليح : هو ابن أسامة الهذلي ، وهو تابعي ثقة ، أخرج له أصحاب الكتب الستة . ووقع في المطبوعة " عن ابن أبي المليح " . وزيادة " ابن " خطأ واضح .
واثلة - بالثاء المثلثة : هو ابن الأسقع ، صحابي معروف . والحديث رواه أحمد في المسند : 17051 (4 : 107 حلبي) ، عن أبي سعيد مولى بني هاشم ، عن عمران أبي العوام ، بهذا الإسناد ، وهو إسناد صحيح .
ونقله ابن كثير 1 : 406 ، عن المسند . وكذلك السيوطي 1 : 189 ، وزاد نسبته إلى محمد بن نصر ، وابن أبي حاتم ، والطبراني ، والبيهقي في الشعب .
(2) رسلا رسلا : أي قطعة قطعة ، وفرقة فرقة .

(3/446)


2817 - حدثنا ابن المثنى قال ، حدثنا ابن أبي عدي ، عن داود ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، فذكر نحوه - وزاد فيه : فكان من أوله وآخره عشرون سنة.
2818 - حدثنا ابن المثنى قال ، حدثنا عبد الأعلى قال ، حدثنا داود ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، قال : أنزل القرآنُ كله جملةً واحدةً في ليلة القدر في رمضان ، إلى السماء الدنيا ، فكان الله إذا أراد أن يحدث في الأرض شَيئًا أنزله منه ، حتى جمعه.
2819 - حدثني يعقوب قال ، حدثنا هشيم قال ، أخبرنا حصين ، عن حكيم بن جبير ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : أنزل القرآن في ليلة القدر من السماء العليا إلى السماء جملة واحدة ، ثم فرَّق في السنين بعدُ. قال : وتلا ابن عباس هذه الآية : ( فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ ) [سورة الواقعة : 75] ، قال : نزل مفرَّقًا.
2820 - حدثنا يعقوب قال ، حدثنا ابن علية ، عن داود ، عن الشعبي قال : بلغنا أن القرآن نزل جملة واحدة إلى السماء الدنيا.
2821 - حدثني المثنى قال ، حدثنا سويد بن نصر قال ، أخبرنا ابن المبارك ، قرأه ابن جريج في قوله : (1) " شهرُ رَمضان الذي أنزل فيه القرآن " ، قال : قال ابن عباس : أنزل القرآن جملةً واحدة على جبريل في ليلة القدر ، فكان لا ينزل منه إلا بأمر. قال ابن جريج : كان ينزل من القرآن في ليلة القدر كلُّ شيء ينزل من القرآن في تلك السنة. فنزل ذلك من السماء السابعة على جبريل في السماء الدنيا ، فلا ينزل جبريلُ من ذلك على محمد إلا ما أمره به ربه. ومثل ذلك( إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ ) و( إِنَّا أَنزلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ ) [سورة الدخان : 3].
__________
(1) هكذا في المطبوعة ، ولم أدر ما هو ، وأخشى أن يكون صوابه " قرأ ابن جريج قوله . . " .

(3/447)


2822 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبيد الله بن موسى ، عن إسرائيل ، عن السدي ، عن محمد بن أبي المجالد ، عن مقسم ، عن ابن عباس ، قال له رجل : إنه قد وقع في قلبي الشك من قوله : " شهرُ رَمضان الذي أنزل فيه القرآن " ، وقوله : ( إِنَّا أَنزلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ ) وقوله( إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ ) ، وقد أنزل الله في شوّال وذي القعدة وغيره! قال : إنما أنزل في رمضان في ليلة القدر وليلة مباركة جملة واحدةً ، ثم أنزل على مَواقع النجوم رَسَلا في الشهور والأيام.
* * *
وأما قوله : " هُدى للناس " ، فإنه يعني رَشادًا للناس إلى سبيل الحقّ وقَصْد المنهج. (1)
* * *
وأما قوله : " وَبيِّنات " ، فإنه يعني : وواضحات " من الهدى " - يعني : من البيان الدالّ على حدود الله وفرائضه وحلاله وحرامه. (2)
* * *
وقوله : " والفرقان " يعني : والفصل بين الحق والباطل ، (3) كما : -
2823 - حدثني موسى بن هارون قال ، حدثنا عمرو بن حماد قال ، حدثنا أسباط ، عن السدى : أما " وبينات من الهدى والفرقان " ، فبينات من الحلال والحرام.
* * *
__________
(1) انظر تفسير " هدى " فيما سلف في فهرس اللغة .
(2) انظر تفسير " بينات " فيما سلف في فهرس اللغة .
(3) انظر تفسير " فرقان " فيما سلف 1 : 98 - 99 .

(3/448)


القول في تأويل قوله تعالى : { فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ }
قال أبو جعفر : اختلف أهل التأويل في معنى " شهود الشهر " .
فقال بعضهم : هو مُقام المقيم في داره. قالوا : فمن دخل عليه شهرُ رمضان وهو مقيم في داره ، فعليه صوم الشهر كله ، غابَ بعدُ فسافر ، أو أقام فلم يبرح.
* ذكر من قال ذلك :
2824 - حدثني محمد بن حميد ومحمد بن عيسى الدامغاني قالا حدثنا ابن المبارك ، عن الحسن بن يحيى ، عن الضحاك ، عن ابن عباس في قوله : " فمن شَهد منكم الشهر فليصمه " ، قال : هو إهلاله بالدار. يريد : إذا هلَّ وهو مُقيم.
2825 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال ، حدثنا هشيم قال ، أخبرنا حصين ، عمن حدثه ، عن ابن عباس أنه قال. في قوله : " فمن شهد منكم الشهر فليصمه " ، فإذا شهده وهو مقيم فعليه الصوم ، أقام أو سافر. وإن شهده وهو في سَفر ، فإن شاء صامَ وإن شَاء أفطر.
2826 - حدثني يعقوب قال ، حدثنا ابن علية ، عن أيوب ، عن محمد ، عن عبيدة - في الرجل يُدركه رمضان ثم يُسافر - قال : إذا شهدتَ أوله فصُمْ آخره ، ألا تراه يقول : " فمن شَهدَ منكم الشهر فليصمه " ؟
2827 - حدثني يعقوب قال ، حدثنا ابن علية ، عن هشام القردوسي ، عن محمد بن سيرين قال ، سألت عَبيدة : عن رجل أدرك رمضان وهو مقيم ؟ قال : من صام أول الشهر فليصم آخره ، ألا تراه يقول : فَمنْ شهد منكم الشهرَ فليصمه " . (1)
__________
(1) الأثر : 2827 - في المطبوعة : " الفردوسي " ، والصواب بالقاف المضمومة ، هشام بن حسان الأزدي القردوسي أبو عبد الله البصري ، روي عن حميد بن هلال والحسن البصري ومحمد وأنس وحفص بني سيرين وغيرهم ، وروى عنه عكرمة بن عمار وسعيد بن أبي عروبة وابن علية وغيرهم . يقال هو منسوب إلى درب بالبصرة يقال له " القراديس " ، وهو جمع قردوس ، وهو أبو حي من اليمن ، سمى الدرب بهم . ويقال : هو مولى لهذ الحي . قال ابن سعد : كان ثقة إن شاء الله . ومات سنة 146 .

(3/449)


2828 - حدثني موسى قال ، حدثنا عمرو قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : أما " منْ شَهد منكم الشهر فليصمه " ، فمن دخل عليه رمضان وهو مقيم في أهله فليصُمه ، وإن خَرج فيه فليصُمه ، فإنه دَخل عليه وهو في أهله.
2829 - حدثني المثنى قال ، حدثنا حجاج قال ، حدثنا حماد قال ، أخبرنا قتادة ، عن محمد بن سيرين ، عن عبيدة السلماني ، عن علي - فيما يحسب حماد - قال : من أدرك رَمضان وهو مقيم لم يَخرج ، فقد لزمه الصوم ، لأن الله يقول : " فمن شَهد منكم الشهر فليصمه " .
2830 - حدثنا هناد بن السري قال ، حدثنا عبد الرحمن ، عن إسماعيل بن مسلم ، عن محمد بن سيرين قال : سألت عبيدة السلماني عن قول الله : " فمن شَهد منكم الشهر فليصمه " ، قال : من كان مقيمًا فليصُمه ، ومن أدركه ثم سافر فيه فليصمه.
2831 - حدثنا هناد قال ، حدثنا وكيع ، عن ابن عون ، عن ابن سيرين ، عن عبيدة ، قال : من شهد أول رمضان فليصم آخرَه.
2832 - حدثنا هناد قال ، حدثنا عبدة ، عن سعيد بن أبي عروبة ، عن قتادة أن عليًّا كان يقول : إذا أدركه رمضان وهو مقيمٌ ثم سافر ، فعليه الصوم.
2833 - حدثنا هناد قال ، حدثنا عبد الرحيم ، عن عُبيدة الضبي ، عن إبراهيم قال : كان يقول : إذا أدركك رمضانُ فلا تسافر فيه ، فإن صمت فيه يومًا أو اثنين ثم سافرت ، فلا تفطر ، صُمه.
2834 - حدثنا ابن المثنى قال ، حدثنا محمد بن جعفر قال ، حدثنا شعبة ، عن عمرو بن مرة ، عن أبي البختري. قال : كنا عند عُبيدة فقرأ هذه الآية :

(3/450)


" فَمن شَهد منكم الشهر فليصمه " ، قال : من صام شيئًا منه في المصر فليصم بقيته إذا خرج. قال : وكان ابن عباس يقول : إن شاء صَام وإن شَاء أفطر.
2835 - حدثنا محمد بن بشار قال ، حدثنا عبد الوهاب - و حدثني يعقوب بن إبراهيم قال ، حدثنا ابن علية - قالا جميعًا ، حدثنا أيوب ، عن أبي يزيد ، عن أم ذرة ، قالت : أتيت عائشه في رمضان ، قالت : من أين جئتِ ؟ قلت : من عند أخي حنين. قالت : ما شأنه ؟ قالت : ودَّعته يُريد يرتحل. قالت : فأقرئيه السلام ومُريه فليُقم ، فلو أدركني رمضانُ وأنا ببعض الطريق لأقمت له. (1)
2836 - حدثنا هناد قال ، حدثنا إسحاق بن عيسى ، عن أفلح ، عن عبد الرحمن ، قال : جاء إبراهيم بن طلحة إلى عائشة يُسلّم عليها ، قالت : وأين تريد ؟ قال : أردتُ العمرة. قالت : فجلستَ حتى إذا دخل عليك الشهر خرجتَ فيه! قال : قد خرج ثَقَلي! قالت : اجلس ، حتى إذا أفطرت فاخرج - يعني شهرَ رمضان. (2)
* * *
__________
(1) الخبر : 2835 - أبو زيد : هو المدني ، يعد في أهل البصرة . وهو تابعي ثقة ، وثقه ابن معين . وترجمه البخاري في الكنى ، رقم : 784 ، وقال : " سمع ابن عمر " . وابن أبي حاتم 4/2/458 - 459 . وفي التهذيب عن الآجري ، عن أبي داود : " سألت أحمد عنه ، فقال : تسأل عن رجل روى عنه أيوب ؟ "
أم ذرة - بفتح الذال المعجمة وتشديد الراء - مولاة عائشة : تابعية ثقة . مترجمة في التهذيب . وابن سعد 8 : 357 ، وذكر لها روايتين أخريين عن عائشة ، روى أحدهما مطولا قبل ذلك في ترجمة عائشة 8 : 46 .
أما أخوها " حنين " : فإني لم أجد له ذكرًا في غير هذا الموضع .
والخبر ذكره السيوطي 1 : 191 ، بنحو معناه ، ونسبه لعبد بن حميد فقط . ولم يسم فيه " حنين " أخو " أم ذرة " ، بل ذكر أنه أخوها فقط .
(2) الخبر : 2836 - إسحاق بن عيسى : هو ابن الطباع البغدادي ، ثقة من الرواة عن مالك وطبقته .
أفلح : هو ابن حميد بن نافع المدني ، وهو ثقة معروف ، روى له الشيخان .
عبد الرحمن هو ابن القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق ، ثقة إمام ، من خيار المسلمين . ولد في حياة عائشة .
إبراهيم بن طلحة : هو إبراهيم بن محمد بن طلحة بن عبيد الله التيمي ، نسب هنا إلى جده . وهو تابعي ثقة رفيع الشأن .
وهذا الخبر نقله السيوطي 1 : 191 ، ونسبه لعبد بن حميد فقط . وفيه أنه " عن عبد الرحمن بن القاسم : أن إبراهيم بن محمد جاء إلى عائشة . . " ، فذكر نحو مما هنا ، بمعناه .

(3/451)


وقال آخرون : معنى ذلك : فمن شهد منكم الشهر فليصُمْ ما شهد منه.
* ذكر من قال ذلك :
2837 - حدثنا هناد بن السري قال ، حدثنا شريك ، عن أبي إسحاق : أن أبا مَيسرة خرج في رمضان ، حتى إذا بلغ القنطرة دعا ماءً فشرب.
2838 - حدثنا هناد قال ، حدثنا جرير ، عن مغيرة قال : خرج أبو ميسرة في رمضان مسافرًا ، فمرّ بالفرات وهو صائم ، فأخذ منه كفًّا فشربه وأفطر.
2839 - حدثنا هناد قال ، حدثنا وكيع ، عن سفيان ، عن أبي إسحاق ، عن مرثد : أن أبا مَيسرة سافرَ في رمضان ، فأفطر عند باب الجسر - هكذا قال هناد ، عن مرثد ، وإنما هو أبو مَرثد.
2840 - حدثني محمد بن عمارة الأسديّ قال ، حدثنا عبيد الله بن موسى قال ، أخبرنا إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن مرثد : أنه خرج مع أبي ميسرة في رمضان ، فلما انتهى إلى الجسر أفطر. (1)
__________
(1) الخبران : 2839 ، 2840 - هما من رواية أبي إسحاق السبيعي ، عن " مرثد " ، عن " أبي ميسرة " .
وقال الطبري في أولهما : " هكذا قال هناد : عن مرثد ، وإنما هو : عن أبي مرثد " ! يعني أن شيخه في أولهما ، وهو " هناد " ، أخطأ في ذلك ، ومن عجب أنه يرويه عقبه في الرواية الثانية ، عن شيخ آخر ، بإسناد آخر إلى أبي إسحاق - كرواية هناد ، التي زعم أنه أخطأ فيها!
وعندي أن أبا جعفر - رحمه الله - هو الذي وهم ، أصاب الصواب فأخطأه :
أما أولا : فلاتفاق روايين حافظين ثقتين ، هما سفيان الثوري في الإسناد الأول ، وإسرائيل بن يونس بن أبي إسحاق السبيعي في الإسناد الثاني - كلاهما عن أبي إسحاق أنه " عن مرثد " .
وأما ثانيًا : فلأنا لا نعرف في الرواة من كنيته " أبو مرثد " ، إلا " أبا مرثد الغنوي كناز بن الحصين " ، وهو صحابي قديم الوفاة ، مات سنة 12 . إلا أن يكون الطبري يعرف راويًا آخر بهذه الكنية لم يصل إلينا خبره . وما أظن .
وأبو ميسرة ، صاحب الخبر في الروايتين : هو عمرو بن شرحبيل الهمداني الكوفي ، وهو تابعي كبير ثقة ، من شيوخ أبي إسحاق السبيعي . مات سنة 63 ، وشهد السبيعي جنازته . ولو شاء أبو إسحاق أن يروي هذا الخبر عنه دون واسطة ، لما دفع عن ذلك ، إذ عرف بالرواية عنه . ولكنه لم يشأ أن يدلس في خبر لم يشهده بنفسه ، فرواه عمن شهده . وهو " مرثد " .
والراجح عندي : أنه " مرثد بن عبد الله اليزني " ، وهو تابعي أقدم قليلا من السبيعي . مات مرثد سنة 90 . ومات السبعي - وهو تابعي أيضًا - سنة 126 أو بعدها بقليل .
فعن هذا كله رجحت - بل استيقنت - أن أبا جعفر رحمه الله ، هو الذي وهم .

(3/452)


2841 - حدثنا هناد وأبو هشام قالا حدثنا وكيع ، عن المسعودي ، عن الحسن بن سعد ، عن أبيه قال : كنت مع عليّ في ضيعة له على ثلاث من المدينة ، فخرجنا نريد المدينة في شهر رمضان ، وعليٌّ راكبٌ وأنا ماشٍ ، قال : فصام - قال هناد : وأفطرت - قال أبو هشام : وأمرني فأفطرتُ.
2842 - حدثنا هناد قال ، حدثنا عبد الرحيم ، عن عبد الرحمن بن عتبة ، عن الحسن بن سعد ، عن أبيه قال : كنت مع عليّ بن أبي طالب وهو جَاءٍ من أرض له ، فصام ، وأمرني فأفطرت ، فدخل المدينة ليلا وكان راكبًا وأنا ماشٍ.
2843 - حدثنا هناد قال ، حدثنا وكيع - و حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا ابن مهدي - قالا جميعًا ، حدثنا سفيان ، عن عيسى بن أبي عزة ، عن الشعبي : أنه سافر في شهر رمضان فأفطر عند باب الجسر.
2844 - حدثني ابن بشار قال ، حدثنا عبد الرحمن قال ، قال لي سفيان : أحبُّ إليّ أن تُتمه.
2845 - حدثنا ابن المثنى قال ، حدثنا محمد بن جعفر ، عن شعبة قال : سألت الحكمَ وحمادًا ، وأردت أن أسافر في رمضان فقالا لي : اخرج. وقال حماد ، قال إبراهيم : أما إذا كان العَشر ، فأحبُّ إليَّ أن يقيم.
2846 - حدثنا ابن المثنى قال ، حدثنا أبو الوليد قال ، حدثنا حماد ، عن قتادة ، عن الحسن وسعيد بن المسيب قالا من أدركه الصومُ وهو مقيم رمضان ثم سافر ، قالا إن شَاءَ أفطر.
* * *

(3/453)


وقال آخرون : " فَمن شهد منكم الشهر فليصمه " ، يعني : فمن شهده عاقلا بالغًا مكلفًا فليصمه.
وممن قال ذلك أبو حنيفة وأصحابه ، كانوا يقولون : من دخل عليه شهرُ رمضان وهو صحيحٌ عاقلٌ بالغٌ فعليه صومه ، فإن جُنّ بعد دُخوله عليه وهو بالصفة التي وصفنا ، ثم أفاقَ بعد انقضائه ، لزمه قضاءُ ما كان فيه من أيام الشهر مغلوبًا على عقله ، لأنه كان ممن شهده وهو ممن عليه فُرض.
قالوا : وكذلك لو دخل عليه شهرُ رمضان وهو مجنونٌ ، إلا أنه ممن لو كان صحيحَ العقل كان عليه صَوْمه ، فلن ينقضي الشهر حتى صَح وَبرأ ، أو أفاق قبل انقضاء الشهر بيوم أو أكثر من ذلك ، فإنّ عليه قضاءُ صوْم الشهر كله ، سوى اليوم الذي صامه بَعد إفاقته ، لأنه ممن قد شَهد الشهر.
قالوا : ولو دَخل عليه شهرُ رمضان وهو مجنون ، فلم يفق حتى انقضى الشهرُ كله ، ثم أفاق ، لم يلزمه قضاء شيء منه ، لأنه لم يكن ممن شَهده مكلَّفًا صَوْمَه.
قال أبو جعفر : وهذا تأويل لا معنى له ، لأنّ الجنون إن كانَ يُسقط عمن كان به فَرْضَ الصومِ ، من أجل فقد صاحبه عَقله جميع الشهر ، فقد يجب أن يكونَ ذلك سبيلَ كل من فقد عقله جميع شهر الصوم. وقد أجمع الجميعُ على أن من فقد عقله جميع شَهر الصوم بإغماء أو بِرْسام ، (1) ثم أفاق بعد انقضاء الشهر ، أن عليه قضاءُ الشهر كله. ولم يخالف ذلك أحدٌ يجوزُ الاعتراضُ به على الأمة. وإذ كان إجماعًا ، فالواجب أن يكون سبيلُ كل من كان زائلَ العقل جميع شهر الصوم ، سبيلَ المغمى عليه. وإذ كان ذلك كذلك ، كان معلومًا أن تأويل الآية غير الذي تأوَّلها قائلو هذه المقالة : من أنه شُهود الشهر أو بعضه مكلفًا صومَه. وإذا بطل ذلك ، فتأويل المتأوِّل الذي زعم أن معناه : فمن شهد أوله مقيما حاضرًا
__________
(1) البرسام : علة يهذي فيها صاحبها . قالوا : هو ورم حار يعرض للحجاب الذي بين الكبد والأمعاء ، ثم يتصل إلى الدماغ .

(3/454)


فعليه صَوْم جميعه ، أبطلُ وأفسدُ ، لتظاهر الأخبار عن رَسول الله صلى الله عليه وسلم أنه خرج عَام الفتح من المدينة في شهر رمضان بعد ما صَام بعضه ، وأفطرَ وأمر أصحابه بالإفطار.
2847 - حدثنا هناد قال ، حدثنا أبو الأحوص ، عن منصور ، عن مجاهد ، عن ابن عباس قال : " سافرَ رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان من المدينة إلى مكة ، حتى إذا أتى عُسْفان نزل به ، فدعا بإناء فوضعه على يَده ليراه الناسُ ، ثم شربه.
2848 - حدثنا ابن حميد وسفيان بن وكيع قالا حدثنا جرير ، عن منصور ، عن مجاهد ، عن طاوس ، عن ابن عباس ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بنحوه
2849 - حدثنا هناد ، حدثنا عبيدة ، عن منصور ، عن مجاهد ، عن طاوس ، عن ابن عباس ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بنحوه. (1)
2850 - حدثنا هناد وأبو كريب قالا حدثنا يونس بن بكير قال ، حدثنا ابن إسحاق قال ، حدثني الزهري ، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة ، عن ابن عباس قال : مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم لسفره عام الفتح لعشر مضين من رمضان ، فصامَ رسول الله صلى الله عليه وسلم وصامَ الناسُ معه ، حتى إذا أتى الكُدَيْد - ما بين عُسْفان وأَمَج - أفطر.
2851 - حدثنا هناد وأبو كريب قالا حدثنا عبدة ، عن محمد بن إسحاق ، عن الزهري ، عن عبيد الله بن عبد الله ، عن ابن عباس قال خرج رسول الله
__________
(1) الأحاديث : 2847 - 2849 ، هي ثلاثة أسانيد لحديث واحد .
فأولها فيه " عن مجاهد ، عن ابن عباس " ، وفي الآخرين بينها " طاوس " .
والحديث رواه الإمام أحمد في المسند ، بأطول مما هنا : 2350 ، عن عبيدة ، عن منصور ، بالإسناد الثاني هنا ، ورواه أيضًا : 2251 ، عن حسين ، عن شيبان ، عن منصور .
ورواه أيضًا - مطولا - الشيخان ، كما في المنتقى : 2175 . فهو حديث صحيح متفق عليه .

(3/455)


صلى الله عليه وسلم لعشرٍ - أو لعشرين - مضت من رَمضان عام الفتح ، فصام حتى إذا كان بالكديد أفطر. (1)
2852 - حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا سالم بن نوح قال ، حدثنا عمر بن عامر ، عن قتادة ، عن أبي نضرة ، عن أبي سعيد الخدريّ قال : خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم لثمان عشرَةَ مضتْ من رمضان ، فمنا الصائم ومنا المفطر ، فلم يَعِب المفطرُ على الصائم ، ولا الصائم على المفطر. (2)
* * *
فإذ كانا فاسدين هذان التأويلان ، (3) بما عليه دَللنا من فسادهما - فَبيِّنٌ أن الصحيح من التأويل هو الثالث ، (4) وهو قول من قال : فمن شهد منكم الشهر فليصمه ، جميعَ ما شهد منه مقيمًا ، ومن كان مريضًا أو على سفر فعدة من أيام أخر.
* * *
__________
(1) الحديثان : 2850 ، 2851 - هما إسنادان آخران صحيحان ، للحديث السابق ، بلفظ أطول ، ومن وجه آخر ، من رواية ابن إسحاق ، عن الزهري . وهو في سيرة ابن هشام ، (ص 810 أوربة - 4 : 42 طبعة الحلبي) ، بلفظ أطول مما هنا . وكذلك رواه أحمد في المسند : 2392 ، من طريق ابن إسحاق .
ورواه أحمد أيضًا : 1892 ، عن سفيان بن عيينة ، عن الزهري ، مختصرًا ، ورواه بأطول منه : 3089 ، عن عبد الزاق ، عن معمر ، عن الزهري .
وانظر تاريخ ابن كثير 4 : 285 - 287 .
(2) الحديث : 2852 - سالم بن نوح ، أبو سعيد العطار : ثقة من شيوخ أحمد .
عمر بن عامر السلمي البصري القاضي : ثقة ثبت في الحديث ، كما قال أحمد .
والحديث رواه مسلم في صحيحه 1 : 308 ، بأسانيد كثيرة ، منها إسناد عن محمد بن المثنى ، عن سالم بن نوح ، عن عمر بن عامر ، عن قتادة ، بهذا الإسناد .
ثم رواه بأسانيد أخر 1 : 308 - 309 ، عن أبي نضرة عن أبي سعيد .
ونسبه السيوطي 1 : 190 - 191 أيضًا للترمذي والنسائي .
(3) في المطبوعة : " فإذا كان فاسدين . . . " ، والصواب ما أثبته .
(4) في المطبوعة : " فتبين " ، وهو خطأ ، والصواب ما أثبته .

(3/456)


القول في تأويل قوله تعالى : { وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ }
قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بذلك : ومَنْ كان مريضًا أو عَلى سفر في الشهر فأفطر ، فعليه صيامُ عدة الأيام التي أفطرها ، من أيام أخرَ غير أيام شهر رمضان.
* * *
ثم اختلف أهل العلم في المرَض الذي أباح الله معه الإفطار ، وأوجب معه عده من أيام أخر.
فقال بعضهم : هو المرض الذي لا يُطيق صاحبه معه القيام لصَلاته.
* ذكر من قال ذلك :
2853 - حدثنا معاذ بن شعبة البصري قال ، حدثنا شريك ، عن مغيره ، عن إبراهيم وإسماعيل بن مسلم ، عن الحسن أنه قال : إذا لم يستطع المريضُ أن يُصَلِّي قائمًا أفطر. (1)
2854 - حدثني يعقوب قال حدثنا هشيم ، عن مغيرة - أو عبيدة - عن إبراهيم ، في المريض إذا لم يستطع الصلاةَ قائمًا فليفطر. يعني : في رمضان.
2855 - حدثنا هناد قال ، حدثنا حفص بن غياث ، عن إسماعيل قال : سألت الحسن : متى يُفطر الصائم ؟ قال : إذا جَهده الصوم. قال : إذا لم
__________
(1) الخبر : 2853 - معاذ بن شعبة البصري ، شيخ الطبري : ترجمه ابن أبي حاتم 4/1/251 ، قال : " معاذ بن شعبة أبو سهل البصري ، روى عن عباد بن العوام ، وعثمان بن مطر . روى عنه موسى بن إسحاق الأنصاري " . ولم أجد له ترجمة غير ذلك . فهو شيخ قديم من شيوخ الطبري ، لأنه يروي عن " عباد بن العوام " المتوفى سنة 185 ، و " شريك بن عبد الله النخعي " المتوفى سنة 188 . وتلميذه الذي ذكره ابن أبي حاتم ، وهو " موسى بن إسحاق بن موسى الأنصاري الخطمي ، قاضي الري " ، من شيوخ ابن أبي حاتم ، كما في ترجمته عنده 4/1/135 .

