اللهم استجب

سبحانك وبحمدك وأستغفرك أنت الله الشافي الكافي الرحمن الرحيم الغفار الغفور القادر القدير المقتدر الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر الخالق البارئ المصور... الواحد الأحد الواجد الماجد الملك المغيث لا إله إلا أنت وحدك لا شريك لك ..لك الملك ولك الحمد وأنت علي كل شيئ قدير ولا حول ولا قوة إلا بك وأستغفرك اللهم بحق أن لك هذه الأسماء وكل الأسماء الحسني وحق إسمك الأعظم الذي تعلمه ولا أعلمه أسألك أن تَشفني شفاءا لا يُغادر سقما وأن تَكفني كل همي وتفرج كل كربي وتكشف البأساء والضراء عني وأن تتولي أمري وتغفر لي ذنبي وأن تشرح لي صدري وأن تُيسر لي أمري وأن تحلل عُقْدَةً  من لساني يفقهوا قولي وأن تغنني بفضلك عمن سواك اللهم أصلحني: حالي وبالي وأعتقني في الدارين وخُذ بيدي يا ربي وأخرجني من الظلمات الي النور بفضلك  وأن ترحم وتغفر لوالديَّ ومن مات من اخوتي وان تغفر لهم أجمعين وكل من مات علي الايمان والتوبة اللهم آمين  //اللهم تقبل/ واستجب//https://download.tvquran.com/download/selections/315/5cca02c11a61a.mp3

المصحف

 تحميل المصحف

القرآن الكريم وورد word doc icon تحميل المصحف الشريف بصيغة pdf تحميل القرآن الكريم مكتوب بصيغة وورد تحميل سورة العاديات مكتوبة pdf

