تعليق على خبر أبي ذر
قال القاضي: في خبر أبي ذر هذا أنواع من الحكم وفوائد من العلم والإنباء عن الأمور الخالية، وإخبار عن الأمور الماضية، وفيه اعتبارٌ لأولي البصائر والعقول، وتنبيه لذوي التمييز والتحصيل، وقد روينا في كثير من فصوله روايات موافقة لألفاظه ومعانيه، وأخر مضارعة لما اشتمل عليه من الأغراض فيه، وروينا في بعض فصوله روايات مختلفة لظاهر ما تضمنه إلا أنها إذا تؤملت رجعت إلى التقارب إذ اقتضت غلطاً من بعض الرواة. فأما ما ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قاله وأخبر به فهو الحق الذي لا مرية فيه ولا ريب في صحته والقطع على حقيقة مغيبه.
قال القاضي: وفي خبر أبي ذر ما دل على أن من الأنبياء من أوتي النبوة وأرسل إلى طائفة، ومنهم من كان نبياً غير مرسل إلى أحد. وقد قال الله تعالى ذكره: " وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته " الحج: 52 وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال فيه: " ولا محدث " وقال: " إن منكم محدثين " وذكر عمر رضي الله عنه. ومن الدعاء المنتشر المستعمل الظاهر على ألسنة خاصة المسلمين وعامتهم: اللهم صل على ملائكتك المقربين وعلى أنبيائك والمرسلين، وظاهر هذا يقتضي الفصل بين الفريقين، وقد أحال هذا بعض المنتسبين إلى علم الكلام ومن يدعي له فريق مفتون به مغرور بمخاريقه، وأحال أيضاً أن لا يختص أحد من الأنبياء بشيء من الشريعة مجدد على يده مخالف في الصورة لما أتى به من قبله، وأن يقتصر به في الدلالة على صدقه وصحة نبوته بخبر نبي من الأنبياء بذلك وتعيينه عليه تعييناً لا يشكل، وكل ما أحاله من ذلك على غير ما قدره، ولا حجة له في شيء مما أتى به من ذلك، ولا شبهة توقع العذر له، إذ لم يكن السمع ولا العقل يحيلانه، بل يدلان على جوازه ويشهدان بصحته، وقد ثبت الخبر الصادق به وله في إعجاز القرآن وصحة شهادته بالصدق للنبي صلى الله عليه وسلم، وأنه لكلام يبعد من إطلاق مثله من صحت فطرته وسلمت من التعصب والتحامل والغفلة والتجاهل طريقته، وكانت استبعدت هذا حين حكي لي عنه إذ لم يكن عندي ممن بلغ في الذهاب عن النظر الصحيح هذا الحد، إلى أن رأيته مثبتاً بخطه، وقد حكيته على جهته في معناه ولفظه في غير موضع، من ذلك كتابنا المسمى البيان الموجز عن علم القرآن المعجز، وليس كتابنا هذا من مواضع البيان عن ذلك والاشتغال بحكايته وإيضاح القول في وتبيين فساده. وقد قال بعض أهل العلم: لو سكت من لا يعلم لاسترحنا، وأنا أقول: لو كان له دين يردعه، ويكفه ويمنعه، ويقبضه فيقدعه، فيسكته قهراً، ويصمته قسراً، أو كان من يصرفه عن شنيع الجهالات وبديع الضلالات بالتأديب والقصب والتثريب، والتبكيت والتأنيب، ولرجونا أن يعفي الناس بذلك عما ينالهم من الضرر أو كثير منه من جهته، وإلى الله المشتكى وهو المتسعان على كل حادثة وبلوى.
كلمة بليغة لعلي
حدثني محمد بن عمر بن نصير الحربي الجمال سنة ست عشرة وثلاثمائة إملاء من حفظه، قال: حدثنا حاجب بن سليمان المنبجي وهو يومئذ بحلب سنة اثنتين وستين ومائتين قال حدثنا الوصاف بن صالح، وحدثنا محمد بن محمد بن زيد المقري النهرواني المعروف بابن زندويه قال حدثنا أبو منصور يعني سليمان بن محمد بن الفضل بن جبريل البجلي قال حدثنا حاجب بن سليمان ومحمد بن حسن بن سفيان المنبجيان، قالا: حدثنا الوصاف بن حاتم أبو الحسن قال القاضي: وهو الصواب عندي وقالا جميعاً: أعني الحربي وابن زندويه قال حدثنا أبو إسحاق الكوفي عن خالد بن طليق عن أبيه عن علي بن أبي طالب عليه السلام أنه قال: ذمتي رهينة وأنا به زعيم، لا يهيج على التقوى زرع قومٍ ولا يظمأ على التقوى سنخ أصل، وإن أجهل الناس من لم يعرف قدره، وإن أبغض الناس إلى الله عز وجل رجل قمش علماً في أغمار من الناس غشوه، أغار فيه بأغبار الفتنة عمى عما في ريب الهدنة وقال ابن زندويه مكان الهدنة الفتنة سماه أشباه الناس عالماً ولم يغن في العلم يوماً سالماً ولم يقل الحربي في العلم ذكر فاستكثر ما قل منه وقال الحربي: وما قل منه خير مما كثر حتى إذا ارتوى من آجن واستكثر من غير طائل، جلس للناس مفتياً قال الحربي: لتلخيص ما لبس على غيره وليس هذا في حديث ابن زندويه، وقالا: فإن نزلت به إحدى المهمات قال الحربي: هيا لها حشواُ من رأيه وقال ابن زندويه: هيأ حشواً لرأي من رأيه، فهو من قطع المشتبهات في مثل نسج العنكبوت لا يدري أخطأ أم أصاب وقال ابن زندويه مكان نسج غزل وقال الحربي: خباط جهالات، ركاب عمايات وقال ابن زندويه ركاب جهالات خباط عشوات لا يعتذر مما لا يعلم فيسلم، ولا يعض على العلم بضرس قاطع فيغنم، تبكي منه الدنيا وقال ابن زندويه مكان الدنيا الدماء وكأنه أشبه بالصواب عندي؛ وقالا: وتصرخ منه المواريث، ويستحل بقضائه الفرج الحرام، لا ملي والله ولا أهل بإصدار ما ورد عليه ولا هو أهل لما فرض له وقال ابن زندويه: لا ملي والله بإصدار ما ورد عليه ولا هو أهل لما قرظ به، وقال الحربي: أولئك الذين حقت عليهم النياحة أيام الدنيا. قال القاضي: وأنهى ابن زندويه حديثه عند قوله لما قرظ به ثم قال: وزاد فيه غيره، وأتى بما رويناه بعد هذا عن الحربي منفرداً به على ما وصفناه.
تفسير ما غمض في كلمة علي
قال القاضي: قول أمير المؤمنين نضر الله وجهه " ذمتي رهينة وأنا به زعيم " إبانة عن تيقنه ما أخبر به وبصيرته فيه وثقته بحقيقته وتوثيقه لمن أخبره بثبوته وصحته. وأما قوله: وأنا به زعيم فإن الذي ترجع إليه هاء الضمير في جملة الكلام ومعناه وما دل عليه مفهومه وفحواه، كأنه قال: وأنا بقولي زعيم وإن لم يآت بصريح اسم خاص ولا مصدر يعود الضمير عليه أصله وذلك مستعمل فصيح فاش في العربية وقد يأتي في مثل هذا فعل أو اسم فاعل يدل على مصدر يعود الضمير إليه دون لفظ جملة من كلام يحمل عليه، فأما الفعل الدال على مصدره فكقولهم: من كذب كان شراً له؛ أضمر في كان الكذب الذي دل عليه كذب وعاد الضمير إليه وإن لم يأت على بنيته، قال الله تعالى: " ولا يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو خيراً لهم بل هو شر لهم " آل عمران: 180 يعني البخل الذي لم يأت على خاص لفظه اكتفاء بدلالة الفعل الذي هو يبخلون عليه. وأما اسم الفاعل فكقولهم: إذا أحسن كما أمر فجازه عليه، يريد على إحسانه الذي دل أحسن عليه، ورجع عائد الضمير إليه، ومثل هذا قول الشاعر:
إذا نهي السفيه جرى إليه ... وخالف والسفيه إلى خلاف
أراد إلى السفيه، على ما بينا، وقد يكتفون في هذا الباب بدلالة العهد والحال وتجلي الأمر الشائع فيه، قال الله جل ذكره: " ولو يؤاخذ الله الناس بظلمهم ما ترك عليها من دابة " النحل: 61 وقال تعالى: " ولو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابة " فاطر: 45 فأعاد الضمير على الأرض ولم يجر لها في هذه القصة ذكر. وقال جل ثناؤه: " إنا أنزلناه في ليلة القدر " القدر: 1 يعني القرآن، وقال: " حتى توارت بالحجاب " ص: 32 يعني الشمس في قول جمهور أهل العلم، قال الشاعر:
هذا مقام قدمي رباح ... غدوة حتى دلكت براح
يريد الشمس. وقال الله تعالى وهو أصدق القائلين " فأثرن به نقعاً فوسطن به جمعاً " العاديات: 4،5 يريد الوادي أو الموضع أو المكان أو المنزل. وهذا باب واسع وله شرح ليس هذا موضعه وقد أتينا منه هاهنا بما يكفي معه بعضه بل هو جميعه.
وأما الزعيم فإنه الكفيل، ومنه قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: الزعيم غارم. وقال جل ذكره: " ولمن جاء به حمل بعير وأنا به زعيم " يوسف: 72 وقال جل ثناؤه: " سلهم أيهم بذلك زعيم " القلم: 40 ويقال: فلان زعيم القوم أي القائم بأمورهم المتكفل بها. ومنه ما جاء به الأثر في ذكر أشراط الساعة: وصار زعيم القوم أرذلهم. قال: الشاعر:
إني زعيم يا نويقة إن نجوت من الرواح
وسلمت من غرض الحتو ... ف مع الغدو إلى الرواح
أن تهبطين بلاد قو ... م يرتعون من الطلاح
ويقال أيضاً في الزعيم ضمين وقبيل وحميل، من القبالة والحمالة، وصبير وتبيع كما قال الشاعر:
غدوا وغدت غزلانهم وكأنهم ... ضوامن غرم أزهن تبيع
وقد قيل في قول الله جل ثناؤه: " أو تأتي بالله والملائكة قبيلاً " الإسراء: 92 إنه بمعنى القبيل أي الكفيل، وقيل بل هو من الجماعة، وقيل هو من المقابلة والمعاينة. واختلف في تأويل قوله عز وجل: " أو يأتيهم العذاب قبلاً " الكهف 55 وقوله تعالى: " وحشرنا عليهم كل شيء قبلاً " الأنعام: 111 على أقوال مع اختلاف القراءة في كسر القاف وفتح الباء وفي ضمهما وفي الجمع بين الموضعين والتفريق بينهما، وهذا مشروح في كتبنا التي ألفناها في القراءات والتأويل.
وقوله: " لا يهيج على التقوى " أي يفسد فيصير هشيماً، من قول الله عز وجل: " ثم يهيج فتراه مصفراً " الزمر: 21، الحديد: 20.
وقوله: سنخ أصل، يقال قلع سنه من سنخها، وقوله في الخبر بأغبار الفتنة يعني بقاياها، ويقال بفلان غبر من المرض أي بقايا، كما قال الشاعر:
فإن سألت عني سليمى فقل لها ... به غبر من دائه وهو صالح
وقوله: حتى إذا ارتوى من آجن، الآجن: الماء المتغير لركوده وطول وقوفه وكذلك الآسن، يقال: أسن الماء يأسن ويأسن وأجن يأجن ويأجن، قرأ ابن كثير غير أسن، مقصور الهمزة. وقيل في قوله تعالى: " فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنه " البقرة: 259 إنه من السنة أي لم تؤثر فيه السنون فتحيله وتغيره، ووصلوا بالهاء ووقفوا عليها إذ كانت فيه أصلاً، يقولون: بعته مسانهة ومساناة، فجعل من قرأ هكذا الهاء لام الفعل وأصلاً فيه، وأثبت الهاء فيه آخرون زائدة للسكت إذا وقفوا كقوله اقتده، وكقولهم: ارمه وتعاله وحذفوها في الوصل فقالوا: يتسن وانظر، وزعموا أنه من أسن الماء. وهذا التأويل عندنا غلط من متأوليه، وذهاب عن وجه الصواب فيه، ولو كان على ما توهموه لوجب أن يقال لم يتأسن لأن الهمزة فيه فاء الفعل. والسين عينه والنون لامه، وإشباع هذا في ما ألفناه من حروف القرآن معانيه. ومن الآجن قول عبيد بن الأبرص.
يا رب ماء آجنٍ وردته ... سبيله خائف جديب
ريش الحمام على أرجائه ... للقلب من خوفه وجيب
وقوله: خباط عشوات يعني الظلم. وهذا الفريق الذين وصفهم أمير المؤمنين من الجهلة الأراذل السفلة قد كثروا في زماننا وغلبوا على أهله واستعلوا على علمائه والربانيين فيه، وإلى الله المشتكى. وقد تظاهرت الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " إن الله لا يقبض انتزاعاً ينتزعه من الناس، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يبق عالم، اتخذ الناس رؤساء جهالاً فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا " .
ما أحوجك إلى محدرج
حدثنا محمد بن الحسن بن دريد قال أخبرنا عبد الأول بن مزيد السعدي قال حدثني أبو عدنان عن الهيثم بن عدي عن ابن عياش الهمداني قال: كان الشعبي إذا ابتدأ في حديث أحببت أن لا يقطعه من حسنه، قال: فإنه ليتحدث يوماً وعنده خنيس العلاك، قال: فقام خنيس فقال: ما أبغض إلي الفقيه يكون جيد الكلام، فقال الشعبي: من هذا؟ فقالوا: خنيس العلاك، قال: وما خنيس؟ قال: يبيع العلك، فأقبل عليه وقال: ويحك يا خنيس، ما أحوجك إلى محدرج شديد الإحصاد لين المهزة قد أخذ من عجب ذنب عود إلى مغرز عنقه فيوضع منك على مثل ذلك الموضع فتكثر له رقصاتك من غير جذل، قال: ما ذاك؟ قال: شيء لنا فيه أرب ولك فيه أدب.
شرح الغريب
قال القاضي: قوله: محدرج أي سوط محكم جيد الفتل كما قال الشاعر:
أخاف زياداً أن يكون عطاؤه ... أداهيم سوداً أو محدرجةً حمرا
وقوله: شديد الاحصاد أي قد أحكم واشتد، يقال حبل محصد أي موثق. وقوله: لين المهزة يصفه بالتثني إذا هز، كما قال الشاعر يصف رمحاً:
تقاك بكعب واحد وتلذه ... يداك إذا ما هز بالكف يعسل
وأما قوله: قد أخذ من عجب ذنب عود فإن العود البعير المسن، وعجب الذنب أصله، وهو العصعص، ويقال له القحقح. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: يبلى من ابن آدم كل شيء إلا عجب الذنب فإنه منه ركب وبدئ خلقه. وروينا عن الشعبي هذا من طريق آخر أنه قال في صفة السوط: يؤخذ من صليف العنق إلى عجب الذنب، وصليف العنق صفحته، ويقال: عجم الذنب في هذا بالميم، وهذا مما تعاقبت فيه الباء والميم كما قالوا ركمة سوء وركبة، وضربة لازب ولازم، في حروف كثيرة، قال الله تعالى: " إنا خلقناهم من طين لازب " الصافات: 11 ومن اللازب قول نابغة بني ذبيان:
ولا يحسبون الخير لا شر بعده ... ولا يحسبون الشر ضربة لازب
وقال كثير في الميم: ؟وما ورق الدنيا بباقٍ لأهله وما حدثان الدهر ضربة لازم وفي هذا لغة أخرى وهي لاتب بالتاء والباء، وهي لغة في قيس، وأنشد الفراء:
صداع وتوهيم العظام وفترة ... وغثي مع الأحشاء في الجوف لاتب
وأما قوله: من غير جذل فالجذل الفرح، يقال قد جذل الرجل يجذل جذلاً إذا سر وفرح، فأما الجذل بالإسكان فهو العود المنتصب، وفيه لغتان جذل وجذل، قال ذو الرمة:
ترى ذكر الحرباء فيها مصلياً ... على الجذل إلا أنه لا يكبر
إذا حول الظل العشي رأيته ... حنيفاً وفي قرن الضحى يتنصر
والحرباء دابة يقال للأنثى منها أم حبين، وهو يقف على العود مستقبل الشمس يدور معها حيث دارت، وقد اختلف في علة هذا، فقال قائلون: هذه دابة مقرورة تتبع الشمس لتستدفئ بها، وقال آخرون: بل تستضر بالشمس فتتقيه برأسها لأنه أقوى ما فيها، والقول الأول أشبه القولين بالصواب عندي.
وقوله: لنا فيها أرب أي حاجة، قال ذو الرمة:
والهم عين أثال ما ينازعه ... من نفسه لسواها مورداً أرب
قال القاضي: وإني لأستحسن قول أبي نواس:
كما لا ينقضي الأرب ... كذا لا يفتر الطلب
وهذا من أفصح الكلام وأوضحه وأعذبه، ولله در السابق إلى أصل هذا المعنى، القائل:
تموت مع المرء حاجاته ... وتبقى له حاجة ما بقي
قال القاضي: وقد روينا عن الشعبي من وجه آخر أنه أجاب خنيساً عن قوله: ما هذا؟ بأن قال: بعض الأمر وهذا جواب حسن بليغ مختصر، وإن كان كما أتت به الرواية موقعها من الحسن والبلاغة.
؟
المجلس الثاني والثمانون
وفد عند ملك الروم يباحثهم ويريهم صور الأنبياء
أخبرنا القاضي أبو الفرج المعافى بن زكريا الجريري، قال حدثنا الحسن ابن علي بن زكرياء العدوي أبو سعيد البصري قال حدثنا أحمد بن محمد المكي أبو بكر قال حدثنا محمد بن عبد الرحمن المديني عن محمد بن عبد الواحد الكوفي قال حدثنا محمد بن أبي بكر الأنصاري عن عبادة بن الصامت، وكان عقبياً بدرياً نقيباً، أنه قال: بعثني أبو بكر رضي الله عنه إلى ملك الروم يدعوه إلى الإسلام ويرغبه فيه، ومعي عمرو بن العاص بن وائل السهمي، وهشام بن العاص بن وائل السهمي وعدي بن كعب ونعيم بن عبيد الله النحام، فخرجنا حتى قدمنا على جبلة بن الأيهم دمشق، فأدخلنا على ملكهم بها الرومي، فإذا هو على فرش له مع الأسقف، فأجلسنا وبعث إلينا رسوله وسألنا أن نكلمه، فقلنا: لا والله لا نكلمه برسول بيننا وبينه، فإن كان له في كلامنا حاجة فليقربنا منه، فأمر بسلم فوضع ونزل إلى فرش له في الأرض فقربنا، فإذا هو عليه ثياب سود مسوح، فقال له هشام بن العاص بن وائل: ما هذه المسوح التي عليك؟ قال: لبستها ناذراً أن لا أنزعها حتى أخرجكم من الشام، فقلنا: قال القاضي: وذكر كلاماً خفي علي من كتابي معناه: بل نملك مجلسك وبعده ملككم الأعظم فوالله لنأخذنه إن شاء الله، فإنه قد أخبرنا بذلك نبينا صلى الله عليه وسلم الصادق البار، قال: إذاً أنتم السمراء، قلنا: وما السمراء؟ قال: لستم بها، قلنا: ومن هم قال: الذين يقومون الليل ويصومون النهار، قال فقلنا: نحن والله هم، قال فقال: وكيف صومكم وصلاتكم وحالكم؟ فوصفنا له أمرنا، فنظر إلى أصحابه وراطنهم وقال لنا: ارتفعوا، ثم علا وجهه سواد حتى كأنه قطعة مسح من شدة سواده، وبعث معنا رسلاً إلى ملكهم الأعظم بالقسطنطينية فخرجنا حتى انتهينا إلى مدينتهم، ونحن على رواحلنا علينا العمائم والسيوف، فقال لنا الذين معنا: إن دوابكم هذه لا تدخل مدينة الملك، فإن شئتم جئناكم ببراذين وبغال، قلنا: لا والله لا ندخلها إلا على رواحلنا، فبعثوا إليه يستأذنونه، فبعث إليهم أن خلوا سبيلهم، فدخلنا على رواحلنا حتى انتهينا إلى غرفة مفتوحة الباب، فإذا هو جالس فيها ينظر، قال: فأنخنا تحتها ثم قلنا: لا إله إلا الله والله أكبر، فيعلم الله لانتفضت حتى كأنها نخلة تصفقها الريح، فبعث إلينا رسولاً: إن هذا ليس لكم أن تجهروا بدينكم في بلادنا، وأمر بنا فأدخلنا عليه، فإذا هو مع بطارقته، وإذا عليه ثياب حمر، وإذا فرشه وما حواليه أحمر، وإذا رجل فصيح بالعربية يكتب، فأومأ إلينا فجلسنا ناحيته فقال لنا وهو يضحك: ما منعكم أن تحيوني بتحيتكم فيما بينكم؟ فقلنا: نرغب بها عنك، وأما تحيتك التي لا ترضى إلا بها فإنا لا يحل لنا أن نحييك بها، قال: وما تحيتكم فيما بينكم؟ قلنا: السلام، قال: فما كنتم تحيون به نبيكم؟ قلنا: بها، قال: فما كان تحيته هو؟؟ قلنا: بها، قال: فبم تحيون ملككم اليوم؟ قلنا: بها، قال: فبم يحييكم؟ قلنا: بها، قال: فما كان نبيكم يرث منكم؟ قلنا: ما كان يرث إلا ذا قرابة، قال: وكذلك ملككم اليوم؟ قلنا: نعم، قال: فما أعظم كلامكم عندكم؟ قلنا: لا إله إلا الله، قال: فيعلم الله لانتفض حتى كأنه طير ذو ريش من حسن ثيابه، ثم فتح عينيه في وجوههنا، قال فقال: هذه الكلمة التي قلتموها حين نزلتم تحت غرفتي؟ قلنا: نعم، قال: كذلك إذا قلتموها في بيوتكم تنفضت لها سقوفكم؟ قلنا: والله ما رأيناها صنعت هذا قط إلا عندك، وما ذلك إلا لأمر أراده الله تعالى، قال: ما أحسن الصدق! أما والله لوددت أني خرجت من نصف ما أملك وأنكم لا تقولونها على شيء إلا انتفض لها، قلنا: ولم ذاك؟ قال: ذلك أيسر لشأنها وأحرى أن لا تكون من النبوة وأن تكون من حيل ولد آدم، قال: فماذا تقولون إذا فتحتم المدائن والحصون؟ قلنا: لا إله إلا الله والله أكبر، قال: تقولون لا إله إلا الله والله أكبر ليس غيره شيء؟ قلنا: نعم، قال وتقولون: الله أكبر الله أكبر هو أكبر من كل شيء، قلنا: نعم، قال: فنظر إلى أصحابه فراطنهم ثم أقبل علينا فقال: تدرون ما قلت لهم؟ قلت: ما أشد اختلاطهم. ثم أمر لنا بمنزل وأجرى لنا نزلاً فأقمنا في منزلنا تأتينا ألطافه غدوة وعشيةً ثم بعث إلينا فدخلنا عليه ليلاً وحده ليس معه أحد، فاستعادنا الكلام فأعدناه عليه، ثم دعا بشيء كهيئة الربعة ضخمة مذهبة فوضعها بين يديه ثم فتحها فإذا فيها بيوت
صغار عليها أبواب، ففتح منها بيتاً فاستخرج منه خرقة حرير سوداء فنشرها، فإذا فيها صورة حمراء، وإذا رجل ضخم العينين عظيم الاليتين لم ير مثل طول عنقه في مثل جسده، أكثر الناس شعراً، فقال لنا: هل تدرون من هذا؟ قلنا: لا، قال: هذا آدم صلى الله عليه، ثم أعاده وفتح باباً آخر فاستخرج منه خرقة حرير سوداء فنشرها فإذ فيها صورة بيضاء، وإذا رجل أشعر كثير الشعر قال القاضي: أراه قال: ضخم العينين بعيد ما بين المنكبين عظيم الهامة فقال: هل تدرون من هذا؟ قلنا: لا، قال: هذا نوح عليه السلام، ثم أعادها في موضعها وفتح بيتاً آخر فاستخرج منه خرقة حرير خضراء، فإذا فيها صورة شديدة البياض، فإذا رجل حسن العينين شارع الأنف سهل الخدين أشيب الرأس أبيض اللحية كأنه حي يتنفس فقال: أتدرون من هذا؟ قلنا: لا، قال: هذا إبراهيم صلى الله عليه وسلم، ثم أعادها وفتح بيتاً آخر فاستخرج منه خرقة حرير خضراء فإذا فيها صورة محمد صلى الله عليه وسلم فقال: تدرون من هذا؟ قلنا: هذا محمد صلى الله عليه وسلم وبكينا، فقال: بدينكم أنه محمد؟ قلنا: نعم بديننا إنها صورته كأنما ننظر إليه حياً، قال: فاستخف حتى قام على رجليه قائماً ثم جلس فأمسك طويلاً فنظر في وجوهنا قال: أما إنه كان آخر البيوت ولكني عجلته لأنظر ما عندكم، فأعاده وفتح بيتاً آخر فاستخرج منه خرقة حرير خضراء فإذا فيها صورة رجل جعد أبيض قطط غائر العينين حديد النظر عابس متراكب الأسنان مقلص الشفة كأنه من رجال أهل البادية فقال: أتدرون من هذا؟ قلنا: لا، قال: هذا موسى صلى الله عليه وسلم وإلى جانبه صورة شبيهة به رجل مدور الرأس عريض الجبين بعينه قبل قال: أتدرون من هذا؟ قلنا: لا، قال: هذا هارون عليه السلام. وفتح بيتاً آخر فاستخرج منه خرقة حرير خضراء فنشرها فإذا فيها صورة بيضاء وإذا رجل شبه المرأة ذو عجيزة وساقين، وسأل قال: أتدرون من هذا؟ قلنا: لا، قال: هذا داود عليه السلام، فأعادها وفتح بيتاً آخر فاستخرج منه خرقة حرير خضراء فنشرها فإذا فيها صورة بيضاء، وإذا رجل أوقص قصير الظهر طويل الرجلين على فرس لكل شيء منه جناح، فقال: تدرون من هذا؟ قلنا: لا، قال: هذا سليمان وهذه الريح تحمله عليه السلام. ثم أعادها وفتح بيتاً آخر فيه حريرة خضراء، فنشرها فإذا فيها صورة بيضاء، وإذا رجل شاب حسن الوجه حسن العينين شديد سواد اللحية يشبه بعضه بعضاً فقال: أتدرون من هذا؟ قلنا: لا، قال: هذا عيسى بن مريم عليه السلام فأعادها وأطبق الربعة، قال قلنا: فأخبرنا عن قصة الصور ما حالها فإنا نعلم أنها تشبه الذين صورت صورهم فإنا رأينا نبينا صلى الله عليه وسلم يشبه صورته قال: أخبرت أن آدم عليه السلام سأل ربه أن يريه أنبياء بنيه فأنزل عليه صورهم فاستخرجها ذو القرنين من خزانة آدم في مغرب الشمس فصورها لنا دانيال في خرق الحرير على تلك الصور فهي هذه بعينها، أما والله لوددت أن نفسي طابت بالخروج من ملكي فتابعتكم على دينكم، وأن أكون عبداً لأسوئكم ملكة، ولكن نفسي لا تطيب، فأجازنا وأحسن جوائزنا وبعث معنا من يخرجنا إلى مأمننا فانصرفنا إلى رحالنا.صغار عليها أبواب، ففتح منها بيتاً فاستخرج منه خرقة حرير سوداء فنشرها، فإذا فيها صورة حمراء، وإذا رجل ضخم العينين عظيم الاليتين لم ير مثل طول عنقه في مثل جسده، أكثر الناس شعراً، فقال لنا: هل تدرون من هذا؟ قلنا: لا، قال: هذا آدم صلى الله عليه، ثم أعاده وفتح باباً آخر فاستخرج منه خرقة حرير سوداء فنشرها فإذ فيها صورة بيضاء، وإذا رجل أشعر كثير الشعر قال القاضي: أراه قال: ضخم العينين بعيد ما بين المنكبين عظيم الهامة فقال: هل تدرون من هذا؟ قلنا: لا، قال: هذا نوح عليه السلام، ثم أعادها في موضعها وفتح بيتاً آخر فاستخرج منه خرقة حرير خضراء، فإذا فيها صورة شديدة البياض، فإذا رجل حسن العينين شارع الأنف سهل الخدين أشيب الرأس أبيض اللحية كأنه حي يتنفس فقال: أتدرون من هذا؟ قلنا: لا، قال: هذا إبراهيم صلى الله عليه وسلم، ثم أعادها وفتح بيتاً آخر فاستخرج منه خرقة حرير خضراء فإذا فيها صورة محمد صلى الله عليه وسلم فقال: تدرون من هذا؟ قلنا: هذا محمد صلى الله عليه وسلم وبكينا، فقال: بدينكم أنه محمد؟ قلنا: نعم بديننا إنها صورته كأنما ننظر إليه حياً، قال: فاستخف حتى قام على رجليه قائماً ثم جلس فأمسك طويلاً فنظر في وجوهنا قال: أما إنه كان آخر البيوت ولكني عجلته لأنظر ما عندكم، فأعاده وفتح بيتاً آخر فاستخرج منه خرقة حرير خضراء فإذا فيها صورة رجل جعد أبيض قطط غائر العينين حديد النظر عابس متراكب الأسنان مقلص الشفة كأنه من رجال أهل البادية فقال: أتدرون من هذا؟ قلنا: لا، قال: هذا موسى صلى الله عليه وسلم وإلى جانبه صورة شبيهة به رجل مدور الرأس عريض الجبين بعينه قبل قال: أتدرون من هذا؟ قلنا: لا، قال: هذا هارون عليه السلام. وفتح بيتاً آخر فاستخرج منه خرقة حرير خضراء فنشرها فإذا فيها صورة بيضاء وإذا رجل شبه المرأة ذو عجيزة وساقين، وسأل قال: أتدرون من هذا؟ قلنا: لا، قال: هذا داود عليه السلام، فأعادها وفتح بيتاً آخر فاستخرج منه خرقة حرير خضراء فنشرها فإذا فيها صورة بيضاء، وإذا رجل أوقص قصير الظهر طويل الرجلين على فرس لكل شيء منه جناح، فقال: تدرون من هذا؟ قلنا: لا، قال: هذا سليمان وهذه الريح تحمله عليه السلام. ثم أعادها وفتح بيتاً آخر فيه حريرة خضراء، فنشرها فإذا فيها صورة بيضاء، وإذا رجل شاب حسن الوجه حسن العينين شديد سواد اللحية يشبه بعضه بعضاً فقال: أتدرون من هذا؟ قلنا: لا، قال: هذا عيسى بن مريم عليه السلام فأعادها وأطبق الربعة، قال قلنا: فأخبرنا عن قصة الصور ما حالها فإنا نعلم أنها تشبه الذين صورت صورهم فإنا رأينا نبينا صلى الله عليه وسلم يشبه صورته قال: أخبرت أن آدم عليه السلام سأل ربه أن يريه أنبياء بنيه فأنزل عليه صورهم فاستخرجها ذو القرنين من خزانة آدم في مغرب الشمس فصورها لنا دانيال في خرق الحرير على تلك الصور فهي هذه بعينها، أما والله لوددت أن نفسي طابت بالخروج من ملكي فتابعتكم على دينكم، وأن أكون عبداً لأسوئكم ملكة، ولكن نفسي لا تطيب، فأجازنا وأحسن جوائزنا وبعث معنا من يخرجنا إلى مأمننا فانصرفنا إلى رحالنا.
؟؟
تعليق القاضي على الخبر المتقدم
قال القاضي: قد كنا أمللنا هذا الخبر من طريق آخر، ومعاني الخبرين متقاربة، ولما حضرنا هذا الخبر من هذا الطريق رسمناه هاهنا، وقد تضمن ما يدل على صدق نبيناً صلى الله عليه وسلم وصحة نبوته على كثرة الأخبار والروايات فيه وشهادة الكتب السالفة مع تأييد الله جل اسمه إياه بالآيات التي أظهرها الله على يديه والأعلام الشاهدة له. وفي هذا الخبر عند ذكر داود عليه السلام وصفته بأنه ذو عجيزة وقد أنكر كثير من علماء الفقه أن يقال في الرجل: ذو عجيزة وذكروا أن هذا يقال في النساء خاصة دون الرجال، وذكروا أنه إنما يقال عجز فلان، وقد رأيت بعض أهل العلم قال في صفة الصلاة وما ينبغي للمصلي أن يكون عليه في صلاته: ويرفع عجيزته ولست أدري أهذا شيء وقع إليه من جهة اللغة أم ذكره لأنه وصف جملة المصلين ذكورهم وإناثهم وقد أتى في هذا الخبر ما وصفناه، والله أعلم بصواب ذلك.
براعة العجفاء المغنية
حدثنا محمد بن الحسن بن دريد قال أخبرنا أبو الفضل الرياشي عن محمد بن سلام قال: بلغني عن غرير بن طلحة الأرقمي قال، قال لي أبو السائب، وكان من أهل الفضل والنسك: هل لك في أحسن الناس غناء لا تسأمه قلت: نعم، وكان علي يومئذ طيلسان لي أسميه من غلظه وثقله مقطع الأزرار، قال: فخرجنا حتى جئنا الجبانة إلى دار مسلم بن يحيى الارت صاحب الخمر مولى بني زهرة فأذن لنا فدخلنا بيتاً طوله اثنا عشر ذراعاً في مثلها، وطول البيت في السماء ستة عشر ذراعاً، وفي البيت نمرقتان قد ذهب عنهما اللحمة وبقي السدى، وقد حشيتا بالليف، وكرسيان قد تفككا من قدمهما بينهما ثلاث وسائد، ثم طلعت علينا عجوز عجفاء كلفاء عليها قرقل هروي أصفر غسيل لم يجدد في الصبغ، وكأن وركيها في خيط من رسحها فقلت لأبي السائب: بأبي أنت من هذه؟ فقال: اسكت، فتناولت عوداً فضربت ثم غنت:
بيد الذي شعف الفؤاد بكم ... تفريج ما ألقى من الهم
فاستيقني أني كلفت بكم ... ثم افعلي ما شئت عن علم
قد كان صرم في الممات لنا ... فعجلت قبل الموت بالصرم
قال: فتحسنت في عيني، فتلاها نقاء وصفاء فأذهب الكلف عنها وزحف أبو السائب وزحفت معه، ثم تغنت:
برح الخفاء فأي ما بك تكتم ... ولسوف يظهر ما تسر فيعلم
مما تضمن من غرير قلبه ... يا قلب إنك بالحسان لمغرم
بل ليت أنك يا حسام بأرضنا ... تلقي المراسي طائعاً وتخيم
فتذوق لذة عيشنا ونعيمه ... ونكون إخواناً فماذا تنقم
فقال أبو السائب: إن نقم هذا فأعضه الله بكذا وكذا من أمه، ولا يكني. وزحفت مع أبي السائب حتى فارقنا النمرقتين، وربت العجفاء في عيني كما يربو السويق شيب بماء قربةٍ. ثم غنت:
يا طول ليلي أعالج السقما ... إذا حل كل الأحبة الحرما
ما كنت أخشى فراقكم أبداً ... فاليوم أمسى فراقكم غرما
قال غرير: فألقيت طيلساني مقطع الأزرار، وأخذت شاذكونة فوضعتها قال القاضي: أحسبه قال: على رأسي وصحت كما يصاح في المدينة: الدجر بالنوى، وقام أبو السائب فتناول ربعة كانت في البيت فيها قوارير ودهن فوضعها على رأسه، وصاح صاحب الجارية وكان ألثغ: قوانيني قوانيني، وحرك أبو السائب رأسه فاصطكت القوارير فتكسرت وسال الدهن على صدر أبي السائب وظهره وقال للعجفاء: لقد هجت لي داء قديماً، ثم وضع الربعة. فكنا نختلف إليها حتى بعث عبد الرحمن بن معاوية بن هشام بن عبد الملك من الأندلس فابتيعت له العجفاء وحملت إليه.
تفسيرات وتوضيحات
قال القاضي: قول الأرقمي في هذا الخبر اثنا عشر ذراعاً وستة عشرة ذراعاً على لغة من ذكر الذراع والتأنيث فيها أظهر، وإن كانت اللغتان فيها قد حكيتا.
أنشدنا في التأنيث محمد بن القاسم الأنباري قال أنشدنا أبو العباس عن سلمة عن الفراء:
أرقى عليها وهي فرع أجمع ... وهي ثلاث أذرع وإصبع
وحدثنا ابن الأنباري قال حدثني أبي عن محمد بن عبد الحكم عن اللحياني قال: الذراع والكراع يذكران ويؤنثان، قال: ولم يعرف الأصمعي التذكير فيهما. قال ابن الأنباري وحكى السجستاني عن أبي زيد أنه قال: الذراع يذكر ويؤنث، وقولهم هذا ثوب سبع في ثمانية، ذكروا ثمانية وأنثوا سبعاً لأنهم أرادوا سبع أذرع في ثمانية أشبار، والشبر مذكر فلذلك ألحقوا الهاء في ثمانية. وقال الفراء عند ذكره تأنيث الذراع: وقد ذكر الذراع بعض عكل فقال: الثوب خمسة أذرع وستة أذرع وخمس أذرع وست أذرع. وقوله: وفي البيت نمرقتان الواحدة نمرقة بضم النون والراء فيما حكى اللغويون وذكر الفراء أنه سمع بعض كلب يقول نمرقة بكسرهما وتجمع نمارق وهي الوسائد والمرافق، قال الله تعالى ذكره: " ونمارق مصفوفة " الغاشية: 15 ومن هذا قول امرأة من بني عجل في يوم ذي قار تحض قومها على قتال الأعاجم:
إن تقدموا نعانق ... ونفرش النمارق
أو تهزموا نفارق ... فراق غير وامق
وقلت على نحو هذا هند بنت عتبة:
نحن بنات طارق ... نمشي على النمارق
ونلبس اليلامق ... إن تقبلوا نعانق
أو تدبروا نفارق ... فراق غير وامق
ومن النمارق قول ذي الرمة:
كان فؤادي قلب جاني مخوفةٍ ... على النفس إذ يكسين وشي النمارق
قال القاضي: وفي تسمية الوسادة مرفقة وجهان: أحدهما أنه من الرفق والارتفاق بالشيء والانتفاع من مرافق الدار والأثاث، قال الله عز ذكره " ويهيئ لكم من أمركم مرفقاً " الكهف: 16 وقرئ مرفقا. وقالوا: قد ارتفق فلان بمال فلان وأرفقه صاحبه، وجاء في مرفق اليد مَرْفِق وَمِرْفَق أيضاً، تكسر الأدوات مثل مقطع ومخرز ومخيط، قال أمية بن أبي الصلت يخاطب سيف بن ذي يزن لما ظفر بالحبشة وأجلاهم عن اليمن:
فاشرب هنيئاً عليك التاج مرتفقاً ... في رأس غمدان داراً منك محلالا
وقيل لها وسادة لتوسدها، قال الأعشى:
إن كنت لا تشفين غلة عاشق ... كلف بحبك يا جبيرة صادي
فانهي خيالك أن يزور فإنه ... في كل منزلةٍ يعود وسادي
وقال الأسود بن يعفر:
نام الخلي وما أحس رقادي ... والهم محتضر لدي وسادي
قد يقال في الوسادة إسادة فتبدل الواو همزة استثقالاً لابتداء الكلمة بها كما قالوا: إشاح ووشاح ووجوه وأجوه، وحكي عن العرب سماعاً: ما أحسن هذه الأجوه، في كثير من الكلام، ومنه قول الشاعر:
يحل أحيده ويقال بعل ... ومثل تمولٍ منه افتقار
أصله وحيده. وهذا باب نأتي على شرحه وتفصيله وذكر جائزه وممتنعه وما هو مرسوم فيه، وقد قرأت عامة القرأة " وإذا الرسل أقتت " المرسلات: 11 وهو من الوقت، وقرأ أبو جعفر المدني وقتت بالواو والتخفيف، وقرأ أبو عمرو بالواو وقتت، عل الأصل أيضاً، غلا أنه شدده؛ وهم يكرهون كثيراً افتتاح الكلام بالواو، وخاصة إذا تكررت، وقالوا إن ذلك يشبه بنباح الكلاب، وقالوا في تصغير واصل أو يصل وفي جمعه أواصل فقلبوا الواو همزة، ويقولون حضر زيد وواصل فلا يقلبون لأن الواو زيدت للعطف كالفاء وثم وليست من سنخ الكلام في أصلها، ويقال فلان يتوسد القرآن وهذا يكون مدحاً بمعنى يجعله وسادة أي يتلوه مكان توسده إياه، ويكون ذماً أي ينام عن القيام به وتأدية الحق فيه. وجاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في رجل ذكر عنده: " ذاك رجل لا يتوسد القرآن " . وروي عن عدي بن حاتم أنه ذكر للنبي صلى الله عليه وسلم أنه جعل تحت وسادة خيطين أسود وأبيض فلم يبن له بذلك أمر الفجر، فقال له: إنك لعريض الوسادة، ويروى عنه أنه قال لعريض القفا، إنما هو بياض النهار من سواد الليل. فأما اشتقاق اسم المرفقة من المرفق فهو باب معروف مستمر، ألا ترى أنهم يقولون مخدة من الخد لأنه يوضع عند الاضطجاع عليها، ويقولون مصدغة من الصدغ، وقد يقولون مزدغة فيبدلون من الصاد زاياً لسكونها واتيان الدال تالية لها، وهذه لغة معروفة في العربية، وقد قرأ بعض القرأة بها في مواضع من القرآن كقوله يصدر ويصدقون وقصد السبيل. وقوله: قد ذهبت عنها اللحمة وبقي السدى، فاللحمة لحمة الثوب والسدى سداه، واللام هاهنا مفتوحة، فأما لحمة النسب فمضمومة وكذلك لحمة البازي والصقر وهو ما أطعمه إذا صاد. وقوله: من رسحها فإنه يقال منه: امرأة رسحاء ورجل أرسح إذا كان مؤخرهما من العجز وما والاه عارياً من اللحم. وقول غرير: وأخذت شاذكونة معناه وسادة، وهي عندي في الأصل فارسية تكلم بها من تكلم من العرب، وهي مشتقة من موضع الجلوس ويقال له بالفارسية كون وهذا من الباب الذي بينا الاشتقاق فيه كالمصدغة والمخدة. وقد فسر أبو عبيدة الزرابي في قول الله جل ثناؤه: " وزرابي مبثوثة " الغاشية: 16 فقال: هي البسط كما قال غيره من أهل التأويل والعربية، ثم قال: واحدها زربية ثم قال: والزرابي في لغة أخرى الشواذكين وأتى به على هذا اللفظ في الجمع. وقوله: الدجر بالنوى حكى بذلك نداء من يطوف بالدجر من باعته ويعرض بيعه بالنوى، كأنه يقول اشتروا الدجر بالنوى أو يعني الدجر يباع بالنوى، والدجر من أسماء اللوبيا، وله أسماء ذوات عدد: اللوبياء واللوبيا بالمد والقصر، وليا الواحدة لياءة، ويقال للجارية المستحسنة كأنها لياءة مقشورة، وروي عن بعضهم أنه قال: دخلت على معاوية وفي يده لياء مقشو أي مقشور ويقال له اللويباج والأحبل والحبيل والدجر.
ما بال العرب تطيل كلامها وأنتم تقصرونه
حدثنا يزداد بن عبد الرحمن قال حدثنا أبو موسى يعني تينة قال حدثنا العتبي عن أبيه عن أبي خالد عن أبيه قال: وفد محمد بن عطارد بن محمد إلى الحجاج في نيف وسبعين راكباً فاستزارهم عمرو بن عتبة فقال: يا أبا سفيان ما بال العرب تطيل كلامها وتقصرونه معاشر قريش؟ فقال عمرو: بالجندل يرمى الجندل، إن كلامنا كلام يقل لفظه ويكثر معناه ويكتفى بأولاه ويشتفى بأخراه، ويتحدر تحدر الماء الزلال على الكبد الحرى، ولقد نقص كما نقص غيره بعد أقوام والله أدركتهم كأنما جعلوا لتحسين ما قبحت الدنيا، سهلت لهم ألفاظهم كا سهلت لهم أنفاسهم، فصانوا أعراضهم وابتذلوا أموالهم حتى ما يجد المادح فيهم مزيداً، ولا العائب فيهم مطعناً، فلو احتفلت الدنيا ما تزينت إلا بهم، ولو نطقت ما افتخرت إلا بفعالهم، ولقد كان آل أبي سفيان مع قلتهم كثيراً منه نصيبهم، ولله در مولاهم حيث يقول:
وضع الدهر فيهم شفرتيه ... فمضى سالماً وأضحوا شعوبا
شفرتان والله وضعتا على من كان قبلهم فأفنت أبدانهم وأبقت أخبارهم، فأبقت حسناً في الدنيا ثوابه، وسيئاً في الدنيا عقابه وفي الآخرة أسوأ.
قال القاضي: قول عمرو بن عتبة في هذا الخبر من أبلغ كلام وأحسنه وكان قوله: فأفنت أبدانهم وأبقت أخبارهم مأخوذ من قول أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه في خبر كميل بن زياد النخعي وقد ذكر العلماء وفضله على المال وشرفه: مات خزان الأموال وهم أحياء والعلماء باقون ما بقي الدهر، أعيانهم مفقودة، وأمثالهم في القلوب موجودة. على أن فضل كلام أمير المؤمنين عليه السلام وجزالته وبهاءه وطلاوته وظهور تقدمه ومزيته بين، وإن كان هذا وقع لعمرو، لقد امتار علمه من معدن الحكم، واقتبس شريف الفائدة من الإمام الرباني العلم.
/المجلس الثالث والثمانون
حديث إذا أراد الله بقوم خيرا
ً
حدّثنا القاضي أبو الفرج المعافى بن زكريّا قال: حدّثنا أبي رضي الله عنه قال: حدّثنا محمد بن عبد بن عامر السعدي، قال: أخبرنا إسحاق بن إبراهيم الحنظلي أبو يعقوب، قال: أخبرنا عيسى بن يونس السبيعي عن عبد الرحمن بن زياد بن أنعم الأفريقي عن حيّان بن أبي جبلة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إذا أراد الله بقوم خيراً أكثر فقهاءهم وقلَّل جهّالهم، حتّى إذا تكلَّم العالم وجد أعواناً، وإذا تكلَّم الجاهل قهر، وإذا أراد الله بقوم سوءاً كثّر جهّالهم، وقلّل فقهاءهم، حتّى إذا تكلَّم الجاهل وجد أعواناً، وإذا تكلّم الفقيه قهر " .
قال القاضي: قد ورد عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم نظير ما أتى به هذا الخبر من طرقٍ كثيرة بألفاظٍ مختلفةٍ في صورها متّفقة في معانيها، وممَّا روي عنه صلى الله عليه وسلم في هذا الباب إخباره أنَّ من أشراط الساعة أن يرفع العلم ويظهر الجهل، وقد فشا هذا الأمر المنكر المذموم في زماننا وصار الجاهل فيه مقدَّماً متبوعاً، والعالم المتقدم في علمه مقصيّاً حتّى يتسرَّع إلى الفتيا في الدين والحكم بين المسلمين من لم يعن بدراسة الفقه، ولم يعرف بمجالسة أهله، ولا مجاثاة الخصوم فيما اختلف أيمة الفقه فيه، ومناظرتهم ومجاراتهم ومذاكرتهم. وسالت هذه الطائفة المضلَّلة المحتقرة المسترذلة بعض من قد اشتهر طلبه للعلم ومذاكرته واشتغاله بالنظر فيه واتّفاق أصحاب له يأخذون عنه ويرجعون إلى تلخيصه المشكل منه لاختلاط بعضهم ببعض، ومعاشرتهم بعضهم بعضاً، وممالأة كل فريق منهم صاحبه على ما يؤثره، ووقوف كلِّ حزبٍ منهم على ما يرغب عنه ذو الدين وينكره، فصاروا على الحد الذي قال في أهله مالك بن دينار: افتضحوا فاصطلحوا، وكما قال الشاعر: ؟؟؟؟؟؟؟؟ذهب الرجال المقتدى بفعالهم والمنكرون لكلَّ أمرٍ منكر
وبقيت في خلفٍ يزيِّن بعضهم ... بعضاً ليدفع معور عن معور
ولقد بلغني أنَّ رجلاً استفتى بعض أهل زماننا في شيءٍ بينه وبين خصمٍ له، فأفتاه بما فيه حجَّةٌ له فيما استفتاء عنه، وإنكاراً على خصمه ما حاول منازعته فيه، فلمّا ولَّى لقيه بعض أنسباء الخصم المستفتي عليه فأخذ صحيفة الفتيا من يده وأخبر المفتي أن ذلك أستفتاه المستفتي فيه شيءٌ همَّ الخصوم فيه، وما أفتى به ممَّا يكرهونه ويستضرُّون به، فارتجع الفتيا من صاحبها، وألحق بها ما عاد على فتياه الأولى فنقضها وقلبها عن جهتها. ولنا في هذا الفصل كلامٌ قد أثبته ووصلته بأبيات حضرتني، وأودعت ذلك كتابي المسمَّى " تذكير العاقلين وتحذير الغافلين " والأبيات:
تسالم القوم لمّا ... عادوا دعاة السَّلامه
تفاسدوا ثم أبدوا ... صلحاً بغير أستقامه
والصُّلح ما لم يهذب ... عداوةٌ مستدامه
وكلُّ ودٍّ سقيمٍ ... فمنتهاه النّدامه
أول من قال برح الخفاء
حدَّثنا محمّد بن الحسن بن دريد قال: أخبرني عمّي عن أبيه عن ابن الكلبي قال: كان أوّل من قال: " برح الخفاء " أن رجلاً من كندة يقال له صدّاد بن أسماء، وأسماء أمُّه، وهي امرأة من بني الحارث بن كعب، وكانت تحت صدّاد امرأةٌ من قومه كنديةٌ وامرأة من بني الحارث، وكان له من ابنة عمّه أربعة رجالٍ ولم يكن له من الحارثيّة ولد، فوقع على جارية سوداء فأحبلها، فلمّا تبيَّن حملها خاف امرأته، فأنكر ذلك في العلانيَّة وأقرَّ به في السرّ، وسمَّاه ثعلبة، وأشهد امرأته الحارثيَّة وأخاً له أنّ ثعلبة ابنه. فلمّا مات صدّاد أخبرت السوداء ابنها أنّه من صدّاد، فخرج الغلام حتَّى أتى ملكاً من ملوك اليمن، فذكر له أمره وأتاه بعمّه وامرأة أبيه فشهدا، فقالت الكنديّة: إنّما شهدا للعداوة، فبعث الملك إلى سطيح الكاهن و خبأ له دينارا؟ً بين قدمه ونعله، فلمّا دخل إليه قال:إنّي قد خبأت لك شيئاً فأخبرني به، فقال سطيح أحلف بالبلد المحرّم، والحجر الأصمّ، والليل إذا أظلم، والنهار إذا تبسّم، وبكلّ فصيحٍ وأعجم، لقد خبأت ديناراً بين نعلٍ وقدم؛ قال: فأخبرني مع من هو. قال: أحلف بالشهر الحرام، وبالله محيي العظام، وبما خلق من النّسام، إنه لتحت قدم الملك الهمام؛ قال: فأخبرني بم أرسلت إليك، قال: أرسلت إليّ تسألني عن ابن السوداء، ومن أبوه من الأباء، وقد برح الخفاء، وهو أول من قاله، وأبوه صدّاد بن أسماء، لا شك فيه ولامراء، فألحقه الملك بأبيه وورّثه.قال الملك: يا سطيح ألا تخبرني عن علمك هذا؟ قال:إنّ علمي ليس منّي، ولا بجزمٍ ولا تظنّي، ولكن أخذته من أخٍ لي جنيّ، قد سمع الوحي بطور سنّي. قال الملك: أرأيت أخاك هذا الجنّي، أهو معك لا يفارقك؟ قال: إنّه ليزول حيث أزول، ولا أنطق إلاّبما يقول، قال له الملك: فهل عندك من خبرٍ بما يكون تخبرنا به؟ قال: نعم، عندي خبرٌ طريف، شهركم هذا خريف، والقمر فيه كسيف، ويأتي غداً سحابٌ كثيف، فيملآ البرّ والريف، فكان كما قال.
؟
سطيح الكاهن
قال القاضي: أخبار سطيح كثيرة، وقد جمعها غير واحدٍ من أهل العلم، وكذلك أخبار غيره من الكهّان. والمشهور من أمر سطيح أنّه كان كاهناً، وقد أخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن نعته ومبعثه بأخبارٍ كثيرة، وقد روي أنّه عاش سبعمائة سنة وأدرك الإسلام فلم يسلم، وروي أنّه هلك عندما ولد النبيُّ عليه السلام وأخبر بذلك ابن أخته عبد المسيح بن حّيان بن بقيلة، وقد أوفده إليه كسرى أنوشروان لارتياعه من أمورٍ ظهرت عند مولد النبي صلى الله عليه وسلم، وأمره أن يسأل خاله سطيحاً عنها ويستعلم منه تأويلها، وذكر عبد المسيح أنّه أنبأه بذلك، ونعى إليه نفسه ثم قضى مكانه.
وروي لنا من بعض الطرق باسنادٍ الله أعلم به أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن سطيح فقال: نبيٌّ ضيَّعه قومه، وهو مشهورٌ عند العرب يذكرون سجعه وكهانته، ويضربون المثل بعلمه وصدقه فيما يخبر به. وقد قال الأعشى يذكر زرقاء اليمامة لما أخبرت أهل اليمامة برؤيتها ما رأت من مكانٍ بعيد لم يعلم آدميُّ أدرك مرئياً من مثل مداه، فلم يصدّقوها، فأتاهم العدوّ الذي أنذرتهم به فاستباحهم وخرب ديارهم:
ما نظرت ذات أشفارٍ كنظرتها ... حقّاً كما صدق الذّئبيُّ إذ سجعا
قالت أرى رجلاً في كفّه كتفٌ ... أو يخصف النعل لهفي أيةً صنعا
فكذَّبوها بما قالت فصبَّحهم ... ذو آل حسَّان يزجي الموت والشِّرعا
فاستنزلوا أهل جو من منازلهم ... واستخفضوا شاخص البنيان فاتضعا
قوله: " الذّئبي " يعني سطيحاً لأنّه من ولد ذئب بن حجن، وبسطيحٍ الذئبيّ كان يعرف، وقد قال له عبد المسيح بن أخته حين وفد عليه من عند كسرى:
بافاصل الخطَّة أعيت من ومن
أتاك شيخ الحيِّ من آل سنن
وأمّه من آل ذئب بن حجن
ولكلّ فصل ممّا ذكرنا أخبار وأنباء وقصص تأتي في أماكنها، إن شاء الله.
الثياب لا ترفع مكانة لابسها
حدثنا الحسين بن القاسم الكوكبي، قال حدَّثنا أبو سعيد الحارثي، قال حدّثنا العتبيُّ عن أبيه قال: دخل سالم بن عبد الله بن عمر على سليمان بن عبد الملك على سالمٍ ثيابٌ غليظة رثّة، فلم يزل سليمان يرحِّب به ويرفعه حتى أقعده معه على سريره، وعمر بن عبد العزيز في المجلس، فقال له رجل في أخريات الناس: أما استطاع خالك أن يلبس ثياباً فاخرةً أحسن من هذه ويدخل فيها على أمير المؤمنين؟ وعلى المتكلّم ثيابٌ سريَّةٌ لها قيمة، فقال له عمر: ما رأيت هذه الثياب التي على خالي وضعته في مكانك هذا، ولا رأيت ثيابك هذه رفعتك إلى مكان خالي ذاك.