(3/457)


يستطع أن يُصلي الفرائض كما أمِر. (1)
* * *
وقال بعضهم : وهو كل مرض كان الأغلبُ من أمر صاحبه بالصوم الزيادةُ في علته زيادة غير مُحتملة. (2) وذلك هو قول محمد بن إدريس الشافعي ، حدثنا بذلك عنه الربيع.
* * *
وقال آخرون : وهو [كلّ] مرض يسمى مرَضًا. (3)
* ذكر من قال ذلك :
2856 - حدثنا محمد بن المثنى قال ، حدثنا الحسن بن خالد الربعي قال ، حدثنا طريف بن شهاب العُطاردي : أنه دخل على محمد بن سيرين في رَمضان وهو يأكل ، فلم يسأله. فلما فرغ قال : إنه وَجعتْ إصبعي هذه. (4)
* * *
قال أبو جعفر : والصواب من القول في ذلك عندنا أن " المرض " الذي أذن
__________
(1) في المطبوعة : " كما مر " ، وكأن الصواب ما أثبت .
(2) في المطبوعة : " زيادة غير المحتملة " وهو كلام ليس بعربي . ونص عبارة الشافعي في الأم 1 : 89 " وإن زاد مرض المريض زيادة بينة أفطر ، وإن كان زيادة محتملة لم يفطر " .
(3) في المطبوعة : " هو مرض يسمى مرضًا " ، والصواب زيادة [كل] .
(4) الخبر : 2856 - الحسن بن خالد الربعي : ترجمه ابن أبي حاتم 1/2/10 قال : " الحسن بن خالد بن باب القريعي . روي عن طريف بن شهال العطاردي . روى عنه محمد بن المثنى " . فهو الشيخ الذي هنا ، ولم أجد له ترجمة غيرها . وقد علق العلامة المحقق الشيخ عبد الرحمن بن يحيى اليماني - مصحح الكتاب - عند قوله " القريعي " ، بأن في بعض النسخ " القرايعي " ، وأنه سيأتي في باب " خالد " " خالد بن باب الربعي " ، وأنه " يمكن أن يكون هو والد الحسن هذا " . وهذا نظر دقيق منه - حفظه الله - يؤيده نسبته هنا في الطبري " الربعي " . و " خالد بن باب الربعي " : مترجم في الكبير 2/1/130 - 131 ، وابن أبي حاتم 1/2/322 ، ولسان الميزان 2 : 374 .
طريف بن شهاب العطاردي : ذكر في المطبوعة اسم أبيه " تمام " ، وهو خطأ . وطريف هذا : هو أبو سفيان الأشل . وهو ضعيف . وقيل في اسم أبيه " سعد " . والذي جود اسمه ونسبته هو البخاري في ترجمته . وهو مترجم في التهذيب ، والكبير 2/2/358 ، وابن أبي حاتم 2/1/492 - 493 ، والضعفاء للبخاري ، ص : 18 - 19 .

(3/458)


الله تعالى ذكره بالإفطار معه في شهر رمضان ، من كان الصومُ جاهدَه جَهدًا غير محتمل ، فكل من كان كذلك فله الإفطار وقضاء عدة من أيام أخر. وذلك أنه إذا بلغ ذلك الأمرَ ، فإن لم يكن مأذونًا له في الإفطار فقد كلِّف عُسرًا ، ومُنع يُسرًا. وذلك غير الذي أخبر الله أنه أراده بخلقه بقوله : " يُريد اللهُ بكم اليسرَ وَلا يُريد بكم العسر " . وأما من كان الصوم غيرَ جَاهدِه ، فهو بمعنى الصحيح الذي يُطيق الصوم ، فعليه أداءُ فرضه.
* * *
وأما قوله : " فعدة من أيام أخر " ، فإنّ معناها : أيامًا معدودة سوى هذه الأيام.
وأما " الأخَر " ، فإنها جمع " أخرى " كجمعهم " الكبرى " على " الكُبَر " و " القُربى " على " القُرَب " . (1)
* * *
فإن قال قائل : أوَليست " الأخر " من صفة الأيام ؟
قيل : بلى.
فإن قال : أوَليس واحدُ " الأيام " " يوم " وهو مذكر ؟
قيل : بلى.
فإن قال : فكيف يكون واحدُ " الأخر " " أخرى " ، وهي صفة ل " اليوم " ، ولم يكن " آخر " ؟
قيل : إن واحد " الأيام " وإن كان إذا نُعت بواحد " الأخر " فهو " آخر " ، فإن " الأيام " في الجمع تصير إلى التأنيث ، فتصير نعوتها وصفاتها كهيئة صفات المؤنث ، كما يقال : " مضت الأيامُ جُمعَ " ، ولا يقال : أجمعون ، ولا أيام آخرون.
* * *
فإن قال لنا قائل : فإن الله تعالى قال : " فمن كانَ منكم مريضًا أو عَلى
__________
(1) في المطبوعة : " بجمعهم الكبرى " ، وكأن الصواب ما أثبت .

(3/459)


سفر فعدةٌ من أيام أخر " ، ومعنى ذلك عندك : فعليه عدةٌ من أيام أخر ، كما قد وصفت فيما مضى. فإن كان ذلك تأويله ، فما قولك فيمن كان مريضًا أو عَلى سَفر فَصَام الشهر ، وهو ممن له الإفطار ، أُيجزيه ذلك من صيام عدة من أيام أخر ، أو غيرُ مُجزيه ذلك ، وفَرْضُ صوم عدة من أيام أخر ثابتٌ عليه بهيئته ، وإن صام الشهر كله ؟ وهل لمن كان مريضًا أو على سَفر صيامُ شهر رمضان ، أم ذلك محظور عليه ، وغير جائز له صومه ، والواجب عليه الإفطار فيه ، حتى يقيم هذا ويبرأ هذا ؟
قيل : قد اختلف أهل العلم في كل ذلك ، ونحن ذاكرُو اختلافهم في ذلك ، ومخبرون بأولاه بالصواب إن شاء الله.
فقال بعضهم : الإفطارُ في المرض عَزْمة من الله واجبةٌ ، وليسَ بترخيص.
* ذكر من قال ذلك :
2857 - حدثنا محمد بن بشار قال ، حدثنا ابن أبي عدي - وحدثني يعقوب بن إبراهيم قال ، حدثنا ابن علية - جميعًا ، عن سعيد ، عن قتادة ، عن جابر بن زيد ، عن ابن عباس قال : الإفطارُ في السفر عَزْمة.
2858 - حدثني محمد بن المثنى قال ، حدثنا وهب بن جرير قال ، أخبرنا شعبة ، عن يعلى ، عن يوسف بن الحكم قال : سألتُ ابن عمر - أو : سئل - عن الصوم في السفر فقال : أرأيت لو تصدقت على رجل بصدقة فردها عليك ، ألم تغضب ؟ فإنها صَدقة من الله تصدق بها عليكم. (1)
__________
(1) الخبر : 2858 - شعبة : هو ابن الحجاج ؛ إمام أهل الجرح والتعديل . وثبت في المطبوعة " سعيد " . وهو خطأ ناسخ أو طابع في هذا الإسناد ، كما يتبين مما سيأتي .
يعلى : هو ابن عطاء العامري ، ثقة معروف .
يوسف بن الحكم أبو الحكم : تابعي ثقة . ذكره ابن حبان في الثقات . وترجمه ابن أبي حاتم 4/2/220 قال : " روى عن ابن عمر . روى عنه يعلى بن عطاء " . وترجمه البخاري في الكبير 4/2/376 باسم " يوسف أبو الحكم ، سمع ابن عمر . روى عنه يعلى بن عطاء " . وثبت عقب ذلك في بعض نسخ الكبير : " هذا هو الأول أظنه " . يريد المترجم قبله " يوسف بن مهران " . وهذا الظن من البخاري ليس في موضعه ، ولعله ظن ذلك إذ لم يقع له منسوبًا لأبيه ، بل وقع له باسم " يوسف " وكنية " أبي الحكم " .
والذي يقطع في ذلك ، ويرفع كل شبهة : أن الدولابي روى هذا الخبر ، في الكنى والأسماء 1 : 154 - 155 " حدثنا محمد بن بشار . قال : حدثنا محمد بن جعفر قال : حدثنا شعبة ، عن يعلى بن عطاء ، قال ، سمعت يوسف بن الحكم أبا الحكم يقول : سمعت عبد الله بن عمر يسأل عن الصوم في السفر . . . " فذكر نحوًا مما هنا .
ووهب بن جرير يروي عن شعبة . ويعلى بن عطاء يروي عنه شعبة . فلا موضع في هذا الإسناد لاسم " سعيد " . إلى ثبوت الخبر من رواية شعبة عند الدولابي ، كما ذكرنا .
وهذا الرأي لابن عمر - ثم لغيره من الصحابة - إنما هو فيمن أبى أن يقبل رخصة الله في الإفطار في السفر . قال ابن كثير 1 : 410 - 411 " فأما إن رغب عن السنة ، ورأى أن الفطر مكروه - فهذا يتعين عليه الإفطار ، ويحرم عليه الصيام والحالة هذه . لما جاء في مسند الإمام أحمد وغيره ، عن ابن عمر ، وجابر ، وغيرهما : من لم يقبل رخصة الله كان عليه من الإثم مثل جبال عرفة " . يشير ابن كثير في ذلك إلى حديث ابن عمر في المسند : 5392 . وانظر حديثين آخرين لابن عمر ، في المسند : 5750 ، 5866 .

(3/460)


2859 - حدثنا نصر بن عبد الرحمن الأزدي قال ، حدثنا المحاربي عن عبد الملك بن حميد قال ، قال أبو جعفر : كان أبي لا يَصُوم في السفر ، ويَنهى عنه. (1)
2860 - وحدثنا ابن حميد قال ، حدثنا يحيى بن واضح قال ، حدثنا عبيد ، عن الضحاك : أنه كره الصومَ في السفر.
* * *
وقال أهل هذه المقالة : من صام في السفر فعليه القضاءُ إذا قام.
* ذكر من قال ذلك :
2861 - حدثنا نصر بن علي الجهضميّ قال ، حدثنا مسلم بن إبراهيم قال ، حدثنا ربيعة بن كلثوم ، عن أبيه ، عن رجل : أن عمرَ أمرَ الذي صام في السفر أن يُعيد. (2) .
2862 - حدثنا محمد بن المثنى قال ، حدثنا محمد بن أبي عدي ، عن سعيد
__________
(1) الخبر : 2859 - نصر بن عبد الرحمن الأزدي . مضى في : 423 ، 875 . ووقع في المطبوعة هنا - كما وقع هناك : " الأودي " . وهو خطأ .
(2) الخبر : 2861 - نصر بن علي بن نصر بن علي الجهضمي : مضى في : 2376 . ووقع في المطبوعة هنا " الخثمعي " . وهو تصحيف واضح .
وشيخه " مسلم بن إبراهيم الأزدي الفراهيدي " : مضى في : 1219 . وقد ثبت في ترجمتيهما رواية نصر عن مسلم .
ربيعة بن كلثوم بن جبر البصري : ثقة ، تكلم فيه بعضهم . مترجم في التهذيب ، وابن سعد 7/2/35 ، والكبير 2/1/266 ، وابن أبي حاتم 1/2/477 - 478 .
أبوه " كلثوم بن جبر " : ثقة من صغار التابعين ، لم يدرك عمر بن الخطاب . ولذلك روى عنه هنا بواسطة رجل مبهم . فالإسناد لذلك ضعيف . وانظر الخبر الآتي : 2866 .

(3/461)


بن عمرو بن دينار ، عن رجل من بني تميم ، عن أبيه قال : أمر عمر رجلا صام في السفر أن يعيدَ صَوْمه.
2863 - حدثني ابن حميد الحمصي قال ، حدثنا علي بن معبد ، عن عبيد الله بن عمرو ، عن عبد الكريم ، عن عطاء ، عن المحرَّر بن أبي هريرة قال : كنت مع أبي في سفر في رمضان ، فكنت أصوم ويُفطر. فقال لي أبي : أما إنك إذا أقمتَ قَضيت. (1)
2864 - حدثنا محمد بن المثنى قال ، حدثنا سليمان بن داود قال ، حدثنا شعبة ، عن عاصم مولى قريبة ، قال : سمعت عروة يأمر رجلا صام في السفر أن يَقضي.
2865 - حدثنا ابن المثنى قال ، حدثنا عبد الصمد قال ، حدثنا شعبة ، عن عاصم مولى قريبة : أن رجلا صامَ في السفر ، فأمرَهُ عروة أن يَقضي.
2866 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا ابن صبيح قال ، حدثنا ربيعة بن كلثوم ، عن أبيه كلثوم : أنّ قومًا قدموا على عُمرَ بن الخطاب وقد صاموا رمضانَ في سفر ، فقال لهم : والله لكأنكم كنتم تصُومون! فقالوا : والله يا أمير المؤمنين
__________
(1) الخبر : 2863 - المحرر - براءين مع فتح الأولى مشددة : هو ابن أبي هريرة . وهو تابعي معروف ، يروي عن أبيه ، وعن ابن عمر . وله في المسند أحاديث عن أبيه ، منها : 212 ، 9562 .
وهذا الخبر ذكر السيوطي 1 : 191 ، نحو معناه . ونسبه لعبد بن حميد فقط . وثبت فيه اسم " المحرر " : " محرز " بالزاي في آخره ، وهو تصحيف .

(3/462)


لقد صمنا! قال : فأطقتموه! قالوا : نعم. قال : فاقضوه ، فاقضوه. (1)
* * *
وعلة مَنْ قال هذه المقالة : أن الله تعالى ذكره فرَضَ بقوله : " فمن شهد منكم الشهر فليصمه " صومَ شهر رمضان على من شهده مُقيمًا غير مسافر ، وجعل على من كان مريضًا أو مسافرًا صومَ عدة من أيام أخر غير أيام شهر رمضان بقوله : " ومَنْ كان مريضًا أو على سَفر فعدة من أيام أخر " . قالوا : فكما غيرُ جائز للمقيم إفطارُ أيام شهر رمضان وَصَوم عدة أيام أخر مكانها - لأن الذي فرضَه الله عليه بشهوده الشهرَ صومُ الشهر دون غيره - فكذلك غير جائز لمن لم يشهده من المسافرين مقيمًا ، صوْمُه. لأن الذي فرضه الله عليه عدة من أيام أخر. واعتلوا أيضًا من الخبر بما : -
2867 - حدثنا به محمد بن عبد الله بن سعيد الواسطي قال ، حدثنا يعقوب بن محمد الزهري قال ، حدثنا عبد الله بن موسى ، عن أسامة بن زيد ، عن الزهري ، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن ، عن عبد الرحمن بن عوف قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " الصائم في السفر كالمفطر في الحضر. " (2)
2868 - حدثني محمد بن عبيد الله بن سعيد قال ، حدثنا يزيد بن عياض ،
__________
(1) الخبر : 2866 - إسناده ضعيف ، لانقطاعه ، فإن كلثوم بن جبر لم يدرك عمر بن الخطاب ، كما بينا ذلك في : 2861 .
(2) الحديث : 2867 - محمد بن عبد الله بن سعيد الواسطي - شيخ الطبري : لم أجد له ترجمة . وسيأتي بهذا الاسم أيضًا في : 2888 . ولكن سيأتي في الإسناد الذي عقب هذا باسم " محمد بن عبيد الله بن سعيد " - بجعل أبيه " عبيد الله " بدل " عبد الله " . وأنا أرجح الذي في إسنادين على الذي في إسناد واحد ، ترجيحًا بدائيًا غير محقق .
يعقوب بن محمد بن عيسى بن عبد الملك بن حميد بن عبد الرحمن بن عوف الزهري : مختلف فيه ، والظاهر أنه ثقة ، وإنما أخذوا عليه الرواية عن رجال مجهولين غير معروفي العدالة - مترجم في التهذيب ، والكبير 4/2/398 ، وابن أبي حاتم 4/2/214 - 215 ، وتاريخ بغداد 14 : 269 - 271 .
عبد الله بن موسى بن إبراهيم - من ولد طلحة بن عبيد الله التيمي : مختلف فيه . وضعف أحمد جدًا . وقال ابن حبان : " يرفع الموقوف ، ويسند المرسل ، لا يجوز الاحتجاج به " . ووقع في المطبوعة هنا " عبيد الله بن موسى " . وهو خطأ ، فإن الحديث معروف من رواية " عبد الله بن موسى التيمي " . ثم هو الذي يروي عن أسامة بن زيد .
أسامة بن زيد : هو الليثي المدني ، مختلف فيه . وقد رجحنا توثيقه في شرح المسند : 1098 .
وهذا الحديث رواه ابن ماجه : 1666 ، عن إبراهيم بن المنذر الحزامي ، عن عبد الله بن موسى التيمي بهذا الإسناد .
وقد أطال الحافظ الزيلعي في نصب الرواية 2 : 461 - 463 في تخريج رواياته . ورجح أنه موقوف من كلام عبد الرحمن بن عوف ، إلى انقطاع إسناده بين أبي سلمة بن عبد الرحمن وأبيه . فقد رجح الحافظ أنه لم يسمع من أبيه شيئا . وقد رجحنا في شرح المسند : 1660 أنه سمع ذاك الحديث من أبيه - وكان صغيرًا حين مات عبد الرحمن . وليس معنى هذا أنه سمع منه كل ما يرويه عنه .
وذكر ابن أبي حاتم في كتاب العلل ، رقم 694 ، أنه سأل أباه عن هذا الحديث ، فقال أبو زرعة : " رواه أبو أحمد الزبيري ، ومعن بن عيسى ، وحماد بن خالد الخياط ، عن ابن أبي ذئب ، عن الزهري ، عن أبي سلمة ، عن أبيه ، قوله . ورواه عنبسة بن خالد ، عن يونس ، عن الزهري ، عن أبي سلمة ، عن أبيه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم . ورواه ابن لهيهة ، عن يونس ، عن الزهري ، عن أبي سلمة ، عن عائشة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم . ورواه بقية ، عن آخر ، عن الزهري ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم . وقال أبو زرعة : الصحيح عن الزهري ، عن أبي سلمة ، عن أبيه . موقوف " .
ونقل الحافظ ابن حجر في التلخيص ، ص : 195 أن الدارقطني في العلل والبيهقي ، صححا أيضًا أنه موقوف . وانظر السنن الكبرى للبيهقي 4 : 244 ، وتعقيب ابن التركماني عليه . والرواية الموقوفة على عبد الرحمن بن عوف رواها النسائي 1 : 316 ، بثلاثة أسانيد . هذا وسيأتي قول الطبري في ص : 474 عن هذا الخبر والذي يليه وأشباههما ، أنها : " واهية الأسانيد ، لا يجوز الاحتجاج بها في الدين " .

(3/463)


عن الزهري ، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن ، عن أبيه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " الصائمُ في السفر كالمفطر في الحضر. (1)
* * *
وقال آخرون : إباحة الإفطار في السفر رخصة من الله تعالى ذكره ، رخصها لعباده ، والفرضُ الصوم. فمن صام فرضَه أدَّى ، ومن أفطر فبرُخصة الله له أفطر. قالوا : وإن صام في سفر فلا قَضاءَ عليه إذا أقام.
* ذكر من قال ذلك :
__________
(1) الحديث : 2868 - هو إسناد آخر للحديث السابق .
وهذا إسناد مشكل :
فشيخ الطبري ذكر هنا باسم " محمد عبيد الله بن سعيد " . وذكر في الإسناد السابق باسم " محمد بن عبد الله " .
وثانيًا : قوله " حدثنا يزيد بن عياض " - غير معقول . يجب أن يكون بينهما راو على الأقل . فإن يزيد بن عياض بن يزيد بن جعدبة الليثي قديم الوفاة ، مات في خلافة المهدي . وذكره البخاري في التاريخ الصغير ، ص : 172 ، في فصل (من مات بين سنتي : 140 - 150) . فليس من المعقول أن يسمع منه أي شيخ للطبري المتوفى سنة 310 . وأنا أرجح أن يكون بينهما " يزيد بن هارون " ، لما سنذكر ، إن شاء الله .
ويزيد بن عياض هذا : ضعيف جدًا . قال البخاري في الكبير 4/2/351 - 352 ، والصغير : " منكر الحديث " . ورماه مالك وابن معين والنسائي وغيرهم بالكذب . و " جعدبة " بضم الجيم والدال المهملة بينهما عين مهملة ساكنة .
ونقل الزيلعي في نصب الراية 2 : 462 ، أن هذا الحديث " رواه ابن عدي في الكامل ، من حديث يزيد بن هارون : حدثنا يزيد بن عياض ، عن الزهري ، عن أبي سلمة ، عن أبيه ، مرفوعًا . قال ابن عدي : وهذا الحديث لا يرفعه عن الزهري - غير يزيد بن عياض ، وعقيل من رواية سلامة بن روح عنه ، ويونس بن يزيد من رواية القاسم بن مبرور عنه ، وأسامة بن زيد من رواية عبد الله بن موسى التيمي عنه . والباقون من أصحاب الزهري - رووه عنه ، عن أبي سلمة ، عن أبيه ، من قوله " .

(3/464)


2869 - حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الوهاب قال ، حدثنا أيوب قال ، حدثنا عروة وسالم : أنهما كانا عند عمر بن عبد العزيز إذ هو أميرٌ على المدينة ، فتذاكروا الصومَ في السفر ، قال سالم : كان ابن عمر لا يصُوم في السفر. وقال عروة. وكانت عائشة تصوم. فقال سالم : إنما أخذت عن ابن عمر. وقال عروة : إنما أخذتُ عن عائشة. حتى ارتفعت أصواتهما. فقال عمر بن عبد العزيز : اللهم عفوً!ا إذا كان يُسرًا فصوموا ، وإذا كان عُسرًا فأفطروا.
2870 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال ، حدثنا ابن علية ، عن أيوب ، قال ، حدثني رجل قال : ذكر الصوم في السفر عند عمر بن عبد العزيز ، ثم ذكر نحو حديث ابن بشار.
2871 - حدثني يعقوب قال ، حدثنا ابن علية ، عن محمد بن إسحاق - وحدثنا أبو كريب قال ، حدثنا ابن إدريس حدثنا ابن إسحاق - عن الزهري ، عن سالم بن عبد الله قال : خرج عمر بن الخطاب في بعض أسفاره في ليال بقيت من رمضان ، فقال : إن الشهر قد تشعشع - قال أبو كريب في حديثه : أو : تَسعسع ، ولم يشك يعقوب - فلو صمنا! فصام وصام الناس مَعه. ثم أقبل مرَّة قافلا حتى إذا كان بالروحاء أهلّ هلالُ شهر رمضان ، فقال : إن الله قد

(3/465)


قَضَى السفر ، فلو صمنا ولم نَثْلم شهرنا! قال : فصام وصام الناس معه. (1) .
2872 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا الحكم بن بشير ، قال ، حدثني أبي - وحدثنا محمد بن بشار قال ، أخبرنا عبيد الله قال ، أخبرنا بشير بن سلمان - عن خيثمةَ قال : سألت أنس بن مالك عن الصوم في السفر ، قال : قد أمرتُ غلامي أن يَصوم فأبى. قلت : فأين هذه الآية : " ومن كان مريضًا أو على سفر فعدة من أيام أخر " ؟ قال : نزلت ونحن يومئذ نرتحلُ جياعًا وننزل على غير شِبَع ، وإنا اليوم نرتحل شِباعًا وننزل على شِبَع (2) .
2873 - حدثنا هناد قال ، حدثنا وكيع ، عن بشير بن سلمان ، عن خيثمة ، عن أنس نحوه.
2874 - حدثنا هناد وأبو السائب قالا حدثنا أبو معاوية ، عن عاصم ،
__________
(1) تسعسع الشهر : أدبر وفنى إلا أقله من قولهم : " تسعسع الرجل " : إذا اضطرب من الكبر أو الهرم . وتشعشع الشهر : رق وتقضى وبقى أقله . ذهب به إلى رقة الشهر وقلة ما بقي ، كما يشعشع اللبن بالماء أي يمزج ويخلط . وقوله " لم نثلم شهرنا " من ثلم الإناء أو السيف : كسر شفة الإناء أو حد السيف . أي لم ندخل الخلل على صومنا ونجرح شهرنا .
(2) الخبر : 2872 - الحكم بن بشير بن سلمان : مضى في : 1497 .
أبوه " بشير بن سلمان النهدي " : ثقة ، وثقه أحمد وابن معين وغيرهما . وأبوه : " سلمان " ، بفتح السين وسكون اللام . ووقع في كثير من المراجع المطبوعة " سليمان " . وهو خطأ مطبعي . وفي التهذيب وفروعه " الكندي " بدل " النهدي " . وهو خطأ ، صوابه في الكبير للبخاري 1/2/99 ، وابن أبي حاتم 1/1/374 ، وابن سعد 6 : 251 ، ورجال الصحيحين ، ص : 55 .
خيثمة : هو ابن أبي خيثمة البصري ، وهو تابعي ثقة . وقال ابن معين : " ليس بشيء " . كما في ابن أبي حاتم 1/2/394 ، ولكن ذكره ابن حبان في الثقات ، وترجمه البخاري في الكبير 2/1/197 ، فلم يذكر فيه جرحًا ، وأشار إلى هذا الحديث من روايته ، كعادته في إشاراته الدقيقة - لله دره - فقال : " وقال أبو نعيم ، عن بشير بن سلمان ، عن خيثمة . قال : سألت أنس بن مالك عن الصوم في السفر " . ولم يذكره هو ولا النسائي في الضعفاء . وهذا كاف في توثيقه والاحتجاج بروايته ، دون الجرح المجمل من ابن معين .
وهذا الخبر ذكره السيوطي 1 : 191 ، وزاد نسبته لعبد بن حميد ، والنسائي . ولم أجده في النسائي ، ولعله في السنن الكبرى .