Translate

بحث هذه المدونة الإلكترونية

الخميس، 26 مايو 2022

مجلد 1. من كتاب : الإمتاع والمؤانسة أبو حيان علي بن محمد ابن العباس التوحيدي

 مجلد 1. من كتاب : الإمتاع والمؤانسة أبو حيان علي بن محمد ابن العباس التوحيدي

بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة المؤلف
قال أبو حيان التوحيدي : نجا من آفات الدنيا من كان من العارفين ووصل إلى خيرات الآخرة من كان من الزاهدين ، وظفر بالفوز والنعيم من قطع طمعه من الخلق أجمعين ، والحمد لله رب العالمين ، وصلى الله على نبيه وعلى آله الطاهرين .
أما بعد ، فإني أقول منبهاً لنفسي ، ولمن كان من أبناء جنسي : من لم يطع ناصحه بقبول ما يسمع منه ، ولم يملك صديقه كله فيما يمثله له ، ولم ينقد لبيانه فيما يريغه إليه ويطلعه عليه ؛ ولم ير أن عقل العالم الرشيد ، فوق عقل المتعلم البليد ؛ وأن رأى المجرب البصير ، مقدمٌ على رأي الغمر الغرير فقد خسر حظه في العاجل ، ولعله أيضاً يخسر حظه في الآجل ؛ فإن مصالح الدنيا معقودةٌ بمراشد الآخرة ، وكليات الحس في هذا العالم ، في مقابلة موجودات العقل في ذلك العالم ؛ وظاهر ما يرى بالعيان مفضٍ إلى باطن ما يصدق عنه الخبر ؛ وبالجملة ، الداران متفقتان في الخير المغتبط به ، والشر المندوم عليه ؛ وإنما يختلفان بالعمل المتقدم في إحداهما ، والجزاء المتأخر في الأخرى ؛ وأنا أعوذ بالله الملك الحق الجبار العزيز الكريم الماجد أن أجهل حظي ، وأعمىعن رشدي ، وألقي بيدي إلى التهلكة ، وأتجانف إلى ما يسوءني أولاً ولا يسرني آخراً ؛ هذا وأنا في ذيل الكهولة وبادئة الشيخوخة ، وفي حال من إن لم تهده التجارب فيما سلف من أيامه ، في حالي سفره ومقامه ؛ وفقره وغنائه ، وشدته ورخائه ، وسارئه وضرائه ، وخيفته ورجائه ؛ فقد انقطع الطمع من فلاحه ووقع اليأس من تداركه واستصلاحه ؛ فإلى الله أفزع من كل ريثٍ وعجل وعليه أتوكل في كل سؤل وأمل ، وإياه أستعين في كل قول وعمل . قد فهمت أيها الشيخ - حفظ الله روحك ، ووكل السلامة بك ، وأفرغ الكرامة عليك ، وعصب كل خير بحالك ، وحشد كل نعمةٍ في رحابك ورحم هذه الجماعة الهائلة - من أبناء الرجاء والأمل - بعنايتك ، ولا قطعك من عادة الإحسان إليهم ، ولا ثنى طرفك عن الرقة لهم ، ولا زهدك في اصطناع حاليهم وعاطلهم ، ولا رغب بك عن قبول حقهم لبعض باطلهم ، ولا ثقل عليك إدناء قريبهم وبعيدهم ، وإنالة مستحقهم وغير مستحقهم أكثر مما في نفوسهم وأقصى ما تقدر عليه من مواساتهم ، من بشرٍ تبديه ،وجاهٍ تبذله ، ووعدٍ تقدمه ، وضمانٍ تؤكده ، وهشاشةٍ تمزجها ببشاشة ، وتبسمٍ تخلطه بفكاهة فإن هذه كلها زكاة المروءة ، ورباط النعمة ، وشهادةٌ بالمحتد الزكي والعرق الطيب والمنشأ المحمود ، والعادة المرضية ؛ وهي مؤذنةٌ بأن المنحة راهنة ، والموهبة قاطنة ، والشكر مكسوب ، والأجر مذخور ، ورضوان الله واقع ؛ وأسأل الله بعد هذا كله ألا يسهم وجهي عندك ، ولا يزل قدمي في خدمتك ولا يزيغني إلى ما يقطع مادة إحسانك وعائدة رأيك ونافع نيتك وجميل معتقدك ، بمنه ولطفه . فهمت جميع ما قلته لي بالأمس فهماً بليغاً ، ووعيته وعياً تاماً ؛ وبان لي الرشد في جملته وتفصيله ، والصلاح في طرفيه ووسطه ، والغنيمة في ظاهره وباطنه ، والشفقة من أوله إلى آخره . وأنا أعيده ههنا بالقلم ، وأرسمه بالخط وأقيده باللفظ ، حتى يكون اعترافي به أرسى واثبت ، وشهادتي على نفسي أقوى وأوكد ، ونكولي عنه أبعد وأصعب ، وحكمك به لي وعلي أمضى وأنفذ . قلت لي - أدام الله تعالى توفيقك في كل قولٍ وفعل ، وفي كل رأيٍ ونظر - : إنك تعلم يا أبا حيان أنك انكفأت من الري إلى بغداد في آخر سنة سبعين بعد فوت مأمولك من ذي الكفايتين - نضر الله وجهه -عابساً على ابن عباد مغيظاً منه ، مقروح الكبد ، لما نالك به من الحرمان المر ، والصد القبيح ، واللقاء الكريه ، والجفاء الفاحش ، والقدع المؤلم والمعاملة السيئة ، والتغافل عن الثواب على الخدمة ، وحبس الأجرة على النسخ والوراقة ، والتهجم المتوالي عند كل لحظةٍ ولفظة . وذكرت في الجملة شقاءً اتصل بك في سفرك ذلك ، وعناءً نال منك في عرض أحوالك ؛ ولعمري إن السفر فعول لهذا كله ولأكثر منه ؛ فأرعيتك بصري ، وأعرتك سمعي ، وساهمتك في جميع ما وقرته في أذني بالجزع والتوجع والاستفظاع والتفجع ؛ وضمنت لك تلافي ذلك كله بحاق الشفقة وخالص الضمير ، ووعدتك صلاح الحال عن ثبات النية ، وصحة العقيدة ، وقلت : أنا أرعى حقك القديم حين التقينا بأرجان ، وأنا على باب ابن شاهويه الفقيه ، وعهدك الحديث حين اجتمعنا بمدينة السلام سنة ثمان وخمسين ؛ وأوصلك إلى الأستاذ أبي عبد الله العارض - أدام الله تأييده -وأخطب لك قبولاً منه ، وتخفيف الإذن عليك ، وامتلاء الطرف بك ، ونيل الحظوة بخدمتك وملازمتك ؛ وفعلت ذلك كله حتى استكتبك كتاب الحيوان لأبي عثمان الجاحظ ، لعنايتك به ، وتوفرك على تصحيحه ، ثم حضنت لك هذه الحال إلى يومنا هذا ؛ وهو الوزير العظيم الذي افتقرت الدولة إلى نظره وأمره ونهيه ، وإلى أن يكون هو المبرم والناقض ، والرافع والواضع ، والكافي والوافي ، والمقرب لخدمها ونصحائها ، والمزحزح لحسدتها وأعدائها ؛ والراعي لرعيتها ودهمائها ، والناهض بأثقالها وأعبائها ، أعانه الله على ما تولاه ، وكفاه المهم في دنياه وأخراه ، بمنه وقدرته . نعم ورتبت ذلك كله ، ولم أقطع عنك عادتي معك في الاسترسال والانبساط ، والبر والمواساة ، والمساعدة والمواتاة ، والتعصب والمحاماة . أفكان من حقي عليك في هذه الأسباب التي ذكرتها ، وفي أخواتها التي تركتها كراهة الإطالة بها أنك تخلو بالوزير - أدام الله أيامه - ليالي متتابعةً ومختلفة ، فتحدثه بما تحب وتريد ، وتلقي إليه ما تشاء وتختار ، وتكتب إليه الرقعة بعد الرقعة ؛ ولعلك في عرض ذلك تعدو طورك بالتشدق وتجوز حدك بالاستحقار ، وتتطاول إلى ما لبس لك ، وتغلط في نفسك ، وتنسى زلة العالم ، وسقطة المتحري ، وخجلة الواثق ؛ هذا وأنت غرٌ لا هيئة لك في لقاء الكبراء ، ومحاورة الوزراء ؛ وهذه حالٌ تحتاج فيها إلى عادة غير عادتك ، وإلى مرانٍ سوى مرانك ، ولبسةٍ لا تشبه لبستك ؛ وقل من قرب من وزيرٍ خدم فأجاد ، وتكلم فأفاد ، وبسط فزاد ؛ وإلا سكر ، وقل من سكر إلا عثر وقل من عثر فانتعش ، وما زهد في هذه الحال كثيرٌ من الحكماء الأولين والعباد الربانيين ؛ إلا لغلظها وصعوبتها ، ومكروه عاقبتها ، وشدة الصبر على فوارضها ورواتبها ،وتفسخ المتن بين حوادثها ونوائبها . والعجب أنك مع هذه الخلة تظن أنها مطويةٌ عني وخافية دوني ، وأنك قد بلغت الغاية وادع القلب ، وملكت المكانة ثاني العنان ؛ وقد انقطعت حاجتك عني وعمن هو دوني ، ووقع الغنى عن جاهي وكلامي ولطفي وتوصيلي ؛ وجهلت أن من قدر على وصولك ، يقدر على فصولك ، وأن من صعد بك حين أراد ، ينزل بك إذا شاء ، وأن من يحسن فلا يشكر ، يجتهد في الاقتصاد حتى يعذر . وبعد ، فما أطيل ، ولعل لهب الموجدة يزداد ، ولسان الغيظ يغلو ، وطباع الإنسان تحتد ، والندم على ما أسلفت من الجميل يتضاعف ؛ ولست أنت أول من بر فعق ، ولا أنا أول من جفى فنق . وهذا فراق بيني وبينك وآخر كلامي معك ، وفاتحة يأسي منك ؛ قد غسلت يدي من عهدك بالأشنان البارقي ، وسلوت عن قربك بقلب معرض وعزمٍ حي ؛ إلا أن تطلعني طلع جميع ما تحاورتما وتجاذبتما هدب الحديث عليه ، وتصرفتما في هزله وجده ، وخيره وشره ، وطيبه وخبيثه ، وباديه ومكتومه ؛ حتى كأني كنت شاهداً معكما ورقيباً عليكما ، أو متوسطاً بينكما ، ومتى لم تفعل هذا ، فانتظر عقبى استيحاشي منك ، وتوقع قلة غفولي عنك ، وكأني بك وقد أصبحت حران حيران يا أبا حيان ، تأكل أصبعك أسفاً ، وتزدرد ريقك هفاً ، على ما فاتك منالحوطة لنفسك ، والنظر في يومك لغدك ، والأخذ بالوثيقة في أمرك ، أتظنن بغرارتك وغمارتك ، وذهابك في فسولتك التي اكتسبتها بمخالطة الصوفية والغرباء والمجتدين الأدنياء الأردياء ؛ أنك تقدر على مثل هذه الحال ، وأنام منك على حسن الظن بك ، والثقة بصدرك ووردك ، وأطمئن إلى حكك وجردك وأتعامى عن حرك وبردك ؛ هيهات ؛ رقدت فحلمت ، فخيراً رأيت وخيراً يكون على هذا الحد كان مقطع كلامك في موجدتك ، وإلى ههنا بلغ فيض عتبك ولائمتك ؛ وفي دون ذلك تنبيه للنائم ، وإيقاظٌ للساهي ، وتقويمٌ لمن يقبل التقويم ؛ وقد قال الأول : ألا إنما يكفي الفتى عند زيغه . . . من الأود البادي ثقاف المقوم فقلت لك : أنا سامع مطيع ، وخادم شكور ، لا أشتري سخطك بكل صفراء وبيضاء في الدينا ؛ ولا أنفر من التزام الذنب والاعتراف بالتقصير ؛ ومثلي يهفو ويجمح ، ومثلك يعفو ويصفح ؛ وأنت مولىً وأنا عبد ، وأنت آمرٌ وأنا مؤتمر ، وأنت ممتثلٌ وأنا ممتثل ، وأنت مصطنع وأنا صنيعةٌ ، وأنت منشىءٌ وأنا منشأ ، وأنت أول وأنا آخر ، وأنت مأمول وأنا آملٌ ، ومتى لم تغفر لي الذنب البكر ، والجناية العذراء ، والبادرة النادرة ؛ فقد أعنتني على ما كان مني ، ودللت على ملكك لي ؛ وأنك كنت مترصداً لهذه الهفوة ومعتقداً في مقابلتها هذه الجفوة ؛ وكرمك يأبى عليك هذا ، ومثولي بين يديك خدمةً لك يحظره عليك .هذا وأنا أفعل ما طالبتني به من سرد جميع ذلك ، إلا أن أغوص فيه على البديهة في هذه الساعة يشق ويصعب بعقب ما جرى من التفاوض ، فإن أذنت جمعته كله في رسالة تشتمل على الدقيق والجليل ، والحلو والمر ، والطري والعاسي ، والمحبوب والمكروه ؛ فكان من جوابك لي : افعل . ونعم ما قلت وهو أحب إلي وأقرب إلى إرادتي ، وأحضر لما أريغ منه ، وأدخل في الحجة عليك ولك ؛ وأغسل للوسخ الذي بيني وبينك ، وأزهر للسراج الذي طفىء عني وعنك ، وأجذب لعنان الحجة إن كانت لك ، وأنطق عن العذر إن اتضح بقولك ؛ وإذا عزمت فتوكل على الله ؛ وليكن الحديث على تباعد أطرافه ، واختلاف فنونه مشروحاً ، والإسناد عالياً متصلاً ، والمتن تاماً بيناً ، واللفظ خفيفاً لطيفاً ، والتصريح غالباً متصدراً ، والتعريض قليلاً يسيراً وتوخ الحق في تضاعيفه وأثنائه ، والصدق في إيضاحه وإثباته ؛ واتق الحذف المخل بالمعنى ، وإلحاق المتصل بالهذر ، واحذر تزيينه بما يشينه ، وتكثيره بما يقلله ، وتقليله عما لا يستغنى عنه ؛ واعمد إلى الحسن فزد في حسنه ، وإلى القبيح فانقص من قبحه ؛ واقصد إمتاعي بجمعة نظمه ونثره ، وإفادتي من أوله إلى آخره ؛ فلعل هذه المثاقفة تبقى وتروى ، ويكون في ذلك حسن الذكرى ؛ ولا تومىء إلى ما يكون الإفصاح عنه أحلى في السمع ، وأعذب في النفس ، وأعلق بالأدب ؛ولا تفصح عما تكون الكناية عنه أستر للعيب ، وأنفى للريب ؛ فإن الكلام صلفٌ تياه لا يستجيب لكل إنسان ، ولا يصحب كل لسان ؛ وخطره كثير ، ومتعاطيه مغرور ، وله أرنٌ كأرن المهر وإباءٌ كإباء الحرون ، وزهوٌ كزهو الملك ، وخفقٌ كخفق البرق ؛ وهو يتسهل مرةً ويتعسر مراراً ، ويذل طوراً ويعز أطواراً ؛ ومادته من العقل والعقل سريع الحؤول خفي الخداع ؛ وطريقه على الوهم ، والوهم شديد السيلان ومجراه على اللسان ، واللسان كثير الطغيان ؛ وهو مركب من اللفظ اللغوي والصوغ الطباعي ، والتأليف الصناعي ، والاستعمال الاصطلاحي ، ومستملاه من الحجا ، ودريه بالتمييز ؛ ونسجه بالرقة ، والحجا في غاية النشاط وبهذا البون يقع التباين ويتسع التأويل ، ويجول الذهن ، وتتمطى الدعوى ، ويفزع إلى البرهان ، ويبرأ من الشبهة ، ويعثر بما أشبه الحجة وليس بحجة ؛ فاحذر هذا النعت وروادفه ، واتق هذا الحكم وقوائفه ؛ ولا تعشق اللفظ دون المعنى ولا تهو المعنى دون اللفظ ؛ وكن من أصحاب البلاغة والإنشاء في جانب ، فإن صناعتهم يفتقر فيها أشياء يؤاخذ بها غيرهم ، ولست منهم ، فلا تتشبه بهم ، ولا تجر على مثالهم ، ولا تنسج على منوالهم ، ولا تدخل في غمارهم ، ولا تكثر ببياضك سوادهم ، ولا تقابل بفكاهتك براعتهم ، ولا تجذب بيدك رشاءهم ، ولا تحاول بباعك مطاولتهمواعرف قدرك تسلم ، والزم حدك تأمن ، فليس الكودن من العتيق في شيء ، ولا الفقير من الغني على شيء ، أما سمعت قول الناس : ليس الشامي للعراقي بصاحب ، ولا الكردي من الدندي بساخر ، فإن طال فلا تبل ، وإن تشعب فلا تكترث ، فإن الإشباع في الرواية أشفى للغليل ، والشرح للحال أبلغ إلى الغاية ، وأظفر بالمراد ، وأجرى على العادة . فكتبت : ' بسم الله الرحمن الرحيم ' ، أقول أيها الشيخ - عطف الله قلبك علي ، وألهمك الإحسان إلي - في جواب جميع ما قلته واجداً علي وعاتباً ، وقابضاً ، وباسطاً ، ومرشداً ، وناصحاً ؛ ما يعرف الحق فيه ، ويستبين الصواب منه ، غير خائنٍ لك ، ولا جانحٍ إلى مخالفتك ، ولا مريغٍ للباطل معك ، ولا جاحدٍ لأياديك القديمة ، والحديثة ، ولا منكرٍ لنعمتك الكافية الشافية ، ولا غاظٍ على فواضلك المجتمعة والمتفرقة ، ولا تاركٍ لشيء هو علي من أجل شيء هو لي ، ولا معرض عن شيء هو لي بسبب شيء هو علي ؛ بل أجهز دقة وجله إليك حتى تراه بسده وغباره ، وأجلوه عليك حتى تلحظه بردائه وإزاره . كأني لم أسمع قول الأول : والكفر مخبثةٌ لنفس المنعم . . . والشكر مبعثةٌ لنفس المفضل أأنا أدعك واجداً علي ، وأرقد وأنت ماقتٌ لي ، وأجد حس نعمة أنت وهبتها إلي ، وألذ عيشاً أنت أذقتني حلاوته . أأنسى أياديك وهي طوق رقبتي ، وتجاه عيني ، وحشو نفسي ، وراحة حلمي ، وزاد حياتي ، ومادة روحي هيهات ، هذا بعيد من القياس ، وغير معهود بين أحرار الناس ؛ الذين لهم اهتمام بصون أعراضهم ، وحرصٌ على إكرام أنفسهم ؛قد عبقوا بفوائح الفتوة ، وعلقوا بحبائل المروءة ، وشدوا من الحكمة أشرف الأبواب ؛ واعتزوا من الأدب إلى أعز حرم ؛ وحازوا شرفاً بعد شرف ، وانحازوا عن نطف بعد نطف ونظروا إلى الدنيا بعين بصيرة ، وعزفوا أنفسهم عن زهراتها بتجربة صادقة . فأول ما أبدؤك به أنني طننت ظناً لا كيقين أن شيئاً مما كنت فيه مع الوزير - أدام الله أيامه ، وقصم أعداءه - ليس مما يهمك ، ولا هو مما يقرع سمعك سماعك له ؛ وحسبت أيضاً أنني إن بدأت بشيء منه رذلتني عليه وتنقصتني به ، وزريت علي فيه ؛ وأنك ربما قلت : لم بدأت بما أسئلك عنه ولم أرخص لك فيه ، هلا كظمت على جرتك ، وطويت ما بين جنبيك وما علي مما يدور بين الصاحب وخادمه والرؤوساء ، والناظرين في أمور الدهماء والمتصفحين لأحوال العامة والخاصة ، ولهم أسرار وعيوبٌ لا يقف عليها أقرب الناس إليهم ، وأعز الناس عليهم ، وأنت أيضاً فلم تسألني عنه ، فكان في تقديري أنك قد عرفت وصولي في وقت دون وقت ، وأنك قد حملت أمري على الخدمة التي ليس للعلم بها فائدة ، ولا في الإعراض عنها فائتة . وإذ جرى الأمر على غير ما كان في حسابي وتلبس بظني ، فإني أهدي ذلك كله بغثاثته وسمانته ، وحلاوته ومرارته ، ورقته وخثارته في هذا المكان ؛ ثم أنت أبصربعد ذلك في كتمانه وإفشائه ، وحفظه وإضاعته وستره وإشاعته ؛ ووالله ما أرى هذا أمراً صعباً إذا وصل إلى مرادك ولا كلفةً شاقةً إذا أكسبني مرضاتك ؛ وإن كان ذلك يمر بأشياء كثيرةٍ ومختلفةٍ ، متعصية غريبةٍ ، منها ما يشيط به الدم المحقون ، وينزع من أجله الروح العزيز ، ويستصغر معه الصلب ، ولا يقنع فيه بالعذاب الأدنى دون العذاب الأكبر ؛ وإن كان فيها أيضاً غير ذلك مما يضحك السن ، ويفكه النفس ، ويدعو إلى الرشاد ، ويدل على النصح ، ويؤكد الحرمة ، ويعقد الذمام ، وينشر الحكمة ، ويشرف الهمة ، ويلقح العقل ، ويزيد في الفهم والأدب ويفتح باب اليمن والبركة ، وينفق بضاعة أهل العلم في السوق الكاسدة ، ويوقظ العيون الناعسة ، ويبل الشن المتغضف ، ويندى الطين المترشف ؛ ويكون سبباً قوياً على حسن الحال وطلب العيش ، فإن هذا العاجلة محبوبة ، والرفاهية مطلوبة ، والمكانة عند الوزراء بكل حولٍ وقوةٍ مخطوبة ، والدناي حلوةٌ خضرة وعذبةٌ نضرة ، ومن شف أمله شق عمله ؛ ومن اشتد إلحاحه ، توالى غدوه ورواحه ، ومن أسره رجاؤه ، طال عناؤه ، وعظم بلاؤه ؛ ومن التهب طمعه وحرصه ، ظهر عجزه ونقصه . وفي الجملة : من لم يكن لله متهماً . . . لم يمس محتاجاً إلى أحد ولابد من فتى يعين على الدهر ، ويغني عن كرام الناس فضلاً عن لئامهم ، ويذلل قعود الصبر ، ويجم راحلة الأمل ، ويحلي مر اليأس ؛ والعزلة محمودةٌ إلا أنها محتاجة إلى الكفاية ، والقناعة مزة فكهةٌ ولكنها فقيرةٌ إلى البلغة وصيانة النفس حسنة إلا أنها كلفةمحرجة إن لم تكن لها أداةٌ تجدها وفاشيةٌ تمدها ، وترك خدمة السلطان غير الممكن ولا يستطاع إلا بدينٍ متين ، ورغبةٍ في الآخرة شديدة ، وفطامٍ عن دار الدنيا صعب ، ولسانٍ بالحلو والحامض يلغ . قال ابن السماك : لولا ثلاثٌ لم يقع حيف ، ولم يسل سيف ، لقمةٌ أسوغ من لقمة ، ووجه أصبح من وجه ، وسلك أنعم من سلك ، وليس كل أحد له هذه القوة ، ولا فيه هذه المنة والإنسان بشر ، وبنيته متهافتة وطينته منتثرة ، وله عادةٌ طالبة ، وحاجةٌ هاتكة ، ونفسٌ جموح ، وعينٌ طموح ؛ وعقلٌ طفيف ، ورأي ضعيف ، يهفو لأول ريح ، ويستخيل لأول بارق ؛ هذا إذا تخلص من قرناء السوء ، وسلم من سوارق العقل ، وكان له سلطان على نفسه ، وقهرٌ لشهواته ، وقمعٌ لهوائجه وقبولٌ من ناصحه ، وتهيؤٌ في سعيه ، وتبوءٌ في معان حظه ، وائتمامٌ بسعادته ، واستبصارٌ في طلب ما عند ربه ، واستنصافٌ من هواه المضل لعقله المرشد ، هذا قليلٌ وصعب ولو قلت : معدومٌ أو محال في هذا الزمن العسير والدهر الفاسد ، لما خفت عائقاً يعوقني ، ولا حسوداً يرد قولي . قال ابن السماك : الله المستعان على ألسنٍ تصف وقلوبٍ تعترف ، وأعمالٍ تختلف .وقال معاوية لأبي بكر بن عبد الرحمن ابن الحارث - ورآه لا يلي له عملاً ، ولم يقبل منه نائلاً - : يا ابن أخي ، هي الدنيا ، فإما أن ترضع معنا ؛ وإما أن ترتدع عنا . وربما قال بعض المتكلفين قد قال بعض السلف : ليس خيركم من ترك الدنيا للآخرة ، ولا من ترك الآخرة للدنيا ، ولكن خيركم من أخذ من هذه وهذه . وهذا كلام مقبول الظاهر موقوف الباطن . وربما قال آخر من المتقدمين : ' اعمل لآخرتك كأنك تموت غداً ، واعمل لدنياك كأنك تعيش أبداً ' . وهذا أيضاً كلامٌ منمق ، لا يرجع إلى معنىً محقق ؛ أين هو من قول المسيح - عليه السلام - حين قال : الدنيا والآخرة كالمشرق والمغرب متى بعد أحدكم من أحدهما قرب من الآخر ؛ ومتى قرب من أحدهما بعد من الآخر . وأين هو من قول الآخر : الدنيا والآخرة ضرتان ، متى أرضيت إحداهما أسخطت الأخرى ، ومتى أسخطت إحداهما أرضيت الأخرى . وهذا لأن الإنسان صغير الحجم ، ضعيف الحول ، لا يستطيع أن يجمع بين شهواته وأخذ حظوظ بدنه وإدراك إرادته ، وبين السعي في طلب المنزلة عند ربه بأداء فرائضه ، والقيام بوظائفه ، والثبات على حدود أمره ونهيه ، فإن صفق وجهه وقال : نعمل تارة لهذه الدار وتارة لتلك الدار : فهذا المذبذب الذي لا هو من هذه ولا من هذه ؛ ومن تخنث وتليث لم يكن رجلاً ولا امرأة ، ولا يكون أباً ولا أماً ؛ وهذا كما نرى . ونرجح فنقول : ونعوذ بالله من الفقر خاصة إذا لم يكن لصاحبه عياذٌ من التقوى ، ولا عمادٌ من الصبر ، ولا دعامةٌ من الأنفة ، ولا اصطبارٌ على المرارة . وقد بلينا بهذا الدهر الخالي من الديانين الذين يصلحون أنفسهم ويصلحون غيرهم بفضل صلاحهم ، الخاوي من الكرام الذين كانوا يتسعون في أحوالهم ، ويوسعونعلى غيرهم من سعتهم ، وكانوا يهتمون بذخائر الشكر المعجل في الدنيا ، يحرصون على ودائع الأجر المؤجل في الأخرى ؛ ويتلذذون بالثناء ، ويهتزون للدعاء ؛ وتملكهم الأريحية عند مسئلة المحتاج ، وتعتريهم الهزة معها والابتهاج ؛ وذلك لعشقهم الثناء الباقي ؛ والصنيع الواقي ؛ ويرون الغنيمة في الغرامة ، والربح في البذل ، والحظ في الإيثار ، والزيادة في النقص ؛ أعني بالزيادة . الخلف المنتظر من الله ؛ وبالنقص : العطاء ؛ ورأيت الناس يعيبون ابن العميد حين قال : أنا أعجب من جهل الشاعر الذي قال : أنت للمال إذا أمسكته . . . فإذا أنفقته فالمال لك قال : ولو كان هذا صحيحاً كان لا ينبغي أن يكتسب المال ، لأنه ليس في ترك كسبه أكثر من إخراجه بالإنفاق . هذا لقولهم بحكمته وعقله وتحصيله وصواب الجاهل لا يستحسن كما يستقبح خطأ العاقل ؛ نعم ، وكانوا إذا ولوا عدلوا ، وإذا ملكوا أفضلوا ، وإذا أعطوا أجزلوا ، وإذا سئلوا أجابوا وإذا جادوا أطابوا ، وإذا عالوا صبروا ، وإذا نالوا شكروا ؛ وإذا أنفقوا واسوا ، وإذا امتحنوا تأسوا ؛ وكانوا يرجعون إلى نقائب ميمونة ، وإلى ضرائب مأمونة ؛ وإلى ديانات قوية ، وأماناتٍ ثخينة ؛ وكان لهم مع الله أسرار طاهرة ، وعلانيةٌ مقبولة ؛ ومع عباد الله معاملةٌ جميلة ، ورحمةٌ واسعة ومعدلةٌ فاشية ؛ وكانت تجارتهم في العلم والحكمة ، وعادتهم جارية على الضيافة والتكرمة ؛وكانت شيمتهم الصفح والمغفرة وربحهم من هذه الأحوال النجاة والكرامة في الأولى والعاقبة ؛ وكانوا إذا تلاقوا تواصوا بالخير ، وتناهوا عن الشر ؛ وتنافسوا في اتخاذ الصنائع ، وادخار البضائع أعني صنائع الشكر ، وبضائع الأجر فذهب هذا كله ، وتاه أهله ؛ وأصبح الدين وقد أخلق لبوسه ، وأوحش مأنوسه ، واقتلع مغروسه ؛ وصار المنكر معروفاً ، والمعروف منكراً ، وعاد كل شيء إلى كدره وخاثره ، وفاسده وضائره ؛ وحصل الأمر على أن يقال : فلانٌ خفيف الروح ، وفلان حسن الوجه ، وفلان ظريف الجملة ، حلو الشمائل ، ظاهر الكيس ، قوي الدست في الشطرنج ، حسن اللعب في النرد ، جيدٌ في الاستخراج ، مدبر للأموال ، بذولٌ للجهد ، معروفٌ بالاستقصاء لا يغضى عن دانق ، ولا يتغافل عن قيراط ؛ إلى غير ذلك مما يأنف العالم من تكثيره ، والكاتب من تسطيره . وهذه كلها كنايات عن الظلم والتجديف ، والخساسة والجهل وقلة الدين وحب الفساد ، وليس فيها شيءٌ مما قدمنا وصفه عن القوم الذين اجتهدوا أن يكونوا خلفاء الله على عباد الله بالرأفة والرحمة والاصطناع والعدل والمعروف .وأرجع عن هذه الشكلية الطويلة اللاذعة والبلية العامة الشاملة ؛ إلى عين ما رسمت لي ذكره ، وكلفتني إعادته ؛ عائذاً بالله في صرف الأذى عني وسوق الخير إلي ؛ ولائذاً بكرمك الذي رشتن به إلى الساعة ، وكفيتني به مؤونة الخدمة لغيرك من هذه الجماعة ؛ والأعمال بخواتيمها ، والصدور بأعجازها ؛ وأنت أولى الناس بالصفح والتجاوز عني إذا عرفت براءتي في كل ما يتعلق بي من ذمامك ؛ ويجب علي من الحق في مودتك ، والاعتصام بحبلك والانتجاع من عشبك ، والارتغاء من لبنك .الليلة الأولى
وصلت أيها الشيخ - أطال الله حياتك - أول ليلة إلى مجلس الوزير - أعز الله نصره ، وشد بالعصمة والتوفيق أزره - فأمرني بالجلوس ، وبسط لي وجهه الذي ما اعتراه منذ خلق العبوس ؛ ولطف كلامه الذي ما تبدل منذ كان لا في الهزل ولا في الجد ، ولا في الغضب ولا في الرضا . ثم قال بلسانه الذليق ، ولفظه الأنيق : قد سألت عنك مراتٍ شيخنا أبا الوفاء ، فذكر أنك مراعٍ لأمر البيمارستان من جهته ، وأنا أربأ بك عن ذلك ، ولعلي أعرضك لشيء أنبه من هذا وأجدى ، ولذلك فقد تاقت نفسي إلى حضورك للمحادثة والتأنيس ، ولأتعرف منك أشياء كثيرةً مختلفة تردد في نفسي على مر الزمان ، لا أحصيها لك في هذا الوقت ، لكني أنثرها في المجلس بعد المجلس على قدر ما يسنح ويعرض ، فأجبني عن ذلك كله باسترسال وسكون بال ؛ بملء فيك ، وجم خاطرك ، وحاضر علمك ؛ ودع عنك تفنن البغداديين مع عفو لفظك ، وزائد رأيك ، وربح ذهنك ؛ ولا تجبن جبن الضعفاء ، ولا تتأطر تأطر الأغبياء ؛ واجزم إذا قلت ، وبالغ إذا وصفت ؛ واصدق إذا أسندت ، وافصل إذا حكمت ، إلا إذا عرض لك ما يوجب توقفاً أو تهادياً ؛ وما أحسن ماقال الأول : لا تقدح الظنة في حكمه . . . شيمته عدلٌ وإنصاف يمضي إذا لم تلقه شبهةٌ . . . وفي اعتراض الشك وقاف وقد قال الأول : أبالي البلاء وإني امرؤٌ . . . إذا ما تبينت لم أرتب وكن على بصيرة أني سأستدل مما أسمعه منك في جوابك عما أسألك عنه على صدقك وخلافه ، وعلى تحريفك وقرافه . فقلت قبل : كل شيء أريد أن أجاب إليه يكون ناصري على ما يراد مني فإني إن منعته نكلت ، وإن نكلت قل إفصاحي عما أطالب به وخفت الكساد ، وقد طمعت بالنفاق وانقلبت بالخيبة ، وقد عقدت خنصري على المسألة . فقال - حرس الله روحه - : قل - عافاك الله - ما بدا لك ، فأنت مجاب إليه ما دمت ضامناً لبلوغ إرادتنا منك ، وإصابة غرضنا بك . قلت : يؤذن لي في كاف المخاطبة ، وتاءالمواجهة ، حتى أتخلص من مزاحمة الكناية ومضايقة التعريض ، وأركب جدد القول من غير تقية ولا تحاش ولا محاوبة ولا انحياش . قال : لك ذلك ، وأنت المأذون فيه ، وكذلك غيرك ، وما في كاف المخاطبة وتاء المواجهة ؟ إن الله تعالى - على علو شأنه ، وبسطه ملكه ، وقدرته على جميع خلقه - يواجه بالتاء والكاف ، ولو كان في الكناية بالهاء رفعةٌ وجلالةٌ وقدر ورتبة وتقديس وتمجيد لكان الله أحق بذلك ومقدماً فيه ، وكذلك رسوله ( صلى الله عليه وسلم ) والأنبياء قبله - عليهم السلام - وأصحابه - رضي الله عنهم - والتابعون لهم بإحسان - رحمة الله عليهم - وهكذا الخلفاء ، فقد كان يقال للخليفة : يا أمير المؤمنين أعزك الله ، ويا عمر أصلحك الله ؛ وما عاب هذا أحد ، وما أنف منه حسيب ولا نسيب ، ولا أباه كبيرٌ ولا شريف ؛ وإني لأعجب من قومٍ يرغبون عن هذا وشبهه ، ويحسبون أن في ذالك ضعةً أو نقيصةً أو حطاً أو زرايةً ، وأظن أن ذلك لعجزهم وفسولتهم ، وانخزالهم وقلتهم وضؤولتهم ، وما يجدونه من الغضاضة في أنفسهم ، وأن هذا التكلف والتجبر يمحوان عنهم ذلك النقص ، وذلك النقص ينتفي بهذا الضلف ؛ هيهات ، لا تكون الرياسة حتى تصفو من شوائب الخيلاء ومن مقابح الزهو والكبرياء . فقلت : أيها الوزير ، قد خالطت العلماء ، وخدمت الكبراء وتصفحت أحوال الناس في أقوالهم وأعمالهم وأخلاقهم ، فما سمعت هذا المعنى من أحدل على هذه السياقة الحسنة والحجة الشافية والبلاغ المبين ؛ وقد قال بعض السلف الصالح : ' ما تعاظم أحد على من دونه إلا بقدر ما تصاغر لمن فوقه ' . والتصاغر دواء النفس ، وسجية أهل البصيرة في الدنيا والدين ؛ ولذلك قال ابن السماك للرشيد - وقد عجب من رقته وحسن إصاخته لموعظته وبليغ قبوله لقوله وسرعة دمعته على وجنته - : ' يا أمير المؤمنين ، لتواضعك في شرفك أشرف من شرفك ، وإني أظن أن دمعتك هذه قد أطفأت أوديةً من النار وجعلتها برداً وسلاماً ' .قال : هذا باب مفترقٌ فيه ، ورجعنا إلى الحديث فإنه شهي ، سيما إذا كان من خطرات العقل قد خدم بالصواب في نغمةٍ ناغمة ، وحروف متقاومة ؛ ولفظٍ عذب ، ومأخذٍ سهل ؛ ومعرفة بالوصل والقطع ، ووفاء بالنثر والسجع ؛ وتباعدٍ من التكلف الجافي ، وتقاربٍ في التلطف الخافي ، قاتلالله ذا الرمة حيث يقول : لها بشرٌ مثل الحرير ومنطقٌ . . . رخيم الحواشي لا هراءٌ ولا نزر وكنت أنشد أيام الصبا هذا بالذال ، وكان ذلك من سوء تلقين المعلم ؛ وبالعراق رد علي وقيل : هو بالزاي ؛ وقد أجاد القطامي أيضاً وتغزل في قوله : فهن ينبذن من قول يصبن به . . . مواقع الماء من ذي الغلة الصادي قلت : ولهذا قال خالد بن صفوان حين قيل له : أتمل الحديث ؟ قال : إنما يمل العتيق ، والحديث معشوق الحس بمعونة العقل ، ولهذا يولع به الصبيان والنساء ، فقال : وأي معونة لهؤلاء من العقل ولا عقل لهم ؟ قلت : ههنا عقلٌ بالقوة وعقلٌ بالفعل ، ولهم أحدهما وهو العقل بالقوة ، وههنا عقلٌ متوسط بين القوة والفعل مزمع ، فإذا برز فهو بالفعل ، ثم إذا استمر العقل بلغ الأفق ؛ ولفرط الحاجة إلى الحديث ما وضع فيه الباطل ، وخلط بالمحال ووصل بما يعجب ويضحك ولا يؤول إلى تحصيلوتحقيق ، مثل هزار أفسان وكل ما دخل في جنسه من ضروب الخرافات ؛ والحسن شديد اللهج بالحادث والمحدث والحديث ، لأنه قريب العهد بالكون ، وله نصيب من الطرافة . ولهذا قال بعض السلف : ' حادثوا هذه النفوس فإنها سريعة الدثور ' ، كأنه أراد اصقلوها واجلو الصدأ عنها ، وأعيدوها قابلةً لودائع الخير ، فإنها إذا دثرت - أي صدئت ، أي تغطت ؛ ومنه الدثار فوق الشعار - لم ينتفع بها ؛ والتعجب كله منوطٌ بالحادث ؛ وأما التعظيم والإجلال فهما لكل ما قدم : إما بالزمان ، وإما بالدهر ؛ ومثال ما يقدم بالزمان الذهب والياقوت وما شابههما من الجواهر التي بعد العهد بمبادئها ، وسيمتد العهد جداً إلى نهاياتها ؛ وأما ما قدم بالدهر ، فكالعقل والنفس والطبيعة ؛ فأما الفلك وأجرامه المزدهرة في المعانقة العجيبة ، ومناطقه الخفية ، فقد أخذت من الدهر صورةً إلهية ، وأحدثت فيما سلف منها صورةً زمانية . فقال : بقي أن يتصل به نعت العتيق والخلق ، فكان من الجواب أن العتيق يقال على وجهين : فأحدهما يشار به إلى الكرم والحسن والعظمة ، وهذا موجودٌ في قول العرب : البيت العتيق ؛ والآخر يشار به إلى قدم من الزمان مجهول . فأما قولهم : عبد عتيق ، فهو داخل في المعنى الأول ، لأنه أكرم بالعتق ، وارتفع عن العبودية ، فهو كريم . وكذلك وجه عتيق لأنه أعتقته الطبيعة من الدمامة والقبح . وكذلك فرس عتيق . وأما قولهم : هذا شيء خلق ، فهو مضمن معنيين : أحدهما يشار به إلى أن مادته بالية ؛ والآخر أن نهاية زمانه قريبة .وكان ابن عباد قال لكاتبه مرة - أعني ابن حسولة - في شيء جرى . . . نعم ، العالم عتيق ولكن ليس بقديم أي لو كان قديماً لكان لا أول له ، ولما كان عتيقاً كان له أعول ، ومن أجل هذا الإعتقاد وصفوا الله تعالى بأنه قديم ، واستحسنوا هذا الإطلاق . وقد سألت العلماء البصراء عن هذا الإطلاق ، فقالوا : ما وجدنا هذا في كتاب الله - عز وجل - ولا كلام نبيه - ( صلى الله عليه وسلم ) - ولا في حديث الصحابة والتابعين . وسألت أبا سعيد السيرافي الإمام : هل تعرف العرب أن معنى القديم ما لا أول له ؟ فقال : هذا ما صح عندنا عنهم ولا سبق إلى وهمنا هذا منهم ، إلا أنهم يقولون : هذا شيء قديم وبنيان قديم ويسرحون وهمهم في زمانٍ مجهول المبدأ . فقل : قد مر في كلامك شيء يجب البحث عنه ، ما الفرق بين الحادث والمحدث والحديث ؛ فكان من الجواب أن الحادث ما يلحظ نفسه والمحدث ما يلحظ مع تعلقٍ بالذي كان عنه محدثاً . والحديث كالمتوسط بينهما مع تعلقٍ بالزمان ومن كان منه . وههنا شيء آخر ، وهو الحدثان والحدثان ؛ فأما الأول فكأنه لما هو مضارعٌ للحادث ، وأما الحدثان فكأنه اسم للزمان فقط ، لأنه يقال : كان كذا وكذا في حدثان ما ولي الأمير ، أي في أول زمانه ، وعلى هذا يدور أمر الحدث والأحداث والحادثات والحوادث . وفلان حدث ملوكٍ كله من ديوان واحد وواد واحد وسبك واحد . قال : ما الفرق بين حدث وحدث ؟ قلت : لا فرق بينهما إلا من جهة أن حدث تابع لقدم ، لأنه يقال : أخذه ما قدم وما حدث ؛ فإذا قيل لإنسان : حدث يا هذا . فكأنه قيل له : صل شيئاً بالزمانيكون به في الحال ، لا تقدم له من قبل . ثم رجعت فقلت . ولفوائد الحديث ما صنف أبو زيد رسالة لطيفة الحجم في المنظر ، شريفة الفوائد في المخبر ، تجمع أصناف ما يقتبس من العلم والحكمة والتجربة في الأخبار والأحاديث ، وقد أحصاها واستقصاها وأفاد بها ، وهي حاضرة . فقال احملها واكتبها ، ولا تمل إلى البخل بها على عادة أصحابنا الغثاث . قلت : السمع والطاعة . ثم رويت أن عبد الملك بن مروان قال لبعض جلسائه : قد قضيت الوطر من كل شيء إلا من محادثة الإخوان في الليالي الزهر ، على التلال العفر . وأحسن من هذا ما قال عمر بن عبد العزيز قال : والله إني لأستري المحادثة من عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود بألف دينار من بيت مال المسلمين . فقيل : يا أمير المؤمنين ، أتقول هذا مع تحريك وشدة تحفظك وتنزهك ؟ فقال : أين يذهب بكم ؟ والله إني لأعود برأيه ونصحه وهدايته على بيت مال المسلمين بألوف وألوف دنانير ، إن في المحادثة تلقيحاً للعقول ، وترويحاً للقلب ، وتسريحاً للهم ، وتنقيحاً للأدب . قال : صدق هذا الإمام في هذا الوصف ، إن فيه هذا كله .قلت : وسمعت أبا سعيد السيرافي يقول : سمعت ابن السراج يقول : دخلنا على ابن الرومي في مرضه الذي قضى فيه ، فأنشدنا قوله : ولقد سئمت مآربي . . . فكأن أطيبها خبيث إلا الحديث فإنه . . . مثل اسمه أبداً حديث وقال سليمان بن عبد الملك : قد ركبنا الفاره ، وتبطنا الحسناء ، ولبسنا اللين ، وأكلنا الطيب حتى أجمناه ، وما أنا اليوم إلى شيء أحوج مني إلى جليس يضع عني مؤونة التحفظ ويحدثني بما لا يمجه السمع ، ويطرب إليه القلب . وهذا أيضاً حقٌ وصواب ، لأن النفس تمل ، كما أن البدن يكل ؛ وكما أن البدن إذا كل طلب الراحة ، كذلك النفس إذا ملت طلبت الروح وكما لابد للبدن أن يستمد ويستفيد بالجمام الذاهب بالحركة الجالبة للنصب والضجر ، كذلك لابد للنفس من أن تطلب الروح عند تكاثف الملل الداعي إلى الحرج فإن البدن كثيف النفس ، ولهذا يرى بالعين ،كما أن النفس لطيفة البدن ، ولهذا لا توجد إلا بالعقل ؛ والنفس صفاء البدن ، والبدن كدر النفس . فقال : أحسنت في هذه الروايات على هذه التوشيحات وأعجبني ترحمك على شيخك أبي سعيد ، فما كل أحد يسمح بهذا في مثل هذا المقام ، وما كل أحد يأبه لهذا الفعل ؛ هات ملحه الوداع حتى نفترق عنها ، ثم نأخذ ليلة أخرى في شجون الحديث . قلت : حدثنا ابن سيف الكاتب الراوية ، قال : رأيت جحظة قد دعا بناءً ليبني له حائطاً فحضر ، فلما أمسى اقتضى البناء الأجرة ، فتماكسا وذلك أن الرجل طلب عشرين درهماً ؛ فقال جحظة : إنما عملت يا هذا نصف يوم وتطلب عشرين درهماً ؟ قال : أنت لا تدري ، إني قد بنيت لك حائطاً يبقى مائة سنة ؛ فبينما هما كذلك وجب الحائط وسقط ؛ فقال جحظة : هذا عملك الحسن ؟ قال : فأردت أن يبقى ألف سنة ؟ قال : لا ، ولكن كان يبقى إلى أن تستوفي أجرتك . فضحك - أضحك الله سنه - .
الليلة الثانية
ثم حضرت ليلة أخرى ، فقال : أول ما أسألك عنه حديث أبي سليمان المنطقي كيف كان كلامه فينا ، وكيف كان رضاه عنا ورجاؤه بنا ، فقد بلغني أنك جاره ومعاشره ،ولصيقه وملازمه وقافي خطوه وأثره ، وحافظ غاية خبره . فقلت : والله أيها الوزير ، ما أعرف اليوم ببغداد - وهي الرقعة الفسيحة الجامعة ، والعرصة العريضة الغاصة - إنساناً أشكر لك ، وأحسن ثناءً عليك ، وأذهب في طريق العبودية معك ، منه ؛ ولقد سكر الآذان وملأ البقاع بالدعاء الصالح ، رفعه الله إليه ، والثناء الطيب أشاعه الله ؛ وقد عمل رسالةً في وصفك ذكر فيها ما آتاك الله وفضلك به من شرف أعراقك ، وكرم أخلاقك وعلو همتك ، وصدق حدسك وصواب رأيك ، وبركة نظرك ، وظهور غنائك ، وخصب فنائك ، ومحبة أوليائك ، وكمد أعدائك ، وصباحة وجهك ، وفصاحة لسانك ، ونبل حسبك ، وطهارة غيبك ، ويمن نقيبتك ، ومحمود شيمتك ، ودقيق ما أودع الله فيك ، وجليل ما نشر الله عنك ، وغريب ما يرى منك ، وبديع ما ينتظر لك من المراتب العلية ، والخيرات الواسعة والدولة الوادعة ، وهي تصل إلى مجلسكم في غد أو بعده - إن شاء الله - وكان هذا منه قياماً بالواجب ، فإنك نعشت روحه وكان خفت ، وبصرته وكان عشي ؛ وأنبت جناحه وكان قد حص ، بالرسم الذي وصل إليه لأنه كن قنط منه وهو قنوطٌ ، وسمعته مراراً : من يذكرني وقد مضى الملك - رضوان الله عليه - ومن يخلفه في مصلحتي ، ويجري على عادته معي ؟ ومن يسأل عني ، ويهتم بحالي ؟ هيهات ، فقد والله بالأمس من يطول تلفتنا إليه ويدوم تلهفنا عليه إن الزمان بمثله لبخيل كان والله شمس المعالي وغرة الزمن وحامل الأثقال ، وملقتىالقفال ، ومحقق الأقوال والأفعال ، ومجرى لجم الأحوال على غاية الكمال ؛ كان والله فوق المتمنى ، وأعلى من أن يلحق به نظير ، أو يوجد له مماثل ؛ لذته لمحٌ في تهذيب الأمور ، وهواه وقفٌ على صلاح من في إصلاحه صلاح ونفي من في نفيه تطهير ؛ ولولا أن عمر الفتى الأريحي قصير ، لكنا لا نبتلى بفقده ، ولا نتحرق على فوت ما كان لنا بحياته ؛ الدنيا ظلوم ، والإنسان فيها مظلوم . فلما وصل إليه ذلك الرسم - وهو مائة دينار - وحاجته ماسة إلى رغيف ، وحوله وقوته قد عجزا عن أجرة مسكنه ، وعن وجه غدائه وعشائه عاش . ومما زاد في حديث الرسم أنه وصل إليه مع العذر الجميل ، والوعد العريض الطويل ؛ ولو رأيته وهو يترفل ويتحنك لعجبت . فقال : سررتني لسروره بما كان مني ، وإن عشت كففت الزمان عن ضيمه ، وفللت عنه حد نابه ، ولولا الضمانة مانعةٌ عن نفسه ، وتمنع معها بنفسه ؛ لغشي هذا المجلس فيكم فاستأنس وآنس ، ولكنه على حال لا محتمل له عليها ، ولا صبر عليه معها ؛ أتحفظ ما قال البديهي فيه ؟ قلت : نعم ، قال : أنشدنيه ، فرويت :أبو سليمان عالمٌ فطن . . . ما هو في علم بمنتقص لكن تطيرت عند رؤيته . . . من عورٍ موحش ومن برص وبابنة مثل ما بوالده . . . وهذه قصة من القصص فقال : قاتله الله ، فلقد أوجع وبالغ ، ولم يحفظ ذمام العلم ، ولم يقض حق الفتوة . حدثني عن درجته في العلم والحكمة ، وعرفني محله فيهما من محل أصحابنا ابن زرعة وابن الخمار وابن السمح والقومسي ومسكويه ونظيف ويحيى بن عدي وعيسى بن علي . فقلت : وصف هؤلاء أمر متعذر ، وبابٌ من الكلفة شاق ؛ وليس مثلي من جسر عليه ، وبلغ الصواب منه ؛ وإنما يصفهم من نال درجة كل واحد منهم ، وأشرف بعد ذلك عليهم ؛ فعرف حاصلهم وغائبهم ، وموجودهم ومفقودهم . فقال : هذا تحايلٌ لا أرضاه لك ، ولا أسلمه في يدك ، ولا أحتمله منك ؛ ولم أطلب إليك أن تعرفهم بما هو معلوم الله منهم ، وموهبة لهم ، ومسوقه إليهم ،ومخلوعه عليهم ، على الحد الذي لا مزيد فيه ولا نقص ؛ إنما أردت ان تذكر من كل واحد ما لاح منه لعينيك ، وتجلى لبصيرتك ، وصار له به صورةٌ في نفسك ؛ فأكثر وصف الواصفين للأشياء على هذا يجري ، وإلى هذا القدر ينتهي . فقلت : إذا قنع مني بهذا ، فإني أخدم بما عندي ، وأبلغ فيه أقصى جهدي . أما شيخنا أبو سليمان فإنه أدقهم نظراً ، وأقعرهم غوصاً ، وأصفاهم فكراً ، وأظفرهم بالدرر ، وأوقفهم على الغرر ؛ مع تقطع في العبارة ، ولكنةٍ ناشئة من العجمة وقلة نظرٍ في الكتب ، وفرط استبداد بالخاطر ، وحسن استنباط للعويص ، وجرأة على تفسير الرمز ، وبخلٍ بما عنده من هذا الكنز . وأما ابن زرعة فهو حسن الترجمة ، صحيح النقل ، كثير الرجوع إلى الكتب ، محمود النقل إلى العربية ، جيد الوفاء بكل ما جل من الفلسفة ؛ ليس له في دقيقها منفذ ، ولا له من لغزها مأخذ ، ولولا توزع فكره في التجارة ، ومحبته في الربح ، وحرصه على الجمع ؛ وشدته في المنع ؛ لكانت قريحته تستجيب له ، وغائمته تدر عليه ؛ ولكنه مبدد مندد ، وحب الدنيا يعمي ويصم . وأما ابن الخمار ففصيح ، سبط الكلام ، مديد النفس ، طويل العنان ، مرضي النقل ، كثير التدقيق ، لكنه يخلط الدرة بالبعرة ويفسد السمين بالغث ، ويرقع الجديد بالرث ؛ ويشين جميع ذلك بالزهو والصلف ، ويزيد في الرقم والسوم ، فما يجديه من الفضل يرتجعه بالنقص ؛ وما يعطيه باللطف يسترده بالعنف ؛ وما يصفيه بالصواب ،يكدره بالإعجاب . ومع هذا يصرع في كل شهر مرة أو مرتين . وأما ابن السمح ، فلا ينزل بفنائهم ، ولا يسقى من إنائهم ؛ لأنه دونهم في الحفظ والنقل والنظر والجدل ، وهو بالمتبع أشبه ، وإلى طريقة الدعي أقرب ، والذي يحطه عن مراتبهم شيئان : أحدهما بلاده فهمه ، والآخر حرصه على كسبه ؛ فهو مستفرغ مح البال مأسور العقل ، يأخذ الدانق والقيراط والحبة والطسوج والفلس بالصرف والوزن والتطفيف ؛ والقلب متى لم ينق من دنس الدنيا لم يعبق بفوائح الحكمة ، ولم يتفوح بردع الفلسفة ، ولم يقبل شعاع الأخلاق الطاهرة المفضية إلى سعادة الآخرة . وأما القومسي أبو بكر ، فهو رجل حسن البلاغة ، حلو الكناية ، كثير الفقر العجيبة ، جماعةٌ للكتب الغريبة ؛ محمود العناية في التصحيح والإصلاح والقراءة ، كثير التردد في الدراسة ؛ إلا أنه غير نصيح في الحكمة ؛ لأن قريحته ترابية ، وفكرته سحابية ؛ فهو كالمقلد بين المحققين ، والتابع للمتقدمين ؛ مع حبٍ للدنيا شديد ، وحسد لأهل الفضل عتيد . وأما مسكويه ، ففقير بين أغنياء ، وعيي بين أبنياء ، لأنه شاذ ، وأنا أعطيته في هذه الأيام صفو الشرح لإبساغوجي وقاطيغورياس ، من تصنيف صديقنا بالري . قال : ومن هو ؟ قلت : أبو القاسم الكاتب غلام أبي الحسن العامري ، وصححه معي ؛ وهو الآن لائذ بابن الخمار ، وربما شاهد أبا سليمان وليس له فراغ ، ولكنه محسن في هذا الوقت للحسرة التي لحقته فيما فاته من قبل .فقال : يا عجباً لرجل صحب ابن العميد أبا الفضل ورأى من كان عنده وهذا حظه قلت : قد كان هذا ، ولكنه كان مشغولاً بطلب الكيمياء مع أبي الطيب الكيميائي الرازي ، مملوك الهمة في طلبه والحرص على إصابته مفتوناً بكتب أبي زكرياء ، وجابر بن حيان ؛ ومع هذا كان إليه خدمة صاحبه في خزانة كتبه ؛ هذا مع تقطيع الوقت في حاجاته الضرورية والشهوية ؛ والعمر قصير ، والساعات طائرة ، والحركات دائمة والفرص بروق تأتلق ، والأوطار في غرضها تجتمع وتفترق ، والنفوس على فواتها تذوب وتحترق ؛ ولقد قطن العامري الري خمس سنين جمعة ودرس وأملى وصنف وروى فما أخذ مسكويه عنه كلمة واحدة ، ولا وعى مسألة ، حتى كأنه بينه وبينه سد ؛ ولقد تجرع على هذا التواني الصاب والعلقم ، ومضغ بفمه حنظل الندامة في نفسه ، وسمع بأذنه قوارع الملامة من أصدقائه حين لم ينفع ذلك كله . وبعد فهو ذكي حسن الشعر نقي اللفظ ، وإن بقي فعساه يتوسط هذا الحديث ، وما أرى ذلك مع كلفة بالكيمياء ، وإنفاق زمانه وكد بدنه وقلبه في خدمة السلطان ، واحتراقه في البخل بالدانق والقيراط والكسرة والخرقة ؛ نعوذ بالله من مدح الجود باللسان ، وإيثار الشح بالفعل ، وتمجيد الكرم بالقول ومفارقته بالعمل ؛ وهذا هو الشقاء المصبوب على هامة من بلي به ، والبلاء المعصوب بناصية من غلب عليه . وأما عيسى بن علي ، فله الذرع الواسع والصدر الرحيب في العبارة ، حجة في النقلوالترجمة ، والتصرف في فنون اللغات ، وضروب المعاني والعبارات ؛ وقد تصفح ما لم يتصفح كثير من هذه الجماعة ، وقلب بخزائن الكبراء والسادات ، وأعين بالعمر الطويل والفراغ المديد ؛ ولكنه مع هذا الفضل الكثير بخيل بكلمة واحدة ، ونصيحٌ على ورقة فارغة ، لسودائه الغالبة عليه ، ومزاجه المتشيط بها . وأما نظيف ، فإنه متوسط ، لا يسفل عن أقلهم حظاً ولا يعلو على أكثرهم نصيباً ؛ ويده في الطب أطول ، ولسانه في المجالس أجول ؛ ومعه رفق وحذق في الجدل . وأما يحيى بن عدي ، فإنه كان شيخاً لين العريكة فروقة ، مشوه الترجمة ، رديء العبارة ، لكنه كان متأتياً في تخريج المختلفة وقد برع في مجلسه أكثر هذه الجماعة ، ولم يكن يلوذ بالإلهيات ، كان ينبهر فيها ويضل في بساطها ، ويستعجم عليه ما جل ، فضلاً عما دق منها ؛ وكان مبارك المجلس . فقال : ما قصرت في وصف هذه الطائفة ، وتقريب البغية التي كانت داخلة في نفسي منهم . حدثني عن مذاهبهم في النفس وما يقولون فيها ؛ وإلى أين ينتهون من يقينهمبشأنها ، وكيف ثقتهم ببقائها بعد فناء أبدانها ؟ فقلت : علمت أني لا أجد ما أريد من حديث النفس عند أصحابنا الباقين ، أعني أبا الوفاء علي بن يحيى السامري والمعري والقوهي والصوفي وغلام زحل والصاغاني ، وكذلك غيرهم أعني ابن عبدان وابن يعقوب وابن لالا وابن بكش وابن قوسين والحراني ، لأن هؤلاء ليسوا يحرثون هذه الأرض ، ولا يرقمون هذا البز ولا يجهزون هذا المتاع ولا يتعاملون به ؛ هذا ينظر في المرض والصحة والداء والدواء ، وهذا يعتبر الشمس والقمر ، وليس فيهم من يذكر كلمة في النفس والعقل والإله ، حتى كأنه محظور عليهم ، أو قبيح عندهم . وقلت : إن هؤلاء القوم - أعني الطائفة الأولى - متفقون في الاعتراف بأنها جوهر باقٍ خالد ؛ فأما اليقين فما الحكم به لهم ، لأنهم لو كانوا على ذلك - أعني واجدين لليقين ذائقين لحلاوته - لما كدحوا للدنيا التي تزول عنهم ويزولون عنها مضطرين ؛ فلو أنهم كانوا على ثلج من النفس ، ويقظة من العقل ، واستبصار من القلب ، وسكون من البرهان ، لما تعجلوا هذه اللذات المنقوصة ، والأوطار الفاضحة ، والشهوات الخسيسة ، مع التبعات الكثيرة والأوزار الثقيلة ؛ ولا عجب فإنه إذا كانت الركاكة العائقة تمنع الإنسان من العدو والسفر ، ومن سرعة الخطو ، لأن الحركة قد بطلت بالركاكة الداخلة عليه في أعضائه وآلائه ، فأي عجب من أن تكون النفس التي استعبدتها الشهوات الغالبة ، والعقيدة الرديئة ، والأفعال القبيحة معوقةً ممنوعةً من الصعود إلى معانق الفلك ومخارق النجوم وعالم الروح ومقعد الصدق ومقام الأمن ومحل الكرامة ومراد الخلد وبلد الأبدومعان السرمد . قال : هذا كلام تام ؛ وسأسألك بعد هذا عن النفس وما تحفظ عنهم فيها لكن تعم لي ما كنا فيه ، كيف علم أبي سليمان بالنجوم وأحكامها ؟ قلت : لا يتجاوز التقويم . ثم قال : فما تقول في الأحكام ؟ قلت : أنشدت منذ أيام : علم النجوم على العقول وبال . . . وطلاب حق لا ينال محال وقلت أيضاً : علم الأحكام لا يجوز في الحكمة أن يكون مدركاً مكشوفاً مخاطباً به معروفاً ؛ ولا يجوز أن يكون مقنوطاً منه مطرحاً مجهولاً ؛ بل الحكمة توجب أن يتوسط هذا الفن بين الإصابة والخطأ حتى لا يستغنى عن اللياذ بالله أبداً ، ولا يقع اليأس من قبله أبداً ؛ وعلى هذا سخر الله الإنسان وقيضه وخيره بين الأمر وفوضه ؛ ومنع من الثقة والطمأنينة إلا في معرفته وتوحيده وتقديسه وتمجيده ، والرجوع إليه ؛ انظر إلى حديث الطب فإن عنده الصناعة توسطت الصواب والخطأ ، لتكون الحكمة سارية فيها ، واللطف معههوداً بها ؛ لأن الطب كما يبرأ به العليل ، قد يهلك معه العليل ؛ فليس بسبب أن بعض المدبرين بالطب لا ينبغي أن ينظر في الطب ؛ وليس بسبب أن بعض المرضى برأ بالطب وجب أن يعول عليه ؛ انظر إلى هذا التوسط في هذه الحال ليكون التدبير الإلهي والأمر الربوبي نافذين في هذه الخلائق بوساطة ما بينه وبينها ؛ ولتكون المصلحة بالغة غايتها ؛ وهذه سياسة دار الفناء ، الجامعة لسكانها على البأساء والنعماء ؛ وهكذا ، فانظر إلى حديث البحر وركوب البأس المتيقن فيه ، وجوب الطول والعرض وإصابة الربح ، وطلب العلم ، كيف توسط بين السلامة والعطب ، والنجاة والهلكة ، فلو استمرت السلامة حتى لا يوجد من يغرق ويهلك ، لكان في ذلك مفسدة عامة ؛ ولو استمرت الهلكة حتى لا يوجد من يسلم وينجو ، لكان في ذلك مفسدة عامة ؛ فالحكمة إذاً ما توسط هذا الأمر حتى يشكر الله منينجو ، ويسلم نفسه لله من يهلك . قلت : وبعد هذا فهذا العلم عويص غامض عميق ، وقد فقد العلماء به ، الملهون فيه ؛ ومعول أهله على الحدس والظن ، وعلى بعض التجارب القديمة التي تكذب مرة وتصدق مرة ؛ وبالصدق يعبر الإنسان ، وبالكذب يعرى من فوائده ؛ فالنقص قد دخله ، والخلل قد شمله ؛ وليس يجب أن يوهب له زمانٌ عزيز ، فوراءه ما هو أهم منه وأجدر ، وأرشد وأهدى . قال : هذا حسن ، حدثني بالذي أفدت اليوم . قلت : قال أبو سليمان : العلم صورة المعلوم في نفس العالم ، وأنفس العلماء عالمةٌ بالفعل ، وأنفس المتعلمين عالمة بالقوة . والتعليم هو إبراز ما بالقوة إلى الفعل . والتعلم هو بروز ما هو بالقوة إلى الفعل . والنفس الفلكية عالمةٌ بالفعل ، والنفس الجزئية علامة بالقوة ؛ وكل نفس جزئية تكون أكثر معلوماً وأحكم مصنوعاً فهي أقرب إلى النفس الفلكية تشبهاً بها ، وتصيراً لها . قال : هذا في الحسن نهاية ، وقد اكتهل الليل ، وهذا يحتاج إلى بدء زمان ، وتفريغ قلب ، وإصغاء جديد . هات خاتمة المجلس . قلت له : قرأنا يوم الجمعة على أبي عبيد الله المرزباني لعبد الله بن مصعب . إذا استتعت منك بلحظ طرفي . . . حيي نصفي ومات عليك نصفي تلذذ مقلتي ويذوب جسمي . . . وعيشي منك مقرون بحتفي فلو أبصرتني والليل داج . . . وخدي قد توسط بطن كفي ودمعي يستهل من المآقي . . . إذاً لرأيت ما بي فوق وصفي وانصرفت .
الليلة الثالثة
قال لي ليلة أخرى : حدثني أبو الوفاء عنك حديث الخراساني ، فأريد أن أسمعه منك .قلت : كنت قائماً عشية على زنبرية الجسر في الجانب الشرقي والحاج يدخلون ، وجمالهم قد سدت عرض الجسر - أنتظر جوازها وخفة الطريق منها ، فرأيت شيخاً من أهل خراسان ذكر لي أنه من أهل سنجان واقفاً خلف الجمال يسوقها ، ويحفظ الرحال التي عليها ، حتى نظر إلى الجانب الغربي فرأى الجذع عليه ابن بقية - وكان وزيراً صلبه الملك لذنوب كانت له - فقال : لا إله إلا الله ، ما أعجب أمور الدنيا وما أقل المفكر في عبرها وغيرها ، عضد الدولة تحت الأرض وعدوه فوق الأرض . قال : هكذا حدثني أبو الوفاء ، ولذلك استأذنت في دفنه ، وكان كلام الشيخ سبباً في ذلك . قال : بلغني أن أبا سليمان يزور في أيام الجمعة رسل سجستان لما ويظل عندهم طاعماً ناعماً ، ويأنس بأنك معه ، فمن يحضر ذلك المكان ؟ فقلت : جماعة ؛ وآخر من كان في هذا الأسبوع الماضي ابن جبلة الكاتب ، وابن برمويه ، وابن الناظر أبو منصور وأخوه ، وأبو سليمان وبندار المغني وغزال الراقص ، وعلم وراء الستارة . فقال : ما الذي حفظت من حديث عنهم ، ومأثور أن يلقى إلينا منهم ؟ فقلت : سمعت أشياء ، ولست أحب أن أسم نفسي بنقل الحديث وإعادة الأحوال فأكون غامزاً وساعياً ومفسداً . قال : معاذ الله من هذا ، إنما تدل على رشد وخير ، وتضل عن غي وسوء ، وهذايلزم كل من آثر الصلاح الخاص والعام لنفسه وللناس ، واعتقد الشفقة ، وحث على قبول النصيحة ؛ والنبي ( صلى الله عليه وسلم ) قد سمع مثل هذا وسأل عنه ، وكذلك الخلفاء من بعده ، وكل أحد محتاج إلى معرفة الأحوال إذا رجع إلى مرتبة عاليةٍ أو محطوطة . فقلت وجدت ابن برمويه يذكر أشياء هي متعلقة بجانبك ، ويرى أنها لو لم تكن لكان مجلسك أشرف ، ودولتك أعز ، وأيامك أدوم ، ووليك أحمد ، وعدوك أكمد . قال : ما هذا الاسترسال كله إلى ابن شاهويه ؟ وما هذا الكلف ببهرام ؟ وما هذا التعصب لابن مكيخا ؟ وما هذا السكون إلى ابن طاهر ؟ وما هذا التعويل على ابن عبدان ؟ وما من هؤلاء أحد إلا يريش عدوه ويبريه ويضل صاحبه ويغويه . أما ابن شاهويه فشيخ إزراء وصاحب مخرقة وكذبٍ ظاهر ، كثير الإيهام ، شديد التمويه ، لا يرجع إلى ودٍ صادق ، ولا إلى عقد صحيح وعهدٍ محفوظ ؛ وإنما كان الماضي يقربه لغرض كان له فيه من جهة هؤلاء المخربين القرامطة ، وكان أيضاً مذموم الهيئة ، فكان لاينبس إلا بما يقويه ويحرس حاله ، واليوم هو رخي اللبب ، جاذب لكل سبب ؛ وليس هناك كفاية ولا صيانة ولا ديانة ولا مروءة ؛ وبعد ، فهو مشئوم نكد ، ثقيل الروح ، شديد البهت قوله الإفساد وعادته تأجيل المهنأ والشماتة بالعاثر والتشفي من المنكوب . وأما بهرام فرجل مجوسي معجب ذميم ، لا يعرف الوفاء ولا يرجع إلى حفاظ ، غرضه أن يتبجح في الدنيا بجاهه ، ولا يبالي أين صار بعاقبته ؛ وهو يحض مع ذلك عليه في كل ما هو مديره ومدبره . وأما ابن مكيخا ، فرجل نصراني أرعن خسيس ، ما جاء يوماً بخير قط لا في رأي ولا في عمل ، ولا في توسط ؛ وأصحابنا يلقبونه بقفا وهو منهمك بين اللذائذ همه أن يتحسى دن الشراب في نفس أو نفسين ، ثم يسقط كالجذع اليابس لا لسان ولا إنسان . وأما ابن طاهر فرجل يدعي للناس أنه لولا مكانته وكفايته وحسبه ورأيه ومشورته لكانت هذه الوزارة سراباً ، وهذه المملكة خراباً ؛ هذا مع الشر الذي في طبعه وعادته ؛ فإن جرى خيرٌ انتحله ، وزعم أنه من نتائج رأيه ؛ وإن وقع شرٌ عصبه برأس صاحبه ، وادعى أنه استبد به ؛ ومع هذا فهو يعيب هذه المراءاة .وما أدري كيف استكفى هذه الجماعة حوله ؟ وكيف يظاهر هو بها ويسكن إليها ؟ وما فيهم إلا من وكده الرجس والإفساد والأخذ بالمصانعة وإغراء الأولياء بما يعود بالوبال على البريء والسقيم وعلى الزكي والظنين ؛ هؤلاء سباع ضارية ، وكلاب عاوية ؛ وعقارب لساعة ، وأفاعٍ نهاشة ، وقى الله هذا الإنسان الحر المبارك الكريم الرحيم ، فإنه شريف النفس طاهر الطوية ، لين العريكة ، كثير الديانة ، وهذه أخلاق لا تصلح اليوم مع الناس ، قال الشاعر : ومن لا يذد عن حوضه الناس أو يكن . . . له جانب يشتد إن لان جانب يطأ حوضه المستوردون وتغشه . . . شوائب لا تبقى عليها النقائب وما ضاع قولهم : لا تكن حلواً فتؤكل ، ولا مراً فتعاف . ليس الحذر يقي فكيف التهور ، أههنا لحىً تسحب كل يوم ، وطوارق تتوقع كل ليلة والتوكل والاستسلام يلقيان بأهل الدين في طلب الآخرة ؛ فأما أصحاب الدنيا وأرباب المراتب ، فيجب أن يدعوا الهوينا جانباً ، ويشمروا للنفع والضر ؛ والخير والشر ويكون ضرهم أكثر ، وشرهم أغلب ؛ ورهبوت خير من رحموت .ولهذا قال الأعرابي : أنا الغلام الأعسر . . . الخير في والشر والشر في أكثر وهذا معنى بديع ، ولم يرد أن البداءة بالشر خير من الخير ، وإنما اراد أني أتقي بالشر ، وإذا أقبل الشر قلت له : مرحباً ، وأدفع الشر ولو بالشر ، والحديد بالحديد يفلح . وقد قال الآخر : وفي الشر نجاة حي . . . ن لا ينجيك إحسان وقال ابن دارة : إذا كنت يوماً طالب القوم فاطرح . . . مقالتهم واذهب بهم كل مذهب وقارب بذي حلم وباعد بجاهل . . . جلوب عليك الشر من كل مجلب فإن حدبوا فاقعس وإن هم تقاعسوا . . . ليستمسكوا مما يريدون فاحدب وإن حلبوا خلقين فاحلب ثلاثة . . . وإن ركبوا يوماً لك الشر فاركب وقال الحجاج بن يوسف أبو محمد - وهو من رجالات العرب وقد قهر العجم بالدهاء والزكانة - لو أخذت من الناس مائة ألف ، كان أرضى عني من أن أفرق فيهم مائة ألف . كان الناس بالأمس مزمومين مخطومين ، يقوم كل واحد بنفسه على نفسه ، ويتهم غده لما جناه في أمسه ؛ لأن الملك السعيد ساسهم ، وقوم زيغهم ، وقلم أظافرهم ؛ وشغلهم بالحاجة عن البطر والأشر ، وبالكفاية عن القلق والضجر ؛ وتقدم إليهم بترك الخوض فيما لا مرجوع له بخير ؛ وكانوا لا يشكرون الله على نعمته عليهم به ، وإحسانه إليهم بمكانه ، فسلبوه فتنفس خناقهم ، واتسع نطاقهم ، فامتطى كل واحد هواه ، ويوشك أنيقع في مهواه . قال : وههنا أشياء أخرى غير هذه ، ولكن من يسمع ويقبل ؟ ومع هذا فالأمور صائرةٌ إلى مصايرها ، كما أنها صادرة عن مصادرها . فقال له ابن جبلة : ما عندي إلا أن الوزير - أبقاه الله - عارفٌ بهم ومستبطن لأمرهم ؛ مع العشرة القديمة ، والملابسة المتصلة ، والخبرة الواقعة ؛ ولكن لابد لمن كان في محله ورقعته من جماعةٍ يقربهم ، ويرجع إليهم ويسمع منهم ، وينظر بأعينهم ، ويصغي بآذانهم ، ويتناول بأيديهم . فقال له مجاوباً : إن كان عارفاً بهم ، ومستبطناً لأمرهم ، وخبيراً بشأنهم ؛ فلم سلطهم وبسطهم ، وحدد أنيابهم ، وقوى أسنانهم ، وفتح أشداقهم ، وطول أعناقهم ، وقطع أرباقهم ؛ وأبطرهم فأسكرهم ، حتى صاروا يجهلون أقدارهم ، وينسون ما كانوا فيه من القلة والذلة ؟ هلا رتب كل واحد منهم فيما تظهر به كفايته ولا يرفعه إلى ما يظن معه الظن الفاسد ، ولم يضحك في وجوههم ، ويغضي على جنايتهم ؟ أما بلغه أن ابن يوسف قال : تشبثه بابن شاهويه لأنه قد أعده للهرب إلى القرامطة إن دهمه أمر ؟ وأنسه ببهرام إنما هو لاستمداد الفساد منه وتقديمه لابن الحجاج للسخف ، ولهجه بابن هرون للهزء واللعب . قال له ابن جبلة : من أراد أن يحسن القبيح عند رضاه ، ويقبح الحسن عند سخطه فعل ، ولا يخلو أحد تهب ريحه ، ويعلو شأنه ، وينفذ أمره ونهيه من حاسد وقارف ،ومدخل ومرجف ، على هذه الأمور بنيت الدار ، وعليها جرت الأقدار ، إن كنت تنكر هذا الرهط ، فاعرف له الرهط الآخر ؛ فإنك تعرف بذلك حسن اختياره وجميل انتقائه ومحمود رأيه . قال : من هم ؟ . قال : أبو الوفاء المهندس ، وابن زرعة المتفلسف ، وابن عبيد الكاتب ، ومسكويه ، والأهوازي والعسجدي فأين هؤلاء الغامطة ؟ قومٌ همهم أن يأكلوا رغيفاً ويشربوا قدحاً ، لا هم ممن يقتبس من علمهم ولا هم يتكلفون له نصحاً ، وهيبته تعوقهم عن ذكر شيء في الدولة من تلقائهم إلا أن يكون شيء يتعلق بهم على معنى خاص ؛ فهو ينود هكذا وهكذا حتى يبلغ منهم ما قدر عليه . فلما سمع الوزير هذا كله قال : سألقي إليك في جواب هذه المسألة ما تخدمني به إن لاقيتهم في مجلس آخر على وجه يخفي أنك له ملقن محمل كأنك ساهٍ عنه غير حافل به ؛ وقد تقطع الليل ، ويحتاج في هذا الحديث إلى استئناف زمان ، بعد استيفاء حمام ؛ ثم أنشدت قول الشاعر : إني لأصفح عن قومي وألبسهم . . . على الضغائن حتى تبرأ المثر ثم قال : ما المئر ؟ قلت : هي الضغائن التي ذكرها في حشو البيت ، واحدها مئرةٌ ، كأنه أراد وألبسهم على الضغائن حتى تبرأ الضغائن فرجع من لفظ إلى لفظ ضرورة القافية لما كان معناهما واحداً ؛ قال : لمن هذا البيت ؟ قلت : لا أحفظ اسم شاعره ، ولكنأحفظ معه أبياتاً . قال : هاتها ؛ فأنشدت أول ذلك : يا أيها الرجل المزجى أذيته . . . هل أنت عن قولك العوراء مزدجر إني إذا عد مبطاءٌ إلى أمد . . . لا يستطيع حضاري المقرف البطر لاقى قناتي مصراراً عشوزنةً . . . لا قادح قد تبغاها ولا خور إني لأصفح عن قومي وألبسهم . . . على الضغائن حتى تبرأ المئر قال : اكتبها . قلت : أفعل ، وانصرفت ، فما أعاد علي بعد ذلك شيئاً مما كان .
الليلة الرابعة
قال لي بعد ذلك في ليلة أخرى : كيف رضاك عن أبي الوفاء ؟ قلت : أرضى رضاً بأتم شكر وأحمد ثناء ؛ أخذ بيدي ، ونظر في معاشي ، ونشطني وبشرني ، ورعى عهدي ، ثم ختم هذا كله بالنعمة الكبرى ، وقلدني بها القلادة الحسنى ، وشملني بهذه الخدمة ، وأذاقني حلاوة هذه المزية ، وأوجهني عند نظرائي . قال : هات شيئاً من الغزل . فأنشدته : كلانا سواء في الهوى غير أنها . . . تجلد أحياناً وما بي تجلدتخاف وعيد الكاشحين وإنما . . . جنوني عليها حين أنهي وأبعد ثم قال : غالب ظني أن نصراً غلام خواشاذه ما هرب من فنائي إلا برأيك وتجسيرك ؛ فإن ذلك عبد ، ولا جرأة له على مثل هذا الندود والشذوذ ، فقد قال لي القائل : إنك من خلصانه . فقلت : والله الذي لا إله إلا هو ما كان بيني وبينه ما يقتضي هذا الأنس وهذا الاسترسال ، إنما كنا نلتقي على زنبرية باب الجسر بالعشايا وعند البيمارستان وعلى باب أبي الوفاء ؛ وإنما ركنت إليه لمرقعته وتاسومته عند ما كنت رأيته عند صاحبه بالري سنة تسع وستين وهو متوجه إلى قابوس وجرجان ، في المذلة الدائمة والحال المربوطة ؛ ولو نبس لي بحرف من هذا ، أو كنت أشعر بأقل شيء منه ، لكنت أقول لأبي الوفاء قضاءً لحقه ، ووفاءً بما له في عنقي من مننه وخوفاً من هذا الظن بي ، وقصوراً عن اللائمة لي . قال : أفما تعرف أحداً تسأله عنه ممن كان يخالطه ويباسطه ؟ قلت : ما رأيته إلا وحده ؛ وكم كان زمان التلاقي ؟ كان أقل من شهر ، أفي هذا القدر يتوكد الأنس وترتفع الحشمة وتستحكم الثقة ويقع الاسترسال والتشاور ؟ هذا بعيد . قال : هذا المتخلف كنت قد قربته ورتبته ، ووعدته ومنيته ؛ وتقدمت إلى أبي الوفاء بالإقبال عليه ، والإحسان إليه ، وإذكاري بأمره في الوقت بعد الوقت ، حتى أزيده نباهة وتقديماً ، فترك هذا كله وطوى الأرض كأنه هارب من حبس ، أو خائف من عذاب .ويقال في الأثر : إن بعض الصفيحيين قال : لله قوم يقادون إلى الجنة بالسلاسل ، ما أكثر من يفر من هذه الكرامة ، ويقوى - على ترفٍ جمٍ - على الهوان ، ويصبر على البلاء ، ويقلق في العافية إن السجايا المختلفة ، وإن الطباع لمتعادية ؛ قلما يرى شخصان يتشاكلان في الظاهر إلا يتباينان في الباطن . قلت : كذلك هو . قال : حدثني لم امتنعت من النفوذ مع ابن موسى إلى الجبل فيما رسمنا له أن يتوجه فيه ؟ ولقد أطلت التعجب من هذا وكررته على أبي الوفاء . فقلت : منعني من ذلك ثلاثة أشياء : أحدها أن ابن موسى لم يكن من شكلي ولا أشد للضد هوناً من مصاحبة الضد ، لأنه سوداوي وجعد . والآخر أنه قيل : ينبغي أن تكون عيناً عليه ، وأنا لو قررت لك الحديث لما رأيته لائقاً بحالي ، فكيف إذا قرنت برجل باطلي لو بوهمه أمري لدهدهني من أعلى جبل في الطريق . والآخر أني كنت أفد مع هذا كله على ابن عباد - وهو رجل أساء إلي وأوحشني ، وحاول على لسان صاحبه ابن شاهويه أن أنقلب إليه ثانياً ؛ وكنت أكره ذلك ، وما كنت آمن ما يكون منه ومني ، والمجنون المطاع ، مهروب منه بالطباع . وبعد ، فليس لي حاجةٌ في مثل هذه الخدمة ، لأن صدر العمر خلا مني عارياً من هذه الأحوال ، وكان وسطه أضعف حملاً ، وأبعد من القيام به والقيام عليه . فقال : ما كان عندي هذا كله .قال : إني أريد أن أسألك عن ابن عباد فقد انتجعته وخبرته وحضرت مجلسه ، وعن أخلاقه ومذهبه وعادته ، وعن علمه ، وعن علمه وبلاغته ، وغالب ما هو عليه ، ومغلوب ما لديه ؛ فما أظن أني أجد مثلك في الخبر عنه ، والوصف له ، على أني قد شاهدته بهمذان لما وافي ، ولكني لم أعجمه ، لأن اللبث كان قليلاً ، والشغل كان عظيماً ، والعائق كان واقعاً . فقال : إني رجل مظلوم من جهته ، وعاتبٌ عليه في معاملتي ، وشديد الغيظ لحرماني ، وإن وصفته أربيت منتصفاً ، وانتصفت منه مسرفاً ، فلو كنت معتدل الحال بين الرضا والغضب ، أو عارياً منهما جملة ، كان الوصف أصدق ، والصدق به أخلق ؛ على أني عملت رسالة في أخلاقه وأخلاق ابن العميد أودعتها نفسي الغزير ، ولفظي الطويل والقصير ، وهي في المسودة ولا جسارة لي على تحريرها ، فإن جانبه مهيب ، ولمكره دبيب ، وقد قال الشاعر : إلى أن يغيب المرء يرجى ويتقى . . . ولا يعلم الإنسان ما في المغيب قال : دع هذا كله ، وانسخ لي الرسالة من المسودة ، ولا يمنعنك ذاك فإن العين لا ترمقها والأذن لا تسمعها واليد لا تنسخها . وبعد ، فما سألتك إلا وصفه بما جبل عليه ، أو بما كسب هو بيديه من خير وشر ؛ وهذا غير منكر ولا مكروه ، لأمر الله تعالى ، فإنه مع علمه الواسع ، وكرمه السابغ ، يصف المحسن والمسيء ، ويثني على هذا وينثو على ذاك ؛ فاذكر لي من أمره ما خف اللفظ به وسبق الخاطر إليه وحضر السبب له . قلت : إن الرجل كثير المحفوظ حاضر الجواب فصيح اللسان ؛ قد نتف من كل أدبخفيفٍ أشياء ، وأخذ من كل فن أطرافاً ؛ والغالب عليه كلام المتكلمين المعتزلة ، وكتابته مهجنة بطرائقهم ، ومناظرته مشوبة بعبارة الكتاب ؛ وهو شديد التعصب على أهله الحكمة والناظرين في أجزائها كالهندسة والطب والتنجيم والموسيقي والمنطق والعدد ؛ وليس عنده بالجزء الإلهي خبر ، ولا له فيه عين ولا أثر ؛ وهو حسن القيام بالعروض والقوافي ؛ ويقول الشعر ، وليس بذاك ؛ وفي بديهيته غزارة . وأما رويته فخوارة ؛ وطالعه الجوزاء ، والشعري قريبة منه ؛ ويتشيع لمذهب أبي حنيفة ومقالة الزيدية ، ولا يرجع إلى الرقة والرأفة والرحمة ، والناس كلهم محجمون عنه ، لجرأته وسلاطته واقتداره وبسطته ؛ شديد العقاب طفيف الثواب ، طويل العتاب ؛ بذيء اللسان ؛ يعطي كثيراً قليلاً أعني يعطي الكثير القليل ، مغلوبٌ بحرارة الرأس ، سريع الغضب ، بعيد الفيئة قريب الطيرة ، حسودٌ حقودٌ حديد ، وحسده وقفٌ على أهل الفضل ، وحقده سارٍ إلى أهل الكفاية ؛ أما الكتاب والمتصرفون فيخافون سطوته ، وأما المنتجعون فيخافون جفوته ؛ وقد قتلا خلقاً ، وأهلك ناساً ، ونفى أمة ، نخوةً وتعنتاً وتجبراً وزهواً ؛ وهو مع هذا يخدعه الصبي ، ويخلبه الغبي ؛ لأن المدخل عليه واسع ، والمأتي إليه سهل ؛ وذلك بأن يقال : مولانا يتقدم بأن أعار شيئاً من كلامه ، ورسائل منثوره ومنظومه ؛ فما جبت الأرض إليه من فرغانة ومصر وتفليس إلا لأستفيد كلامه وأفصح به ، وأتعلم البلاغة منه ؛ لكأنما رسائل مولانا سور قرآن ، وفقره فيها آيات فرقان ؛ واحتجاجه من ابتدائها إلى انتهائها برهان فوق برهان ؛ فسبحان من جمع العالم في واحد ، وأبرز جميع قدرته في شخص . فيلين عند ذلك ويذوب ، ويلهى عن كل مهم له ، وينسى كل فريضة عليه ويتقدم إلى الخازن بأن يخرجإليه رسائله مع الورق والورق ويسهل له الإذن عليه ، والوصول إليه ، والتمكن من مجلسه ؛ فهذا هذا . ثم يعمل في أوقات كالعيد والفصل شعراً ، ويدفعه إلى أبي عيسى بن المنجم ، ويقول : قد نحلتك هذه القصيدة ، امدحني بها في جملة الشعراء ، وكن الثالث من الهمج المنشدين . فيفعل أبو عيسى - وهو بغدادي محكك قد شاخ على الخدائع وتحنك - وينشد ، فيقول له عند سماعه شعره في نفسه ووصفه بلسانه ، ومدحه من تحبيره : أعد يا أبا عيسى ، فإنك - والله - مجيد زه يا أبا عيسى والله ، قد صفا ذهن ، وزادت قريحتك ، وتنقحت قوافيك ؛ ليس هذا من الطراز الأول حين أنشدتنا في العيد الماضي ، محل تخرج الناس وتهب لهم الذكاء ، وتزيد لهم الفطنة ، وتحول الكودن عتيقاً ، والمحمر جواداً ؛ ثم لا يصرفه عن مجلسه إلا بجائزة سنية ؛ وعطية هنية ؛ ويغيظ الجماعة من الشعراء وغيرهم ، لأنهم يعلمون أن أبا عيسى لا يقرض مصراعاً ولا يزن بيتاً ولا يذوق عروضاً . قال يوماً : من في االدار ؟ فقيل له : أبو القاسم الكاتب وابن ثابت ؛ فعمل في الحال بيتين ، وقال لإنسان بين يديه : إذا أذنت لهذين فادخل بعدهما بساعة وقل : قد قلت بيتين ، فإن رسمت لي إنشادهما أنشدت وازعم أنك بدهت بهما ، ولا تجزع من تأففي بك ، ولا تفزع من نكري عليك ، ودفع البيتين إليه ، وأمره بالخروج إلى السجن ؛ وأذن للرجلين حتى وصلا ؛ فلما جلسا وأنسا دخلالآخر على تفيئتهما ، ووقف للخدمة ، وأخذ يتلمظ يرى أنه يقرض شعراً ؛ ثم قال : يا مولانا ، قد حضرني بيتان ، فإن أنت أذنت لي أنشدت . قال : أنت إنسان أخرق سخيف ، لا تقول شيئاً فيه خير ، اكفني أمرك وشعرك . قال : يا مولانا ، هي بديهتي ، فإن نكرتني ظلمتني ؛ وعلى كل حال فاسمع ، فإن كان بارعين وإلا فعاملني بما تحب قال : أنت لجوج ، هات . فأنشد : يأيها الصاحب تاج العلا . . . لا تجعلني نهزة الشامت بملحدٍ يكنى أبا قاسم . . . ومجبر يعزى إلى ثابت قال : قاتلك الله ، لقد أحسنت وأنت مسىء : قال لي أبو القاسم : فكدت أتفقأ غيظاً ، لأني علمت أنه من فعلاته المعروفة ؛ وكان ذلك الجاهل لا يقرض بيتاً . ثم حدثني الخادم الحديث بنصه . والذي غلطه في نفسه وحمله على الإعجاب بفضله والاستبداد برأيه ، أنه لم يجبه قط بتخطئة ، ولا قوبل بتسوئة ؛ ولا قيل له : أخطأت أو قصرت أو لحنت أو غلطت أو أخللت ، لأنه نشأ على أن يقال : أصاب سيدنا ، وصدق مولانا ، ولله دره ، ولله بلاؤه ، ما رأينا مثله ، ولا سمعنا من يقاربه ، من ابن عبد كان مضافاً إليه ؟ ومن ابن ثوابة مقيساً عليه ؟ ومن إبراهيم بن العباس الصولي إذا جمع بينهما ؟ من صريع الغواني من أشجع السلمي إذا سلك طريقهما ، ومتح برشائهما ، وقدح بزندهما ؟ قد استدرك مولانا على الخليل في العروض ، وعلى أبي عمرو بن العلاء في اللغة وعلى أبي يوسف في القضاء ، وعلى الإسكافي في الموازنة ، وعلى ابن نوبخت في الآراء والديانات ، وعلى ابن مجاهد في القراءات ؛ وعلى ابن جرير في التفسير ، وعلى أرسطوطاليس في المنطق ، وعلى الكندي فيالجزء ، وعلى ابن سيرين في العبارة ، وعلى أبي العيناء في البديهة ، وعلى ابن أبي خالد في الخط ، وعلى الجاحظ في الحيوان ، وعلى سهل بن هرون في الفقر ، وعلى يوحنا في الطب ؛ وعلى ابن ربن في الفردوس ، وعلى عيسى بن دأب في الرواية ، وعلى الواقدي في الحفظ ، وعلى النجار في البدل ، وعلى ابن ثوابة في التفقه ، وعلى السري السقطي في الخطرات والوساوس ، وعلى مزبد في النوادر ، وعلى أبي الحسن العروضي في استخراج المعمى ، وعلى بني برمك في الجود ، وعلى ذي الرياستين في التدبير ، وعلى سطيح في الكهانة ، وعلى ابن المحيا خالد بن سنان العبسي في دعواه ؛ هو والله أولى بقول أبي شريح أوس بن حجر التميمي في فضالة بن كلدة : الألمعي الذي يظن بك الظن . . . كأن لقد رأى وقد سمعا قد يسبق المدح إلا من لا يستحقه ، ويصير المال إلى من لا يليق به أن يكون ميلاً حتى إذا وجد من كان لذلك مستحقاً منحه ووفر عليه . فتراه عند هذا الهذر وأشباهه يتلوى ويتبسم ، ويطير فرحاً ويتقسم ويقول : ولا كذا ؛ ثمرة السبق لهم ، وقصرنا أن نلحقهم ، أو نقفو أثرهم ونشق غبارهم أو نرد غمارهم . وهو في كل ذلك يتشاكى ويتحايل ، ويلوي شدقه ، ويبتلع ريقه ، ويرد كالآخذ ، ويأخذ كالمتمنع ، ويغضب في عرض الرضا ، ويرضى في لبوس الغضب ، ويتهالك ويتمالك ، ويتقابل ويتمايل ؛ ويحاكي المومسمات ، ويخرج في أصحابالسماجات ؛ ومع هذا كله يظن أن هذا خافٍ على نقاد الأخلاق وجهابذة الأحوال ، والذين قد فرغهم الله لتتبع الأمور ، واستخراج ما في الصدور ، واعتبار الأسباب ؛ وذلك أنه ليس بجيد العقل ، ولا خالص الحمق ؛ وكل كدر بالتركيب فقلما يصفو ، وكل مركب على الكدر فقلما يعتدل ؛ إلا أن الانحراف متى كان إلى جانب العقل كان أصلح من أن يكون إلى طرف الحمق ؛ والكامل عزيز ، والبرىء من الآفات معدوم ؛ إلا أن العليل إذا قيض الله له طبيباً حاذقاً رفيقاً ناصحاً كان إلى العافية أقرب ، وللشفاء أرحي ، ومن العطب أبعد ، وبالاحتياط أعلق ، أعني أن العاقل إذا عرف من نفسه عيوباً معدودة ، وأخلاقاً مدخولة ، استطب لها عقله ، وتطبب فيها بعقله ، وتولى تدبيرها برأيه ورأي خلصانه ، فنفي ما أمكن نفيه ، وأصلح ما قبل إصلاحه ، وقلل ما استطاع تقليله ؛ فقد يجد الإنسان الرمص في عينه فينحيه ، ويبتلي بالبرص في بدنه فيخفيه . وقد أفسده أيضاً ثقة صاحبه به ، وتعويله عليه ، وقلة سماعه من الناصح فيه ؛ فعذر بازدهاء المال والغلم والاقتدار والأمر والكفاية وطاعة الرجال وتصديق الجلساء والعادة الغالبة ؛ وهو في الأصل مجدود لا جرم ليس يقله مكانٌ دلالاً وترفاً ، وعجباً وتيهاً وصلفاً ؛ واندراءً على الناس ، وازدراءً للصغار والكبار ، وجبها للصادر والوارد ؛ وفي الجملة ، صغار آفاته كبيرة ، وذنوبه جمة ولكن الغني ربٌ غفور قال : ما صدر هذا البيت ؟ فأنشدته الأبيات ، وهي لعروة بن الورد في الجاهلية ، وكان يقال له عروة الصعاليك ، لأنه كان يؤويهم ويحسن إليهم كثيراً : ذريني للغنى أسعى فإني . . . رأيت الناس شرهم الفقيروأبعدهم وأهوانهم عليهم . . . وإن أمسى له حسبٌ وخير ويقصيه الندى وتزدريه . . . حليلته وينهره الصغير وتلقى ذا الغنى وله جلالٌ . . . يكاد فؤاد صاحبه يطير قليلٌ ذنبه والذنب جمٌ . . . ولكن الغني رب ٌ غفور فقال : لاشك أن المسودة جامعةٌ لهذا كله . قلت : تلك تجزع في دست كاغدٍ فرعوني . فقال : أجد تحريرها ، وعلى بها ، ولك الضمان ألا يراها إنسان ، ولا يدور بذكرها لسان . قلت : السمع والطاعة . قال : قد تركنا من حديثه ما هو أولى مما مر بنا ؛ كيف بلاغته من بلاغة ابن العميد ؟ وأين طريقته من طريقة ابن يوسف والصابي ؟ قلت : قد سألت جماعة عن هذا ، فأجابني كل واحد بجواب إذا حكيته عنه كان ما يقال فيه ألصق ، وكنت من الحكم عليه وله أبعد . قال : صف هذا ؛ قلت : سألت ابن عبيد الكاتب عن ابن عباد فيك تابته فقال : يرتفع عن المتعلمين فيها بدرجة أو بدرجتين . وقال علي بن القاسم : هو مجنون الكلام ، تارةً تبدو لك منه بلاغة قس ، وتارة يلقاك بعي باقل ؛ تحريف كثير في المعاني ، وإحالةٌ في الوضع ، وغلطٌ في السجع ، وشرودٌ عن الطبع . وقال ابن المرزبان : هو كثير السرقة ، سيىء الإنفاق ، رديء القلب والعكس ، فروقةٌ في غيراده ، هزيمته قبل هجومه . وإحجامه أظهر من إقدامه . وقال الصابي : هو مجتهد غير موفق ، وفاضل غير منطق ولو خطا كان أسرع له ، كما أنه لما عدا كان أبطأ عليه ؛ وطباع الجبلي مخالف لطباع العراقي ،يثب مقارباً فيقع بعيداً ، ويتطاول صاعداً فيتقاعس قعيداً . وقال علي بن جعفر : مم كانت الطبائع هو يكذر نفسه بحسن الظن في البلاغة ، وطباعه تصدق عنه بالتخلف ، فهو يشين اللفظ ويحيل المعنى ، فأما شينه اللفظ فبالجفوة والغلظة والإخلال والفجاجة ؛ وأما إحالته فبالإبعاد عن حومة القصد والإرادة ؛ والعجب أنه يحفظ الطم والرم من النثر والنظم ؛ ثم إذا ادعاهما يقع دونهما سقوطاً ، أو يتجاوزهما فروطاً ؛ هذا مع الكبر الممقوت والتشيع الظاهر ، والدعوى العارية من البينة العادلة . وما أحسن ما كتب بن أحمد بن إسماعيل بن الخصيب إلى آخر : الكبر - أعزك الله - معرض يستوي فيه النبيه ذكراً ، والخامل قدراً ، ليس أمامه حاجب يمنعه ، ولا دونه حاجز يحظره ؛ والناس أشد تحفظاً على الرئيس المحظوظ ، وأكثر اجتلاء لأفعاله ، وتتبعاً لمعايبه ، وتصفحاً لأخلاقه ، وتنقيراً عن خصاله منهم عن خامل لا يعبأ به ، وساقطٍ لا يكترث له ؛ فيسير عيب الجليل يقدح فيه ، وصغير الذنب يكبر منه ، وقليل الذم يسرع إليه ؛ ولابن هندو في هذا المعنى : العيب في الرجل المذكور مذكور . . . والعيب في الخامل المستور مستور كفوفة الظفر تخفي من مهانتها . . . ومثلها في سواد العين مشهور وقال الزهيري : قد نجم بأصبهان ابنٌ لعبادٍ في غاية الرقاعة والوقاحة والخلاعة وإن كان له يوم ، فسيشقى به قوم ، سمعته يقول هذا سنة اثنتين وخمسين في مجلسٍ من الفقهاء .وقال ابن حبيب : قال بعض الحكماء : إن اللنفس أمراضاً كأمراض البدن إلا أن فضل أمراض النفس على أمراض البدن في الشر والضرر كفضل النفس على البدن في الخير ؛ وصاحبنا يعني - ابن عباد - مريض عندنا ، صحيح عند نفسه ، زيف بنقدنا ، جيد بنقده ؛ ولو قامت السوق على ساقها ، وتناصف المتعاملون فيها ، ولم يقع إكراه في أخذٍ ولا إعطاء ، عرف البهرج الذي ضرب خارج الدار والجيد الذي ضرب داخل الدار . وقال أحمد بن محمد : إذا أنصفنا التزمنا مزية العراقيين علينا بالطبع اللطيف والمأخذ القريب ، والسجع الملائم ، واللفظ المونق ، والتأليف الحلو ، والسبوطة الغالبة ، والموالاة المقبولة في السمع ، الخالبة للقلب العابثة بالروح ، الزائدة في العقل ، المشعلة للقريحة ، الموقوفة على فضل الأدب ، الدالة على غزارة المغترف ، النائية عن عادة كثير من السلف والخلف ؛ وابن عباد بلي في هذه الصناعة بأشياء كلها عليه لا له ، وخاذلته لا ناصرته ، ومسلمته لا منقذته ؛ فأول ما بلي به أنه فقد الطبع ، وهو العمود ؛ والثاني العادة وهي المؤاتية ؛ والثالث الشغف الجاسي من اللفظ وهو الاختيار الرديء ؛ والرابع تتبع الوحشي ، وهو الضلال المبين ؛ والخامس الذهاب مع اللفظ دون المعنى ؛ والسادس استكراه المقصود من المعنى ، واللفظ على النبوة ؛ والسابع التعاظل المجهول بالاعتراض ؛ والثامن إلف الرسوم الفاسدة من غيرتصفح ولا فحص ؛ والتاسع قلة الاتعاظ بما كان - للثقة الواقعة في النفس - من الفائت ، والعاشر تنفيق المتاع بالاقتدار في سوق العز ، وهذه كلها سبل الضلالة ، وطرق الجهالة . قال : وليس شيء أنفع للمنشىء من سوء الظن بنفسه ، والرجوع إلى غيره وإن كان دونه في الدرجة وليس في الدنيا محسوب إلا وهو محتاج إلى تثقيف ، والمستعين أحزم من المستبد ، ومن تفرد لم يكمل ، ومن شاور لم ينقص ، وقد يستعجم المعنى كما يستعجم اللفظ ، ويشرد اللفظ كما يند المعنى ، وينتثر النظم كما ينتظم النثر وينحل المعقد كما يعقد المنحل . والمدار على اجتلاب الحلاوة المذوقة بالطبع ، واجتناب النبوة الممجوجة بالسمع ؛ والقريحة الصافية قد تكدر ، والقريحة الكدرة قد تصفو ، وشر آفات البلاغة الاستكراه ، وأنصح نصائحها الرضا بالعفو . وقال : كان ابن المقفع يقف قلمه كثيراً ؛ فقيل له في ذلك ، فقال : إن الكلام يزدحم في صدري فيقف قلمي لأتخيره . والكتاب يتصفح أكثر من تصفح الخطاب ، لأن الكاتب مختار والمخاطب مضطر ؛ ومن يرد عليه كتابك فليس يعلم أسرعت فيه أم أبطأت وإنما ينظر أصبت فيه أم أخطأت ، وأحسنت أم أسأت ؛ فإبطاؤك غير إصابتك كما أن إسراعك غير معفٍ على غلطك . قال : هذا كله مفيد فأين هو من غيره من أصحابنا ؟ قلت : في الجملة هو أبلغ من ابنيوسف ، وأغزر وأحفظ وأروى وأجم ركية ، وأعذب مورداً ، وأبعد من التفاوت ؛ وليس ابن يوسف من ابن عباد في شيء . فأما ابن العميد فإني سمعت ابن الجمل يقول : سمعت ابن ثوابة يقول : أول من أفسد الكلام أبو الفضل ، لأنه تخيل مذهب الجاحظ وظن أنه إن تبعه لحقه ، وإن تلاه أدركه ، فوقع بعيداً من الجاحظ ، قريباً من نفسه ؛ ألا يعلم أبو الفضل أن مذهب الجاحظ مدبر بأشياء لا تلتقي عند كل إنسان ولا تجتمع في صدر كل أحد : بالطبع والمنشأ والعلم والأصول والعادة والعمر والفراغ والعشق والمنافسة والبلوغ ؛ وهذه مفاتح قلما يملكها واحد ، وسواها مغالق قلما ينفك منها واحد . وأما ابنه ذو الكفايتين ، فلو عاش كان أبلغ من أبيه ، كما كان أشعر منه ؛ ولقد تشبه بالجاحظ فافتضح في مكاتبته لإخوانه ، ومجانته في كلامه ومسائله لمعلمه التي دلتنا على سرقته وغارته وسوء تأتيه ، في تستره وتغطيه ؛ ومن شاء حمق نفسه ؛ وكان مع هذا أشد الناس ادعاء لكل غريبة ، وأبعد الناس من كل قريبة ؛ وهو نزر المعاني ، شديد الكلف باللفظ ؛ وكان أحسد الناس لمن خط بالقلم ، أو بلغ باللسان ، أو فلج في المناظرة ، أو فكه بالنادرة ، أو أغرب في جواب ، أو اتسع في خطاب ؛ ولقد لقي الناس منه الدواهي لهذه الأخلاق الخبيثة ؛ وقد ذكرت ذلك في الرسالة ، وإذا بيضت وقفت عليها من أولها إلى آخرها إن شاء الله ؛ وانصرفت .الليلة الخامسة