قال القاضي: لقد أحسن عمر في جوابه، وأجاد في الذبِّ عن خاله، وقد أنشدنا ابن دريد في خبر ذكرته في غير هذا الموضع لبعض الأعراب:
يغايظونا بقمصانٍ لهم جددٍ ... كأنّنا لا نرى في السوق قمصاناً
ليس القميص وإن جدَّدت رقعته ... بجاعلٍ رجلاً إلاّ كما كانا
وأنشدنا أيضاً لأعرابي قصد باب بعض الملوك فحجبه الآذان وجعل يستأذن لغيره ممّن له بزّة:
رأيت آذننا يستام بزّتنا ... وليس للحسب الزّاكي بمستام
فلو دعينا على الأحساب قدَّمنا ... مجدٌ تليدٌ وجدٌ راجحٌ نام
ولقد أحسن الَّذي قال:
قد يدرك الشَّرف الفتى وإزاره ... خلقٌ وجيب قميصه مرقوع
وما أتى في هذا المعنى من مرسل الكلام وموزونه كثيرٌ جدّاً، وقد يأتي كثير منه في مجالسنا.
ولد عتبة بن مسعود
حدثنا محمّد بن القاسم الأنباري قال، أخبرنا أبو عيسى الختليّ قال، حدّثنا أبو يعلى السَّاجيّ قال، حدّثنا الأصمعيّ قال، حدّثنا أبو نوفل الهذلي عن أبيه قال: ولد عتبة بن مسعودٍ عبد الله وكان والياً لعمر بن الخطاب رضي الله عنه فولد عبد الله: عبيد اللَّه وعوناً وعبد الرحمن، فأما عبيد الله فكان من أفقه أهل المدينة وخيارهم، وكان أعمى، فمرَّ عليه عبد الله بن عمرو بن عثمان وعمر بن عبد العزيز فلم يسلِّما عليه، فأخبر بذلك فأنشأ يقول:
ولا تعجبا أن تؤتيا فتكلَّما ... فما حشي لأقوام شرّاً من الكبر
ومسَّا تراب الأرض منها خلقتما ... وفيها المعاد والمصير إلى الحشر
وروينا هذا الخبر من وجهٍ آخر وفيه من شعر عبيد الله زيادةٌ على أبياته هذه، وقد رسمنا ذلك في موضعه. وكان عبيد الله أحد السبعة من فقهاء المدينة الّذين جمع أبو الزناد ما جمع من فقههم. وأمّا عون بن عبد الله فكان من آدب أهل المدينة وأفقههم وكان مرجئاً فرجع عن ذلك وأنشأ يقول:
أوّل ما نفارق غير شكٍّ ... نفارق ما يقول المرجئونا
وقالوا مؤمنٌ من أهل جورٍ ... وليس المؤمنون بجائرينا
وقالوا مؤمنٌ دمه حلالٌ ... وقد حرمت دماء المؤمنيا
ثم خرج مع ابن الأشعث فهرب حيث هربوا، فأتى محمد بن مروان بنصيبين فأمّنه وألزمه ابنه، فقال له محمد: كيف رأيت ابن أخيك؟ قال: ألزمتني رجلاً إن بعدت عنه عتب، وإن أتيته حجب، وإن عاتبته صخب، وإن صاخبته غضب، فتركه ثم لزم عمر بن عبد العزيز وهو خليفة وكانت له منه منزلة. وخرج جريرٌ فأقام بباب عمر بن عبد العزيز فطال مقامه فكتب إلى عون بن عبد الله:
يا أيّها القارئ المرخي عمامته ... هذا زمانك إنّي قد مضى زمني
أبلغ خليفتنا إن كنت لاقيه ... أنّي لدى الباب كالمصفودا في قرن
وأمّا عبد الرحمن بن عبد الله فهو الّذي يقول:
تأثّل حبُّ عثمة في فؤادي ... فباديه مع الخافي يسير
صدعت القلب ثم ذررت فيه ... هواك فليط فآلتام الفطور
قال أبو بكر: ليط معناه ألصق. وضمَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم الحسن والحسين إليه وهو على المنبر وقال: إنَّ للولد لوطةً، يعني التصاقاً، بالقلب. وقال الشاعر:
سأحبس مالي على لذّتي ... وأؤثر نفسي على الوارث
وأسبق في المال سهمانهم ... وقول المعوِّق والرائث
قال أبو بكر: وزادني فيها أبي رحمه الله:
أعاذل عاجل ما أشتهي ... أحبُّ إليَّ من الّلابث
قال القاضي: الأبيات المنسوبة في هذا الخبر إلى عبد الرحمن بن عبد الله بن عتبة قد رويت لنا من غير وجه عن أخيه عبيد الله، وفيها زيادة وأنشدناها: تغلغل حبُّ عثمة.. والبيت الثاني.
تغلغل حيث لم يبلغ شرابٌ ... ولا حزنٌ ولم يبلغ سرور
شققت القلب ثم ذررت فيه ... هواك فليم فالتام الفطور
فليم من الالتئام وأصله بالهمز، وترك همزه لإقامة الوزن فصار مساوياً للفظ ليم من اللوم. وإن كان المعنيان مختلفين. وليط في هذا المعنى أيضاً وحكي هو أليط بقلبي، وحكي عن الفرّاء في قلبهم الواو ياءً أنّهم كرهوا أن يشبه الوجه المكروه. وأمّا قول عون بن عبد الله لمحمد بن مروان في ابنه: " إن بعدت عنه عتب، وإن أتيته حجب " فلي في مثله أبياتٌ من قصيدةٍ " أردّ بها على قصيدة كتب بها إليّ بعض رؤساء الزمان، وقد أستبطأ زيارتي وعاتبني في تأخُّري عنه وكنت أتيت داره فحجبت عنه، والأبيات:
إذا لم آت أزعجني العتاب ... وإن وافيت أخجلني الحجاب
وإنّي حاجبٌ قدري بهجري ... معززةً تذل لها الرقاب
ونعتي أحمر الكبريت عزَّاً ... وأصلي حين تكرمني التراب
فأن تنصف فأرضك مستقرّي ... وإن تظلم فمنزلي السحاب
وما قيل في هذا المعنى كثير، فممّا قيل فيه:
لمّا تنكرت في حجابك ... رغبت بالنّفس عن عتابك
فأن تزرني أزر وإمّا ... تقف ببابي أقف ببابك
واللَّه لا كنت في حسابي ... إلاّ إذا كنت في حسابك
الكلام الفصيح: لم يكن هذا في حسباني، أي في ظنّي، وليس يبعد أن يقال في حسابي أي فيما أعده وأحصيه واحسبه من الحساب. وممَّا أنشدناه أيضاً ورويناه في خبر مذكور في موضع آخر:
يا أيّها الحرُّ الكريم الكافي ... ليس الحجاب من آلة الأشراف
ولقلَّ من يأتي فيحجب مرّةً ... فيعود ثانيةً بقلبٍ صافي
واستقصاء هذا الباب يطول وقد أتينا منه بما فيه كفاية
المأمون والرجل المتحنط المتكفن
حدَّثنا أبو النّضر العقيلي قال، أخبرنا أبو القاسم النوشجاني قال، قال الحسن بن عبد الجبّار المعروف بالعرق: بينا المأمون في بعض مغازيه يسير مفرداً عن أصحابه ومعه عجيف بن عنبسة إذ طلع رجلٌ متحنّطٌ متكفّن، فلما عاينه المأمون وقف، ثم التفت إلى عجيف فقال: ويحك أما ترى صاحب الكفن مقبلاً يريدني، فقال له عجيف، أعيذك بالله يا أمير المؤمنين، قال: فما كذب الرجل أن وقف على المأمون، فقال له المأمون: من أردت يا صاحب الكفن وإلى من قصدت؟ قال: إيّاك أردت، قال: أو عرفتني؟ قال: لو لم أعرفك ما قصدتك، قال: أفلا سلَّمت عليَّ؟ قال: لا أرى السلام عليك، قال: ولم؟ قال: لإفسادك علينا الغزاة، قال عجيف: وأنا ألين مسَّ سيفي لئلاّ يبطئ ضرب عنقه، إذ التفت المأمون فقال: يا عجيف إني جائعٌ ولا رأي لجائع، فخذه إليك حتّى أتغدى وأدعو به، قال: فتناوله عجيفٌ فوضعه بين يديه، فلمّا صار المأمون إلى رحله دعا بالطعام، فلمّا وضع بين يديه أمر برفعه وقال: والله ما أسيغه حتّى أناظر خصمي، يا عجيف عليَّ بصاحب الكفن، قال: فلمَّا جلس بين يديه قال: هيه يا صاحب الكفن ماذا قلت؟ قال: قلت: لا أرى السلام عليك لإفسادك الغزاة علينا قال: بماذا أفسدتها؟ قال: باطلاقك الخمور تباع في عسكرك وقد حرَّمها الله عزّ وجل في كتابه، فأبدأ بعسكرك فنظِّفه، ثم اقصد الغزو، لماذا استحللت أن تبيح شيئاً قد حرَّمه الله كهيئة ما أحلّ الله عزّ وجلّ؟ قال: أو عرفت الخمر أنها تباع ظاهراً أو رأيتها؟ قال: لو لم أرها وتصحَّ عندي ما وقفت هذا الموقف، قال: فشيءٌ سوى الخمر أنكرته؟ قال: نعم، إظهارك الجواري في العماريّات، وكشفهنَّ الشعور منهنَّ بين أيدينا كأنهنَّ فلق الأقمار، خرج الرجل منّا يريد أن يهراق دمه في سبيل الله ويعقر جواده قاصداً نحو العدو، فإذا نظر إليهنَّ أفسدن قلبه وركن إلى الدنيا وانصاع إليها، فلم استحللت ذلك؟ قال: ما استحللت ذاك، وسأخبرك بالعذر فيه فإن كان صواباً وإلاّ رجعت. نعم قال:: شيء غير هذا أنكرته،؟ قال: نعم شيء أمرت به: تنهانا عن الأمر بالمعروف، قال: أما الذي يأمر بالمنكر فأّني أنهاه وأمّا الّذي يأمر بالمعروف فإنّي أحثّه على ذلك وأحدوه عليه. ثم قال: أفشيء سوى ذلك؟ قال: لا، قال: يا صاحب الكفن أمّا الخمر فلعمري لقد حرَّمها الله تعالى، ولكن الخمر لا تعرف إلاّ بثلاث جوارح: النَّظر والشمّ والذوق، أفتشربها أنت؟ قال: معاذ الله أن أنكر ما أشرب، قال: أفيمكن في وقتك هذا أن تقفنا على بيعها حتّى نوجّه معك من يشتري منها؟ قال: فمن يظهرها لي أو يبيعنيها وعليّ هذا الكفن؟ قال: صدقت. قال: فكأنّك إنما عرفتها بهاتين الجارحتين، يا عجيف عليَّ بقوارير فيها شراب. فانطلق عجيف فأتاه بعشرين قارورة فوضعها بين يديه في أيدي عشرين وصيفاً، ثم قال: يا صاحب الكفن، نفيت من آبائي الرّاشدين المهديّين إن لم تكن الخمر فيها، فإنّك تعلم أن الخمر من ستر الله على عباده، وإنّه لا يجوز لك أن تشهد على قومٍ مستورين إلاّ بمعاينة بيّنة وعلم، ولا يجوز لي أن آخذ إلا بمعاينة بيّنة وشاهدي عدلٍ.
قال: فنظر صاحب الكفن إلى القوارير، فقال له عجيف: أيّها الرجل لو كنت خمّاراً ما عرفت موضع الخمر بعينها من هذه القوارير، قال فقال له: هذه الخمر بعينها من هذه القوارير، فأخذ المأمون قارورة فذاقها ثم قطَّب ثم قال: يا صاحب الكفن انظر هذه الخمر، فتناول الرجل القارورة فذاقها فإذا خلّ ذابح، فقال: قد خرجت هذه عن حدِّ الخمر، فقال المأمون: صدقت إنّ الخلّ مصنوعٌ من الخمر لا يكون خلاًّ حتّى يكون خمراً، ولا والله ما كانت هذه خمراً قطّ، وما هو إلاّ رمّان حامض يعصر لي أصطبغ به من ساعته؛ قد سقطت الجارحتان وبقي الشمُّ، يا عجيف صيِّرها في رصاصيّات وأت بها، قال: ففعل، فعرضت على صاحب الكفن فشمَّها فوقه فوقع مشمه منها على قارورة فيها لبيختبج فقال: هذه فأخذها المأمون فصبها بين يديه وقال: انظر إليها كأنّها طلا قد عقدتها النّار، بل تقطع بالسكين، قد سقطت إحدى الثلاث التي أنكرت يا صاحب الكفن، ثم رفع المأمون رأسه إلى السماء فقال: اللّهمّ إنّي أتقرَّب إليك بنهي هذا ونظرائه عن الأمر بالمعروف. يا صاحب الكفن أدخلك الأمر بالمعروف في أعظم المنكر، شنَّعت على قومٍ باعوا من هذا الخلِّ ومن هذا النبيختج الّذي شممت فلم تسلّم. استغفر الله من ذنبك هذا العظيم وتب إليه. ما الثاني؟ قال: الجواري قال: صدقت، أخرجتهنّ أبقي عليك وعلى المسلمين، كرهت أن تراهنَّ عيون العدو والجواسيس في المعاريّات والقباب، والسجوف عليهنّ، فيتوهّمون أنّهنّ بنات وأخوات فيجدّون في قتالنا ويحرصون على الغلبة على ما في أيدينا حتّى يجتذبوا خطام واحدٍ من هذه الإبل يستقيدونكم بكل طريق إلى أن يتبيّن لهم أنهنّ إماء، فأمرت برفع الظلال عنهنّ وكشف شعورهنّ فعلم العدوُّ أنهنّ إماء نقي بهنَّ حوافر دوابنا لا قدر لهنّ عندنا؛ هذا تدبير دبَّرت للمسلمين، ويعزُّ عليَّ أن ترى لي حرمة، فدع هذا فليس هو من شأنك فقد صحَّ عندك أنّي في هذا مصيب وأنّك أنكرت باطلاً. أيّ شيء الثالثة؟ قال: ألأمر بالمعروف، قال: نعم أرأيتك لو أنك أصبت فتاةً مع فتى قد اجتمعا في هذا الفجّ على حديث ما كنت صانعاً بهما؟ قال: كنت أسألهما ما أنتما، قال: كنت تسأل الرجل فيقول: امرأتي، وتسأل المرأة فتقول: زوجي، ما كنت صانعاً بهما؟ قال: كنت أحول بينهما فأحبسهما، قال: حتّى يكون ماذا؟ قال: حتّى أسأل عنهما، قال: ومن تسأل عنهما؟ قال: كنت أسألهما من أين أنتما، قال: سألت الرجل من أين أنت فقال لك: أنا من أسبيجاب، وسألت المرأة: من أين أنت؟ فقالت: من أسبيجاب، ابن عمِّي، تزوّجنا وجئنا.
كنت حابساً الرجل والمرأة بسؤالك وتوهّمك الكاذب إلى أن يرجع الرسول من أسبيجاب فمات الرسول أو ماتا إلى أن يعود رسولك، قال: كنت أسأل في عسكرك هاهنا، قال: فلعلّك لا تصادف في عسكري هذا من أهل أسبيجاب إلاّ رجلاً أو رجلين فيقولان لك: لا نعرفهما على هذا النسب. يا صاحب الكفن ما أحسبك إلاّ أحد ثلاثة رجالٍ إمّا رجل مديون، وإمّا مظلوم، وإمّا رجل تأوّلت في حديث أبي سعيد الخدري في خطبة النبيّ صلى الله عليه وعلى آله قال: وروي الحديث عن هشيم وغيره، ونحن نسمع الخطبة إلى مغيربان الشمس إلى أن بلغ إلى قوله: " إن أفضل الجهاد كلمة حقٍّ عند سلطان جائر " فجعلتني جائراً، وأنت الجائر، وجعلت نفسك تقوم مقام الآمر بالمعروف، وقد ركبت من المنكر ما هو أعظم عليك، لا والله لا ضربتك سوطاً ولا زدت على تخرق كفنك، ونفيت من آبائي الراشدين المهديين لئن قام أحد مقامك هذا لا يقوم بالحجّة فيه إن نقصته من ألف سوطٍ ولآمرنَّ بصلبه في الموضع الذي يقوم فيه، قال: فنظرت إلى عجيف وهو يخرق كفن الرجل ويلقي عليه ثياب بياض.
؟شرح: انصاع قال القاضي رحمه الله: قوله في هذا الخبر: " وركن إلى الدنيا وانصاع إليها " يقال انصاع إذا أشنق في ناحية ومضى آخذاً فيها كما قال ذو الرمّة:
فانصاع جانبه الوحشيَّ وانكدرت ... يلحبن لا يأتلي المطلوب والطَّلب
وقال أيضاً:
رمى فأخطأ والأقدار غالبةٌ ... فانصعن والويل هجّيراه والحرب
وقال أيضاً:
فانصاعت الحقب لم تقطع صرائرها ... وقد نشحن فلا ريُّ ولا هيم
؟
المجلس الرابع والثمانون
حديث عثمان بن مظعون
قال القاضي أبو الفرج المعافى بن زكريّا الجريري، حدثنا إسحاق بن موسى بن سعيد أبو عيسى الهذيلي قال، حدّثنا أبو العبّاس القنطري قال، حدَّثنا آدم عن الهيثم بن عدي بن عباد المنقري وابن جبلة وأبي الوليد ابن أخي عليّ بن زيد بن جدعان قالوا: حدّثنا عليّ بن زيد بن جدعان عن سعيد بن المسيّب عن عثمان بن مظعون رضي الله عنه قال: شكوت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حديث النفس وما ألقى منها فقلت: يا رسول الله إنّي كرهت أن أحدث شيئاً حتّى أوامرك، وإنَّ نفسي تحدّثني بالاختصاء، قال: مهلاً يا عثمان إن اختصاء أمَّتي الصَّوم والصّلاة، قلت: وتحدّثني نفسي بالترهُّب في الجبال، قال: مهلاً يا عثمان فأنّ ترهُّب أمَّتي الجلوس في المساجد انتظاراً لصلاة، قال: قلت: يا رسول الله وتحدّثني نفسي بالسياحة، قال: مهلاً يا عثمان فإنّ سياحة أمّتي الحجُّ والعمرة والجهاد في سبيل الله، قال: قلت يا رسول الله، وتحدّثني نفسي أن أخرج ممّا أملك، فقال: مهلاً يا عثمان أمسك مالك ترحم المسكين واليتيم والفقير، فتطعمه كلَّ يوم فذاك أفضل، قال: قلت: يا رسول الله فتحدّثني نفسي أن أطلِّق خولة، فقال: مهلاً يا عثمان، فإن هجرة أمّتي من هاجر إليّ وأنا حيّ، أو زار قبري، أو مات يوم يموت وله امرأة أو امرأتان أو ثلاث أو أربع. قال: قلت يا رسول الله أمّا إذ نهيتني عن الطّلاق فإنَّ نفسي تحدّثني أن لا أغشى أهلي أبداً، قال: مهلاً يا عثمان، فإنّه ليس من أمّتي عبدٌ يغشى أهله أو ما ملكت يمينه فلم يصب في وقعته تلك ولداً إلاّ كان له وصيفٌ في الجنّة، وإن أصاب ولداً فمات ولده قبله أو بعده كان له فرطاً في الجنة، فإن مات قبل أن يبلغ الحلم كان رحمةً له وشفاعةً يوم القيامة. قال: قلت وتحدّثني نفسي أن لا آكل اللحم أبداً، فقال: مهلاً يا عثمان فإن أكل اللحم يجبني ولو وجدته كل يوم لأكلته ولو سألت ربي لأطعمنيه. قلت: وتحدثني نفسي أن لا أمسَّ الطيب أبداً، فقال: مهلاً يا عثمان فإن جبريل أمرني بالطيب غبّاً، وأمّا الجمعة فلا مترك لها، يا عثمان لا ترغبنَّ عن سنَّتي فمن رغب عن سنَّتي ثم لم يتب حتّى يموت ضربت الملائكة وجهه عن حوضي.
تعليق القاضي على الحديث
قال القاضي: في خبر عثمان ببن مظعون هذا عن النبي صلى الله عليه وسلم ما فيه إرشادٌ للنّاس إلى مصالحهم وإبانةٌ لإصابة القصد في معايشهم ومتصرّفاتهم في شرائع دينهم، والتقلب فيما أبيح لهم من أسباب دنياهم. وحقيق على من أحسن الاختيار لنفسه وآثر صلاح أحواله واستقامة أموره أن يجعل ما أرشد إليه النبيّ صلى الله عليه وسلم أمّته وآثره لهم وأشار به عليهم إمامه الذّي يأتم به، ودليله الذي يتبعه، ومنهاجه الّذي يتقيَّله ويستحكم رجاؤه نيل العواقب الّتي وعدها النبيّ صلى الله عليه وسلم من امتثل أمره ورجع عمّا تسوّله له نفسه إلى ما دعاه إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ورغَّبة فيه.
معنى الفرط
وقول النبي صلى الله عليه وسلم في ولد الوالد يموت كان له فرطاً: الفرط السَّابق المتقدّم كأنه يقول إنّه يتقدَّم أباه سابقاً له إلى الجنّة منتظراً له. وقد جاء في الخبر عن النبيّ صلى الله عليه وسلم في الطفل أنّه يظلّ بباب الجنّة يقول: لا أدخل حتّى يدخل أبواي.
وروي عنه أنّ السقط يكون بباب الجنّة كذلك. وأصل الفروط التقدّم، يقال للَّذي يتقدَّم القوم في مسيرهم لارتياد الماء وإعداده لهم هو فارط القوم، قال الشاعر:
فاستعجلونا وكانوا من صحابتنا ... كما تعجَّل فرّاطٌ لورَّاد
وقال آخر:
فأثار فارطهم حماماً جثَّما ... أصواتها كتراطن الفرس
وقال العجَّاج:
ومنهلٍ وردته التقاطاً ... لم ألق إذ وردته فرَّاطاً
إلاّ الحمام الورق والغطاطا
والأرق الَّذي يشبه لونه لون الرَّماد، ويقال بعيرٌ أورق وحمامة ورقاء، والجميع ورقٌ، مثل أحمر وحمر وأزرق وزرق، والغطاط ضرب من القطا.
وقال الله عزَّ وجلَّ حاكياً عن نبيّه موسى وهارون عليهما السلام " قالا ربنا إننّا نخاف أن يفرط علينا أو أن يطغى " طه:45 المعنى أن يسبق إلينا من بوادر فرعون ما نكرهه. ويقال: فرط من فلانٍ كلام سوء أي سبق وبدر. ويقال في دعاء المصلّين على من مات من أطفال المسلمين: اللّهمّ اجعله لنا فرطاً، أي سابقاً لنا إلى الجنّة ينتظرنا. وروي أن النبي صلى الله عليه وعلى آله قال لمّا دفن عثمان بن مظعون: هذا قبر فرطنا، وإنّه وضع حجراً عند رأسه، وكان أوّل من دفن في بقعةٍ ارتادها رسول الله صلى الله عليه وعلى آله من بقيع الغرقد، وإنّه إذا مات الميّت بعده قيل: يا رسول الله أين ندفنه؟ يقول: عند فرطنا عثمان بن مظعون. وروي عن عبد الله بن أبي بكر بن عمرو بن حزم أنّ أوَّل من دفن بالبقيع أسعد بن زرارة، قال الواقدي: هذا قول الأنصار، والمهاجرون يقولون أوَّل من دفن بالبقيع عثمان بن مظعون. وقال تعالى: " لا جرم أنَّ لهم النّار وأنَّهم مفرطون " النحل:62. هكذا قول أكثر القراء في معنى أنّهم مقدّمون إليها يعجّلون. وقرأ أبو جعفر المدني وأنَّهم مفرِّطون، بكسر الرّاء وتشديدها على وصفهم بالتفريط، وهو الإضاعة لما فيه نجاتهم، يقال فرَّط فلان في أمره إذا أهمله وأضاع الأخذ بالحزم فيه، ومن ذلك قول لبيد بن ربيعة العامري:
أقضي اللبانة لا أفرِّط ريبةً ... أو أن يلوم بحاجةٍ لوَّامها
وقيل: إنّ هذا في الأصل من الباب الَّذي قدّمنا ذكره، وفسر معناه بأنّه أراد لا أقدّم شكّاً ولا ادع ريبةً تتقدّمني. وقرأ نافع: " وأنّهم مفرطون " بكسر الرّاء وتخفيفها من الإفراط، يقال أمرٌ مفرط، وقد أفرط الإنسان وغيره إذا تجاوز الحدّ وصار بذلك مفرطاً. وقد يرجع هذا إلى الأصل الَّذي قدّمنا القول فيه وكأنّه بدر وسبق إلى تجاوز الحدّ فصار بذلك مفرطاً. وقد جاء عن النبيّ صلى الله عليه وعلى آله أنّه قال: " أنا فرطكم على الحوض " أي السابق لكم إليه منتظراً ورودكم عليه.
مصعب بن الزبير وابن ظبيان
حدَّثنا محمَّد بن الحسن بن دريد قال: أخبرنا أبو حاتم عن أبي عبيدة وأخبرنا الاشنانداني عن التّوزي عن أبي عبيدة قال: قتل مصعب بن الزبير نابي بن ظبيان أحد بني عابس بن مالك، وكان أخوه عبيد الله فاتكأ، فنذر أن يقتل به مائةً، فقتل ثمانين وختمهم بمصعب، وأنشأ يقول:
يرى مصعبٌ أنّي تناسيت نابياً ... وبئس لعمر الله ما ظنَّ مصعب
قتلت به من حيِّ فهر بن مالك ... ثمانين منهم ناشئون وشيَّب
وكفِّي لهم رهنٌ بعشرين أو يرى ... عليَّ مع الإصباح نوحٌ مسلَّب
أأرفع سيفي وسط بكر بن وائلٍ ... ولم أرو سيفي من دمٍ يتصبّب
فوالله لا أنساه ما ذرَّ شارقٌ ... وما لاح في داجٍ من الليل كوكب
وثبت عليه ظالماً فقتلته ... فقصرك منه يوم شرٍّ عصبصب
وجاء بالرأس إلى عبد الملك فهمَّ عبد الملك ساجداً فأراد أن يقتله ثم قال:
هممت ولم أفعل وكدت وليتني ... فعلت فكان المعولات أقاربه
ثم خاف عبد الملك فلحق بعمان، فجاء إلى سليمان بن سعيد بن جعفر بن... قال:... مكانه وتذمَّم أن يقتله، فدسَّ إليه نصف بطيخة قد سمَّها وقال: هذا أوَّل ما رأيناه من البطّيخ، فلمَّا أكلها أحسَّ بالموت، ودخل إليه سليمان يعوده فقال: ادن منّي أيّها الأمير أسرّ إليك شيئاً فقال: قل ما بدا لك فليس في البيت غيري وغيرك، فمات هناك.
التسمية بالمصدر مثل نوح وكرم
قال القاضي: قول عبد الله أخي نابي " مع الإصباح نوحٌ مسلَّب " أراد النساء، وقال: " نوح " وفيه وجهان: أحدهما أنّه وصفهما بالنياحة فقال: نوحٌ، وسمَّاهنَّ بالمصدر مثل زور وفطر وصوم، وهذا باب مشهور واسع، ومنه قول الشاعر:
لقد زاد الحياة إليَّ حبَّاً ... بناتي إنّهنَّ من الضّعاف
مخافة أن يذقن البؤس بعدي ... وأن يشربن رنقاً بعد صاف
وأن يعرين إذ كسي الجواري ... فتنبو العين عن كرمٍ عجاف
فسمَّاهنَّ بالمصدر، ومن قال هذا قال " كرم " في الواحد والواحدة والاثنين والاثنتين، فلم يثنّ ولم يجمع ولم يؤنّث، ومن أتى فيه بالاسم ذكَّر وأنَّث وثنَّى وجمع، ومثله خصم وخصمان وخصوم وخصماء وخصمات عند قصد الاسم، وخصمٌ في التذكير والتأنيث والتثنية والجمع على مذهب المصدر، قال الله تعالى " " وهل أتيك نبأ الخصم إذ تسوَّروا المحراب " ص:29 وقال: " هذان خصمان اختصموا في ربِّهم " الحج: 19 قيل نزلت في المؤمنين والمشركين، وقيل نزلت في المتبارزين يوم بدر، ويقال فلانة خصم فلان، وبنو فلان خصم فلان وخصومه، على ما ذكرنا من مذهبي العرب فيه: وقال " خصمان " أراد فريقين وحزبين، وقال " اختصموا " لأنّ تحت كلِّ فريق جماعة، قال الله تبارك وتعالى: " سنفرغ لكم أيّها الثقلان " الرحمن: 31 ومن هذا قول القطامي:
ألم يحزنك أنَّ حبال قيسٍ ... وتغلب قد تباينتا أنقطاعا
والوجه الثاني في قوله " نوحٌ " أراد النّساء المتقابلات، يقال: الشّجر والمنازل تتناوح أي تتقابل.
وقال الشّاعر:
فلو أنَّها طافت بطنبٍ معجَّمٍ ... نفى الرقَّ عنه جدبه فهو كالح
لجاءت كأنَّ القسور الجون بجَّها ... عساليجه والثَّامر المتناوح
يريد المتحاذي المتقابل. قوله: " بطنب معجم " يريد أن ما فيه مما يحمل الثمرة من نفيهن وما جرى مجراه، معجم أي قد أسرع فيه بالعض والأكل. يقال: عجمت العود أعجمه عجماً إذا عضضته، ويقال عجمت العود لأعرف صلابته؛ ومن كلام الخاصة: عجمته وخبرته، يشيرون إلى هذا المعنى، فقلبته العامة وصحَّفته فقالوا: عجنته وخبزته، وقصدوا هذا المعنى وأتوا بلفظٍ مشاكل، وإن كانوا أحالوا الكلام عن أصله. وحكي لي عن أبي العباس محمد بن يزيد النحوي أنه قال: ما رأيت قارئاً صحف في تلاوة القرآن تصحيفاً متشاكلاً كإنسان قرأ: بل عجنت ويخبزون، لتشاكل العجن والخبز، وأحسبه عزا هذه الحكاية عن ابن الراوندي. وقول هذا الشاعر: نض الرق عنه جدبه الرق الورق ها هنا والحدب ضد الخصب وقوله: " فهو كالح " أي كريه المنظر لجدوبته. يقال: فلان كالح الوجه إذا كان عابساً باسراً.
وقوله: " لجاءت كأنّ القسور الجون " القسور: الشجر، وقيل: إنّه شجرٌ بعينه، وقيل في قول الله جل جلاله: " فرَّت من قسورة " " المدثر:51 " أي من الأسد، وقالوا: هذا من أسمائه، وقال قائلون: هذا من لغة الحبشة. قالوا: وهو بالعربية، أسد وبالنبطية أريا، وبالفارسية شير، وبالحبشيّة قسورة، وقيل: عنى به الشجر لأن الحمر فرَّت منه لما عاينت جماعته، " وقيل: بل عنى بذلك الرماة " وقيل: إنه عنى به ظلمة الليل. وقوله " الجون " وصفه بالسواد الذي يدلّ على الريّ من شدة الخضرة. وقد قيل في قوله جل ثناؤه " مدهامَّتان " " الرحمن: 64 " خضراوان من الريّ. وقيل إن أرض السواد سميت بهذا لكثرة الخضرة بها. وقيل إن الجون من حروف الأضداد، وأنه يقال للأبيض جون وللأسود جون، ومما أتى منه في معنى الأبيض قول الشاعر:
يبادر الجونة أن تغيبا
يعني الشمس. وقد يقال لكلّ واحدٍ من بياض النهار وسواد الليل جون، قال الشاعر:
غيَّر يا بنت الحليس لوني ... مرُّ الليالي واختلاف الجون
وسفرٌ كان قليل الأون
وأشرك في هذه الصفة بين الليل والنهار. وقوله: " بجّها عساليجه " أراد فتقها بالسمن، " وعساليجه " أغصانه، واحدها عسلوج وعسليج.
تجز ذؤابتيها للجهاد
حدَّثنا الحسين بن القاسم الكوكبيّ قال: حدَّثنا أبو عكرمة الضبيّ قال: حدّثنا العتبيّ عن أبيه قال: سبا الروم نساءً مسلماتٍ فبلغ الخبر الرقّة وبها الرشيد ومنصور بن عمّار هناك، فقصّ منصور يحضُّ على الغزو، فإذا خرقةٌ مصرورةٌ مختومة قد طرحت إلى منصور، وإذا كتاب مضمومٌ إلى الصرّة فقرأه فإذا فيه: إنّي امرأةٌ من بيوتات العرب، بلغني ما فعل الروم بالمسلمات، وبلغني تحضيضك على الغزو، فعمدت إلى أكرم شيء في بدني عليّ، وهما ذؤابتاي، فجززتهما وصررتهما في هذه الصرّة المختومة، فأنشدك بالله العظيم لما جعلتهما قيد فرس غازٍ في سبيل الله، فعلَّ الله ينظر إليَّ نظرةً على تلك الحال فيرحمني، فبلغ ذلك الرشيد فبكى ونادى النفير.
تعليق القاضي على الخبر
قال القاضي: قد أتت هذه المرأة بما دلّ على خلوص دينها و صحَّة يقينها، وغضبها لربّها، وغيرتها على أهل ملّتها، وامتعاضها عندما بلغها من انتهاك أعداء الله محارمه التي حرَّمها، واستخفافهم بحدود الإسلام الّتي عظّمها، وقصدت بما أتته من جزّها ذؤابتيها التقرُّب إلى خالقها ورجاء مغفرته لها، والله يحقّق برأفته وسعة رحمته رجاءها، ويغفر لنا ولها، ولم تقصد بما فعلته الأمر الّذي حرِّم عليها فيؤثمها، فقد جاء عن النبيّ صلى الله علي وسلم أنّه لعن الغارفة وهي التي تجزُّ ناصيتها عند المصيبة، وإلى الله نرغب في أن يجعلنا ممّن يغضب له ويحام عن دينه ويوالي ويعادي فيه، بتوفيقه.
لم كثر في جنازة الحسن البصري
حدَّثنا محمّد بن القاسم الأنباري قال، حدّثنا محمّد بن أحمد المقدّمي قال، حدثنا زيد بن أخرم قال، حدثنا الأصمعي قال، حدّثنا مبارك بن فضالة عن ثابت البناني قال: انصرفت من جنازة الحسن فقلت لبنتي: والله ما رأيت جنازةً قطُّ اجتمع فيها من الناس مثل ما اجتمع فيها، وإن كان الحسن لأهلاً لذلك، فقالت لي: يا أبة ما ذاك إلاّ لستر الله عليه، فصغرت واللَّه نفسي.
سليمان والمارد
حدثنا عبيد الله بن محمّد بن جعفر الأزدي قال، حدّثنا أبو بكر بن أبي الدنيا قال، حدثنا المفضّل بن غسّان قال، حدّثنا وهب بن جرير قال، حدّثني أبي قال: سمعت عبد الله بن عبيد بن عمير قال: بعث سليمان بن داود إلى ماردٍ من مردة الجنّ كان في البحر فأتي به، فلمّا كان عند باب داره أخذ عوداً فشبره بذراعه ثم رمى به من وراء الحائط، فقال سليمان: ما هذا؟ فأخبر بالّذي صنع المارد، فقال: تدرون ما أراد؟ قالوا: لا، قال: فإنّه يقول اصنع ما شئت فإنّما تصير إلى مثل هذا من الأرض.
عهد أبي بكر إلى عمر
حدَّثنا أحمد بن العبّاس العسكري قال، حدَّثنا عبد الله بن أبي سعد قال، حدَّثنا أبو إبراهيم إسحاق بن ابراهيم بن أبي بن سالم بن عبد الله بن عمر بن الخطّاب قال: سمعت جدّي أبا بكر بن سالم قال: لمَّا حضر أبا بكر رضي الله عنه الموت أوصى: بسم الله الرحمن الرحيم، هذا عهد أبي بكر الصدّيق عند آخر عهده بالدنيا خارجاً منها، وأوّل عهده بالآخرة داخلاً فيها، حيث يؤمن الكافر ويتّقي الفاجر ويصدق الكاذب، أنّي استخلفت من بعدي عمر بن الخطّاب فإن قصد وعدل فذلك ظنّي به، وإن جار وبدَّل فالخير أردت، ولا أعلم الغيب، وسيعلم الّذين ظلموا أيَّ منقلب ينقلبون. ثم بعث إلى عمر فدعاه فقال: يا عمر أبغضك مبغضٌ وأحبَّك محبّ، وقدماً يبغض الخير ويحبُّ الشرّ، قال: فلا حاجة لي فيها، قال: ولكن لها بك حاجة، قد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحبته ورأيت أثرته أنفسنا على نفسه حتى إن كنّا لنهدي لأهله فضل ما يأتينا منه، ورأيتني وصحبتني فإنّما اتبعت أثر من كان قبلي، والله ما نمت فحلمت، ولا شبهت فتوهَّمت، وإنّي لعلى طريقي ما زغت. تعلَّم يا عمر أنّ الله تعالى حقّاً في اللّيل لا يقبله في النهار، وحقاً في النهار لا يقبله في الليل، وإنّما ثقلت موازين من ثقلت موازينه يوم القيامة باتباعهم الحق، وحق لميزان أن يثقل لا يكون فيه إلاّ الحق، وإنما خفت موازين من خفَّت موازينه يوم القيامة باتباعهم الباطل، وحقّ لميزان أن يخف لا يكون فيه إلاّ الباطل. إن أوّل من أحذرك نفسك وأحذّرك النّاس فإنّهم قد طمحت أبصارهم وانتفجت أجوافهم، وإن لهم لحيزة عن زلَّة تكون، فإيّاك أن تكونه فإنّهم لن يزالوا خائفين لك فرقين منك ما خفت من الله وفرقته، وهذه وصيّتي، وأقرأ عليك السَّلام.
قال القاضي: لقد أحسن الصدّيق رضوان الله عليه الوصيّة ومحض النصيحة، وبالغ في الاجتهاد للأمّة، وأنذر بما هو كائنٌ بعده، فوجد على ما قال، وحذر ممّا يوتغ الدين ويقدح في سياسة أمير المسلمين، بأوجز قول وأفصحه، وأحسن بيان وأوضحه، وأوصى لعمر، وكان ولله كافياً أميناً شحيحاً على دينه ضنيناً، فصدَّق ظنَّه به وحقَّق تأميله وتقديره فيه، فانقادت الأمور إليه، واستقامت أحوال الأمّة على يديه، وعدَّلت الشدّة واللّين في رعاياه، وعدل في أحكامه وقضاياه، والله يشكر له حسن سيرته، ويجزل ثوابه على العدل في بريّته، إنّه وليُّ المؤمنين ومفيض إحسانه على المحسنين.
كيف يصف أبو بكر نفسه بالصدّيق
فإن قال لنا قائل: ما وجه وصف أبي بكر نفسه في هذا الخبر بأنّه الصدّيق، وكيف استجاز إطلاق هذا النّعت على نفسه، وفيه تزكيةٌ وتعظيم لا يصف الألباء بها أنفسهم، وإن كانت ثابتةً فيهم وكان النّاس يضيفونها إليهم ويثنون بها عليهم، قيل له: في هذا وجهان، أحدهما أن يكون الكاتب أثبته من قبل نفسه ولم يكن من أبي بكر رضوان الله عليه ذكرٌ له، كما يملُّ المملُّ شيئاً على غيره فيجري فيه ذكره فيصله الكاتب بتقريظه والدعاء له، والوجه الثاني أن يكون أبو بكر استجاز هذا لأنّه قد اشتهر به واستفاض إلحاقه بتسميته، ألا ترى إلى قول الشاعر يعنيه:
سمِّيت صدّيقاً وكلّ مهاجر ... سواك يسمَّى باسمه غير منكر
وقوله في الخبر: " ما نمت فحلمت " فإنّه يقال: حلم في نومه، كما قال الشاعر:
حلمت بكم في نومتي فغضبتم ... ولا ذنب لي أن كنت في النوم أحلم
وحلم عن خصمه كما قال الآخر:
حلمت عن السفيه فظنَّ أنّي ... عييت عن الجواب وما عييت
وحلم الاديم إذا فسد، كما قال الآخر:
فإنّك والكتاب إلى عليٍّ ... كدابغةٍ وقد حلم الأديم
دخول عبد الملك بن صالح على جعفر بن يحيى
في مجلس منادمة
حدَّثنا أبو عبد الله الحسين بن القاسم الكوكبي قال، حدّثنا العبّاس بن الفضل الربعي قال، حدّثنا إسحاق الموصلي قال: كان جعفر بن يحيى يقول لإخوانه: لا يشغلني عنكم إلاّ ما يشغلني عن نفسي، فإذا تخلَّيت من الخدمة فإليكم راجع، فإنَّ السّلطان لا يبقى لي، وأنتم تبقون لي ما بقيت لكم. تعالوا نتفرّج يومنا هذا، فنتضمّخ بالخلوق، ونلبس ثياب الحرير، ونفعل ونفعل. فأجابه إخوانه وصنعوا ما صنع، وتقدَّم إلى حاجبه في حفظ الباب إلاّ من عبد الملك بن بجران كاتبه، فوقع في أذن الحاجب عبد الملك.
وبلغ عبد الملك بن صالح مقام جعفر في منزله، فركب فوجد الحاجب عبد الملك قد حضر، فقال: يؤذن له وهو يظنّه ابن بجران، فدخل عبد الملك في سواده ورصافيته، فلمّا رآه جعفر اسودَّ وجهه، وكان عبد الملك لا يشرب النبيذ، وهو كان سبب موجدة الرشيد عليه. فوقف عبد الملك ودعا غلامه فناوله قلنسوته وسواده وقال: افعلوا بنا ما فعلتم بأنفسكم، ففعل ودعا برطلٍ فشرب وقال: جعلني الله فداك، والله ما شربته قبل اليوم فإن رأيت أن تأمر بالتخفيف لي، فدعا برطليّة فوضعت بين يديه، وجعل كلّ ما فعل من ذلك شيئاً سرِّي عن جعفر، فلمَّا أراد الانصراف قال له جعفر: سل حاجتك مما تحيط به مقدرتي مكافأةً لما صنعت. قال: إنّ في قلب أمير المؤمنين هنةً فتسأله الرضى عنّي رضى صرفاً، قال: قد رضي عنك، قال: عليَّ أربعة آلاف ألف درهم ديناً فيقضيها عنّي، قال: والله إنّها عندي لحاضرة ولكن تقضى من مال أمير المؤمنين فإنّه أنبل لك وأحبُّ إليك، قال: وإبراهيم ابني أحبُّ أن أشدَّ ظهره بصهرٍ من أولاد الخلافة، قال: قد زوَّجه أمير المؤمنين ابنته العالية، قال: وأحبّ أن يخفق اللواء على رأسه، قال: قد ولاَّه أمير المؤمنين بلاد مصر.
وانصرف عبد الملك ونحن نتعجَّب من إقدام جعفر على قضاء حوائجه من غير استئذان، وقلنا: لعلّه يجاب إلى ما سأل فكيف بالتزويج؟ فلمّا كان من الغد وقفنا بباب الرشيد، ودخل جعفر فلم يلبث أن دعا بأبي يوسف القاضي ومحمّد بن الحسن وإبراهيم بن عبد الملك، فخرج إبراهيم وقد خلع عليه وعقد له وزوِّج وحملت البدر إلى منزل عبد الملك، وخرج جعفر فأشار إلينا باتباعه ثم قال لنا: تعلَّقت قلوبكم بأوّل أمر عبد الملك فأحببتم علم آخره، إنّي لما دخلت على أمير المؤمنين سألني عن خبري فأخبرته حتّى انتهيت إلى خبر عبد الملك فجعل يقول: أحسن والله، أحسن والله، فقال: هذا ما صنع فماذا صنعت أنت به؟ فأخبرته أنّي حكّمته فاحتكم، فضمنت له قضاء حوائجه، فقال: أحسنت ودعا بما رأيتم حتّى استتمّ له كلُّ ما سأل.
المجلس الخامس والثمانون
الرسول يتجر لخديجة
حدَّثنا القاضي أبو الفرج المعافى بن زكريا بن يحيى الجريري إملاءً من لفظه قال، حدَّثنا عبد الباقي بن قانع قال، حدّثنا محمّد بن زكريّا قال، حدَّثنا شعيب بن واقد قال، حدّثنا الحسين بن زيد عن عبد الله بن حسن بن حسن عن أمّه فاطمة بنت الحسين عن عمّتها زينب عن عبد الله بن جعفر قال: كان أبو طالب قد تبّنى النبيَّ صلى الله عليه وسلم، ثم إنّ أبا طالب أملق وخفَّ ما بيده، فقال للنبي صلى الله عليه وسلم: يا محمّد إن خديجة توجِّه غلامها ميسرة في تجارةٍ إلى الشام، فأكلِّمها لك فتخرج معه، قال: افعل يا عمّ، فجاء معه إلى خديجة فكلَّمها، فكانت تعطي كلَّ رجل بعيراً، فخرج مع ميسرة، فأصاب ميسرة ضعفي ما كان يصيب من الربح، ثم قدما، ووقع حبُّه في قلب ميسرة، فلمَّا قربوا من مكّة قال له ميسرة: يا محمّد إنَّ خديجة تعطي كلَّ أجيرٍ بعيراً إ ذا ذهب إليها يبشّرها بقدومنا، فأذهب فإنّها ستعطيك بعيرين، ففعل. وكانت خديجة قد قدَّرت قدومهم فجلست في مشربةٍ لها ومعها نسوةٌ من قريش ينتظرون قدومهم، إذ نظرت فإذا رجلٌ على بعيرٍ مقبلٌ على رأسه سحابةٌ تظلُّه من الشمس تسير معه، فجعلت تنظر إليه، وقالت للنسوة: هل تنظرن ما أنظر؟ قلن: نرى رجلاً مقبلاً على بعير، قالت: فما ترين على رأسه؟ قلن: ما نرى شيئاً، فوقع في قلبها أنّه شيء خصَّت به، فلمّا قرب منها تبيّنته ثم نزلت، فاستأذن عليها فأخبرها بكثرة ربحهم، فقالت: يا محمّد إنّي كنت أعطي كلَّ أجيرٍ بعيراً وقد أعطيتك بعيرين بحمليهما فاذهب بهما إلى منزلك، ففعل ذلك النبي صلى الله عليه وسلم ثم أتاها وقد دخل ميسرة فسألته عن النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ما رأيت مثله أحسن صحبةً ولا أعظم بركةً، ما مددنا أيدينا إلى شيء إلاّ نلناه، فوقع في قلبها. ثم خلت برسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا محمّد: يا محمّد أما لك أربٌ في النساء؟ قال: بلى ولكن ليس لي مال، قالت: فهل لك أن تزوَّج بي؟ قال: وتفعلين؟ قالت: نعم، قال: أستأذن عمّي، قالت: فاستأذنه، قال: فجاء إلى عمِّه فأخبره فقال: يا محمّد إنّ خديجة أيِّم قريش وأكثرهم مالاً، وأنت يتيم قريشٍ ولا مال لك، ولكنَّها قالت لك هذا على العبث، فقال: ما قلت لك إلاّ ما قالت لي، قال: إنّك لصادق.
ثم إنّ أبا طالب بعث امرأةً من أهله إلى منزل خديجة ليعلم ذلك، فذهبت ثم أتته فقالت: يا أبا طالب ما تعثر بشيءٍ إلاّ قالت: لا شقيت يا محمّد، وما تعجب من شيء إلاّ قالت: لا شقيت يا محمّد. فمضى معه أبو طالب وحمزة والعبّاس ومن حضر من عمومته حتّى أتى أباها فأستأذن عليه، فأذن له وتنحَّى له عن مجلسه، قال أبو طالب: أنت أولى بمجلسك، قال: ما كنت لأجلس إلاّ بين يديك، قال: فيم قصدت؟ قال: في حاجةٍ لمحمّد، قال: لو سألني محمّد أن أزّوجه خديجة لفعلت فما أحدٌ أعزُّ عليَّ منها، قال: فما جئناك إلاّ لنخطبك خديجة على محمّد، قال: فتكلَّم، فقال: إن محمداً هو الفحل لا يقرع أنفه، ثم تكلّم أبو طالب فخطب، فأخذ بعضادتي الباب ومن شاهده من قريش حضور، ثم قال: الحمد لله الّذي جعلنا من زرع إبراهيم وذريَّة إسماعيل، وجعل لنا بيتاً معموراً وحرماً آمناً تجبى إليه ثمرات كلِّ شيء، وجعلنا الحكَّام على النّاس في مولدنا الّذي نحن فيه، ثم إن ابن أخي محمّد بن عبد الله بن عبد المطلّب لا يوزن برجل من قريش إلاّ رجح به، ولا يقاس بأحدٍ منهم إلاّ عظم عنه، وإن كان في المال قلةٌ فإنّ المال رزقٌ جاءٍ وظلٌّ زائل، وله في خديجة رغبة ولها فيه رغبة، والصَّداق ما سألتم، عاجله وآجله من مالي، وله خطرٌ عظيم وشأن شائع جسيم. فزوَّجه ودخل بها من الغد، فأوّل ما حملت ولدت عبد الله بن محمّد صلى الله عليهم أجمعين.
أولاد الرسول من خديجة
حدَّثنا عبد الباقي قال، حدّثنا محمّد قال: حدثنا العبّاس بن بكار قال، حدّثني محمد بن زياد والفرات بن السائب عن ميمون بن مهران عن ابن عبّاس قال: ولدت خديجة من النبيّ صلى الله عليه وسلم عبد الله بن محمّد، ثمَّ أبطأ عليه الولد من بعده، فبينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يكلّم رجلاً والعاص بن وائل ينظر إليه إذ قال له رجلٌ: من هذا؟ قال: هذا الأبتر، يعني النبيَّ صلى الله عليه وسلم، فكانت قريش إذا ولد للرجل ثم أبطأ عليه الولد من بعده قالوا: هذا الأبتر. فأنزل الله عز وجلّ: " إنّ شانئك هو الأبتر " " الكوثر:3 " : أي: مبغضك هو الأبتر الذي بتر من كلّ خير.
ثم ولدت له زينب، ثم ولدت له رقيَّة، ثم ولدت له القاسم، ثم ولدت له الطّاهر، ثم ولدت له المطهَّر، ثم ولدت له الطيِّب، ثم ولدت له المطيّب، ثم ولدت له أمَّ كلثوم، ثم ولدت فاطمة، وكانت أصغرهم صلوات الله عليهم.
وكانت خديجة إذا ولدت ولداً دفعته إلى من يرضعه، فلمَّا ولدت فاطمة لم يرضعها أحدٌ غيرها.
قال القاضي: في هذا الخبر ما دلَّ على نبوّة النبيّ صلى الله عليه وسلم، وبديع آياته، ورفيع منزلته، وعظيم بركته، وثبوت حجَّته، ومن سعادة خديجة ما وفِّقت له من تكرمته وإيثاره وتقدمته، وما اتّفق لها من الشّرف بزوجيّته، والحظوة بالمخالطة له ثم تصديقه والمسارعة إلى الإيمان به واتباعه على دينه بعد أن تمكَّن عندها من تظاهر الأخبار عن نبوّته، والتبشير بنجومه ودعائه إلى ربّه وتبليغ شريعته، والوعد بثوابه والتوعدّ بعقابه، وما تقدَّم من إلقاء ورقة بن نوفل إليها وتقرير من أمره عندها صلوات الله عليه وسلامه ورضوان الله وسلامه عليها.
الأيّم والناكح
قال القاضي: قول أبي طالب: " إنّ خديجة أيّم قريش " الأيم في كلام العرب: من لا زوج له من رجلٍ أو امرأة كما قال جميل:
أحبُّ الأيامى إذ بثينة أيّمٌ ... وأحببت لمّا أن غنيت الغوانيا
وقالت صفيّة بنت عبد المطّلب تخاطب ابنها الزبير:
وجربت آباد الدّهور عليكم ... وأسماء لم تشعر بذلك أيِّم
وقال آخر:
لله درُّ بني عل ... يٍّ أيّمٍ منهم وناكح
وقال آخر:
فإن تنكحي أنكح وإن تتأيّمي ... وإن كنت أفتى منكم أتأيَّم
ويروى: يد الدهر ما لم تنكحي أتأيّم. وهو معروف كثير. والأيم بالتخفيف الحيّة. وقال الله عزّ وجلَّ في الأيامي: " وانكحوا الأيامي منكم والصَّالحين من عبادكم " " النور: 32 " يريد من لا زوج لها من نسائكم؛ ومن الأيامى أيضاً قول الشّاعر:
إنَّ القبور تنكح الأيامى ... والنسوة الأرامل اليتامى
والمرء لا ينقى له سلامى
ومعنى هذا أنّ الموت إذا أتى على الرّجال وأفنى أكارمهم أنكح بناتهم ووليّاتهم من يقصر عن أحسابهنّ وليس بكفؤ لهن.
النقي والرّير
وقوله: " لا تنقى له سلامى " أي: من هو قليل الخير أو لا خير فيه، وشبَّه ذلك بالمخ فكأنّه يقول: من ليس في سلامياته من قوائمه مخ وهو النِّفي، كما قال الشاعر:
أرار الله نفسك في السُّلامى ... على من بالحنين تعوّلينا
ويقال: إن آخر ما يبقى من النقي في السُّلامى والعين كما قال الشاعر:
لا يشتكين ألماً ما أنقين ... ما دام فيهنَّ سلامى أو عين
ويروى ما دام نقي في سلامى أو عين. معنى: أرار: أذاب، ويقال: للمخّ الرقيق ريرٌ، ورارٌ، لإنّه يرق عند الهزال، قال ابن السكّيت: وزعم القنانيُّ أنّه الرَّرير بفتح الرَّاء، وأنشد:
والسَّاق منّي باديات الرَّير
قال ويقال: باردات الرَّير، وقال الفرّاء: رير ورير ورار، وقال بعض اللغويّين: باردات لا غير مكان باديات، يقال فلان بارد العظام إذا كان مهزولاً كما قال الشاعر:
الأبيضان أبردا عظامي ... القتُّ والماء بلا أدام
وحدَّثنا أبو عمرو عن ثعلب قال: فسألت ابن الأعرابي: ما تقول؟ قال: العرب تقول فلان بارد العظام إذا كان مهزولاً، وفلان حارُّ العظام إذا كان سميناً ممخّاً. والقتُّ حبٌّ أبيض يشبه الجاورس يختبر ويؤكل. وزعم محمّد بن الحسن أنّ من وصَّى لأيامى بني فلان فوصيّته لثيبهم دون أبكارهم، وهذا خطأ ظاهر لما ذكرناه و وصفناه. واحتجّ له بعض أصحابه بأنّه حمل هذا على عرف النّاس، وليس الأمر على ما وصفه لأن عرف الخاصّة هو ما قدّمنا ذكره، وأمّا العامّة فلا تعرف هذا أصلاً ولا علم لها به. ومن النقي قول الكميت: جزُّ ذي الصوف وانتقاءٌ لذي المخَّة وانعق ودعدعن بالبهام وروي أنّ ممَّا أمر النبيُّ صلى الله عليه وسلم أن تقصى في الأضاحي العجفاء التي لا تنقي،أي لامخّ لها. والسلامى عظام القوائم.
هو الفحل لا يقرع أنفه
وقول خويلد بن عبد العزّى أبي خديجة: " إن محمداً الفحل لا يقرع أنفه " أنّ العرب إذا نزا الفحل من الإبل وليس من كرائمها على ناقة كريمة قرعوا أنفه طرداً له عنها ورغبة عنه بها،وإذا كان فيهم فحل كريم لم يدفعوه عن الضراب في إبلهم ولم يقرعوا أنفه. فقالوا في الكريم النجيب من النّاس: لا يقرع أنفه، أي يرغب فيه ولا يرد عن حاجةٍ لدناءته ولؤمه، فوصف أبو خديجة رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذه الصّفة التّي هو أحقّ النّاس بها. وقول أبي طالب: " وإن كان في المال قلة " المشهور من الرواية: وإن كان في المال قلُّ، وهو القلة والضيق، والعرب تقول: الحمد لله على القلّ والكثر، أي على قليل الرزق وكثيره، وقال الشاعر:
قد يقصر القلُّ الفتى دون همِّه ... وقد كان لولا القلُّ طلاَّع أنجد
وقال لبيد:
كلّ بني حرَّةٍ قصارهم ... قلٌّ وإن أكثرت من العدد
إن يغبطوا يهبطوا وإن أمروا ... يوماً يصيروا للقلِّ والنَّكد
ويقال: هو قلّ بن قل، وضل بن ضلٍ، إذا كان " لا يعرف أباه و " لا يعرف أبوه.