(3/466)


عن أنس : أنه سئل عن الصوم في السفر فقال : من أفطر فبرُخصة الله ، ومن صام فالصومُ أفضل.
2875 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا أبو أسامة ، عن أشعث بن عبد الملك ، عن محمد بن عثمان بن أبي العاص قال : الفطر في السفر رخصة ، والصوم أفضل.
2876 - حدثني المثني قال ، حدثنا عبد الصمد قال ، حدثنا شعبة قال ، حدثنا أبو الفيض ، قال : كان علي علينا أميرًا بالشام ، فنهانا عن الصوم في السفر ، فسألت أبا قِرْصافة - رجلا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من بني ليث ، قال عبد الصمد : سمعتُ رجلا من قومه يَقول : إنه واثلة بن الأسقع - قال : لو صمتَ في السفر ما قضيت. (1) .
__________
(1) الخبر : 2876 - أبو الفيض : هو موسى بن أيوب المهري الحمصي ، ويقال : ابن أبي أيوب ، وهو شامي ثقة ، وثقه ابن معين ، والعجلي . مترجم في التهذيب ، وابن أبي حاتم 4/1/134 .
أبو قرصافة ، بكسر القاف وسكون الراء بعدها صاد مهملة : هو " واثلة بن الأسقع " الصحابي ، من بني ليث بن عبد مناة . يكنى " أبا الأسقع " ، ويقال " أبو قرصافة " ، كما في ترجمته في الإصابة والتهذيب وغيرهما . وهذا الخبر يؤيد هذه الكنية ، لأن عبد الصمد بن عبد الوارث يذكر في أثنائه ، أنه سمع رجلا من قومه يقول " إنه واثلة بن الأسقع " .
وقد أوقعهم هذا الخبر - أو نحوه - في وهم عجيب ؛ لأن هناك رجلا آخر له صحبة ، يكنى " أبا قرصافة اسمه جندرة بن خيشنة " كنابي له صحبة ، مترجم في التهذيب 2 : 119 ، والكبير 1/2/249 ، وابن أبي حاتم 1/1/545 ، وأسد الغابة 1 : 307 . فانتقل نظر صاحب التهذيب ، في ترجمة " أبي الفيض موسى بن أيوب " 10 : 337 فذكر أنه يروي عن " أبي قرصافة جندرة بن خيشنة " . ثم ذكر صاحب أسد الغابة ، في ترجمة " جندرة " هذا أنه " جعله ابن ماكولا ليثيًا ، وليس بشيء!! " . ولم يذكر صاحب التهذيب في ترجمة " جندرة " أنه يروي عنه " أبو الفيض " !!
فالظاهر عندي أن ابن ماكولا حين ذكر أن " أبا قرصافة " من بني ليث ، أراد به " واثلة بن الأسقع " ، كما تدل عليه الرواية في هذا الخبر . وأن صاحب التهذيب وهم حين ذكر أن أبا الفيض يروي عن " أبي قرصافة جندرة بن خيشنة " ، لأن روايته إنما هي عن " أبي قرصافة واثلة " ، وهو ليثي بلا خلاف فيه .
وأما قول أبي الفيض هنا : " كان على علينا أميرا بالشأم " - فلا أدري ما هو ؟ وإنما اليقين أنه لا يريه به " علي بن أبي طالب " ، إذ لم يكن ذلك قط . ولعله كان لهم أمير بالشأم يدعي " عليا " . ويحتمل أن يكون ما هنا فيه تحريف ، وأن يكون صوابه " كان علينا أمير بالشأم ، فنهانا . . " إلخ .
ثم وجدت ما يؤيد ذلك : ففي مجمع الزوائد 3 : 161 - 162 " عن أبي الفيض " قال : خطبنا مسلمة بن عبد الملك ، فقال : لا تصوموا رمضان في السفر ، فمن صام فليقضه . قال أبو الفيض : فلقيت أبا قرصافة واثلة بن الأسقع ، فسألته ؟ فقال : لو ما صمت ثم صمت ما قضيته . رواه الطبراني في الكبير ، ورجاله ثقات " .
فهذه الرواية تماثل رواية الطبري هنا ، وتدل على أن الأمير الذي نهاهم هو " مسلمة بن عبد الملك " . فأكبر الرأي أن يكون الصواب في رواية الطبري " كان عليا أمير بالشأم " ، كما ظننا من قبل . ولفظ آخر الحديث - في رواية الزوائد - أراه محرفًا ، وأوضح منه وأصوب لفظ أبي جعفر . و " جندرة " و " خيشنة " - كلاهما بفتح أوله وثالثه وسكون ثانيه .

(3/467)


2877 - حدثنا هناد قال ، حدثنا وكيع ، عن بسطام بن مسلم ، عن عطاء قال : إن صمتم أجزأ عنكم ، وإن أفطرتم فرُخصة.
2878 - حدثنا هناد قال ، حدثنا وكيع ، عن كهمس قال : سألت سالم بن عبد الله عن الصوم في السفر ، فقال : إن صمتم أجزأ عنكم ، وإن أفطرتم فرخصة.
2879 - حدثنا هناد قال ، حدثنا عبد الرحيم ، عن طلحة بن عمرو ، عن عطاء قال : من صام فحقٌّ أدَّاه ، ومن أفطر فرُخصة أخذ بها.
2880 - حدثنا هناد قال ، حدثنا وكيع ، عن سفيان ، عن حماد ، عن سعيد بن جبير ، قال : الفطر في السفر رُخصة ، والصومُ أفضل.
2881 - حدثنا هناد قال ، حدثنا أبو معاوية ، عن حجاج ، عن عطاء ، قال : هو تَعليم ، وليس بعَزم - يعني قول الله : " ومن كان مريضًا أو على سفر فعدة من أيام أخر " ، إن شاء صام وإن شاء لم يصم.
2882 - حدثنا هناد قال ، حدثنا أبو أسامة ، عن هشام ، عن الحسن : في الرجل يسافر في رمضان ، قال : إن شاء صام وإن شاء أفطر.
2883 - حدثنا حميد بن مسعدة قال ، حدثنا سفيان بن حبيب قال ، حدثنا العوّام بن حوشب قال : قلت لمجاهد : الصوم في السفر قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم فيه ويفطر. قال : قلت : فأيهما أحب إليك ؟ قال : إنما هي رُخصة ، وأن تصوم رمضان أحب إليّ.
2884 - حدثنا ابن المثني قال ، حدثنا محمد بن جعفر قال ، حدثنا شعبة ،

(3/468)


عن حماد ، عن سعيد بن جبير وإبراهيم ومجاهد ، أنهم قالوا : الصومُ في السفر ، إن شاء صَام وإن شاء أفطر ، والصوم أحب إليهم.
2885 - حدثنا ابن المثني قال ، حدثنا محمد بن جعفر قال ، حدثنا شعبة ، عن أبي إسحاق قال ، قال لي مجاهد في الصوم في السفر - يعني صوم رمضان - : والله ما منهما إلا حلال ، الصومُ والإفطار ، وما أراد الله بالإفطار إلا التيسير لعباده.
2886 - حدثنا ابن المثني قال ، حدثنا محمد بن جعفر قال : حدثنا شعبة ، عن الأشعث بن سليم قال : صحبت أبا الأسود بن يزيد وعمرو بن ميمون وأبا وائل إلى مكة ، وكانوا يصومون رمضان وغيرَه في السفر.
2887 - حدثنا علي بن حسن الأزدي قال ، حدثنا معافى بن عمران ، عن سفيان ، عن حماد ، عن سعيد بن جبير : الفطرُ في السفر رُخصة ، والصوم أفضل.
2888 - حدثني محمد بن عبد الله بن سعيد الواسطي قال ، حدثنا يعقوب قال ، حدثنا صالح بن محمد بن صالح ، عن أبيه قال : قلت للقاسم بن محمد : إنا نسافر في الشتاء في رمضان ، فإن صمتُ فيه كان أهوَنَ عليَّ من أن أقضيه في الحر! فقال : قال الله : ( يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ ) ما كان أيسرَ عليك فافعلْ (1) .
* * *
__________
(1) الخبر : 2888 - محمد بن عبد الله بن سعيد ، شيخ الطبري : مضى في : 2867 ، 2868 .
صالح بن محمد بن صالح بن دينار التمار المدني : ترجمه البخاري في الكبير 2/2/292 ، ولم يذكر فيه جرحا ، وذكر أنه يروي عن أبيه . ولم يترجم له ابن أبي حاتم ، ولا التهذيب ، ولا لسان الميزان ولكن ذكر في التهذيب في ترجمة أبيه ، أنه يروي عنه .
أبوه محمد بن صالح بن دينار التمار : ثقة . مترجم في التهذيب . والكبير 1/1/117 ، وروى حدثنا آخر من رواية ابنه صالح ، عنه ، وابن أبي حاتم 3/2/287 .

(3/469)


قال أبو جعفر : وهذا القول عندنا أولى بالصواب ، لإجماع الجميع على أن مريضًا لو صام شهرَ رمضان - وهو ممن له الإفطار لمرضه - أنّ صومه ذلك مجزئ عنه ، ولا قضاء عليه إذا برأ من مرضه بعدة من أيام أخر ، فكان معلومًا بذلك أن حكم المسافر حكمه في أنْ لا قضاءَ عليه إن صامه في سفره. لأن الذي جعل للمسافر من الإفطار وأمرَ به من قضاء عدة من أيام أخر ، مثلُ الذي جعل من ذلك للمريض وأمرَ به من القضاء. ثم في دلالة الآية كفايةٌ مغنية عن استشهاد شاهد على صحة ذلك بغيرها. وذلك قول الله تعالى ذكره : ( يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ ) ، ولا عُسرَ أعظم من أن يُلزم من صامه في سفره عدةً من أيام أخر ، وقد تكلف أداءَ فرضه في أثقل الحالين عليه حتى قضاه وأدَّاه.
فإن ظن ذو غَباوة أنّ الذي صامه لم يكن فرضَهُ الواجبَ ، فإن في قول الله تعالى ذكره : " يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام " " شهرُ رَمضَان الذي أنزل فيه القرآن " ، ما ينبئ أن المكتوبَ صومُه من الشهور على كل مُؤمن ، هو شهرُ رمضان مسافرًا كان أو مقيمًا ، لعموم الله تعالى ذكره المؤمنين بذلك بقوله : " يا أيها الذين آمنوا كتب عليكمُ الصيام " " شهر رمضان " وأن قوله : " ومَنْ كان مريضًا أو عَلى سفر فعدةٌ من أيام أخر " معناه : ومن كان مريضًا أو على سفر فأفطرَ برُخصة الله ، فعليه صوم عدة أيام أخر مكانَ الأيام التي أفطر في سفره أو مرضه ثم في تظاهر الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله - إذْ سئل عن الصوم في السفر : " إن شئتَ فصم ، وإن شئت فأفطر " - الكفايةُ الكافيةُ عن الاستدلال على صحة ما قُلنا في ذلك بغيره.
2889 - حدثنا هناد قال ، حدثنا عبد الرحيم ووكيع وعبدة ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة : أن حَمزة سألَ رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الصوم في السفر - وكانَ يسرُد الصوم - فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن

(3/470)


شئتَ فصُمْ وإن شئت فأفطر. (1) .
2890 - حدثنا أبو كريب وعبيد بن إسماعيل الهبّاري قالا حدثنا ابن إدريس قال ، حدثنا هشام بن عروة ، عن أبيه أن حمزة سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر نحوه. (2) .
__________
(1) الحديث : 2889 - هو حديث صحيح . رواه الإمام أحمد ، وأصحاب الكتب الستة ، كما في المنتقى : 2171 .
و " حمزة " هذا : هو حمزة بن عمرو الأسلمي ، صحابي معروف . مترجم في التهذيب ، والكبير للبخاري 2/1/43 ، وابن سعد 4/2/45 ، وابن أبي حاتم 1/2/212 ، والاستيعاب ، ص : 105 ، وأسد الغابة 2 : 50 - 51 ، وتاريخ الإسلام للذهبي 3 : 14 .
ومن عجب بعد هذا كله : أن يسهو الحافظ ابن حجر عن ترجمته في الإصابة ، في حين أنه أشار إليه في ترجمة " حمزة بن عمر " بضم العين وفتح الميم . وهي ترجمة أخطأ فيها بعض من سبقه ، وبين هو هذا الخطأ كما بينه ابن الأثير!! وانظر الإسنادين بعد هذا . سرد الصوم يسرده سردًا : إذا والاه وتابعه بعضه في إثر بعض .
(2) الحديث : 2990 - عبيد بن إسماعيل الهباري ، شيخ الطبري : ثقة من شيوخ البخاري . ترجمه في الصغير ، ص : 247 ، وهو مترجم أيضًا في التهذيب ، وابن أبي حاتم 2/2/402 .
ابن إدريس : هو عبد الله بن إدريس الأودي ، مضى في : 438 ، 2030 . ووقع في التهذيب 7 : 59 ، في شيوخ " عبيد بن إسماعيل " - " وأبي إدريس " . وهو خطأ مطبعي .
وهذا الإسناد ظاهره أنه مرسل ، لأن عروة بن الزبير تابعي ، كما هو واضح . والظاهر أن هشام بن عروة ، أو أباه عروة - كان أحدهما يصل هذا الحديث تارة ويرسله تارة . وعروة سمعه من خالته عائشة أم المؤمنين ، كما في الإسناد السابق ، وسمعه أيضًا من أبي مراوح عن حمزة الأسلمي نفسه ، كما في الإسناد التالي لهذا .
ومالك قد روى هذا الحديث في الموطأ ، ص : 295 ، " عن هشام بن عروة ، عن أبيه : أن حمزة بن عمرو الأسلمي . . " - فذكره مرسلا ، كرواية ابن إدريس هنا ، عن هشام .
فقال ابن عبد البر في التقصي ، رقم : 643 " هكذا رواه يحيى ، لم يذكر عائشة . وخالفه أكثر رواة الموطأ ، فذكروا فيه عائشة " .
وقد رواه البخاري 4 : 157 ، عن عبد الله بن يوسف ، عن مالك - موصولا . وكذلك رواه غيره من الأئمة .
والظاهر عندي أن الذي كان يرسله ويصله - هو هشام أو أبوه ، وأن مالكًا رواه عن هشام على الوجهين . بدلالة رواية عبد الله بن إدريس المرسلة - هنا - عن هشام .
ورواه البخاري أيضًا 4 : 156 ، ومسلم 1 : 309 - 310 ، بأسانيد ، موصولا ، من طريق هشام ، عن أبيه ، عن عائشة .

(3/471)


2891 - حدثني محمد بن عبد الله بن عبد الحكم قال ، حدثنا أبو زرعة وهب الله بن راشد قال : أخبرنا حيوة بن شريح قال : أخبرنا أبو الأسود أنه سمع عروة بن الزبير يحدث عن أبي مراوح ، عن حمزة الأسلمي صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : يا رسول الله ، إني أسرد الصوم ، فأصومُ في السفر ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إنما هي رُخْصة من الله لعباده ، فمن فعلها فحسنٌ جميل ، ومن تركها فلا جُناح عليه. فكان حمزة يصوم الدهر ، فيصوم في السفر والحضر. وكان عروة بن الزبير يصوم الدهر ، فيصوم في السفر والحضر ، حتى إنْ كان ليمرضُ فلا يُفطر. وكان أبو مُرَاوح يصوم الدهر ، فيصوم في السفر والحضر. (1) .
* * *
ففي هذا ، مع نظائره من الأخبار التي يطول باستيعابها الكتاب الدلالة الدالة على صحة ما قلنا : من أن الإفطارَ رخصةٌ لا عزم ، والبيانُ الواضح على صحة ما قلنا في تأويل قوله : " وَمن كانَ مريضًا أو عَلى سَفر فعدةٌ من أيام أخر " .
* * *
__________
(1) الحديث : 2891 - أبو زرعة وهب الله بن راشد : مضى في : 2377 . ووقع في المطبوعة هنا - كما كان هناك : " أبو زرعة وعبد الله بن راشد قالا . . " . وهو خطأ ، كما بينا آنفًا .
حيوة - بفتح الحاء المهملة والواو بينهما ياء تحتية ساكنة - بن شريح التجيبي ، أبو زرعة المصري : فقيه عالم ثقة ثقة .
أبو الأسود : هو " يتيم عروة " ، واسمه " محمد بن عبد الرحمن بن نوفل " ، وقيل له " يتيم عروة " لأن أباه كان أوصى إليه .
أبو مراوج الغفاري المدني : تابعي ثقة ، أخرج له الشيخان وغيرهما .
والحديث رواه مسلم 1 : 310 ، والنسائي 1 : 243 - والبيهقي 4 : 43 ، ثلاثتهم من طريق ابن وهب ، عن عمرو بن الحارث ، عن أبي الأسود ، بهذا الإسناد .
وقصر السيوطي جدًا ، فذكره 1 : 190 ، ونسبه للدارقطني " وصححه " ، فقط . وهو في أحد الصحيحين وأحد السنن الأربعة .
فظهر من هذا الإسناد أن عروة بن الزبير له في هذا الحديث طريقان : فسمعه من خالته عائشة . وسمعه مطولا من أبي مراوح ، عن حمزة الأسلمي نفسه ، صاحب السؤال . فليس هذا اختلافًا على عروة ، إنما هو توكيد رواية صحيحة ، بأخرى مثلها .

(3/472)


قال أبو جعفر : فإن قال قائل : إن الأخبار بما قلت وإن كانت متظاهرةً ، فقد تظاهرت أيضًا بقوله : " ليس من البر الصيامُ في السفر " ؟
قيل : إن ذلك إذا كان الصيامُ في مثل الحال التي جَاء الأثرُ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قالَ في ذلك لمن قال له.
2892 - حدثنا الحسين بن يزيد السبيعي قال ، حدثنا ابن إدريس ، عن محمد بن عبد الرحمن ، عن محمد بن عمرو بن الحسن ، عن جابر : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجُلا في سفره قد ظُلِّل عليه ، وعليه جماعة ، فقال : " من هذا ؟ قالوا : صائم. قال : ليس من البر الصوم في السفر.
* * *
قال أبو جعفر : أخشى أن يكون هذا الشيخ غلط ، وبين ابن إدريس ومحمد بن عبد الرحمن ، شعبة. (1) .
* * *
2892م - حدثنا ابن المثني قال ، حدثنا محمد بن جعفر قال ، حدثنا شعبة ، عن محمد بن عبد الرحمن بن سعد بن زرارة الأنصاري ، عن محمد بن عمرو بن الحسن بن علي ، عن جابر بن عبد الله قال : رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا قد اجتمع الناس عليه وقد ظُلِّل عليه ، فقالوا : هذا رجل صائم! فقال رسول الله صلى الله
__________
(1) الحديث : 2892 - الحسين بن يزيد السبيعي ، شيخ الطبري : هكذا ثبت هنا . وأخشى أن يكون نسبته " السبيعي " سهوا أو خطأ من الناسخين . والذي في هذه الطبقة ، ويروي عن عبد الله بن إدريس - هو " الحسين بن يزيد بن يحيى الطحان الأنصاري " وهو مترجم في التهذيب ، وابن أبي حاتم 1/2/67 . روى عنه أبو داود ، والترمذي ، وأبو زرعة ، وذكر الحافظ أنه روى عنه مسلم خارج الصحيح . والذي يرجح عندي هذا : أن الطبري روى خبرًا آخر ، في التاريخ 1 : 135 - 136 : " حدثنا الحسين بن يزيد الطحان قال : حدثنا ابن إدريس . . . " . إلا أن يكون هذا شيخًا آخر للطبري ، لم تصل إلينا معرفته .
وقد نبه الطبري إلى غلط هذا الشيخ ، في إسقاط " شبعة " بين " ابن إديس " و " محمد بن عبد الرحمن " ، وهو كما قال . فإن عبد الله بن إدريس لم يدرك أن يروي عن محمد بن عبد الرحمن . وسيأتي تخريج هذا الحديث ، في الإسناد التالي له .

(3/473)


عليه وسلم : ليس من البر أن تَصوموا في السفر. (1) .
* * *
فمن بلغ منه الصوم ما بَلغ من الذي قال له النبي صلى الله عليه وسلم ، ذلك ، فليس من البر صومه. لأن الله تعالى ذكره قد حرّم على كل أحد تعريضَ نفسه لما فيه هلاكها ، وله إلى نجاتها سبيل. وإنما يُطلب البر بما نَدب الله إليه وَحضَّ عليه من الأعمال ، لا بما نهى عنه.
وأما الأخبار التي رويت عنه صلى الله عليه وسلم من قوله : " الصائم في السفر كالمفطر في الحضر " (2) فقد يحتمل أن يكون قيل لمن بلغ منه الصوم ما بلغ من هذا الذي ظُلِّل عليه ، إن كان قبل ذلك. وغيرُ جائز عليه أن يُضَاف إلى النبي صلى الله عليه وسلم قيلُ ذلك ، لأن الأخبار التي جاءت بذلك عن رسول الله صلى
__________
(1) الحديث : 2892م - محمد بن عبد الرحمن بن سعد بن زرارة : ثقة معروف ، أخرج له أصحاب الكتب الستة . وبعضهم ينسبه لجده لأمه ، فيقول : " محمد بن عبد الرحمن بن أسعد بن زرارة " . و " سعد بن زرارة " ، وأخوه " أسعد بن زرارة " - صحابيان معروفان ، أنصاريان ، من بني النجار .
ووقع في هذا الإسناد في المطبوعة " شعبة عن عبد الرحمن بن سعد . . " ، وهو خطأ واضح من الناسخين سقط منهم " محمد بن " قبل " عهد الرحمن " .
محمد بن عمرو بن الحسن بن علي بن أبي طالب : تابعي ثقة ، أخرج له الشيخان وغيرهما .
والحديث رواه مسلم 1 : 308 ، بأسانيد ، منها : عن محمد بن المثني ، شيخ الطبري هنا ، عن محمد بن جعفر ، بهذا الإسناد .
ورواه أحمد في المسند : 14242 ( 3 : 299حلبي) ، عن محمد بن جعفر ، به . ورواه أبو داود الطيالسي : 1721 ، عن شعبة ، به .
ورواه البخاري 4 : 161 - 162 (فتح) ، عن آدم ، عن شعبة . ورواه أيضًا - مختصرًا - في الكبير 1/1/189 - 190 ، عن آدم .
ورواه أبو نعيم في الحلية 7 : 159 ، بأسانيد من طريق شعبة ، ثم قال : " صحيح متفق عليه . واختلف في محمد بن عبد الرحمن : فأخرجه سليمان في ترجمة : شعبة عن أبي الرجال ، وغيره أخرجه في ترجمة محمد بن عبد الرحمن بن أسعد بن زرارة " .
وقد حقق الحافظ في الفتح أن الصحيح ما ذكرنا . وهو الثابت في صحيح مسلم ، وسنن أبي داود : 2407 ، وغيرهما .
وقصر السيوطي جدًا ، إذ نسبه في الدر المنثور 1 : 191 لابن أبي شيبة ، وأبي داود ، والنسائي ، فقط ؛ وهو في الصحيحين كما ترى .
(2) انظر الأثرين رقم : 2867 ، 2868 ، والتعليق عليهما .

(3/474)


الله عليه وسلم واهية الأسانيد ، لا يجوز الاحتجاجُ بها في الدين.
* * *
فإن قال قائل : وكيف عطف على " المريض " ، وهو اسم بقوله : " أوْ على سفر " و " على " صفة لا اسم. (1) .
قيل : جاز أن ينسق ب " على " على " المريض " ، لأنها في معنى الفعل. وتأويل ذلك : أو مسافرًا ، كما قال تعالى ذكره : ( دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا ) [يونس : 12] ، فعطف ب " القاعد ، والقائم " على " اللام " التي في " لجنبه " ، لأن معناها الفعل ، كأنه قال : دعانا مضطجعًا أو قاعدًا أو قائمًا.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ }
قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بذلك : يريد الله بكم ، أيها المؤمنون - بترخيصه لكم في حال مرضكم وسَفركم في الإفطار ، وقضاء عدة أيام أخر من الأيام التي أفطرتموها بعد إقامتكم وبعد بُرئكم من مرضكم - التخفيفَ عليكم ، والتسهيل عليكم ، لعلمه بمشقة ذلك عليكم في هذه الأحوال (2) " ولا يُريد بكم العسر " ، يقول : ولا يريد بكم الشدة والمشقة عليكم ، فيكلفكم صوم الشهر في هذه الأحوال ، مع علمه شدة ذلك عليكم ، وثقل حمله عليكم لو حمّلكم صومه ، كما : -
2893 - حدثني المثني قال ، حدثنا أبو صالح قال ، حدثنا معاوية بن صالح ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : " يُريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر " ، قال : اليسر : الإفطار في السفر ، والعسر الصيام في السفر.
2894 - حدثنا محمد بن المثني قال ، حدثنا محمد بن جعفر قال ، حدثنا
__________
(1) قوله : " صفة " يعني حرف جر . وحروف الصفات هي حروف الجر . وقد مضى بيان ذلك في 1 : 299 تعليق : 1 .
(2) في المطبوعة : " بشقة ذلك عليكم " ، والصواب ما أثبت .

(3/475)


شعبة ، عن أبي حمزة ، قال : سألت ابن عباس عن الصوم في السفر ، فقال : يُسرٌ وعُسرٌ. فخذ بيسر الله.
2895 - حدثني المثني قال ، حدثنا سويد بن نصر. قال ، أخبرنا ابن المبارك ، عن شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله : " يريد الله بكم اليسر " - قال : هو الإفطار في السفر ، وَجعل عدةً من أيام أخر - " ولا يريد بكم العسر " .
2896 - حدثنا بشر بن معاذ قال حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : " يريد الله بكمُ اليسر ولا يُريد بكم العسر " ، فأريدوا لأنفسكم الذي أراد الله لكم.
2897 - حدثني المثني قال ، حدثنا سويد قال ، أخبرنا ابن المبارك ، عن ابن عيينة ، عن عبد الكريم الجزري عن طاوس ، عن ابن عباس قال : لا تَعِبْ على من صام ولا على من أفطر - يعنِي في السفر في رمضان - " يريد الله بكم اليسر ولا يُريد بكم العسر " .
2898 - حدثت عن الحسين بن الفرج قال ، حدثنا الفضيل بن خالد قال ، حدثنا عبيد بن سليمانَ ، قال سمعت الضحاك بن مزاحم في قوله : " يريد الله بكمُ اليسر " - الإفطار في السفر - " ولا يريد بكم العسر " ، الصيام في السفر.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ }
قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بقوله : (1) " ولتكملوا العدة " ، عدةَ ما أفطرتم ، من أيام أخر ، أوجبت عليكم قضاءَ عدة من أيام أخر بعد برئكم من مرضكم ، أو إقامتكم من سفركم ، كما :
__________
(1) في المطبوعة : " بذلك " مكان " بقوله " ، وسياق الكلام يدل على صواب ما أثبت .