قال لي ليلة أخرى : ألا تتمم ما كنا به بدأنا . قلت : بلى . قأما أبو إسحاق فإنه أحب الناس للطريقة المستقمية ، وأمضاهم على المحجة الوسطى ، وإنما ينقم عليه قلة نصيبه من النحو ؛ وليس ابن عباد في النحو بذاك ؛ ولا كان أيضاً ابن العميد إلا ضعيفاً ؛ وكان يذهب عنه الشيء اليسير . وأبو إسحاق معانيه فلسفية ، وطباعه عراقية ، وعادته محمودة ؛ لا يثب ولا يرسب ، ولا يكل ولا يكهم ، ولا يلتفت وهو متوجه ، ولا يتوجه وهو ملتفت . وقال لنا : إمام ابن عبدكان ، وهو قد أوفى عليه ، وإن كان احتذى على مثاله ؛ وفنونه أكثر ، ومأخذه أخفى ، وخاطره أوقد ، وناظره أنقد ، وروضه أنضر ، وسراجه أزهر ، ويزيد على كل من تقدم بالكتاب التاجي ، فإنها أبان عن أمور وكنى في مواضع ، وشن الغارة في الصبح المنير مع الرعيل الأول ، ودل على التفلسف ، وعلى الاطلاع على حقائق السياسة ولو لم يكن له غيره لكان به أعرق الناس في الخطابة ، وأعرق الكتاب في الكتابة ، هذا ونظمه منثوره ، ومنثوره منظومه ؛ إنما هو ذهبٌ إبريزٌ كيفما سبك فهو واحد ، وإنما يختلف بما يصاغ منه ويشكل عليه ؛ هذا مع الظرف الناصع والتواضع الحسن ، واللهجة اللطيفة ، والخلق الدمث ، والمعرفة بالزمان ، والخبرة بأصناف الناس ؛ وله فنونٌمن الكلام ما سبقه إليها أحد ، وما ماثله فيها إنسان . وإني لأرحم من لا يسلم له هذا الوصف ، لأنه إما أن يكون جاهلاً ، وإما عالماً فإن كان جاهلاً فهو معذور ، وإن كان عالماً فهو ملوم ، لأنه يدل من نفسه - بدافع ما يعلمه - على حسده ، والحاسد مهين . قال : هل كان في زمان هؤلاء من يلحق بهم ، ويدخل في زمرتهم ؟ قلت : نعم ، أبو طالب الجراحي من آل علي بن عيسى كتب للمرزبان ملك الديلم بعد ما انتجع فناء ابن العميد أبي الفضل ، فحسده وطرده ، وعض بعد ذلك على ناجذه ندماً على سوء فعله ، ولقي منه ابن ببأأبي طالب الأمرين ؛ ورسائله مبثوثة . وأبو الحسن الفلكي ، وكان من أهل البصرة ، ووقع إلى المراغة ونواحيها وهو حسن الديباجة ، رقيق حواشي اللفظ ؛ وهو أحدهم غرباً ، وأغزرهم سكباً ، وأبعدهم مناحاً وأعذبهم نقاخاً ، وأعطفهم للأول على الآخر وأنشرهم للباطن من الظاهر . وقرأت له : فإن رأى أن ينظر نظر راحم متعطف ، إلى نادم متلهف ؛ ويجعل العفو عن فرطته وكفرانه ، صدقةً عن بسطته وسلطانه ؛ فأجدر الناس بالاغتفار أقدرهم على الانتصار ؛ فعل - إن شاء الله تعالى - . وله مكاتبات واسعة بينه وبين رجل من أهل المراغة يقال له : محمد بن إبراهيم ، من أهل سر من رأى وفي الجملة ، الفضل في الناس مبثوث ، وهم منه على جدود ؛ والمرذول هو العاري من لبوسه ، المتردد بين تخلفه ونقصه . قال : فكيف يتم له ما هو فيه مع هذه الصفات التي تذكرها ؟ قلت : والله لو أن عجوزاً بلهاء ، أو أمةً ورهاء أقيمت مقامه ، لكانت الأمور على هذا السياق . قال : وكيف ذاك ؟ قلت : قد أمن أن يقال له : لم فعلت ، ولم لم تفعل ؟ وهذا باب لا يتفق لأحدٍ من خدمالملوك إلا بجد سعيد ، ولقد نصح صاحبه الهروي في أموال تاوية ، وأمورٍ من النظر عارية ؛ فقذف بالرقعة إليه حتى عرف ما فيها ، ثم قتل الراقع خنقاً . هذا وهو يدين بالوعيد ، وله نظائر ، ولنظائره نظائر ، ولكن ليس له ناظر ، ولا فيه مناظر . وقال لي الثقة من أصحابه : ربما شرع في أمر يحكم فيه بالخطأ فيلقبه جده صواباً ، حتى كأنه عن وحي ؛ وأسرار الله في خلقه عند الارتفاع والانحطاط خفيةٌ في أستار الغيب ، لا يهتدي إليها ملك مقرب ، ولا نبي مرسل ، ولا ولي مهذب ؛ ولو جرت الأمور على موضوع الرأي وقضية العقل ، لكان معلماً في مصطبة على شاعر ، أو في دار ؛ فإنه يخرج الإنسان بتفيهقه وتشادقه ، واستحقاره واستكباره ، وإعادته وإبدائه ، وهذه أشكال تعجب الصبيان ولا تنفرهم من المعلمين ، ويكون فرحهم بها سبباً للملازمة والحرص على التعلم والحفظ والرواية والدراسة . قال : هذا قدرٌ كافٍ إلى أن تبيض الرسالة ؛ هات ملحة الوداع . قلت : قال أبو العيناء : قال أبو دعلج : قال المهدي : بايع ؛ قلت : أبايعكم علام ؟ قال : على ما بويع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يوم صفين . قال كريز أبو سيار المسمعي : إن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) لم يدرك صفين ، إنما كانت صفين بين علي ومعاوية . فقال دوست بن رباط الفقيمي أبو شعيب : قد علم الأمير هذا ، ولكن أحب التسهيل على الناس ، وانصرفت .
الليلة السادسة
ثم حضرته ليلةً أخرى فأول ما فاتح به المجلس أن قال : أتفضل العرب على العجم أم العجم على العرب ؟ قلت : الأمم عند العلماء أربع : الروم ، والعرب ، وفارس ، والهند ؛ وثلاث من هؤلاء عجم ، وصعبٌ أن يقال : العرب وحدها أفضل من هؤلاء الثلاثة ، مع جوامع ما لها ،وتفاريق ما عندها . قال : إنما أريد بهذا الفرس . فقلت : قبل أن أحكم بشيء من تلقاء نفسي ، أروي كلاماً لابن المقفع ، وهو أصيلٌ في الفرس عريق في العجم ، مفضل بين أهل الفضل ؛ وهو صاحب اليتيمة القائل : تركت أصحاب الرسائل بعد هذا الكتاب في ضحضاح من الكلام . قال : هات على بركة الله وعونه . قلت : قال شبيب بن شبة : إنا لوقوفٌ في عرصة المربد - وهو موقف الأشراف ومجتمع الناس وقد حضر أعيان المصر - إذ طلع ابن المقفع ، فما فينا أحد إلا هش له ، وارتاح إلى مساءلته ، وسررنا بطلعته ؛ فقال : ما يقفكم على متون دوابكم في هذا الموضع ؟ فوالله لو بعث الخليفة إلى أهل الأرض يبتغي مثلكم ما أصاب أحداً سواكم ، فهل لكم في دار ابن برثن في ظلٍ ممدود ، وواقيةٍ من الشمس ، واستقبال من الشمال ، وترويحٍ للدواب والغلمان ، ونتمهد الأرض فإنها خير بساط وأوطؤه ، ويسمع بعضنا من بعض فهو أمد للمجلس ، وأدر للحديث . فسارعنا إلى ذلك ، ونزلنا عن دوابنا في دار ابن برثن نتنسم الشمال ، إذ أقبل علينا ابن المقفع ، فقال : أي الأمم أعقل ؟ فظننا أنه يريد الفرس ، فقلنا : فارس أعقل الأمم ، نقصد مقاربته ، ونتوخى مصانعته . فقال : كلا ، ليس ذلك لها ولا فيها ، هم قوم علموا فتعلموا ، ومثل لهم فامتثلوا واقتدوا وبدئوا بأمر فصاروا إلى اتباعه ، ليس لهم استنباط ولا استخراج . فقلنا له : الروم . فقال : ليس ذلك عندها ، بل لهم أبدانٌ وثيقة وهم أصحاب بناء وهندسة ، لا يعرفون سواهما ، ولا يحسنون غيرهما . قلنا : فالصين . قال : أصحاب أثاثٍ وصنعة ، لا فكر لها ولا روية . قلنا : فالترك . قال : سباع للهراش . قلنا : فالهند . قال : أصحاب وهم ومخرقة وشعبذة وحيلة . قلنا : فالزنج : قال : بهائم هاملة . فرددنا الأمر إليه . قال : العرب . فتلاحظنا وهمس بعضنا إلى بعض ، فغاظه ذلك منا ، وامتقع لونه ، ثم قال : كأنكم تظنون في مقاربتكم ،فوالله لوددت أن الأمر ليس لكم ولا فيكم ولكن كرهت إن فاتني الأمر أن يفوتني الصواب ، ولكن لا أدعكم حتى أبين لكم لم قلت ذلك ، لأخرج من ظنة المداراة ، وتوهم المصانعة ؛ إن العرب ليس لها أولٌ تؤمه ولا كتابٌ يدلها ، أهل بلد قفر ، ووحشةٍ من الإنس ، احتاج كل واحد منهم في وحدته إلى فكره ونظره وعقله ؛ وعلموا أن معاشهم من نبات الأرض فوسموا كل شيء بسمته ، ونسبوه إلى جنسه وعرفوا مصلحة ذلك في رطبه ويابسه ، وأوقاته وأزمنته ، وما يصلح منه في الشاة والبعير ؛ ثم نظروا إلى الزمان واختلافه فجعلوه ربيعياً وصيفياً ، وقيظياً وشتوياً ؛ ثم علموا أن شربهم من السماء ، فوضعوا لذلك الأنواء ؛ وعرفوا تغير الزمان فجعلوا له منازله من السنة ؛ واحتاجوا إلى الانتشار في الأرض ، فجعلوا نجوم السماء أدلةً على أطراف الأرض وأقطارها ، فسلكوا بها البلاد ؛ وجعلوا بينهم شيئاً ينتهون به عن المنكر ، ويرغبهم في الجميل ، ويتجنون به على الدناءة ويحضهم على المكارم ؛ حتى إن الرجل منهم وهو في فجٍ من الأرض يصف المكارم فما يبقى من نعتها شيئاً ، ويسرف في ذم المساوىء فلا يقصر ؛ ليس لهم كلام إلا وهم يحاضون به على اصطناع المعروف ثم حفظ الجار وبذل المال وابتناء المحامد ، كل واحد منهم يصيب ذلك بعقله ، ويستخرجه بفطنته وفكرته فلا يتعلمون ولا يتأدبون ، بل نحائز مؤدبة ، وعقولٌ عارفة ؛ فلذلك قلت لكم : إنهم أعقل الأمم ، لصحة الفطرة واعتدال البنية وصواب الفكر وذكاء الفهم . هذا آخر الحديث . قال : ما أحسن ما قال ابن المقفع وما أحسن ما قصصته وما أتيت به هات الآن ما عندك من مسموع ومستنبط . فقلت : إن كان ما قال هذا الرجل البارع في أدبه المقدم بعقله كافياً فالزيادة عليه فضلٌ مستغنىً عنه ، وإعقابه بما هو له لا فائدة فيه . فقال : حد الوصف في التزيين والتقبيح مختلف الدلائل على ما يعتقد صوابهوخطؤه ، متباين ؛ وهذه مسألة - أعني تفضيل أمة على أمة - من أمهات ما تدارأ الناس عليه وتدافعوا فيه ؛ ولم يرجعوا منذ تناقلوا الكلام في هذا الباب إلى صلح متين واتفاق ظاهر . فقتل : بالواجب ما وقع هذا ، فإن الفارسي ليس في فطرته ولا عادته ولا منشئه أن يعترف بفضل العربي ، ولا في جبلة العربي وديدنه أن يقر فضل الفارسي . وكذلك الهندي والرومي والتركي والديلمي ؛ وبعد ، فاعتبار الفضل والشرف موقوف على شيئين : أحدهما ما خص به قوم دون قوم في أيام النشأة بالاختيار للجيد والرديء ، والرأي الصائب والفائل ، والنظر في الأول والآخر . وإذا وقف الأمر على هذا فلكل أمة فضائل ورذائل ولكل قوم محاسن وماسوٍ ، ولكل طائفة من الناس في صناعتها وحلا وعقدها كمال وتفسير ؛ وهذا يقضي بأن الخيرات والفضائل والشرور والنقائص مفاضة على جميع الخلق ، مفضوضةٌ بين كلهم . فللفرس السياسة والآداب والحدود والرسوم ؛ وللروم الحكمة ؛ وللهند الفكر والرؤية والخفة والسحر والأناة ؛ وللترك الشجاعة والإقدام ؛ وللزنج الصبر والكد والفرح ؛ وللعرب النجدة والقرى والوفاء والبلاء والجود والذمام والخطابة والبيان . ثم إن هذه الفضائل المذكورة ، في هذه الأمم المشهورة ، ليست لكل واحد من أفرادها ، بل هي الشائعة بينها ؛ ثم في جملتها من هو عارٍ من جميعها ، وموسوم بأضدادها ، يعني أنه لا تخلو الفرس من جاهل بالسياسة ، خالٍ من الأدب ، داخلٍ في الرعاع والهمج ؛ وكذلك العرب لا تخلو من جبانٍ جاهلٍ طياش بخيلٍ عيي وكذلك الهند والروم وغيرهم ؛ فعلى هذا إذا قوبل أهل الفضل والكمال من الروم بأهل الفضل والكمال من الفرس ، تلاقوا على صراط مستقيم ، ولم يكن بينهم تفاوتٌ إلا فيمقادير الفضل وحدود الكمال ، وتلك لا تخص بل تلم . وكذلك إذا قوبل أهل النقص والرذيلة من أمة بأهل النقص والخساسة من أمة أخرى ، تلاقوا على نهج واحد ، ولم يقع بينهم تفاوت إلا في الأقدار والحدود ؛ وتلك لا يلتفت إليها ، ولا يعار عليها ؛ فقد بان بهذا الكشف أن الأمم كلها تقاسمت الفضائل والنقائص باضطرار الفطرة ، واختيار الفكرة . ولم يكن بعد ذلك إلا ما يتنازعه الناس بينهم بالنسبة الترابية ، والعادة المنشئية والهوى الغالب من النفس الغضبية ، والنزاع الهائج من القوة الشهوية . وها هنا شيء آخر ، وهو أصل كبير لا يجوز أن يخلو كلامنا من الدلالة عليه والإيماء إليه . وهو أن كل أمة لها زمان على ضدها ، وهذا بين مكشوف إذا أرسلت وهمك في دولة يونان والإسكندر ، لما غلب وساس وملك ورأس وفتق ورتق ورسم ودبر وأمر ، وحث وزجر ، ومحا وسطر ، وفعل وأخبر ؛ وكذلك إذا عطفت إلى حديث كسرى أنوشروان وجدت هذه الأحوال بأعيانها ، وإن كانت في غلف غير غلف الأول ، ومعارض غير معارض المتقدم ؛ ولهذا قال أبو مسلم صاحب الدولة حين قيل له : أي الناس وجدتهم أشجع ؟ فقال : كل قوم في إقبال دولتهم شجعان . وقد صدق ؛ وعلى هذا كل أمة في مبدأ سعادتها وأفضل وأنجد وأشجع وأمجد وأسخى وأجود وأخطب وأنطق وأرأى وأصدق ؛ وهذا الاعتبار ينساق من شيء عامٍ لجميع الأمم ، إلى شيء شاملٍ لأمة أمة إلى شيء حاوٍ لطائفةٍ طائفة ، إلى شيء غالبٍ على قبيلةٍ قبيلة ، إلى شيء معتادٍ في بيتٍ بيت ، إلى شيء خاص بشخصٍ شخص وإنسانٍ إنسان ؛ وهذا التحول من أمة إلى أمة ، يشير إلى فيض جود الله تعالى علىجميع بريته وخليقته بحسب استجابتهم لقبوله ، واستعدادهم على تطاول الدهر في نيل ذلك من فضله ومن رقي إلى هذه الربوة بعين لا قذى بها ، أبصر الحق عياناً بلا مرية ، وأخبر عنه بلا فرية ؛ ومتى صدق نظرك في مابدىء الأحوال وأوائل الأمور وضح لك هذا كله كالنهار إذا متع ، واستنار كالقمر إذا طلع ؛ ولم يبق حينئذ ريب في عرفان الحق وحصول الصواب ، إلا ما يلتاث بالهوى ، ويسمج بالتعصب ، ويجلب اللجاج ، ويخرج إلى المحك ؛ فهناك يطيح المعنى ويضل المراد ، فإذا آثرت أن تعرف صحة هذا الحكم وصواب هذا الرأي ، فاسمع ما أرويه : قال إسحاق بن إبراهيم الموصلي : انصرف العباس بن مرداس السلمي من مكة فقال : يا بني سليم ، إني رأيت أمراً ، وسيكون خيراً ، رأيت بني عبد المطلب كأن قدودهم الرماح الردينية ، وكأن وجوههم بدور الدجنة وكأن عمائمهم فوق الرجال ألوية ، وكأن منطقهم مطر الوبل على المحل ؛ وإن الله إذا أراد ثمراً غرس له غرساً ، وإن أولئك غرس الله ؛ فترقبوا ثمرته وتوكفوا غيثه ، وتفيئوا ظلاله ، واستبشروا بنعمة الله عليكم به . ولقد قرع العباس بهذا الكلام باب الغيب ، وشعر بالمستور ، وأحس بالخافي ، واطلع عقله على المستتر ، واهتدى بلطف هاجسه إلى الأمر المزمع ، والحادث المتوقع ؛ وهذا شيء فاشٍ في العرب ، لطول وحدتها ، وصفاء فكرتها ، وجودة بنيتها واعتدال هيئتها ، وصحة فطرتها ، وخلاء ذرعها ، واتقاد طبعها ، وسعة لغتها وتصاريف كلامها في أسمائها وأفعالها وحروفها ، وجولانها في اشتقاقاتها ، ومآخذها البديعة في استعاراتها ، وغرائبتصرفها في اختصاراتها ، ولطف كناياتها في مقابلة تصريحاتها ، وفنون تبحبحها في أكناف مقاصدها ، وعجيب مقاربتها في حركات لفظها ؛ وهذا وأضعافه مسلم لهم ، وموفر عليهم ، ومعروفٌ فيهم ومنسوبٌ إليهم ، مع الشجاعة والنجدة والذمام والضيافة والفطنة والخطابة والحمية والأنفة والحفاظ والوفاء ، والبذل والسخاء ، والتهالك في حب الثناء والنكل الشديد عن الذم والهجاء ؛ إلى غير ذلك مما خصت به في جاهليتها قبل الإسلام ، مما لا سبيل إلى دفعه وجحوده ، والبهت فيه ، والمكابرة عليه ؛ وقد سمعنا لغاتٍ كثيرةً - وإن لم نستوعبها - من جميع الأمم ، كلغة أصحابنا العجم والروم والهند والترك وخوارزم وصقلاب وأندلس والزنج ، فما وجدنا لشيء من هذه اللغات نصوع العربية ، أعني الفرج التي في كلماتها ، والفضاء الذي نجده بين حروفها ، والمسافة التي بين مخارجها ، والمعادلة التي نذوقها في أمثلتها ، والمساواة التي لا تجحد في أبنيتها ؛ وإذا شئت أن تعرف حقيقة هذا القول ، وصحة هذا الحكم ، فالحظ عرض اللغات الذي هو بين أشدها تلابساً وتداخلاً ، وترادفاً وتعاظلاً وتعسراً وتعوصاً ، وإلى ما بعدها مما هو أسلس حروفاً ، وأرق لفظاً ، وأخف اسماً ؛ وألطف أوزاناً ، وأحضر عياناً ؛ وأحلى مخرجاً وأجلى منهجاً وأعلى مدرجاً ؛ وأعدل عدلاً ، وأوضح فضلاً ، وأصح وصلاً إلى أن تنزل إلى لغة بعد لغة ، ثم تنتهي إلى العربية ، فإنك تحكم بأن المبدأالذي أشرنا إليه في العوائص والأغماض ، سرى قليلاً قليلاً حتى وقف على العربية في الإفصاح والإيماض . وهذا شيء يجده كل من كان صحيح البنية ، بريئاً من الآفة ، متنزهاً عن الهوى والعصبية ، محباً للإنصاف في الخصومة ، متحرياً للحق في الحكومة ، غير مسترق بالتقليد ، ولا مخدوع بالإلف ، ولا مسخر بالعادة ، وإني لأعجب كثيراً ممن يرجع إلى فضل واسع ، وعلمٍ جامع ؛ وعقل سديد ، وأدب كثير ، إذا أبى هذا الذي وصفته ، وأنكر ما ذكرته ؛ وأعجب أيضاً فضل عجب من الجيهاني في كتابه وهو يسب العرب ، ويتناول أعراضها ويحط من أقدارها ويحط من أقدارها ، ويقول : يأكلون اليرابيع والضباب والجرذان والحيات ويتعاورون ويتساورون ، ويتهاجون ويتفاحشون ، وكأنهم قد سلخوا من فضائل البشر ، ولبسوا أهب الخنازير . قال : ولهذا كان كسرى يسمى ملك العرب : سكان شاه ، أي ملك الكلاب . قال : وهذا لشدةشبههم بالكلاب وجرائها ، والذئاب وأطلائها وكلاماً كثيراً من هذا الصوب أرفع قدره عن مثله ، وإن كان يضع من نفسه بفضل قوله . أتراه لا يعلم لو نزل ذلك القفر وتلك الجزيرة وذلك المكان الخاوي وتلك الفيافي والموامي ، كل كسرى كان في الفرس ، وكل قيصر كان في الروم ، وكل بلهور كان بالهند ، وكل يقفور كان بخراسان ، وكل خاقان كان بالترك وكل أخشاد كان بفرغانة وكل صبهبذ كان من أسكنان وأردوان ما كانوا يعدون هذه الأحوال لأن من جاع أكل ما وجد ، وطعم ما لحق ، وشرب ما قدر عليه ، حباً للحاية ، وطلباً للبقاء ، وجزعاً من الموت ، وهرباً من الفناء . أترى أنوشروان إذا وقع إلى فيافي بني أسد وبر وبار وسفوح طيبة ، ورمل يبرين وساحة هبير ، وجاع وعطش وعري ، أما كان يأكل اليربوع والجرذان ؛ وما كان يشرب بول الجمل وماء البئر ، وما أسن في تلك الوهدات ؟ أو ما كان يلبس البرجد والخميصة والسمل من الثياب وما هو دونه وأخشن ؟ بلى والله ، ويأكل حشرات الأرض ونبات الجبال ، وكل ما حمض ومر ، وخبث وضر ، هذا جهلٌ من قائله ، وحيفٌ من منتحله ؛ على أن العرب - رحمك الله - أحسن الناس حالاً وعيشاً إذا جادتهم السماء ، وصدقتهمالأنواء ؛ وازدانت الأرض ، فهدلت الثمار ، واطردت الأودية ، وكثر اللبن والأقط والجبن واللحم والرطب والتمر والقمح ، وقامت لهم الأسواق ، وطابت المرابع وفشا الخصب ، وتوانى النتاج ، واتصلت الميرة ، وصدق المصاب وأرفغ المنتجع ، وتلاقت القبائل على المحاضر ، وتقاولوا وتضايفوا ، وتعاقدوا وتعاهدوا ، وتزاوروا وتناشدوا ؛ وعقدوا الذمم ، ونطقوا بالحكم ؛ وقروا الرطاق ووصلوا العفاة ، وزودوا السابلة ، وأرشدوا الضلال ، وقاموا بالحمالات وفكوا الأسرى ، وتداعوا الجفلى ، وتعافوا النقرى ، وتنافسوا في أفعال المعروف ؛ هذا وهم في مساقط رءوسهم ، بين جبالهم ورمالهم ، ومناشىء آبائهم وأجدادهم ، وموالد أهلهم وأولادهم ، على جاهليتهم الأولى والثانية ، وقد رأيت حين هبت ريحهم وأشرقت دولتهم بالدعوة ، وانتشرت دعوتهم بالملة ، وعزت ملتهم بالنبوة ، وغلبت نبوتهم بالشريعة ، ورسخت شريعتهم بالخلافة ، ونضرت خلافتهم بالسياسة الدينية والدنيوية ، كيف تحولت جميع محاسن الأمم إليهم وكيف وقعت فضائل الأجيال عليهم من غير أن طلبوها وكدحوا في حيازتها أو تعبوا في نيلها ، بل جاءتهم هذه المناقب والمفاخر ، وهذه النوادر من المآثر عفواً ، وقطنت بين أطناب بيوتهم سهواً رهواً ؛ وهكذا يكون كل شيء تولاه الله بتوفيقه ، وساقه إلى أهله بتأييده ، وحليمستحقيه باختياره ؛ ولا غالب لأمر الله ، ولا مبدل لحكم الله ، ولذلك قال الله تعالى : ' قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير إنك على كل شيء قديرٌ ' . ولله في خلقه أسرار ، تتصرف بها دوائر الليل والنهار ، وتذللها مجاري الأقدار ، حتى ينتهى بمحبوبها ومكروهها إلى القرار . عز إلهاً معبوداً ، وجل رباً محموداً مقصوداً . وبعد ، فالذي لاشك فيه من وصف العرب ، ولا جاحد له من حالها ، أنه ليس على وجه الأرض جيلٌ من الناس ينزلون القفر ، وينتجعون السحاب والقطر ؛ ويعالجون الإبل والخيل والغنم وغيرها ، ويستبدون في مصالحهم بكل ما عز وهان ، وبكل ما قل وكثر ، وبكل ما سهل وعسر ؛ ويرجون الخير من السماء في صوبها ، ومن الأرض في نباتها ؛ مع مراعاة الأوان بعد الأوان ، وثقةً بالحال بعد الحال وتبصرةً فيما يفعل ويجتنب ؛ ما للعرب فيما قدمنا وصفه ، وكررنا شرحه من علمهم بالخصب والجدب ، واللين والقسوة ، والحر والبرد ، والرياح المختلفة والسحائب الكاذبة ، والمخايل الصادقة ، والأنواء المحمودة والمذمومة ، والأسباب الغريبة العجيبة . وهذا لأنهم مع توحشهم مستأنسون ، وفي بواديهم حاضرون ، فقد اجتمع لهم من عادات الحاضرة أحسن العادات ، ومن أخلاق البادية أطهر الأخلاق . وهذا المعنى على هذا النظم قد عدمه أصحاب المدن وأرباب الحضر ، لأن الدناءة والرقة والكيس والهين والخلابة والخداع والحيلة والمكر والخب تغلب على هؤلاء وتملكهم ، لأن مدار أمرهم على المعاملات السيئة ، والكذب في الحس ، والخلف في الوعد . والعرب قد قدسها الله عن هذا الباب بأسره ، وجبلها على أشرف الأخلاق بقدرته ؛ ولهذا تجد أحدهم وهو في بتٍ حافياً حاسراً يذكر الكرم ، ويفتخر بالمحمدة ،وينتحل النجدة ، ويحتمل الكل ، ويضحك في وجه الضيف ويستقبله بالبشر ، ويقول : أحدثه إن الحديث من القرى ثم لا يقنع ببث العرف وفعل الخير والصبر على النوائب حتى يحض الصغير والكبير على ذلك ويدعو إليه ، ويستنهضه نحوه ، ويكلفه مجهوده وعفوه . وقد قيل لرجل منهم في يوم شاتٍ وهو يمشي في سمل : أما تجد البرد يا أخا العرب ؟ فقال : أمشي الخيزلي ويكفيني حسبي . والفارسي لا يحسن هذا النمط ، ولا يذوق هذا المعنى ولا يحلم بهذه اللطيفة ؛ وكذلك الرومي والهندي وغيرهما من جميع العجم . ومما يدل على تحضرهم في باديتهم ، وتبديهم في تحضرهم ، وتحليهم بأشرف أحوال الأمرين ، أسواقهم التي لهم في الجاهلية ، مثل دومة الجندل بقرى كلب وهي النصف بين العراق والشام ، كان ينزلها الناس أول يوم من شهر ربيع الأول ، فيقيمون أسواقهم بالبيع والشراء ، والأخذ والعطاء ؛ وكان يعشرهم أكيدر دومة ، وربما غلبت على السوق كلب فيعشرهم بعض رؤساء كلب ؛ فيقوم سوقهم إلى آخر الشهر ، ثم ينتقلون إلى سوق هجر ، وهو المشقر في شهر ربيع الآخر ، فتقوم أسواقهم ؛ وكان يعشرهم المنذر بن ساوى أحد بني عبد الله بن دارم ، ثم يرتحلون نحو عمان ، فتقوم سوقهم بديار دبا ، ثم بصحار ، ثميرتحلون فينزلون إرم ، وقرى الشحر فتقوم أسواقهم أياماً ، ثم يرتحلون فينزلون عدن أبين ، ومن سوق عدن تشتري اللطائم وأنواع الطيب ، ولم يكن في الأرض أكثر طيباً ، ولا أحذق صناعاً للطيب من عدن ؛ ثم يرتحلون فينزلون الرابية من حضرموت ، ومنهم من يجوزها ويرد صنعاء ، فتقوم أسواقهم بها ، ومنها كانت تجلب آلة الخرز والأدم والبرود ، وكانت تجلب إليها من معافر ، وهي معدن البرود والحبر ثم يرتحلون إلى عكاظ وذي المجاز في الأشهر الحرم ، فتقوم أسواقهم بها ، فيتناشدون ويتحاجون ويتحادون ، ومن له أسير يسعى في فدائه ، ومن له حكومة ارتفع إلى الذي يقوم بأمر الحكومة من بني تميم ، وكان آخرهم الأقرع بن حابس ؛ ثم يقفون بعرفة ، ويقضون ما عليهم من مناسكهم ؛ ثم يتوجهون إلى أوطانهم . وهذه الأسواق كانت تقوم طول السنة ، فيحضرها من قرب من العرب ومن بعد . هذا حديثهم ، وهم همل لا عز لهم إلا بالسؤدد ، ولا معقل لهم إلا السيف ، ولا حصون إلا الخيل ، ولا فخر إلا بالبلاغة . ثم لما ملكوا الدور والقصور والجنان والأودية والأنهار والمعادن والقلاع والمدن والبلدان والسهل والجبل والبر والبحر ، لم يقعدوا عن شأو من تقدم بآلاف سنين ، ولم يعجزوا عن شيء كان لهم ؛ بل أبروا عليهم وزادوا ، وأغربوا وأفادوا ؛ وهذا الحكم ظاهر معروف ، وحاضر مكشوف ؛ ليس إلى مرده سبيل ولا لجاحده ومنكره دليل .فليستحي الجيهان بعد هذا البيان والكشف والإيضاح ، بالإنصاف من القذع والسفه اللذين حشا بهما كتابه ، وليرفع نفسه عما يشين العقل ، ولا تقبله حكام العدل ؛ وصاحب العلم الرصين ، والأدب المكين ؛ لا يسلط خصمة على عرضه بلسانه ، ولا يستدعي مر الجواب بتعرضه ويرضى بالميسور في غالب أمره ؛ فإن العصبية في الحق ربما خذلت صاحبها وأسلمته ؛ وأبدت عورته ، واجتلبت مساءته ؛ فكيف إذا كانت في الباطل ونعوذ بالله أن نكون لفضل أمة من الأمم جاحدين ، كما نعوذ به أن نكون بنقص أمة من الأمم جاهلين . فإن جاحد الحق يدل من نفسه على مهانة ، وجاهل النقص يدل من نفسه على قصور ؛ فهذا هذا ؛ وفي الجملة المسلمة ، والدعوة المرسلة ، أن أهل البر وأصحاب الصحارى الذين وطأؤهم الأرض ، وغطاؤهم السماء ، هم في العدد أكثر وعلى بسيط الأرض أجول ، ومن الترفه والرفاهية أبعد ، وبالحول والقوة أعلق وإلى الفكرة والفطنة أفزع ، وعلى المصالح والمنافع أوقع ، ومن المخازي آنف وللقبائح أعيف ؛ وهذا للدواعي الظاهرة ، والحاجات الضرورية ، والعلائق الحاضة على الألفة والمودة ، والشدائد المؤذية ، والعوارض اللازبة ؛ ولهذا يقال : عيب الغني أنه يورث البلادة ، وفضيلة الفقر أنه يبعث الحيلة ؛ وهذا معنىً كريم ، لا يقر به إلا كل نقاب عليم . وقال الجيهاني أيضاً : مما يدل على شرفنا وتقدمنا وعزنا وعلو مكاننا ، أن الله أفاض علينا النعم ووسع لدينا القسم وبوأنا الجنان والأرياف ، ونعمنا وأترفنا . ولم يفعل هذا بالعرب ، بل أشقاهم وعذبهم ، وضيق عليهم وحرمهم ، وجمعهم في جزيرة حرجة ، ورقعة صغيرة ، وسقاهم بأرنق ضاحٍ ؛ وبهذا يعلم أن المخصوص بالنعمة والمقصودبالكرامة فوق المقصود بالإهانة . فأطال هذا الباب بما ظن أنه قد ظفر بشيء لا جواب عنه ، ولا مقابل له ؛ ولو كان الأمر كما قال لما خفي على غيره وتجلى له ، بل قد خصت العرب بعد هذا بأشياء تطول حسرة من فاتته عليها ، ولا يفيد التفاته بالغيظ إليها ؛ وقد دل كلامه على أنه جاهل بالنعمة ، غافلٌ عما هو سر الحكمة . وعنده أن الجاهل إذا لبس الثوب الناعم ، وأكل الخبز الحواري وركب الجوادي ، وتقلب على الحشية ، وشرب الرحيق ، وباشر الحسناء ، هو أشرف من العالم إذا لبس الأطمار ، وطعم العشب ، وشرب الماء القراح ، وتوسد الأرض ، وقنع باليسير ورخي العيش ، وسلا عن الفضول ؛ هذا خطأ من الرأي ، ومردود من الحكم ، عند الله تعالى أولاً ، ثم عند جميع أهل الفضل والحجا ، وأصحاب التقى والنهى ؛ وعلى طريقته أيضاً أن البصير أشرف من الأعمى ، والغني أفضل من الفقير . ألا يعلم أن المدار على العقل الذي من حرمه فقد أنقص من كل فقير ، وعلى الدين الذي من عري منه فهو أسوأ حالاً من كل موسر ؛ ونعمة الله على ضربين : أحد الضربين عم به عباده ، وغمر بفضله خليقته ، بدءاً بلا استحقاق وذلك أنه خلق ورزق وكفل وحفظ ونعش وكلأ وحرس وأمهل وأفضل ووهب وأجزل ؛ وهذا هو العدل المخلوط بالإحسان ، والتسوية المعمومة بالتفضل والقدرة المشتملة على الحكمة ؛ والضرب الثاني هو الذي يستحق بالعمل والاجتهاد والسعي والارتياد ، والاختبار والاعتقاد ؛ ليكون جزاءً وثواباً ، ولهذا محرم العاصي المخالف ، وأنال الطائع الموافق ؛ فقد بان الآن أن المدار ليس بالجنان والترفه ، ولا بالذهب والفضة ، ولا الوبر والمدر . وقد مر هذا الكلام كله فليسكن من الجيهاني جأشه ، وليفارقه طيشه ؛ وليعلمأن من أنصف أعطى بيده ، وسلم الفضل لأهله ؛ فإن التواضع للحق رفعة والترفع بالباطل ضعة . وههنا بقية ينبغي أن يتبصر فيها ؛ من عرف النقص البحت ، والنقص المشوب بالزيادة ؛ والفضل الصرف ، والفضل الممزوج بالنقيصة لم يجحد المغوي فضلاً ، ولم يدع للعصبية المردية شرفاً ، ولم ينكر الحسد مزية ؛ والخلق كلهم في نعم الله تعالى مشتركون ، وفي أياديه مغموسون وبمواهبه متفاضلون ، وعلى قدرته متصرفون ؛ وإلى مشيئته صائرون ، وعن حكمته مخبرون ، ولآلائه ذاكرون ، ولنعمائه شاكرون ، ولأياديه ناشرون ، وعلى اختلاف قضائه صابرون ، ولثوابه بالحسنات مستحقون ، ولعقابه بالسيئات مستوجبون ، ولعفوه برحمته منتظرون ، والله خبيرٌ بما يعملون ، وبصير بما يسرون وما يعلنون مع الجماعة ، وأبو سليمان يقول : العرب أذهب مع صفو العقل ؛ ولذلك هم بذكر المحاسن أبده ، وعن أضدادها أنزه . ولو كانت رويتهم في وزن بديهتهم ، كان الكمال ؛ ولكن لما عز الكمال فيهم ، عز أيضاً في غيرهم من الأمم ، فالأمم كلها شرعٌ واحد في عدم الكمال إلا أنهم متفاضلون بعد هذا فيما نالوه بالخلقة الأولى ، وبالاختيار الثاني ؛ واختلفت أبصارهم في هذا الموضع ، فأما ما منعه الإنسان في الأول فلا عتب عليه فيه ، لأنه لا يقال للأعمى : لم لا تكون بصيراً ، ولا يقال للطويل : لم لا تكون قصيراً وقد يقال للقصير : سدد طرفك ، واكحل عينك ، ومد ناظرك ؛ كما يقال للطويل : تطامن ، في هذا الزقاق حتى تدخل ، وتقاصر حتى تصل ؛ وأما ما لم يمنعه الإنسان في الأول ، بل أعطيه ووهب له ، فهو فيه مطلبٌ بما عليه وله كما أنه مطالب بما له وعليه . وقال الجيهاني أيضاً : ليس للعرب كتاب إقليدس ولا المجسطي ولا الموسيقي ولا كتاب الفلاحة ، ولا الطب ولا العلاج ، ولا ما يجري في مصالح الأبدان ، ويدخل في خواص الأنفس . فليعلم الجيهاني أن هذا كله لهم بنوعٍ إلهي لا بنوع بشري ، كما أن هذا كله لغيرهمبنوعٍ بشري لا بنوعٍ إلهي ، وأعني بالإلهي والبشري الطباعي والصناعي ؛ على أن إلهي هؤلاء قد مازجه بشرى هؤلاء ، وبشرى هؤلاء قد شابه إلهي هؤلاء ؛ ولو علم هذا الزاري لعلم أن المجسطي وما ذكره ليس للفرس أيضاً ، وما عندي أنه مكابر فيدعي هذا لهم . فإن قال : هو لليونان ، ويونان من العجم ، والفرس من العجم ، فأنا أخرج هذه الفضيلة من العجم إلى العجم فهذا منه حيفٌ على نفسه ، وشهادةٌ على نقصه ؛ لأنه لو فاخر يونان لم يستطع أن يدعي هذا الفرس ، ولا يمكنه أن يقول : نحن أيضاً عجم ، وفضيلتكم في هذه الكتب والصناعة متصلةٌ بنا ، وراجعةٌ إلينا . ومتى قال جبه بالمكروه وقوبل بالقذع ، وقيل له : صه ، كما يقال للجاهل - إن لم تقل له : اخسأ ، كما يقال - في كل الأحاديث ، وإن أغفلته ظلمت نفسي ؛ ومن حابى خصمه غلب . قال القاضي أبو حامد المروروذي : لو كانت الفضائل كلها بعقدها وسمطها ، ونظمها ونثرها ، مجموعةً للفرس ، ومصبوبةً على أرؤسهم ، ومعلقةً بآذانهم ، وطالعةً من جباههم ؛ لكان لا ينبغي أن يذكروا شأنها ، وأن يخرسوا عن دقها وجلها ، مع نيكهم الأمهات والأخوات والبنات فإن هذا شر كريهٌ بالطباع ، وضعيف بالسماع ، ومردود عند كل ذي فطرة سليمة ، ومستبشع في نفس كل من له جبلة معتدلة . قال : ومن تمام طغيانهم ، وشدة بهتانهم ، أنهم زعموا أن هذا بإذن من الله تعالى ، وبشريعة أتت من عند الله ، والله تعالى حرم الخبائث من المطعومات فكيف حلل الخبائث من المنكوحات ؟ قال : وكذب القوم ، لم يكن زرادشت نبياً ، ولو كان نبياً لذكره اللهتعالى في عرض الأنبياء الذين نوه بأسمائهم وردد ذكرهم في كتابه ، ولذلك قال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : ' سنوا بهم سنة أهل الكتاب ' لأنه لا كتاب لهم من عند الله منزل على مبلغ عنه . وإنما هو خرافة خدعهم بها زرادشت بقوة الملك الذي قبل ذلك منه وحمل الناس عليه طوعاً وكرهاً ، وترغيباً وترهيباً ؛ وكيف يبعث الله نبياً يدعو إلى إلهين اثنين ؟ وهذا مستحيل بالعقل ، وما خلق الله العقل إلا ليشهد بالحق للمحق والباطل للمبطل ؛ ولو كان شرعاً لكان ذلك شائعاً عند أهل الكتابين ، أعني اليهود والنصارى ؛ وكذلك عند الصابئين ، وهم كانوا أكثر الناس عنايةً بالأديان والبحث عنها ، والتوصل إلى معرفة حقائقها ، ليكونوا من دينهم على ثقة ؛ فكيف صارت النصارى تعرف عيسى ، واليهود تعرف موسى ؛ ومحمدٌ ( صلى الله عليه وسلم ) يذكرهما ويذكر غيرهما ، كداود وسليمان ويحيى وزكريا ، وغير هؤلاء ، ولا يذكر زرادشت بالنبوة وأنه جاء من عند الله تعالى بالصدق والحق كما جاء موسى وعيسى . . . . لكني بعثت ناسخاً لكل شريعة ، ومجدداً لشريعة خصني الله بها من بين العرب . قال : وهذا بيانٌ نافع في كذبهم ؛ وإنما جاءوا إلى وهيٍ فرقعوه ، وإلى حرامٍ بالعقل فأباحوه ، وإلى خبيثٍ بالطبع فارتكبوه وإلى قبيحٍ في العادة فاستحسنوه . وقد وجدنا في البهائم ما إذا أنزى الفحل منها على أمة لم يطاوع ، وإذا أكره وخدم وعرض غضب على أهله وند عنهم ، وشرر عليهم ؛ فما تقول في خلق لا ترضاه البهيمة ، ولا تطاوعه فيه الطبيعة ، بل يأباه حسه مع كلولة وتبرد شهوته مع اشتعالها ، ويرضاه هؤلاء القوم مع عجبهم بعقولهم ، وكبرهم في أنفسهم . ولو كان زرادشت أقام لهم على هذه الخصلة اللئيمة والفعلة الذميمة كل آية وكل برهان ، ونثر عليهم نجوم السماء ، وأطلع لهم الشمس من المغرب ، وفتت لهم الجبال ، وغيض لهم البحار ، وأراهم الثريا تمشي على الأرض تخترق السكك وتشهد له بالصدق ، لكان من الواجب بالعقل وبالغيرة وبالحميةوبالأنفة وبالتقزز وبالتعزز ألا يجيبوه إلى ذلك ، ويشكوا في كل آية يرون منه ، ويقتلوه ، وينكلوا به . ولكن بمثل هذا العقل قبلوا من مزدك ما قبلوه مرة ، ولو عاملوا زرادشت بما عاملوا به مزدك ما كان الأمر إلا واحداً ، ولا كان الحق إلا منصوراً ، ولا كان الباطل إلا مقهوراً ، ولكن اتفق على مزدك ملك عاقل فوضع باطله ، واتفق لزرادشت ملك ركيك فرفع باطله ؛ وما نزع الله عنهم الملك إلا بالحق ، كما قال تعالى : ' فلما آسفونا انتقمنا منهم ' . ثم قال : وبعد ، فكل شيء خارجٍ من الحكمة الإلهية والعقلية والطبيعية فهو ساقطٌ بهرج ، ومردودٌ مرذول ، إذا فعله جاهل عذر بالجهل ، وإذا أتاه عالم عذل للعلم . قال : وكانت العرب بهذا الخلق الذميم ، وهذا الفعل اللئيم ، لو فعلته أعذر ، لأنهم أشد غلمة من غيرهم وأكثر تهيجاً ، وأقوى على البضاع ، وأوثب على النساءئ يدلك على هذا غزلهم وعشقهم ونظمهم ونثرهم وفراغهم وشهوتهم ، وتراهم مع هذه الدواعي والبواعث لم يستحسنوا هذا ولم يفعلوه ، ولو أكرههم على هذا مكره ودعاهم إليه داع لما أطاعوه ، ولذلك لم ينجم منهم ناجم بالحيلة فدعا إلى هذا ؛ ولو كان لكان أول من دق رأسه بالعمد ، وبعج بطنه بالخنجر ؛ وما منعهم من هذا إلا الأنفس الكريمة ، والطباع المعتدلة ، والشكائم الشديدة ، والأرواح العيفة ، والعادات الرضية ، والضرائب الطيبة ؛ وكان وأد البنات عندهم أنفى للمعاير ، وأطرد للقبائح من هذا الذي استحسنه زرادشت وقبل منه الفرس ، وهم يدعون الحكم والعلم والحزم والعزم ، ولفرط جهلهم وغلبة شهوتهم غفلوا عما يجوز أن يكون الله سبحانه مبيحاً له أو حاظراً ، أو مطلقاً أو مانعاً ، أو محللاً أو محرماً ؛ هيهات ما كلف الله أهل العقل القيام بالدين والتصفح للحق من الباطل إلا لما شرفهم به في العاجل ، وعرضهم له في الآجل ؛ والعاقبة للمتقين .قال أبو الحسن الأنصاري - وكان حاضراً - الهند أوضح عذراً في هذا الحديث لأنهم جعلوه من باب القربة في بيوت الأصنام ، وبلغوا مرادهم بهذه الخديعة ، ولم ينسبوا إلى الله شيئاً منه ، ولا استجازوا الكذب عليه ، ولا علقوه أيضاً على نبي من عند الله ، بل رأوه صواباً بالوضع ثم طابت أنفسهم من هذا الفعل بالمران والعادة . وبعد ؛ فعقولهم مدخولة ، والبارع منهم قليل ، وهم إلى الإفك والوهم والسحر أميل ، وفي أبوابها أدخل ؛ ثم قال أبو الحسن : انظر إلى جهل زرادشت في هذا الحكم وإلى ضعف عقول الفرس في قبولهم منه هذا الفعل ، وخير بينها وبين عقول العرب ، فإنهم قالوا : اغتربوا لا تضووا . واستفاض هذا منهم حتى سمع من صاحب الشريعة ( صلى الله عليه وسلم ) ، وذلك أن الضوى مكروه ؛ والعرب قالت هذا بالإلهام ، لقرائحهم الصافية ، وأذهانهم الواقدة ، وطينتهم الحرة ، وأعراقهم الكريمة ، وعاداتهم السليمة : وإنما شعروا بهذا لأن الضوى الواصل إلى الأبدان هو سارٍ في العقول ، ولكن الفرس عن هذا السر غافلون ، ولا يفطن لهذا وأمثاله إلا الألمعيون الأحوذيون ؛ ثم قال : أنشد الأصمعي عن العرب قول قائلهم في مدح صاحب له : فتىً لم تلده بنت عمٍ قريبةٌ . . . فيضوى وقد يضوى رديد الأقارب قال : وقالت العرب : أضواه حقه : إذا نقصه . قال : وقال آخر لولده : والله لقد كفيتك الضؤولة ، واخترت لك الخؤولة . وقال أيضاً : العرب تقول : ليس أضوى من القرائب ، ولا أنجب من الغرائب . وقال الشاعر : أنذرت من كان بعيد الهم . . . تزويج أولاد بنات العم ليس بناجٍ من ضوى أو سقم . . . وأنت إن أطعمته لا ينمى وقال الأسدي يفتخر :ولست بضاويٍ تموج عظامه . . . ولادته في خالد بعد خالد تردد حتى عمه خال أمه . . . إلى نسب أدنى من السر واحد ثم قال : والعرب لم ترد بهذا إلا نقص الذهن والعقل ، لأنها لو أرادت نقصان الجسم لكانت مخطئة ، لأنهم يريدون سمانة الجسم مع السلامة والصلابة . ثم قال : وعلى هذا طباع الأرض ، ولذلك يقال : إذا كثرت المؤتفكات زكت الأرض ، لأن الرياح إذا اختلفت حولت تراب أرضٍ إلى أرض ، وإذا كان الاغتراب يؤثر من التراب إلى التراب ، فبالحري أن يؤثر الإنسان في الإنسان بالاغتراب ، لأن الإنسان أيضاً من التراب . قال أبو حامد : فما ظنك بقوم يجهلون آثار الطبيعة ، وأسرار الشريعة ؟ ما أذلهم الله باطلاً ، ولا سلبهم ملكهم ظالماً ، ولا ضربهم بالخزي والمهانة إلا جزاءً على سيرتهم القبيحة ، وكذبهم على الله بالجرأة والمكابرة ، وما الله بظلام للعبيد . فلما بلغ القول مداه قال : لله در هذا النفس الطويل والنفث الغزير لقد كنت قرماً إلى هذا النوع من الكلام ، ففرغ نفسك لرسمه في جزء لأنظر فيه ، وأشرب النفس حلاوته ، وأستنتج العقيم منه ؛ فإن الكلام إذا مر بالسمع حلق ، وإذا شارفه البصر بالقراءة من كتاب أسف ؛ والمحلق بعيد المنال ، والمسف حاضر العين ، والمسموع إذا لم يملكه الحفظ تذكر منه الشيء بعد الشي بالوهم الذي لا انعقاد له ، والخيال الذي لا معرج عليه . فقلت : أفعل سامعاً مطيعاً - إن شاء الله - .الليلة السابعة
ولما عدت إليه في مجلس آخر ، قال : سمعت صياحك اليوم في الدار مع ابن عبيد ، ففيم كنتما ؟ قلت : كان يذكر أن كتابه الحساب أنفع وأفضل وأعلق بالملك ، والسلطان إليه أحوج ، وهو بها أغنى من كتابة البلاغة والإنشاء والتحرير ، فإذا الكتابة الأولى جد ، والأخرى هزل ؛ ألا ترى أن التشادق والتفهيق والكذب والخداع فيها أكثر ؛ وليس كذلك الحساب والتحصيل والاستدراك والتفصيل . قال : وبعد هذا فتلك صناعةٌ معروفة بالمبدأ ، موصولةٌ بالغاية ، حاضرة الجدوى ، سريعة المنفعة ؛ والبلاغة زخرفة وحيلة ، وهي شبيهة بالسراب ، كما أن الأخرى شبيهة بالماء . قال : ومن خساسة البلاغة أن أصحابها يسترقعون ويستحمقون ؛ وكان الكتاب قديماً في دور الخلفاء ومجالس الوزراء يقولون : اللهم إنا نعوذ بك من رقاعة المنشئين ، وحماقة المعلمين ، وركاكة النحويين ، والمنشىء والمعلم والنحوي إخوة وإن كانوا لعلات ؛ والآفة تشملهم والعادة تجمعهم ، والنقص يغمرهم ، وإن اختلفت منازلهم ، وتباينت أحوالهم . قال : ولو لم يكن من صنعة الإنشاء إلا أن المملكة العريضة الواسعة يكتفى فيها بمنشىء واحد ، ولا يكتفى فيها بمائة كاتب حساب . . . . وإذا كانت الحاجة إلى هذه أمس ، كانت الأخرى في نفسها أخس ؛ وبعد ، فمصالح أحوال العامة والخاصة معلقة بالحساب ؛ على هذه الجديلة والوتيرة يجري الصغار والكبار والعلية والسفلة ، وما زال أهل الحزم والتجارب يحثون أولادهم ومن لهم به عناية على تعلم الحساب ، ويقولون لهم : هو سلة الخبز . وهذا كلام مستفيض ؛ ومن عبر عما في نفسه بلفظ ملحونٍ أو محرف أو موضوع غير موضعه وأفهم غيره ، وبلغ به إرادته ، وأبلغ غيره ، فقد كفى ؛ والزائد على الكفاية فضل والفضل يستغنى عنه كثيراً ، والأصل يفتقر إليه شديداً ،قال : ومن آفات هذه الكتابة أن أصحابها يقرفون بالريبة ، ويرمون بالآفة ، كآل الحسن بن وهب وآل ابن ثوابة . قال : هذه ملحمة منكرة ؛ فما كان من الجواب ؟ قلت : ما قام من مجلسه إلا بعد الذل والقماءة ، وهكذا يكون حال من عاب القمر بالكلف ، والشمس بالكسوف ، وانتحل الباطل ونصر المبطل ، وأبطل الحق وزرى على المحق . قلت : أيها الرجل ، قولك هذا كان يسلم لو كان الإنشاء والتحرير والبلاغة بائنةً من صناعة الحساب والتحصيل والاستدراك وعمل الجماعة وعقد المؤامرة . فأما وهي متصلة بها وداخلة في جملتها ومشتملة عليها وحاوية لها ، فكيف يطرد حكمك وتسلم دعواك ؟ ألا تعلم أن أعمال الدواوين التي ينفرد أصحابها فيها بعمل الحساب فقيرة في إنشاء الكتب في فنون ما يصفونه ويتعاطونه ؛ بل لا سبيل لهم إلى العمل إلا بعد تقدمة هذه الكتب التي مدارها على الإفهام البليغ والبيان المكشوف والاحتجاج الواضح ، وذلك يوجد من الكاتب المنشىء الذي عبته وعضضته ، وهذه الدواوين معروفة ، والأعمال فيها موصوفة ؛ وأنا أحصيها لك كي تعلم أنك غالط وعن الصواب فيها منحرف . فمنها ديوان الجيش ، وديوان بيت المال ، وديوان التوقيع والدار ، وديوان الخاتم ، وديوان الفض ، وديوان النقد والعيار ودور الضرب ، وديوان المظالم وديوان الشرطة والأحداث ؛ هذا إلى توابع هذه الدواوين مثل باب العين والمؤامرات ، وباب النوادر والتواريخ ، وإدراة الكتب ومجالس الديوان وقبل وبعد ، كما يلزم كاتب الحساب أن يعرف وجوه الأموال حتى إذا جباها وحصلها عمل الحساب أعماله فيها ، فلايمكنه أن يجبي إلا بالكتب البليغة والحجج اللازمة واللطائف المستعملة ، ومن تلك الوجوه الفيء ، وهو أرض العنوة وأرض الصلح وإحياء الأرض والقطائع والصفايا والمقاسمة والوضائع وجزية رءوس أهل الذمة وصدقات الإبل والبقر والغنم وأخماس الغنائم والمعادن والركاز والمال المدفون ، وما يخرج من البحر وما يؤخذ من التجار إذا مروا بالعاشر واللقطة والضالة وميراث من لا وارث له ومال الصدقة ؛ إلى غير ذلك من الأمور المحتاجة إلى المكاتبات البالغة على الرسوم المعتادة والعادات الجارية ، كعهد ينشأ في إصلاح البريد وتقسيط الشرب ، وكتاب في العمارة وإعادة ما نقص منها ، وفي حزر الغلة والدياس ، وفي الدوالي والدواليب والغرافات ، وفي القلب والقسمة ، وفي تقدير الخضر المبكرة وفي المساحة وفي الطراز ، وفي الجوالي ، وفي قبض فرائض الصدقات ، وفي افتتاح الخراجات ، إلى غير ذلك من كتب المحاسبين . فإن قلت : هذا كله مستغنىً عنه كابرت وبهت ، لأن مدار المال ودروره ، وزيادته ووفوره على هذه الدواوين التي إما أن يكون حظ البلاغة فيها أكثر ، وإما أن يكون أثر الحساب فيها أظهر ، وإما أن يتكافآ ؛ فعلى جميع الأحوال لا يكون الكاتب كاملاً ، ولا لاسمه مستحقاً ، إلا بعد أن ينهض بهذه الأثقال ، ويجمع إليها أصولاً من للفقه مخلوطةبفروعها ، وآيات من القرآن مضمومةً إلى سعته فيها ، وأخباراً كثيرة مختلفة في فنون شتى لتكون عدة عند الحاجة إليها ، مع الأمثال السائرة والأبيات النادرة ؛ والفقر البديعة ؛ والتجارب المعهودة ، والمجالس المشهودة ، مع خط كتبر مسبوك ، ولفظٍ كوشيٍ محوك ؛ ولهاذ عز الكامل في هذه الصناعة ، حتى قال أصحابنا : ما نظن أنه اجتمع هذا كله إلا لجعفربن يحيى فإن كتابته كانت سودايةً ، وبلاغته سحبانيةً ، وسياسته يونانية ، وآدابه عربية ، وشمائله عراقية ؛ أفلا يرى كيف غرق الحساب في غمار هذه الأبواب ؟ ثم اعلم أن البليغ مشتملٍ بلاغته من العقل ، ومأخذه فيها من التمييز الصحيح ، وليس كذلك الحساب في متناوله فلو ظن ظان بأن مدار الملك على الحساب - فهو صحيح - ولكن بعد بلاغة المنشىء ، لأن السلطان يأمر وينهى ويلاطف ويخاطب ويحتج وينصف ويوعد ويعد ويضمن ويمني ويعلق الأمل ويؤكد الرجاء ويحسم المادة الضارة ويذيق الرعية حلاوة العدل ويجنبهم مرارة الجور ، ثم يجبي ، فإذا جبى احتاج إلى الحساب حتى يكون بالحاصل عالماً ، ثم يتقدم بتوزيع ذلك على الحساب حتى يكون من الغلط آمناً ، فانظر إلى المنزلتين كيف اختلفتا ؟ وكيف حصلت المزية لإحداهما ؛ ولو أنصفت لعلمت أن الصناعة جامعة بين الأمرين ، أعني الحساب والبلاغة ؛ والإنسان لا يأتي إلا صناعة فيشقها نصفين ويشرف أحد النصفين على الآخر . وأما قولك : إحدى الصناعتين هزلٌ والأخرى جد فبئسما سولت لك نفسك على البلاغة ، هي الجد ، وهي الجامعة لثمرات العقل ، لأنها تحق الحق وتبطل الباطل على ما يجب أن يكون الأمر عليه ؛ ثم تحقيق الباطل وإبطال الحق لأغراض تختلف ، وأغراض تأتلف ، وأمورٍ لا تخلو أحوال هذه الدنيا منها من خير وشر ، وإباءٍ وإذعان ، وطاعةٍوعصيان ، وعدلٍ وعدول ، وكفر وإيمان ، والحاجة تدعو إلى صانع البلاغة وواضع الحكمة وصاحب البيان والخطابة ؛ وهذا هو حد العقل والآخر حد العمل . وأما قولك : الإنشاء صناعة مجهولة المبدأ ، والحساب معروف المبدأ فقد خرفت ، لأن مبدأها من العقل ، وممرها على اللفظ ، وقرارها في الخط ؛ وأنت إذا قلت هذا دللت من نفسك على أنه ليس لك ما تبصر به هذا المبدأ الشريف وهذا الأول اللطيف . وأما قولك : والبلاغة زخرفة وهي شبيهة بالسراب فقد أوضحنا لك فيه ما كفى ، فإن لم يكف فأنت محتاج إلى بينة أخرى . وأما قولك : إن أصحابها يسترقعون فهذا شنعٌ من القول ، ولو عرفت الصدق فيه لم تنبس به ولم تنطق بحرف منه ، فإن فيه زرايةً على السلف الصالح والصدر الأول ، ولو وجب أن يسترقع البليغ إذا كان عاقلاً ، لوجب أن يستعقل العيي إذا كان أحمق ؛ وهذا خلف . وأما قولك : المنشىء والمعلم والنحوي إخوة في الركاكة فيما يتعلم الناس إلا من المعلم والعالم والنحوي وإن ندر منهم واحد قليل البضاعة من الحق . وأما قولك : إن المملكة تكتفي بمنشىء واحد فقد صدقت ، وذلك أن هذا الواحد في قوته يفي بآحاد كثيرة ، وهؤلاء الآحاد ليس في جميعهم وفاء بهذا الواحد ، وهذا عليك لا لك . لكن بقي أن تفهم أنك محتاج إلى الأساكفة أكثر مما تحتاج إلى العطارين ، ولا يدل هذا على أن الإسكاف أشرف من العطار ، والعطار دون الإسكاف ؛ والأطباء أقل من الخياطين ، ونحن إليهم أحوج ، ولا يدل على أن الطبيب دون الخياط .وأما قولك : ما زال الناس يحثون أولادهم على تعلم الحساب ويقولون : هو سلة الخبز فهو كما قلت ، لأن الحاجة إليه عامة للكابر والصغار ؛ وأشرف الصناعات يحتاج إليها أشرف الناس ، وأشرف الناس الملك ، فهو محتاج إلى البليغ والمنشىء والمحرر ، لأنهلسانه الذي به ينطق ، وعينه التي بها يبصر ، وعيبته التي منها يستخرج الرأي ويستبصر في الأمر ، ولأنه بهذه الخاصة لا يجوز أن يكون له شريك ، لأنه حامل الأسرار ، والمحدث بالمكنونات ، والمفضي إليه ببنات الصدور . وأما قولك : من عبر عما في نفسه بلفظ ملحون أو محرف وأفهم غيره فقد كفى فكيف يصح هذا الحكم ويقبل هذا الرأي ؟ والكلام يتغير المراد فيه باختلاف الإعراب ، كما يتغير الحكم فيه باختلاف الأسماء ، وكما يتغير المفهوم باختلاف الأفعال ؛ وكما ينقلب المعنى باختلاف الحروف ؛ ولقد قال رجل بالري كان نبيلاً في حاله جليلاً في مرتبته عظيماً عند نفسه : اقعد حتى تتغذى بنا . وهو يريد : حتى نتغذى معنا ؛ فانظر إلى هذا المحال الذي ركبه بلفظه وإلى المراد الذي جانبه بجهله ؛ ولهذا نظائر غير خافية عليك ولا ساقطةٍ دونك وكفى بالبلاغة شرفاً أنك لم تستطع تهجينها إلا بالبلاغة ، ولم تهتد إلى الكلام عليها إلا بوتها ؛ فانظر كيف وجدت في استقلالها بنفسها ما يقلها ويقل غيرها ؛ وهذا أمر بديع وشأنٌ عجيب . وأما قولك : ومن آفاتها أن أصحابها يقرفون بالريبة وينالون بالعيب فهذا ما لا يستحق الجواب ، وما يضر الشمس نباح الكلاب ؛ وصيانة اللسان عن هذا النوع أحسن ؛ قال الله تعالى : ' وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاماً ' ؛ وقال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - لو كان المرء أقوم من قدحٍ لوجد له غامر . وآل ابن وهب وابن ثوابة كانوا أنبل وأفضل وأعقل من أن يظن بهم ما لا يظن بخساس العبيد وسفهاء الناس وداصة الرعية وسفلة العامة ؛ على أنا ما سمعنا هذا إلا في مجلس ابن عباد ، منه وممن كان يخبط في هواه ، ويتحرى بمثل هذه الأحاديث رضاه ؛ وحسده لهم في صناعتهم يبعثه على هذه الأكاذيب عليهم ؛ فالعجب أنه يظن أن كذبه إلى غيره ينفي الصدق عن نفسه ؛ ولونزه لسانه ومجلسه ومذهبه أبوته لكان أولى به وأزين له ، ولكن النعمة والقدرة إذا عدمتا عقلاً سائساً وحزماً حارساً وديناً متيناً وطريقاً قويماً أوردتا ولم تصدرا وخذلتا ولم تنصرا ؛ ونعوذ بالله من نعمة تحوز بلاءً ، ومرحباً ببلاءٍ يورث يقظة ويكون تمحيصاً لما نقص من التقصير ؛ ولكن من هذا الذي يشرب فلا يسكر ولا يثمل ؟ ومن هذا الذي إذا سكر عقل ؟ ومن هذا الذي إذا صحا لا يعتقب من رابه خماراً يصدع الرأس ويمكن الوسواس ؟ فقال : هذه جملة قامعة لمن ادعى دعواه أو نحا منحاه ؛ وأنى لك هذا ؟ لم لا تداخل صاحب ديوان ولم ترضى لنفسك بهذا اللبوس ؟ فقلت : أنا رجلٌ حب السلامة غالبٌ علي ، والقناعة بالطفيف محبوبة عندي . فقال : كنيت عن الكسل بحب السلامة ، وعن الفسولة بالرضا باليسير ، قلت : إذا كنت لا أصل إلى السلامة إلا بالفسولة ، ولا أتطعم الراحة إلا بالكسل ، فمرحباً بهما . فقال : لكل إنسان رأيٌ واختيار وعادة ومنشأ ومألوف وقرناء متى زحزح عنها قلق ، ومتى أريغ على سواها فرق ؛ أظن أنه قد نصف الليل . قلت : لعله . قال : في الدعة ؛ قد خبأت لك مسألة ، وسألقيها عليك بعدها - إن شاء الله تعالى - وانصرفت .
الليلة الثامنة
وقال لي مرة أخرى : أوصل وهب بن يعيش الرقي اليهودي رسالةً يقول في عرضها بعد التقريظ الطويل العريض : إن هنا طريقاً في إدراك الفلسفة مذللةً مسلوكةً مختصرة فسيحة ، ليس على سالكها كد ولا شق في بلوغ ما يريد من الحكمة ونيل ما يطلب من السعادة وتحصيل الفوز في العاقبة ؛ وإن أصحابنا طولوا وهولوا وطرحوا الشوك في الطريق ، ومنعوا من الجواز عليه غشاً منهم وبخلاً ولؤم طباع وقلة نصح وإتعاباً للطالبوحسداً للراغب ، وذلك أنهم اتخذوا المنطق والهندسة وما دخل فيهما معيشةً ومكسبة ، ومأكلة ومشربة ، فصار ذلك كسور من حديد لطلاب الحكمة والمحبين للحقيقة والمتصفحين لأثناء العالم وكلاماً هذا معناه ، وإلى هذا يرجع مغزاه . فكان من الجواب : قد عرفت مذهب ابن يعيش في هذا الباب ، وهو جاري ، وكتب هذه الرسالة على هذا الطراز بالأمس إلى الملك السعيد سنة سبعين ، وتقرب بها ، ونفعته بالمسألة والتفقد له ، فإنه شديد الفقر ، ظاهر الخصاصة ، لاصق بالدقعاء ؛ وللذي قاله وادعاه ، وقصده وانتحاه ، وجه واضح وحجة ظاهرة ؛ وللذي قاله أصحابنا - أعني مخالفيه - وجهٌ أيضاً وتأويل وللقولين أنصار وحماة ، وحفظة ورعاة . قال : هات - على بركة الله - فإني أحب أن أسمع في هذا الخطب كل ما فيه وأكثر ما يتصل به ؛ فكان من الجواب أن ابن يعيش يريد بهذه الخطبة أن عمر الإنسان قصير ، وعلم العالم كثير ، وسره مغمور ؛ وكيف لا يكون كذلك وهو ذو صفائح مركبة بالوضع المحكم ، وذو نضائد مزينة بالتأليف المعجب المتقن ؛ والإنسان الباحث عنه وعما يحتويه ذو قوى متقاصرة ، وموانع معترضة ، ودواعٍ ضعيفة ، وإنه مع هذه الأحوال منتبه بالحس ، حالمٌ بالعقل ، عاشقٌ للشاهد ، ذاهل عن الغائب ، مستأنسٌ بالوطن الذي ألفه ونشأ فيه ، مستوحشٌ من بلد لم يسافر إليه ولم يلم به وإن كان صدر عنه ، فليس له بذلك معرفة باقية ولا ثقةٌ تامة ، وإن الأولى بهذا الإنسان المنعوت بهذا الضعف والعجز أن يلتمس مسلكاً إلى سعادته ونجاته قريباً ويعتصم بأسهل الأسباب على قدر جهده وطوقه ؛ وإن أقرب الطرق وأسهل الأسباب هو في معرفة الطبيعة والنفس والعقل والإله تعالى ، فإنه متى عرف هذه الجملة بالتفصيل ، واطلع على هذا التفصيل بالجملة ، فقد فاز الفوز الأكبر ونال الملكالأعظم ، وكفى مؤونة عظيمة في قراءة الكتب الكبار ذوات الورق الكثير ، مع العناء المتصل في الدرس والتصحيح والنصب في المسألة والجواب ، والتنقير عن الحق والصواب ؛ وهذا الذي قاله ابن يعيش ليس بحيف ولا خارجٍ عن حومة الحق ، وإن كان الأمر فيه أيضاً صعباً وشاقاً وهائلاً وعاملاً ، ولكن ليس لكل أحد هذه القوة الفائضة ، وهذه الخصوصية الناهضة ؛ وهذا الاستبصار الحسن ، وهذا الطبع الوقاد ، والذهن المنقاد ، والقريحة الصافية والاستبانة والتأمل ، لأن هذه القوة إلهية ، فإن لم تكن إلهية فهي ملكية ؛ وإن لم تكن ملكية فهي في أفق البشرية ؛ وليس يوجد صاحب هذا النعت إلا في الشاذ النادر ، وفي دهر مديدٍ بين أمة جمة العدد ؛ والفائق من كل شيء والبائن من كل صنف عزيزٌ في هذا العالم الوحشي ، كما أن الرديء والفاسد معدوم في هذا العالم الإلهي ، ويمكن أن يقال بالمثل الأدنى : إن من يتكلم بالإعراب والصحة ولا يلحن ولا يخطىء ويجري على السليقة الحميدة والضريبة السليمة ، قليل أو عزيز ، وإن الحاجة شديدة لمن عدم هذه السجية وهذا المنشأ إلى أن يتعلم النحو ويقف على أحكامه ، ويجري على منهاجه ، ويفي بضروطه في أسماء العرب وأفعالها وحروفها وموضوعاتها ومستعملاتها ومهملاتها ؛ ومتى اتفق إنسانٌ بهذه الحلية وعلى هذا النجار ، فلعمري إنه غني عن تطويل النحويين كما يستغني قارض الشعر بالطبع عن علم العروض ، وهكذا يستغني صاحب تلك القوة التي أشار إليها ابن يعيش عن ذلك ، ولكن أين ذاك الفرد والشاذ والنادر ؟ فإن حضر فما تفعل معه إلا أن تقلده وتأخذ عنه وتتبعه . وإنما المدار على أن تكون أنت بهذا الكمال حائزاً لهذه الغاية ، ولا سبيل لك إليها من تلقاء نفسك ، وإنما هو شيء يأتي من تلقاء غيرك ، فإذن بالضرورة وبالواجب ينبغي أن تخطو على آثار المنطقيين والطبيعيين والمهندسين بالزحف والعناء والتكلف الدءوب حتى تصير متشبهاً بذلك الرجل الفاضل والواحد الكامل والبديع النادر ؛ فقد بان من هذا القدر صواب ما أشار إليه ابن يعيش وانكشف أيضاً وجه ما حث عليه مخالفوه ؛ ولا عيب علىالمنقوص أن يطلب الزيادة ببذل المجهود ، وإن الكامل مربوط بما منح من العطية من غير طلب . وأما قوله في صدر كلامه : إن القوم صدوا عن الطريق وطرحوا الشوك فيه ، واتخذوا نشر الحكمة فخاً للمثالة العاجلة ، فما أبعد ، بل قارب الحق فإن متى كان يملي ورقةً بدرهم مقتدريٍ وهو سكران لا يعقل ، ويتهكم ، وعنده أنه في ربح ، وهو من الأخسرين أعمالاً ، الأسفلين أحوالاً . ثم إني أيها الشيخ - أحياك الله لأهل العلم وأحيى بط طالبيه - ذكرت للوزير مناظرةً جرت في مجلس الوزير أبي الفتح الفضل بن جعفر بن الفرات بين أبي سعيد وأبي بشر متى واختصرتها ؛ فقال لي : اكتب هذه المناظرة على التمام فإن شيئاً يجري في ذلك المجلس النبيه بين هذين الشيخين بحضرة أولئك الأعلام ينبغي أن يغتنم سماعه ، وتوعى فوائده ، ولا يتهاون بشيء منه . فكتبت : حدثني أبو سعيد بلمع من هذه القصة . فأما علي بن عيسى الشيخ الصالح فإنه رواها مشروحة . لما انعقد المجلس سنة ست وعشرين وثلاثمائة ، قال الوزير ابن الفرات للجماعة - وفيهم الخالدي وابن الأخشاد والكتبي وابن أبي بشر وابن رباح وابن كعب وأبو عمرو قدامة بن جعفر والزهري وعلي بن عيسى الجراح وابن فراس وابن رشيد وابن عبد العززي الهاشمي وابن يحيى العلوي ورسول ابن طغج من مصر والمرزباني صاحب آل سامان - : ألا ينتدب منكم إنسان لمناظرة متى في حديث المنطق ، فإنه يقول : لا سبيل إلى معرفة الحق من الباطل والصدق من الكذب والخير من الشر والحجة من الشبهة والشك من اليقين إلا بما حويناه من المنطق وملكناه من القيام به ، واستفدناه من واضعه على مراتبه وحدوده ، فأطلعنا عليه من جهة اسمه على حقائقه .فأحجم القوم وأطرقوا قال ابن الفرات : والله إن فيكم لمن يفي بكلامه ومناظرته وكسر ما يذهب إليه وإني لأعدكم في العلم بحاراً ، وللدين وأهله أنصاراً ، وللحق وطلابه مناراً ؛ فما هذا الترامز والتغامز اللذان تجلون عنهما ؟ فرفع أبو سعيد السيرافي في رأسه فقال : اعذر أيها الوزير ، فإن العلم المصون في الصدر غير العلم المعروض في هذا المجلس على الأسماع المصيخة والعيون المحدقة والعقول الحادة والألباب الناقدة ؛ لأن هذا يستصحب الهيبة ، والهيبة مكسرة ، ويجتلب الحياء ، والحياء مغلبة ؛ وليس البراز في معركة خاصة كالمصاع في بقعة عامة . فقال ابن الفرات : أنت لها يا أبا سعيد ، فاعتذارك عن غيرك يوجب عليك الانتصار لنفسك ، والانتصار في نفسك راجع إلى الجماعة بفضلك . فقال أبو سعيد : مخالفة الوزير فيما رسمه هجنة ، والاحتجاز عن رأيه إخلاد إلى التقصير ؛ ونعوذ بالله من زلة القدم ، وإياه نسأل حسن المعونة في الحرب والسلم ؛ ثم واجه متى فقال : حدثني عن المنطق ما تعني به ؟ فإنا إذا فهمنا مرادك فيه كان كلامنا معك في قبول صوابه ورد خطئه على سننٍ مرضيٍ وطريقة معروفة . قال متى : أعني به أنه آلة من آلات الكلام يعرف بها صحيح الكلام من سقيمه ، وفاسد المعنى من صالحه ، كالميزان ، فإني أعرف به الرجحان من النقصان ، والشائل من الجانح . فقال أبو سعيد : أخطأت ، لأن صحيح الكلام من سقيمه يعرف بالنظم المألوف والإعراب المعروف إذا كنا نتكلم بالعربية ؛ وفاسد المعنى من صالحه يعرف بالعق إذا كنا نبحث بالعقل ؛ وهبك عرفت الراجح من الناقص من طريق الوزن ، فمنلك بمعرفة الموزون أيما هو حديد أو ذهب أو شبه أو رصاص ؟ فأراك بعد معرفة الوزن فقيراً إلى معرفة جوهر الموزون وإلى معرفة قيمته وسائر صفاته التي يطول عدها ؛ فعلى هذا لم ينفعك الوزن الذي كان عليه اعتمادك ، وفي تحقيقه كان اجتهادك ، إلا نفعاً يسيراً من وجه واحد ، وبقيت عليك وجوه ، فأنت كما قال الأول : حفظت شيئاً وغابت عنك أشياء وبعد ، فقد ذهب عليك شيء هاهنا ، لي كل ما في الدنيا يوزن ، بل فيها ما يوزن ، وفيها ما يكال ، وفيها ما يذرع ، وفيها ما يمسح وفيها ما يحرز وهذا وإن كان هكذا في الأجسام المرئية ، فإنه على ذلك أيضاً في المعقولات المقررة ؛ والإحساسات ظلال العقول تحكيها بالتقريب والتبعيد ، مع الشبه المحفوظ والمماثلة الظاهرة . ودع هذا ؛ إذا كان المنطق وضعه رجل من يونان على لغة أهلها واصطلاحهم عليها وما يتعارفونه بها من رسومها وصفاتها ، فمن أين يلزم الترك والهند والفرس والعرب أن ينظروا فيه ويتخذوه قاضياً وحكماً لهم وعليهم ، ما شهد لهم به قبلوه ، وما أنكره رفضوه ؟ قال متى : إنما لزم ذلك لأن المنطق بحث عن الأغراض المعقولة والمعاني المدركة ، وتصفح للخواطر السانحة والسوانح الهاجسة ؛ والناس في المعقولات سواء ألا ترى أن أربعةً وأربعة ثمانية سواءٌ عند جميع الأمم ، وكذلك ما أشبهه . قال أبو سعيد : لو كانت المطلوبات بالعقل والمذكورات باللفظ ترجع مع شعبهاالمختلفة وطرائقها المتباينة إلى هذه المرتبة البينة في أربعة وأربعة وأنهما ثمانية ، زال الاختلاف وحضر الاتفاق ، ولكن ليس الأمر هكذا ، ولقد موهت بهذا المثال ، ولكم عادة بمثل هذا التمويه ؛ ولكن مع هذا أيضاً إذا كانت الأغراض المعقولة والمعاني المدركة لا يوصل إليها إلا باللغة الجامعة للأسماء والأفعال والحروف ، أفليس قد لزمت الحاجة إلى معرفة اللغة ؟ قال : نعم . قال : أخطأت ، قل في هذا الموضع : بلى . قال : بلى ، أنا أقلدك في مثل هذا . قال : أنت إذاً لست تدعونا إلى علم المنطق ، إنما تدعونا إلى تعلم اللغة اليونانية وأنت لا تعرف لغة يونان ، فكيف صرت تدعونا إلى لغة لا تفي بها ؟ وقد عفت منذ زمان طويل ، وباد أهلها ، وانقرض القوم الذين كانوا يتفاوضون بها ، ويتفاهمون أغراضهم بتصاريفها ؛ على أنك تنقل من السريانية ، فما تقول في معان متحولة بالنقل من لغة يونان إلى لغةٍ أخرى سريانية ، ثم من هذه إلى أخرى عربية ؟ قال متى : يونان وإن بادت مع لغتها ، فإن الترجمة حفظت الأغراض وأدت المعاني ، وأخلصت الحقائق . قال أبو سعيد : إذا سلمنا لك أن الترجمة صدقت وما كذبت ، وقومت وما حرفت ، ووزنت وما جزفت ، وأنها ما التاثت ولا حافت ، ولا نقصت ولا زادت ، ولا قدمت ولا أخرت ، ولا أخلت بمعنى الخاص والعام ولا بأخص الخاص ولا بأعم العام - وإن كان هذا لا يكون ، وليس هو في طبائع اللغات ولا في مقادير المعاني - فكأنك تقول : لا حجة إلا عقول يونان ، ولا برهان إلا ما وضعوه ، ولا حقيقة إلا ما أبرزوه . قال متى : لا ، ولكنهم من بين الأمم أصحاب عناية بالحكمة والبحث عن ظاهر هذا العالم وباطنه ، وعن كل ما يتصل به وينفصل عنه ، وبفضل عنايتهم ظهر ما ظهر وانتشر ما انتشر وفشا ما فشا ونشأ ما نشأ من أنواع العلم وأصناف الصنائع ، ولم نجد هذا لغيرهم .قال أبو سعيد : أخطأت وتعصبت وملت مع الهوى ، فإن علم العالم مبثوث في العالم بين جميع من في العالم ، ولهذا قال القائل : العلم في العالم مبثوث . . . ونحوه العاقل محثوث وكذلك الصناعات مفضوضة على جميع من على جدد الأرض ؛ ولهذا غلب علمٌ في مكان دون علم ، وكثرت صناعة في بقعة دون صناعة ؛ وهذا واضح والزيادة عليه مشغلة ؛ ومع هذا فإنما كان يصح قولك وتسلم دعواك لو كانت يونان معروفةً من بين جميع الأمم بالعصمة الغالبة ، والفطنة الظاهرة ، والبنية المخالفة ، وأنهم لو أرادوا أن يخطئوا لما قدروا ، ولو قصدوا أن يكذبوا ما استطاعوا وأن السكينة نزلت عليهم ، والحق تكفل بهم ، والخطأ تبرأ منهم ؛ والفضائل لصقت بأصولهم وفروعهم ، والرذائل بعدت من جواهرهم وعروقهم ؛ وهذا جهلٌ ممن يظنه بهم ، وعنادٌ ممن يدعيه لهم ؛ بل كانوا كغيرهم من الأمم يصيبون في أشياء ويخطئون في أشياء ، ويعلمون أشياء ويجهلون أشياء ، ويصدقون في أمور ويكذبون في أمور ، ويحسنون في أحوال ويسيئون في أحوال ؛ وليس واضع المنطق يونان بأسرها ، إنما هو رجل منهم ، وقد أخذ عمن قبله كما أخذ عنه من بعده ؛ وليس هو حجةً على هذا الخلق الكثير والجم الغفير ، وله مخالفون منهم ومن غيرهم ؛ ومع هذا فالاختلاف في الرأي والنظر والبحث والمسألة والجواب سنخٌوطبيعة ، فكيف يجوز أن يأتي رجل بشيء يرفع به هذا الخلاف أو يحلحله أو يؤثر فيه ؟ هيهات هذا محال ، ولقد بقي العالم بعد منطقه على ما كان عليه قبل منطقه ؛ فامسح وجهك بالسلوة عن شيء لا يستطاع لأنه منعقد بالفطرة والطباع ؛ وأنت لو فرغت بالك وصرفت عنايتك إلى معرفة هذه اللغة التي تحاورنا بها ، وتجارينا فيها ، وتدارس أصحابك بمفهوم أهلها وتشرح كتب يونان بعادة أصحابها ، لعلمت أنك غني عن معاني يونان كما أنك غني عن لغة يونان . وها هنا مسألة ، تقول : إن الناس عقولهم مختلفة ، وأنصباؤهم منها متفاوتة . قال :نعم . قال : وهذا الاختلاف والتفاوت بالطبيعة أو بالاكتساب ؟ قال : بالطبيعة . قال : فكيف يجوز أن يكون هاهنا شيء يرتفع به هذا الاختلاف الطبيعي والتفاوت الأصلي ؟ قال متى : هذا قد مر في جملة كلامك آنفاً . قال أبو سعيد : فهل وصته بجواب قاطع وبيانٍ ناصع ؟ ودع هذا ؛ أسألك عن حرف واحد ، وهو دائر في كلام العرب ، ومعانيه متميزة عند أهل العقل ؛ فاستخرج أنت معانيه من ناحية منطق أرسطاطاليس الذي تدل به وتباهي بتفخيمه ، وهو الواو ما أحكامه ؟ وكيف مواقعه ؟ وهل هو على وجه أو وجوه ؟ فبهت متى وقال : هذا نحو ، والنحو لم أنظر فيه ، لأنه لا حاجة بالمنطقي إليه ، وبالنحوي حاجة شديدة إلى المنطق ، لأن المنطق يبحث عن المعنى والنحو يبحث عن اللفظ ، فإن مر المنطقي باللفظ فبالعرض ، وإن عثر النحوي بالمعنى فبالعرض والمعنى أشرف من اللفظ ، واللفظ أوضع من المعنى . فقال أبو سعيد : أخطأت ، لأن الكلام والنطق واللغة واللفظ والإفصاح والإعراب والإبانة والحديث والإخبار والاستخبار والعرض والتمني والنهي والحض والدعاء والنداء والطلب كلها من واد واحد بالمشاكلة والمماثلة ، ألا ترى أن رجلاً لو قال : نطق زيد بالحق ولكن ما تكلم بالحق ، وتكلم بالفحش ولكن ما قال الفحش ، وأعرب عن نفسه ولكن ما أفصح ، وأبان المراد ولكن ما أوضح ، أو فاه بحاجته ولكن ما لفظ ، أو أخبر ولكن ما أنبأ ، لكان في جميع هذا محرفاً ومناقضاً وواضعاً للكلام في غير حقه ، ومستعملاً اللفظ على غير شهادة من عقله وعقل غيره ؛ والنحو منطق ولكنه مسلوخ من العربية والمنطق نحو ، ولكنه مفهوم باللغة ، وإنما الخلاف بين اللفظ والمعنى أن اللفظ طبيعي والمعنى عقلي ؛ ولهذا كان اللفظ بائداً على الزمان ، لأن الزمان يقفو أثر الطبيعة بأثرآخر من الطبيعة ولهذا كان المعنى ثابتاً على الزمان ، لأن مستملى المعنى عقل ، والعقل إلهي ؛ ومادة اللفظ طينية ، وكل طيني متهافت ؛ وقد بقيت أنت بلا اسم لصناعتك التي تنتحلها ، وآلتك التي تزهى بها ، إلا أن تستعير من العربية لها اسماً فتعار ، ويسلم لك ذلك بمقدار ؛ وإذا لم يكن لك بد من قليل هذه اللغة من أجل الترجمة فلا بد لك أيضاً من كثيرها من أجل تحقيق الترجمة واجتلاب الثقة والتوقي من الخلة اللاحقة . فقال متى : يكفيني من لغتكم هذا الاسم والفعل والحرف ، فإني أتبلغ بهذا القدر إلى أغراض قد هذبتها لي يونان . قال أبو سعيد : أخطأت ، لأنك في هذا الاسم والفعل والحرف فقير إلى وصفها وبنائها على الترتيب الواقع في غرائز أهلها ؛ وكذلك أنت محتاج بعد هذا إلى حركات هذه الأسماء والأفعال والحروف ، فإن الخطأ والتحريف في الحركات كالخطأ والفساد في المتحركات ، وهذا باب أنت وأصحابك ورهطك عنه في غفلة ؛ على أن ها هنا سراً ما علق بك ، ولا أسفر لعقلك ؛ وهو أن تلعم أن لغة من اللغات لا تطابق لغةً أخرى من جميع جهاتها بحدود صفاتها ، في أسمائها وأفعالها وحروفها وتأليفها وتقديمها وتأخيرها ، واستعارتها وتحقيقها ، وتشديدها وتخفيفها ، وسعتها وضيقها ونظمها ونثرها وسجعها ، ووزنها وميلها ، وغير ذلك مما يطول ذكره ؛ وما أظن أحداً يدفع هذا الحكم أو يشك في صوابه ممن يرجع إلى مسكةٍ من عقل أو نصيبٍ من إنصاف ، فمن أين يجب أن تثق بشيء ترجم لك على هذا الوصف ؟ بل أنت إلى تعرف اللغة العربية أحوج منك إلى تعرف المعاني اليونانية ؛ على أن المعاني لا تكون يونانية ولا هندية ، كما أن اللغات تكون فارسية وعربية وتركية ؛ ومع هذا فإنك تزعم أن المعاني حاصلة بالعقل والفحص والفكر ، فلم يبق إلا أحكام اللغة ، فلم تزري على العربية وأنت تشرح كتب أرسطوطاليس بها ، مع جهلك بحقيقتها ؟وحدثني عن قائل قال لك : حالي في معرفة الحقائق والتصفح لها والبحث عنها حال قومٍ كانوا قبل واضع المنطق ، أنظر كما نظروا ، وأتدبر كما تدبروا ، لأن اللغة قد عرفتها بالمنشأ والوراثة ، والمعاني نقرت عنها بالنظر والرأي والاعتقاب والاجتهاد . ما تقول له ؟ أتقول : إنه لا يصح له هذا الحكم ولا يستتب هذا الأمر ، لأنه لا يعرف هذه الموجودات من الطريق التي عرفتها أنت ؟ ولعلك تفرح بتقليده لك - وإن كان على باطل - أكثر مما تفرح باستبداده وإن كان على حق ؛ وهذا هو الجهل المبين ، والحكم المشين . ومع هذا ، فحدثني عن الواو ما حكمه ؟ فإني أريد أن أبين أن تفخيمك للمنطق لا يغني عنك شيئاً ، وأنت تجهل حرفاً واحداً في اللغة التي تدعو بها إلى حكمة يونان ، ومن جهل حرفاً أمكن أن يجهل حروفاً جاز أن يجهل اللغة بكمالها ، فإن كان لا يجهلها كلها ولكن يجهل بعضها ، فلعله يجهل ما يحتاج إليه ، ولا ينفعه فيه علم ما لا يحتاج إليه . وهذه رتبة العامة أو رتبة من هو فوق العامة بقدر يسير ؛ فلم يتأبى على هذا ويتكبر ، ويتوهم أنه من الخاصة وخاصة الخاصة ، وأنه يعرف سر الكلام وغامض الحكمة وخفي القياس وصحيح البرهان ؟ وإنما سألتك عن معاني حرف واحد ، فكيف لو نثرت عليك الحروف كلها ، وطالبتك بمعانيها ومواضعها التي لها بالحق ، والتي لها بالتجوز ؛ سمعتكم تقولون : إن في لا يعرف النحويون مواقعها ، وإنما يقولون : هي للوعاء كما يقولون : إن الباء للإلصاق ؛ وإن في تقال على وجوه : يقال الشيء في الإناء والإناء في المكان و السائس في السياسة و السياسة في السائس . أترى أن هذا التشقيق هو من عقول يونان ومن ناحية لغتها ؟ ولا يجوز أن يعقل هذا بعقول الهند والترك والعرب ؟ فهذا جهلٌ من كل من يدعيه ، وخطلٌ من القول الذي أفاض فيه ؛ النحوي إذا قال في للوعاء فقد أفصح في الجملة عن المعنى الصحيح ، وكني مع ذلك عن الوجوه التي تظهر بالتفصيل ؛ ومثل هذا كثير ، وهو كافٍ في موضع التكنية .فقال ابن الفرات : أيها الشيخ الموفق ، أجبه بالبيان عن مواقع الواو حتى تكون أشد في إفحامه ، وحقق عند الجماعة ما هو عاجز عنه ، ومع هذا فهو مشنع به . فقال أبو سعيد : للواو وجوه ومواقع : منها معنى العطف في قولك : أكرمت زيداً وعمراً ومنها القسم في قولك : والله لقد كان كذا وكذا ومنها الاستئناف في قولك : خرجت وزيد قائم لأن الكلام بعده ابتداء وخبر ومنها معنى رب التي هي للتقليل نحو قولهم : وقاتم الأعماق خاوي المخترق ومنها أن تكون أصلية في الاسم ، كقولك : واصلٌ واقدٌ وافدٌ ، وفي الفعل كذلك ، كقولك : وجل يوجل ؛ ومنها أن تكون مقحمة نحو قول الله عز وجل : ' فلما أسما وتله للجبين وناديناه ' ، أي ناديناه ؛ ومثله قول الشاعر : فلما أجزنا ساحة الحي وانتحى المعنى : انتحى بنا ؛ ومنها معنى الحال في قوله عز وجل : ' ويكلم الناس في المهد وكهلاً ' أي يكلم الناس في حال كهولته ؛ ومنها أن تكون بمعنى حرف الجر ، كقولك : استوى الماء والخشبة أي مع الخشبة . فقال ابن الفرات : لمتى : يا أبا بشر : أكان هذا في نحوك . ثم قال أبو سعيد : دع هذا ، ها هنا مسألة علاقتها بالمعنى العقلي أكثر من علاقتها بالشكل اللفظي ، ما تقول في قول القائل : زيد أفضل الإخوة ؟ قال : صحيح . قال : فما تقول إن قال زيد أفضل إخوته ؟ قال : صحيح . قال : فما الفرق بينهما مع الصحة فبلح وجنح وغص بريقه .فقال أبو سعيد : أفتيت على غير بصيرة ولا استبانة ؛ المسألة الأولى جوابك عنها صحيح وإن كنت غافلاً عن وجه صحتها ؛ والمسألة الثانية جوابك عنها غير صحيح وإن كنت أيضاً ذاهلاً عن وجه بطلانها . قال متى : بين لي ما هذا التهجين ؟ قال أبو سعيد : إذا حضرت العسة استفدت ، ليس هذا مكان التدريس هو مجلس إزالة التلبيس ، مع من عادته التمويه والتشبيه ؛ والجماعة تعلم أنك أخطأت ، فلم تدعي أن النحوي إنما ينظر في اللفظ دون المعنى ، والمنطقي ينظر في المعنى لا في اللفظ ؟ هذا كان يصح لو أن المنطقي كان يسكت ويجيل فكره في المعاني ، ويرتب ما يريد بالوهم السانح والخاطر العارض والحدس الطارىء ؛ فأما وهو يريغ أن يبرر ما صح له بالاعتبار والتصفح إلى المتعلم والمناظر ، فلابد له من اللفظ الذي يشتمل على مراده ، ويكون طباقاً لغرضه ، وموافقاً لقصده . قال ابن الفرات لأبي سعيد : تمم لنا كلامك في شرح المسألة حتى تكون الفائدة ظاهرةً لأهل المجلس ، والتبكيت عاملاً في نفس أبي بشر . فقال : ما أكره من إيضاح الجواب عن هذه المسألة إلا ملل الوزير ، فإن الكلام إذا طال مل . فقال ابن الفرات : ما رغبت في سماع كلامك وبيني وبين الملل علاقة ؛ فأما الجماعة فحرصها على ذلك ظاهر . فقال أبو سعيد : إذا قلت : زيد أفضل إخوته لم يجز ، وإذا قلت : زيد أفضل الإخوة جاز ؛ والفصل بينهما أن إخوة زيد هم غير زيد ، وزيدٌ خارج عن جملتهم . والدليل على ذلك أنه لو سأل سائل فقال : من إخوة زيد . لم يجز أن تقول : زيد وعمرو وبكر وخالدوإنما تقول : بكر وعمرو وخالد ولا يدخل زيدٌ في جملتهم ، فإذا كان زيد خارجاً عن إخوته صار غيرهم ، فلم يجز أن تقول : أفضل إخوته ، كما لم يجز أن تقول : إن حمارك أفره البغال لأن الحمير غير البغال ، كما أن زيداً غير إخوته ، فإذا قلت : زيد خير الإخوة جاز ، لأنه أحد الإخوة ، والاسم يقع عليه وعلى غيره ، فهو بعض الإخوة ، ألا ترى أنه لو قيل : من الإخوة ؟ عددته فيهم ، فقلت : زيد وعمرو وبكر وخالد فيكون بمنزلة قولك : حمارك أفره الحمير لأنه داخل تحت الاسم الواقع على الحمير . فلما كان على ما وصفنا جاز أن يضاف إلى واحد منكور يدل على الجنس ، فتقول : زيد أفضل رجل وحمارك أفره حمار فيدل رجل على الجنس كما دل الرجال ؛ وكما في عشرين درهماً ومائة درهم . فقال ابن الفرات : ما بعد هذا البيان مزيد ، ولقد جل علم النحو عندي بهذا الاعتبار وهذا الإسفار . فقال أبو سعيد : معاني النحو منقسمة بين حركات اللفظ وسكناته ، وبين وضع الحروف في مواضعها المقتضية لها ، وبين تأليف الكلام بالتقديم والتأخير وتوخي الصواب في ذلك وتجنب الخطأ من ذلك ، وإن زاغ شيء عن هذا النعت فإنه لا يخلو من أن يكون سائغاً بالاستعمال النادر والتأويل البعيد ، أو مردوداً لخروجه عن عادة القوم الجارية على فطرتهم . فأما ما يتعلق باختلاف لغات القبائل فذلك شيء مسلم لهم ومأخوذ عنهم ، وكل ذلك محصور بالتتبع والرواية والسماع والقياس المطرد على الأصل المعروف من غير تحريف ، وإنما دخل العجب على المنطقيين لظنهم أن المعاني لا تعرف ولا تستوضح إلا بطريقهم ونظرهم وتكلفهم ، فترجموا لغةً هم فيها ضعفاء ناقصون . وجعلوا تلك الترجمة صناعة ، وادعوا على النحويين أنهم مع اللفظ لا مع المعنى . ثم أقبل أبو سعيد على متى فقال : أما تعرف يا أبا بشر أن الكلام اسم واقع على أشياء قد ائتلفت بمراتب ،وتقول بالمثل : هذا ثوب والثوب اسم يقع على أشياء بها صار ثوباً ، لأنه نسج بعد أن غزل ، فسداته لا تكفي دون لحمته ولحمته لا تكفي دون سداته ، ثم تأليفه كنسجه ، وبلاغته كقصارته ورقة سلكه كرقة لفظه ، وغلظ غزله ككثافة حروفه ، ومجموع هذا كله ثوب ، ولكن بعد تقدمة كل ما يحتاج إليه فيه . قال ابن الفرات : سله يا أبا سعيد عن مسألة أخرى ، فإن هذا كلما توالى عليه بان انقطاعه ، وانخفض ارتفاعه ، في المنطق الذي ينصره ، والحق الذي لا يبصره . قال أبو سعيد : ما تقول في رجل يقول : لهذا على درهم غير قيراط ؛ ولهذا الآخر على درهم غير قيراط . قال : ما لي علم بهذا النمط . قال : لست نازعاً عنك حتى يصح عند الحاضرين أنك صاحب مخرقة وزرق ، ها هنا ما هو أخف من هذا ، قال رجل لصاحبه : بكم الثوبان المصبوغان ، وقال آخر : بكم ثوبان مصبوغان وقال آخر : بكم ثوبان مصبوغين بين هذه المعاني التي تضمنها لفظٌ لفظ . قال متى : لو نثرت أنا أيضاً عليك من مسائل المنطق أشياء لكان حالك كحالي . قال أبو سعيد : أخطأت ، لأنك إذا سألتني عن شيء أنظر فيه ، فإن كان له علاقة بالمعنى وصح لفظه على العادة الجارية أجبت ، ثم لا أبالي أن يكون موافقاً أو مخالفاً ، وإن كان غير متعلق بالمعنى رددته عليك ، وإن كان متصلاً باللفظ ولكن على وضعٍ لكم في الفساد على ما حشوتم به كتبكم رددته أيضاً لأنه لا سبيل إلى إحداث لغة في لغة مقررة بين أهلها . ما وجدنا لكم إلا ما استعرتم من لغة العرب كالسبب والآلة والسلب والإيجاب والموضوع والمحمول والكون والفساد والمهمل والمحصور وأمثلة لا تنفع ولا تجدي ، وهي إلى العي أقرب ، وفي الفهاهة أذهب .ثم أنتم هؤلاء في منطقكم على نقصٍ ظاهر ، لأنكم لا تفون بالكتب ولا هي مشروحة ، فتدعون الشعر ولا تعرفونه وتذكرون الخطابة وأنتم عنها في منقطع التراب ؛ وقد سمعت قائلكم يقول : الحاجة ماسة إلى كتاب البرهان . فإن كان كما قال فلم قطع الزمان بما قبله من الكتب ، وإن كانت الحاجة قد مست إلى ما قبل البرهان ، فهي أيضاً ماسةٌ إلى ما بعد البرهان ، وإلا فلم صنف ما لا يحتاج إليه ويستغنى عنه . هذا كله تخليط وزرق وتهويل ورعد وبرق . وإنما بودكم أن تشغلوا جاهلاً ، وتستذلوا عزيزاً ؟ وغايتكم أن تهولوا بالجنس والنوع والخاصة والفصل والعرض والشخص ، وتقولوا : الهلية والأينية والماهية والكيفية والكمية والذاتية والعرية والجوهرية والهيولية والصورية والأيسية والليسية والنفسية ؟ ثم تتطاولون فتقولون : جئنا بالسحر في قولنا : ' لا ' في شيء من ' ب ' و ' ج ' في بعض ' ب ' ، ف ' لا ' في بعض ' ج ' و ' لا ' في كل ' ب ' و ' ج ' في كل ' ب ' فإذن ' لا ' في كل ' ج ' ؛ هذا بطريق الخلف ، وهذا بطريق الاختصاص . وهذه كلها خرافات وترهات ، ومغالق وشبكات ؛ ومن جاد عقله وحسن تمييزه ولطف نظره وثقب رأيه وأنارت نفسه استغنى عن هذا كله - بعون الله وفضله - وجودة العقل وحسن التمييز ولطف النظر وثقوب الرأي وإنارة النفس من منائح الله الهنية ، ومواهبه السنية ،يختص بها من يشاء من عباده وما أعرف لاستطالتكم بالمنطق وجهاً ، وهذا الناشىء أبو العباس قد نقض عليكم وتتبع طريقتكم ، وبين خطأكم ، وأبرز ضعفكم ، ولم تقدروا إلى اليوم أن تردوا عليه كلمة واحدة مما قال ، وما زدتم على قولكم : لم يعرف غرضنا ولا وقف على مرادنا ، وإنما تكلم على وهم . وهذا منكم تجاجزٌ ونكول ورضىً بالعجز وكلول ، وكل ما ذكرتم في الموجودات فعليكم فيه اعتراض هذا قولكم في ' يفعل وينفعل ' لم تستوضحوا فيهما مراتبهما ومواقعهما ، ولم تقفوا على مقاسمهما ، لأنكم قنعتم بوقوع الفعل من ' يفعل ' وقبول الفعل من ' ينفعل ' ، ومن وراء ذلك غاياتٌ خفيت عليكم ، ومعارف ذهبت عنكم وهذا حالكم في الإضافة . فأما البدل ووجوهه ، والمعرفة وأقسامها ، والنكرة ومراتبها ، وغير ذلك مما يطول ذكره ، فليس لكم فيه مقال ولا مجال . وأنت إذا قلت لإنسان : ' كن منطقياً ' ، فإنما تريد : كن عقلياً أو عاقلاً أو اعقل ما تقول لأن أصحابك يزعمون أن النطق هو العقل ؛ وهذا قولٌ مدخول ، لأن النطق على وجوه أنتم عنها في سهو . وإذا قال لك آخر : ' كن نحوياً لغوياً فصيحاً ' فإنما يريد : افهم عن نفسك ما تقول ، ثم رم أن يفهم عنك غيرك . وقدر اللفظ على المعنى فلا يفضل عنه ، وقدر المعنى على اللفظ فلا ينقص منه ؛ هذا إذا كنت في تحقيق شيء ما هو به . فأما إذا حاولت فرش المعنى وبسط المراد فأجل اللفظ بالروداف الموضحة والأشباه المقربة ، والاستعارات الممتعة ، وبين المعاني بالبلاغة ، أعني لوح منها لشيء حتى لا تصاب إلا بالبحث عنها والشوق إليها ، لأن المطلوب إذا ظفر به على هذا الوجه عز وحلا ، وكرم وعلا ؛ واشرح منها شيئاً حتى لا يمكن أنيمترى فيه أو يتعب في فهمه أو يعرج عنه لاغتماضه ؛ فهذا المذهب يكون جامعاً لحقائق الأشباه ولأشباه الحقائق ؛ وهذا بابٌ إن استقصيته خرج عن نمط ما نحن عليه في هذا المجلس ؛ على أني لا أدري أيؤثر فيك ما أقول أو لا ؟ ثم قال : حدثنا هل فصلتم قط بالمنطق بين مختلفين ، أو رفعتم الخلاف بين اثنين ؛ أتراك بقوة المنطق وبرهانه اعتقدت أن الله ثالث ثلاثة ، وأن الواحد أكثر من واحد ، وأن الذي هو أكثر من واحد هو واحد ، وأن الشرع ما تذهب إليه ، والحق ما تقوله ؟ هيهات ، ها هنا أمور ترتفع عن دعوى أصحابك وهذيانهم ، وتدق عن عقولهم وأذهانهم . ودع هذا ، ها هنا مسألة قد أوقعت خلافاً ، فارفع ذلك الخلاف بمنطقك . قال قائل : ' لفلانٍ من الحائط إلى الحائط ' ما الحكم فيه ؟ وما قدر المشهود به لفلان ؟ فقد قال ناس : له الحائطان معاً وما بينهما . وقال آخرون : له النصف من كلٍ منهما . وقال آخرون : أحدهما . هات الآن آيتك الباهرة ، ومعجزتك القاهرة ، وأنى لك بهما ، وهذا قد بان بغير نظرك ونظر أصحابك . ودع هذا أيضاً ؛ قال قائل : ' من الكلام ما هو مستقيم حسن ، ومنه ما هو مستقيم محال ، ومنه ما هو مستقيم قبيح ، ومنه ما هو محال كذب ، ومنه ما هو خطأ ' . فسر هذه الجملة . واعترض عليه عالمٌ آخر ، فاحكم أنت بين هذا القائل والمعترض وأرنا قوة صناعتك التي تميز بها بين الخطأ والصواب ، وبين الحق والباطل ؟ فإن قلت : كيف أحكم بين اثنين أحدهما قد سمعت مقالته ، والآخر لم أحصل اعتراضه ؟ قيل لك : استخرج بنظرك الاعتراض إن كان ما قاله محتملاً له ، ثم أوضح الحق منهما ، لأن الأصل مسموع لك ، حاصلٌ عندك وما يصح به أو يرد عليه يجب أن يظهر منك ، فلا تتعاسر علينا ، فإن هذا لا يخفى على أحد من الجماعة .فقد بان الآن أن مركب اللفظ لا يحوز مبسوط العقل ؛ والمعاني معقولة ولها اتصال شديد وبساطة تامة ؛ وليس في قوة اللفظ من أي لغة كان أن يملك ذلك المبسوط ويحيط به ، وينصب عليه سوراً ، ولا يدع شيئاً من داخله أن يخرج ، ولا شيئاً من خارجه أن يدخل ، خوفاً من الاختلاط الجالب للفساد ، أعني أن ذلك يخلط الحق بالباطل ، ويشبه الباطل بالحق ؛ وهذا الذي وقع الصحيح منه في الأول قبل وضع المنطق ، وقد عاد ذلك الصحيح في الثاني بعد المنطق ؛ وأنت لو عرفت تصرف العلماء والفقهاء في مسائلهم ، ووقفت على غورهم في نظرهم وغوصهم في استنباطهم ، وحسن تأويلهم لما يرد عليهم ، وسعة تشقيقهم للوجوه المحتملة والكيانات المفيدة والجهات القريبة والبعيدة ، لحقرت نفسك ، وازدريت أصحابك ، ولكان ما ذهبوا إليه وتابعوا عليه أقل في عينك من السها عند القمر ، ومن الحصا عند الجبل . أليس الكندي وهو علم في أصحابك يقول في جواب مسألة ' هذا من باب عد ' . فعد الوجوه بحسب الاستطاعة على طريق الإمكان من ناحية الوهم بلا ترتيب ، حتى وضعوا له مسائل من هذا الشكل وغالطوه بها وأروه أنها في الفلسفة الداخلة ، فذهب عليه ذلك الوضع ، فاعتقد فيه أنه صحيح وهو مريض العقل فاسد المزاج حائل الغريزة مشوش اللب . قالوا له : أخبرنا عن اصطكاك الأجرام ، وتضاغط الأركان ؟ هل يدخل في باب وجوب الإمكان ؟ أو يخرج من باب الفقدان إلى ما يخفى عن الأذهان ؟ وقالوا له أيضاً : ما نسبة الحركات الطبيعية إلى الصور الهيولاتية ؟ وهل هي ملابسة للكيان في حدود النظر والبيان ، أو مزايلةٌ له مزايلة على غاية الإحكام ؟ وقالوا له : ما تأثير فقدان الوجدان في عدم الإمكان عند امتناع الواجب من وجوبه في ظاهر ما لا وجوب له لاستحالته في إمكان أصله ؟ وعلى هذا فقد حفظ جوابه عن جميع هذا على غاية الركاكة والضعف والفسادوالفسالة والسخف . ولولا التبوقي من التطويل لسردت ذلك كله ، ولقد مر بي في خطه : التفاوت في تلاشي الأشياء غير محاطٍ به ، لأنه يلاقي الاختلاف في الأصول والاتفاق في الفرزع ؛ وكل ما يكون على هذا النهج فالنكرة تزاحم عليه المعرفة ، والمعرفة تناقض النكرة ، على أن النكرة والمعرفة من باب الألبسة العارية من ملابس الأسرار الإلهية ، لا من باب الإلهية العارضة في أحوال البشرية . ولقد حدثنا أصحابنا الصابئون عنه بما يضحك الثكلى ويشمت العدو ويغ الصديق ، وما ورث هذا كله إلا من بركات يونان وفوائد الفلسفة والمنطق ونسأل الله عصمة وتوفيقاً نهتدي بهما إلى القول الراجع إلى التحصيل ، والفعل الجاري على التعديل ، إنه سميع مجيب . هذا آخر ما كتبت عن ابن عيسى الرماني الشيخ الصالح بإملائه . وكان أبو سعيد قد روى لمعاً من هذه القصة . وكان يقول : لم أحفظ عن نفسي كل ما قلت ، ولكن كتب ذلك أقوامٌ حضروا في ألواح كانت معهم ومحابر أيضاً ؛ وقد اختل علي كثير منه . قال علي بن عيسى : وتقوض المجلس وأهله يتعجبون من جأش أبي سعيد الثابت ولسانه المتصرف ووجهه المتهلل وفوائده المتتابعة . وقال الوزير ابن الفرات : عين الله عليك أيها الشيخ ، فقد نديت أكباداً وأقررت عيوناً ، وبيضت وجوهاً ، وحكت طرازاً لا يبليه الزمان ، ولا يتطرق إليه الحدثان . قلت لعلي بن عيسى : وكم كان سن أبي سعيد في ذلك الوقت ؟ قال : مولده سنة ثمانين ومائتين ، وكان له يوم المناظرة أربعون سنة ، وقد عبث الشيب بلهازمه مع السمت والوقار والدين والجد ، وهذا شعار أهل الفضل والتقدم ، وقل منتظاهر به أو تحلى بحليته إلا جل في العيون وعظم في النفوس ، وأحبته القلوب ، وجرت بمدحه الألسنة . وقلت لعلي بن عيسى : أما كان أبو علي الفسوي النحوي حاضر المجلس ؟ قال : لا ، كان غائباً ، وحدث بما كان ، فكان يكتم الحسد لأبي سعيد على ما فاز به من هذا الخبر المشهور ، والثناء المذكور . فقال لي الوزير عند منقطع هذا الحديث : ذكرتني شيئاً قد دار في نفسي مراراً ، وأحببت أن أقف على واضحه ؛ أين أبو سعيد من أبي علي ، وأين علي بن عيسى منهما ، وأين ابن المراغي أيضاً من الجماعة ؟ وكذلك المرزباني وابن شاذان وابن الوراق وابن حيويه ؟ فكان من الجواب ، أبو سعيد أجمع لشمل العلم ، وأنظم لمذاهب العرب وأدخل في كل باب ، وأخرج من طل طريق ، وألزم للجادة الوسطى في الدين والخلق ، وأروى في الحديث ، وأقضى في الأحكام ، وأفقه في الفتوى ، وأحضر بركة على المختلفة ، وأظهر أثراً في المقتبسة . ولقد كتب إليه نوح بن نصر - وكان من أدباء ملوك آل سامان - سنة أربعين كتاباً خاطبه فيه بالإمام وسأله عن مسائل تزيد على أربعمائة مسألة ، الغالب عليها الحروف ، وباقي ذلك أمثال مصنوعة على العرب شك فيها فسأل عنها ؛ وكان هذا الكتاب مقروناً بكتاب الوزير البلعمي خاطبه فيه بإمام المسلمين ، ضمنه مسائل في القرآن وأمثالاً للعرب مشكلة . وكتب إليه المرزبان بن محمد ملك الديلم من أذربيجان كتاباً خاطبه فيه بشيخ الإسلام ، سأله عن مائة وعشرين مسألة ، أكثرها في القرآن ، وباقي ذلك في الروايات عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وعن أصحابه رضوان الله عليهم .وكتب إليه ابن خنزابة من مصر كتاباً خاطبه فيه بالشيخ الجليل ، وسأله فيه عن ثلاثمائة كلمة من فنون الحديث المروي عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وعن السلف . وقال لي الدارقطني سنة سبعين : أنا جمعت ذلك لابن خنزابة على طريق المعونة . وكتب إليه أبو جعفر ملك سجستان على يد شيخنا أبي سليمان كتاباً يخاطبه فيه بالشيخ الفرد ، سأله عن سبعين مسألة في القرآن ، ومائة كلمة في العربية وثلاثمائة بيت من الشعر ، هكذا حدثني به أبو سليمان ؛ وأربعين مسألة في الأحكام وثلاثين مسألة في الأصول على طريق المتكلمين . قال لي الوزير : وهذه المسائل والجواب عنها عندك ؟ قلت : نعم . قال : في كم تقع ؟ قلت : لعلها تقع في ألف وخمسمائة ورقة ، لأن أكثرها في الظهور . قال : ما أحوجنا إلى النظر فيها والاستمتاع بها والاستفادة منها وأين الفراغ وأين السكون ؟ ونحن كل يوم ندفع إلى طامةٍ تنسى ما سلف ، وتوعد بالداهية ، اللهم ناصيتي بيدك ، فتولني بالعصمة ، واخصصني بالسلامة ، واجعل عقباي إلى الحسنى . ثم قال : صل حديثك . قلت : وأما أبو علي فأشد تفرداً بالكتاب وأشد إكباباً عليه ، وأبعد من كل ما عداه مما هو علم الكوفيين ، وما تجاوز في اللغة كتب أبي زيد ، وأطرافاً مما لغيره ؛ وهو متقد بالغيظ على أبي سعيد ، وبالحسد له ، كيف تم له تفسير كتاب سيبويه من أوله إلى آخره بغريبه وأمثاله وشواهده وأبياته ' ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء ' ، لأن هذا شيء ما تم للمربد ولا للزجاج ولا لابن السراج ولا لابن درستويه مع سعة علمهم ، وفيض كلامهم . ولأبي علي أطراف من الكلام في مسائل أجاد فيها ولم يأتل ، ولكنه قعد علىالكتاب على النظم المعروف . وحدثني أصحابنا أن أبا علي اشترى شرح أبي سعيد في الأهواز في توجهه إلى بغداد سنة ثمان وستنين - لاحقاً بالخدمة المرسومة به ، والندامة الموقوفة عليه - بألفي درهم ؛ وهذا حديث مشهور ، وإن كان أصحابه يأبون الإقرار به إلا من زعم أنه أراد النقض عليه ، وإظهار الخطأ فيه . وقد كان الملك السعيد - رضي الله عنه - هم بالجمع بينهما فلم يقض له ذلك ، لأن أبا سعيد مات في رجب سنة ثمان وستين وثلاثمائة . وأبو علي يشرب ويتخالع ويفارق هدى أهل العلم وطريقة الربانيين وعادة المتنسكين . وأبو سعيد يصوم الدهر ، ولا يصلي إلا في الجماعة ، ويقيم على مذهب أبي حنيفة ، ويلى القضاء سنين ، ويتأله ويتحرج ، وغيره بمعزل عن هذا ؛ ولولا الإبقاء على حرمة العلم ، لكان القلم يجري بما هو خافٍ ويخبر بما هو مجمجم ولكن الأخذ بحكم المروءة أولى ، والإعراض عما يجلب اللائمة أحرى . وكان أبو سعيد حسن الحظ ، ولقد اراده الصيمري أبو جعفر على الإنشاء والتحرير فاستعفى وقال : هذا أمر يحتاج فيه إلى دربة وأنا عارٍ منها ، وإلى سياسةٍ وأنا غريب فيها ومن العناء رياضة الهرم وحدثنا النصري أبو عبد الله - وكان يكتب النوبة للمهلبي - بحديث مفند لأبي سعيد هذا موضعه ،قال : كنت أخط في بيدي الصيمري أبي جعفر محمد بن أحمد بن محمد ، فالتمسني يوماً لأن أجيب ابن العميد أبا الفضل عن كتاب فلم يجدني ، وكان أبو سعيد السيرافي بحضرته ؛ فظن أنه بفضل علمه أقوم بالجواب من غيره ، فتقدم إليه أن يكتب ويجيب ، فأطال في عمل نسخة كثر فيها الضرب والإصلاح ، ثم أخذ يحرر ، والصيمري يقرأ ما يكتبه ، فوجده مخالفاً لجاري العادة لفظاً ، مبايناً لما يريده ترتيباً . قال : ودخلت في تلك الحال ، فتمثل الصيمري بقول الشاعر : يا باري القوس برياً ليس يصلحه . . . لا تظلم القوس ، أعط القوس باريها ثم قال لأبي سعيد : خفف عليك أيها الشيخ وادفع الكتاب إلى أبي عبد الله تلميذك ليجيب عنه ، فخجل من هذا القول ، فلما اتبدأت الجواب من غير نسخة تحير مني أبو سعيد ، ثم قال : أيها الأستاذ ، ليس بسمتنكرٍ ما كان مني ، ولا بمستكثرٍ ما كان منك ، إن مال الفيء لا يصح في بيت المال إلا بين مستخرج وجهبذٍ ، والكتاب جهابذة الكلام ، والعلماء مستخرجوه . فتبسم الصميري وأعجبه ما سمع ، وقال : على كل حال ما أخليتنا من فائدة . وكان أبو سعيد بعيد القرين ، لأنه كان يقرأ عليه القرآن والفقه والشروط والفرائض والنحو واللغة والعروض والقوافي والحساب والهندسة والحديث والأخبار وهو في كل هذا إما في الغاية وإما في الوسط . وأما علي بن عيسى فعالي الرتبة في النحو واللغة والكلام والعروض والمنطق ، وعيب به ، إلا أنه لم يسلك طريق واضع المنطق ، بل أفرد صناعة ، وأظهر براعة ، وقد عمل في القرآن كتاباً نفيساً ، هذا مع الدين الثخين ، والعقل الرزين .وأما ابن المراغي فلا يلحق بهؤلاء ، مع براعة اللفظ ، وسعة الحفظ ، وعزة النفس ، وبلل الريق ، وغزارة النفث ، وكثرة الرواية ؛ ومن نظر في كتاب البهجة له عرف ما أقول ، واعتقد فوق ما أصف ، ونحل أكثر مما أبذل . وأما المرزباني وابن شاذان وابن القرمسيني وابن حيويه فهم رواة وحملة ليس لهم في ذلك نقطٌ ولا إعجام ، ولا إسراج ولا إلجام . فقال : فصل حديثك عن هؤلاء بحديث أصحابنا الشعراء ، صف لي جماعتهم ، واذكر لي بضاعتهم ، وما خص كل واحد منهم . قلت : لست من الشعر والشعراء في شيء ، وأكره أن أخطو على دحض ، وأحتسي غير محض . قال : دع هذا القول ، فما خضنا في شيء إلى هذا الوقت إلا على غاية ما كان في النفس ، ونهاية ما أفاد من الأنس ، فكان من الوصف : أما السلامي فهو حلو الكلام ، متسق النظام ، كأنما يبسم عن ثغر الغمام خفي السرقة ، لطيف الأخذ ، واسع المذهب ، لطيف المغارس ، جميل الملابس ؛ لكلامه ليطةٌ بالقلب ، وعبثٌ بالروح ، وبردٌ على الكبد . وأما الحاتمي فغليظ اللفظ ، كثير العقد ، يحب أن يكون بدوياً قحاً ، وهو لم يتم حضرياً ؛ غزير المحفوظ ، جامعٌ بين النظم والنثر ، على تشابهٍ بينهما في الجفوة وقلة السلاسة ، والبعد من المسلوك ، بادي العورة فيما يقول ، لكأنما يبرز ما يخفي ، ويكدر ما يصفي ، له سكرة في القول إذا أفاق منها خمر وإذا خمرسدر ؛ يتطاول شاخصاً ، فيتضاءل متقاعساً ؛ إذا صدق فهو مهين ، وإذا كذب فهو مشين . وأما ابن جلبات فمجنون الشعر ، متفاوت اللفظ ، قليل البديع ، واسع الحيلة ، كثير الزوق ، قصير الرشاء ، كثير الغثاء ؛ غره نفاقه ونفقه نفاقه . وأما الخالع فأديب الشعر ، صحيح النحت ، كثير البديع ، مستوي الطريقة ، متشابه الصناعة ، بعيدٌ من طفرة المتحير ، قريبٌ من قرصة المتخير ؛ كان ذو الكفايتين يقدمه بالري ، ويقبله على النشر والطي . وأما مسكويه فلطيف اللفظ ، رطب الأطراف ، رقيق الحواشي ، سهل المأخذ ، قليل السكب ، بطيء السبك ؛ مشهور المعاني ، كثير التواني ؛ شديد التوقي ، ضعيف الترقي ؛ يرد أكثر مما يصدر ، ويتطاول جهده ثم يقصر ؛ ويطير بعيداً ويقع قريباً ، ويسقي من قبل أن يغرس ، ويمتح من قبل أن يميه ؛ وله بعد ذلك مآخذ كشدوٍ من الفلسفة ، وتأتٍ فيالخدمة ، وقيامٍ برسوما لندامة ؛ وسلة في البخل ، وغرائب من الكذب ؛ وهو حائل العقل لشغفه بالكيمياء . وأما ابن نباتة فشاعر الوقت ، لا يدفع ما أقول إلا حاسد أو جاهل أو معاند ، قد لحق عصابة سيف الدولة وعدا معهم ووراءهم ، حسن الحذو على مثال سكان البادية ، لطيف الائتمام بهم ، خفي المغاص في واديهم ، ظاهر الإطلال على ناديهم ؛ هذا مع شعبة من الجنون وطائفٍ من الوسواس . وأما ابن حجاج فليس من هذه الزمرة بشيء ، لأنه سخيف الطريقة بعيدٌ من الجد ، قريعٌ في الهزل ؛ ليس للعقل من شعره منال ، ولا له في قرضه مثال ؛ على أنه قويم اللفظ ، سهل الكلام ، وشمائله نائيةٌ بالوقار عن عادته الجارية في الخسار ؛ وهو شريك ابن سكرة في هذه الغرامة ؛ وإذا جد أقعى ، وإذا هزل حكى الأفعى . وله مع ذي الكفايتين مناظرة طيبة . قال : ما هي ؟ قلت : لما ورد ذو الكفايتين سنة أربع وستين وهزم الأتراك مع أفتكين ، وكان من الحديث ما هو مشهور ، سأل عن ابن حجاج - وكان متشوقاً له لما كان يقرأ عليه من قوافيه ، فأحب أن يلقاه ، لأنه الخبر كالمعاينة ، والمسموعوالمبصر كاأنثى والذكر ؛ ينزع كل واحد منهما إلى تمامه ؛ فلما حضره أبو عبد الله احتبسه للطعام ، وسمع كلامه ، وشاهد سمته ، واستحلى شمائله ، فقام من مجلسه ؛ فلما خلا به قال : يا أبا عبد الله ، لقد والله تهت عجباً منك ، فأما عجبي بك فقد تقدم ؛ لقد كنت أفلي ديوانك ، فأتمنى لقاءك ، وأقول : من صاحب هذا الكلام ، أطيش طائش ، وأخف خفيف ، وأغرم غارم ؛ وكيف يجالس من يكون في هذا الإهاب ؟ وكيف يقارب من ينسلخ من ملابس الكتاب واصحاب الآداب ؛ حتى شاهدتك الآن ، فتهالكت على وقارك وسكون أطرافك ، وسكوت لفظك ، وتناسب حركاتك ، وفرط حيائك وناضر ماء وجهك ، وتعادل كلك وبعضك ؛ وإنك لمن عجائب خلق الله وطرف عباده ؛ والله ما يصدق واحد أنك صاحب ديوانك ، وأن ذلك الديوان لك ، مع هذا التنافي الذي بين شعرك وبينك في جدك . فقال أبو عبد الله : أيها الأستاذ ، وكان عجبي منك دون عجبك مني ، لو تقارعنا على هذا لفلجت عليك بالتعجب منك . قال : لأني قلت : إذا ورد الأستاذ فسألقى منه خلقاً جافياً وفظاً غليظاً وصاحب رواسير وآكل كوامخ وجبلياً ديلمياً متكائباً متعاظماً ، حتى رأيتك الآن وأنت ألطف من الهواء ، وأرق من الماء ، وأغزل من جميل بن معمر ، وأعذب من الحياة ، وأرزن من الطود ، وأغزر من البحر ، وأبهى من القمر ، وأندى من الغيث ، وأشجع من الليث ، وأنطق من سحبان ، وأندى من الغمام ، وأنفذ من السهام ، وأكبر من جميعالأنام . فقال أبو الفتح وتبسم : هذا أيضاً من ودائع فضلك ، وبواعث تفضلك . ووصله وصرفه . قال : لم يكن هذا الحديث عندي . وأما بشر بن هارون فليس من هذه الطبقة في شيء ، لكنه يقرص فيحز ويشم فيهز ، ويجرح فيجهز ؛ والمدهوون منه كثير ؛ واصحابنا يستحسنون قول ابن الحجاج في الوزير حين يقول : لله در الحسين من قمر . . . ردت إليه وزارة الشمس فقال : إن قبلت هذا منهم خفت أن يقال : مادح نفسه يقرئك السلام ؛ وما أصنع بهذا البيت وهو مضموم إلى كل بيت سخيف في القصيدة . ثم قال : وجب أن نصف قبل هذا عصابة العلماء ، فلم تركنا ذكرهم ونحن لا نخلو في حديثهم من غرة لائحة ، وفائدة نافعة ، وصوابٍ زائد في العقل وفضيلة على الأدب ، وحلمٍ يزدان به في وقت الحاجة ، وحكمةٍ يستعان بها في داهمة ؛ ورأى يكون مقيلاً للتمييز عند تهجيرنا به . قلت : أما أبو عبد الله الجعل فقد شاهدته . قال : صدقت ، ولكن لم أقف على مذهبه ودخلته وسيرته في اعتقاده . قلت : كان الرجل ملتهب الخاطر ، واسع أطراف الكلام ، مع غثاثة اللفظ ، وكان يرجع إلى قوة عجيبة في التدريس ، وطول نفس في الإملاء ، مع ضيق صدر عند لقاء الخصمومعاركة القرن ، بعيد العهد بالمصاع والدفاع والوقاع ؛ وكان سبب هذا الجبن والخور قلة الضراوة على هذه الأحوال ؛ ولقد خزي في مشاهد عظيمة . وأما يقينه فكان ضعيفاً ؛ وأما سيرته فكانت واقفةً على حب الرياسة وبذل المال والجاه إذا حضرا ، مع تعصب شديد لمن قدمه وأحبه ، وإنحاءٍ مفرط على من عاداه ، وكان خوضه في الدول والولايات - ولهذا رغب عنه الواسطي وكان أخا ورع ودين - وقال : هذا منفر عن الدين والمذهب ، ودافعٌ للناس عن القول بالحق ، وطارح للشبهة في القلوب . وكان يجهر بهذا وأشباهه ، ولكن كان جاه الرجل لا ينتقص بهذا القدر وركنه لا يتخلخل على هذا الهد ، لأسباب انعقدت له ، وأصحاب ذابوا عنه . وأما ابن الملاح فشيخ حسن المعرفة بالمذهب ، شديد التوقي ، محمود القناعة ظاهر الرضا ؛ تدل سيرته الجميلة على أنه حسن العقيدة . وأما ابن المعلم فحسن اللسان والجدل ، صبور على الخصم ، كثير الحيلة ظنين السر ، جميل العلانية . وأما أبو إسحق النصيبي فدقيق الكلام ، يشك في النبوات كلها ، وقد سمعت منه فيها شبهاً ، ولغته معقدة ، وله أدب واسع ؛ ولقد أضل بهمذان كاتب فخر الدولة ابن المرزبان . وحمله على قلة الاكتراث بظلم الرعية ، وأراه أنه لا حرج عليه فيغبنهم لأنهم بهائم ، وما خرج من الجبل حتى افتضح . وأما ابن خيران فشيخ لا يعدو الفقه ، وفيه سلامة . وأما الداركي فقد اتخذ الشهادة مكسبة ، وهو يأكل الدنيا بالدين ، ويغلب عليه اللواط ، ولا يرجع إلى ثقة وأمانة ؛ ولقد تهتك بنيسابور قديماً ، وببغداد حديثاً ؛ هذا مع الفدامة والوخامة ؛ ولقد ند بجعل غلام ، وهو اليوم قاضي الري . وابن عباد يكنفه ويقربه ليكون داعية له ونائباً عنه ، وليس له أصل وهو من سواد همذان ، وأبوه كان فلاحاً ، ولقد رأيته ، إلا أنه يأتي لابن عباد في سمته ولزوم ناموسه حتى خف عليه ، وهو اليوم قارون ؛ وقد علت رتبته في الكلام حتى لا مزيد عليها ، إلا أنه مع ذلك نغل الباطن ، خبيث الخبء ، قليل اليقين ؛ وذلك أن الطريقة التي قد لزموها وسلكوها لا تفضي بهم إلا إلى الشك والارتياب ، لأن الدين لم يأت بكمٍ وكيفٍ في كل باب ، ولهذا كان لأصحاب الحديث أنصار الأثر ، مزية على أصحاب الكلام وأهل النظر ؛ والقلب الخالي من الشبهة أسلم من الصدر المحشو بالشك والريبة ، ولم يأت الجدل بخير قط . وقد قيل : من طلب الدين بالكلام ألحد ، ومن تتبع غرائب الحديث كذب ، ومن طلب المال بالكيمياء افتقر . وما شاعت هذه الوصية جزافاً ، بل بعد تجربة كررها الزمان ، وتطاولت عليها الأيام ؛ يتكلم أحدهم في مائة مسألة ويورد مائة حجة ثم لا ترى عنده خشوعاً ولا رقة ، ولا تقوى ولا دمعة ؛ وإن كثيراً من الذين لا يكتبون ولا يقرءون ولا يحتجون ولا يناظرون ولا يكرمون ولا يفضلون خيرٌ من هذه الطائفة وألين جانباً ، وأخشع قلباً ، وأتقى لله عز وجل ، وأذكر للمعاد ، وأيقن بالثواب والعقاب ، وأقلق من الهفوة ، وألوذ بالله من صغير الذنب ، وأرجعإلى الله بالتوبة ؛ ولم أر متكلماً في مدة عمره بكى خشية ، أو دمعت عينه خوفاً ، أو أقلع عن كبيرة رغبة ؛ يتناظرون مستهزئين ويتحاسدون متعصبين ، ويتلاقون متخادعين ، ويصنفون متحاملين ؛ جذ الله عروقهم ، واستأصل شأفتهم ، وأراح العباد والبلاد منهم ؛ فقد عظمت البلوى بهم ، وعظمت آفتهم على صغار الناس وكبارهم ؛ ودب داؤهم ، وعسر دواؤهم ، وأرجو ألا أخرج من الدنيا حتى أرى بنيانهم متضغضعاً ، وساكنه متجعجعاً . قال : فما تقول في ابن الباقلاني ؟ . قلت : فما شر الثلاثة أم عمرو . . . بصاحبك الذي لا تصبحينا يزعم أنه ينصر السنة ويفحم المعتزلة وينشر الرواية ؛ وهو في أضعاف ذلك على مذهب الخرمية ، وطرائق الملحدة . قال : والله إن هذا لمن المصائب الكبار والمحن الغلاظ ، والأمراض التي ليس لها علاج . ثم قال : إن الليل قد ولى ، والنعاس قد طرق العين عابثاً ؛ والرأي أن نستجم لننشط ، ونستريح لنتعب ؛ وإذا حضرت في الليلة القابلة أخذنا في حديث الخلق والخلق - إن شاء الله - وأنا أزودك هذا الإعلام ليكون باعثاً لك على أخذ العتاد بعد اختماره في صدرك ، وتحيل الحال به عند خوضك وفيضك ولا تجبن جبن الضعفاء ، ولكن قل واتسع مجاهراً بما عندك ، منفقاً مما معك . وانصرفت .
الليلة التاسعة
وعدت ليلة أخرى فقال : فاتحة الحديث معك ، فهات ما عندك . فكان من الجواب : أن أخلاق أصناف الحيوان الكثيرة مؤتلفةٌ في نوع الإنسان ، وذلك أن الإنسان صفو الجنسالذي هو الحيوان ، والحيوان كدر النوع الذي هو الإنسان والإنسان صفو الشخص الذي هو واحد من النوع ، وما كان صفواً ومصاصاً بهذا النظر انتظم فيه من كل ضرب من الحيوان خلق وخلقان وأكثر ، وظهر ذلك عليه وبطن أيضاً بالأقل والأكثر والأغلب والأضعف ، كالكمون الذي في طباع السبع والفأرة ، والثبات الذي في طباع الذئب ، والتحرز الذي في طباع الجاموس من بنات الليل ، والحذر الذي في طباع الخنزير ، والتقدم الذي في طباع الفيل أمام قطيعه تمثلاً بصاحب المقدمة . وكذلك ضد ذلك في الخنزير تمثلاً بصاحب الساقة ، وكالحراسة التي في طباع الكلب ، وكاوب الطير إلى أوكارها التي تراها كالمعاقل وغيرها بالدغل والأشب والغياض . ولهذا قال بعض الحكماء : خذ من الخنزير بكوره في الحوائج ، ومن الكلب نصحه لأهله ، ومن الهرة لطف نفسها عند المسألة . وقالت الترك : ينبغي للقائد العظيم أن يكون فيه عسشر خصال من ضروب الحيوان : سخاء الديك ، وتحنن الدجاجة ، ونجدة الأسد ، وحملة الخنزير وروغان الثعلب ، وصبر الكلب ، وحراسة الكركي ، وحذر الغراب ، وغارة الذئب ، وسمن بعروا ، وهي دابة بخراسان تسمن على التعب والشقاء . ولما وهب الإنسان الفطرة ، وأعين بالفكرة ؛ ورفد بالعقل ، جمع هذه الخصال وما هو أكثر منها لنفسه وفي نفسه ، وبسبب هذه المزية الظاهرة فضل جميع الحيوان حتى صار يبلغ منها مراده بالتسخير والإعمال واستخراج المنافع منها وإدراك الحاجات بها ؛ وهذه المزية التي له مستفادة بالعقل ، لأن العقل ينبوع العلم ، والطبيعة ينبوع الصناعات ، والفكربينهما مستملٍ منهما ومؤدٍ بعضها إلى بعض بالفيض الإمكاني والتوزيع الإنساني ؛ فصواب بديهة الفكرة من سلامة العقل ، وصواب روية الفكرة من صحة الطباع ، وصحة الطباع من موافقة المزاج ، وموافقة المزاج بالمدد الاتفاقي والاتفاق الغيبي ؛ أعني بهذا أن وجه الحادث المجهول عندنا اتفاق ، ووجه الحادث المعلوم عند الله عز وجل غيب ؛ فلو ظهر هذا الغيب لبطل الاتفاق ، ولو بطل الاتفاق لارتفع الغيب . فانقسمت الأحداث بين ما هو على جديلة واحدة معروفة ، وبين نادر لا يدوم العهد به ، فدل ما ظهر واستمر على ما جاد به ووهب ، ودل ما غاب واستتر على ما تفرد به وغلب . ولما كان الحيوان كله يعمل صنائعه بالإلهام على وتيرة قائمة ، وكان الإنسان يتصرف فيها بالاختيار ، صح له من الإلهام نصيب حتى يكون رفداً له في اختياره ، وكذلك يكون النحل أيضاً ، صح له من الاختيار قسط في إلهامه حتى يكون ذلك معيناً له في اضطراره ، إلا أن نصيب الإنسان من الإلهام أقل كما أن قسط سائر الحيوان من الاختيار أنزر ؛ وثمرة اختيار الإنسان إذا كان معاناً بالإلهام أشرف وأدوم وأجدى وأنفع وأبقى وأرفع من ثمرة غيره من الحيوان إذا كان مرفوداً بالاختيار ، لأن قوة الاختيار في الحيوان كالحلم كما أن قوة الإلهام في الإنسان كالظل . ومراتب الإنسان في العلم ثلاث تظهر في ثلاثة أنفس ، فاحدهم ملهم فيتعلم ويعمل ، ويصير مبدأً للمقتبسين منه ، المقتدين به ، الآخذين عنه ، الحاذين على مثاله ، المارين على غراره ، القافين على آثاره ؛ وواحد يتعلم ولا يلهم فهو يماثل الأول في الدرجة الثانية ، أعني التعلم ؛ وواحد يتعلم ويلهم ، فتجتمع له هاتانالخلتان ، فيصير بقليل ما يتعلم مكثراً للعمل والعلم بقوة ما يلهم ويعود بكثرة ما يلهم مصفياً لكل ما يتعلم ويعمل . والكلام في هذه المواضع ربما جمح فلم يمكن كفه ، فينبغي أن يضح العذر إذا عرض تفاوتٌ في الترتيب ، ودخل الخلل من ناحية التقريب . وقال أبو سليمان لنا في هذه الأيام : الإنسان بين طبيعته وهي عليه وبين نفسه وهي له ، كالمنتهب المتوزع ، فإن استمد من العقل نوره وشعاعه قوي ما هول له من النفس ، وضعف ما هو عليه من الطبيعة وإلا فقد قوي ما هو عليه من الطبيعة وضعف ما هو له من النفس . وحكى لنا فقال : كان للحكماء الأولين مثلٌ يضربونه ويكتبونه في هياكلهم ومتعبداتهم وهو : الملك الموكل بالدنيا يقول : إن ههنا خيراً وههنا شراً ، وههنا ما ليس بخير ولا شر ، فمن عرف هذه الثلاثة حق معرفتها تخلص مني ، ونجا سليماً ، وبقي كريماً ، وملك نعيماً عظيماً . ومن لم يعرفها قتلته شر قتلة ، وذلك أني لا أقتله قتلاً وحياً يستريح به مني ، ولكن أقتله أولاً فأولاً في زمان طويل ، بحسرات على فوت مأمول بعد مأمول ، وبلايا يكون بها كالمغلول المكبول . قال : هذا كلام شريف في أعلى ذروة الحكمة ، لكنك خليت يدك من طرف الحديث في الخلق . قلت : إذا طاب الحديث باسترسال السجية ووقوع الطمأنينة لها الإنسان عن مباديه ، وسال مع الخاطر الذي يستهويه ، ولتحفظ الإنسان في قوله وعمله من الخطل والزلل حدٌ بلغه كل الخاطر واختل .ثم نعود فنقول : أخلاق الإنسان مقسومة على أنفسه الثلاث : أعني النفس الناطقة ، والنفس الغضبية ، والنفس الشهوانية ، وسمات هذه الأخلاق مختلفة بعرض واسع . ويمكن أن يقال في نعتها على مذهب التقريب : إنها بين المحمودة وبين المذمومة ، وبين المشوبة بالحمد والذم ، وبين الخارجة منهما . فمن أخلاق النفس الناطقة - إذا صفت - البحث عن الإنسان ثم عن العالم ، لأنه إذا عرف الإنسان فقد عرف العالم الصغير ، وإذا عرف العالم فقد عرف الإنسان الكبير ، وإذا عرف العالمين عرف الإله الذي بجوده وجد ما وجد ، وبقدرته ثبت ما ثبت ، وبحكمته ترتب ما ترتب ؛ وبمجموع هذا كله دام ما دام . بهذا البحث يتبين له ما تشتمل عليه القوة الغضبية والقوة الشهوية فإن توابع هاتين القوتين أكثر ، لأنهما بالتركيب أظهر ، وفي الكثرة أدخل وعن الوحدة أخرج ؛ فإذا ساستهما الناطقة حذفت زوائدهما ، ونفت فواضلهما ، ووفت نواقصهما ، وذيلت قوالصهما أعني إذا رأت غلمةً في الشهوية أخمدت نارها ، وإذا وجدت السرف في الغضبية قصرت عنانها ؛ فحينئذ يقومان على الصراط المستقيم ، فيعود السفه حلماً أو تحالماً ، والحسد غبطةً أو تغابطاً والغضب كظماً أو تكاظماً ، والغي رشداً أو تراشداً ، والطيش أناةً أو تآنياً وصرفت هذه الكوامن في المكامن - إذا سارت سورتها ، وثارت ثورتها - على مناهج الصواب ، تارةً بالعظة واللطف ، وتارةً بالزجر والعنف ، وتارةً بالأنفة وكبر النفس ، وتارةً بإشعار الحذر ، وتارةً بعلو الهمة ؛ وهناك يصير العفو عند القادر ألذ من الانتقام ، والعفاف عند الهائج ألذ من قضاءالوطر ، والقناعة عند المحتاج أشرف من الإسفاف ، والصداقة عند الموتور آثر من العداوة ، والمذاراة عند المحفظ أطيب من المماراة . وفي الجملة الخلق الحسن مشتق من الخلق ، فكما لا سبيل إلى تبديل الخلق كذلك لا قدرة على تحويل الخلق ، لكن الحض على إصلاح الخلق وتهذيب النفس لم يقع من الحكماء بالعبث والتجزيف ، بل لمنفعة عظيمة موجودة ظاهرة ، ومثاله أن الحبشي يتدلك بالماء والغسول لا ليستفيد بياضاً ، ولكن ليستفيد نقاءً شبيهاً بالبياض ؛ ويقال للمهذار : اكفف لا ليكف عن النطق ، ولكن ليؤثر الصمت . ويقال للموتور : لا تحقد لا ليزول عنه ما حنق عليه ، ولكن ليتكلف الصبر ويتناسى الجزاء على هذا أبداً . وقد تقرر بالحكمة الباحثة عن الإنسان وطرائق ما به وفيه أن أحواله مختلفة ، أعني أن كل ما يدور عليه ويحور إليه مقابل بالضد أو شبيهٍ بالضد كالحياة والموت ، والنوم واليقظة ، والحسن والقبيح ، والصواب والخطأ ، والخير والشر ، والرجاء والخوف ، والعدل والجور ، والشجاعة والجبن ، والسخاء والبخل ، والحلم والسفه ، والطيش والوقار ، والعلم والجهل ، والمعرفة والنكرة ، والعقل والحمق ، والصحة والمرض ، والاعتدال والانحراف ، والعفة والفجور ، والتنبه والغفلة ، والذكر والنسيان ، والذكاء والبلادة ، والغبطة والحسادة ،والدماثة والكزازة ، والحق والباطل ، والغي والرشد ، والبيان والحصر ، والثقة والارتياب ، والطمأنينة والتهمة ، والحركة والسكون ، والشك واليقين ، والخلاعة والوقار ، والتوقي والتهور ، والإلف والملل ، والصدق والكذب ، والإخلاص والنفاق ، والإحسان والإساءة ، والنصح والغش ، والمدح والذم ، وعلى هذا الجر والسحب ؛ ولعل هذه الصفات بلا آخر ولا انقطاع . فمما ينبغي أن يعني الإنسان المحب للتبصرة ، المؤثر للتذكرة ، الجامع للنافع له ، النافي للضار به في هذه الأحوال التي وصفناها بأسمائها معرفةً - ما استطاع - باجتلاب محمودها واجتناب مذمومها ، وتمييزه مما يكمن فيه أو تقليله ، أو إطفاء جمرته ، أو اجتناء ثمرته ، والطريق إلى هذا التمييز واضح قريب ، كأن تنظر إلى الحياة والموت فتعلم أن هذين ليسا من الأخلاق ولا مما يعالج بالاجتهاد ، وإلى النوم واليقظة فتعلم أنهما ضروريان للبدن من وجه ، وغير ضروريين من وجه ، فتنفى منهما ما خرج عن حد الضرورة وتسلم البدن ما دخل في حد الضرورة ؛ ولا يكثرن الإنسان نومه ولا سهره ، ولكن يطلب العدل بينهما بقدر جهده . فأما الحسن والقبيح فلا بد له من البحث اللطيف عنها حتى لا يجور فيرى القبيح حسناً والحسن قبيحاً ، فيأتي القبيح على أنه حسن ، ويرفض الحسن على أنه قبيح ؛ وماشىء الحسن والقبيح كثيرة : منها طبيعي ، ومنها بالعادة ، ومنها بالشرع ، ومنها بالعقل ، ومنها بالشهوة ، فإذا اعتبر هذه المناشىء صدق الصادق منها وكذب الكاذب ، وكان استحسانه على قدر ذلك ومثال ذلك الكبر فإنه معيب بالنظر الأول ، لكنه حسنٌ في موضعه بالعلةالداعية إليه ، والحال الموجبة له . وأما الصواب والخطأ فأمران عارضان للأقوال والأفعال والآراء ، وليسا بخلقين محضين ، ولكنهما موكولان إلى نور العقل ، فما أشرق عليه العقل بنوره فهو صواب ، وما أفل عنه العقل بنوره فهو خطأ . وأما الخير والشر فهما في العموم والشمول ليسا بدون الصواب والخطأ لهما مناط بكل شيء ، ويغلبان على الأفعال ، وإن كان أحدهما عدماً للآخر . وأما الرجاء والخوف فهما عرضان للقلب بأسباب بادية وخافية ، ولا يدخلان في باب الخلق من كل وجه ولا يخرجان أيضاً بكل وجه وهما كالعمادين للإنسان قد استصلح لهما ، وربط قوامه بغلبتهما وضعفهما . وأما العدل والجور فقد يكونان خلقين بالفطرة ، ويكونان فعلين بالفكرة وجانباهما بالفعل ألصق ، وإلى الاكتساب أقرب . وأما الشجاعة والجبن فهما خلقان متصلان بالخلق ، ولهذا يعز على الشجاع أن يتحول جباناً ، ويتعذر على الجبان أن يصير شجاعاً ، وكذلك طرفاهما داخلان في الخلق أعني التهور والتوقي . وأما السخاء والبخل فهما خلقان محضان أو قريبان من المحض ، ولهذا تعلق الحمد والذم بهما وبأصحابهما ، والمدح والهجو سريا إليهما واتصلا بهما ؛ وقد يندم السخي على بذله كثيراً خوفاً من الإملاق ، فلا يستطيع ذلك إذا أخذت الأريحية ، وحركته اللوذعية ؛ وقد يلوم البخيل نفسه كثيراً إذا سلقته الألسنة الحداد ،وجبه بالتوبيخ ، وشمخ عند رؤيته الأنف ، وغضن الجبين وأولم بالعذل وقوبل ؛ ومع ذلك فلا يرشح إلا على بطء وكلفة وتضجر ؛ والكلام في هذين الخلقين طويل ، لأنهما أدخل في تلاقي الناس وتعاطيهم في عشرتهم ومعاملتهم . وأما الحلم والسفه فهما أيضاً خلقان ، والأخلاق تابعة للمزاج في الأصل ، ولذلك قلنا : إن الخلق ابن الخلق ، والولد شبيهٌ بوالده ؛ وفي الجملة ، كل ما يمكن أن يقال فيه للإنسان لا تفعل هذا ، وأقلل من هذا وكف عنه ، فإنه في باب الأفعال أدخل ، وكل ما لم يجز أن يقال ذلك فيه فهو في باب الأخلاق أدخل ، ثم لبعض هذا نسبة إلى الخلق أو الخلق ، إما ظاهرة غالبة وإما خفية ضعيفة . وأما الطيش والوقار فهما يختلطان بالحلم والسفه ويجريان معهما ؛ فليس ينبغي أن ينشر الكلام ويطول الشرح . وأما الجهل والعلم فليسا من الأخلاق ولا من الخلق وإنما يبرزان من صاحب الأخلاق والخلق للمزاج أثرين قويين واحدهما عدم والآخر وجدان ، والعدم لا يكون أعدم من عدم ، والوجدان يكون أبين من وجدان . وأما المعرفة والنكرة فهما في جوار العلم وضده ، ولكنهما أعلق بالحس وألصق بالنفسين ، أي الشهوية والغضبية . وأما العقل والحمق فليس من الخلق ، والكلام في تفسير العقل مشهور ، وعدمه الحمق . وأما الصحة والمرض فليسا أيضاً من الأخلاق ، ولكنهما يوجدان في الإنسان بواسطةالنفس ، إما في البدن ، وإما في العقل ، ولذلك يقال : أمراض البدن ، وأمراض النفس ، وصحة البدن وصحة النفس . وأما الاعتدال والانحراف فهما يدخلان في الخلق بوجه ، ويخلصان منه بوجه ، ويعمان أعراض البدن وأعراض النفس ، ويوصف بهما الإنسان ، على أن الانحراف المطلق لا يوجد ، والاعتدال المطلق لا يوجد ، ولكن كلاهما بالإضافة . وأما العفة والفجور فخلقان لهما جمرة وهمود ، والحاجة تمس إلى العدل في استعمال العفة ونفي الفجور ، وإذا قويت العفة حالت العصمة ، وإذا غلب الفجور صار عدواناً . وأما التنبيه والغفلة فقريبان من الخلق ويغلبان على الإنسان ، إلا أن فرط التنبيه موصولٌ بالوحي ، وفرط الغفلة موصول بالبهيمية . وأما الذكر والنسيان فليسا بخلقين محضين ، ومنشؤهما بالمزاج ، وأحدهما من علائق النفس العالمة ، والآخر من علائق النفس البهيمية . وأما الذكاء والبلادة فهما خلقان ، ونعتهما كنعت الذكر والنسيان ، إلا أن هذين يعرضان في الحين بعد الحين ، والأخريان كالراسخين في الطينة . وأما الغبطة والحسد فخلقان رسم الأول منهما بأن تتمنى لنفسك ما أوتيه صاحبه ورسم الثاني بأن تتمنى زوال ما أوتيه صاحبك وإن لم يصل إليك . ورسوم هذهالأخلاق أسهل من تحديدها ، لكنا تركنا ذلك ، لأن الكلام الذي كان يجري هو على مذهب الخدمة . على أن مراتب هذه الأخلاق مختلفة ، فيبعد أن يعمها حد واحد ، وإنما اختلفت منازلها لأنها تارة تصفو بقوة النفس الناطقة ، وتارة تكدر بالقوانين الأخريين ؛ ولبعضها حدة بالزيادة ، ولبعضها كلة بالنقص ، فلم يكن التحديد يفصل كل ذاك ، فلم نعرج على شيء عجزنا عنه قبل أخذنا فيه . وتتم بقية ما علق بهذه الجملة ، فنقول : وأما الدماثة والكزازة فخلقان محضان تابعان للمزاج ، ثم المران يزيدهما قوة وضعفاً ؛ وهما للنعت أقرب ، كالسهولة والعسر ؛ ولذلك يقال : ما أدمث هذه الأرض ، أي ما أرخاها وألينها ؛ وفي المثل : دمث لجنبك قبل النوم مضجعاً . وأما الحق والباطل فليسا من الخلق ولا الخلق في شيء ، وهما من نتائج المعرفة والنكرة ، لأنك تعرف الحق وتنكر الباطل ، وذلك لأغراض تتبعهما ، ولواحق تلتبس بهما . وأما الغي والرشد فليسا من الخلق ، لكنهما من علائق الأفعال الحميدة والذميمة ؛ وللرأي والعقل فيهما مدخل قوي وحظ تام . وأما البيان والحصر فليس بينهما وبين الخلق علاقة ، وإنما يتبعان المزاج ويزيد فيهما وينقص الجهد والتواني والطلب والقصور . وأما الثقة والارتياب فخلقان يغلبان ينفعان ويضران ويحمدان ويذمان ألا ترى أنه يقال : لا تثق بكل أحد ، ولا ترتب بكل إنسان وهكذا الطمأنينة والتهمة ، لأنهما في طيهما . وأما الحركة والسكون فليسا من حديث الخلق في شيء لأنهما عامان لجميعالأحوال سواء كان العمل مباشراً أم كان معتقداً ؛ وفي الحركة والسكون كلامٌ واسع ، وذلك أن ههنا حركةً إلهيةً ، وحركةً عقلية ، وحركةً نفسية ، وحركةً طبيعية ، وحركة بدنية ، وحركة فلكية ، وحركة كوكبية ، وحركةً كأنها سكون . فأما السكون فهو ضرب واحد ، لأنه في مقابلة كل حركة ذكرناها . فإذا اعتبرت هذه المقابلة في كل مقابل لحظ الانقسام في السكون ، كما وجد الانقسام في الحركة . والحركة أوضح برهان على كل موجود حسي ، والسكون أقوى دليل على كل موجودٍ عقلي ؛ وهذا القدر كافٍ في هذا الموضع . وأما الشك واليقين ، فمن علائق النفس الناطقة ، ولهذا لا يقال في الحيوان الذي لا ينطق : له يقين وشك . وأما الخلاعة والوقار ، فقد تقدم البحث عنهما . وأما التوقي والتهور ، فهما خلقان في جميع الحيوان ، ويغلبان على نوع الإنسان ، لأن العقل يبطل أحدهما ، والحس يغلب الآخر . وأما الإلف والملل فخلقان محضان ، يذمان ويحمدان على قدر المألوف والمملول ، وإن كان جريان العادة قد وفر الحمد على الإلف ، والذم على الملل . وقد مدح زيد فقيل : هو ألوف . وذم عمرٌو فقيل : هو ملول . وأما الصدق والكذب ، فمن علائق النفس الناقصة والكاملة ؛ وقد يكونان راسخين فيلحقان بالخلق ، إلا أن الصدق ممدوح ، والكذب مذموم ، هذا في النظر الأول ، وقد يعرض ما يوجب المصير إلى الكذب لينجى به ؛ فهما إذن بعد الحقيقة الأولىوقفٌ على الإضافة ؛ وقد وجدنا من كذب لينتفع ، ولم نجد من صدق ليكتسب الضرر . وأما الإخلاص والنفاق ، فهما يلحقان بالخلق ، ولكنهما يصدران عن عقيدة القلب وضمير النفس . وأما الإحسان والإساءة ، فهما يعمان الأفعال والأقوال ، فإذا رسخ اعتيادهما استحالا خلقين . وأما النصح والغش ، فهما خلقان ، وطرفاهما يتعلقان بالخلق . وكذلك الطمع واليأس ، والحب والبغض ، واللهج والسلو ، وما شاكل هذا الباب . ولم يجر هذا كله في المذاكرة بالحضرة ، ولكن رأيت من تمام الرسالة أن أضم هذا كله إلى حومته ، وأبلغ الممكن من مقتضاه في تتمته . وقال لي : هات الوداع ، فإن الليل قد هم بالإقلاع . قلت : قال أبو سعيد الذهبي الطبيب : لو علم الذي يحمل الباذنجان أن على ظهره باذنجاناً لصال على الثيران . فضحك - أضحك الله سنه ، وحقق في كل خير ظنه - وقال : إن كنت تحفظ في غرائب أخلاق الحيوان شيئاً فاذكره إذا حضرت ، فقد مر في أخلاق الإنسان ما يكفي مجلس الإمتاع والمؤانسة ، فإذا ضم هذا إلى ذاك كان للإنسان فيه تبصر كافٍ ، وتذكرٌ شافٍ . وصدق - صدق الله قوله - لأن الإنسان أشرف الحيوان ، وإنما كان هكذا لأنه حاز جميع قوى الحيوان ثم زاد عليه بما ليس لشيء منه ، فصار رباً له سائساً ، ومصرفاً له حارساً ، ونظر إلى ما سخر له منه فاعتبر ، وقاد نفسه إلى حسن ما رأى ، وعزفهاعن قبيح ما وجد ، ولم يجز في الحكمة أن يحرم الإنسان هذا مع ما فيه من المواهب السنةي ؛ والمنائح الهنية ، فإن قال قائل : فالملائكة إذن قد حرمت هذه الفضيلة ، فليعلم هذا القائل أن الملك لما خلق كاملاً لم يكلف أن يكمل ويتكامل ويستكمل ، فصار كل شيء يطلبه ويتوقاه سبباً إلى كماله المعد له وغايته المقصودة . فإن زاد فقال : فهلا خلق كاملاً ؟ فليعلم أن كلامه على طريق الجدل ، لا عىل طريق البحث عن العلل ، لأنه قد جهل أنه بالحكمة وجب أن يكون الأمر مقسوماً بين ما يجوز الكمال بالجبلة ، وبين ما يكسب الكمال بالقصد . ولما وجب هذا بالحكمة سرت إليه القدرة ، وساح به الجود ، واشتملت عليه المشيئة ، وأحاطت به الحكمة ، وشاعت فيه الربوبية . وههنا زيادةٌ في شرح الخلق يتم بها الكلام ؛ فليس من الرأي أن يقع الإخلال بذكرها ، لأنها مكشوفة ظاهرة ، وهي أن الإنسان إذا غلبت الحرارة عليه في مزاج القلب يكون شجاعاً بذالاً ملتهباً ، سريع الحركة والغضب قليل الحقد ، زكي الخاطر ، حسن الإدراك . وإذا غلبت عليه البرودة يكون بليداً ، غليظ الطباع ، ثقيل الروح . وإذا غلبت عليه الرطوبة يكون لين الجانب ، سمح النفس ، سهل التقبل كثير النسيان . وإذا غلبت عليه اليبوسة يكون صابراً ، ثابت الرأي ، صعب القبول يضبط ويحتد ، ويمسك ويبخل ؛ وهذا النعت على هذا التنزيل - وإن كان مفهوماً - فأسرار الإنسان في أخلاقه كثيرة وخفية ، وفيها بدائع لا تكاد تنتهي ، وعجائب لا تنقضي ؛ وقد قال الأول :كل امرىء راجعٌ يوماً لشيمته . . . وإن تخلق أخلاقاً إلى حين وقال آخر : ارجع إلى خيمك المعروف ديدنه . . . إن التخلق يأتي دون الخلق ولولا أن النزوع عن الخلق شاقٌ لما قالوا : تخلق فلان . وقد قيل أيضاً : ' وخالق الناس بخلق حسن ' ، وعلى هذا يجري أمر الضريبة والطبيعة والنحيتة والغريزة والنحيزة والسجية والشيمة ، وربما قيل : الطبيعة أيضاً ، ثم العادة تاليةٌ لهذه كلها ، أو زائدة فيما نقص فيها ، وموقدة لما خمد منها .
الليلة العاشرة
ولما عدت في الليلة الأخرى ونعمت بهذه الفضيلة ، تفضل وقال : ما في العلم شيءٌ إلا إذا بدىء بالكلام فيه اتصل وتسلسل حتى لا يوجد له مقطع ولا منفذ ثم قرأت عليه نوادر الحيوان ، وغرائب ما كنت سمعته ووجدته ، فزاد عجباً وأنا أرويه في هذا المكان حتى يكون تذكرةً وفائدة - إن شاء الله تعالى . يقال : إن أسنان الرجل اثنتان وثلاثون سناً . وأسنان المرأة ثلاثون سناً . وأسنان الخصى ثمانٌ وعشرون سناً . وأسنان البقر أربعٌ وعشرون سناً . وأسنان الشاة إحدى وعشرون سناً . وأسنان التيس ثلاث وعشرون . وأسنان العنز تسع عشرة سناً . الذي ذكر من أصناف الحيوان أنه يكتسب معاشه ليلاً : البومة والوطواط . ومن الحيوان الوحشي ما يستأنس سريعاً : الفيل .ويحكى أن الحيوان الذي أسنانه قليلة عمره قصير ، والذي أسنانه كثيرة عمره طويل . الفيل إذا ولد نبتت أسنانه في الحال ، فأما أسنانه الكبار وأنيابه الكبار فتظهر إذا شب وكبر . قلب جميع الحيوان موضوعٌ في الوسط من الصدر ما خلا الإنسان ، فإن قلبه مائل إلى الجانب الأيسر . الأفعى تبيض في رحمها ، ثم يصير هناك حيواناً . الشعر المولود مع الإنسان شعر الرأس والأشفار والحاجبين . وأول ما ينبت بعد ذلك شعر العانة وشعر الإبطين وشعر اللحية : إن خصي الإنسان قبل احتلامه لم ينبت في جسده الشعر الذي يتأخر نباته ، وإن خصي بعد احتلامه فإن ذلك الشعر يزول ، ما خلا شعر العانة فإنه يبقى . شعر الحاجبين ربما طال عند الكبر . وشعر الأشفار لا يطول . للأرانب في داخل أشداقها شعر ، وكذلك تحت أرجلها . القنفذ في فيه خمس أسنان في عمقه . والبرية منها تسفد قائمة وظهر الأنثى لاصق بظهر الذكر . الرجال يشتاقون إلى الجماع في الشتاء ، والنساء في الصيف . الخنزير إذا تمت له من ولادته ثمانية أشهر ينزو على الأنثى . الكلبة تحمل وتبقى ستين يوماً ويوماً ، وهذا أطول ما يكون ، ولا تضع قبل أن يتم حملها ستين يوماً ، فإن وضعت قبل ذلك فإنها لا تربي ولا يبقى لها ولد . الفيل الذكر ينزو إذا تمت له خمس سنين ، وزمان هياجه ونزوه أيام الربيع والأنثى تحمل سنتين ، ولا تضع إلا واحداً .إذا باض الطائر وما كان من أصنافه يخرج من البيضة الطرف العريض ثم يرق بعد ذلك . كل ما كان من البيض مستطيلاً محدد الطرف فهو يفرخ الإناث وما كان مستديراً عريض الأطراف يفرخ الذكور . وجرب من إناث الطير أنها إذا لم تجلس على البيض تمرض . القبج إذا هاج ووقفت الأنثى قبالة الذكر ، وهبت الريح من ناحية الذكر مقبلة إلى ناحيتها حملت من ساعتها . الحمامة إذا نتفت ريشة من ريشها احتبس بيضها أكثر مما لها بالطبع . مبدأ خلق الفرخ من بياض البيضة ، وغذاؤه من الصفرة ، فإذا خرج فرخان كان أحدهما أكبر جثةً من الآخر ، والذكر منهما من البيضة الأولى ومن الثانية الأنثى . الفاختة تعيش أربعين عاماً . والحجل يعيش عشرين عاماً . الرخمة تفرخ على صخور مشرفة عالية لا ينالها أحد ، ولا توجد رخمة وفراخها إلا في الفرط . العقاب يجلس على البيض ثلاثين يوماً ، وكذلك كل طائر عظيم الجثة مثل الإوز وما أشبهه ، والمتوسط الجثة يجلس على البيض عشرين يوماً ، كالحدأة والبزاة وما أشبه ذلك . إناث الغربان تجلس على البيض جلوساً دائماً ، والذكر يأتيها بالطعم حينئذ .الحجل تعمل عشين يجلس الذكر على واحد ، والأنثى على واحد . الطاوس يعيش خمساً وعشرين سنة ، وفي هذه المدة تنتهي ألوان ريشه . ويحضن بيضه ثلاثين يوماً ، قيل : وربما أكثر قليلاً ، ويبيض في كل سنة مرة واحدة ، وعدد بيضه اثنتي عشرة بيضة ، ويلقي ريشه في زمن الخريف وبعده قليلاً ، وذلك حين كيلقي الشجر ورقه ، فإذا بدا أول الشجر وظهرت فروعه ، ونبت ورقه بدأ ريشه ينبت . الدلفين له لبن ، ويرضع ، ويحمل عشرة أشهر ، وتلد في الصيف ولا تلد في زمانٍ آخر البتة ، وربما غاب تحت الموج في الماء ثلاثين يوماً لا يظهر ؛ وهو محب لخرئه يأكله . الجمل الذكر يكره قرب الفرس ويقاتله إذا تمكن منه . الشاة إن مطرت بعد نزوها انتقض حملها . الغنم إذا أنزيت والريح جنوبٌ تضع اولادها إناثاً ؛ وإن كانت العروق التي تحت ألسن الكباش الفحول بيضاً فإن إناث الغنم تضع حملاناً بيضاً ، وإن كانت العروق سوداء فإنها تضع حملاناً سوداً . وإن كانت لونين تكون مختلفة ؛ وإن كانت شقراً خرجت شقراً . الغنم إذا هاجت المسنة منها أولاً فالسنة ذات خصب ، وإن هاجت الفتية أولاً فالسنة رديئةٌ على الغنم . الكلب السلوقي ينزو إذا تم له ثمانية أشهر ، والأنثى منها تحمل ستين يوماً ، وربما زادت يوماً أو يومين ، وجراؤها عميٌ اثنين وعشرين يوماً . ومنها ما تحمل ثلاثة أشهر وتكون جراؤها عمياً سبعة عشر يوماً . إناث الكلاب تطمث في كل سبعة أيام وتبول جالسة ، ومنها ما ترفع رجلها عند البول . ذكور الكلاب ترفع أرجلها للبول إذا تمت لها من ولادتها ثمانية أشهر وبعضها في ستة أشهر .ذكور الكلاب السلوقية تعيش عشر سنين ، وإناثها اثنتي عشرة سنة ، ومن أجناسها ما تعيش عشرين سنة ، وإناثها كلها أطول أعماراً من الذكور . قال أوميروس الشاعر : إن كلب إديوس هلك وهو ابن عشرين سنة . وليس تلقى الكلاب شيئاً من أسنانها سوى النابين ، فإذا تم للكلب أربعة أشهر أبقاهما . البقر تلقي أسنانها لسنتين ، وإذا كثر نزو الذكور منها وحمل الإناث يكون ذلك علامة شتاء وجود أمطار وخصب ، وإناثها تطمث . إناث الخيل تضع أولادها في أحد عشر شهراً ، أو في الثاني عشر . الحيات رغبةٌ نهمة ، قليلة شرب الماء ، لأنها لا تضبط أنفسها ، وإذا شمت الشراب فإنها تشتاق إليه جداً . الأسد إذا بال رفع رجله كما يرفع الكلب . البقر تشتهي شرب الماء الصافي النقي ، والخيل على الضد فإنها تشرب مثل الجمال الماء الكدر الغليظ . الغنم في الخريف تشرب الماء الذي تصيبه ريح الشمال ، وذلك الوقت أوفق لها . الدراج إذا هبت الريح شمالاً تتزاوج وتخصب ، وإن كانت جنوباً ساءت حالها ومرضت . السمك الذي يأوي إلى الشطوط من ناحية البر ألذ من الذي يأوي اللجج وما كان منها مستطيل الجثة فهو يخصب في الصيف وهبوب الشمال ؛ والعريض الجثة على ضد ذلك ، وأكثر ما يصاد السمك قبل طلوع الشمس لكلبه على الرعي ، وطلب الطعم . والسمك الجاسي الجلد يخصب في السنة المطيرة ، لأن ماء البحر يحلو فيها . الكلب له ثلاثة أمراض : الكلب ، والذبحة - وهو القاتل لها - والنقرس .والداء الذي يقال له الكلب يعرض للجمال أيضاً ؛ فإذا كلب الجمل نحر ولم يؤكل لحمه . الخيل إذا ألقت حوافرها وقت تنصل نبت لها حافر آخر عاجلاً ، لأن نباته يطلع مع نصول الحافر . وعلامة ذلك اختلاج الخصية اليمنى . ويعرض للخيل داء شبيه بالكلب ، وعلامته استرخاء آذانها إلى ناحية أعرافها ، وامتناعها من العلف ، وليس لهذا الداء علاج إلا التسكين . لا يكون في بلد الهند خنزير . لا أنيسٌ ولا بري ، وفي أرض تعرف بكذا يجز البقر كما يجز الغنم ، وفي أرض النوبة تولد الكباش نابتة القرون . وإناث الكلاب السلوقية أسرع إلى الأدب من الذكور . جميع أجناس الحيوان إناثها أقل جرأة وأجزع ، ما خلا الذئبة ، فإنها أصعب خلقاً وأجرأ من الذكور . العقاب والتنين يتقاتلان ، والعقاب تأكل الحيات حيثما وجدتها . الغداف يخطف بيض البومة نصف النهار فيأكله ، لأن البومة لا تبصر بصراً حاداً في ذلك الوقت . فإذا كان الليل شدت البومة على بيض الغذاف فأكلته . بين العنكبوت وبين الحرذون شر ، لأن الحرذون يأكل العنكبوت . عصفور الشوك يقاتل الحمار ، لأن الحمار إذا مر بالشوك أفسد عشه ، فإذا نهق بالقرب منه وقع بيضه ، وإن كان فيه فراخ خرجت منه ، فلهذه العلة يطير هذا العصفور حول الحمار وينقره . الغراب يعادي الثور والحمار وينقرهما .والحية تعادي الخنزير وابن عرس ، لأنهما يأكلان الحية حيث وجداها . الغداف مصادق للثعلب ، والثعلب مصادق للحية ، والسبب في عداوة العصفور للحمار أن معاش العصفور في بزر الشوك وفيه يبيض ، وهو وكره ، والحمار يرعى ذلك الشوك إذا كان رطباً . البقر يكون في الجبال إذا ضلت بقرة تبعتها الأخرى ، ولذلك الرعاة إذا لم يجدوا بقرة واحدة وعدموها طلبوا سائر البقر وفقدوها من ساعتهم . الخيل إذا ضلت الأنثى منها أو هلكت ولها ولد فإن إناث الخيل ترضعه وتربيه ، وذلك أن جنس الخيل في طباعها حب أولادها . الأيايل تلقي قرونها في أماكن عسرة صعبة ، لا ترتقى لئلا تؤخذ ؛ ولذلك قيل في المثل : حيث تلقي الأيايل قرونها ، فإذا ألقتها توقت أن تظهر إلى أن تنبت ، كأنه قد ألقت سلاحها . وقيل : إنه لم يعاين أحد القرن الأيسر من قرنيها ، لأن فيه منفعة عظيمة . وإذا وضعت أولادها أكلت مشائمها من ساعتها ، ولا يمكن أخذها لأنها تأكلها من قبل أن تقع على الأرض . والأيلة تصاد بالصفير والغناء ، ويفعل ذلك رجلان أحدهما يغني ويصفر ، والآخر يرشقها بالسهام ، فلإصغائها إلى الصفير والغناء لا تحذر السهام . ويقال إن الأيل إذا كانت أذناه قائمتين فهو يسمع كل شيء ولا يخفى عليه ما يراد به ، وإن كانتا مسترخيتين خفي ذلك عليه . الفهد إذا أكل العشبة التي تسمى خانقة الفهود يطلب زبل الإنسان فيأكله ويتعالج به . ابن عرس إذا قاتل الحيلة أكل السذاب مخالفة للحية . اللقالق إذا خرجت من قتال بعضها بعضاً تضع على الجرحصعتراً برياً . يقال إن ذكور العصافير تبقى سنة فقط ، والدليل على ذلك - أنها من قبل أطواقها التي في أعناقها - لا تظهر في الربيع ، بل بعد ذلك بأيام ، لأنها لا تبقي شيئاً من الذكور التي كانت من العام الماضي ، فأما إناثها فهي أطول أعماراً . إذا دنا الصياد من عش القبج تخرج الأنثى من بين يديه وتطعمه في صيدها حتى تهرب فراخها ، ثم تطير وتدعو فراخها إليها . وإناث القبج تبيض خمس عشرة بيضة ، والذكر منها يطلب موضع بيض أنثاه فيدحرجه - مخافة أن تقعد عليه وتشتغل عنه - فيفسده ، وهي تحتال أبداً في الهرب منه وتخفي موضع عشها ، فتبيض في أماكن خفية ، ومتى قصدها قامت عنه وأطعمت في نفسها حتى تبعد عن أماكن بيضها ، فإذا بعد طارت ثم احتالت في الرجوع إليه . الهدهد يعمل عشه من زبل الإنسان ، فلذلك رائحته كريهة . العقاب تصيد منذ حين الغداة إلى وقت الرواح ، فأما من أوان الرواح إلى أن يترحل النهار فهي قاعدة في مكانها لا تتحرك . ومنقار العقاب الأعلى ينشأ ويعظم ويتعفف حتى يكون ذلك سبب هلاكها لأنها لا تنال به الطعم ، فإذا فضلت للعقاب فضلةٌ من طعمه وضعها في عشه لحاجة فراخه إليها . أصناف الطير المتفقة المعقفة المخالب لا تجلس على الصخر إلا في الفرط ، لأن خشونة الصخر مخالفةٌ لتعقف مخالبها . النحل تعمل عشها في زمانين : في الربيع والخريف . والعسل الذي تعمله في الربيع أشد بياضاً وأجود من الذي تعمله في الخريف . وأضعف العسل يكون أبداً في أعلى الإناء ، والنقي الطيب في أسفله .الأسد عظامه جاسية جداً ، وإن دلكت بعض عظامه ببعض خرجت منها نار كما تخرج من الحجارة . الحيوان الذي له شعر في أشفار عينيه ليس في أشفار عينيه شعر إلا الشعر الأعلى . والنعامة لها أشفار في الجفنين الأعلى والأسفل . القنفذ تبيض خمس بيضات ، وليس بيضاً بالحقيقة ، بل هو على صورة البيض ، يشبه الشحم . قلب كل حيوان طرفه حاد ، وهو أصلب من سائر جسده ، وهو موضوع في وسط الصدر سوى الإنسان ، فإنه مائل فيه إلى الناحية اليسرى ، لأنه يكون بإزاء الجانب الأيسر فيعادل الناحية اليمنى ، فإن اليسرى من الإنسان أكثر برداً . وليس في قلوب جميع الحيوان عظم إلا في الخيل ، وفي جنس من البقر ، فإن في قلب هذين عظماً دون غيرهما من الحيوان . وكل حيوان له قلبٌ كبيرٌ يكون جزوعاً . الكلاب الهندية تتولد من كلب وسبع شبيه بالكلب . والحمار حيوان بارد ، ولذلك لا يكون الوحشي منها إلا في المكان البارد . ذكور البغال لا تشم أبوال إناثها كسائر ذوات الحافر . بيض الطير فيه لونان : بياض وصفرة . وبيض السمك فيه لون واحد . إذا كانت الريح جنوباً كان المولود أنثى ، لأن الجنوب إذا هبت رطبت وإذا أشملت كان المولود ذكراً .عيون جميع الصبيان ساعة ولادتهم شهل ، ثم تنتقل إلى الطباع الغالبة عليها . وعيون جميع الحيوان لون واحد ، كالبقر فإن عيونها سود . وعيون البشر ألوان كثيرة . صاحب العين الناتئة لا يبصر ما بعد عنه بصراً جيداً ، والغائرة تبصر ما بعد عنها ، لأن حركتها لا تتفرق ولا تتبدد . الفهد ربما نكح الدب فيتولد بينهما سبع مختلف المنظر ، لا يتناول الناس ويصيد الكلاب ، ويأكلها ويستخفي في البحر ، فإذا مر به أيلٌ مفاجأة وثب عليه وأنشب مخالبه في أكتافه ومص دمه حتى يضعف الأيل ويسقط فيجتمع عليه هذا الصنف من السباع فيأكله ، فإن اجتاز بها أسد نضهت عنه وتركت الفريسة له تقرباً إليه . بأرض يونان معزى جعدة الصوف ، يقال لها : المعزى البرية ، فإذا أصابت قرونها شيئاً من قضبان الكرم ولم ينبت ورقه ولا ثمره ، بل يجف مكانه ويسقط ما عليه من الورق والثمر . السلحفاة تخرج من البحر إلى الرمل فتبيض فيه ، حتى إذا بلغ أوانه وخرج أولادها ، فما كان ناظراً إلى ناحية البحر كان بحرياً ، وما كان وجهه إلى ناحية البر كان برياً . والسلاحف تمتنع من الذكران ، فيأتيها بعود يحمله في فمه ، ويدنو منها ، فإذا رأت ذلك العود سكنت له . وما كان من السلاحف بحرياً فخرج إلى البر وأصابه حر الشمس لم يستطع الرجوع إلى البحر وبقي حتى هلك . وما كان برياً فوقع إلى ناحية البحر تلف ولم يستطع الرجوع إلى البر وهلك . الثعلب يهيىء عشه ووكره ذا سبعة أحجرة ، فإذا طرقته الكلاب وغيرها ممايتخوف في جحر خرج من غيره . وإذا قارب الزرع أن يسنبل دخل الثعلب فيه وتمعك فرحاً به ، فيفسد ذلك الزرع ، ولذلك سمي احتراق الشعر : داء الثعلب ، لأنه يسقطه كما يذهب ورق السنبلة والشوكة . القنفذ يعمد إلى الكرمة فيحركها فيقع منها العنب ، فيتمرغ فيه حتى يملأ شوكه ويعود إلى عشه ، فإذا بصرت به جراؤه أطافت به تلتقط ذلك الحب من شوكه وتأكله . الذئب إذا هيىء من معاه وترٌ وهيىء من معي الشاة وتر ، ثم علقاً بآلات الملاهي ، ثم ضرب بهما ، صوت المعمول من الذئب ، وخرس الوتر المعمول من الشاة . وكل شاة يتناول الذئب من لحمها يكون لحمها حلواً لذيذاً ، وكل جزة صوف تهيأ من الشاة التي قد تناول الذئب منها قمل الثوب المعمول منها من قبل سم أسنانه . الكلب إذا مرض أكل حلفاء رطبةً . والأيل إذا مرض أكل حية . والضبع إذا مرض أكل كلباً . الأسد إذا أكل كلباً فإنه يكون قد ضرس فيزول ذلك . الرخمة إذا ضعف بصرها بقرت مرارة إنسان . الأعنز البرية تألف حيتاناً بحرية ، وتدع الجبال وتسلك طريقاً بعيداً حتى تأتي البحر لمكان تلك الحيتان ، فلما عرف ذلك الملاحون سلخوا جلود تلك الأعنز ،ودنوا بها من شاطىء البحر على ظهورهم ، فإذا نظرت تلك الحيتان إليها خرجت مسرعة إليها فيصيدها الملاحون . ليس من السباع شيء صلبه عظم واحد بلا خرز إلا الأسد والضبع . من ربط على بدنه سناً من أسنان الذئب يكون سريع الجري . المعزى البرية تكون صلبة القرون ، تأوي أطراف الجبال وما كان مشرفاً من الصخور على أودية ، فإن بصرت بالصياد ألقت أنفسها من تلك الصخور لتقيها بقرونها ، فإن سقطت على غيرها هلكت ، وفي قرونها خرزات مستديرات على قدر ما يكون عدد سنيها . والعجب أنها تحفظ إنائها عند الكبر وتتعهدها بالمطعم والمشرب تحمله على أفواهها . المعزى البرية إذا صيد شيء من سخالها تبعته ورضيت بالعبودية مع ولدها وفي أطراف قرونها جحرة تتنفس منها ، فإن سدت هلكت مكانها . الورشان يتحرز بأن يضع ورق الغار في عشه . والحدأة تضع في عشها ورق العليق تتحرز به . الخطاف يضع في عشه قضيب كرفس . التدرج يضع في عشه سرطاناً نهرياً .جميع السباع والدواب عند المشي تقدم اليد اليمنى والرجل اليسرى . لا تكون الزرافة إلا في أرض قليلة الماء . إذا هم أصحاب الخيل أن ينزو حماراً على فرس جزوا عرفها فتقر حينئذ وتذل لكدم الحمار لها . يبونان ثيران لها أربعة قرون لا ترضى بمجامعة البقر ، بل تجامع إناث الخيل ، ويتولد بينهما خيول عجيبة المنظر . الجاموس لا ينام أصلاً وإن أرخى عينيه إرخاء يسيراً ، لكنه ساهرٌ الليل والنهار . الجمل إذا وقع على الناقة وقع الضراب ستر عن الرجال ، فإن نظر إليه رجل غضب . قالت الروم : إن السنور يتولد من مجامعة الفهد لبعض السباع . لا ينام البوم إلا إغفاءة . ومن العجب أن السنور يكون صافي العين كثير البريق عند امتلاء الهلال وينقص ذلك الصفاء والبريق عند نقصان الهلال . الأفعى إذا جامعها الذكر واسمه الأفعوان تحولت إليه ، فإن ظفرت به أكلت رأسه من شدة عشقها له . ذكر العقرب اسمه عقربان ، أسود صغير ، سريع المشي ، جاد الذهاب الحرذون تفسيره بالعربية الذي يخرج من الزعفران . التمساح لا يكون إلا في النيل ونهرٍ بأرض الهند يقال له : الرسيس ويبيض كبيض الإوز ، وربما يولد منه حراذين صغار ، ثم يكبر حتى يبلغ طوله عشر أذرع ، ويزداد طولاًكلما ازدادت سنو حياته . وسنه اليسرى نافعة لحمى النافض . وذكر أنه يجامع ستين مرة في حركة واحدة ومحل واحد . الحمار الوحشي يتولد بين الفرس والفيل ، وله قرن ينبت من أنفه كأنه سيف ، وإن ضرب شجرةً قطعها وبه يقاتل الفيل ويبعج بطنه بقرنه ، ولم يعاين من هذا الجنس أنثى قط . في البحر حوت يقال له : البوس ، يتولد من الصاعقة إذا كانت في البحر وإن وضع ذلك الحوت بين اثنين فأكلا منه تحابا ولا يحقد أحد على صاحبه ، ويتآخيان أحسن الإخاء . كلب الماء أبدا ذنبه على ظهره واقع مع انطباق والتواء ، يرعى نبات الأرض ، وهو شديد الجزع من المنار ، فإذا كان الليل خرج الصيادون بأيديهم شعل النار ، فيأتون مجثمها ، وتلك لا تتحرك لجزعها من النار حتى تؤخذ ، وإن كان منها ذكر لم يجامع أنثى قط ، وإذا أرادت المجامعة فإنها تجتمع وتجلد فتفرخ . وإن أخذ صياد بشبكة واحداً وثبت كلها حتى تدخل الشبكة آبية فراق بعضها بعضاً . ومن لبس جورباً من جلودها وبه نقرس انتفع به جداً . وإذا ابتلي إنسان برعاف ثم أخذ قطعة من جلدها ، ثم انعقد في لبن واشتمه انقطع ذلك الرعاف . اليرابيع إذا اجتمعت في موضع ارتفع رئيس لها حتى يكون في موضع مشرف أو على صخرة أو تل ينظر منه إلى الطريق من كل ناحية ، فإن رأى أحداً مقبلاً أو سبعاً صر بأسنانه وصوت ، فإذا سمعته انصرفت عن الموضع إلى جحرتها فإذا أغفل ذلكوعاينت البقية سبعاً أو راجلاً قبل أن يراه ذلك الرئيس انصرفت إليه وقتلته لتضييعه أو غفلته . وإذا كان حسن الرصد مضت اليرابيع فقطعت أطرأ ما يكون من الخضرة وأطيب العشب فحملته بأفواهها حتى تأتيه تحية وتكرمة . وإذا كانت في جحرتها خرج الرئيس أولاً فيبصر الطريق ، فإن لم ير أحداً صر بأسنانه وصوت لها لتخرج فترعى . في البحر حوت يقال له : موفي ، ضعيف الجسد ، قليل القوة ، إذا جاع خرج إلى الشاطىء فاستلقى على الرمل فأقام شوكة في رأسه ، فإذا نظر إليه حوت آخر جاء مسرعاً ليأكله يظن أنه ميت ، فيدخل بطنه تلك الشوكة فيقتله بها ويأكله . وإذا ألقى الملاح صنارته ولقيت ذلك الحوت رمى مكانه بتلك الشوكة الحادة يد الملاح فتخدر ويطرح أداة صيده . فإذا رأى الحوت أن الصنارة داخلت أضلاعه غلبت الظلمة على بصره ومات من ساعته . وفي جلد هذا الحوت عجب ، وهو أن الصاعقة لا تدنو من جلده ، والملاحون يغطون سفنهم به عندما يتبينون الصواعق ووقوع المطر ، ويدنو هذا الحوت إلى طرف مقدم السفينة فيمسك بطرفه اللطيف ، فلو اجتمعت الرياح كلها بأشد هبوبها لم تستطع تحريك تلك السفينة ، فمن أخذ من جلدها وسمر به شراع السفينة لم يخف على سفينته غرقاً . السريع الحضر أربعة : النمر والحريش وعنز الجبل وكباشها . عدو الحيات أربع : القنفذ والفيل والأيل والعقعق .الجبان اثنان : الأرنب والأيل . ذو الزهو ثلاثة : الفرس والديك والطاوس . ذو حدة السمع ثلاثة : الذئب والحمار والخلد . القادر على التزاوج ثلاثة : العصفور والحمام والعقعق . ذو الشهوة ثلاثة : العصفور والثور والباشق . لمتحارس بالليل اثنان : الكركي والبط . نافى فراخه ثلاثة : النعام والغداف والعقاب . محب الظلمة ثلاثة : البوم والخفاش والخلد . ذو حدة البصر ثلاثة : العقاب والظبي والباشق . من أخذ لسان ضبع ومر به بين الكلاب لم تكلب عليه . من مر بمكان كثير الضباع فأخذ بيده أصلاً من أصول عنب الحية هربت منه . وعنب الحية هو الحنظل . وذكر الحباري يقال له : الخرب . إذا أراد إنسان أن يتزوج امرأة فلينظر إلى أبيها وأخيها فإنها بعيانه وبين يديه أحدهما . من الحيوان ما لا يشبه الولد الوالد كالدببة والنحل والدبر . أما الدببة فتضع أولادها توائم لا صور لها حين تولد ، غير أن أمها تهيىء ، صورها ،وتسويها بلحسها إياها بألسنتها . . . . وأما الدبر فإنها تلد دوداً يتصور بعد ذلك . الضفادع والغيالم والسرطانات لا ضرر عليها في ماء ولا يبس ، لكنهما عندها سيان لا تهلك في بر ولا تخنق في بحر . كل ما أكل اللحم فهو ذو أسنان قواطع صلاب ، وأعناقٍ قصارٍ شداد ، ومخالب وأظفارٍ حداد ، ومناقير معقفةٍ جذابة . للأسد ثلاث طبائع : الأولى منها أنه إذا مشى فشم ريح الصيادين عفى على آثاره بذنبه لكيلا يتبعه الصيادون ويقفوا عليه في عرينه فيتصيدوه . والثانية أن اللبءة تلد شبلها ميتاً ، فلا تزال تحرسه حتى يأتي أبوه في اليوم الثالث فينفخ فيم نخره فيبعثه . والثالثة أنه يفتح عينيه إذا نام وهما يقظتان . ومن تمسح بشحم كلى الأسد ومشى بين السباع لم يخفها ولم تقربه ؛ وإن افترس الأسد الفريسة ولم يأكلها ميز أن ريحها منتنة جداً . وأصناف الحيوان التي تلغ الدم بألسنتها : الكلاب والسنانير . الأسد : تضع أولادها غير منفتحة العيون ، وإنما تنفتح بعد ذلك . وأما الأسد خاصة فليس له من جنسه قرين ، ولا يرى شيئاً من السباع كفؤاً لهفيصحبه ، ولا يقرب شيئاً من بقايا فريسته بالأمس ولو جهده الجوع ويهر زئيره كثيراً من الحيوان الذي هو أعظم منه جسماً وقوة . وإنما تلد اللبوة واحداً ويخرق بطن أمه بأظفاره ويخرج منه . الثعلب إذا جاع فلم يقدر على صيدٍ عمد إلى أرض شديدة الحر وإلى موضع الطير إذا حمي ، فاستلقى على ظهره ونظر إلى فوق ، ثم اختلس نفسه وأخذ به داخلاص حتى ينتفخ انتفاخاً شديداً فيحسبه الطير قد مات ، فيقع عليه ليأكل منه كما يأكل الجيفة ، فإذا اجتمع الطير انتفض سريعاً وقبض على ما وجد فأكله ، لأنه ذو خبٍ ومكر ، كذلك طبيعته إن أصابه ضرر فأثر فيه آثاراً وكلم فيه كلوماً أخذ من صمغ شجرة تدعى قنطوريا فأبرأها به . القدر أهيأ الحيوان لقبول التعليم ، وهو لعوب غضوب سريع الحس ، لا يكون في بلد كثير السباع ، عدو لجميع الحيوان ، مليح الإهاب ، نهوشٌ خطوف ، إلا أنه إذا شبع نام في غارة ثلاثة أيام ، فإذا خرج صاح بصوت عالٍ تخرج منه رائحة طيبة ، فيجتمع إليه الحيوان لحسن صوته . ومن أراد ختله فليتمسح بشحم الضبع ويدخل عليه في غاره ، فإنه لا يمتنع ؛ خفيف الجرم ، حديد الشد يقظان . دابة يقال لها بالفارسية درباست إذا طلبهالقانص استلقى لظهره وأراه أنه لا خصية له ، كأنه قد علم ما يطلب منه . خلق الجبان من الحيوان الخائف سريع الحضر سريع الحركة ، وجعل الصنف الجريء العادي بطىء الحضر مبلداً . الضبع مخالفة لجميع أجناس الحيوان ، وذلك أنها تصير مرة ضبعاً ذكراً ومرة أنثى ، تلقح أحياناً كالذكر ، وتقبل اللقاح أحياناً كالأنثى . وطبيعتها أنها إذا رأت الكلب في ليلة مقمرة مشت على الآثار ووطئت ظله فوقع . ومن قتل ضبعاً وأخذ لسانها ومر بين الكلاب لم تكلب عليه ، ولم تعرض له . ومن مر بمكان كثير الضباع فأخذ بيده أصلاً من حنظل ، أسكتها عنه وهربت منه . القنفذ عدو الحيات ، إذا قبض على حية تركها تضطرب على شوكه حتى تموت ، فإذا ماتت قطعها قطعاً . الدب يقتل الثور ، والغالب عليه الانحجار في مغارته . الفيل ليس له شهوة السفاد ، فإذا أراد الولد أتى رياضاً وجناناً فيها اللقاح هو وإناثه فهيج له اللفاح برائحته وقوة حرارته شهوته فتسافدت ، فإذا ولدت ولدت قائمة ، لأن أوصالها ليست مواتيةً كأوصال التي تلد باركة ورابضة غير أنها تلد في الماءحذراً على دغفلها أن يموت إذا وقع على الأرض ، فلذلك تدخل ساحل البحر حتى يبلغ الماء بطنها فتضع ولدها على الماء كالفراش الوثير والذكر في ذلك يحرسها وولدها من الحية . ما أشد عداوة الفيل للحية ؛ حيثما أصاب الفيل الحية وطئها وقتلها . وإن هو سقط على جنبه لم يستطع القيام ، إنما نومه إذا اتكأ على شجرة . ومن هناك - لما عرف أهل تلك البلاد كيف نومه - يأتون الشجرة فينشرونها بالمنشار ، فإذا أتاها الفيل واتكأ عليها وقعا على الأرض معاً ، وحينئذ يشتد صياحه بصوت رفيع ، ويجتمع إليه لذلك فيلةٌ كثيرة تحاول معاونته على النهوض والانبعاث ، فلا تقدر على ذلك ، فتصيح جماعتها بصوت واحد جزعاً من ضعف حيلتها وعجزها حتى يأتي الفيل الذي هو في الجسم أصغر ، وفي الحيلة أكبر منها ، فيدخل مشفره تحت الفيل الساقط ، وتفعل كفعله جميعاً في إدخال مشافيرها تحته حتى تدعمه فينبعث ، وإنما كون رأس الفيل في عنق قصير ، وكون له بدل العنق الطويل المشفر الطويل ليكتفى به من الضيق ؛ وبه يتناول طعامه وشرابه . وخلقت قوائمه غير منفصلة ، لكنها كالأساطين المصمته والسواري الوثيقة لتحمل الكثير الثقيل ؛ وربطت بعراقيب صغارٍ غير منحنية ولا منثنية على الأوصال ، لكن عظامه مفرغة إفراغاً . تطول أعمارها إلى ثلاثمائة سنة ؛ غير أن الدرذان والبق تعلق بالفيلة فتؤذيها . السمندل : دابة لا تخاف النار ، لأنها لا تحرقها ، وإن دخلت أخدوداً متأججاً مضطرماً بالنار لم تحفل بذلك ، وصارت النار التي تبيد الأجسام مبعثاً لهذه الدابة المهينةالحقيرة ، تستلذ التقلب فيها استلذاذ القلب بالهواء البسيط وهبوب أرواحه الطيبة ؛ ونضارة جلدها وتنقيته بالنار ، فيزداد بالنار حسن لون . الأرنب من طباعها الجبن والخوف ، وهي كثيرة الولادة . الكلب ذو فحص واقتفاء للأثر ، وبشمه يسترشد ويهتدي ويستدل إذا شم المولى عرفه إن كان له أو لغيره . ومن طباعه الترضي والبصبصة والهشاشة لمن عرفه . ليس في الحيوان أشد حباً لصاحبه منه ، فإن أشار له على صيد وثب ناصباً رأسه رافعاً ذنبه مستعداً كالفارس البطل والشجاع النجد ، مع نشاطه في الطلب وهو يعلم أن الصيد ليس بحاضر ، لكن ذلك منه حسن طاعة . فأما حب بعض جراء الكلاب لبعض إذا كان أخاه لأم ولأب فمما قد عهد وشوهد ، وذلك أنه حيث كان يطرح لها الطعام في الوسط ، فلا يخطف واحد منها ذلك ، ولكنها تتعاطاه بينها بسكون وتمكين بعضها لبعض ، غير مستأثرة به ولا محاربة عليه . الفرس من طباعه الزهو والحرارة وشهوة الإناث للسفاد . وإن وطىء الفرس أثر وطء الذئب ارتعد وخرج الدخان من جسده كله . الذئب إذا رأى الإنسان مبطئاً خطوه وهو ساكنٌ سكت عنه ، فإن رآه خاف وجبن اجترأ وحمل عليه وكبسه . وليس كل ذئب يعدو ، ولكن هو الذي يكون ضارياً ؛ وفيه خلتان : إحداهما أن يكون منفرداً يمشي وحده ، والأخرى حدة سمعه ، إن خفي عليه مكان الغنم أتى مكاناً وعوى صوتين أو ثلاثة ، ثم سكت منصتاً لأصوات الكلاب التي مع الغنم ونباحها حين سمعتعواءه ، فإذا سمع نباح الكلاب شد مسرعاً نحوها ، قاصداً إليها ؛ فإذا قرب من الغنم مال إلى ناحية أخرى خالية من محرس الكلاب فاختطف ما أمكنه خطفه من الغنم . حمار الوحش إذا ولدت الأنثى الأولاد الذكور جاء الفحل فانتزع خصي تلك الذكور وقطعها بأسنانه لكيلا تصاد أو تشاركه في طروقةٍ ، إلا أن الأنثى ربما وضعت ولدها في مكان غامضٍ حتى يشتد جسمه وتصلب حوافره ، ويقوى بالشد على النجاة من الفحل ، ولهذا السبب يقل منها الفحول . الحريش دابة صغيرة في جرم الجدي ساكنةٌ جداً ، غير أن لها من قوة الجسم وسرعة الحضر ما يعجز القناص عنها ، ثم لها في وسط رأسها قرن واحد منتصب مستقيم ، به تناطح جميع الحيوان فلا يغلبها شيء . احتل لصيدها بأن تعرض لها فتاةً عذراء وضيئةً ، فإذا رأتها وثبت إلى حجرها كأنها تريد الرضاع ، وهذه محبة فيها طبيعية ثابتة ، فإذا هي صارت في حجر الفتاة أرضعتها من ثديها على غير حضور اللبن فيها حتى تصير كالنشوان من الخمر والوسنان من النوم ، فيأتيها القناص على تلك الحال فيشد من وثاقها على سكون منها بهذه الحيلة . الأيل عدو الحيات إن قربت منه حية فانجحرت في صدع صفا ملأ الأيل فاه من الغدير أو من حيث وجد فدفعه في ذلك الصدع ، ثم اجتذب الحية إليه بالقوة حتى يقتلها ، وإن كانت فوق أنزلها ، وكذلك إن كانت أسفل ، فإن كان جائعاً أكل ما أصاب منها ، وإن لم يكن به جوع قتلها وتركها فصارت الحيات ذوات السم الزعاف المميت لكل من أصابهأو خالط بدنه غذاء هذه الأيايل ، ويكون ملائماً لها لذيذاً عندها . وإن دخن البيت الذي فيه الحيات بدخان حريق قرن الأيل فرت منه كلها خوفاً . على أن الأيل نفسه جبانٌ شديد الرعب ، إذا أكل الحية بدأ بذنبها حتى ينتهي إلى رأسها ، ثم يقطعه بأسنانه ، وأكبر من ذلك أنه يتعلق برءوسها وتبقى في الهواء . وتكثر فيه المرة ويعطش عطشاً شديداً فيعوج إلى غدير الماء . الغزال ، يقال : ليس في الحيوان أبصر من الظباء ؛ ويقال لها باليونانية النظارة والمبصرة . الثور دابة عمولٌ كدودٌ مقدرٌ جسمه بقدر قوته . من طبيعته كثرة المنى وتوقد شهوة السفاد ، إن لم يخص لم يذلل للعمل ولم يسكن ولم يصح جسمه لأن الغلمة تحل جسمه وتنحله ، والخصاء يقطع ذلك كله . وبينه وبين الدب عداوةٌ شديدة . أعنز الجبل وكباشه وهي الأرواء والتياتل هذا جنس متمرد في الجبال سريع الحضر في الشواهق والتوقل فيها وطبيعتها أن تلد توائم . قد يوجد من البهائم ما لا يحمل ، فأما أنثى الخيل إذا كانت حاملاً فوطئت أثر الذئب بحافرها أجهضت حملها . الحمار في طبيعته معرفة صوت الإنسان الذي اعتاد استماعه وإيناسه ، لا يضل عن طريق سلكه مرة ولا يخطئه ، إذا ضل راكبه الطريق هداه وحمله على المحجة .وأما حدة السمع ، فليس في البهائم فيما يذكر أحداً سمعاً منه . اليامورة دابة وحشية نافرة ، لها قرنان طويلان ، كأنهما منشاران تنشر بهما الشجر ؛ إذا عطشت وردت الفرات وعليه غياطل وغياض ملتفةٌ أشجارها تفرعت من أغصانها غصونٌ طوال دقاق مشبكة ، فإذا شربت ريها وأرادت الصدر اشتهت الاستتار والعدو بين تلك الأشجار ولحت هناك فعلق قرناها بتلك الغصون اللدنة المتينة ، وكلما عالجتها لتفلت ازدادت ارتباطاً فإذا ضجرت مما وقعت فيه عجت جزعاً ، وسمع القناص صوتها فأتوها فقتلوها . الجمل : حقود ، يرتصد من ضاربه الفرصة والخلوة لينتقم منه ؛ فإذا أصاب ذلك لم يستبق صاحبه ، فأما ظهره فذو سنام مقبب يكون لكثرة الحمل واحتمال الثقل ، وأوصال ركتبه وعراقيبه كبارٌ صلاب ، وأوتارها وعروقها متينة شديدة ، وعصبه وثيق لم يشتد بضغط التحام مفاصله واتصالها ولم يسترخ مطوياً ، لكنها هيئت على الاعتدال ليهون عليه بذلك البروك والنهوض بحمله ، مع تسهيل الارتقاء عليه في ذلك . البغال : نوعٌ هجين قد أنبئنا أنه لا يلد ، إلا أنه أهدى للطريق للناس وأثبت حفظاً . الثيران وكل ذي قرن لا يأخذه الفواق . وأما سباع الطير وآكلات اللحم منها فصلاب الأظفار ، حجن المناقير ذات حدة وقوة ، قوية الأجنحة .والنواهض التي فيها القوادم أكثر طيراً . الديك صلف في طبيعته ، غير أن له مع ذلك إيقاظاً للنائم بصياحه في آناء الليل ، والتبشير بإقبال الصبح وطلوع الشمس ، يؤنس السيارات في السفر بصياحه في الليل ، ويحرضهم على السير ، مع إيقاظه الفلاحين لعملهم ، والصناع لصناعتهم ، وإذا سمع المرضى صوته داخلهم من ذلك روحٌ وخفة من مرضهم . الطاوس يحب الزينة ، غير عفيف الطبيعة ، يدعوه زهوه وحرصه على التزين إلى نشر ذنبه وعقده كالطاق لتراه الأنثى بحسن زينته . الكراكي تتحارس بالليل ؛ ويجعل الحارس منها يتردد في المحلة ويهتف بصوت يسمع محذراً ، فإذا قضى نوبته استراح وأعقبه الذي كان مستريحاً نائباً عنه حتى تقضي كلها ما يلزمها من الحراسة ، فإذا طارت لم تطر متقطعةً ، لكنها تطير نسقاً غير مشتتة ، يقدمها واحد منها كالرأس والهادي لها حتى تتلوه كلها لازمةً صفها ، ثم يعقبه بعده آخر متقدم حتى يصير المتقدم الأول متأخراً في آخرها ، وتقتسم كرامة المتقدم كلها بالسوية ؛ وفيها ما يبعد سفره وينتقل عن مصيفه إذا هجم الشتاء . البط له يقظة حارسة تدل على حدة حسه . الجراد معروف الحال . العقاب تطلب عين الماء ، فإذا أصابتها تحلق طائرةً إلى حر الشمس وهو موضع دورانها فيحترق ريشها وما كان من جناح ، ثم تغوص في تلك العين فإذا هي قد عادت شابة وتذهب ظلمة عينيها .وأما الطريح فيتقيض الله له طائراً يقال له : قاس فيضمه إليه ولا يدعه يهلك ، ولكنه يقويه ويربيه مع أفراخه . وأجنحة العقبان مفصلة شبه ريشها . وبصرها قوي بعيد تحت الشعاع المستنير . ويقال : إنها أبصر الطير . الحجل يأتي أعشاش نظرائه فيسرق بيضها ثم يحضنها ، فإذا تحركت الفراخ وطارت لحقت بأمهاتها . البوم مأواه ومحله الخراب ، يوافقه الليل ، لأنه بالليل بصير وبالنهار كليل ، مع حبه التوحد والخلوة بنفسه ، وبينه وبين الغربان عداوة ما تنقضي . النسر يتخذ وكره في المكان العالي المرتفع ، وعليه يقع وفيه ينام كالراصد ، إما في ذروة الجبل أو في وسطه من شظاياه وثناياه وموضع المنعة . وإذا حملت زوجته مضى إلى الهند فأخذ من هناك حجراً كهيئة الجوزة إذا حرك سمع به صوت حجرٍ آخر - يتحرك في وسطه - كصوت الجرس ، فإن عسرت على زوجته الولادة جعلت ذلك الحجر تحتها وعلت عليه فيذهب عنها العسر . قال : ورأيت مرة أنثى من جنس الطير مات زوجها فامتنعت من الطعام والنوم ليالي كثيرة صارت فيها كالنائحة الباكية على زوجها بتنفس الصعداء وزفرات الحزن لا تلقط أياماً متتابعة شيئاً . البزاة من طبيعتها أن تداوي أنفسها وفراخها فلا تموت ، لأنها تستعمل في بعض المرض والداء نبتةً تعرفها وتعرف طبها . . . ومنه ما ينقصويزيد . النعام : لا يعول أفراخه إلا أياماً يسيرة ، ثم يدحضها ويطردها من عنده إنكاراً لها . الغداف لا يبيض ولا يفرخ من سفاد ، فإذا أفرخت أنثاه فراخاً لم يزقها ولم يطعمها ، إلا أن البق والبعوض يقع عليها لزهومتها ونتن لحمها ، فتفتح أفواهها وتبلع ما دخل فيها من ذلك البق ، فهو يمسكها ويقويها . أنحاء طيران الطير مختلفةٌ كاختلاف الطير ، بعضها يطير قريباً من الأرض كالبط وما أشبهه ، وبعضها يرتفع ، غير أنه لا يبعد ، كالحمام والغربان ، وبعضها يحلق تحليقاً ، كالعقاب والصقور والأجادل والبزاة . وما كان من الطير بدنه أعظم من جناحه فهو قريب الطيران من الأرض ، لسرعة إحناء أجنحته واضطراره إلى الوقوع على الأرض . البيضاني والأبغث : هذا طائر يحب ولده ، فإذا تحركت فراخه ودرجت ضربت وجهه بأجنحتها فيدعوه المحك والغضب المطبوعان فيه إلى قتلها ، فإذا ماتت اكتأب عليها الأبوان وأقاما عليها شبه المأتم ثلاثة أيام ، ثم إن الأم في اليوم الثالث تشق جنبها حتى يقطر دمها على تلك الفراخ ، فيصير ذلك نشوراً لها بعد موتها . مالك الحزين ينشل الحيتان من الماء فيأكلها وهي طعامه ؛ لا يحسن السباحة ، فإنأخطأه انتشالٌ فجاع طرح نفسه على شاطىء النهر في بعض ضحضاحه ، فإذا اجتمعت إليه السمك الصغار لتأكله أسرع لأكل ما يؤكل منه . من الطير ما يلقح من هبوب الريح ، لا يحتاج إلى تزاوج ولا إلى سفاد . والخفاش له خصيتان كخصي الحيوان ، وله أربع قوائم وأسنان حداد كأسنان ذوات الأربع ، يرضع ولده من اللبن إرضاعاً ، وجلده أملس . العقعق لا يأوي تحت سقف ولا يستظل به ، ولكنه يهيىء وكره في الواضع المشرفة العالية والعراء الكاشف وجه الهواء الفسيح ؛ وطبيعته الزنا وخيانة الزوج ، فإذا باضت الأنثى بيضها حضنته بورق الدلب وغطته كيلا يقربه الخفاش ، فإن مسه مرق البيض من ساعته وفسد . النحل يلد من غير لقاح الذكور . الحية إذا هرمت وكل بصرها واسترخى جلدها دخلت في صدع صفاة ضيق أو جحر ضاغط يعسر عليها النفوذ فيه حتى ينسلخ عنها جلدها فتأتي عين الماء فتنغمس فيها حتى يقوى لحمها وينعصب ، فإذا هي فعلت ذلك عادت شابة كما كانت . فإذا أرادتأن تضىء عينها أكلت الرازيانج الرطب فاشتفت عيناها واحتد بصرها ، وإن ضربت ضربة بقصبة استرخت فلم تستطع الفرار ، فإن ثنيتها وثبت وسعت هاربة . إن أنقع الحسك في الماء ثم نضح ذلك الماء بين يدي جحر الحية فرت من هناك . وإن وضع في جحرها أص حمصٍ رطب فرت أيضاً . وإن رأت الحية إنساناً عرياناً استحيت منه ولم تقربه . وإن رأته كاسياً حملت عليه بجرأة شديدة ؛ وما أشد طلبها لثأرها ؛ وإنشدخ رأسها ماتت من ساعتها . السمسمة ، وهي حية حمراء براقة ، إذا كبرت وأصابها وجع العين وكمدت التمست حائطاً مقابل المشرق ، فإذا تبدت الشمس أحدت إليها بصرها قدر ساعة فإذا دخل شعاع الشمس عينها كشط عنها العمى والإظلام ، ولا تزال تفعل ذلك سبعة أيام حتى يتجدد بصرها تماماً . الأفعى تزاوج دابةً بحريةً ، تأتي الأفعى شفير البحر فتصوت ، وصوتها مهيجٌ لتلك الدابة البحرية . من أحرق عقرباً طرد برائحة حريقها عقارب ذلك البيت . فأما حمة العقرب فهي جوفاء كهيئة المزمار معقفة الرأس مكونة اللدغ ، فإذا ضربت شيئاً تحركت فخرج سمها وجرى في حمتها وسرى في الملدوغ . الإناث من بنات عرسٍ إنما تلقح من أفواهها وتلد من آذانها . من عادة هذا الجنس أن يسرق ما وجد من حلي الذهب والفضة ، ويخبؤه في جحرته ، فإن وجد أيضاً في ابيت حبوباً خلط بعضها ببعض ، كأن عمله عمل الطباخين في خلط التوابل . الفار الفارسي أطيب ريحاً من كل طيب . وإن أخذ إنسان جرذاً فربطه في بيت فرت منه الجرذان كلها . وإن وضع في جحر الجرذ البري ورق الدفلى ماتت الجرذان . الدودة الهندية هي دودة القز ، لها في رأسها قرنان ، ثم تتحول بيضة ثم تتصور في هيئة أخرى ، ذات جناحين عريضين منتصبين ، وصناعتها دمقس الحرير .النمل عمول مواظب ، فإذا جمع الحب قطعه كيلا ينبت إذا أصابه الندى والبلة ، ويخرجه ويبسطه عند فم الجحر ، فإذا يبس أدخله . ومن جرب طبائع النمل فليدق الكبريت والحبق ويذرهما في جحرته ولا يولد من تزاوج ، ولكنه يخرج منه شيء قليل صغير فيقع في الأرض فيصير بيضاً ، ثم يتصور من البيض بالهيئة التي تُرى ، وإذا شمت الورد موتت وأجنحتها مدمجةٌ لاصقةٌ بها . البق والبعوض لا نتاج لهما ، وإنما تنجل من عفن الماء ووسخه ونتنه . ومن وضع غصن العنب في موضعٍ تحت سريره لم يقربه بق ولا بعوض . ومن أراد ألا يتأذى بالبراغيث فليحفر في وسط البيت حفرة ويملأها دم تيس فإن البراغيث تجتمع هناك . وإن وضع في الحفرة ورق دفلى مات البراغيث . الخلد غير ذي عينين ، دائم الحفر في غير نفع ؛ وطعامه من أصول النبت وعروقه الذاهبة في الأرض ، فهو يصيب ذلك في خلال حفره . يقال : إن في بلد كذا نهراً ماؤه في البحر منحدراً إليه على حال طبيعته ست ساعات ، وفي الست الثانية يحتبس ماؤه في ينبوعه ويرى جوفه ناضباً قد يبس . ونهراً آخر يجري في كل سبع سنين نهر كبريت ، ولا يكون فيه سمك ، لأن ماءه يتغير في كل يوم ثلاث مرات ، وينبعث منه شبه ثور ليس له رأس . وأهل الشام إذا أرادوا أخذه ألقوه في سفينة ، ولا يستطيعون قطعه بفأس ولا كسره بحجر ، إنما يؤتى بالماء المنتن ودم الحيض فيخلطان جميعاً ثم ينضحان عليه ، فإذا وقعاعليه تحلل وتكتل كتلاً صغاراً ، وتستعمل في أشياء ينتفع بها . عين النار تنبع منها نارٌ تضيء بالليل للسيارات فلا تطفأ ولا تحتاج إلى شيء يمسكها ، لكنها محفوظة بالحجارة ؛ إن حمل إنسانٌ منها شعلة قبسٍ إلى موضع لم توقد . البحر الميت يقال له ذلك لأنه يموت فيه كل حي . السرطان ينسلخ جلده في السنة سبع مرات ، ويتخذ بجحره بابين : أحدهما شارعٌ إلى الماء ، والآخر إلى اليبس ؛ وإذا سلخ جلده سد عليه الشارع إلى الماء لكيلا يدخل السمك فيأكله ؛ إلا أنه يدع الذي إلى اليبس مفتوحاً فتصيبه الريح وما ينفع لحمه ويعصمه ، فإذا اشتد لحمه وعاد إلى حاله فتح ذلك المسدود وسلك في الماء وطلب طعمه وما يقيم حياته . الزامور حوت صغير الجسم إلفٌ لأصوات الناس ، مستأنسٌ باستماعها ولذلك يصحب السفن متلذذاً بأصوات الناس ، فإذا رأى الحوت الأعظم يريد الاحتكاك بها وكسرها ، وثب الزامور ودخل أذنه ، فلا يزال زامراً فيها حتى يفر الحوت إلى الساحل يطلب خزفاً أو صخرة ، فإذا أصاب ذلك لا يزال يضرب به رأسه حتى يموت . وركاب السفينة يحبونه ويطعمونه ويتفقدونه ، ليدوم إلفه لهم وصحبته لسفينته ، ويسلموا به من ضرر السمك العادي . وإذا ألقوا شبكةً ليصطادوا السمك فوقع فيها الزاموار خلوه حياً وأخذوه وأعتقوا لكرامته أصناف السمك الواقع في الشبكة أحياءً . وإني قرأت هذا الفصل على الوزير - كبت الله كل شانىء له - في ليلتين ، فتعجب وقال : ما أوسع رحمة الله ؛ وما أكثر جند الله ؛ وما أغرب صنع الله . قلت : نعم ؛