؟
هو أبتر
وأما قول العاص بن وائل - فضَّ الله فاه، وقبَّحه وأخزاه، وأبعده وأقصه - في النبي صلى الله عليه وسلم الّذي اختاره الله واصطفاه وأكرمه واجتباه، ورفع قدره وأعلاه، إنّه " أبتر " على ما كانت العرب تقوله في من لا ولد له يذكر به بعده هو أبتر، أي منقطع الذّكر، فحسب نبيّنا صلى الله عليه وسلم قول الله جلّ ذكره في كتابه: " ورفعنا لك ذكرك " " الشرح:4 " . وقال في عدوّه وعدوّ رسوله: " إنَّ شائنك هو الأبتر " " الكوثر:3 " ،فوسمه الله عز وجل بهذه السّمة التي لا ترحض ولا تغسل، ولا تمحى ولا تبدل، كما وسم أبا جهل بهذه الكنية على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم فصارت عيباً لازماً، وعاراً واقعاً به دائماً، حتّى كان مما قيل فيه من الشعر المتضمّن لهذا الّذي وسم به:
النّاس كنّوه أبا حكمٍ ... والله كنَّاه أبا جهل
ومما يحقُّ لذوي الألباب أن ينعموا التفكر فيه قول الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم: " ورفعنا لك ذكرك " " الشرح:4 " . جاء في التفسير: لا أذكر إلا ذكرت معي. ألا ترى أن الشهادة له بالرسالة مقرونة بالشهادة لله عزَّ وجل بالربوبية، فلن يدخل أحدٌ الإسلام إلا بهما، وأنه يذكر في الليل والنهار، والغدوّ والآصال، ويكرَّر ذكره في الأذان وإقام الصلاة والإمامة لها على ترادف الساعات وتتابع الأوقات، وأن آدم عليه السلام الذي كلُّ آدميٍّ ولده إنما يذكر في الأحيان والإبّان بعد الإبّان وفي الفينة بعد الفينة عندما يعرض من ذكره أو تلي من القرآن ما تقتصُّ فيه قصته، وهذا مما فكرت فيه واستخرجته وما علمت أحداً سبقني إليه ولا تقدَّمني في استنباطه.
نصيب لا ينشد الشعر يوم الجمعة
حدثنا محمد بن الحسن بن دريد قال، أخبرنا العكلي عن ابن الكلبي عن عوانة، عن رجلٍ من قريش من ساكني الكوفة قال: قدم نصيب الكوفة فوجَّهني أبي إليه، وكان له صديقاً، فقال: أبلغه عني السلام وقل له: يقول لك أبي إن رأيت أن تهدي إليَّ شيئاً من قولك فعلت. فأتيته في يوم جمعة وهو يصلّي، فأمهلت حتى قضى صلاته ثم أقرأته السلام وأديت إليه الرسالة، فردَّ وأحسن ثم قال: قد علم أبوك أني لا أنشد الشعر في يوم الجمعة، ولكن تعود ويكون ما تحبّ، فلما ذهبت لأنصرف دعاني فقال لي: أتروي الشعر؟ قلت:
نعم، قال: فأنشدني لجميل فأنشدته:
إني لأحفظ سرَّكم ويسرُّني ... لو تعلمين بصالحٍ أن تذكري
ويكون يوماً لا أرى لك مرسلاً ... أو نلتقي فيه عليَّ كأشهر
يا ليتني ألقى المنية بغتةً ... إن كان يوم لقائكم لم يقدر
يقضي الديون وليس ينجز عاجلاً ... هذا الغريم لنا وليس بمعسر
فقال: لله دره، والله ما قال أحدٌ إلاّ دون قوله، ولقد ترك لنا مثالاً يحذى عليه، أما أصدقنا في شعره فجميل، وأما أوصفنا لربّات الحجال فكثيّر، وأما كذبنا إذا قال الشعر فعمر، وأما أنا فأقول ما أعرف.
سمرة الخارجي والحجاج
حدثنا إسماعيل بن إبراهيم بن إسماعيل أبو بكر الناقد بسرَّ من رأى سنة ثلاث وعشرين وثلاثمائة قال، حدثنا العنبريّ قال، حدثنا قاسم بن محمد بن عباد قال، حدثني أبي قال، حدثني الشرقي بن القطامي قال: كان سمرة بن الجعد من قعد الأزارقة، غير أنه لم يكن يعرف بذلك، وكان قد وقعت له من الحجاج منزلةٌ حتى كان يدخله في سمره، فلما سار قطريّ بن الفجاءة إلى جيرفت كتب إلى سمرة بن الجعد يعيّره مقامه عنهم وركونه إلى الدنيا، وكان في كتابه إليه:
لشتَّان ما بين ابن جعدٍ وبيننا ... إذا نحن رحنا في الحديد المظاهر
نجالد فرسان المهلَّب كلُّنا ... صبورٌ على وقع السيوف البواتر
وراح يجرُّ الخزَّ نحو أميره ... أميرٍ بتقوى ربِّه غير آمر
أبا الجعد أين الحلم والعلم والتقى ... وميراث آباءٍ كرام العناصر
ألم تر أن الموت لابدَّ نازلٌ ... ولا بدَّ من بعث الألى في المقابر
حفاةً عراةً والثواب لديهم ... فمن بين ذي ربحٍ وآخر خاسر
فسر نحونا إنَّ الجهاد غنيمةٌ ... تفدك ابتياعاً رابحاً غير بائر
فلما قرأ كتابه لحق بهم وكتب إلى الحجاج:
فمن مبلغ الحجاج أنَّ سميرةً ... قلى كلَّ دينٍ غير دين الخوارج
قال القاضي: يجوز " كلَّ دين غير " خفضاً ونصباً، الخفض على الصفة لدينٍ والنصب على الصفة لكلّ وعلى الاستثناء.
رأى الناس إلا من رأى مثل رأيهم ... ملاعين ترَّاكين قصد المخارج
فإنّي امرؤأي يا ابن يوسفٍ ... ظفرت به لو نلت علم الولائج
إذاً لرأيت الحقَّ منه مخالفاً ... لرأيك إذ كنت امرءاً غير فالج
فأقبلت نحو الله بالله واثقاً ... وما كربتي غير الإله بفارج
إلى قطريٍّ في الشراة معارجاً ... ولست إلى غير الشّراة بعارج
إلى عصبة أما النهار فانهم ... هم الأسد أسد البأس عند التهايج
وأما إذا ما الليل جنَّ فانهم ... قيامٌ كأنواح النساء النواشج
ينادون بالتحكيم لله إنهم ... رأوا حكم عمروٍ كالرياح الهوائج
وحكم ابن قيسٍ قبل ذاك فأعصموا ... بحبلٍ شديد الفتل ليس بناهج
تفسير الولائج وفالج وناهج
قال القاضي: قوله " علم الولائج " أي الدخائل من ولج أي دخل، قال الله عز وجل: " ولم يتخذوا من دون اللَّه ولا رسوله ولا المؤمنين وليجةً " " التوبة: 16 " أي دخلةً يستبطنونها تخالف ما يظهرونه من إيمانهم، وقوله: " غير فالج " أي غير مصيب ظافر فائز قد فلجت حجَّته. وأما قوله: " كأنواح النساء " فقد فسَّرناه في مجلسٍ قبل هذا. وأما: " ليس بناهج " أي ليس ببالٍ مخلق، يقال: قد أنهج البرد وغيره من الثياب إذا صار كذلك، كما قال سحيم عبد بني الحسحاس.
وما زال بردي طيباً من ثيابها ... إلى الحول حتى أنهج البرد باليا
خطبة لعمر بن عبد العزيز
حدثنا إبراهيم بن محمد بن عرفة الأزدي عن ابن أخت أبي الوزير عن المدائني قال: خطب عمر بن عبد العزيز الناس بخناصرة فقال، بعد أن حمد الله عز وجل وأثنى عليه: أيها الناس إنما الأمان عند الله غداً لمن باع قليلاً بكثير، فنظر امرؤ لنفسه وحاسبها في يومه قبل غده، فإن السعيد منكم من وعظ بغيره والسلام.
بين المؤلف وجمال
قال القاضي: رأيت شيخاً جمّالاً بالنهروان سنة ست عشرة وثلاثمائة بيده خطام بعيرٍ يقوده وهو يترنَّم بأبيات، فاستحسنت إنشادها وهششت له، فقربت منه فقلت له: ما اسمك؟ قال: خصيب، قلت: ابن من أنت؟ فانتسب إلى أبٍ نسيت اسمه، فقلت له: هل كتبت شيئاً من العلم والأدب أم عندك شيءٌ من الحديث؟ فقال: قد سمعت كثيراً، فقلت: أتحفظ منه شيئاً تملّه عليّ، وكان معظم حرصي على ذلك من أجل اسمه، فقال لي: كتبت مما ذكرت شيئاً كثيراً ولم يبق عندي منه شيء، وما أحفظ مما سمعته شيئاً إلا هذه الأبيات التي تسمعني أترنَّم بها، فإن شيخاً بخراسان أملاها عليَّ وزعم أنها لأبي العتاهية.
فسألته إملاءها عليَّ، فأنشدني، ثم وجدتها فيما يعزى إلى أبي العتاهية م الشعر وهي:
يا ربّ سلمٍ أضرَّ من حرب ... ورب عذرٍ أشدَّ من عتب
ورب بعدٍ به عن الذنب يك ... في المرء من لومه عن الذنب
وربما كان في التبسم والإقبا ... ل ما لا يكون في الضَّرب
وربَّ عزٍّ في حال مخمصة ... ورب ذلٍّ في الأكل والشرب
وربما كانت الملالة إف ... راطاً شديداً من وامق صبّ
ورب ذي بغية يعاجله ... من قبلها صرعةٌ على الجنب
وربما دارت المنية في القو ... م كدور العقار في الشَّرب
يا صوراً نقّلت إلى الترب بالموت كما صوِّرت من الترب
تجري إلينا بالرفع والخفض ... والجزم على ذا الإنسان والنصب
منتظراً نحبه إلى أجل ... لابدَّ منه لذلك النحب
يشفي امرئ غيظه بسبّ امرئ والحلم أشفى له من السبّ
وقد تلين العيدان حتى يكون اللَّين منها أقوى من الصلب
قوله " اللَّين أراد اللين فخفف، كما قال: ميت وميّت، وهين وهيَّن، ولين وليِّن.
المؤلف ينتقد تصرف رئيس جاهل
ولي في معنى أول هذه الأبيات شيء، وذلك لأن بعض من قدّم من رئيس في زماننا أرسل إلي صاحباً له وأنا عليلٌ وقد اجتمع حولي جماعةٌ يعودوني، فقال لي وهم يسمعونه: إنَّ فلاناً - يعني صاحبه - يعتذر من تأخّره عن عيادتك بشيءٍ ذكره ليس فيه عذرٌ له، فاستجهلت الرسول والمرسل واستسخفتهما وقلت:
ربَّ حقيرٍ من الذنوب ... عظَّمه العذر في القلوب
أبداه ذو غفلةٍ وخرقٍ ... فجاء يوفي على الخطوب
ولو لم يؤدِّ إليَّ هذه الرسالة ظاهراً لما علم الحاضرون أنه لم يعدني، مع علمهم بما كان بيننا من ظاهر المودة. وقد ابتذلت العامة هذين المثلين: عذره أشدُّ من ذنبه، واضربه على ذنبه مائة وعلى عذره مائتين.
ان امرءاً قد سار خمسين حجة
حدثنا محمد بن القاسم الأنباري، قال: حدثنا أبو العباس يعني أحمد بن يحيى قال، حدثنا عمر بن شبّة قال، حدثنا خلاد الأرقط قال: كنا على باب أبي عمرو بن العلاء فتذاكرنا أن الحجاج كتب إلى قتيبة بن مسلم إني وإياك لدةٌ، وإنَّ امرءاً قد سار خمسين حجَّةً إلى منهل لقمنٌ أن يرده.
فأدرنا ذلك بيننا وجعلناه شعراً فقلنا:
وإنَّ امرءاً قد سار خمسين حجةً ... إلى منهلٍ من ورده لقريب
قال خلاد: وقلت أنا وانفردت بهذا البيت:
ومن كان في الدنيا على حال قلعةٍ ... وإن طال فيها عمره لغريب
قال أبو بكر الأنباري، وأنشدنا أبو علي العنزي قال، أنشدنا أحمد بن بكير الأسدي:
إذا ما خلوت الدهر يوماً فلا تقل ... خلوت ولكن قل عليَّ رقيب
وإنّ امرءاً قد سار خمسين حجّةً ... إلى منهلٍ من ورده لقريب
إذا ما نقضى القرن الّذي أنت فيهم ... وخلفِقت في قرنٍ فأنت غريب
نسيبك من أمسى يناجيك طرفه ... وليس لمن تحت التراب نسيب
فأحسن قروضاً ما استطعت فإنّما ... بقرضك تجزى والقروض ضروب
ولا تحسبنَّ الله يغفل ساعةً ... ولا أنّ ما يخفى عليه يغيب
قال القاضي: قد بيَّنَّا في بعض ما مضى من هذه المجالس معنى " قمن " وما فيه وفي أخواته من اللُّغات، فاستغنينا عن تفسيره من كلام الحجّاج في هذا الخبر. وأمّا الشعر الّذي أنشدناه ابن الأنباري في هذا الخبر عن العنزي عن أحمد بن بكير فقد قدَّمنا في بعض ما قدمنا من مجالسنا هذه خبراً فيه هذا الشعر، وذكرنا الخلاف في من ينسب إليه.
المجلس السَّادس والثمانون
حديث عكراش بن ذؤيب
حدثنا محمد بن القاسم الأنباري قال، حدَّثنا إسماعيل بن إسحاق القاضي قال، حدَّثنا العلاء بن الفضل ابن أبي سويّة قال، حدّثنا عبيد الله بن عكراش بن ذؤيب قال، حدثني أبي عكراش بن ذؤيب قال: بعثني بنو مرَّة بن عبيدٍ بصدقات أموالهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقدمت عليه المدينة فوجدته جالساً بين المهاجرين والأنصار، وأتيته بإبل كأنها عروق الأرطي فقال لي: من الرجل؟ فقلت: عكراش بن ذؤيب، فقال لي: ارفع النسب، فقلت: ابن حرقوص بن جعدة بن عمرو بن النزال بن مرة بن عبيد، وهذه صدقات بني مرة بن عبيد، فتبسم الرسول صلى الله عليه وسلم وقال: هذه إبل قومي، هذه صدقات قومي، فأمر بها أن توسم بميسم الصدقة وأن تضمَّ إليها، ثم أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي ومضى بي إلى منزل أمِّ سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم فقال: هل من طعام؟ فأتينا بجفنةٍ كثيرة الثريد والوذر، فجعلت أخبط في نواحيها، وجعل الرسول صلى الله عليه وسلم يأكل من بين يديه، ثم أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده اليسرى يدي اليمنى وقال: يا عكراش كل من موضع واحدٍ فإنه طعام واحد، ثم أتينا بطبقٍ فيه ألوان رطبٍ أو تمر فجعلت آكل من موضع واحدٍ، وجالت يد رسول الله صلى الله عليه وسلم في الطبق، وقال لي: يا عكراش إنه غير لونٍ واحدٍ فكل من حيث شئت. ثم غسل رسول الله صلى الله عليه وسلم يديه ومسح، ببلل يديه وجهه وذراعيه ورأسه وقال: يا عكراش هكذا الوضوء مما غيَّرت النار.
تفسير الحديث
قال أبو بكر: قوله " كأنها عروق الأرطي " : الأرطي شجر، واحدها أرطاة، وعروق الارطى عروقحمر، وكذلك عروق السدر، فشبَّه الإبل بعروق الأرضي لحمرتها، وذلك أن أشرف الإبل عند العرب حمرها. وفيه قول آخر وهو أنه شبَّه الإبل بعروق الأرطي لضمرها، وذلك أن ضمرها يدل عل نجابتها وكرمها، والعرب تشبِّه الثور والحمار بعروق الأرطي في الضمر، قال الشاعر في صفة حمار:
خاظٍ كعرق السدر يس ... بق غارة الخوص النجائب
يعني بالخاظي الحمار الممتلئ السريع. وقال ذو الرمة يذكر ثوراً يحفر عن أصل شجرة:
توخَّاه بالأظلاف حتى كأنما ... يثير الكثاب الجعد عن متن محمل
الكثاب ما يكثب من الرمل، والمحمل واحد حمائل السيف، يشبه حمرة عروق الشجرة بحمرة حمائل السيف. والوذر جمع الوذرة وهي قطعة لحم مجتمعة، والهبرة تشبهها إلا أنها أكبر منها، وجمع الهبرة هبر. قال القاضي: وفضل حمر الإبل على غيرها مشهور، ومن معروف كلامهم قول قائلهم: كذا وكذا أحبُّ إليَّ من حمر النَّعم، فخصُّوا حمرها لشرفها. والأرطى شجر معروف عند العرب، وهي شجرة مستطيلة الورق الواحدة منها أرطاة، وقال العجاج:
بات إلى أرطاة حقفٍ أحقفا
وقال الشماخ في الجمع.
إذا الأرطى توسَّد أبرديه ... خدود جوازئٍ بالرمل عين
وقال آخر:
ولولا جنون الليل أدرك ركضنا ... بذي الرِّمث والأرطى عياض بن ناشب
والشاهد في هذا كثير جداً.
قال القاضي: وألف أرطى أثبت للإلحاق بالأربعة كجعفر وسلهب، وهو ثلاثيٌّ أصله " أرط " يدلُّ على هذا قولهم أديمٌ مأروط، أي مدبوغٌ بالأرطى، وإذا سميت به رجلاً لم تصرفه في المعرفة لشبهه ألف التأنيث وأنه معرفة، وانصرف في النكرة ليفرق بين ألف التأنيث وبين الألف الزائدة لغير التأنيث.
وفي هذا الخبر من حسن مخالقة النبيِّ صلى الله عليه وسلم وجميل عشرته وكريم شيمته، وتأنيسه عكراش بن ذؤيب وتواضعه لله بمؤاكلته، وتعليمه كيف يأكل أنواع الطعام مؤتلفه ومختلفه، مما يباهي شريف منزلته، ويوازي جلالة مرتبته.
وحقَّ على كلِّ ذي لبّ ودين وفطرةٍ سليمة من أهل الدين تقيُّل فعله واتّباع سبيله والانتهاء إلى ما ندب إليه والتأدّب بما اختاره. وفيما جاء في هذا الخبر أن النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن أكل وغسل يديه ومسح بهما وجهه وذراعيه قال: هكذا الوضوء مما غيرت النار، وهذا يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم أراد بما أمر به من الوضوء مما غيرت النار وما مسَّت النار الأدب والتنظف دون الوضوء المفروض على من قام إلى الصلاة. وآراء المحدثين، وترتيب الأخبار فيه تتضمنه كتبنا في الفقه.
قوة منطق الحجاج
حدثنا محمد بن الحسن بن دريد قال، حدثنا أحمد بن عيسى عن العباس بن هشام عن أبيه عن عوانة قال: خطب الحجاج الناس بالكوفة فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: يا أهل العراق، تزعمون أنَّا من بقية ثمود، وتزعمون أني ساحر، وتزعمون أنَّ الله عزَّ وجل علَّمني اسماً من أسمائه أقهركم به، وأنتم أولياؤه بزعمكم وأنا عدوه، فبيني وبينكم كتاب الله تعالى. قال " عز وجلَّ: " فلمَّا جاء أمرنا نجَّينا صالحاً والَّذين آمنوا معه " هود " 66 " فنحن بقية الصالحين إن كنَّا من ثمود. وقال جلّ وعز: " إنّما صنعوا كيد ساحرٍ ولا يفلح الساحر حيث أتى " " طه:69 " والله أعدل في حكمه من أن يعلّم عدواً من أعدائه اسماً من أسمائه يهزم به أولياءه. ثم حمي من كثرة كلامه فتحامل على رمَّانة المنبر فحطمها، فجعل الناس يتلاحظون بينهم وهو ينظر إليهم، فقال: يا أعداء اللَّه ما هذا الترامز؟ أنا حديّا الظبي السانح والغراب الأبقع والكوكب ذي الذَّنب، ثم أمر بذلك العود فأصلح قبل أن ينزل من المنبر.
الحديا
قال أبو بكر: الحديّا أن يتحدَّى الرجل فيقول: افعل كذا حتى أفعله، ثم يفعل كفعل أخيه.
قال القاضي: قد أتى أبو بكر بالأصل في معنى حديّا إلا أنه لم يحقّق تفسيره، وما ذكره من تحدّي الرجل ليأتي بفعل ثم يأتي هو بمثله فيكون هذا، ويكون أن يبرز الرجل على غيره في شيء ويبرَّ فيه على من سواه، ويبذّ في تمكنه منه وسبقه إليه من عداه، فإن عارضه فيه غيره وحكاه فقد قاومه وساواه، وإن عجز من مقاومته وكلَّ من مناهضته فالمتحدَّي غالبٌ ظاهر والمتحدَّي مغلوبٌ غير ظافر، وعاجزٌ غير قادر، لا سيما إن كان في قصرته عن المقاومة نبأ عظيم وخطب جسيم كالذي كان في تحدّي النبي صلى الله عليه وسلم قومه أن يعارضوا القرآن الذي أبانه الله من سائر الناس، وجعله من أكبر أعلامه ودلائه، وأن يأتوا بسورةٍ مثله، فظهر عجزهم، وثبتت الحجة عليهم، وقتلوا دون ذلك وأسروا وأخربت ديارهم وتعقبت آثارهم، فانقلبوا صاغرين أذلاّء داخرين. وهذا باب قد استقصينا الكلام فيه في مواضع مما ألفناه وأمللناه، من ذلك صدر كتابنا المسمَّى: " البيان الموجز عن علوم القرآن المعجز " .
والحديَّا في هذه الكلمة أتى مصغّر اً ولم يستعمل المكبَّر في بابه، ومثله كثير كقولهم السُّكيت من الخيل، وحميل للطائر وكميت. ونظير الحديا الثريا، تقدير الأصل فيها غير مصغر يروى مثل شروى، فهكذا حديا كأن أصله حدوى، من حدوته على كذا، ومثله حمياً الكأس أصله من حموها وحميها أي احتدامها وحرارتها وحدتها وسورتها، يقال: حمي الشيء يحمى حمواً وحمياً، وقول من قال: حمى يحمى حمىً خطأ، وإنما مرَّ على قياس الباب في الأصل مثل شجي يشجى شجىً وعمي يعمى عمىً. وقد جرى في هذا المعنى بيني وبين رجلٍ من أهل زماننا له حظّ من حفظ اللغة كلامٌ في هذا المعنى، وأنكرت عليه قوله أصابه ظلع، فقلت له: إنما هو ظلعٌ بإسكان اللام، فأقام على خطائه متعلقاً بالقياس الذي قدمت ذكره، فقلت له: كيف تلفظ بالمصدر الذي منه حمي يحمى فقال: حماً، مارّاً على وتيرته فعرَّفته فساد ما أتى به، وذكرت له شيئاً حدِّثت به عن أحمد بن يحيى النحوي وهو أنه ذكر الحمو والحمي وأنكر قول من يقول حمى، قيل له إنّ حاكياً حكى عنه حمى فقال من حكى عني هذا فاصفعوه. فكأنه انكسر باله ولم يظهر رجوعاً عن قوله. ومثل الحديا من الصحيح السَّكري وسكيرى وقولهم غضبى وغضيبي. ومن الحديّا قول عمرو بن كلثوم التغلبي:
حديّا الناس كلِّهم جميعاً ... مقارعةً بنيهم عن بنينا
فسّره بعض أهل العلم فقال: المقارعة المخاطرة هاهنا. حديّا الناس: يقال أنا حدياك عن هذا الأمر أي أنا أخاطرك عليه، أراد إذ نحن نقاتل الناس أجمعين نقارعهم بينهم عن بينا، فإن غلبناهم سبينا نساءهم، وإن غلبونا فعلوا بنا مثل ذلك. وقول الحجاج: " أنا حديّاً الظبي السانح والغراب الأبقع والكوكب ذي الذنب " فإنه أراد إنَّا لثقتنا بالغلبة والاستعلاء، والإفحاطة والاستيلاء، نتحدى ارتفاع الظبي سانحاً، وهو أحمد ما يكون في سرعته ومضائه، والغراب الأبقع في تحذره وذكائه، ومكره وخبثه ودهائه، وذا الذنب من الكواكب فيما ينذر به من عواقب مكروهه وبلائه، فقال الحجاج هذا مختالاً في غلوائه، ومرهباً لمن بين ظهرانيه من أعدائه، والله ذو البأس الشّديد بالمرصاد له ولحزبه وأوليائه.
السخاء في مفهوم ابن المقفع
حدَّثنا الحسين بن القاسم الكوكبي قال: حدَّثنا محمّد بن زكريا الغلابي قال: حدّثني مسعود بن بشر المازني قال، حدَّثنا أبو عمرو خلاّد بن يزيد الأرقط قال، قال ابن المقفّع: السخاء سخاءان: سخاء المرء بما في يديه وهو أذكرهما في النّاس وأشهرهما، وسخاء المرء عن ما في أيدي النّاس وهو أمحضهما في الكرم. وأنشد مسعود:
إنَّ الغنى عن لئام النّاس مكرمةٌ ... وعن كرامهم أدنى إلى الكرم
تفسير ألقت عصاها حين تمثلت بها عائشة
حدَّثنا محمَّد بن القاسم الأنباري قال: أخبرنا أبو الهيثم الغنوي قال:لما نعي عليُّ ابن أبي طالب إلى عائشة رضي الله عنها قالت:
فألقت عصاها واستقرَّ بها النوى ... كما قرَّعيناً بالإياب المسافر
قال أبو بكر، وقال لنا أبو حسن ابن البراء، قال لنا عبد الرحمن الأزدي: معنى تمثّل عائشة بهذا البيت: لتصنع العرب بعد عليٍّما شاءت فليس عليها من يقمعها ويصرفها عن الباطل إلى الحقِّ. قال: ثمِّ قالت عائشة بعد تمثّلها بهذا البيت : إن كان لمن أكرم رجالنا على رسول الله صلى الله عليه و سلم.
بم تمثل معاوية حين جاءه نعي علي
قال:ولمّا نعي عليّ بن أبي طالب إلى معاوية رضي الله عنه، تمثَّل بأبيات لبيد:
قضي القضاء وأنجز الموعود ... والله ربّي ماجدٌ محمود
وله النوافل والفضائل كلُّها ... وله أثيث الخير والمعدود
ولقد بلت إرمٌ وعادٌ كيده ... ولقد بلته قبل ذاك ثمود
خلَّوا ثيابهم على عوراتهم ... فهم بأفنية البيوت همود
ثم قال معاوية رضي الله عنه:
قد كنت حذَّرت الغداة محرّقاّ ... فأتت منيّته الحذار النّاجزا
ّتمثل ابن الزبير وابن عباس حين بلغهما نعي معاوية ولمّا نعي معاوية قال عبد الله بن الزبير: ذهب والله عز بني أميّة، كان والله كما قال الشاعر:
ركوب المنابر ذو همّةٍ ... معنٌّ بخطبته مجهر
تثوب إليه هوادي الكلام ... إذا ضلَّ خطبته المهمر
ولمّا بلغ نعيه عبد الله بن العبّاس قال:
جبلٌ تصدَّع ثم مال بركنه ... في البحر لا رتقت عليه الأبحر
تمثل معاوية لما نعي إليه عمرو بن العاص
قال: ولمّا نعي عمرو بن العاص إلى معاوية قال:
ماذا رزئنا به من حيّةٍ ذكر ... نضناضةٍ للمنايا صلِّ أصلال
ولاّجةٍ من ذرى الأهوال إن نزلت ... خرَّاجةٍ من ذراها غير زيَّال
موقف جرير حين نعي إليه الفرزدق
قال: ولمَّا نعي الفرزدق إلى جرير وهو بالبادية اعترض الطريق فإذا أعرابيّ على قعودٍ له، فقال له جرير: من أين وممَّن؟ قال: من البصرة ومن بني حنظلة، قال: هل من جائية خبر؟ قال: نعم ،بينا أنا بالمربد فإذا أنا بجنازة عظيمة قد جفل لها النّاس فيها الحسن بن أبي الحسن البصري فقلت: من؟ قالوا: الفرزدق، فبكى جرير بكاء شديداً فقال له قومه: أتبكي على رجل يهجوك وتهجوه مذ أربعون سنة؟ قال: إليكم عنّي فوالله ما تبارى رجلان ولا تناطح كبشان فمات أحدهما إلاّ تبعه الآخر عن قريب. وأنشدنا أبي الأبيات عن أبي الهيثم وغيره:
لعمري لئن كان المخبِّر صادقاً ... لقد عظمت بلوى تميمٍ وجلَّت
فلا حملت بعد الفرزدق حرَّةٌ ... ولا ذات حملٍ من نفاس تعلَّت
هو الوافد المحبُّو والراقع الثّأى ... إذا النَّعل يوماً بالعشيرة زلت
قال: ثم عاش بعده أربعين يوماً ومات.
قال القاضي: قد أتى في وفاة الفرزدق ونعيه إلى جرير وما رثاه به عدّة أخبار، وهي تأتي في إخبارنا على تفرّقها واختلافها، إن شاء الله.
إذا بلغت المدة
حدثَّنا محمّد بن الحسن بن زياد المقري قال: حدّثنا داود بن وسيم البوشنجي ببوشنج قال: حدثنا عيد الرحمن بن أخي الأصمعي عن عمّه قال: قلت لأبي عليٍّ يحيى بن خالد البرمكي وهو في مجلسه: لو فعلت كذا لكان كذا، فقال لي: يا أبا سعيد إذا بلغت المدّة، ونفدت العدّة، حجز بين الإنسان وبين حيله سدَّة.
تعزية للعباس بن الحسن
حدَّثنا عمر بن الحسن بن مالك الشيباني قال: حدَّثنا محمد بن زيد قال: عزَّى العبّاس بن الحسن رجلا فقال: لم آتك شاكّاً في حزمك ولا زائداً في علمك، ولكنّه حق الصّديق على الصّديق، فاسبق السلوَّ بالصير.
الحديث في اقتناء الكلب
حدثنا محمّد بن يحيى الصَّولي قال: حدّثنا الغلابي قال: حدّثنا عبد الله بن الصبَّاح قال: قال المنصور لعمرو بن عبيد: ما بلغلك في الكلب؟ قال: قد جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: من اقتنى كلباً لغير زرعٍ ولا حراسةٍ ولا صيدٍ نقص من أجره كلَّ يومٍ قيراط، قال: ولم ذاك؟ قال: كذلك جاء الحديث، قال المنصور: خذها بحقّها، ذاك لأنّه ينبح الضيف ويروِّع السائل.
أموي يتشفع بيحيى البرمكي لدى الرشيد
حدّثني أبو النصر العقيلي قال: أخبرني أبو الحسن بن راهويه الكاتب قال: قال يحيى بن خالد البرمكي في أيّام الرشيد: جاءني رجلٌ وأنا في دار أمير المؤمنين فذكر أنّه من بني أميّة، وقال: إنّي قصدت أمير المؤمنين لأستوصله وأمتَّ إليه برحمي، فإن رأيت أصلحك الله أن توصلني إليه لأخاطبه بما يبعثه على بري وصلتي فعلت، وأنت الشريك في الشكر والأجر، فتذمَّمت أن أردَّه بغير قضاء حاجته، فدخلت على الرشيد فاستأذنته له، فأذن فدخل فسلّم وأحسن ودعا فأكثر،ثم أنشأ يقول:
يا أمين الله إني قائلٌ ... قول ذي دينٍ وصدقٍ وحسب
لكم الفضل علينا ولنا ... بكم الفخر على كلِّ العرب
عبد شمسٍ كان يتلو هاشماً ... وهما بعد لأمٍّ ولأب
فصل الأرحام منًّا إنّما ... عبد شمسٍ عمُّ عبد المطّلب
قال: فأمر له الرشيد بجائزة عظيمة فأحضرت فقبضها ثم خرج، وخرجت لألحقه وأضيف إلى جائزة أمير المؤمنين صلةً من مالي فلم أره، فأمرت بطلبه فلم أجده. قال القاضي: قوله في هذا الخبر: " وأمتًّ إليه برحمي " أي أدلي، ومثله أمطًّ وأمدّ.
ذو القرنين وأمة متزهدة
حدّثنا عبيد الله بن محمَّد بن جعفر الأزدي قال، حدثنا أبو بكر بن أبي الدنيا قال، حدثني القاسم بن هاشم أبو محمّد قال،حدّثنا الحكم بن نافع قال: حدّثنا صفوان بن عمرو عن عبد الرحمن بن عبد الله الخزاعي أن ذا القرنين أتى على أمّة من الأمم ليس في أيديهم شيءٌ ممّا يستمتع به الناس من دنياهم، قد احتفروا قبوراً، فإذا أصبحوا تعهّدوا تلك القبور فكنسوها وصلَّوا عندها، ورعوا البقل كما ترعى البهائم، وقد قيّض لهم في ذلك معاش من نبات الأرض، فأرسل ذو القرنين إلى ملكهم فقال له: أجب الملك ذا القرنين، فقال: مالي إليه حاجة، فأقبل إليه ذو القرنين فقال: إنّي أرسلت إليك لتأتيني فأبيت، أنا ذا قد جئتك، فقال له: لو كانت لي إليك حاجةٌ لأتيتك، فقال له ذو القرنين: ما لي أراكم على الحال الّتي رأيت لم أر أحداً من الأمم عليها؟ قالوا: وما ذاك؟ قال: ليس لكم دنيا ولا شيء، أفلا اتّخذتم الذّهب والفضَّة فاستمتعتم بها؟ فقالوا: إنّما كرهناها لأنّ أحداً لم يعط منها شيئاً إلاّ تاقت نفسه ودعته إلى أفضل منه، فقال: ما بالكم قد احتفرتم قبوراً فإذا أصبحتم تعهدتموها فكنستموها وصليتم عندها؟ قالوا: أردنا إذا نظرنا إليها فأمَّلنا الدنيا منعتنا قبورنا من الأمل، قال: وأراكم لا طعام لكم إلاّ البقل من الأرض، أفلا اتّخذتم البهائم من الأنعام فاحتلبتموها وركبتموها واستمتعتم بها؟ قالوا: كرهنا أن نجعل بطوننا قبوراً لها، ورأينا أنّ في نبات الأرض بلاغاً، وإنّما يكفي ابن آدم أدنى العيش من الطعام وإنّ ما جاوز الحنك لم نجد له طعماً كائناً ما كان من الطعام. ثم بسط ملك تلك الأرض يده خلف ذي القرنين فتناول جمجمة فقال: يا ذا القرنين أتدري من هذا؟ قال:لا، ومن هو؟ قال: ملكٌ من ملوك الأرض أعطاه الله سلطاناً على أهل الأرض فغشم وظلم وعتا،فلمَّا رأى الله عزّ وجلّ ذلك منه حسمه بالموت، فصار كالحجر الملقى قد أحصى الله عليه عمله حتّى يجزيه في الآخرة. ثم تناول جمجمةً أخرى فقال: يا ذا القرنين هل تدري من هذا؟ قال: لا، ومن هو؟ قال: هذا ملك ملّكه الله بعدهم، قد كان يرى ما يصنع الذي قبله بالنّاس من الغشم والظلم والتجبّر، فتواضع وخشع لله عزّ وجلّ وعمل بالعدل في أهل مملكته فصار كما ترى، قد أحصى الله عليه عمله حتى يجزيه في آخرته. ثم أهوى إلى جمجمة ذي القرنين فقال: وهذه الجمجمة كأن قد كانت كهاتين، فانظر يا ذا القرنين ما أنت صانعٌ. فقال له ذو القرنين: هل لك في صحبتي فأتّخذ ك أخاً ووزيراً وشريكاً فيما آتاني الله من هذا المال؟ قال: ما أصلح أنا وأنت في مكان ولا أن نكون جميعاً. قال ذو القرنين: ولم؟ قال: من أجل أنّ النّاس كلّهم لك عدوّ ولي صديق، قال: ولم ذاك؟ قال: يعادونك لما في يدك من الملك والمال والدنيا، ولا أجد أحداً يعاديني لرفضي لذلك ولما عندي من الحاجة وقلّة الشيء، فانصرف عنه ذو القرنين.
قال القاضي: في هذا الخبر ما إذا اعتبره ذو اللُّبِّ وفكّر فيه وتأمّله أدّاه بتوفيق الله جلّ وعز إلى الزهد في الدنيا والرغبة في الآخرة. ولذي القرنين عندنا في هذا المعنى أخبارٌ تأتي متفرّقة فيما يأتي من مجالس هذا الكتاب إن شاء الله.
جود أبي دلف وجود أبي البختري
حدَّثنا عبد الله بن منصور الحارثي قال: حدّثنا محمّد بن يزيد النحوي قال: أنشدني ابن أبي دلف قول ابن أبي فنن في أبيه أبي دلفٍ:
ما لي وما لك قد كلّفتني شططاً ... حمل السلاح وقول الدّارعين قف
أمن رجال المنايا خلتني رجلاً ... أمسي وأصبح مشتاقاً إلى التَّلف
تسعى المنايا إلى غيري فأكرهها ... فكيف أسعى إليها عاري الكتف
يا هل حسبت سواد اللّيل غيرّني ... وأنَّ روحي في جنبي أبي دلف
قال: فبعث إليه أبو دلف بخمسمائة دينار، فقلت له: هلاّ فعل أبوك كما فعل أبو البختري القاضي؟ قال: وما فعل؟ قلت: روي لنا أن رجلاً باذّ الهيئة دخل على قومٍ وهم على شراب لهم فحطّوا مرتبته في الشراب فقال:
نبيذان في مجلسٍ واحدٍ ... لإيثار مثرٍ على مقتر
ولو كنت تفعل ذا في الطعام ... لزمت قياسك في المسكر
ولو كنت تسلك سبل الكرام ... سلكت سبيل أبي البختري
تتبّع إخوانه في البلاد ... فأغنى المقلَّ عن المكثر
قال: فبعث إليه أبو البختري بألف دينار.
قال القاضي: وفي غير هذه الرواية قبل البيت الأوّل من هذه الأبيات:
تأمل قبيح الّذي جئته ... تجده خلوف فم الأبخر
وهذا من قبيح الهجاء وفيه مبالغة في الذم عجيبة. وأنشدنا في هذا المعنى.
رأيت نبيذين في مجلسٍ ... فقلت لساقٍ لنا ما السَّبب
فقال الّذي نحن في بيته ... يفضِّل قوماً بسوء الأدب
تعريف بأبي البختري
فأمّا أبو البختري هذا فهو وهب القرشي الأسدي الفهري؛ قال القاضي: وله أخبار كثيرة، ومدحه الشعراء مدحاً كثيراً لسماحته وسعة عطائه واستفاضة مكارمه وسجاحة أخلاقه، وقد ذمَّه آخرون وطعن فيه الأئمة من الأكابر والرؤساء وأعلام المحدثين والعلماء ونسبوه إلى الكذب فيما يرويه ووضع كثيرٍ من الحديث الّذي كان يأتيه، وهجاه بهذا المعنى بعض الشعراء، ولعل بعض ما لم نذكره من أخباره يأتي فيما بعد إن شاء الله تعالى.
المجلس السَّابع والثمانون
حديث في أداء حقوق المال
أخبرنا المعافى قال: حدثنا أحمد بن محمد بن إسماعيل الأدمي سنة ثلاث وعشرين وثلثمائة قال، حدثنا محمد بن عبد الله بن زيد قال، حدثنا إسحاق يعني الأزرق قال، حدثنا عبد الملك وهو ابن أبي سلمى عن أبي الزبير عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " ما من صاحب إبلٍ ولا بقيرٍ ولا غنمٍ لا يؤدّي حقَّها إلا أقعد لها يوم القيامة بقاعٍ قرقرٍ تطأه ذات الخفِّ بخفّها، وتنطحه ذات القرن بقرنها، ليس فيها يومئذٍ لا جمَّاء ولا مكسورة القرن " ، قيل: يا رسول الله وما حقّها؟ قال: إطراق فحلها.
شرح بعض ألفاظ الحديث
قال القاضي : قوله: " بقاعٍ قرقر " أي أملس مستوٍ، ويقال قاع قرق وقرقر وقرقوس، ومن القرق قول الراجز.
كأن أيديهنّ بالقاع القرق ... أيدي جوارٍ يتعاطين الورق
وقوله: " إطراق فحلها " : يقال أطرق الرجل فحل إبله: من طلبه ليطرق إناث إبله للنتاج، وفي هذا ما يدلُّ على وجوب الإطراق على صاحب الفحل، ولذلك نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن عسيب الفحل وهو إجارته للضراب.
حدثنا محمد بن علي بن إسماعيل الإبلي قال، حدثنا أبو سهل عمر بن عبدوس الهمذاني بالإسكندرية قال: حدثنا هاني بن متوكل قال: حدثنا ابن لهيعة عن زيد بن أبي حبيب وعقيل بن خالد عن ابن شهاب عن انس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن يبيع الرجل فحلة فرسه.
وحدثنا محمد بن علي قال، حدثنا بكر بن سهل القشي قال، حدثنا عبد الله بن يوسف قال، حدثنا ابن لهيعة عن زيد بن أبي حبيب وعقيل عن ابن شهاب عن أنس قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكر نحوه.
وحدثنا محمد بن علي قال، حدثنا محمد بن الهيثم القاضي قال، حدثنا سعيد بن أبي مريم قال، حدثنا ابن لهيعة عن زيد بن أبي حبيب عن ابن شهاب عن أنس أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم: نهى أن يبيع الرجل فحلة فرسه، ولم يذكر عقيل بن خالد. قال القاضي: فاجارة الفحل للضراب غير جائزة لما ورد فيها من نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولأنَّ ذلك من الغرر الذي نهى عنه النبيُّ صلى الله عليه وسلم إذ قد يراد الفحل على الضراب فيمنتع، وقد يكره منه الضراب فيتوثَّب عليه، فهو محظور بما ورد من الأخبار وبدليل النظر من جهة القياس والاعتبار وكان مالك في من سلك سبيله من أهل المدينة يجيزون هذا ويرخصون فيه ولا يرون به بأساً، والسنة والقياس أولى بالاتباع. ومن العسب قول زهير:
ولولا عسبه لتركتموه ... وشرُّ منيحةٍ أيرٌ معار
وقد جاء في الأمر بإطراق الفحل أخبارٌ كثيرة، وروي من التوعد مثل ما ذكرنا في هذا الخبر في مانع الزكاة، وجائز أن يقع التعذيب بما وصفنا، وكلِّ من منع حقاً وجب في هذا المال عليه بزكاةٍ أو غيرها.
أعرابي يخضب لحيته
حدثنا محمد بن الحسن بن دريد قال: أخبرنا عبد الرحمن عن عمه الأصمعي قال: قدم علينا أعرابي من البادية شيخ كبيرٌ، فقصدته فوجدته يخضب لحيته، فقال ما حاجتك؟ فقلت: بلغني ما خصَّك الله به فجئتك لأقتبس منك، يا ابن أخي إنك جئتني وأنا أخضب، وإن الخضاب من علامات الكبر، ووالله لطالما غدوت على صيد الوحوش، وسرت أمام الجيوش، واختلت في الرداء، ولهوت بالنساء، وقريت الضيف، وأرويت السيف، وشربت الراح، ونادمت الجحجاح، والآن فقد حناني الكبر، وضعف مني البصر، وحلَّ بعد الصفو الكدر، وأنشأ يقول:
شيبٌ تعلِّله كيما تغرَّ به ... كهيئة الثوب مطوياً على مزق
قد كنت كالغصن ترتاح الرياح له ... فصرت عوداً بلا ماءٍ ولا ورق
قال القاضي: ويروى " كيما تدلسه " ، وقال أيضاً: يروى " كالعود " .
صبراً على الدهر إنَّ الدهر ذو غيرٍ ... وأهله منه بين الصفو والرَّنق
خطبة لعمر بن عبد العزيز وشرح بعض ألفاظها
حدثنا إبراهيم بن محمد الأزدي عن ابن أخت أبي الوزير عن المدائني قال: خطب عمر بن عبد العزيز الناس بعرفة فقال، بعد أن حمد الله وأثنى عليه: أيها الناس إنكم قد جئتم من القريب والبعيد، وأنضيتم الظهر، وأخلقتم الثياب، وليس السابق اليوم من سبقت راحلته أو دابته، ولكنَّ السابق اليوم من غفر له.
قال القاضي: قوله: " أنضيتم الظهر " أي اشتد سيركم عليه، فكلَّ وضمر لأنكم جهدتموه وهزلتموه فصار نضواً، يقال: هو نضو، في الذكر والأنثى والجمع، وقد يقال: للأنثى نضوة وجمعها نضوات وأنشدوا:
وروضةٍ سقيت منه نضوتي
والروضة ما يبقى من الماء في الحوض. ويقال: حمل نضوٌ، وجمعه أنضاء. وقد زعم بعض اللغويين أنه يقال: نضوت الظهر كما يقال: نضا ثوبه إذا نزعه ينضوه نضواً، ومن ذلك قول امرئ القيس:
فجئت وقد نضت لنومٍ ثيابها ... لدى الستر إلاّ لبسة المتفضّل
وقال من ذهب إلى هذا: إنه يقال نضا الرجل ثوبه إذا نزعه، ونضوته عنه إذا ألقيته عنه، فكأنَّ الذي جهد راحلته وكدَّها حتى هزلها أو أرذاها نزع عنها ما كان لها من من سمن وقوة، ويقال: راحلة مهزولةٌ وهزيلٌ مثل مقتولة وقتيل، وإذا سقطت من إتعابك لها وعنفك بها وشدة سيرك عليها فقد أرذيتها، وهي رذّية، كما قال الشاعر:
يا ربَّ ملكٍ قد تركت رذيّة ... تقلّب عينيها إذا طار طائر
وتجمع رذايا كما قال الإياديّ:
رذايا كالبلايا أو ... كعيدانٍ من القضب
ومن كلامهم: أتت الرذايا تحمل البلايا، والقضب الرطبة، قال الله تعالى ذكره: " فأنبتنا فيها حبّاً وقضباً " " عبس: 27 " .
تصرف مؤذن في زمن الورد
حدثنا الحسين بن القاسم الكوكبي قال، حدثنا محمد بن يزيد المبرد قال، حدثني بعض أصحابنا قال: كان في زمان المأمون شيخٌ مؤذِّنٌ مسجدٍ وإمامه، فكان إذ جاء زمان الورد أغلق باب المسجد ودفع مفتاحه إلى بعض جيرانه وأنشأ يقول:
يا صاحبيَّ اسقياني ... من قهوةٍ خندريس
على جنيَّات وردٍ ... يذهبن همَّ النفوس
خذا من الورد حظاً ... بالقصف غير خسيس
ما تنظران وهذا ... أوان حثِّ الكؤوس
فبادرا قبل فوت ... لا عطر بعد عروس
قال: فلا يزال على هذا حتى إذا انقضت أيام الورد رجع إلى مسجده وأنشأ يقول:
تبدلت من ورد جنيّ ومسمع ... شهيٍّ ومن لهو وشرب مدام
وأنسٍ بمن أهوى وصحب ألفتهم ... بكأس ندامى كالشموس كرام
أذاناً وإخباتاً وقوماً أؤمّهم ... لصرف زمانٍ مولعٍ بغرام
فذلك دأبي أو أرى الورد طالعاً ... فأترك أصحابي بغير إمام
وأرجع في لهوي وأترك مسجدي ... يؤذِّن فيه من يشا بسلام
قال القاضي: الخندريس من أسماء الخمر وقد أكثر الشعراء من تسميتها بهذا، وزعم بعضهم أن أصله بالفارسيّة وأنّه كندريش أي أن شاربها يخفُّ ويطرب فينتف لحيته.
دسائس الأحوص
حدَّثنا محمَّد بن القاسم الأنباري قال: أخبرنا أبو علي العنزي قال: حدثنا محمد بن عبد الرحمن الذارع قال: حدثني الوليد بن هشام القحذمي قال: وفد وفد من المدينة إلى الوليد بن عبد الملك بالشام، فبينما هو جالس والنّاس عنده إذ دخل عليه عبد للأحوص بن محمد الأنصاري فقال: أعوذ بالله وبك يا أمير المؤمنين مما يكلفني الأحوص قال: وما يكلّفك؟ قال: فأخبره أنّه يريده على أمر مذموم، فقال له الوليد: كذبت أي عدوَّ الله على مولاك، اخرج، قال: فخرج فلمّا شاع الخبر اندسَّ الأحوص إلى غلام رجلٍ من آل أبي لهب فقال له: إن دخلت على أمير المؤمنين فشكوت من مولاك ما شكا عبدي منّي أعطيتك مائتي دينار، فدخل العبد على الوليد فشكا من مولاه ما شكا عبد الأحوص منه، ومولاه جالسٌ عند الوليد في السماطين، فنظر إليه الوليد فقال: ما هذا يا فلان؟ فقال: مظلومٌ يا أمير المؤمنين والله ما كان هذا، وهذا وفد أهل المدينة فسلهم عنّي، فسألهم فقالوا: ما أبعده ممَّا رماه به غلامه، فقال: خذوه فأخذ الغلام فضرب بين يدي الوليد، فقال: يا أمير المؤمنين لا تعجل عليَّ حتّى أخبرك بالأمر، أتاني الأحوص فجعل لي مائتي دينار على أن أدخل عليك فأشكو من مولاي ما شكا عبد منه. فأرسل إلى الأحوص فأتي به فأمر به الوليد فجرّد وضرب بين يديه ضرباً مبرحاً وقال: أي عدوَّ الله سترت عليك ما شكا عبدك فعمدت إلى رجلٍ من قريش تريد أن تفضحه؟! فسيّر إلى دهلك، جزيرة في البحر، فلم يزل مسيَّراً أيّام الوليد وسليمان، فلمّا كانت خلافة عمر بن عبد العزيز رجع الأحوص إلى المدينة وقال: هذا رجلٌ أنا خاله - يعني عمر - فما يصنع بي. وكانت أم عمر بن عبد العزيز بنت عاصم بن عمر بن الخطّاب وأم عاصم أنصاريّة بنت عاصم بن أبي الأقلح الأنصاري.
قال القاضي: هو عاصم بن ثابت بن قيس وهو أبو الأقلح.
الأحوص ومعبد وزين الغدير
فبلغ ذلك عمر بن عبد العزيز فأمر به فردَّ إلى دهلك، فلمَّا قام يزيد بن عبد الملك رجع الأحوص إلى المدينة ثم إنّه خرج وافداً إلى يزيد بن عبد الملك فمرَّ بمعبد المغنّي فقال له معبد: الصحبة يا أبا عثمان، قال: ما أحبُّ أن تصحبني، تقول وفود العرب هذا ابن الذي حمت لحمه الدَّبر والغسيل معبدٌ معه مغنّ فقال: لابدّ والله من الصحبة، فلما أبى إلاّ أن يصحبه ذهب فلمّا نزل البلقاء، وهي من الشّام، أصابهم مطرٌ من الليل، فأصبحت الغدر مملوءة، فقال للأحوص: لو أقمنا اليوم هاهنا فتغدّينا على هذا الغدير، ففعلا، ورفع لهما قصرٌ لم يريا بناءً غيره، فلمّا أصبحوا خرجت جاريةٌ معها جرّةٌ إلى غدير من تلك الغدر فملأت جرَّتها، فلمّا رفعتها ومضت بها رمت بالجرَّة فكسرتها، فقال معبد للأحوص: أرأيت ما رأيت وما صنعت هذه؟ قال: نعم، فأرسل إليها الأحوص بعض غلمانه فقال: ما حملك على ما صنعت فقد رأينا الّذي صنعت؟ قال: إنّي طربت، قال: وما أطربك؟ قال: ذكرت صوتاً كنّا نغنّي به أنا وصواحب لي بالمدينة فأطربني فكسرت الجرّة، قال: وما الصوت؟ قال:
يا بيت عاتكة الذي أتعزَّل ... حذر العدى وبه الفؤاد موكَّل
قال: ولمن هذا الشعر؟ قال: للأحوص الأنصاري، قال: فالغناء؟ قالت: لمعبد، فقالا لها: أفتعرفيننا؟ قالت: لا، قال: فأنا الأحوص وهذا معبد، لمن كنت بالمدينة؟ قالت: لآل فلان، اشتراني أهل هذا القصر فصرت هاهنا ما أرى أحداً غيرهم، وقالت: فإنَّ لي حاجةً، قالا: ما حاجتك؟ قالت لمعبد تغنيني، قال الأحوص لمعبد: غنّها، قال: فجعلت تقترح ويغنّيها حتّى قضت حاجتها ثم قالا لها: أتحبّين أن نعمل لك في الخروج من هاهنا؟ قالت: نعم، فلمّا قدما على يزيد بن عبد الملك ودخلا عليه قال له الأحوص: يا أمير المؤمنين إنّي رأيت في مسيرنا عجباً، نزلنا إلى البلقاء فرأينا جاريةً، وقصّ عليه قصّتها قال: أفتعرفها؟ قال: نعم، فسمَّاها وأهلها موضعها وقال: يا أمير المؤمنين أنا الّذي أقول فيها: "
إنّ زين الغدير من كسر الجرَّ وغنّى غناء فحلٍ مجيد
قلت من أنت يا ظعين فقالت ... كنت فيما مضى لآل الوليد
ثم بدِّلت بعد حيِّ قريشٍ ... من بني عامرٍ لآل الوحيد
فغنائي لمعبدٍ ونشيدي ... لفتى الناس الأحوص الصنديد
يعجز المال عن شراك ولكن ... سوف نسميك للهمام يزيد
قال: فمضى لذلك ما مضى، ثم دخل الأحوص ومعبد جميعاً على يزيد فأخرج إليهما الجارية ثم قال لها الأحوص: أوفينا لك؟ قالت: نعم جزاكما الله خيراً.
من هي عاتكة التي يذكرها الأحوص
قال أبو عليّ وحدَّثني محمد بن عبد الرحمن الذارع قال: حدّثنا الوليد بن هشام قال: حدثني سليمان بن محمّد الأنصاري أن عاتكة الّتي ذكر ألأحوص بيتها هي عاتكة بنت يزيد بن معاوية، وإنما كنى عن امرأةٍ سمّاها غيرها، وكان يشبّب بها فذكر عاتكة وبيتها، لأن بيت عاتكة كان إلى جنب بيت تلك المرأة، وقد أدخلا جميعاً في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
تعليق وشرح
قال القاضي: الّذي حكي عن الأحوص في هذا الخبر من سعيه في أمر اللهبي والكذب عليه وإضافة ما ليس فيه إليه من ألأم الأخلاق وأفحشها، وأقبح المذاهب وأوحشها، وفاعله متعرض لما وعد الله من فعله من عذابه وأليم عقابه، وقد مضى فيما تقدّم من مجالسنا هذه ذكر قصّة بني أبيرق ورميهم بفعلهم من هو بريء منه، وإنّ الله تعالى أنزل في ذلك: " ومن يكسب خطيئةً أو إثماً ثم يرم به بريئاً فقد احتمل بهتاناً وإثماً مبيناً " " النساء:112 " وقوله في عاصم بن ثابت بن أبي الأقلح: " الّذي حمت لحمه الدَّبر " لما قتل أراد المشركون أخذه وكان قد دعا الله تعالى أن لا يمسَّه مشرك، فأرسل الله تعالى الدَّبر فأحاطت بهم وحمته فلم يصلوا إليه، فلمّا جاء الليل أرسل الله سيلاً فاحتمله من الوادي وفاتهم، ولقتله قصّة أنا ذاكرها:
عاصم حميّ الدَّبر
كان أبو سليمان عاصم بن ثابت بن أبي الأقلح شهد بدراً وأحداً، وثبت حين ولَّى الناس يوم أحد عن رسل الله صلى الله عليه وسلم معه، وبايعه على الموت، وكان من الرماة المذكورين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذكر أنّه قتل يوم أحد من أصحاب اللواء من المشركين الحارث وشافعاً ابني طلحة بن أبي طلحة، وأمُّهما سلافة بنت سعيد بن الشهيد من بني عمرو بن عوف، فنذرت أن تشرب في رأس عاصمٍ الخمر، وجعلت لمن جاء برأسه مائة ناقةٍ، فقدم ناسٌ من بني لحيان من هذيل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألوه أن يوجِّه إليهم من يفقّههم في الدين، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم معهم ستّة نفر أحدهم عاصم بن ثابت بن أبي الأقلح.