(3/476)


2899 - حدثني المثني قال ، حدثنا سويد بن نصر قال : أخبرنا ابن المبارك ، عن جويبر ، عن الضحاك في قوله : " ولتكملوا العدة " ، قال : عدة ما أفطر المريض والمسافر.
2900 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد في قوله : " ولتكملوا العدة " ، قال : إكمالُ العدة : أنَ يصومَ ما أفطر من رمضان في سفر أو مرض [إلى] أنْ يُتمه ، فإذا أتمه فقد أكمل العدة. (1) .
* * *
فإن قال قائل : ما الذي عليه بهذه " الواو " التي في قوله : " ولتكملوا العدة " عَطَفَتْ ؟ (2) .
قيل : اختلف أهل العربية في ذلك.
فقال بعضهم : هي عاطفة على ما قبلها ، كأنه قيل : ويُريد لتكملوا العدة ولتكبروا الله.
وقال بعض نحويي الكوفة : وهذه " اللام " التي في قوله : " ولتكملوا " لام " كي " لو ألقيتْ كان صوابًا. قال : والعرب تُدخلها في كلامها على إضمار فعل بعدها ، ولا تكون شرطًا للفعل الذي قبلها وفيها " الواو " ، ألا ترى أنك تقول : " جئتك لتحسن إلي " ، ولا تقول : " جئتك ولتحسن إليّ " ، فإذا قلته فأنت تريد : ولتحسن جئتك. قال : وهذا في القرآن كثيرٌ ، منه قوله : ( وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ ) [سورة الأنعام : 113] ، وقوله : ( وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ ) [سورة الأنعام : 75] ، ولو لم تكن فيه " الواو " كان شرطًا على قولك : أريْناهُ ملكوت السموات والأرض
__________
(1) الزيادة بين القوسين لا غنى عنها هنا .
(2) السياق : وما الذي عليه عطفت .

(3/477)


ليكون. فإذا كانت " الواو " فيها فلها فعل " مضمر " بعدها ، و " ليكون من الموقنين " ، أريناه. (1) .
* * *
قال أبو جعفر : وهذا القول أولى بالصواب في العربية. لأن قوله : " ولتكملوا العدة " ، ليس قبله " لام " بمعنى " اللام " التي في قوله : " ولتكملوا العدة " فتعطف بقوله : " ولتكملوا العدة " عليها - وإن دخول " الواو " معها ، يؤذن بأنها شرط لفعل بعدها ، إذ كانت " الواو " لو حذفت كانت شرطًا لما قبلها من الفعل.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ }
قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره : ولتعظِّموا الله بالذكر له بما أنعم عليكم به ، من الهداية التي خذل عنها غيركم من أهل الملل الذين كتب عليهم من صوم شهر رمضان مثلَ الذي كتب عليكم فيه ، فضلُّوا عنه بإضلال الله إياهم ، وخصَّكم بكرامته فهداكم له ، ووفقكم لأداء ما كتبَ الله عليكم من صومه ، وتشكروه على ذلك بالعبادة لهُ.
* * *
والذكر الذي حضهم الله على تعظيمه به ، " التكبير " يوم الفطر ، فيما تأوله جماعة من أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
2901 - حدثني المثني قال ، حدثنا سويد بن نصر قال ، أخبرنا ابن المبارك ، عن داود بن قيس ، قال : سمعت زيد بن أسلم يقول : " ولتكبروا الله على
__________
(1) هذا قول الفراء ، وهو نص كلامه في معاني القرآن 1 : 113 .

(3/478)


ما هداكم " ، قال : إذا رأى الهلال ، فالتكبيرُ من حين يَرى الهلال حتى ينصرف الإمام ، في الطريق والمسجد ، إلا أنه إذا حضر الإمامُ كفّ فلا يكبرِّ إلا بتكبيره.
2902 - حدثني المثني قال ، حدثنا سويد قال ، أخبرنا ابن المبارك قال : سمعت سفيان يقول : " ولتكبِّروا الله على ما هداكم " ، قال : بلغنا أنه التكبير يوم الفطر.
2903 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد : كان ابن عباس يقول : حقٌّ على المسلمين إذا نظروا إلى هلال شوال أن يكبرِّوا الله حتى يفرغوا من عيدهم ، لأن الله تعالى ذكره يقول : " ولتكملوا العدة ولتكبروا الله على ما هداكم " . قال ابن زيد : يَنبغي لهم إذا غَدوا إلى المصلَّى كبروا ، فإذا جلسوا كبروا ، فإذا جاء الإمام صَمتوا ، فإذا كبر الإمام كبروا ، ولا يكبرون إذا جاء الإمام إلا بتكبيره ، حتى إذا فرغ وانقضت الصلاة فقد انقضى العيد. قال يونس : قال ابن وهب : قال عبد الرحمن بن زيد : والجماعةُ عندنا على أن يغدوا بالتكبير إلى المصلَّى.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (185) }
قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بذلك : ولتشكروا الله على ما أنعم به عليكم من الهداية والتوفيق ، وتيسير ما لو شاء عسر عليكم.
و " لعل " في هذا الموضع بمعنى " كي " (1) ولذلك عطف به على قوله : " ولتكملوا العدة ولتكبروا الله عَلى ما هَداكم ولَعلكم تَشكرون " .
* * *
__________
(1) انظر ما سلف 1 : 364 ، والمراجع في فهرس مباحث العربية .

(3/479)


وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (186)

القول في تأويل قوله تعالى : { وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (186) }
قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره : بذلك وإذا سَألك يا محمد عبادي عَني : أين أنا ؟ فإني قريبٌ منهم أسمع دُعاءهم ، وأجيب دعوة الداعي منهم.
* * *
وقد اختلف فيما أنزلت فيه هذه الآية.
فقال بعضهم : نزلت في سائل سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا محمد ، أقريبٌ ربنا فنناجيه ، أم بعيد فنناديه ؟ فأنزل الله : " وإذا سألك عبادي عَني فأني قريبٌ أجيبُ " الآية.
2904 - حدثنا بذلك ابن حميد قال ، حدثنا جرير ، عن عبدة السجستاني ، عن الصُّلب بن حكيم ، عن أبيه ، عن جده. (1) .
__________
(1) الحديث : 2904 - جرير : هو ابن عبد الحميد الضبي ، مضى في : 2028 ، 2346 . عبدة السجستاني : هو عبدة بن أبي برزة ، ترجمه ابن أبي حاتم 3/1/90 ، ولم يذكر فيه جرحًا . ولم أجد له ترجمة عند غيره .
" السجستاني " : هذا هو الصحيح ، الثابت هنا ، وفي المصادر المعتمدة ، كما سيأتي . ووقع في بعض المراجع " السختياني " ، وهو خطأ مطبعي واضح .
الصلب بن حكيم : نص الحافظ عبد الغني الأزدي المصري ، في كتاب المؤتلف والمختلف ، ص 79 ، على أنه " صلب " : " بالياء معجمة من تحتها وضم الصاد " . وترجم له فقال : " صلب بن حكيم ، عن أبيه ، عن جده . روى حديثه محمد بن حميد ، عن جرير ، عن عبدة بن أبي برزة السجستاني " .
وكذلك قال الذهبي في المشتبه ، ص : 316 " وصلب بن حكيم ، عن أبيه ، عن جده . يشتبه بالصلت بن حكيم " . وفي هامشه ، نقلا عن هامش إحدى مخطوطاته : " قال الخطيب : قيل إنه أخ لبهز بن حكيم ، ولا يصح ذلك . ويشتبه أيضًا بالصلت بن حكيم ، بضم الحاء . ويقال : الحكيم بن الصلت " وكذلك قال الحافظ بن حجر ، في " تبصير المنتبه " (مخطوط مصور عندي) ، ونص على أنه " قيل : إن الصلب بن حكيم ، المتقدم ذكره - أخو بهز بن حكيم ، ولا يصح " .
ولكنه - مع هذا - ترجم له في لسان الميزان 3 : 195 ، في باب " الصلت " ، نقلا عن الميزان ، وذكر هذا الحديث له . وذكر رواية الذهبي إياه بإسناده إلى " محمد بن حميد " . ثم ذكر - نقلا عن الذهبي أيضًا - أنه رواه ابن أبي خثيمة ، في جزء فيمن روي عن أبيه عن جده ، وأنه " أخرجه العلائي في كتاب الوشي ، عن إبراهيم بن محمد . وقال : لم أر للصلت ذكرًا في كتب الرجال " . ثم عقب الحافظ على ذلك بقوله : " قلت : ذكره الدارقطني في المؤتلف ، وحكى الاختلاف : هل آخره بالموحدة ، أو بالمثناة ؟ وقال إنه ابن حكيم بن معاوية بن حيدة ، فهو أخو بهز بن حكيم ، المحدث المشهور . وليس للصلت ولا لأبيه ولا لجده - ذكر في كتب الرواة ، إلا ما قدمت من ذكر ابن أبي خيثمة ، ولم يزد في التعريف به على ما ها هنا " .
وهذا اضطراب شديد من الحافظ ابن حجر . ثم إن هذه التي نقلها عن ميزان الاعتدال للذهبي لم تذكر في النسخة المطبوعة منه . فالظاهر أنها سقطت من الأصول التي طبع عنها الميزان .
والراجح عندي ما ذهب إليه الذهبي وابن حجر وابن أبي خيثمة وعبد الغني الأزدي : أنه " صلب " بضم الصاد وبالوحدة في آخره . وأنه مجهول هو وأبوه وجده . أما " حكيم بن معاوية بن حيدة القشيري - : فإنه تابعي معروف ، وأبوه صحابي معروف . وقد روي عن حكيم بن معاوية بن حيدة - أبناؤه : بهز ، وسعيد ومهران . فلا صلة للذي يسمى " الصلب " هذا - بهؤلاء .
وهذا الحديث ضعيف جدًا ، منهار الإسناد بكل حال .
وقد وهم الحافظ ابن كثير ، حين ذكره 1 : 413 - 414 ، وجعله من حديث " معاوية بن حيدة القشيري " .
وذكره السيوطي أيضًا 1 : 194 ، وأخطأ فيه خطأ آخر : فجعله " من طريق الصلت بن حكيم ، عن رجل من الأنصار ، عن أبيه ، عن جده " !! وقد تكون زيادة " عن رجل من الأنصار " خطأ من الناسخين ، لا من السيوطي .

(3/480)


2905 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا جعفر بن سليمان ، عن عوف ، عن الحسن قال : سأل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم النبيَّ صلى الله عليه وسلم : أين ربُّنا ؟ فأنزل الله تعالى ذكره : " وإذا سألك عبادي عَني فإني قريبٌ أجيب دعوة الداع إذا دعان " الآية (1) .
* * *
__________
(1) الحديث : 2905 - جعفر بن سليمان : هو الضبعي ، بضم الضاد المعجمة ، وفتح الباء الموحدة . وهو ثقة ، وثقه ابن معين وغيره .
عوف : هو ابن أبي جميلة الأعرابي ، وهو ثقة معروف ، أخرج له أصحاب الكتب الستة . وقد مضت له رواية في : 645 . وهو معروف بالرواية عن الحسن البصري .
وهذا الإسناد صحيح إلى الحسن . ولكن الحديث ضعيف ، لأنه مرسل ، لم يسنده الحسن عن أحد من الصحابة .
وقد رواه أبو جعفر هنا ، من طريق عبد الرزاق ، ولم أجده في تفسير عبد الرزاق . فلعله في موضع آخر من كتبه .

(3/481)


وقال آخرون : بل نزلت جوابًا لمسألة قومٍ سَألوا النبي صلى الله عليه وسلم : أيّ ساعة يدعون الله فيها ؟
* ذكر من قال ذلك :
2906 - حدثنا سفيان بن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن ابن جريج ، عن عطاء قال : لما نزلت : ( وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ ) [سورة غافر : 60] قالوا : في أي ساعة ؟ قال : فنزلت : " وإذا سألك عبادي عَني فإني قريب " إلى قوله : " لعلهم يَرُشدون " .
2907 - حدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي قال ، حدثنا أبو أحمد الزبيري قال ، حدثنا سفيان ، عن ابن جريج ، عن عطاء في قوله : " أجيب دَعوَة الداع إذا دعان " ، قالوا : لو علمنا أيَّ ساعة نَدْعو! فنزلت : " وإذا سَأَلكَ عِبَادي عَنّي فإني قريب " الآية.
2908 - حدثني القاسم. قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج قال : زعم عطاء بن أبي رباح أنه بلغه : لما نزلت : ( وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ ) ، قال الناس : لو نعلم أي ساعة ندعو! فنزلت : " وإذا سألك عبادي عَني فإني قريب أجيب دَعوة الداع إذا دَعان فليستجيبوا لي وَليؤمنوا بي لعلهم يَرشدون " .
2909 - حدثنا موسى بن هارون قال حدثنا عمرو بن حماد قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : " وإذا سَألك عبادي عَني فإني قريبٌ أجيب دعوة الداع إذا دَعان " ، قال : ليس من عَبد مؤمن يدعو الله إلا استجاب له ، فإن كان الذي يدعو به هو له رزق في الدنيا أعطاه الله ، وإن لم يكن له رزقًا في الدنيا ذَخره له إلى يوم القيامة ، ودفع عنه به مكروهًا.
2910 - حدثني المثني قال ، حدثنا الليث بن سعد عن ابن صالح ، عمن حدثه : أنه بلغه أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ما أعطى أحدٌ الدعاءَ

(3/482)


ومُنع الإجابة ، لأن الله يقول : ( ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ ).
* * *
ومعنى متأوِّلي هذا التأويل : وإذا سألك عبادي عني : أي ساعة يدعونني ؟ فإني منهم قريب في كل وقت ، أجيب دعوة الداع إذا دعان.
* * *
وقال آخرون : بل نزلت جوابًا لقول قوم قالوا - إذْ قالَ الله لهم : ( ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ ) - : إلى أين ندعوه!
* ذكر من قال ذلك :
2911 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال مجاهد : ( ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ ) ، قالوا : إلى أين ؟ فنزلت : ( فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ) [سورة البقرة : 115].
* * *
وقال آخرون : بل نزلت جوابًا لقوم قالوا : كيف ندعو ؟
* ذكر من قال ذلك :
2912 - حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قال : ذكر لنا أنه لما أنزل الله " ادْعُوني أَسْتَجِبْ لَكُمْ " ، قال رجال : كيف ندعو يا نبي الله ؟ فأنزل الله : " وإذا سَألك عبادي عَنّي فإنّي قريبٌ " إلى قوله : " يرشدون " .
* * *
وأما قوله : " فليستجيبوا لي " ، فإنه يعني : فليستجيبوا لي بالطاعة. يقال منه : " استجبت له ، واستجبته " ، بمعنى أجبته ، كما قال كعب بن سعد الغنويّ :
وَدَاعٍ دَعَا يَامَنْ يُجِيبُ إلَى النَّدَى... فَلَمْ يَسْتَجِبْهُ عِنْدَ ذَاكَ مُجِيب (1)
__________
(1) سلف هذا البيت في1 : 320 ، ونسيت هناك أن أشير إليه أنه سيأتي في هذا الموضع من التفسير ، ثم في 4 : 144 (بولاق) .

(3/483)


يريد : فلم يجبه.
* * *
وبنحو ما قلنا في ذلك قال مجاهد وجماعةٌ غيره.
2913 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني الحجاج ، عن ابن جريج قال ، قال مجاهد قوله : " فليستجيبوا لي " ، قال : فليطيعوا لي ، قال : " الاستجابة " ، الطاعة.
2914 - حدثني المثني قال ، حدثنا حبان بن موسى قال : سألت عبد الله بن المبارك عن قوله : " فليستجيبوا لي " ، قال : طاعة الله.
* * *
وقال بعضهم : معنى " فليستجيبوا لي " : فليدعوني
*ذكر من قال ذلك :
2915 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني منصور بن هارون ، عن أبي رجاء الخراساني ، قال " فليستجيبوا لي " ، فليدعوني.
* * *
وأما قوله : " وليؤمنوا بي " فإنه يعني : وَليصدِّقوا. أي : وليؤمنوا بي ، إذا همُ استجابوا لي بالطاعة ، أني لهم من وَرَاء طاعتهم لي في الثواب عليها ، وإجزالي الكرامةَ لهم عليها.
* * *
وأما الذي تأوَّل قوله : " فليستجيبوا لي " ، أنه بمعنى : فليدعوني ، فإنه كان يتأوّل قوله : " وليؤمنوا بي " ، وليؤمنوا بي أني أستجيب لهم.
* ذكر من قال ذلك :
2916 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني منصور بن هارون ، عن أبي رجاء الخراساني : " وليؤمنوا بي " ، يقول : أني أستجيب لهم.
* * *
وأما قوله : " لعلهم يَرشُدُون " فإنه يعني : فليستجيبوا لي بالطاعة ، وليؤمنوا بي

(3/484)


فيصدِّقوا على طاعتهم إياي بالثواب مني لهم ، وليهتدوا بذلك من فعلهم فيرشدوا ، كما : -
2917 - حدثني به المثني قال ، حدثنا إسحاق ، قال حدثنا عبد الرحمن بن سعد قال ، حدثنا أبو جعفر ، عن الربيع في قوله : " لعلهم يَرشدون " ، يقول : لعلهم يهتدون.
* * *
فإن قال لنا قائل : وما معنى هذا القول من الله تعالى ذكره ؟ فأنت ترى كثيرًا من البشر يدعون الله فلا يجابُ لهم دُعاء ، وقد قال : " أجيبُ دَعوة الداع إذا دَعان " ؟
قيل : إن لذلك وجهين من المعنى :
أحدهما : أن يكون معنيًّا " بالدعوة " ، العملُ بما نَدب الله إليه وأمر به. فيكون تأويل الكلام. وإذا سألك عبادي عَني فإنى قريبٌ ممن أطاعني وعَمل بما أمرته به ، أجيبه بالثواب على طاعته إياي إذا أطاعني. فيكون معنى " الدعاء " : مسألة العبد ربَّه وما وعد أولياءه على طاعتهم بعملهم بطاعته ، ومعنى " الإجابة " من الله التي ضمنها له ، الوفاءُ له بما وعد العاملين له بما أمرهم به ، كما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من قوله : " إنّ الدعاء هو العبادة " .
2918 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا جويبر ، عن الأعمش ، عن ذر ، عن يُسَيْع الحضرمي ، عن النعمان بن بشير قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إنّ الدعاءَ هُوَ العبادة. ثم قرأ : ( وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ ) [سورة غافر : 60] (1) .
* * *
__________
(1) الحديث : 2918 - أما الحديث في ذاته - فإنه حديث صحيح . وأما هذا الإسناد بعينه ، فلا أدري كيف يستقيم ؟ مع ضعفه !
فإن ابن حميد - شيخ الطبري - هو : محمد بن حميد الرازي ، سبق توثيقه : 2028 ، 2253.
ولكن من المحال أن يقول : " حدثنا جويبر " ، لأن ابن حميد مات سنة 248 ، وجويبر بن سعيد الأزدي مات قبل ذلك بنحو مائة سنة ، فقد ذكره البخاري في الصغير ، ص : 176 ، فيمن مات بين سنتي : 140 - 150 . فلا بد أن يكون قد سقط بينها شيخ ، خطأ من الناسخين. ثم إن " جويبرا " هذا : ضعيف جدًا ، كما بينا في : 284 .
الأعمش : هو سليمان بن مهران ، الإمام المعروف.
ذر ، بفتح الذال المعجمة وتشديد الراء : هو ابن عبد الله المرهبي ، بضم الميم وسكون الراء وكسر الهاء بعدها ياء موحدة. وهو ثقة ، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
يسيع - بضم الياء الأولى وسكون الثانية بينهما سين مهملة مفتوحة : هو ابن معدان الحضرمي ، في التهذيب ، والكبير 4/2/425 - 426 ، وابن أبي حاتم 4/2/313. ووقع هنا في المطبوعة " سبيع " ! وهو تصحيف.
والحديث سيأتي في الطبري 24 : 51 - 52 (بولاق) ، بستة أسانيد. ووقع اسم " ذر " هناك مصحفًا إلى " زر " ، بالزاي بدل الذال.
وهو حديث صحيح . رواه أحمد في المسند 4 : 271 (الحلبي) ، عن أبي معاوية ، عن الأعمش ، بهذا الإسناد . فليس فيه " جويبر " الضعيف المذكور هنا.
ونقله ابن كثير 7 : 309 ، عن ذلك الموضع من المسند ، وقال : وهكذا رواه أصحاب السنن : الترمذي ، والنسائي ، وابن ماجه ، وابن أبي حاتم ، وابن جرير - كلهم من حديث الأعمش ، به. وقال الترمذي : حسن صحيح . ورواه أبو داود ، والترمذي ، والنسائي ، وابن جرير أيضًا ، من حديث شعبة ، عن منصور الأعمش - كلاهما عن ذر ، به ، ثم ذكر أنه رواه ابن حبان والحاكم أيضا.
وهو عند الحاكم 1 : 490 - 491 بأسانيد ، ثم قال : " هذا حديث صحيح الإسناد ، ولم يخرجاه " . ووافقه الذهبي.
وذكره السيوطي 5 : 355 ، وزاد نسبته إلى سعيد بن منصور ، وابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد ، والبخاري في الأدب المفرد ، وابن المنذر ، والطبراني ، وابن مردويه ، وأبي نعيم في الحلية ، والبيهقي في شعب الإيمان.

(3/485)


فأخبر صَلى الله عليه وسلم أن دعاء الله إنما هو عبادته ومسألته ، بالعمل له والطاعة.
وبنحو الذي قلنا في ذلك ذُكِر أن الحسن كان يقول :
2919 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين ، قال ، حدثني منصور بن هارون ، عن عبد الله بن المبارك ، عن الربيع بن أنس ، عن الحسن أنه قال فيها : ( ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ ) ، قال : اعملوا وأبشروا ، فإنه حقٌّ على الله أنَ يستجيب

(3/486)


للذين آمنوا وعَملوا الصالحات ويزيدُهم من فضله.
* * *
والوجه الآخر : أن يكون معناه : أجيب دعوة الداع إذا دَعان إن شئت. فيكون ذلك ، وإن كان عامًّا مخرُجه في التلاوة ، خاصًّا معناهُ.
* * *

(3/487)


أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآَنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آَيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (187)

القول في تأويل قوله تعالى : { أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ }
قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بقوله : " أحل لكم " ، أطلق لكم وأبيح (1) .
* * *
ويعني بقوله : " ليلة الصيام " ، في ليلة الصيام.
* * *
فأما " الرفث " فإنه كناية عن الجماع في هذا الموضع ، يقال : " هو الرفثُ والرُّفوث " . (2) .
* * *
وقد روي أنها في قراءة عبد الله : " أحل لكم ليلة الصيام الرفوثُ إلى نسائكم " .
* * *
وبمثل الذي قلنا في تأويل " الرفث " قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك :
2920 - حدثني محمد بن عبد الله بن عبد الحكم المصري قال ، حدثنا أيوب بن سويد ، عن سفيان ، عن عاصم ، عن بكر عن عبد الله المزني ، عن ابن عباس قال : الرفث ، الجماعُ ، ولكن الله كريم يَكني.
__________
(1) انظر تفسير " الحلال " فيما سلف من هذا الجزء 3 : 300 ، 301 .
(2) انظر ما سيأتي في معنى " الرفث " في هذا الجزء (2 : 153 - 155 بولاق) .

(3/487)


2921 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا جرير ، عن عاصم ، عن بكر ، عن ابن عباس ، مثله.
2922 - حدثني محمد بن سعد قال : حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قال : الرفث ، النكاح.
2923 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر ، عن قتادة ، قال : الرفث : غِشيانُ النساء.
2924 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : " أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم " ، قال : الجماع.
2925 - حدثني المثني قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله.
2926 - حدثني المثني قال ، حدثنا أبو صالح قال ، حدثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس ، قال : الرفث : هو النكاح.
2927 - حدثني المثني قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الكبير البصري قال ، حدثنا الضحاك بن عثمان قال ، سألت سالم بن عبد الله عن قوله : " أحلَّ لكم ليلة الصيام الرفثُ إلى نسائكم " ، قال : هو الجماع.
2928 - حدثني موسى بن هارون قال ، حدثنا عمرو بن حماد قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : " أحِلّ لكم ليلةَ الصيام الرفثُ إلى نسائكم " ، يقول : الجماع.
* * *
" والرفث " في غير هذا الموضع ، الإفحاشُ في المنطق ، كما قال العجاج :
عَنِ اللَّغَا وَرَفَثِ التَّكَلُّمِ (1)
* * *
__________
(1) ديوانه : 59 ، وسيأتي مع البيت قبله في التفسير 2 : 246 (بولاق) ، من رجز له طويل ، حمد فيه الله ومجده بقوله : فَالحَمْد ِللهِ العَلِيِّ الأَعْظَمِ ... ذِي الجَبَرُوتِ والجَلاَلِ الأَفْخَمِ
وَعَالِمِ الإِعْلاَنِ والمُكَتَّمِ ... وربّ كُلِّ كَافِرٍ ومُسْلِمِ
ثم عطف على قوله : " ورب كل كافر ومسلم " عطوفًا كثيرة ، حتى انتهى إلى ما أنشده الطبري : وربِّ أسْرَابِ حَجيجٍ كُظَّمِ ... عن اللَّغَا وَرفَثِ التَّكَلُّمِ
والأسراب جمع سرب : وهو القطيع أو الطائفة من القطار الظباء والشاء والبقر والنساء ، وجعله هذا للحجاج . والحجيج : الحجاج . وكظم جمع كاظم : وهو الساكت الذي أمسك لسانه وأخبت ، من الكظم (بفتحتين) وهو مخرج النفس . واللغا واللغو : السقط ومالا يعتد به من كلام أو يمين ، ولا يحصل منه على فائدة ولا نفع .
هذا ، ومما يدل على أن أبا جعفر كان يختصر القول اختصارًا في بعض المواضع ، أنه لم يفسر تعدية " الرفث " بحرف الجر " إلى " ، ولولا الاختصار لقال فيه مقالا على ما سلف من نهجه . وقد عدي " الرفث " بـ " إلى " ، لأنه في معنى الإفضاء . يقال : " أفضيت إلى امرأتي " ، فلما أراد هذا المعنى جاء بحرفه ليضمنه معناه ، إيذانًا بأن ذلك ما أراد بهذه الكناية .

(3/488)


القول في تأويل قوله تعالى : { هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ }
قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بذلك : نساؤكم لباسٌ لكمُ وأنتم لباسٌ لهن.
* * *
فإن قال قائل : وكيف يكون نساؤنا لباسًا لنا ، ونحن لهن لباسًا و " اللباس " إنما هو ما لبس ؟
قيل : لذلك وجهان من المعاني :
أحدهما : أن يكون كل واحد منهما جُعل لصاحبه لباسًا ، لتجرُّدهما عند النوم ، (1) واجتماعهما في ثوب واحد ، وانضمام جسد كل واحد منهما لصاحبه ،
__________
(1) في المطبوعة : " لتخرجهما عند النوم " ، وأخشى أن يكون تصحيفًا . جعل الجيم خاء ، وألصق الدال بالهاء ، فظنها الناسخ خاء ، لتشابههما . ولم أجد في مادة " خرج " " خرج " بتشديد الراء بمعنى التجرد من الثياب ، وإن كانوا يقولون : " خرج فلان من ثيابه " ولكنه هنا لا يظهر معناه لسقوط ذكره اللباس في عبارته . وإن كنت أظنها بعيدة ، ولو ذكر معها اللباس . ورجح هذا التصحيح عندي قوله بعد البيت الآتي : " متجردين في فراش واحد " .