  مجلد 1 مكرر . من كتاب : الإمتاع والمؤانسة أبو حيان علي بن محمد ابن العباس التوحيدي

بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة المؤلف
قال أبو حيان التوحيدي : نجا من آفات الدنيا من كان من العارفين ووصل إلى خيرات الآخرة من كان من الزاهدين ، وظفر بالفوز والنعيم من قطع طمعه من الخلق أجمعين ، والحمد لله رب العالمين ، وصلى الله على نبيه وعلى آله الطاهرين .
أما بعد ، فإني أقول منبهاً لنفسي ، ولمن كان من أبناء جنسي : من لم يطع ناصحه بقبول ما يسمع منه ، ولم يملك صديقه كله فيما يمثله له ، ولم ينقد لبيانه فيما يريغه إليه ويطلعه عليه ؛ ولم ير أن عقل العالم الرشيد ، فوق عقل المتعلم البليد ؛ وأن رأى المجرب البصير ، مقدمٌ على رأي الغمر الغرير فقد خسر حظه في العاجل ، ولعله أيضاً يخسر حظه في الآجل ؛ فإن مصالح الدنيا معقودةٌ بمراشد الآخرة ، وكليات الحس في هذا العالم ، في مقابلة موجودات العقل في ذلك العالم ؛ وظاهر ما يرى بالعيان مفضٍ إلى باطن ما يصدق عنه الخبر ؛ وبالجملة ، الداران متفقتان في الخير المغتبط به ، والشر المندوم عليه ؛ وإنما يختلفان بالعمل المتقدم في إحداهما ، والجزاء المتأخر في الأخرى ؛ وأنا أعوذ بالله الملك الحق الجبار العزيز الكريم الماجد أن أجهل حظي ، وأعمىعن رشدي ، وألقي بيدي إلى التهلكة ، وأتجانف إلى ما يسوءني أولاً ولا يسرني آخراً ؛ هذا وأنا في ذيل الكهولة وبادئة الشيخوخة ، وفي حال من إن لم تهده التجارب فيما سلف من أيامه ، في حالي سفره ومقامه ؛ وفقره وغنائه ، وشدته ورخائه ، وسارئه وضرائه ، وخيفته ورجائه ؛ فقد انقطع الطمع من فلاحه ووقع اليأس من تداركه واستصلاحه ؛ فإلى الله أفزع من كل ريثٍ وعجل وعليه أتوكل في كل سؤل وأمل ، وإياه أستعين في كل قول وعمل . قد فهمت أيها الشيخ - حفظ الله روحك ، ووكل السلامة بك ، وأفرغ الكرامة عليك ، وعصب كل خير بحالك ، وحشد كل نعمةٍ في رحابك ورحم هذه الجماعة الهائلة - من أبناء الرجاء والأمل - بعنايتك ، ولا قطعك من عادة الإحسان إليهم ، ولا ثنى طرفك عن الرقة لهم ، ولا زهدك في اصطناع حاليهم وعاطلهم ، ولا رغب بك عن قبول حقهم لبعض باطلهم ، ولا ثقل عليك إدناء قريبهم وبعيدهم ، وإنالة مستحقهم وغير مستحقهم أكثر مما في نفوسهم وأقصى ما تقدر عليه من مواساتهم ، من بشرٍ تبديه ،وجاهٍ تبذله ، ووعدٍ تقدمه ، وضمانٍ تؤكده ، وهشاشةٍ تمزجها ببشاشة ، وتبسمٍ تخلطه بفكاهة فإن هذه كلها زكاة المروءة ، ورباط النعمة ، وشهادةٌ بالمحتد الزكي والعرق الطيب والمنشأ المحمود ، والعادة المرضية ؛ وهي مؤذنةٌ بأن المنحة راهنة ، والموهبة قاطنة ، والشكر مكسوب ، والأجر مذخور ، ورضوان الله واقع ؛ وأسأل الله بعد هذا كله ألا يسهم وجهي عندك ، ولا يزل قدمي في خدمتك ولا يزيغني إلى ما يقطع مادة إحسانك وعائدة رأيك ونافع نيتك وجميل معتقدك ، بمنه ولطفه . فهمت جميع ما قلته لي بالأمس فهماً بليغاً ، ووعيته وعياً تاماً ؛ وبان لي الرشد في جملته وتفصيله ، والصلاح في طرفيه ووسطه ، والغنيمة في ظاهره وباطنه ، والشفقة من أوله إلى آخره . وأنا أعيده ههنا بالقلم ، وأرسمه بالخط وأقيده باللفظ ، حتى يكون اعترافي به أرسى واثبت ، وشهادتي على نفسي أقوى وأوكد ، ونكولي عنه أبعد وأصعب ، وحكمك به لي وعلي أمضى وأنفذ . قلت لي - أدام الله تعالى توفيقك في كل قولٍ وفعل ، وفي كل رأيٍ ونظر - : إنك تعلم يا أبا حيان أنك انكفأت من الري إلى بغداد في آخر سنة سبعين بعد فوت مأمولك من ذي الكفايتين - نضر الله وجهه -عابساً على ابن عباد مغيظاً منه ، مقروح الكبد ، لما نالك به من الحرمان المر ، والصد القبيح ، واللقاء الكريه ، والجفاء الفاحش ، والقدع المؤلم والمعاملة السيئة ، والتغافل عن الثواب على الخدمة ، وحبس الأجرة على النسخ والوراقة ، والتهجم المتوالي عند كل لحظةٍ ولفظة . وذكرت في الجملة شقاءً اتصل بك في سفرك ذلك ، وعناءً نال منك في عرض أحوالك ؛ ولعمري إن السفر فعول لهذا كله ولأكثر منه ؛ فأرعيتك بصري ، وأعرتك سمعي ، وساهمتك في جميع ما وقرته في أذني بالجزع والتوجع والاستفظاع والتفجع ؛ وضمنت لك تلافي ذلك كله بحاق الشفقة وخالص الضمير ، ووعدتك صلاح الحال عن ثبات النية ، وصحة العقيدة ، وقلت : أنا أرعى حقك القديم حين التقينا بأرجان ، وأنا على باب ابن شاهويه الفقيه ، وعهدك الحديث حين اجتمعنا بمدينة السلام سنة ثمان وخمسين ؛ وأوصلك إلى الأستاذ أبي عبد الله العارض - أدام الله تأييده -وأخطب لك قبولاً منه ، وتخفيف الإذن عليك ، وامتلاء الطرف بك ، ونيل الحظوة بخدمتك وملازمتك ؛ وفعلت ذلك كله حتى استكتبك كتاب الحيوان لأبي عثمان الجاحظ ، لعنايتك به ، وتوفرك على تصحيحه ، ثم حضنت لك هذه الحال إلى يومنا هذا ؛ وهو الوزير العظيم الذي افتقرت الدولة إلى نظره وأمره ونهيه ، وإلى أن يكون هو المبرم والناقض ، والرافع والواضع ، والكافي والوافي ، والمقرب لخدمها ونصحائها ، والمزحزح لحسدتها وأعدائها ؛ والراعي لرعيتها ودهمائها ، والناهض بأثقالها وأعبائها ، أعانه الله على ما تولاه ، وكفاه المهم في دنياه وأخراه ، بمنه وقدرته . نعم ورتبت ذلك كله ، ولم أقطع عنك عادتي معك في الاسترسال والانبساط ، والبر والمواساة ، والمساعدة والمواتاة ، والتعصب والمحاماة . أفكان من حقي عليك في هذه الأسباب التي ذكرتها ، وفي أخواتها التي تركتها كراهة الإطالة بها أنك تخلو بالوزير - أدام الله أيامه - ليالي متتابعةً ومختلفة ، فتحدثه بما تحب وتريد ، وتلقي إليه ما تشاء وتختار ، وتكتب إليه الرقعة بعد الرقعة ؛ ولعلك في عرض ذلك تعدو طورك بالتشدق وتجوز حدك بالاستحقار ، وتتطاول إلى ما لبس لك ، وتغلط في نفسك ، وتنسى زلة العالم ، وسقطة المتحري ، وخجلة الواثق ؛ هذا وأنت غرٌ لا هيئة لك في لقاء الكبراء ، ومحاورة الوزراء ؛ وهذه حالٌ تحتاج فيها إلى عادة غير عادتك ، وإلى مرانٍ سوى مرانك ، ولبسةٍ لا تشبه لبستك ؛ وقل من قرب من وزيرٍ خدم فأجاد ، وتكلم فأفاد ، وبسط فزاد ؛ وإلا سكر ، وقل من سكر إلا عثر وقل من عثر فانتعش ، وما زهد في هذه الحال كثيرٌ من الحكماء الأولين والعباد الربانيين ؛ إلا لغلظها وصعوبتها ، ومكروه عاقبتها ، وشدة الصبر على فوارضها ورواتبها ،وتفسخ المتن بين حوادثها ونوائبها . والعجب أنك مع هذه الخلة تظن أنها مطويةٌ عني وخافية دوني ، وأنك قد بلغت الغاية وادع القلب ، وملكت المكانة ثاني العنان ؛ وقد انقطعت حاجتك عني وعمن هو دوني ، ووقع الغنى عن جاهي وكلامي ولطفي وتوصيلي ؛ وجهلت أن من قدر على وصولك ، يقدر على فصولك ، وأن من صعد بك حين أراد ، ينزل بك إذا شاء ، وأن من يحسن فلا يشكر ، يجتهد في الاقتصاد حتى يعذر . وبعد ، فما أطيل ، ولعل لهب الموجدة يزداد ، ولسان الغيظ يغلو ، وطباع الإنسان تحتد ، والندم على ما أسلفت من الجميل يتضاعف ؛ ولست أنت أول من بر فعق ، ولا أنا أول من جفى فنق . وهذا فراق بيني وبينك وآخر كلامي معك ، وفاتحة يأسي منك ؛ قد غسلت يدي من عهدك بالأشنان البارقي ، وسلوت عن قربك بقلب معرض وعزمٍ حي ؛ إلا أن تطلعني طلع جميع ما تحاورتما وتجاذبتما هدب الحديث عليه ، وتصرفتما في هزله وجده ، وخيره وشره ، وطيبه وخبيثه ، وباديه ومكتومه ؛ حتى كأني كنت شاهداً معكما ورقيباً عليكما ، أو متوسطاً بينكما ، ومتى لم تفعل هذا ، فانتظر عقبى استيحاشي منك ، وتوقع قلة غفولي عنك ، وكأني بك وقد أصبحت حران حيران يا أبا حيان ، تأكل أصبعك أسفاً ، وتزدرد ريقك هفاً ، على ما فاتك منالحوطة لنفسك ، والنظر في يومك لغدك ، والأخذ بالوثيقة في أمرك ، أتظنن بغرارتك وغمارتك ، وذهابك في فسولتك التي اكتسبتها بمخالطة الصوفية والغرباء والمجتدين الأدنياء الأردياء ؛ أنك تقدر على مثل هذه الحال ، وأنام منك على حسن الظن بك ، والثقة بصدرك ووردك ، وأطمئن إلى حكك وجردك وأتعامى عن حرك وبردك ؛ هيهات ؛ رقدت فحلمت ، فخيراً رأيت وخيراً يكون على هذا الحد كان مقطع كلامك في موجدتك ، وإلى ههنا بلغ فيض عتبك ولائمتك ؛ وفي دون ذلك تنبيه للنائم ، وإيقاظٌ للساهي ، وتقويمٌ لمن يقبل التقويم ؛ وقد قال الأول : ألا إنما يكفي الفتى عند زيغه . . . من الأود البادي ثقاف المقوم فقلت لك : أنا سامع مطيع ، وخادم شكور ، لا أشتري سخطك بكل صفراء وبيضاء في الدينا ؛ ولا أنفر من التزام الذنب والاعتراف بالتقصير ؛ ومثلي يهفو ويجمح ، ومثلك يعفو ويصفح ؛ وأنت مولىً وأنا عبد ، وأنت آمرٌ وأنا مؤتمر ، وأنت ممتثلٌ وأنا ممتثل ، وأنت مصطنع وأنا صنيعةٌ ، وأنت منشىءٌ وأنا منشأ ، وأنت أول وأنا آخر ، وأنت مأمول وأنا آملٌ ، ومتى لم تغفر لي الذنب البكر ، والجناية العذراء ، والبادرة النادرة ؛ فقد أعنتني على ما كان مني ، ودللت على ملكك لي ؛ وأنك كنت مترصداً لهذه الهفوة ومعتقداً في مقابلتها هذه الجفوة ؛ وكرمك يأبى عليك هذا ، ومثولي بين يديك خدمةً لك يحظره عليك .هذا وأنا أفعل ما طالبتني به من سرد جميع ذلك ، إلا أن أغوص فيه على البديهة في هذه الساعة يشق ويصعب بعقب ما جرى من التفاوض ، فإن أذنت جمعته كله في رسالة تشتمل على الدقيق والجليل ، والحلو والمر ، والطري والعاسي ، والمحبوب والمكروه ؛ فكان من جوابك لي : افعل . ونعم ما قلت وهو أحب إلي وأقرب إلى إرادتي ، وأحضر لما أريغ منه ، وأدخل في الحجة عليك ولك ؛ وأغسل للوسخ الذي بيني وبينك ، وأزهر للسراج الذي طفىء عني وعنك ، وأجذب لعنان الحجة إن كانت لك ، وأنطق عن العذر إن اتضح بقولك ؛ وإذا عزمت فتوكل على الله ؛ وليكن الحديث على تباعد أطرافه ، واختلاف فنونه مشروحاً ، والإسناد عالياً متصلاً ، والمتن تاماً بيناً ، واللفظ خفيفاً لطيفاً ، والتصريح غالباً متصدراً ، والتعريض قليلاً يسيراً وتوخ الحق في تضاعيفه وأثنائه ، والصدق في إيضاحه وإثباته ؛ واتق الحذف المخل بالمعنى ، وإلحاق المتصل بالهذر ، واحذر تزيينه بما يشينه ، وتكثيره بما يقلله ، وتقليله عما لا يستغنى عنه ؛ واعمد إلى الحسن فزد في حسنه ، وإلى القبيح فانقص من قبحه ؛ واقصد إمتاعي بجمعة نظمه ونثره ، وإفادتي من أوله إلى آخره ؛ فلعل هذه المثاقفة تبقى وتروى ، ويكون في ذلك حسن الذكرى ؛ ولا تومىء إلى ما يكون الإفصاح عنه أحلى في السمع ، وأعذب في النفس ، وأعلق بالأدب ؛ولا تفصح عما تكون الكناية عنه أستر للعيب ، وأنفى للريب ؛ فإن الكلام صلفٌ تياه لا يستجيب لكل إنسان ، ولا يصحب كل لسان ؛ وخطره كثير ، ومتعاطيه مغرور ، وله أرنٌ كأرن المهر وإباءٌ كإباء الحرون ، وزهوٌ كزهو الملك ، وخفقٌ كخفق البرق ؛ وهو يتسهل مرةً ويتعسر مراراً ، ويذل طوراً ويعز أطواراً ؛ ومادته من العقل والعقل سريع الحؤول خفي الخداع ؛ وطريقه على الوهم ، والوهم شديد السيلان ومجراه على اللسان ، واللسان كثير الطغيان ؛ وهو مركب من اللفظ اللغوي والصوغ الطباعي ، والتأليف الصناعي ، والاستعمال الاصطلاحي ، ومستملاه من الحجا ، ودريه بالتمييز ؛ ونسجه بالرقة ، والحجا في غاية النشاط وبهذا البون يقع التباين ويتسع التأويل ، ويجول الذهن ، وتتمطى الدعوى ، ويفزع إلى البرهان ، ويبرأ من الشبهة ، ويعثر بما أشبه الحجة وليس بحجة ؛ فاحذر هذا النعت وروادفه ، واتق هذا الحكم وقوائفه ؛ ولا تعشق اللفظ دون المعنى ولا تهو المعنى دون اللفظ ؛ وكن من أصحاب البلاغة والإنشاء في جانب ، فإن صناعتهم يفتقر فيها أشياء يؤاخذ بها غيرهم ، ولست منهم ، فلا تتشبه بهم ، ولا تجر على مثالهم ، ولا تنسج على منوالهم ، ولا تدخل في غمارهم ، ولا تكثر ببياضك سوادهم ، ولا تقابل بفكاهتك براعتهم ، ولا تجذب بيدك رشاءهم ، ولا تحاول بباعك مطاولتهمواعرف قدرك تسلم ، والزم حدك تأمن ، فليس الكودن من العتيق في شيء ، ولا الفقير من الغني على شيء ، أما سمعت قول الناس : ليس الشامي للعراقي بصاحب ، ولا الكردي من الدندي بساخر ، فإن طال فلا تبل ، وإن تشعب فلا تكترث ، فإن الإشباع في الرواية أشفى للغليل ، والشرح للحال أبلغ إلى الغاية ، وأظفر بالمراد ، وأجرى على العادة . فكتبت : ' بسم الله الرحمن الرحيم ' ، أقول أيها الشيخ - عطف الله قلبك علي ، وألهمك الإحسان إلي - في جواب جميع ما قلته واجداً علي وعاتباً ، وقابضاً ، وباسطاً ، ومرشداً ، وناصحاً ؛ ما يعرف الحق فيه ، ويستبين الصواب منه ، غير خائنٍ لك ، ولا جانحٍ إلى مخالفتك ، ولا مريغٍ للباطل معك ، ولا جاحدٍ لأياديك القديمة ، والحديثة ، ولا منكرٍ لنعمتك الكافية الشافية ، ولا غاظٍ على فواضلك المجتمعة والمتفرقة ، ولا تاركٍ لشيء هو علي من أجل شيء هو لي ، ولا معرض عن شيء هو لي بسبب شيء هو علي ؛ بل أجهز دقة وجله إليك حتى تراه بسده وغباره ، وأجلوه عليك حتى تلحظه بردائه وإزاره . كأني لم أسمع قول الأول : والكفر مخبثةٌ لنفس المنعم . . . والشكر مبعثةٌ لنفس المفضل أأنا أدعك واجداً علي ، وأرقد وأنت ماقتٌ لي ، وأجد حس نعمة أنت وهبتها إلي ، وألذ عيشاً أنت أذقتني حلاوته . أأنسى أياديك وهي طوق رقبتي ، وتجاه عيني ، وحشو نفسي ، وراحة حلمي ، وزاد حياتي ، ومادة روحي هيهات ، هذا بعيد من القياس ، وغير معهود بين أحرار الناس ؛ الذين لهم اهتمام بصون أعراضهم ، وحرصٌ على إكرام أنفسهم ؛قد عبقوا بفوائح الفتوة ، وعلقوا بحبائل المروءة ، وشدوا من الحكمة أشرف الأبواب ؛ واعتزوا من الأدب إلى أعز حرم ؛ وحازوا شرفاً بعد شرف ، وانحازوا عن نطف بعد نطف ونظروا إلى الدنيا بعين بصيرة ، وعزفوا أنفسهم عن زهراتها بتجربة صادقة . فأول ما أبدؤك به أنني طننت ظناً لا كيقين أن شيئاً مما كنت فيه مع الوزير - أدام الله أيامه ، وقصم أعداءه - ليس مما يهمك ، ولا هو مما يقرع سمعك سماعك له ؛ وحسبت أيضاً أنني إن بدأت بشيء منه رذلتني عليه وتنقصتني به ، وزريت علي فيه ؛ وأنك ربما قلت : لم بدأت بما أسئلك عنه ولم أرخص لك فيه ، هلا كظمت على جرتك ، وطويت ما بين جنبيك وما علي مما يدور بين الصاحب وخادمه والرؤوساء ، والناظرين في أمور الدهماء والمتصفحين لأحوال العامة والخاصة ، ولهم أسرار وعيوبٌ لا يقف عليها أقرب الناس إليهم ، وأعز الناس عليهم ، وأنت أيضاً فلم تسألني عنه ، فكان في تقديري أنك قد عرفت وصولي في وقت دون وقت ، وأنك قد حملت أمري على الخدمة التي ليس للعلم بها فائدة ، ولا في الإعراض عنها فائتة . وإذ جرى الأمر على غير ما كان في حسابي وتلبس بظني ، فإني أهدي ذلك كله بغثاثته وسمانته ، وحلاوته ومرارته ، ورقته وخثارته في هذا المكان ؛ ثم أنت أبصربعد ذلك في كتمانه وإفشائه ، وحفظه وإضاعته وستره وإشاعته ؛ ووالله ما أرى هذا أمراً صعباً إذا وصل إلى مرادك ولا كلفةً شاقةً إذا أكسبني مرضاتك ؛ وإن كان ذلك يمر بأشياء كثيرةٍ ومختلفةٍ ، متعصية غريبةٍ ، منها ما يشيط به الدم المحقون ، وينزع من أجله الروح العزيز ، ويستصغر معه الصلب ، ولا يقنع فيه بالعذاب الأدنى دون العذاب الأكبر ؛ وإن كان فيها أيضاً غير ذلك مما يضحك السن ، ويفكه النفس ، ويدعو إلى الرشاد ، ويدل على النصح ، ويؤكد الحرمة ، ويعقد الذمام ، وينشر الحكمة ، ويشرف الهمة ، ويلقح العقل ، ويزيد في الفهم والأدب ويفتح باب اليمن والبركة ، وينفق بضاعة أهل العلم في السوق الكاسدة ، ويوقظ العيون الناعسة ، ويبل الشن المتغضف ، ويندى الطين المترشف ؛ ويكون سبباً قوياً على حسن الحال وطلب العيش ، فإن هذا العاجلة محبوبة ، والرفاهية مطلوبة ، والمكانة عند الوزراء بكل حولٍ وقوةٍ مخطوبة ، والدناي حلوةٌ خضرة وعذبةٌ نضرة ، ومن شف أمله شق عمله ؛ ومن اشتد إلحاحه ، توالى غدوه ورواحه ، ومن أسره رجاؤه ، طال عناؤه ، وعظم بلاؤه ؛ ومن التهب طمعه وحرصه ، ظهر عجزه ونقصه . وفي الجملة : من لم يكن لله متهماً . . . لم يمس محتاجاً إلى أحد ولابد من فتى يعين على الدهر ، ويغني عن كرام الناس فضلاً عن لئامهم ، ويذلل قعود الصبر ، ويجم راحلة الأمل ، ويحلي مر اليأس ؛ والعزلة محمودةٌ إلا أنها محتاجة إلى الكفاية ، والقناعة مزة فكهةٌ ولكنها فقيرةٌ إلى البلغة وصيانة النفس حسنة إلا أنها كلفةمحرجة إن لم تكن لها أداةٌ تجدها وفاشيةٌ تمدها ، وترك خدمة السلطان غير الممكن ولا يستطاع إلا بدينٍ متين ، ورغبةٍ في الآخرة شديدة ، وفطامٍ عن دار الدنيا صعب ، ولسانٍ بالحلو والحامض يلغ . قال ابن السماك : لولا ثلاثٌ لم يقع حيف ، ولم يسل سيف ، لقمةٌ أسوغ من لقمة ، ووجه أصبح من وجه ، وسلك أنعم من سلك ، وليس كل أحد له هذه القوة ، ولا فيه هذه المنة والإنسان بشر ، وبنيته متهافتة وطينته منتثرة ، وله عادةٌ طالبة ، وحاجةٌ هاتكة ، ونفسٌ جموح ، وعينٌ طموح ؛ وعقلٌ طفيف ، ورأي ضعيف ، يهفو لأول ريح ، ويستخيل لأول بارق ؛ هذا إذا تخلص من قرناء السوء ، وسلم من سوارق العقل ، وكان له سلطان على نفسه ، وقهرٌ لشهواته ، وقمعٌ لهوائجه وقبولٌ من ناصحه ، وتهيؤٌ في سعيه ، وتبوءٌ في معان حظه ، وائتمامٌ بسعادته ، واستبصارٌ في طلب ما عند ربه ، واستنصافٌ من هواه المضل لعقله المرشد ، هذا قليلٌ وصعب ولو قلت : معدومٌ أو محال في هذا الزمن العسير والدهر الفاسد ، لما خفت عائقاً يعوقني ، ولا حسوداً يرد قولي . قال ابن السماك : الله المستعان على ألسنٍ تصف وقلوبٍ تعترف ، وأعمالٍ تختلف .وقال معاوية لأبي بكر بن عبد الرحمن ابن الحارث - ورآه لا يلي له عملاً ، ولم يقبل منه نائلاً - : يا ابن أخي ، هي الدنيا ، فإما أن ترضع معنا ؛ وإما أن ترتدع عنا . وربما قال بعض المتكلفين قد قال بعض السلف : ليس خيركم من ترك الدنيا للآخرة ، ولا من ترك الآخرة للدنيا ، ولكن خيركم من أخذ من هذه وهذه . وهذا كلام مقبول الظاهر موقوف الباطن . وربما قال آخر من المتقدمين : ' اعمل لآخرتك كأنك تموت غداً ، واعمل لدنياك كأنك تعيش أبداً ' . وهذا أيضاً كلامٌ منمق ، لا يرجع إلى معنىً محقق ؛ أين هو من قول المسيح - عليه السلام - حين قال : الدنيا والآخرة كالمشرق والمغرب متى بعد أحدكم من أحدهما قرب من الآخر ؛ ومتى قرب من أحدهما بعد من الآخر . وأين هو من قول الآخر : الدنيا والآخرة ضرتان ، متى أرضيت إحداهما أسخطت الأخرى ، ومتى أسخطت إحداهما أرضيت الأخرى . وهذا لأن الإنسان صغير الحجم ، ضعيف الحول ، لا يستطيع أن يجمع بين شهواته وأخذ حظوظ بدنه وإدراك إرادته ، وبين السعي في طلب المنزلة عند ربه بأداء فرائضه ، والقيام بوظائفه ، والثبات على حدود أمره ونهيه ، فإن صفق وجهه وقال : نعمل تارة لهذه الدار وتارة لتلك الدار : فهذا المذبذب الذي لا هو من هذه ولا من هذه ؛ ومن تخنث وتليث لم يكن رجلاً ولا امرأة ، ولا يكون أباً ولا أماً ؛ وهذا كما نرى . ونرجح فنقول : ونعوذ بالله من الفقر خاصة إذا لم يكن لصاحبه عياذٌ من التقوى ، ولا عمادٌ من الصبر ، ولا دعامةٌ من الأنفة ، ولا اصطبارٌ على المرارة . وقد بلينا بهذا الدهر الخالي من الديانين الذين يصلحون أنفسهم ويصلحون غيرهم بفضل صلاحهم ، الخاوي من الكرام الذين كانوا يتسعون في أحوالهم ، ويوسعونعلى غيرهم من سعتهم ، وكانوا يهتمون بذخائر الشكر المعجل في الدنيا ، يحرصون على ودائع الأجر المؤجل في الأخرى ؛ ويتلذذون بالثناء ، ويهتزون للدعاء ؛ وتملكهم الأريحية عند مسئلة المحتاج ، وتعتريهم الهزة معها والابتهاج ؛ وذلك لعشقهم الثناء الباقي ؛ والصنيع الواقي ؛ ويرون الغنيمة في الغرامة ، والربح في البذل ، والحظ في الإيثار ، والزيادة في النقص ؛ أعني بالزيادة . الخلف المنتظر من الله ؛ وبالنقص : العطاء ؛ ورأيت الناس يعيبون ابن العميد حين قال : أنا أعجب من جهل الشاعر الذي قال : أنت للمال إذا أمسكته . . . فإذا أنفقته فالمال لك قال : ولو كان هذا صحيحاً كان لا ينبغي أن يكتسب المال ، لأنه ليس في ترك كسبه أكثر من إخراجه بالإنفاق . هذا لقولهم بحكمته وعقله وتحصيله وصواب الجاهل لا يستحسن كما يستقبح خطأ العاقل ؛ نعم ، وكانوا إذا ولوا عدلوا ، وإذا ملكوا أفضلوا ، وإذا أعطوا أجزلوا ، وإذا سئلوا أجابوا وإذا جادوا أطابوا ، وإذا عالوا صبروا ، وإذا نالوا شكروا ؛ وإذا أنفقوا واسوا ، وإذا امتحنوا تأسوا ؛ وكانوا يرجعون إلى نقائب ميمونة ، وإلى ضرائب مأمونة ؛ وإلى ديانات قوية ، وأماناتٍ ثخينة ؛ وكان لهم مع الله أسرار طاهرة ، وعلانيةٌ مقبولة ؛ ومع عباد الله معاملةٌ جميلة ، ورحمةٌ واسعة ومعدلةٌ فاشية ؛ وكانت تجارتهم في العلم والحكمة ، وعادتهم جارية على الضيافة والتكرمة ؛وكانت شيمتهم الصفح والمغفرة وربحهم من هذه الأحوال النجاة والكرامة في الأولى والعاقبة ؛ وكانوا إذا تلاقوا تواصوا بالخير ، وتناهوا عن الشر ؛ وتنافسوا في اتخاذ الصنائع ، وادخار البضائع أعني صنائع الشكر ، وبضائع الأجر فذهب هذا كله ، وتاه أهله ؛ وأصبح الدين وقد أخلق لبوسه ، وأوحش مأنوسه ، واقتلع مغروسه ؛ وصار المنكر معروفاً ، والمعروف منكراً ، وعاد كل شيء إلى كدره وخاثره ، وفاسده وضائره ؛ وحصل الأمر على أن يقال : فلانٌ خفيف الروح ، وفلان حسن الوجه ، وفلان ظريف الجملة ، حلو الشمائل ، ظاهر الكيس ، قوي الدست في الشطرنج ، حسن اللعب في النرد ، جيدٌ في الاستخراج ، مدبر للأموال ، بذولٌ للجهد ، معروفٌ بالاستقصاء لا يغضى عن دانق ، ولا يتغافل عن قيراط ؛ إلى غير ذلك مما يأنف العالم من تكثيره ، والكاتب من تسطيره . وهذه كلها كنايات عن الظلم والتجديف ، والخساسة والجهل وقلة الدين وحب الفساد ، وليس فيها شيءٌ مما قدمنا وصفه عن القوم الذين اجتهدوا أن يكونوا خلفاء الله على عباد الله بالرأفة والرحمة والاصطناع والعدل والمعروف .وأرجع عن هذه الشكلية الطويلة اللاذعة والبلية العامة الشاملة ؛ إلى عين ما رسمت لي ذكره ، وكلفتني إعادته ؛ عائذاً بالله في صرف الأذى عني وسوق الخير إلي ؛ ولائذاً بكرمك الذي رشتن به إلى الساعة ، وكفيتني به مؤونة الخدمة لغيرك من هذه الجماعة ؛ والأعمال بخواتيمها ، والصدور بأعجازها ؛ وأنت أولى الناس بالصفح والتجاوز عني إذا عرفت براءتي في كل ما يتعلق بي من ذمامك ؛ ويجب علي من الحق في مودتك ، والاعتصام بحبلك والانتجاع من عشبك ، والارتغاء من لبنك .الليلة الأولى
وصلت أيها الشيخ - أطال الله حياتك - أول ليلة إلى مجلس الوزير - أعز الله نصره ، وشد بالعصمة والتوفيق أزره - فأمرني بالجلوس ، وبسط لي وجهه الذي ما اعتراه منذ خلق العبوس ؛ ولطف كلامه الذي ما تبدل منذ كان لا في الهزل ولا في الجد ، ولا في الغضب ولا في الرضا . ثم قال بلسانه الذليق ، ولفظه الأنيق : قد سألت عنك مراتٍ شيخنا أبا الوفاء ، فذكر أنك مراعٍ لأمر البيمارستان من جهته ، وأنا أربأ بك عن ذلك ، ولعلي أعرضك لشيء أنبه من هذا وأجدى ، ولذلك فقد تاقت نفسي إلى حضورك للمحادثة والتأنيس ، ولأتعرف منك أشياء كثيرةً مختلفة تردد في نفسي على مر الزمان ، لا أحصيها لك في هذا الوقت ، لكني أنثرها في المجلس بعد المجلس على قدر ما يسنح ويعرض ، فأجبني عن ذلك كله باسترسال وسكون بال ؛ بملء فيك ، وجم خاطرك ، وحاضر علمك ؛ ودع عنك تفنن البغداديين مع عفو لفظك ، وزائد رأيك ، وربح ذهنك ؛ ولا تجبن جبن الضعفاء ، ولا تتأطر تأطر الأغبياء ؛ واجزم إذا قلت ، وبالغ إذا وصفت ؛ واصدق إذا أسندت ، وافصل إذا حكمت ، إلا إذا عرض لك ما يوجب توقفاً أو تهادياً ؛ وما أحسن ماقال الأول : لا تقدح الظنة في حكمه . . . شيمته عدلٌ وإنصاف يمضي إذا لم تلقه شبهةٌ . . . وفي اعتراض الشك وقاف وقد قال الأول : أبالي البلاء وإني امرؤٌ . . . إذا ما تبينت لم أرتب وكن على بصيرة أني سأستدل مما أسمعه منك في جوابك عما أسألك عنه على صدقك وخلافه ، وعلى تحريفك وقرافه . فقلت قبل : كل شيء أريد أن أجاب إليه يكون ناصري على ما يراد مني فإني إن منعته نكلت ، وإن نكلت قل إفصاحي عما أطالب به وخفت الكساد ، وقد طمعت بالنفاق وانقلبت بالخيبة ، وقد عقدت خنصري على المسألة . فقال - حرس الله روحه - : قل - عافاك الله - ما بدا لك ، فأنت مجاب إليه ما دمت ضامناً لبلوغ إرادتنا منك ، وإصابة غرضنا بك . قلت : يؤذن لي في كاف المخاطبة ، وتاءالمواجهة ، حتى أتخلص من مزاحمة الكناية ومضايقة التعريض ، وأركب جدد القول من غير تقية ولا تحاش ولا محاوبة ولا انحياش . قال : لك ذلك ، وأنت المأذون فيه ، وكذلك غيرك ، وما في كاف المخاطبة وتاء المواجهة ؟ إن الله تعالى - على علو شأنه ، وبسطه ملكه ، وقدرته على جميع خلقه - يواجه بالتاء والكاف ، ولو كان في الكناية بالهاء رفعةٌ وجلالةٌ وقدر ورتبة وتقديس وتمجيد لكان الله أحق بذلك ومقدماً فيه ، وكذلك رسوله ( صلى الله عليه وسلم ) والأنبياء قبله - عليهم السلام - وأصحابه - رضي الله عنهم - والتابعون لهم بإحسان - رحمة الله عليهم - وهكذا الخلفاء ، فقد كان يقال للخليفة : يا أمير المؤمنين أعزك الله ، ويا عمر أصلحك الله ؛ وما عاب هذا أحد ، وما أنف منه حسيب ولا نسيب ، ولا أباه كبيرٌ ولا شريف ؛ وإني لأعجب من قومٍ يرغبون عن هذا وشبهه ، ويحسبون أن في ذالك ضعةً أو نقيصةً أو حطاً أو زرايةً ، وأظن أن ذلك لعجزهم وفسولتهم ، وانخزالهم وقلتهم وضؤولتهم ، وما يجدونه من الغضاضة في أنفسهم ، وأن هذا التكلف والتجبر يمحوان عنهم ذلك النقص ، وذلك النقص ينتفي بهذا الضلف ؛ هيهات ، لا تكون الرياسة حتى تصفو من شوائب الخيلاء ومن مقابح الزهو والكبرياء . فقلت : أيها الوزير ، قد خالطت العلماء ، وخدمت الكبراء وتصفحت أحوال الناس في أقوالهم وأعمالهم وأخلاقهم ، فما سمعت هذا المعنى من أحدل على هذه السياقة الحسنة والحجة الشافية والبلاغ المبين ؛ وقد قال بعض السلف الصالح : ' ما تعاظم أحد على من دونه إلا بقدر ما تصاغر لمن فوقه ' . والتصاغر دواء النفس ، وسجية أهل البصيرة في الدنيا والدين ؛ ولذلك قال ابن السماك للرشيد - وقد عجب من رقته وحسن إصاخته لموعظته وبليغ قبوله لقوله وسرعة دمعته على وجنته - : ' يا أمير المؤمنين ، لتواضعك في شرفك أشرف من شرفك ، وإني أظن أن دمعتك هذه قد أطفأت أوديةً من النار وجعلتها برداً وسلاماً ' .قال : هذا باب مفترقٌ فيه ، ورجعنا إلى الحديث فإنه شهي ، سيما إذا كان من خطرات العقل قد خدم بالصواب في نغمةٍ ناغمة ، وحروف متقاومة ؛ ولفظٍ عذب ، ومأخذٍ سهل ؛ ومعرفة بالوصل والقطع ، ووفاء بالنثر والسجع ؛ وتباعدٍ من التكلف الجافي ، وتقاربٍ في التلطف الخافي ، قاتلالله ذا الرمة حيث يقول : لها بشرٌ مثل الحرير ومنطقٌ . . . رخيم الحواشي لا هراءٌ ولا نزر وكنت أنشد أيام الصبا هذا بالذال ، وكان ذلك من سوء تلقين المعلم ؛ وبالعراق رد علي وقيل : هو بالزاي ؛ وقد أجاد القطامي أيضاً وتغزل في قوله : فهن ينبذن من قول يصبن به . . . مواقع الماء من ذي الغلة الصادي قلت : ولهذا قال خالد بن صفوان حين قيل له : أتمل الحديث ؟ قال : إنما يمل العتيق ، والحديث معشوق الحس بمعونة العقل ، ولهذا يولع به الصبيان والنساء ، فقال : وأي معونة لهؤلاء من العقل ولا عقل لهم ؟ قلت : ههنا عقلٌ بالقوة وعقلٌ بالفعل ، ولهم أحدهما وهو العقل بالقوة ، وههنا عقلٌ متوسط بين القوة والفعل مزمع ، فإذا برز فهو بالفعل ، ثم إذا استمر العقل بلغ الأفق ؛ ولفرط الحاجة إلى الحديث ما وضع فيه الباطل ، وخلط بالمحال ووصل بما يعجب ويضحك ولا يؤول إلى تحصيلوتحقيق ، مثل هزار أفسان وكل ما دخل في جنسه من ضروب الخرافات ؛ والحسن شديد اللهج بالحادث والمحدث والحديث ، لأنه قريب العهد بالكون ، وله نصيب من الطرافة . ولهذا قال بعض السلف : ' حادثوا هذه النفوس فإنها سريعة الدثور ' ، كأنه أراد اصقلوها واجلو الصدأ عنها ، وأعيدوها قابلةً لودائع الخير ، فإنها إذا دثرت - أي صدئت ، أي تغطت ؛ ومنه الدثار فوق الشعار - لم ينتفع بها ؛ والتعجب كله منوطٌ بالحادث ؛ وأما التعظيم والإجلال فهما لكل ما قدم : إما بالزمان ، وإما بالدهر ؛ ومثال ما يقدم بالزمان الذهب والياقوت وما شابههما من الجواهر التي بعد العهد بمبادئها ، وسيمتد العهد جداً إلى نهاياتها ؛ وأما ما قدم بالدهر ، فكالعقل والنفس والطبيعة ؛ فأما الفلك وأجرامه المزدهرة في المعانقة العجيبة ، ومناطقه الخفية ، فقد أخذت من الدهر صورةً إلهية ، وأحدثت فيما سلف منها صورةً زمانية . فقال : بقي أن يتصل به نعت العتيق والخلق ، فكان من الجواب أن العتيق يقال على وجهين : فأحدهما يشار به إلى الكرم والحسن والعظمة ، وهذا موجودٌ في قول العرب : البيت العتيق ؛ والآخر يشار به إلى قدم من الزمان مجهول . فأما قولهم : عبد عتيق ، فهو داخل في المعنى الأول ، لأنه أكرم بالعتق ، وارتفع عن العبودية ، فهو كريم . وكذلك وجه عتيق لأنه أعتقته الطبيعة من الدمامة والقبح . وكذلك فرس عتيق . وأما قولهم : هذا شيء خلق ، فهو مضمن معنيين : أحدهما يشار به إلى أن مادته بالية ؛ والآخر أن نهاية زمانه قريبة .وكان ابن عباد قال لكاتبه مرة - أعني ابن حسولة - في شيء جرى . . . نعم ، العالم عتيق ولكن ليس بقديم أي لو كان قديماً لكان لا أول له ، ولما كان عتيقاً كان له أعول ، ومن أجل هذا الإعتقاد وصفوا الله تعالى بأنه قديم ، واستحسنوا هذا الإطلاق . وقد سألت العلماء البصراء عن هذا الإطلاق ، فقالوا : ما وجدنا هذا في كتاب الله - عز وجل - ولا كلام نبيه - ( صلى الله عليه وسلم ) - ولا في حديث الصحابة والتابعين . وسألت أبا سعيد السيرافي الإمام : هل تعرف العرب أن معنى القديم ما لا أول له ؟ فقال : هذا ما صح عندنا عنهم ولا سبق إلى وهمنا هذا منهم ، إلا أنهم يقولون : هذا شيء قديم وبنيان قديم ويسرحون وهمهم في زمانٍ مجهول المبدأ . فقل : قد مر في كلامك شيء يجب البحث عنه ، ما الفرق بين الحادث والمحدث والحديث ؛ فكان من الجواب أن الحادث ما يلحظ نفسه والمحدث ما يلحظ مع تعلقٍ بالذي كان عنه محدثاً . والحديث كالمتوسط بينهما مع تعلقٍ بالزمان ومن كان منه . وههنا شيء آخر ، وهو الحدثان والحدثان ؛ فأما الأول فكأنه لما هو مضارعٌ للحادث ، وأما الحدثان فكأنه اسم للزمان فقط ، لأنه يقال : كان كذا وكذا في حدثان ما ولي الأمير ، أي في أول زمانه ، وعلى هذا يدور أمر الحدث والأحداث والحادثات والحوادث . وفلان حدث ملوكٍ كله من ديوان واحد وواد واحد وسبك واحد . قال : ما الفرق بين حدث وحدث ؟ قلت : لا فرق بينهما إلا من جهة أن حدث تابع لقدم ، لأنه يقال : أخذه ما قدم وما حدث ؛ فإذا قيل لإنسان : حدث يا هذا . فكأنه قيل له : صل شيئاً بالزمانيكون به في الحال ، لا تقدم له من قبل . ثم رجعت فقلت . ولفوائد الحديث ما صنف أبو زيد رسالة لطيفة الحجم في المنظر ، شريفة الفوائد في المخبر ، تجمع أصناف ما يقتبس من العلم والحكمة والتجربة في الأخبار والأحاديث ، وقد أحصاها واستقصاها وأفاد بها ، وهي حاضرة . فقال احملها واكتبها ، ولا تمل إلى البخل بها على عادة أصحابنا الغثاث . قلت : السمع والطاعة . ثم رويت أن عبد الملك بن مروان قال لبعض جلسائه : قد قضيت الوطر من كل شيء إلا من محادثة الإخوان في الليالي الزهر ، على التلال العفر . وأحسن من هذا ما قال عمر بن عبد العزيز قال : والله إني لأستري المحادثة من عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود بألف دينار من بيت مال المسلمين . فقيل : يا أمير المؤمنين ، أتقول هذا مع تحريك وشدة تحفظك وتنزهك ؟ فقال : أين يذهب بكم ؟ والله إني لأعود برأيه ونصحه وهدايته على بيت مال المسلمين بألوف وألوف دنانير ، إن في المحادثة تلقيحاً للعقول ، وترويحاً للقلب ، وتسريحاً للهم ، وتنقيحاً للأدب . قال : صدق هذا الإمام في هذا الوصف ، إن فيه هذا كله .قلت : وسمعت أبا سعيد السيرافي يقول : سمعت ابن السراج يقول : دخلنا على ابن الرومي في مرضه الذي قضى فيه ، فأنشدنا قوله : ولقد سئمت مآربي . . . فكأن أطيبها خبيث إلا الحديث فإنه . . . مثل اسمه أبداً حديث وقال سليمان بن عبد الملك : قد ركبنا الفاره ، وتبطنا الحسناء ، ولبسنا اللين ، وأكلنا الطيب حتى أجمناه ، وما أنا اليوم إلى شيء أحوج مني إلى جليس يضع عني مؤونة التحفظ ويحدثني بما لا يمجه السمع ، ويطرب إليه القلب . وهذا أيضاً حقٌ وصواب ، لأن النفس تمل ، كما أن البدن يكل ؛ وكما أن البدن إذا كل طلب الراحة ، كذلك النفس إذا ملت طلبت الروح وكما لابد للبدن أن يستمد ويستفيد بالجمام الذاهب بالحركة الجالبة للنصب والضجر ، كذلك لابد للنفس من أن تطلب الروح عند تكاثف الملل الداعي إلى الحرج فإن البدن كثيف النفس ، ولهذا يرى بالعين ،كما أن النفس لطيفة البدن ، ولهذا لا توجد إلا بالعقل ؛ والنفس صفاء البدن ، والبدن كدر النفس . فقال : أحسنت في هذه الروايات على هذه التوشيحات وأعجبني ترحمك على شيخك أبي سعيد ، فما كل أحد يسمح بهذا في مثل هذا المقام ، وما كل أحد يأبه لهذا الفعل ؛ هات ملحه الوداع حتى نفترق عنها ، ثم نأخذ ليلة أخرى في شجون الحديث . قلت : حدثنا ابن سيف الكاتب الراوية ، قال : رأيت جحظة قد دعا بناءً ليبني له حائطاً فحضر ، فلما أمسى اقتضى البناء الأجرة ، فتماكسا وذلك أن الرجل طلب عشرين درهماً ؛ فقال جحظة : إنما عملت يا هذا نصف يوم وتطلب عشرين درهماً ؟ قال : أنت لا تدري ، إني قد بنيت لك حائطاً يبقى مائة سنة ؛ فبينما هما كذلك وجب الحائط وسقط ؛ فقال جحظة : هذا عملك الحسن ؟ قال : فأردت أن يبقى ألف سنة ؟ قال : لا ، ولكن كان يبقى إلى أن تستوفي أجرتك . فضحك - أضحك الله سنه - .
الليلة الثانية
ثم حضرت ليلة أخرى ، فقال : أول ما أسألك عنه حديث أبي سليمان المنطقي كيف كان كلامه فينا ، وكيف كان رضاه عنا ورجاؤه بنا ، فقد بلغني أنك جاره ومعاشره ،ولصيقه وملازمه وقافي خطوه وأثره ، وحافظ غاية خبره . فقلت : والله أيها الوزير ، ما أعرف اليوم ببغداد - وهي الرقعة الفسيحة الجامعة ، والعرصة العريضة الغاصة - إنساناً أشكر لك ، وأحسن ثناءً عليك ، وأذهب في طريق العبودية معك ، منه ؛ ولقد سكر الآذان وملأ البقاع بالدعاء الصالح ، رفعه الله إليه ، والثناء الطيب أشاعه الله ؛ وقد عمل رسالةً في وصفك ذكر فيها ما آتاك الله وفضلك به من شرف أعراقك ، وكرم أخلاقك وعلو همتك ، وصدق حدسك وصواب رأيك ، وبركة نظرك ، وظهور غنائك ، وخصب فنائك ، ومحبة أوليائك ، وكمد أعدائك ، وصباحة وجهك ، وفصاحة لسانك ، ونبل حسبك ، وطهارة غيبك ، ويمن نقيبتك ، ومحمود شيمتك ، ودقيق ما أودع الله فيك ، وجليل ما نشر الله عنك ، وغريب ما يرى منك ، وبديع ما ينتظر لك من المراتب العلية ، والخيرات الواسعة والدولة الوادعة ، وهي تصل إلى مجلسكم في غد أو بعده - إن شاء الله - وكان هذا منه قياماً بالواجب ، فإنك نعشت روحه وكان خفت ، وبصرته وكان عشي ؛ وأنبت جناحه وكان قد حص ، بالرسم الذي وصل إليه لأنه كن قنط منه وهو قنوطٌ ، وسمعته مراراً : من يذكرني وقد مضى الملك - رضوان الله عليه - ومن يخلفه في مصلحتي ، ويجري على عادته معي ؟ ومن يسأل عني ، ويهتم بحالي ؟ هيهات ، فقد والله بالأمس من يطول تلفتنا إليه ويدوم تلهفنا عليه إن الزمان بمثله لبخيل كان والله شمس المعالي وغرة الزمن وحامل الأثقال ، وملقتىالقفال ، ومحقق الأقوال والأفعال ، ومجرى لجم الأحوال على غاية الكمال ؛ كان والله فوق المتمنى ، وأعلى من أن يلحق به نظير ، أو يوجد له مماثل ؛ لذته لمحٌ في تهذيب الأمور ، وهواه وقفٌ على صلاح من في إصلاحه صلاح ونفي من في نفيه تطهير ؛ ولولا أن عمر الفتى الأريحي قصير ، لكنا لا نبتلى بفقده ، ولا نتحرق على فوت ما كان لنا بحياته ؛ الدنيا ظلوم ، والإنسان فيها مظلوم . فلما وصل إليه ذلك الرسم - وهو مائة دينار - وحاجته ماسة إلى رغيف ، وحوله وقوته قد عجزا عن أجرة مسكنه ، وعن وجه غدائه وعشائه عاش . ومما زاد في حديث الرسم أنه وصل إليه مع العذر الجميل ، والوعد العريض الطويل ؛ ولو رأيته وهو يترفل ويتحنك لعجبت . فقال : سررتني لسروره بما كان مني ، وإن عشت كففت الزمان عن ضيمه ، وفللت عنه حد نابه ، ولولا الضمانة مانعةٌ عن نفسه ، وتمنع معها بنفسه ؛ لغشي هذا المجلس فيكم فاستأنس وآنس ، ولكنه على حال لا محتمل له عليها ، ولا صبر عليه معها ؛ أتحفظ ما قال البديهي فيه ؟ قلت : نعم ، قال : أنشدنيه ، فرويت :أبو سليمان عالمٌ فطن . . . ما هو في علم بمنتقص لكن تطيرت عند رؤيته . . . من عورٍ موحش ومن برص وبابنة مثل ما بوالده . . . وهذه قصة من القصص فقال : قاتله الله ، فلقد أوجع وبالغ ، ولم يحفظ ذمام العلم ، ولم يقض حق الفتوة . حدثني عن درجته في العلم والحكمة ، وعرفني محله فيهما من محل أصحابنا ابن زرعة وابن الخمار وابن السمح والقومسي ومسكويه ونظيف ويحيى بن عدي وعيسى بن علي . فقلت : وصف هؤلاء أمر متعذر ، وبابٌ من الكلفة شاق ؛ وليس مثلي من جسر عليه ، وبلغ الصواب منه ؛ وإنما يصفهم من نال درجة كل واحد منهم ، وأشرف بعد ذلك عليهم ؛ فعرف حاصلهم وغائبهم ، وموجودهم ومفقودهم . فقال : هذا تحايلٌ لا أرضاه لك ، ولا أسلمه في يدك ، ولا أحتمله منك ؛ ولم أطلب إليك أن تعرفهم بما هو معلوم الله منهم ، وموهبة لهم ، ومسوقه إليهم ،ومخلوعه عليهم ، على الحد الذي لا مزيد فيه ولا نقص ؛ إنما أردت ان تذكر من كل واحد ما لاح منه لعينيك ، وتجلى لبصيرتك ، وصار له به صورةٌ في نفسك ؛ فأكثر وصف الواصفين للأشياء على هذا يجري ، وإلى هذا القدر ينتهي . فقلت : إذا قنع مني بهذا ، فإني أخدم بما عندي ، وأبلغ فيه أقصى جهدي . أما شيخنا أبو سليمان فإنه أدقهم نظراً ، وأقعرهم غوصاً ، وأصفاهم فكراً ، وأظفرهم بالدرر ، وأوقفهم على الغرر ؛ مع تقطع في العبارة ، ولكنةٍ ناشئة من العجمة وقلة نظرٍ في الكتب ، وفرط استبداد بالخاطر ، وحسن استنباط للعويص ، وجرأة على تفسير الرمز ، وبخلٍ بما عنده من هذا الكنز . وأما ابن زرعة فهو حسن الترجمة ، صحيح النقل ، كثير الرجوع إلى الكتب ، محمود النقل إلى العربية ، جيد الوفاء بكل ما جل من الفلسفة ؛ ليس له في دقيقها منفذ ، ولا له من لغزها مأخذ ، ولولا توزع فكره في التجارة ، ومحبته في الربح ، وحرصه على الجمع ؛ وشدته في المنع ؛ لكانت قريحته تستجيب له ، وغائمته تدر عليه ؛ ولكنه مبدد مندد ، وحب الدنيا يعمي ويصم . وأما ابن الخمار ففصيح ، سبط الكلام ، مديد النفس ، طويل العنان ، مرضي النقل ، كثير التدقيق ، لكنه يخلط الدرة بالبعرة ويفسد السمين بالغث ، ويرقع الجديد بالرث ؛ ويشين جميع ذلك بالزهو والصلف ، ويزيد في الرقم والسوم ، فما يجديه من الفضل يرتجعه بالنقص ؛ وما يعطيه باللطف يسترده بالعنف ؛ وما يصفيه بالصواب ،يكدره بالإعجاب . ومع هذا يصرع في كل شهر مرة أو مرتين . وأما ابن السمح ، فلا ينزل بفنائهم ، ولا يسقى من إنائهم ؛ لأنه دونهم في الحفظ والنقل والنظر والجدل ، وهو بالمتبع أشبه ، وإلى طريقة الدعي أقرب ، والذي يحطه عن مراتبهم شيئان : أحدهما بلاده فهمه ، والآخر حرصه على كسبه ؛ فهو مستفرغ مح البال مأسور العقل ، يأخذ الدانق والقيراط والحبة والطسوج والفلس بالصرف والوزن والتطفيف ؛ والقلب متى لم ينق من دنس الدنيا لم يعبق بفوائح الحكمة ، ولم يتفوح بردع الفلسفة ، ولم يقبل شعاع الأخلاق الطاهرة المفضية إلى سعادة الآخرة . وأما القومسي أبو بكر ، فهو رجل حسن البلاغة ، حلو الكناية ، كثير الفقر العجيبة ، جماعةٌ للكتب الغريبة ؛ محمود العناية في التصحيح والإصلاح والقراءة ، كثير التردد في الدراسة ؛ إلا أنه غير نصيح في الحكمة ؛ لأن قريحته ترابية ، وفكرته سحابية ؛ فهو كالمقلد بين المحققين ، والتابع للمتقدمين ؛ مع حبٍ للدنيا شديد ، وحسد لأهل الفضل عتيد . وأما مسكويه ، ففقير بين أغنياء ، وعيي بين أبنياء ، لأنه شاذ ، وأنا أعطيته في هذه الأيام صفو الشرح لإبساغوجي وقاطيغورياس ، من تصنيف صديقنا بالري . قال : ومن هو ؟ قلت : أبو القاسم الكاتب غلام أبي الحسن العامري ، وصححه معي ؛ وهو الآن لائذ بابن الخمار ، وربما شاهد أبا سليمان وليس له فراغ ، ولكنه محسن في هذا الوقت للحسرة التي لحقته فيما فاته من قبل .فقال : يا عجباً لرجل صحب ابن العميد أبا الفضل ورأى من كان عنده وهذا حظه قلت : قد كان هذا ، ولكنه كان مشغولاً بطلب الكيمياء مع أبي الطيب الكيميائي الرازي ، مملوك الهمة في طلبه والحرص على إصابته مفتوناً بكتب أبي زكرياء ، وجابر بن حيان ؛ ومع هذا كان إليه خدمة صاحبه في خزانة كتبه ؛ هذا مع تقطيع الوقت في حاجاته الضرورية والشهوية ؛ والعمر قصير ، والساعات طائرة ، والحركات دائمة والفرص بروق تأتلق ، والأوطار في غرضها تجتمع وتفترق ، والنفوس على فواتها تذوب وتحترق ؛ ولقد قطن العامري الري خمس سنين جمعة ودرس وأملى وصنف وروى فما أخذ مسكويه عنه كلمة واحدة ، ولا وعى مسألة ، حتى كأنه بينه وبينه سد ؛ ولقد تجرع على هذا التواني الصاب والعلقم ، ومضغ بفمه حنظل الندامة في نفسه ، وسمع بأذنه قوارع الملامة من أصدقائه حين لم ينفع ذلك كله . وبعد فهو ذكي حسن الشعر نقي اللفظ ، وإن بقي فعساه يتوسط هذا الحديث ، وما أرى ذلك مع كلفة بالكيمياء ، وإنفاق زمانه وكد بدنه وقلبه في خدمة السلطان ، واحتراقه في البخل بالدانق والقيراط والكسرة والخرقة ؛ نعوذ بالله من مدح الجود باللسان ، وإيثار الشح بالفعل ، وتمجيد الكرم بالقول ومفارقته بالعمل ؛ وهذا هو الشقاء المصبوب على هامة من بلي به ، والبلاء المعصوب بناصية من غلب عليه . وأما عيسى بن علي ، فله الذرع الواسع والصدر الرحيب في العبارة ، حجة في النقلوالترجمة ، والتصرف في فنون اللغات ، وضروب المعاني والعبارات ؛ وقد تصفح ما لم يتصفح كثير من هذه الجماعة ، وقلب بخزائن الكبراء والسادات ، وأعين بالعمر الطويل والفراغ المديد ؛ ولكنه مع هذا الفضل الكثير بخيل بكلمة واحدة ، ونصيحٌ على ورقة فارغة ، لسودائه الغالبة عليه ، ومزاجه المتشيط بها . وأما نظيف ، فإنه متوسط ، لا يسفل عن أقلهم حظاً ولا يعلو على أكثرهم نصيباً ؛ ويده في الطب أطول ، ولسانه في المجالس أجول ؛ ومعه رفق وحذق في الجدل . وأما يحيى بن عدي ، فإنه كان شيخاً لين العريكة فروقة ، مشوه الترجمة ، رديء العبارة ، لكنه كان متأتياً في تخريج المختلفة وقد برع في مجلسه أكثر هذه الجماعة ، ولم يكن يلوذ بالإلهيات ، كان ينبهر فيها ويضل في بساطها ، ويستعجم عليه ما جل ، فضلاً عما دق منها ؛ وكان مبارك المجلس . فقال : ما قصرت في وصف هذه الطائفة ، وتقريب البغية التي كانت داخلة في نفسي منهم . حدثني عن مذاهبهم في النفس وما يقولون فيها ؛ وإلى أين ينتهون من يقينهمبشأنها ، وكيف ثقتهم ببقائها بعد فناء أبدانها ؟ فقلت : علمت أني لا أجد ما أريد من حديث النفس عند أصحابنا الباقين ، أعني أبا الوفاء علي بن يحيى السامري والمعري والقوهي والصوفي وغلام زحل والصاغاني ، وكذلك غيرهم أعني ابن عبدان وابن يعقوب وابن لالا وابن بكش وابن قوسين والحراني ، لأن هؤلاء ليسوا يحرثون هذه الأرض ، ولا يرقمون هذا البز ولا يجهزون هذا المتاع ولا يتعاملون به ؛ هذا ينظر في المرض والصحة والداء والدواء ، وهذا يعتبر الشمس والقمر ، وليس فيهم من يذكر كلمة في النفس والعقل والإله ، حتى كأنه محظور عليهم ، أو قبيح عندهم . وقلت : إن هؤلاء القوم - أعني الطائفة الأولى - متفقون في الاعتراف بأنها جوهر باقٍ خالد ؛ فأما اليقين فما الحكم به لهم ، لأنهم لو كانوا على ذلك - أعني واجدين لليقين ذائقين لحلاوته - لما كدحوا للدنيا التي تزول عنهم ويزولون عنها مضطرين ؛ فلو أنهم كانوا على ثلج من النفس ، ويقظة من العقل ، واستبصار من القلب ، وسكون من البرهان ، لما تعجلوا هذه اللذات المنقوصة ، والأوطار الفاضحة ، والشهوات الخسيسة ، مع التبعات الكثيرة والأوزار الثقيلة ؛ ولا عجب فإنه إذا كانت الركاكة العائقة تمنع الإنسان من العدو والسفر ، ومن سرعة الخطو ، لأن الحركة قد بطلت بالركاكة الداخلة عليه في أعضائه وآلائه ، فأي عجب من أن تكون النفس التي استعبدتها الشهوات الغالبة ، والعقيدة الرديئة ، والأفعال القبيحة معوقةً ممنوعةً من الصعود إلى معانق الفلك ومخارق النجوم وعالم الروح ومقعد الصدق ومقام الأمن ومحل الكرامة ومراد الخلد وبلد الأبدومعان السرمد . قال : هذا كلام تام ؛ وسأسألك بعد هذا عن النفس وما تحفظ عنهم فيها لكن تعم لي ما كنا فيه ، كيف علم أبي سليمان بالنجوم وأحكامها ؟ قلت : لا يتجاوز التقويم . ثم قال : فما تقول في الأحكام ؟ قلت : أنشدت منذ أيام : علم النجوم على العقول وبال . . . وطلاب حق لا ينال محال وقلت أيضاً : علم الأحكام لا يجوز في الحكمة أن يكون مدركاً مكشوفاً مخاطباً به معروفاً ؛ ولا يجوز أن يكون مقنوطاً منه مطرحاً مجهولاً ؛ بل الحكمة توجب أن يتوسط هذا الفن بين الإصابة والخطأ حتى لا يستغنى عن اللياذ بالله أبداً ، ولا يقع اليأس من قبله أبداً ؛ وعلى هذا سخر الله الإنسان وقيضه وخيره بين الأمر وفوضه ؛ ومنع من الثقة والطمأنينة إلا في معرفته وتوحيده وتقديسه وتمجيده ، والرجوع إليه ؛ انظر إلى حديث الطب فإن عنده الصناعة توسطت الصواب والخطأ ، لتكون الحكمة سارية فيها ، واللطف معههوداً بها ؛ لأن الطب كما يبرأ به العليل ، قد يهلك معه العليل ؛ فليس بسبب أن بعض المدبرين بالطب لا ينبغي أن ينظر في الطب ؛ وليس بسبب أن بعض المرضى برأ بالطب وجب أن يعول عليه ؛ انظر إلى هذا التوسط في هذه الحال ليكون التدبير الإلهي والأمر الربوبي نافذين في هذه الخلائق بوساطة ما بينه وبينها ؛ ولتكون المصلحة بالغة غايتها ؛ وهذه سياسة دار الفناء ، الجامعة لسكانها على البأساء والنعماء ؛ وهكذا ، فانظر إلى حديث البحر وركوب البأس المتيقن فيه ، وجوب الطول والعرض وإصابة الربح ، وطلب العلم ، كيف توسط بين السلامة والعطب ، والنجاة والهلكة ، فلو استمرت السلامة حتى لا يوجد من يغرق ويهلك ، لكان في ذلك مفسدة عامة ؛ ولو استمرت الهلكة حتى لا يوجد من يسلم وينجو ، لكان في ذلك مفسدة عامة ؛ فالحكمة إذاً ما توسط هذا الأمر حتى يشكر الله منينجو ، ويسلم نفسه لله من يهلك . قلت : وبعد هذا فهذا العلم عويص غامض عميق ، وقد فقد العلماء به ، الملهون فيه ؛ ومعول أهله على الحدس والظن ، وعلى بعض التجارب القديمة التي تكذب مرة وتصدق مرة ؛ وبالصدق يعبر الإنسان ، وبالكذب يعرى من فوائده ؛ فالنقص قد دخله ، والخلل قد شمله ؛ وليس يجب أن يوهب له زمانٌ عزيز ، فوراءه ما هو أهم منه وأجدر ، وأرشد وأهدى . قال : هذا حسن ، حدثني بالذي أفدت اليوم . قلت : قال أبو سليمان : العلم صورة المعلوم في نفس العالم ، وأنفس العلماء عالمةٌ بالفعل ، وأنفس المتعلمين عالمة بالقوة . والتعليم هو إبراز ما بالقوة إلى الفعل . والتعلم هو بروز ما هو بالقوة إلى الفعل . والنفس الفلكية عالمةٌ بالفعل ، والنفس الجزئية علامة بالقوة ؛ وكل نفس جزئية تكون أكثر معلوماً وأحكم مصنوعاً فهي أقرب إلى النفس الفلكية تشبهاً بها ، وتصيراً لها . قال : هذا في الحسن نهاية ، وقد اكتهل الليل ، وهذا يحتاج إلى بدء زمان ، وتفريغ قلب ، وإصغاء جديد . هات خاتمة المجلس . قلت له : قرأنا يوم الجمعة على أبي عبيد الله المرزباني لعبد الله بن مصعب . إذا استتعت منك بلحظ طرفي . . . حيي نصفي ومات عليك نصفي تلذذ مقلتي ويذوب جسمي . . . وعيشي منك مقرون بحتفي فلو أبصرتني والليل داج . . . وخدي قد توسط بطن كفي ودمعي يستهل من المآقي . . . إذاً لرأيت ما بي فوق وصفي وانصرفت .
الليلة الثالثة
قال لي ليلة أخرى : حدثني أبو الوفاء عنك حديث الخراساني ، فأريد أن أسمعه منك .قلت : كنت قائماً عشية على زنبرية الجسر في الجانب الشرقي والحاج يدخلون ، وجمالهم قد سدت عرض الجسر - أنتظر جوازها وخفة الطريق منها ، فرأيت شيخاً من أهل خراسان ذكر لي أنه من أهل سنجان واقفاً خلف الجمال يسوقها ، ويحفظ الرحال التي عليها ، حتى نظر إلى الجانب الغربي فرأى الجذع عليه ابن بقية - وكان وزيراً صلبه الملك لذنوب كانت له - فقال : لا إله إلا الله ، ما أعجب أمور الدنيا وما أقل المفكر في عبرها وغيرها ، عضد الدولة تحت الأرض وعدوه فوق الأرض . قال : هكذا حدثني أبو الوفاء ، ولذلك استأذنت في دفنه ، وكان كلام الشيخ سبباً في ذلك . قال : بلغني أن أبا سليمان يزور في أيام الجمعة رسل سجستان لما ويظل عندهم طاعماً ناعماً ، ويأنس بأنك معه ، فمن يحضر ذلك المكان ؟ فقلت : جماعة ؛ وآخر من كان في هذا الأسبوع الماضي ابن جبلة الكاتب ، وابن برمويه ، وابن الناظر أبو منصور وأخوه ، وأبو سليمان وبندار المغني وغزال الراقص ، وعلم وراء الستارة . فقال : ما الذي حفظت من حديث عنهم ، ومأثور أن يلقى إلينا منهم ؟ فقلت : سمعت أشياء ، ولست أحب أن أسم نفسي بنقل الحديث وإعادة الأحوال فأكون غامزاً وساعياً ومفسداً . قال : معاذ الله من هذا ، إنما تدل على رشد وخير ، وتضل عن غي وسوء ، وهذايلزم كل من آثر الصلاح الخاص والعام لنفسه وللناس ، واعتقد الشفقة ، وحث على قبول النصيحة ؛ والنبي ( صلى الله عليه وسلم ) قد سمع مثل هذا وسأل عنه ، وكذلك الخلفاء من بعده ، وكل أحد محتاج إلى معرفة الأحوال إذا رجع إلى مرتبة عاليةٍ أو محطوطة . فقلت وجدت ابن برمويه يذكر أشياء هي متعلقة بجانبك ، ويرى أنها لو لم تكن لكان مجلسك أشرف ، ودولتك أعز ، وأيامك أدوم ، ووليك أحمد ، وعدوك أكمد . قال : ما هذا الاسترسال كله إلى ابن شاهويه ؟ وما هذا الكلف ببهرام ؟ وما هذا التعصب لابن مكيخا ؟ وما هذا السكون إلى ابن طاهر ؟ وما هذا التعويل على ابن عبدان ؟ وما من هؤلاء أحد إلا يريش عدوه ويبريه ويضل صاحبه ويغويه . أما ابن شاهويه فشيخ إزراء وصاحب مخرقة وكذبٍ ظاهر ، كثير الإيهام ، شديد التمويه ، لا يرجع إلى ودٍ صادق ، ولا إلى عقد صحيح وعهدٍ محفوظ ؛ وإنما كان الماضي يقربه لغرض كان له فيه من جهة هؤلاء المخربين القرامطة ، وكان أيضاً مذموم الهيئة ، فكان لاينبس إلا بما يقويه ويحرس حاله ، واليوم هو رخي اللبب ، جاذب لكل سبب ؛ وليس هناك كفاية ولا صيانة ولا ديانة ولا مروءة ؛ وبعد ، فهو مشئوم نكد ، ثقيل الروح ، شديد البهت قوله الإفساد وعادته تأجيل المهنأ والشماتة بالعاثر والتشفي من المنكوب . وأما بهرام فرجل مجوسي معجب ذميم ، لا يعرف الوفاء ولا يرجع إلى حفاظ ، غرضه أن يتبجح في الدنيا بجاهه ، ولا يبالي أين صار بعاقبته ؛ وهو يحض مع ذلك عليه في كل ما هو مديره ومدبره . وأما ابن مكيخا ، فرجل نصراني أرعن خسيس ، ما جاء يوماً بخير قط لا في رأي ولا في عمل ، ولا في توسط ؛ وأصحابنا يلقبونه بقفا وهو منهمك بين اللذائذ همه أن يتحسى دن الشراب في نفس أو نفسين ، ثم يسقط كالجذع اليابس لا لسان ولا إنسان . وأما ابن طاهر فرجل يدعي للناس أنه لولا مكانته وكفايته وحسبه ورأيه ومشورته لكانت هذه الوزارة سراباً ، وهذه المملكة خراباً ؛ هذا مع الشر الذي في طبعه وعادته ؛ فإن جرى خيرٌ انتحله ، وزعم أنه من نتائج رأيه ؛ وإن وقع شرٌ عصبه برأس صاحبه ، وادعى أنه استبد به ؛ ومع هذا فهو يعيب هذه المراءاة .وما أدري كيف استكفى هذه الجماعة حوله ؟ وكيف يظاهر هو بها ويسكن إليها ؟ وما فيهم إلا من وكده الرجس والإفساد والأخذ بالمصانعة وإغراء الأولياء بما يعود بالوبال على البريء والسقيم وعلى الزكي والظنين ؛ هؤلاء سباع ضارية ، وكلاب عاوية ؛ وعقارب لساعة ، وأفاعٍ نهاشة ، وقى الله هذا الإنسان الحر المبارك الكريم الرحيم ، فإنه شريف النفس طاهر الطوية ، لين العريكة ، كثير الديانة ، وهذه أخلاق لا تصلح اليوم مع الناس ، قال الشاعر : ومن لا يذد عن حوضه الناس أو يكن . . . له جانب يشتد إن لان جانب يطأ حوضه المستوردون وتغشه . . . شوائب لا تبقى عليها النقائب وما ضاع قولهم : لا تكن حلواً فتؤكل ، ولا مراً فتعاف . ليس الحذر يقي فكيف التهور ، أههنا لحىً تسحب كل يوم ، وطوارق تتوقع كل ليلة والتوكل والاستسلام يلقيان بأهل الدين في طلب الآخرة ؛ فأما أصحاب الدنيا وأرباب المراتب ، فيجب أن يدعوا الهوينا جانباً ، ويشمروا للنفع والضر ؛ والخير والشر ويكون ضرهم أكثر ، وشرهم أغلب ؛ ورهبوت خير من رحموت .ولهذا قال الأعرابي : أنا الغلام الأعسر . . . الخير في والشر والشر في أكثر وهذا معنى بديع ، ولم يرد أن البداءة بالشر خير من الخير ، وإنما اراد أني أتقي بالشر ، وإذا أقبل الشر قلت له : مرحباً ، وأدفع الشر ولو بالشر ، والحديد بالحديد يفلح . وقد قال الآخر : وفي الشر نجاة حي . . . ن لا ينجيك إحسان وقال ابن دارة : إذا كنت يوماً طالب القوم فاطرح . . . مقالتهم واذهب بهم كل مذهب وقارب بذي حلم وباعد بجاهل . . . جلوب عليك الشر من كل مجلب فإن حدبوا فاقعس وإن هم تقاعسوا . . . ليستمسكوا مما يريدون فاحدب وإن حلبوا خلقين فاحلب ثلاثة . . . وإن ركبوا يوماً لك الشر فاركب وقال الحجاج بن يوسف أبو محمد - وهو من رجالات العرب وقد قهر العجم بالدهاء والزكانة - لو أخذت من الناس مائة ألف ، كان أرضى عني من أن أفرق فيهم مائة ألف . كان الناس بالأمس مزمومين مخطومين ، يقوم كل واحد بنفسه على نفسه ، ويتهم غده لما جناه في أمسه ؛ لأن الملك السعيد ساسهم ، وقوم زيغهم ، وقلم أظافرهم ؛ وشغلهم بالحاجة عن البطر والأشر ، وبالكفاية عن القلق والضجر ؛ وتقدم إليهم بترك الخوض فيما لا مرجوع له بخير ؛ وكانوا لا يشكرون الله على نعمته عليهم به ، وإحسانه إليهم بمكانه ، فسلبوه فتنفس خناقهم ، واتسع نطاقهم ، فامتطى كل واحد هواه ، ويوشك أنيقع في مهواه . قال : وههنا أشياء أخرى غير هذه ، ولكن من يسمع ويقبل ؟ ومع هذا فالأمور صائرةٌ إلى مصايرها ، كما أنها صادرة عن مصادرها . فقال له ابن جبلة : ما عندي إلا أن الوزير - أبقاه الله - عارفٌ بهم ومستبطن لأمرهم ؛ مع العشرة القديمة ، والملابسة المتصلة ، والخبرة الواقعة ؛ ولكن لابد لمن كان في محله ورقعته من جماعةٍ يقربهم ، ويرجع إليهم ويسمع منهم ، وينظر بأعينهم ، ويصغي بآذانهم ، ويتناول بأيديهم . فقال له مجاوباً : إن كان عارفاً بهم ، ومستبطناً لأمرهم ، وخبيراً بشأنهم ؛ فلم سلطهم وبسطهم ، وحدد أنيابهم ، وقوى أسنانهم ، وفتح أشداقهم ، وطول أعناقهم ، وقطع أرباقهم ؛ وأبطرهم فأسكرهم ، حتى صاروا يجهلون أقدارهم ، وينسون ما كانوا فيه من القلة والذلة ؟ هلا رتب كل واحد منهم فيما تظهر به كفايته ولا يرفعه إلى ما يظن معه الظن الفاسد ، ولم يضحك في وجوههم ، ويغضي على جنايتهم ؟ أما بلغه أن ابن يوسف قال : تشبثه بابن شاهويه لأنه قد أعده للهرب إلى القرامطة إن دهمه أمر ؟ وأنسه ببهرام إنما هو لاستمداد الفساد منه وتقديمه لابن الحجاج للسخف ، ولهجه بابن هرون للهزء واللعب . قال له ابن جبلة : من أراد أن يحسن القبيح عند رضاه ، ويقبح الحسن عند سخطه فعل ، ولا يخلو أحد تهب ريحه ، ويعلو شأنه ، وينفذ أمره ونهيه من حاسد وقارف ،ومدخل ومرجف ، على هذه الأمور بنيت الدار ، وعليها جرت الأقدار ، إن كنت تنكر هذا الرهط ، فاعرف له الرهط الآخر ؛ فإنك تعرف بذلك حسن اختياره وجميل انتقائه ومحمود رأيه . قال : من هم ؟ . قال : أبو الوفاء المهندس ، وابن زرعة المتفلسف ، وابن عبيد الكاتب ، ومسكويه ، والأهوازي والعسجدي فأين هؤلاء الغامطة ؟ قومٌ همهم أن يأكلوا رغيفاً ويشربوا قدحاً ، لا هم ممن يقتبس من علمهم ولا هم يتكلفون له نصحاً ، وهيبته تعوقهم عن ذكر شيء في الدولة من تلقائهم إلا أن يكون شيء يتعلق بهم على معنى خاص ؛ فهو ينود هكذا وهكذا حتى يبلغ منهم ما قدر عليه . فلما سمع الوزير هذا كله قال : سألقي إليك في جواب هذه المسألة ما تخدمني به إن لاقيتهم في مجلس آخر على وجه يخفي أنك له ملقن محمل كأنك ساهٍ عنه غير حافل به ؛ وقد تقطع الليل ، ويحتاج في هذا الحديث إلى استئناف زمان ، بعد استيفاء حمام ؛ ثم أنشدت قول الشاعر : إني لأصفح عن قومي وألبسهم . . . على الضغائن حتى تبرأ المثر ثم قال : ما المئر ؟ قلت : هي الضغائن التي ذكرها في حشو البيت ، واحدها مئرةٌ ، كأنه أراد وألبسهم على الضغائن حتى تبرأ الضغائن فرجع من لفظ إلى لفظ ضرورة القافية لما كان معناهما واحداً ؛ قال : لمن هذا البيت ؟ قلت : لا أحفظ اسم شاعره ، ولكنأحفظ معه أبياتاً . قال : هاتها ؛ فأنشدت أول ذلك : يا أيها الرجل المزجى أذيته . . . هل أنت عن قولك العوراء مزدجر إني إذا عد مبطاءٌ إلى أمد . . . لا يستطيع حضاري المقرف البطر لاقى قناتي مصراراً عشوزنةً . . . لا قادح قد تبغاها ولا خور إني لأصفح عن قومي وألبسهم . . . على الضغائن حتى تبرأ المئر قال : اكتبها . قلت : أفعل ، وانصرفت ، فما أعاد علي بعد ذلك شيئاً مما كان .
الليلة الرابعة