فلما صاروا على الرَّجيع استصرخوا عليهم هذيلاً، فلم يشعروا وهم في رحالهم إلاّ وبارقة السيوف قد غشيتهم. فقاتلهم مرثد بن أبي وخالد بن البكير وعاصم بن ثابت حتّى قتلوا، وأمّا الآخرون فاستأسروا وحال بين الّذين قتلوا وبين رأس عاصم أن يأخذوه الدّبر، فتركوه وقالوا: حتّى نمسي فنأخذه، فبعث الله السَّيل إلى الوادي فاحتمل عاصماً فذهب به.
قال القاضي: والدَّبر النحل كما قال أبو ذؤيب الهذلي.
إذا لسعته الدَّبر لم يرج لسعها ... وخالفها في بيت نوبٍ عوامل
ويروى: عواسل. النوب: السود من النوبة واللوبة والأوبة، ويروى إذا لسعته النحل. وقيل: إن النوب الذين ينوبون وليس من اللّون. وقوله: " لم يرج لسعها " معناه لم يخف. وقيل: في قول الله تعالى: " ما لكم لا ترجون للَّه وقاراً " " نوح:13 " إنّ معناه لا تخافون لله عظمةً. ومن ذلك قول الراجز:
ما ترتجي حين تلاقي الزائدا ... أسبعةً لاقت معاً أو واحداً
وقول الشاعر:
لعمرك ما أرجو إذا كنت مسلماً ... على أيِّ جنبٍ كان في الله مصرعي
يعني: ما أخاف، وقيل في قول الله عز وجلّ: " وترجون من الله مالا يرجون " " النساء: 104 " إن معناه وتخافون من الله مالا يخافون، وممَّن قال هذا قطرب.
قال القاضي: كأنّما اختزل الرجاء بين الأمل والخوف لأنّهما ممّا ينتظر ويرتجى ويتوقّع، وليس المخلوقون منه على أمرٍ يثقون به ويرقبونه ويقطعون عليه بعينه. وأنكر الفرّاء ما ذكره قطرب في هذا الموضع وقال: العرب تذهب بالرجاء مذهب الخوف في الإثبات، وإنّما تفعل هذا في الجحد والنفي. والأحوص بن محمّد الشاعر من ولد عاصم بن ثابت هذا.
حنظلة الغسيل
وأما ذكره في الخبر الغسيل فإنّ الغسيل حنظلة بن أبي عامر، واسم أبي عامرٍ عبد عمرو، وذلك أنّه استشهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد، فأخبر أصحابه أنّه رأى الملائكة تغسله، فأرسل إلى امرأته فسألها عن أمره فأخبرته أنّه كان مضاجعها فلما استنفر للجهاد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قام عن بطنها مبادراً ولم يغتسل، فقال: إنّي رأيت الملائكة تغسله. وكان أبو حنيفة يرى أن شهيد المعركة إذا قتل جنباً فواجبٌ على المسلمين غسله، ويحتج بقّّصة حنظلة هذه، وكان أصحابه وغيرهم ممّن يذهب إلى أن لا يغسل الشهيد يرون أنّ الجنب وغيره سواء في ترك الغسل، وإلى هذا نذهب والاحتجاج فيه مرسوم في كتبنا المؤلّفة في الفقه. وأبو عامر أبو حنظلة كان يقال له الراهب، فسمّاه النبيّ صلى الله عليه وسلم الفاسق، وكان ممّن سعى في بناء مسجد الضّرار الّذي ذكره الله عزّ وجلّ في كتابه، والله تعالى يقول: " والّذين اتّخذو مسجداً ضراراً وكفراً وتفريقاً بين المسلمين وإرصاداً لمن حارب اللَّه ورسوله من قبل وليحلفنَّ إن أردنا إلاّ الحسنى واللَّه يشهد إنّهم لكاذبون " " التوبة: 107 " .
؟رواية أخرى في خبر الأحوص وزين الغدير قال القاضي: وقد كان ابن الأنباري أملى علينا خبر الأحوص وزين الغدير بغير هذا الإسناد وعلى مخالفةٍ في مواضع من المتن، فإن كنت قد رسمته فيما مضى من هذه المجالس ففي هذه الرواية زيادةٌ ليست فيه، وإن كان فيما مضى فاتني فإنّني آتي بما أحفظه من جملته ليحصل بما أثبته منه ما فيه من زيادة من غير إطالة بذكر إسناده وأعيان ألفاظه، وهو في الرواية التي وصفت أمرها أن يزيد بن الوليد كتب إلى الضحّاك بن محمّد عامله على المدينة أن وجِّه إليَّ الأحوص بن محمد الأنصاري الشاعر ومعبداً المغني، فجهزهما وأمرهما بالمسير، فكانا ينزلان في طريقهما للأكل والشرب إلى أن أتيا البلقاء، وهو منزل بين المدينة والشّام، فجلسا هنالك فأكلا، وجلسا على نهرها. فإذا هما بجارية قد خرجت من قصرٍ هنالك ومعها جرٌّ، فاستقت فيه من الغدير، ثم إنّها ألقت الجرّ فانكسر فجلست تبكي، فسألاها عن شأنها ولمن كانت، فقالت: لرجلٍ بمكّة من قريش، فاشتراني صاحب هذا القصر، وهو رجلٌ من بني عامر من آل الوحيد، بخمسين ألف درهم، فنزلت من قلبه ألطف منزلة، ثمَّ إنّه تزوّج ابنة عمٍ لهم فهديت إليه، فكانت تسيء إليّ وتكلّفني أن أستقي في كلِّ يومٍ من هذا الغدير بجرّ، فشكوت ذلك إلى الرجل فقال: إنّما أنت أمةٌ وهذه ابنة عمّي، فربّما ذكرت ما كنت فيه فيسقط الجرّ من يدي فينكسر فتضربني على هذا، ولمّا رايتكما وما أنتما عليه ذكرت ما مضى من أيّامي فسقط الجرّ من يدي، ثم أخذت العود وغنّت:
يا بيت عاتكة الذي أتعزَّلحذر العدى وبه الفؤاد موكّلإنّي لأمنحك الصّدود وإنّنيقسماً إليك مع الصّدود لأميل
ولقد نزلت من الفؤاد بمنزلٍ ... ما كان غيرك والأمانة ينزل
ولقد شكوت إليك بعض صبابتي ... ولما شكوت من الصبابة أطول
هل عيشنا بك في زمانك راجعٌ ... فلقد تفحَّش بعدك المتعلّل
أعرضت عنك وليس ذاك لبغضةٍ ... أخشى مقالة كاشحٍ لا يعقل
فقلنا لها: لمن هذا الشعر؟ قالت: للأحوص بن محمّد الأنصاري، قلنا: فلما الغناء؟ قالت: لمعبد المغنّي. فقال الأحوص: فأنا والله الأحوص، وقال معبد: وأنا والله معبد، فأنشأت تقول:
إن تروني الغداة أسعى بجرٍّ ... أستقي الماء نحو هذا الغدير
فلقد كنت في رخاءٍ من العيش وفي ظلِّ نعمةٍ وسرور
ثم قد تبصران ما فيه أصبحت وماذا إليه صار مصيري
أبلغا عنّي الإمام وما بلغ ... صدق الحديث مثل الخبير
أنّني أضرب الخلائق بالعو ... د وأحكاهم لبمٍّ وزير
فلعلَّ الاله ينقذ ممَّا ... أنا فيه فإنّني كالأسير
ليتني متُّ يوم فارقت أهلي ... وبلادي وزرت أهل القبور
فقال الأحوص والله لا أبرح حتّى أقول فيها شعراً، فقال:
إن زين الغدير من كسر الجر ... رَّ وغنّى غناء فحلٍ مجيد
قلت من أنت يا ظعين فقالت ... كنت فيما مضى لآل الوليد
ثمَّ بدِّلت بعد حيِّ قريشٍ ... في بني عامر لآل الوحيد
فغنائي لمعبدٍ ونشيدي ... لفتى النّاس الأحوص الصنديد
فتبسّمت ثم قلت أنا الأح ... وص والشيخ معبدٌ فأعيدي
فأعادت فأحسنت ثم ولَّت ... تتهادى فقلت أمّ سعيد
يعجز المال عن شراك ولكن ... أنت في ذمَّة الهمام يزيد
إن نذكِّر بك الإمام بصوتٍ ... معبدٍّ يزيل حبل الوريد
يفعل الله ما يشاء فظنِّي ... كلَّ خيرٍ منّا هناك وزيدي
ثمّ ودّعاها وانصرفا، فلمَّا دخلا على يزيد قال للأحوص: أنشدني اقرب شعر قلته فأنشده:
إنَّ زين الغدير من كسر الجرَّ وغنَّى غناء فحلٍ مجيد
وقال لمعبد: غنّني أقرب غناءٍ غنّيته، فغنّاه إنّ زين الغدير من كسر الجرّ، فقال: لقد اجتمعتما على أمرٍ، فقصَّا عليه القصّة، فكتب إلى عامله على البلقاء: ابتع هذه الجارية بما بلغت، فابتاعها بمائة ألف درهم وأهداها إلى يزيد فحظيت عنده، وحلَّت ألطف محلٍّ من قلبه. قال: فوالله ما انصرفنا حتّى صار إلينا من الجارية مالٌ وخلعٌ وألطافٌ كثيرة.
المجلس الثامن والثمانون
لما وقعت بنو اسرائيل في المعاصي
أخبرنا المعافي قال: حدثنا الحسين بن محمد بن سعيد المطبقي قال، حدثنا عبد الرحمن بن الحارث قال، حدثنا يزيد بن هارون قال، أخبرنا شريك عن علي بن بذيمة عن أبي عبيدة عن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لما وقعت بنو اسرائيل في المعاصي نهتهم علماؤهم فلم ينتهو، فجالسوهم في مجالسهم، قال يزيد: وأحسبه قال: وفي أسواقهم.
وواكلوهم وشاربوهم فضرب الله جل ثناؤه قلوب بعضهم ببعض، فلعنهم على لسان داود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم متكئاً فجلس فقال: لا والذي نفسي بيده حتى يأطروهم على الحق أطراً.
وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن لمنكر
قال القاضي: في هذا الخبر ما دل على وجوب الأر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهجر أهل المعاصي ومجانبة المجالسة لهم والأنس بهم، وإيناسهم يالمقاربة ومخالطتهم بالمؤاكلة والمشاربة، والتنزه عن مداهنتهم، ولزوم المسلمين عطفهم على واجبات الدين وردهم إلى اتباع سبيل المؤمنين.
وقوله حتى يأطروهم على الحق أطراً. معناه يعطفونهم عليه عطفاً. يقال: أطرت الرجل على الشيء آطره أطراً، فأنا آطر به، وهو مأطور، ومن ذلك قول طرفة بن العبد:
كأن كناسي ضالةٍ يكنفانها ... وأطر قسي تحت صلب مؤيد
الضالة: السدرة في البرية البعيدة من الماء تجمع ضالاً كما قال الشاعر:
يا ما أميلح غزلانا شدن لنا ... من هؤليائكن الضال والسمر
والعبرية السدرة التي على الماء تجمع عبرياً كما قال الشاعر:
لاثٍ به الأشياء والعبري
وأما السدرة التي تكون متوسطة بين الماء وبين البر فإنها تسمى الأشكلة. قال آخر:
وأنتم أناس تقمصون من القنا ... إذا مار في أكتافكم وتأطرا
امتحان شمر يرعش لبنيه
حدثنا محمد بن الحسن بن دريد قال: أخبرنا السكن بن سعيد عن محمد بن عباد عن ابن الكلبي عن الشرقي بن القطامي قال: كان شمر يرعش الملك الحميري ميمون النقيبة مغضور الناصية مظفراً بعيد الصيت وطاءً للسعد، وملك ثمانياً وأربعين سنة، هكذا يقول لأهل اليمن في سيرة ملوكهم فلما تقاربت أيامه وأشفى على انقضاء مدته، وهو شمر يرعش بن تبع بن ياسر ينعم تبع بن عمرو ذي الأذعار تبع بن أبرهة ذي المنار تبع بن الرائش تبع بن قيس بن صيفي، جمع بينه وهم ثلاثة: دريد ومكنف وشرحبيل، فقال: تناهت المدَة، وتقضّت العدّة، وجاء مالا يدفع، وحلَّ مالا يمنع، وقد بلغت من السّنّ مدىً في دونه تنجِّذ التجارب ذا الحجى، وإني ملقٍ إليكم كلاماً استدلُّ بجوابه على ألبابكم، وأسبر به حصافة رويَتكم، لتطمئنَّ نفسي عند فراقكم: أنا لي خلفاً أذكر به وإن كان غناء ذلك عني قليلاً فقالوا: قل: فقال: ما المجد؟ فقالوا: ابتناء المكارم، وحمل المغارم، والاضطلاع بالعظائم، وظلف النفس عن ركوب المظالم. قال: فما الشرف؟ قالوا: كرم الجوار، وصيانة الأقدار، وبذل المطلوب في اليسر والإعسار. قال: فما الدناءة؟ قالوا: تتبّع التّافه اليسير، ومنع النزر الحقير. قال: فما المروّة؟ قالو: سمّو الهمّة، وصيانة النفس عن المذمة قال: فما الكلفة قالوا: التماس ما لا يعنيك ومطالبة مالا يؤاتيك. قال: فما الحلم؟ قالوا : كظم الغيظ، وضبط النفس عند الغضب، وبذل العفو عند القدرة. قال: فما الجهل؟ قالوا: معاجلة الوثوب، والغباوة بعواقب الخطوب. قال: فما الجرأة؟ قالوا: حفظ ما استرعيت، ومجانبة ما استكفيت. قال: فما الأربة؟ قالوا: انتظار الفرصة، والتوقّف عند الشبهة. قال: فما الشجاعة؟ قالوا: صدق الباس، والصبر عند المراس. قال: فما العجز؟ قالوا: العجلة قبل الاستمكان، والتأنّي بعد الفرصة. قال: فما الجبن؟ قالوا: النزق عند الفزع، والهلع عند الجزع. قال: فما السماحة؟ قالوا حسن البشر عند السؤال واستقلال كثير النوال قال فما الشح. قالوا: أن ترى القليل إسرافاً، والبذل إتلافاً. قال: فما الظرف؟ قالوا: حسن المجاورة، ولين المعاشرة. قال: فما الصَّلف؟ قالوا: التّعظم مع صغر القدر، واستشعار الكبر مع قّلة الوفر. قال: فما الفهم؟ قالوا: لسان مراعٍ، وقلب واعٍ. قال: فما الغنى؟ قالوا: قلة التمني والرضى بما يكفي قال فما السؤدد قالوا: اصطناع العشيرة، وحمل الجريرة. قال: فما السَّنا؟ قالوا: حسن الأدب، ورعاية الحسب. قال: فما اللُّؤم؟ قالوا؛ إحراز النَّفس وإسلام العرس. قال: فما الدناءة؟ قالوا: الجلوس على الخسف، والرّضا بالهوان. قال: فما الفقر؟ قالوا: شره النّفس، وشدة القنوط. قال: فما الشرف؟ قالوا: الفعل الكريم، والحسب الصميم، والفرع العميم. قال: انصرفوا يا بنيَّ، الآن أسمحت للموت قرونتي، وأنشأ يقول:
هوَّن فقد الحياة أنّي ... خلَّفت ذكراً على الزمان
أخلاف أسلاف بيت ملك ... مؤيّد الأسِّ والبواني
فالآن فلترشف المنايا ... ما أسأر الدهر من جناني
تعليقات
قال القاضي: قول الشرقي في شمر يرعش " ميمون النّقيبة مغضور النّاصية " وصفه باليمن والبركة مع خلوص الحريّة وكرم النَّجر والشِّيمة، يقال للأرض الحرّة الطّين الطّيّبة الترب غضراء، ومنه غضارة العيش وغضارة النعمة، ومنه اشتق اسم غاضرة من بني أسد، ويروى بيت توبة بن الحمير:
أبيني لنا لا زال ريشك ناعماً ... ولا زلت في غضراء غضٍّ نضيرها
على وجهين: غضراء وخضراء. وقوله " لا يمنع " بمعنى لا يرد ولا يدفع، وقوله " مدى في دونه تنجّذ التجارب ذا الحجى " معنى تنجّذه: تحكّمه وتقرّ عقله وحلمه، والنواجذ الأضراس واحدها ناجذ، وفيها ناجذ ينبت عند تناهي الشَّباب ومقاربة التكهُّل يقال له ضرس الحلم، وتسمّيه العامة ضرس العقل، قال سحيم بن وثيل:
وماذا يدَّري الشعراء منّي ... وقد جاوزت حدَّ الأربعين
أخو خمسين مجتمعٌ أشدِّي ... ونجَّذني مجاورة الشؤون
كسر نون الجمع في " الأربعين " لتتفق حركات الإطلاق في قوافيه، وهي لغة ضعيفةٌ جارية في شذوذها مجرى فتح نون الاثنين كقول الشاعر:
على أحوذيَّين آستقلَّت ركابها ... فما هي إلاّ لمحةٌ فتغيب
وقد يقال في الناب ناجذة. وقول بني شمر " الجلوس على الخسف " معناه الهوان والمذلة، وفيه لغتان: الخسف والخسف، قال الراجز يصف النبيّ صلى الله عليه وسلم: " إن سيم خسفاً وجهه تربَّدا " في إعراب هذا البيت وجهان: أحدهما أن يكون سيم فعلاً فارغاً لقوله وجهه، ووجهه مرفوع لأنّه لم يسمَّ فاعله، والتقدير فيه إنّ سيم وجهه خسفاً، وهذا من الباب الّذي يقال فيه فعلت هذا لوجهك أي لك، والوجه الثاني أن يكون في سيم ضمير هو اسمٌ للنبيّ صلى الله عليه وسلّم أي سيم بمعنى إن سيم رسول الله صلى الله عليه وسلّم خسفاً، وقوله تربَّدا ابتداء، وخبر جملته جواب الشرط " وهو إن سيم " . كأّنه قال إن سيم رسول الله صلى الله عليه وسلّم خسفاً تربَّد وجهه أي تنكّر، وأبى أنفاً وحميّة وغضباً. وقول شمر: " الآن أسمحت للموت قرونتي " أي طابت به نفسي واستسهلته، يقال: سمحت بالشيء وأسمحت قال ابن مقبل:
هل القلب عن دهماء سال فمسمح ... وتاركه منها الخيال المبرِّح
وقوله " قرونتي " : القرونة: النفس، وقوله " فلترشف المنايا " أي تمتصّ. وقوله " ما أسأر الدهر من جناني " ما أبقى من قلبي، والسؤر البقية من كلّ شيء، من ذلك قول الأعشى:
بانت وقد أسارت في النفس حاجتها ... بعد ائتلافٍ، وخير الودِّ ما نفعا
لماذا سوِّد الأحنف
حدّثنا الحسين بن القاسم الكوكبي قال، حدَّثنا محمد بن زكريا، الغلابي قال: حدثنا العبّاس بن بكّار قال: حدّثنا شبيب بن شيبة عن خالد بن صفوان انّه كان بالرصافة عند هشام بن عبد الملك. فقدم العبّاس بن الوليد بن عبد الملك فغشيه الناس، فكان خالد في من أتاه، وكان العباس يصوم الاثنين والخميس؛ قال خالد: فدخلت عليه في يوم خميسٍ فقال: يا ابن الأهتم، خبّرني عن تسويدكم الأحنف وانقيادكم له، وكنتم حيّاً لم تملكوا في جاهليّةٍ قط. فقلت: إن شئت أخبرتك عنه بخصلة لها سوِّد، وإن شئت بثنتين، وإن شئت بثلاث، وإن شئت حدّثتك بقية عشيَّتك حتّى تنقضني ولم تشعر بصومك. قال: هات الأولى فإن اكتفينا وإلاّ سألناك. قال: فقلت: كان أعظم من رأينا وسمعنا - ثم أدركني ذهني فقلت: غير الخلفاء - سلطاناً على نفسه فيما أراد حملها عليه وكفهَّا عنه. قال: لقد ذكرتها نجلاء كافيةً، فما الثانية؟ قلت: قد يكون الرّجل عظيم السلطان على نفسه ولا يكون بصيراً بالمحاسن والمساوىء ولم يُرَ ولم يسمع بأحدٍ كان أبصر بالمحاسن والمساوىء منه، فلا يحمل السلطنة إلاّ على حسن، ولا يكفّها إلاّ عن قبيح. قال:قد جئت بصلةٍ للأولى لا تصلح إلاّ بها، فما الثّالثة؟ قلت: قد يكون الرجل عظيم السلطان على نفسه بصيراً بالمحاسن والمساوىء ولا يكون حظيظاً، فلا يفشو ذلك له في النّاس ولا يذكر به فيكون عند النّاس مشهورا. قال: وأبيك لقد جئت بصلة الأوليتن فما بقية ما يقطع عني العشي قلت: أيّامه السالفة قال: وما أيامه السالفة؟ قلت: يوم فتح خراسان، اجتمعت له جموع الأعاجم بمرو الّروذ فجاءه ما لا قبل له به، وهو في منزل مضيعةٍ، وقد بلغ الأمر به فصلَّى عشاء الآخرة ودعا ربَّه وتضرَّع إليه أن يوفّقه، ثمّ خرج يمشي في العسكر مشي المكروب يتسمَّع ما يقول النّاس، فمرّ بعبدٍ يعجن وهو يقول لصاحبه: العجب لأميرنا يقيم بالمسلمين في منزل مضيعةً وقد جاءه العدوُّ من وجوه، وقد أطافوا بالمسلمين من نواحيهم ثمّ اتّخذوهم أعراضاً وله متحوَّل. فجعل الأحنف يقول: اللهمَّ وفِّق، اللهمَّ وفقّ، اللّهم سدِّد. فقال صاحب العبد للعبد: فما الحيلة؟ قال: أن ينادي الساعة بالرحيل، فإنما بينه وبين الغيضة فرسخ، فيجعلها خلف ظهره فيمنعه الله بها، فإذا امتنع ظهره بعث بمجنَّبته اليمنى واليسرى فيمنع الله بهما ناحيته ويلقى عدوَّه من جانب واحد.فخرَّ الأحنف ساجداً، ثم نادى بالرحيل مكانه، فارتحل المسلمون مكبّين على رايتهم حتى الغيضة، فنزل في قبلها واصبح فأتاه العدوّ، فلم يجدوا إليه سبيلاً إلاّ من وجهٍ واحد، وضربوا بطبولٍ أربعةٍ، فركب الأحنف وأخذ الراية وحمل بنفسه على طبلٍ ففتقه وقتل صاحبه وهو يقول:
إنّ على كلِّ رئيسٍ حقّا ... أن يخضب الصَّعدة أو تندقّا
ففتق الطبول الأربعة وقتل حملتها. فلمّا فقد الأعاجم أصوات طبولهم انهزموا، فركب المسلمون أكتافهم فقتلوهم قتلاً لم يقتلوا مثله قطّ، وكان الفتح. واليوم الثاني أنّ عليّاً رضي الله عنه حين ظهر على أهل البصرة يوم الجمل أتاه الأشتر وأهل الكوفة بعدما اطمأنّ به المنزل وأثخن في القتل، فقالوا: أعطنا، إن كنا قاتلنا أهل البصرة حين قاتلناهم وهم مؤمنون فقد ركبنا حوباً كبيراً، وإن كنّا قاتلناهم كفّاراً وظهرنا عليهم عنوةً فقد حلَّت لنا غنيمة أموالهم وسبي ذراريهم، وذلك حكم الله تعالى وحكم نبيّه صلى الله عليه وسلّم في الكفّار إذا ظهر عليهم. فقال علي: إنّه لا حاجة بكم أن تهيجوا حرب إخوانكم، وسأرسل إلى رجلٍ منهم فأستطلع رأيهم وحجّتهم فيما قلتم. فأرسل إلى الأحنف بن قيس في رهط فأخبرهم بما قال أهل الكوفة، فلم ينطق أحدٌ غير الأحنف فإنّه قال: يا أمير المؤمنين لماذا أرسلت إلينا؟ فوالله إنّ الجواب عنَّا لعندك، ولا نتبع الحقُّ إلاّ بك، ولا علمنا العلم إلاّ منك. قال: أحببت أن يكون الجواب عنكم منكم ليكون أثبت للحجّة وأقطع للتهمة،فقل.فقال: إنهم قد أخطأوا وخالفوا كتاب الله تعالى وسنَّة نبيّهم صلى الله عليه وسلّم، إنّما كان السبي والغنيمة على الكفّار الّذين دارهم دار كفرٍ، والكفر لهم جامعٌ ولذراريهم، ولسنا كذلك ، وإنّها دار إيمانٍ ينادي فيها بالتوحيد وشهادة الحقِّ وإقام الصلاة، وإنّما بغت طائفةٌ أسماؤهم معلومة، أسماء أهل البغي؛ والثاني: حجّتنا أنّا لم نستجمع على ذلك البغي، فإنّه قد كان من أنصارك، من أثبتهم بصيرةً في حقّك وأعظمهم غناءً عنك، طائفةٌ من أهل البصرة، فأيُّ أولئك يجهل حقُّه وتنسى قرابته؟ إن هذا الذي أتاك به الأشتر وأصحابه قول متعلِّمة أهل الكوفة، وايم والله لئن تعرضوا لها ليكرهنَّ عاقبتها ولا تكون الآخرة كالأولى. فقال عليّ رضي الله عنه: ما قلت إلا ما نعرف، فهل من شيءٍ تخصُّون به إخوانكم لما قاسوا من الحرب؟ قالوا: نعم، أعطياتنا ما في بيت المال ولم نكن لنصرفها في عدلك عنّا، فقد طبنا عنها نفساً في هذا العام فاقسمها فيهم. فدعاهم عليّ كرّم الله وجهه فأخبرهم بحجج القوم وبما قالوا وبموافقتهم إيّاه، ثم قسم المال بينهم خمسمائة لكل رجل. فهذا اليوم الثاني. وأمّا اليوم الثالث فإنّ زياداً أرسل إليه بليلٍ وهو جالسٌ على كرسيّ في صحن داره، فقال: يا أبا بحر ما أرسلت إليك في أمر تنازعني فيه مخلوجة، ولكنّي أرسلت إليك وأنا على صريمة، وكرهت أن يروعك أمرٌ يحدث لا تعلمه. قال: ما هو؟ قال: هذه الحمراء قد كثرت بين أظهر المسلمين وكثر عددهم وخفت عدوتهم، والمسلمون في ثغرهم وجهادهم عدوَّهم، وقد خلفوهم في نسائهم وحريمهم، فأردت أن أرسل إلى كلِّ من كان في عرافةٍ من المقاتلة فيأتوا بسلاحهم ويأتيني كلُّ عريف بمن في عرافته من عبدٍ أو مولىً فأضرب رقابهم فتؤمن ناحيتهم. قال الأحنف: ففيم القول وأنت على صريمة؟ قال: لتقولنَّ. قال: فإنّ ذلك ليس لك، يمنعك منه خصالٌ ثلاثٌ: أمّا الأولى فحكم الله في كتابه وحكم رسول الله صلى الله عليه وسلّم عن الله، وما قتل رسول الله صلى الله عليه وسلّم من الناس من قال: لا : لا إله إلا الله وأن محمّداً رسول الله، بل حقن دمه، والثانية: أنّهم غلَّة النّاس لم يغز غازٍ فخلَّف لأهله ما يصلحهم إلاّ من غلاتهم، وليس لك أن تحرمهم، وأما الثالثة: فهم يقيمون أسواق المسلمين، أفتجعل العرب يقيمون أسواقهم قصّارين وقصّابين وحجّامين؟؟! قال: فوثب عن كرسيّه ولم يعلمه أنّه قبل منه، وانصرف الأحنف. قال:فما بتُّ بليلةٍ أطول منها أتسمَّع الأصوات، قال: فلمّا نادى أول المؤذنين قال لمولى له: إيت المسجد فانظر هل حدث أمرٌ، فرجع فقال: صلّى الأمير ودخل وانصرف ولم يحدث إلاّ خير.
إضاءة على الخبر السابق
قال القاضي: قول زياد للأحنف " تنازعني فيه مخلوجة " : أي تعترضني فيه عارضةٌ متعرجةٌ ليست على سمتٍ ولا استقامة، فتقطعني عن الاستمرار فتجذبني إلى الانحراف عن المحجّة إلى الشبهة المؤدّية إلى الحيرة، قال امرؤ القيس:
نطعنهم سلكى ومخلوجةً ... كرَّك لامين على نابل
ويروى كرَّ كلامين، وفي رواية هذا البيت وتفسيره اختلاف، وشرحه مستقصىً في غير هذا الموضع. وأصل الاختلاج الاقتطاع والاجتذاب، ومنه سمّي الخليج خليجاً لأنّه مخلوجٌ من البحر ومعظم الماء، بمنزلة مجروح وجريح ومقتول وقتيل. وقوله: " وأنا على صريمة " أي على أمرٍ أنا قاطعٌ عليه وواثقٌ به، من صرم الحبل إذا قطعه، فصريمة ذاك مقطوعٌ عليها غير مرتابٍ بها. ومن ذلك قول الأعشى:
وكان دعا قومه دعوةً ... هلمَّ إلى أمركم قد صرم
أي قطع وأحكم. وفي هلمَّ لغتان أفصحهما اللُّغة الحجازيّة، وهي هلمَّ للواحد والاثنين والجمع والمذكر والمؤنّث على اختلاف أهل اللّغة في جمع المؤنّث، فمنهم من يقول هلمنَّ ومنهم من يقول: هلممن، وأمّا أهل الحجاز فلغتهم هلمَّ في المواضع كلّها على ما قدّمنا ذكره. و بنو تميم وأهل نجد يقولون هلمَّا وهلمّوا وهلمّي وهلمنَّ وهلممن. وقد روي بيت الأعشى على اللُّغتين الحجازيّة والتميميّة هلمّ إلى أمركم وهلمّوا إلى، وجاء القرآن في هذا بلغة أهل الحجاز، قال الله تعالى: " قل هلمَّ شهداءكم " " الأنعام: 150 " وقال تبارك وتعالى: " والقائلين لإخوانهم هلمَّ إلينا " " الأحزاب: 48 " .
؟
المجلس التاسع والثمانون
؟
الملائكة وعيد الفطر
أخبرنا القاضي أبو الفرج المعافى بن زكريّا قال ، حدّثنا نصر بن أحمد بن أزهر الخطاب قال، حدّثنا محمد بن طاهر بن عمران الموصلي قال، حدّثنا سليمان بن الفضل اليزيدي قال، حدثنا مسلم بن سالم البلخي عن سعيد بن عبد الجبّار الحمصي عن أبي توبة عن سعيد بن أوس الأنصاري عن أبيه قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا كان يوم عيد الفطر وقفت الملائكة عليهم السلام في أفواه الطرق فنادوا: يا معشر المسلمين اغدوا إلى ربٍّ رحيمٍ يأمر بالخير ويثبت عليه الجزيل، أمركم بصيام النهار فصمتم وأطعمتم ربّكم عز وجل، فاقبضوا جوائزكم، فإذا صلَّوا العيد نادى منادٍ من السَّماء: ارجعوا إلى منازلكم راشدين فقد غفر لكم ذنوبكم. ويسمّى ذلك اليوم في السماء يوم الجائزة.
قال القاضي: في هذا الخبر ما يرغّب المؤمنين في طاعة ربّهم وتأدية فرضه عليهم وما يرجون نيله من ثوابه بحسب ما وعدهم في كتابه وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم.
؟وريث ابن راعي الإبل حدثنا محمد بن الحسن بن جريد قال: أخبرنا أبو حاتم عن الأصمعي قال: قدم الراعي على خالد بن عبد الله بن بن خالد بن أسيد ومعه ابنٌ له، فمات ابنه بالمدينة، فلمّا دخل على خالد سأله عنه فقال: مات بعدما زوجته وأصدقت عنه، فأمر له بدية ابنه وصداقه، فقال الراعي:
وديت ابن راعي الإبل إذ حان يومه ... وشقَّ له قبراً بأرضك لاحد
وقد كان مات الجود حتّى نشرته ... وأذكيت نار الجود والجود خامد
فلا حملت أنثى ولا آب آيبٌ ... ولا بلَّ ذو سقمٍ إذا مات خالد
قال القاضي: قول الراعي " وديت ابن راعي الإبل " : أراد أدّيت ديته، يقال: وديت القتيل إذا أديّت ديته إلى أهله، ووديت عنه من مالك دية جنايته، وقيل إنَّ هذا ممَّا عابى به الكسائيُّ محمد بن الحسن فلم يعرف الفرق بينهما.
وأمّا قوله " وشقَّ له قبراً بأرضك لاحد " فإنّ وجه الكلام في هذا أن يقال: شقّ شاقّ ولحد لاحدٌ، ويقال: ألحد ملحد، وذلك أنّ الشق ما كان من الحفر في وسط القبر، واللحد ما كان في جانبه. بيَّن هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم: " اللحد لنا والشقّ لغيرنا " . ولكنّه لمّا كان اللّحد شقّاً قد ميل به عن الوسط إلى الجانب قال: وشقَّ له. وأصل اللّحد مأخوذٌ من الميل، يقال فيه: لحد وألحد في الدين وغيره، من الميل. وقد قرئ باللغتين في القرآن فقرأ الجمهور: " وذروا الّذين يلحدون في أسمائه " " الأعراف: 180 " : " لسان الّذي يلحدون إليه أعجميّ " " النحل: 103 " " وإنَّ الّذين يلحدون في آياتنا لا يخفون علينا " " فصلت: 40 " . وقرأ الآخرون الأحرف الثلاثة بالفتح؛ وممّن قرأ كذلك حمزة. وكان الكسائي يقرأ التي في الأعراف وحم السجدة بالضم، ويفتح الّذي في النحل لوضوح دلالته على الميل بقوله " إليه " فكان أخصَّ بالدّلالة إلى معنى الميل من " في " . وقد يكون ما اختاره الكسائيُّ بعيداً في تفريقه بين اللفظين إلى الجمع بين اللغتين كما قال الله عزّ وجلّ: " فمهِّل الكافرين أمهلهم رويداً " " الطارق:17 " ، وقد كان الكسائي يفعل هذا كثيراً، من ذلك ما روي عنه من اختياره في قراءة: " لم يطمثهنَّ " " الرحمن:56 " ضم عين الفعل في أحد الموضعين وكسرها في الآخر. والّذي اختاره من القراءة على لغة من يقول " لحد " في موضع وعلى لغة من يقول " ألحد " في غيره حسنٌ جميلٌ عندي.
وقول الراعي " وقد كان مات الجود حتّى نشرته " اللّغة الصحيحة " أنشر الله الميّت، فنشر هو، ونشره فهو منشور لغة قد قرئ بها، وقد مضى من شرح هذا فيما تقدّم من مجالسنا هذه ما نكتفي به فنستغني عن إعادته. وقوله " ولا بلَّ من سقم " : يقال بلَّ الرجل من مرضه وأبلَّ واستبلَّ إذا برأ وصحَّ، قال الشاعر:
إذا بلَّ من داءٍ به ظنَّ أنّه ... نجا وبه الدّاء الّذي هو قاتله
وقال الأعشى:
وكأنّها محموم خيبر بلَّ من أوصابها
هارون الرشيد يكتشف أن المأمون ينظم الشعر
حدّثنا الحسين بن القاسم الكوكبي قال، حدّثنا أبو خليفة الفضل بن الحباب الجمحي قال، حدّثنا عبد الله بن محمّد التيميّ قال: أراد الرشيد سفراً فأمر النّاس أن يتأهّبوا وأعلمهم أنّه خارج بعد الأسبوع، فمضى الأسبوع ولم يخرج، فاجتمعوا إلى المأمون فسألوه أن يستعلم ذلك، ولم يكن الرشيد يعلم أن المأمون يقول الشعر، فكتب إليه المأمون:
يا خير من دبَّت المطيُّ به ... ومن تقدّى بسرجه فرس
هل غايةٌ في المسير نعرفها ... أم أمرنا في المسير ملتبس
ما علم هذا إلاَّ إلى ملكٍ ... من نوره في الظلام نقتبس
إن سرت سار الرشاد متّبعاً ... وإن تقف فالرشاد محتبس
فقرأها الرشيد فسرّ بها ووقّع فيها: يا بنيَّ ما أنت والشعر؟ أما علمت أنَّ الشعر أرفع حالات الدنيّ وأقلُّ حالات السّري، والمسير إلى ثلاثٍ إن شاء الله.
قال القاضي: قول المأمون في شعره ومن تقدّى بسرجه فرس: تقدَّى استمرّ كما قال ابن قيس الرقيّات:
تقدَّت بي الشهباء نحو ابن جعفرٍ ... سواءٌ عليها ليلها ونهارها
أي استمرّت وجرت قاصدةً إليه.
تعزية يحيى بن زياد لبعض أهله
حدّثنا عمر بن الحسن بن علّ بن مالك الشيباني قال، حدّثنا محمّد بن زيد قال: كتب يحيى بن زياد إلى بعض أهله يعزّيه: أما بعد فإنّ المصيبة واحدة إن صبرت ومصائب إن لم تصبر، وقد مضى لك سلفٌ يحسن عليهم البكاء، وبقي خلفٌ في مثلهم العزاء، فلا البكاء يردُّ الماضي وبالعزاء يطيب عيش الباقي، ونحن عمّا قليل بهم لاحقون، فآثر الصّبر فإنّه أردُّ الأمرين عليك وأرجعهما بالنفع إليك.
قال القاضي: ولمن تقدّمنا من التعازي ما يستحسنه الالباء لبلاغته وفصاحته وجودة معناه وقوته وجزالته، وتعزية يحيى بن زياد هذه من أحسن ما روي في هذا الباب وأبلغه.
رؤية في صغره
حدثنا محمد بن القاسم الأنباري قال، حدثني أبي قال، حدثنا أبو بكر محمد بن عبد الله بن آدم العبدي قال العجّاج: سقط خبالي عليَّ فاستغثت بولدي فلم يجبني أحد منهم، ثم جاءني رؤية وهو صبي صغير فقلت له:
إنَّ بنيَّ للئامٌ زهده ... مالي في صدورهم من مودده
إلاّ كودِّ مسدٍ لقرمده
قال فقال رؤية:
إنّ بنيك لكرامٌ مجده ... ولو دعوت لأتوك حفده
عجّاج ما أنت بأرض مأسده
قال: فضممته إليّ وقلت: ابني سيكون. قال أبو بكر: المسد حبالٌ تعمل من ضروب من أوبار الإبل، والقرمد: الآجرّ.
قال القاضي: قد مضى خبر العجّاج هذا في بعض ما تقدّم من هذه المجالس، وفسَّرنا ما فيه من إعراب وغريب، وأوردناه عن شيخ حدّثنا به عن أبي بكر ابن الأنباري.
شاهك فما معنا في البيت أحد
حدّثنا الحسن بن أحمد بن محمد بن سعيد الكلبي قال، حدّثنا محمد بن زكريا الغلابي قال، حدّثنا عبد الله بن الضحّاك ومهدي بن سابق قالا: حدّثنا الهيثم بن عدي عن صالح بن حسان قال: كان عبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب صديقاً للوليد يآتيه ويؤانسه، فجلسا يوماً يلعبان بالشطرنج إذ أتى الآذن فقال: أصلح الله الأمير، رجلٌ من أخوالك من أشراف ثقيف قدم غازياً وأحبَّ السلام عليك، فقال: دعه، فقال عبد الله: وما عليك إئذن له، فقال: نحن على لعبتنا وقد أجحت عليك. قال: فادع بمنديلٍ فضع عليها ويسلّم الرجل ونعود، ففعل، ثم قال: ائذن له، فدخل مشمرٌ له هيبة، بين عينيه أثر السجود، وهو معتمّ قد رجَّل لحيته، فسلّم ثم قال: أصلح الله الأمير قدمت غازياً وكرهت أن أجوزك حتّى أقضي حقّك، قال: حيّاك الله وبارك عليك، ثم سكت عنه. فلما أنس أقبل عليه الوليد فقال: يا خال هل جمعت القرآن؟ قال: لا كانت تشغلنا عنه شواغل. قال: حفظت من سنّة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومغازيه وأشعارها؟ قال: لا. قال: فأحاديث أهل الحجاز ومضاحكها؟ قال: لا. قال: فأحاديث العجم وآدابها؟ قال: إن ذلك شيءٌ ما كنت أطلبه. فرفع الوليد المنديل وقال:: شاهك. قال عبد الله بن معاوية: سبحان الله، قال: لا والله ما معنا في البيت أحد. فلمّا رأى ذلك الرجل خرج فأقبلوا على لعبهم.
الحسب بلا أدب
قال القاضي: ما أعجب كلام الوليد هذا وألطفه وأحسنه وأظرفه. وشبيه هذا ما روي أنّ رجلاً خاطب معاوية فأكثر اللّغو في كلامه فضجر معاوية وأعرض عنه، فقال: أأسكت يا أمير المؤمنين؟ فقال: وهل تكلّمت؟ ولعمري إن ذا الجهل والغباوة إلى منزلة من النقص وسقوط القدر وبمعزل من الطبقة الّتي تستحقّ التهيُّب والأعظام والتبجيل والأكرام، وإن اتفق لهم بالجد وطائر السعد إعظام كثير من النّاس لهم واغترار طائفة من الأغنياء بهم. وقد ذكر أن بزرجمهر سئل: ما نعمة لا يحسد صاحبها عليها؟ قال: التواضع، قيل: فما بلية لا يرحم صاحبها؟ قال: الكبر، قيل: فما الّذي إذا انفرد لم يساو شيئاً؟ قال: الحسب بلا أدب. وفي استقصاء القول في هذا الباب طولّ لا يحتمله هذا الموضع.
حلم سلمى بن نوفل
حدّثنا محمد بن يحيى الصُّولي قال، حدّثنا محمّد بن يزيد قال، حدّثنا محمّد بن صفوان عن أبيه قال: كان سلمى بن نوفل الدَّيلي سيداً في كنانة، فوثب رجل من أهله على ابنه فجيء به إليه، فقال له: ما أمَّنك منّي وأجرأك عليَّ؟ أما خشيت عقابي؟ قال: لا، قال: ولم؟ قال: لأنّا سوّدناك لكظم الغيظ والحلم عن الجاهل، فخلَّى سبيله.
ولِّ البكاء أهله - مصرع أبناء الحارث الباهلي
حدّثنا عبد الله بن منصور الحارثي قال، محدّثنا محمّد بن زكريا الغلابي قال، حدّثنا إبراهيم بن عمر بن حبيب قال، حدّثني سعيد بن سلم الباهلي قال: كان الحارث بن حبيب الباهلي كثير البنين فنحّي بنيه عن قومه يخشى معرّتهم عليهم، فغاب الحارث بن حبيب وشوى بنوه شاةً لهم فأخرجت وغطوها فأكلوا منها فماتوا وهم ثمانية، فجاء فرآهم موتى حول الشاة، فأكل منها وأكثر ليموت فلم يمت، فركب ناقةً له يريد قومه ليعينوه على دفنهم، فمرَّ وهو راكب برجلٍ جالسٍ يبكي، وهو رجل من بني قشير، فقال: ما لك؟ قال: كانت لي شاة فأكلها الذئب فنزل عن راحلته فقال: هذه لك بدل شاتك وولِّ البكاء أهله، ثم قال:
يا أيُّها الباكي على شاته ... يبكي جهاراً غير إسرار
إنّ الرزيّات وأشباهها ... ما غادر الحارث في الدار
والحارث الّذي يقول:
المرء يأمل أن يعيش وطول عيشٍ قد يضرُّه
تفنى بشاشته ويبقى بعد حلو العيش مرُّه
وتسوءه الأيام حتى لا يرى شيئاً يسرّه
كم شامتٍ لي إن هلكت وقائلٍ للّه درّه
الحطيئة يعجب بابن عباس
حدّثنا الحسين بن أحمد بن محمّد بن سعيد الكلبي قال، حدّثنا محمد بن زكريّا قال، حدّثنا محمّد بن سلام عن محمّد بن حفص قال، وحدّثنا محمّد بن زكريا قال وحدّثنا ابن عائشة عن أبيه قال: نظر الحطيئة إلى ابن عبّاسٍ في مجلس عمر وقد فرغ من كلامه، فقال: من الّذي قد نزل عن القوم في سنِّه وعلاهم في قوله؟ قالوا: هذا ابن عبّاس، هذا ابن عمّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنشأ يقول:
إنّي وجدت بيان المرء نافلةً ... تهدى له ووجدت العيَّ كالصَّمم
المرء يبلى ويبقى الكلم سائره ... وقد يلام الفتى يوماً ولم يلم
الكلم والكلم
قال القاضي: قوله " وتبقى الكلم " : الكلم ها هنا جمع كلمة، وأصل الكلم بكسر اللاّم فسكّنه تخفيفاً لأقامة وزن البيت كما قالوا في ملك ملك، وفخذ وكبد. قال الله تعالى: " يحرّفون الكلم عن مواضعه " " المائدة: 13 " . وقد روي عن تميم بن حدلم أنّه قرأ: " تحرفون الكلام " . وقد قرأه علماء الأمصار " يريدون أن يبدّلوا كلام الله " " الفتح: 15 " و " كلم الله " . وممّا قيل في هذا وهو ممّا يستحسن لبعض المحدثين:
قالت عييت عن الشكوى فقلت لها ... جهد الشكاية أن أعيا عن الكلم
فأمّا الكلم الّذين عين فعله ساكنة في أصل بنائه فإنه مصدر كلمه يكلمه كلماً، بمعنى جرحه يجرحه جرحاً كما قال الشّاعر:
لعمرك إنّ الدّار غفرٌ لذي الهوى ... كما يغفر المحموم أو صاحب الكلم
يعني إن ذا الهوى يهتز لذكرها كما يهتز المحموم والمكلوم أي المجروح ويهتران. ويجمع الكلم كلاماً مثل جرح وجراح، وجمع فعل على فعال كثير جداً في القلّة مثل كلب وكلاب وسهم وسهام، ومنه قول الشاعر:
أجدَّك ما لعينك لا تنام ... كأنّ جفونها فيها كلام
وروي عن النبي صلى الله عليه وسلّم أنّه قال: ما من أحدٍ يكلم كلماً في سبيل الله عزّ وجلّ إلاّ جاء يوم القيامة وأوداجه تشخب دماً: اللون لون دمٍ والريح ريح مسكٍ. ويجمع الكلم أيضاً مثل فلس وفلوس،وصقر وصقور،ومثله كثير. ومن الكلوم قول بعض الشعراء:
فلو أنّ قولاً يكلم الجلد قد بدا ... بجلدي من قول الوشاة كلوم
وقوله " سائره " يعني أنّه يبقى سائر الكلام يريد الحكم السائرة من الكلم، يقال: قولٌ سائر ومثلٌ سائر، وقوله " سائره " بدل من الكلم تابعٌ له في إعرابه كقولك يعجبني القول بليغه.
لماذا أكلت الفأر أذن الإسرائيلي
حدثنا أبي رضي الله عنه قال، حدّثنا أبو أحمد الختلي، أخبرنا عمّي يعني النسائي قال، حدّثني سليمان بن عبد الحميد المهراني قال، حدّثنا يحيى بن صالح الوحاظي قال، حدّثنا إسماعيل بن عيّاش قال: حدّثني بشر بن عبد الله بن سيّار أنّ رجلاّ من بني إسرائيل حضره الموت، فرأى جزع امرأته عليه فقال: أتحبّين أن لا أفارقك؟ قالت: نعم، قال: فاصنعي لي تابوتاً ثم اجعليني في بيتك هذا فإنّه لا يتغيّر جسدي، ففعلت، فاطلعت بعد زمانٍ فإذا هي بإحدى أذنيه قد أكلت، فقالت: فلانٌ ما كذبتني قبلها، قال: فاستأذن ربّه عز وجل فردَّ الله عزّ وجلّ عليه روحه، فقال لها: إنّ الّذي رأيت من أذني أني سمعت ملهوفاً يوماً من الأيّام يستغيث فلم أغثه فأكلت أذني الّتي كانت تليه.
عمر بن عبد العزيز يرد المظالم
حدّثنا إبراهيم بن محمّد بن عرفة الأزدي قال، حدّثنا عبد الله ابن أخت أبي الوزير عن أبي محمّد الشامي قال: كنت غلاماً في خلافة عمر بن عبد العزيز، فلمّا أخذ عمر في ردّ المظالم غلظ ذلك على أهل بيته وعلى جميع قريش، فكتب إليهم عبد الرحمن بن الحكم بن هشام:
فأبلغ هشاماً والّذين تجمّعوا ... بدابق لاسلمتم آخر الدهر
ويروي:
فقل لهشامٍ والّذين تجمّعوا ... بدابق موتوا لا سلمتم يد الدّهر
فأنتم أخذتم حتفكم بأكفّكم ... كباحثةٍ عن مديةٍ وهي لا تدري
عشيّة بايعتم إماماً مخالفاً ... له شجنٌ بين المدينة والحجر
فأجابه بعض ولد مروان عن هشام بن عبد الملك:
لئن كان ما تدعو إليه هو الردى ... فما أنت فيه ذو غناء ولا وفر
وأنت من الريش الذنابى ولم تكن ... من الجزلة الأولى ولا وسط الظهر
ونحن كفيناك الأمور كما كفى ... أبونا أباك الأمر في سالف الدّهر
صرف دابق وعدم صرفه
قال القاضي: قال عبد الرحمن بن الحكم في شعره هذا " بدابق " فلم يصرفه في موضعين، وفي صرفه وترك صرفه وجهان معروفان في كلام العرب، والعرب تذكّره وتؤنّثه، فمن ذكّره صرفه كما قال الشّاعر:
بدابقٍ وأين منّي دابق
ومن أنَّثه لم يصرفه كما قال الآخر:
لقد خاب قومٌ قلّدوك أمورهم ... بدابق إذ قيل العدوُّ قريب
الباحثة عن حتفها
وقوله " كباحثة عن حتفها هي لا تدري " هذا مثل يضرب للذّي يثير بجهله ما يؤدّيه إلى هلاكه أو الاضرار به. وأصله أن ناسا ً أخذوا شاةً ليست لهم فأرادوا أكلها، فلم يجدوا ما يذبحونها به فهموا بتخليتها، فاضطربت عليهم، ولم تزل تثير الأرض وتبعثرها بقوائمها، فظهر لهم فيما احترفته مديةٌ فذبحوها بها، وصارت هذه القصّة مثلاً سائراً فيما قدّمنا ذكره. وقول المرواني " وأنت من الريش الذناني " . يقال ذنب الفرس وغيره، وذنابى الطّائر وذنابى الوادي وذنابته ومذنب النهر قال الشّاعر:
أيا جحمتا بكي على أمِّ صاحب ... قتيلة قلَّوبٍ باحدى الذنائب
ويروى المذانب، والجحمتان: العينان، والواحدة جحمة، ويقال إنّها بلغة أهل اليمن، والقلَّوب: الذئب.
شعر ابن البختري في خالد بن الوليد حدّثنا أحمد بن العبّاس العسكري قال، حدّثنا عبد الله بن أبي سعد قال، حدّثني عبد الرحمن بن حمزة اللخمي قال، حدّثنا أبو علي الحرمازي قال: دخل هشام البختريّ في ناسٍ من مخزوم على عمر بن الخطّاب رضي الله عنه فقال له: يا هشام أنشدني شعرك في خالد بن الوليد، فأنشده فقال: قصَّرت في البكاء على أبي سليمان رحمه الله،إن كان ليحب أن يذلَّ الشرك وأهله، وإن كان الشّامت به لمتعرضاً لمقت الله. ثم قال عمر رضي الله عنه: قاتل الله أخا بني تميم ما أشعره.
فقل للّذي يبقى خلاف الّذي مضى ... تهيّاً لأخرى مثلها فكأن قد
فما عيش من قد عاش بعدي بنافعٍ ... ولا موت من قد مات يوماً بمخلدي
ويروى: " ولا موت من قد مات قبلي " . ثم قال: رحم الله أبا سليمان ما عند الله خيرٌ له مما كان فيه، ولقد مات فقيداً وعاش حميداً، ولكن رأيت الدهر ليس يقاتل.
قال القاضي: لقد أحسن عمر بن الخطّاب رضوان الله عليه الثناء على خالد بن الوليد رحمه الله على تشعُّثٍ قد كان بينهما، فلم يثنه عن معرفة حقّه وصحبته وصلة رحمه، وكان ابن خالته. وقد كان الصحابة، رضوان الله عليهم، ربَّما عرض فيما بينهم بعض العتب وبعض ما يوحش الإخوان فلا يخرجهم ذك عن الولاية إلى العدواة.
المجلس التسعون
ما أعده الله للصالحين
حدَّثنا طلحة بن محمّد بن إسرائيل الجوهري قال، حدّثنا يحيى بن أبي طالب أبو بكر قال، حدّثنا عبد الوهّاب قال، حدّثنا أبو محمّد الحماني عن أبي هارون العبدي عن أبي سعيد الخدري عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: إنّي رفعت إلى الجنّة فاستقبلتني جاريةٌ فقلت: لمن أنت يا جارية؟ قالت: لزيد بن حارثة. وإذا بأنهارٍ من ماء غير آسن، وأنهارٍ من لبنٍ لم يتغيَّر طعمه، وأنهارٍ من خمر لذّة للشاربين، وأنهارٍ من عسلٍ مصفَّى، وإذا رماَّنها كأنّه الدلاء عظماً، وإذا بطائرها كأنّه بختكم هذه، فقال عندها صلى الله عليه وسلم: " إن الله عز وجل أعدَّ للصالحين مالا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر " .
مكانة زيد بن حارثة
قال القاضي: قد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في فضل زيد بن حارثة وفي أنه صادفه في الجنّة، وكان من أبرِّ الناس بأمّه، وقال النبيّ صلى الله عليه وسلم حين أخبر بإكرام الله تعالى زيداً وإسكانه جنّته: كذلكم البرُّ كذلكم البرُّ، ولن يضيع لأولياء الله عند ربّهم إحسانهم بطاعته إلى أنفسهم. نسأل الله التوفيق لطاعته والعصمة من معصيته، إنّه رؤوفٌ رحيم جواد كريم.