(3/489)


بمنزلة ما يلبسه على جَسده من ثيابه ، فقيل لكل واحد منهما : هو " لباس " لصاحبه ، كما قال نابغة بني جعدة :
إِذَا مَا الضَّجِيعُ ثَنَى عِطْفَهَا... تَدَاعَتْ ، فكَانَتْ عَلَيْهِ لِبَاسَا (1)
ويروي : " تثنت " فكنى عن اجتماعهما متجردين في فراش واحد ب " اللباس " ، كما يكنى ب " الثياب " عن جسد الإنسان ، كما قالت ليلى ، وهي تصف إبلا ركبها قومٌ :
رَمَوْهَا بِأَثْوَابٍ خِفَافٍ ، فَلا تَرَى... لَهَا شَبَهًا إلا النَّعَامَ المُنَفَّرَا (2)
يعني : رموها بأنفسهم فركبوها. وكما قال الهذليّ (3) تَبَرَّأُ مِنْ دَمِ القَتيلِ وَوَتْرِهِ... وَقَدْ عَلِقَتْ دَمَ القَتِيلِ إزَارُهَا (4)
__________
(1) الشعر والشعراء : 255 من أبيات جياد ، ومجاز القرآن لأبي عبيدة : 67 ، وتأويل مشكل القرآن 107 ، وغيرها ، وقبله أَضَاءَتْ لَنَا النَّارُ وَجْهًا ... أَغَرَّ مُلْتَبِسًا بِالفُؤَاءِ الْتِبَاسَا
يُضِيءُ كَضَوْءِ سِرَاجِ السَّلِيطِ ... لَمْ يَجْعَلِ اللهُ فِيه نُحَاسَا
بِآنسَةٍ غَيْرِ أنْسِ القِرَافِ وَتَخْلِطُ ... بالأُنْسِ مِنْها شِمَاسَا
وهو شعر كما ترى
(2) المعاني الكبير 1 : 486 ، وتأويل مشكل القرآن : 107 وغيرهما . وقولهما : " رموها بأثواب " قالوا : تعني بأجسام خفاف (المعاني) والصواب في ذلك أن يقال : أن هؤلاء الركب قد لوحتهم البيد وأضتتهم ، فلم يبق فيهم إلا عظام معروقة عليها الثياب ، لا تكاد ترى إلا ثوبًا يلوح على كل ضار وضامر ، ولذلك شبهت الإبل عليها ركبها بالنعام المنفر . والمنفر : الذي ذعر فانطلق هاربًا يخفق في الأرض .
(3) هو أبو ذؤيب الهذلي .
(4) ديوانه : 26 ، والمعاني الكبير : 483 ، ومشكل القرآن : 108 وغيرها . من قصيدة له عجيبة ، يرثى بها صديقه وحميمه نشيبة بن محرث ، استفتحها متغزلا مشببًا بصاحبته أم عمرو ، واسمها فطيمة ، وقال قبل هذا البيت ، يلوم نفسه على هجرها ويقول : فَإنَّكَ مِنْهَا والتَّعَذُّرَ ، بَعْدَ مَا ... لَجِجْتَ ، وشطَّتْ مِنْ فُطَيْمَةَ دَارُهَا
كَنَعْتِ الَّتِي ظَلَّت تُسَبِّع سُؤْرَهَا ... وَقَالتْ : حَرَامٌ أنْ يرَجَّلَ جَارُهَا
تبرَّأُ مِنْ دَم القَتِيل . . . . ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
يقول أنت في انتفاءك من حبها بعد اللجاجة فيه ، كهذه المرأة التي قتلت قتيلا وحازت بزه ، أي سلاحه ، وأخفته . قال الأصمعي في خبر هذه المرأة : هذه امرأة نزل بها رجل فتحرجت أن تدهنه وترجل شعره ، ثم جاء كلب فولغ في إنائها فغسلته سبع مرات . وذلك بعين الرجل ، فتعجب منها ومن ورعها . فبينا هو كذلك ، أتاها قوم يطلبون عندها قتيلا ، فانتفلت من ذلك - أي أنكرت - وحلفت . ثم فتشوا منزلها ، فوجدوا القتيل وسلاحه في بيتها " .
يقول أنت كهذه المرأة ، تجحد حب صاحبتك ، وتظهر أنك قد كبرت وانتهيت عن الجهل والصبا ، ولو فتش قلبك . لرأوا حبك لها لا يزال يتأجج ويشتعل .

(3/490)


يعني ب " إزارها " ، نفسها. وبذلك كان الربيع يقول :
2929 - حدثني المثني قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الرحمن بن سعيد قال ، حدثنا أبو جعفر ، عن الربيع : " هن لباسٌ لكم وأنتم لباس لهنّ " ، يقول : هنّ لحاف لكم وأنتم لحاف لهن. (1) .
* * *
والوجه الآخر : أن يكون جَعل كلَّ واحد منهما لصاحبه " لباسًا " ، لأنه سَكنٌ له ، كما قال جل ثناؤه : ( جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاسًا ) [سورة الفرقان : 47] ، يعني بذلك سكنًا تسكنون فيه. وكذلك زوجة الرجل سَكنه يسكن إليها ، كما قال تعالى ذكره : ( وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا ) [سورة الأعراف : 189]
__________
(1) الأثر : 2929 - في المطبوعة : " عبد الرحمن بن سعيد " ، وقد مضى برقم : 2917 ، على الصواب كما أثبته . وعبد الرحمن بن سعد بن عمار بن سعد القرظ المؤدب ، روي عن أبيه وعمه محمد وبني أعمامه . وجماعة من أهله ، وأبي الزناد وصفوان بن سليم ، وروي عنه إسحاق بن راهويه وإبراهيم بن المنذر وغيرهما . ذكره ابن حبان في الثقات . وقال البخاري : فيه نظر . وقال الحاكم أبو أحمد حديثه ليس بالقائم .

(3/491)


فيكون كل واحد منهما " لباسًا " لصاحبه ، بمعنى سكونه إليه. وبذلك كان مجاهد وغيره يقولون في ذلك.
وقد يقال لما سَتر الشيء وَواراه عَن أبصار الناظرين إليه : " هو لباسه ، وغشاؤه " ، فجائز أن يكونَ قيل : " هنّ لباس لكم وأنتم لباس لهن " ، بمعنى : أنّ كل واحد منكم ستر لصاحبه - فيما يكون بينكم من الجماع - عن أبصار سائر الناس.
وكان مجاهد وغيره يقولون في ذلك بما : -
2930 - حدثنا به المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : " هن لباس لكم وأنتم لباسٌ لهن " ، يقول : سكنٌ لهن.
2931 - حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة : " هن لباسٌ لكم وأنتم لباسٌ لهن " ، قال قتادة : هُنّ سكنٌ لكم ، وأنتم سكنٌ لهنّ.
2932 - حدثني موسى بن هارون قال ، حدثنا عمرو بن حماد قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : " هن لباسٌ لكم " يقول : سكن لكم ، " وأنتم لباس لهن " ، يقول : سكن لهن.
2933 - حدثني يونس ، قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال عبد الرحمن بن زيد في قوله : " هن لباسٌ لكم وأنتم لباسٌ لهن " ، قال : المواقعة.
2934 - حدثني أحمد بن إسحاق الأهوازي قال ، حدثنا أبو أحمد قال ، حدثنا إبراهيم ، عن يزيد ، عن عمرو بن دينار ، عن ابن عباس قوله : " هن لباسٌ لكم وأنتم لباسٌ لهن " ، قال : هن سكنٌ لكم وأنتم سكنٌ لهن.
* * *

(3/492)


القول في تأويل قوله تعالى : { عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ }
قال أبو جعفر : إن قال لنا قائل : وما هذه الخيانة التي كانَ القوم يختانونها أنفسهم ، التي تابَ الله منها عليهم فعفا عنهم ؟
قيل : كانت خيانتُهم أنفسَهم التي ذكرها الله في شيئين ، أحدهما : جماع النساء ، والآخر : المطعم والمشربُ في الوقت الذي كانَ حرامًا ذلك عليهم ، كما : -
2935 - حدثنا محمد بن المثني قال ، حدثنا محمد بن جعفر قال ، حدثنا شعبه ، عن عمرو بن مرة قال ، حدثنا ابن أبي ليلى : أن الرجل كان إذا أفطرَ فنام لم يأتها ، وإذا نام لم يطعم ، حتى جاء عمر بن الخطاب يُريد امرأته ، فقالت امرأته : قد كنتَ نمتَ! فظنّ أنها تعتلُّ فوقع بها. قال : وجاء رجل من الأنصار فأراد أن يطعم ، فقالوا : نسخّن لك شيئًا ؟...... (1) قال : ثم نزلت هذه الآية : " أحِلَ لكم ليلةَ الصيام الرفثُ إلى نسائكم " الآية.
__________
(1) الأثر : 2935 - موضع هذه النقط خرم في النسخ . وخبر عبد الرحمن بن أبي ليلى هذا أخرجه وكيع وعبد بن حميد عن عبد الرحمن بن أبي ليلى ، وهو في الدر المنثور 1 : 198 ، بغير هذا اللفظ . ولو أريد إتمامه لكان :
[نسخن لك شيئًا تفطِرُ عليه ؟ فغلبته عيناهُ فنام . فجاءوا وقد نام ، فقالوا : كُلْ! فقال : قد كنتُ نمتُ! فترك الطعام وبات ليلته يتقلّبُ . فلما أصبح أتى النبي صلى الله عليه وسلم ، فذكر ذلك له . فقام عمر بن الخطاب فقال : يا رسول الله ، إني أردتُ أهلي البارحة على ما يريدُ الرجلُ أهله ، فقالت : إنها قد نامت! فظننتها تعتَلُُّ ، فواقعتها ، فأخبرتني أنّها كانت نامت] .
هذا لفظ آخر ، ولكنه دال على المعنى الذي ذكره عبد الرحمن بن أبي ليلى ، والذي استدل به الطبري . ثم انظر الآثار التالية 2936 - 2938 عن ابن أبي ليلى .

(3/493)


2936 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا ابن إدريس قال ، حدثنا حصين بن عبد الرحمن ، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال : كانوا يصومون ثلاثة أيام من كل شهر ، فلما دخل رَمضان كانوا يصومون ، فإذا لم يأكل الرجل عند فطره حتى ينام ، لم يأكل إلى مثلها ، وإن نام أو نامت امرأته لم يكن له أن يأتيها إلى مثلها. فجاء شيخٌ من الأنصار يقال له صرمة بن مالك ، فقال لأهله : أطعموني. فقالت : حتى أجعل لك شيئًا سخنًا! قال : فغلبته عينه فنام. ثم جاء عمر فقالت له امرأته : إني قد نمت! فلم يعذرها ، وظن أنها تعتلّ ، فواقعها. فبات هذا وهذا يتقلبان ليلتهما ظهرًا وبطنًا ، فأنزل الله في ذلك : " وكلوا واشرَبوا حتى يَتبين لكم الخيطُ الأبيضُ من الخيط الأسود من الفجر " ، وقال : " فالآن بَاشروهن " ، فعفا الله عن ذلك ، وكانت سُنَّةً.
2937 - حدثنا أبو كريب قال حدثنا يونس بن بكير قال ، حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله بن عتبة ، عن عمرو بن مرة ، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى ، عن معاذ بن جبل قال : كانوا يأكلون ويشربون ويأتون النساءَ ما لم يناموا ، فإذا ناموا تركوا الطعامَ والشرابَ وإتيانَ النساء. فكان رجل من الأنصار يدعى أبا صِرْمة يعمل في أرض له ، قال : فلما كان عند فطره نام ، فأصبح صائمًا قد جُهد. فلما رآه النبي صلى الله عليه وسلم قال : ما لي أرى بكَ جهدًا! فأخبره بما كان من أمره. واختان رَجل نفسه في شأن النساء ، فأنزل الله " أحِلّ لكم ليلة الصيام الرفثُ إلى نسائكم " ، إلى آخر الآية. (1) .
__________
(1) الحديث : 2937 - هو قطعة من حديث طويل ، سبق بعضه بهذا الإسناد : 2729 ، 2733 . ووقع في المطبوعة هنا تحريف في الإسناد ، هكذا : " حدثنا عبد الرحمن بن عبيد الله عن عتبة " ! وصوابه : " عبد الرحمن بن عبد الله بن عتبة " ، وهو المسعودي ، كما بينا فيما مضى .
وقد أشرنا فيما مضى إلى أن أبا داود روى هذا الحديث المطول : 507 ، من طريق يزيد بن هارون ، عن المسعودي . ولكنه لم يذكر فيه القسم الذي هنا كاملا ، بل أشار إليه ، إحالة على الرواية قبله ، فقال : " وجاء صرمة وقد عمل يومه . وساق الحديث " .
والحديث مطول في مسند أحمد 5 : 246 - 247 ، من رواية أبي النضر ويزيد بن هارون - كلاهما عن المسعودي ، به . كما أشرنا إليه مفصلا ، فيما مضى : 2156 . وفيه القسم الذي هنا . ولكن فيه أن الرجل الأنصاري " يقال له صرمة " ، كما في رواية أبي داود .
وقد مضى في الرواية السابقة : 2936 . أنه " صرمة بن مالك " . وفي هذه الرواية - هنا - : " يدعى أبا صرمة " .
والرواية السابقة مرسلة . وهذه الرواية منقطعة ، لأن عبد الرحمن بن أبي ليلى لم يدرك معاذ بن جبل . وسيأتي مزيد بيان عن اسم هذا الأنصاري ، في الرواية الآتية : 2939 .

(3/494)


2938 - حدثنا سفيان بن وكيع قال ، حدثني أبي ، عن إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن البراء - نحو حديث ابن أبي ليلى الذي حَدّث به عمرو بن مرة ، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى - قال : كانوا إذا صاموا ونام أحدهم ، لم يأكُل شيئًا حتى يكون من الغد. فجاء رجلٌ من الأنصار وقد عمل في أرض له وقد أعيا وكلَّ ، فغلبته عينه فنام ، وأصبح من الغد مجهودًا ، فنزلت هذه الآية : " وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر " . (1) .
2939 - حدثني المثني قال ، حدثنا عبد الله بن رجاء البصري قال ، حدثنا إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن البراء قال : كان أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم إذا كان الرجل صائمًا فنام قبل أن يفطر ، لم يأكل إلى مثلها ، وإنّ قيس بن صرمة الأنصاري كان صائمًا ، وكان توجَّه ذلك اليوم فعمِل في أرضه ، فلما حضر الإفطارُ أتى امرأته فقال : هل عندكم طعام ؟ قالت : لا ولكن أنطلق فأطلب لك. فغلبته عينه فنام ، وجاءت امرأته قالت : قد نمت! فلم ينتصف النهارُ حتى غُشي عليه ، فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم ، فنزلت فيه هذه الآية : " أحِلَ لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم " إلى " من الخيط الأسود " ففرحوا بها فرحًا شديدًا (2) .
__________
(1) الحديث : 2938 - هذا إسناد صحيح ، لولا ضعف سفيان بن وكيع - كما قلنا مرارًا - ولكنه ثابت في تفسير وكيع ، كما ذكره السيوطي . والطبري لم يذكر لفظه كاملا ، أحال على الروايات قبله . وسيذكره كاملا عقب هذا .
(2) الحديث : 2939 - وهذا إسناد صحيح . عبد الله بن رجاء الغذائي : سبق توثيقه : 2814 .
والحديث ثابت من حديث أبي إسحاق السبيعي ، عن البراء بن عازب الأنصاري :
فرواه أحمد في المسند 4 : 295 (حلبي) ، عن أسود بن عامر ، وأبي أحمد الزبيري . والبخاري 4 : 111 - 112 (فتح) ، عن عبيد الله بن موسى . وأبو داود : 2314 ، من طريق أبي أحمد . والترمذي 4 : 71 - 72 ، من طريق عبيد الله بن موسى - كلهم عن إسرائيل ، عن جده أبي إسحاق . السبيعي . ورواه النسائي 1 : 305 ، من طريق زهير ، عن أبي إسحاق . ورواه البخاري أيضًا 8 : 136 ، مختصرًا . عن عبيد الله بن موسى ، وبإسناد آخر عن أبي إسحاق .
وذكره السيوطي 1 : 197 ، وزاد نسبته إلى وكيع ، وعبد بن حميد ، والنحاس في ناسخه ، وابن المنذر ، والبيهقي في السنن .
وقد أطال الحافظ في الفتح 4 : 111 - 112 ، في بيان الاختلاف في اسم الأنصاري ، والروايات في ذلك . ورجح أنه " أبو قيس صرمة بن أبي أنس قيس بن مالك بن عدي . . . " . وأنه عن هذا جاء الاختلاف فيه : فبعضهم أخطأ اسمه وسماه بكنيته ، وبعضهم نسبه لجده ، وبعضهم قلب نسبه . وبعضهم صفحه " ضمرة بن أنس " ، وأن صوابه " صرمة بن أبي أنس " . وكذلك صنع في الإصابة بأطول من ذلك 3 : 241 - 243 ، 280 . " صرمة " : بكسر المهملة وسكون الراء وفتح الميم .

(3/495)


2940 - حدثني المثني قال حدثنا أبو صالح قال ، حدثنا معاوية بن صالح ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس في قول الله تعالى ذكره : " أحِلّ لكم ليلة الصيام الرفثُ إلى نسائكم " ، وذلك أن المسلمين كانوا في شهر رمضان إذا صلوا العشاء حُرِّم عليهم النساء والطعام إلى مثلها من القابلة. ثم إن نَاسًا من المسلمين أصابوا الطعام والنساء في رمضان بعد العشاء منهم عمر بن الخطاب ، فشكوا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأنزل الله : " علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم فتابَ عليكم وعَفا عنكم فالآن باشروهن " يعني انكحوهن ، " وكلوا واشربوا حَتى يَتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر " . (1)
2941 - حدثني المثني قال ، حدثنا سويد ، قال : أخبرنا ابن المبارك ، عن ابن لهيعة ، قال : حدثني موسى بن جبير مولى بني سلمة : أنه سمع عبد الله بن كعب بن مالك يحدث عن أبيه قال : كان الناسُ في رمضان إذا صامَ الرجل فأمسَى فنام ، حُرِّم عليه الطعام والشراب والنساءُ حتى يفطر من الغد. فرجع عمر بن
__________
(1) الحديث : 2940 - ذكره ابن كثير 1 : 418 - 419 ، من غير تخريج . والسيوطي 1 : 197 ، ونسبه لابن جرير ، وابن المنذر ، فقط .

(3/496)


الخطاب من عند النبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة وقد سَمَر عنده ، فوجد امرأته قد نامت ، فأرادها فقالت : إني قد نمت! فقال : ما نمت! ثم وقع بها. وصنع كعب بن مالك مثل ذلك. فغدا عمر بن الخطاب إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره ، فأنزل الله تعالى ذكره : " علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم فتابَ عَليكم وعفا عنكم فالآن باشروهن " ... الآية (1) .
2942 - حدثني المثنى قال ، حدثنا الحجاج قال ، حدثنا حماد بن سلمة قال ، حدثنا ثابت : أن عمر بن الخطاب واقع أهله ليلة في رمضان ، فاشتد ذلك عليه ، فأنزل الله : (أحِلّ لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم) (2) .
2943 - حدثني محمد بن سعد ، قال : حدثني أبي ، قال ، حدثني عمي ، قال ،
__________
(1) الحديث : 2941 - سويد : هو ابن نصر بن سويد المروزي ، وهو ثقة . مترجم في التهذيب ، ونص البخاري في الكبير 2/2/149 على أنه سمع ابن المبارك . وذكر أنه مات سنة 240 عن 91 سنة .
ابن لهيعة - بفتح اللام وكسر الهاء : هو عبد الله ، الفقيه القاضي المصري . مختلف فيه كثيرا ، والتحقيق أنه ثقة صحيح الحديث . وقد فصلنا القول فيه في شرح المسند : 87 ، 6613 .
موسى بن جبير المدني الحذاء : ثقة ، يخطئ في بعض حديثه . مترجم في التهذيب ، والكبير 4/1/281 ، وابن أبي حاتم 4/1/139 ، ولم يذكرا فيه جرحا . وهو مولى " بني سلمة " بفتح السين وكسر اللام ، من الأنصار . انظر المشتبه للذهبي ، ص : 270 .
عبد الله كعب بن مالك الأنصاري السلمي - بفتح اللام ، نسبة إلى " بني سلمة " بكسرها : تابعي ثقة ، كان قائد أبيه حين عمي ، أخرج له الشيخان وغيرهما .
والحديث رواه أحمد في المسند : 15860 ( 3 : 460 حلبي) ، عن عتاب بن زياد ، عن عبد الله بن المبارك ، بهذا الإسناد .
وذكره ابن كثير 1 : 420 . عن الطبري ، فقط .
وذكره السيوطي 1 : 197 ، وزاد نسبته إلى ابن المنذر ، وابن أبي حاتم " بسند حسن " . وإنما حسن إسناده ، من أجل ابن لهيعة - فيما أرجح - وعندي أنه إسناد صحيح .
(2) الحديث : 2942 - ثابت : هو ابن أسلم البناني ، بضم الباء الموحدة وتخفيف النون الأولى . وهو تابعي ثقة ، ولكنه يروي عن صغار الصحابة ، كأنس ، وابن الزبير ، وابن عمر لم يدرك أن يروي عن عمر بن الخطاب . فهذا إسناد منقطع ، ضعيف لذلك . والحديث ذكره السيوطي 1 : 197 ، ولم ينسبه لغير ابن جرير .

(3/497)


حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : " أحِلّ لكم ليلةَ الصيام الرفثُ إلى نسائكم هُنّ لباسٌ لَكم وأنتم لباسٌ لهن " إلى : " وعفا عَنكم " . كان الناس أوّلَ ما أسلموا إذا صام أحدُهم يصوم يومه ، حتى إذا أمسى طَعِم من الطعام فيما بينه وبين العتمة ، حتى إذا صُليت حُرّم عليهم الطعامُ حتى يمسي من الليلة القابلة. وإنّ عمر بن الخطاب بينما هو نائم إذ سوّلت له نفسه فأتى أهله لبعض حاجته ، فلما اغتسلَ أخذ يبكي ويلوم نفسه كأشد ما رأيتَ من الملامة. ثم أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسولَ الله ، إني أعتذر إلى الله وإليك من نفسي هذه الخاطئة ، فانها زيَّنت لي فواقعتُ أهلي! هل تجد لي من رخصة يا رسول الله ؟ قال : لم تكن حقيقًا بذلك يا عمر! فلما بلغ بيته أرسل إليه فأنبأه بعُذره في آية من القرآن ، وأمر الله رسوله أن يَضَعها في المائة الوسطى من سورة البقرة فقال : " أحلّ لكم ليلة الصيام الرفثُ إلى نسائكم " إلى " علم الله أنكم كنتم تَختانون أنفسكم " يعني بذلك : الذي فعل عمر بن الخطاب فأنزل الله عفوه. فقال : " فتاب عليكم وعفا عنكم فالآن بَاشرُوهن " إلى : " من الخيط الأسود " فأحل لهم المجامعة والأكل والشرب حتى يتبين لهم الصبح (1) .
2944 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : " أحِلّ لكم ليلة الصيام الرفثُ إلى نسائكم " قال : كان الرجل من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم يصوم الصيام بالنهار ، فإذا أمسى أكل وشرب وجامع النساء ، فإذا رَقَد حرَّم ذلك كله عليه إلى مثلها من القابلة. وكان منهم رجال يَختانون أنفسهم في ذلك ، فعفا الله عنهم ، وأحل [ذلك] لهم بعد الرقاد وقبله في الليل كله (2) .
__________
(1) الحديث : 2943 - هذا الحديث بالإسناد المسلسل بالضعفاء ، الذي شرحناه مفصلا في : 305 . وقد ذكره السيوطي 1 : 197 ، ونسبه للطبري وابن أبي حاتم .
ولم تكن بنا حاجة للكلام عليه هنا ، إلا أننا أردنا أن نمهد به لحديث لأبي هريرة في معناه . نقله السيوطي 1 : 197 ، ونسبه للطبري فقط ، قال : " وأخرج ابن جرير ، عن أبي هريرة . . " .
وذكره ابن كثير 1 : 419 مع أواخر إسناده ، ولم يذكر من خرجه . والظاهر من تتبع صنيعه أنه نقله عن الطبري أيضًا .
ولم نجده في الطبري ، فإما سقط من الناسخين ، وإما هو في موضع آخر من الطبري لما تصل إلينا معرفته . فرأينا إثباته - تماما للفائدة ، وحفظا لما ينسب لهذا التفسير العظيم .
قال ابن كثير : " وقال سعيد بن أبي عروبة ، عن قيس بن سعد ، عن عطاء بن أبي رباح ، عن أبي هريرة ، في قول الله تعالى (أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامُ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ) إلى قوله (ثُمَّ أتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ) ، قال : كان المسلمون قبل أن تنزل هذه الآية - إذا صلُّوا العشاءَ الآخِرَةَ حَرُمَ عليهم الطعامُ والشرابُ والنساءُ حتى يُفْطروا . وإن عمر بن الخطاب أصاب أهلَه بعد صلاة العشاء ، وإن صِرْمَةَ بن قيس الأنصاري غَلَبَتْهُ عيناه بعد صلاة المغرب ، فنام ولم يشبع من الطعام ، ولم يستيقظ حتى صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم العشاء ، فقام فأكل وشرب ، فلما أصبح أتَى رسولَ الله صلى الله عليه سلم ، فأخبره بذلك ، فأنزل الله عند ذلك : (أُحِلَّ لَكُم لَيْلَةَ الصِّيَامَ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ) ، يعني بالرفث مجامعةَ النساء ، (هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ ، عَلِمَ اللهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُم) ، يعني : تجامعون النساء وتأكلون وتشربون بعد العشاء ، (فَتَاب عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فالآنبَاشِرُوهُنَّ) يعني : جامعوهن ، (وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللهُ لَكُم) ، يعني : الولد ، (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّن لَكُمُ الخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الفَجْرِ ثُمَّ أتِمُّوا الصِّيَامَ إلَى اللَّيْلِ) ، فكان ذلك عَفْوًا من الله ورَحْمَةً " .
هذا لفظ رواية ابن كثير . والسيوطي اختصره قليلا .
فهذا إسناد صحيح من سعيد بن أبي عروبة إلى أبي هريرة . أما ما وراه سعيد بن أبي عروبة ، فلا ندري ما حاله ، حتى نعرف رواته .
وقيس بن سعد : هو المكي ، أبو عبد الملك ، وهو ثقة . مترجم في التهذيب ، والكبير 4/1/154 . وابن أبي حاتم 3/2/99 ، وابن سعد 5 : 355 ، ولكن ذكر أن كنيته " أبو عبيد الله " . وقال : " كان قد خلف عطاء بن أبي رباح في مجلسه " .
وكنية قيس عند البخاري " أبو عبد الله " . والظاهر أن هذا هو الصحيح ، لأن الدولابي ذكره في الكنى 2 : 59 ، في باب " أبو عبد الله " .
(2) الزيادة بين القوسين لا بد منها ، استظهرتها من الأثر الذي يليه ومن السياق .