قال لي بعد ذلك في ليلة أخرى : كيف رضاك عن أبي الوفاء ؟ قلت : أرضى رضاً بأتم شكر وأحمد ثناء ؛ أخذ بيدي ، ونظر في معاشي ، ونشطني وبشرني ، ورعى عهدي ، ثم ختم هذا كله بالنعمة الكبرى ، وقلدني بها القلادة الحسنى ، وشملني بهذه الخدمة ، وأذاقني حلاوة هذه المزية ، وأوجهني عند نظرائي . قال : هات شيئاً من الغزل . فأنشدته : كلانا سواء في الهوى غير أنها . . . تجلد أحياناً وما بي تجلدتخاف وعيد الكاشحين وإنما . . . جنوني عليها حين أنهي وأبعد ثم قال : غالب ظني أن نصراً غلام خواشاذه ما هرب من فنائي إلا برأيك وتجسيرك ؛ فإن ذلك عبد ، ولا جرأة له على مثل هذا الندود والشذوذ ، فقد قال لي القائل : إنك من خلصانه . فقلت : والله الذي لا إله إلا هو ما كان بيني وبينه ما يقتضي هذا الأنس وهذا الاسترسال ، إنما كنا نلتقي على زنبرية باب الجسر بالعشايا وعند البيمارستان وعلى باب أبي الوفاء ؛ وإنما ركنت إليه لمرقعته وتاسومته عند ما كنت رأيته عند صاحبه بالري سنة تسع وستين وهو متوجه إلى قابوس وجرجان ، في المذلة الدائمة والحال المربوطة ؛ ولو نبس لي بحرف من هذا ، أو كنت أشعر بأقل شيء منه ، لكنت أقول لأبي الوفاء قضاءً لحقه ، ووفاءً بما له في عنقي من مننه وخوفاً من هذا الظن بي ، وقصوراً عن اللائمة لي . قال : أفما تعرف أحداً تسأله عنه ممن كان يخالطه ويباسطه ؟ قلت : ما رأيته إلا وحده ؛ وكم كان زمان التلاقي ؟ كان أقل من شهر ، أفي هذا القدر يتوكد الأنس وترتفع الحشمة وتستحكم الثقة ويقع الاسترسال والتشاور ؟ هذا بعيد . قال : هذا المتخلف كنت قد قربته ورتبته ، ووعدته ومنيته ؛ وتقدمت إلى أبي الوفاء بالإقبال عليه ، والإحسان إليه ، وإذكاري بأمره في الوقت بعد الوقت ، حتى أزيده نباهة وتقديماً ، فترك هذا كله وطوى الأرض كأنه هارب من حبس ، أو خائف من عذاب .ويقال في الأثر : إن بعض الصفيحيين قال : لله قوم يقادون إلى الجنة بالسلاسل ، ما أكثر من يفر من هذه الكرامة ، ويقوى - على ترفٍ جمٍ - على الهوان ، ويصبر على البلاء ، ويقلق في العافية إن السجايا المختلفة ، وإن الطباع لمتعادية ؛ قلما يرى شخصان يتشاكلان في الظاهر إلا يتباينان في الباطن . قلت : كذلك هو . قال : حدثني لم امتنعت من النفوذ مع ابن موسى إلى الجبل فيما رسمنا له أن يتوجه فيه ؟ ولقد أطلت التعجب من هذا وكررته على أبي الوفاء . فقلت : منعني من ذلك ثلاثة أشياء : أحدها أن ابن موسى لم يكن من شكلي ولا أشد للضد هوناً من مصاحبة الضد ، لأنه سوداوي وجعد . والآخر أنه قيل : ينبغي أن تكون عيناً عليه ، وأنا لو قررت لك الحديث لما رأيته لائقاً بحالي ، فكيف إذا قرنت برجل باطلي لو بوهمه أمري لدهدهني من أعلى جبل في الطريق . والآخر أني كنت أفد مع هذا كله على ابن عباد - وهو رجل أساء إلي وأوحشني ، وحاول على لسان صاحبه ابن شاهويه أن أنقلب إليه ثانياً ؛ وكنت أكره ذلك ، وما كنت آمن ما يكون منه ومني ، والمجنون المطاع ، مهروب منه بالطباع . وبعد ، فليس لي حاجةٌ في مثل هذه الخدمة ، لأن صدر العمر خلا مني عارياً من هذه الأحوال ، وكان وسطه أضعف حملاً ، وأبعد من القيام به والقيام عليه . فقال : ما كان عندي هذا كله .قال : إني أريد أن أسألك عن ابن عباد فقد انتجعته وخبرته وحضرت مجلسه ، وعن أخلاقه ومذهبه وعادته ، وعن علمه ، وعن علمه وبلاغته ، وغالب ما هو عليه ، ومغلوب ما لديه ؛ فما أظن أني أجد مثلك في الخبر عنه ، والوصف له ، على أني قد شاهدته بهمذان لما وافي ، ولكني لم أعجمه ، لأن اللبث كان قليلاً ، والشغل كان عظيماً ، والعائق كان واقعاً . فقال : إني رجل مظلوم من جهته ، وعاتبٌ عليه في معاملتي ، وشديد الغيظ لحرماني ، وإن وصفته أربيت منتصفاً ، وانتصفت منه مسرفاً ، فلو كنت معتدل الحال بين الرضا والغضب ، أو عارياً منهما جملة ، كان الوصف أصدق ، والصدق به أخلق ؛ على أني عملت رسالة في أخلاقه وأخلاق ابن العميد أودعتها نفسي الغزير ، ولفظي الطويل والقصير ، وهي في المسودة ولا جسارة لي على تحريرها ، فإن جانبه مهيب ، ولمكره دبيب ، وقد قال الشاعر : إلى أن يغيب المرء يرجى ويتقى . . . ولا يعلم الإنسان ما في المغيب قال : دع هذا كله ، وانسخ لي الرسالة من المسودة ، ولا يمنعنك ذاك فإن العين لا ترمقها والأذن لا تسمعها واليد لا تنسخها . وبعد ، فما سألتك إلا وصفه بما جبل عليه ، أو بما كسب هو بيديه من خير وشر ؛ وهذا غير منكر ولا مكروه ، لأمر الله تعالى ، فإنه مع علمه الواسع ، وكرمه السابغ ، يصف المحسن والمسيء ، ويثني على هذا وينثو على ذاك ؛ فاذكر لي من أمره ما خف اللفظ به وسبق الخاطر إليه وحضر السبب له . قلت : إن الرجل كثير المحفوظ حاضر الجواب فصيح اللسان ؛ قد نتف من كل أدبخفيفٍ أشياء ، وأخذ من كل فن أطرافاً ؛ والغالب عليه كلام المتكلمين المعتزلة ، وكتابته مهجنة بطرائقهم ، ومناظرته مشوبة بعبارة الكتاب ؛ وهو شديد التعصب على أهله الحكمة والناظرين في أجزائها كالهندسة والطب والتنجيم والموسيقي والمنطق والعدد ؛ وليس عنده بالجزء الإلهي خبر ، ولا له فيه عين ولا أثر ؛ وهو حسن القيام بالعروض والقوافي ؛ ويقول الشعر ، وليس بذاك ؛ وفي بديهيته غزارة . وأما رويته فخوارة ؛ وطالعه الجوزاء ، والشعري قريبة منه ؛ ويتشيع لمذهب أبي حنيفة ومقالة الزيدية ، ولا يرجع إلى الرقة والرأفة والرحمة ، والناس كلهم محجمون عنه ، لجرأته وسلاطته واقتداره وبسطته ؛ شديد العقاب طفيف الثواب ، طويل العتاب ؛ بذيء اللسان ؛ يعطي كثيراً قليلاً أعني يعطي الكثير القليل ، مغلوبٌ بحرارة الرأس ، سريع الغضب ، بعيد الفيئة قريب الطيرة ، حسودٌ حقودٌ حديد ، وحسده وقفٌ على أهل الفضل ، وحقده سارٍ إلى أهل الكفاية ؛ أما الكتاب والمتصرفون فيخافون سطوته ، وأما المنتجعون فيخافون جفوته ؛ وقد قتلا خلقاً ، وأهلك ناساً ، ونفى أمة ، نخوةً وتعنتاً وتجبراً وزهواً ؛ وهو مع هذا يخدعه الصبي ، ويخلبه الغبي ؛ لأن المدخل عليه واسع ، والمأتي إليه سهل ؛ وذلك بأن يقال : مولانا يتقدم بأن أعار شيئاً من كلامه ، ورسائل منثوره ومنظومه ؛ فما جبت الأرض إليه من فرغانة ومصر وتفليس إلا لأستفيد كلامه وأفصح به ، وأتعلم البلاغة منه ؛ لكأنما رسائل مولانا سور قرآن ، وفقره فيها آيات فرقان ؛ واحتجاجه من ابتدائها إلى انتهائها برهان فوق برهان ؛ فسبحان من جمع العالم في واحد ، وأبرز جميع قدرته في شخص . فيلين عند ذلك ويذوب ، ويلهى عن كل مهم له ، وينسى كل فريضة عليه ويتقدم إلى الخازن بأن يخرجإليه رسائله مع الورق والورق ويسهل له الإذن عليه ، والوصول إليه ، والتمكن من مجلسه ؛ فهذا هذا . ثم يعمل في أوقات كالعيد والفصل شعراً ، ويدفعه إلى أبي عيسى بن المنجم ، ويقول : قد نحلتك هذه القصيدة ، امدحني بها في جملة الشعراء ، وكن الثالث من الهمج المنشدين . فيفعل أبو عيسى - وهو بغدادي محكك قد شاخ على الخدائع وتحنك - وينشد ، فيقول له عند سماعه شعره في نفسه ووصفه بلسانه ، ومدحه من تحبيره : أعد يا أبا عيسى ، فإنك - والله - مجيد زه يا أبا عيسى والله ، قد صفا ذهن ، وزادت قريحتك ، وتنقحت قوافيك ؛ ليس هذا من الطراز الأول حين أنشدتنا في العيد الماضي ، محل تخرج الناس وتهب لهم الذكاء ، وتزيد لهم الفطنة ، وتحول الكودن عتيقاً ، والمحمر جواداً ؛ ثم لا يصرفه عن مجلسه إلا بجائزة سنية ؛ وعطية هنية ؛ ويغيظ الجماعة من الشعراء وغيرهم ، لأنهم يعلمون أن أبا عيسى لا يقرض مصراعاً ولا يزن بيتاً ولا يذوق عروضاً . قال يوماً : من في االدار ؟ فقيل له : أبو القاسم الكاتب وابن ثابت ؛ فعمل في الحال بيتين ، وقال لإنسان بين يديه : إذا أذنت لهذين فادخل بعدهما بساعة وقل : قد قلت بيتين ، فإن رسمت لي إنشادهما أنشدت وازعم أنك بدهت بهما ، ولا تجزع من تأففي بك ، ولا تفزع من نكري عليك ، ودفع البيتين إليه ، وأمره بالخروج إلى السجن ؛ وأذن للرجلين حتى وصلا ؛ فلما جلسا وأنسا دخلالآخر على تفيئتهما ، ووقف للخدمة ، وأخذ يتلمظ يرى أنه يقرض شعراً ؛ ثم قال : يا مولانا ، قد حضرني بيتان ، فإن أنت أذنت لي أنشدت . قال : أنت إنسان أخرق سخيف ، لا تقول شيئاً فيه خير ، اكفني أمرك وشعرك . قال : يا مولانا ، هي بديهتي ، فإن نكرتني ظلمتني ؛ وعلى كل حال فاسمع ، فإن كان بارعين وإلا فعاملني بما تحب قال : أنت لجوج ، هات . فأنشد : يأيها الصاحب تاج العلا . . . لا تجعلني نهزة الشامت بملحدٍ يكنى أبا قاسم . . . ومجبر يعزى إلى ثابت قال : قاتلك الله ، لقد أحسنت وأنت مسىء : قال لي أبو القاسم : فكدت أتفقأ غيظاً ، لأني علمت أنه من فعلاته المعروفة ؛ وكان ذلك الجاهل لا يقرض بيتاً . ثم حدثني الخادم الحديث بنصه . والذي غلطه في نفسه وحمله على الإعجاب بفضله والاستبداد برأيه ، أنه لم يجبه قط بتخطئة ، ولا قوبل بتسوئة ؛ ولا قيل له : أخطأت أو قصرت أو لحنت أو غلطت أو أخللت ، لأنه نشأ على أن يقال : أصاب سيدنا ، وصدق مولانا ، ولله دره ، ولله بلاؤه ، ما رأينا مثله ، ولا سمعنا من يقاربه ، من ابن عبد كان مضافاً إليه ؟ ومن ابن ثوابة مقيساً عليه ؟ ومن إبراهيم بن العباس الصولي إذا جمع بينهما ؟ من صريع الغواني من أشجع السلمي إذا سلك طريقهما ، ومتح برشائهما ، وقدح بزندهما ؟ قد استدرك مولانا على الخليل في العروض ، وعلى أبي عمرو بن العلاء في اللغة وعلى أبي يوسف في القضاء ، وعلى الإسكافي في الموازنة ، وعلى ابن نوبخت في الآراء والديانات ، وعلى ابن مجاهد في القراءات ؛ وعلى ابن جرير في التفسير ، وعلى أرسطوطاليس في المنطق ، وعلى الكندي فيالجزء ، وعلى ابن سيرين في العبارة ، وعلى أبي العيناء في البديهة ، وعلى ابن أبي خالد في الخط ، وعلى الجاحظ في الحيوان ، وعلى سهل بن هرون في الفقر ، وعلى يوحنا في الطب ؛ وعلى ابن ربن في الفردوس ، وعلى عيسى بن دأب في الرواية ، وعلى الواقدي في الحفظ ، وعلى النجار في البدل ، وعلى ابن ثوابة في التفقه ، وعلى السري السقطي في الخطرات والوساوس ، وعلى مزبد في النوادر ، وعلى أبي الحسن العروضي في استخراج المعمى ، وعلى بني برمك في الجود ، وعلى ذي الرياستين في التدبير ، وعلى سطيح في الكهانة ، وعلى ابن المحيا خالد بن سنان العبسي في دعواه ؛ هو والله أولى بقول أبي شريح أوس بن حجر التميمي في فضالة بن كلدة : الألمعي الذي يظن بك الظن . . . كأن لقد رأى وقد سمعا قد يسبق المدح إلا من لا يستحقه ، ويصير المال إلى من لا يليق به أن يكون ميلاً حتى إذا وجد من كان لذلك مستحقاً منحه ووفر عليه . فتراه عند هذا الهذر وأشباهه يتلوى ويتبسم ، ويطير فرحاً ويتقسم ويقول : ولا كذا ؛ ثمرة السبق لهم ، وقصرنا أن نلحقهم ، أو نقفو أثرهم ونشق غبارهم أو نرد غمارهم . وهو في كل ذلك يتشاكى ويتحايل ، ويلوي شدقه ، ويبتلع ريقه ، ويرد كالآخذ ، ويأخذ كالمتمنع ، ويغضب في عرض الرضا ، ويرضى في لبوس الغضب ، ويتهالك ويتمالك ، ويتقابل ويتمايل ؛ ويحاكي المومسمات ، ويخرج في أصحابالسماجات ؛ ومع هذا كله يظن أن هذا خافٍ على نقاد الأخلاق وجهابذة الأحوال ، والذين قد فرغهم الله لتتبع الأمور ، واستخراج ما في الصدور ، واعتبار الأسباب ؛ وذلك أنه ليس بجيد العقل ، ولا خالص الحمق ؛ وكل كدر بالتركيب فقلما يصفو ، وكل مركب على الكدر فقلما يعتدل ؛ إلا أن الانحراف متى كان إلى جانب العقل كان أصلح من أن يكون إلى طرف الحمق ؛ والكامل عزيز ، والبرىء من الآفات معدوم ؛ إلا أن العليل إذا قيض الله له طبيباً حاذقاً رفيقاً ناصحاً كان إلى العافية أقرب ، وللشفاء أرحي ، ومن العطب أبعد ، وبالاحتياط أعلق ، أعني أن العاقل إذا عرف من نفسه عيوباً معدودة ، وأخلاقاً مدخولة ، استطب لها عقله ، وتطبب فيها بعقله ، وتولى تدبيرها برأيه ورأي خلصانه ، فنفي ما أمكن نفيه ، وأصلح ما قبل إصلاحه ، وقلل ما استطاع تقليله ؛ فقد يجد الإنسان الرمص في عينه فينحيه ، ويبتلي بالبرص في بدنه فيخفيه . وقد أفسده أيضاً ثقة صاحبه به ، وتعويله عليه ، وقلة سماعه من الناصح فيه ؛ فعذر بازدهاء المال والغلم والاقتدار والأمر والكفاية وطاعة الرجال وتصديق الجلساء والعادة الغالبة ؛ وهو في الأصل مجدود لا جرم ليس يقله مكانٌ دلالاً وترفاً ، وعجباً وتيهاً وصلفاً ؛ واندراءً على الناس ، وازدراءً للصغار والكبار ، وجبها للصادر والوارد ؛ وفي الجملة ، صغار آفاته كبيرة ، وذنوبه جمة ولكن الغني ربٌ غفور قال : ما صدر هذا البيت ؟ فأنشدته الأبيات ، وهي لعروة بن الورد في الجاهلية ، وكان يقال له عروة الصعاليك ، لأنه كان يؤويهم ويحسن إليهم كثيراً : ذريني للغنى أسعى فإني . . . رأيت الناس شرهم الفقيروأبعدهم وأهوانهم عليهم . . . وإن أمسى له حسبٌ وخير ويقصيه الندى وتزدريه . . . حليلته وينهره الصغير وتلقى ذا الغنى وله جلالٌ . . . يكاد فؤاد صاحبه يطير قليلٌ ذنبه والذنب جمٌ . . . ولكن الغني رب ٌ غفور فقال : لاشك أن المسودة جامعةٌ لهذا كله . قلت : تلك تجزع في دست كاغدٍ فرعوني . فقال : أجد تحريرها ، وعلى بها ، ولك الضمان ألا يراها إنسان ، ولا يدور بذكرها لسان . قلت : السمع والطاعة . قال : قد تركنا من حديثه ما هو أولى مما مر بنا ؛ كيف بلاغته من بلاغة ابن العميد ؟ وأين طريقته من طريقة ابن يوسف والصابي ؟ قلت : قد سألت جماعة عن هذا ، فأجابني كل واحد بجواب إذا حكيته عنه كان ما يقال فيه ألصق ، وكنت من الحكم عليه وله أبعد . قال : صف هذا ؛ قلت : سألت ابن عبيد الكاتب عن ابن عباد فيك تابته فقال : يرتفع عن المتعلمين فيها بدرجة أو بدرجتين . وقال علي بن القاسم : هو مجنون الكلام ، تارةً تبدو لك منه بلاغة قس ، وتارة يلقاك بعي باقل ؛ تحريف كثير في المعاني ، وإحالةٌ في الوضع ، وغلطٌ في السجع ، وشرودٌ عن الطبع . وقال ابن المرزبان : هو كثير السرقة ، سيىء الإنفاق ، رديء القلب والعكس ، فروقةٌ في غيراده ، هزيمته قبل هجومه . وإحجامه أظهر من إقدامه . وقال الصابي : هو مجتهد غير موفق ، وفاضل غير منطق ولو خطا كان أسرع له ، كما أنه لما عدا كان أبطأ عليه ؛ وطباع الجبلي مخالف لطباع العراقي ،يثب مقارباً فيقع بعيداً ، ويتطاول صاعداً فيتقاعس قعيداً . وقال علي بن جعفر : مم كانت الطبائع هو يكذر نفسه بحسن الظن في البلاغة ، وطباعه تصدق عنه بالتخلف ، فهو يشين اللفظ ويحيل المعنى ، فأما شينه اللفظ فبالجفوة والغلظة والإخلال والفجاجة ؛ وأما إحالته فبالإبعاد عن حومة القصد والإرادة ؛ والعجب أنه يحفظ الطم والرم من النثر والنظم ؛ ثم إذا ادعاهما يقع دونهما سقوطاً ، أو يتجاوزهما فروطاً ؛ هذا مع الكبر الممقوت والتشيع الظاهر ، والدعوى العارية من البينة العادلة . وما أحسن ما كتب بن أحمد بن إسماعيل بن الخصيب إلى آخر : الكبر - أعزك الله - معرض يستوي فيه النبيه ذكراً ، والخامل قدراً ، ليس أمامه حاجب يمنعه ، ولا دونه حاجز يحظره ؛ والناس أشد تحفظاً على الرئيس المحظوظ ، وأكثر اجتلاء لأفعاله ، وتتبعاً لمعايبه ، وتصفحاً لأخلاقه ، وتنقيراً عن خصاله منهم عن خامل لا يعبأ به ، وساقطٍ لا يكترث له ؛ فيسير عيب الجليل يقدح فيه ، وصغير الذنب يكبر منه ، وقليل الذم يسرع إليه ؛ ولابن هندو في هذا المعنى : العيب في الرجل المذكور مذكور . . . والعيب في الخامل المستور مستور كفوفة الظفر تخفي من مهانتها . . . ومثلها في سواد العين مشهور وقال الزهيري : قد نجم بأصبهان ابنٌ لعبادٍ في غاية الرقاعة والوقاحة والخلاعة وإن كان له يوم ، فسيشقى به قوم ، سمعته يقول هذا سنة اثنتين وخمسين في مجلسٍ من الفقهاء .وقال ابن حبيب : قال بعض الحكماء : إن اللنفس أمراضاً كأمراض البدن إلا أن فضل أمراض النفس على أمراض البدن في الشر والضرر كفضل النفس على البدن في الخير ؛ وصاحبنا يعني - ابن عباد - مريض عندنا ، صحيح عند نفسه ، زيف بنقدنا ، جيد بنقده ؛ ولو قامت السوق على ساقها ، وتناصف المتعاملون فيها ، ولم يقع إكراه في أخذٍ ولا إعطاء ، عرف البهرج الذي ضرب خارج الدار والجيد الذي ضرب داخل الدار . وقال أحمد بن محمد : إذا أنصفنا التزمنا مزية العراقيين علينا بالطبع اللطيف والمأخذ القريب ، والسجع الملائم ، واللفظ المونق ، والتأليف الحلو ، والسبوطة الغالبة ، والموالاة المقبولة في السمع ، الخالبة للقلب العابثة بالروح ، الزائدة في العقل ، المشعلة للقريحة ، الموقوفة على فضل الأدب ، الدالة على غزارة المغترف ، النائية عن عادة كثير من السلف والخلف ؛ وابن عباد بلي في هذه الصناعة بأشياء كلها عليه لا له ، وخاذلته لا ناصرته ، ومسلمته لا منقذته ؛ فأول ما بلي به أنه فقد الطبع ، وهو العمود ؛ والثاني العادة وهي المؤاتية ؛ والثالث الشغف الجاسي من اللفظ وهو الاختيار الرديء ؛ والرابع تتبع الوحشي ، وهو الضلال المبين ؛ والخامس الذهاب مع اللفظ دون المعنى ؛ والسادس استكراه المقصود من المعنى ، واللفظ على النبوة ؛ والسابع التعاظل المجهول بالاعتراض ؛ والثامن إلف الرسوم الفاسدة من غيرتصفح ولا فحص ؛ والتاسع قلة الاتعاظ بما كان - للثقة الواقعة في النفس - من الفائت ، والعاشر تنفيق المتاع بالاقتدار في سوق العز ، وهذه كلها سبل الضلالة ، وطرق الجهالة . قال : وليس شيء أنفع للمنشىء من سوء الظن بنفسه ، والرجوع إلى غيره وإن كان دونه في الدرجة وليس في الدنيا محسوب إلا وهو محتاج إلى تثقيف ، والمستعين أحزم من المستبد ، ومن تفرد لم يكمل ، ومن شاور لم ينقص ، وقد يستعجم المعنى كما يستعجم اللفظ ، ويشرد اللفظ كما يند المعنى ، وينتثر النظم كما ينتظم النثر وينحل المعقد كما يعقد المنحل . والمدار على اجتلاب الحلاوة المذوقة بالطبع ، واجتناب النبوة الممجوجة بالسمع ؛ والقريحة الصافية قد تكدر ، والقريحة الكدرة قد تصفو ، وشر آفات البلاغة الاستكراه ، وأنصح نصائحها الرضا بالعفو . وقال : كان ابن المقفع يقف قلمه كثيراً ؛ فقيل له في ذلك ، فقال : إن الكلام يزدحم في صدري فيقف قلمي لأتخيره . والكتاب يتصفح أكثر من تصفح الخطاب ، لأن الكاتب مختار والمخاطب مضطر ؛ ومن يرد عليه كتابك فليس يعلم أسرعت فيه أم أبطأت وإنما ينظر أصبت فيه أم أخطأت ، وأحسنت أم أسأت ؛ فإبطاؤك غير إصابتك كما أن إسراعك غير معفٍ على غلطك . قال : هذا كله مفيد فأين هو من غيره من أصحابنا ؟ قلت : في الجملة هو أبلغ من ابنيوسف ، وأغزر وأحفظ وأروى وأجم ركية ، وأعذب مورداً ، وأبعد من التفاوت ؛ وليس ابن يوسف من ابن عباد في شيء . فأما ابن العميد فإني سمعت ابن الجمل يقول : سمعت ابن ثوابة يقول : أول من أفسد الكلام أبو الفضل ، لأنه تخيل مذهب الجاحظ وظن أنه إن تبعه لحقه ، وإن تلاه أدركه ، فوقع بعيداً من الجاحظ ، قريباً من نفسه ؛ ألا يعلم أبو الفضل أن مذهب الجاحظ مدبر بأشياء لا تلتقي عند كل إنسان ولا تجتمع في صدر كل أحد : بالطبع والمنشأ والعلم والأصول والعادة والعمر والفراغ والعشق والمنافسة والبلوغ ؛ وهذه مفاتح قلما يملكها واحد ، وسواها مغالق قلما ينفك منها واحد . وأما ابنه ذو الكفايتين ، فلو عاش كان أبلغ من أبيه ، كما كان أشعر منه ؛ ولقد تشبه بالجاحظ فافتضح في مكاتبته لإخوانه ، ومجانته في كلامه ومسائله لمعلمه التي دلتنا على سرقته وغارته وسوء تأتيه ، في تستره وتغطيه ؛ ومن شاء حمق نفسه ؛ وكان مع هذا أشد الناس ادعاء لكل غريبة ، وأبعد الناس من كل قريبة ؛ وهو نزر المعاني ، شديد الكلف باللفظ ؛ وكان أحسد الناس لمن خط بالقلم ، أو بلغ باللسان ، أو فلج في المناظرة ، أو فكه بالنادرة ، أو أغرب في جواب ، أو اتسع في خطاب ؛ ولقد لقي الناس منه الدواهي لهذه الأخلاق الخبيثة ؛ وقد ذكرت ذلك في الرسالة ، وإذا بيضت وقفت عليها من أولها إلى آخرها إن شاء الله ؛ وانصرفت .الليلة الخامسة
قال لي ليلة أخرى : ألا تتمم ما كنا به بدأنا . قلت : بلى . قأما أبو إسحاق فإنه أحب الناس للطريقة المستقمية ، وأمضاهم على المحجة الوسطى ، وإنما ينقم عليه قلة نصيبه من النحو ؛ وليس ابن عباد في النحو بذاك ؛ ولا كان أيضاً ابن العميد إلا ضعيفاً ؛ وكان يذهب عنه الشيء اليسير . وأبو إسحاق معانيه فلسفية ، وطباعه عراقية ، وعادته محمودة ؛ لا يثب ولا يرسب ، ولا يكل ولا يكهم ، ولا يلتفت وهو متوجه ، ولا يتوجه وهو ملتفت . وقال لنا : إمام ابن عبدكان ، وهو قد أوفى عليه ، وإن كان احتذى على مثاله ؛ وفنونه أكثر ، ومأخذه أخفى ، وخاطره أوقد ، وناظره أنقد ، وروضه أنضر ، وسراجه أزهر ، ويزيد على كل من تقدم بالكتاب التاجي ، فإنها أبان عن أمور وكنى في مواضع ، وشن الغارة في الصبح المنير مع الرعيل الأول ، ودل على التفلسف ، وعلى الاطلاع على حقائق السياسة ولو لم يكن له غيره لكان به أعرق الناس في الخطابة ، وأعرق الكتاب في الكتابة ، هذا ونظمه منثوره ، ومنثوره منظومه ؛ إنما هو ذهبٌ إبريزٌ كيفما سبك فهو واحد ، وإنما يختلف بما يصاغ منه ويشكل عليه ؛ هذا مع الظرف الناصع والتواضع الحسن ، واللهجة اللطيفة ، والخلق الدمث ، والمعرفة بالزمان ، والخبرة بأصناف الناس ؛ وله فنونٌمن الكلام ما سبقه إليها أحد ، وما ماثله فيها إنسان . وإني لأرحم من لا يسلم له هذا الوصف ، لأنه إما أن يكون جاهلاً ، وإما عالماً فإن كان جاهلاً فهو معذور ، وإن كان عالماً فهو ملوم ، لأنه يدل من نفسه - بدافع ما يعلمه - على حسده ، والحاسد مهين . قال : هل كان في زمان هؤلاء من يلحق بهم ، ويدخل في زمرتهم ؟ قلت : نعم ، أبو طالب الجراحي من آل علي بن عيسى كتب للمرزبان ملك الديلم بعد ما انتجع فناء ابن العميد أبي الفضل ، فحسده وطرده ، وعض بعد ذلك على ناجذه ندماً على سوء فعله ، ولقي منه ابن ببأأبي طالب الأمرين ؛ ورسائله مبثوثة . وأبو الحسن الفلكي ، وكان من أهل البصرة ، ووقع إلى المراغة ونواحيها وهو حسن الديباجة ، رقيق حواشي اللفظ ؛ وهو أحدهم غرباً ، وأغزرهم سكباً ، وأبعدهم مناحاً وأعذبهم نقاخاً ، وأعطفهم للأول على الآخر وأنشرهم للباطن من الظاهر . وقرأت له : فإن رأى أن ينظر نظر راحم متعطف ، إلى نادم متلهف ؛ ويجعل العفو عن فرطته وكفرانه ، صدقةً عن بسطته وسلطانه ؛ فأجدر الناس بالاغتفار أقدرهم على الانتصار ؛ فعل - إن شاء الله تعالى - . وله مكاتبات واسعة بينه وبين رجل من أهل المراغة يقال له : محمد بن إبراهيم ، من أهل سر من رأى وفي الجملة ، الفضل في الناس مبثوث ، وهم منه على جدود ؛ والمرذول هو العاري من لبوسه ، المتردد بين تخلفه ونقصه . قال : فكيف يتم له ما هو فيه مع هذه الصفات التي تذكرها ؟ قلت : والله لو أن عجوزاً بلهاء ، أو أمةً ورهاء أقيمت مقامه ، لكانت الأمور على هذا السياق . قال : وكيف ذاك ؟ قلت : قد أمن أن يقال له : لم فعلت ، ولم لم تفعل ؟ وهذا باب لا يتفق لأحدٍ من خدمالملوك إلا بجد سعيد ، ولقد نصح صاحبه الهروي في أموال تاوية ، وأمورٍ من النظر عارية ؛ فقذف بالرقعة إليه حتى عرف ما فيها ، ثم قتل الراقع خنقاً . هذا وهو يدين بالوعيد ، وله نظائر ، ولنظائره نظائر ، ولكن ليس له ناظر ، ولا فيه مناظر . وقال لي الثقة من أصحابه : ربما شرع في أمر يحكم فيه بالخطأ فيلقبه جده صواباً ، حتى كأنه عن وحي ؛ وأسرار الله في خلقه عند الارتفاع والانحطاط خفيةٌ في أستار الغيب ، لا يهتدي إليها ملك مقرب ، ولا نبي مرسل ، ولا ولي مهذب ؛ ولو جرت الأمور على موضوع الرأي وقضية العقل ، لكان معلماً في مصطبة على شاعر ، أو في دار ؛ فإنه يخرج الإنسان بتفيهقه وتشادقه ، واستحقاره واستكباره ، وإعادته وإبدائه ، وهذه أشكال تعجب الصبيان ولا تنفرهم من المعلمين ، ويكون فرحهم بها سبباً للملازمة والحرص على التعلم والحفظ والرواية والدراسة . قال : هذا قدرٌ كافٍ إلى أن تبيض الرسالة ؛ هات ملحة الوداع . قلت : قال أبو العيناء : قال أبو دعلج : قال المهدي : بايع ؛ قلت : أبايعكم علام ؟ قال : على ما بويع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يوم صفين . قال كريز أبو سيار المسمعي : إن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) لم يدرك صفين ، إنما كانت صفين بين علي ومعاوية . فقال دوست بن رباط الفقيمي أبو شعيب : قد علم الأمير هذا ، ولكن أحب التسهيل على الناس ، وانصرفت .
الليلة السادسة
ثم حضرته ليلةً أخرى فأول ما فاتح به المجلس أن قال : أتفضل العرب على العجم أم العجم على العرب ؟ قلت : الأمم عند العلماء أربع : الروم ، والعرب ، وفارس ، والهند ؛ وثلاث من هؤلاء عجم ، وصعبٌ أن يقال : العرب وحدها أفضل من هؤلاء الثلاثة ، مع جوامع ما لها ،وتفاريق ما عندها . قال : إنما أريد بهذا الفرس . فقلت : قبل أن أحكم بشيء من تلقاء نفسي ، أروي كلاماً لابن المقفع ، وهو أصيلٌ في الفرس عريق في العجم ، مفضل بين أهل الفضل ؛ وهو صاحب اليتيمة القائل : تركت أصحاب الرسائل بعد هذا الكتاب في ضحضاح من الكلام . قال : هات على بركة الله وعونه . قلت : قال شبيب بن شبة : إنا لوقوفٌ في عرصة المربد - وهو موقف الأشراف ومجتمع الناس وقد حضر أعيان المصر - إذ طلع ابن المقفع ، فما فينا أحد إلا هش له ، وارتاح إلى مساءلته ، وسررنا بطلعته ؛ فقال : ما يقفكم على متون دوابكم في هذا الموضع ؟ فوالله لو بعث الخليفة إلى أهل الأرض يبتغي مثلكم ما أصاب أحداً سواكم ، فهل لكم في دار ابن برثن في ظلٍ ممدود ، وواقيةٍ من الشمس ، واستقبال من الشمال ، وترويحٍ للدواب والغلمان ، ونتمهد الأرض فإنها خير بساط وأوطؤه ، ويسمع بعضنا من بعض فهو أمد للمجلس ، وأدر للحديث . فسارعنا إلى ذلك ، ونزلنا عن دوابنا في دار ابن برثن نتنسم الشمال ، إذ أقبل علينا ابن المقفع ، فقال : أي الأمم أعقل ؟ فظننا أنه يريد الفرس ، فقلنا : فارس أعقل الأمم ، نقصد مقاربته ، ونتوخى مصانعته . فقال : كلا ، ليس ذلك لها ولا فيها ، هم قوم علموا فتعلموا ، ومثل لهم فامتثلوا واقتدوا وبدئوا بأمر فصاروا إلى اتباعه ، ليس لهم استنباط ولا استخراج . فقلنا له : الروم . فقال : ليس ذلك عندها ، بل لهم أبدانٌ وثيقة وهم أصحاب بناء وهندسة ، لا يعرفون سواهما ، ولا يحسنون غيرهما . قلنا : فالصين . قال : أصحاب أثاثٍ وصنعة ، لا فكر لها ولا روية . قلنا : فالترك . قال : سباع للهراش . قلنا : فالهند . قال : أصحاب وهم ومخرقة وشعبذة وحيلة . قلنا : فالزنج : قال : بهائم هاملة . فرددنا الأمر إليه . قال : العرب . فتلاحظنا وهمس بعضنا إلى بعض ، فغاظه ذلك منا ، وامتقع لونه ، ثم قال : كأنكم تظنون في مقاربتكم ،فوالله لوددت أن الأمر ليس لكم ولا فيكم ولكن كرهت إن فاتني الأمر أن يفوتني الصواب ، ولكن لا أدعكم حتى أبين لكم لم قلت ذلك ، لأخرج من ظنة المداراة ، وتوهم المصانعة ؛ إن العرب ليس لها أولٌ تؤمه ولا كتابٌ يدلها ، أهل بلد قفر ، ووحشةٍ من الإنس ، احتاج كل واحد منهم في وحدته إلى فكره ونظره وعقله ؛ وعلموا أن معاشهم من نبات الأرض فوسموا كل شيء بسمته ، ونسبوه إلى جنسه وعرفوا مصلحة ذلك في رطبه ويابسه ، وأوقاته وأزمنته ، وما يصلح منه في الشاة والبعير ؛ ثم نظروا إلى الزمان واختلافه فجعلوه ربيعياً وصيفياً ، وقيظياً وشتوياً ؛ ثم علموا أن شربهم من السماء ، فوضعوا لذلك الأنواء ؛ وعرفوا تغير الزمان فجعلوا له منازله من السنة ؛ واحتاجوا إلى الانتشار في الأرض ، فجعلوا نجوم السماء أدلةً على أطراف الأرض وأقطارها ، فسلكوا بها البلاد ؛ وجعلوا بينهم شيئاً ينتهون به عن المنكر ، ويرغبهم في الجميل ، ويتجنون به على الدناءة ويحضهم على المكارم ؛ حتى إن الرجل منهم وهو في فجٍ من الأرض يصف المكارم فما يبقى من نعتها شيئاً ، ويسرف في ذم المساوىء فلا يقصر ؛ ليس لهم كلام إلا وهم يحاضون به على اصطناع المعروف ثم حفظ الجار وبذل المال وابتناء المحامد ، كل واحد منهم يصيب ذلك بعقله ، ويستخرجه بفطنته وفكرته فلا يتعلمون ولا يتأدبون ، بل نحائز مؤدبة ، وعقولٌ عارفة ؛ فلذلك قلت لكم : إنهم أعقل الأمم ، لصحة الفطرة واعتدال البنية وصواب الفكر وذكاء الفهم . هذا آخر الحديث . قال : ما أحسن ما قال ابن المقفع وما أحسن ما قصصته وما أتيت به هات الآن ما عندك من مسموع ومستنبط . فقلت : إن كان ما قال هذا الرجل البارع في أدبه المقدم بعقله كافياً فالزيادة عليه فضلٌ مستغنىً عنه ، وإعقابه بما هو له لا فائدة فيه . فقال : حد الوصف في التزيين والتقبيح مختلف الدلائل على ما يعتقد صوابهوخطؤه ، متباين ؛ وهذه مسألة - أعني تفضيل أمة على أمة - من أمهات ما تدارأ الناس عليه وتدافعوا فيه ؛ ولم يرجعوا منذ تناقلوا الكلام في هذا الباب إلى صلح متين واتفاق ظاهر . فقتل : بالواجب ما وقع هذا ، فإن الفارسي ليس في فطرته ولا عادته ولا منشئه أن يعترف بفضل العربي ، ولا في جبلة العربي وديدنه أن يقر فضل الفارسي . وكذلك الهندي والرومي والتركي والديلمي ؛ وبعد ، فاعتبار الفضل والشرف موقوف على شيئين : أحدهما ما خص به قوم دون قوم في أيام النشأة بالاختيار للجيد والرديء ، والرأي الصائب والفائل ، والنظر في الأول والآخر . وإذا وقف الأمر على هذا فلكل أمة فضائل ورذائل ولكل قوم محاسن وماسوٍ ، ولكل طائفة من الناس في صناعتها وحلا وعقدها كمال وتفسير ؛ وهذا يقضي بأن الخيرات والفضائل والشرور والنقائص مفاضة على جميع الخلق ، مفضوضةٌ بين كلهم . فللفرس السياسة والآداب والحدود والرسوم ؛ وللروم الحكمة ؛ وللهند الفكر والرؤية والخفة والسحر والأناة ؛ وللترك الشجاعة والإقدام ؛ وللزنج الصبر والكد والفرح ؛ وللعرب النجدة والقرى والوفاء والبلاء والجود والذمام والخطابة والبيان . ثم إن هذه الفضائل المذكورة ، في هذه الأمم المشهورة ، ليست لكل واحد من أفرادها ، بل هي الشائعة بينها ؛ ثم في جملتها من هو عارٍ من جميعها ، وموسوم بأضدادها ، يعني أنه لا تخلو الفرس من جاهل بالسياسة ، خالٍ من الأدب ، داخلٍ في الرعاع والهمج ؛ وكذلك العرب لا تخلو من جبانٍ جاهلٍ طياش بخيلٍ عيي وكذلك الهند والروم وغيرهم ؛ فعلى هذا إذا قوبل أهل الفضل والكمال من الروم بأهل الفضل والكمال من الفرس ، تلاقوا على صراط مستقيم ، ولم يكن بينهم تفاوتٌ إلا فيمقادير الفضل وحدود الكمال ، وتلك لا تخص بل تلم . وكذلك إذا قوبل أهل النقص والرذيلة من أمة بأهل النقص والخساسة من أمة أخرى ، تلاقوا على نهج واحد ، ولم يقع بينهم تفاوت إلا في الأقدار والحدود ؛ وتلك لا يلتفت إليها ، ولا يعار عليها ؛ فقد بان بهذا الكشف أن الأمم كلها تقاسمت الفضائل والنقائص باضطرار الفطرة ، واختيار الفكرة . ولم يكن بعد ذلك إلا ما يتنازعه الناس بينهم بالنسبة الترابية ، والعادة المنشئية والهوى الغالب من النفس الغضبية ، والنزاع الهائج من القوة الشهوية . وها هنا شيء آخر ، وهو أصل كبير لا يجوز أن يخلو كلامنا من الدلالة عليه والإيماء إليه . وهو أن كل أمة لها زمان على ضدها ، وهذا بين مكشوف إذا أرسلت وهمك في دولة يونان والإسكندر ، لما غلب وساس وملك ورأس وفتق ورتق ورسم ودبر وأمر ، وحث وزجر ، ومحا وسطر ، وفعل وأخبر ؛ وكذلك إذا عطفت إلى حديث كسرى أنوشروان وجدت هذه الأحوال بأعيانها ، وإن كانت في غلف غير غلف الأول ، ومعارض غير معارض المتقدم ؛ ولهذا قال أبو مسلم صاحب الدولة حين قيل له : أي الناس وجدتهم أشجع ؟ فقال : كل قوم في إقبال دولتهم شجعان . وقد صدق ؛ وعلى هذا كل أمة في مبدأ سعادتها وأفضل وأنجد وأشجع وأمجد وأسخى وأجود وأخطب وأنطق وأرأى وأصدق ؛ وهذا الاعتبار ينساق من شيء عامٍ لجميع الأمم ، إلى شيء شاملٍ لأمة أمة إلى شيء حاوٍ لطائفةٍ طائفة ، إلى شيء غالبٍ على قبيلةٍ قبيلة ، إلى شيء معتادٍ في بيتٍ بيت ، إلى شيء خاص بشخصٍ شخص وإنسانٍ إنسان ؛ وهذا التحول من أمة إلى أمة ، يشير إلى فيض جود الله تعالى علىجميع بريته وخليقته بحسب استجابتهم لقبوله ، واستعدادهم على تطاول الدهر في نيل ذلك من فضله ومن رقي إلى هذه الربوة بعين لا قذى بها ، أبصر الحق عياناً بلا مرية ، وأخبر عنه بلا فرية ؛ ومتى صدق نظرك في مابدىء الأحوال وأوائل الأمور وضح لك هذا كله كالنهار إذا متع ، واستنار كالقمر إذا طلع ؛ ولم يبق حينئذ ريب في عرفان الحق وحصول الصواب ، إلا ما يلتاث بالهوى ، ويسمج بالتعصب ، ويجلب اللجاج ، ويخرج إلى المحك ؛ فهناك يطيح المعنى ويضل المراد ، فإذا آثرت أن تعرف صحة هذا الحكم وصواب هذا الرأي ، فاسمع ما أرويه : قال إسحاق بن إبراهيم الموصلي : انصرف العباس بن مرداس السلمي من مكة فقال : يا بني سليم ، إني رأيت أمراً ، وسيكون خيراً ، رأيت بني عبد المطلب كأن قدودهم الرماح الردينية ، وكأن وجوههم بدور الدجنة وكأن عمائمهم فوق الرجال ألوية ، وكأن منطقهم مطر الوبل على المحل ؛ وإن الله إذا أراد ثمراً غرس له غرساً ، وإن أولئك غرس الله ؛ فترقبوا ثمرته وتوكفوا غيثه ، وتفيئوا ظلاله ، واستبشروا بنعمة الله عليكم به . ولقد قرع العباس بهذا الكلام باب الغيب ، وشعر بالمستور ، وأحس بالخافي ، واطلع عقله على المستتر ، واهتدى بلطف هاجسه إلى الأمر المزمع ، والحادث المتوقع ؛ وهذا شيء فاشٍ في العرب ، لطول وحدتها ، وصفاء فكرتها ، وجودة بنيتها واعتدال هيئتها ، وصحة فطرتها ، وخلاء ذرعها ، واتقاد طبعها ، وسعة لغتها وتصاريف كلامها في أسمائها وأفعالها وحروفها ، وجولانها في اشتقاقاتها ، ومآخذها البديعة في استعاراتها ، وغرائبتصرفها في اختصاراتها ، ولطف كناياتها في مقابلة تصريحاتها ، وفنون تبحبحها في أكناف مقاصدها ، وعجيب مقاربتها في حركات لفظها ؛ وهذا وأضعافه مسلم لهم ، وموفر عليهم ، ومعروفٌ فيهم ومنسوبٌ إليهم ، مع الشجاعة والنجدة والذمام والضيافة والفطنة والخطابة والحمية والأنفة والحفاظ والوفاء ، والبذل والسخاء ، والتهالك في حب الثناء والنكل الشديد عن الذم والهجاء ؛ إلى غير ذلك مما خصت به في جاهليتها قبل الإسلام ، مما لا سبيل إلى دفعه وجحوده ، والبهت فيه ، والمكابرة عليه ؛ وقد سمعنا لغاتٍ كثيرةً - وإن لم نستوعبها - من جميع الأمم ، كلغة أصحابنا العجم والروم والهند والترك وخوارزم وصقلاب وأندلس والزنج ، فما وجدنا لشيء من هذه اللغات نصوع العربية ، أعني الفرج التي في كلماتها ، والفضاء الذي نجده بين حروفها ، والمسافة التي بين مخارجها ، والمعادلة التي نذوقها في أمثلتها ، والمساواة التي لا تجحد في أبنيتها ؛ وإذا شئت أن تعرف حقيقة هذا القول ، وصحة هذا الحكم ، فالحظ عرض اللغات الذي هو بين أشدها تلابساً وتداخلاً ، وترادفاً وتعاظلاً وتعسراً وتعوصاً ، وإلى ما بعدها مما هو أسلس حروفاً ، وأرق لفظاً ، وأخف اسماً ؛ وألطف أوزاناً ، وأحضر عياناً ؛ وأحلى مخرجاً وأجلى منهجاً وأعلى مدرجاً ؛ وأعدل عدلاً ، وأوضح فضلاً ، وأصح وصلاً إلى أن تنزل إلى لغة بعد لغة ، ثم تنتهي إلى العربية ، فإنك تحكم بأن المبدأالذي أشرنا إليه في العوائص والأغماض ، سرى قليلاً قليلاً حتى وقف على العربية في الإفصاح والإيماض . وهذا شيء يجده كل من كان صحيح البنية ، بريئاً من الآفة ، متنزهاً عن الهوى والعصبية ، محباً للإنصاف في الخصومة ، متحرياً للحق في الحكومة ، غير مسترق بالتقليد ، ولا مخدوع بالإلف ، ولا مسخر بالعادة ، وإني لأعجب كثيراً ممن يرجع إلى فضل واسع ، وعلمٍ جامع ؛ وعقل سديد ، وأدب كثير ، إذا أبى هذا الذي وصفته ، وأنكر ما ذكرته ؛ وأعجب أيضاً فضل عجب من الجيهاني في كتابه وهو يسب العرب ، ويتناول أعراضها ويحط من أقدارها ويحط من أقدارها ، ويقول : يأكلون اليرابيع والضباب والجرذان والحيات ويتعاورون ويتساورون ، ويتهاجون ويتفاحشون ، وكأنهم قد سلخوا من فضائل البشر ، ولبسوا أهب الخنازير . قال : ولهذا كان كسرى يسمى ملك العرب : سكان شاه ، أي ملك الكلاب . قال : وهذا لشدةشبههم بالكلاب وجرائها ، والذئاب وأطلائها وكلاماً كثيراً من هذا الصوب أرفع قدره عن مثله ، وإن كان يضع من نفسه بفضل قوله . أتراه لا يعلم لو نزل ذلك القفر وتلك الجزيرة وذلك المكان الخاوي وتلك الفيافي والموامي ، كل كسرى كان في الفرس ، وكل قيصر كان في الروم ، وكل بلهور كان بالهند ، وكل يقفور كان بخراسان ، وكل خاقان كان بالترك وكل أخشاد كان بفرغانة وكل صبهبذ كان من أسكنان وأردوان ما كانوا يعدون هذه الأحوال لأن من جاع أكل ما وجد ، وطعم ما لحق ، وشرب ما قدر عليه ، حباً للحاية ، وطلباً للبقاء ، وجزعاً من الموت ، وهرباً من الفناء . أترى أنوشروان إذا وقع إلى فيافي بني أسد وبر وبار وسفوح طيبة ، ورمل يبرين وساحة هبير ، وجاع وعطش وعري ، أما كان يأكل اليربوع والجرذان ؛ وما كان يشرب بول الجمل وماء البئر ، وما أسن في تلك الوهدات ؟ أو ما كان يلبس البرجد والخميصة والسمل من الثياب وما هو دونه وأخشن ؟ بلى والله ، ويأكل حشرات الأرض ونبات الجبال ، وكل ما حمض ومر ، وخبث وضر ، هذا جهلٌ من قائله ، وحيفٌ من منتحله ؛ على أن العرب - رحمك الله - أحسن الناس حالاً وعيشاً إذا جادتهم السماء ، وصدقتهمالأنواء ؛ وازدانت الأرض ، فهدلت الثمار ، واطردت الأودية ، وكثر اللبن والأقط والجبن واللحم والرطب والتمر والقمح ، وقامت لهم الأسواق ، وطابت المرابع وفشا الخصب ، وتوانى النتاج ، واتصلت الميرة ، وصدق المصاب وأرفغ المنتجع ، وتلاقت القبائل على المحاضر ، وتقاولوا وتضايفوا ، وتعاقدوا وتعاهدوا ، وتزاوروا وتناشدوا ؛ وعقدوا الذمم ، ونطقوا بالحكم ؛ وقروا الرطاق ووصلوا العفاة ، وزودوا السابلة ، وأرشدوا الضلال ، وقاموا بالحمالات وفكوا الأسرى ، وتداعوا الجفلى ، وتعافوا النقرى ، وتنافسوا في أفعال المعروف ؛ هذا وهم في مساقط رءوسهم ، بين جبالهم ورمالهم ، ومناشىء آبائهم وأجدادهم ، وموالد أهلهم وأولادهم ، على جاهليتهم الأولى والثانية ، وقد رأيت حين هبت ريحهم وأشرقت دولتهم بالدعوة ، وانتشرت دعوتهم بالملة ، وعزت ملتهم بالنبوة ، وغلبت نبوتهم بالشريعة ، ورسخت شريعتهم بالخلافة ، ونضرت خلافتهم بالسياسة الدينية والدنيوية ، كيف تحولت جميع محاسن الأمم إليهم وكيف وقعت فضائل الأجيال عليهم من غير أن طلبوها وكدحوا في حيازتها أو تعبوا في نيلها ، بل جاءتهم هذه المناقب والمفاخر ، وهذه النوادر من المآثر عفواً ، وقطنت بين أطناب بيوتهم سهواً رهواً ؛ وهكذا يكون كل شيء تولاه الله بتوفيقه ، وساقه إلى أهله بتأييده ، وحليمستحقيه باختياره ؛ ولا غالب لأمر الله ، ولا مبدل لحكم الله ، ولذلك قال الله تعالى : ' قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير إنك على كل شيء قديرٌ ' . ولله في خلقه أسرار ، تتصرف بها دوائر الليل والنهار ، وتذللها مجاري الأقدار ، حتى ينتهى بمحبوبها ومكروهها إلى القرار . عز إلهاً معبوداً ، وجل رباً محموداً مقصوداً . وبعد ، فالذي لاشك فيه من وصف العرب ، ولا جاحد له من حالها ، أنه ليس على وجه الأرض جيلٌ من الناس ينزلون القفر ، وينتجعون السحاب والقطر ؛ ويعالجون الإبل والخيل والغنم وغيرها ، ويستبدون في مصالحهم بكل ما عز وهان ، وبكل ما قل وكثر ، وبكل ما سهل وعسر ؛ ويرجون الخير من السماء في صوبها ، ومن الأرض في نباتها ؛ مع مراعاة الأوان بعد الأوان ، وثقةً بالحال بعد الحال وتبصرةً فيما يفعل ويجتنب ؛ ما للعرب فيما قدمنا وصفه ، وكررنا شرحه من علمهم بالخصب والجدب ، واللين والقسوة ، والحر والبرد ، والرياح المختلفة والسحائب الكاذبة ، والمخايل الصادقة ، والأنواء المحمودة والمذمومة ، والأسباب الغريبة العجيبة . وهذا لأنهم مع توحشهم مستأنسون ، وفي بواديهم حاضرون ، فقد اجتمع لهم من عادات الحاضرة أحسن العادات ، ومن أخلاق البادية أطهر الأخلاق . وهذا المعنى على هذا النظم قد عدمه أصحاب المدن وأرباب الحضر ، لأن الدناءة والرقة والكيس والهين والخلابة والخداع والحيلة والمكر والخب تغلب على هؤلاء وتملكهم ، لأن مدار أمرهم على المعاملات السيئة ، والكذب في الحس ، والخلف في الوعد . والعرب قد قدسها الله عن هذا الباب بأسره ، وجبلها على أشرف الأخلاق بقدرته ؛ ولهذا تجد أحدهم وهو في بتٍ حافياً حاسراً يذكر الكرم ، ويفتخر بالمحمدة ،وينتحل النجدة ، ويحتمل الكل ، ويضحك في وجه الضيف ويستقبله بالبشر ، ويقول : أحدثه إن الحديث من القرى ثم لا يقنع ببث العرف وفعل الخير والصبر على النوائب حتى يحض الصغير والكبير على ذلك ويدعو إليه ، ويستنهضه نحوه ، ويكلفه مجهوده وعفوه . وقد قيل لرجل منهم في يوم شاتٍ وهو يمشي في سمل : أما تجد البرد يا أخا العرب ؟ فقال : أمشي الخيزلي ويكفيني حسبي . والفارسي لا يحسن هذا النمط ، ولا يذوق هذا المعنى ولا يحلم بهذه اللطيفة ؛ وكذلك الرومي والهندي وغيرهما من جميع العجم . ومما يدل على تحضرهم في باديتهم ، وتبديهم في تحضرهم ، وتحليهم بأشرف أحوال الأمرين ، أسواقهم التي لهم في الجاهلية ، مثل دومة الجندل بقرى كلب وهي النصف بين العراق والشام ، كان ينزلها الناس أول يوم من شهر ربيع الأول ، فيقيمون أسواقهم بالبيع والشراء ، والأخذ والعطاء ؛ وكان يعشرهم أكيدر دومة ، وربما غلبت على السوق كلب فيعشرهم بعض رؤساء كلب ؛ فيقوم سوقهم إلى آخر الشهر ، ثم ينتقلون إلى سوق هجر ، وهو المشقر في شهر ربيع الآخر ، فتقوم أسواقهم ؛ وكان يعشرهم المنذر بن ساوى أحد بني عبد الله بن دارم ، ثم يرتحلون نحو عمان ، فتقوم سوقهم بديار دبا ، ثم بصحار ، ثميرتحلون فينزلون إرم ، وقرى الشحر فتقوم أسواقهم أياماً ، ثم يرتحلون فينزلون عدن أبين ، ومن سوق عدن تشتري اللطائم وأنواع الطيب ، ولم يكن في الأرض أكثر طيباً ، ولا أحذق صناعاً للطيب من عدن ؛ ثم يرتحلون فينزلون الرابية من حضرموت ، ومنهم من يجوزها ويرد صنعاء ، فتقوم أسواقهم بها ، ومنها كانت تجلب آلة الخرز والأدم والبرود ، وكانت تجلب إليها من معافر ، وهي معدن البرود والحبر ثم يرتحلون إلى عكاظ وذي المجاز في الأشهر الحرم ، فتقوم أسواقهم بها ، فيتناشدون ويتحاجون ويتحادون ، ومن له أسير يسعى في فدائه ، ومن له حكومة ارتفع إلى الذي يقوم بأمر الحكومة من بني تميم ، وكان آخرهم الأقرع بن حابس ؛ ثم يقفون بعرفة ، ويقضون ما عليهم من مناسكهم ؛ ثم يتوجهون إلى أوطانهم . وهذه الأسواق كانت تقوم طول السنة ، فيحضرها من قرب من العرب ومن بعد . هذا حديثهم ، وهم همل لا عز لهم إلا بالسؤدد ، ولا معقل لهم إلا السيف ، ولا حصون إلا الخيل ، ولا فخر إلا بالبلاغة . ثم لما ملكوا الدور والقصور والجنان والأودية والأنهار والمعادن والقلاع والمدن والبلدان والسهل والجبل والبر والبحر ، لم يقعدوا عن شأو من تقدم بآلاف سنين ، ولم يعجزوا عن شيء كان لهم ؛ بل أبروا عليهم وزادوا ، وأغربوا وأفادوا ؛ وهذا الحكم ظاهر معروف ، وحاضر مكشوف ؛ ليس إلى مرده سبيل ولا لجاحده ومنكره دليل .فليستحي الجيهان بعد هذا البيان والكشف والإيضاح ، بالإنصاف من القذع والسفه اللذين حشا بهما كتابه ، وليرفع نفسه عما يشين العقل ، ولا تقبله حكام العدل ؛ وصاحب العلم الرصين ، والأدب المكين ؛ لا يسلط خصمة على عرضه بلسانه ، ولا يستدعي مر الجواب بتعرضه ويرضى بالميسور في غالب أمره ؛ فإن العصبية في الحق ربما خذلت صاحبها وأسلمته ؛ وأبدت عورته ، واجتلبت مساءته ؛ فكيف إذا كانت في الباطل ونعوذ بالله أن نكون لفضل أمة من الأمم جاحدين ، كما نعوذ به أن نكون بنقص أمة من الأمم جاهلين . فإن جاحد الحق يدل من نفسه على مهانة ، وجاهل النقص يدل من نفسه على قصور ؛ فهذا هذا ؛ وفي الجملة المسلمة ، والدعوة المرسلة ، أن أهل البر وأصحاب الصحارى الذين وطأؤهم الأرض ، وغطاؤهم السماء ، هم في العدد أكثر وعلى بسيط الأرض أجول ، ومن الترفه والرفاهية أبعد ، وبالحول والقوة أعلق وإلى الفكرة والفطنة أفزع ، وعلى المصالح والمنافع أوقع ، ومن المخازي آنف وللقبائح أعيف ؛ وهذا للدواعي الظاهرة ، والحاجات الضرورية ، والعلائق الحاضة على الألفة والمودة ، والشدائد المؤذية ، والعوارض اللازبة ؛ ولهذا يقال : عيب الغني أنه يورث البلادة ، وفضيلة الفقر أنه يبعث الحيلة ؛ وهذا معنىً كريم ، لا يقر به إلا كل نقاب عليم . وقال الجيهاني أيضاً : مما يدل على شرفنا وتقدمنا وعزنا وعلو مكاننا ، أن الله أفاض علينا النعم ووسع لدينا القسم وبوأنا الجنان والأرياف ، ونعمنا وأترفنا . ولم يفعل هذا بالعرب ، بل أشقاهم وعذبهم ، وضيق عليهم وحرمهم ، وجمعهم في جزيرة حرجة ، ورقعة صغيرة ، وسقاهم بأرنق ضاحٍ ؛ وبهذا يعلم أن المخصوص بالنعمة والمقصودبالكرامة فوق المقصود بالإهانة . فأطال هذا الباب بما ظن أنه قد ظفر بشيء لا جواب عنه ، ولا مقابل له ؛ ولو كان الأمر كما قال لما خفي على غيره وتجلى له ، بل قد خصت العرب بعد هذا بأشياء تطول حسرة من فاتته عليها ، ولا يفيد التفاته بالغيظ إليها ؛ وقد دل كلامه على أنه جاهل بالنعمة ، غافلٌ عما هو سر الحكمة . وعنده أن الجاهل إذا لبس الثوب الناعم ، وأكل الخبز الحواري وركب الجوادي ، وتقلب على الحشية ، وشرب الرحيق ، وباشر الحسناء ، هو أشرف من العالم إذا لبس الأطمار ، وطعم العشب ، وشرب الماء القراح ، وتوسد الأرض ، وقنع باليسير ورخي العيش ، وسلا عن الفضول ؛ هذا خطأ من الرأي ، ومردود من الحكم ، عند الله تعالى أولاً ، ثم عند جميع أهل الفضل والحجا ، وأصحاب التقى والنهى ؛ وعلى طريقته أيضاً أن البصير أشرف من الأعمى ، والغني أفضل من الفقير . ألا يعلم أن المدار على العقل الذي من حرمه فقد أنقص من كل فقير ، وعلى الدين الذي من عري منه فهو أسوأ حالاً من كل موسر ؛ ونعمة الله على ضربين : أحد الضربين عم به عباده ، وغمر بفضله خليقته ، بدءاً بلا استحقاق وذلك أنه خلق ورزق وكفل وحفظ ونعش وكلأ وحرس وأمهل وأفضل ووهب وأجزل ؛ وهذا هو العدل المخلوط بالإحسان ، والتسوية المعمومة بالتفضل والقدرة المشتملة على الحكمة ؛ والضرب الثاني هو الذي يستحق بالعمل والاجتهاد والسعي والارتياد ، والاختبار والاعتقاد ؛ ليكون جزاءً وثواباً ، ولهذا محرم العاصي المخالف ، وأنال الطائع الموافق ؛ فقد بان الآن أن المدار ليس بالجنان والترفه ، ولا بالذهب والفضة ، ولا الوبر والمدر . وقد مر هذا الكلام كله فليسكن من الجيهاني جأشه ، وليفارقه طيشه ؛ وليعلمأن من أنصف أعطى بيده ، وسلم الفضل لأهله ؛ فإن التواضع للحق رفعة والترفع بالباطل ضعة . وههنا بقية ينبغي أن يتبصر فيها ؛ من عرف النقص البحت ، والنقص المشوب بالزيادة ؛ والفضل الصرف ، والفضل الممزوج بالنقيصة لم يجحد المغوي فضلاً ، ولم يدع للعصبية المردية شرفاً ، ولم ينكر الحسد مزية ؛ والخلق كلهم في نعم الله تعالى مشتركون ، وفي أياديه مغموسون وبمواهبه متفاضلون ، وعلى قدرته متصرفون ؛ وإلى مشيئته صائرون ، وعن حكمته مخبرون ، ولآلائه ذاكرون ، ولنعمائه شاكرون ، ولأياديه ناشرون ، وعلى اختلاف قضائه صابرون ، ولثوابه بالحسنات مستحقون ، ولعقابه بالسيئات مستوجبون ، ولعفوه برحمته منتظرون ، والله خبيرٌ بما يعملون ، وبصير بما يسرون وما يعلنون مع الجماعة ، وأبو سليمان يقول : العرب أذهب مع صفو العقل ؛ ولذلك هم بذكر المحاسن أبده ، وعن أضدادها أنزه . ولو كانت رويتهم في وزن بديهتهم ، كان الكمال ؛ ولكن لما عز الكمال فيهم ، عز أيضاً في غيرهم من الأمم ، فالأمم كلها شرعٌ واحد في عدم الكمال إلا أنهم متفاضلون بعد هذا فيما نالوه بالخلقة الأولى ، وبالاختيار الثاني ؛ واختلفت أبصارهم في هذا الموضع ، فأما ما منعه الإنسان في الأول فلا عتب عليه فيه ، لأنه لا يقال للأعمى : لم لا تكون بصيراً ، ولا يقال للطويل : لم لا تكون قصيراً وقد يقال للقصير : سدد طرفك ، واكحل عينك ، ومد ناظرك ؛ كما يقال للطويل : تطامن ، في هذا الزقاق حتى تدخل ، وتقاصر حتى تصل ؛ وأما ما لم يمنعه الإنسان في الأول ، بل أعطيه ووهب له ، فهو فيه مطلبٌ بما عليه وله كما أنه مطالب بما له وعليه . وقال الجيهاني أيضاً : ليس للعرب كتاب إقليدس ولا المجسطي ولا الموسيقي ولا كتاب الفلاحة ، ولا الطب ولا العلاج ، ولا ما يجري في مصالح الأبدان ، ويدخل في خواص الأنفس . فليعلم الجيهاني أن هذا كله لهم بنوعٍ إلهي لا بنوع بشري ، كما أن هذا كله لغيرهمبنوعٍ بشري لا بنوعٍ إلهي ، وأعني بالإلهي والبشري الطباعي والصناعي ؛ على أن إلهي هؤلاء قد مازجه بشرى هؤلاء ، وبشرى هؤلاء قد شابه إلهي هؤلاء ؛ ولو علم هذا الزاري لعلم أن المجسطي وما ذكره ليس للفرس أيضاً ، وما عندي أنه مكابر فيدعي هذا لهم . فإن قال : هو لليونان ، ويونان من العجم ، والفرس من العجم ، فأنا أخرج هذه الفضيلة من العجم إلى العجم فهذا منه حيفٌ على نفسه ، وشهادةٌ على نقصه ؛ لأنه لو فاخر يونان لم يستطع أن يدعي هذا الفرس ، ولا يمكنه أن يقول : نحن أيضاً عجم ، وفضيلتكم في هذه الكتب والصناعة متصلةٌ بنا ، وراجعةٌ إلينا . ومتى قال جبه بالمكروه وقوبل بالقذع ، وقيل له : صه ، كما يقال للجاهل - إن لم تقل له : اخسأ ، كما يقال - في كل الأحاديث ، وإن أغفلته ظلمت نفسي ؛ ومن حابى خصمه غلب . قال القاضي أبو حامد المروروذي : لو كانت الفضائل كلها بعقدها وسمطها ، ونظمها ونثرها ، مجموعةً للفرس ، ومصبوبةً على أرؤسهم ، ومعلقةً بآذانهم ، وطالعةً من جباههم ؛ لكان لا ينبغي أن يذكروا شأنها ، وأن يخرسوا عن دقها وجلها ، مع نيكهم الأمهات والأخوات والبنات فإن هذا شر كريهٌ بالطباع ، وضعيف بالسماع ، ومردود عند كل ذي فطرة سليمة ، ومستبشع في نفس كل من له جبلة معتدلة . قال : ومن تمام طغيانهم ، وشدة بهتانهم ، أنهم زعموا أن هذا بإذن من الله تعالى ، وبشريعة أتت من عند الله ، والله تعالى حرم الخبائث من المطعومات فكيف حلل الخبائث من المنكوحات ؟ قال : وكذب القوم ، لم يكن زرادشت نبياً ، ولو كان نبياً لذكره اللهتعالى في عرض الأنبياء الذين نوه بأسمائهم وردد ذكرهم في كتابه ، ولذلك قال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : ' سنوا بهم سنة أهل الكتاب ' لأنه لا كتاب لهم من عند الله منزل على مبلغ عنه . وإنما هو خرافة خدعهم بها زرادشت بقوة الملك الذي قبل ذلك منه وحمل الناس عليه طوعاً وكرهاً ، وترغيباً وترهيباً ؛ وكيف يبعث الله نبياً يدعو إلى إلهين اثنين ؟ وهذا مستحيل بالعقل ، وما خلق الله العقل إلا ليشهد بالحق للمحق والباطل للمبطل ؛ ولو كان شرعاً لكان ذلك شائعاً عند أهل الكتابين ، أعني اليهود والنصارى ؛ وكذلك عند الصابئين ، وهم كانوا أكثر الناس عنايةً بالأديان والبحث عنها ، والتوصل إلى معرفة حقائقها ، ليكونوا من دينهم على ثقة ؛ فكيف صارت النصارى تعرف عيسى ، واليهود تعرف موسى ؛ ومحمدٌ ( صلى الله عليه وسلم ) يذكرهما ويذكر غيرهما ، كداود وسليمان ويحيى وزكريا ، وغير هؤلاء ، ولا يذكر زرادشت بالنبوة وأنه جاء من عند الله تعالى بالصدق والحق كما جاء موسى وعيسى . . . . لكني بعثت ناسخاً لكل شريعة ، ومجدداً لشريعة خصني الله بها من بين العرب . قال : وهذا بيانٌ نافع في كذبهم ؛ وإنما جاءوا إلى وهيٍ فرقعوه ، وإلى حرامٍ بالعقل فأباحوه ، وإلى خبيثٍ بالطبع فارتكبوه وإلى قبيحٍ في العادة فاستحسنوه . وقد وجدنا في البهائم ما إذا أنزى الفحل منها على أمة لم يطاوع ، وإذا أكره وخدم وعرض غضب على أهله وند عنهم ، وشرر عليهم ؛ فما تقول في خلق لا ترضاه البهيمة ، ولا تطاوعه فيه الطبيعة ، بل يأباه حسه مع كلولة وتبرد شهوته مع اشتعالها ، ويرضاه هؤلاء القوم مع عجبهم بعقولهم ، وكبرهم في أنفسهم . ولو كان زرادشت أقام لهم على هذه الخصلة اللئيمة والفعلة الذميمة كل آية وكل برهان ، ونثر عليهم نجوم السماء ، وأطلع لهم الشمس من المغرب ، وفتت لهم الجبال ، وغيض لهم البحار ، وأراهم الثريا تمشي على الأرض تخترق السكك وتشهد له بالصدق ، لكان من الواجب بالعقل وبالغيرة وبالحميةوبالأنفة وبالتقزز وبالتعزز ألا يجيبوه إلى ذلك ، ويشكوا في كل آية يرون منه ، ويقتلوه ، وينكلوا به . ولكن بمثل هذا العقل قبلوا من مزدك ما قبلوه مرة ، ولو عاملوا زرادشت بما عاملوا به مزدك ما كان الأمر إلا واحداً ، ولا كان الحق إلا منصوراً ، ولا كان الباطل إلا مقهوراً ، ولكن اتفق على مزدك ملك عاقل فوضع باطله ، واتفق لزرادشت ملك ركيك فرفع باطله ؛ وما نزع الله عنهم الملك إلا بالحق ، كما قال تعالى : ' فلما آسفونا انتقمنا منهم ' . ثم قال : وبعد ، فكل شيء خارجٍ من الحكمة الإلهية والعقلية والطبيعية فهو ساقطٌ بهرج ، ومردودٌ مرذول ، إذا فعله جاهل عذر بالجهل ، وإذا أتاه عالم عذل للعلم . قال : وكانت العرب بهذا الخلق الذميم ، وهذا الفعل اللئيم ، لو فعلته أعذر ، لأنهم أشد غلمة من غيرهم وأكثر تهيجاً ، وأقوى على البضاع ، وأوثب على النساءئ يدلك على هذا غزلهم وعشقهم ونظمهم ونثرهم وفراغهم وشهوتهم ، وتراهم مع هذه الدواعي والبواعث لم يستحسنوا هذا ولم يفعلوه ، ولو أكرههم على هذا مكره ودعاهم إليه داع لما أطاعوه ، ولذلك لم ينجم منهم ناجم بالحيلة فدعا إلى هذا ؛ ولو كان لكان أول من دق رأسه بالعمد ، وبعج بطنه بالخنجر ؛ وما منعهم من هذا إلا الأنفس الكريمة ، والطباع المعتدلة ، والشكائم الشديدة ، والأرواح العيفة ، والعادات الرضية ، والضرائب الطيبة ؛ وكان وأد البنات عندهم أنفى للمعاير ، وأطرد للقبائح من هذا الذي استحسنه زرادشت وقبل منه الفرس ، وهم يدعون الحكم والعلم والحزم والعزم ، ولفرط جهلهم وغلبة شهوتهم غفلوا عما يجوز أن يكون الله سبحانه مبيحاً له أو حاظراً ، أو مطلقاً أو مانعاً ، أو محللاً أو محرماً ؛ هيهات ما كلف الله أهل العقل القيام بالدين والتصفح للحق من الباطل إلا لما شرفهم به في العاجل ، وعرضهم له في الآجل ؛ والعاقبة للمتقين .قال أبو الحسن الأنصاري - وكان حاضراً - الهند أوضح عذراً في هذا الحديث لأنهم جعلوه من باب القربة في بيوت الأصنام ، وبلغوا مرادهم بهذه الخديعة ، ولم ينسبوا إلى الله شيئاً منه ، ولا استجازوا الكذب عليه ، ولا علقوه أيضاً على نبي من عند الله ، بل رأوه صواباً بالوضع ثم طابت أنفسهم من هذا الفعل بالمران والعادة . وبعد ؛ فعقولهم مدخولة ، والبارع منهم قليل ، وهم إلى الإفك والوهم والسحر أميل ، وفي أبوابها أدخل ؛ ثم قال أبو الحسن : انظر إلى جهل زرادشت في هذا الحكم وإلى ضعف عقول الفرس في قبولهم منه هذا الفعل ، وخير بينها وبين عقول العرب ، فإنهم قالوا : اغتربوا لا تضووا . واستفاض هذا منهم حتى سمع من صاحب الشريعة ( صلى الله عليه وسلم ) ، وذلك أن الضوى مكروه ؛ والعرب قالت هذا بالإلهام ، لقرائحهم الصافية ، وأذهانهم الواقدة ، وطينتهم الحرة ، وأعراقهم الكريمة ، وعاداتهم السليمة : وإنما شعروا بهذا لأن الضوى الواصل إلى الأبدان هو سارٍ في العقول ، ولكن الفرس عن هذا السر غافلون ، ولا يفطن لهذا وأمثاله إلا الألمعيون الأحوذيون ؛ ثم قال : أنشد الأصمعي عن العرب قول قائلهم في مدح صاحب له : فتىً لم تلده بنت عمٍ قريبةٌ . . . فيضوى وقد يضوى رديد الأقارب قال : وقالت العرب : أضواه حقه : إذا نقصه . قال : وقال آخر لولده : والله لقد كفيتك الضؤولة ، واخترت لك الخؤولة . وقال أيضاً : العرب تقول : ليس أضوى من القرائب ، ولا أنجب من الغرائب . وقال الشاعر : أنذرت من كان بعيد الهم . . . تزويج أولاد بنات العم ليس بناجٍ من ضوى أو سقم . . . وأنت إن أطعمته لا ينمى وقال الأسدي يفتخر :ولست بضاويٍ تموج عظامه . . . ولادته في خالد بعد خالد تردد حتى عمه خال أمه . . . إلى نسب أدنى من السر واحد ثم قال : والعرب لم ترد بهذا إلا نقص الذهن والعقل ، لأنها لو أرادت نقصان الجسم لكانت مخطئة ، لأنهم يريدون سمانة الجسم مع السلامة والصلابة . ثم قال : وعلى هذا طباع الأرض ، ولذلك يقال : إذا كثرت المؤتفكات زكت الأرض ، لأن الرياح إذا اختلفت حولت تراب أرضٍ إلى أرض ، وإذا كان الاغتراب يؤثر من التراب إلى التراب ، فبالحري أن يؤثر الإنسان في الإنسان بالاغتراب ، لأن الإنسان أيضاً من التراب . قال أبو حامد : فما ظنك بقوم يجهلون آثار الطبيعة ، وأسرار الشريعة ؟ ما أذلهم الله باطلاً ، ولا سلبهم ملكهم ظالماً ، ولا ضربهم بالخزي والمهانة إلا جزاءً على سيرتهم القبيحة ، وكذبهم على الله بالجرأة والمكابرة ، وما الله بظلام للعبيد . فلما بلغ القول مداه قال : لله در هذا النفس الطويل والنفث الغزير لقد كنت قرماً إلى هذا النوع من الكلام ، ففرغ نفسك لرسمه في جزء لأنظر فيه ، وأشرب النفس حلاوته ، وأستنتج العقيم منه ؛ فإن الكلام إذا مر بالسمع حلق ، وإذا شارفه البصر بالقراءة من كتاب أسف ؛ والمحلق بعيد المنال ، والمسف حاضر العين ، والمسموع إذا لم يملكه الحفظ تذكر منه الشيء بعد الشي بالوهم الذي لا انعقاد له ، والخيال الذي لا معرج عليه . فقلت : أفعل سامعاً مطيعاً - إن شاء الله - .الليلة السابعة