النابغة الجعدي
حدثنا محمد بن الحسن بن دريد، حدثنا أبو حاتم قال، قال النابغة الجعدي أبو ليلى، واسمه قيس بن عبد الله بن عدس، وقال القحذمي: اسمه حبَّان بن قيس بن عبد الله بن وحوح بن عدس بن ربيعة بن جعدة بن كعب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة، وكان أسنَّ من النّابغة الذبياني، والدليل على ذلك قوله:
تذكّرت والذكرى تهيج على الهوى ... ومن حاجة المحزون أن يتذكّرا
نداماي عند المنذر بن محرِّقٍ ... أرى اليوم منهم ظاهر الأرض مقفرا
كهولٌ وفتيانٌ كأنّ وجوههم ... دنانير ممّا شيف في أرض قيصرا
قال: فهذا يدلّك على أنّه كان مع المنذر بن محرق، والنابغة كان مع النعمان بن المنذر بن محرق، وكان النابغة غبر ثلاثين سنة لا يتكلّم، ثم تكلّم بالشعر، ومات وهو ابن مائة وعشرين سنة بأصبهان، وكان ديوانه بها، وهو الذي يقول:
فمن يك سائلاً عنّي فإنّي ... من الشبّان أيّام الخنان
وأيّام الخنان كانت أياماً في العرب قديمة لداءٍ هاج فيهم:
مضت مائةٌ لعام ولدت فيه ... وعشرٌ بعد ذاك وحجّتان
فأبقى الدّهر والأيام منّي ... كما أبقى من السيف اليماني
تحسّر وهو مأثور جرازٌ ... إذا جمعت لقائمه اليدان
وقال أيضاً في طول عمره:
لبست أناساً فأفنيتهم ... وأفنيت بعد أناسٍ أناسا
ثلاثة أهلين أهلكتهم ... وكان الإله هو المستآسا
قال أبو حاتم، قال أبو عبيدة: وكان النابغة ممّن فكَّر في الجاهليّة فأنكر الخمر والسكر وما يفعل بالعقل، وتجنَّب الأزلام والأوثان، وقال قصيدته التّي أوّلها:
الحمد لله لا شريك له ... من لم يقلها فنفسه ظلما
وكان يذكر دين إبراهيم وإسماعيل صلَّى الله عليهما، ويصوم ويستغفر ويتوقّى أشياء لعواقبها، ووفد على النبيّ صلى الله عليه وسلم وقال في ذلك:
لأتيت رسول الله إذ جاء بالهدى ... ويتلو كتاباً كالمجرَّة نيّرا
وجاهدت حتّى ما أحسَّ ومن معي ... سهيلاً إذا ما لاح ثم تغوّرا
يقول: كنت بالشّام وسهيلٌ لا يكاد يرى هناك.
يقوم على التقوى ويوصي بفعلها ... وكان من النّار المخوفة أوجرا
قال أبو حاتم، وأخبرنا داود بن رشيد قال، أخبرنا يعلى بن الأشدق العقيلي قال: سمعت النابغة يقول: أنشدت رسول الله صلى الله عليه وسلم:
بلغنا السماء مجدنا وجدودنا ... وإنّا لنرجو فوق ذلك مظهرا
فقال: أين المظهر يا أبا ليلى؟ قلت: الجنة، قال: أجل إن شاء الله. ثم أنشدته قولي:
ولا خير في حلمٍ إذا لم يكن له ... بوادر تحمي صفوه أن يكدَّرا
ولا خير في جهلٍ إذا لم يكن له ... حليمٌ إذا ما أورد الأمر أصدرا
فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: " لا يفضض فوك " . فمات وله عشرون ومائة سنة لم يغيَّر له سنّ.
استطراد في شرح شيف وغيرها
قال القاضي: قول النابغة في أرض قيصرا " : معنى شيف جلي ومسح حتّى أنار وصفا، كما قال عنترة:
ولقد شربت من المدامة بعدما ... ركد الهواجر بالمشوف المعلم
يقال للدينار والدرهم المجلوّين: دينار مشوفٌ ودرهم مشوف، ويقال شافه يشوفه شوفاً كما قال امرؤ القيس:
بأسحم ملتف الغدائر واردٍ ... وذي أشرٍ تشوفه وتشوص
قال القاضي: قوله " تشوفه " أي تجلوه، والأشر: تحديد أطراف الأسنان ورقّتها. وذكر أن أعرابيّاً أتي بطفل لم تنبت أسنانه فجعل يقبّله ويقول: وابأبي دردرك، فرأته امرأته ولم تكن حظيّةً عنده، فظنّت أن الفم الأدرد يعجبه، فعمدت إلى فهرٍ فصكَّت به أسنانها حتّى ألقتها ثم جائته فلمّا رآها قال: أعييتني بأشرٍ فكيف بدردرٍ؟! والأدرد: الّذي ليس في فيه شيء من الأسنان، يقال: درد الرجل يدرد إذا لم يبق له سنّ. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنّه قال: " أوصاني جبريل عليه السلام بالسواك حتّى خفت أن أدرد " . ويقال: رجل أدرد وامرأة درداء، ودريدٌ تصغير أدرد، ويسمِّي هذا البصريّون من النحويّين تصغير الترخيم لحذف ما حذف منه، ولو صغِّر على أصله وتمامه لقيل أديرد. ومثل هذا أحمد وأحميد وحميد وأزرق وأزيرق وزريق. ومن الأدرد قول الشاعر:
فما تدَّري من حيّةٍ جبليَّةٍ ... سكاتٍ إذا ما عضَّ ليس بأدردا
وقول امرئ القيس " وتشوص " أي تغسله غسلاً تبالغ فيه بالمضمضة وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنّه كان إذا قام من اللّيل يشوص فاه بالسواك.
طوق بن مالك وأعرابية
حدّثنا الحسين بن القاسم الكوكبي قال، حدّثنا علي بن هشام الرقي قال، حدّثني محمّد بن يحيى بن مسلم الحرّاني قال: كان طوق بن مالك يتولَّى الدبار وكان من عادته إذا صلّى الجمعة أن ينادي مناديه: من له مظلمة، من له قصَّة، من له حاجة فليشهد الباب ولينصرف. ففعل هذا في جمعة من الجمع، فلمّا صار بين باب داره والمسجد اعترضته امرأةٌ أعرابيةٌ من بني كلاب كاللبؤة المجرية،فأخذت بعنان دابّته ثم أنشأت تقول:
يا طوق يا ذا الجود فاسمع إلى ... مقصد هذي المرأة المسلمة
ناديت من كانت له قصّة ... أو حاجةٌ أو من له مظلمه
فليشهد الباب، فقد جئته ... أشكو إليك السّنة المظلمه
أمّ بنين كلّ يوم لها ... قتلٌ وفي أموالنا ملحمه
أعد بني الدنيا على دهرهم ... وأبن لعدنان بها مكرمه
فقال: أي والله أيّتها المرأة، نعديك على دهرك. ثم أمر الخدم بضمّها، فرأيتها بعد ذلك بحال حسنةٍ وبزةٍ جميلة.
الشعراء يستأذنون على عقيلة بنت عقيل بن أبي طالب
حدثنا محمد بن القاسم الأنباري قال، حدّثنا أبو الحسن أحمد بن محمّد بن عبد الله بن صالح قال، حدّثنا أبو عبد الله ابن النطاح قال، حدّثنا أبو عبيدة عن أبي عبد الرحمن عن صالح بن كيسان، قال: كانت عقيلة بنت عقيل بن أبي طالب تجلس للرجال، فاستأذن عليها جميلٌ فأذنت له، فلمّا دخل قيل لها: هذا كثيّر بالباب، فقالت: أدخلوه، فما لبث أن قيل لها: هذا الأحوص بالباب، فقالت: أدخلوه. فأقبلت على جميل وقالت: ألست القائل:
فلو تركت عقلي معي ما طلبتها ... ولكن طلابيها لما فات من عقلي
أما تطلبها إلاّ لذهاب عقلك؟! أما والله لولا أبياتٌ قلتها ما أذنت لك، وهي:
علقت الهوى منها وليداً فلم يزل ... إلى اليوم ينمي حبُّها ويزيد
فلا أنا مرجوعٌ بما جئت طالباً ... ولا حبُّها فيما يبيد يبيد
يموت الهوى منّي إذا ما لقيتها ... ويحيا إذا فارقتها فيعود
ثم أقبلت على كثيّر فقالت: وأمّا أنت يا كثيّر فأقلُّ الناس وفاءً في قولك:
أريد لأنسى ذكرها فكأنَّما ... تمَّثل لي ليلى بكلِّ سبيل
أما تريد أن تذكرها حتّى تمثَّل لك؟! أما والله لولا أبياتٌ قلتها ما أذنت لك، وهي:
عجبت لسعي الدّهر بيني وبينها ... فلمّا انقضى ما بيننا سكن الدّهر
فيا حبَّ ليلى قد بلغت بي المدى ... وزدت عل ما ليس يبلغه الهجر
قال القاضي: المشهور من هذين البيتين أنّهما من كلمة لأبي صخر الهذلي منسوبة إليه أوّلها:
لليلى بذات الجيش دار عرفتها ... وأخرى بذات البين آياتها سطر
وقد أملَّها علينا عن أحمد بن يحيى عن عبد الله بن شبيب معزوّةً إلى أبي صخر، محمد بن القاسم الأنباري ومحمّد بن يحيى الصولي.
ثم أقبلت على الأحوص وقالت: وأمّا أنت يا أحوص فألأم العرب في قولك:
من عاشقين تراسلا وتواعدا ... ليلاً إذا نجم الثّريّا حلَّقا
باتا بأنعم عيشةٍ وألذّها ... حتّى إذا وضح النّهار تفرّقا
لم قلت: تفرّقا؟! أما والله لولا شيءٌ قلته ما أذنت لك، وهو:
كم من دنيّ لها قد صرت أتبعه ... ولو صحا القلب عنها كان لي تبعا
قال: ثم قالت لكثيّر: يا فاسق أخبرني عن قولك:
أإن زمَّ أجمالٌ وفارق جيرةٌ ... وصاح غراب البين أنت حزين
أين الحزن إلاّ عندها؟ فقال كثيّر؟ أعزّك الله، قد قلت شيئاً أذهب هذا العيب عنّي، وهو:
وأزمعن بيناً عاجلاً وتركنني ... بصحرا خريمٍ قاعداً أتبلَّد
وبين التراقي واللهاة حرارة ... مكان الشجا لا تطمئنُّ فتبرد
وقد كانت قالت لجواريها: مزِّقن ثيابه عليه، فلمّا أنشد هذين البيتين قالت: خلِّين عنه يا خبائث، وأمرت له بحلَّةٍ يمانيةٍ وبمائة دينار فأخذهما وانصرف.
دعوى عريضة تنسب للجرمي
حدّثنا محمد بن يحيى الصّولي قال، حدّثنا محمّد بن يزيد قال، قال أبو عمر الجرمي يوماً: أنا أعلم النّاس بكلام العرب، فسمعه ألأصمعي فقال: كيف تنشد هذا البيت:
قد كنَّ يخبأن الوجوه تستّراً ... فالآن حين بدأن للنظّار
أو حين بدين؟ قال أبو عمر: حين بدأن، فقال: أخطأت، فقال: بدين، فقال: أخطأت يا أعلم النّاس بكلام العرب، حين بدون.
القاضي ينفي الدعوى عن الجرمي، ويخطئه
قال القاضي: أبو عمر الجرمي أرفع طبقةً عندنا في علم العربيّة من أن يذهب مثل هذا عليه، ولكنَّه أجاب على البديهة، وترك التبين والرويّة، فوقع في خطأ العجلة، وهو أعلم بالتصريف والأبنية وأمضى في معرفة المهموز والفصل في غير المهموز من بنات الواو وبنات الياء من الأصمعي. وأمّا تخطئة الأ صمعي له في قوله بدأن في البيت الّذي أنشده فهو كما ذكر، وقد أصاب في تخطئته. وأمّا تخطئته إيّاه في قوله بدين فكما قال أيضاً، وإنّما يقال بدأن بكذا إذا ابتدأن به بتحقيق الهمزة، وبدان بتليين الهمزة، وبدين على قلبها ياء حين ألقاها، كما يقال قرأت وقريت، وصحيفة مقروءة على تحقيق الهمزة، ومقروَّة على تليينها، ومقراةٌ على الطرح والقلب، وقد قرأ جمهور القرأة: " أرأيت " " أريت " بالطرح، واختار الكسائي هذا الوجه فقرأ به، وهو معروفٌ في العربيّة، وفيه تفريق بين الخبر والاستخبار. ومن هذه اللّغة قول أبي الأسود الدؤلي:
أريت امرءاً كنت لم أبله ... أتاني فقال اتَّخذني خليلاً
وقال آخر:
أريت الآمريك بصرم حبلي ... مريهم في أحبتهم بذاك
وقال آخر:
أريتك أن منعت كلام ليلى ... أتمنعني على ليلى البكاء
وقال آخر:
أريت أن جاءت به أملودا
معَّما ويلبس البرودا
أقائلون أحضروا الشهودا
وهذا باب مستقصى في كتبنا المرسومة في علوم القرآن.
أبو خليفة وطفلة تصبو إلى زين الورى
حدثنا محمد بن الحسن بن زياد المقري قال: ألقيت رقعةٌ إلى أبي خليفة الفضل بن الحباب القاضي فيها:
قل للحكيم أبي خليفه ... يا زين شيعه أبي حنيفه
إني قصدتك للذي ... كاتمت من حذرٍ وخيفه
ماذا تقول لطفلةٍ ... في الجسر منزلها شريفه
تصبو إلى زين الورى ... من غير مأثمةٍ عفيفه
فقلب الرقعة وكتب على ظهرها:
يا من تكامل ظرفها ... حال الهوى حالٌ شريفه
إن كنت صادقة الذي ... كاتمت من حذرٍ وخيفه
فلك السعادة والشها ... دة والجلالة يا شريفه
هذا الفصاح بعينه ... وبه يقول أبو حنيفه
رقعة تلقى إلى القاضي الأنطاكي وجوابه عنها
قال أبو بكر النقاش: وألقيت رقعةٌ إلى أبي بكر القاضي أحمد بن موسى الأنطاكي مكتوب فيها:
أيها الفاضل الكثير العدات ... صانك الله عن مقام الدُّناة
أيكون القصاص من فتك لحظٍ ... من غزالٍ مورَّد الوجنات
أم يخاف العذاب من هو صبٌّ ... مبتلىً بالزفير والحسرات
ليس إلا العفاف والصوم والنس ... ك زاجراً عن الشبهات
فأخذ الرقعة وكتب على ظهرها:
ياظريف الصنيع والآلات ... وعظيم الأشجان واللوعات
إن تكن عاشقاً فلم تأت ذنباً ... بل ترقيت أرفع الدرجات
فلك الحقُّ واجباً إن عرفنا ... من تعلَّقته من الحجرات
أن أكون الرسول جهراً إليه ... إذ تنكَّبت موبق الشبهات
ومتى أقض بالقصاص على اللح ... ظ حبيبي أخطئ طريق القضاة
الفتك: بطش الإنسان بغيره على وجه المكر والغدر، يدلّ على ذلك ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " الإيمان قيَّد الفتك، لا يفتك مؤمن " ، وفيه ثلاث لغات فتك وفتك وفتك.
خبر آخر لذي القرنين
حدثنا عبيد الله بن محمد بن جعفر الأزدي قال، حدثنا أبو بكر بن أبي الدنيا قال، حدثني يعقوب بن إسماعيل قال، أخبرنا حيان بن موسى قال، أخبرنا عبد الله بن المبارك قال، أخبرنا رشيد بن سعد قال: حدثنا عمرو بن الحارث عن سعد بن أبي هلال أنه بلغه أن ذا القرنين في بعض مسيره دخل مدينةً فاستكفَّ عليه أهلها ينظرون إلى موكبه: الرجال والنساء والصبيان، وعند بابها شيخٌ على جمل، فمرَّ به ذو القرنين فلم يلتفت الشيخ إليه، فعجب ذو القرنين له. فأرسل إليه فقال: ما شأنك؟ استكفَّ الناس ونظروا إلى موكبي، فما بالك أنت؟ قال: لم يعجبني ما أنت فيه، إني رأيت ملكاً مات في يوم كذا هو ومسكين، ولموتانا موضعٌ يجعلون فيه، فأدخلا جميعاً فأطلعتهما بعد أيام وقد تغيرت أكفانهما، ثم أطلعتهما وقد تزايلت لحومهما، ثم رأيتهما وقد تفصلت العظام واختلطت فما أعرف المسكين من الملك، فما يعجبني ملكك. فلما خرج استخلفه على المدينة.
هذا الذي تعرف البطحاء وطأته
حدثني أبو النضر العقيلي قال، حدثنا محمد بن زكريا قال، حدثنا عبد الله بن محمد بن عائشة قال: حدثني أبي أن هشام بن عبد الملك حجَّ في خلافة عبد الملك أو الوليد، فطاف بالبيت وأراد أن يستلم الحجر فلم يقدر عليه من الزحام، فنصب له منبر فجلس عليه، وأطاف به أهل الشام، فبينا هو كذلك إذ أقبل عليّ بن الحسين بن علي عليهم السلام عليه إزار ورداء، أحسن الناس وجهاً، وأطيبهم رائحةً، بين عينيه سجَّادة :أنها ركبة عير، فجعل يطوف بالبيت، فإذا بلغ الحجر تنحَّى الناس حتى يستلمه هيبةً له وإجلالاً. فغاظ ذلك هشاماً، فقال رجل من أهل الشام لهشام: من هذا الذي قد هابه الناس هذه الهيبة وأفرجوا له عن الحجر؟ قال هشام: لا أعرفه، لئلا يرغب فيه أهل الشام، فقال الفرزدق وكان حاضراً: لكني أعرفه، فقال الشامي: من هو يا أبا فراس؟ فقال الفرزدق:
هذا الذي تعرف البطحاء وطأته ... والبيت يعرفه والحلُّ والحرم
هذا ابن خير عباد الله كلّهم ... هذا النقيّ التيُّ الطاهر العلم
إذا رأته قريشٌ قال قائلها ... إلى مكارم هذا ينتهي الكرم
ينمي إلى ذروة العزِّ التي قصرت ... عن نيلها عرب الإسلام والعجم
يكاد يمسكه عرفان راحته ... ركن الحطيم إذا ما جاء يستلم
يغضي حياءً ويغضى من مهابته ... ولا يكلَّم إلا حين يبتسم
بكفّه خيزرانٌ ريحه عبقٌ ... من كفِّ أروع في عرنينه شمم
مشتقةٌ من رسول الله نبعته ... طابت عناصره والخيم والشِّيم
ينجاب نور الهدى عن نور غرته ... كالشمس ينجاب عن إشراقها الظُّلم
حمَّال أثقال أقوامٍ إذا قدحوا ... حلو الشمائل تحلو عنده نعم
هذا ابن فاطمةٍ إن كنت جاهله ... بجدِّه أنبياء اللَّه قد ختموا
اللَّه فضَّله قدماً وشرَّفه ... جرى بذاك له في لوحه القلم
من جدُّه دان فضل الأنبياء له ... وفضل أمته دانت له الأمم
عمَّ البرية بالإحسان فانقشعت ... عنها الغياية والإملاق والظلم
كلتا يديه غياثٌ عمَّ نفعهما ... يستوكفان ولا يعروهما العدم
سهل الخليقة لا تخشى بوادره ... يزينه اثنتان الحلم والكرم
لا يخلف الوعد ميمونٌ نقيبته ... رحب الفناء أريبٌ حين يعتزم
من معشرٍ حبُّهم دينٌ وبغضهم ... كفرٌ وقربهم منجىً ومعتصم
يستدفع السوء والبلوى بحبهم ... ويسترقُّ به الإحسان والنعم
مقدَّمٌ بعد ذكر الله ذكرهم ... في كلِّ يومٍ ومختومٌ به الكلم
إن عدَّ أهل التقى كانوا أئمتهم ... أو قيل من خير أهل الأرض قيل هم
لا يستطيع جوادٌ بعد غايتهم ... ولا يدانيهم قومٌ وإن كرموا
هم الغيوث إذا ما أمةٌ أزمت ... والأسد أسد الشَّرى والبأس محتدم
يأبى لهم أن يحلَّ الذمُّ ساحتهم ... خيمٌ كريمٌ وأيدٍ بالنَّدى هضم
لاينقص العسر بسطاً من أكفهم ... سيان ذلك إن أثروا وإن عدموا
أيّ الخلائق ليست في رقابهم لأولية هذا أو له نعم
من يعرف الله يعرف أوَّلَّية ذا ... فالدّين من بيت هذا ناله الأمم
قال: فغضب هشام وأمر بحبس الفرزدق، فحبس بعسفان بين مكة والمدينة. فبلغ ذلك عليَّ بن الحسين عليهم السلام، فبعث إلى الفرزدق اثني عشر ألف درهم وقال: اعذر أبا فراس، ولو كان عندنا أكثر منها لوصلناك بها.
فردَّها وقال: يا ابن رسول الله. ما قلت الذي قلت إلا غضباً لله ولرسوله، ما كنت لأرزأ عليه شيئاً. فردَّها إليه وقال: بحقّى عليك لما قبلتها، فقد رأى الله مكانك وعلم نيتك، فقبلها، فجعل يهجو هشاماً، فكان مما هجاه به:
أيحسبني بين المدينة والتي ... إليها قلوب الناس يهوي منيبها
يقلِّب رأساً لم يكن سيد ... وعينين حولاوين بادٍ عيوبها
فبعث وأخرجه.
المجلس الحادي والتسعون
وفد ثقيف إلى الرسول
حدثنا إسماعيل بن يونس بن يس أبو إسحاق قال، حدثنا إسحاق بن إسرائيل قال، حدثنا مسعدة البصري عن خصيب بن جحدر عن النضر بن شفيّ عن أبي أسماء الرحبيّ عن ثوبان قال: قدم وفد ثقيف على رسول الله صلى الله عليه وسلم في هيئة أهل الكتاب طويلةً أشعارهم وشواربهم وأظفارهم، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: " امكثوا وتعلَّموا القرآن، وخذوا من أشعاركم وشواربكم وأظافركم " ، فمكثوا ما شاء الله أن يمكثوا، فاستعرضهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوجد عثمان بن أبي العاص أطهرهم ثياباً وأكثرهم قرآناً قد فضلهم بسورة البقرة، فأمَّره عليهم، فقال: إذا صلَّيت بقومك فصلِّ بأضعفهم فإنَّ خلفك الكبير والسقيم وذا الحاجة ولا يتخذون مؤذناً يطلب على أذانه الأجرة.
تعليق على الحديث
قال القاضي: في هذا الخبر أوضح دليلٍ على أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يؤثر التنظف وإماطة الأذى عن الجسد، ويكره القذارة التي هي من هيئات أهل الجفاء ومفارقة ما يؤثره ذوو الأدب والمروءة. وقد أتى عنه عليه السلام في هذا المعنى وما أشبهه أخبار كثيرة، وذلك أكثر وأوضح وأظهر من أن يحتاج إلى استقصاء ما ورد فيه لاشتراك الخاصة والعامة في معرفته، واستحسان تفصيله وجملته. وفيه أيضاً الدلالة البيّنة على فضل أهل القرآن وحفظته وحملته، وأنّ من جمعه أوفرهم حظاً وأشرفهم منزلةً وأعلاهم رتبةً وأولاهم بالتقدمة وأحقُّهم بالتأمر عليهم. وما روي في هذا المعنى أكثر من أن يحيط الآدميون به، ولو لم يأت فيه إلا ما تواترت الأخبار به من قول النبي صلى الله عليه وسلم: " أهل القرآن أهل الله وخاصته " ، وقوله: " خيركم من تعلّم القرآن وعلمه " . وفي بعض الروايات: أفضلكم. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقدِّم الأقرأ فالأقرأ لكتاب الله من أصحابه.
وروي أنه قال في من استشهد منهم يوم أحد: " زمّلوهم بدمائهم ولا تغسلوهم، ودفنوا الاثنين والثلاثة في قبر واحدٍ، وقدِّموا إلى القبلة أكثرهم قرآناً " .
مقالة أعشى همدان في أهل البصرة والكوفة
حدثنا محمد بن الحسن بن دريد قال، حدثنا العكلي قال، حدثنا سعيد بن يحيى الأموي قال، حدثني عمي عبيد بن سعيد عن مجالد عن الشعبي قال: قدمت البصرة فجلست في حلقةٍ فيها الأحنف بن قيس، فقال لي رجل من أهل الحلقة: ممن أنت؟ قلت: من أهل الكوفة، فالتفت إلى جليسه فقال: هذا مولانا، فقلت له: أتدرون ما قال أعشى همدان فينا وفيكم؟ قال: وما قال؟ قلت:
وإذا فاخرتمونا فاذكروا ... ما فعلناه بكم يوم الجمل
بين شيخٍ خاضبٍ عثنونه ... وفتىً أبيض وضاحٍ رفل
جاءنا يهدر في سابغةٍ ... قد ذبحناه ضحىً ذبح الحمل
وعفونا فنسيتم عفونا ... وكفرتم نعمة الله الأجل
وقتلتم خشبيِّين بهم ... بدلٌ من قومكم شرّ بدل
قال: فغضب الأحنف وقال لجاريته: هاتي تلك الصحيفة ،فإذا فيها من المختار بن أبي عبيد إلى الأحنف بن قيس ومن قبله من مضر: أما بعد فويل لمضر، من شرّ أمر قد 1حضر، وان الأحنف مورد قومه حرَّ سقر، حيث لا يقدر لهم على صدر، ولقد بلغني أنكم تكّذبون رسلي، ولئن فعلتم لقد كذّبت الرسل من قبلي، وكتبت بخبر من كذّب منهم، والسلام. قال الأحنف: هذا منا أو منكم ؟ فقمت وما أحير جواباً.
؟
دفن الرشيد محمد بن الحسن والكسائي بالري
ّ
حدثني أبو النضر العقيلي قال، أخبرني أبو الحسن ابن راهويه الكاتب قال: حدثت أن محمد بن الحسن وعلي بن حمزة الكسائي كانا بالري مع الرشيد، وأنهما ماتا في يوم واحد بقرية من قرى الريّ يقال لها الرّنبويه، فجزع الرشيد عليهما وقال: إنا لله وإنا إلبه راجعون، دفنت الفقه واللغة في يوم واحد، وكان اليزيدي حاضراَ فأنشأ يقول:
تصرَّمت الدنيا فليس خلود ... وما قد يرى من بهجةٍ سيبيد
أسيت على قاضي القضاة محمدٍ ... فأذريت دمعاَ والفؤاد عميد
وقلت إذا ما الخطب أشكل من لنا ... بإيضاحه يوماَ وأنت فقيد
فأوجعني موت الكسائي بعده ... وكادت بي الأرض الفضاء تميد
هما عالمان أوديا وتخرَّما ... وما لهما في العالمين نديد
قال الرشيد: أحسنت يا بصريّ، قد كنت تظلمه في حياته وأنصفته بعد موته.
شروح لغوية
قال القاضي: قوله: " أوديا معناه هلكا، كما قال الأعشى:
ولم يود من كنت تسعى له ... كما قيل في الحرب أودى درم
ومعنى " ونخرما " مثله، فهو الهلاك وانقطاع الأجل وتصرم العمر، كما قال أبو ذؤيب الهذلي:
سبقوا هويَّ وأعنقوا لسبيلهم ... فتخرِّموا ولكلِّ جنب مصرع
ويروي: فقدتهم. وقال: " هزيّ " وهي فيما قيل لغة هديل يجعلونها بمنزلة عليَّ وإليَّ، وذكر أنها لغة بعض بني سليم، وقد قرأت القرأة بهاتين اللغتين في القرآن. فأما جمهور القرأة فيقرأون بلغة أهل الحجاز وعامة العرب، وقد رويت القراءة الأخرى عن أبي طفيل عامر بن واثلة وعبد الله بن إسحاق الحضرميّ وعاصم الجحدري وعيسى بن عمر الثقفي، ورفع عضهم ما روي عن أبي الطفيل إلى النبي صلى الله عليه وسلم. ومن هذه اللغة قول الشاعر:
فأبلوني بليَّتكم لعلّي ... أصالحكم واستدرج نويّا
يريد: نواي.
وقال آخر:
يطوِّف بي عكبٌّ في معدٍّ ... ويطعن بالصُّملَّة في قفيَّا
فإن لم تثأرا لي من معدٍّ ... فلا أرويتما أبداً صديَّا
أراد: قفاي وصداي. وذكر أن طلحة قال وقد ذكر له بيعته أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام: بايعت واللجُّ على قفيَّ. اللج: السيف، وقيل إن طلحة تزوج امرأة هندية فتكلَّم بلغتها. وقد اختلف البصريون والكوفيون من النحاة في علة الفرق بين عليَّ وإليَّ ولديَّ وبين هواي وقفاي وعصاي، وبيان هذا واستقصاء ما فيه مرسوم في كتبنا المؤلفة في القرآن. وقول اليزيدي " وما لهما في العالمين نديد " : النديد " الندّ ومنه قول لبيد.
أحمد الله فلا ندَّ له ... بيديه الخير ما شاء فعل
والندّ والنديد فيه لغات: ندّ ونديد ونديدة. فمن الند والنديد قول جرير يهجو عمر بن بن لجأ:
أتيتم تجعلون إليَّ ندّاً ... وما تيمٌ بذي حسبٍ نديد
وأما النديدة فإن الهاء ألحقت فيه للمبالغة، كقوللهم في المدح راوية وعلامة ونسابة، وفي الذّم هلباجة وفروقة وملولة. وزعم الفراء أن الهاء أدخلت في هذا يراد بها أن الممدوح بمنزلة الداهية والمذموم بمنزلة البهيمة. ومن النديدة قول الشاعر:
لئلاً يكون السندريُّ نديدتي ... وأترك أعماماً عموماً عماما
ويجمع الند أنداداً، قال الله عز وجل " فلا تجعلوا للَّه أنداد " " البقرة: 31 " ومنه قول الأعشى " :
فقال تزيدونني تسعةً ... وليس بكفؤٍ لأندادها
وزعم بعض أهل اللغة أنه يقال للضد ندّ أيضاً وأنّه من حروف الأضداد.
منازعات اللغويين في مجلس المهدي
وقد كانت تجري بين الكسائي واليزيدي منازغةٌ وهفوات، ومماراة وخصومات، عند الملاحاة في اللغة، والمجادلة في مقاييس النّحو وأبواب العربيّة، وما منهما إلاّ متقدم وعلمٌ مبرز في معرفته، ذو حظٍّ عظيم من علم القرآن وإعرابه، وجملة النّحو وأبوابه، رحمة الله علينا وعليهما وبركاته. فممَّا دار بينهما من الخصومة واللحاء، والمنازعة والمراء، ما حدّثنيه عبيد الله بن أحمد الكاتب أحد إخواننا قال: حدثنا أبو عبد الله محمّد بن العباس اليزيدي قال، حدّثني عمّي عبيد الله بن محمد قال: أخبرني أبي محمّد بن أبي محمّد قال: أخبرني أبو محمد أبي قال: كنّا مع المهدّي ببلد في شهر رمضان قبل أن يستخلف بأربعة أشهر، وكان الكسائي معنا، فذكر المهدي العربيّة وعنده شيبة بن الوليد العبسيّ عمُّ دفافة، فقال المهدي: يبعث إلى اليزيدي وإلى الكسائي، وأنا يومئذ مع يزيد بن منصور خال المهدي، والكسائي مع الحسن الحاجب، قال: فجاءنا الرسول فجئت، وإذا الكسائيُّ على الباب، فقال لي: يا أبا محمّد أعوذ بالله من شرّك، قال فقلت له: والله لا تؤتى من قبلي حتّى أوتى من قبلك، قال: فلمّا دخلنا عليه أقبل عليَّ فقال: كيف نسبوا إلى البحرين بحراني ونسبوا إلى الحصنين فقالوا: حصني ولم يقولوا حصناني كما قالوا بحراني؟ قال، قلت: أصلح الله الأمير، إنّهم لو نسبوا إلى البحرين فقالوا بحريّ لم يعرف إلى البحرين نسبوه أم إلى البحر، ولما جاءوا إلى الحصنين لم يكن موضع آخر يقال له الحصن ينسب إليه غير الحصنين فقالوا: حصني. قال أبو محمّد: فسمعت الكسائي يقول لعمر بن بزيع، وكان حاضراً: لو سألني الأمير لأخبرته بعلَّةٍ هي أحسن من هذه. قال أبو محمّد فقلت: أصلح الله الأمير إن هذا يزعم أنّك لو سألته لأجاب بأحسن ممّا أجبت به. قال: فقد سألته، فقال الكسائي: إنّهم لمّا نسبوا إلى الحصنين كانت فيه نونان، فقالوا حصنيّ فاجتزءوا بإحدى النونين عن الأخرى، ولم يكن في البحرين إلاّ نون واحدة فقيل بحراني، فقلت: أصلح الله الأمير كيف ينسب رجلاً من بني جنان؟ يلزمه أن يقول جنّي لأن في جنّان نونين، فإن قال ذلك فقد سوَّى بينه وبين المنسوب إلى الجنّ. قال المهدي: فتناظرا في غير هذا، قال: فتناظرنا في مساءل حفظ قولي وقوله فيها قال: إلى أن قلت: كيف تقول إن من خير القوم أو خيرهم بتة فقلت: أعزّ الله الأمير لأن يجيب فيخطئ فيتعلّم أحسن من هذه الإطالة، قال فقال: إن من خير القوم أو خيرهم نية زيداً، قال: فقلت: أصلح الله الأمير ما رضي أن يلحن حتّى لحن وأحال، قال: كيف؟ قال قلت: لرفعه قبل أن يأتي بالاسم ونصبه بعد رفعه، قال: فقال شيبة بن الوليد: أراد بأوبل، قال: فقلت: هذا تعني، فقال الكسائي: ما أردت غير ذلك، قال فقلت: قد أخطأ جميعاً أيّها الأمير، لو أراد بأوّبل لرفع زيداً لأنّه لا يكون بل خيرهم زيداً. قال فقال له المهديّ: يا كسائي لقد دخلت إليَّ مع سلمة النحوي وغيره فما رأيت كما أصابك اليوم. ثمّ قال المهدي: هذان عالمان ولا يقضي بينهما إلاّ أعرابيٌّ فصيح تلقى عليه المسائل التي اختلفا فيها فيجيب.
قال: فبعث إلى فصيح من فصحاء الأعراب. قال أبو محمّد: فإلى أن يأتي الأعرابي أطرقت، وكان المهديّ محبّاً لأخواله، ومنصور بن يزيد بن منصور خاله حاضراً. قال فقلت: أصلح الله الأمير كيف ينشد هذا البيت من هذه القصيدة:
يا أيّها السائلي لأخبر ... عمن بصنعاء من ذوي الحسب
حمير سادتها تقرُّ لها ... بالفضل طرّاً جحاجح العرب
وإنّ من خيرهم وأكرمهم ... أو خيرهم بتةً أبو كرب
فقال المهدي: كيف تنشد أنت؟ قال فقلت: أو خيرهم بتةً أبو كرب على معنى إعادة " إنَّ " . قال فقال الكسائي: هو قالها السّاعة أصلح اله الأمير.
قال: فتبسَّم المهدي وقال إنّك لتجيد له وما تدري. قال: ثم طلع الأعرابي الّذي بعث إليه فألقيت المسائل عليه، وكانت ستَّ مسائل، فأجاب عنها كلّها بقولي. قال: فاستفزّني السّرور حتّى ضربت بقلنسوتي الأرض وقلت: أنا أبو محمّد. قال فقال شيبة بن الوليد: تكنّى باسمك أيّها الأمير!! فقال المهدي: والله ما أراد مكروهاً ولكنه فعل ما فعل للظفر، ولعمري لقد ظفر. قال فقلت: إن الله عز وجل أنطقك أيها الأمير بما أنت أهله، وأنطق غيرك بما هو أهله.
قال: فلمّا خرجنا قال لي شيبة: تخطِّئني بين يدي الأمير؟! أما لتعلمنّ. قال فقلت: قد سمعت ما قلت وأرجو أن تجد غبّها. قال: ثم لم أصبح حتّى كتبت رقاعاً عدّة، فلم أدع ديواناً حتّى دسست إليه رقعةً فيها أبيات قلتها، فأصبح النّاس ينشدونها وهي:
عش بجدٍّ ولا يضرّك نوكٌ ... إنّما من ترى بالجدود
عش بجدّ وكن هبنّقة القيسيَّ نوكاً أو شيبة بن الوليد
شيب يا شيب يا جديَّ بني القعقاع ما أنت بالحليم الرشيد
لا ولا فيك خلَّةٌ من خلال ال ... خير أحرزتها بحزمٍ وجود
غير ما أنّك المجيد لتقطيع غناءٍ أو ضرب دفٍّ وعود
فعلى ذا وذاك يحتمل الدهر مجيداً له وغير مجيد
قال أبو عبد الله، وحدّثني عمّي عبيد الله قال، حدّثني أبو جعفر أخي قال، حدّثني أبو محمّد قال: كانت تحتبس أرزاق الكسائي فيصير إليّ فيقول لي: اكتب لي رقعةً إلى جعفر بن يحيى فأكتب له.
قال القاضي: وقد أحسن اليزيدي فيما أجاب به، وألطف في نظره وقياسه، وأتى فيما بينه وبين الكسائي من الجفاء بما كان الأولى به خلافه، وما كان عليه لو حابى الكسائيَّ وأغضى له، فقد كان يعرف فضله وتمكُّنه من العلم ونبله. والمسألة التّتي سأله عنها بحضرة المهدي لطيفةٌ، وتعرض كثيراً في أمثالها الشبهة، وقد سأله عنها واستبطأه في جوابها وأنَّبه على تأخيره الجواب عنها، وما أرى الزيدي حصَّل جوابها عند ابتداء وقوعها إليه على البدار والبديهة حتّى أنعم فيها نظره وأعمل فيها فكره. وقد كنت أمللت في هذه المسألة كلاماً، وشرحت ما استدلَّ به اليزيدي فيها والوجه الّذي تعلّق به الكسائي في إجابته عنها، كرهت إعادته والإطالة هاهنا بذكره.
الأصمعي والجارية
حدّثنا الحسين بن القاسم الكوكبي قال، حدّثنا محمد بن القاسم بن خلاّد قال، قال الأصمعي: دخلت على جعفر بن يحيى بن خالد يوماً من الأيّام فقال لي: يا أصمعي هل لك من زوجةٍ؟ قلت: لا، قال: فجارية؟ قلت: جارية للمهنة، قال: فهل لك أن أهب لك جاريةً نظيفة؟ قلت: إني لمحتاجٌ إلى ذلك، فأمر بإخراج جاريةٍ إلى مجلسه، فخرجت جاريةٌ في غاية الحسن والجمال والهيئة والظَّرف، فقال لها: قد وهبتك لهذا. وقال لي: يا أصمعي خذها، فشكرته؛ وبكت الجارية وقال: يا سيّدي تدفعني إلى هذا الشيخ مع ما أرى من سماجته وقبح منظره؟! وجزعت جزعاً شديداً، فقال: يا أصمعي: هل لك أن أعوضِّك منها ألف دينار؟ قلت: ما أكره ذلك. فأمر لي بألف دينار ودخلت الجارية، فقال لي: يا أصمعي إني أنكرت على هذه الجارية أمراً فأردت عقوبتها بك، ثم رحمتها منك. فقلت: أيّها الأمير فألا أعلمتني قبل ذلك؟ فإني لم آتك حتّى سرَّحت لحيتي وأصلحت عمّتي، ولو عرفت الخبر لحضرت على هيئة خلقتي، فوالله لو رأتني كذلك لما عاودت شيئاً تكرهه منها أبداً ما بقيت.
النساء تمقت بحشلاً لدمامته وجهامة صورته
حدثني الحسن بن محمّد بن إسحاق أحد إخواننا عن بحشل القارئ، وكان مشهوراً بحسن الصوت ينتابه الناس لاستماع قراءته وعذوبة تلاوته، قال: كان بحشل مشنوء الخلقة شتيم الوجه جهم الصورة، وكان يريد النكاح، فإذا خطب النساء ردَّ ولم يرد لبشاعة منظره، وإذا شرع في ابتياع الإماء أبينه ونبون عنه، والتوين عليه، ورغبن عن مخالطته. فشكا إلى صديق له يأنس به ما يلقى م مضض التعزُّب وتعذّر المباعلة، ويقاسي من شدّة الشَّبق وفقد المباضعة ونفور النساء عنه لسماجة الخلقة، فقال له: أنا أسعى لك في هذا بما يؤدّي إلى محبتك. ومضى إلى سوق الرقيق فابتاع جاريةً حلوة مقبولة وصار بها في آخر النهار إلى منزل بحشل، فلمّا استقرّا في منزله أحضر الطعام واجتمعا على العشاء ثم وثب الرَّجل فودَّع بحشلاً وخلَّف الجارية عنده فتعلقت بثوبه وقالت: إلى أين تمضي وتخلّفني؟ فقال: أمضي إلى منزلي وأنت عند مولاك. قالت: ومن مولاي؟ فقال: هذا، فصرخت وقالت: ظننت أنك مولاي، وأما هذا فلو أرغبت أو أرهبت بكلِّ شيء ما خاليته في منزلٍ. فلم يزل الرجل يديرها ويلويها، ويستعطفها ويداريها، ويبذل لها فاخر الكساء ونفيس الحلى والإخدام، والتكرمة والاعظام، وهي مصرَّةٌ على نفورها، مقيمةٌ على إبائها. فلمّا يئس من قبولها قال لها: فإني مباكرٌ إلى هناهنا وحاملك إلى السّوق للبيع. قالت: فأين أبيت؟ قال: هاهنا، قالت: لا أفعل، قال: فإنّا ندخلك بيتاً تبيتين فيه ونقفله عليك، قالت: على أن يكون مفتاحه معي. ففعل ذلك وانصرف الرجل، وقام بحشل وقت ورده من الليل لصلاته، ورفع بالقراءة صوته، فطربت إليه وشغفت به، ووقع في قلبها حبّه، فجعلت تناديه: يا مولاي، يا مولاي، خذ المفتاح وافتح الباب وأخرجني إليك أو أدخل إليّ فأنا طوع يديك. فلم يلتفت إليها حتّى قضى صلاته، ثم فتح الباب فجعلت تعتذر إليه وقبَّلت يديه ورجليه واستولدها.
قال القاضي: وقد روينا خبراً يضارع هذا من وجهٍ بعض المضارعة وأخّرنا إثباته لئلاّ يطول المجلس به ويتجاوز حدّه، ونحن راسموه في المجلس الّذي يليه إن شاء الله.
المجلس الثَّاني والتسعون
حديث لا تحاسدوا ولا تباغضوا
حدثنا عثمان بن إسماعيل بن بكر السكّري سنة تسع عشرة وثلاثمائة قال، حدثنا يعيش بن الجهم الحدثي قال، حدثنا أبو يحيى الحماني عن عبيد الله بن عمر عن الزهري عن أنس بن مالك قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا تحاسدوا ولا تباغضوا ولا تدابروا وكونوا عباد الله إخواناً، ولا يحلّ لمسلمٍ أن يهجر أخاه فوق ثلاثة أيام يلقاه هذا فيعرض، ويلقاه هذا فيعرض عنه، فأيهما بدأ بالتسليم سبق إلى الجنة " .
قال القاضي: قد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم بمثل هذا وبما في معناه أخبارٌ كثيرة من طرقٍ شتَّى، وإسناد هذا الخبر غريب لم نسمعه إلا من هذا الشيخ، وحفّاظ الحديث لا يعرفونه إلا من روايته، وفيه حثّ من النبي صلى الله عليه وسلم على التواصل والتبارِّ والتباذل وحسم أسباب العداوة وتشتيت الألفة وتشعيث المودة بالحسد والتقاطع والتدابر والتمانع والمصارمة والتنازع.
نصيحة لقمان لابنه
حدثنا محمد بن الحسن بن دريد قال، أخبرنا أبو عثمان الأشنانداني قال، حدثنا التوّزي قال، حدثني أبو عبيدة قال: حدِّثت أن لقمان قال لابنه: يا بنيّ عليك بخلالٍ إن تمسكت بهنّ لم تزل سيداً: أبسط حلمك للغريب والقريب، وأمسك جهلك عن الكريم واللئيم، واحفظ إخوانك، وصل أقاربك، وليكن خلانك من إذا فارقتهم وفارقوك لم تبعهم ولم يبيعوك؛ وخصلتان يزينانك: اعلم أنه لا يطأ بساطك إلا راغب فيك أو راهب منك. فأما الراهب منك فأدن مجلسه، وتهلل في وجهه، وإياك والغمز من ورائه. وأما الراغب فيك فابذل له البشاشة وأبدأه بالنوال قبل السؤال، فإنك متى تلجئه إلى مسألتك تأخذ من حرِّ وجهه ضعفي ما تعطيه.
الفرزدق يمدح عمرو بن عتبة
حدثنا الحسن بن القاسم الكوكبي قال، حدثنا محمد بن يزيد قال، أخبرنا المازني عن أبي عبيدة قال: دخل الفرزدق على عمرو بن عتبة في داره بالزاوية وهو يسلت العرق عن وجهه، فأنشده:
لولا ابن عتبة عمرو والرجاء له ... ما كانت البصرة الحمقاء لي وطنا
أعطاني المال حتى قلت يودعني ... أو قلت أودع مالاً قد رآه لنا
فجوده متعبٌ شكري ومنَّته ... فكلّما زدت شكراً زادني مننا
يرى بهمته أقصى مسافتها ... ولا يريد على معروفه ثمنا
قال: فقال عمرو بن عتبة: يا أبا فراس نحن نبتاع منك حماقة بصرتنا بألف دينار، وأمر له بها.
من كان على شرط جالوت
حدثنا محمد بن القاسم الأنباري قال، حدثني محمد بن المرزبان قال، حدثنا الصلت بن مسروق الكوفي قال، حدثني أبي قال، قال رجل لأبي حنيفة: ما بقي عليَّ من العلم شيء، فقال له: من كان على شرط جالوت يوم لقي طالوت؟ قال: لا أدري، قال: فهذا شيء من العلم قد بقي عليك.
تأبين ابن الحنيفة لأخيه الحسن
حدثنا أحمد بن العباس العسكري قال، حدثنا عبد الله بن أبي سعد قال، حدثني حمزة بن القاسم بن حمزة بن الحسن بن عبيد الله بن العباس بن علي بن أبي طالب عليه السلام قال، حدثنا محمد بن علي بن عبيد الله بن محمد بن عمر بن علي بن أبي طالب عليه السلام عن أبيه عن جده عن عمر بن علي بن أبي طالب عليه السلام قال: لما قبض الحسن بن علي بن أبي طالب عليهما السلام وقف على قبره أخوه محمد بن علي فقال: يرحمك الله أبا محمد، فلئن عزَّت حياتك لقد هدَّت وفاتك، ولنعم الروح روح تضمَّنه بدنك، ولنعم البدن بدن تضمّنه كفنك، وكيف لا تكون هكذا وأنت سليل الهدى، وحليف أهل التقى، وخامس أصحاب الكسا، غذتك كفُّ الحقّ، وربيت في حجر الإسلام، ورضعت ثدي الإيمان، فطبت حيّاً وميتاً، وإن كانت أنفسنا غير طيبةٍ بفراقك ولا نشكّ في الخيرة لك، يرحمك الله. ثم انصرف عن قبره.
بازل عامين
حدثنا محمد بن يحيى الصولي قال، حدثنا أحمد بن يحيى ثعلب قال: قال لي الرياشي يوماً: كيف تنشد هذا:
ما تنقم الحرب العوان منّي ... بازل عامين حديثٌ سنّى
فقلت له: بازل عامين على الابتداء، وبازل عامين على الحال، وبازل عامين على البذل من الياء، والله يا أبا الفضل ما آتيك إلا لهذه المقطَّعات، قال أبو العباس: وكانت قطعه والله عسلاً.
قال القاضي رحمه الله: وقد حدثنا عبد الله بن محمد بن جعفر بهذه القصة على خلاف هذا الوجه، فحكى أن أحمد بن يحيى قال: كنت عن ابن الأعرابي فسألني: كيف تنشد " بازل عامين " فذكر أنه أخبر بهذه الأوجه الثلاثة، قال: فكأنه لم يرض ما قلت فقلت له: إياك أن تكلّمني في النحو فإنما آتيك لهذه الخرافات.
قال القاضي: ومما حكاه الصولي أن أحمد بن يحيى قال: " على البدل " وليس هذا من ألفاظ الكوفيين، وإنما يقولون في هذا النحو وما جرى مجراه أنه ترجمة وإتباع وردّ وتكرير، وإن كان أحمد بن يحيى لفظ بالبدل فلعله قصد خطاب الرياشي بما يعرفه من قول أصحابه البصريين.
الاسكندر يمرّ على مدينة ملكها سبعة وبادوا
حدثنا عبيد الله بن محمد بن جعفر قال، حدثنا أبو بكر بن أبي الدنيا قال، حدثني الحارث بن محمد التميمي عن شيخ من قريش قال: مرَّ الإسكندر بمدينةٍ قد ملكها أملاكٌ سبعة وبادوا، فقال: هل بقي من نسل الأملاك الذين ملكوا هذه المدينة أحد؟ قالوا: نعم، رجل يكون في المقابر.
فدعا به فقال: ما دعاك إلى لزوم المقابر؟ قال: أردت أن أعزل عظام الملوك عن عظام عبيدهم فوجدت عظامهم وعظام عبيدهم سواء. قال له: فهل لك أن تتبعني فاحيي بك شرف آبائك إن كانت لك همة؟ قال: إن همَّتي عظيمةٌ إن كانت بغيتي عندك، قال: حياةٌ لا موت فيها، وشبابٌ ليس معه هرم، وغنىً لا فقر بعده، وسرور بغير مكروه، قال: لا، قال: فامض لشأنك ودعني أطلب ذلك ممن هو عنده ويملكه. قال الاسكندر: هذا أحكم من رأيت.
قال القاضي: وكنا رسمنا في المجلس الذي قبل هذا خبرين أحببت أن أصلهما بخبر ثالث يضاهيهما من بعض وجوههما وكرهت إطالة المجلس بذكره، ووعدت بأن أثبته في المجلس الذي يليه وهو مجلسنا هذا، وها أنا راسمه هاهنا إن شاء الله.
فم الحوت وعلي بن يقطين
حدثنا أبو عمر الحريري عبد الله بن الحسن بن محمد المعروف بصاحب المروي قال، حدثني محمد بن خلف وكيع القاضي قال، حدثني محمد بن موسى قال، حدثنا أبو عمرو العمراوي قال، حدثنا العتبي قال: قدم فم الحوت من المدينة بغداد فنزل على علي بن يقطين، وكان لاعباً بالشطرنج، فقال له علي: لاعبني، قال: إنّ عليَّ يميناً ألا ألعب أبداً إلاّ في إمرة مطاعةٍ، قال: فها هنالك، فلاعبه فقمره فم الحوت، وكان مشوَّه الوجه أهدل الشفة السفلى مقلَّص العليا مائل الشدق قبيح الأسنان، فقال له: احتكم، قال: تقبّلني قبلة، قال: أو الفدية قال ذاك لك قال ألف درهم قال: لا والله قال ألفين: قال لا والله، قال: ثلاثة آلاف، قال: لا والله، قال: أربعة آلاف، قال: هاتها. فدفعها إليه وركب عليُّ بن يقطين إلى المهدي فأخبره فاستضحك وقال: ويحك أرنيه من حيث لا يراني، فأدخلته عليه من موضع يراه المهدي: وهو لا يراه فلما نظر إليه وإلى تشويه خلقه وقبح فمه قال له المهدي: ويحك يا علي قد والله ربحت ستة وثلاثين ألفاً. قال: وكيف؟ قال: من لا يفتدي قبلة من هذا بأربعين ألفاً؟! قد ربحت ستة وثلاثين ألفاً.
إمرة وأمرة وجلسة وجلسة
قال القاضي: قوله " إمرة مطاعة " الصواب فيها أمرة بفتح الهمزة وهذا ممّا ذكره أهل العلم فيما تلحن فيه العامّة فتقول: إمرة بالكسر، والامرة بالفتح معناها المرةُ الواحدة من الأمر، وأما الإمرة فالولاية. وهذا باب مطّردٌ منسحبٌ على قياسه جارٍ مستمرٌّ في نوعه، يقال هي الجلسة والركبة والقعدة والنيمة بمعنى الهيئة، فإذا أراد العبارة عن المرة والمرتين قيل جلسة وجلستان وركبة وركبتان وقعدة وقعدتان ونومة ونومتان، وفي هيئة نوم النائم نيمة وأصلها الواو لأنّها من النوم كما قيل خيفة من الخوف، فقلبت الواو ياء لانكسار ما قبلها. فأمّا حجَّة فإنّها مكسورة الحاء، وزعم قومٌ أنّه إذا أريد بها المرّة وطريق العدد فتحت حاؤها فقيل حجَّ حجَّةً واحدةً، وممّن قال هذا الفراء والأصمعيّ، وقال جمهور المحقّقين: الكلام فيها بالكسر في كلِّ موضع. فأمّا الحجَّة بمعنى السّنة فهي بالكسر لا غير، ومن ذلك قول زهير:
وقفت بها من بعد عشرين حجَّةً ... فلأياً عرفت الدار بعد توهُّم
وقول النابغة الجعدي:
مضت مائةٌ لعام ولدت فيه ... وعشرٌ بعد ذاك وحجَّتان
قضاء ابن شبرمة
حدثنا محمد بن الحسن بن زياد المقرئ قال، أخبرنا ابن عبد العزيز، قال القاضي: وقد كتب بهذا إلينا الحسين بن أحمد بن عبد العزيز الجوهري من البصرة قال، أخبرنا أبو زيد يعني عمر بن شبَّة قال، أخبرنا زهير بن حرب عن جرير قال: قضى ابن شبرمة بقضيةٍ، فبلغه أنَّ بعض من كان بينه وبينه وحشة تكلَّم فيها، فقال ابن شبرمة:
ما في القضاء شفاعةٌ لمخاصم ... عند اللبيب ولا الفقيه الحاكم
أهون عليَّ إذا قضيت بسنَّةٍ ... أو بالكتاب برغم أنف الراغم
وقضيت في ما لم أجد أثراً به ... بنظائرٍ معروفةٍ ومعالم
أولياء الله والدفع عنهم
حدثنا عمر بن الحسن بن علي بن مالك الشيباني قال، حدثنا أحمد بن يوسف بن يعقوب قال، حدثنا محمد بن علي قال، حدثنا عبد الله بن حماد عن أبان بن تغلب عن جعفر بن محمد عن أبيه عن آبائه أن لله تعالى أولياء مع ولاة الظلمة يدفع بهم عن أوليائه.
بين عمر وجميل
حدثنا إبراهيم بن محمد بن عرفة الأزدي قال، حدثنا أحمد بن يحيى عن أبي عبد الله القر شي قال: خرج عمر بن أبي ربيعة إلى الشام، حتى إذا كان بالجناب لقيه جميل بن معمر، فاستنشده عمر بن أبي ربيعة فأنشده كلمته التي يقول فيها:
خليليَّ فيما عشتما هل رأيتما ... قتيلاً بكى من حبِّ قاتله قبلي
ثم استنشده جميل، فأنشده قافيته التي أولها:
عرفت مصيف الحيِّ والمتربَّعا
حتى بلغ إلى قوله فيها:
وقرَّبن أسباب الهوى لمتيّمٍ ... يقيس ذراعاً كلما قسن إصبعا
فصاح جميل واستحيا وقال: لا والله ما أحسن أن أقول مثل هذا فقال له عمر: اذهب بنا إلى بثينة لنتحدث عندها، فقال له: إن السلطان قد أهدر لهم دمي متى جئتها، قال: فدلَّني على أبياتها، فدلَّه. ومضى حتى وقف على الأبيات وتأنّس وتعرف، ثم قال: يا جارية أنا عمر بن أبي ربيعة فأعلمي بثينة مكاني. قال، فأعلمتها فخرجت إليه فقالت له: لا والله يا عمر ما أنا من نسائك اللاتي تزعم أن قد قتلهنَّ الوجد بك، قال: وإذا امرأة طوالة أدماء حسناء، فقال لها عمر: فأين قول جميل:
وهما قالتا لو أنَّ جميلاً ... عرض اليوم نظرة فرآنا
نظرت نحو تربها ثم قالتقد أتانا وما علمنا منانا
بينما ذاك منهما رأتاني ... أوضع النقض سيره الرَّتكانا
ويروى أعمل النقض سيره زفيانا فقالت له: لو استمد منك جميل ما أفلح، وقد قيل: أشدد العير مع الفرس فإن لم يتعلم من جريه تعلَّم من خلقه.