(3/498)


2945 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قال : كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يصوم الصائم في رمضان ، فإذا أمسى - ثم ذكر نحو حديث محمد بن عمرو وزاد فيه : وكان منهم رجال يختانون أنفسهم ، وكان عمر بن الخطاب ممن اختان نفسه ، فعفا الله عنهم ، وأحل ذلك لهم بعد الرقاد وقبله ، وفي الليل كله.
2946 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، قال : أخبرني إسماعيل بن شَرُوس ، عن عكرمة مولى ابن عباس : أن رجلا - قد سَمَّاه [فنسيته] - من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأنصار ، جاء ليلةً وهو صائم ، فقالت له امرأته : لا تَنمْ حتى نصنعَ لك طعامًا! فنام ، فجاءت فقالت : نمت والله! فقال : لا والله! قالت : بلى والله! فلم يأكل تلك الليلة ، وأصبح صائمًا فَغُشى عليه ، فأنزلت الرخصة فيه (1) .
__________
(1) الحديث : 2946 - إسماعيل بن شروس ، أبو المقدام الصنعاني : ذكره ابن حبان وابن شاهين في الثقات ، كما في لسان الميزان . وذكره ابن سعد في الطبقات 5 : 397 ، ولم يذكر فيه أكثر من قوله " قد روى عنه " . وترجمه ابن أبي حاتم 1/1/177 ، ولم يذكر فيه جرحا ، والبخاري في الكبير 1/1/359 - 360 ، وذكر أنه يروي عن عكرمة ، من قوله - يعني غير متصل ، فهو إشارة إلى هذه الرواية ، لأنها من قول عكرمة ، مرسلة ، لم يسندها عن أحد من الصحابة ، ثم قال البخاري : " قال عبد الرزاق ، عن معمر : كان يثبج الحديث " . ونقل مصححه العلامة الشيخ عبد الرحمن اليماني ، عن هامش إحدى نسخ التاريخ الكبير : " أي لا يأتي به على الوجه " . وهذا هو الصواب في هذا الحرف ، أنه " يثبج " من " التثبيج " بالثاء المثلثة والجيم ، ففي شرح القاموس 2 : 13 " يقال ثبج الكتاب والكلام تثبيجا : لم يبينه . وقيل : لم يأت به على وجهه . وقال الليث : التثبيج التخليط " . ونقلت هذه الكلمة في لسان الميزان 1 : 411 محرفة إلى " يضع الحديث " ! وهو تحريف قبيح . فما رمى هذا الرجل بالوضع قط . ولم يذكره البخاري ولا النسائي في الضعفاء .
و " شروس " : من الأسماء النادرة ، ولم أجد نصا على ضبطه ، إلا أنه ضبط بالقلم في تفسير عبد الرزاق بفتحة فوق الشين المعجمة وضمة فوق الراء وكسرتين تحت السين المهملة في آخره . ونقل الشيخ عبد الرحمن اليماني هذا الضبط أيضًا عن إحدى نسخ التاريخ الكبير ، وأن بهامشها نسخة أخرى مضبوطة بفتحة فوق الشين وأخرى فوق الواو مع سكون فوق الراء .
وهذا الحديث مرسل - كما ترى . وهو في تفسير عبد الرزاق ، ص : 18 . ولم أجده في غير هذين الموضعين .
وقد زدنا كلمة [فنسيته] ، بعد كلمة " سماه " - من تفسير عبد الرزاق . وكان في المطبوعة " وأنزلت الرخصة " ، بالواو بدل الفاء . وأثبتنا الفاء من تفسير عبد الرزاق ، إذ هي أجود هنا .

(3/500)


2947 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة : " علم الله أنكم كُنتُم تَختانون أنفسكم " وكان بدءُ الصيام أمِروا بثلاثة أيام من كل شهر ، وركعتين غدوة ، وركعتين عشية ، فأحلّ الله لهم في صيامهم - في ثلاثة أيام ، وفي أول ما افترض عليهم في رمضان - إذا أفطروا ، وكان الطعام والشرابُ وغشيان النساءَ لهم حلالا ما لم يرقدوا ، فإذا رَقَدوا حُرم عليهم ذلك إلى مثلها من القابلة. وكانت خيانة القوم أنهم كانوا يُصيبون أو ينالون من الطعام والشراب وغشيان النساء بعد الرقاد ، وكانت تلك خيانة القوم أنفسهم ، ثم أحل الله لهم [بعد] ذلك الطعام والشراب وغشيانَ النساء إلى طلوع الفجر (1) .
2948 - حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : " أحلّ لكم ليلة الصيام الرفثُ إلى نسائكم " قال : كان الناس قبل هذه الآية إذا رَقَد أحدُهم من الليل رَقْدًة ، لم يحلَّ له طعامٌ ولا شرابٌ ولا أن يأتي امرأته إلى الليلة المقبلة ، فوقع بذلك بعض المسلمين ، فمنهم من أكل بعد هجعته أو شرب ، ومنهم من وقع على امرأته ، فرخص الله ذلك لهم.
2949 - حدثني موسى بن هارون قال ، حدثنا عمرو بن حماد قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي ، قال : كُتب على النصارى رَمَضان ، وكُتب عليهم أن لا
__________
(1) الأثر : 2947 - الذي بين القوسين زيادة لا بد منها . وسياق هذا الأثر فيه بعض الغرابة ، ولم أجده بنصه هذا في مكان آخر . ولكن جاء في الدر المنثور 1 : 198 أثر مثله ، قال في صدره : " وأخرج عبد حميد وابن جرير عن قتادة " ، وساق أثرا يخالفه كل المخالفة في أكثر لفظه ، وإن وافقه في بعض المعنى : قال .
[كان هذا قبل صوم رمضان ، أمروا بصيام ثلاثة أيام من كل شهر ، من كل عشرة أيام يوما . وأمروا بركعتين غدوة وركعتين عشية . فكان هذا بدء الصلاة والصوم . فكانوا في صومهم هذا ، وبعد ما فرض الله رمضان ، إذا رقدوا لم يمسوا النساء والطعام إلى مثلها من القابلة . وكان أناس من المسلمين يصيبون من النساء والطعام بعد رقادهم ، وكانت تلك خيانة القوم أنفسهم ، فأنزل الله في ذلك من القرآن : " علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم " ، الآية] .

(3/501)


يأكلوا ولا يَشربوا بَعد النوم ، ولا ينكحوا النساء شهر رمضان ، فكتب على المؤمنين كما كُتب عليهم ، فلم يزل المسلمون على ذلك يَصنعون كما تصنع النصارى ، حتى أقبل رجل من الأنصار يقال له أبو قيس بن صرمة ، وكان يَعمل في حيطان المدينة بالأجر (1) فأتى أهله بتمر فقال لامرأته : استبدلي بهذا التمر طحينا فاجعليه سَخينةً ، لعليّ أن آكله ، فإن التمر قد أحرق جَوْفي! فانطلقت فاستبدلت له ، ثم صنعتْ فأبطأتْ عليه فنام ، فأيقظته ، فكره أن يعصي الله ورسوله ، وأبى أن يأكل ، وأصبح صائما; فرآه رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعشيّ ، فقال : ما لك يا أبا قيس! أمسيتَ طليحا ؟ (2) فقص عليه القصة.
وكان عمر بن الخطاب وقع على جارية لهُ - في ناس من المؤمنين لم يملكوا أنفسهم - فلما سمع عمر كلام أبي قيس ، رَهبَ أن ينزل في أبي قيس شيء ، فتذكّرُ هُو ، فقام فاعتذر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : يا رسول الله إني أعوذُ بالله إنّي وقعتُ على جاريتي ، ولم أملك نفسي البارحة! فلما تكلم عُمر ، تكلم أولئك الناس ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ما كنتَ جديرًا بذلك يا ابن الخطاب! فنُسِخ ذلك عنهم ، فقال : " أحِلّ لكم ليلةَ الصيام الرفث إلى نسائكم هُن لباسٌ لكم وأنتم لباس لهن عَلم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم " ، - يقول : إنكم تقعون عليهن خيانةً - " فتابَ عليكم وعفا عنكم فالآنَ باشروهن وابتغوا ما كتب الله لكم " - يقول : جامعوهن ، ورجع إلى أبي قيس فقال - : " وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيطُ الأبيض من الخيط الأسود من الفجر " .
2950 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج قال : قلت لعطاء : " أحِلّ لكم ليلةَ الصيام الرفثُ إلى نسائكم " قال :
__________
(1) الحيطان جمع حائط : وهو البستان من النخيل إذا كان عليه حائط ، فإذا لم يكن عليه حائط فهو ضاحية ، وجمعه الضواحي .
(2) الطليح : الساقط من الإعياء والجهد والهزال .

(3/502)


كانوا في رمضان لا يمسُّون النساءَ ولا يطعمون ولا يشربون بعد أن يناموا حتى الليل من القابلة ، فإن مسُّوهن قبل أن يناموا لم يروا بذلك بأسا. فأصاب رجل من الأنصار امرأته بعد أن نام ، فقال : قد اختنت نفسي! فنزل القرآن ، فأحل لهم النساء والطعام والشرابَ حتى يتبين لهم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر. قال : وقال مجاهد : كان أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم يصوم الصائمُ منهم في رمضان ، فإذا أمسى أكل وشرب وَجامع النساء ، فإذا رَقد حرُم عليه ذلك كله حتى كمثلها من القابلة : وكان منهم رجال يختانون أنفسَهم في ذلك ، فعفا عنهم وأحلَّ لهم بعد الرقاد وَقبله في الليل ، فقال : " أحِلَّ لكم ليلة الصيام الرفثُ إلى نسائكم " ... الآية.
2951 - حدثني القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن عكرمة أنه قال في هذه الآية : " أحِلّ لكم ليلة الصيام الرفثُ إلى نسائكم " مثل قول مجاهد - وزاد فيه : أن عمر بن الخطاب قال لامرأته : لا ترقدي حتى أرْجع من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم. فرقدت قبل أن يرجع ، فقال لها : ما أنت براقدة! ثم أصابها ، حتى جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له ، فنزلت هذه الآية. قال عكرمة : نزلت : " وكلوا واشربوا " الآية في أبي قيس بن صرْمة ، من بني الخزرج ، أكل بعد الرقاد.
2952 - حدثني المثنى قال ، حدثنا الحجاج قال ، حدثنا حماد ، قال ، أخبرنا محمد بن إسحاق ، عن محمد بن يحيى بن حبان ، أن صرمة بن أنس أتى أهله ذات ليلة وهو شيخٌ كبيرٌ ، وهو صائم فلم يُهيئوا له طعاما ، فوضع رأسه فأغفى ، وجاءته امرأته بطعامه فقالت له : كل. فقال : إني قد نمتُ! قالت : إنك لم تنم! فأصبح جائعا مجهودا ، فأنزل الله : " وكلوا واشربوا حتى يَتبين لكم الخيطُ الأبيضُ من الخيط الأسود من الفجر " .
* * *

(3/503)


فأما " المباشرة " في كلام العرب ، فإنه مُلاقاة بَشَرة ببَشرة ، و " بشرة " الرجل : جلدته الظاهرة.
* * *
وإنما كنى الله بقوله : " فالآنَ باشروهن " عن الجماع. يقول : فالآن إذ أحللتُ لكم الرفثَ إلى نسائكم ، فجامعوهن في ليالي شهر رمضان حتى يطلع الفجر ، وهو تبيُّنُ الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر.
* * *
وبالذي قلنا في " المباشرة " قال جماعة من أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
2953 - حدثنا محمد بن بشار قال : حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا سفيان وحدثنا عبد الحميد بن سنان ، قال ، حدثنا إسحاق ، عن سفيان وحدثني محمد بن عبد الله بن عبد الحكم قال ، حدثنا أيوب بن سويد ، عن سفيان ، عن عاصم ، عن بكر بن عبد الله المزني ، عن ابن عباس ، قال : المباشرة الجماع ، ولكنّ الله كريمٌ يكني.
2954 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا جرير ، عن عاصم ، عن بكر بن عبد الله المزني ، عن ابن عباس نحوه.
2955 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله بن صالح ، حدثنا معاوية بن صالح ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : " فالآن باشرُوهن " انكحُوهنّ.
2956 - حدثني محمد بن سعد ، قال حدثني أبي ، قال ، حدثني عمي ، قال ، حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قال : المباشرة النكاحُ.
2957 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين ، قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قلت لعطاء قوله : " فالآن باشرُوهن " قال : الجماع.

(3/504)


وكل شيء في القرآن من ذكر " المباشرة " فهو الجماع نفسه ، وقالها عبد الله بن كثير مثل قول عطاء : في الطعام والشراب والنساء.
2958 - حدثنا حميد بن مسعدة قال ، حدثنا يزيد بن زريع قال حدثنا شعبة وحدثنا ابن بشار قال ، حدثنا محمد بن جعفر قال ، حدثنا شعبة عن أبي بشر ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال : المباشرة الجماع ، ولكن الله يكني ما شاء بما شاء (1) .
2959 - حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال ، حدثنا هشيم ، قال أبو بشر ، أخبرنا عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس مثله.
2960 - حدثني موسى بن هارون قال ، حدثنا عمرو بن حماد ، قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : " فالآن بَاشروهن " يقول : جامعوهن.
2961 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قال : المباشرةُ الجماع.
2962 - حدثني المثنى قال ، حدثنا سويد ، قال ، أخبرنا ابن المبارك ، عن ابن جريج ، عن عطاء مثله.
2963 - حدثني المثنى قال ، حدثنا سويد قال ، أخبرنا ابن المبارك ، عن الأوزاعي ، قال ، حدثني عبدة بن أبي لبابة قال : سمعت مجاهدا يقول : المباشرة ، في كتاب الله ، الجماع.
2964 - حدثنا ابن البرقي ، حدثنا عمرو بن أبي سلمة ، قال ، قال الأوزاعي : حدثنا من سمع مجاهدا يقول : المباشرة في كتاب الله ، الجماع.
* * *
__________
(1) الأثر : 2958 - في المطبوعة : " محمد بن مسعدة " ، والصواب ما أثبت ، وقد سلف في رقم 2774 ، 2883 ، وهو حميد بن مسعدة بن المبارك الباهلي البصري . ذكره ابن حبان في الثقات . وتوفي سنة 244 .

(3/505)


واختلفوا في تأويل قوله : " وابتغوا مَا كتب الله لكم " فقال بعضهم : الولد.
* ذكر من قال ذلك :
2965 - حدثني عبدة بن عبد الله الصفَّار البصري قال ، حدثنا إسماعيل بن زياد الكاتب ، عن شعبة ، عن الحكم ، عن مجاهد : " وابتغوا ما كتب الله لكم " قال : الولد (1) .
2966 - حدثنا محمد بن المثنى قال ، حدثنا سهل بن يوسف وأبو داود ، عن شعبة قال : سمعت الحكم : " وابتغوا ما كتب الله لكم " قال : الولد.
2967 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا أبو تميلة قال ، حدثنا عبيد الله ، عن عكرمة قوله : " وابتغوا ما كتب الله لكم " قال : الولد.
2968 - حدثني علي بن سهل قال ، حدثنا مؤمل ، حدثنا أبو مودود بحر بن موسى قال : سمعت الحسن بن أبي الحسن يقول في هذه الآية : " وابتغوا ما كتب الله لكم " قال : الولد.
2969 - حدثني موسى بن هارون قال ، حدثنا عمرو بن حماد قال ، حدثنا أسباط ، عن السدى : " وابتغوا ما كتب الله لكم " فهو الولد.
2970 - حدثني محمد بن سعد قال ، حدثنا أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثنا أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : " وابتغوا ما كتب الله لكم " يعني : الولدَ.
2971 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم ، قال ، حدثني
__________
(1) الخبر : 2965 - عبدة بن عبد الله بن عبدة الصفار : ثقة من شيوخ البخاري . وهو من نوادر الشيوخ الذين روى عنهم في صحيحه وهم أحياء . لأنه مات سنة 258 ، أي بعد البخاري بسنتين . مترجم في التهذيب ، وابن أبي حاتم 3/1/90 ، ورجال الصحيحين ، ص : 336 .
إسماعيل بن زياد الكاتب : لم أعرف من هو يقينا ، وفي هذه الترجمة بضع شيوخ في التهذيب 1 : 298 - 301 ، ولسان الميزان 1 : 405 - 407 ، ولكني أكاد أرجح أنه هو الذي روى له ابن ماجه حديثا : 1314 ، عن ابن جريج ، باسم " إسماعيل بن زياد " دون لقب أو وصف .

(3/506)


عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : " وابتغوا ما كتب الله لكم " قال : الولد ، فإنْ لم تلد هذه فهذه.
2972 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد بنحوه.
2973 - حدثنا الحسن بن يحيى ، أخبرنا عبد الرزاق ، أخبرنا معمر ، عمن سمع الحسن في قوله : " وابتغوا ما كتب الله لكم " قال : هو الولد.
2974 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع في قوله : " وابتغوا ما كتب الله لكم " قال : ما كتب لكم من الولد.
2975 - حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : " وابتغوا ما كتب الله لكم " قال : الجماع.
2976 - حدثت عن الحسين بن الفرج قال ، حدثنا الفضل بن خالد قال ، حدثنا عبيد بن سلمان ، قال : سمعت الضحاك بن مزاحم قوله : " وابتغوا ما كتب الله لكم " قال : الولد (1) .
* * *
وقال بعضهم : معنى ذلك ليلة القدر.
* ذكر من قال ذلك :
2977 - حدثنا أبو هشام الرفاعي قال ، حدثنا معاذ بن هشام ، قال : حدثني أبي عن عمرو بن مالك ، عن أبي الجوزاء عن ابن عباس : " وابتغوا ما كتب الله لكم " قال : ليلةُ القدر. قال أبو هشام : هكذا قرأها معاذ.
2978 - حدثني المثنى قال ، حدثنا مسلم بن إبراهيم قال ، حدثنا الحسن بن أبي جعفر قال ، حدثنا عمرو بن مالك عن أبي الجوزاء ، عن ابن
__________
(1) الخبر : 2976 - " الحسين بن الفرج " : ثبت هنا في المطبوعة " الحسن بن الفرج " ، وهو خطأ تكرر مرارا ، منها : 2719 . ولا نرى داعيا لتكرار التنبيه عليه بعد .

(3/507)


عباس في قوله : " وابتغوا ما كتب الله لكم " قال : ليلة القدر (1) .
وقال آخرون : بل معناه : ما أحله الله لكم ورخصه لكم.
* ذكر من قال ذلك :
2979 - حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا يزيد بن زريع قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة : " وابتغوا ما كتب الله لكم " يقول : ما أحله الله لكم.
2980 - حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، قال : قال قتادة في ذلك : ابتغوا الرخصة التي كتبتُ لكم.
* * *
وقرأ ذلك بعضهم : ( وَاتَّبِعُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ )
* ذكر من قال ذلك :
2981 - حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا ابن عيينة ، عن عمرو بن دينار ، عن عطاء بن أبي رباح ، قال : قلت لابن عباس : كيف تقرأ هذه الآية : " وابتغوا " أو " اتبعوا " ؟ قال : أيتهما شئت! قال : عليك بالقراءة الأولى.
* * *
قال أبو جعفر : والصواب من القول في تأويل ذلك عندي أن يقال : إن الله تعالى ذكره قال : " وابتغوا " - بمعنى : اطلبوا - " ما كتب الله لكم " يعني " الذي قَضَى الله تعالى لَكم.
وإنما يريد الله تعالى ذكره : اطلبوا الذي كتبتُ لكم في اللوح المحفوظ أنه يُباح فيطلقُ لكم وطلب الولد إنْ طلبه الرجل بجماعه المرأةَ ، مما كتب الله له
__________
(1) الخبران : 2977 - 2978 - عمرو بن مالك ، في الإسنادين : هو النكري ، بضم النون وسكون الكاف ، نسبة إلى " بني نكرة " من عبد القيس . وهو ثقة .
أبو الجوزاء : هو أوس بن عبد الله الربعي ، وهو تابعي ثقة معروف ، أخرج له الشيخان ، وسائر أصحاب الكتب الستة . وقد بينا حاله وحال عمرو بن مالك الراوي عنه ، في شرح المسند : 2623 .
" الربعي " : بفتح الراء والباء ، نسبة إلى " ربعة الأزد " ، كما في اللباب لابن الأثير 1 : 459 .

(3/508)


في اللوح المحفوظ ، وكذلك إن طلب ليلةَ القدر ، فهو مما كتب الله له ، وكذلك إن طلب ما أحلَّ الله وأباحه ، فهو مما كتبه له في اللوح المحفوظ.
وقد يدخل في قوله : " وابتغوا ما كتب الله لكم " جميعُ معاني الخير المطلوبة ، غيرَ أن أشبه المعاني بظاهر الآية قول من قال : معناه وابتغوا ما كتب الله لكم من الولد ، لأنه عَقِيبُ قوله : " فالآن باشرُوهن " بمعنى : جامعوهنّ ، فَلأنْ يكون قوله : " وابتغوا ما كتب الله لكم " بمعنى : وابتغوا ما كتب الله في مباشرتكم إياهن من الولد والنسل ، أشبهُ بالآية من غيره من التأويلات التي ليس على صحتها دلالة من ظاهر التنزيل ، ولا خبرٌ عن الرسول صلى الله عليه وسلم.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ }
قال أبو جعفر : اختلف أهل التأويل في تأويل قوله : " حتى يتبين لكم الخيطُ الأبيضُ من الخيطِ الأسود من الفجر " .
* * *
فقال بعضهم : يعني بقوله : " الخيط الأبيض " ، ضوءَ النهار ، وبقوله : " الخيطِ الأسود " سوادَ الليل.
فتأويله على قول قائلي هذه المقالة : وكلوا بالليل في شهر صَوْمكم ، واشربوا ، وبَاشروا نساءكم مبتغينَ ما كتب الله لكم من الولد ، من أول الليل إلى أن يقع لكم ضوءُ النهار بطلوع الفجر من ظلمة الليل وسواده.

(3/509)


* ذكر من قال ذلك :
2982 - حدثني الحسن بن عرفة قال ، حدثنا روح بن عبادة قال ، حدثنا أشعث ، عن الحسن في قول الله تعالى ذكره : " حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر " قال : الليل من النهار.
2983 - حدثني موسى بن هارون قال ، حدثنا عمرو بن حماد قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : " وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر " قال : حتى يتبين لكم النهار من الليل ، " ثم أتموا الصيام إلى الليل " .
2984 - حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : " وكلوا واشرَبوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر ثم أتموا الصيام إلى الليل " فهما عَلَمان وحدَّان بَيِّنان فلا يمنعكم أذانُ مُؤذِّن مُراءٍ أو قليل العقل من سَحُوركم ، فإنهم يؤذنون بهجيع من الليل طويل. وقد يُرى بياضٌ ما على السحر يقال له : " الصبح الكاذب " كانت تسميه العرب ، فلا يمنعكم ذلك من سَحوركم ، فإن الصبح لا خفاء به : طريقةٌ مُعترِضة في الأفق ، وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الصبح ، فإذا رأيتم ذلك فأمسكوا (1) .
2985 - حدثني محمد بن سعد ، قال : حدثني أبي ، قال : حدثني عمي ، قال : حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : " وكلوا واشربوا حتى يتبين لكمُ الخيطُ الأبيضُ من الخيط الأسود منَ الفجر " يعني الليل من النهار ، فأحلَّ لكم المجامعة والأكل والشربَ حتى يتبين لكم الصبح ، فإذا تبين الصبحُ حرِّم عليهم
__________
(1) الأثر : 2984 - الهجيع : الطائفة من الليل . يقال : مر هجيع - أو هزيع - من الليل ، أي ساعة وطائفة منه . والسحر الثلث الآخر من الليل قبيل طلوع الفجر . والطريقة : الخط الممتد في الشيء يكون ظاهرا باختلاف لون ، أو اختلاف ظاهر .

(3/510)


المجامعة والأكل والشربُ حتى يُتمُّوا الصيامَ إلى الليل. فأمر بصوم النهار إلى الليل ، وأمر بالإفطار بالليل.
2986 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا أبو بكر بن عياش ، وقيل له : أرأيتَ قولَ الله تعالى : " الخيط الأبيضُ من الخيط الأسْود من الفجر " ؟ قال : إنك لعريض القفا ، قال : هذا ذهابُ الليل ومجيءُ النهار. قيل له : الشعبي عن عدي بن حاتم ؟ قال : نعم ، حدثنا حصين (1) .
* * *
وعلَّة من قال هذه المقالة ، وتأوَّل الآية هذا التأويل ما :
__________
(1) الحديث : 2986 - حصين : هو ابن عبد الرحمن السلمي ، الثقة المأمون ، من كبار أئمة الحديث . مضت له رواية في : 579 .
وهذا الحديث اختصره أبو بكر بن عياش جدا ، وحذف إسناده حين حدث به ، ثم سئل عنه ، فبين أنه سمعه من حصين عن الشعبي عن عدي بن حاتم .
وسيأتي : 2987 ، 2989 مختصرا ، و 2988 مطولا ، ولكنه ثابت في الصحيحين وغيرهما ، مطولا بسياق صحيح واضح :
فرواه أحمد في المسند 4 : 377 (حلبي) عن هشيم : " أخبرنا حصين ، عن الشعبي ، أخبرنا عدي بن حاتم ، قال : لما نزلت هذه الآية (فكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود) ، قال : عمدت إلى عقالين ، أحدهما أسود ، والآخر أبيض ، فجعلتهما تحت وسادي ، قال : ثم جعلت أنظر إليهما ، فلا يتبين لي الأسود من الأبيض ، ولا الأبيض من الأسود ، فلما أصبحت غدوت على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأخبرته بالذي صنعت ، فقال : إن كان وسادك إذًا لعريض ، إنما ذلك بياض النهار من سواد الليل " .
وقول عدي : " لما نزلت هذه الآية " ، يريد : لما تليت عليه عند إسلامه ، لأن فرض الصوم كان في أوائل الهجرة ، وعدي أسلم بعد ذلك بدهر ، في السنة التاسعة أو العاشرة .
ورواه البخاري 4 : 113 (فتح) ، من طريق هشيم ، ورواه مسلم 1 : 301 ، وأبو داود : 2349 - كلاهما من طريق عبد الله بن إدريس ، عن حصين . ورواه البخاري 8 : 137 (فتح) مختصرا ، من طريق أبي عوانة ، عن حصين .
وذكره ابن كثير 1 : 421 ، من رواية أحمد ، ثم قال : " أخرجاه في الصحيحين من غير وجه ، عن عدي " . وذكره السيوطي 1 : 199 ، وزاد نسبته لسفيان بن عيينة ، وسعيد بن منصور ، وابن أبي شيبة ، والترمذي ، وابن المنذر ، والبيهقي .
قوله : " عريض القفا " ، كناية عن السمن وطول النوم . وذلك دليل على الغفلة والركود .