ولما عدت إليه في مجلس آخر ، قال : سمعت صياحك اليوم في الدار مع ابن عبيد ، ففيم كنتما ؟ قلت : كان يذكر أن كتابه الحساب أنفع وأفضل وأعلق بالملك ، والسلطان إليه أحوج ، وهو بها أغنى من كتابة البلاغة والإنشاء والتحرير ، فإذا الكتابة الأولى جد ، والأخرى هزل ؛ ألا ترى أن التشادق والتفهيق والكذب والخداع فيها أكثر ؛ وليس كذلك الحساب والتحصيل والاستدراك والتفصيل . قال : وبعد هذا فتلك صناعةٌ معروفة بالمبدأ ، موصولةٌ بالغاية ، حاضرة الجدوى ، سريعة المنفعة ؛ والبلاغة زخرفة وحيلة ، وهي شبيهة بالسراب ، كما أن الأخرى شبيهة بالماء . قال : ومن خساسة البلاغة أن أصحابها يسترقعون ويستحمقون ؛ وكان الكتاب قديماً في دور الخلفاء ومجالس الوزراء يقولون : اللهم إنا نعوذ بك من رقاعة المنشئين ، وحماقة المعلمين ، وركاكة النحويين ، والمنشىء والمعلم والنحوي إخوة وإن كانوا لعلات ؛ والآفة تشملهم والعادة تجمعهم ، والنقص يغمرهم ، وإن اختلفت منازلهم ، وتباينت أحوالهم . قال : ولو لم يكن من صنعة الإنشاء إلا أن المملكة العريضة الواسعة يكتفى فيها بمنشىء واحد ، ولا يكتفى فيها بمائة كاتب حساب . . . . وإذا كانت الحاجة إلى هذه أمس ، كانت الأخرى في نفسها أخس ؛ وبعد ، فمصالح أحوال العامة والخاصة معلقة بالحساب ؛ على هذه الجديلة والوتيرة يجري الصغار والكبار والعلية والسفلة ، وما زال أهل الحزم والتجارب يحثون أولادهم ومن لهم به عناية على تعلم الحساب ، ويقولون لهم : هو سلة الخبز . وهذا كلام مستفيض ؛ ومن عبر عما في نفسه بلفظ ملحونٍ أو محرف أو موضوع غير موضعه وأفهم غيره ، وبلغ به إرادته ، وأبلغ غيره ، فقد كفى ؛ والزائد على الكفاية فضل والفضل يستغنى عنه كثيراً ، والأصل يفتقر إليه شديداً ،قال : ومن آفات هذه الكتابة أن أصحابها يقرفون بالريبة ، ويرمون بالآفة ، كآل الحسن بن وهب وآل ابن ثوابة . قال : هذه ملحمة منكرة ؛ فما كان من الجواب ؟ قلت : ما قام من مجلسه إلا بعد الذل والقماءة ، وهكذا يكون حال من عاب القمر بالكلف ، والشمس بالكسوف ، وانتحل الباطل ونصر المبطل ، وأبطل الحق وزرى على المحق . قلت : أيها الرجل ، قولك هذا كان يسلم لو كان الإنشاء والتحرير والبلاغة بائنةً من صناعة الحساب والتحصيل والاستدراك وعمل الجماعة وعقد المؤامرة . فأما وهي متصلة بها وداخلة في جملتها ومشتملة عليها وحاوية لها ، فكيف يطرد حكمك وتسلم دعواك ؟ ألا تعلم أن أعمال الدواوين التي ينفرد أصحابها فيها بعمل الحساب فقيرة في إنشاء الكتب في فنون ما يصفونه ويتعاطونه ؛ بل لا سبيل لهم إلى العمل إلا بعد تقدمة هذه الكتب التي مدارها على الإفهام البليغ والبيان المكشوف والاحتجاج الواضح ، وذلك يوجد من الكاتب المنشىء الذي عبته وعضضته ، وهذه الدواوين معروفة ، والأعمال فيها موصوفة ؛ وأنا أحصيها لك كي تعلم أنك غالط وعن الصواب فيها منحرف . فمنها ديوان الجيش ، وديوان بيت المال ، وديوان التوقيع والدار ، وديوان الخاتم ، وديوان الفض ، وديوان النقد والعيار ودور الضرب ، وديوان المظالم وديوان الشرطة والأحداث ؛ هذا إلى توابع هذه الدواوين مثل باب العين والمؤامرات ، وباب النوادر والتواريخ ، وإدراة الكتب ومجالس الديوان وقبل وبعد ، كما يلزم كاتب الحساب أن يعرف وجوه الأموال حتى إذا جباها وحصلها عمل الحساب أعماله فيها ، فلايمكنه أن يجبي إلا بالكتب البليغة والحجج اللازمة واللطائف المستعملة ، ومن تلك الوجوه الفيء ، وهو أرض العنوة وأرض الصلح وإحياء الأرض والقطائع والصفايا والمقاسمة والوضائع وجزية رءوس أهل الذمة وصدقات الإبل والبقر والغنم وأخماس الغنائم والمعادن والركاز والمال المدفون ، وما يخرج من البحر وما يؤخذ من التجار إذا مروا بالعاشر واللقطة والضالة وميراث من لا وارث له ومال الصدقة ؛ إلى غير ذلك من الأمور المحتاجة إلى المكاتبات البالغة على الرسوم المعتادة والعادات الجارية ، كعهد ينشأ في إصلاح البريد وتقسيط الشرب ، وكتاب في العمارة وإعادة ما نقص منها ، وفي حزر الغلة والدياس ، وفي الدوالي والدواليب والغرافات ، وفي القلب والقسمة ، وفي تقدير الخضر المبكرة وفي المساحة وفي الطراز ، وفي الجوالي ، وفي قبض فرائض الصدقات ، وفي افتتاح الخراجات ، إلى غير ذلك من كتب المحاسبين . فإن قلت : هذا كله مستغنىً عنه كابرت وبهت ، لأن مدار المال ودروره ، وزيادته ووفوره على هذه الدواوين التي إما أن يكون حظ البلاغة فيها أكثر ، وإما أن يكون أثر الحساب فيها أظهر ، وإما أن يتكافآ ؛ فعلى جميع الأحوال لا يكون الكاتب كاملاً ، ولا لاسمه مستحقاً ، إلا بعد أن ينهض بهذه الأثقال ، ويجمع إليها أصولاً من للفقه مخلوطةبفروعها ، وآيات من القرآن مضمومةً إلى سعته فيها ، وأخباراً كثيرة مختلفة في فنون شتى لتكون عدة عند الحاجة إليها ، مع الأمثال السائرة والأبيات النادرة ؛ والفقر البديعة ؛ والتجارب المعهودة ، والمجالس المشهودة ، مع خط كتبر مسبوك ، ولفظٍ كوشيٍ محوك ؛ ولهاذ عز الكامل في هذه الصناعة ، حتى قال أصحابنا : ما نظن أنه اجتمع هذا كله إلا لجعفربن يحيى فإن كتابته كانت سودايةً ، وبلاغته سحبانيةً ، وسياسته يونانية ، وآدابه عربية ، وشمائله عراقية ؛ أفلا يرى كيف غرق الحساب في غمار هذه الأبواب ؟ ثم اعلم أن البليغ مشتملٍ بلاغته من العقل ، ومأخذه فيها من التمييز الصحيح ، وليس كذلك الحساب في متناوله فلو ظن ظان بأن مدار الملك على الحساب - فهو صحيح - ولكن بعد بلاغة المنشىء ، لأن السلطان يأمر وينهى ويلاطف ويخاطب ويحتج وينصف ويوعد ويعد ويضمن ويمني ويعلق الأمل ويؤكد الرجاء ويحسم المادة الضارة ويذيق الرعية حلاوة العدل ويجنبهم مرارة الجور ، ثم يجبي ، فإذا جبى احتاج إلى الحساب حتى يكون بالحاصل عالماً ، ثم يتقدم بتوزيع ذلك على الحساب حتى يكون من الغلط آمناً ، فانظر إلى المنزلتين كيف اختلفتا ؟ وكيف حصلت المزية لإحداهما ؛ ولو أنصفت لعلمت أن الصناعة جامعة بين الأمرين ، أعني الحساب والبلاغة ؛ والإنسان لا يأتي إلا صناعة فيشقها نصفين ويشرف أحد النصفين على الآخر . وأما قولك : إحدى الصناعتين هزلٌ والأخرى جد فبئسما سولت لك نفسك على البلاغة ، هي الجد ، وهي الجامعة لثمرات العقل ، لأنها تحق الحق وتبطل الباطل على ما يجب أن يكون الأمر عليه ؛ ثم تحقيق الباطل وإبطال الحق لأغراض تختلف ، وأغراض تأتلف ، وأمورٍ لا تخلو أحوال هذه الدنيا منها من خير وشر ، وإباءٍ وإذعان ، وطاعةٍوعصيان ، وعدلٍ وعدول ، وكفر وإيمان ، والحاجة تدعو إلى صانع البلاغة وواضع الحكمة وصاحب البيان والخطابة ؛ وهذا هو حد العقل والآخر حد العمل . وأما قولك : الإنشاء صناعة مجهولة المبدأ ، والحساب معروف المبدأ فقد خرفت ، لأن مبدأها من العقل ، وممرها على اللفظ ، وقرارها في الخط ؛ وأنت إذا قلت هذا دللت من نفسك على أنه ليس لك ما تبصر به هذا المبدأ الشريف وهذا الأول اللطيف . وأما قولك : والبلاغة زخرفة وهي شبيهة بالسراب فقد أوضحنا لك فيه ما كفى ، فإن لم يكف فأنت محتاج إلى بينة أخرى . وأما قولك : إن أصحابها يسترقعون فهذا شنعٌ من القول ، ولو عرفت الصدق فيه لم تنبس به ولم تنطق بحرف منه ، فإن فيه زرايةً على السلف الصالح والصدر الأول ، ولو وجب أن يسترقع البليغ إذا كان عاقلاً ، لوجب أن يستعقل العيي إذا كان أحمق ؛ وهذا خلف . وأما قولك : المنشىء والمعلم والنحوي إخوة في الركاكة فيما يتعلم الناس إلا من المعلم والعالم والنحوي وإن ندر منهم واحد قليل البضاعة من الحق . وأما قولك : إن المملكة تكتفي بمنشىء واحد فقد صدقت ، وذلك أن هذا الواحد في قوته يفي بآحاد كثيرة ، وهؤلاء الآحاد ليس في جميعهم وفاء بهذا الواحد ، وهذا عليك لا لك . لكن بقي أن تفهم أنك محتاج إلى الأساكفة أكثر مما تحتاج إلى العطارين ، ولا يدل هذا على أن الإسكاف أشرف من العطار ، والعطار دون الإسكاف ؛ والأطباء أقل من الخياطين ، ونحن إليهم أحوج ، ولا يدل على أن الطبيب دون الخياط .وأما قولك : ما زال الناس يحثون أولادهم على تعلم الحساب ويقولون : هو سلة الخبز فهو كما قلت ، لأن الحاجة إليه عامة للكابر والصغار ؛ وأشرف الصناعات يحتاج إليها أشرف الناس ، وأشرف الناس الملك ، فهو محتاج إلى البليغ والمنشىء والمحرر ، لأنهلسانه الذي به ينطق ، وعينه التي بها يبصر ، وعيبته التي منها يستخرج الرأي ويستبصر في الأمر ، ولأنه بهذه الخاصة لا يجوز أن يكون له شريك ، لأنه حامل الأسرار ، والمحدث بالمكنونات ، والمفضي إليه ببنات الصدور . وأما قولك : من عبر عما في نفسه بلفظ ملحون أو محرف وأفهم غيره فقد كفى فكيف يصح هذا الحكم ويقبل هذا الرأي ؟ والكلام يتغير المراد فيه باختلاف الإعراب ، كما يتغير الحكم فيه باختلاف الأسماء ، وكما يتغير المفهوم باختلاف الأفعال ؛ وكما ينقلب المعنى باختلاف الحروف ؛ ولقد قال رجل بالري كان نبيلاً في حاله جليلاً في مرتبته عظيماً عند نفسه : اقعد حتى تتغذى بنا . وهو يريد : حتى نتغذى معنا ؛ فانظر إلى هذا المحال الذي ركبه بلفظه وإلى المراد الذي جانبه بجهله ؛ ولهذا نظائر غير خافية عليك ولا ساقطةٍ دونك وكفى بالبلاغة شرفاً أنك لم تستطع تهجينها إلا بالبلاغة ، ولم تهتد إلى الكلام عليها إلا بوتها ؛ فانظر كيف وجدت في استقلالها بنفسها ما يقلها ويقل غيرها ؛ وهذا أمر بديع وشأنٌ عجيب . وأما قولك : ومن آفاتها أن أصحابها يقرفون بالريبة وينالون بالعيب فهذا ما لا يستحق الجواب ، وما يضر الشمس نباح الكلاب ؛ وصيانة اللسان عن هذا النوع أحسن ؛ قال الله تعالى : ' وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاماً ' ؛ وقال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - لو كان المرء أقوم من قدحٍ لوجد له غامر . وآل ابن وهب وابن ثوابة كانوا أنبل وأفضل وأعقل من أن يظن بهم ما لا يظن بخساس العبيد وسفهاء الناس وداصة الرعية وسفلة العامة ؛ على أنا ما سمعنا هذا إلا في مجلس ابن عباد ، منه وممن كان يخبط في هواه ، ويتحرى بمثل هذه الأحاديث رضاه ؛ وحسده لهم في صناعتهم يبعثه على هذه الأكاذيب عليهم ؛ فالعجب أنه يظن أن كذبه إلى غيره ينفي الصدق عن نفسه ؛ ولونزه لسانه ومجلسه ومذهبه أبوته لكان أولى به وأزين له ، ولكن النعمة والقدرة إذا عدمتا عقلاً سائساً وحزماً حارساً وديناً متيناً وطريقاً قويماً أوردتا ولم تصدرا وخذلتا ولم تنصرا ؛ ونعوذ بالله من نعمة تحوز بلاءً ، ومرحباً ببلاءٍ يورث يقظة ويكون تمحيصاً لما نقص من التقصير ؛ ولكن من هذا الذي يشرب فلا يسكر ولا يثمل ؟ ومن هذا الذي إذا سكر عقل ؟ ومن هذا الذي إذا صحا لا يعتقب من رابه خماراً يصدع الرأس ويمكن الوسواس ؟ فقال : هذه جملة قامعة لمن ادعى دعواه أو نحا منحاه ؛ وأنى لك هذا ؟ لم لا تداخل صاحب ديوان ولم ترضى لنفسك بهذا اللبوس ؟ فقلت : أنا رجلٌ حب السلامة غالبٌ علي ، والقناعة بالطفيف محبوبة عندي . فقال : كنيت عن الكسل بحب السلامة ، وعن الفسولة بالرضا باليسير ، قلت : إذا كنت لا أصل إلى السلامة إلا بالفسولة ، ولا أتطعم الراحة إلا بالكسل ، فمرحباً بهما . فقال : لكل إنسان رأيٌ واختيار وعادة ومنشأ ومألوف وقرناء متى زحزح عنها قلق ، ومتى أريغ على سواها فرق ؛ أظن أنه قد نصف الليل . قلت : لعله . قال : في الدعة ؛ قد خبأت لك مسألة ، وسألقيها عليك بعدها - إن شاء الله تعالى - وانصرفت .
الليلة الثامنة
وقال لي مرة أخرى : أوصل وهب بن يعيش الرقي اليهودي رسالةً يقول في عرضها بعد التقريظ الطويل العريض : إن هنا طريقاً في إدراك الفلسفة مذللةً مسلوكةً مختصرة فسيحة ، ليس على سالكها كد ولا شق في بلوغ ما يريد من الحكمة ونيل ما يطلب من السعادة وتحصيل الفوز في العاقبة ؛ وإن أصحابنا طولوا وهولوا وطرحوا الشوك في الطريق ، ومنعوا من الجواز عليه غشاً منهم وبخلاً ولؤم طباع وقلة نصح وإتعاباً للطالبوحسداً للراغب ، وذلك أنهم اتخذوا المنطق والهندسة وما دخل فيهما معيشةً ومكسبة ، ومأكلة ومشربة ، فصار ذلك كسور من حديد لطلاب الحكمة والمحبين للحقيقة والمتصفحين لأثناء العالم وكلاماً هذا معناه ، وإلى هذا يرجع مغزاه . فكان من الجواب : قد عرفت مذهب ابن يعيش في هذا الباب ، وهو جاري ، وكتب هذه الرسالة على هذا الطراز بالأمس إلى الملك السعيد سنة سبعين ، وتقرب بها ، ونفعته بالمسألة والتفقد له ، فإنه شديد الفقر ، ظاهر الخصاصة ، لاصق بالدقعاء ؛ وللذي قاله وادعاه ، وقصده وانتحاه ، وجه واضح وحجة ظاهرة ؛ وللذي قاله أصحابنا - أعني مخالفيه - وجهٌ أيضاً وتأويل وللقولين أنصار وحماة ، وحفظة ورعاة . قال : هات - على بركة الله - فإني أحب أن أسمع في هذا الخطب كل ما فيه وأكثر ما يتصل به ؛ فكان من الجواب أن ابن يعيش يريد بهذه الخطبة أن عمر الإنسان قصير ، وعلم العالم كثير ، وسره مغمور ؛ وكيف لا يكون كذلك وهو ذو صفائح مركبة بالوضع المحكم ، وذو نضائد مزينة بالتأليف المعجب المتقن ؛ والإنسان الباحث عنه وعما يحتويه ذو قوى متقاصرة ، وموانع معترضة ، ودواعٍ ضعيفة ، وإنه مع هذه الأحوال منتبه بالحس ، حالمٌ بالعقل ، عاشقٌ للشاهد ، ذاهل عن الغائب ، مستأنسٌ بالوطن الذي ألفه ونشأ فيه ، مستوحشٌ من بلد لم يسافر إليه ولم يلم به وإن كان صدر عنه ، فليس له بذلك معرفة باقية ولا ثقةٌ تامة ، وإن الأولى بهذا الإنسان المنعوت بهذا الضعف والعجز أن يلتمس مسلكاً إلى سعادته ونجاته قريباً ويعتصم بأسهل الأسباب على قدر جهده وطوقه ؛ وإن أقرب الطرق وأسهل الأسباب هو في معرفة الطبيعة والنفس والعقل والإله تعالى ، فإنه متى عرف هذه الجملة بالتفصيل ، واطلع على هذا التفصيل بالجملة ، فقد فاز الفوز الأكبر ونال الملكالأعظم ، وكفى مؤونة عظيمة في قراءة الكتب الكبار ذوات الورق الكثير ، مع العناء المتصل في الدرس والتصحيح والنصب في المسألة والجواب ، والتنقير عن الحق والصواب ؛ وهذا الذي قاله ابن يعيش ليس بحيف ولا خارجٍ عن حومة الحق ، وإن كان الأمر فيه أيضاً صعباً وشاقاً وهائلاً وعاملاً ، ولكن ليس لكل أحد هذه القوة الفائضة ، وهذه الخصوصية الناهضة ؛ وهذا الاستبصار الحسن ، وهذا الطبع الوقاد ، والذهن المنقاد ، والقريحة الصافية والاستبانة والتأمل ، لأن هذه القوة إلهية ، فإن لم تكن إلهية فهي ملكية ؛ وإن لم تكن ملكية فهي في أفق البشرية ؛ وليس يوجد صاحب هذا النعت إلا في الشاذ النادر ، وفي دهر مديدٍ بين أمة جمة العدد ؛ والفائق من كل شيء والبائن من كل صنف عزيزٌ في هذا العالم الوحشي ، كما أن الرديء والفاسد معدوم في هذا العالم الإلهي ، ويمكن أن يقال بالمثل الأدنى : إن من يتكلم بالإعراب والصحة ولا يلحن ولا يخطىء ويجري على السليقة الحميدة والضريبة السليمة ، قليل أو عزيز ، وإن الحاجة شديدة لمن عدم هذه السجية وهذا المنشأ إلى أن يتعلم النحو ويقف على أحكامه ، ويجري على منهاجه ، ويفي بضروطه في أسماء العرب وأفعالها وحروفها وموضوعاتها ومستعملاتها ومهملاتها ؛ ومتى اتفق إنسانٌ بهذه الحلية وعلى هذا النجار ، فلعمري إنه غني عن تطويل النحويين كما يستغني قارض الشعر بالطبع عن علم العروض ، وهكذا يستغني صاحب تلك القوة التي أشار إليها ابن يعيش عن ذلك ، ولكن أين ذاك الفرد والشاذ والنادر ؟ فإن حضر فما تفعل معه إلا أن تقلده وتأخذ عنه وتتبعه . وإنما المدار على أن تكون أنت بهذا الكمال حائزاً لهذه الغاية ، ولا سبيل لك إليها من تلقاء نفسك ، وإنما هو شيء يأتي من تلقاء غيرك ، فإذن بالضرورة وبالواجب ينبغي أن تخطو على آثار المنطقيين والطبيعيين والمهندسين بالزحف والعناء والتكلف الدءوب حتى تصير متشبهاً بذلك الرجل الفاضل والواحد الكامل والبديع النادر ؛ فقد بان من هذا القدر صواب ما أشار إليه ابن يعيش وانكشف أيضاً وجه ما حث عليه مخالفوه ؛ ولا عيب علىالمنقوص أن يطلب الزيادة ببذل المجهود ، وإن الكامل مربوط بما منح من العطية من غير طلب . وأما قوله في صدر كلامه : إن القوم صدوا عن الطريق وطرحوا الشوك فيه ، واتخذوا نشر الحكمة فخاً للمثالة العاجلة ، فما أبعد ، بل قارب الحق فإن متى كان يملي ورقةً بدرهم مقتدريٍ وهو سكران لا يعقل ، ويتهكم ، وعنده أنه في ربح ، وهو من الأخسرين أعمالاً ، الأسفلين أحوالاً . ثم إني أيها الشيخ - أحياك الله لأهل العلم وأحيى بط طالبيه - ذكرت للوزير مناظرةً جرت في مجلس الوزير أبي الفتح الفضل بن جعفر بن الفرات بين أبي سعيد وأبي بشر متى واختصرتها ؛ فقال لي : اكتب هذه المناظرة على التمام فإن شيئاً يجري في ذلك المجلس النبيه بين هذين الشيخين بحضرة أولئك الأعلام ينبغي أن يغتنم سماعه ، وتوعى فوائده ، ولا يتهاون بشيء منه . فكتبت : حدثني أبو سعيد بلمع من هذه القصة . فأما علي بن عيسى الشيخ الصالح فإنه رواها مشروحة . لما انعقد المجلس سنة ست وعشرين وثلاثمائة ، قال الوزير ابن الفرات للجماعة - وفيهم الخالدي وابن الأخشاد والكتبي وابن أبي بشر وابن رباح وابن كعب وأبو عمرو قدامة بن جعفر والزهري وعلي بن عيسى الجراح وابن فراس وابن رشيد وابن عبد العززي الهاشمي وابن يحيى العلوي ورسول ابن طغج من مصر والمرزباني صاحب آل سامان - : ألا ينتدب منكم إنسان لمناظرة متى في حديث المنطق ، فإنه يقول : لا سبيل إلى معرفة الحق من الباطل والصدق من الكذب والخير من الشر والحجة من الشبهة والشك من اليقين إلا بما حويناه من المنطق وملكناه من القيام به ، واستفدناه من واضعه على مراتبه وحدوده ، فأطلعنا عليه من جهة اسمه على حقائقه .فأحجم القوم وأطرقوا قال ابن الفرات : والله إن فيكم لمن يفي بكلامه ومناظرته وكسر ما يذهب إليه وإني لأعدكم في العلم بحاراً ، وللدين وأهله أنصاراً ، وللحق وطلابه مناراً ؛ فما هذا الترامز والتغامز اللذان تجلون عنهما ؟ فرفع أبو سعيد السيرافي في رأسه فقال : اعذر أيها الوزير ، فإن العلم المصون في الصدر غير العلم المعروض في هذا المجلس على الأسماع المصيخة والعيون المحدقة والعقول الحادة والألباب الناقدة ؛ لأن هذا يستصحب الهيبة ، والهيبة مكسرة ، ويجتلب الحياء ، والحياء مغلبة ؛ وليس البراز في معركة خاصة كالمصاع في بقعة عامة . فقال ابن الفرات : أنت لها يا أبا سعيد ، فاعتذارك عن غيرك يوجب عليك الانتصار لنفسك ، والانتصار في نفسك راجع إلى الجماعة بفضلك . فقال أبو سعيد : مخالفة الوزير فيما رسمه هجنة ، والاحتجاز عن رأيه إخلاد إلى التقصير ؛ ونعوذ بالله من زلة القدم ، وإياه نسأل حسن المعونة في الحرب والسلم ؛ ثم واجه متى فقال : حدثني عن المنطق ما تعني به ؟ فإنا إذا فهمنا مرادك فيه كان كلامنا معك في قبول صوابه ورد خطئه على سننٍ مرضيٍ وطريقة معروفة . قال متى : أعني به أنه آلة من آلات الكلام يعرف بها صحيح الكلام من سقيمه ، وفاسد المعنى من صالحه ، كالميزان ، فإني أعرف به الرجحان من النقصان ، والشائل من الجانح . فقال أبو سعيد : أخطأت ، لأن صحيح الكلام من سقيمه يعرف بالنظم المألوف والإعراب المعروف إذا كنا نتكلم بالعربية ؛ وفاسد المعنى من صالحه يعرف بالعق إذا كنا نبحث بالعقل ؛ وهبك عرفت الراجح من الناقص من طريق الوزن ، فمنلك بمعرفة الموزون أيما هو حديد أو ذهب أو شبه أو رصاص ؟ فأراك بعد معرفة الوزن فقيراً إلى معرفة جوهر الموزون وإلى معرفة قيمته وسائر صفاته التي يطول عدها ؛ فعلى هذا لم ينفعك الوزن الذي كان عليه اعتمادك ، وفي تحقيقه كان اجتهادك ، إلا نفعاً يسيراً من وجه واحد ، وبقيت عليك وجوه ، فأنت كما قال الأول : حفظت شيئاً وغابت عنك أشياء وبعد ، فقد ذهب عليك شيء هاهنا ، لي كل ما في الدنيا يوزن ، بل فيها ما يوزن ، وفيها ما يكال ، وفيها ما يذرع ، وفيها ما يمسح وفيها ما يحرز وهذا وإن كان هكذا في الأجسام المرئية ، فإنه على ذلك أيضاً في المعقولات المقررة ؛ والإحساسات ظلال العقول تحكيها بالتقريب والتبعيد ، مع الشبه المحفوظ والمماثلة الظاهرة . ودع هذا ؛ إذا كان المنطق وضعه رجل من يونان على لغة أهلها واصطلاحهم عليها وما يتعارفونه بها من رسومها وصفاتها ، فمن أين يلزم الترك والهند والفرس والعرب أن ينظروا فيه ويتخذوه قاضياً وحكماً لهم وعليهم ، ما شهد لهم به قبلوه ، وما أنكره رفضوه ؟ قال متى : إنما لزم ذلك لأن المنطق بحث عن الأغراض المعقولة والمعاني المدركة ، وتصفح للخواطر السانحة والسوانح الهاجسة ؛ والناس في المعقولات سواء ألا ترى أن أربعةً وأربعة ثمانية سواءٌ عند جميع الأمم ، وكذلك ما أشبهه . قال أبو سعيد : لو كانت المطلوبات بالعقل والمذكورات باللفظ ترجع مع شعبهاالمختلفة وطرائقها المتباينة إلى هذه المرتبة البينة في أربعة وأربعة وأنهما ثمانية ، زال الاختلاف وحضر الاتفاق ، ولكن ليس الأمر هكذا ، ولقد موهت بهذا المثال ، ولكم عادة بمثل هذا التمويه ؛ ولكن مع هذا أيضاً إذا كانت الأغراض المعقولة والمعاني المدركة لا يوصل إليها إلا باللغة الجامعة للأسماء والأفعال والحروف ، أفليس قد لزمت الحاجة إلى معرفة اللغة ؟ قال : نعم . قال : أخطأت ، قل في هذا الموضع : بلى . قال : بلى ، أنا أقلدك في مثل هذا . قال : أنت إذاً لست تدعونا إلى علم المنطق ، إنما تدعونا إلى تعلم اللغة اليونانية وأنت لا تعرف لغة يونان ، فكيف صرت تدعونا إلى لغة لا تفي بها ؟ وقد عفت منذ زمان طويل ، وباد أهلها ، وانقرض القوم الذين كانوا يتفاوضون بها ، ويتفاهمون أغراضهم بتصاريفها ؛ على أنك تنقل من السريانية ، فما تقول في معان متحولة بالنقل من لغة يونان إلى لغةٍ أخرى سريانية ، ثم من هذه إلى أخرى عربية ؟ قال متى : يونان وإن بادت مع لغتها ، فإن الترجمة حفظت الأغراض وأدت المعاني ، وأخلصت الحقائق . قال أبو سعيد : إذا سلمنا لك أن الترجمة صدقت وما كذبت ، وقومت وما حرفت ، ووزنت وما جزفت ، وأنها ما التاثت ولا حافت ، ولا نقصت ولا زادت ، ولا قدمت ولا أخرت ، ولا أخلت بمعنى الخاص والعام ولا بأخص الخاص ولا بأعم العام - وإن كان هذا لا يكون ، وليس هو في طبائع اللغات ولا في مقادير المعاني - فكأنك تقول : لا حجة إلا عقول يونان ، ولا برهان إلا ما وضعوه ، ولا حقيقة إلا ما أبرزوه . قال متى : لا ، ولكنهم من بين الأمم أصحاب عناية بالحكمة والبحث عن ظاهر هذا العالم وباطنه ، وعن كل ما يتصل به وينفصل عنه ، وبفضل عنايتهم ظهر ما ظهر وانتشر ما انتشر وفشا ما فشا ونشأ ما نشأ من أنواع العلم وأصناف الصنائع ، ولم نجد هذا لغيرهم .قال أبو سعيد : أخطأت وتعصبت وملت مع الهوى ، فإن علم العالم مبثوث في العالم بين جميع من في العالم ، ولهذا قال القائل : العلم في العالم مبثوث . . . ونحوه العاقل محثوث وكذلك الصناعات مفضوضة على جميع من على جدد الأرض ؛ ولهذا غلب علمٌ في مكان دون علم ، وكثرت صناعة في بقعة دون صناعة ؛ وهذا واضح والزيادة عليه مشغلة ؛ ومع هذا فإنما كان يصح قولك وتسلم دعواك لو كانت يونان معروفةً من بين جميع الأمم بالعصمة الغالبة ، والفطنة الظاهرة ، والبنية المخالفة ، وأنهم لو أرادوا أن يخطئوا لما قدروا ، ولو قصدوا أن يكذبوا ما استطاعوا وأن السكينة نزلت عليهم ، والحق تكفل بهم ، والخطأ تبرأ منهم ؛ والفضائل لصقت بأصولهم وفروعهم ، والرذائل بعدت من جواهرهم وعروقهم ؛ وهذا جهلٌ ممن يظنه بهم ، وعنادٌ ممن يدعيه لهم ؛ بل كانوا كغيرهم من الأمم يصيبون في أشياء ويخطئون في أشياء ، ويعلمون أشياء ويجهلون أشياء ، ويصدقون في أمور ويكذبون في أمور ، ويحسنون في أحوال ويسيئون في أحوال ؛ وليس واضع المنطق يونان بأسرها ، إنما هو رجل منهم ، وقد أخذ عمن قبله كما أخذ عنه من بعده ؛ وليس هو حجةً على هذا الخلق الكثير والجم الغفير ، وله مخالفون منهم ومن غيرهم ؛ ومع هذا فالاختلاف في الرأي والنظر والبحث والمسألة والجواب سنخٌوطبيعة ، فكيف يجوز أن يأتي رجل بشيء يرفع به هذا الخلاف أو يحلحله أو يؤثر فيه ؟ هيهات هذا محال ، ولقد بقي العالم بعد منطقه على ما كان عليه قبل منطقه ؛ فامسح وجهك بالسلوة عن شيء لا يستطاع لأنه منعقد بالفطرة والطباع ؛ وأنت لو فرغت بالك وصرفت عنايتك إلى معرفة هذه اللغة التي تحاورنا بها ، وتجارينا فيها ، وتدارس أصحابك بمفهوم أهلها وتشرح كتب يونان بعادة أصحابها ، لعلمت أنك غني عن معاني يونان كما أنك غني عن لغة يونان . وها هنا مسألة ، تقول : إن الناس عقولهم مختلفة ، وأنصباؤهم منها متفاوتة . قال :نعم . قال : وهذا الاختلاف والتفاوت بالطبيعة أو بالاكتساب ؟ قال : بالطبيعة . قال : فكيف يجوز أن يكون هاهنا شيء يرتفع به هذا الاختلاف الطبيعي والتفاوت الأصلي ؟ قال متى : هذا قد مر في جملة كلامك آنفاً . قال أبو سعيد : فهل وصته بجواب قاطع وبيانٍ ناصع ؟ ودع هذا ؛ أسألك عن حرف واحد ، وهو دائر في كلام العرب ، ومعانيه متميزة عند أهل العقل ؛ فاستخرج أنت معانيه من ناحية منطق أرسطاطاليس الذي تدل به وتباهي بتفخيمه ، وهو الواو ما أحكامه ؟ وكيف مواقعه ؟ وهل هو على وجه أو وجوه ؟ فبهت متى وقال : هذا نحو ، والنحو لم أنظر فيه ، لأنه لا حاجة بالمنطقي إليه ، وبالنحوي حاجة شديدة إلى المنطق ، لأن المنطق يبحث عن المعنى والنحو يبحث عن اللفظ ، فإن مر المنطقي باللفظ فبالعرض ، وإن عثر النحوي بالمعنى فبالعرض والمعنى أشرف من اللفظ ، واللفظ أوضع من المعنى . فقال أبو سعيد : أخطأت ، لأن الكلام والنطق واللغة واللفظ والإفصاح والإعراب والإبانة والحديث والإخبار والاستخبار والعرض والتمني والنهي والحض والدعاء والنداء والطلب كلها من واد واحد بالمشاكلة والمماثلة ، ألا ترى أن رجلاً لو قال : نطق زيد بالحق ولكن ما تكلم بالحق ، وتكلم بالفحش ولكن ما قال الفحش ، وأعرب عن نفسه ولكن ما أفصح ، وأبان المراد ولكن ما أوضح ، أو فاه بحاجته ولكن ما لفظ ، أو أخبر ولكن ما أنبأ ، لكان في جميع هذا محرفاً ومناقضاً وواضعاً للكلام في غير حقه ، ومستعملاً اللفظ على غير شهادة من عقله وعقل غيره ؛ والنحو منطق ولكنه مسلوخ من العربية والمنطق نحو ، ولكنه مفهوم باللغة ، وإنما الخلاف بين اللفظ والمعنى أن اللفظ طبيعي والمعنى عقلي ؛ ولهذا كان اللفظ بائداً على الزمان ، لأن الزمان يقفو أثر الطبيعة بأثرآخر من الطبيعة ولهذا كان المعنى ثابتاً على الزمان ، لأن مستملى المعنى عقل ، والعقل إلهي ؛ ومادة اللفظ طينية ، وكل طيني متهافت ؛ وقد بقيت أنت بلا اسم لصناعتك التي تنتحلها ، وآلتك التي تزهى بها ، إلا أن تستعير من العربية لها اسماً فتعار ، ويسلم لك ذلك بمقدار ؛ وإذا لم يكن لك بد من قليل هذه اللغة من أجل الترجمة فلا بد لك أيضاً من كثيرها من أجل تحقيق الترجمة واجتلاب الثقة والتوقي من الخلة اللاحقة . فقال متى : يكفيني من لغتكم هذا الاسم والفعل والحرف ، فإني أتبلغ بهذا القدر إلى أغراض قد هذبتها لي يونان . قال أبو سعيد : أخطأت ، لأنك في هذا الاسم والفعل والحرف فقير إلى وصفها وبنائها على الترتيب الواقع في غرائز أهلها ؛ وكذلك أنت محتاج بعد هذا إلى حركات هذه الأسماء والأفعال والحروف ، فإن الخطأ والتحريف في الحركات كالخطأ والفساد في المتحركات ، وهذا باب أنت وأصحابك ورهطك عنه في غفلة ؛ على أن ها هنا سراً ما علق بك ، ولا أسفر لعقلك ؛ وهو أن تلعم أن لغة من اللغات لا تطابق لغةً أخرى من جميع جهاتها بحدود صفاتها ، في أسمائها وأفعالها وحروفها وتأليفها وتقديمها وتأخيرها ، واستعارتها وتحقيقها ، وتشديدها وتخفيفها ، وسعتها وضيقها ونظمها ونثرها وسجعها ، ووزنها وميلها ، وغير ذلك مما يطول ذكره ؛ وما أظن أحداً يدفع هذا الحكم أو يشك في صوابه ممن يرجع إلى مسكةٍ من عقل أو نصيبٍ من إنصاف ، فمن أين يجب أن تثق بشيء ترجم لك على هذا الوصف ؟ بل أنت إلى تعرف اللغة العربية أحوج منك إلى تعرف المعاني اليونانية ؛ على أن المعاني لا تكون يونانية ولا هندية ، كما أن اللغات تكون فارسية وعربية وتركية ؛ ومع هذا فإنك تزعم أن المعاني حاصلة بالعقل والفحص والفكر ، فلم يبق إلا أحكام اللغة ، فلم تزري على العربية وأنت تشرح كتب أرسطوطاليس بها ، مع جهلك بحقيقتها ؟وحدثني عن قائل قال لك : حالي في معرفة الحقائق والتصفح لها والبحث عنها حال قومٍ كانوا قبل واضع المنطق ، أنظر كما نظروا ، وأتدبر كما تدبروا ، لأن اللغة قد عرفتها بالمنشأ والوراثة ، والمعاني نقرت عنها بالنظر والرأي والاعتقاب والاجتهاد . ما تقول له ؟ أتقول : إنه لا يصح له هذا الحكم ولا يستتب هذا الأمر ، لأنه لا يعرف هذه الموجودات من الطريق التي عرفتها أنت ؟ ولعلك تفرح بتقليده لك - وإن كان على باطل - أكثر مما تفرح باستبداده وإن كان على حق ؛ وهذا هو الجهل المبين ، والحكم المشين . ومع هذا ، فحدثني عن الواو ما حكمه ؟ فإني أريد أن أبين أن تفخيمك للمنطق لا يغني عنك شيئاً ، وأنت تجهل حرفاً واحداً في اللغة التي تدعو بها إلى حكمة يونان ، ومن جهل حرفاً أمكن أن يجهل حروفاً جاز أن يجهل اللغة بكمالها ، فإن كان لا يجهلها كلها ولكن يجهل بعضها ، فلعله يجهل ما يحتاج إليه ، ولا ينفعه فيه علم ما لا يحتاج إليه . وهذه رتبة العامة أو رتبة من هو فوق العامة بقدر يسير ؛ فلم يتأبى على هذا ويتكبر ، ويتوهم أنه من الخاصة وخاصة الخاصة ، وأنه يعرف سر الكلام وغامض الحكمة وخفي القياس وصحيح البرهان ؟ وإنما سألتك عن معاني حرف واحد ، فكيف لو نثرت عليك الحروف كلها ، وطالبتك بمعانيها ومواضعها التي لها بالحق ، والتي لها بالتجوز ؛ سمعتكم تقولون : إن في لا يعرف النحويون مواقعها ، وإنما يقولون : هي للوعاء كما يقولون : إن الباء للإلصاق ؛ وإن في تقال على وجوه : يقال الشيء في الإناء والإناء في المكان و السائس في السياسة و السياسة في السائس . أترى أن هذا التشقيق هو من عقول يونان ومن ناحية لغتها ؟ ولا يجوز أن يعقل هذا بعقول الهند والترك والعرب ؟ فهذا جهلٌ من كل من يدعيه ، وخطلٌ من القول الذي أفاض فيه ؛ النحوي إذا قال في للوعاء فقد أفصح في الجملة عن المعنى الصحيح ، وكني مع ذلك عن الوجوه التي تظهر بالتفصيل ؛ ومثل هذا كثير ، وهو كافٍ في موضع التكنية .فقال ابن الفرات : أيها الشيخ الموفق ، أجبه بالبيان عن مواقع الواو حتى تكون أشد في إفحامه ، وحقق عند الجماعة ما هو عاجز عنه ، ومع هذا فهو مشنع به . فقال أبو سعيد : للواو وجوه ومواقع : منها معنى العطف في قولك : أكرمت زيداً وعمراً ومنها القسم في قولك : والله لقد كان كذا وكذا ومنها الاستئناف في قولك : خرجت وزيد قائم لأن الكلام بعده ابتداء وخبر ومنها معنى رب التي هي للتقليل نحو قولهم : وقاتم الأعماق خاوي المخترق ومنها أن تكون أصلية في الاسم ، كقولك : واصلٌ واقدٌ وافدٌ ، وفي الفعل كذلك ، كقولك : وجل يوجل ؛ ومنها أن تكون مقحمة نحو قول الله عز وجل : ' فلما أسما وتله للجبين وناديناه ' ، أي ناديناه ؛ ومثله قول الشاعر : فلما أجزنا ساحة الحي وانتحى المعنى : انتحى بنا ؛ ومنها معنى الحال في قوله عز وجل : ' ويكلم الناس في المهد وكهلاً ' أي يكلم الناس في حال كهولته ؛ ومنها أن تكون بمعنى حرف الجر ، كقولك : استوى الماء والخشبة أي مع الخشبة . فقال ابن الفرات : لمتى : يا أبا بشر : أكان هذا في نحوك . ثم قال أبو سعيد : دع هذا ، ها هنا مسألة علاقتها بالمعنى العقلي أكثر من علاقتها بالشكل اللفظي ، ما تقول في قول القائل : زيد أفضل الإخوة ؟ قال : صحيح . قال : فما تقول إن قال زيد أفضل إخوته ؟ قال : صحيح . قال : فما الفرق بينهما مع الصحة فبلح وجنح وغص بريقه .فقال أبو سعيد : أفتيت على غير بصيرة ولا استبانة ؛ المسألة الأولى جوابك عنها صحيح وإن كنت غافلاً عن وجه صحتها ؛ والمسألة الثانية جوابك عنها غير صحيح وإن كنت أيضاً ذاهلاً عن وجه بطلانها . قال متى : بين لي ما هذا التهجين ؟ قال أبو سعيد : إذا حضرت العسة استفدت ، ليس هذا مكان التدريس هو مجلس إزالة التلبيس ، مع من عادته التمويه والتشبيه ؛ والجماعة تعلم أنك أخطأت ، فلم تدعي أن النحوي إنما ينظر في اللفظ دون المعنى ، والمنطقي ينظر في المعنى لا في اللفظ ؟ هذا كان يصح لو أن المنطقي كان يسكت ويجيل فكره في المعاني ، ويرتب ما يريد بالوهم السانح والخاطر العارض والحدس الطارىء ؛ فأما وهو يريغ أن يبرر ما صح له بالاعتبار والتصفح إلى المتعلم والمناظر ، فلابد له من اللفظ الذي يشتمل على مراده ، ويكون طباقاً لغرضه ، وموافقاً لقصده . قال ابن الفرات لأبي سعيد : تمم لنا كلامك في شرح المسألة حتى تكون الفائدة ظاهرةً لأهل المجلس ، والتبكيت عاملاً في نفس أبي بشر . فقال : ما أكره من إيضاح الجواب عن هذه المسألة إلا ملل الوزير ، فإن الكلام إذا طال مل . فقال ابن الفرات : ما رغبت في سماع كلامك وبيني وبين الملل علاقة ؛ فأما الجماعة فحرصها على ذلك ظاهر . فقال أبو سعيد : إذا قلت : زيد أفضل إخوته لم يجز ، وإذا قلت : زيد أفضل الإخوة جاز ؛ والفصل بينهما أن إخوة زيد هم غير زيد ، وزيدٌ خارج عن جملتهم . والدليل على ذلك أنه لو سأل سائل فقال : من إخوة زيد . لم يجز أن تقول : زيد وعمرو وبكر وخالدوإنما تقول : بكر وعمرو وخالد ولا يدخل زيدٌ في جملتهم ، فإذا كان زيد خارجاً عن إخوته صار غيرهم ، فلم يجز أن تقول : أفضل إخوته ، كما لم يجز أن تقول : إن حمارك أفره البغال لأن الحمير غير البغال ، كما أن زيداً غير إخوته ، فإذا قلت : زيد خير الإخوة جاز ، لأنه أحد الإخوة ، والاسم يقع عليه وعلى غيره ، فهو بعض الإخوة ، ألا ترى أنه لو قيل : من الإخوة ؟ عددته فيهم ، فقلت : زيد وعمرو وبكر وخالد فيكون بمنزلة قولك : حمارك أفره الحمير لأنه داخل تحت الاسم الواقع على الحمير . فلما كان على ما وصفنا جاز أن يضاف إلى واحد منكور يدل على الجنس ، فتقول : زيد أفضل رجل وحمارك أفره حمار فيدل رجل على الجنس كما دل الرجال ؛ وكما في عشرين درهماً ومائة درهم . فقال ابن الفرات : ما بعد هذا البيان مزيد ، ولقد جل علم النحو عندي بهذا الاعتبار وهذا الإسفار . فقال أبو سعيد : معاني النحو منقسمة بين حركات اللفظ وسكناته ، وبين وضع الحروف في مواضعها المقتضية لها ، وبين تأليف الكلام بالتقديم والتأخير وتوخي الصواب في ذلك وتجنب الخطأ من ذلك ، وإن زاغ شيء عن هذا النعت فإنه لا يخلو من أن يكون سائغاً بالاستعمال النادر والتأويل البعيد ، أو مردوداً لخروجه عن عادة القوم الجارية على فطرتهم . فأما ما يتعلق باختلاف لغات القبائل فذلك شيء مسلم لهم ومأخوذ عنهم ، وكل ذلك محصور بالتتبع والرواية والسماع والقياس المطرد على الأصل المعروف من غير تحريف ، وإنما دخل العجب على المنطقيين لظنهم أن المعاني لا تعرف ولا تستوضح إلا بطريقهم ونظرهم وتكلفهم ، فترجموا لغةً هم فيها ضعفاء ناقصون . وجعلوا تلك الترجمة صناعة ، وادعوا على النحويين أنهم مع اللفظ لا مع المعنى . ثم أقبل أبو سعيد على متى فقال : أما تعرف يا أبا بشر أن الكلام اسم واقع على أشياء قد ائتلفت بمراتب ،وتقول بالمثل : هذا ثوب والثوب اسم يقع على أشياء بها صار ثوباً ، لأنه نسج بعد أن غزل ، فسداته لا تكفي دون لحمته ولحمته لا تكفي دون سداته ، ثم تأليفه كنسجه ، وبلاغته كقصارته ورقة سلكه كرقة لفظه ، وغلظ غزله ككثافة حروفه ، ومجموع هذا كله ثوب ، ولكن بعد تقدمة كل ما يحتاج إليه فيه . قال ابن الفرات : سله يا أبا سعيد عن مسألة أخرى ، فإن هذا كلما توالى عليه بان انقطاعه ، وانخفض ارتفاعه ، في المنطق الذي ينصره ، والحق الذي لا يبصره . قال أبو سعيد : ما تقول في رجل يقول : لهذا على درهم غير قيراط ؛ ولهذا الآخر على درهم غير قيراط . قال : ما لي علم بهذا النمط . قال : لست نازعاً عنك حتى يصح عند الحاضرين أنك صاحب مخرقة وزرق ، ها هنا ما هو أخف من هذا ، قال رجل لصاحبه : بكم الثوبان المصبوغان ، وقال آخر : بكم ثوبان مصبوغان وقال آخر : بكم ثوبان مصبوغين بين هذه المعاني التي تضمنها لفظٌ لفظ . قال متى : لو نثرت أنا أيضاً عليك من مسائل المنطق أشياء لكان حالك كحالي . قال أبو سعيد : أخطأت ، لأنك إذا سألتني عن شيء أنظر فيه ، فإن كان له علاقة بالمعنى وصح لفظه على العادة الجارية أجبت ، ثم لا أبالي أن يكون موافقاً أو مخالفاً ، وإن كان غير متعلق بالمعنى رددته عليك ، وإن كان متصلاً باللفظ ولكن على وضعٍ لكم في الفساد على ما حشوتم به كتبكم رددته أيضاً لأنه لا سبيل إلى إحداث لغة في لغة مقررة بين أهلها . ما وجدنا لكم إلا ما استعرتم من لغة العرب كالسبب والآلة والسلب والإيجاب والموضوع والمحمول والكون والفساد والمهمل والمحصور وأمثلة لا تنفع ولا تجدي ، وهي إلى العي أقرب ، وفي الفهاهة أذهب .ثم أنتم هؤلاء في منطقكم على نقصٍ ظاهر ، لأنكم لا تفون بالكتب ولا هي مشروحة ، فتدعون الشعر ولا تعرفونه وتذكرون الخطابة وأنتم عنها في منقطع التراب ؛ وقد سمعت قائلكم يقول : الحاجة ماسة إلى كتاب البرهان . فإن كان كما قال فلم قطع الزمان بما قبله من الكتب ، وإن كانت الحاجة قد مست إلى ما قبل البرهان ، فهي أيضاً ماسةٌ إلى ما بعد البرهان ، وإلا فلم صنف ما لا يحتاج إليه ويستغنى عنه . هذا كله تخليط وزرق وتهويل ورعد وبرق . وإنما بودكم أن تشغلوا جاهلاً ، وتستذلوا عزيزاً ؟ وغايتكم أن تهولوا بالجنس والنوع والخاصة والفصل والعرض والشخص ، وتقولوا : الهلية والأينية والماهية والكيفية والكمية والذاتية والعرية والجوهرية والهيولية والصورية والأيسية والليسية والنفسية ؟ ثم تتطاولون فتقولون : جئنا بالسحر في قولنا : ' لا ' في شيء من ' ب ' و ' ج ' في بعض ' ب ' ، ف ' لا ' في بعض ' ج ' و ' لا ' في كل ' ب ' و ' ج ' في كل ' ب ' فإذن ' لا ' في كل ' ج ' ؛ هذا بطريق الخلف ، وهذا بطريق الاختصاص . وهذه كلها خرافات وترهات ، ومغالق وشبكات ؛ ومن جاد عقله وحسن تمييزه ولطف نظره وثقب رأيه وأنارت نفسه استغنى عن هذا كله - بعون الله وفضله - وجودة العقل وحسن التمييز ولطف النظر وثقوب الرأي وإنارة النفس من منائح الله الهنية ، ومواهبه السنية ،يختص بها من يشاء من عباده وما أعرف لاستطالتكم بالمنطق وجهاً ، وهذا الناشىء أبو العباس قد نقض عليكم وتتبع طريقتكم ، وبين خطأكم ، وأبرز ضعفكم ، ولم تقدروا إلى اليوم أن تردوا عليه كلمة واحدة مما قال ، وما زدتم على قولكم : لم يعرف غرضنا ولا وقف على مرادنا ، وإنما تكلم على وهم . وهذا منكم تجاجزٌ ونكول ورضىً بالعجز وكلول ، وكل ما ذكرتم في الموجودات فعليكم فيه اعتراض هذا قولكم في ' يفعل وينفعل ' لم تستوضحوا فيهما مراتبهما ومواقعهما ، ولم تقفوا على مقاسمهما ، لأنكم قنعتم بوقوع الفعل من ' يفعل ' وقبول الفعل من ' ينفعل ' ، ومن وراء ذلك غاياتٌ خفيت عليكم ، ومعارف ذهبت عنكم وهذا حالكم في الإضافة . فأما البدل ووجوهه ، والمعرفة وأقسامها ، والنكرة ومراتبها ، وغير ذلك مما يطول ذكره ، فليس لكم فيه مقال ولا مجال . وأنت إذا قلت لإنسان : ' كن منطقياً ' ، فإنما تريد : كن عقلياً أو عاقلاً أو اعقل ما تقول لأن أصحابك يزعمون أن النطق هو العقل ؛ وهذا قولٌ مدخول ، لأن النطق على وجوه أنتم عنها في سهو . وإذا قال لك آخر : ' كن نحوياً لغوياً فصيحاً ' فإنما يريد : افهم عن نفسك ما تقول ، ثم رم أن يفهم عنك غيرك . وقدر اللفظ على المعنى فلا يفضل عنه ، وقدر المعنى على اللفظ فلا ينقص منه ؛ هذا إذا كنت في تحقيق شيء ما هو به . فأما إذا حاولت فرش المعنى وبسط المراد فأجل اللفظ بالروداف الموضحة والأشباه المقربة ، والاستعارات الممتعة ، وبين المعاني بالبلاغة ، أعني لوح منها لشيء حتى لا تصاب إلا بالبحث عنها والشوق إليها ، لأن المطلوب إذا ظفر به على هذا الوجه عز وحلا ، وكرم وعلا ؛ واشرح منها شيئاً حتى لا يمكن أنيمترى فيه أو يتعب في فهمه أو يعرج عنه لاغتماضه ؛ فهذا المذهب يكون جامعاً لحقائق الأشباه ولأشباه الحقائق ؛ وهذا بابٌ إن استقصيته خرج عن نمط ما نحن عليه في هذا المجلس ؛ على أني لا أدري أيؤثر فيك ما أقول أو لا ؟ ثم قال : حدثنا هل فصلتم قط بالمنطق بين مختلفين ، أو رفعتم الخلاف بين اثنين ؛ أتراك بقوة المنطق وبرهانه اعتقدت أن الله ثالث ثلاثة ، وأن الواحد أكثر من واحد ، وأن الذي هو أكثر من واحد هو واحد ، وأن الشرع ما تذهب إليه ، والحق ما تقوله ؟ هيهات ، ها هنا أمور ترتفع عن دعوى أصحابك وهذيانهم ، وتدق عن عقولهم وأذهانهم . ودع هذا ، ها هنا مسألة قد أوقعت خلافاً ، فارفع ذلك الخلاف بمنطقك . قال قائل : ' لفلانٍ من الحائط إلى الحائط ' ما الحكم فيه ؟ وما قدر المشهود به لفلان ؟ فقد قال ناس : له الحائطان معاً وما بينهما . وقال آخرون : له النصف من كلٍ منهما . وقال آخرون : أحدهما . هات الآن آيتك الباهرة ، ومعجزتك القاهرة ، وأنى لك بهما ، وهذا قد بان بغير نظرك ونظر أصحابك . ودع هذا أيضاً ؛ قال قائل : ' من الكلام ما هو مستقيم حسن ، ومنه ما هو مستقيم محال ، ومنه ما هو مستقيم قبيح ، ومنه ما هو محال كذب ، ومنه ما هو خطأ ' . فسر هذه الجملة . واعترض عليه عالمٌ آخر ، فاحكم أنت بين هذا القائل والمعترض وأرنا قوة صناعتك التي تميز بها بين الخطأ والصواب ، وبين الحق والباطل ؟ فإن قلت : كيف أحكم بين اثنين أحدهما قد سمعت مقالته ، والآخر لم أحصل اعتراضه ؟ قيل لك : استخرج بنظرك الاعتراض إن كان ما قاله محتملاً له ، ثم أوضح الحق منهما ، لأن الأصل مسموع لك ، حاصلٌ عندك وما يصح به أو يرد عليه يجب أن يظهر منك ، فلا تتعاسر علينا ، فإن هذا لا يخفى على أحد من الجماعة .فقد بان الآن أن مركب اللفظ لا يحوز مبسوط العقل ؛ والمعاني معقولة ولها اتصال شديد وبساطة تامة ؛ وليس في قوة اللفظ من أي لغة كان أن يملك ذلك المبسوط ويحيط به ، وينصب عليه سوراً ، ولا يدع شيئاً من داخله أن يخرج ، ولا شيئاً من خارجه أن يدخل ، خوفاً من الاختلاط الجالب للفساد ، أعني أن ذلك يخلط الحق بالباطل ، ويشبه الباطل بالحق ؛ وهذا الذي وقع الصحيح منه في الأول قبل وضع المنطق ، وقد عاد ذلك الصحيح في الثاني بعد المنطق ؛ وأنت لو عرفت تصرف العلماء والفقهاء في مسائلهم ، ووقفت على غورهم في نظرهم وغوصهم في استنباطهم ، وحسن تأويلهم لما يرد عليهم ، وسعة تشقيقهم للوجوه المحتملة والكيانات المفيدة والجهات القريبة والبعيدة ، لحقرت نفسك ، وازدريت أصحابك ، ولكان ما ذهبوا إليه وتابعوا عليه أقل في عينك من السها عند القمر ، ومن الحصا عند الجبل . أليس الكندي وهو علم في أصحابك يقول في جواب مسألة ' هذا من باب عد ' . فعد الوجوه بحسب الاستطاعة على طريق الإمكان من ناحية الوهم بلا ترتيب ، حتى وضعوا له مسائل من هذا الشكل وغالطوه بها وأروه أنها في الفلسفة الداخلة ، فذهب عليه ذلك الوضع ، فاعتقد فيه أنه صحيح وهو مريض العقل فاسد المزاج حائل الغريزة مشوش اللب . قالوا له : أخبرنا عن اصطكاك الأجرام ، وتضاغط الأركان ؟ هل يدخل في باب وجوب الإمكان ؟ أو يخرج من باب الفقدان إلى ما يخفى عن الأذهان ؟ وقالوا له أيضاً : ما نسبة الحركات الطبيعية إلى الصور الهيولاتية ؟ وهل هي ملابسة للكيان في حدود النظر والبيان ، أو مزايلةٌ له مزايلة على غاية الإحكام ؟ وقالوا له : ما تأثير فقدان الوجدان في عدم الإمكان عند امتناع الواجب من وجوبه في ظاهر ما لا وجوب له لاستحالته في إمكان أصله ؟ وعلى هذا فقد حفظ جوابه عن جميع هذا على غاية الركاكة والضعف والفسادوالفسالة والسخف . ولولا التبوقي من التطويل لسردت ذلك كله ، ولقد مر بي في خطه : التفاوت في تلاشي الأشياء غير محاطٍ به ، لأنه يلاقي الاختلاف في الأصول والاتفاق في الفرزع ؛ وكل ما يكون على هذا النهج فالنكرة تزاحم عليه المعرفة ، والمعرفة تناقض النكرة ، على أن النكرة والمعرفة من باب الألبسة العارية من ملابس الأسرار الإلهية ، لا من باب الإلهية العارضة في أحوال البشرية . ولقد حدثنا أصحابنا الصابئون عنه بما يضحك الثكلى ويشمت العدو ويغ الصديق ، وما ورث هذا كله إلا من بركات يونان وفوائد الفلسفة والمنطق ونسأل الله عصمة وتوفيقاً نهتدي بهما إلى القول الراجع إلى التحصيل ، والفعل الجاري على التعديل ، إنه سميع مجيب . هذا آخر ما كتبت عن ابن عيسى الرماني الشيخ الصالح بإملائه . وكان أبو سعيد قد روى لمعاً من هذه القصة . وكان يقول : لم أحفظ عن نفسي كل ما قلت ، ولكن كتب ذلك أقوامٌ حضروا في ألواح كانت معهم ومحابر أيضاً ؛ وقد اختل علي كثير منه . قال علي بن عيسى : وتقوض المجلس وأهله يتعجبون من جأش أبي سعيد الثابت ولسانه المتصرف ووجهه المتهلل وفوائده المتتابعة . وقال الوزير ابن الفرات : عين الله عليك أيها الشيخ ، فقد نديت أكباداً وأقررت عيوناً ، وبيضت وجوهاً ، وحكت طرازاً لا يبليه الزمان ، ولا يتطرق إليه الحدثان . قلت لعلي بن عيسى : وكم كان سن أبي سعيد في ذلك الوقت ؟ قال : مولده سنة ثمانين ومائتين ، وكان له يوم المناظرة أربعون سنة ، وقد عبث الشيب بلهازمه مع السمت والوقار والدين والجد ، وهذا شعار أهل الفضل والتقدم ، وقل منتظاهر به أو تحلى بحليته إلا جل في العيون وعظم في النفوس ، وأحبته القلوب ، وجرت بمدحه الألسنة . وقلت لعلي بن عيسى : أما كان أبو علي الفسوي النحوي حاضر المجلس ؟ قال : لا ، كان غائباً ، وحدث بما كان ، فكان يكتم الحسد لأبي سعيد على ما فاز به من هذا الخبر المشهور ، والثناء المذكور . فقال لي الوزير عند منقطع هذا الحديث : ذكرتني شيئاً قد دار في نفسي مراراً ، وأحببت أن أقف على واضحه ؛ أين أبو سعيد من أبي علي ، وأين علي بن عيسى منهما ، وأين ابن المراغي أيضاً من الجماعة ؟ وكذلك المرزباني وابن شاذان وابن الوراق وابن حيويه ؟ فكان من الجواب ، أبو سعيد أجمع لشمل العلم ، وأنظم لمذاهب العرب وأدخل في كل باب ، وأخرج من طل طريق ، وألزم للجادة الوسطى في الدين والخلق ، وأروى في الحديث ، وأقضى في الأحكام ، وأفقه في الفتوى ، وأحضر بركة على المختلفة ، وأظهر أثراً في المقتبسة . ولقد كتب إليه نوح بن نصر - وكان من أدباء ملوك آل سامان - سنة أربعين كتاباً خاطبه فيه بالإمام وسأله عن مسائل تزيد على أربعمائة مسألة ، الغالب عليها الحروف ، وباقي ذلك أمثال مصنوعة على العرب شك فيها فسأل عنها ؛ وكان هذا الكتاب مقروناً بكتاب الوزير البلعمي خاطبه فيه بإمام المسلمين ، ضمنه مسائل في القرآن وأمثالاً للعرب مشكلة . وكتب إليه المرزبان بن محمد ملك الديلم من أذربيجان كتاباً خاطبه فيه بشيخ الإسلام ، سأله عن مائة وعشرين مسألة ، أكثرها في القرآن ، وباقي ذلك في الروايات عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وعن أصحابه رضوان الله عليهم .وكتب إليه ابن خنزابة من مصر كتاباً خاطبه فيه بالشيخ الجليل ، وسأله فيه عن ثلاثمائة كلمة من فنون الحديث المروي عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وعن السلف . وقال لي الدارقطني سنة سبعين : أنا جمعت ذلك لابن خنزابة على طريق المعونة . وكتب إليه أبو جعفر ملك سجستان على يد شيخنا أبي سليمان كتاباً يخاطبه فيه بالشيخ الفرد ، سأله عن سبعين مسألة في القرآن ، ومائة كلمة في العربية وثلاثمائة بيت من الشعر ، هكذا حدثني به أبو سليمان ؛ وأربعين مسألة في الأحكام وثلاثين مسألة في الأصول على طريق المتكلمين . قال لي الوزير : وهذه المسائل والجواب عنها عندك ؟ قلت : نعم . قال : في كم تقع ؟ قلت : لعلها تقع في ألف وخمسمائة ورقة ، لأن أكثرها في الظهور . قال : ما أحوجنا إلى النظر فيها والاستمتاع بها والاستفادة منها وأين الفراغ وأين السكون ؟ ونحن كل يوم ندفع إلى طامةٍ تنسى ما سلف ، وتوعد بالداهية ، اللهم ناصيتي بيدك ، فتولني بالعصمة ، واخصصني بالسلامة ، واجعل عقباي إلى الحسنى . ثم قال : صل حديثك . قلت : وأما أبو علي فأشد تفرداً بالكتاب وأشد إكباباً عليه ، وأبعد من كل ما عداه مما هو علم الكوفيين ، وما تجاوز في اللغة كتب أبي زيد ، وأطرافاً مما لغيره ؛ وهو متقد بالغيظ على أبي سعيد ، وبالحسد له ، كيف تم له تفسير كتاب سيبويه من أوله إلى آخره بغريبه وأمثاله وشواهده وأبياته ' ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء ' ، لأن هذا شيء ما تم للمربد ولا للزجاج ولا لابن السراج ولا لابن درستويه مع سعة علمهم ، وفيض كلامهم . ولأبي علي أطراف من الكلام في مسائل أجاد فيها ولم يأتل ، ولكنه قعد علىالكتاب على النظم المعروف . وحدثني أصحابنا أن أبا علي اشترى شرح أبي سعيد في الأهواز في توجهه إلى بغداد سنة ثمان وستنين - لاحقاً بالخدمة المرسومة به ، والندامة الموقوفة عليه - بألفي درهم ؛ وهذا حديث مشهور ، وإن كان أصحابه يأبون الإقرار به إلا من زعم أنه أراد النقض عليه ، وإظهار الخطأ فيه . وقد كان الملك السعيد - رضي الله عنه - هم بالجمع بينهما فلم يقض له ذلك ، لأن أبا سعيد مات في رجب سنة ثمان وستين وثلاثمائة . وأبو علي يشرب ويتخالع ويفارق هدى أهل العلم وطريقة الربانيين وعادة المتنسكين . وأبو سعيد يصوم الدهر ، ولا يصلي إلا في الجماعة ، ويقيم على مذهب أبي حنيفة ، ويلى القضاء سنين ، ويتأله ويتحرج ، وغيره بمعزل عن هذا ؛ ولولا الإبقاء على حرمة العلم ، لكان القلم يجري بما هو خافٍ ويخبر بما هو مجمجم ولكن الأخذ بحكم المروءة أولى ، والإعراض عما يجلب اللائمة أحرى . وكان أبو سعيد حسن الحظ ، ولقد اراده الصيمري أبو جعفر على الإنشاء والتحرير فاستعفى وقال : هذا أمر يحتاج فيه إلى دربة وأنا عارٍ منها ، وإلى سياسةٍ وأنا غريب فيها ومن العناء رياضة الهرم وحدثنا النصري أبو عبد الله - وكان يكتب النوبة للمهلبي - بحديث مفند لأبي سعيد هذا موضعه ،قال : كنت أخط في بيدي الصيمري أبي جعفر محمد بن أحمد بن محمد ، فالتمسني يوماً لأن أجيب ابن العميد أبا الفضل عن كتاب فلم يجدني ، وكان أبو سعيد السيرافي بحضرته ؛ فظن أنه بفضل علمه أقوم بالجواب من غيره ، فتقدم إليه أن يكتب ويجيب ، فأطال في عمل نسخة كثر فيها الضرب والإصلاح ، ثم أخذ يحرر ، والصيمري يقرأ ما يكتبه ، فوجده مخالفاً لجاري العادة لفظاً ، مبايناً لما يريده ترتيباً . قال : ودخلت في تلك الحال ، فتمثل الصيمري بقول الشاعر : يا باري القوس برياً ليس يصلحه . . . لا تظلم القوس ، أعط القوس باريها ثم قال لأبي سعيد : خفف عليك أيها الشيخ وادفع الكتاب إلى أبي عبد الله تلميذك ليجيب عنه ، فخجل من هذا القول ، فلما اتبدأت الجواب من غير نسخة تحير مني أبو سعيد ، ثم قال : أيها الأستاذ ، ليس بسمتنكرٍ ما كان مني ، ولا بمستكثرٍ ما كان منك ، إن مال الفيء لا يصح في بيت المال إلا بين مستخرج وجهبذٍ ، والكتاب جهابذة الكلام ، والعلماء مستخرجوه . فتبسم الصميري وأعجبه ما سمع ، وقال : على كل حال ما أخليتنا من فائدة . وكان أبو سعيد بعيد القرين ، لأنه كان يقرأ عليه القرآن والفقه والشروط والفرائض والنحو واللغة والعروض والقوافي والحساب والهندسة والحديث والأخبار وهو في كل هذا إما في الغاية وإما في الوسط . وأما علي بن عيسى فعالي الرتبة في النحو واللغة والكلام والعروض والمنطق ، وعيب به ، إلا أنه لم يسلك طريق واضع المنطق ، بل أفرد صناعة ، وأظهر براعة ، وقد عمل في القرآن كتاباً نفيساً ، هذا مع الدين الثخين ، والعقل الرزين .وأما ابن المراغي فلا يلحق بهؤلاء ، مع براعة اللفظ ، وسعة الحفظ ، وعزة النفس ، وبلل الريق ، وغزارة النفث ، وكثرة الرواية ؛ ومن نظر في كتاب البهجة له عرف ما أقول ، واعتقد فوق ما أصف ، ونحل أكثر مما أبذل . وأما المرزباني وابن شاذان وابن القرمسيني وابن حيويه فهم رواة وحملة ليس لهم في ذلك نقطٌ ولا إعجام ، ولا إسراج ولا إلجام . فقال : فصل حديثك عن هؤلاء بحديث أصحابنا الشعراء ، صف لي جماعتهم ، واذكر لي بضاعتهم ، وما خص كل واحد منهم . قلت : لست من الشعر والشعراء في شيء ، وأكره أن أخطو على دحض ، وأحتسي غير محض . قال : دع هذا القول ، فما خضنا في شيء إلى هذا الوقت إلا على غاية ما كان في النفس ، ونهاية ما أفاد من الأنس ، فكان من الوصف : أما السلامي فهو حلو الكلام ، متسق النظام ، كأنما يبسم عن ثغر الغمام خفي السرقة ، لطيف الأخذ ، واسع المذهب ، لطيف المغارس ، جميل الملابس ؛ لكلامه ليطةٌ بالقلب ، وعبثٌ بالروح ، وبردٌ على الكبد . وأما الحاتمي فغليظ اللفظ ، كثير العقد ، يحب أن يكون بدوياً قحاً ، وهو لم يتم حضرياً ؛ غزير المحفوظ ، جامعٌ بين النظم والنثر ، على تشابهٍ بينهما في الجفوة وقلة السلاسة ، والبعد من المسلوك ، بادي العورة فيما يقول ، لكأنما يبرز ما يخفي ، ويكدر ما يصفي ، له سكرة في القول إذا أفاق منها خمر وإذا خمرسدر ؛ يتطاول شاخصاً ، فيتضاءل متقاعساً ؛ إذا صدق فهو مهين ، وإذا كذب فهو مشين . وأما ابن جلبات فمجنون الشعر ، متفاوت اللفظ ، قليل البديع ، واسع الحيلة ، كثير الزوق ، قصير الرشاء ، كثير الغثاء ؛ غره نفاقه ونفقه نفاقه . وأما الخالع فأديب الشعر ، صحيح النحت ، كثير البديع ، مستوي الطريقة ، متشابه الصناعة ، بعيدٌ من طفرة المتحير ، قريبٌ من قرصة المتخير ؛ كان ذو الكفايتين يقدمه بالري ، ويقبله على النشر والطي . وأما مسكويه فلطيف اللفظ ، رطب الأطراف ، رقيق الحواشي ، سهل المأخذ ، قليل السكب ، بطيء السبك ؛ مشهور المعاني ، كثير التواني ؛ شديد التوقي ، ضعيف الترقي ؛ يرد أكثر مما يصدر ، ويتطاول جهده ثم يقصر ؛ ويطير بعيداً ويقع قريباً ، ويسقي من قبل أن يغرس ، ويمتح من قبل أن يميه ؛ وله بعد ذلك مآخذ كشدوٍ من الفلسفة ، وتأتٍ فيالخدمة ، وقيامٍ برسوما لندامة ؛ وسلة في البخل ، وغرائب من الكذب ؛ وهو حائل العقل لشغفه بالكيمياء . وأما ابن نباتة فشاعر الوقت ، لا يدفع ما أقول إلا حاسد أو جاهل أو معاند ، قد لحق عصابة سيف الدولة وعدا معهم ووراءهم ، حسن الحذو على مثال سكان البادية ، لطيف الائتمام بهم ، خفي المغاص في واديهم ، ظاهر الإطلال على ناديهم ؛ هذا مع شعبة من الجنون وطائفٍ من الوسواس . وأما ابن حجاج فليس من هذه الزمرة بشيء ، لأنه سخيف الطريقة بعيدٌ من الجد ، قريعٌ في الهزل ؛ ليس للعقل من شعره منال ، ولا له في قرضه مثال ؛ على أنه قويم اللفظ ، سهل الكلام ، وشمائله نائيةٌ بالوقار عن عادته الجارية في الخسار ؛ وهو شريك ابن سكرة في هذه الغرامة ؛ وإذا جد أقعى ، وإذا هزل حكى الأفعى . وله مع ذي الكفايتين مناظرة طيبة . قال : ما هي ؟ قلت : لما ورد ذو الكفايتين سنة أربع وستين وهزم الأتراك مع أفتكين ، وكان من الحديث ما هو مشهور ، سأل عن ابن حجاج - وكان متشوقاً له لما كان يقرأ عليه من قوافيه ، فأحب أن يلقاه ، لأنه الخبر كالمعاينة ، والمسموعوالمبصر كاأنثى والذكر ؛ ينزع كل واحد منهما إلى تمامه ؛ فلما حضره أبو عبد الله احتبسه للطعام ، وسمع كلامه ، وشاهد سمته ، واستحلى شمائله ، فقام من مجلسه ؛ فلما خلا به قال : يا أبا عبد الله ، لقد والله تهت عجباً منك ، فأما عجبي بك فقد تقدم ؛ لقد كنت أفلي ديوانك ، فأتمنى لقاءك ، وأقول : من صاحب هذا الكلام ، أطيش طائش ، وأخف خفيف ، وأغرم غارم ؛ وكيف يجالس من يكون في هذا الإهاب ؟ وكيف يقارب من ينسلخ من ملابس الكتاب واصحاب الآداب ؛ حتى شاهدتك الآن ، فتهالكت على وقارك وسكون أطرافك ، وسكوت لفظك ، وتناسب حركاتك ، وفرط حيائك وناضر ماء وجهك ، وتعادل كلك وبعضك ؛ وإنك لمن عجائب خلق الله وطرف عباده ؛ والله ما يصدق واحد أنك صاحب ديوانك ، وأن ذلك الديوان لك ، مع هذا التنافي الذي بين شعرك وبينك في جدك . فقال أبو عبد الله : أيها الأستاذ ، وكان عجبي منك دون عجبك مني ، لو تقارعنا على هذا لفلجت عليك بالتعجب منك . قال : لأني قلت : إذا ورد الأستاذ فسألقى منه خلقاً جافياً وفظاً غليظاً وصاحب رواسير وآكل كوامخ وجبلياً ديلمياً متكائباً متعاظماً ، حتى رأيتك الآن وأنت ألطف من الهواء ، وأرق من الماء ، وأغزل من جميل بن معمر ، وأعذب من الحياة ، وأرزن من الطود ، وأغزر من البحر ، وأبهى من القمر ، وأندى من الغيث ، وأشجع من الليث ، وأنطق من سحبان ، وأندى من الغمام ، وأنفذ من السهام ، وأكبر من جميعالأنام . فقال أبو الفتح وتبسم : هذا أيضاً من ودائع فضلك ، وبواعث تفضلك . ووصله وصرفه . قال : لم يكن هذا الحديث عندي . وأما بشر بن هارون فليس من هذه الطبقة في شيء ، لكنه يقرص فيحز ويشم فيهز ، ويجرح فيجهز ؛ والمدهوون منه كثير ؛ واصحابنا يستحسنون قول ابن الحجاج في الوزير حين يقول : لله در الحسين من قمر . . . ردت إليه وزارة الشمس فقال : إن قبلت هذا منهم خفت أن يقال : مادح نفسه يقرئك السلام ؛ وما أصنع بهذا البيت وهو مضموم إلى كل بيت سخيف في القصيدة . ثم قال : وجب أن نصف قبل هذا عصابة العلماء ، فلم تركنا ذكرهم ونحن لا نخلو في حديثهم من غرة لائحة ، وفائدة نافعة ، وصوابٍ زائد في العقل وفضيلة على الأدب ، وحلمٍ يزدان به في وقت الحاجة ، وحكمةٍ يستعان بها في داهمة ؛ ورأى يكون مقيلاً للتمييز عند تهجيرنا به . قلت : أما أبو عبد الله الجعل فقد شاهدته . قال : صدقت ، ولكن لم أقف على مذهبه ودخلته وسيرته في اعتقاده . قلت : كان الرجل ملتهب الخاطر ، واسع أطراف الكلام ، مع غثاثة اللفظ ، وكان يرجع إلى قوة عجيبة في التدريس ، وطول نفس في الإملاء ، مع ضيق صدر عند لقاء الخصمومعاركة القرن ، بعيد العهد بالمصاع والدفاع والوقاع ؛ وكان سبب هذا الجبن والخور قلة الضراوة على هذه الأحوال ؛ ولقد خزي في مشاهد عظيمة . وأما يقينه فكان ضعيفاً ؛ وأما سيرته فكانت واقفةً على حب الرياسة وبذل المال والجاه إذا حضرا ، مع تعصب شديد لمن قدمه وأحبه ، وإنحاءٍ مفرط على من عاداه ، وكان خوضه في الدول والولايات - ولهذا رغب عنه الواسطي وكان أخا ورع ودين - وقال : هذا منفر عن الدين والمذهب ، ودافعٌ للناس عن القول بالحق ، وطارح للشبهة في القلوب . وكان يجهر بهذا وأشباهه ، ولكن كان جاه الرجل لا ينتقص بهذا القدر وركنه لا يتخلخل على هذا الهد ، لأسباب انعقدت له ، وأصحاب ذابوا عنه . وأما ابن الملاح فشيخ حسن المعرفة بالمذهب ، شديد التوقي ، محمود القناعة ظاهر الرضا ؛ تدل سيرته الجميلة على أنه حسن العقيدة . وأما ابن المعلم فحسن اللسان والجدل ، صبور على الخصم ، كثير الحيلة ظنين السر ، جميل العلانية . وأما أبو إسحق النصيبي فدقيق الكلام ، يشك في النبوات كلها ، وقد سمعت منه فيها شبهاً ، ولغته معقدة ، وله أدب واسع ؛ ولقد أضل بهمذان كاتب فخر الدولة ابن المرزبان . وحمله على قلة الاكتراث بظلم الرعية ، وأراه أنه لا حرج عليه فيغبنهم لأنهم بهائم ، وما خرج من الجبل حتى افتضح . وأما ابن خيران فشيخ لا يعدو الفقه ، وفيه سلامة . وأما الداركي فقد اتخذ الشهادة مكسبة ، وهو يأكل الدنيا بالدين ، ويغلب عليه اللواط ، ولا يرجع إلى ثقة وأمانة ؛ ولقد تهتك بنيسابور قديماً ، وببغداد حديثاً ؛ هذا مع الفدامة والوخامة ؛ ولقد ند بجعل غلام ، وهو اليوم قاضي الري . وابن عباد يكنفه ويقربه ليكون داعية له ونائباً عنه ، وليس له أصل وهو من سواد همذان ، وأبوه كان فلاحاً ، ولقد رأيته ، إلا أنه يأتي لابن عباد في سمته ولزوم ناموسه حتى خف عليه ، وهو اليوم قارون ؛ وقد علت رتبته في الكلام حتى لا مزيد عليها ، إلا أنه مع ذلك نغل الباطن ، خبيث الخبء ، قليل اليقين ؛ وذلك أن الطريقة التي قد لزموها وسلكوها لا تفضي بهم إلا إلى الشك والارتياب ، لأن الدين لم يأت بكمٍ وكيفٍ في كل باب ، ولهذا كان لأصحاب الحديث أنصار الأثر ، مزية على أصحاب الكلام وأهل النظر ؛ والقلب الخالي من الشبهة أسلم من الصدر المحشو بالشك والريبة ، ولم يأت الجدل بخير قط . وقد قيل : من طلب الدين بالكلام ألحد ، ومن تتبع غرائب الحديث كذب ، ومن طلب المال بالكيمياء افتقر . وما شاعت هذه الوصية جزافاً ، بل بعد تجربة كررها الزمان ، وتطاولت عليها الأيام ؛ يتكلم أحدهم في مائة مسألة ويورد مائة حجة ثم لا ترى عنده خشوعاً ولا رقة ، ولا تقوى ولا دمعة ؛ وإن كثيراً من الذين لا يكتبون ولا يقرءون ولا يحتجون ولا يناظرون ولا يكرمون ولا يفضلون خيرٌ من هذه الطائفة وألين جانباً ، وأخشع قلباً ، وأتقى لله عز وجل ، وأذكر للمعاد ، وأيقن بالثواب والعقاب ، وأقلق من الهفوة ، وألوذ بالله من صغير الذنب ، وأرجعإلى الله بالتوبة ؛ ولم أر متكلماً في مدة عمره بكى خشية ، أو دمعت عينه خوفاً ، أو أقلع عن كبيرة رغبة ؛ يتناظرون مستهزئين ويتحاسدون متعصبين ، ويتلاقون متخادعين ، ويصنفون متحاملين ؛ جذ الله عروقهم ، واستأصل شأفتهم ، وأراح العباد والبلاد منهم ؛ فقد عظمت البلوى بهم ، وعظمت آفتهم على صغار الناس وكبارهم ؛ ودب داؤهم ، وعسر دواؤهم ، وأرجو ألا أخرج من الدنيا حتى أرى بنيانهم متضغضعاً ، وساكنه متجعجعاً . قال : فما تقول في ابن الباقلاني ؟ . قلت : فما شر الثلاثة أم عمرو . . . بصاحبك الذي لا تصبحينا يزعم أنه ينصر السنة ويفحم المعتزلة وينشر الرواية ؛ وهو في أضعاف ذلك على مذهب الخرمية ، وطرائق الملحدة . قال : والله إن هذا لمن المصائب الكبار والمحن الغلاظ ، والأمراض التي ليس لها علاج . ثم قال : إن الليل قد ولى ، والنعاس قد طرق العين عابثاً ؛ والرأي أن نستجم لننشط ، ونستريح لنتعب ؛ وإذا حضرت في الليلة القابلة أخذنا في حديث الخلق والخلق - إن شاء الله - وأنا أزودك هذا الإعلام ليكون باعثاً لك على أخذ العتاد بعد اختماره في صدرك ، وتحيل الحال به عند خوضك وفيضك ولا تجبن جبن الضعفاء ، ولكن قل واتسع مجاهراً بما عندك ، منفقاً مما معك . وانصرفت .
الليلة التاسعة