بعض أنواع السير
قال القاضي: " أوضع النقض سيره الرتكانا " أنه يحمل على سرعة السير، قال الله تعالى: " ولأوضعوا خلالكم " " التوبة:47 " قال أبو عبيدة: الإيضاع سرعة السير، يقال: أوضعت بعيري وأوضعت ناقتي إذا أسرعت، فإذا كانت هي الفاعلة قلت: وضعت الناقة تضع وضعاً، ويقال وضع الرجل يضع إذا سار أسرع سير، قال دريد بن الصمّة:
يا ليتني فيها جذع ... أخبّ فيها وأضع
من الخبب والوضع. وقد اختلف في بيت عمر بن عبد الله بن أبي ربيعة:
تبالهن بالعرفان لما عرفنني ... وقلن امرءٌ باغٍ أكلَّ وأوضعا
فراوه قوم هكذا وجعلوا أكلّ من الكلال، وهو من الذروح والإعياء، وقالوا: إنه كدّ في بغاء ناقته، وأوضع في طلبها، وأسرع مع الكلال ليدركها، فاجتمع عليه الكلال والإيضاع. ورواه آخرون: " وقلن امرؤ باغ أضلَّ وأوضعا " بمعنى أنه أضلَّ بعيره فجدَّ في بغائه وأوضع في طلبه. وقوله: " النقض " يريد الذي قد هزله السير فصار نقضاً بالياً ويجمع أنقاضاً. والزفيان كنحوه. وقوله: " امرأة طوالة " يعني طويلة، وهذا مما جاء على فعيلٍ وفعال، يقال رجل طويلٌ وطوال وطوَّال، قال الراجز:
جاءوا بصيدٍ عجبٍ من العجب ... أزيرق العينين طوَّال الذنب
ويقال: أمر عجبٌ وعجاب، قال الله عز وجل: " إنَّ هذا لشيءٌ عجاب " " ص:5 " ومثله كبير وكبَّار، قال الله تعالى: " ومكروا مكراً كباراً " " نوح:22 " ومن الكبار قول الأعشى:
كحلفةٍ من أبي رياحٍ ... يسمعها لاهه الكبار
وهذا باب واسع واستقصاؤه يطول وله موضع هو أولى به.
عمر وحيلته على أبي الأعور السلمي
حدثنا الحسين بن أحمد الكلبي قال: حدثنا محمد بن زكريا الغلابي قال، حدثنا محمد بن خالد الغلابي قال، حدثنا القحذمي عن مسلمة بن أبي محارب قال: قال معاوية: إنَّ عمرو بن العاص احتجز دوننا خراج مصر، فعزله واستعمل أبا الأعور السلمي. فبلغ عمراً الخبر فدعا وردان مولاه وقال: ويحك يا أبا عثمان عزلنا أمير المؤمنين، قال: فمن استعمل؟ قال: أبا الأعور السلمي، فهل عندك من حيلة؟ قال: نعم، اصنع له طعاماً ولا تنظر له في كتاب حتى يأكل، ودعنا نعمل ما نريد. قال: نعم. فلما قدم علينا أبو الأعور السلمي وأخرج كتاب معاوية بتسليم العمل إليه قال له عمرو: وما نصنع بكتابك؟ ولو جئتنا برسالة لقبلنا ذلك منك، دع الكتاب وكل، قال: انظر في الكتاب، قال: ما أنا بناظرٍ فيه حتى تأكل. فوضعه إلى جانبه وجعل يأكل، فاستدار له وردان فأخذ الكتاب والعهد، فلما فرغ أبو الأعور من غدائه طلب الكتاب فلم ير شيئاً فقال: أين كتابي؟ فقال له عمرو: أليس إنما جئتنا زائراً لنحسن إليك ونكرمك ونبرَّك؟ فقال: استعملني أمير المؤمنين وعزلك، فقال: مهلاً لا يظهرن هذا منك، إنه قبيح، نحن نصلك ونحسن جائزتك فارض بالجائزة. فبلغ معاوية الخبر فاستضحك وأقر عمراً على مصر.
قال القاضي: ويشبه هذا خبر المأمون ودينار لما أنفذه إلى المدائن لمحاسبة ياسر واستيفاء الأموال منه، ولعلنا إن عثرنا عليه نورده فيما بعد إن شاء الله.
مواعيد عرقوب
حدثنا عبد الله بن منصور الحارثي قال، حدثنا الغلابي قال، حدثنا محمد بن عبد الرحمن التيمي قال: حدثنا هشام بن سليمان المخزومي قال: كان عرقوب رجلاً من الأوس فجاءه أخٌ له فقال: إذا أطلعت هذه النخلة فهي لك، فلما أطلعت قال: دعها حتى تصير بلحاً، فلما صارت بلحاً قال: دعها حتّى تشقح، فلما شقحت قال: دعها حتّى تصير رطباً، فلما صارت رطباً قال: دعها حتّى تصير تمراً، فلما صارت تمراً جاء ليلاً فجدَّها، فلذلك قال الأشجعي:
وعدت وكان الخلف منك سجيّةً ... مواعيد عرقوبٍ أخاه بيثرب
فضربته العرب مثلاً.
تحقيقات
قال القاضي: ذكر بعض المحققين أن الكلام الفصيح بلحٌ بضم الباء، كم قال الأعشى:
مثل ما مدّت نصاحات البلح
ويروى: مثل ما مدَّت نصاحات الرُّبح وقوله: " حتى تشقّح " أي حتّى تزهو وتظهر فيها حمرةٌ أو صفرة. جاء عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه نهى عن بيع الثمر حتّى يشقح. وأرى أنّه قيل فيها ذلك لأنّها حينئذ يفارقها خلوص الخضرة ولما تتكامل فيها الحمرة أو الصفرة فليست لها حلاوة. وهذا من مشهور أمثال العرب وقد ذكره كعب بن زهير في كلمته الّتي قالها في النبي صلى الله عليه وسلم ومدحه فيها، واعتذر إليه وأظهر توبته من سالف كفره، ورغب إليه في عفوه عنه، وإعفائه ممّا توعّده به، فقال في ذلك:
نبّئت أنَّ رسول الله أوعدني ... والعفو عند رسول الله مأمول
وبيته الّذي ذكر فيه عرقوباً في هذه الكلمة قوله:
كانت مواعيد عرقوبٍ لها مثلاً ... وما مواعيدها إلاَّ الأباطيل
استقلال اصطناع المعروف
حدّثني عبيد الله بن مسلم الحارثي قال: حدثنا أبو الفضل الهاشمي الربعي قال، وحدثني سليمان بن أبي شيخ قال، قال يحيى بن خالد: من استقلَّ اصطناع المعروف حرم، ثم أنشأ يقول:
إذا تكرَّمت عن بذل القليل ولم ... تقدر على سعةٍ لم يظهر الجود
بثَّ النوال ولا تمنعك قلَّته ... فكلُّ ما سدَّ فقراً فهو محمود
قال القاضي: استقلال المعطي عطاءه حتّى يمنعه، يحرمه أجره وشكره، واستقلال المعطى يحرمه من مستقلِّ العطاء كثيره ووفيره، وقد جاء في الأثر: من يستقلّ قليل الرزق يحرم كثيره.
وروي في نحو هذا بإسناد لم يحضرني في هذا الوقت ذكره، وقد عزي إلى المأمون أنّه قال وذكر هذا المعنى:
قدِّم طعامك وابذله لآكله ... واحلف على من أبى واشكر لمن أكلا
ولا تكن سابريَّ العرض محتشماً ... من القليل فلست الدَّهر محتفلا
المجلس الثّالث والتسعون
سراقة يتتبع آثار الرسول عند هجرته
أخبرنا المعافى قال، حدّثنا محمد بن يوسف بن يعقوب أبو عمر القاضي سنة تسع عشرة وثلثمائة، حدثنا عبيد الله بن سعيد قال، حدّثني عمّي عن أبيه عن صالح عن ابن شهاب قال: حدّثني عبد الرحمن بن مالك بن جعشم المدلجي أنّ أباه أخبره أن سراقة بن مالكٍ أخبره أنّه لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكّة مهاجراً إلى المدينة جعلت قريشٌ لمن ردَّه مائة ناقة، قال: فبينا أنا جالسٌ في نادي قومي إذ أقبل رجل ٌ فقال: والله لقد رأيت ركباً ثلاثةً مرُّوا عليَّ آنفاً، إنّني لأراه محمّداً، قال: فأومأت إليه أن اسكت، إنّما هم بنو فلان يبغون ضالَّتهم، قال: فمكثت قليلاً ثم قمت فدخلت فأمرت بفرسي فقيد إلى بطن الوادي، وأخرجت سلاحي من وراء حجرتي، ثم أخذت قداحي التي أستقسم بها، ولبست لأمتي، ثم أخرجت قداحي فاستقسمت بها فخرج السّهم الذي أكره " لا يضرّه " ، قال " وكنت أرجو أن أردَّه وآخذ المائة ناقة.
قال القاضي: هكذا هو في الحديث، والوجه مائة الناقة، فتكون الألف واللاّم في المضاف إليه دون المضاف كما يقال غلام القوم، ولا يقال الغلام قوم.
فركبت على أثره، فبينما فرسي يشتدُّ بي عثر فسقطت عنه، فأخرجت قداحي فاستقسمت بها فخرج السَّهم الذي أكره " لايضرّه " ، قال: فأبيت إلاّ أن أتبعه، فركبت فلما بدا لي القوم فنظرت إليهم عثر بي فرسي وذهبت يداه في الأرض وسقطت عنه، فاستخرج يديه وانبعث دخان مثل الإعصار فعرفت أنّه قد منع منّي وأنّه ظاهر، فناديتهم فقلت: انظروني فوالله لا أريبكم ولا يأتيكم مني شيء تكرهونه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ماذا تبتغي؟ قال: فقلت اكتب لي كتاباً يكون بيني وبينك آيةً، قال: اكتب له يا أبا بكر، قال، فكتب لي ثم ألقاه إليَّ.
قال: فرجعت فسئلت فلم أذكر شيئاً ممّا كان، حتّى إذا فتح الله على رسوله مكّة وفرغ من حنين خرجت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لألقاه ومعي الكتاب الذي كتب لي فبين أنا عامد له دخلت بين كتيبة من كتائب الأنصار فطفقوا يفزعونني بالرماح ويقولون: إليك إليك، حتّى دنوت من رسول الله وهو على ناقته أنظر إلى ساقه في غرزه كأنّها جمّارة. قال: فرفعت يدي بالكتاب وقلت: يا رسول الله، هذا كتابك، فقال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: يوم وفاء وبرّ، قال: فأسلمت وسقت إليه صدقة مالي.
دلالة قصة سراقة ودلائل النبي جملة
قال القاضي: خبر سراقة بن مالك هذا وما كان من أمره آية من أعلام النبي صلى الله عليه وسلم ودلائله الشاهدة بنبوّته والدّالة على صدقه، وقد تواترت الأخبار بأنّ قوائم راحلته ساخت في الأرض، فنادى رسول الله صلى الله عليه وسلم مستغيثاً به ولاجئاً إليه في استنقاذه ممّا وقع فيه، وتائباً ممّا قصد له ومنيباً ممّا سلف من كفره، فدعا الله تعالى له حتّى نجاه ممّا نزل به، وصحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وروى عنه رواياتٍ من أخباره وسننه وآثاره. وقد ألَّف العلماء في أعلام النبيّ صلى الله عليه وسلم وآياته الكثير الذي يحجّ من بلغه ويقطع عذر من انتهى إليه، ولعلي بن محمد المدائني كتابٌ ضمَّنه من دلائل النبيّ صلى الله عليه وسلم وآياته خمسمائة آية أو نحوها، ولو لم يكن له من الشواهد على رسالته والدلائل على نبوّته إلاّ الكتاب الّذي أتى به من وحي الله تعالى إليه وتنزيله جلَّ اسمه عليه، الذي ذلَّت له الرقاب، وبهر بنوره ألباب ذوي الألباب، لكان ذلك بليغاً كافياً، وحاسماً للشكِّ ومن أدوائه شافياً، وهو في أيدينا إلى حيث انتهينا نتلوه ونقرأه في محاريبنا وصلواتنا، ونرسمه في صحفنا ومصاحفنا، وتعلّمه أبناءنا وعبيدنا وإماءنا، ولا يزداد إلاّ بهاءً وإشراقاً وضياء وائتلاقاً، ولا يزداد المؤمنون إلاّ عياء بمعارضته وعجزاً عن مقاومته. وقد رتّبنا القول في وجه إعجازه ومفارقته أنواع كلام البلغاء والفصحاء بما خصَّه الله به من بديع نظمه وعجيب رسمه ما كان كافياً من غيره.
وقول سراقة : " لأمتي " اللأمة: الدرع، يجمع لؤماً على غير قياس، قال الأعشى:
وقوفاً بما كان من لأمةٍ ... وهنَّ صيامٌ يلكن اللجم
موعظة علي لكميل بن زياد
حدثني محمد بن عمر بن نصير الحربي الجمال سنة ستّ عشرة وثلاثمائة إملاءً من حفظه قال، حدّثني نجيح بن إبراهيم الزماني قال، حدّثنا ضرار بن صرد عن ثابت بن أبي قتيبة عن عبد الرحمن بن جندب عن كميل بن زياد قال: أخذ بيدي عليّ بن أبي طالب عليه السَّلام فأخرجني إلى الجبّان، فلما أصحر جلس ثم تنفّس ثم قال: يا كميل بن زياد، القلوب أوعية فخيرها أوعاها، احفظ عنّي ما أقول لك: الناس ثلاثة فعالمٌ ربَّاني، ومتعلّمٌ على سبيل نجاةٍ، وهمجٌ رعاع أتباع كلِّ ناعق يميلون مع كلِّ ريحٍ، لم يستضيئوا بنور العلم ولم يلجأوا إلى ركنٍ وثيق. يا كميل بن زياد، العلم خيرٌ لك من المال، العلم يحرسك وأنت تحرس المال، العلم يزكو على العمل والمال تنقصه النفقات، ومحبّة العلم دينٌ يدان به يكسبه الطاعة في حياته وجميل الأحدوثة بعد موته.
يا كميل بن زياد، العلم حاكم والمال محكومٌ عليه، وصنيعة المال تزول بزواله، مات خزّان الأموال وهم أحياء، والعلماء باقون ما بقي الدهر، أعيانهم مفقودة وأمثالهم في القلوب موجودة. إن هاهنا لعلماً جماً وأشار بيده إلى صدره لو أصبت له حملة، بل أصبت له لقناً غير مأمون عليه، يستعمل له آلة الدين بالدنيا، يستظهر بنعم الله على عبادته وبحجته على كتابه، أو منقاداً لأهل الحقّ لا بصيرة له في إحيائه، يقدح الشكُّ في قلبه بأول عارضٍ من شبهة، فلا ذا ولا ذا، أو منهوماً باللذة، سلس القياد للشهوات، أو مغرماً بجمع الأموال والادخار، ليسا من دعائم الدين، أقرب شبهاً بهما الأنعام السائمة.
كذلك يموت العلم بموت حامليه. اللهم بلى، لن تخلو الأرض من قائم الله بحجةٍ لكيلا تبطل حجج الله وبيناته. أولئك الأقلون عدداً، الأعظمون عند الله قدراً، بهم يدفع الله عن حججه حتى يؤدوها إلى نظرائهم، ويزرعوها في قلوب أشباههم، هجم بهم العلم على حقيقة الأمر فاستلانوا ما استوعره المترفون، وأنسوا بما استوحش منه الجاهلون، صحبوا الدنيا بأبدانٍ أراوحها معلقةٌ بالملكوت الأعلى، أولئك خلفاء اللَّه في بلاده، والدعاة إلى دينه، آه آه شوقاً إلى رؤيتهم، واستغفر الله لي ولكم.
قال القاضي: لقد ألقى أمير المؤمنين العالم الربانيُّ إمام المسلمين صلوات الله عليه وآله إلى كميل بن زيادٍ في مجلسه هذا علماً عظيماً وحكماً جسيماً، وخلَّف بما أتى به منه للمسلمين حكمةً شافيةً ووصيةً كافية، ومن جعل من العلماء مستودع هذا الخبر إمامه، وأخذ به في دينه، اقتبس علماً غزيراً، واستفاد خيراً كثيراً. ونسأل الله التوفيق لإصابة القول والعمل، والعصمة من الخطأ والزلل.
بنت معاوية تمتنع على زوجها
حدثنا محمد بن الحسن بن دريد قال، أخبرنا أبو حاتم قال، أخبرنا محمد بن عبد الله بن عمر بن معاوية بن عتبة بن أبي سفيان قال: زوج معاوية بن أبي سفيان ابنته من عبد الله بن عامر بن كريز، فلما ابتنى بها امتنعت عليه امتناعاً شديداً لم يصل معه منها إلى شيء، فضربها فبكت وسمع الجواري بكاءها فصحن، ووقع ذلك في أذن معاوية، فجاء مبادراً وسمع مقالة الجواري، فدخل على عبد الله البيت فقال له: مثل هذه تضرب؟ قبَّح الله رأيك وقبح ما أتيت به، اخرج عن هذا البيت إلى غيره، فلما خرج أقبل على ابنته فقال: يا بنية لا تفعلي فإنما هو زوجك الذي أحلَّه الله لك، أو ما سمعت يا بنية قول الشاعر:
م الخفرات البيض أما حرامها ... فصعبٌ وأمّا حلُّها فذلول
ثم نهض فخرج وعاد زوجها إلى البيت فلانت وأذعنت.
معنى بنى وابتنى
قال القاضي: في هذا الخبر: " فلما ابتنى بها " وقد استعمل هذه اللفظة جماعةٌ من المتفقهين ومن له معرفة بالعربية، وأنكرها من اللغويين منكرون وقالوا: الكلام الصحيح في هذا بنى عليها، وذاك أنَّ الرجل من العرب كان إذا تزوج بنى على امرأته بنيّا من خباء وغيره للخلوة بها والإفضاء إليها ، وكثر ذلك وعرف حتى قيل لكلِّ من دخل بزوجته: قد بنى عليها. ومما حدث في زماننا من كلام سفلة العامة أن يقولوا لمن غشي امرأة: قد ابتنى بها، وإن كان إتيانه إياها زناً وسفاحاً.
دماء الذين قتلوا في فخ
حدثنا أحمد بن محمد بن أبي العلاء الإيصاحي المعروف بحرمي قال، حدثنا أبو سعيد يعني عبد الله بن شبيب قال، حدثني علي بن طاهر قال: التقى العباس بن محمد وموسى بن عبد الله فقال له العباس بن محمد: يا أبا حسن ما رثيت به أصحابك الذين قتلوا بفخ؟ قال: قلت:
بني عمنا ردُّوا فضول دمائنا ... ينم ليلكم أولا تلمنا اللوائم
قال: فقال العباس: دماءٌ واللَّه لا تردُّ عليك أبداً. فقال موسى بن عبد الله: ذلك إذا كان الأمر إليك فصدقت.
قال القاضي: ينم ليلكم آمنين غير خائفين وتستقر بكم مضاجعكم، والعرب تقول: ليل نائم وسرّ كاتم، تريد ليل منوم فيه وسر مكتوم، كما قال الشاعر:
لقد لمتنا يا أمَّ غيلان في السُّرى ... ونمت وما ليل المطيِّ بنائم
وقال آخر:
إنَّ الذين قتلتم أمس سيِّدهم ... لا تحسبوا ليلهم عن ليلكم ناما
وقال آخر:
حارث قد فرَّجت عنّي غمي ... فنام ليلي وتجلَّى همي
يريد أنهم لم يناموا عن وترهم، وأنهم طالبون له منقطعون للسعي في إدراكه. وهذا النحو من مجاز العربية كثير في اللغة فصحٌ عند العلماء بها، مطَّردٌ مستمرٌ فيها.
فرّغ رأيك للمهم
حدثنا الحسين بن القاسم الكوكبي قال، حدثنا ابن أبي سعيد البلخي الوراق قال، حدثني أبو العباس أحمد بن محمد السكري عن الفضل بن محمد العلوي العباسي عن عبيد الله بن الحسن الطالبي أنه كان يقول: إن رأيك ر يتسع لكلّ شيء ففرغه للمهم، وإن مالك لا يرضي الناس كلَّهم فتوخّ به أهل الحقّ، وإنّ كرامتك لا تطيق العامة فاخصص بها أهل الفضل، وإن ليلك ونهارك لا يستوعبان حاجتك، فإن دأبت بهما فأحسن قسمتهما بين عملك ودعتك. قال الكوكبي: وزادني أحمد بن محمد بن سليمان الهروي: فإن شغلت من رأيك في غير المهمّ أزرى بك في المهم، وما صرفت من مالك إلى أهل الباطل فقدته عند طلب الحق، وما عدلت به من كرامتك إلى أهل النقص أضرَّ بك في العجز عن أهل الفضل، وما شغلت من ليلك ونهارك في غير الحاجة أزرى بك في الحاجة.
توالي ذهاب السلطان وأصحابه
حدثنا محمد بن الحسن أستاذ الهروي قال، حدثنا محمد بن عبد الرحمن الشامي، قال، حدثنا أبو المنذر محمد بن المنذر قال، أخبرني آدم بن عتيبة قال، أخبرنيه رجل من بني تميم عن عبد الملك بن عمير قال: لقد رأيت في هذا القصر عجباً: دخلت على عبيد الله بن زياد في بهوٍ وهو على سرير، والناس عنده سماطان، على يمينه ترس عليه رأس الحسين بن علي عليهما السلام، ثم دخلت على المختار في ذلك البهو على ذلك السرير والناس عنده سماطان، على يمينه ترسٌ عليه رأس عبيد الله، ثم دخلت على مصعب في ذلك البهو على ذاك السرير والناس عنده سماطان، على يمينه ترس عليه رأس المختار، ثم دخلت على عبد الملك في ذلك البهو وعلى ذلك السرير والناس عنده سماطان، على يمنه ترس عليه رأس مصعب، ثم قام عبد الملك وقمنا فانتهى إلى منزل فقال: لمن هذا؟ فقيل له: كان لفلان يا أمير المؤمنين، ثم انتهى إلى فقال: لمن هذه؟ قيل له: كانت لفلان، حتى فعل ذلك بدار ثالثة ورابعة، كل ذلك يقال: كانت لفلان، فضرب بإحدى يديه على الأخرى ثم قال:
وكلُّ جديديٍ يا أميم إلى بلىً ... وكل امرئٍ يوماً يصير إلى كانا
فاعمل على مهل فإنك ميتٌ ... وامهد لنفسك أيها الإنسان
فكأنَّ ما قد كان لم يك إذ مضى ... وكأنَّ ما هو كائنٌ قد كانا
ثم مضى على وجهه.
مصير ظالم
قال القاضي: وحكى لي بعض إخواننا أن بعض الظلمة المترفين جلس يوماً من الأيّام في موضعٍ من داره وقد نجِّد له، وعنده جماعةٌ وظهر منه ظلمٌ أسرف فيه، ثم إنّه لم تطل أيامه حتّى هلك، فجلس مكانه رجلٌ من ضربه، وشرع في مثل ظلمه فقال له بعض من يرام ظلمه ممّن حضر مجلس الذي كان قبله:
في مثل ذا اليوم في هذا المكان على ... هذا السرير تدلَّى السرُّ فاصطلما
قال: فانكسر وأقصر.
اللهم فاجعلنا ممن يتأمل العبر، ويخشى الغير، ويستعدُّ لليوم الذي وصفه في كتابه وأمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن ينذرهم إياه إذ يقول: " وأنذر الناس يوم يأتيهم العذاب فيقول الذين ظلموا ربَّنا أخَّرنا إلى أجلٍ قريب نجب دعوتك ونتبع الرسل، أو لم تكونوا أقسمتم من قبل مالكم من زوال. وسكنتم في مساكن الذين ظلموا أنفسهم وبيَّنا لكم كيف فعلنا بهم وضربنا لكم الأمثال " " إبراهيم: 44 - 45 " .
جزع الحسن من الموت
حدثنا محمد بن القاسم الأنباري قال، حدثنا محمد علي المدائني قال، حدثنا أبو الفضل الهاشمي الربعي قال، حدثني أحمد بن يعقوب قال، حدثني المفضّل بن غسان بن الفضل بن عبد الرحمن الغلابي قال، حدثني علي بن إبراهيم المطبخي قال: سمعت أبا عبد الرحمن بن عيسى بن مسلم الحنفي أخا سليم بن عيسى قارئ أهل الكوفة قال: لما حضرت الحسن بن عليّ عليهما السلام الوفاة كأنه جزع عند الموت، فقال له الحسين صلوات الله عليه كأنه يعزيه: يا أخي ما هذا الجزع؟ إنك ترد على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى عليٍّ صلوات الله عليه، وهما أبواك، وعلى خديجة وفاطمة وهما أماك، وعلى القاسم والطاهر وهما خالاك، وعلى حمزة وجعفرٍ وهما عمّاك، فقال الحسن عليه السلام: أي أخي إني أدخل في أمرٍ من أمر الله لم أدخل في مثله، وأرى خلقاً من خلق الله لم أر مثله قط، قال: فبكى الحسين صلى الله عليه.
قال القاضي: أشدُّ الناس خشيةً لله جلَّ وعلا أعظمهم طاعةً له وأجدُّهم في عبادته، وهم ملائكته وأصفياؤه وأنبياؤه، وقد قال جل ثناؤه في صفة من ذكر من ملائكته المقربين إنهم: " عبادٌ مكرمون لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون. يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يشفعون إلا لمن ارتضى وهم من خشيته مشفقون " " الأنبياء:26 - 28 " وقال: " والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلةٌ إنّهم إلى ربِّهم راجعون. أولئك يسارعون في الخيرات وهم لها سابقون " " المؤمنون:60 - 61 " . اللهمَّ اجعلنا ممّن يخلص عبادتك، ويؤثر طاعتك، ويستشعر خوفك ورهبتك، وارزقنا من خشيتك ما يحجز بيننا وبين معصيتك، ويفضي بنا إلى الأمن من عذابك وأليم عقابك، وهب لنا من رجاء عفوك ما يوافق مرضاتك، ويؤدّي إلى تحقيق ما نرجوه من مغفرتك وسعة رحمتك، وعدِّل رجاءنا وخوفنا، واعصمنا فيهما من العلوّ والغلوّ والتقصير والسموّ، ولا تكلنا إلى أنفسنا، وأعنَّا على عدوّك وعدوّنا، إنّا إليك راغبون وبك معتصمون، يا أرحم الراحمين.
؟من نوادر مزبّد
حدّثنا عبد الله بن منصور الحارثي قال، حدثنا محمد بن زكريّا الغلابي قال، حدثنا محمد بن عبد الرحمن عن أبيه قال: كان مزبّد يكنى أبا إسحاق، وكانت له نوادر، فبينا هو ذات يوم جالسٌ إذ جاء أصحابه فقالوا: يا أبا إسحاق هل لك في الخروج بنا إلى العقيق وإلى قباء وإلى أحد ناحية قبور الشهداء، فإنّ هذا يومٌ كما ترى طيّبٌ. فقال: اليوم يوم الأربعاء ولست أبرح من منزلي. فقالوا: ما تكره من يوم الأربعاء وفيه ولد يونس بن متّى؟ قال: بأبي وأمّي صلى الله عليه فقد التقمه الحوت. فقالوا: يومٌ نصر فيه النبي صلى الله عليه وسلم، يوم الأحزاب، قال: أجل، ولكن بعد إذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر.
المجلس الرابع والتسعون
؟
حديث العمل الصالح ينقذ صاحبه
حدثنا المعافى قال، حدّثنا محمد بن الحسن بن علي بن سعيد الترمذي سنة ست عشرة وثلاثمائة قال، حدثنا إبراهيم بت إسحاق الجرمي قال، حدّثنا عمّار بن نصر المروزي ومحمّد بن الجنيد قالا، حدّثنا عبد الله بن نافع بن ثابت قال، حدثنا ابن أبي فديك عن عبد الرحمن بن أبي عبد الله عن سعيد بن المسيّب عن عبد الرحمن بن سمرة قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن في مسجد المدينة فقال: إنّي رأيت البارحة عجباً، إنّي رأيت رجلاً من أمّتي جاءه ملك الموت ليقبض روحه فجاءه برُّه بوالديه فردَّ عنه، ورأيت رجلاً من أمّتي يسلَّط عليه عذاب القبر فجاءه وضوءه فاستنقذه، ورأيت رجلاً من أمّتي قد احتوشته الشياطين فجاءه ذكر الله تعالى فخلَّصه من بينهم، ورأيت رجلاً من أمّتي قد احتوشته ملائكة العذاب فجاءته صلاته فاستنقذته من أيديهم، ورأيت رجلاً يلهث عطشاً كلَّما ورد حوضاً منع منه فجاءه صيام شهر رمضان فأسقاه وأرواه، ورأيت رجلاً والنبيّون حلقٌ كلّما جاء إلى حلقة طرد فجاءه اغتساله من الجنابة فأخذ بيده فأعده إلى جانبي، ورأيت رجلاً بين يديه ظلمة وخلفه ظلمة وعن يمينه وعن شماله ومن فوقه ومن تحته ظلم فهو متحيّر، فجاءه حجّه وعمرته فاستخرجاه من الظلمة فأدخلاه في النور، ورأيت رجلاً يكلّم المؤمنين فلا يكلّمونه فجاءه صلة الرحم فقال: يا معشر المؤمنين كلِّموه فإنّه كان واصلاً لرحمه، فكلَّمه المؤمنين وقرّبوه. ورأيت رجلاً يّتقي وهج النار وشرَّها بيده عن وجهه، فجاءته صدقته فصارت ستراً على وجهه وظلاً على رأسه، ورأيت رجلاً أخذته الزبانية من كلِّ مكان فجاءه أمره بالمعروف ونهيه عن المنكر فاستنقذاه من أيديهم وأدخلاه مع ملائكة الرحمة فصار معهم، ورأيت رجلاً جاثياً على ركبتيه بينه وبين الله حجاب فجاءه حسن خلقه فأخذ بيده فأدخله على الله عزّ وجلّ. ورأيت رجلاً هوت صحيفته قبل شماله فجاءه خوفه من الله تعالى فأخذ صحيفته فجعلها في يمينه. ورأيت رجلاً قد خفّ ميزانه فجاءته أفراطه فثقَّلوا ميزانه. ورأيت رجلاً قائماً على شفير جهنّم فجاءه وجله من الله تعالى فاستنقذه من ذلك ومضى. ورأيت رجلاً هوى في النّار فجاءت دموعه التي بكاها من خشية الله في الدنيا فأخرجته من النّار.
قال القاضي: قد روينا ما تضمّنه هذا الخبر من طرق شتّى، مجملاً ومفصلاً، وما ورد في معناه ونحوه، وفيه من الترغيب في الخير وحسن عاقبته، والتحذير من فعل الشرّ وسوء مغبّته، ما يدعو ذوي الألباب إلى الاستكثار من الطاعة ومجانبة المعصية. فالفاضل الرشيد والفائز السّعيد من استكمل خلال الخير وفارق خصال الشّر. ومن تعلّق ببعض الأخلاق الحميدة فلن يعدم الانتفاع به وإحماد عاقبته. والبليّة الكبرى والمصيبة العظمى في من عري من شعب الخير كلِّها ولم يستصحب شيئاً منها. وليحذر المؤمن أن يعرض عن حظه ويذهب، وأن يكون ممّن يجدُّ به ويلعب. ولله تعالى ذكره يومٌ يخسر فيه المبطلون، ويغتبط به الفائزون، وينعم فيه المتّقون. فجعلنا الله وإيّاكم من أوليائه المتّقين وعباده المخلصين من الذّين لا خوفٌ عليهم " في معادهم " ولا هم يحزنون.
؟
هو ابن عمي لا ابن عمك
حدّثنا أحمد بن محمد بن أبي العلاء قال، حدّثنا أبو سعيد يعني عبد الله بن شبيب قال، حدثني ابن أبي مرّة المكيّ قال، حدّثني خالد بن سفيان مولى الصيفي قال: شهدت الرّشيد وقد رمى جمرة العقبة يوم النحر في بعض حجَّاته ثم مال إلى المنحر فأتى ببدنة فنحرها ثم أتى بأخرى فنحرها ثمّ أنشد رافعاً صوته:
إن ابن عمّي لابن زيدٍ وإنه ... لبلاَّل أيدي حلَّة الشوك بالدَّم
فصاح به أعرابي: يا أمير المؤمنين ذاك ابن عمّي لا ابن عمك، قال: عليَّ بالأعرابي، فأتي به وإنا لنخافه عليه، فقال: ومن أنت؟ قال: رجل من بني سلول، قال: فمن يقول هذا الشعر؟ قال: العجير السَّلولي قال: أحسنت، أعطوه كذا كذا.
؟
معاوية واللقمة التي لم تكتب له
حدّثنا محمّد بن القاسم الأنباري أخبرنا إسماعيل بن إسحاق القاضي حدّثنا إبراهيم بن حمزة قال، حدثنا عبد العزيز بن محمّد عن هشام بن عروة عن أبيه عن عبد الملك بن مروان قال: جلست مع معاوية على غدائه فأخذ لقمةً فهيّأها، وأخذ يتحدّث فوضعها، فأخذتها، فعل ذلك مراراً يضعها وآخذها وألقمها، فسمعته يقول وهو يخطب: إن الرجل ليرفع اللقمة إلى فيه يراها من رزق الله له قد كتبها لغيره فيأكلها الّذي كتبت له.
؟
مصقلة يرجف بمرض معاوية
حدّثنا الحسين بن القاسم الكوكبي قال، حدّثنا ابن أبي الدنيا قال، حدّثنا أبو هشام عن أبيه عن محمّد بن عبد المطلب بن ربيعة قال: لمّا مرض معاوية أرجف به مصقلة البكريّ ثم قدم عليه وقد تماثل، فأخذ معاوية بيديه فقال:
أبقى الحوادث من خليلك مثل جندله المراجم
قد رامني الأقوام قبلك فامتنعت من المظالم
فقال مصقلة: قد أبقى الله منك يا أمير المؤمنين ما هو أعظم من ذلك: حلماً وكلأ ومرعى لوليك، وسمّاً ناقعاً لعدوك، كانت الجاهليّة وأبوك سيّد المشركين، وأصبح الناس مسلمين وأنت أمير المؤمنين.
؟
يوم بؤس ويوم نعيم
حدثنا محمد بن الحسن بن دريد قال، أخبرنا عبد الرحمن قال، قال عمّي: سمعت يونس يقول: كان المنذر بن ماء السماء جدّ النعمان بن المنذر ينادمه رجلان من العرب خالد بن المفضل وعمرو بن مسعود الأسديّان، وهما اللّذان عنى الشاعر بقوله:
؟ألا بكر الناعي بخيري بني أسد ... بعمرو بن مسعودٍ وبالسيّد الصمد
فشرب ليلةً معهما فراجعاه الكلام فأغضباه فأمر بهما فجعلا في تابوتين ودفنا بظاهر الكوفة، فلمّا أصبح سأل عنهما فأخبر بذلك، فندم وركب حتّى وقف عليهما وأمر ببناء الغريّين، وجعل لنفسه يومين، يوم بؤس ويوم نعيم في كلِّ عام، فكان يضع سريره بينهما فإذا كان في يوم نعيمه فأوّل من يطلع عليه وهو على سريره يعطيه مائةً من الإبل، إبل الملوك، وأوّل من يطلع عليه يوم بؤسه يعطيه رأس ظربان.
قال القاضي: الظربان دابٌ منتنة الريح.
ويأمر به فيذبح ويغرَّى بدمه الغريان. فلم يزل بذلك ما شاء الله. فبينا هو ذات يوم من أيام بؤسه إذ طلع عبيد بن الأبرص، فقال الملك: أو أجلٌ بلغ إناه. قال: أنشدني يا عبيد، فقد كان يعجبني شعرك، فقال: حال الجريض دون القريض، وبلغ الحزام الطبيين، فقال أنشدني:
أقفر من أهله ملحوب ... فالقطبيات فالذَّنوب
فقال:
أقفر له أهله عبيد ... فاليوم يبدي ولا يعيد
عنّت له شقوةٌ نكود ... وحان منه لها ورود
فقال: أنشدني هبلتك أمك، قال: المنايا على الحوايا، فاقل بعض القوم: أنشد الملك هبلتك أمّك، قال: لا يرحل رحلك من ليس معك، قال له آخر: ما اشدّ جزعك من الموت، فقال:
لا غرو من عيشةٍ نافده ... وهل غير ما ميتةٍ واحده
فأبلغ بنيَّ وأعمامهم ... بأنّ المنايا هي الراصده
لها مدّةٌ فنفوس العباد ... إليها وإن كرهت قاصده
فلا تجزعوا لحمام دنا ... فللموت ما تلد الوالده
فقال له المنذر: لابدّ من الموت، ولو عرض لي أبي في يومي هذا لم أجد بدّاً من ذبحه، فأمّا إذ كنت لها وكانت لك فاختر من ثلاث خصالٍ: إن شئت من الأكحل، وإن شئت من الأبجل، وإن شئت من الوريد. فقال: ثلاث خصال مقادها شرّ مقاد، وحاديها شرُّ ما حاد، ولا خير فيها لمرتاد، فإن كنت لا بدَّ قاتلي فاسقني الخمر حتّى إذا ذهلت لها ذواهلي، وماتت لها مفاصلي، فشأنك وما تريد. فأمر له المنذر بحاجته من الخمر، فلمّا أخذت منه وقرب ليذبح أنشأ يقول:
وخيَّرني ذو البؤس في يوم بؤسه ... خصالاً أرى في كلّها الموت قد برق
كما خيِّرت عادٌ من الدّهر مرّةً ... سحائب ما فيها لذي خيرةٍ أنق
سحائب ريحٍ لم توكَّل ببلدةٍ ... فتتركها إلاّ كما ليلة الطلق
فأمر به ففصد فلمّا مات طلي بدمه الغريّان.
؟
تعليقات وشروح لغوية ونحوية
قال القاضي: قول الشاعر بخيري بني أسد، والطريق اللاحب في هذا الباب أن يقال زيد خير من بني فلان، والزيدان والزيدون خير بني فلان، ولكنّه ثنَّى في هذا الشعر مبالغة في وصف كلِّ منهما واحدٍ منهما بأنّه منسوبٌ إليه الفضل، أو لأن كلَّ واحدٍ منهما يفضل في معنى يختصّ به كما قال الشاعر:
هما سيّدانا يزعمان وإنّما ... يسوداننا أن سيِّرت غنماهما
فثنى لاختلاف النوعين وافتراق الاضافتين. وفي التنزيل: " أنؤمن لبشرين مثلنا " " المؤمنون:47 " . وقول المنذر لعبيد ألا كان الذبيح غيرك أراد الشيء المذبوح قال الله تعالى " وفديناه بذبحٍ عظيم " " الصافات: 107 " والذَّبح بفتح الذّال المصدر. يقال: ذبحت الكبش ذبحاً، ومثله الطّحن.
والطَّحن. فالطَّحن الشيء المطحون والطحن مصدر وكذلك القسم والقسم فالقسم بالكسر النصيب والشيء المقسوم، والقسم بالفتح مصدر قسمت. وهذا باب تتسع فروعه ويطّرد قياسه. وقول عبيد: " أتتك بحائن رجلاه " يقال فلان حائن إذا حان هلاكه، هذا مثل سائر. وقول المنذر: " أو أجلٌ بلغ إناه " معناه غايته ونهايته، من قولهم قد آن كذا وكذا، أي بلغ غايته، قال الله تعالى: " يطوفون بينها وبين حميمٍ آنٍ " " الرحمن:44 " أي قد انتهى حرّه، ومن ذلك قول الشاعر:
وتخضب لحيةً غدرت وخانت ... بأحمر من نجيع الجوف آن
وقال الله تعالى: " إلى طعامٍ غير ناظرين إناه " " الأحزاب:53 " وفيه لغتان الكسر والقصر، والفتح والمدّ، وقد قرأ بعض القراء غير ناظرين اناءه " ومن هذه اللغة قول الشاعر:
وآنيت العشاء إلى سهيلٍأو الشعري فطال بي الإناء ويروى " وأكريت.. فطال " من الكرى والمعنى واحد. وقد قرأ بعض القرّاء: " سرابيلهم من قطرٍ آن " يعني النحاس الّذي قد انتهى حرّه، وروى هذا بعض الرواة عن عاصم بن أبي النَّجود. فأمّا القراءة المستفيضة في الأمة والسائرة بين الأئمة فهي: " من قطران " . وما الجريض فإنّه معالجة النفس للخروج، وأمّا قول عبيد: " فللموت ما تلد الوالدة " فقد رويت الأبيات التي هذا منها على غير هذه الألفاظ وفي غير هذه القصّة، وأنشدناها لغير عبيد وهي:
لا يبعد الله ربُّ العباد ... والملح ما ولدت خالده
هم المطعمون سديف السَّنام ... والشحم في الليلة البارده
فأن يكن الموت أفناهم ... فللموت ما تلد الوالده
معنى قوله: " فللموت ما تلد الوالده " إن مآل المولود إلى الموت، ومن هذا قول الشاعر:
وللمنايا تربّي كلُّ مرضعةٍ ... وللخراب يجدُّ الناس عمرانا
وقال آخر:
لدوا للموت وابنوا للخراب ... فكلكم يصير إلى ذهاب
ومن هذا النحو قول الله تعالى: " فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوَّاً وحزناً " القصص:8 " فهم وإن لم يكن مآل أمرهم معه فيما قصدوه ولا أرادوه بمنزلة من ابتداء شيئاً التماساً لعاقبته فجاء على تقديره وإرادته. ولهذا المعنى نظائر في العربية يتعب إحصاؤها. والبصريون من النحويّين يسمّون هذه اللاّم، وإن كانت على صورة لام كي، لام العاقبة ولام الصيرورة، لأنَّ عاقبة الشيء المذكورة انتهت إلى ما أخبر به وصارت إليه، وإن لم يكن ممّا آثره الفاعل ولا أراده، ويسمّونها أيضاً لام الصيور. وأمّا الفراء في أصحابه الكوفيّين فيذهبون إلى أّنها لام كي لمّا كان المآل لا محالة انتهى إلى ما انتهى إليه صار بمنزلة ما ابتدى يراد به ما صار إليه؛ ونظيرها أن يسقي الرجل الرجل دواءً ليشفيه من دائه فيتلف، فيقال سقاه دواء فقتله، وسقاه ليقتله، أي كان بمنزلة من قصد إتلافه وإن كارهاً لهذا غير مختارٍ له. ونظير هذا قولهم أردت نفعه فضررته، لا يريدون بهذا أنّه قصد الإضرار به، وإنّما أراد أنّه استضرَّ بما أريد نفعه به. ومعنى قول البصريّين والكوفّيين في هذا متقارب إذا تحقِّق معناه مصيبٌ في قوله. وهذا باب مستقصىً ملخَّصٌ مستوفىً فيما ألَّفناه من علوم القرآن. وليلة الطلق وليلة القرب من الليالي التي يسرى فيها إلى الماء، وليس هذا موضع ترتيبها.
وهب يقرأ نقش حجر
حدَّثنا عبد الله بن محمّد بن جعفر الأزدي قال: حدّثنا أبو بكر بن أبي الدنيا قال: حدثنا ابن إدريس قال: حدّثنا أبو زكريّا التيميّ قال: بينما سليمان بن عبد الملك في المسجد الحرام إ أتي بحجر منقور فطلب من يقرأه، فأتي بوهب بن منبّه فقرأه فإذا فيه: ابن آدم، إنّك لو أبصرت قليل ما بقي من أجلك لزهدت في طول أملك، ولرغبت في الزيادة من عملك، ولقصّرت عن حرصك وحيلك، وإنما يلقاك غداً ندمك، لو قد زلَّت بك قدمك، وأسلمك أهلك وحشمك، فبان منك الولد القريب، ورفضك الوالد والنسيب، ف أنت إلى دنياك عائد، ولا في حسناتك زائد، فاعمل ليوم القيامة، قبل الحسرة والندامة. قال: فبكى سليمان.
والد ذاهل يرثي ابنه الوحيد
حدثنا أحمد بن العبّاس العسكري قال، حدّثنا عبد الله بن أبي سعد قال، حدّثني حمنة بن القاسم بن حمزة العلوي قال، حدثني إسحاق بن يعقوب البصري قال: كان لبني العباس مولىً يقال له الوزير بن عبد ربّه، وكان قد عمّر حتى فقد ماله وولده فلم يبق له إلا ابنٌ واحد يقال له إبراهيم، وكان إبراهيم الّذي يغذوه ويرفق به، والشيخ شبيهٌ بالواله، فرمي في جنازة ابنه إبراهيم، فأخذ الجيران في مصلحته، وإنّه لجالسٌ في ناحية بمنزله لا يحير شيئاً، أكبر ظنّهم أنّه لا يفهم ما نزل به من فقد ابنه إبراهيم، حتّى إذا أصلحوا شأنه، وحملوا سريره، خرج يدرج قدَّام الجنازة، فلمّا انتهوا به إلى شفير قبره ضرب يده إلى أكفانه ثمّ أنشأ يقول:
إنّي لأصبر من يمشي على قدمٍ ... غداة أبقى وإبراهيم في الرجم
يا من لعين أبان الله قرتها ... ومن لسمع رماه الله بالصمم
قالوا أطلت الأسى فاربع عليك وهل ... بكيت حبي ما لم أبكه بدم
بدلت من فرحي الماضي به ترحاً ... وعاد عهد أبي إسحاق كالحلم
فالله موضع ما أشكو وغايته ... وبالإله من الشيطان معتصمي
قد ذاقه من به سمَّيت فانهملت ... عين النبيّ عليه سحَّة السجم
فقال ما أنا فيك اليوم قائله ... وبالإله سداد الفعل والكلم
ما برَّ من قال يبري الوجد صاحبه ... وقد بقيت ووجدي ليس بالأمم
تعصب المأمون للأوائل من الشعراء
حدثنا محمد بن يحيى الصولي قال، حدثني عبد الله بن الحسين قال، حدّثني النجدي عن إبراهيم بن الحسن بن سهل، قال: كان المأمون يتعصب للأوائل من الشعراء ويقول: انقضى الشعر مع انقضاء ملك بني أميّة. وكان عمّي الفضل يقول له: الأوائل حجةٌ وأصول، وهؤلاء أحسن تفريعاً، إلى أن أنشده يوماً عبد الله بن أيّوب التيمي شعراً مدحه فيه فلمّا بلغ قوله:
ترى ظاهر المأمون أحسن ظاهرٍ ... وأحسن منه ما أسرَّ وأضمرا
يناجي له نفساً تريع بهمةٍ ... إلى كل معروفٍ وقلباً مطهّراً
ويخشع إكباراً له كلُّ ناظرٍ ... ويأبى لخوف الله أن يتكبّرا
طويل نجاد السيف مضطمر الحبشا ... طواه طراد الخيل حتّى تحسَّرا
رفلٌ إذا ما السّلم رفَّل ذيله ... وإن شمَّرت يوماً له الحرب شمّرا
فقال للفضل: ما بعد هذا مدح، وما أشبه فروع الإحسان بأصوله.
المجلس الخامس والتسعون
من حديث المعراج
أخبرنا القاضي أبو الفرج المعافى بن زكريا الجريري قال، حدّثنا الليث بن محمّد بن الليث أبو نصر المروزي قال، حدّثني أبو الحسين صعصعة بن الحسين الرقي الأنصاري قال، حدّثنا محمّد بن عنبسة بن حمّاد قال، حدثنا أبي عن جعفر بن سليمان عن مالك بن دينار عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لمّا عرج بي إلى السماء بكت الأرض من بعدي فنبت اللَّصف من مائها، فلمّا أن رجعت قطر من عرقي على الأرض فنبت وردٌ أحمر، ألا من أراد أن يشمّ رائحتي فليشمَّ الورد الأحمر " .
=================
================
مجلد 8 من كتاب : الجليس الصالح والأنيس الناصح المعافى بن زكريا
قال القاضي: اللصف: الكبر وما أتى به في هذا الخبر هو اليسير من كثير ممّا أكرم الله عزّ وجلّ به نبيّه صلى الله عليه وسلم، ودلَّ على فضله ورفيع منزلته من ربّه، وهو عليه الصلاة والسلام أهلٌ لكلِّ ما أنعم الله تعالى ذكره به عليه، وأسدى له من شريف الكرامة إليه، وما له عنده في معاده ودار كرامته أعظم من أن يعبِّر عنه الخلق بألسنتهم، وأجسم من أن يخطر بقلوبهم، فهنيئاً له ما أولاه الله من إنعامه وشريف إكرامه، وجعلنا الله عز وجل ممّن يلقاه في معاده، مؤدياً ما ألزمه من حقِّ شريعته، وأنالنا النور والكرامة والسعادة بشفاعته، إنّه أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين. وقد روينا معنى هذا الخبر الّذي رسمناه هاهنا من طرق حضرنا منها هذا فأتينا به.
الغلام الراعي والجنيون الثلاثة
حدّثنا محمّد بن الحسن بن دريد قال، حدثنا عمّي قال، حدّثني أبي عن ابن الكلبي قال: خرج غلامٌ من مذحج، أحسبه قال: من صدا يرعى غنيماتٍ له، فأدركته السماء فأوى إلى كهفٍ فأكنَّ غنمه واقتدح ناراً واحتلب لبناً فوغره، فإذا ثلاثة نفر قد ولجوا عليه الغار فحيَّوه فردَّ تحيّتهم وقال: هلمّوا، وقرَّب إليهم غمره بما فيه، فأخذه أحدهم فشمَّه ثمَّ ردّه ثم أنشأ يقول:
يا راعي الضأن اغتنث من مضحكا ... روى لك الله قفيل نحضكا
يقال: اغتنث من الاناء شربةً أو شربتين إذا جرعت. يقال: جرع ولعق يلعق، والقفيل: اليابس، والنحض: اللحم.
ولا عدمت غبيةً بأرضكما ... تعيد غمراً ما انزوى من برضكا
الغبية: الدفعة من المطر، الغمر: الماء الكثير، الانزواء: التقبض، والبرض: الماء القليل؛ قال: ومن الانزواء قول الأعشى:
يزيد يغضُّ الطرف دوني كأنّما ... زوى بين عينيه عليَّ المحاجم
فلا ينبسط من بين عينيك ما انزوى ... ولا تلقني إلاّ وأنفك راغم
وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنّه قال: " زويت لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها وسيبلغ ملك أمّتي ما زوي لي منها " .
وقال الثاني:
يا راعي البهم سقيت ريّا ... ولا تزال تطأ السُّميّا
والسمي: جمع السماء، والمعنى المطر؛ حكي عن العرب: ما زلنا نطأ السماء حتّى أتيناكم.
وسميَّها والتابع الوليّا ... لا تعدم الدّهر حياً مرعيّاً
قال القاضي: الوسميُّ: أول مطر الربيع، وقيل: إنّما سمّي وسمياً لأنّه يسم الأرض، والوليُّ المطرة الّتي تلي الوسمي، والحيا: الغيث، مقصور، قال ذو الرمّة:
خليليّ لا تستيئسا واسألا الذي ... له كلّ أمرٍ أن يصوب ربيع
حياً لبلادٍ شيَّب المحل أهلها ... وجبراً لعظم في شظاه صدوع
يروي البيت الأوّل على وجهين لا تستيئسا من اليأس ولا تستبئسا من التباؤس والتمسكن.
وقال الثالث:
يا ساقي البهم سقاك السَّاقي ... بكلِّ أحوى مثجمٍ غيداق
حتّى ترى ظواهر البراق ... ضاحكة الروض إلى الاشراق
قال القاضي: الأحوى: الأحمر الذي يضرب حمرته إلى السواد، والمثجم: المقيم، يقال: أثجم فهو مثجم إذا أقام، وغيداق: كثير واسع من قول الله تعالى: " لأسقيناهم ماءً غدقاً " " الجن:16 " وغيداق فيعال منه والياء زائدة، والبراق: جمع برقةٍ. فقال الغلام:
حيّيتم من فتيةٍ أزوال ... شمِّ الأنوف سادةٍ أقوال
أقوال يصفهم بالسّؤدد والرئاسة، ويقال وأقيال وأقوال لموك اليمن، وقيل إن القيل هو من دون الملك الأعظم، وقيل إنّ أصله من القول فمن هاهنا قيل أقوال، كأن أصله قيِّل أي فيعل، والأصل قيول، فقلبت الواو ياءً وأدغم الحرف الأوّل في الثاني فصار ياءً مشددة. وخففوا فقالوا: قيل، ومثله ميت وميّت وأصله ميوت. وكان الفرّاء يأبى أن يكون في المعتل فيعل كما لم يأت في الصحيح، ويزعم أن أصل هذا فعّيل، ولما يحتجُّ به ويحتج به مخالفوه مكان هو أولى به، وأكثرهم يقول: قيلٌ وأقيال كما قال عبد المسيح بن حنان بن بقيلة:
رسول قيل العجم يسري بالوثن
ويجمع القيل أيضاً قيولاً، ويقولون للمرأة قيلة، وبه سميّت قيلة.
إن القرى يعتدُّ للنُّزّال ... فدونكم مدمومة الأوصال
فأحنذوا من هذه الأجذال
قال القاضي: أحنذوا معناه اشتووا، من قول الله تعالى: " بعجل حنيذ " " هود:69 " أي محنوذ، ومعناه مشويٌ، وقيل: هو الذي يشوى على الأرض أو فيها ولا يبالغ في إنضاجه وإنّه من شيءّ الأعراب، وقيل: هو الذي يشوى على الأرض أو فيها ولا يبالغ في إنضاجه وإنّه من شيءّ الأعراب، وقيل: إنّه الرطب الّذي فيه نداوةٌ، ومنه حنذب الفرس إذا أجريته ليعرق؛ والأجذال: جمع جذل، ويقال جذال، وهو العود من الخشب كما قال ذو الرمّة الشّاعر:
ما كنت في الحرب العوان مغمَّراً ... إذ شبَّ حرَّ وقودها أجذالها
وقال ذو الرمّة:
يظلّ بها الحرباء للشمس ماثلاً ... على الجذل إلاّ أنّه لا يكبِّر
وقال الحباب بن المنذر يوم السقيفة: أنا جذيلها المحكّك، هذا معناه،
تتمة الخبر
ثم قال شاةٍ ليذبحها فقالوا له: لا تفعل فإنّا لا نأكل منها، وقال له أحدهم:
بوركت من حزوَّرٍ بذَّال ... رحب الفناء عرضة النزَّال
إنّ لنا في الأبَّد الأهمال
قال القاضي: الأبد جمع آبدٍ وآبدة، يجمع أيضاً أوابد، وهو الوحشي، يقال: تأبّد العير إذا توحّش، وهو نقيض تأنّس. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنّه قال في بعير ندَّ من الغنيمة يوم خيبر فرماه رجل من أصحابه بسهم فأثبته: " إن لهذه الإبل أوابد كأوابد الوحش فما غلبكم منها فاصنعوا به هكذا " ، وقال الأعشى:
شبّهته هقلاً يباري هقلةً ... ربداء في خيطٍ تطارد أبَّدا
وقد يقال للربع والمنزل إذا خلا من أهله وأوحش وأقفر قد تأبّد، قال الأعشى:
تأبّد الربع من سلمى بأحصار ... وأقفرت من سليمى دمنه الدار
ويقال: قد أتى فلان بآبدة إذا جاء بكلمة فظيعة أو فعلة موحشة بديعة، وإنّه ليأتي بالأوابد. والأهمال ما أهمل ولم يكن له راعٍ.