(3/511)


2987 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا حفص بن غياث ، عن مجالد بن سعيد ، عن الشعبي ، عن عدي بن حاتم ، قال : قلت يا رسول الله ، قول الله : " وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيطُ الأبيضُ من الخيط الأسود من الفجر " ؟ قال : هو بياض النهار وسوادُ الليل. (1) .
2988 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا ابن نمير وعبد الرحيم بن سليمان ، عن مجالد بن سعيد ، عن عامر ، عن عدي بن حاتم ، قال : أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فعلَّمني الإسلام ، ونَعت ليَ الصلوات ، كيفَ أصَلي كلَّ صلاة لوقتها ، ثم قال : إذا جاء رمضان فكل واشرب حتى يتبين لك الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر ، ثم أتم الصيامَ إلى الليل. ولم أدر ما هو ، ففعلتُ خَيطين من أبيض وأسود ، فنظرت فيهما عند الفجر ، فرأيتهما سواءً. فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت : يا رسول الله كل شيء أوصيتني قد حفظتُ ، غير " الخيط الأبيض من الخيط الأسود " ! قال : وما منعك يا ابن حاتم ؟ وتبسَّم كأنه قد علم ما فعلت. قلتُ : فتلت خيطين من أبيض وأسود فنظرتُ فيهما من الليل فوجدتهما سواء! فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى رُئي نَواجذُه ، ثم قال : ألم أقلْ لك " من الفجر " ؟ إنما هو ضوء النهار وظلمة الليل (2) .
2989 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا مالك بن إسماعيل قال ، حدثنا داود وابن علية جميعا ، عن مطرِّف ، عن الشعبي ، عن عدي بن حاتم ، قال : قلت لرسول الله صلى الله عليه وسلم : ما " الخيطُ الأبيضُ من الخيط الأسود " أهما
__________
(1) الحديث : 2987 - مجالد بن سعيد : مضت ترجمته في : 1614 . والحديث تكرار للذي قبله في معناه .
(2) الحديث : 2988 - مجالد بن سعيد ، ثبت في المطبوعة هنا محرفا : " مجالد عن سعيد " ؛ وهذا السياق المطول ذكره السيوطي 1 : 199 ، ونسبه لابن جرير ، وابن أبي حاتم ، فقط .
ورواه أحمد في المسند 4 : 377 (حلبي) ، عن يحيى ، وهو القطان ، عن مجالد ، عن عامر ، وهو الشعبي . ولكنه مختصر قليلا عما هنا .

(3/512)


خيطان أبيض وأسود ؟ فقال : وإنك لعَريضُ القفا إن أبصرْت الخيطين. ثم قال : لا ولكنه سوادُ الليل وبياضُ النهار. (1) .
2990 - حدثني أحمد بن عبد الرحيم البرقي قال ، حدثنا ابن أبي مريم قال ، حدثنا أبو غسان قال ، حدثنا أبو حازم عن سهل بن سعد ، قال : نزلت هذه الآية : " وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيضُ من الخيط الأسود " فلم ينزل " من الفجر " قال : فكان رجال إذا أرادوا الصوم ربط أحدهم في رجليه الخيطَ الأسود والخيط الأبيض ، فلا يزال يأكل ويشرب حتى يتبَّين له. فأنزل الله بعد ذلك : " من الفجر " فعلموا إنما يعني بذلك الليلَ والنهارَ (2) .
* * *
وقال متأولو قول الله تعالى ذكره : " حتى يتبين لكم الخيطُ الأبيض من الخيط الأسود من الفجر " أنه بياض النهار وسواد الليل - : صفة ذلك البياض أن يكون
__________
(1) الحديث : 2989 - مالك بن إسماعيل بن زياد بن درهم ، أبو غسان النهدي : حافظ ثقة . من شيوخ البخاري وغيره من الأئمة . مترجم في التهذيب ، والكبير 4/1/315 ، وابن سعد 6 : 282 ، وابن أبي حاتم 4/1/206 - 207 .
داود ، شيخ مالك بن إسماعيل : لم أستطع معرفته ، ففي هذه الطبقة ممن يسمى " داود " كثرة . وأيا ما كان فالحديث صحيح ، من جهة رواية ابن علية معه عن مطرف .
مطرف : هو ابن طريف الحارثي ، مضت ترجمته في : 224 .
والحديث مختصر - كما أشرنا آنفًا . وقد رواه البخاري 8 : 137 ، عن قتيبة بن سعيد ، عن جرير ، وهو ابن عبد الحميد الضبي ، عن مطرف ، بهذا الإسناد ، نحوه .
(2) الحديث : 2990 - أحمد بن عبد الرحيم البرقي : هو أحمد بن عبد الله بن عبد الرحيم ، مضى في : 22 ، 160 .
ابن أبي مريم : هو سعيد بن الحكم ، ثقة معروف ، أخرج له أصحاب الكتب الستة ، مضى في : 22 .
أبو غسان : هو محمد بن مطرف - بكسر الراء المشددة - الليثي المدني ، أحد العلماء الأثبات ، روى له أصحاب الكتب الستة .
أبو حازم : هو سلمة بن دينار الأعرج التمار ، المدني ، تابعي ثقة ، لم يكن في زمانه مثله .
والحديث رواه البخاري 4 : 114 - 115 ، و 8 : 137 ، عن ابن أبي مريم ، بهذا الإسناد . ورواه مسلم 1 : 301 ، عن شيخين ، عن ابن أبي مريم .
ورواه أيضًا النسائي ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والبيهقي في سننه ، كما في الدر المنثور 1 : 199 .

(3/513)


منتشرا مستفيضا في السماء يملأ بياضه وضوءُهُ الطرق ، فأما الضوء الساطع في السماء ، فإن ذلك غير الذي عناه الله بقوله : " الخيط الأبيض من الخيط الأسود " .
* ذكر من قال ذلك :
2991 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى الصنعاني قال ، حدثنا معتمر بن سليمان ، قال : سمعت عمران بن حدير ، عن أبي مجلز : الضوء الساطعُ في السماء ليس بالصبح ، ولكن ذاك " الصبح الكاذب " ، إنما الصبح إذا انفضح الأفق (1) .
2992 - حدثني سَلْم بن جنادة السوائي قال ، حدثنا أبو معاوية ، عن الأعمش ، عن مسلم ، قال : لم يكونوا يعدُّون الفجر فجرَكم هذا ، كانوا يعدُّون الفجرَ الذي يملأ البيوتَ والطرُق (2) .
2993 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا عثام ، عن الأعمش ، عن مسلم : ما كانوا يرون إلا أنّ الفجر الذي يَستفيض في السماء.
2994 - حدثنا الحسن بن عرفة قال ، حدثنا روح بن عبادة قال : حدثنا ابن جريج ، قال : أخبرني عطاء أنه سمع ابن عباس يقول : هما فجران ، فأما الذي يسطَع في السماء فليس يُحِلّ ولا يُحرّم شيئا ، ولكن الفجر الذي يستبين على رءوس الجبال هو الذي يحرِّم الشراب.
2995 - حدثنا الحسن بن الزبرقان النخعي قال ، حدثنا أبو أسامة ، عن محمد بن أبي ذئب ، عن الحارث بن عبد الرحمن ، عن محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان ، قال : [قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم] : الفجر فجران ، فالذي كأنه ذنَب السِّرحان لا يحرّم شيئا ، وأما
__________
(1) فضحه الصبح : دهمته فضحة الصبح ، وهي بياضه فكشفه وبينه للأعين بضوئه . والأفضح : الأبيض ليس شديد البياض .
(2) الأثر : 2992 - في المطبوعة : " مسلم بن جنادة " والصواب ما أثبت ، وانظر ما سلف رقم : 48 ، ومواضع أخرى كثيرة .

(3/514)


المستطير الذي يأخذ الأفق ، فإنه يُحل الصلاة ويُحرّم الصوم. (1) .
2996 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا وكيع وإسماعيل بن صبيح وأبو أسامة ، عن أبي هلال ، عن سَوادة بن حنظلة ، عن سمرة بن جندب ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا يمنعكم من سَحُوركم أذانُ بلال ولا الفجر المستطيل ، ولكن الفجرُ المستطيرُ في الأفق " (2) .
__________
(1) الخبر : 2995 - الحسن بن الزبرقان النخعي ، شيخ الطبري : ترجمه ابن أبي حاتم 1/2/15 ، قال : " الحسن بن الزبرقان الكوفي ، سكن قزوين ، ويكنى بأبي الخزرج . روى عن مندل بن علي ، وشريك ، وفضيل بن عياض ، والمطلب بن زياد ، ومحمد بن صبيح السماك . روى عنه أبي ، والفضل بن شاذان . سئل أبي عنه ، فقال : هو شيخ " . ولم أجد له ترجمة عند غيره .
أبو أسامة : هو حماد بن أسامة بن زيد الكوفي ، ثقة حافظ ثبت ، أخرج له أصحاب الكتب الستة .
محمد بن أبي ذئب : هو محمد بن عبد الرحمن بن المغيرة بن الحارث بن أبي ذئب ، القرشي العامري المدني ، نسب إلى جده الأعلى ، وهو إمام ثقة حافظ ، يقرن بمالك أو يفضل عليه . وثبت في المطبوعة هنا " محمد بن أبي ذؤيب " ؛ وهو خطأ بين .
الحارث بن عبد الرحمن القرشي العامري - من أنفسهم - المدني : ثقة ، وهو خال " ابن أبي ذئب " ، وهو أيضًا ابن عم أبيه ، كما في نسب قريش ، ص : 423 .
محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان القرشي العامري - مولاهم - المدني : تابعي ثقة معروف ، قال أبو حاتم " لا يسأل عن مثله " .
وقد زدنا بين قوسين ، عقب قوله " عن محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان قال " - (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم) ، لأنه هكذا نقله ابن كثير 1 : 424 ، عن هذا الموضع من الطبري ، بهذه الزيادة ، فيكون حديثا مرسلا . وهكذا قال ابن كثير ، عقب نقله : " وهذا مرسل جيد " . يريد : جيد الإسناد إلى ابن ثوبان التابعي ، ولكنه لا يكون صحيحا مرفوعا ، لأن المرسل لا تقوم به حجة .
وكذلك رواه البيهقي في السنن الكبرى 4 : 215 ، من طريق ابن وهب ، عن ابن أبي ذئب ، بهذا الإسناد . من رواية ابن ثوبان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، مرفوعا ، مرسلا .
وكذلك ذكره السيوطي 1 : 200 " عن محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان : أنه بلغه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال . . " . ثم قال السيوطي : " وأخرجه الحاكم من طريقه ، عن جابر ، موصولا " ، وكذلك ذكر البيهقي أنه " قد روى موصولا ، بذكر جابر بن عبد الله فيه " . وقد جهدت أن أجده في المستدرك ، فخفي على موضعه .
ويكون ما وقع من الناسخين ، في الطبري هنا ، من حذف (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم) - خطأ يقينا . إذ يكون حينئذ موقوفا على ابن ثوبان . وقد تضافرت الدلائل على أنه عن ابن ثوبان ، مرفوعا مرسلا ، في رواية الطبري ورواية غيره .
والسرحان : الذئب . وذلك كناية عن استطالته وامتداده .
(2) الحديث : 2996 - إسماعيل بن صبيح - بفتح الصاد المهملة وكسر الباء الموحدة - اليثكري الكوفي : ثقة مترجم في التهذيب ، وابن أبي حاتم 1/1/178 .
أبو هلال : هو الراسبي محمد بن سليم ، وهو ثقة .
سوادة بن حنظلة القشيري البصري : تابعي ثقة .
والحديث رواه أحمد في المسند 5 : 13 - 14 (حلبي) ، عن وكيع ، بهذا الإسناد ، نحوه . وكذلك رواه الترمذي 2 : 39 ، من طريق وكيع . .
وسيأتي مزيد تخريجه ، في الحديث بعده .

(3/515)


2997 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا معاوية بن هشام الأسدي قال ، حدثنا شعبة ، عن سوادة قال : سمعت سمرة بن جندب يذكر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سمعه وهو يقول : " لا يغرنّكم نداء بلال ولا هذا البياضُ حتى يبدوَ الفجرُ وَينفجر " (1) .
* * *
__________
(1) الحديث : 2997 - معاوية بن هشام الأسدي القصار : ثقة ، وثقه أبو داود وابن حبان . و " الأسدي " بفتح السين ، لأنه " مولى بني أسد " ، كما في ابن سعد 6 : 282 ، والتقريب ، وكذلك ثبت في الصحيحين : 92 . ووقع في التهذيب والخلاصة " الأزدي " بالزاي ، هو خطأ .
وهذا الحديث في معنى الذي قبله .
وقد رواه أبو داود الطيالسي : 897 ، عن شعبة ، بهذا الإسناد ، نحوه . وكذلك رواه النسائي 1 : 305 ، من طريق الطيالسي .
ورواه أحمد في المسند 5 : 7 (حلبي) : " حدثنا محمد بن جعفر ، وروح ، قالا : حدثنا شعبة ، عن شيخ من بني قشير ، قال روح : قال (يعني شعبة) : سمعت سوادة القشيري ، وكان إمامهم " فذكر الحديث .
ورواه مسلم 1 : 302 ، من طريق معاذ ، وهو العنبري ، ومن طريق أبي داود ، وهو الطيالسي - كلاهما عن شعبة .
وقد سقط في هذا الموضع إسنادان آخران لهذا الحديث ، ذكرهما ابن كثير 1 : 423 . فرأينا إثباتهما ، تماما لنص أبي حعفر ما استطعنا :
قال ابن كثير : " وقال ابن جرير : حدثنا محمد بن المثنَّى ، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي ، حدثنا شعبة ، عن شيخ من بني قُشَيْر سمعت سمُرة بن جَندُب يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا يَغُرنَّكم نداءُ بلال وهذا البياض ، حتى ينفجر الفجر ، أو يطلع الفجر " .
" ثم رواه من حديث شعبة وغيره ، عن سَوادَةَ بن حنظلة ، عن سمرة ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا يمنعنَّكم من سَحُوركم أذانُ بلال ، ولا الفجر المستطيل ، ولكن الفجر المستطيرُ في الأفق " .
وهذا هو لفظ الحديث : 2996 هنا ، ولكنه من غير طريق شعبة . ثم قال ابن كثير ، نقلا عن أبي جعفر : " قال : وحدثني يعقوب بن إبراهيم ، [عن] ابن علية ، عن عبد الله بن سَوَادَةَ القُشَيْرِي ، عن أبيه ، عن سَمُرة بن جُنْدَُب ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا يَغُرَّنَّكم أذانُ بلال ، ولا هذا البياض ، لِعَمُود الصبح ، حتى يَسْتَطِيرَ " .
فهذان الإسنادان اللذان لم يذكرا هنا ، ثابتان في ابن كثير نقلا عن ابن جرير .
والأول منهما يوافق رواية أحمد في المسند - التي ذكرنا آنفًا - عن محمد بن جعفر عن شعبة ، التي أبهم فيها " شيخ من بني قشير " .
والثاني منهما : وقع فيه خطأ مطبعي في ابن كثير ، لأن الطبري يرويه عن يعقوب بن إبراهيم ، وهو الدورقي الحافظ ، عن ابن علية ، عن عبد الله بن سوادة ، عن أبيه . فسقط في مطبوعة ابن كثير حرف [عن] فزدناه ضرورة . لأن الحديث ثابت من رواية ابن علية ، وهو " إسماعيل بن إبراهيم " المعروف بابن علية .
والحديث ثابت من رواية ابن علية : فرواه مسلم 1 : 302 ، عن زهير بن حرب ، " حدثنا إسماعيل ابن علية . . " .
وكذلك رواه الحاكم في المستدرك 1 : 425 ، من طريق مسدد ، " حدثنا ابن علية " .
وعبد الله بن سوادة القشيري - شيخ ابن علية في هذا الإسناد - : ثقة ، كما بينا في تخريج حديث آخر مضى ، برقم : 2792 .
والحديث رواه أيضًا أحمد في المسند 5 : 18 (حلبي) ، عن يزيد بن هارون ، عن شعبة .
ورواه الطيالسي أيضًا : 898 ، عن محمد بن مسلم ، قال : " حدثنا سوادة بن حنظلة القشيري . . " .
ورواه أيضًا مسلم 1 : 302 ، وأبو داود : 2346 ، والبيهقي 4 : 215 - ثلاثتهم من طريق حماد بن زيد ، عن عبد الله بن سوادة ، عن أبيه .

(3/516)


وقال آخرون : الخيطُ الأبيض : هو ضوء الشمس ، والخيط الأسود : هو سوادُ الليل.
* ذكر من قال ذلك :
2998 - حدثنا هنّاد بن السري قال ، حدثنا عبيدة بن حميد ، عن الأعمش ،

(3/517)


عن إبراهيم التيمي ، قال : سافر أبي مع حُذيفة قال : فسار حتى إذا خشينا أن يفجأنا الفجرُ قال : هل منكم من أحد آكلٍ أو شاربٍ ؟ قال : قلت له : أمّا من يريد الصومَ فلا. قال : بلى! قال : ثم سار حتى إذا استبطأنا الصلاة نزل فتسحَّر (1) .
2999 - حدثنا هناد وأبو السائب ، قالا حدثنا أبو معاوية ، عن الأعمش ، عن إبراهيم التيمي ، عن أبيه ، قال : خرجت مع حذيفة إلى المدائن في رمضان ، فلما طلع الفجر ، قال : هل منكم من أحد آكل أو شارب ؟ قلنا : أمَّا رجل يريدُ أن يصوم فلا. قال : لكنّي! قال : ثم سرنا حتى استبطأنا الصلاة ، قال : هل منكم أحد يريد أن يتسحَّر ؟ قال : قلنا أمّا من يريد الصومَ فلا. قال : لكنّي! ثم نزل فتسحَّر ، ثم صلى (2) .
3000 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا أبو بكر ، قال : ربما شربت بعد قول المؤذن - يعني في رمضان - : " قد قامت الصلاة " . قال : وما رأيت أحدًا كان أفعلَ له من الأعمش ، وذلك لما سمع ، قال : حدثنا إبراهيم التيمي عن أبيه قال : كنا مع حذيفة نسير ليلا فقال : هل منكم متسحِّرٌ الساعة ؟ قال : ثم
__________
(1) الخبر : 2998 - هذا موقوف على حذيفة بن اليمان ، وإسناده صحيح . إلا أنه وقع في المطبوعة خطأ في موضعين . وسيأتي عقب هذا موقوفا بإسنادين آخرين . ثم يأتي معناه مرفوعا ، من حديث حذيفة نفسه : 3011 - 3014 .
هناد بن السري - شيخ الطبري في هذا الإسناد : وقع في المطبوعة " هشام بن السري " ؛ وهو خطأ يقينا ، ليس من راو بهذا الاسم - فيما علمنا - وإنما هو " هناد " . وقد ترجمنا له في : 2058 .
عبيدة - بفتح العين - بن حميد ، بضم الحاء المهملة : مضى في : 2781 ، ووقع في المطبوعة " عبادة بن حميد " ؛ وهو خطأ أيضًا .
إبراهيم التيمي : هو إبراهيم بن يزيد بن شريك ، وهو وأبوه تابعان ثقتان ، أخرج لهما أصحاب الكتب الستة .
وظاهر هذا الإسناد الانقطاع ، لأن إبراهيم التيمي لم يدرك حذيفة ، ولم يشهد سفر أبيه معه . ولكن تبين من الإسنادين بعده أنه روى ذلك عن أبيه ، فاتصل الإسناد .
(2) الخبر : 2999 - إسناده صحيح متصل .
وقوله : " لكني " ، اختصار قوله : لكني أريد الصوم ، مثل ذلك كثير في كلامهم .

(3/518)


سار ، ثم قال حذيفة : هل منكم متسحِّر الساعة ؟ قال : ثم سار حتى استبطأنا الصلاة ، قال : فنزل فتسحّر (1) .
3001 - حدثنا هارون بن إسحاق الهمداني قال ، حدثنا مصعب بن المقدام قال ، حدثنا إسرائيل قال ، حدثنا أبو إسحاق عن هبيرة ، عن علي : أنه لما صلى الفجرَ قال : هذا حين يتبيّن الخيطُ الأبيض من الخيط الأسود من الفجر (2) .
__________
(1) الخبر : 3000 - هذا إسناد صحيح متصل أيضًا .
أبو بكر : هو ابن عياش ، وقد مضى مرارا ، منها : 2150 . وهذا الإسناد صريح في سماعه من الأعمش ، ورؤيته إياه يفعل ما حكى من سحوره بعد الأذان .
وقال الحافظ في الفتح 4 : 117 " وذهب جماعة من الصحابة ، وبه قال الأعمش من التابعين ، وصاحبه أبو بكر بن عياش - : إلى جواز السحور إلى أن يتضح الفجر " .
وقال أيضًا : " وقد روى ابن أبي شيبة وعبد الرزاق - ذلك عن حذيفة ، من طرق صحيحة " .
وانظر لهذه المسألة - المحلى لابن حزم ، في المسألة : 756 (ج 7 ص 229 - 235) . وسيأتي مزيد تخريج ، عند حديثه المرفوع : 3011 - 3013 ، إن شاء الله .
(2) الخبر : 3001 - هارون بن إسحاق الهمداني ، شيخ الطبري : كوفي حافظ ثقة ، من شيوخ البخاري في غير الصحيح ، والترمذي ، والنسائي ، وغيرهم من الأئمة . مترجم في التهذيب ، وابن سعد 6 : 289 ، وابن أبي حاتم 4/2/87 - 88 . وهو من الشيوخ الذين روى عنهم البخاري وهم أحياء ، مات سنة 258 ، بعد البخاري بسنتين .
مصعب بن المقدام : مضت ترجمته : 1291 .
هبيرة - بضم الهاء : هو ابن يريم ، بفتح الياء التحتية وكسر الراء ، الشبامي ، بكسر الشين المعجمة وتخفيف الباء الموحدة وبعد الألف ميم ، نسبة إلى " شبام " ، وهو " عبد الله بن أسعد بن جثم بن حاشد " ، قال ابن سعد : " وسمي شبام ، بجبل لهم " .
ووقع في التهذيب والتقريب والخلاصة " الشيباني " ، وهو تصحيف . وهبيرة : تابعي ثقة ، تكلم فيه بعضهم ، لم يرو عنه غير أبي إسحاق السبيعي ، وهو خال العالية امرأة أبي إسحاق . مترجم في التهذيب ، والكبير 4/2/241 ، وابن سعد 6 : 118 ، وابن أبي حاتم 4/2/109 - 110 .
وهذا الخبر سيأتي بإسناد آخر ، بنحوه : 3010 .
وقد ذكره الحافظ في الفتح 4 : 117 ، قال : " روى ابن المنذر بإسناد صحيح ، عن علي : أنه صلى الصبح ثم قال : الآن حين تبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود " . ولكن ذكره السيوطي 1 : 199 ، بنحوه ، بلفظ " أنه قال حين طلع الفجر . . " ! ونسبه للفريابي ، وعبد بن حميد ، وابن جرير . وأنا أكاد أرجح أن قوله " طلع الفجر " تحريف من الناسخين ، لأن روايتي الطبري ، هذه والآتية ، فيهما " صلى الفجر " ، وأيده ما نقله الحافظ من رواية ابن المنذر .

(3/519)


3002 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا ابن الصلت قال ، حدثنا إسحاق بن حذيفة العطار ، عن أبيه ، عن البراء ، قال : تسحرت في شهر رمضان ، ثم خرجت فأتيت ابن مسعود ، فقال : اشربْ. فقلت : إنّي قد تسحَّرت! فقال : اشرب! فشربنا ، ثم خرجنا والناس في الصلاة (1) .
3003 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا أبو معاوية ، عن الشيباني ، عن جبله بن سحيم ، عن عامر بن مطر ، قال : أتيت عبد الله بن مسعود في داره ، فأخرجَ فضلا من سَحُوره ، فأكلنا معه ، ثم أقيمت الصلاة فخرجنا فصلينا (2) .
3004 - حدثنا خلاد بن أسلم قال ، حدثنا أبو بكر بن عياش ، عن أبي
__________
(1) الخبر : 3002 - هذا إسناد مشكل ، لا أدري ما هو ؟
فابن الصلت : يدور بين اثنين في هذه الطبقة ، " محمد بن الصلت بن الحجاج الأسدي " ، و " محمد بن الصلت التوزي " . فلا أدري أيهما هو ؟ أم هو غيرهما .
وإسحاق بن حذيفة العطار ، وأبوه : لم أجد لهما ترجمة ، ولا ذكرا ، في شيء مما بين يدي من المراجع . وأخشى أن يكون فيهما معا تحريف ، فلئن تركوا ترجمة " إسحاق " ليبعدن أن يتركوا ترجمة أبيه ، وهو في ظاهر هذا الإسناد تابعي ، يروي عن صحابي ، وهو البراء بن عازب . وانظر الخبر الذي بعده .
(2) الخبر : 3003 - أما هذا فإسناده صحيح . الشيباني : هو أبو إسحاق سليمان بن أبي سليمان ، مضت ترجمته : 1037 .
جبلة بن سحيم - بضم السين المهملة ، التيمي الشيباني : تابعي ثقة ، ينسب إلى " تيم بن شيبان " ، فهو " تيمي " ، و " شيباني " .
عامر بن مطر الشيباني : تابعي ثقة . مترجم في ابن سعد 6 : 82 ، وابن أبي حاتم 3/1/328 ، ولسان الميزان 3 : 225 . وروى ابن أبي حاتم عن عبد الرحمن بن الحكم بن بشير ، قال : " أبو مطر ، الذي يروي عنه جبلة بن سحيم : هو عامر بن مطر ، شيباني ، رجل له شأن في المسلمين " .
وهذا الخبر رواه ابن حزم في المحلى 7 : 233 ، من طريق ابن أبي شيبة : " حدثنا أبو معاوية ، عن الشيباني - هو أبو إسحاق . . " فذكره ، بهذا الإسناد ، نحوه .
وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد 3 : 154 مختصرا ، هكذا : " وعن مطر الشيباني ، قال : تسحرنا مع عبد الله ، ثم خرجنا فأقيمت الصلاة ، رواه الطبراني في الكبير ، ورجاله رجال الصحيح " . فسمى التابعي " مطر الشيباني " . وهو تحريف - فيما أرجح - فليس في الرواة من هذا اسمه . وما أدري : التحريف من رواة الطبراني ، أم من الهيثمي ، أم من ناسخ أو طابع ؟ ولكنه - عندي - تحريف على كل حال .