وعدت ليلة أخرى فقال : فاتحة الحديث معك ، فهات ما عندك . فكان من الجواب : أن أخلاق أصناف الحيوان الكثيرة مؤتلفةٌ في نوع الإنسان ، وذلك أن الإنسان صفو الجنسالذي هو الحيوان ، والحيوان كدر النوع الذي هو الإنسان والإنسان صفو الشخص الذي هو واحد من النوع ، وما كان صفواً ومصاصاً بهذا النظر انتظم فيه من كل ضرب من الحيوان خلق وخلقان وأكثر ، وظهر ذلك عليه وبطن أيضاً بالأقل والأكثر والأغلب والأضعف ، كالكمون الذي في طباع السبع والفأرة ، والثبات الذي في طباع الذئب ، والتحرز الذي في طباع الجاموس من بنات الليل ، والحذر الذي في طباع الخنزير ، والتقدم الذي في طباع الفيل أمام قطيعه تمثلاً بصاحب المقدمة . وكذلك ضد ذلك في الخنزير تمثلاً بصاحب الساقة ، وكالحراسة التي في طباع الكلب ، وكاوب الطير إلى أوكارها التي تراها كالمعاقل وغيرها بالدغل والأشب والغياض . ولهذا قال بعض الحكماء : خذ من الخنزير بكوره في الحوائج ، ومن الكلب نصحه لأهله ، ومن الهرة لطف نفسها عند المسألة . وقالت الترك : ينبغي للقائد العظيم أن يكون فيه عسشر خصال من ضروب الحيوان : سخاء الديك ، وتحنن الدجاجة ، ونجدة الأسد ، وحملة الخنزير وروغان الثعلب ، وصبر الكلب ، وحراسة الكركي ، وحذر الغراب ، وغارة الذئب ، وسمن بعروا ، وهي دابة بخراسان تسمن على التعب والشقاء . ولما وهب الإنسان الفطرة ، وأعين بالفكرة ؛ ورفد بالعقل ، جمع هذه الخصال وما هو أكثر منها لنفسه وفي نفسه ، وبسبب هذه المزية الظاهرة فضل جميع الحيوان حتى صار يبلغ منها مراده بالتسخير والإعمال واستخراج المنافع منها وإدراك الحاجات بها ؛ وهذه المزية التي له مستفادة بالعقل ، لأن العقل ينبوع العلم ، والطبيعة ينبوع الصناعات ، والفكربينهما مستملٍ منهما ومؤدٍ بعضها إلى بعض بالفيض الإمكاني والتوزيع الإنساني ؛ فصواب بديهة الفكرة من سلامة العقل ، وصواب روية الفكرة من صحة الطباع ، وصحة الطباع من موافقة المزاج ، وموافقة المزاج بالمدد الاتفاقي والاتفاق الغيبي ؛ أعني بهذا أن وجه الحادث المجهول عندنا اتفاق ، ووجه الحادث المعلوم عند الله عز وجل غيب ؛ فلو ظهر هذا الغيب لبطل الاتفاق ، ولو بطل الاتفاق لارتفع الغيب . فانقسمت الأحداث بين ما هو على جديلة واحدة معروفة ، وبين نادر لا يدوم العهد به ، فدل ما ظهر واستمر على ما جاد به ووهب ، ودل ما غاب واستتر على ما تفرد به وغلب . ولما كان الحيوان كله يعمل صنائعه بالإلهام على وتيرة قائمة ، وكان الإنسان يتصرف فيها بالاختيار ، صح له من الإلهام نصيب حتى يكون رفداً له في اختياره ، وكذلك يكون النحل أيضاً ، صح له من الاختيار قسط في إلهامه حتى يكون ذلك معيناً له في اضطراره ، إلا أن نصيب الإنسان من الإلهام أقل كما أن قسط سائر الحيوان من الاختيار أنزر ؛ وثمرة اختيار الإنسان إذا كان معاناً بالإلهام أشرف وأدوم وأجدى وأنفع وأبقى وأرفع من ثمرة غيره من الحيوان إذا كان مرفوداً بالاختيار ، لأن قوة الاختيار في الحيوان كالحلم كما أن قوة الإلهام في الإنسان كالظل . ومراتب الإنسان في العلم ثلاث تظهر في ثلاثة أنفس ، فاحدهم ملهم فيتعلم ويعمل ، ويصير مبدأً للمقتبسين منه ، المقتدين به ، الآخذين عنه ، الحاذين على مثاله ، المارين على غراره ، القافين على آثاره ؛ وواحد يتعلم ولا يلهم فهو يماثل الأول في الدرجة الثانية ، أعني التعلم ؛ وواحد يتعلم ويلهم ، فتجتمع له هاتانالخلتان ، فيصير بقليل ما يتعلم مكثراً للعمل والعلم بقوة ما يلهم ويعود بكثرة ما يلهم مصفياً لكل ما يتعلم ويعمل . والكلام في هذه المواضع ربما جمح فلم يمكن كفه ، فينبغي أن يضح العذر إذا عرض تفاوتٌ في الترتيب ، ودخل الخلل من ناحية التقريب . وقال أبو سليمان لنا في هذه الأيام : الإنسان بين طبيعته وهي عليه وبين نفسه وهي له ، كالمنتهب المتوزع ، فإن استمد من العقل نوره وشعاعه قوي ما هول له من النفس ، وضعف ما هو عليه من الطبيعة وإلا فقد قوي ما هو عليه من الطبيعة وضعف ما هو له من النفس . وحكى لنا فقال : كان للحكماء الأولين مثلٌ يضربونه ويكتبونه في هياكلهم ومتعبداتهم وهو : الملك الموكل بالدنيا يقول : إن ههنا خيراً وههنا شراً ، وههنا ما ليس بخير ولا شر ، فمن عرف هذه الثلاثة حق معرفتها تخلص مني ، ونجا سليماً ، وبقي كريماً ، وملك نعيماً عظيماً . ومن لم يعرفها قتلته شر قتلة ، وذلك أني لا أقتله قتلاً وحياً يستريح به مني ، ولكن أقتله أولاً فأولاً في زمان طويل ، بحسرات على فوت مأمول بعد مأمول ، وبلايا يكون بها كالمغلول المكبول . قال : هذا كلام شريف في أعلى ذروة الحكمة ، لكنك خليت يدك من طرف الحديث في الخلق . قلت : إذا طاب الحديث باسترسال السجية ووقوع الطمأنينة لها الإنسان عن مباديه ، وسال مع الخاطر الذي يستهويه ، ولتحفظ الإنسان في قوله وعمله من الخطل والزلل حدٌ بلغه كل الخاطر واختل .ثم نعود فنقول : أخلاق الإنسان مقسومة على أنفسه الثلاث : أعني النفس الناطقة ، والنفس الغضبية ، والنفس الشهوانية ، وسمات هذه الأخلاق مختلفة بعرض واسع . ويمكن أن يقال في نعتها على مذهب التقريب : إنها بين المحمودة وبين المذمومة ، وبين المشوبة بالحمد والذم ، وبين الخارجة منهما . فمن أخلاق النفس الناطقة - إذا صفت - البحث عن الإنسان ثم عن العالم ، لأنه إذا عرف الإنسان فقد عرف العالم الصغير ، وإذا عرف العالم فقد عرف الإنسان الكبير ، وإذا عرف العالمين عرف الإله الذي بجوده وجد ما وجد ، وبقدرته ثبت ما ثبت ، وبحكمته ترتب ما ترتب ؛ وبمجموع هذا كله دام ما دام . بهذا البحث يتبين له ما تشتمل عليه القوة الغضبية والقوة الشهوية فإن توابع هاتين القوتين أكثر ، لأنهما بالتركيب أظهر ، وفي الكثرة أدخل وعن الوحدة أخرج ؛ فإذا ساستهما الناطقة حذفت زوائدهما ، ونفت فواضلهما ، ووفت نواقصهما ، وذيلت قوالصهما أعني إذا رأت غلمةً في الشهوية أخمدت نارها ، وإذا وجدت السرف في الغضبية قصرت عنانها ؛ فحينئذ يقومان على الصراط المستقيم ، فيعود السفه حلماً أو تحالماً ، والحسد غبطةً أو تغابطاً والغضب كظماً أو تكاظماً ، والغي رشداً أو تراشداً ، والطيش أناةً أو تآنياً وصرفت هذه الكوامن في المكامن - إذا سارت سورتها ، وثارت ثورتها - على مناهج الصواب ، تارةً بالعظة واللطف ، وتارةً بالزجر والعنف ، وتارةً بالأنفة وكبر النفس ، وتارةً بإشعار الحذر ، وتارةً بعلو الهمة ؛ وهناك يصير العفو عند القادر ألذ من الانتقام ، والعفاف عند الهائج ألذ من قضاءالوطر ، والقناعة عند المحتاج أشرف من الإسفاف ، والصداقة عند الموتور آثر من العداوة ، والمذاراة عند المحفظ أطيب من المماراة . وفي الجملة الخلق الحسن مشتق من الخلق ، فكما لا سبيل إلى تبديل الخلق كذلك لا قدرة على تحويل الخلق ، لكن الحض على إصلاح الخلق وتهذيب النفس لم يقع من الحكماء بالعبث والتجزيف ، بل لمنفعة عظيمة موجودة ظاهرة ، ومثاله أن الحبشي يتدلك بالماء والغسول لا ليستفيد بياضاً ، ولكن ليستفيد نقاءً شبيهاً بالبياض ؛ ويقال للمهذار : اكفف لا ليكف عن النطق ، ولكن ليؤثر الصمت . ويقال للموتور : لا تحقد لا ليزول عنه ما حنق عليه ، ولكن ليتكلف الصبر ويتناسى الجزاء على هذا أبداً . وقد تقرر بالحكمة الباحثة عن الإنسان وطرائق ما به وفيه أن أحواله مختلفة ، أعني أن كل ما يدور عليه ويحور إليه مقابل بالضد أو شبيهٍ بالضد كالحياة والموت ، والنوم واليقظة ، والحسن والقبيح ، والصواب والخطأ ، والخير والشر ، والرجاء والخوف ، والعدل والجور ، والشجاعة والجبن ، والسخاء والبخل ، والحلم والسفه ، والطيش والوقار ، والعلم والجهل ، والمعرفة والنكرة ، والعقل والحمق ، والصحة والمرض ، والاعتدال والانحراف ، والعفة والفجور ، والتنبه والغفلة ، والذكر والنسيان ، والذكاء والبلادة ، والغبطة والحسادة ،والدماثة والكزازة ، والحق والباطل ، والغي والرشد ، والبيان والحصر ، والثقة والارتياب ، والطمأنينة والتهمة ، والحركة والسكون ، والشك واليقين ، والخلاعة والوقار ، والتوقي والتهور ، والإلف والملل ، والصدق والكذب ، والإخلاص والنفاق ، والإحسان والإساءة ، والنصح والغش ، والمدح والذم ، وعلى هذا الجر والسحب ؛ ولعل هذه الصفات بلا آخر ولا انقطاع . فمما ينبغي أن يعني الإنسان المحب للتبصرة ، المؤثر للتذكرة ، الجامع للنافع له ، النافي للضار به في هذه الأحوال التي وصفناها بأسمائها معرفةً - ما استطاع - باجتلاب محمودها واجتناب مذمومها ، وتمييزه مما يكمن فيه أو تقليله ، أو إطفاء جمرته ، أو اجتناء ثمرته ، والطريق إلى هذا التمييز واضح قريب ، كأن تنظر إلى الحياة والموت فتعلم أن هذين ليسا من الأخلاق ولا مما يعالج بالاجتهاد ، وإلى النوم واليقظة فتعلم أنهما ضروريان للبدن من وجه ، وغير ضروريين من وجه ، فتنفى منهما ما خرج عن حد الضرورة وتسلم البدن ما دخل في حد الضرورة ؛ ولا يكثرن الإنسان نومه ولا سهره ، ولكن يطلب العدل بينهما بقدر جهده . فأما الحسن والقبيح فلا بد له من البحث اللطيف عنها حتى لا يجور فيرى القبيح حسناً والحسن قبيحاً ، فيأتي القبيح على أنه حسن ، ويرفض الحسن على أنه قبيح ؛ وماشىء الحسن والقبيح كثيرة : منها طبيعي ، ومنها بالعادة ، ومنها بالشرع ، ومنها بالعقل ، ومنها بالشهوة ، فإذا اعتبر هذه المناشىء صدق الصادق منها وكذب الكاذب ، وكان استحسانه على قدر ذلك ومثال ذلك الكبر فإنه معيب بالنظر الأول ، لكنه حسنٌ في موضعه بالعلةالداعية إليه ، والحال الموجبة له . وأما الصواب والخطأ فأمران عارضان للأقوال والأفعال والآراء ، وليسا بخلقين محضين ، ولكنهما موكولان إلى نور العقل ، فما أشرق عليه العقل بنوره فهو صواب ، وما أفل عنه العقل بنوره فهو خطأ . وأما الخير والشر فهما في العموم والشمول ليسا بدون الصواب والخطأ لهما مناط بكل شيء ، ويغلبان على الأفعال ، وإن كان أحدهما عدماً للآخر . وأما الرجاء والخوف فهما عرضان للقلب بأسباب بادية وخافية ، ولا يدخلان في باب الخلق من كل وجه ولا يخرجان أيضاً بكل وجه وهما كالعمادين للإنسان قد استصلح لهما ، وربط قوامه بغلبتهما وضعفهما . وأما العدل والجور فقد يكونان خلقين بالفطرة ، ويكونان فعلين بالفكرة وجانباهما بالفعل ألصق ، وإلى الاكتساب أقرب . وأما الشجاعة والجبن فهما خلقان متصلان بالخلق ، ولهذا يعز على الشجاع أن يتحول جباناً ، ويتعذر على الجبان أن يصير شجاعاً ، وكذلك طرفاهما داخلان في الخلق أعني التهور والتوقي . وأما السخاء والبخل فهما خلقان محضان أو قريبان من المحض ، ولهذا تعلق الحمد والذم بهما وبأصحابهما ، والمدح والهجو سريا إليهما واتصلا بهما ؛ وقد يندم السخي على بذله كثيراً خوفاً من الإملاق ، فلا يستطيع ذلك إذا أخذت الأريحية ، وحركته اللوذعية ؛ وقد يلوم البخيل نفسه كثيراً إذا سلقته الألسنة الحداد ،وجبه بالتوبيخ ، وشمخ عند رؤيته الأنف ، وغضن الجبين وأولم بالعذل وقوبل ؛ ومع ذلك فلا يرشح إلا على بطء وكلفة وتضجر ؛ والكلام في هذين الخلقين طويل ، لأنهما أدخل في تلاقي الناس وتعاطيهم في عشرتهم ومعاملتهم . وأما الحلم والسفه فهما أيضاً خلقان ، والأخلاق تابعة للمزاج في الأصل ، ولذلك قلنا : إن الخلق ابن الخلق ، والولد شبيهٌ بوالده ؛ وفي الجملة ، كل ما يمكن أن يقال فيه للإنسان لا تفعل هذا ، وأقلل من هذا وكف عنه ، فإنه في باب الأفعال أدخل ، وكل ما لم يجز أن يقال ذلك فيه فهو في باب الأخلاق أدخل ، ثم لبعض هذا نسبة إلى الخلق أو الخلق ، إما ظاهرة غالبة وإما خفية ضعيفة . وأما الطيش والوقار فهما يختلطان بالحلم والسفه ويجريان معهما ؛ فليس ينبغي أن ينشر الكلام ويطول الشرح . وأما الجهل والعلم فليسا من الأخلاق ولا من الخلق وإنما يبرزان من صاحب الأخلاق والخلق للمزاج أثرين قويين واحدهما عدم والآخر وجدان ، والعدم لا يكون أعدم من عدم ، والوجدان يكون أبين من وجدان . وأما المعرفة والنكرة فهما في جوار العلم وضده ، ولكنهما أعلق بالحس وألصق بالنفسين ، أي الشهوية والغضبية . وأما العقل والحمق فليس من الخلق ، والكلام في تفسير العقل مشهور ، وعدمه الحمق . وأما الصحة والمرض فليسا أيضاً من الأخلاق ، ولكنهما يوجدان في الإنسان بواسطةالنفس ، إما في البدن ، وإما في العقل ، ولذلك يقال : أمراض البدن ، وأمراض النفس ، وصحة البدن وصحة النفس . وأما الاعتدال والانحراف فهما يدخلان في الخلق بوجه ، ويخلصان منه بوجه ، ويعمان أعراض البدن وأعراض النفس ، ويوصف بهما الإنسان ، على أن الانحراف المطلق لا يوجد ، والاعتدال المطلق لا يوجد ، ولكن كلاهما بالإضافة . وأما العفة والفجور فخلقان لهما جمرة وهمود ، والحاجة تمس إلى العدل في استعمال العفة ونفي الفجور ، وإذا قويت العفة حالت العصمة ، وإذا غلب الفجور صار عدواناً . وأما التنبيه والغفلة فقريبان من الخلق ويغلبان على الإنسان ، إلا أن فرط التنبيه موصولٌ بالوحي ، وفرط الغفلة موصول بالبهيمية . وأما الذكر والنسيان فليسا بخلقين محضين ، ومنشؤهما بالمزاج ، وأحدهما من علائق النفس العالمة ، والآخر من علائق النفس البهيمية . وأما الذكاء والبلادة فهما خلقان ، ونعتهما كنعت الذكر والنسيان ، إلا أن هذين يعرضان في الحين بعد الحين ، والأخريان كالراسخين في الطينة . وأما الغبطة والحسد فخلقان رسم الأول منهما بأن تتمنى لنفسك ما أوتيه صاحبه ورسم الثاني بأن تتمنى زوال ما أوتيه صاحبك وإن لم يصل إليك . ورسوم هذهالأخلاق أسهل من تحديدها ، لكنا تركنا ذلك ، لأن الكلام الذي كان يجري هو على مذهب الخدمة . على أن مراتب هذه الأخلاق مختلفة ، فيبعد أن يعمها حد واحد ، وإنما اختلفت منازلها لأنها تارة تصفو بقوة النفس الناطقة ، وتارة تكدر بالقوانين الأخريين ؛ ولبعضها حدة بالزيادة ، ولبعضها كلة بالنقص ، فلم يكن التحديد يفصل كل ذاك ، فلم نعرج على شيء عجزنا عنه قبل أخذنا فيه . وتتم بقية ما علق بهذه الجملة ، فنقول : وأما الدماثة والكزازة فخلقان محضان تابعان للمزاج ، ثم المران يزيدهما قوة وضعفاً ؛ وهما للنعت أقرب ، كالسهولة والعسر ؛ ولذلك يقال : ما أدمث هذه الأرض ، أي ما أرخاها وألينها ؛ وفي المثل : دمث لجنبك قبل النوم مضجعاً . وأما الحق والباطل فليسا من الخلق ولا الخلق في شيء ، وهما من نتائج المعرفة والنكرة ، لأنك تعرف الحق وتنكر الباطل ، وذلك لأغراض تتبعهما ، ولواحق تلتبس بهما . وأما الغي والرشد فليسا من الخلق ، لكنهما من علائق الأفعال الحميدة والذميمة ؛ وللرأي والعقل فيهما مدخل قوي وحظ تام . وأما البيان والحصر فليس بينهما وبين الخلق علاقة ، وإنما يتبعان المزاج ويزيد فيهما وينقص الجهد والتواني والطلب والقصور . وأما الثقة والارتياب فخلقان يغلبان ينفعان ويضران ويحمدان ويذمان ألا ترى أنه يقال : لا تثق بكل أحد ، ولا ترتب بكل إنسان وهكذا الطمأنينة والتهمة ، لأنهما في طيهما . وأما الحركة والسكون فليسا من حديث الخلق في شيء لأنهما عامان لجميعالأحوال سواء كان العمل مباشراً أم كان معتقداً ؛ وفي الحركة والسكون كلامٌ واسع ، وذلك أن ههنا حركةً إلهيةً ، وحركةً عقلية ، وحركةً نفسية ، وحركةً طبيعية ، وحركة بدنية ، وحركة فلكية ، وحركة كوكبية ، وحركةً كأنها سكون . فأما السكون فهو ضرب واحد ، لأنه في مقابلة كل حركة ذكرناها . فإذا اعتبرت هذه المقابلة في كل مقابل لحظ الانقسام في السكون ، كما وجد الانقسام في الحركة . والحركة أوضح برهان على كل موجود حسي ، والسكون أقوى دليل على كل موجودٍ عقلي ؛ وهذا القدر كافٍ في هذا الموضع . وأما الشك واليقين ، فمن علائق النفس الناطقة ، ولهذا لا يقال في الحيوان الذي لا ينطق : له يقين وشك . وأما الخلاعة والوقار ، فقد تقدم البحث عنهما . وأما التوقي والتهور ، فهما خلقان في جميع الحيوان ، ويغلبان على نوع الإنسان ، لأن العقل يبطل أحدهما ، والحس يغلب الآخر . وأما الإلف والملل فخلقان محضان ، يذمان ويحمدان على قدر المألوف والمملول ، وإن كان جريان العادة قد وفر الحمد على الإلف ، والذم على الملل . وقد مدح زيد فقيل : هو ألوف . وذم عمرٌو فقيل : هو ملول . وأما الصدق والكذب ، فمن علائق النفس الناقصة والكاملة ؛ وقد يكونان راسخين فيلحقان بالخلق ، إلا أن الصدق ممدوح ، والكذب مذموم ، هذا في النظر الأول ، وقد يعرض ما يوجب المصير إلى الكذب لينجى به ؛ فهما إذن بعد الحقيقة الأولىوقفٌ على الإضافة ؛ وقد وجدنا من كذب لينتفع ، ولم نجد من صدق ليكتسب الضرر . وأما الإخلاص والنفاق ، فهما يلحقان بالخلق ، ولكنهما يصدران عن عقيدة القلب وضمير النفس . وأما الإحسان والإساءة ، فهما يعمان الأفعال والأقوال ، فإذا رسخ اعتيادهما استحالا خلقين . وأما النصح والغش ، فهما خلقان ، وطرفاهما يتعلقان بالخلق . وكذلك الطمع واليأس ، والحب والبغض ، واللهج والسلو ، وما شاكل هذا الباب . ولم يجر هذا كله في المذاكرة بالحضرة ، ولكن رأيت من تمام الرسالة أن أضم هذا كله إلى حومته ، وأبلغ الممكن من مقتضاه في تتمته . وقال لي : هات الوداع ، فإن الليل قد هم بالإقلاع . قلت : قال أبو سعيد الذهبي الطبيب : لو علم الذي يحمل الباذنجان أن على ظهره باذنجاناً لصال على الثيران . فضحك - أضحك الله سنه ، وحقق في كل خير ظنه - وقال : إن كنت تحفظ في غرائب أخلاق الحيوان شيئاً فاذكره إذا حضرت ، فقد مر في أخلاق الإنسان ما يكفي مجلس الإمتاع والمؤانسة ، فإذا ضم هذا إلى ذاك كان للإنسان فيه تبصر كافٍ ، وتذكرٌ شافٍ . وصدق - صدق الله قوله - لأن الإنسان أشرف الحيوان ، وإنما كان هكذا لأنه حاز جميع قوى الحيوان ثم زاد عليه بما ليس لشيء منه ، فصار رباً له سائساً ، ومصرفاً له حارساً ، ونظر إلى ما سخر له منه فاعتبر ، وقاد نفسه إلى حسن ما رأى ، وعزفهاعن قبيح ما وجد ، ولم يجز في الحكمة أن يحرم الإنسان هذا مع ما فيه من المواهب السنةي ؛ والمنائح الهنية ، فإن قال قائل : فالملائكة إذن قد حرمت هذه الفضيلة ، فليعلم هذا القائل أن الملك لما خلق كاملاً لم يكلف أن يكمل ويتكامل ويستكمل ، فصار كل شيء يطلبه ويتوقاه سبباً إلى كماله المعد له وغايته المقصودة . فإن زاد فقال : فهلا خلق كاملاً ؟ فليعلم أن كلامه على طريق الجدل ، لا عىل طريق البحث عن العلل ، لأنه قد جهل أنه بالحكمة وجب أن يكون الأمر مقسوماً بين ما يجوز الكمال بالجبلة ، وبين ما يكسب الكمال بالقصد . ولما وجب هذا بالحكمة سرت إليه القدرة ، وساح به الجود ، واشتملت عليه المشيئة ، وأحاطت به الحكمة ، وشاعت فيه الربوبية . وههنا زيادةٌ في شرح الخلق يتم بها الكلام ؛ فليس من الرأي أن يقع الإخلال بذكرها ، لأنها مكشوفة ظاهرة ، وهي أن الإنسان إذا غلبت الحرارة عليه في مزاج القلب يكون شجاعاً بذالاً ملتهباً ، سريع الحركة والغضب قليل الحقد ، زكي الخاطر ، حسن الإدراك . وإذا غلبت عليه البرودة يكون بليداً ، غليظ الطباع ، ثقيل الروح . وإذا غلبت عليه الرطوبة يكون لين الجانب ، سمح النفس ، سهل التقبل كثير النسيان . وإذا غلبت عليه اليبوسة يكون صابراً ، ثابت الرأي ، صعب القبول يضبط ويحتد ، ويمسك ويبخل ؛ وهذا النعت على هذا التنزيل - وإن كان مفهوماً - فأسرار الإنسان في أخلاقه كثيرة وخفية ، وفيها بدائع لا تكاد تنتهي ، وعجائب لا تنقضي ؛ وقد قال الأول :كل امرىء راجعٌ يوماً لشيمته . . . وإن تخلق أخلاقاً إلى حين وقال آخر : ارجع إلى خيمك المعروف ديدنه . . . إن التخلق يأتي دون الخلق ولولا أن النزوع عن الخلق شاقٌ لما قالوا : تخلق فلان . وقد قيل أيضاً : ' وخالق الناس بخلق حسن ' ، وعلى هذا يجري أمر الضريبة والطبيعة والنحيتة والغريزة والنحيزة والسجية والشيمة ، وربما قيل : الطبيعة أيضاً ، ثم العادة تاليةٌ لهذه كلها ، أو زائدة فيما نقص فيها ، وموقدة لما خمد منها .
الليلة العاشرة
ولما عدت في الليلة الأخرى ونعمت بهذه الفضيلة ، تفضل وقال : ما في العلم شيءٌ إلا إذا بدىء بالكلام فيه اتصل وتسلسل حتى لا يوجد له مقطع ولا منفذ ثم قرأت عليه نوادر الحيوان ، وغرائب ما كنت سمعته ووجدته ، فزاد عجباً وأنا أرويه في هذا المكان حتى يكون تذكرةً وفائدة - إن شاء الله تعالى . يقال : إن أسنان الرجل اثنتان وثلاثون سناً . وأسنان المرأة ثلاثون سناً . وأسنان الخصى ثمانٌ وعشرون سناً . وأسنان البقر أربعٌ وعشرون سناً . وأسنان الشاة إحدى وعشرون سناً . وأسنان التيس ثلاث وعشرون . وأسنان العنز تسع عشرة سناً . الذي ذكر من أصناف الحيوان أنه يكتسب معاشه ليلاً : البومة والوطواط . ومن الحيوان الوحشي ما يستأنس سريعاً : الفيل .ويحكى أن الحيوان الذي أسنانه قليلة عمره قصير ، والذي أسنانه كثيرة عمره طويل . الفيل إذا ولد نبتت أسنانه في الحال ، فأما أسنانه الكبار وأنيابه الكبار فتظهر إذا شب وكبر . قلب جميع الحيوان موضوعٌ في الوسط من الصدر ما خلا الإنسان ، فإن قلبه مائل إلى الجانب الأيسر . الأفعى تبيض في رحمها ، ثم يصير هناك حيواناً . الشعر المولود مع الإنسان شعر الرأس والأشفار والحاجبين . وأول ما ينبت بعد ذلك شعر العانة وشعر الإبطين وشعر اللحية : إن خصي الإنسان قبل احتلامه لم ينبت في جسده الشعر الذي يتأخر نباته ، وإن خصي بعد احتلامه فإن ذلك الشعر يزول ، ما خلا شعر العانة فإنه يبقى . شعر الحاجبين ربما طال عند الكبر . وشعر الأشفار لا يطول . للأرانب في داخل أشداقها شعر ، وكذلك تحت أرجلها . القنفذ في فيه خمس أسنان في عمقه . والبرية منها تسفد قائمة وظهر الأنثى لاصق بظهر الذكر . الرجال يشتاقون إلى الجماع في الشتاء ، والنساء في الصيف . الخنزير إذا تمت له من ولادته ثمانية أشهر ينزو على الأنثى . الكلبة تحمل وتبقى ستين يوماً ويوماً ، وهذا أطول ما يكون ، ولا تضع قبل أن يتم حملها ستين يوماً ، فإن وضعت قبل ذلك فإنها لا تربي ولا يبقى لها ولد . الفيل الذكر ينزو إذا تمت له خمس سنين ، وزمان هياجه ونزوه أيام الربيع والأنثى تحمل سنتين ، ولا تضع إلا واحداً .إذا باض الطائر وما كان من أصنافه يخرج من البيضة الطرف العريض ثم يرق بعد ذلك . كل ما كان من البيض مستطيلاً محدد الطرف فهو يفرخ الإناث وما كان مستديراً عريض الأطراف يفرخ الذكور . وجرب من إناث الطير أنها إذا لم تجلس على البيض تمرض . القبج إذا هاج ووقفت الأنثى قبالة الذكر ، وهبت الريح من ناحية الذكر مقبلة إلى ناحيتها حملت من ساعتها . الحمامة إذا نتفت ريشة من ريشها احتبس بيضها أكثر مما لها بالطبع . مبدأ خلق الفرخ من بياض البيضة ، وغذاؤه من الصفرة ، فإذا خرج فرخان كان أحدهما أكبر جثةً من الآخر ، والذكر منهما من البيضة الأولى ومن الثانية الأنثى . الفاختة تعيش أربعين عاماً . والحجل يعيش عشرين عاماً . الرخمة تفرخ على صخور مشرفة عالية لا ينالها أحد ، ولا توجد رخمة وفراخها إلا في الفرط . العقاب يجلس على البيض ثلاثين يوماً ، وكذلك كل طائر عظيم الجثة مثل الإوز وما أشبهه ، والمتوسط الجثة يجلس على البيض عشرين يوماً ، كالحدأة والبزاة وما أشبه ذلك . إناث الغربان تجلس على البيض جلوساً دائماً ، والذكر يأتيها بالطعم حينئذ .الحجل تعمل عشين يجلس الذكر على واحد ، والأنثى على واحد . الطاوس يعيش خمساً وعشرين سنة ، وفي هذه المدة تنتهي ألوان ريشه . ويحضن بيضه ثلاثين يوماً ، قيل : وربما أكثر قليلاً ، ويبيض في كل سنة مرة واحدة ، وعدد بيضه اثنتي عشرة بيضة ، ويلقي ريشه في زمن الخريف وبعده قليلاً ، وذلك حين كيلقي الشجر ورقه ، فإذا بدا أول الشجر وظهرت فروعه ، ونبت ورقه بدأ ريشه ينبت . الدلفين له لبن ، ويرضع ، ويحمل عشرة أشهر ، وتلد في الصيف ولا تلد في زمانٍ آخر البتة ، وربما غاب تحت الموج في الماء ثلاثين يوماً لا يظهر ؛ وهو محب لخرئه يأكله . الجمل الذكر يكره قرب الفرس ويقاتله إذا تمكن منه . الشاة إن مطرت بعد نزوها انتقض حملها . الغنم إذا أنزيت والريح جنوبٌ تضع اولادها إناثاً ؛ وإن كانت العروق التي تحت ألسن الكباش الفحول بيضاً فإن إناث الغنم تضع حملاناً بيضاً ، وإن كانت العروق سوداء فإنها تضع حملاناً سوداً . وإن كانت لونين تكون مختلفة ؛ وإن كانت شقراً خرجت شقراً . الغنم إذا هاجت المسنة منها أولاً فالسنة ذات خصب ، وإن هاجت الفتية أولاً فالسنة رديئةٌ على الغنم . الكلب السلوقي ينزو إذا تم له ثمانية أشهر ، والأنثى منها تحمل ستين يوماً ، وربما زادت يوماً أو يومين ، وجراؤها عميٌ اثنين وعشرين يوماً . ومنها ما تحمل ثلاثة أشهر وتكون جراؤها عمياً سبعة عشر يوماً . إناث الكلاب تطمث في كل سبعة أيام وتبول جالسة ، ومنها ما ترفع رجلها عند البول . ذكور الكلاب ترفع أرجلها للبول إذا تمت لها من ولادتها ثمانية أشهر وبعضها في ستة أشهر .ذكور الكلاب السلوقية تعيش عشر سنين ، وإناثها اثنتي عشرة سنة ، ومن أجناسها ما تعيش عشرين سنة ، وإناثها كلها أطول أعماراً من الذكور . قال أوميروس الشاعر : إن كلب إديوس هلك وهو ابن عشرين سنة . وليس تلقى الكلاب شيئاً من أسنانها سوى النابين ، فإذا تم للكلب أربعة أشهر أبقاهما . البقر تلقي أسنانها لسنتين ، وإذا كثر نزو الذكور منها وحمل الإناث يكون ذلك علامة شتاء وجود أمطار وخصب ، وإناثها تطمث . إناث الخيل تضع أولادها في أحد عشر شهراً ، أو في الثاني عشر . الحيات رغبةٌ نهمة ، قليلة شرب الماء ، لأنها لا تضبط أنفسها ، وإذا شمت الشراب فإنها تشتاق إليه جداً . الأسد إذا بال رفع رجله كما يرفع الكلب . البقر تشتهي شرب الماء الصافي النقي ، والخيل على الضد فإنها تشرب مثل الجمال الماء الكدر الغليظ . الغنم في الخريف تشرب الماء الذي تصيبه ريح الشمال ، وذلك الوقت أوفق لها . الدراج إذا هبت الريح شمالاً تتزاوج وتخصب ، وإن كانت جنوباً ساءت حالها ومرضت . السمك الذي يأوي إلى الشطوط من ناحية البر ألذ من الذي يأوي اللجج وما كان منها مستطيل الجثة فهو يخصب في الصيف وهبوب الشمال ؛ والعريض الجثة على ضد ذلك ، وأكثر ما يصاد السمك قبل طلوع الشمس لكلبه على الرعي ، وطلب الطعم . والسمك الجاسي الجلد يخصب في السنة المطيرة ، لأن ماء البحر يحلو فيها . الكلب له ثلاثة أمراض : الكلب ، والذبحة - وهو القاتل لها - والنقرس .والداء الذي يقال له الكلب يعرض للجمال أيضاً ؛ فإذا كلب الجمل نحر ولم يؤكل لحمه . الخيل إذا ألقت حوافرها وقت تنصل نبت لها حافر آخر عاجلاً ، لأن نباته يطلع مع نصول الحافر . وعلامة ذلك اختلاج الخصية اليمنى . ويعرض للخيل داء شبيه بالكلب ، وعلامته استرخاء آذانها إلى ناحية أعرافها ، وامتناعها من العلف ، وليس لهذا الداء علاج إلا التسكين . لا يكون في بلد الهند خنزير . لا أنيسٌ ولا بري ، وفي أرض تعرف بكذا يجز البقر كما يجز الغنم ، وفي أرض النوبة تولد الكباش نابتة القرون . وإناث الكلاب السلوقية أسرع إلى الأدب من الذكور . جميع أجناس الحيوان إناثها أقل جرأة وأجزع ، ما خلا الذئبة ، فإنها أصعب خلقاً وأجرأ من الذكور . العقاب والتنين يتقاتلان ، والعقاب تأكل الحيات حيثما وجدتها . الغداف يخطف بيض البومة نصف النهار فيأكله ، لأن البومة لا تبصر بصراً حاداً في ذلك الوقت . فإذا كان الليل شدت البومة على بيض الغذاف فأكلته . بين العنكبوت وبين الحرذون شر ، لأن الحرذون يأكل العنكبوت . عصفور الشوك يقاتل الحمار ، لأن الحمار إذا مر بالشوك أفسد عشه ، فإذا نهق بالقرب منه وقع بيضه ، وإن كان فيه فراخ خرجت منه ، فلهذه العلة يطير هذا العصفور حول الحمار وينقره . الغراب يعادي الثور والحمار وينقرهما .والحية تعادي الخنزير وابن عرس ، لأنهما يأكلان الحية حيث وجداها . الغداف مصادق للثعلب ، والثعلب مصادق للحية ، والسبب في عداوة العصفور للحمار أن معاش العصفور في بزر الشوك وفيه يبيض ، وهو وكره ، والحمار يرعى ذلك الشوك إذا كان رطباً . البقر يكون في الجبال إذا ضلت بقرة تبعتها الأخرى ، ولذلك الرعاة إذا لم يجدوا بقرة واحدة وعدموها طلبوا سائر البقر وفقدوها من ساعتهم . الخيل إذا ضلت الأنثى منها أو هلكت ولها ولد فإن إناث الخيل ترضعه وتربيه ، وذلك أن جنس الخيل في طباعها حب أولادها . الأيايل تلقي قرونها في أماكن عسرة صعبة ، لا ترتقى لئلا تؤخذ ؛ ولذلك قيل في المثل : حيث تلقي الأيايل قرونها ، فإذا ألقتها توقت أن تظهر إلى أن تنبت ، كأنه قد ألقت سلاحها . وقيل : إنه لم يعاين أحد القرن الأيسر من قرنيها ، لأن فيه منفعة عظيمة . وإذا وضعت أولادها أكلت مشائمها من ساعتها ، ولا يمكن أخذها لأنها تأكلها من قبل أن تقع على الأرض . والأيلة تصاد بالصفير والغناء ، ويفعل ذلك رجلان أحدهما يغني ويصفر ، والآخر يرشقها بالسهام ، فلإصغائها إلى الصفير والغناء لا تحذر السهام . ويقال إن الأيل إذا كانت أذناه قائمتين فهو يسمع كل شيء ولا يخفى عليه ما يراد به ، وإن كانتا مسترخيتين خفي ذلك عليه . الفهد إذا أكل العشبة التي تسمى خانقة الفهود يطلب زبل الإنسان فيأكله ويتعالج به . ابن عرس إذا قاتل الحيلة أكل السذاب مخالفة للحية . اللقالق إذا خرجت من قتال بعضها بعضاً تضع على الجرحصعتراً برياً . يقال إن ذكور العصافير تبقى سنة فقط ، والدليل على ذلك - أنها من قبل أطواقها التي في أعناقها - لا تظهر في الربيع ، بل بعد ذلك بأيام ، لأنها لا تبقي شيئاً من الذكور التي كانت من العام الماضي ، فأما إناثها فهي أطول أعماراً . إذا دنا الصياد من عش القبج تخرج الأنثى من بين يديه وتطعمه في صيدها حتى تهرب فراخها ، ثم تطير وتدعو فراخها إليها . وإناث القبج تبيض خمس عشرة بيضة ، والذكر منها يطلب موضع بيض أنثاه فيدحرجه - مخافة أن تقعد عليه وتشتغل عنه - فيفسده ، وهي تحتال أبداً في الهرب منه وتخفي موضع عشها ، فتبيض في أماكن خفية ، ومتى قصدها قامت عنه وأطعمت في نفسها حتى تبعد عن أماكن بيضها ، فإذا بعد طارت ثم احتالت في الرجوع إليه . الهدهد يعمل عشه من زبل الإنسان ، فلذلك رائحته كريهة . العقاب تصيد منذ حين الغداة إلى وقت الرواح ، فأما من أوان الرواح إلى أن يترحل النهار فهي قاعدة في مكانها لا تتحرك . ومنقار العقاب الأعلى ينشأ ويعظم ويتعفف حتى يكون ذلك سبب هلاكها لأنها لا تنال به الطعم ، فإذا فضلت للعقاب فضلةٌ من طعمه وضعها في عشه لحاجة فراخه إليها . أصناف الطير المتفقة المعقفة المخالب لا تجلس على الصخر إلا في الفرط ، لأن خشونة الصخر مخالفةٌ لتعقف مخالبها . النحل تعمل عشها في زمانين : في الربيع والخريف . والعسل الذي تعمله في الربيع أشد بياضاً وأجود من الذي تعمله في الخريف . وأضعف العسل يكون أبداً في أعلى الإناء ، والنقي الطيب في أسفله .الأسد عظامه جاسية جداً ، وإن دلكت بعض عظامه ببعض خرجت منها نار كما تخرج من الحجارة . الحيوان الذي له شعر في أشفار عينيه ليس في أشفار عينيه شعر إلا الشعر الأعلى . والنعامة لها أشفار في الجفنين الأعلى والأسفل . القنفذ تبيض خمس بيضات ، وليس بيضاً بالحقيقة ، بل هو على صورة البيض ، يشبه الشحم . قلب كل حيوان طرفه حاد ، وهو أصلب من سائر جسده ، وهو موضوع في وسط الصدر سوى الإنسان ، فإنه مائل فيه إلى الناحية اليسرى ، لأنه يكون بإزاء الجانب الأيسر فيعادل الناحية اليمنى ، فإن اليسرى من الإنسان أكثر برداً . وليس في قلوب جميع الحيوان عظم إلا في الخيل ، وفي جنس من البقر ، فإن في قلب هذين عظماً دون غيرهما من الحيوان . وكل حيوان له قلبٌ كبيرٌ يكون جزوعاً . الكلاب الهندية تتولد من كلب وسبع شبيه بالكلب . والحمار حيوان بارد ، ولذلك لا يكون الوحشي منها إلا في المكان البارد . ذكور البغال لا تشم أبوال إناثها كسائر ذوات الحافر . بيض الطير فيه لونان : بياض وصفرة . وبيض السمك فيه لون واحد . إذا كانت الريح جنوباً كان المولود أنثى ، لأن الجنوب إذا هبت رطبت وإذا أشملت كان المولود ذكراً .عيون جميع الصبيان ساعة ولادتهم شهل ، ثم تنتقل إلى الطباع الغالبة عليها . وعيون جميع الحيوان لون واحد ، كالبقر فإن عيونها سود . وعيون البشر ألوان كثيرة . صاحب العين الناتئة لا يبصر ما بعد عنه بصراً جيداً ، والغائرة تبصر ما بعد عنها ، لأن حركتها لا تتفرق ولا تتبدد . الفهد ربما نكح الدب فيتولد بينهما سبع مختلف المنظر ، لا يتناول الناس ويصيد الكلاب ، ويأكلها ويستخفي في البحر ، فإذا مر به أيلٌ مفاجأة وثب عليه وأنشب مخالبه في أكتافه ومص دمه حتى يضعف الأيل ويسقط فيجتمع عليه هذا الصنف من السباع فيأكله ، فإن اجتاز بها أسد نضهت عنه وتركت الفريسة له تقرباً إليه . بأرض يونان معزى جعدة الصوف ، يقال لها : المعزى البرية ، فإذا أصابت قرونها شيئاً من قضبان الكرم ولم ينبت ورقه ولا ثمره ، بل يجف مكانه ويسقط ما عليه من الورق والثمر . السلحفاة تخرج من البحر إلى الرمل فتبيض فيه ، حتى إذا بلغ أوانه وخرج أولادها ، فما كان ناظراً إلى ناحية البحر كان بحرياً ، وما كان وجهه إلى ناحية البر كان برياً . والسلاحف تمتنع من الذكران ، فيأتيها بعود يحمله في فمه ، ويدنو منها ، فإذا رأت ذلك العود سكنت له . وما كان من السلاحف بحرياً فخرج إلى البر وأصابه حر الشمس لم يستطع الرجوع إلى البحر وبقي حتى هلك . وما كان برياً فوقع إلى ناحية البحر تلف ولم يستطع الرجوع إلى البر وهلك . الثعلب يهيىء عشه ووكره ذا سبعة أحجرة ، فإذا طرقته الكلاب وغيرها ممايتخوف في جحر خرج من غيره . وإذا قارب الزرع أن يسنبل دخل الثعلب فيه وتمعك فرحاً به ، فيفسد ذلك الزرع ، ولذلك سمي احتراق الشعر : داء الثعلب ، لأنه يسقطه كما يذهب ورق السنبلة والشوكة . القنفذ يعمد إلى الكرمة فيحركها فيقع منها العنب ، فيتمرغ فيه حتى يملأ شوكه ويعود إلى عشه ، فإذا بصرت به جراؤه أطافت به تلتقط ذلك الحب من شوكه وتأكله . الذئب إذا هيىء من معاه وترٌ وهيىء من معي الشاة وتر ، ثم علقاً بآلات الملاهي ، ثم ضرب بهما ، صوت المعمول من الذئب ، وخرس الوتر المعمول من الشاة . وكل شاة يتناول الذئب من لحمها يكون لحمها حلواً لذيذاً ، وكل جزة صوف تهيأ من الشاة التي قد تناول الذئب منها قمل الثوب المعمول منها من قبل سم أسنانه . الكلب إذا مرض أكل حلفاء رطبةً . والأيل إذا مرض أكل حية . والضبع إذا مرض أكل كلباً . الأسد إذا أكل كلباً فإنه يكون قد ضرس فيزول ذلك . الرخمة إذا ضعف بصرها بقرت مرارة إنسان . الأعنز البرية تألف حيتاناً بحرية ، وتدع الجبال وتسلك طريقاً بعيداً حتى تأتي البحر لمكان تلك الحيتان ، فلما عرف ذلك الملاحون سلخوا جلود تلك الأعنز ،ودنوا بها من شاطىء البحر على ظهورهم ، فإذا نظرت تلك الحيتان إليها خرجت مسرعة إليها فيصيدها الملاحون . ليس من السباع شيء صلبه عظم واحد بلا خرز إلا الأسد والضبع . من ربط على بدنه سناً من أسنان الذئب يكون سريع الجري . المعزى البرية تكون صلبة القرون ، تأوي أطراف الجبال وما كان مشرفاً من الصخور على أودية ، فإن بصرت بالصياد ألقت أنفسها من تلك الصخور لتقيها بقرونها ، فإن سقطت على غيرها هلكت ، وفي قرونها خرزات مستديرات على قدر ما يكون عدد سنيها . والعجب أنها تحفظ إنائها عند الكبر وتتعهدها بالمطعم والمشرب تحمله على أفواهها . المعزى البرية إذا صيد شيء من سخالها تبعته ورضيت بالعبودية مع ولدها وفي أطراف قرونها جحرة تتنفس منها ، فإن سدت هلكت مكانها . الورشان يتحرز بأن يضع ورق الغار في عشه . والحدأة تضع في عشها ورق العليق تتحرز به . الخطاف يضع في عشه قضيب كرفس . التدرج يضع في عشه سرطاناً نهرياً .جميع السباع والدواب عند المشي تقدم اليد اليمنى والرجل اليسرى . لا تكون الزرافة إلا في أرض قليلة الماء . إذا هم أصحاب الخيل أن ينزو حماراً على فرس جزوا عرفها فتقر حينئذ وتذل لكدم الحمار لها . يبونان ثيران لها أربعة قرون لا ترضى بمجامعة البقر ، بل تجامع إناث الخيل ، ويتولد بينهما خيول عجيبة المنظر . الجاموس لا ينام أصلاً وإن أرخى عينيه إرخاء يسيراً ، لكنه ساهرٌ الليل والنهار . الجمل إذا وقع على الناقة وقع الضراب ستر عن الرجال ، فإن نظر إليه رجل غضب . قالت الروم : إن السنور يتولد من مجامعة الفهد لبعض السباع . لا ينام البوم إلا إغفاءة . ومن العجب أن السنور يكون صافي العين كثير البريق عند امتلاء الهلال وينقص ذلك الصفاء والبريق عند نقصان الهلال . الأفعى إذا جامعها الذكر واسمه الأفعوان تحولت إليه ، فإن ظفرت به أكلت رأسه من شدة عشقها له . ذكر العقرب اسمه عقربان ، أسود صغير ، سريع المشي ، جاد الذهاب الحرذون تفسيره بالعربية الذي يخرج من الزعفران . التمساح لا يكون إلا في النيل ونهرٍ بأرض الهند يقال له : الرسيس ويبيض كبيض الإوز ، وربما يولد منه حراذين صغار ، ثم يكبر حتى يبلغ طوله عشر أذرع ، ويزداد طولاًكلما ازدادت سنو حياته . وسنه اليسرى نافعة لحمى النافض . وذكر أنه يجامع ستين مرة في حركة واحدة ومحل واحد . الحمار الوحشي يتولد بين الفرس والفيل ، وله قرن ينبت من أنفه كأنه سيف ، وإن ضرب شجرةً قطعها وبه يقاتل الفيل ويبعج بطنه بقرنه ، ولم يعاين من هذا الجنس أنثى قط . في البحر حوت يقال له : البوس ، يتولد من الصاعقة إذا كانت في البحر وإن وضع ذلك الحوت بين اثنين فأكلا منه تحابا ولا يحقد أحد على صاحبه ، ويتآخيان أحسن الإخاء . كلب الماء أبدا ذنبه على ظهره واقع مع انطباق والتواء ، يرعى نبات الأرض ، وهو شديد الجزع من المنار ، فإذا كان الليل خرج الصيادون بأيديهم شعل النار ، فيأتون مجثمها ، وتلك لا تتحرك لجزعها من النار حتى تؤخذ ، وإن كان منها ذكر لم يجامع أنثى قط ، وإذا أرادت المجامعة فإنها تجتمع وتجلد فتفرخ . وإن أخذ صياد بشبكة واحداً وثبت كلها حتى تدخل الشبكة آبية فراق بعضها بعضاً . ومن لبس جورباً من جلودها وبه نقرس انتفع به جداً . وإذا ابتلي إنسان برعاف ثم أخذ قطعة من جلدها ، ثم انعقد في لبن واشتمه انقطع ذلك الرعاف . اليرابيع إذا اجتمعت في موضع ارتفع رئيس لها حتى يكون في موضع مشرف أو على صخرة أو تل ينظر منه إلى الطريق من كل ناحية ، فإن رأى أحداً مقبلاً أو سبعاً صر بأسنانه وصوت ، فإذا سمعته انصرفت عن الموضع إلى جحرتها فإذا أغفل ذلكوعاينت البقية سبعاً أو راجلاً قبل أن يراه ذلك الرئيس انصرفت إليه وقتلته لتضييعه أو غفلته . وإذا كان حسن الرصد مضت اليرابيع فقطعت أطرأ ما يكون من الخضرة وأطيب العشب فحملته بأفواهها حتى تأتيه تحية وتكرمة . وإذا كانت في جحرتها خرج الرئيس أولاً فيبصر الطريق ، فإن لم ير أحداً صر بأسنانه وصوت لها لتخرج فترعى . في البحر حوت يقال له : موفي ، ضعيف الجسد ، قليل القوة ، إذا جاع خرج إلى الشاطىء فاستلقى على الرمل فأقام شوكة في رأسه ، فإذا نظر إليه حوت آخر جاء مسرعاً ليأكله يظن أنه ميت ، فيدخل بطنه تلك الشوكة فيقتله بها ويأكله . وإذا ألقى الملاح صنارته ولقيت ذلك الحوت رمى مكانه بتلك الشوكة الحادة يد الملاح فتخدر ويطرح أداة صيده . فإذا رأى الحوت أن الصنارة داخلت أضلاعه غلبت الظلمة على بصره ومات من ساعته . وفي جلد هذا الحوت عجب ، وهو أن الصاعقة لا تدنو من جلده ، والملاحون يغطون سفنهم به عندما يتبينون الصواعق ووقوع المطر ، ويدنو هذا الحوت إلى طرف مقدم السفينة فيمسك بطرفه اللطيف ، فلو اجتمعت الرياح كلها بأشد هبوبها لم تستطع تحريك تلك السفينة ، فمن أخذ من جلدها وسمر به شراع السفينة لم يخف على سفينته غرقاً . السريع الحضر أربعة : النمر والحريش وعنز الجبل وكباشها . عدو الحيات أربع : القنفذ والفيل والأيل والعقعق .الجبان اثنان : الأرنب والأيل . ذو الزهو ثلاثة : الفرس والديك والطاوس . ذو حدة السمع ثلاثة : الذئب والحمار والخلد . القادر على التزاوج ثلاثة : العصفور والحمام والعقعق . ذو الشهوة ثلاثة : العصفور والثور والباشق . لمتحارس بالليل اثنان : الكركي والبط . نافى فراخه ثلاثة : النعام والغداف والعقاب . محب الظلمة ثلاثة : البوم والخفاش والخلد . ذو حدة البصر ثلاثة : العقاب والظبي والباشق . من أخذ لسان ضبع ومر به بين الكلاب لم تكلب عليه . من مر بمكان كثير الضباع فأخذ بيده أصلاً من أصول عنب الحية هربت منه . وعنب الحية هو الحنظل . وذكر الحباري يقال له : الخرب . إذا أراد إنسان أن يتزوج امرأة فلينظر إلى أبيها وأخيها فإنها بعيانه وبين يديه أحدهما . من الحيوان ما لا يشبه الولد الوالد كالدببة والنحل والدبر . أما الدببة فتضع أولادها توائم لا صور لها حين تولد ، غير أن أمها تهيىء ، صورها ،وتسويها بلحسها إياها بألسنتها . . . . وأما الدبر فإنها تلد دوداً يتصور بعد ذلك . الضفادع والغيالم والسرطانات لا ضرر عليها في ماء ولا يبس ، لكنهما عندها سيان لا تهلك في بر ولا تخنق في بحر . كل ما أكل اللحم فهو ذو أسنان قواطع صلاب ، وأعناقٍ قصارٍ شداد ، ومخالب وأظفارٍ حداد ، ومناقير معقفةٍ جذابة . للأسد ثلاث طبائع : الأولى منها أنه إذا مشى فشم ريح الصيادين عفى على آثاره بذنبه لكيلا يتبعه الصيادون ويقفوا عليه في عرينه فيتصيدوه . والثانية أن اللبءة تلد شبلها ميتاً ، فلا تزال تحرسه حتى يأتي أبوه في اليوم الثالث فينفخ فيم نخره فيبعثه . والثالثة أنه يفتح عينيه إذا نام وهما يقظتان . ومن تمسح بشحم كلى الأسد ومشى بين السباع لم يخفها ولم تقربه ؛ وإن افترس الأسد الفريسة ولم يأكلها ميز أن ريحها منتنة جداً . وأصناف الحيوان التي تلغ الدم بألسنتها : الكلاب والسنانير . الأسد : تضع أولادها غير منفتحة العيون ، وإنما تنفتح بعد ذلك . وأما الأسد خاصة فليس له من جنسه قرين ، ولا يرى شيئاً من السباع كفؤاً لهفيصحبه ، ولا يقرب شيئاً من بقايا فريسته بالأمس ولو جهده الجوع ويهر زئيره كثيراً من الحيوان الذي هو أعظم منه جسماً وقوة . وإنما تلد اللبوة واحداً ويخرق بطن أمه بأظفاره ويخرج منه . الثعلب إذا جاع فلم يقدر على صيدٍ عمد إلى أرض شديدة الحر وإلى موضع الطير إذا حمي ، فاستلقى على ظهره ونظر إلى فوق ، ثم اختلس نفسه وأخذ به داخلاص حتى ينتفخ انتفاخاً شديداً فيحسبه الطير قد مات ، فيقع عليه ليأكل منه كما يأكل الجيفة ، فإذا اجتمع الطير انتفض سريعاً وقبض على ما وجد فأكله ، لأنه ذو خبٍ ومكر ، كذلك طبيعته إن أصابه ضرر فأثر فيه آثاراً وكلم فيه كلوماً أخذ من صمغ شجرة تدعى قنطوريا فأبرأها به . القدر أهيأ الحيوان لقبول التعليم ، وهو لعوب غضوب سريع الحس ، لا يكون في بلد كثير السباع ، عدو لجميع الحيوان ، مليح الإهاب ، نهوشٌ خطوف ، إلا أنه إذا شبع نام في غارة ثلاثة أيام ، فإذا خرج صاح بصوت عالٍ تخرج منه رائحة طيبة ، فيجتمع إليه الحيوان لحسن صوته . ومن أراد ختله فليتمسح بشحم الضبع ويدخل عليه في غاره ، فإنه لا يمتنع ؛ خفيف الجرم ، حديد الشد يقظان . دابة يقال لها بالفارسية درباست إذا طلبهالقانص استلقى لظهره وأراه أنه لا خصية له ، كأنه قد علم ما يطلب منه . خلق الجبان من الحيوان الخائف سريع الحضر سريع الحركة ، وجعل الصنف الجريء العادي بطىء الحضر مبلداً . الضبع مخالفة لجميع أجناس الحيوان ، وذلك أنها تصير مرة ضبعاً ذكراً ومرة أنثى ، تلقح أحياناً كالذكر ، وتقبل اللقاح أحياناً كالأنثى . وطبيعتها أنها إذا رأت الكلب في ليلة مقمرة مشت على الآثار ووطئت ظله فوقع . ومن قتل ضبعاً وأخذ لسانها ومر بين الكلاب لم تكلب عليه ، ولم تعرض له . ومن مر بمكان كثير الضباع فأخذ بيده أصلاً من حنظل ، أسكتها عنه وهربت منه . القنفذ عدو الحيات ، إذا قبض على حية تركها تضطرب على شوكه حتى تموت ، فإذا ماتت قطعها قطعاً . الدب يقتل الثور ، والغالب عليه الانحجار في مغارته . الفيل ليس له شهوة السفاد ، فإذا أراد الولد أتى رياضاً وجناناً فيها اللقاح هو وإناثه فهيج له اللفاح برائحته وقوة حرارته شهوته فتسافدت ، فإذا ولدت ولدت قائمة ، لأن أوصالها ليست مواتيةً كأوصال التي تلد باركة ورابضة غير أنها تلد في الماءحذراً على دغفلها أن يموت إذا وقع على الأرض ، فلذلك تدخل ساحل البحر حتى يبلغ الماء بطنها فتضع ولدها على الماء كالفراش الوثير والذكر في ذلك يحرسها وولدها من الحية . ما أشد عداوة الفيل للحية ؛ حيثما أصاب الفيل الحية وطئها وقتلها . وإن هو سقط على جنبه لم يستطع القيام ، إنما نومه إذا اتكأ على شجرة . ومن هناك - لما عرف أهل تلك البلاد كيف نومه - يأتون الشجرة فينشرونها بالمنشار ، فإذا أتاها الفيل واتكأ عليها وقعا على الأرض معاً ، وحينئذ يشتد صياحه بصوت رفيع ، ويجتمع إليه لذلك فيلةٌ كثيرة تحاول معاونته على النهوض والانبعاث ، فلا تقدر على ذلك ، فتصيح جماعتها بصوت واحد جزعاً من ضعف حيلتها وعجزها حتى يأتي الفيل الذي هو في الجسم أصغر ، وفي الحيلة أكبر منها ، فيدخل مشفره تحت الفيل الساقط ، وتفعل كفعله جميعاً في إدخال مشافيرها تحته حتى تدعمه فينبعث ، وإنما كون رأس الفيل في عنق قصير ، وكون له بدل العنق الطويل المشفر الطويل ليكتفى به من الضيق ؛ وبه يتناول طعامه وشرابه . وخلقت قوائمه غير منفصلة ، لكنها كالأساطين المصمته والسواري الوثيقة لتحمل الكثير الثقيل ؛ وربطت بعراقيب صغارٍ غير منحنية ولا منثنية على الأوصال ، لكن عظامه مفرغة إفراغاً . تطول أعمارها إلى ثلاثمائة سنة ؛ غير أن الدرذان والبق تعلق بالفيلة فتؤذيها . السمندل : دابة لا تخاف النار ، لأنها لا تحرقها ، وإن دخلت أخدوداً متأججاً مضطرماً بالنار لم تحفل بذلك ، وصارت النار التي تبيد الأجسام مبعثاً لهذه الدابة المهينةالحقيرة ، تستلذ التقلب فيها استلذاذ القلب بالهواء البسيط وهبوب أرواحه الطيبة ؛ ونضارة جلدها وتنقيته بالنار ، فيزداد بالنار حسن لون . الأرنب من طباعها الجبن والخوف ، وهي كثيرة الولادة . الكلب ذو فحص واقتفاء للأثر ، وبشمه يسترشد ويهتدي ويستدل إذا شم المولى عرفه إن كان له أو لغيره . ومن طباعه الترضي والبصبصة والهشاشة لمن عرفه . ليس في الحيوان أشد حباً لصاحبه منه ، فإن أشار له على صيد وثب ناصباً رأسه رافعاً ذنبه مستعداً كالفارس البطل والشجاع النجد ، مع نشاطه في الطلب وهو يعلم أن الصيد ليس بحاضر ، لكن ذلك منه حسن طاعة . فأما حب بعض جراء الكلاب لبعض إذا كان أخاه لأم ولأب فمما قد عهد وشوهد ، وذلك أنه حيث كان يطرح لها الطعام في الوسط ، فلا يخطف واحد منها ذلك ، ولكنها تتعاطاه بينها بسكون وتمكين بعضها لبعض ، غير مستأثرة به ولا محاربة عليه . الفرس من طباعه الزهو والحرارة وشهوة الإناث للسفاد . وإن وطىء الفرس أثر وطء الذئب ارتعد وخرج الدخان من جسده كله . الذئب إذا رأى الإنسان مبطئاً خطوه وهو ساكنٌ سكت عنه ، فإن رآه خاف وجبن اجترأ وحمل عليه وكبسه . وليس كل ذئب يعدو ، ولكن هو الذي يكون ضارياً ؛ وفيه خلتان : إحداهما أن يكون منفرداً يمشي وحده ، والأخرى حدة سمعه ، إن خفي عليه مكان الغنم أتى مكاناً وعوى صوتين أو ثلاثة ، ثم سكت منصتاً لأصوات الكلاب التي مع الغنم ونباحها حين سمعتعواءه ، فإذا سمع نباح الكلاب شد مسرعاً نحوها ، قاصداً إليها ؛ فإذا قرب من الغنم مال إلى ناحية أخرى خالية من محرس الكلاب فاختطف ما أمكنه خطفه من الغنم . حمار الوحش إذا ولدت الأنثى الأولاد الذكور جاء الفحل فانتزع خصي تلك الذكور وقطعها بأسنانه لكيلا تصاد أو تشاركه في طروقةٍ ، إلا أن الأنثى ربما وضعت ولدها في مكان غامضٍ حتى يشتد جسمه وتصلب حوافره ، ويقوى بالشد على النجاة من الفحل ، ولهذا السبب يقل منها الفحول . الحريش دابة صغيرة في جرم الجدي ساكنةٌ جداً ، غير أن لها من قوة الجسم وسرعة الحضر ما يعجز القناص عنها ، ثم لها في وسط رأسها قرن واحد منتصب مستقيم ، به تناطح جميع الحيوان فلا يغلبها شيء . احتل لصيدها بأن تعرض لها فتاةً عذراء وضيئةً ، فإذا رأتها وثبت إلى حجرها كأنها تريد الرضاع ، وهذه محبة فيها طبيعية ثابتة ، فإذا هي صارت في حجر الفتاة أرضعتها من ثديها على غير حضور اللبن فيها حتى تصير كالنشوان من الخمر والوسنان من النوم ، فيأتيها القناص على تلك الحال فيشد من وثاقها على سكون منها بهذه الحيلة . الأيل عدو الحيات إن قربت منه حية فانجحرت في صدع صفا ملأ الأيل فاه من الغدير أو من حيث وجد فدفعه في ذلك الصدع ، ثم اجتذب الحية إليه بالقوة حتى يقتلها ، وإن كانت فوق أنزلها ، وكذلك إن كانت أسفل ، فإن كان جائعاً أكل ما أصاب منها ، وإن لم يكن به جوع قتلها وتركها فصارت الحيات ذوات السم الزعاف المميت لكل من أصابهأو خالط بدنه غذاء هذه الأيايل ، ويكون ملائماً لها لذيذاً عندها . وإن دخن البيت الذي فيه الحيات بدخان حريق قرن الأيل فرت منه كلها خوفاً . على أن الأيل نفسه جبانٌ شديد الرعب ، إذا أكل الحية بدأ بذنبها حتى ينتهي إلى رأسها ، ثم يقطعه بأسنانه ، وأكبر من ذلك أنه يتعلق برءوسها وتبقى في الهواء . وتكثر فيه المرة ويعطش عطشاً شديداً فيعوج إلى غدير الماء . الغزال ، يقال : ليس في الحيوان أبصر من الظباء ؛ ويقال لها باليونانية النظارة والمبصرة . الثور دابة عمولٌ كدودٌ مقدرٌ جسمه بقدر قوته . من طبيعته كثرة المنى وتوقد شهوة السفاد ، إن لم يخص لم يذلل للعمل ولم يسكن ولم يصح جسمه لأن الغلمة تحل جسمه وتنحله ، والخصاء يقطع ذلك كله . وبينه وبين الدب عداوةٌ شديدة . أعنز الجبل وكباشه وهي الأرواء والتياتل هذا جنس متمرد في الجبال سريع الحضر في الشواهق والتوقل فيها وطبيعتها أن تلد توائم . قد يوجد من البهائم ما لا يحمل ، فأما أنثى الخيل إذا كانت حاملاً فوطئت أثر الذئب بحافرها أجهضت حملها . الحمار في طبيعته معرفة صوت الإنسان الذي اعتاد استماعه وإيناسه ، لا يضل عن طريق سلكه مرة ولا يخطئه ، إذا ضل راكبه الطريق هداه وحمله على المحجة .وأما حدة السمع ، فليس في البهائم فيما يذكر أحداً سمعاً منه . اليامورة دابة وحشية نافرة ، لها قرنان طويلان ، كأنهما منشاران تنشر بهما الشجر ؛ إذا عطشت وردت الفرات وعليه غياطل وغياض ملتفةٌ أشجارها تفرعت من أغصانها غصونٌ طوال دقاق مشبكة ، فإذا شربت ريها وأرادت الصدر اشتهت الاستتار والعدو بين تلك الأشجار ولحت هناك فعلق قرناها بتلك الغصون اللدنة المتينة ، وكلما عالجتها لتفلت ازدادت ارتباطاً فإذا ضجرت مما وقعت فيه عجت جزعاً ، وسمع القناص صوتها فأتوها فقتلوها . الجمل : حقود ، يرتصد من ضاربه الفرصة والخلوة لينتقم منه ؛ فإذا أصاب ذلك لم يستبق صاحبه ، فأما ظهره فذو سنام مقبب يكون لكثرة الحمل واحتمال الثقل ، وأوصال ركتبه وعراقيبه كبارٌ صلاب ، وأوتارها وعروقها متينة شديدة ، وعصبه وثيق لم يشتد بضغط التحام مفاصله واتصالها ولم يسترخ مطوياً ، لكنها هيئت على الاعتدال ليهون عليه بذلك البروك والنهوض بحمله ، مع تسهيل الارتقاء عليه في ذلك . البغال : نوعٌ هجين قد أنبئنا أنه لا يلد ، إلا أنه أهدى للطريق للناس وأثبت حفظاً . الثيران وكل ذي قرن لا يأخذه الفواق . وأما سباع الطير وآكلات اللحم منها فصلاب الأظفار ، حجن المناقير ذات حدة وقوة ، قوية الأجنحة .والنواهض التي فيها القوادم أكثر طيراً . الديك صلف في طبيعته ، غير أن له مع ذلك إيقاظاً للنائم بصياحه في آناء الليل ، والتبشير بإقبال الصبح وطلوع الشمس ، يؤنس السيارات في السفر بصياحه في الليل ، ويحرضهم على السير ، مع إيقاظه الفلاحين لعملهم ، والصناع لصناعتهم ، وإذا سمع المرضى صوته داخلهم من ذلك روحٌ وخفة من مرضهم . الطاوس يحب الزينة ، غير عفيف الطبيعة ، يدعوه زهوه وحرصه على التزين إلى نشر ذنبه وعقده كالطاق لتراه الأنثى بحسن زينته . الكراكي تتحارس بالليل ؛ ويجعل الحارس منها يتردد في المحلة ويهتف بصوت يسمع محذراً ، فإذا قضى نوبته استراح وأعقبه الذي كان مستريحاً نائباً عنه حتى تقضي كلها ما يلزمها من الحراسة ، فإذا طارت لم تطر متقطعةً ، لكنها تطير نسقاً غير مشتتة ، يقدمها واحد منها كالرأس والهادي لها حتى تتلوه كلها لازمةً صفها ، ثم يعقبه بعده آخر متقدم حتى يصير المتقدم الأول متأخراً في آخرها ، وتقتسم كرامة المتقدم كلها بالسوية ؛ وفيها ما يبعد سفره وينتقل عن مصيفه إذا هجم الشتاء . البط له يقظة حارسة تدل على حدة حسه . الجراد معروف الحال . العقاب تطلب عين الماء ، فإذا أصابتها تحلق طائرةً إلى حر الشمس وهو موضع دورانها فيحترق ريشها وما كان من جناح ، ثم تغوص في تلك العين فإذا هي قد عادت شابة وتذهب ظلمة عينيها .وأما الطريح فيتقيض الله له طائراً يقال له : قاس فيضمه إليه ولا يدعه يهلك ، ولكنه يقويه ويربيه مع أفراخه . وأجنحة العقبان مفصلة شبه ريشها . وبصرها قوي بعيد تحت الشعاع المستنير . ويقال : إنها أبصر الطير . الحجل يأتي أعشاش نظرائه فيسرق بيضها ثم يحضنها ، فإذا تحركت الفراخ وطارت لحقت بأمهاتها . البوم مأواه ومحله الخراب ، يوافقه الليل ، لأنه بالليل بصير وبالنهار كليل ، مع حبه التوحد والخلوة بنفسه ، وبينه وبين الغربان عداوة ما تنقضي . النسر يتخذ وكره في المكان العالي المرتفع ، وعليه يقع وفيه ينام كالراصد ، إما في ذروة الجبل أو في وسطه من شظاياه وثناياه وموضع المنعة . وإذا حملت زوجته مضى إلى الهند فأخذ من هناك حجراً كهيئة الجوزة إذا حرك سمع به صوت حجرٍ آخر - يتحرك في وسطه - كصوت الجرس ، فإن عسرت على زوجته الولادة جعلت ذلك الحجر تحتها وعلت عليه فيذهب عنها العسر . قال : ورأيت مرة أنثى من جنس الطير مات زوجها فامتنعت من الطعام والنوم ليالي كثيرة صارت فيها كالنائحة الباكية على زوجها بتنفس الصعداء وزفرات الحزن لا تلقط أياماً متتابعة شيئاً . البزاة من طبيعتها أن تداوي أنفسها وفراخها فلا تموت ، لأنها تستعمل في بعض المرض والداء نبتةً تعرفها وتعرف طبها . . . ومنه ما ينقصويزيد . النعام : لا يعول أفراخه إلا أياماً يسيرة ، ثم يدحضها ويطردها من عنده إنكاراً لها . الغداف لا يبيض ولا يفرخ من سفاد ، فإذا أفرخت أنثاه فراخاً لم يزقها ولم يطعمها ، إلا أن البق والبعوض يقع عليها لزهومتها ونتن لحمها ، فتفتح أفواهها وتبلع ما دخل فيها من ذلك البق ، فهو يمسكها ويقويها . أنحاء طيران الطير مختلفةٌ كاختلاف الطير ، بعضها يطير قريباً من الأرض كالبط وما أشبهه ، وبعضها يرتفع ، غير أنه لا يبعد ، كالحمام والغربان ، وبعضها يحلق تحليقاً ، كالعقاب والصقور والأجادل والبزاة . وما كان من الطير بدنه أعظم من جناحه فهو قريب الطيران من الأرض ، لسرعة إحناء أجنحته واضطراره إلى الوقوع على الأرض . البيضاني والأبغث : هذا طائر يحب ولده ، فإذا تحركت فراخه ودرجت ضربت وجهه بأجنحتها فيدعوه المحك والغضب المطبوعان فيه إلى قتلها ، فإذا ماتت اكتأب عليها الأبوان وأقاما عليها شبه المأتم ثلاثة أيام ، ثم إن الأم في اليوم الثالث تشق جنبها حتى يقطر دمها على تلك الفراخ ، فيصير ذلك نشوراً لها بعد موتها . مالك الحزين ينشل الحيتان من الماء فيأكلها وهي طعامه ؛ لا يحسن السباحة ، فإنأخطأه انتشالٌ فجاع طرح نفسه على شاطىء النهر في بعض ضحضاحه ، فإذا اجتمعت إليه السمك الصغار لتأكله أسرع لأكل ما يؤكل منه . من الطير ما يلقح من هبوب الريح ، لا يحتاج إلى تزاوج ولا إلى سفاد . والخفاش له خصيتان كخصي الحيوان ، وله أربع قوائم وأسنان حداد كأسنان ذوات الأربع ، يرضع ولده من اللبن إرضاعاً ، وجلده أملس . العقعق لا يأوي تحت سقف ولا يستظل به ، ولكنه يهيىء وكره في الواضع المشرفة العالية والعراء الكاشف وجه الهواء الفسيح ؛ وطبيعته الزنا وخيانة الزوج ، فإذا باضت الأنثى بيضها حضنته بورق الدلب وغطته كيلا يقربه الخفاش ، فإن مسه مرق البيض من ساعته وفسد . النحل يلد من غير لقاح الذكور . الحية إذا هرمت وكل بصرها واسترخى جلدها دخلت في صدع صفاة ضيق أو جحر ضاغط يعسر عليها النفوذ فيه حتى ينسلخ عنها جلدها فتأتي عين الماء فتنغمس فيها حتى يقوى لحمها وينعصب ، فإذا هي فعلت ذلك عادت شابة كما كانت . فإذا أرادتأن تضىء عينها أكلت الرازيانج الرطب فاشتفت عيناها واحتد بصرها ، وإن ضربت ضربة بقصبة استرخت فلم تستطع الفرار ، فإن ثنيتها وثبت وسعت هاربة . إن أنقع الحسك في الماء ثم نضح ذلك الماء بين يدي جحر الحية فرت من هناك . وإن وضع في جحرها أص حمصٍ رطب فرت أيضاً . وإن رأت الحية إنساناً عرياناً استحيت منه ولم تقربه . وإن رأته كاسياً حملت عليه بجرأة شديدة ؛ وما أشد طلبها لثأرها ؛ وإنشدخ رأسها ماتت من ساعتها . السمسمة ، وهي حية حمراء براقة ، إذا كبرت وأصابها وجع العين وكمدت التمست حائطاً مقابل المشرق ، فإذا تبدت الشمس أحدت إليها بصرها قدر ساعة فإذا دخل شعاع الشمس عينها كشط عنها العمى والإظلام ، ولا تزال تفعل ذلك سبعة أيام حتى يتجدد بصرها تماماً . الأفعى تزاوج دابةً بحريةً ، تأتي الأفعى شفير البحر فتصوت ، وصوتها مهيجٌ لتلك الدابة البحرية . من أحرق عقرباً طرد برائحة حريقها عقارب ذلك البيت . فأما حمة العقرب فهي جوفاء كهيئة المزمار معقفة الرأس مكونة اللدغ ، فإذا ضربت شيئاً تحركت فخرج سمها وجرى في حمتها وسرى في الملدوغ . الإناث من بنات عرسٍ إنما تلقح من أفواهها وتلد من آذانها . من عادة هذا الجنس أن يسرق ما وجد من حلي الذهب والفضة ، ويخبؤه في جحرته ، فإن وجد أيضاً في ابيت حبوباً خلط بعضها ببعض ، كأن عمله عمل الطباخين في خلط التوابل . الفار الفارسي أطيب ريحاً من كل طيب . وإن أخذ إنسان جرذاً فربطه في بيت فرت منه الجرذان كلها . وإن وضع في جحر الجرذ البري ورق الدفلى ماتت الجرذان . الدودة الهندية هي دودة القز ، لها في رأسها قرنان ، ثم تتحول بيضة ثم تتصور في هيئة أخرى ، ذات جناحين عريضين منتصبين ، وصناعتها دمقس الحرير .النمل عمول مواظب ، فإذا جمع الحب قطعه كيلا ينبت إذا أصابه الندى والبلة ، ويخرجه ويبسطه عند فم الجحر ، فإذا يبس أدخله . ومن جرب طبائع النمل فليدق الكبريت والحبق ويذرهما في جحرته ولا يولد من تزاوج ، ولكنه يخرج منه شيء قليل صغير فيقع في الأرض فيصير بيضاً ، ثم يتصور من البيض بالهيئة التي تُرى ، وإذا شمت الورد موتت وأجنحتها مدمجةٌ لاصقةٌ بها . البق والبعوض لا نتاج لهما ، وإنما تنجل من عفن الماء ووسخه ونتنه . ومن وضع غصن العنب في موضعٍ تحت سريره لم يقربه بق ولا بعوض . ومن أراد ألا يتأذى بالبراغيث فليحفر في وسط البيت حفرة ويملأها دم تيس فإن البراغيث تجتمع هناك . وإن وضع في الحفرة ورق دفلى مات البراغيث . الخلد غير ذي عينين ، دائم الحفر في غير نفع ؛ وطعامه من أصول النبت وعروقه الذاهبة في الأرض ، فهو يصيب ذلك في خلال حفره . يقال : إن في بلد كذا نهراً ماؤه في البحر منحدراً إليه على حال طبيعته ست ساعات ، وفي الست الثانية يحتبس ماؤه في ينبوعه ويرى جوفه ناضباً قد يبس . ونهراً آخر يجري في كل سبع سنين نهر كبريت ، ولا يكون فيه سمك ، لأن ماءه يتغير في كل يوم ثلاث مرات ، وينبعث منه شبه ثور ليس له رأس . وأهل الشام إذا أرادوا أخذه ألقوه في سفينة ، ولا يستطيعون قطعه بفأس ولا كسره بحجر ، إنما يؤتى بالماء المنتن ودم الحيض فيخلطان جميعاً ثم ينضحان عليه ، فإذا وقعاعليه تحلل وتكتل كتلاً صغاراً ، وتستعمل في أشياء ينتفع بها . عين النار تنبع منها نارٌ تضيء بالليل للسيارات فلا تطفأ ولا تحتاج إلى شيء يمسكها ، لكنها محفوظة بالحجارة ؛ إن حمل إنسانٌ منها شعلة قبسٍ إلى موضع لم توقد . البحر الميت يقال له ذلك لأنه يموت فيه كل حي . السرطان ينسلخ جلده في السنة سبع مرات ، ويتخذ بجحره بابين : أحدهما شارعٌ إلى الماء ، والآخر إلى اليبس ؛ وإذا سلخ جلده سد عليه الشارع إلى الماء لكيلا يدخل السمك فيأكله ؛ إلا أنه يدع الذي إلى اليبس مفتوحاً فتصيبه الريح وما ينفع لحمه ويعصمه ، فإذا اشتد لحمه وعاد إلى حاله فتح ذلك المسدود وسلك في الماء وطلب طعمه وما يقيم حياته . الزامور حوت صغير الجسم إلفٌ لأصوات الناس ، مستأنسٌ باستماعها ولذلك يصحب السفن متلذذاً بأصوات الناس ، فإذا رأى الحوت الأعظم يريد الاحتكاك بها وكسرها ، وثب الزامور ودخل أذنه ، فلا يزال زامراً فيها حتى يفر الحوت إلى الساحل يطلب خزفاً أو صخرة ، فإذا أصاب ذلك لا يزال يضرب به رأسه حتى يموت . وركاب السفينة يحبونه ويطعمونه ويتفقدونه ، ليدوم إلفه لهم وصحبته لسفينته ، ويسلموا به من ضرر السمك العادي . وإذا ألقوا شبكةً ليصطادوا السمك فوقع فيها الزاموار خلوه حياً وأخذوه وأعتقوا لكرامته أصناف السمك الواقع في الشبكة أحياءً . وإني قرأت هذا الفصل على الوزير - كبت الله كل شانىء له - في ليلتين ، فتعجب وقال : ما أوسع رحمة الله ؛ وما أكثر جند الله ؛ وما أغرب صنع الله . قلت : نعم ؛

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

تابع أخبار مكة وما جاء فيها من الآثار

أخبار مكة وما جاء فيها من الآثار   ج1وج2. ج / 1 ص -3- بسم الله الرحمن الرحيم مقدمة التحقيق: لا نعرف عن بدايات التأليف في...