أرفيّ كلِّ ثرّةٍ مجفال
قال ابن دريد: الأرفيّ: لبن الظباء، قال القاضي: وقوله: ثرة غزيرة، ويروي بيت عنترة:
جادت عليه كلُّ عينٍ ثرّةٍ ... فتركن كلَّ قرارةٍ كالدرهم
وقوله: كجفال: أي كبيرة تعمُّ لسعتها، ومن هاهنا قيل: فلان يدعو الجفلى أي يعمّ بعوته، وإذا خصّ ولم يعم قيل: دعا النَّقرى، قال طرفة:
نحن في المشتاة ندعو الجفلى ... لا ترى الأدب فينا ينتقر
وقال الآخر:
إنّا سنجزيك جزاءً جزلاً ... فقد برعت كرماً وبذلاً
إنَّ بأقصى ذا الكهيف هجلا ... فاختف منه جنباً مبتلاً
تلقى غنىً يطرد عنك الأزلا
قال القاضي: الجهل: الشيء المخبوء الكثير، وقوله: فاختف منه جانباً مبتلاً: أي اكتشفه وأظهره، يقال: اختفى فلان كذا إذا أظهره بعد استتاره، ومثله خفاه، وخفيت الشيء أظهرته، وأخفيته سترته. وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم لعن المختفي والمختفية يعني النبَّاش والنبّاشة. وقد ذكرت من وجوه هذا الباب وتصريفه في بعض أوائل مجالسنا هذه وفيما رسمناه من علوم القرآن ما يغني عن إعادته في هذا المكان. وقوله يطرد عنك الأزل بفتح الهمزة الفاقة والفقر والإضاقة، فأما الإزل بكسر الهمزة فالكذب، قال الشاعر:
يقولون إزلٌ حبُّ ليلى وذكرها ... وقد كذبوا ما في مودّتها إزل
ومن الأزل بمعنى الضيق قول زهير:
تجدهم على خيَّلتهم إزاءها ... وإن أفسد المال الجماعات والأزل
يروى هم إزاءها وعلى أن تجعل في موضع اسم مرفوع، إلاّ أنّه نصب على الظرف، واستقام فيه الوجهان كخلف وإمام، قال لبيد:
فغدت كلا الفرجين تحسب أنه ... مولى المخافة خلفها وأمامها
وهذا من الباب الذي أتى على السعة، قال الله تعالى: " بل مكر الليل والنهار " " سبأ:33 " وإذا جعل إزاؤها بمعنى المختصّ بالإسمية دون الظرف، وجعل مكانه اسم محض لا يكون ظرفاً وكان على أفعل أو فيه لام وألف اتجه فيه وجهان من الإعراب: الرفع على أنّه خبر الابتداء الّذي هو هم، وهي لغة أهل نجدٍ وبني تميم، والنصب على أنّه مفعول " تجدهم " الثاني، ويكون هم فصلاً، وهذه عبارة البصريين من النحويين، فأمّا كوفيّوهم قيسمّونها العماد، وكلُّ ما أتى في القرآن من هذا الباب فهو منصوب في قراءتنا ورسم مصاحفنا، وقد حكي رفعه في قراءة ابن مسعود ورسم مصحفه، ففي قراءتنا: " ولكن كانوا هم الظالمين " " الزخرف: 76 " وفي ما روي عن عبد الله: " ولكن كانوا هم الظّالمون " . وممّا في الشعر نصباً قول الشاعر:
وجدنا آل مرَّة حين خافوا ... جريرتنا هم الأنف الكراما
ومن المرفوع قول الآخر:
أجدَّك لن تزال نجيَّ تيم ... تبيت الليل أنت له ضجيع
وفيما ألّفناه من علوم القرآن استقصاء هذا الباب بحججه وشواهده.
فقال الثالث:
إذا احتفرت منكباً فلجّف ... من عن يمين الجلد المحصوصف
ثم اعتقم قيد الذراع واكشف ... عن مثل رأس الكودن المقرَّف
وثق بعيشٍ غمره لم ينزف
فخرجوا عنه، فقام الغلام إلى حيث وصفوا وحفر كما أمروا، فاستخرج صنماً كرأس الكودن من ذهب له عينان من جوهر أحمر، فأصبح الغلام والله أكثر أهل الحواء مالاً وأحسنهم حالاً.
قال القاضي: قوله: فلجِّف أي بالغ وأعمق، كما قال الشاعر:
يحجُّ مأمومةً في قعرها لجفٌ ... فاست الطبيب عليها كالمغاريد
والجلد المحصوصف من الأرض: الصّلب الجدد. وقوله " ثم اعتقم قيد الذراع " أي ذلله بحفرك إيّاه بعد أن كان في استصعابه بمنزلة العقيم الذي لا يفتح لشدّته، وقيد الذراع: قدره ومقياسه ويقال قيد وقدىً كما قال الشاعر:
وإني إذا ما الموت لم يك دونهقدى الشبر أحنى الأنف أن أتأخَّرا ومنه قاب، قال الله تعالى : " فكان قاب قوسين أو أدنى " " النجم:9 " . وقد بيّنا ما في هذه الكلمة من اللغات في غير هذا الموضع. والكوادن: المقاريف من الخيل، وكذلك الهجين منها، تقصّر في كرمها وفضلها عن عتاقها، ورؤوسها أعظم من رؤوس العتاق، فلذلك شبَّه به الشاعر ما شبّه. وقيل في قوله في أوّل الخبر " واحتلب لبناً فوغره " أنه أسخنه وأودعه إناءه، وأنّه أشار بقوله: إن بأقصى ذا الكهيف هجلاً إلى كثرة ما أومئ به إليه.
قال القاضي رحمه الله: قوله هلموا جاء على اللغة النجدية، وقد بينا في مجالس قبل هذا ما في هلم من اللغات بما يغني عن إعادته. وقوله مدمومة الأوصال إشارة إلى الشاة التي أمرهم بشيها. وقوله: " وقرب إليهم غمره " الغمر: القدح الصغير كما قال الشاعر:
يكفيه حزَّة فلذٍ إن ألمَّ بها ... من الشواء ويروي شربه الغمر
أبو الينبغي والمأمون
حدّثنا الحسين بن القاسم الكوكبي قال، حدثنا القاسم بن خرداذبه قال: كان أبو الينبغي يحمَّق، وكان أحد الدواهي والمجّان، وكان يتكسَّب بالحمق، فلما قتل محمد بن زبيدة وصار الأمر إلى المأمون ذكر له أبو الينبغي فأمر بإحضاره، فلما دخل عليه وسلَّم أمره بالجلوس فجلس، فقال له بعض الجلساء: قم فأنشد أمير المؤمنين، فاقل: يا رقيع، أمير المؤمنين يقول لي: اجلس وأنت تقول لي قم. فقال المأمون: بل اجلس وأنشد، فقال: نعم يا أمير المؤمنين، وأنشأ يقول:
كنتم أنتم ثلاثة ... كلّكم نسل الملوك
ذهب الموت بواحد ... ما أرى ذاك يسوك
فقال المأمون: اغرب قبحك الله، وأمر به فأخرج، ثم قال: لا والله ما ينبغي أن نخيِّبه فقد قال على جنونه شبيهاً بالحق، ولا والله أعطوه عشرة آلاف فقبضها وانصرف. وهو يقول: شبيه بالحق، لا والله إلا الحق كلّه.
سيل باليمن يكشف عن جثمان شخص
حدثنا محمد بن القاسم الأنباري قال: حدثني أبي قال: حدثنا أحمد بن عبيد عن المدائني قال، قال عبد الملك بن عمير عن رجل من أهل اليمن قال: أقبل سيلٌ باليمن في ولاية أبي بكر رضي الله عنه فأبرز لنا عن باب البلق، وهو الرخام، فظننا كنزاً، فكتبنا إلى أبي بكر رضي الله عنه نعلمه ذاك، فكتب إلينا لا تحركوه حتى يقدم عليكم أمناء من قبلي. قال: فلما قدم أمناؤه فتحناه فإذا نحن برجلٍ على سريرٍ طوله سبع عشرة ذراعاً وعليه سبعون حلة منسوجة بالذهب، وفي يده اليمنى لوحٌ وفي يده اليسرى محجن، وفي اللوح مكتوب ما هذه ترجمته:
إذا خان الأمير وكاتباه ... وقاضي الأرض داهن في القضاء
فويلٌ ثم ويل ثم ويل ... لقاضي الأرض من قاضي السماء
قال: وإذا عند رأسه سيف أشدّ خضرةً من البقلة، وعلى السيف مكتوب: هذا سيف هود بن عاد بن إرم.
المجلس السَّادس والتسعون
حديث اتزن وأرجح
حدثنا المعافى قال، حدثنا أبي رضي الله عنه قال، حدثنا أبو محمد محمود بن محمد المروزي الوراق قال، حدثنا علي بن حجر بن أناس السعدي قال، حدثنا أبو سفيان بن زياد عن عبد الرحمن بن زياد بن أنعم، عن الأعرابي مسلم، عن أبي هريرة قال: دخلت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم السوق، قال: فقعد إلى البززين فاشترى سراويل بأربعة دراهم، قال: وكان لأهل السوق رجلٌ يزن بينهم الدراهم يقال له فلان الوزان، فدعا به ليتزن ثمن السراويل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " اتزن وأرجح " ، قال فقال الرجل: إنَّ هذا القول ما سمعته من أحد فمن أنت " قال أبو هريرة ، فقلت: حسبك من الرَّهق وكفاً في دينك ألا تعرف نبيك، هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم ليقبلها، فمنعه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: " مه إنما يفعل هذا الأعاجم بملوكها، وإني لست بملك، أنا رجلٌ منكم " . قال: فقعد الوزّان فاتزن وأرجح كما أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم. فلما انصرفنا تناولت السراويل لأحملها عنه فمنعني وقال: " صاحب الشيء أحقُّ بحمله إلا أن يكون ضعيفاً عنه فيعينه أخوه المسلم " . قلت: يا رسول الله إنك لتلبس السراويل قال: نعم في السفر والحضر والليل والنهار، قال أبو سفيان: وشككت في قوله " ومع أهلي " إني أمرت بالتستر فلم أجد ثوباً أستر من السراويل.
شرح وإعراب
قال القاضي: قول أبي هريرة للوزان: " حسبك من الرهق " يعني الهجوم على الباطل، والمبادرة إلى غشيان الشرِّ والإسراع إلى تقحمه. ومنه قوله جل اسمه: " فزادوهم رهقاً " " الجن:6 " وقوله: " فلا يخاف بخساً ولا رهقاً " " الجن:13 " وقوله " ولا يرهق وجوههم قترٌ " " يونس: 26 " . وقول أبي هريرة: " حسبك من الرهق وكفاً في دينك " الوكف: العيب، قال الشاعر:
الحافظو عورة العشيرة لا ... يأتيهم من ورائهم وكف
نصب العورة لأنه أراد الحافظون العورة من الوكف، ومثله الفارجو باب الأمر المبهم. وقد روي عن الأعمش أنه قرأ " إنا مرسلو الناقة " وقرأ عمارة بن عقيل: " ولا الليل سابق النهار " " يس:40 " وهذا الفصل باب من أبواب النحو واسع وفروعه ومسائله وشواهده ودلائله كثيرة، ولها موضع غير هذا هي مشروحة فيه، ويسميه البصريون من اللغويين باب الصفة المشبهة باسم الفاعل. وسراويل في الأصل اسم أعجمي أشبه من كلام العرب مالا ينصرف، وهي بالفارسية شروال فبنتها العرب على ما ينصرف من كلامها، فإذا صغَّرتها صرفتها إلا أن يكون اسم رجل. وفي هذا الخبر ما دلَّ على أن السراويل من الملابس المختارة، فينبغي لكلِّ ذي دين وفطرة سوية من المسلمين أن يجعل السراويل من أمثلة لبوسه للأثر الوارد فيه ولأنَّ فيه من ستر العورات والادفاء من القرّ في السيرات ما ليس في غيره.
سراويل قيس
حدثنا أحمد بن محمد بن أبي العلاء الأضاحي قال، حدثنا أبو سعيد عبد الله بن شبيب قال، حدثني يعقوب بن إبراهيم الدروقي قال، حدثني أبو نميلة يحيى بن واضح قال، أخبرني رجل من ولد الحارث بن الصمّة يكنى أبا عثمان قال: بعث قيصر إلى معاوية بن أبي سفيان أن ابعث إليّ سراويل أطول رجلٍ من العرب، فقال لقيس بن سعد: ما أظننا إلا قد احتجنا إلى سراويلك، قال: فتنحَّى فجاء بها فألقاها إلى معاوية، فقال معاوية: يرحمك الله ما أردت إلى هذا؛ ألا ذهبت إلى منزلك ثم بعثت بها إلينا؟ فقال قيس:
أردت لكيما يعلم الناس أنها ... سراويل قيسٍ والوفود شهود
وألا يقولوا غاب قيسٌ وهذه ... سراويل عاديّ نمته ثمود
وإني من الحيِّ اليمانين سيدٌ ... وما الناس إلا سيدٌ ومسود
فكدهم بمثلي ان مثلي عليهم ... شديدٌ وخلقي في الرجال مديد
قال: فأمر معاوية أطول رجل في الجيش فوضعها على أنفه فوقعت بالأرض. قال: فدعا معاوية بسراويل، فلما جيء بها قال له قيس: نحِّ عنك ثيابك هذه، فقال معاوية:
أما قريشٌ فأقوامٌ مسرولة ... واليثربيون أصحاب التباين
فقال قيس:
تلك اليهود التي تعني ببلدتنا ... كما قريشٌ هم أهل السخاخين
رواية أخرى للخبر السابق
وقد روي لنا هذا الخبر من وجوه، وهذا الذي حضرنا منها، وجاء من طريقٍ آخر وفيه زيادة وخلاف في سياقته وبعض معانيه وألفاظه. فمن تامِّ ما روي فيها أن قيصر كتب إلى معاوية: إني قد وجهت إليك برجلين: أحدهما أقوى رجل ببلادي، والآخر أطول في أرضي، وقد كانت الملوك تتجارى في مثل هذا وتتحاجى به، فأخرج إليهما ممن في سلطانك من يقاوم كلَّ واحد منهما، فإن غلب صاحباك حملت إليك من المال وأسارى المسلمين كذا وكذا، وإن غلب صاحباي هادنتني ثلاث سنين. فلما ورد كتاب قيصر على معاوية أهمه وشاور فيه أصحابه، فقيل له: أما الأِّيد فادع لمناهضته إما محمد بن الحنفية وإما عبد الله بن الزبير، فقال: إذا كان الأمر هكذا فالمنافيُّ أحبُّ إلينا، فأحضر محمد بن علي والأيّد الرومي حاضر، فأخبره بما دعاه له. فقال محمد للرومي: ما تشاء، فقال: يجلس كلُّ واحد منا ويدفع يده إلى صاحبه فمن قلع صاحبه من موضعه أو رفعه عن مكانه فقد فلج عليه، ومن عجز عن ذلك وقهر صاحبه قضي بالغلبة له، فقال محمد: هذا فجعل يمارسه ويجتهد في إزالته عن موضعه فلم يتحرك محمد، وظهر عجز الرومي لمن حضر. فقال له محمد: اجلس الآن، فجلس وأخذ بيده فما لبث أن اقتلعه ورفعه في الهواء ثم ألقاه على الأرض. فسر معاوية وحاضروه من المسلمين. وقال معاوية لقيس بن سعد والرومي الطوال: تطاولا، فقال قيس: أنا أخلع سراويلي ويلبسها هذا العلج، فإن ما بيننا يبين بذلك؛ ثم خلع سراويله وألقاها إلى الرومي فلبسها، فبلغت ثدييه وانسحب بعضها في الأرض، فاستبشر الناس بذلك. وجاءت الأنصار إلى قيس فقالت له تبذَّلت بين يدي معاوية، ولو كنت مضيت إلى منزلك وبعثت بالسراويل إليه، فقال:
أردت لكيما يعلم الناس أنها ... سراويل قيس والوفود شهود
وألا يقولوا غاب قيسٌ وهذه ... سراويل عاديٍّ نمته ثمود
وإني من القوم اليمانين سيد ... وما الناس إلا سيد ومسود
وفضَّلني في الناس أصلي ووالدي ... وباعٌ به أعلو الرجال مديد
مدح بما يشبه الذم
ّ
حدثنا محمد بن الحسين بن دريد قال، أخبرنا أبو حاتم عن أبي عبيدة قال: وفد عبيد الله بن زياد بن ظبيان من بني عابس بن مالك على عتّاب بن ورقاء التيمي فأعطاه عشرين ألفاً، فلما أراد توديعه قال له: والله ما أحسنت فأمدحك ولا أسأت فأهجوك، وإنك لأقرب البعداء وأحبُّ البغضاء.
بين ابن عباس ومعاوية
حدثنا الحسين بن القاسم الكوكبي قال، حدثنا أبو النضر إسماعيل بن ميمون قال، حدثنا إبراهيم بن سعيد قال، حدثني أمير المؤمنين الرشيد قال، حدثني أمير المؤمنين المهدي قال، حدثني أمير المؤمنين المنصور قال، حدثني أبي عن عكرمة قال: لما قدم معاوية الحجاز دخل عليه أبوك عبد الله بن عباس فسلّم عليه، فقال له معاوية: الله أعلم حيث يجعل رسالاته، فقال له أبوك: الحمد لله الذي أنطقك يا معاوية بالحقِّ، وعرَّفك حقّنا وفضلنا، وأنا أهل البيت الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً. فقال له معاوية: فكيف رأيت الله عز وجل حيث حرمكم هذا الأمر الذي عرَّضتم له أكتافكم؟ فقال له أبوك: إنه كان من عزائم قدرة الله ما يذودنا عن الدنيا وموارد الهلكة أن قال: " قل متاع الدنيا قليل والآخرة خيرٌ لمن اتَّقى ولا تظلمون فتيلاً " " النساء:77 " ؛ فو الله يا معاوية لولا طاعة الله لما قدرت أن تغرف بدلوك في طويّ شدَّ عليه هاشمٌ رشاءً؛ فتضاحك معاوية وقال: أمازحك فلا تحلم يا ابن عباس؟ فقال له أبوك: عمن أحلم؟ عمن يرى أن له الفضل؟! ثم نفض ثوبه ايخرج فجذبه معاوية وقال: يا ابن عباس عندي ثوب من عصب اليمن وثوبان من نسج العجم فأهديهما إليك. فلبسهما أبوك وغدا عليه فيهما فقال الشاعر: في ذلك
إن الثياب بآل هاشم زينة ... تزهو ويضعف حسنها في المشهد
وبنو أمية في الثياب تراهم ... شبه القرود أذلّةً في المحتد
هاشم، قريش. باهلة... هل تصرف
قال القاضي: لم يصرف هذا الشاعر " هاشماً " في شعره، أراد القبيلة، ولو أراد الحيّ أو اسم الأب لصرفه، وإن لم يصرف مع هذه النيّة لم يصب - في قول الخليل وسيبويه وجمهور البصريين - لأن الشاعر له أن يصرف في الشعر ما لا ينصرف في الكلام، وليس له ترك صرف المنصرف. وكان الأخفش يجيز ذلك وهو مذهب الكوفيين، وقد استشهدوا بأشياء وردت عليهم فيها، وليس هذا موضع استقصاء هذا الباب لكنّا آثرنا ذكر جملة منه يقف بها ذو الفهم على الأصل فيه، ويجري عليه قياس باقيه. والّذين أبوا ترك صرف ما لا ينصرف في الشعر يعتلّون بأنَّ الشاعر إذا اضطر إلى ما يتنكّب في منثور الكلام رجع إلى أصله وليس له مفارقة الأصل وهدمه؛ والأصل في الأسماء الصّرف، فإذا عرض في شيءٍ منها ما يمنع منه استجيز في الشعر كوب الصرف حملاً على الأصل. فأما ترك صرف المصر وف فنقض ما بني الكلام عليه في أصله.
والذين أجازوا هذا تعلقوا بأبيات أنشدوها على هذا الوجه الذي عابهم عليه يه مخالفوهم. وقد دفع الأولون ما رووه عنهم وأنشدوا كثيراً منه على خلاف إنشادهم. فأمّا وجه ترك صرف هاشم في البيت الذي أتى في هذا الخبر ونظيره من الأسماء فلأنه ذهب به مذهب القبيلة دون اسم الرجل، ودون حمله على أن اسم الحي. وإن مثل هذا في الشعر كثير. وهذا كقولهم حضرت قريش ومعدُّ وثقيف وما لا يقال فيه بنو فلان، ألا ترى أنه لا يقال بنو قريش ولا بنو ثقيف. وقال الشاعر:
غلب المساميح الوليد سماحةً ... وكفى قريش المعضلات وسادها
وقال آخر:
بكى الخزُّ من روحٍ وأنكر جلده ... وعجَّت عجيجاً من جذام المطارف
وقال الأعشى:
ولسنا إذا عدَّ الحصا بأقلَّةٍ ... وإن معدَّ اليوم مودٍ دليلها
ومثله باهلة، وهو اسم امرأة لا يقال فيه بنو باهلة إلا أنه لا يصرف وإن جعل اسم الحيّ من أجل التأنيث. ونظير ما وصفنا سبأ قد صرف وترك صرفه، واختلف القراء فيه فصرفه بعضهم ولم يصرفه بعضهم، وأجراه بعضهم على مذهب الحكاية، وروي فروة - صوابه فروة بن مسيك الغطفاني - عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سأل عن سبأ أهو اسم أرض أم امرأة، فقال: ليس بأرض ولا امرأة ولكنه رجل ولد عشرة فتيامن منهم أربعة وتشاءم ستة. وقد أتى في العربية مصروفاً وغير مصروف قال النابغة:
من سبأ الحاضرين مأرب إذ ... يبنون من دون سيله العرما
ولم يذكر شيئاً مما جاء منه مصروفاً في الشعر إذ لا حجَّة فيه من أجل جواز صرف ما ينصرف فيه. وبيت النابغة هذا يشهد لقول من قال: العرم المسنَّاة أو البناء، ونصبه العرم بالفعل الذي هو يبنون كأنه قال: يبنون العرم من دون سيله. وقصة مأرب والعرم من مشهور القصص، قال الأعشى:
ففي ذاك للمؤتسي أسوة ... ومأرب قفَّي عليها العرم
قفّى مثل عفّى، وأوّل القصيدة:
أتهجر غانيةً أن تلهمّ ... أم الحبل واهٍ بها منجذم
أم الصّبر أحجى فإن امرءاً ... سينفعه علمه إن علم
وذكر بعد هذا أبياتاً تشتمل على جملة من بنائهم. وقد اختلف في معنى العرم فقيل هو البناء، وقيل هو المسناة بلغة أهل اليمن، وقد قال الأعشى في ذلك:
رخامٌ بنته لهم حمير ... إذا جاء دفَّاعه لم يرم
وقد يروى: إذا جاء ماؤهم. وقيل العرم الفارة وأنها خرقت من المسناة موضعاً فاتسع وصار نبعاً مفسداً بلغة أهل اليمن، وقال الأعشى في ذلك:
سعى جرذٌ فيهم ليلةً ... فخان بهم جارفٌ منهدم
ومما يضارع هذا الباب في بعض فصوله ما أتى من ذكر أسماء الأمم ذوي الملل المختلفين في الآراء والنحل كالمجوس واليهود، قال الشاعر:
أصاح ترى بريقاً هبَّ وهناً ... كنار مجوس تستعر استعارا
وقال آخر:
فرَّت يهود وأسلمت جيرانها ... صمّي لما فعلت يهود صمام
فلم يصرف يهود على ما بيننا. وقالت امرأة من الأنصار:
رحل الصوم حامداً محمودا
خرج الصوم حامداً محمودا
دخل الشرُّ في بيوت يهودا
وقال كعب بن مالك الأنصاري يؤنب العباس بن مرداس السلمي في مدحه قريظة وبكائه عليهم، ويشير إلى أن مدحه الأنصار كان أولى به.
أولئك أولى من يهود بمدحةٍ ... إذا أنت يوماً قلتها لم تؤنَّب
ونظير هذا ثمود، وكلامنا فيه مستقصىً فيما ألفناه من علوم القرآن وذكر من صرفه ومن لم يصرفه في شيء من القرآن، ومن صرفه في بعض المواضع ولم يصرفه في بعضها، وهو واسع جداً وإنما نذكر من هذه الأنواع ما يدعو الناظر في كتابنا إلى التبغي في طلبه والحرص على استفادته، وقد تركت الإطالة بشرحه في غير موضعه.
المجلس السَّابع والتسعون
لا يدخل قلب امرئ الإيمان حتى يحبكم
حدثنا محمد بن يحيى بن هارون أبو جعفر الإسكافي المعروف بابن شوطا قال، حدثنا إسحاق بن شاهين قال، حدثنا خالد بن عبد الله الطحان عن يزيد يعني ابن أبي زياد عن عبد الله بن الحارث عن عبد المطلب بن ربيعة قال: كنت جالساً عند النبي صلى الله عليه وسلم فدخل عليه العباس وهو مغضب فقال: يا رسول الله ما بال قريشٍ إذا تلاقوا بينهم تلاقوا بوجوهٍ مستبشرة، فإذا لقونا لقونا بغير ذلك؟ قال: فغضب النبيّ صلى الله عليه وسلم حتى احمرَّ وجهه فقال: " لا يدخل قلب امرئٍ الإيمان حتى يحبكم لله ورسوله " .
قال القاضي: وإن مودة النبي صلى الله عليه وسلم في أقاربه وإخلاص الموالاة لآله من أركان الملة وخالص الشريعة، وإن من انحرف عن هذا وزاغ عنه وصدف عن التديّن به متقرباً باعتقاده إلى الله ورسوله فقد خسر الدنيا والآخرة " ذلك هو الخسران المبين " " الحج:11 " .
أبو الأسود الدئلي وبنو قشير
حدثنا محمد بن الحسن بن دريد قال، أخبرنا أبو حاتم عن أبي عبيدة قال: كان أب الأسود ينزل في بني قشير، وكانوا عثمانية، وكان أبو الأسود علويَّ الرأي، وكان بنو قشير يسيئون جواره ويؤذونه ويرجمونه بالليل، فعاتبهم على ذلك فقالوا: ما رجمناك ولكن الله رجمك، قال: كذبتم لأنكم إذا رجمتموني أخطأتموني ولو رجمني الله لما أخطأني. ثم انتقل عنهم إلى هذيل وقال فيهم:
شتموا علياً ثم لم أزجرهم ... عنه وقلت مقالة المتودّد
الله يعلم أن حبّي صادقٌ ... لبني النبي وللإمام المهتدي
قال القاضي رحمه الله: وقد روي لنا من طريق آخر أن أبا الأسود قال في هذا المعنى وفي بني قشير:
يقول الأرذلون بنو قشيرٍ ... طوال الدهر ما تنسى عليا
بنو عمِّ النبي وأقربوه ... أحبُّ الناس كلِّهم إليَّا
أحبُّ محمداً حباً شديداً ... وعباساً وحمزة والوصيا
فإن يك حبهم رشداً أصبه ... ولست بمخطئٍ إن كان غيا
أو متى تفيد الشك
ويقال إن معاوية قال له لما أنشد هذا البيت: قد شككت، فقال: ما شككت، قال الله عز وجل: " وإنّا أو إياكم لعلى هدىً أو في ضلال مبين " " سبأ:24 " أفهذا شك؟. والذي احتجَّ به أبو الأسود بيّن الصحة، والإنسان يقول مثل هذا على المناصفة وتحسين المخاطبة والإرهاص لتمكين الحجة ونفي الشبهة وملاينة الخصم، فإنها مما قد تعطفه إلى المقاربة، وتثنيه عن اللَّدد والمشاغبة. وقد يقول الرجل لمن ركب معه البهت في مناظرته والمكابرة في منازعته: قد زعمت أنه إذا جمع بين النار والقطن أنه لا يحترق القطن، فنحن نجمع بينهما فننظر أيحترق أم لا، فإن لم يحترق فالقول ما قلت، وإن احترق فالقول فيه على ما قلنا. وقائل هذا ليس يحتاج بجمعه بين هذين الشيئين إلى علم شيءٍ جهله، ولا دفع شكٍ عرض له، ولكنه لاستظهاره قصد حسم شغب خصمه، وردَّه إلى الحقِّ عن باطله. قال الله تعالى ذكره لنبيه صلى الله عليه وسلم " أم يقولون أفتراه قل إن افتريته فلا تملكون لي من اللّه شيئاً " " الأحقاف:8 " وقال عزَّ اسمه " أم يقولون أفتراه قل إن افتريته فعليَّ إجرامي وأنا بريٌ مما تجرمون " " هود:35 " وقال جل ثناؤه في قصة يوسف عليه السلام " إن كان قميصه قدَّ من قبلٍ فصدقت وهو من الكاذبين. وإن كان قميصه قدَّ من دبرٍ فكذبت وهو من الصَّادقين " " يوسف:26 - 27 " . ألا ترى إلى المساواة في الشرطين وجوابهما، وإلى الحكمة والمبالغة في التفقه وجميل المحاورة، والتبدية بذكر المبطلة وتقديم الإخبار عن تصديقها إن كانت لها الحجة، وهذا باب واسع. وقد قال قائلون إن قوله أو إياكم بمعنى وإياكم، وزعموا أن أو بمعنى الواو، فادَّعوا مثل هذا في مواضع من القرآن كثيرة، كقوله تعالى: " مثلهم كمثلٍ الَّذي استوقد ناراً " " البقرة:17 " ثم قال: " أو كصيِّبٍ من السَّماء " " البقرة:19 " وكقوله: " فهي كالحجارة أو أشدُّ قسوةً " " البقرة:74 " وقوله تعالى: " وأرسلناه إلى مائة ألفٍ أو يزيدون " " الصافات:147 " وقوله تعالى: " فلا تطع منهم آثماً أو كفوراً " " الإنسان:24 " وزعموا أن أو قد تأتي بمعنى الواو، واستشهدوا بقول الشاعر:
فلو كان البكاء يردُّ شيئاً ... بكيت على بجيرٍ أو عفاق
على المرءين إذ مضيا جميعاً ... لشأنهما بشجوٍ واشتياق
المعنى عل بحير وعفاق، واستدلوا على هذا بقوله: " على المؤمنين " ، ومثله قول جرير:
نال الخلافة أو كانت له قدراً ... كما أتى ربه موسى على قدر
وأبى محقّقة النحويين هذه الطريقة، وتأوّلوا كلَّ شيءٍ ممّا أتى هؤلاء به وتلوه واستشهدوا به ورووه على خلاف تأويلهم. وإنما أوقع الذين زعموا أن " أو " تكون بمعنى الواو فيما ذهبوا إليه من خلاف القياس المميّز بين الألفاظ المختلفة المعاني في أصولها، وإنا تقاربت في بعض وجوهها، وجودهم ألفاظاً اشتبهت عليهم لتقاربها، فخلطوا بعضها ببعض، ولم ينعموا النظر فيها، فيحصّلوا تمييزها، ويقوا على ما يختصّ به كلُّ نوعٍ منها، ويتبيّنوا أوجه تقاربها وعلّة اشتراكها وتداخلها، وذلك كقولهم: اجلس في السوق أو المسجد، وجالس الحسن أو ابن سيرين، وخالط الفقهاء أو النحويين، وكل اللحم أو الشحم، والتمر أو الزبيب، والرُّطب أو العنب. وهذا باب يسمّى باب الإباحة وليس من باب الشك وتخير أحد المذكورين وحظر الجمع بينهما. فلمَّا لم يحكموا معاني هذا النوع على حقيقتها، وأغفلوا ملاحظة تفصيلها وتمييزها ذهبوا عن وجه الصّواب فيها. ولتفصيل ما يشتمل هاذ الباب عليه وشرح علله واستيفاء شعبه وأقسامه موضعٌ هو أخصّ به.
المنصور وواعظ منافق
حدَّثنا الحسين بن القاسم الكوكبي قال، حدثنا أبو الفضل الربعي قال، حدّثني أبي قال: بينا المنصور ذات يومٍ يخطب وقد علا بكاؤه إذ قام رجلٌ فقال يا وصّاف تأمر بما تجتنبه، وتنهى عمّا ترتكبه، بنفسك فابدأ ثم بالناس.
فنظر إليه المنصور وتأمّله مليّاً وقطع الخطبة ثم قال: يا عبد الجبار، خذه إليك. فأخذه عبد الجبار، وعاد إلى خطبته حتّى أتمّها وقضى الصلاة، ثم دخل ودعا بعبد الجبّار فقال له: ما فعل الرجل؟ قال: محبوسٌ عندنا يا أمير المؤمنين قال: أمل له ثم عرِّض له بالدّنيا فإن صدف عنها وقلاها فلعمري إنّه لمريد، وإن كان كلامه ليقع موقعاً حسناً؛ وإن مال إلى الدنيا ورغب فيها إ ن لي فيه أدباً يزعه عن الوثوب على الخلفاء وطلب الدنيا بعمل الآخرة. فخرج عبد الجبار فدعا بالرجل وقد دعا بغدائه فقال له: ما حملك على ما صنعت؟ قال: حقّ كان الله في عنقي فأدّيته إلى خليفته، قال: ادن فكل من هذا عليك من أكل الطعام إن أمير المؤمنين، قال: لا حاجة لي فيه، قال: وما عليك من أكل الطعام إن كانت نيّتك حسنة فلا يفثأك عنها شيء. فدنا فأكل، فلمّا أكل طمع فيه. فتركه إيّاماً ثم دعاه وقال: لهي عنك أمير المؤمنين وأنت محبوس، فهل لك في جاريةٍ تؤنسك وتسكن إليها؟ قال: ما أكره ذلك، فأعطاه جارية ثم أرسل إليه: هذا الطعام قد أكلت والجارية قد قبلت، فهل لك في ثياب تكتسيها وتكسو عيالك إن كان لك عيال ونفقة تستعين بها على أمرك إلى أن يدعو بك أمير المؤمنين؟ قال: ما أكره ذلك، فأعطاه. ثم قال له: ما عليك أن تصنع خلّة تبلغ بها الوسيلة من أمير المؤمنين إن أردت الوسيلة عنده إذا ذكرك؟ قال: وما هي؟ قال: أوليّك الحسبة والمظالم فتكون أحد عمّاله تأمر بمعروفٍ وتنهى عن منكر، قال: ما أكره ذلك؛ فولاّه الّذي تكلَّم بما تكلّم به فأمرت بحبسه قد أكل من طعام أمير المؤمنين، ولبس من ثيابه، وعان في نعمته.
قال القاضي: الصواب عندي وعاش في نعمته.
وصار أحد ولاته، وإن أحبَّ أمير المؤمنين أن أدخله عليه في زيّ الشيعة فعلت، قال: أدخله. فخرج عبد الجبار إلى الرجل فقال: قد دعا بك أمير المؤمنين وقد أعلمته أنك أحد عمّاله على المظالم والحسبة، فادخل عليه في الزيّ الذي يحبّ. فألبسه قباء بأربند وعلَّق خنجراً في وسطه وسيفاً بمعاليق، وأسبل جمَّته، ودخل فقال: السّلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله ، فقال: وعليك، ألست القائم بنا والواعظ لنا ومذكِّرنا بأيّام الله على رؤوس الملأ؟! قال: نعم، قال: فكيف حلت عن مذهبك؟ قال: يا أمير المؤمنين فكّرت في أمري فإذا أنا قد أخطأت فيما تكلّمت به، ورأيتني مصيباً في مشاركة أمير المؤمنين في أمانته. فقال: هيهات، أخطأت أستك الحفرة، هبناك يوم أعلنت الكلام، وظننّا أنّك أردت الله به فكففنا عنك، فلمّا تبيَّن لنا أنك الدنيا أردت جعلناك عظةً لغيرك حتّى لا يجترئ بعدك مجترئٌ على الخلافة. أخرجه يا عبد الجبّار فاضرب عنقه، فأخرجه فقتله.
أمنيات متفاوتة
حدَّثنا محمَّد بن القاسم الأنباري قال، حدّثنا إسماعيل بن إسحاق قال، حدثنا محمد بن أبي بكر قال، حدّثنا سعيد بن عامر عن جويرية قال: قعد معاوية وعمرو ذات يوم فقال معاوية، ما شيء أصيبه أحبّ إليَّ من عين فوّارة في أرض خوّارة، أصيبها من صاحبها بطيب نفسه؛ فقال له عمرو: لكنّي لست هكذا، ما شيء أصيبه أحبّ إلي من أن أصبح عروساً بعقيلة من عقائل العرب؛ ورجلٌ جالسٌ فقال: ولكنّي لست هكذا، ما شيء أصيبه أحبّ إليّ من الفضل على الأخوان. فقال معاوية: أنا أحقّ بها منك لا أمَّ لك، قال: فقد قدرت يا أمير المؤمنين.
فتوى أبي البختري للرشيد
وحدّثنا محمد بن يحيى الصّوليّ قال، حدّثنا وكيع قال، حدّثنا محمد بن الحسن بن مسعود الزرقي قال، حدّثنا عمر بن عثمان قال، حدّثنا أبو سعيد العقيلي، وكان من ظرفاء الناس وشعرائهم قال: لمّا قدم الرشيد المدينة أعظم أن يرقى على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم في قباءٍ أسود ومنطقة. فقال أبو البختري: حدّثني جعفر بن محمد بن علي عن أبيه عليهم السّلام قال: نزل جبريل عليه السّلام على النبيّ صلى الله عليه وسلم وعليه قباء ومنطقة مخنجراً فيها بخنجر، فقال المعاذي التيمي:
ويلٌ وعولٌ لأبي البختري ... إذا توافى الناس للمحشر
من قوله الزّور وإعلانه ... بالكذب في الناس على جعفر
والله ما جالسه ساعةً ... للفقه في بدوٍ ولا محضر
يا قاتل الله ابن وهبٍ لقد ... أعلن بالزور وبالمنكر
يزعم أن المصطفى أحمداً ... أتاه جبريل التقي البري
عليه خف وقبا أسودٌ ... مخنجراً في الحقو بالخنجر
يتزوج بعد أن يستشير مائة رجل
حدّثنا محمد بن الحسن بن زياد المقرئ قال، حدثنا محمد بن القاسم عن محمد بن أبي معشر قال، أخبرني أبي عن سعيد بن أبي سعيد المقبري عن أبي هريرة قال: حلف رجل أن لا يتزوَّج حتّى يستشير مائة رجل، فاستشار تسعةً وتسعين رجلاً ثم خرج وقال: أوّل من يستقبلني أستشيره، فإذا هو برجلٍ قد طيَّن رأسه وركب قصبة، وبيده سوط يضرب القصبة. فلما انتهى إليه سأله فقال له: يا عبد الله تأخر عن الفرس لا يرمحك؛ فركض على قصبته شوطاً ثم رجع فقال له: هات حاجتك. قال: إني حلفت ألا أتزوج حتى استشير مائة رجل، فاستشرت تسعة وتسعون رجلاً وأنت تمام المائة. فقال له: صاحب الواحدة إذا حاضت حاض معها، وإن مرضت مرض معها، وإن غابت غاب معها، وصاحب اثنتين قاض، وصاحب الثلاث ملك، وصاحب الأربع مسافر.
قال له الرجل: لقد استشرت تسعة وتسعون رجلاً ما كان فيهم أعقل منك، فمن أنت؟ قال: أنا أرادت بنو إسرائيل أن يستقضوني ففعلت هذا لكي أنجو منهم.
رواية أخرى للقصة السابقة
حدثنا محمد بن الحسن بن دريد قال: حدثنا أحمد بن عبد الرحمن الجوهري عن محمد بن حاتم عن شجاع بن الوليد عن حريش بن أبي الحريش قال: كان رجل في من كان قبلنا حلف أن لا يتزوَّج امرأة حتى يستشير مائة نفس، وإنه استشار تسعةً وتسعون رجلاً فاختلفوا عليه، فلمّا بقي رجلٌ واحد قال: أوَّل من يفجأني من هذا الطريق أستشيره ثم آخذ بقوله. فتلقاه رجل شيخ على قصبة، ومعه صبيان حوله. قال له: إني حلفت أن لا أتزوج حتى أستشير مائة رجل، وقد استشرت تسعةً وتسعين رجلاً فاختلفوا فقلت: أول من يفجأني من هذا الطريق أستشيره، فجاء شيخٌ راكب على قصبة، ثم لم يجد بداً فدنا منه فقال له: يا عبد الله إني أريد أن أتزوج فأشر عليَّ، فقال له: النساء ثلاث، ثم مضى. قال: قلت في نفسي والله ما قال لي أحدٌ مثل ما قالة هذا لأتبعنَّه، قال: فاتبعته حتى لحقته، قلت: يا عبد الله قلت لي النساء ثلاث، قال: نعم واحدةٌ لك وواحدة عليك وواحدة لا لك ولا عليك. قال: ثم مضى فاتبعته فسألته عن تفسير ما قال، فقال: أما البكر فهي لك ولا عليك، وأما الحنَّانة فهي الثّيب التي قد كان لها زوجٌ فهي لا لك ولا عليك، وأما المنانة فالثيّب التي لها ولدٌ فهي التي عليك ولا لك، خلِّ سبيل الجواد. قال: فاتبعته فقلت: يا عبد الله من أنت وما قصّتك؟ قال: مات قاضي بني إسرائيل أو قال: فقيل من أنت؟ فقيل فلان، فأرادوا أن يجعلوني قاضياً فكرهت ذلك فصنعت ما رأيت فراراً منهم.
الفرزدق لا يساجل الفضل اللهبي
حدثنا محمد بن أحمد بن إبراهيم الحكيمي قال، حدثنا عبد الله بن أبي سعد قال، وحدثني ابن عائشة قال، أخبرني أبو عبيدة النحوي قال: أخبرني من سمع الفرزدق يقول: أتيت الفضل بن العباس اللهبي وهو يمتح بدلوٍ من زمزم، وهو يقول:
وأنا الأخضر من يعرفني ... أخضر الجلدة في بيت العرب
من يساجلني يساجل ماجداً ... يملأ الدلو إلى عقد الكرب
ورسول الله جدي جدّه ... وعلينا كان تنزيل الكتب
قلت: من يساجلك فرجلي في كذا وكذا من أمّه قال: أتعرفني لا أمّ لك؟ قال: قلت: وكيف لا أعرفك وقد فرَّغ الله عز وجل في أبويك سورة من كتابه فقال عز وجل: " تبَّت يدا أبي لهبٍ " " المسد:1 " قال: فضحك وقال: أنت الفرزدق، قلت: نعم، قال: قد علمت أن أحداً لا يحسن هذا غيرك.
معنى فرغ أي ليس في السورة غير ذكر أبي لهب وذكر امرأته.
قال القاضي: وقد ألطف الفرزدق فيما خاطب به الفضل، لأنه لما لم يمكنه مساجلته، وقد فخر بنسبه من هاشم وقرباه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، أتى بما يمضُّه ويفلُّ من غربه.
كانت العرب تقول
حدثنا عبيد الله بن مسلم العبدي قال، حدثنا العباس بن الفضل الهاشمي قال، حدثني أبو بكر الحسن بن علي قال، حدثنا أبو عبد الله وزعم أن رجل من أهل الجبل، قال: حدثني أبي قال: سمعت أبا ربيعة النحوي يقول: كانت العرب تقول: من لم يكن عقله أكمل ما فيه كان هلاكه بأكمل ما فيه. قال أبو عبد الله قال أبي : فحدثت بهذا الحديث الأصمعيَّ فقال: إن هذا لحسن وعندي آخر يشبهه: كانت العرب تقول: من كانت فيه خصلة هي أكمل من عقله فالحري أن تكون سبب منيته. قال أبو عبد الله قال أبي فحدثت بهذين الحديثين أبا عبيدة فقال: هذان حسنان وعندي آخر يشبههما: كانت العرب تقول: من لم يكن أغلب خصال الخير عليه عقله كان أغلب في خصال الخير عليه حتفه. قال أبو عبد الله قال أبي: فحدثت بهذه الأحاديث أبا دلف فقال: هذه حسان، وعندي آخر أحسن منها: كانت العرب تقول: كل شيء إذا كثر رخص إلا العقل فإنه إذا كثر غلا.
أعرابي يصف امرأة جميلة
حدثنا أحمد بن محمد بن أبي شيبة قال، حدثني إبراهيم بن محمد بن حيان قال، حدثنا أبو حام السجستاني عن أبي عبد الرحمن العتبي قال: كان أعرابي يشبب بامرأة، فقيل له: صفها، فقال: كان والله وجهها السقم لمن رآها، ولفظها البرء لمن ناجاها، وكانت في القرب أبطن من الحشا، وفي النأي ابعد من السما، ولقد كنت آتيها في أهلها فيتجهَّمني لسانها ويمنيني طرفها، فتعتريني لذلك فترة فتذكرني الصبا وهوى يهتك مني ستر الحيا.
أبيات فيها بعض معنى الخبر السابق
قال القاضي: وقد أنشدت ثلاثة أبياتٍ البيت الثالث يضارع بعض ما أتت به ألفاظ هذا الخبر وهي:
وتنال إن نظرت بلحظتها ... ما لا ينال بحدِّه النصل
وإذا نظرت إلى محاسنها ... فكلِّ موضع نظرةٍ قتل
ولقلبها حلمٌ تصدُّ به ... عن ذي الهوى ولطرفها جهل
وما أتى من هذا الضرب كثير، وقد أتينا منه في أوائل مجالسنا هذه ورسمنا من منظومه لنا ولغيرنا.
ما قاله بزرجمهر قبيل موته
حدثنا الحسن بن أحمد الكلبي قال، حدثنا الغلابي قال، حدثنا محمد بن عبد الله قال، حدثني علي بن محمد قال، قال أنو شروان لبزرجمهر لما أراد قتله: إني قاتلك فتكلم بشيء تذكر به، فقال: أيها الملك إن الدنيا حديث حسن وقبيح، فإن استطعت أن تكون حديثاً حسناً فكنه. قال أبو عبد الله: فذكر هذا الكلام لابن عائشة فقال: صدق والله، وهو من قول الله عز وجل: " وأجعل لي لسان صدقٍ في الآخرين " " الشعراء: 84 " وأنشد ابن عائشة:
ألم تر أنَّ تخلد بعدهم ... أحاديثهم والمرء ليس بخالد
وأنشد أيضاً:
وإذا الفتى لاقى الحمام رأيته ... لولا الثناء كأنه لم يولد
المجلس الثّامن والتسعون
حديث أبي مطر عن علي وهو يتجول في الأسواق
حدثنا أحمد بن محمد بن سعيد الهمذاني قال، حدثنا جعفر بن عبد الله المحمدي قال، حدثنا عمر بن محمد بن عمر بن علي بن الحسين قال، سمعت يحيى بن عبد الله بن الحسين يقول، سمعت جعفر بن محمد يقول: قدم شيخٌ من أهل البصرة يقال له أبو مطر، فقيل لي: إنه يروي حديثاً عن أمير المؤمنين أنت؟ فقلت: أنا جعفر بن محمد بن علي بن الحسين. فأخذني فضمني إليه وبكى ثم قال: نعم قدمت الكوفة وليس لي بها معرفة فكنت آوي إلى المسجد بالليل، وكان المسجد عمارته بالليل كعمارته بالنهار من بين مصلٍّ أو ذاكر فقه أو متعبد. فدخلت السوق وأنا غلامٌ ذيَّالٌ صاحب سكينيّة، فإذا رجلٌ من خلفي يقول: ارفع أزارك فإنه أنقى لثوبك وأتقى لربك، وخذ من شعرك إن كنت مسلماً. فالتفتُّ فإذا رجلٌ أصلع ضخم البطن مؤتزرٌ أسفل من ثدييه، عليه رداؤه وفي يده مخفقة. فقلت: من هذا؟ قالوا: أمير المؤمنين.
فتجنبت الطريق فحللت شعري وفرقته، ورفعت إزاري وشمرته، واتبعته فدخل دار الوليد بن عقبة، وكانت الإبل تباع بها، فقال: يا معشر أصحاب الإبل إياكم والحلف فإنه ينفّق السلعة ويمحق البركة، ثم أتى النحاسين فقال: يا معشر النحاسين إياكم أن تزيّنوا سلعتكم بما ليس فيها، ألا إنني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ليس منا من غشَّنا " . ثم أتى التمّارين فقال: يا معشر التمّارين، تصدقوا يرب كسبكم، وأوفوا الكيل والميزان، ولا تبخسوا الناس أشياءهم. فلما كاد يجوزهم إذا هو بأمةٍ تبكي، قال ما لك؟ قالت: ابتعت من هذا تمراً بدرهم فأتيت به أهلي فقالوا: ردّيه. فقا ل: يا تمّار، خذ تمرك واردد عليها فإنه ليس لها أمر. فأنكره التمار ولم يعرفه وقال له بالفارسية: اذهب إلى شأنك، ثم عرفه فأقبل يعتذر وهو يبكي، فقال: ما شأنه؟ فقالوا: ذكر أنه لم يعرفك، يسألك أن ترضى عنه، قال: فما أرضاني عنه وعن من كان مثله إذا وفى للمسلمين بشروطهم وأدَّى حقوقهم. ثم مضى من فوره إلى القصّابين فقال: إياكم والنفخ والغشَّ. فقام رجل يقال له زكا اليهودي فقال: يا أمير المؤمنين، إن النفخ لا يزيد فيه ولا ينقص منه، فقال: ويحك فما هو؟ قال: يزينه، قال: فذاك الغش. ثم أتى السمّاكين فقال: يا معشر أصحاب الحيتان، ولا تبيعوا في سوقنا الطافي فإنه ميت. ثم أتى البزازين فجلس إلى شيخ فقال: بعني قميصاً بثلاثة دراهم وأحسن بيعي، فناوله قميصاً فقال: يا أمير المؤمنين يقوم عليَّ بأربعة دراهم وهو لك بثلاثة دراهم، قال: نقصت من رأس مالك درهماً من أجل أنك عرفتني، لست أنا الذي أبتاع منك شيئاً. فجلس إلى آخر فاشترى منه قميصاً بثلاثة دراهم فلبسه ثم قال: الحمد لله الذي كساني من رياشه ما أتجمَّل به في الناس وأواري به عورتي. ثم قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول هكذا. ثم أتى الرحبة فهتف: يا قنبر، يا قنبر آتني بطهور، فأقبل بإناء من خزف فأهوى ليصبَّ عليه، فتناوله فوضعه بين يديه، ثم أفرغ على يمينه، ثم جمع بين كفيه فغسلهما حتى أنقاهما، واستنشق ثلاثاً، وتمضمض ثلاثاً، وغسل وجهه ثلاثاً، يستقبل باطن أذنيه بكفيه ويستدبرهما بإبهاميه، ثم غسل ذراعيه ثلاثاً، ثم مسح برأسه، ثم غسل قدميه، ثم جرع من فضل وضوئه، ثم قال: هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصنع. فأتاه شيخ فقال: يا أمير المؤمنين، إنك أتيت ابني وهو لا يعرفك فابتعت منه قميصاً وإنه أغلى عليك، إنما يقوم علينا بدرهمين، فخذ هذا الدرهم. قال: لا، أخذت رضاي وأخذ الغلام حاجته. ثم أخذ مؤذته ابن النباح في لإقامة، فإذا رجل يقول: يا أمير المؤمنين إني سرقت جملاً فبعته وأكلت ثمنه، قال: يا قنبر دونك الرجل أوقد النار وأعدَّ المحدَّ حتى آتيك، فدخل فصلَّى بالناس وصليت معه، فلما قضى الصلاة خرج مبادراً حتى انتهينا إليهما، فإذا الرجل يقول: يا قنبر، ما تراه صانعاً بي، قال: لا ولكني ما سرقت شيئاً قط، إذ أقبل أمير المؤمنين فقال: يا قنبر ما فعل الرجل؟ عليَّ به. قال: هو ذا ، هو يزعم ما سرقت شيئاً قط، قال: ويحك ما دعاك إلى ما قلت؟ قال: يا أمير المؤمنين أنكرت عقلي، قال: الله، قال: الله. فناشده الله ثلاثاً، كلّ ذلك يقول: الله ما سرقت شيئاً قط. قال: يا قنبر أخل سبيل الرجل، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " ادرءوا الحدود بالشبهات ما استطعتم " .
سند آخر للحديث السابق
حدثنا أحمد بن محمد بن سعيد قال، حدثني جعفر بن عبد الله قال، حدثنا عمر بن محمد قال، حدثنا غالب بن عثمان الهمداني قال، حدثنا مختار بن نافع أبو إسحاق العكلي التمّار قال، حدثني ابو مطر عمر بن عبد الله الجهنيَّ البصريّ قال: قدمت من البصرة فأتيت الكوفة ولم يكن لي بها معرفة، فذكر مثل حديث يحيى بن عبد الله أو نحوه.
وفود مالك بن عوف على الرسول
حدثنا محمد بن الحسن بن دريد قال، حدثنا أحمد بن عيسى العكلي عن الحرمازي عن أبي عبيدة قال: وفد مالك بن عوف بن سعيد بن ربيعة بن يربوع بن واثلة بن دهمان بن نصر بن معاوية، وهو رئيس هوزان يوم حنين، بعد إسلامه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأنشده:
ما إن رأيت ولا سمعت بواحدٍ ... في الناس كلِّهم كمثل محمد
أوفى وأعطى للجزيل لمجتدٍ ... ومتى تشأ يخبرك عما في غد
وإذا الكتيبة حدّدت أنيابها ... بالسمهري وضرب كلِ مهنّد
فكأنه ليثٌ على أشباله ... وسط الأباءة خادرٌ في مرصد
فقال له النبي صلى الله عليه وسلم خيراً وكساه حلّةً.
شرح لفظتين
قال القاضي: الأباءة الغيضة أو القطعة من القصب، والأباء القصب، قال الشاعر:
يا من ترى ضرباً يرعبل بعضه ... بعضاً كمعمعة الأباء المحرق
والخادر: المستكنُّ في غيضته أو غابته وهي كالخدر له، قالت الخنساء فيما ترثي به أخاها صخراً:
فتىٌ كان أحيا من فتاةٍ حيّيةً ... وأشجع من ليثٍ بخفَّان خادر
ابن عباس ينشد الشعر في المسجد الحرام فينتقده ابن الأزرق
حدثنا علي بن محمد بن الجهم أبو طالب الكاتب قال، حدثنا عمر بن شبة قال، حدثني أبو يحيى الزهري قال، حدثنا ابن أبي ثابت قال، أخبرني أبو سيّار عن عمر البركا قال: بينما ابن عباس في المسجد الحرام وعنده ابن الأزرق وناسٌ من الخوارج يسألونه إذ أقبل عمر بن أبي ربيعة في ثوبين مصبوغين موردين أو ممصّرين.
قال القاضي: الممصران: اللذان فيهما صفرة.
يسير حتى سلَّم وجلس. فأقبل عليه ابن عباس فقال أنشدنا، فأنشده:
أمن آل نعمٍ أنت غادٍ فمبكر ... غداة غدٍ أو رائحٌ فمهجّر
حتى أتى على آخرها. فأقبل عليه ابن الأزرق فقال: الله يا ابن عباس، إنا لنضرب إليك أكباد المطيِّ من أقاصي الأرض لنسألك عن الحلال والحرام فتتثاقل عنّا، ويأتيك مترف من مترفي قريش فينشدك:
رأت رجلاً أما إذا الشمس عارضت ... فيخزى وأما بالعشيِّ فيخسر
فقال ابن عباس: ليس هكذا قال، قال:
رأت رجلاً أما إذا الشمس عارضت ... فيضحى وأما بالعشيِّ فيخصر
قال: ما أراك إلا وقد حفظت البيت، قال: نعم، وإن شئت أن أنشدك القصيدة أنشدتكما، قال: فإني أشاء، قال: فأنشده القصيدة حتى جاء على آخرها، ثم أقبل على ابن ربيعة فقال: أنشد، فقال:
تشطّ غداً دار جيراننا
فقال ابن عباس: وللدار بعد غدٍ أبعد.
فقال: كذاك قلت أصلحك الله، أسمعته؟ قال: لا ولكن كذلك ينبغي.