(3/520)


إسحاق ، عن عبد الله بن معقل ، عن سالم مولى أبي حذيفة قال ، كنت أنا وأبو بكر الصديق فوق سطح واحد في رمضان ، فأتيت ذات ليلة فقلت : ألا تأكل يا خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فأومأ بيده : أنْ كُفَّ ، ثم أتيته مرة أخرى ، فقلت له : ألا تأكلُ يا خليفة رسول الله ؟ فأومأ بيده : أنْ كُف. ثم أتيته مرة أخرى ، فقلت : ألا تأكل يا خليفةَ رسول الله ؟ فنظر إلى الفجر ثم أومأ بيده : أنْ كُفّ. ثم أتيته فقلت : ألا تأكل يا خليفة رسول الله ؟ قال : هات غَداءك! قال : فأتيته به فأكل ، ثم صلى ركعتين ، ثم قام إلى الصلاة (1) .
3005 - حدثنا ابن المثنى قال ، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي قال ، حدثنا شعبة ، عن مغيرة ، عن إبراهيم ، قال : الوتر بالليل والسَّحور بالنهار.
وقد رُوي عن إبراهيم غير ذلك :
3006 - حدثنا ابن المثنى قال ، حدثنا محمد بن جعفر ، عن حماد ، عن إبراهيم ، قال : السحور بليل ، والوتر بليل.
3007 - حدثنا حكام ، عن ابن أبي جعفر ، عن المغيرة ، عن إبراهيم ، قال : السحور والوتر ما بين التَّثْويب والإقامة.
3008 - حدثنا ابن المثنى قال ، حدثنا محمد بن جعفر قال ، حدثنا شعبة ،
__________
(1) الخبر : 3004 - هذا إسناد ضعيف ، لانقطاعه .
خلاد بن أسلم ، أبو بكر الصفار ، شيخ الطبري : ثقة ، من شيوخ عبد الله بن أحمد ، والترمذي والنسائي ، مات في جمادى الآخرة سنة 249 . مترجم في التهذيب ، والصغير للبخاري ص : 237 ، وتاريخ بغداد 8 : 342 - 343 .
عبد الله بن معقل - بفتح الميم وسكون العين المهملة وكسر القاف - بن مقرن - بضم الميم وفتح القاف وكسر الراء المشددة - المزني : تابعي ثقة ، يروي عن أبيه ، وهو صحابي ، وعن علي ، وابن مسعود ، وغيرهم . ولكنه لم يدرك أن يروي عن سالم مولى أبي حذيفة ، لأنه مات سنة 88 ، وسالم قتل باليمامة سنة 12 في خلافة أبي بكر . ولذلك تعقب الحافظ ابن حجر في التهذيب ، ما ذكره أصله ، فقال : " وأطلق المؤلف روايته عن سالم مولى أبي حذيفة . والظاهر أنها مرسلة ، لأنه قتل باليمامة " . وابن معقل هذا مترجم في التهذيب . والصغير للبخاري ، ص : 93 - 94 ، وابن سعد 6 : 121 - 122 ، والإصابة 5 : 144 . ووقع في المطبوعة هنا " عبيد الله " ، بالتصغير ، وهو خطأ .
سالم مولى أبي حذيفة : صحابي قديم الموت ، كما قلنا آنفًا . وهو الذي وردت في شأنه سنة إرضاع الكبير . وهو مولى ثبيتة بنت يعار الأنصارية زوج أبي حذيفة ، هي التي أعتقته ، فتولى أبا حذيفة بن عتبة بن ربيعة القرشي زوجها . قال ابن سعد : " فسالم يذكر في الأنصار في بني عبيد ، لعتق ثبيتة بنت يعار إياه ، ويذكر في المهاجرين ، لموالاته لأبي حذيفة " . وهو مترجم في الكبير 2/2/108 ، والصغير ، ص : 21 ، 22 ، وابن سعد 3/1/60 - 62 ، وابن أبي حاتم 2/1/189 ، والإصابة 3 : 56 - 57 . وقال ابن أبي حاتم : " لا أعلم روى عنه " . وتعقبه الحافظ في الإصابة ، فذكر له رواية حديثين مرفوعين ، ثم قال : " وفي السندين جميعا ضعف وانقطاع . فيحمل كلام ابن أبي حاتم على أنه لم يصح عنه شيء " . ولم يذكر الحافظ رواية الطبري هذه ، وهي منقطعة أيضًا .
وهذا الخبر ذكره الهيثمي في مجمع الزوائد 4 : 154 ، مختصرا قليلا ، وقال : " رواه الطبراني في الكبير ، ورجاله رجال الصحيح " . هكذا قال ، فلم يشر إلى علته بالانقطاع ، إلا أن يكون إسناد الطبراني متصلا براو آخر فوق عبد الله بن معقل ، فلعل . ولكني لا أظن ذلك .
نعم ذكر الحافظ في الفتح 4 : 117 ، أن ابن المنذر " روى بإسناد صحيح ، عن سالم بن عبيد الأشجعي ، وله صحبة : أن أبا بكر قال له : اخرج فانظر هل طلع الفجر ؟ قال : فنظرت ثم أتيته ، فقلت : قد ابيض وسطع ، ثم قال : اخرج فانظر هل طلع ؟ فنظرت فقلت : قد اعترض ، فقال : الآن أبلغني شرابي " . فهذا سالم بن عبيد صحابي معروف من أهل الصفة . والرواية عنه تأتي من وجه آخر غير رواية سالم مولى أبي حذيفة . فإن كان الإسناد إليه صحيحا كما قال الحافظ ، فهو ذلك ، إلا أن يكون ذكر سالم بن عبيد " خطأ من بعض الرواة ، فليس عندي بيان آخر عن إسناد ابن المنذر .
وقد روى ابن حزم في المحلى 6 : 232 ، نحو هذا المعنى ، بألفاظ أخر ، عن أبي بكر :
فقال ابن حزم : " روينا من طريق معمر ، عن أبان ، عن أنس ، عن أبي بكر الصديق ، أنه قال : إذا نظر الرجلان إلى الفجر ، فشك أحدهما ، فليلأكلا حتى يتبين لهما " .
" ومن طريق أبي أحمد الزبيري ، عن سفيان الثوري ، عن منصور بن المعتمر ، عن هلال بن يساف ، عن سالم بن عبيد ، قال : كان أبو بكر الصديق يقول لي : قم بيني وبين الفجر حتى أتسحر " .
ومن طريق ابن أبي شيبة ، عن جرير بن عبد الحميد ، عن منصور بن المعتمر ، عن هلال بن يساف ، عن سالم بن عبيد الأشجعي ، قال : قم فاسترني من الفجر ، ثم أكل " .
وهذا اللفظ الأخير مختصر ، يفهم مما قبله أنه حكاية عن أبي بكر أيضًا ، ولعله سقط منه شيء من ناسخي المحلى .
ثم قال ابن حزم : " سالم بن عبيد هذا : أشجعي كوفي ، من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم . وهذه أصح طريق يمكن أن تكون " .
وأنا أرجح أن يكون طريق ابن المنذر - الذي نقله الحافظ في الفتح - مثل هذين الطريقين الأخيرين ، اللذين نقلهما ابن حزم ، فيكون من رواية هلال بن يساف عن سالم بن عبيد . واستبعد جدا أن يكون طريق الطبراني ، الذي ذكره الهيثمي - : من هذا الوجه .
ثم روى ابن حزم 6 : 233 ، نحو هذا المعنى ، من رواية أبي السفر ، ومن رواية أبي قلابة - كلاهما عن أبي بكر . وهما إسنادان منقطعان ، فإن أبا السفر وأبا قلابة لم يدركا أبا بكر يقينا .

(3/521)


عن شبيب بن غرقدة ، عن عروة ، عن حبان ، قال : تسحرنا مع عليّ ، ثم خرجنا وقد أقيمت الصلاة ، فصلينا (1) .
3009 - حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا مؤمل قال ، حدثنا سفيان ، عن
__________
(1) الخبر : 3008 - شبيب بن غرقدة السلمي : تابعي ثقة ، وثقه أحمد وابن معين وغيرهما . مترجم في التهذيب ، والكبير 2/2/232 ، وابن أبي حاتم 2/1/357 .
عروة : هو ابن أبي الجعد الأزدي البارقي : صحابي معروف . قال البخاري : " وبارق : جبل ، نزله بعض الأزد " .
حبان - بكسر الحاء المهملة وتشديد الباء الموحدة : هو ابن الحارث ، أبو عقيل ، وهو تابعي ثقة . ترجمه البخاري في الكبير 2/1/77 ، وابن أبي حاتم 1/2/269 ، والدولابي في الكنى 2 : 33 .
وهكذا وقع في الطبري عن شيخه محمد بن المثنى - في هذا الإسناد - زيادة " عروة البارقي " بين " شبيب " و " حبان بن الحارث " . وسيأتي الخبر عقب هذا : 3009 ، من رواية سفيان بن عيينة ، عن شبيب ، عن حبان ، مباشرة دون واسطة ، وهو الثابت المحفوظ عن شبيب . فلعل ابن المثنى - شيخ الطبري - وهم في هذه الزيادة ، أو لعله كان من رواية شبيب ، عن عروة وعن حبان ، كلاهما عن علي ، ثم اختلط في الإسناد على الناسخين .
فإن البخاري روى هذا الخبر ، في ترجمة " حبان " في التاريخ الكبير ، موجزا بالإشارة كعادته - على الصواب ، من الوجه الذي رواه الطبري هنا :
فقال البخاري : " حدثنا محمد ، قال : حدثنا غندر ، قال : حدثنا شعبة ، عن شبيب ، عن حبان : تسحرنا مع علي " .
فحمد - شيخ البخاري : هو محمد بن بشار الحافظ . وغندر : هو هو محمد بن جعفر شيخ ابن المثنى في إسناد الطبري هذا . وهو قد رواه - كما ترى - دون واسطة بين شبيب وحبان .
وكذلك رواه البخاري بثلاثة أسانيد عن شبيب عن حبان ، فقال : " قال ابن محبوب ، عن عمر الأبار ، عن منصور ، عن شبيب ، عن حبان بن الحارث : تسحرنا مع علي . وقال جرير ، عن منصور ، عن شبيب ، عن أبي عقيل . قال حسين ، عن زائدة ، عن شبيب ، عن طارق بن قرة ، وحبان بن الحارث ، بهذا " . وقد زاد في الإسناد الأخير للبخاري : أن شبيبا رواه عن طارق بن طارق بن قرة ، عن علي ، كمثل روايته إياه عن حبان ، عن علي . و " طارق بن قرة " : تابعي ، لم يترجمه البخاري في الكبير ، ولكن ترجمه ابن أبي حاتم 2/1/486 ، قال : " طارق بن قرة : روى عن علي ، روى عنه شبيب بن غرقدة " . وبذلك ترجمه أيضًا ابن حبان في الثقات ، ص : 229 .
ورواية البخاري ، من طريق جرير عن منصور - رواها ابن حزم في المحلى 6 : 233 مفصلة ، قال : " ومن طريق ابن أبي شيبة : حدثنا جرير ، هو ابن عبد الحميد ، عن منصور بن المعتمر ، عن شبيب بن غرقدة ، عن أبي عقيل ، قال : تسحرت مع علي بن أبي طالب ، ثم أمر المؤذن أن يقيم الصلاة " .
فهذه أسانيد تدل على أن ذكر " عروة البارقي " في إسناد الطبري هنا - إما سهو من ابن المثنى ، وإما إضافة في الرواية مع حبان - لا رواية عنه - ثم حرفت من الناسخين .

(3/523)


شبيب ، عن حبان بن الحارث ، قال : مررت بعليّ وهو في دار أبي موسى وهو يتسحَّر ، فلما انتهيتُ إلى المسجد أقيمت الصلاة (1) .
3010 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا جرير ، عن منصور ، عن أبي إسحاق ، عن أبي السفر ، قال : صلى عليُّ بن أبي طالب الفجرَ ، ثم قال : هذا حين يتبيَّن الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر (2) .
* * *
وعلة من قال هذا القول : أنَّ القول إنما هو النهارُ دون الليل. قالوا : وأول النهار طلوعُ الشمس ، كما أنّ آخرَه غروبُها. قالوا : ولو كان أوله طلوعُ الفجر ، لوَجب أن يكون آخرَه غروبُ الشفق. قالوا : وفي إجماع الحجة على أنَّ آخر النهار غروب الشمس ، دليلٌ واضح على أن أوله طلوعها. قالوا : وفي الخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه تسحر بعد طُلوع الفجر ، أوضحُ الدليل على صحة قولنا.
ذكر الأخبار التي رويت عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك :
3011 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا أبو بكر ، عن عاصم ، عن زر ، عن حذيفة ، قال : قلت : تسحَّرتَ مع النبي صلى الله عليه وسلم ؟ قال : نعم ، قال : لو أشاءُ لأقولُ هو النهارُ إلا أنّ الشمس لم تطلع (3) .
__________
(1) الخبر : 3009 - سفيان : هو ابن عيينة . والخبر تكرار في معناه للخبر قبله . ورواه أيضًا ابن حزم في المحلى 6 : 233 ، قال : " وعن سفيان بن عيينة ، عن شبيب بن غرقدة ، عن حبان بن الحارث : أنه تسحر مع علي بن أبي طالب ، وهما يريدان الصيام ، فلما فرغ قال للمؤذن : أقم الصلاة " .
(2) الخبر : 3010 - أبو السفر - بفتح الفاء - : هو سعيد بن محمد ، بضم الياء التحتية وسكون الحاء المهملة وكسر الميم ، وهو تابعي ثقة ، يروي عن متوسطي الصحابة ، كابن عباس وابن عمر . وهذا الإسناد منقطع ، لأن أبا السفر لم يدرك أن يروي عن علي بن أبي طالب . وقد مضى معناه عن علي ، بإسناد آخر متصل : 3001 .
(3) الحديث : 3011 - عاصم : هو ابن بهدلة ، وهو ابن أبي النجود - بفتح النون - الكوفي المقرئ ، أحد القراء السبعة . وهو ثقة ، أخرج له أصحاب الكتاب الستة . زر - بكسر الزاي وتشديد الراء : هو ابن حبيش ، التابعي الثقة . مضى في : 274 . حذيفة : هو ابن اليمان العبسي ، صحابي مشهور ، مناقبه كثيرة معروفة .
وهذا الحديث رواه ابن ماجه : 1695 ، عن علي بن محمد ، هو الطنافسي ، عن أبي بكر بن عياش ، بهذا الإسناد نحوه ، مختصرا . وسيأتي مزيد تخريج له في الثلاثة بعده .

(3/524)


3012 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا أبو بكر ، قال : ما كذب عاصمٌ على زرّ ، ولا زرّ على حذيفة ، قال : قلتُ له : يا أبا عبد الله تسحرت مع النبي صلى الله عليه وسلم ؟ قال : نعم هو النهارُ إلا أن الشمس لم تطلع (1) .
3013 - حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا مؤمل قال ، حدثنا سفيان ، عن عاصم ، عن زر ، عن حذيفة قال : كان النبي صلى الله عليه وسلم يتسحَّر وأنا أرى مواقعَ النَّبل. قال : قلت أبعدَ الصبح ؟ قال : هو الصبح ، إلا أنه لم تطلع الشمس (2) .
3014 - حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا الحكم بن بشير ، قال : حدثنا عمرو بن قيس وخلاد الصفار ، عن عاصم بن بهدلة ، عن زر بن حبيش ، قال : أصبحت ذات يوم فغدوتُ إلى المسجد ، فقلت : لو مررت على باب حذيفة! ففتح لي فدخلتُ ، فإذا هو يسخّن له طعامٌ ، فقال : اجلس حتى تطعَم. فقلت : إنّي أريد الصوم. فقرّب طعامه فأكل وأكلت معه ، ثم قام إلى لِقْحة في الدار ، فأخذ يحلُب من جانب وأحلُب أنا من جانب ، فناولني ، فقلت : ألا ترى الصبح ؟ فقال : اشرب! فشربتُ ، ثم جئتُ إلى باب المسجد فأقيمت الصلاة ، فقلت له : أخبرني بآخر
__________
(1) الحديث : 3012 - هو الحديث السابق بمعناه ، بالإسناد نفسه . ولكن هذا جاء بصيغة في التوكيد موثقة ، قصد بها أبو بكر بن عياش رفع شبهة الخطأ أو التزيد في الرواية .
(2) الحديث : 3013 - سفيان : هو الثوري .
والحديث في معنى الحديثين قبله . وقد رواه أحمد في المسند 5 : 400 (حلبي) ، عن وكيع ، عن سفيان ، بهذا الإسناد نحوه . وكذلك رواه النسائي 1 : 303 ، وابن حزم في المحلى 6 : 232 - كلاهما من طريق وكيع .
وفي الفتح 4 : 117 أنه رواه " سعيد بن منصور ، عن أبي الأحوص ، عن عاصم ، عن زر ، عن حذيفة ، قال : تسحرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، هو والله النهار ، غير أن الشمس لم تطلع "

(3/525)


سَحور تسحَّرته مع رَسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال : هو الصبح إلا أنه لم تطلع الشمسُ (1) .
3015 - حدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي قال ، حدثنا روح بن عبادة قال ، حدثنا حماد ، عن محمد بن عمرو ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " إذا سمع أحدكم النداءَ والإناءُ على يده ، فلا يضعه حتى يقضيَ حاجته منه " (2) .
__________
(1) الحديث : 3014 - الحكم بن بشير النهدي : مضت ترجمته : 1497 . وعمرو بن قيس هو الملائي ، مضت ترجمته : 886 .
خلاد الصفار : هو خلاد بن عيسى العبدي ، ويقال : خلاد بن مسلم . وهو ثقة . مترجم في التهذيب والكبير 2/1/171 ، وابن أبي حاتم 1/2/367 .
وهذا الحديث تكرار للثلاثة قبله في معناها ، إلا أنه مطول في قصة . وقد روى نحو هذه القصة - حماد بن سملة ، عن عاصم ، عن زر ، عن حذيفة :
فرواها أحمد 5 : 396 (حلبي) ، عن عفان ، عن حماد بن سلمة .
وكذلك رواه الطحاوي في شرح معاني الآثار 1 : 324 ، وابن حزم في المحلى 6 : 231 : 232 ، كلاهما من طريق روح بن عبادة ، عن حماد بن سلمة .
ورواه أحمد أيضًا 5 : 405 (حلبي) ، من طريق شريك بن عبد الله - هو النخعي القاضي - عن عاصم ، عن زر ، قال : " قلت ، يعني لحذيفة : يا أبا عبد الله ، تسحرت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال : نعم ، قلت : أكان الرجل يبصر مواقع نبله ؟ قال : نعم ، هو النهار ، إلا أن الشمس لم تطلع " .
وقد ذكر ابن كثير 1 : 422 رواية حماد بن سلمة عن عاصم - مختصرة ، ونسبها لأحمد ، والنسائي وابن ماجه ، وقال : " وهو حديث تفرد به عاصم بن أبي النجود ، قاله النسائي " . ولم أجده في النسائي من رواية حماد ولم أجد كلمة النسائي أيضًا . فلعل ذلك في السنن الكبرى .
وقال الحافظ في الفتح 4 : 117 ، بعد نقله رواية سعيد بن منصور وإشارته إلى رواية الطحاوي عن حذيفة : " روى ابن أبي شيبة وعبد الرزاق ذلك عن حذيفة ، من طرق صحيحة " .
" اللقحة " : الناقة القريبة العهد بالولادة ، فهي من ذوات الألبان .
(2) الحديث : 3015 - هذا إسناد صحيح .
روح بن عبادة القيسي ، من بني قيس بن ثعلبة : ثقة ، أخرج له أصحاب الكتب الستة ، ووثقه ابن معين وغيره . تكلم فيه بعضهم بغير حجة . مترجم في التهذيب ، والكبير 2/1/282 - 283 ، وابن سعد 7/2/50 ، وابن أبي حاتم 1/2/498 - 499 ، وتاريخ بغداد 8 : 401 - 406 .
" عبادة " : بضم العين المهملة وتخفيف الباء الموحدة . ووقع في المطبوعة ، في هذا الإسناد والذي بعده " روح بن جنادة " ! وهو تصحيف ، ولا يوجد راو بهذا الاسم .
حماد : هو ابن سلمة .
محمد بن عمرو بن علقمة بن وقاص الليثي : ثقة ، أخرج له الجماعة أيضًا .
أبو سلمة : هو ابن عبد الرحمن بن عوف .
والحديث رواه أحمد في المسند : 10637 (2 : 510 حلبي) ، عن روح بن عبادة ، بهذا الإسناد واللفظ .
ورواه أحمد أيضًا : 9468 (2 : 423 حلبي) ، عن غسان بن الربيع ، عن حماد بن سلمة ، بهذا الإسناد . وقرن إليه إسنادا آخر مرسلا ، عن يونس ، عن الحسن ، عن النبي صلى الله عليه وسلم .
ورواه أبو داود : 2350 ، عن عبد الأعلى بن حماد النرسي . عن حماد بن سلمة ، به . وكذلك رواه الحاكم في المستدرك 1 : 426 ، من طريق عبد الأعلى ، وقال الحاكم : " هذا حديث صحيح على شرط مسلم ، ولم يخرجاه " . ووافقه الذهبي .
وانظر تعليقنا على الحديث ، فيما كتبنا على مختصر السنن للمنذري : 2249 (3 : 233 ، 234) .

(3/526)


3016 - حدثنا أحمد بن إسحاق قال ، حدثنا روح بن عبادة قال ، حدثنا حماد ، عن عمار بن أبي عمار ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله - وزاد فيه : وكان المؤذن يؤذن إذا بَزَغ الفجر (1) .
3017 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا يحيى بن واضح قال ، حدثنا الحسين وحدثنا محمد بن علي بن الحسن بن شقيق ، قال ، سمعت أبي قال ، أخبرنا الحسين بن واقد قالا جميعا ، عن أبي غالب ، عن أبي أمامة قال : أقيمت الصلاة والإناءُ في يد عمر ، قال : أشرَبُها يا رسول الله ؟ قال : نعم! ، فشربها (2) .
__________
(1) الحديث : 3016 - عمار بن أبي عمار مولى بني هاشم : تابعي ثقة ، أخرج له مسلم في صحيحه .
والحديث رواه أحمد في المسند : 10638 ، عن روح بن عبادة ، بهذا الإسناد ، عقب الحديث السابق ، كما صنع الطبري تماما .
وذكره ابن حزم في المحلى 6 : 232 ، من رواية حماد بن سلمة ، به ، وساق لفظه كاملا . وزاد في آخره : وقال حماد ، عن هشام بن عروة : كان أبي يفتي بهذا " .
(2) الحديث : 3017 - رواه الطبري بإسنادين : فرواه عن بن حميد ، عن يحيى بن واضح ، عن الحسين بن واقد - ثم استأنف إسنادا آخر ، فرواه عن محمد بن علي بن الحسن ، عن أبيه ، عن الحسين بن واقد ، فاجتمع الطريقان في الحسين بن واقد ، عن أبي غالب ، إلخ .
ويحيى بن واضح : هو أبو تميلة ، مضت ترجمته : 392 .
أبو غالب : هو صاحب أبي أمامة ، وقد اختلف في اسمه : فقيل : " حزور " ، بفتح الحاء المهملة والزاي والواو المشددة وآخره راء . وقيل : " سعيد بن الحزور " ، وهو الذي اقتصر عليه ابن سعد 7/2/7 . واختصر البخاري في الكبير 2/1/124 على " حزور " . وترجمه ابن أبي حاتم في الترجمتين 1/2/315 - 316 ، ثم 2/1/13 ، وقال في الموضع الثاني : " وحزور أصح " . وهو ثقة ، وتكلم فيه بعضهم . ووثقه الدارقطني ، وحسن الترمذي بعض أحاديثه ، وصحح بعضها . مترجم في التهذيب 12 : 197 - 198 .
أبو أمامة : هو الباهلي ، واسمه : " صدي " بضم الصاد وفتح الدال المهملتين وتشديد الياء " بن عجلان " . وهو صحابي معروف مات سنة 86 وقد جاوز المئة ، لأنه ثبت أنه كان ابن 30 سنة أو 33 . ووقع في ابن سعد 7/2/131 - 132 أنه مات وهو ابن 61 سنة! وهو خطأ فاحش .
وهذا الحديث صحيح الإسناد . ولم أجده في غير هذا الموضع من تفسير الطبري .

(3/527)


3018 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا يحيى بن واضح قال ، حدثنا يونس ، عن أبيه ، عن عبد الله ، قال : قال بلال : " أتيتُ النبيّ صلى الله عليه وسلم أُوذِنه بالصلاة وهو يريد الصوم ، فدعا بإناء فشرب ، ثم ناولني فشربتُ ، ثم خرج إلى الصلاة (1) .
3019 - حدثني محمد بن أحمد الطوسي قال ، حدثنا عبيد الله بن موسى ، قال : أخبرنا إسرائيل ، عن أبي إسحاق عن عبد الله بن معقل ، عن بلال قال : أتيتُ النبي صلى الله عليه وسلم أوذنه بصلاة الفجر وهو يريد الصيام ، فدعا بإناء فشرب ، ثم ناولني فشربتُ ، ثم خرجنا إلى الصلاة (2) .
* * *
__________
(1) الحديث : 3018 - يونس : هو ابن أبي إسحاق السبيعي ، وهو ثقة ، وثقه ابن معين وابن سعد وغيرهما . مترجم في التهذيب ، والكبير 4/2/408 ، وابن سعد 6 : 252 ، وابن أبي حاتم 4/2/243 - 244 .
عبد الله : هو ابن معقل بن مقرن المزني ، مضت ترجمته : 3004 .
بلال : هو ابن رباح ، مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، من المهاجرين الأولين ، مات في طاعون عمواس ، سنة : 17 ، أو 18 . ولم يدركه عبد الله بن معقل المتوفى سنة : 88 . فالإسناد إليه ضعيف لانقطاعه .
وسيأتي تخريج الحديث في الإسناد التالي .
(2) الحديث : 3019 - محمد بن أحمد الطوسي ، شيخ الطبري : لم أعرف من هو ؟ " عبد الله بن معقل " : بفتح الميم وسكون العين المهملة وكسر القاف . وثبت في المطبوعة هنا " مغفل " ، وهو تصحيف .
والحديث رواه أحمد في المسند 6 : 12 (حلبي) عن يحيى بن آدم ، وأبي أحمد الزبيري - كلاهما عن إسرائيل ، بهذا الإسناد ، نحوه . ثم رواه 6 : 13 ، عن حسين بن محمد ، عن إسرائيل ، به . وهو حديث ضعيف ، لانقطاعه بين ابن معقل بن مقرن وبلال ، كما بينا .
وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد 3 : 152 ، من رواية أحمد الأولى ، وقال : " رواه أحمد ، والطبراني في الكبير " . ثم ذكر رواية أحمد الثانية ، ثم قال : " ورجالهما رجال الصحيح " . ففاته أن يعلمه بالانقطاع .
وروى أحمد أيضًا 6 : 13 ، عن وكيع ، عن جعفر بن برقان ، عن شداد مولى عياض بن عامر ، عن بلال : " أنه جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم يؤذنه بالصلاة ، فوجده يتسحر في مسجد بيته " . وهذا ذكره الهيثمي أيضًا عن المسند ، ثم قال : " وشداد مولى عياض : لم يدرك بلالا " . وهو كما قال .

(3/528)


قال أبو جعفر : وأولى التأويلين بالآية ، التأويلُ الذي رُوي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " الخيط الأبيض " بياض النهار ، " والخيط الأسود " سوادُ الليل. وهو المعروف في كلام العرب ، قال أبو دُؤاد الإياديّ :
فَلَمَّا أضَاءت لَنَا سُدْفَةٌ... وَلاحَ مِنَ الصُّبْحِ خَيْطٌ أَنَارَا (1)
* * *
وأما الأخبارُ التي رويتْ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه شرب أو تسحَّر ، ثم خرج إلى الصلاة