شرح ألفاظ تتصل بالبيت السابق
قال القاضي: وقد روى بعض الرواة بيت ابن أبي ربيعة فقال: أيما إذا الشمس، وايما بالعشيّ، وهي لغةٌ معروفة. وقوله فيضحى قيل: معناه يمسّه الحر، وقيل: تعلوه الشمس وهو ضاحٍ لها غير مستتر منها، والضحُّ، الشمس، والعرب تقول: الضحّ والدحّ. وروي أن عبد الله بن عمر رأى رجلاً قد استظلَّ من الشمس وهو محرم فقال له: أضح لمن أحرمت له. ومن هذا قول الله عز وجل. " وأنَّك لا تظمأ فيها ولا تضحى " " طه:119 " أي لا يصيبك فيها حرٌّ و لا يعلوك شمسٌ؛ وقد قال جل اسمه في أهل الجنة: " لا يرون فيها شمساً ولا زمهريراً " " الإنسان:13 " . والزمهرير: البرد الشديد، ومن وقي أذاهما فقد أنعم الله عليه، قال الأعشى:
مبتّلة الخلق مثل المهاة ... لم تر شمساً ولا زمهريرا
وقد زعم بعضهم أن الزمهرير من أسماء القمر، وأنشد في هذا المعنى:
وليلةٍ فيها الظلام معتكر ... قطعتها والزمهرير ما زهر
وأما الخصر فإنه البرد القارس، يقال: قد خصر الرجل يخصر إذا أصابه البرد، كما قال الفرزدق:
إذا أنسوا ناراً يقولون ليتها ... وقد خصرت أيديهم نار غالب
ويقال: ماء خصر أي بارد، كما قال امرؤ القيس:
فلما استطابا صبَّ في الصحن نصفه ... وجاءوا بنصفٍ غير طرقٍ ولا كدر
بماء سحابٍ زلَّ عن ظهر صخرة ... إلى بطن أخرى طيّبٍ ماؤها خصر
أحسن ما قيل في وصف الماء
قال بعضهم: هذا أحسن ما قيل في صفة الماء. وقال قائلون: بل أحسن ما قيل في صفة الماء أبيات أتت في خبرٍ حدَّثناه أبو بكر ابن الأنباري لم يحضرني إسناده، وقد ذكرته في بعض مجالسنا هذه، وهو أنه ذكر أن عاتكة المرية عشقت ابن عمها فأرادها عن نفسها، فأنشأت تقول:
ما برد ماءٍ أيّ ماء تقوله ... تنزّل من غرٍّ طوال الذوائب
بمنحدرٍ من بطن وادٍ تقابلت ... عليه رياح الصيف من كلِّ جانب
ترقرق ماء المزن فيهنَّ والتقت ... عليهنَّ أنفاس الرياح الغرائب
نفت جرية الماء القذى عن متونه ... فليس به عيبٌ يحسُّ لشارب
بأحسن ممّن يقصر الطّرف دونه ... تقى الله واستحياء ما في العواقب
الحجاج وابن الحنفية وشكوى الثاني لعبد الملك
حدثنا الحسين بن القاسم الكوكبي قال، حدثنا أبو محمد عبد الله بن عمرو بن بشر الورّاق قال، حدثني أبو زكريا يحيى بن خليفة الدارمي قال، حدّثني محمد بن هشام السّعدي التميمي قال: خرج الحجاج بن يوسف وابن الحنفية من عند عبد الملك بن مروان، فلما صارا في الطريق قال الحجاج لمحمد بن الحنفية: لقد بلغني أن اباك كان إ ذا فرغ من القنوت يقول كلاماً حسناً أحببت أن أعرفه، فتحفظه؟ قال: لا، قال: سبحان الله، ما أوحش لقاءكم، وأفظع لفظكم، وأشدَّ خنزوانتكم، ما تعدُّون الناس إلا عبيداً، ولقد خضتم الفتنة خوضاً وقتلتم المهاجرين والنصار. فنظر إليه ابن الحنفية وأنكر لفظه وأحفظه، فوقف وسار الحجاج. ورجع ابن الحنفية إلى باب عبد الملك فقال للآذن: استأذن لي، فقال: ألم تكن عنده قبل وخرجت آنفاً، فما ردَّك وقد ارتفع أمير المؤمنين؟ قال: لست أبرح حتّى ألقاه. فكره الآذان غضب الخليفة فدخل عليه فقال: يا أمير المؤمنين، هذا محمد بن الحنفية مستأذنٌ عليك، فقال: ألم يكن عندي قبل، لقد ردَّه أمرٌ، إيذن له. فلما دخل عليه تحلحل عن مجلسه كما كان يفعل فقال: يا أمير المؤمنين هذا الحجاج أسمعني كلاماً تكمَّشت له، وذكر أبي بكلام تقمّعت له، وما أحرت حرفاً، قال: فما قال لك حتّى أعمل على حبسه؟ قال: وكأنمّا تفقأ في وجهه الرمّان ونخسه شوك، فخبره عمّا سأله عنه، فقال لصاحب شرطته: عليَّ بالحجاج السّاعة. فأتاه في منزله حين خلع ثيابه فحمله حملاً عنيفاً، وانصرف ابن الحنفية. فجاء الحجاج فوقفه بالباب طويلاً ثم قال: إيذن له، فدخل فسلَّم عليه، فقال له عبد الملك:
لا أنعم الله بعمروٍ عينا ... تحية السُّخط إذا التقينا
يا لكع وهراوة البقّار، ما أنت ومحمد ابن الحنفية؟! قال: يا أمير المؤمنين، ما كان إلاّ خيراً، قال: كذبت والله لهو أصدق منك وابرّ، ذكرته وذكرت أباه، فوالله ما بين لابتيها أفضل من أبيه؛ وما جرى بينك وبينه؟ قال: سألته يا أمير المؤمنين عن شيءٍ بلغني كان أبوه يقوله بعد القنوت، قال: لا أعرفه، فعلمت أن ذاك مقتٌ منه لنا ولدولتنا، فأجبته بالذي بلغك. فقال له عبد الملك: أسأت ولؤّمت، والله لولا أبوه وابن عمّه لكنَّا حيارى ضلاّلاً، وما أنبت الشعر على رؤوسنا إلاّ الله عز وجل وهم، وما أعزَّنا بما ترى إلا رحمهم وريحهم الطيبة، والله لا كلَّمتك كلمةً أبداً، أو تجيئني بالرضا منه، وتسلَّ سخيمته. قال: فمضى الحجاج من فوره، فألفاه وهو يتغدَّى مع أصحابه، قال: فاستأذن فأبى أن يأذن له، فقال له بعض أصحابه: أتى برسالة أمير المؤمنين، فأذن له، فقال: إن أمير المؤمنين أرسلني أن أسلَّ سخيمتك، وأقسم أن لا يكلّمني ابداً حتّى آتيه بالرضى منك، وأنا أحبُّ، برحمك من رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلاَّ عفوت عمّا كان، وغفرت ذنباً إن كان. فقال: قد فعلت على شريطة فتفعلها، قال: نعم، قال: على صرم الدهر. قال: ثم انصرف الحجاج فدخل على عبد الملك فقال: ما صنعت؟ قال: جئت برضاه وسللت سخيمته وأجاب إلى ما أحبّ وهو أهل ذلك. قال: فأيُّ شيءٍ آخر ما كان بينك وبينه؟ قال: رضي على شريطة، على صرم الدهر، فقال: شنشنةٌ أعرفها من أخزم، انصرف. فلمّا كان من الغد دخل ابن الحنفية على عبد الملك فقال له: أتاك؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين، قال: فرضيت وأجبته؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين، قال: ثم مال إليه فقال: هل تحفظ ما سألك عنه؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين وما منعني أن أبثه غياه إلا مقتي له فأنّه من بقية ثمود. فضحك عبد الملك ثم قال: يا سليمان - لغليّم له - كاتباً ودواةً وقرطاساً، قال: فكتب بخطّه: بسم الله الرحمن الرحيم، كان أمير المؤمنين عليّ عليه السلام إذا فرغ من وتره رفع يده إلى السماء وقال: اللّهم حاجتي العظمى التي إن قضيتها لم يضرَّني ما منعتني، وإن منعتني لم ينفعني ما أعطيتني. فكّاك الرقاب، فكَّ رقبتي من النار، ربِّ ما أنا إن تقصد قصدي بغضب منك يدوم عليَّ، فوعزَّتك ما يحسّن ملكك إحساني، ولا تقبّحه إساءتي، ولا ينقص من خزائنك غناي، ولا يزيد فيها فقري. يا من هو هكذا اسمع دعائي وأجب ندائي، وأقلني عثرتي، وارحم غربتي ووحشتي ووحدتي في قبري، ها أنا ذا يا ربِّ برمّتي. ويأخذ بتلابيبه ثم يركع. فقال عبد الملك: حسن والله رضي الله عنه.
شروح وتعليقات
قال القاضي: قول محمد بن الحنفية عليه السلام: " أسمعني كلاماً تكمشت له " أي انقبضت منه، يقال لما تغضَّن وتشنّج من الفاكهة وغيرها قد تكمّش فهو متكمّش. وقوله: " ذكر أبي بكلام تقمّعت له " يقال: قد تقمَّع الرجل وانقمع إذا انخزل وانكسر. وقول عبد الملك: " يا لكع " يريد يا عبد أو يا لئيم. وقوله " " وهراوة البقّار " يعني عصار الراعي التي يذود بها البقر، يريد أنّه لا يصلح إلاّ لأداني الأمور. وما رواه محمد بن الحنفية من قول أمير المؤمنين عليه السّلام في دعاه: " ها أنا ذا يا ربٌ برمّتي " العرب تقول: أخذ فلان كذا وكذا برمَّته، يريدون أخذه كلّه واستوفاه ولم يغادر شيئاً منه؛ وكذلك قولهم أخذه بأسره، والأسر القيد، وبه سمّي الأسير أسيراً وهو الآخذ بمعنى المأخوذ، وكانوا يشدّونه بالقدِّ إذا أسروه. وأما الرّمة فالحبل البالي كانوا يشدُّون الأمتعة به، ومنه قول ذي الرّمة: أشعث باقي رمَّة التقليد وقيل: إنّما سمّي ذا الرمَّة لقوله هذا، وهو غيلان بن عقبة، فأمّا الرمّة بالكسر فالعظم البالي، ويقال: رمَّ العظم يرمّ وهو رميم، ومنه قول الشاعر:
والنيب إن تعر مني رمّةً خلقاً ... بعد الممات فإني كنت أتَّئر
وهذا من أبيات المعاني ومعناه أن النيب، وهي جمع ناب، وهي الناقة المسنّة، يقال لها ذلك كأنها لم يبق مرُّ السنين عليها إلا ناباً كما يقال فلان راس وفلان بطن، ومن الناب قول جرير:
لقد سرَّني ألاّ تعدَّ مجاشعٌ ... من المجد إلاّ عقر نابٍ بصوأر
وقال أيضاً:
تعدون عقر النيب أفضل مجدكم ... بني ضوطري لولا الكميَّ المقنّعا
قال: كانت تأكل عظام الموتى طلباً لموحتها فقال هذا الشّاعر: إن تعر منّي رمةً خلقاً، يريد إن تأكل عظامي بعد موتي، فإنّي كنت أتئر أي آخذ منها بثأري سلفاً في حياتي، يعني أنّه كان ينحرها للأضياف. وقوله: " أتَّئر " افتعل من الثأر وأصله اثتئر فقلبت الثاء تاء وأدغمت في الّتي بعدها، وكذلك مدَّكر أصله مذتكر، ومظّلم أصله مظتلم. ولما وصفنا من القلب علة هي مرسومة في موضعها. ومن العرب من يقول أثّتر بالثاء، ومذّكر بالذال، ومطّلم بالطاء إلا أن المختار أفصح في القياس، والأشهر في الرواية مدّكر ومتئر ومظَّلم ومثله مدّخر ومذّخر، قال زهير بن أبي سلمى يمدح هرم بن سنان:
هو الجواد الّذي يعطيك نائلةٌ ... عفواً ويظلم أحياناً فيظَّلم
يروى على الوجهين والظاء أشهرهما، والمشهور من القراء في قول الله تعالى: " فهل من مدَّكر " " القمر: 15،17،22،32،40،51 " الدال، وكذلك وله تعالى: " وما تدّخرون في بيوتكم " " آل عمران:49 " .
المجلس التاسع والتسعون
حديث الأنبياء إخوة لعلات
حدثنا محمد بن القاسم بن محمد بن بشار الأنباري قال، حدثنا أحمد بن الهيثم بن خالد البزاز قال، حدثنا أبو العاص محمد بن سعيد قال، حدثني عنبسة بن عبد الواحد عن أيوب بن عتبة عن يحيى بن أبي كثير عن قتادة عن عبد الرحمن بن آدم عن أبي هريرة قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " الأنبياء إخوةٌ لعلاَّتٍ، أمهاتهم شتَّى ودينهم واحد، وأنا أولى الناس بعيسى ابن مريم لأنه لم يكن بيني وبينه نبيّ، وهو خليفتي على أمتي، وهو نازل، فإذا رأيتموه فاعرفوه فإنه رجلٌ مربوعٌ يضرب إلى البياض والحمرة، يكاد رأسه يقطر وإن لم يصبه بللٌ، يمشي بين ممصّرتين، يدقّ الصليب ويقتل الخنزير ويفيض المال ويضع الجزية ويقاتل على الإسلام حتى تهلك في زمانه الملل كلها، فتقع الأمنة في الأرض، فترعى الإبل مع الأسود، والنمور مع البقر، والذئاب مع الغنم، ويلعب الصبيان مع الحيَّات فلا تضرّهم شيئاً، فيلبث في الأرض أربعين سنة ثم يتوفَّى فيصلّي عليه المؤمنون " .
العلات والأخياف وصلة ذلك بالميراث
قال القاضي، قال أبو بكر: قوله إخوة لعلاَّت، يقول العرب هم إخوة لعلاّت إذا كانت أمهاتهم مختلفاتٍ وأبوهم واحد، فإذا كان الآباء مختلفين والأم واحدة قيل: هم إخوة لآحاد. وقال بعضهم: يقال في هذا المعنى هم إخوة لأخياف وإخوة لأعيان. وشتى معناه مختلفات. قال القاضي: المعروف من كلام العرب أنهم يقولون للإخوة الذين أبوهم واحد وأمهاتهم شتَّى بنو العلات كما قال الشاعر:
والناس أولاد علاَّت فمن علموا ... أن قد أقلَّ فمحقورٌ ومهجور
وهم بنو الأم أمّا إن رأوا نشباً ... فذاك بالغيب محفوظٌ ومنصور
فإذا كانت الأم واحدةً والآباء مختلفين فهم الأخياف، كما قال الشاعر:
أفي الشدائد أخيافاً لواحدةٍ ... وفي الولائم أولاداً لعلاَّت
ويقال للفرس إذا كانت إحدى عينيه زرقاء والأخرى محلاء أخيف. وإذا كان أبو الإخوة واحداً وأمهم واحدة فهم الأعيان. وجاء عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: أعيان بني الأمّ أولى بالميراث من بني العلات " . وقد استدل بهذا الحديث بعض من ذهب إلى قول عبد الله بن مسعود ومن قال مثل قوله من الخلف والسلف في ابني عمٍّ أحدهما أخٌ لأم أنَّ المال كلَّه لابن العم الذي هو أخّ لأمّ دون الآخر، وحمله مخالفوهم على أنه جاء في الأخ للأب والأم، والأخ للأب، وجماعة غيرهم من المتقدمين والمتأخرين. ولكلُّ فريق منهم عللٌ يوردونها وحججٌ يأتون بها، وقد رسمناها في مواضعها من كتبنا، وذكرنا ما نختاره منها.
مزيد من التفسير والتعليق
قال ابن الأنباري في الخبر الذي قدمنا روايته عنه، وقوله صلى الله عليه وسلم : " يمشي بين ممصرتين " معناه بين شقتين فيهما صفرةٌ يسيرة، والممشَّق عند العرب المصبوغ بالمغرة، والمغرة يقال لها المشق.
قال القاضي: قول النبي صلى الله عليه وسلم: " وتهلك في زمانه الملل كلُّها " صريح البيان على أنًّ اليهود والنصارى والمجوس وسائر المشركين ذوو مللٍ مختلفة وليسوا أهل ملةٍ واحدة، وإن جمعهم الكفر، وأنه لا توارث بن أحدٍ منهم ومن هو على غير ملته، لقول النبي: " لا يتوارث أهل ملتين شتى " ؛ وقد روينا هذا القول عن الحسن ومالك وأبي عمرو الأوزاعي وبه نقول. وكان أبو حنيفة وأصحابه يرون الكفر كلَّه ملةً واحدةً ويوقعون التوارث بينهم، وإليه يذهب أصحاب الشافعي، وهذا قولٌ فاسد، وشرح البيان عن هذا الباب مرسومٌ في موضعه.
هبوط عيسى ابن مريم
حدثنا محمد بن القاسم الأنباري قال، حدثنا أحمد بن الهيثم قال، حدثنا الهيثم بن خارجة قال، حدثنا عبد الله بن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر عن أبيه عن يحيى بن جابر الطائي عن عبد الرحمن بن جبير بن نفير عن أبيه عن النواس بن سمعان قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يهبط عيسى ابن مريم صلى الله عليه وسلم شرقيَّ دمشق عند المنارة البيضاء بين مهرودتين " . قال أبو بكر حفظناه عن أحمد بن الهيثم بالدال وتفسيره بين ممصّرتين.
حديث آخر عن هبوط عيسى
وحدثنا محمد بن القاسم قال، حدثنا جعفر بن محمد العبرتائي قال، حدثنا أبو مروان هيثم بن خالد الأزرق قال، حدثنا الوليد بن مسلم قال، حدثنا عبد الرحمن بن يزيد بن جابر عن يحيى - قال أبو مروان: وكان قاضياً على حمص - عن عبد الرحمن بن جبير بن نفير عن أبيه عن النواس بن سمعان قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يهبط عيسى ابن مريم بين مهروذتين " . قال أبو بكر: حفظناه عن جعفر بن محمد بالذال في هذا الحديث، يعني بين ممصرتين.
معاني الصير
قال أبو بكر: فهذا مما فسر في الحديث بما لا يعرف إلا منه كالحروف التي جاءت مفسَّرةً في الحديث ، منها: من اطَّلع في صير باب فقئت عينه فهي هدر. ومنها أن سالم بن عبد الله رأى رجلاً معه صيرٌ فذاق منه فقال: كيف تبيعه؟ فالصير الأول الشقّ، والثاني الصحناة. ومنها أن عمر رضوان الله عليه سأل المفقود الذي استهوته الجن ما شرابهم؟ فقال: الجدف، ففسَّلا هو نبات باليمن لا يحتاج اليذ يأكله أن يشرب عليه، ويقال هو كل مالا يذكر الله عليه من الآنية والأشربة. ومنها ما جاء في الأمرين من السقا والثُّقا، تفسير الثّقا الحرف " قيل: هو الرشاد " ؟ قال القاضي: جعل أبو بكر ابن الأنباري الصير مما لا يعرف تفسيره إلا في الحديث الذي جاء تفسيره فيه، فذكر هذا أبو بكر علىّ سعة حفظه وإتقانه وضبطه، وكان يذهب عليه في الوقت بعد الوقت أشياء ظاهرةٌ معلومة وينكرها مع اشتهارها، فأخذنا عنه راويتها بأسانيدها؛ على أننا لم نر في من يشار إليه بحفظ الروايات والآداب أحسن منه حفظاً، ولكنه بشرٌ يجري عليه من السهو والنسيان ما يعرى من مثله الإنسان. والصير معروف مشهور، فأما الصير الذي أتى في حديث الاطلاع ففسر بأنه الشق فقد أصاب مفسره المعنى أو قاربه.
فأما الصحناة فتسميتها صيراً مما يعرفه أهل العلم، وقد ذكره قومٌ من أهل الفقه وغيرهم، وأصل الصير الذي بدأنا بذكره عندي الحدّ، وقد جاء في الشعر ما يشهد بهذا ويدلُّ عليه، قال زهير:
وقد كنت من سلمى سنين ثمانياً ... على صير أمرٍ ما يمرُّ وما يحلو
يسمى الولد علياً ويكنيه أبا الحسن
فيعرض معاوية عليه جائزة إن غيرهما
حدثني عبد الله بن مسلم العبدي قال، حدثنا أبو الفضل الربعي قال، حدثنا إبراهيم بن عيسى بن المنصور قال، حدثني إسحاق بن عيسى بن علي قال، حدثني أي وسمعته يقول: ولد أبو محمد علي بن عبد الله سنة أربعين بعد قتل علي بن أبي طالب عليه السلام، فسماه عبد الله بن العباس علياً وكناه أبي الحسن، وولد معه في تلك السنة لعبد الله بن جعفر بن أبي طالب عليه السلام غلامٌ فسمَّاه علياً وكنّاه بأبي الحسن. فبلغ ذلك معاوية فوجَّه إليهما أن انقلا اسم أبي تراب وكنيته عن ابنيكما وسمياهما باسمي وكنّياهما بكنيتي، ولكلِّ واحدٍ منكما ألف ألف درهم. فلما قدم الرسول عليهما بهذه الرسالة سارع إلى ذلك عبد الله بن جعفر فسمَّى ابنه معاوية وأخذ ألف ألف درهم، وأما عبد الله بن عباس فإنه أبى ذلك وقال: حدثني علي بن أبي طالب عليه السلام عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " ما من قومٍ يكون فيهم رجلٌ صالحٌ فيموت فيخلّف فيهم مولود فيسمونه إلا خلفهم الله بالحسنى " ، وما كنت لأفعل ذلك أبداً. فأتى الرسول معاوية فأخبره بخبر ابن عباس فردَّ الرسول وقال: فانقل كنيته عن كنيته ولك خمسمائة ألف درهم، فلما رجع الرسول إلى ابن عباس بهذه الرسالة قال: أما هذا فنعم وكناه بأبي محمد.
مقتل أبي مسلم وكيف تم
حدثنا إبراهيم بن محمد بن عمر بن عرفة الأزدي قال، أخبرنا أبو العباس المنصوري قال: لما قتل المنصور أبا مسلم قال: رحمك الله أبا مسلم، فإنك بايعتنا وبايعناك، وعاهدتنا وعاهدناك، ووفيت لنا ووفينا لك، فإنك بايعتنا على أنه من خرج علينا قتلناه، وأنك خرجت علينا فقتلناك، وحكمنا لك حكمك لنا على نفسك.
قال: ولما أراد المنصور قتله دسَّ رجالاً من القواد منهم شبيب بن واج وتقدَّم إليهم فقال: إذا سمعتهم تصفيقي فاخرجوا إليه فاضربوه. فلما حضر حاوره طويلاً حتى قال له في بعض قوله: وقتلت وجوه شيعتنا فلاناً وفلاناً، وقتلت سليمان بن كثير، وهو من رؤساء أنصار دولتنا، فقتلت لاهزاً، قال: إنهم عصوني فقتلتهم، وقد كان قبل ذلك قال المنصور له: ما فعل سيفان بلغني أنك أخذتهما من عبد الله بن علي؟ قال: هذا أحدهما يا أمير المؤمنين، يعني السيف الذي هو متقلّدٌ به. قال: أرنيه، فدفعه إليه فوضعه المنصور تحت مصلاه وسكنت نفسه. فلما قال ما قال، قال المنصور: يا للعجب أتقتلهم حين عصوك وتعصيني أنت فلا أقتلك؟! ثم صفق فخرج القوم وبدورهم إليه شبيبٌ فضربه فلم يزد على أن قطع حمائل سيفه. فقال له المنصور: اضربه قطع الله يدك، فقال أبو مسلم: يا أمير المؤمنين استبقن لعدوّك قال: وأيُّ عدوٍّ أعدى منك؟ فضربوه بأسيافهم حتى قطعوه إرباً إرباً. فقال المنصور: الحمد لله الذي أراني يومك يا عدوَّ الله. واستؤذن لعيسى بن موسى. فلما دخل ورأى أبا مسلم على تلك الحال، وقد كان يكلّم المنصور في أمره لعناية كانت منه به، استرجع، فقال له المنصور: احمد الله فإنك إنما هجمت على نعمةٍ ولم تهجم على مصيبة، ففي ذلك يقول أبو دلامة:
أبا مجرمٍ ما غيَّر الله نعمةً ... على عبده حتى يغيِّرها العبد
أبا مجرمٍ خوفتني القتل فانتحى ... عليك بما خوفتني الأسد الورد
خطبة المنصور بعد قتل أبي مسلم
حدثنا محمد بن يحيى الصولي بإسناد لم يحضرني في هذا الوقت ذكره لخبر المنصور وقتله أبا مسلم، ثمَّ حدثنا أيضاً بإسناد هذه صفته قال: خطب لمنصور الناس بعد قتل أبي مسلم فقال: أيها الناس لا تخرجوا من أنس لطاعة إلى وحشة المعصية، ولا تمشوا في ظلمة الباطل بعد سعيكم في ضياء لحقّ. إن أبا مسلم أحسن مبتدياً وأساء معقباً. وأخذ من الناس بنا أكثر مما عطانا، ورجح قبيح باطنه على حسن ظاهره، وعلمنا من خبيث سريرته وفساد نيَّته ما لو علمه اللائم لنا فيه لعذرنا في قتله، وعنَّفنا في إمهاله. وما زال ينقض بيعته ويحفر ذمته حتى أحلَّ الله لنا عقوبته وأباحنا دمه، فحكمنا فيه حكمه في غيره، ولم يمنعنا الحقُّ له من إمضاء الحقِّ فيه، وما أحسن ما قال النابغة الذبياني في النعمان:
فمن أطاعك فانفعه بطاعته ... كما أطاعك وأدلله على الرَّشد
ومن عصاك فعاقبه معاقبةً ... تنهى الظلوم ولا تقعد على ضمد
ثم نزل:
خطبة أخرى للمنصور بعد قتل أبي مسلم
حدثنا الصولي قال، حدثنا الغلابي قال، حدثنا يعقوب بن جعفر عن أبيه قال: خطب الناس المنصور بعد قتل أبي مسلم فقال: أيها الناس لا تنفّروا أطراف النعمة بقلّة الشكر فتحلَّ بكم النقمة، ولا تسرُّوا غشَّ الأئمة، فإن أحداً لا يسرُّ منكراً إلا ظهر في فلتات لسانه وصفحات وجهه وطوالع نظره. وإنا لن نجهل حقوقكم ما عرفتم حقَّنا، ولا ننسى الإحسان إليكم ما ذكرتم فضلنا، ومن نازعنا هذا القميعص أوطأنا أم رأسه خبيء هذا الغمد. وإن أبا مسلم بايع لنا على أنه من نكث بيعتنا وأضمر غشَّاً لنا فقد اباحنا دمه، ثم نكث وغدر، وكفر وفجر، فحكمنا عليه لأنفسنا حكمه على غيره.
كتاب من أبي مسلم إلى المنصور
حدثنا محمد بن يحيى الصولي قال، حدثنا المغيرة بن محمد قال، حدثني محمد بن عبد الوهاب قال، حدثني علي بن بن المغاني قال: كتب أبو مسلم إلى المنصور حين استوحش منه: أما بعد فقد كنت اتخذت أخاك إماماً، وجعلته على الدين دليلاً لقرابته والوصية التي زعم أنها صارت إليه، فأوطأني عشوة الضلالة، وأوهقني في ربقة الفتنة، وأمرني أن آخذ بالظنّة وأقتل على التهمة ولا أقبل المعذرة، فهتكت بأمره حرماتٍ حكم الله بصيانتها،، وسفكت دماءً فرض الله حقنها، وزويت الأمر عن أهله، ووضعته منه في غير محلّه. فإن يعف الله عني فبفضلٍ منه، وإن يعاقب فبما كسبت يداي، وما الله بظلام للعبيد.
ثم أنساه الله تعالى هذا حتى جاءه حتف أنفه فقتله، ثم صعد المنبر فذكر مثل المتقدم فيما ذكرناه.
معنى حتف أنفه
قال القاضي: قول هذا القائل: " حتى جاءه حتف أنفه " ينبغي أن يكون على قول أهل العلم خطأ من قائله، وذلك أنهم ذكروا أنه يقال لمن لم يقتل ومات على فراشه: " مات حتف أنفه، ومات حتف أنفيه " . وذكر بعض المتقدمين في علم اللغة وأهل المعرفة بالعربية أن هذا مما أتى في ألفاظ معدودة تكلَّم بها النبيُّ صلى الله عليه وسلم لم يجدوا سابقاً إليها غيره، وأبو مسلم على هذا لم يأته حتف أنفه، وإنما كان بنسيانه عظيم جنايته على نفسه وتعرضه لما لها قبل له به وطمعه في الأمن مما الخوف منه أولى به، فتوجه إلى جبار من الملوك قد وتره، وأسرف في خطابه الذي كاتبه به، مع ما كان منه مما اضطغنه هذا الملك عليه، واسترسل في إتيان حضرته، وأضاع وجه الحزم، واستأنس للخصم، وسلَّم عدَّته التي كان يحمي بها نفسه إلى من أتى عليها وفجعه بها، فقتله أفظع قتلة. فكيف يقال فيه جاءه حتف أنفه مع ما بيَّنَّاه من معنى هذه الكلمة واختصاصها بما تختصُّ به. وبيِّن أن قولهم " مات حتف أنفه " مخالفٌ في المعنى قولهم " قتل " قول السمأل بن عادياء:
وما مات منا سيّدٌ حتف أنفه ... ولا طلَّ منا حيث كان قتيل
وهذا في دلالته على الفصل بمنزلة قول العامة: " مات فلان على فراشه " ليفصلوه ممن قتل. ولو كان هذا القائل في هذا الموضع قال " حتى جاءه حتفه أو منيته، أو حتف نفسه " ، أو ما أشبه هذا من الألفاظ المنبئة عن هذا المعنى، لوصل إليه بغيته وأصاب في العبارة عما قصد له، وسلم من تخطئة أهل العلم له.
المهدي يستدعي مولى فائد ليغنيه صوتاً معيناً
حدَّثنا الحسين بن القاسم الكوكبي قال، حدثنا ابن أبي طاهر قال، حدّثني حماد بن إسحاق عن أبيه قال، حدثني الربيع بن الفضل قال: أمرني أمير المؤمنين المهديُّ بالتقدُّم إلى خليفة العامل على الباب أن يكتب إلى صاحبه كتاباً عن نفسه في إشخاص أبي سعيد مولى فائد، فلم يك شيء حتّى وافى ابو سعيد فأدخله خليفة العامل عليَّ. فتوهّمت عند نظري إليه أنّه قاضي الحرمين، فدخلت من ساعتي إلى أمير المؤمنين وأعلمته، فأمرني بصرف الناس وإدخاله. قال: فقرّب أمير المؤمنين مجلسه وأحفى سؤاله ثم قال له: غنني أبا سعيد:
لقد طفت سبعاً قلت لما قضيتها ... ألا ليت سعيي لا عليَّ ولا ليا
وإنّ الّذي يبغي رضاي بذكرها ... لأكرم من أهلي عليَّ وماليا
فقال: وأغنّيك أحسن منه يا أمير المؤمنين، جعلني الله فداك. قال: أنت وذاك، فغنّاه:
قدم الطويل فأشرقت واستبشرت ... أرض الحجاز وبان في الأسحار
غيث الحيا وضياء كلِّ ملمّة ... سهل القياد ومألف الزوّار
قال القاضي: فأجاده وأحسنه، غير أن المهدي قال: هذا حسن ولكن غنني " لقد طفت سبعاً " قال له: وأحسن منه، جعلني الله فداك. قال له: أنت وذاك، فغناه:
إن هذا الطويل من آل حفصٍ ... نشر الجود بعدما كان ماتا
وبنى المجد مشبهاً لأبيه ... مثل ما يشبه النبات النباتا
قال القاضي: هكذا رواه، وأنشر أفصح. فأحسنه وأجاده، فقال المهدي: ويحك يا أبا سعيد، ما تركت في إحسانٍ مزيداً ولكن غنّني: " لقد طفت سبعاً " فغنّاه:
إنَّ الطويل من آل حفصٍ فاعملوا ... ساد الحضور وساد في الأسفار
قال، فقال له المهدي: أنت تحسن يا أبا سعيد، ولكن ليس تغنيني الّذي أشتهي. فقال له الفضل منتهراً، غنِّ أمير المؤمنين ما يأمرك به. فقال أبو سعيد: يا أمير المؤمنين لا والذي أكرمك بخلافته ما لي إلى ذلك سبيل. قال: وكيف؟ قال: لأني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام، وكان في يده شيء، فأهوى إليّ ليضربني به وهو يقول: لقد طفت سبعاً، ماذا صنعت يا بني؟ فقلت: اعف عنّي، فوباعثك بالحقِّ لا غنَّيت هذا الصوت أبداً. قال: فردَّه عني وقال: عفا الله عنك. فرأيت المهدي يبكي وتغلبه دموعه وهو يكفُّها، ثمّ وصله وصرفه.
عرار رسول الحجاج إلى عبد الملك
حدّثنا عبد الله بن محمد بن محمد بن أبي سعيد وأبو بكر البزاز قالا، حدثنا أبو العيناء قال، حدثنا الأصمعي قال: كتب الحجاج إلى عبد الملك كتاباً ووجَّه به مع رسوله. فجعل عبد الملك يقرأ الكتاب ويستنشي الخبر من الرسول فيجد شرحه أشفى من كتاب الحجاج، وكان أسود، فأنشأ عبد الملك يقول:
وإن عراراً إن يكن غير واضحٍ ... فإني أحبّ الجون ذا المنكب العمم
فقال الرسول: أنا عرار يا أمير المؤمنين، وأبي قال فيَّ هذا الشعر،فأعجب بذلك عبد الملك.
معاوية يعيب أهل اليمن فيعيب اليمني قوم معاوية
حدثنا الحسن بن أحمد بن محمد الكلبي قال، حدثنا الكلابي قال، حدثنا العباس بن بكار قال، حدّثنا عامر بن عبد الله عن أبي الزناد قال، قال معاوية لرجل من أهل اليمن: ما كان أجهل قومك حيث قالوا: " ربَّنا باعد بين أسفارنا " سبأ:19 " وحيث ملكوا أمرهم امرأة. فقال: أجهل منهم قومك يا أمير المؤمنين قالوا حين دعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : " اللّهم إن كان هذا هو الحقّ من عندك فأمطر علينا حجارةً من السماء " الآية " الأنفال:32 " ألا قالوا: " اللّهم إن كان هذا هو الحق من عندك فاهدنا له.
تم المجلس بحمد الله وحسن توفيقه.
المجلس المائة وبه تمام المجالس
زكاة الرأس
حدثنا محمد بن مخلد بن حفص العطار قال، حدثني جعفر بن محمد بن كزال البزازقال، حدّثنا عبد الله بن يحيى يعني المروزي قال، حدّثنا إسماعيل بن يحيى يعني ابن عبد الله التيمي عن شعبة عن الحكم عن الشعبي قال، قلت لابن عباس: ما سنّه الفطرة فقال: سأل النبيُّ صلى الله عليه وسلّم جبريل عليه السّلام فقال: يا جبريل إنّ أمّتي يكذبون الأمم يوم القيامة فأخاف أن يردوا عليّ يوم القيامة ولم يتمَّ صومهم، فقال جبريل: مرهم فليعطوا كلَّ رجل منهم عن نفسه نصف صاع من برٍّ يكون كفَّارة لذنوبهم في صومهم حتّى تعتق رقابهم من النار. قال: فكان رسول الله صلى الله عليه وسلّم يقول: هي زكاة الرأس نجاةً من النار. قال ابن عباس: فكانت هذه أحبَّ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم من الدنيا وما فيها . قال ابن مخلد: هذا حديث منكر ولكن فيه ترغيب، واسأل الله السلامة، وإسماعيل بن يحيى بن عبيد الله التيمي رجل ضعيف وأبوه أيضاً.
هل ضعف الراوي يجعل الحديث ضعيفا
ً
قال القاضي: الذي ذكره ابن مخلد من تضعيف إسماعيل بن يحيى راوي هذا الحديث على ما ذكر عند أهل صناعة الحديث. وكثير من العامّة ومن لا نظر له من النقلة يظن أنَّ ما ضعف راويه فهو باطلٌ في نفسه مقطوعٌ على إنكاره من اصله، وهذا جهلٌ ممّن ذهب إليه، وذلك أن راوياً معروفاً بالكذب في رواياته لو روى خبراً انفرد به مما يمكن أن يكون حقّاً وأن يكون باطلاً لوجب التوقف عن الحكم بصحته والعمل بما تضمّنه، ولم يجز القطع على تكذيب راويه والحكم بتكذيب ما رواه.
مبلغ زكاة الفطر
فأمّا تقدير ما يخرج من زكاة الفطر من البر بأنّه نصف صاع فقد روي هذا المقدار عن النبي صلى الله عليه وسلم من جهات متواترة وبأسانيد متظاهرة، وهو القول المستفيض في الصحاة والتابعين وفقهاء السّلف من المسلمين، وإليه يذهب أئمة الفقهاء العراقيين وغيرهم من المفتين، وبه نقول. وكانت طائفة كبيرة العدد ترى أن ما يخرج في صدقة البرّ بمنزلة ما يخرج فيها من التمر، وممن ذهب إلى هذا مالكٌ والشافعيّ، الّذي يختار إخراج صاع ممن وجد سعةً من غير أن توجب عليه أكثر من ذلك. وقد بيّنا ما يجب إخراجه في هذه الصدقة من أنواع الأقوات، وذكرنا اختلاف الناس في ذلك والاحتجاج لكلّ ذي مذهب فيه وعليه في مواضعه من كتبنا في الفقه مشروحاً ملخّصاً.
معنى بيت يفسره الأصمعي
حدثنا محمد بن الحسن بن دريد قال، أخبرنا عبد الرحمن عن عمه الأصمعي أن رجلاً وقف عليه فسأله عن معنى هذا البيت:
وماذا عليها من قلوصٍ تمرَّغت ... بعكمين أو ألقتهما بالصحاصح
فقال له عمي: هذا الرجل كان مفرداً، وكانت عنده امرأة فطلَّقها ونكح أخرى، فلقيت المرأة الأولى صاحباً للرجل فقالت: ما فعلت صاحبة فلان؟ قال: هي كما يحبّه، فقالت: كلاّ لقد تمرّغت بعكمين أي ساء خلقها عليه وكرهته، فبلغ ذلك الرجل ، وكان اسمه المرأة الأولى أسماء، فقال:
نعرَّض أسماء الركاب عشيّةً ... تسائل عن ضغن النساء النواكح
وماذا عليها من قلوصٍ تمرَّغت ... بعكمين أو ألقتهما بالصحاصح
وهذا مثلٌ، وليس هناك قلوصٌ ولا عكمان.
مصير مسافر بن عمرو
وحدثنا ابن دريد قال، أخبرنا السكن بن سعيد عن محمد بن عباد عن هشام بن محمد قال: كان مسافر بن أبي عمرو بن أمية بن عبد شمس من فتيان قريش جمالاً وسخاءً وشعراً. فعشق هند بنت عتبة حتّى شهر أمرهما، فاستحيا وخرج إلى الحيرة ليسلوها. فنادم عمرو بن هند، وكان له مكرماً؛ ثم إن أبا سفيان بن حرب تزوَّج هنداً في غيبة مسافر هذه. وخرج أب سفيان إلى الحيرة تاجراً، فلقي مسافر بن أبي عمرو فسأله عن مكة وأخبار قريش، فخبره من ذلك ثم قال: وإنّي تزوّجت هند ابنة عتبة. فأسف مسافر من ذلك ومرض حتّى سقي بطنه، وقال:
ألا إنّ هنداً أصبحت منك محرما ... وأصبحت من أدنى حموّتها حما
وأصبحت كالمسلوب جفن سلاحه ... يقلِّب بالكفّين قوساً وأسهما
فدعا عمرو بن هند الأطباء فسألهم عن حاله فقالوا: ليس له دواء إلاّ الكيّ، فقال له: ما ترى؟ قال: افعل. فدعا له طبيباً من العباد فأحمى مكاويه حتى صارت كالنار، ثم قال: أمسكوه لي، فقال له مسافر: لست أحتاج إلى ذلك.
فجعل يضع عليه المكاوي، فلمّا رأى الطبيب صبره هاله ذلك، فقال مسافر: قد يضرط العير والمكواة في النار، فأرسلها مثلاً. قال: فلم يغنه ذلك شيئاً.
فخرج يريد مكة فأدركه الموت بزبالة، فدفن بها ونعي إلى أهل مكة، وكان أبو طالب ابن عبد المطلب له نديماً، فقال يرثيه:
ليت شعري مسار بن أبي عم ... روٍ وليت يقولها المحزون
كيف كانت مرارة الموت في في ... ك وماذا بعد الممات يكون
رجع الوفد سالمين جم يعاً ... وخليلي في مرمسٍ مدفون
ميت صدقٍ على هبالة قد حا ... لت فيافٍ من دونه وحزون
مروةٌ تدفع الخصوم بأيدٍ ... وبوجهٍ يزينه العرنين
بورك الميّت الغريب كما بور ... ك نضح الرمَّان والزيتون
الرمان والزيتون
قال القاضي: والمشهور من الرواية في هذا البيت " كما بورك نضر الرمان والزيتون " ، وذكر الرّمان والزيتون لتقدّمهما في أنواعهما وعظم منافعهما وسعة الانتفاع بأصولهما وفروعهما. وورق هاتين الشجرتين من أقوى الأشياء اشتباهاً وكلُّ واحدٍ منهما كأنه صاحبه، وبين ثمرتيهما من الاختلاف والتفاوت ما لا يخيل، وذلك من بديع حكمة الله تعالى وإتقان صنعته ولطيف قدرته. وقد قال الله حجلّ ثناؤه: " وهو الّذي أنزل من السَّماء ماءً فأخرجنا به نبات كلِّ شيءٍ فأخرجنا منه خضراً نخرج منه حبّاً متراكباً ومن النَّخل من طلعها قنوانٌ دانيةٌ وجنَّاتٍ من أعنابٍ والزَّيتون والرَّمان متشابهاً وغير متشابهٍ " " النعام:99 " . فهو مشتبه في ورقه غير متشابه في أنواعه وطعومه وصورة ثمرته، فسبحان الحكيم في تدبيره، المحسن في تقديره، المنعم على خلقه، والنّاظر لهم بسبوغ رزقه.
تمام الخبر السابق
رجعنا إلى الخبر: قال هشام بن محمد الكلبي، قال الشرقي بن القطامي: البيتان الأوّلان لهشام بن المغيرة المخزومي، وكانت عنده أسماء بنت مخربة النهشليّة، فولدت له أبا جهل والحارث، فغضب عليها في أمرٍ من الأمور فجعلها كظهر أمّه، وهو أول ظهارٍ كان في العرب، فجعلته قريش طلاقاً.
فأرادت أسماء الرحلة إلى أهلها، فقال لها هشام: أين الموعد؟ فقالت: الموسم، فقال لها ابناها أبو جهل والحارث أقيمي معنا، فأقامت. فقال لها المغيرة: لأزوجنّك غلاماً ليس بدون ابني هشام، فزوَّجها ابنه أب ربيعة، فولدت له عبد الله وعياشاً، فذلك قول هشام بن المغيرة:
ألا زعمت أسماء أن سوف نلتقي ... أحاديث طسمٍ إنّما أنت حالم
وقال: ألا أصبحت أسماء حجراً محرّماً " البيتين الأولين " .
وفود أم سنان المذحجية على معاوية
حدثنا الحسين بن أحمد بن محمد سعيد الكلبي قال، حدثنا الغلابي قال، حدثنا العباس بن بكار قال، حدثنا عبد الله بن سليمان المديني عن أبيه عن سعد بن حذافة قال: حبس مروان بن الحكم غلاماً من بني ليث في جناية جناها بالمدينة، فأتته جدة الغلام أمُّ أبيه، وهي أم سنان بنت خيثمة بن خرشة المذحجية، فكلمته في الغلام فأغلظ لها وزبرها. فخرجت إلى معاوية واستأذنت عليه، فأذن لها، فلمّا جلست قال: يا بنت خيثمة، ما أقدمك أرضي وقد عهدتك تشنأين قربي، وتحضين عليّ عدوّي. قالت: يا أمير المؤمنين، إن لبني عبد مناف أخلاقاً طاهرة وأعلاماً ظاهرة، لا يجهلون بعد علم، ولا يسفهون بعد حلم، ولا يتعقبون بعد عفو، وإن أولى الناس باتباع سنن آبائه لأنت. قال: صدقت، نحن كذلك، فكيف قولك:
عزب الرقاد فمقلتي لا ترقد ... واللّيل يصدر بالهموم ويورد
يا آل مذحج لا مقام فشمرا ... إنّ العدوّ لآل أحمد يقصد
هذا عليٌّ كالهلال تحفّه ... وسط السماء من الكواكب أسعد
خير الخلائق وابن عمِّ محمّدٍ ... وكفى بذلك والعدوُّ يهدّد
ما زال مذ عرف الحروب مظفَّراً ... والنّصر فوق لوائه ما يفقد
قالت: قد كان ذلك يا أمير المؤمنين، وإنا لنمطع بك خلفاً. قال رجل من جلسائه: كيف يا أمير المؤمنين وهي القائلة:
إما هلكت أبا الحسين فلم تزل ... بالحقِّ تعرف هادياً مهديّا
فاذهب عليك السلام ربِّك ما دعت ... فوق الغصون حمامةٌ قمريّا
قد كنت بعد محمّد خلفاً لنا ... أوصى إليك بنا فكنت وفيّا
فاليوم لا خلفٌ نؤمّل بعده ... هيهات نمدح بعده إنسيّا
قالت: يا أمير ، لسانٌ نطق، وقولٌ صدق، ولئن تحقّق فيك ما ظننا فحظّك أوفر، والله ما أورثك الشناءة في قلوب المسلمين إلاّ هؤلاء، فادحض مقالتهم، وأبعد منزلهم، فإنّك إن فعلت ازددت بذلك من الله قرباً، ومن المسلمين حبّاً. قال: إنّك لتقولين ذلك؟ قالت: سبحان الله، والله ما مثلك مدح بباطل، ولا اعتذر إليه بكذب، وإنك لتعلم ذلك من رأينا وضمير قلوبنا.
كان والله عليّ أحبَّ إلينا منك إذ كان حياً، وأنت أحبُّ الناس إلينا من غيرك إذ أنت باق. قال: فمن شكواك؟ قالت: مروان بن الحكم وسعيد بن العاص. قال: وبم استحققت ذلك عليهما؟ قالت: بحسن حلمك، وكرم عفوك. قال: وإنّهما ليطمعان في ذلك؟ قالت: هما والله لك من الرأي على مثل ما كنت عليه لعثمان. قال: والله لقد قاربت فما حاجتك؟ قالت: إن مروان بن الحكم تبّنك بالمدينة تبنُّك من لا يريد البراح منها، لا يحكم بعدل، ولا يقضي بسنّة، يتتبع عثرات المسلمين، حبس ابني فأتيته، فقال: كيت وكيت، فألقمته أخشن من الحجر، وألعقته أمرَّ من الصاب. " قال أبو عبد الله: الصاب الحضض " .
قال القاضي: الحظظ بالظاء وهو معروف. قال أبو ذويب الهذلي:
نام الخليّ وبتّ الليل مشتجراً ... كأن عينيك فيها الصاب مذبوح
مذبوح مشقوق، والذبح الشق، قال الشاعر:
كأن بين فكّها والفكِّ ... فأرة مسكٍ ذبحت في سكِّ
رجع الخبر
ثم رجعت إلى نفسي بالملامة، وأتيتك يا أمير المؤمنين لتكون في أمري ناظراً وعليه معدياً. قال: صدقت لا أسألك عن ذنبه، ولا أسألك القيام بحجته؛ اكتبوا لها بإخراجه. قالت: يا أمير المؤمنين، وأنّى لي بالرجعة وقد نفد زادي وكلَّت راحلتي؟ فأمر لها براحلة موطأة وخمسة آلاف درهم.
عروة يشكو خال هشام إلى هشام
حدثنا أبو النضر القيلي قال، حدّثنا محمد بن زكريا الغلابي قال، حدّثنا عبيد الله بن محمد عن أبيه، قال الغلابي: وحدثنا العتبي عن أبيه قالا: دخل عبد الله بن عروة بن الزبير " قال ابن عائشة: وأمّه ابنة المغيرة بن شعبة " على هشام بن عبد الملك، وقد كان إبراهيم بن هشام أضرَّ به وهو على المدينة. فقال له عبد الله: يا أمير المؤمنين، إنّك قد ولّيت خالك ما بين المدينة إلى عدن فلم يمنعه كثير ما في يده من قليل ما في أيدينا إن نازعته نفسه اختلاس ما في اختلاسه هتكنا، فأنشدك الله يا أمير المؤمنين أن تصل رحماً بقطيعة أخرى، فو الله ما سخّى بأنفسنا عن الأموات إلاّ ما كفّ وجوه الأحياء، ولأن نموت مرفوعين أحبُّ إلينا من أن نعيش مخفوضين. فقال هشام لعبد الله: إنّه لا سلطان لخالي عليك بعد يومك هذا. فقال له عبد الله: فإن قال نقول وإن مدَّ يده مدننا بأيدينا؟ قال: نعم. فقال عبد الله لأخيه يحيى قل، فجثا بين يديه ثم قال:
إنا وإخواناً لنا قد تكلموا ... حديثاً على أمر الضلاة والهدى
يقولون كنّا سادةً في نديِّنا ... وما ذاكم مرّ الحديث ولا حلا
قعوداً بأبواب الفجاج وخيلنا ... تساقى كؤوس الموت تدعس بالقنا
فلما أتاهم فيئهم برماحنا ... تكلّم مكفيُّ بعيبٍ لمن كفى
فضحك هشام هشام وقال له: أحسنت، ثم أمر له بعشرة آلاف درهم وقال لكاتبه: اكتب إلى إبراهيم بن هشام يحسن إليه ويرفعه ففعل.
أخبرنا الحسين بن القاسم الكوكبي قال، حدّثنا إسحاق بن محمد بن أقبان النخعي قال: أنشدني لمروان بن أبي حفصة في ابن أبي دواد لمّا نالته العلّة الباردة:
لسان أحمد سيفٌ مسَّه طبعٌ ... من علّةٍ فجلاها عنه جاليها
ما ضرَّ أحمد باقي علّةٍ درست ... والله يذهب عنه رسم باقيها
موسى بن عمران لم ينقص نبوَّته ... ضعف اللّسان به قد كان يمضيها
قد كان موسى على علاَّت منطقه ... رسائل الله تأتيه يؤدّيها
لقمان وزوجته التي تخونه
حدثنا محمد بن القاسم بن محمد بن بشار الأنباري قال، حدّثنا الحسن بن عليل العنزي قال، حدَّثنا علي بن الصبّاح قال، حدثنا ابو البدر هشام بن محمد الكلبي قال: كان لقمان بن عاد بن عاديا، وكان منبني صيدى بن عاد بن عوص بن إرم بن سام بن نوح رجلاً غيوراً وكان لا يتزوّج امرأة إلاّ فجرت، فتزوّج جاريةً صغيرة لا تدري ما الرجال، وبنى لها بيتاً في رأس جبل،وجعل له خطافاً، وكان يصعد إليه وينزل منه بالسلاسل، فإ ذا تنحّى عنه نحَّى السلاسل. فبصر بها غلامٌ من عاد فعشقها فقال لأهله: لئن لم تجمعوا بيني وبين امرأة لقمان بن عاد لأجابنَّ عليكم حرباً ترقّص أشياخكم.
قالوا: كيف الوصول إليها؟ قال: بأن تجعلوني بين سيوفٍ تودعونها لقمان إلى أجل ثم تستردُّونها منه حين يحين ذلك. فجعلوه بين سيوفٍ وجاءوا بها لقمان فأوعوه إيّاها معها، فإذا جاء لقمان توارى. فلمّا انقضى الأجل جاء أهله يطلبون السيوف فأعطاهم إياها وهو فيها. ثم إن لقمان كان ذات يوم جالساً في ذلك الموضع على سريرٍ له مع امرأته، فرفع رأسه فإذا تخامةٌ تنوس في السقف، فقال لها: ما هذه؟ قالت: منّي.
قال أبو بكر: النوس حركة الشيء المتدلي.
قال: فتنخَّمي ففعلت فلم تصنع شيئاً. قال: يا ويلاه، السيوف دهتني.
ثم احتملها فألقاها من ذلك الموضع فقتلها. فنزل غضبان شديد الغضب فلقيته ابنته صحر فقالت: ما لي أراك يا أبة شديد الغضب؟ قال: وأنت أيضاً من النساء، فأخذ حجراً فضرب رأسها فقتلها. فضربت بها العرب المثل فقالوا: ما أذنبت إلا ذنب صحر، ويضربونه لمن يعاقب ويؤاخذ ولا ذنب له. وفي ذلك يقول خفاف بن ندبة للعباس بن مرداس السلمي:
وعبّاس يدبُّ لي المنايا ... وما أذنبت إلاّ ذنب صحر
لقمان ولقيم
حدثنا محمد بن القاسم الأنباري قال، أخبرنا أحمد بن سعيد أن لقمان بن عاد خاطر لقيما ابن أخته في مائةٍ من الإبل على السّبق إلى موضع أيهما سبق إليه أخذها. فسبقه لقيم واستاق الإبل، فقدم بها ونحر وأهدى وطبخ وأطعم. فأتى لقمان ابنته صحر، فقدمت إليه لحماً مطبوخاً. فقال: من أين هذا اللّحم؟ قالت: قدم لقيم بالإبل فنحر وأهدى وأطعم، فهذا اللحم من عنده. فتأسّف وغضب وضرب برأسها وقتلها، فضربت العرب في ذلك المثل، وفيه يقول أبو دهبل الجمحي، قال أحمد بن سعيد: أنشدناه الزبير بن بكار له، قال ابن الأنباري: وأنشدناه أحمد بن يحيى أيضاً عن الزبير بن بكار لأبي دهبل الجمحي:
اذهبي بالله فاستسمعي ... خبّريه بالذي فعلا
واسأليه فيم يصرمنا ... قد وصلناه كما وصلا
وتجنَّى حين لنت له ... ذنب صحرٍ يبتغي العللا
قال القاضي: ولقمان بن عاد ولقيم معروفان مشهوران عند العرب، ولهما أخبار كثيرة، والعرب تكثر في كلامها وأشعارها ذكرهما، وتضرب أمثالاً كثيرة بهما، وقد قال بعض من هجا بني تميم.
إذا ما مات ميتٌ من تميم ... فسرَّك أن يعيش فجئ بزاد
بخبزٍ أو بلحمٍ أو بتمرٍ ... أو الشيء الملفَّف في البجاد
تراه يطوّف الآفاق طرّاً ... ليأكل رأس لقمان بن عاد
ولقيم هو ابن لقمان من أخته، ولقمان أبوه وخاله، وذلك فيما ذكر أهل السّير قالوا: كان لأخت لقمان زوجٌ محمق يولدها الحمقى. يقال في هذا المعنى رجلٌ محمقٌ وامرأة محمقة، كما قال الشاعر:
لست أبالي أن أكون محمقه ... إذا رأيت خصيةً معلَّقه
فقالت لامرأة أخيها لقمان: هبي لي ليلةً من بعل، قالت: وكيف السبيل إلى ذلك وفيه تلفي وتلفك؟!قالت: السبيل إلى ذلك أن تسقيه الخمر، فإذا كان يثمل منها رفعت المصباح من البيت وأخليت لي فراشه، ففعلت ذلك.
وأوى لقمان إلى فراشه فوقع عليها وهو يظنّ أنّها امرأته، لكنه لم يخف عليه حتّى قال في سكره، حين باشرها: هذا هنٌ جديد. فاشتملت على لقيمٍ من أخيها، فأتت به أدهى من لقمان وأفضل، وفي ذلك يقول النمر بن تولب:
لقيم ابن لقيمان من أخته ... فكان ابن أختٍ له وابنما
عشية حمِّق فاستضحكت ... إليه فغرَّ بها مظلما
فأحبلها رجلٌ نابه ... فجاءت به رجلاً محكما
هل كان لقمان مجوسيا
ً
قال القاضي: قد حكي أن فائلاً ذكر أن لقمان بن عاد كان مجوسياً، وإنّما توهّم هذا لاستيلاده أخته، وليس الأمر على ما توهّمه، ولكن السبب فيه ما ذكرنا. وقد ذكر الفراء في قصة أصحاب الكهف في قوله تعالى: " أيّها أزكى طعاماً " " الكهف6:19 " أنّ الذين كانوا بينهم كانوا مجوساً، وذكر أنّ من لم يكن من أهل الكتاب يقال له مجوسي. وهذا خطأ من قائله لأنَّ المجوسيّة ملّةّ مخصوصة متميّزة عن غيرها كاليهودية والنصرانية.
وهذا آخر ما يسَّر اللَّه تعالى إملاءه من كتاب الجليس الصالح الكافي
والأنيس النّاصح الشَّافي، وللَّه سبحانه وتعالى الحمد والمنَّة وحسبنا الله ونعم الوكيل ولا حول ولا قوَّة باللَّه العليّ العظيم.
تمّ
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق