اللهم استجب

سبحانك وبحمدك وأستغفرك أنت الله الشافي الكافي الرحمن الرحيم الغفار الغفور القادر القدير المقتدر الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر الخالق البارئ المصور... الواحد الأحد الواجد الماجد الملك المغيث لا إله إلا أنت وحدك لا شريك لك ..لك الملك ولك الحمد وأنت علي كل شيئ قدير ولا حول ولا قوة إلا بك وأستغفرك اللهم بحق أن لك هذه الأسماء وكل الأسماء الحسني وحق إسمك الأعظم الذي تعلمه ولا أعلمه أسألك أن تَشفني شفاءا لا يُغادر سقما وأن تَكفني كل همي وتفرج كل كربي وتكشف البأساء والضراء عني وأن تتولي أمري وتغفر لي ذنبي وأن تشرح لي صدري وأن تُيسر لي أمري وأن تحلل عُقْدَةً  من لساني يفقهوا قولي وأن تغنني بفضلك عمن سواك اللهم أصلحني: حالي وبالي وأعتقني في الدارين وخُذ بيدي يا ربي وأخرجني من الظلمات الي النور بفضلك  وأن ترحم وتغفر لوالديَّ ومن مات من اخوتي وان تغفر لهم أجمعين وكل من مات علي الايمان والتوبة اللهم آمين  //اللهم تقبل/ واستجب//https://download.tvquran.com/download/selections/315/5cca02c11a61a.mp3

المصحف

 تحميل المصحف

القرآن الكريم وورد word doc icon تحميل المصحف الشريف بصيغة pdf تحميل القرآن الكريم مكتوب بصيغة وورد تحميل سورة العاديات مكتوبة pdf

Translate

بحث هذه المدونة الإلكترونية

الخميس، 26 مايو 2022

مجلد 3. و4. كتاب : الجليس الصالح والأنيس الناصح المعافى بن زكريا

مجلد 3. و4. كتاب : الجليس الصالح والأنيس الناصح المعافى بن زكريا
  
حدثنا محمد بن الحسن بن دريد، أنبأنا عبد الرحمن، عن عمه، قال: بلغني أن طاووساً كان يقول: بينا أنا جالس مع الحجاج بمكة إذ مر رجل يلبي حول البيت، فرفع صوته بالتلبية، فقال الحجاج: علي بالرجل، فأتي به، قال: ممن الرجل؟ قال: من المسلمين، فقال: ليس عن هذا سألتك، قال: فعم سألت، قال: عن البلد، قال: من أهل اليمن، قال: كيف تركت محمد بن يوسف؟ قال: تركته عظيماً جسيماً، ركاباً خراجاً ولاجاً، قال: ليس عن هذا سألتك، قال: فعم سألت؟ قال: عن سيرته؟ قال: تركته ظلوماً غشوماً، مطيعاً للمخلوق، عاصياً للخالق، قال: فما الذي حملك علي بهذا فيه، وأنت تعرف مكانه مني؟ قال: أتراه مكانه منك أعز بمكاني من الله عز وجل وأنا قاضي دينه، ووافد بيته، ومصدق نبيه صلى الله عليه وآله وسلم، فسكت الحجاج فما أحار جواباً، وقام الرجل فدخل الطواف.
فاتبعته فإذا هو في الملتزم، وهو يقول: اللهم إني أعوذ بك، اللهم فاجعل لي في الكهف إلى جودك، والرضا بضمانك، مندوحةً عمن سواك الباخلين، وغنىً عما في أيدي المستأثرين، اللهم فرجك القريب، ومعروفك القديم، وعادتك الحسنة، فلما كان عشية عرفة، رأيته واقفاً على الموقف فدنوت منه، فسمعته يقول: اللهم إن كنت لم تقبل حجي وتعبي ونصبي، فلا تحرمني الأجر على مصيبتي بتركك القبول مني، قال: فلما كان غداة جمعٍ أفاض مع الناس، فسمعته يقول: يا سوءتاه منك يا رب وإن غفرت.
ثم لم أره بعد ذلك.
معنى المندوحة والمستأثرينقال القاضي: قوله: مندوحة، المندوحة: السعة والفسحة، كما قال تميم بن أبي مقبل:
سر عامر قومي ومن يك قومه ... كقومي يكن له بهم منتدح
يعني غنيةً ومتسعاً.
وقوله: عما في أيدي المستأثرين، المستأثرون: هم الذين يستبدون بما في أيديهم، يقال: استأثر فلان بما عنده أي استبد بما في يده وتفرد به، قال أعشى بني قيس بن ثعلبة:
تمززتها غير مستأثرٍ ... على الشرب أو منكرٌ ما علم
ويروى:
غير مستدبرٍ... عن الشرب
ومن أمثال العرب: إذا استأثر الله بشيءٍ فاله عنه.
وفي الخبر: " أو استأثرت به في علم الغيب عندك " .
ويقال في الذم: استأثر فلانٌ بماله أن يخرجه في حقه.
وفي المدح: " آثر بما عنده " إذا آثر غيره على نفسه، وإذا آثر غيره مع حاجته كان أولى بالمدح والثناء، وأبعد من الذم والهجاء، قال الله جل اسمه: " ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة، ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون " ، فبين المؤثرين والمستأثرين ما بين الأجواد والباخلين، والمانعين والباذلين، وأهل هاتين المنزلتين في استحقاق الحمد والذم، والتفريط والقصد، على رتبة من التفاوت بحسب ما تقرر في الدين، وثبت في عرف المسلمين، وقد قال الله عز وجل: " والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواماً " ، وقال تعالى ذكره: " ولا تجعل يدك مغلولةً إلى عنقك ول تبسطها كل البسط فتقعد ملوماً محسوراً، إن ربك يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر، إنه كان بعباده خبيراً بصيراً " ، وقال تقدست أسماؤه: " وآت ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل ولا تبذر تبذيراً، إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين، وكان الشيطان لربه كفوراً " .
فقد أبان لنا ربنا بفضله وإنعامه علينا في هذا الباب قصد السبيل، وأوضح لنا محجة الإقتصاد والتعديل، وبين أن بين الإسراف والتبذير طريقاً أمماً، وصراطاً قيماً، فإياه نسأل توفيقاً لسنن أولى الفضل، وهدايتنا سواء السبيل، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وقد روينا عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، أنه قال: " لا يعيل أحدٌ على قصد، ولا يغنى أحدٌ على سرفٍ كبير " .
معنى يعيل هاهنا: يفتقر، يقال: عال الرجل يعيل عيلةً إذا افتقر، قال الشاعر:
فما يدري الفقير متى غناه ... ولا يدري الغني متى يعيل
وجاء عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، أنه قال: " إن المؤمن آخذٌ عن ربه أدباً حسناً، فإذا وسع عليه وسع، وإذا أمسك عليه أمسك " .
حدثنا علي بن محمد بن عبيد الله البزاز، حدثنا جعفر بن محمد التمار، حدثنا إبراهيم بن بشير أبو إسحاق المكي، حدثنا معاوية بن عبد الكريم الضال، وإنما سمي الضال لأنه خرج يريد مكة فضل الطريق، قال: سمعت أبا حمزة الضبعي، قال: سمعت ابن عمر، يقول:
قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: " إن المؤمن أخذ عن ربه أدباً حسناً، فإذا وسع عليه وسع على نفسه، وإذا أمسك عليه أمسك " .
تشدد القضاة في الحق، وتقدير الخلفاء لهمحدثنا محمد بن مزيد البوشنجي، حدثنا الزبير، قال: حدثني عمر ابن أبي بكر الموصلي، عن نمير المدني، قال: قدم علينا أمير الؤمنين المنصور المدينة، ومحمد بن عمران الطلحي على قضائه وأنا كاتبه، فاستعدى الحمالون على أمير المؤمنين في شيء ذكروه، فأمرني أن أكتب إليه كتاباً بالحضور معهم أو إنصافهم، فقلت: تعفيني من هذا فإنه يعرف خطي، فقال: اكتب، فكتبت ثم ختمه وقال: لا يمضي به والله غيرك، فمضيت به إلى الربيع وجعلت أعتذر إليه، فقال: لا بأس عليك، فدخل عليه بالكتاب، ثم خرج الربيع فقال للناس - وقد حضره وجوه أهل المدينة والأشراف وغيرهم - : إن أمير المؤمنين يقرأ عليكم السلام ويقول لكم: " إني قد دعيت إلى مجلس الحكم، فلا أعلمن أحداً قام إلي إذا خرجت أو بدأني بالسلام " ، ثم خرج والمسيب بين يديه والربيع وأنا خلفه، وهو في إزارٍ ورداءٍ، فسلم على الناس فما قام إليه أحد، ثم مضى حتى بدأ بالقبر فسلم على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ثم التفت إلى الربيع فقال: يا ربيع! ويحك أخشى إن رآني ابن عمران تدخل قلبه هيبةٌ فيتحول عن مجلسه، وبالله لئن فعل لاولي لي ولايةً أبداً، فلما رآه وكان متكأً أطلق رداءه عن عاتقه ثم احتبى به، ودعا بالخصوم الحمالين، ثم دعا بأمير المؤمنين، ثم ادعى عليه القوم فقضى لهم عليه، فلما دخل الدار قال للربيع: اذهب فإذا قام وخرج من عنده من الخصوم فادعه، فقال: يا أمير المؤمنين ما دعاك إلا بعد أن فرغ من أمر الناس جميعاً، فدعاه فلما دخل عليه سلم، فقال: جزاك الله عن دينك وعن نبيك وعن حسبك وعن خليفتك أحسن الجزاء، قد أمرت لك بعشرة آلاف دينار فاقبضها، فكانت عامة أموال محمد بن عمران من تلك الصلة.
البر بالقصاد وكيف يكونحدثنا الحسين بن القاسم الكوكبي، حدثنا أبو عبد الله الفضل بن الحسن الأهوازي، قال: قدم إلى الأهواز رجلٌ من ولد الحسن بن سهل، حسن الهيئة والأدب، فأخبرنا جماعةٌ من العراقيين أنه كان في نعمةٍ واسعةٍ فزالت عنه، وكان قصده لأحمد بن دينار، فقبله أحمد وقال: الزمني ووعده الإحسان، وأجرى عليه وعلى غلام كان معه نزلاً من خبز ولحمٍ وتوابله مقدار ثلاثة دراهم، وقال له: تمهلني فإني في شغلٍ، فإذا انكشف وجهي بلغت لك ما تحب، فطال مقامه وأخلقت أثوابه، فكتب إليه:
صحبتكم عامين في حال عسرةٍ ... أرجي نداكم والظنون فنون
فما نلت منكم طائلاً غير أنني ... تعلمت حال الفقر كيف تكون
فوصلت الرقعة إلى أحمد بن دينار، وكان يعقوب بن إسحاق اليزيدي حاضراً، فقال: لمن هذا؟ فقال: لرجلٍ من ولد الحسن بن سهل، قال له: وهو مقيمٌ عندك نحواً من حولين، قال: قريب من ذلك، فانصرف أبو يوسف ووجه إلى الرجل فأحضره ودفع له بمائة دينار، وقسط له على جماعة من الوجوه أربعة آلاف درهم، وكتب له إلى بزازٍ كان يعامله بكسوةٍ بألف درهم، ووجه من اكترى له زورقاً إلى مدينة السلام، وزوده زاداً كبيراً حسناً، وقال له: اخرج لا تلق من قصدته، فقال: والله لأضربن جودك على نائل يكون منه، ولأفردن الشكر لك دونه، ولأتجهن إلى الله تعالى في صيانتك عن كل دناءةٍ ومعرةٍ كما صنتني عنها، وانصرف.
وبلغ الخبر ابن دينار، وكان ذلك سبب وحشةٍ عظيمةٍ صارت بينهما.
من سخاء المهديحدثنا أحمد بن العباس العسكري، حدثنا عبد الله بن أبي سعد، وحدثني أبي رحمه الله، حدثنا أبو أحمد الختلي، قال: حدثني عبد الله، قال: حدثني عبد الله ابن هارون، وموسى الفروي، قال: حدثني عبد الملك بن عبد العزيز، عن أبيه، قال: سألني المهدي أمير المؤمنين، فقال: يا ماجشون! ما قلت حين فقد أصحابك، يعني الفقهاء، قال: قلت:
يا من لباكٍ على أصحابه جزعا ... قد كنت أحذر ذا من قبل أن يقعا
إن الزمان رأى إلف السرور بنا ... فدب بالهجر فيما بيننا وسعى
فليصنع الدهر بي ما شاء مجتهداً ... فلا زيادة شيءٍ فوق ما صنعا
فقال: والله لأغنينك، فأجازه بعشرة آلاف دينار فقدم بها المدينة فأكلها في السخاء والكرم.
الأقوال في " بين "قال القاضي: فيما بيننا بالنصب، هكذا روي على الظرف، وقد حكى بعض النحويين عن العرب، أتاني سواءك ودونك، وذوكرت بروايته بالجر هل تجوز؟ وما وجه جوازها؟ ووجه الجر في هذا أن يكون معنى البين هاهنا: الوصل، والمعنى فدب في وصلنا، فيكون لها وجهان: أحدهما أن تكون ما حشواً زائداً كما قيل مثل هذا في قوله تعالى: " فبما رحمةٍ من الله " ، " فبما نقضهم ميثاقهم " ، وروي مثل هذا في قول الشاعر:
فلو أن نفساً أخرجتها مخافةٌ ... لأخرج نفسي اليوم ما قال خالد
المعنى: قول خالد وقيل خالد، فقولٌ وقالٌ، مثل عيبٍ وعاب، وذم وذامٌ، وقيلٌ وقالٌ: مثل: قيرٍ وقار.
والوجه الثاني: أن تكون ما بمعنى شيءٍ أتت للإبهام في النوع أو القدر ويبدل منها ما بعدها، كأنه قال في البيت: فدب في شيء ما، ثم فسره بقوله: بيننا وجره على البدل منه، ومثل ما هاهنا قول ذي الرمة:
أشبهن من بقر الخلصاء أعينها ... وهن أحسن منها بعدها صورا
المعنى: أحسن منها صورا، ومن البين بمعنى الوصل قول الشاعر:
لقد كذب الواشين بيني وبينها ... فقرت بذاك البين عيني وعينها
وقال الآخر:
لعمرك لولا البين لانقطع الهوى ... ولولا الهوى ما حن للبين آلف
ومما أتى بالرفع في بين بالفعل قول الشاعر:
إذا هي قامت تقشعر شواتها ... ويشرق بين الليت منها إلى الصقل
وقد اختلفت القراء في قراءة قول الله تعالى: " لقد تقطع بينكم " ، فقرأ ذلك كثيرٌ من قراء المدينة والشام وبعض أهل الكوفة " بينكم " بالنصب، وقرأ كثير من أهل الحجاز والعراق وغيرهم " بينكم " بالرفع والنصب، واحتج كل واحدٍ من الفريقين به، وهو قوله:
كأن رماحهم أشطان بئرٍ ... بعيدٍ بين جاليها جرور
وقد عاب بعض أهل العربية ممن يتكلم في القراءات واختار منها قراءة لنفسه، وهي القراءة بالنصب في هذا الحرف، وزعم أن من اختارها حذف الموصول وأبقى الصلة واستنكر هذا إذ كانت الصلة تماماً للموصول، وكأن الذاهب إليه أتى ببعض جملة الاسم دون باقيها كالدال من زيد، وليس هذا كالصفة القائمة مقام الموصوف لأن كل واحدٍ من الموصوف والصفة كلمة تامة في نفسها، وجعل المعنى هذا القائل: لقد تقطع ما بينكم، وكأن العائب لهذه القراءة يعرف للنصب فيها وجها غير الذي ذكره فطعن فيه وأنكره.
وفي هذا عندي - بعد الذي قدمت ذكره في أول هذا الفصل - وجه آخر لم أر أحداً قبلي أتى به، وهو أن يكون تأويل الكلام لقد تقطع ما كنتم تزعمون بينكم وضل عنكم، كأنه قال: الذي كنتم تزعمون تقطع بينكم فلم ينتظم لكم ويصلح به أمركم، وهذا قوله تعالى: " وتقطعت بهم الأسباب " .
يتخلص من الولاية ببيت شعرحدثنا محمد بن الحسن بن دريد، أنبانا أبو عثمان، قال: حدثني العتبي: قال: ولى عمر بن عبد العزيز رجلاً فكره الولاية، فكتب إلى عمر: بسم الله الرحمن الرحيم، لعبد الله عمر أمير المؤمنين، أما بعد:
فاسقني شربةً ألذ عليها ... ثم عد مثل شربتي لهشام
فكتب إليه عمر: اعتزل عملي، فاعتزل ثم كتب إليه:
عسلاً سائلاً وماءً قراحاً ... إنني لا أحب شرب المدام
فكتب إليه عمر: عد إلى عملك، فكتب إليه: لا حاجة لي في عملكم.
أنت أسود أم حاتمحدثنا محمد بن القاسم الأنباري، أنبأنا أبو العباس أحمد بن يحيى، عن محمد بن سلام، قال: قيل لأوس بن حارثة، وهو أوس بن سعد الطائي: أنت أسود أم حاتم؟ وكان أوس يمشي في ثلاثين من ولده، فقال: لو أنني وولدي لحاتم لأنهبنا في غداة.
وقيل لحاتم: أنت أسود أم أوس؟ فقال: بعض ولد أوسٍ أسود مني.
يصلح بين عبد الملك وزوجه فينال حكمهحدثنا الحسن بن أحمد الكلبي، حدثنا محمد بن زكريا، حدثنا عبد الله بن الضحاك المصري، قال: حدثنا الهيثم بن عدي الطائي، قال: حدثني أبي.
أن عبد الملك بن مروان كان من أشد الناس حباً لامرأته عاتكة بنت يزيد بن معاوية، وأمها أم كلثوم بنت عبد الله بن عامر بن كريز، قال: فغضبت عليه - يعني على عبد الملك - وكان بينهما باب فحجبته وأغلقت ذلك الباب، فشق على عبد الملك فشكا إلى خاصته، فقال له عمر بن بلال الأسدي: مالي عنك إن رضيت؟ قال: حكمك، قال: فأتى عمر ابن بلال بابها باكياً، فخرجت إليه حاضنتها ومواليها وجواريها، فقلن: ما لك؟ فقال: فزعت إلى عاتكة ورجوتها، فقد علمت مكاني من أمير المؤمنين معاوية ومن يزيد بعده، فقلن: مالك؟ قال: كان لي ابنان لم يكن لي غيرهما فقتل أحدهما صاحبه، فقال أمير المؤمنين: أنا قاتلٌ الآخر، فقلت: أنا الولي وقد عفوت.
فقال: لا أعود الناس هذه العادة.
ورجوت الله تعالى أن يحيا ابني هذا، فدخلن عليها فذكرن لها ذلك، فقالت: فما أصنع مع غضبي عليه، وما أظهرت له؟ فقلن: إذاً والله يقتل ابنه.
فلم يزلن بها حتى دعت بثيابها فلبستها، ثم خرجت إليه من الباب، فأقبل خديج الخادم، فقال: يا أمير المؤمنين! عاتكة قد أقبلت، فقال: ويلك! ما تقول؟ قال: قد - والله - طلعت.
قال: فأقبلت فسلمت فلم يرد، فقالت: أما - والله لولا عمر بن بلال ما جئت قط، فلا بد أن تهب لي ابنه، فإنه الولي وقد عفا.
قال: إني أكره أن أعود الناس هذه العادة.
فقالت: نشدتك الله يا أمير المؤمنين، فقد عرفت مكانه من أمير المؤمنين معاوية ومن يزيد.
فلم تزل به حتى أخذت رجله فقبلتها، فقال: هو لك. فلم يبرحا حتى اصطلحا.
قال: ثم راح عمر بن بلال إلى عبد الملك، فقال له: رأينا ذلك الأمر، حاجتك؟ قال: مزرعةً بعبيدها وما فيها، وألف دينارٍ، وفرائض لولدي وأهل بيتي، وإلحاق عمالي.
قال: ذلك لك.
المجلس الثامن والعشرون
أنت صاحب الجبيذة بالأمس؟
حدثنا محمد بن عبد الله بن الحسين المستعيني، حدثنا إسماعيل بن عبد الله بن ميمون، حدثنا الأسود بن عامر، حدثنا هرثم بن سفيان، عن بنان، عن قعين، عن أبي سهم، قال: كنت بالمدينة فمرت بي امرأةٌ فأخذت بكشحها، وأصبح رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يبايع الناس، فأتيته فلم يبايعني، فقال: أنت صاحب الجبيذة بالأمس؟ فقلت: يا رسول الله! لا أعود، قال: فبايعني.
تعليق لغوي الكشح والجبيذةقال القاضي: الكشح: الخاصرة، كما قال زهير:
وكان طوى كشحاً على مستكنه ... فلا هو أبداها ولم يتندم
وقوله: الجبيذة: تصغير جبذة، والجذبة، يقال: جبذت الشيء وجذبته إذا شددته إليك، ونحو هذا من كلام العرب: صاعقةٌ وصاقعة، وما أطيبه وما أيطبه، ويبتغي بي الدم ويتبغى في كثير من الكلام أتى كذلك، وسمى اللغويون هذا النوع " باب القلب " ، وقد جمع بعضهم هذا الضرب أو ما انتهى إليه منه.
وسيلةٌ مؤكدة
حدثنا محمد بن الحسن بن دريد: أنبأنا أبو حاتم، عن العتبي، قال: قال بعض خلفاء بني أمية - ولم يسمه - ما توسل إلي أحدٌ بوسيلة، ولا تذرع بذريعةٍ هي أقرب إلى ما يحب مني من يدٍ سبقت مني إليه أتبعها ليحسن حفظها، لأن منع الأواخر يقطع لسان شكر الأوائل، وما سمحت نفسي برد بكر الحوائج.
تشدد شريك بن عبد الله في إحقاق الحقحدثنا محمد بن يزيد الخزاعي، حدثنا الزبير، قال: حدثني عمي، عن عمر بن الهيام بن سعيد، قال: أتته امرأة يوماً - يعني شريكاً - من ولد جرير بن عبد الله البجلي صاحب النبي صلى الله عليه وسلم وهو في مجلس الحكم، فقالت: أنا بالله ثم بالقاضي، امرأةٌ من ولد جرير بن عبد الله صاحب النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ورددت الكلام، فقال: إيهاً عنك، الآن من ظلمك؟ قالت: الأمير عيسى بن موسى، كان لي بستانٌ على شاطىء الفرات، لي فيه نخلٌ، ورثته عن آبائي، وقاسمت إخوتي، وبنيت بيني وبينهم حائطاً، وجعلت فيه رجلاً فارسياً في بيتٍ يحفظ لي النخل ويقوم ببستاني، فاشترى الأمير عيسى من إخوتي جميعاً وسامني فأرغبني فلم أبعه، فلما كان في هذه الليلة بعث خمسمائة فاعلٍ فاقتلعوا الحائط، فأصبحت لا أعرف من نخلى شيئاً واختلط بنخل إخوتي. قال: يا غلام! طينة، فختم لها خاتماً، ثم قال لها: إمضي به إلى بابه حتى يحضر معك.
فجاءت المرأة بالطينة فأخذها الحاجب ودخل على عيسى، فقال له: أعدي شريكٌ عليك، قال له: أدع لي صاحب الشرطة، فدعا به، فقال: امض إلى شريك فقل له: يا سبحان الله! ما رأيت أعجب من أمرك، امرأة ادعت دعوى لم تصح، أعديتها علي؟ فقال: إن رأى الأمير أن يعفيني فليفعل، فقال: امض ويلك.
فخرج فأمر غلمانه أن يتقدموا إلى الحبس بفراشٍ وغير ذلك من آلة الحبس، فلما جاء وقف بين يدي شريكٍ القاضي فأدى الرسالة، فقال لصاحبه: خذ بيده فضعه في الحبس، قال: قد - والله يا أبا عبد الله - عرفت أنك تفعل بي هذا، فقدمت ما يصلحني إلى الحبس.
قال: وبلغ عيسى بن موسى ذلك فوجه بحاجبه إليه، فقال: هذا من ذاك، رسول أي شيءٍ أنت؟ فأدى الرسالة، فألحقه بصاحبه فحبس.
فلما صلى الأمير العصر بعث إلى إسحاق بن صباح الأشعثي وإلى جماعة مو وجوه الكوفة من أصدقاء شريك، فقال: أمضوا إليه وأبلغوه السلام وأعلموه أنه قد استخف بي، فإني لست كالعامة.
فمضوا وهو جالسٌ في مسجده بعد العصر، فدخلوا إليه فأبلغوه الرسالة، فلما انقضى كلامهم، قال لهم: مالي لا أراكم جئتم في غيره من الناس؟! من هاهنا من فتيان الحي؟ فابتدروه، فقال: يأخذ كل واحد منكم بيد رجلٍ من هؤلاء فيذهب به إلى الحبس، لابتم - والله - إلا فيه، قالوا: أجادٌ أنت؟ قال: حقا، حتى لا تعودوا تحملوا رسالة ظالم، فحبسهم.
فركب عيسى بن موسى في الليل إلى باب الحبس ففتح الباب وأخذهم جميعاً، فلما كان من الغد وجلس شريكٌ للقضاء، جاء السجان وأخبره، فدعا بالقمطر فختمها ووجه بها إلى منزله، وقال لغلامه: إلحقني بثقلي إلى بغداد، والله ما طلبنا هذا الأمر منهم، ولكن أكرهونا عليه، ولقد ضمنوا لنا الإعزاز فيه.
ومضى نحو قنطرة الكوفة يريد بغداد، وبلغ عيسى بن موسى الخبر، فركب في موكبه فلحقه وجعل يناشده الله ويقول: يا أبا عبد الله! تثبت، انظر إخوانك تحبسهم؟ دع أعواني، قال: نعم، لأنهم مشوا لك في أمرٍ لم يجب عليهم المشي فيه، ولست ببارح أو يردوا جميعاً إلى الحبس، وإلا مضيت من فوري إلى أمير المؤمنين فاستعفيته فيما قلدني.
فأمر بردهم جميعاً إلى الحبس، وهو - والله - واقفٌ مكانه حتى جاء السجان، فقال: قد رجعوا إلى الحبس، فقال لأعوانه: خذوا بلجامه قودوه بين يدي إلى مجلس الحكم، فمروا به بين يديه حتى دخل المسجد، وجلس مجلس القضاء، ثم قال: الجريرية المتظلمة من هذا؟ فجاءت، فقال: هذا خصمك قد حضر، فلما جلس معها بين يديه قال: يخرج أولئك من الحبس قبل كل شيءٍ، ثم قال: ما تقول فيما تدعيه هذه؟ قال: صدقت، فقال: ترد جميع ما أخذ منها إليها وتبني حائطها في أسرع وقت، كما هدم، قال: أفعل، أبقي لك شيءٌ؟ قال: تقول المرأة: نعم، وبيت الفارسي ومتاعه، قال: وبيت الفارسي ومتاعه، فقال شريك: أبقي شيءٌ تدعينه عليه؟ قالت: لا، وجزاك الله خيراً، قال: قومي، وزبرها، ثم وثب من مجلسه فأخذ بيد عيسى بن موسى فأجلسه في مجلسه، ثم قال: السلام عليك أيها الأمير، تأمر بشيء؟ قال: بأي شيءٍ آمر؟ وضحك.
من بلاغة خالد بن صفوان وحسن كلامهحدثنا أبي، حدثنا أبو أحمد الختلي، أنبأنا أبو حفص النسائي، قال: حدثني محمد بن عمرو، عن الهيثم بن عدي، قال:
خرج هشام بن عبد الملك ومعه مسلمة أخوه إلى مصانع قد هيئت له وزينت بأنواع النبت، وتوافى إليه بها وفود أهل مكة والمدينة وأهل الكوفة والبصرة، قال: فدخلوا عليه وقد بسط له في مجالس مشرفةٍ، مطلةٍ على ما شق له من الأنهار المحفة بالزيتون في سائر الأشجار، فقال: يا أهل المدينة! هل فيكم مثل هذه المصانع؟ قالوا: لا، غير أن فينا قبر نبينا المرسل صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ثم التفت إلى أهل الكوفة، فقال: أفيكم مثل هذه المصانع؟ قالوا: لا، غير أن فينا تلاوة كتاب الله المنزل، ثم التفت إلى أهل البصرة، فقال: أفيكم مثل هذه المصانع؟ قال: فقام إليه خالد بن صفوان: فقال: أصلح الله أمير المؤمنين، إن هؤلاء قد أقروا على أنفسهم، ولو كان فيهم من له لسانٌ وبيانٌ لأجاب عنهم، فقال له هشام: أفعندك غير ما قالوا؟ قال: نعم، أصف بلادي، وقد رأيت بلادك نفسها، فقال: هات، فقال: يعدو قانصنا فيجيء هذا بالشبوط والشيم، ويجيء هذا بالظبي والظليم، ونحن أكثر الناس عاجاً وساجاً، وخزا وديباجاً، وخريدة مغناجاً، وبرذرناً هملاجاً، ونحن أكثر الناس فيداً ونقداً، ونحن أوسع الناس برية، وأريفهم بحرية، وأكثرهم ذرية وأبعدهم سرية، بيوتنا ذهب، ونهرنا عجب، أوله رطب، وآخره عنب، وأوسطه قصب.
فأما نهره العجب، فإن الماء يقبل وله عباب ونحن نيام على فرشنا، حتى يدخل بأرضنا، فيغسل آنيتها، ويعلو متنها، فنبلغ منه حاجتنا، ونحن على فرشنا، لا ننافس فيه من قلة، ولا نمنع منه لذلة، يأتينا عند حاجتنا إليه، ويذهب عنا عند رينا منه، وغناءنا عنه.
النخل عندنا في منابته، كالزيتون عندكم في منازله، فذلك في أوانه، كهذا في إبانه، ذاك في أفنانه، كهذا في أغصانه، يخرج أسفاطاً عظاماً وأوساطاً، ثم ينغلق عن قضبان الفضة منظومة بالزبرجد الأخضر، ثم يصير أصفر وأحمر، ثم يصير عسلاً في شنه، مرتتجاً بقربه، ولا إناء حولها المذاب، ودونها الحراب، لا يقربها الذباب، مرفوعة عن التراب، من الراسخات في الوحل، الملقحات بالفحل، المطعمات في المحل.
وأما بيوتنا الذهب فإنا لنا عليهن خرجاً في السنين والشهور نأخذه في أوقاته، ويدفع الله عنه آفاته، وننفقه في مرضاته.
قال: فقال هشام: وأنى لكم هذا يا ابن صفوان ولم تسبقوا إليه، ولم تغلبوا عليه؟ فقال: ورثناه عن الآباء ونغمره للأبناء، ويدفع لنا عنه رب السماء، فمثلنا فيه كما قال أوس بن مغراء الشاعر:
فمهما كان من خيرٍ فإنا ... ورثناه أوائل أولينا
ونحن مورثوه كما ورثنا ... عن الآباء إن متنا بنينا
قال: فقال هشام: لله درك يا ابن صفوان، لقد أوتيت لساناً وعلماً وبياناً، فأكرمه وأحسن جائزته وقدمه على أصحابه.
السبب في عزل شريك بن عبد الله القاضيحدثنا محمد بن القاسم الأنباري، قال: حدثني محمد بن المرزبان، قال: حدثني أبو بكر العامري، حدثنا مصعب بن عبد الله الزبيري، قال: حدثني أبي، قال: تقدم إلى شريك بن عبد الله وكيل لمؤنسة مع خصمٍ له، فجعل يستطيل على خصمه إدلالاً بموضعه من مؤنسة.
فقال له شريكٌ: كف لا أبا لك فقال: أتقول هذا لي وأنا وكيل مؤنسة؟! فأمر به فصفع عشر صفعاتٍ فانصرف يجري ودخل على مؤنسة وشكا لها، فكتبت مؤنسة إلى المهدي فعزل شريكاً.
وكان قبل هذا بيسيرٍ قد دخل شريكٌ على المهدي، فقال له: ما ينبغي لك تقلد الحكم بين المسلمين، قال: ولم؟! قال: لخلافك على الجماعة، وقولك بالإمامة.
قال: أما قولك: لخلافك على الجماعة، فعن الجماعة أخذت ديني، فكيف أخرج عنهم وهم أصلي في ديني؟ وأما قولك: بالإمامة، فما أعرف إماماً إلا كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، وأما قولك: مثلك لا ينبغي له الحكم بين المسليمن، فهذا شيءٌ أنتم فعلتموه فإن كان خطأً فاستغفروا الله منه، وإن كان صواباً فأمسكوا عليه.
قال: ما تقول في علي بن أبي طالب؟ قال: ما قال عنه جداك العباس وعبد الله قال: وما قالا عنه؟
قال: أما العباس فمات وعلي عنده أفضل الصحابة، وقد كان يرى كبراء المهاجرين يسألونه عما ينزل من النوازل، وما احتاج هو إلى أحدٍ حتى لحق بالله تعالى، وأما عبد الله فإنه كان يضرب بين يديه بسيفين، وكان في حروبه رأساً متبعاً وقائداً مطاعاً، فإن كانت إمامة علي جوراً لكان أول من يقعد عنها أبوك لعلمه بدين الله تعالى وفقهه في أحكام الله.
فسكت المهدي وأطرق، ولم يمض بعد هذا المجلس إلا قليلٌ حتى عزل شريك.
لطيفة بين خالد بن عبد الله وأعرابي قصدهحدثنا الحسين بن القاسم الكوكبي، حدثنا محمد بن كثير العبدي، حدثنا عبد الملك بن قريب الأصمعي، قال: حدثني عمر بن الهيثم، قال: بينما خالد بن عبد الله بظهر الكوفة متنزهاً إذ حضره أعرابي، فقال: يا أعرابي! أين تريد؟ فقال: هذه القرية - يعني الكوفة - قال: وماذا تحاول بها؟ قال: قصدت خالد بن عبد الله متعرضاً لمعروفه، قال: فهل تعرفه؟ قال: لا، قال: فهل بينك وبينه قرابة؟ قال: لا، ولكن لما بلغني من بذله المعروف، وقد قلت فيه شعراً أتقرب به إليه، قال: فأنشدني مما قلت فيه، فأنشأ يقول:
إليك ابن كرز الخير أقبلت راغباً ... لتجبر مني ما وهى وتبددا
إلى الماجد البهلول ذي الحلم والندى ... وأكرم خلق الله فرعاً ومحتدا
إذا ما أناسٌ قصروا في فعالهم ... نهضت فلم يلفى هنالك مقعدا
فيا لك بحراً يغمر الناس موجه ... إذا يسأل المعروف جاش وأزبدا
بلوت ابن عبد الله في كل موطنٍ ... فألفيت خير الناس نفساً وأمجدا
فلو كان في الدنيا من الناس خالدٌ ... لجودٍ بمعروف لكنت مخلدا
فلا تحرمني منك ما قد رجوته ... فيصبح وجهي كالح اللون أربدا
فحفظ خالد الشعر، وقال له: انطلق، صنع الله لك.
فلما كان من غدٍ ودخل الناس إلى خالدٍ واستوى السماطان بين يديه، تقدم الأعرابي وهو يقول: إليك ابن عبد القيس، فأشار إليه خالدٌ بيده أن اسكت.
ثم أنشد خالد بقية الشعر، وقال له: يا أعرابي! قد قيل هذا الشعر قبل قولك، فتحير الأعرابي وورد عليه ما أدهشه، وقال: والله ما رأيت كاليوم سبباً لخيبةٍ وحرمان، فانصرف وأتبعه خالدٌ برسولٍ ليسمع ما يقول، فسمعه الرسول يقول:
ألا في سبيل الله ماكنت أرتجي ... لديه وما لاقيت من نكد الجد
دخلت على بحرٍ يجود بماله ... ويعطي كثير المال في طلب الحمد
فحالفني الجد المشوم لشقوتي ... وقارنني نحسي وفارقني سعدي
فلو كان لي رزقٌ لديه لنلته ... ولكنه أمرٌ من الواحد الفرد
فقال له الرسول: أجب الأمير، فلما انتهى إلى خالدٍ، قال له: كيف قلت فأنشده، ثم استعاده فأعاده ثلاثاً إعجاباً منه به، ثم أمر له بعشرة آلاف درهم.
تعليق نحويقوله: فلم يلفى، والوجه: لم يلف، ولكنه اضطر فجاء به على الأصل، كما قال الشاعر:
ألم يأتيك والأنباء تنمي ... بما لاقت لبون بني زياد
وقد استقصينا هذا الباب في غير هذا الموضع.
اعفني من أربعحدثني عبيد الله بن محمد بن الأزدي، حدثنا أبو بكر بن أبي الدنيا، قال: حدثني أبي، قال: أخبرنا بعض أصحابنا ، قال: كان عبدالملك بن مروان إذا دخل عليه رجلٌ من أفقٍ من الآفاق، قال له: اعفني من أربع، وقل بعدها ما شئت ألا تكذبني فإن الكذوب لا رأي له، ولا تجبني فيما لا أسألك عنه، فإن في الذي أسألك عنه شغلاً عما سواه، ولا تحملني على الرعية، فإنهم إلى معدلتي ورأفتي أحوج.
الزرع والجرادحدثنا الحسين بن علي بن المرزبان النحوي، قال: حدثني أبو الحسن الأسدي أحمد بن عبد الله بن صالح بن شيخ بن عميرة، حدثنا عبدالرحمن بن أخي الأصمعي، عن عمه الأصمعي، قال: قيل لأعرابي: أكان لك زرع؟ قال: نعم، ولكن أتانا رجلٌ من جراد، تنبل مناجل الحصاد، فسبحان مهلك القوي الأكول، بالضعيف المأكول.
المتفضل جاوز حد المنصفحدثنا عبيد الله بن عبد الرحمن بن محمد بن عيسى بن خلف السكري، حدثنا أبو يعلى زكريا بن يحيى بن خلاد المنقري البصري الصيرفي، ثنا الأصمعي، عمن أخبره:
أن أبا جعفر المنصور حين عفا عن أهل الشام، قال له رجلٌ، يا أمير المؤمنين! الانتقام عدلٌ والتجاوز فضل، والمتفضل قد جاوز حد المنصف، فنحن نعيذ أمير المؤمنين بالله عز وجل من أن يرضى لنفسه بأوكس النصيبين، وألا يرتفع إلى أعلى الدرجتين.
المجلس التاسع والعشرون
الناس سواء كأسنان المشطحدثنا إبراهيم بن المفضل بن حيان الحلواني، حدثنا أبو حمزة إدريس بن يونس الفراء، حدثنا علي بن عثمان بن عمر بن ساج، حدثنا سليمان بن عبد الله، عن أبي حازم، عن سهل بن سعد، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " الناس سواء كأسنان المشط، وإنما يتفاضلون بالعافية، والمرء كثيرٌ بأخيه، ولا خير لك في صحبة من لا يرى لك مثل ما ترى له " .
قال القاضي: وقد تضمن هذا الخبر بألفاظه اللطيفة الجامعة، ومعانيه الشريفة النافعة، حكماً متقبلةً في العقل، ثابتةً في الفضل، راجحةً في ميزان العدل.
وقوله عليه السلام: " الناس سواءٌ كأسنان المشط " من أبين الكلام النبيه، وأحسن التمثيل والتشبيه، وقد قال الشاعر:
سواسيةٌ كأسنان الحمار
فنحا هذا النحو في العبارة من التساوي والتشاكل، والاشتباه والتماثل.
فأما قول هذا الشاعر: سواسية.. فإن بعض علماء أهل اللغة ذكر أن السواسية هم المتساوون في الشبه، وأن هذا القول إنما يستعمل في الذم، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: " الناس سواءٌ كأسنان المشط، وإنما يتفاضلون بالعافية " ، تأديب لهم وحض لهم على تفكرهم في أنفسهم، وأنهم يتساوون في الأصل، ويتفقون في الخلق والجبل، ويتفاوتون في منازل الفضل، ليرجعوا إلى المعرفة بأنفسهم، ويتنزهوا عن المنافسة التي تفسد ذات بينهم، ويجتنبوا البغي والتفاخر، والاستطالة بالتكاثر، وليشكر المفضل منهم ربه عز وجل، إذ أبانه بالفضل على من سواه، وخصه بنعمته دون كثير ممن عداه، ويؤدي حق مولاه فيما أولاه وأبلاه، فإن الناس على ما جاء في الأثر معافىً ومبتلى، وقد أحسن الذي يقول:
الناس أشكالٌ وشتى في الشيم ... وكلهم يجمعه بيت الأدم
وقوله عليه السلام: " المرء كثيرٌ بأخيه " من بليغ الكلام ونفيس الحكم، لأن المرء يشد أخاه ويؤازره، ويعضده ويناصره، وقد أتى الخبر في الأمة الهادية أنها كالبنيان يشد بعضه بعضاً.
وجاء عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه ذكر المؤمنين في تناصرهم وتواصلهم، أنهم كالجسد الواحد إذا اشتكى عضو من أعضائه، تداعى له سائر جسده بالسهر والحمى.
وقد حدثنا عبد الله بن محمد بن عبد العزيز البغوي، حدثنا محمد بن زياد بن بردة، حدثنا أبو شهاب، عن الحسن، وعمرو، عن الشعبي، عن النعمان بن بشير، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " المسلمون كرجلٍ واحد، إذا اشتكى عضوٌ من اعضائه تداعى له سائر جسده " .
وفي استقصاء ما جاء في التعاطف والتواصل، والمصافاة والتباذل، من الروايات والآثار، والحكايات والأخبار، وتنوشد من منظوم الأشعار، طولٌ ليس هذا من موضعه، واشتهاره عند العامة والخاصة، يغني عن الإسهاب فيه، والإطناب في ذكره، وإحضار جميع ما قيل فيه، وما خالفه، وإني لأستحسن ما أنشدته عن عبد الله بن المعتز وهو:
لله إخوان صحبتهم ... لا يملكون لسلوةٍ قلبا
لولا تستطيع نفوسهم بعدت ... أجسامهم فتعانقت حبا
وقوله في الخبر: " ولا خير لك في صحبة من لا يرى لك مثل ما ترى له " . من أفصح لفظٍ، وأوضح معنىً.
وتأويله عندي: أنه لا خير لامرىء في صحبة من لا يرى لأخيه من المناصحة والمكافأة والمخالصة، وأخذ نفسه له بالإنصاف والمساعدة، والإسعاف والمرافدة، مثل الذي يراه له أخوه من ذلك، ومن كان لأخيه الصادق في مؤاخاته بهذه المنزلة فهو بالعدو أشبه منه بالولي.
وقد اختلف ذوو الفحص والتفتيش من أصحاب المعاني، في قول الشاعر:
وإني لأستحيي أخي أن أرى له ... علي من الحق الذي لا يرى ليا
فقال بعضهم: معناه أنه لا يرى أن لي عليه حقاً حسب ما أرى له من وجوب حقه علي، ووجهوه إلى نحو ما تأولناه.
وقال بعض المحققين من هذه الطائفة والمتحققين بتحصيل معانيها:
بل المعنى إني أستحيي أخي أن أرى له عندي من فضلٍ سابقٍ منه، مالا يرى لي عنده من فضل، فيكون قد ثبت عندي حقاً لم أثبت لنفسي عنده من الحق مثله.
وهذا أصح التأويلين، وأصوب المعنين، وقوله: وإني لأستحيي أخي أن أرى له...، يشهد بصحة هذا التأويل، لأن قائلاً لو قال لآخر: إني لأستحييك أن آتي من حسن عشرتك ما لا يأتي مثله في معاشرتي، لكان من الكلام الركيك الذي يستهجن ولا يستحسن، ولو قال له: إني لأستحييك أن تعاشرني من النبل ما لا أعاشرك بمثله، لكان من أبين الكلام وأفصحه، وأحسن معنى وأوضحه.
فأما قول النبي صلى الله عليه وسلم: في الخبر: " ولا خير لك في صحبة من لا يرى لك مثل ما تراه له " ، فهو جارٍ علىعكس هذه الطريقة بحسب ما بيناه، وإنما يصح حمله على النحو الذي حملنا عليه تفسير البيت، لو كان قيل فيه: ولا خير لمن صحبته في صحبتك إذا لم تر له من الحق مثل الذي يرى لك، على ما تقدم من تلخيصنا.
خبر من فتح القسطنطينيةحدثنا محمد بن الحسن بن دريد، أنبأنا أبو حاتم، عن العتبي، قال: كتب مسلمة بن عبد الملك إلى أبيه، وهو بالقسطنطينية:
أرقت وصحراء الطوانة منزلي ... لبرقٍ تلالا نحو عمرة يلمح
أزوال أمراً لم يكن ليطيقه ... من القوم إلا القلبي الصمحمح
فكتب القعقاع بن خليد العبسي إلى عبد الملك:
فأبلغ أمير المؤمنين بأننا ... سوى ما يقول القلبي الصمحمح
أكلنا لحوم الخيل رطباً ويابساً ... وأكبادنا من أكلنا الخيل تقرح
ونحسبها نحو الطوانة ظلعا ... وليس لها حول الطوانة مسرح
فليت الفزاري الذي غش نفسه ... وخان أمير المؤمنين يسرح
وكان أصابتهم مجاعةٌ حتى أكلوا الخيل، فكتم ذلك مسلمة بن عبد الملك، وكتب مع رجل من بني فزارة، فذلك معنى قوله:
فليت الفزاري الذي غش نفسه
معنى بعض الكلمات ووزنهاقال القاضي: القلبي: الذي يعرف تقلب الأمور وتدبيرها، ويتصفحها فيعلم بمجاريها، يقال: رجلٌ قلبي حولي: لمحاولته وتقلبه، وتدبيره، ويقال له أيضاً: حول قلب، كما قال الشاعر:
حول قلبٌ معنٌ مفنٌ ... كل داءٍ له لديه دواء
وقوله: الصمحمح: أراد به وصفه بالشدة والقوة، وبين أهل العلم بكلام العرب اختلاف في معنى الصمحمح من جهة اللغة وفي وزنه من الفعل على الطريقة القياسية، فأما اللغويون فاختلفوا في معناه، فذهب سيبويه ومن قال بقوله: إنه الشديد الغليظ القصير وهو صفة، ويقال أيضاً للغليظ الشديد: دمكمك، وقال أبو عمرو الشيباني: الصمحمح: المحلوق الرأس، وأنشد:
صمحمحٌ قد لاحه الهواجر
وقال أبو العباس أحمد بن يحيى: الصمحمح: الأصلع.
واختلف النحويون في وزن صمحمح من الفعل، فقال سيبويه ومن يسلك سبيله من البصريين: هو فعلعل، وقال الفراء وأتباعه من الكوفيين: هو فعلل مثل: سفرجل، وكذلك دمكمك، ولكل فريقٍ منهم اعتلالٌ في قوله، وطعنٌ في مذهب خصمه.
فأما الفراء فإنه احتج بأن قال: لو جاز أن يكون صمحمح على فعلعل لتكرير لفظ العين واللام، لجاز أن يكون صرصر على فعفع، وسجسج لتكرير لفظ الفاء، فلما بطل أن يكون صرصر على فعفع بطل أن يكون صمحمج على فعلعل.
والذي قاله سيبويه هو الصحيح الذي يشهد القياس بتصويبه، وذلك أن موافقة الحرف المتكرر الحرف المتقدم في صورته يوجب موافقته في الحكم على وزنه إذا استوفى في وزن الكلمة التي هي فاء الفعل وعينه ولامه، ما لم يلجىء إلى خلاف هذا حجةٌ كالقصور عن استكمال هذه الحروف، والحاجة إلى إتمام الكلمة باختصار حروف الفعل، فلهذا قضي على " صرصر " بأنه " فعلل " ، ولم يجز حمله على " فعفع " لأنه لو حمل على هذا بطل التمام لعدم اللام، وإذا جعلت عين الفعل في صمحمح مكررة لم يفسد الكلام، وتم مع إقامة القياس واستقام، وقد قال بعض من احتج بهذا من أصحاب سيبويه: ألا ترى أنا نجعل إحدى الراءين في احمر زائدة، ولا نجعل إحدى الراءين في مر وكر زائدة لأنا لو جعلنا أحدهما زائدة بطل عين الفعل أو لامه.
وقالوا: مما يبطل قول الفراء، قولهم: " خلعلع " وهو الجعل، لو سلكنا به مذهب " سفرجل " لم يكن له نظيرٌ في كلام العرب، لأنه ليس في كلامهم مثل سفرجل، قالوا: وفي خروجه عن أبينة كلام العرب دليلٌ على زيادة الحرف فيه.
وزعم الفراء أن اخلولق: افعوعل، فكرر العين ولم يجعله افعولل أو افعلل، وقال بعض من احتج لسيبويه بهذا، وأنكر قول الفراء إن قال قائلٌ: ليس في الأفعال افعلل، قيل له: يلزم الفراء أن يجعلها افعلل ولا يجعله افعوعل ولا يكرر العين، إذا كان قد أنكر تكرير العين فيما ذكرنا.
وفي استقصاء القول في هذه الكلمة ونظيرها وذكر اختلاف النحويين في أصل الباب الذي يشتمل عليها طولٌ يضيق عنه قدر مجلسٍ بأسره من مجالس هذا الكتاب، وله موضع هو أولى به يؤتى به فيه إن شاء الله تعالى.
تصميم قاضي الرقة على إنصاف المظلومحدثنا محمد بن أبي الأزهر، حدثنا أبو عبد الله الزبير بن بكار بن عبد الله بن مصعب بن ثابت بن عبد الله بن الزبير بن العوام بن أسد، قال: حدثني عمي مصعب بن عبد الله، قال: كان عبيد الله بن ظبيان قاضي الرقة، وكان الرشيد إذ ذاك بها، فجاء رجل فاستعدى إليه من عيسى بن جعفر، فكتب إليه ابن ظبيان: " أما بعد، أبقى الله الأمير وحفظه، وأتم نعمته عليه، أتاني رجلٌ يذكر أنه فلان بن فلان، وأن له على الأمير - أبقاه الله - خمس مائة ألف درهم - فإن رأى الأمير - أبقاه الله - أن يحضر معه مجلس الحكم أو يوكل وكيلاً يناظر خصمه فعل " .
قال: ودفع الكتاب إلى الرجل، فأتى باب عيسى بن جعفر فدفع الكتاب إلى حاجبه فأوصله إليه، فقال له: كل هذا الكتاب.
فرجع إلى القاضي فأخبره، فكتب إليه: أبقاك الله وحفظك وأمتع بك، حضر رجلٌ يقال له فلان بن فلان، فذكر أن له عليك حقاً فصر معه إلى مجلس الحكم أو وكيلك إن شاء الله.
ووجه بالكتاب مع عونين من أعوانه، فحضرا باب عيسى بن جعفر ودفعا الكتاب إليه، فغضب ورمى به، فانطلقا إليه فأخبراه.
فكتب إليه: حفظك الله وأبقاك وأمتع بك، لا بد أن تصير أنت وخصمك إلى مجلس الحكم، فإن أنت أبيت رفعت أمرك إلى أمير المؤمنين إن شاء الله.
ووجه الكتاب مع رجلين من أصحابه العدول، فقعدوا على باب عيسى بن جعفر حتى خرج، فقاما إليه ودفعا إليه كتاب القاضي، فلم يقرأه ورمى به، فأبلغاه ذلك.
فختم قمطره وانصرف وقعد في بيته، وبلغ الخبر الرشيد فدعاه فسأله عن أمره، فأخبره بالقصة حرفاً حرفاً، فقال لإبراهيم بن عثمان: صر إلى باب عيسى بن جعفر فاختم عليه أبوابه كلها، ولا يخرجن أحدٌ ولا يدخلن أحدٌ عليه حتى يخرج إلى الرجل من حقه أو يصير معه إلى الحاكم.
قال: فأحاط إبراهيم بداره ووكل بها خمسين فارساً وأغلقت أبوابه، وظن عيسى أنه قد حدث للرشيد رأيٌ في قتله، فلم يدر ما سبب ذلك، وجعل يكلم الأعوان من خلف الباب، وارتفع الصياح من داره، وصرخ النساء، فأمرهن أن يسكتن، وقال لبعض غلمان إبراهيم: أدع لي أبا إسحاق لأكلمه، فأعلموه ما قال: فجاء حتى صار إلى الباب، فقال له عيسى ويلك ما حالنا؟ فأخبره خبر ابن ظبيان، فأمر أن تحضر خمسمائة ألف درهم من ساعته ويدفع بها إلى الرجل.
فجاء إبراهيم إلى الرشيد فأخبره، فقال: إذا قبض الرجل ماله فافتح أبوابه.
يخوف جارية بإهدائها لأصمعيحدثنا الحسين بن القاسم الكوكبي، حدثنا محمد بن القاسم بن خلاد، قال: قال الأصمعي: دخلت على جعفر بن يحيى بن خالد يوماً من الأيام، فقال: يا أصمعي! هل لك من زوجة؟ قلت: لا، قال: فجارية؟ قلت: جاريةٌ للمهنة، قال: فهل لك أن أهب لك جاريةً نظيفة؟ قلت: إني لمحتاجٌ إلى ذلك.
فأمر بإخراج جاريةٍ إلى مجلسه، فخرجت جاريةٌ في غاية الحسن والجمال والهيئة والظرف، فقال لها: قد وهبتك لهذا، وقال: يا أصمعي! خذها. فشكرته. فبكت الجارية وقالت: يا سيدي! تدفعني إلى هذا الشيخ مع ما أرى من سماجته وقبح منظره؟ وجزعت جزعاً شديداً.
فقال: يا أصمعي! هل لك أن أعوضك منها ألف دينار؟ قلت: ما أكره ذلك، فأمر لي بألف دينار، ودخلت الجارية، فقال: يا أصمعي! إني أنكرت على هذه الجارية أمراً فأردت عقوبتها بك ثم رحمتها منك. قلت: أيها الأمير! فألا أعلمتني قبل ذلك فإني لم آتك حتى سرحت لحيتي وأصلحت عمتي، ولو عرفت الخبر لصرت إليك على هيئة خلقتي، فوالله لو رأتني كذلك لما عاودت شيئاً تنكره أبداً ما بقيت.
المرء في رتبة السلطانحدثنا محمد بن القاسم الأنباري، قال: حدثني أبي، حدثنا أحمد بن عبيد، قال: أخبرنا المدائني، قال: زعموا أن رجلاً من بني كنانة أتى نصر بن سيار وهو على خراسان، وكان له صديقاً فوجده قد غير عن العهد، فلما رأى الإعراض قال:
قل لنصرٍ والمرء في رتبة السل ... طان أعمى ما دام يدعى أميرا
فإذا زالت الإمارة عنه ... واستوى والرجال عاد بصيرا
فبلغه، فقال: أقسمت عليك إلا أنشدتني البيتين، فأنشده فقال: صدقت لعمرو الله، وأثبته في صحابته، وأحسن جائزته، وجعله في سماره.
تأكيد الضمير المرفوع المتصل - المفعول معهقال القاضي: هكذا في كتابي: واستوى والرجال بالواو، ورفع الرجال عطفاً على الضمير الذي في استوى، والفصيح من كلام العرب في مثل هذا أن يؤكدوه ثم يعطفوا عليه فيقولوا: فاستوى هو والرجال، وقد جاء في الشعر غير مؤكد، قال جرير:
ورجا الاخيطل من سفاهة رأيه ... ما لم يكن وأبٌ له لينالا
والبصريون من النحويين يستقبحون ترك التوكيد فيه، والأمر فيه عند الكوفيين أيسر، على أنهم يختارون التوكيد ويؤثرونه، وقد أنشد الفراء:
ألم تر أن النبع يصلب عوده ... ولا يستوي والخروع المتقصف
ولو قيل: فاستوى والرجال بمعنى مع الرجال كان حسناً، وهذا من الباب الذي يسمى باب المفعول معه، كقولهم: استوى الماء والخشبة، وجاء البرد والطيالسة، كما قال الشاعر:
فكونوا أنتم وبني أبيكم ... مكان الكليتين من الطحال
وقد يقال: استوى الماء بالخشبة، وروي هذا البيت: واستوى بالرجال، وجاء في الخبر: ذكر التبيع في ولد البقر، فقيل: هو الذي استوى قرناه بأذنيه، ومن هذا النحو قولهم: ما صنعت وأباك.
وهذا باب يتسع القول فيه من قبل صناعة النحو ومذاهب أهله، وليس هذا من مواضع شرحه، وقد ذكرناه في موضعه من كتبنا في النحو وعلوم القرآن الكريم، وفي رسالةٍ أفردناها.
حماد الراوية يحاول أن يغتنم غنيمةحدثنا المظفر بن يحيى بن أحمد المعروف بابن الشرابي، ثنا أبو العباس أحمد بن محمد بن عبد الله المرثدي، قال: أخبرني أبو إسحاق الطلحي، قال: حدثني أحمد بن إبراهيم، قال: حدثني خالد بن كلثوم وغيره، عن حماد الراوية، قال: كنت عند الوليد يوماً فدخل عليه رجلان كأنهما كانا منجمين، فقالا: قد نظرنا فيما أمرتنا به فوجدناك تملك سبع سنين مؤيداً منصوراً، تستقيم لك الناس، ويزكو لك الخراج.
قال حماد: فاغتنمتها وأردت أن أخدعه كما خدعاه، فقلت: يا أمير المؤمنين! كذبا، نحن أعلم بالرواية والآثار وضروب العلوم منهما، وقد نظرنا في هذا ونظر الناس فيه قديماً فوجدناك تملك أربعين سنةً في الحال التي وصفا.
قال: فأطرق الوليد ثم رفع رأسه إلي، فقال: لا ما قاله هذان يكسرني، ولا ما قلته يقرني، والله لأجبين هذا المال من حله جباية من يعيش للأبد، ولأصرفنه في حقه صرف من يموت في غدٍ.
كلمات حكيمة للخليل بن أحمدحدثنا محمد بن الحسن المقري، أنبأنا عبد الله بن محمود المروزي بمرو، أنبأنا يحيى بن أكثم، أنبأنا النضر بن شميل، قال: سمعنا الخليل بن أحمد، يقول: التواني إضاعةٌ، والحزم بضاعة، والإنصاف راحة، واللجاجة وقاحة.
المجلس الثلاثون
حديث سواد بن قاربحدثنا عبد الباقي بن قانع، حدثنا محمد بن زكريا الغلابي، حدثنا بشر بن حجر الشامي، حدثنا علي بن منصور الأنباري، عن عمرو بن عبد الرحمن الوقاصي، عن محمد بن كعب القرظي.
قال: بينما عمر بن الخطاب رضي الله عنه جالس ومعه أصحابه إذ مر به رجلٌ فسلم عليه، فقال رجل من القوم: يا أمير المؤمنين! أتعرف هذا المسلم؟ قال: لا، قال: هذا سواد بن قارب الذي أتاه رئيه من الجن بظهور رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
فدعا عمر الرجل فقال: أنت سواد بن قارب؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين، قال: أنت كما كنت عليه من كهانتك؟ قال: فغضب الرجل غضباً شديداً، ثم قال: يا أمير المؤمنين! ما استقبلني أحدٌ بهذا منذ أسلمت، فقال عمر: ما كنا عليه من الشرك أعظم مما كنت عليه من كهانتك، فأخبرني بإتيانك رئيك بظهور رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، قال: نعم يا أمير المؤمنين! بينا أنا نائمٌ ذات ليلة بين النائم واليقظان إذ أتاني رئيي فضربني برجله ثم قال: قم يا سواد بن قارب وافهم واعقل، قد بعث رسولٌ من لؤي بن غالب يدعو إلى الله عز وجل وإلى عبادته، ثم أنشأ يقول:
عجبت للجن وأخبارها ... وشدها العيس بأكوارها
تهوى إلى مكة تبغي الهدى ... ما مؤمنو الجن ككفارها
فارحل إلى الصفوة من هاشمٍ ... بين روابيها وأحجارها
فقلت: دعني أنام، فإني أمسيت ناعساً.
فلما كان في الليلة الثانية أتاني فضربني برجله، وقال: قم يا سواد بن قارب فافهم واعقل إن كنت تعقل، إنه قد بعث رسولٌ من لؤي بن غالب يدعو إلى الله وإلى عبادته، ثم أنشأ يقول:
عجبت للجن وتطلابها ... وشدها العيس بأقتابها
تهوي إلى مكة تبغي الهدى ... ما صادقو الجن ككذابها
فارحل إلى الصفوة من هاشمٍ ... ليس قدامها كأذنابها
قال القاضي: وفي رواية أخرى:
واسم بعينيك إلى بابها
فقلت: دعني أنام، فإني أمسيت ناعساً.
فلما كانت الليلة الثالثة أتاني فضربني برجله، وقال: قم يا سواد بن قارب فافهم واعقل إن كنت تعقل، قد بعث رسولٌ من لؤي بن غالب، يدعو إلى الله تعالى وإلى عبادته، ثم أنشأ يقولك
عجبت للجن وتحساسها ... وشدها العيس بأحلاسها
تهوي إلى مكة تبغي الهدى ... ما خير الجن كأنجاسها
فارحل إلى الصفوة من هاشم ... واسم بعينيك إلى راسها
فلما أصبحت شددت على راحلتي رحلها وصرت إلى مكة، فقيل لي: قد سار إلى المدينة، فأتيت المدينة فصرت إلى مسجد المدينة فعقلت ناقتي، فإذا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، في جماعة من أصحابه، فلما نظر إلي قال: هات يا سواد بن قارب فقلت:
أتاني رئيي بعد هدءٍ ورقدةٍ ... ولم يك فيما بلوت بكاذب
ثلاث ليالٍ قوله كل ليلةٍ ... أتاك رسولٌ من لؤي بن غالب
فشمرت من ذيل الإزار ووسطت ... بي الذعلب الوجناء بين السباسب
فأشهد أن الله لا شيء غيره ... فأنك مأمونٌ على كل غائب
ةأنك أدنى المرسلين وسيلةً ... إلى الله يا ابن الأكرمين الأطايب
فمرنا بما نأتيه يا خير من مشى ... وإن كان فيما جاء شيب الذوائب
وكن لي شفيعاً يوم لا ذو شفاعةٍ ... سواك بمغنٍ عن سواد بن قارب
قال: ففرح رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه فرحاً شديداً.
قال: فقام إليه عمر رضي الله عنه فالتزمه وقبله بين عينيه، وقال: لقد كنت أحب أن أسمع هذا الخبر منك، فأخبرني هل ياتيك رئيك اليوم؟ قال: أما منذ قرأت كتاب الله تعالى فلا، ونعم البغوض كتاب الله تعالى من الجن.
قال القاضي: قد روينا خبر سواد بن قارب هذا من طرق عدة، وفي بعض ألفاظه اختلاف، ومعانيها متقاربة، وقوله: فارحل إلى الصفوة من هاشم: صفوة الشيء: خياره وأخلصه، يقال: هذه صفوة المتاع وصفوته، والكسر أفصح اللغات فيه، فإذا نزعت الهاء فيه، فقيل: هذا صفو الشيء بالفتح لا غير.
وقوله: الذعلب: السريعة، والوجناء: صفة لها بغلظ الوجنة وسعتها وهو من علامات النجابة.
وفي هذا الخبر: ما دل على نبوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وصحة دعوته، وهو أحد الأخبار التي تقدمت بالتبشير برسالته، والإشارة إلى صفته، والإيماء إلى نجومه ومخرجه، وهو بابٌ واسعٌ كبير جداً يتعب إحصاؤه، وقد ضمنته العلماء كتبهم وأخبارهم.
وقوله في هذا الخبر: بين السباسب، وهي الأفضية الواسعة من الأرض، وهي ما كان منها قفراً أملس، واحدها سبسب، كما قال الشاعر:
نعم قد تركناه بأرضٍ بعيدةٍ ... مقيماً بها في سبسبٍ وأكام
ويقال في هذا بسابس.
كلمات حكيمةحدثنا محمد بن الحسن بن دريد، أنبأنا أبو حاتم ، عن العتبي، عن أبيه قال: كان رجلٌ من حنظلة يقول: إنه لينبغي لك أن يدلك عقلك على ترك القول في أخيك، ففيه خلالٌ ثلاث: أما واحدةٌ فلعلك أن تذكره بما هو فيك، أو لعلك تذكره بأمرٍ قد عافاك الله منه، فما هذا جزاء العافية أن تجحد الشكر عليها.
أو لعلك تذكره بما فيك أعظم منه، فذلك أشد استحكاماً لمقته إياك، أما كنت تسمع: ارحم أخاك واحمد الذي عافاك.
عجيبة من العجائب الزاغ أبو عجوةحدثنا الحسين بن القاسم الكوكبي، قال: حدثني أبو علي محرز ابن أحمد الكاتب، قال: حدثني أبو علي محرز ابن أحمد الكاتب، قال: حدثني محمد بن مسلم السعدي، قال: وجه إلى يحيى بن أكثم يوماً فصرت إليه، فإذا عن يمينه قمطرٌ مجلدة، فجلست فقال لي: افتح هذا القمطر، ففتحها فإذا شيءٌ قد خرج منها، رأسه رأس إنسانٍ، وهو من سرته إلى أسفل خلقة " زاغ " ، وفي ظهره وصدره سلعتان، فكبرت وهللت وفزعت، ويحيى يضحك، فقال لي بلسانٍ فصيح طلق ذلق:
أنا الزاغ أبو عجوه ... أنا ابن الليث واللبوه
أحب الراح والريحا ... ن والنشوة والقهوة
فلا عدوى يدي تخشى ... ولا تحذر لي سطوه
ولي أشياء تستطرف ... بيوم العرس والدعوة
فمنها سلعةٌ في الظه ... ر لا تسترها الفروة
وأما السلعة الأخرى ... فلو كان لها عروة
لما شك جميع النا ... س فيها أنها ركوه
ثم قال: يا كهل! أنشدني شعراً غزلاً: فقال لي يحيى: قد أنشدك الزاغ فأنشده، فأنشدته:
أغرك أن أذنبت ثم تتابعت ... ذنوبٌ فلم أهجرك ثم ذنوب
وأكثرت حتى قلت ليس بصارمي ... وقد يصرم الإنسان وهو حبيب
فصاح: زاغ زاغ زاغ، ثم طار، ثم سقط في القمطر، فقلت ليحيى: أعز الله القاضي، وعاشقٌ أيضاً؟! فضحك، قلت: أيها القاضي: ماهذا؟ قال: هو ما تراه، وجه به صاحب اليمن إلى أمير المؤمنين، وما رآه بعد وكتب كتاباً لم أفضضه، وأظن أنه ذكر في الكتاب شأنه وحاله.
عدل سوار القاضي وانتصار الرشيد لهحدثنا محمد بن أبي الأزهر، حدثنا الزبير، حدثنا محمد بن سلام، قال: كان حماد بن موسى صاحب أمر محمد بن سليمان والغالب عليه، فحبس سوار القاضي رجلاً في بعض ما يحبس فيه القضاة، فبعث حمادٌ فأخرج الرجل من الحبس فجاء خصمه إلى سوار حتى دخل، فأخبره أن حماداً قد أخرج الرجل من الحبس.
وركب سوار حتى دخل على محمد بن سليمان وهو قاعدٌ للناس، والناس على مراتبهم، فجلس بحيث يراه محمد بن سليمان، ثم دعا آخر من نظرائه، فقال له كما قال للأول، فأجاب مثل جواب الأول فأقعده مع صاحبه، ففعل ذلك بجماعةٍ منهم، ثم قال لهم: انطلقوا إلى حماد بن موسى فضعوه في الحبس، فنظروا إلى محمد بن سليمان فأعلموه ما أمرهم به، فأشار إليهم: أن افعلوا ما يأمركم به، فانطلقوا إلى حماد فوضعوه في الحبس، وانصرف سوار إلى منزله، فلما كان بالعشي أراد محمد بن سليمان الركوب إلى سوار، فجاءته الرسل فقالوا: إن الأمير على الركوب إليك، فقال: لا، نحن بالركوب أولى إلى الأمير.
فركب إليه فقال: كنت على المجيء إليك أبا عبد الله، قال: ما كنت لأجشم الأمير ذاك، قال: بلغني ما صنع هذا الجاهل حماد، قال: هو ما بلغ الأمير، قال: فأحب أن تهب لي ذنبه، قال: أفعل أيها الأمير، اردد الرجل إلى الحبس، قال: نعم، بالصغر له والقماءة.
فوجه إلى الرجل فحبسه وأطلق حماداً، وكتب بذلك صاحب الخبر إلى الرشيد، فكتب إلى سوارٍ يجريه ويحمده على ما صنع، وكتب إلى محمد بن سليمان كتاباً غليظاً يذكر فيه حماداً ويقول: الرافضي ابن الرافضي، والله لولا أن الوعيد أمام العقوبة ما أدبته إلا بالسيف، ليكون عظةً لغيره ونكالاً.
يفتات على قاضي المسلمين في رأيه، ويركب هواه لموضعه منك، ويعرض في الأحكام استهانةً بأمر الله تعالى، وإقداماً على أمير لمؤمنين، وما ذاك إلا بك، وبما أرخيت من رسنه، فأنا لله لئن عاد إلى مثلها ليجدني أغضب لدين الله تعالى، وأنتقم من أعدائه لأوليائه.
أبيات في ما يلاقيه المحبون
حدثنا محمد بن القاسم الأنباري، أنبأنا أبو العباس أحمد بن يحيى، قال: قال: أبو سعيد عبد الله بن شبيب، أنشدني علي بن طاهر ابن زيد بن حسن بن علي بن أبي طالب عليه السلام لبعض المحدثين:
ألا رب مشغوفٍ بمن لا يناله ... غداة تساق المنشآت إلى البحر
غداة توافى أهل جمعٍ وصحبةٍ ... لدى الجمرة القصوى أولو الجمجم الغبر
وللرمي أن تبدي الحسان أكفها ... وتفتر بالتكبير عن شنب غر
فيا رب باكٍ شجوه ومعولٍ ... إذا ما رأى الأطناب تنزع للنفر
تفسير الشنب والغرقال أبو بكر: الشنب: الثغر البارد، والشنب: برد الأسنان، والغر: البيض.
قال القاضي: ومن الشنب قول ذي الرمة:
لمياء في شفتيها حوةٌ لعسٌ ... وفي اللثات وفي أنيابها شنب
فسره أهل اللغة أنه بردٌ وعذوبةٌ في الأسنان، وقوله في هذا الشعر:
وتفتر بالتكبير ... عن شنبٍ غر
يقال: شنب وهو نعتٌ موحد اللفظ، كأنه قال: عن بارد، ثم قال: غر، فأتى بلفظ الجمع، لأنه أراد بالشنب جميع الثغر فهو عدد، ولفظه موحد، وعلى هذا الوجه قرأ من قرأ : " ثياب سندسٍ خضرٍ " لأن السندس جمعٌ في جنسه واحدٌ في لفظه.
عاقبة الإستخفافحدثنا أبي، قال: حدثني أبو أحمد الختلين قال: حدثني الحسين بن محمد بن خالد الحناط، قال: سمعت أبا عبد الله الخراساني، يقول: من استخف بالعلماء ذهبت آخرته، ومن استخف بإخوانه قلت معونته، ومن استخف بالسلطان ذهبت دنياه.
عفة جرير، وفجور الفرزدقحدثنا إبراهيم بن محمد بن عرفة الأزدي، قال: أخبرني عبيد الله ابن إسحاق بن سلام وأحمد بن يحيى، وأبو العباس الأحول، كل بسنده: أن جريراً قدم على عمر بن عبد العزيز وهو يتولى المدينة، فأنزله في دارٍ وبعث إليه بجارية تخدمه، فقالت له: إني أراك شعثاً فهل لك في الغسل؟ فجاءته بغسل وماء، فقال: تنحي عني ثم اغتسل.
ثم قدم الفرزدق فأنزله داراً وبعث إليه بجاريةٍ فعرضت عليه مثل ذلك، فوثب عليها فخرجت إلى عمر، فنفاه عن المدينة وأجله ثلاثاً، ففي ذلك يقول:
توعدني وأجلني ثلاثاً ... كما لبثت لمهلكها ثمود
وبلغ ذلك جريراً، فقال:
نفاك الأغر ابن عبد العزيز ... بحقك تنفى عن المسجد
وشبهت نفسك أشقى ثمود ... فقالوا: ضللت ولم تهتد
وقد أخروا حين حل العذاب ... ثلاث ليالٍ إلى الموعد
تعليق لغويقال القاضي: الغسل: ما يغسل به الرأس والجسد من خطمي وغيره، والغسل مصدر غسلت، وأما الغسل بالضم فقد اختلف أهل العلم بالعربية فيه، فقال بعضهم: هو الماء، وقال بعضهم: الغسل والغسل لغتان بمعنى واحد، كالرهب والرعب، والرهب والرعب، ومثله من الأسماء الأعيان: الحش والحش والرفغ والرفغ.
وفي هذه الرواية: بحقك تنفى، وقد رواه راوون: وحقك، واختلف في موضع تنفى من الأعراب، فقال بعضهم: موضعه رفعٌ على أصل إعراب المضارع، إذ لم يأت هاهنا أن فتنصبه، وقال آخرون: موضعه نصبٌ وأضمروا أن وأعملوها مضمرة، لأن المعنى: وحقك أن تنفى، وقد اختلف نحو هذا الإختلاف في بيت طرفة، حيث يقول:
ألا أيهذا الزاجري أحضر الوغى ... وأن أشهد اللذات هل أنت مخلدي
فروى: أحضر بالرفع والنصب على نحو ما وصفنا، وروى على الوجهين أيضاً قول الشاعر:
يا ليتني مت قبل أعرفكم ... وصاغنا الله صيغةً ذهبا
وقد قال الله تعالى ذكره: " قل أفغير الله يأمروني أعبد " فزعم الكوفيون أن المعنى: تأمروني أن أعبد، وأنكر البصريون هذا وقالوا: تأمروني كلام أتى اعتراضاً بين الكلامين، والمعنى: أفغير الله أعبد، كقولك: زيداً أرى لقيت، ونحو هذا قول جرير يهجو عمر بن لجأ:
أبالأراجيز يا ابن اللؤم توعدني ... وفي الأراجيز خلت اللؤم والخورا
المعنى: وفي الأراجيز اللؤم والخور فيما خلت.
وهذا عندنا من الكلم الذي اختصرت فائدته من الصيغة اللغوية، وألغي عمله من الجهة النحوية.
ولهذا الفصل وما ذكرنا فيه، موضعٌ من كلامنا في معاني القرآن وأبواب العربية، وهو أولى به.
الحديث الحسن، أبقى للذات
حدثنا عمر بن الحسن بن علي بن مالك الشيباني، حدثنا الغلابي، حدثنا ابن سلام، حدثنا عبد الله بن معبد، قال: بعث عبد الملك بن مروان إلى الشعبي، فقال: يا شعبي! عهدي بك وأنك الغلام في الكتاب فحدثني، فما بقي شيءٌ الآن إلا وقد مللته سوى الحديث الحسن، وأنشد:
ومللت إلا من لقاء محدثٍ ... حسن الحديث يزيدني تعليما
قال القاضي: ونظير هذا قول ابن الرومي:
ولقد سئمت مآربي ... فكأن طيبها خبيث
إلا الحديث فأنه ... مثل اسمه أبداً حديث
كيف عاد الزهري إلى قول الحديثحدثنا محمد بن يحيى الصولي، حدثنا الحارث بن أبي أسامة، حدثنا عبد الوهاب، حدثنا الحسن بن عمارة، قال: أتيت الزهري بعد أن ترك الحديث فألفيته على بابه، فقلت: إن رأيت أن تحدثني، قال: أما علمت أني قد تركت الحديث؟ فقلت: أما أن تحدثني وإما أن أحدثك، فقال: حدثني، فقلت: حدثني الحكم بن عيينة، عن يحيى بن الجزار، قال: سمعت علي بن أبي طالب رضي الله عنه، يقول: " ما أخذ الله على أهل الجهل أن يتعلموا حتى أخذ على أهل العلم أن يعلموا " .
قال: فحدثني أربعين حديثاً.
المجلس الحادي والثلاثونأنا خيركم بيتاً، وخيركم نفساً
حدثنا إبراهيم بن محمد بن علي بن بطحا في آخرين، واللفظ لإبراهيم، حدثنا علي بن حرب الطائي، حدثنا أبو فضيل، عن يزيد بن أبي زياد، عن عبد الله بن الحارث، عن عبد المطلب بن ربيعة: " أن ناساً من الأنصار قالوا: يا رسول الله! إنا نسمع من قومك حتى يقول القائل منهم: إنما مثل محمدٍ كمثل نبتٍ في كبا، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: أيها الناس! من أنا؟ قالوا: أنت رسول الله، قال: أنا محمد بن عبد الله بن عبد المطلب - ما سمعناه اسمى قبلها - إن الله تعالى خلق خلقه فجعلني من خير خلقه، ثم فرقهم فرقتين فجعلني من خير الفرقتين، ثم جعلهم قبائل فجعلني من خيرهم قبيلة، ثم جعلهم بيوتاً فجعلني من خيرهم بيتاً، فأنا خيركم بيتاً وخيركم نفساً " .
قال القاضي: قد أبان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في هذا الخبر ما فضله الله تعالى به على العالمين، وأرغم به أعدائه الضالين المكذبين، ولقد شرفه الله تعالى بفضله على سائر المسلمين، وكرمه بأن ختم به النبيين، ورفع درجته في عليين، فهناه الله ما أعطاه، وزاده فيما منحه وأولاه، وتابع لديه مواهبه وعطاياه، وأسعدنا بشفاعته يوم نلقاه، وكافأه عنا وحاطه وأجزل مثوبته، ورفع في أعلى عليين منزلته، بما أداه إلينا من رسالته، وأفاضه علينا من نصيحته، وعلمناه من كتابه وحكمته.
ومعنى قول من قال: نبت في كبا، الكبا بالقصر: المزبلة، والكباء بالمد: العود والبخور، قال المرقش الأصغر:
في كل يوم لها مقطرةٌ ... فيها كباءٌ معد وحميم
والمقطرة: هي التي يجعل فيها القطر فيتبخر به، والقطر: العود الذي بمبخرته كما قال امرؤ القيس:
كأن المدام وصوب الغمام ... وريح الخزامى ونشر القطر
يعل به برد أنيابها ... إذا طرب الطائر المستحر
من حسن معاوية وذكائهحدثنا محمد بن الحسن بن دريد، أنبأنا الرياشي، عن ابن سلام، قال: حدثت عن عبد الله بن الحسن، قال: قال معاوية لابن أبي أحمد: أصبت لنا مالاً أبتاعه؟ فأتاه فقال: قد أصبت لك مالاً، قال: ما هو؟ قال: البلدة، قال: لا حاجة لي بها، قال: النخيل، قال: لا حاجة لي فيه، قال: ودعان، قال: لا حاجة لي فيه، قال: الغابة، قال: نعم، اشترها، قال له: يا أمير المؤمنين! سميت لك أموالاً تعرفها فكرهتها، وأخبرتك بما لا تعرف فاخترته، قال: نعم، سميت لي البلدة فتبلدت علي، وسميت النخيل فكان مصغراً، وسميت لي ودعان فنهتني نفسي عنها، وسميت لي الغابة فعلمت أن بها كثرة الماء، وقد قال الأول:
إن كنت تبغي العلم أو مثله ... أو شاهداً يخبر عن غائب
فاعتبر الأرض بأسمائها ... واعتبر الصاحب بالصاحب
أعز أمر الله يعزك اللهحدثنا محمد بن مزيد الخزاعي، حدثنا الزبير، قال: حدثني عمي مصعب بن عبد الله، عن عمرو بن الهياج بن سعيد، حدثني مجالد بن سعيد، قال:
كنت من صحابة شريك فأتيته يوماً وهو في منزله باكراً، فخرج إلي في فرو ما تحته قميصٌ وعليه كساء، فقلت: قد أضحيت عن مجلس الحكم، قال: غسلت ثيابي أمس فلم تجف فأنا انتظر جفوفها، اجلس فجلست، فجعلنا نتذاكر باب العبد يتزوج بغير إذن مواليه، فقال: ما عندك فيه؟ وما تقول؟ وكانت الخيرزان قد وجهت رجلاً نصرانياً على الطراز بالكوفة وكتبت إلى عيسى بن موسى ألا يعصي له أمراً، فكان النصراني مطاعاً في الكوفة، فخرج علينا ذلك اليوم من زقاق يخرج إلى النخع ومعه جماعةٌ من أصحابه، عليه جبة خز وطيلسان، على برذون فاره، وإذا رجلٌ بين يديه مكتوفٌ وهو يقول: واغوثاه بالله، أنا بالله ثم بالقاضي، وإذا آثار السياط في ظهره، فسلم على شريك وجلس إلى جانبه، فقال الرجل المضروب: أنا بالله ثم بك أصلحك الله، أنا رجل أعمل لهذا الوشى، أجرة مثلى مائة درهم في الشهر، أخذني هذا منذ أربعة أشهرٍ واحتبسني في طرازٍ يجري علي فيه القوت، ولي عيالٌ قد ضاعوا، فأفلت منه اليوم هارباً فلحقني ففعل بظهري ما ترى.
فقال: قم يا نصراني واجلس مع خصمك، قال: أصلحك الله يا أبا عبد الله هذا من خدم السيدة، مر به إلى الحبس، قال: قم ويلك فاجلس معه كما يقال لك، فجلس.
فقال له: ما هذه الآثار التي بظهر هذا الرجل؟ من أثرها به؟ قال: أصلح الله القاضي، إنما ضربته أسواطاً بيدي، وهو يستحق أكثر من هذا، مر به إلى الحبس.
فألقى شريك كساءه ودخل داره وأخرج سوطاً ربذياً، ثم ضرب بيده إلى مجامع أثواب النصراني، وقال للرجل: انطلق إلى أهلك، ثم رفع السوط فجعل يضرب به النصراني ويقول: بأصبحي قد من قفا جمل.
لاتضرب - والله - المسلمين بعدها أبداً، فهم أصحاب النصراني أن يخلصوه من يده فقال: من هاهنا من فتيان الحي؟ خذوا هؤلاء فاذهبوا بهم إلى الحبس، فهرب القوم جميعاً وأفردوا النصراني، فضرب أسواطاً فجعل النصراني يعصر عينيه ويبكي ويقول: ستعلم.
فألقى السوط في الدهليز، وقال: يا أبا حفص! ما تقول في العبد يتزوج بغير إذن مواليه، وأخذنا فيما كنا فيه كأنه لم يصنع شيئاً، وقام النصراني إلى البرذون ليركبه فاستعصى عليه، ولم يكن له من يأخذ ركابه، فجعل يضرب البرذون، فقال له شريك: ارفق به ويلك، فإنه أطوع لله منك، فمضى.
فالتفت إلى شريك، فقال: خذ بنا فيما كنا فيه، قلت: ما لنا ولذا؟ قد - والله - فعلت اليوم فعلةً ستكون لها عاقبة مكروهة، فقال: أعز أمر الله تعالى يعزك الله، خذ فيما نحن فيه.
وذهب النصراني إلى عيسى بن موسى فدخل عليه، فقال: من بك، وغضب الأعوان وصاحب الشرطة، فقال شريكٌ فعل بي كيت وكيت، قال: لا والله، ما أتعرض لشريك، فمضى النصراني إلى بغداد فما رجع.
قال القاضي: الأصبحيات: سياطٌ معروفة، واحدها أصبحي، وهي منسوبةٌ إلى ذي أصبح ملك من ملوك اليمن.
صلة الرحم تخفف الحسابحدثنا الحسن بن أحمد بن محمد بن سعيد الكلبي، ثنا محمد بن زكريا، ثنا محمد بن عبد الرحمن التيمي، عن أبيه، قال: وقع بين جعفر بن محمد وبين عبد الله بن حسن كلامٌ في صدر يوم، فأغلط في القول عبد الله بن حسن، ثم افترقا وراحا إلى المسجد فالتقيا على باب المسجد، فقال أبو عبد الله جعفر بن محمد لعبد الله بن حسن: كيف أمسيت يا أبا محمد، قال: بخير، كما يقول المغضب، فقال: يا أبا محمد! أما علمت أن صلة الرحم تخفف الحساب؟ فقال: لا تزال تجيء بالشيء لا نعرفه، قال: فإني أتلو عليك به قرآناً، قال: وذلك أيضاً؟ قال: نعم، قال: فهاته، قال: قول الله عز وجل: " الذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل ويخشون ربهم ويخافون سوء الحساب " .
قال: فلا تراني بعدها قاطعاً رحماً.
أبياتٌ في وصف الهوى
حدثنا الحسين بن القاسم الكوكبي، حدثنا ابن أبي الدنيا، قال: حدثني أبو الوضاح، عن الواقدي، عن أبي الجحاف، قال: إني لفي الطواف وقد مضى أكثر الليل وخف الحاج إذ بامرأةٍ شابةٍ قد أقبلت كأنها شمسٌ، على قضيبٍ غرس في كثيب، وهي تقول:
رأيت الهوى حلواً إذا اجتمع الوصل ... ومرا على الهجران لا بل هو القتل
ومن لم يذق للهجر طعماً فإنه ... إذا ذاق طعم الحب يدر ما الوصل
وقد ذقت من هذين في القرب والنوى ... فأبعده قتلٌ وأقربه خبل
هو أشعر الناس
حدثنا محمد بن القاسم الأنباري، حدثنا أحمد بن يحيى، قال: قال بعض أصحاب العتابي: رأيت العتابي ينظر في كتابٍ ويلتفت إلي ويقول: هو والله أشعر الناس، فقلت: ومن هو؟ قال: أما تعرفه؟ هو الذي يقول:
إذا نحن أثنينا عليك بصالح ... فأنت الذي نثني وفوق الذي نثني
وإن جرت الألفاظ يوماً بمدحةٍ ... لغيرك إنساناً فأنت الذي نعني
فقلت له: من هو؟ قال: أو ما تعرفه؟ هو الذي يقول:
تسترت من دهري بظل جناحه ... فصرت أرى دهري وليس يراني
فلو تسل الأيام ما اسمي لما درت ... وأين مكاني ما عرفن مكاني
ويروى: فلو تسأل الأيام بي ما عرفنني، ويروى: ما درين بي، فقلت: من هو؟ قال: هو الذي يقول:
إن السحاب لتستحيي إذا نظرت ... إلى نداك فقاسته بما فيها
حتى تهم بإقلاع فيجمعها ... خوف العقوبة من عصيان منشيها
فقلت: لمن هو؟ قال: لأبي نواس.
جميلة من هذيلحدثنا أحمد بن محمد بن إسحاق بن أبي خميصة الأضاحي ويعرف بأبي عبد الله، الحرمي، ويزداد بن عبد الرحمن بن يزداد المروزي، قال: حدثنا الزبير بن بكارٍ، قال: حدثني سليمان بن داود المخزومي، عن أبيه، قال: حدثني إسماعيل بن يعقوب الثقفي، عن عبد الرحمن بن أبي الزناد، عن أبيه، قال: قدمت المدينة امرأةٌ من هذيل من ناحية مكة، وكانت جميلةً ومعها صبي، فرغب الناس فيها فخطبوها، فكادت تذهب بعقول أكثرهم، فقال فيها عبيد الله ابن عبد الله بن عتبة بن مسعود:
أحبك حبا لو شعرت ببعضه ... لجدت ولم يصعب عليك شديد
أحبك حبا لا يحبك مثله ... قريبٌ ولا في العاشقين بعيد
وحبك يا أم الصبي مدلهي ... شهيدي أبو بكر فنعم شهيد
ويعرف وجدي قاسم بن محمدٍ ... وعروة ما ألقى بكم وسعيد
ويعلم ما ألقى سليمان علمه ... وخارجةٌ يبدي بنا ويعيد
متى تسألي عما أقول وتخبري ... فلله عندي طارفٌ وتليد
فقهاء المدينة السبعةأبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، والقاسم بن محمد ابن أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وعروة بن الزبير، وسعيد بن المسيب ابن حون، وسليمان بن يسار مولى ميمونة بنت الحارث الهلالية، وخارجة ابن يزيد بن ثابت، وهؤلاء الستة وهو سابعهم " فقهاء المدينة السبعة " الذين أخذ عنهم الرأي والسنن، قال: فقال له سعيد بن المسيب: أما أنت - والله - فقد أمنت أن تسألنا وما طمعت إن سألتنا أن نشهد لك بزور - والحديث على لفظ الحرمي - وحديث يزداد نحوه.
جارية للحجاج تشك في عفة جريرحدثنا إبراهيم بن محمد بن عرفة الأزدي، قال: حدثني عبيد الله بن أحمد المزني، قال: قالت جارية للحجاج: يدخل عليك جريرٌ فيشبب بالحرم، قال: ما علمته إلا عفيفاً، قالت: فأخلني وأياه، فأخلاهما.
فقالت: يا جرير! فنكس رأسه وقال: هأنذا، فقالت: بالله أنشدني قولك:
أوانس، أما من أردن عفاءه ... فعانٍ، ومن أطلقن فهو طليق
دعون الهوى ثم ارتمين قلوبنا ... بأسهم أعداءٍ وهن صديق
فقال: ما أعرف هذا، ولكني القائل:
ومن يأمن الحجاج أما نكاله ... فصعبٌ وأما عقده فوثيق
وخفتك حتى استنزلتني مخافتي ... وقد كان دوني من عماية نيق
عماية: جبل، ونيق: أعلاه.
يسر لك البغضاء كل منافقٍ ... كما كل ذي دينٍ عليك شفيق
فقالت: ليس عن هذا سالتك يا بغيض، بالله أنشدني قولك:
نام الخلي وما رقدت بحيلة ... ليل التمام تقلبا وسهودا
ما ضر أهلك أن يقول أميرهم ... قولاً، إذا نزل الملم، سديداً
رمت الرماة فلم تصبك سهامهم ... ورأيت سهمك للرماةصيودا
فقال: ما أعرف هذا، ولكني القائل:
دعا الحجاج مثل دعاء نوحٍ ... فأسمع ذا المعارج فاستجابا
صبرت النفس يا ابن أبي عقيلٍ ... محافظةً فكيف ترى الثوابا
ولو لم يرض ربك لم ينزل ... مع النصر الملائكة الغضابا
فقالت: ليس عن هذا أسألك يا بغيض، أنشدني قولك:
إن العيون التي في طرفها مرضٌ ... قتلننا ثم لم يحيين قتلانا
يصرعن ذا اللب حتى لا حراك به ... وهن أضعف خلق الله أركانا
فقال: ما أعرف هذا، ولكني القائل:
رأى الحجاج عافيةً ونصرا ... على رغم المنافق والحسود
دعا أهل العراق دعاء نوحٍ ... وقد ضلوا ضلالة قوم هود
فقالت: ليس عن هذا سالتك يا بغيض، بالله أنشدني قولك:
نام الخلي وما تنام همومي ... وكأن ليلي بات ليل سليم
كنا نواصلكم بحبل مودةٍ ... فلقد عجبت لحبلنا المصروم
ولقد توكل بالسهاد لحبكم ... عينٌ تبيت قليلة التهويم
إن امرأً منع الزيارة منكم ... حقا لعمرو أبيك غير كريم
فقال: ما أعرف هذا ولكني القائل:
وثنتان في الحجاج لا ترك ظالمٍ ... سويا ولا عند المراشاة قابل
ومن غل مال الله غلت يمينه ... إذا قيل أدوا لا يغلن عامل
وهما حيث يراهما الحجاج، فقال: لله درك يا ابن الخطفى، أبيت إلا كرماً وتكرماً.
الحجاج يفضل شعر جريرحدثنا المظفر بن يحيى، حدثنا العباس المروزي، حدثنا أبو إسحاق الطلحي، قال: أخبرني إسحاق بن سعدان، قال: حدثني أبو عبد الله الثقفي، عن خاله محمد بن يحيى، قال: أنشد الفرزدق الحجاج:
وما يأمن الحجاج والطير تتقي ... عقوبته إلا ضعيف العزائم
فقال الحجاج: ويحك يا فرزدق، والله إن الحبال لتوضع للطير فتتنحى عنه، ما قال جرير أحسن من هذا، حيث يقول:
فما يأمن الحجاج أما عقابه ... فمر وأما عقدة فوثيق
يسر لك الشحناء كل منافق ... كما كل ذي دينٍ عليك شفيق
براعة بشار في الشكاية إلى الأحرارحدثنا أحمد بن إبراهيم بن الحارث العقيلي، ثنا محمد بن زكريا الغلابي، حدثنا إبراهيم بن عمر بن حبيب العدوي، عن الاصمعي، قال: لم يقل أحد قط في التفرج بالمفاوضة إلى الأحرار، والتشكي إلى أهل الحفاظ والأقدار، وذوي الرقاب والأخطار، مثل قول بشار حيث يقول:
وأبثثت عمراً بعض ما في جوانحي ... وجرعته من مر ما أتجرع
ولا بد من شكوى إلى ذي حفيظةٍ ... إذا جعلت أسرار نفسي تطلع
لؤلؤة ابن جعفرحدثنا أبي رحمه الله، حدثنا أبو أحمد الختلي، أنبأنا أبو حفص النسائي، قال: قال محمد بن حاتم الجرجرائي، سمعت أيوب بن سيارٍ، يحدث: أن رجلاً من أهل المدينة بعث بابنته إلى عبد الله بن جعفر، فقال: إنا نريد أن نخدرها، وقد أحببت أن تمسح بيدك على ناصيتها وتدعو لها بالبركة.
قال: فأقعدها في حجره، ومسح ناصيتها، ودعا لها بالبركة، ثم دعا مولى له فساره بشيءٍ، فذهب المولى ثم جاء فأتاه بشيءٍ فصره عبد الله ابن جعفر في خمار الفتاة ثم دفعها إلى الرسول.
قال: فنظروا فإذا لؤلؤةٌ فأخرجت إلى السوق لتباع فعرفت وقيل: لؤلؤة ابن جعفر حبا بها ابنة جاره، قال: فبيعت بثلاثين ألف درهم.
ملكي خير من ملككماحدثني عبد الله بن محمد بن جعفر الأزدي، ثنا أبو بكر بن أبي الدنيا، قال: حدثني المفضل بن غسان، حدثنا أبو مسهر الدمشقي، حدثنا هشام بن يحيى الغساني، قال: حدثني أبي، قال: خرج عبد اللك بن مروان من الصخرة فأدرك سليمان بن قيس الغساني وابن هبيرة الكندي وهما يمشيان في صحن بيت المقدس.
قال: فما علما حتى وضع يده اليمنى على منكب سليمان، ويده اليسرى على منكب ابن هبيرة الكندي، ثم قال: أفرجا لملكٍ ليس كملك غسان ولا كندة، قال: فالتفتا فإذا أمير المؤمنين، فأرادا أن يفخرا بملكهما، فقال: على رسلكما، أليس ما كان في الإسلام خيراً مما كان في الجاهلية؟ قالا: بلى، قال: فملكي خيرٌ من ملككم؟، قال: ثم مشيا معه حتى أتيا منزله فدخل، فأذن لهما، فقال لهما: إن الشاعر يقول:
جاءت لتصرعني فقلت لها: ارفقي ... وعلى الرفيق من الرفيق ذمام
وقد صحبتماني من حيث رأيتما، ولكما بذلك علي حق وذمام، فإن أحببتما أن ترفعا ما كانت لكما من حاجةٍ الساعة، وإن أحببتما أن تنصرفا فتذكرا على مهلكما فعلتما.
قال: فما رفعا إليه حاجةً إلا قضاها
المأمون يسأل عن العشق
حدثنا محمد بن الحسن بن زياد المقري، أنبانا أحمد بن يحيى ثعلب، حدثنا أبو العالية الشامي، قال: سأل أمير المؤمنين المأمون يحيى بن أكثم عن العشق ما هو؟ فقال: هو سوانح تسنح للمرء فيهيم بها قلبه، وتؤثرها نفسه، قال: فقال له ثمامة: اسكت يا يحيى، إنما عليك أن تجيب في مسألة طلاقٍ، أو في محرمٍ صاد ظبياً أو قتل نملة، فأما هذه فمسائلنا نحن، فقال له المأمون: قل يا ثمامة، ما العشق؟ فقال ثمامة: العشق جليسٌ ممتع، وأليف مؤنس، وصاحبٌ ملك، مسالكه لطيفة، ومذاهبه غامضة، وأحكامه جائرة، ملك الأبدان وأرواحها، والقلوب وخواطرها، والعيون ونواضرها، والعقول وآراءها، وأعطي عنان طاعتها، وقود تصرفها، توارى عن الأبصار مدخله، وعمي في القلوب مسلكه.
فقال له المأمون: أحسنت - والله - يا ثمامة، وأمر له بألف دينار.
عبد الله بن طاهر يصلح زوجه ببيتي شعرحدثنا عبد الله بن جعفر بن إسحاق الجابري الموصلي بالبصرة، حدثنا محمد بن ياسر الكاتب، كاتب ابن طولون، قال: حدثني أبي، حدثنا علي بن إسحاق، قال: اشترى عبد الله بن طاهر جارية بخمسةٍ وعشرين ألفاً على ابنة عمه، فوجدت عليه، وقعدت في بعض المقاصير، فمكثت شهرين لا تكلمه، فعمل هذين البيتين:
إلى كم يكون العتب في كل ساعةٍ ... وكم لا تملين القطيعة والهجرا
رويدك إن الدهر فيه كفايةٌ ... لتفريق ذات البين فانتظري الدهرا
قال: وقال للجارية: اجلسي على باب المقصورة فغني به، قال: فلما غنت البيت لأول لم تر شيئاً، فلما غنت الثاني فإذا هي قد خرجت مشقوقة الثوب حتى أكبت على رجله فقبلتها.
الجواب من جنس السؤالحدثنا محمد بن يحيى الصولي، ثنا يموت بن المزرع قال: سمعت أبا حاتم السجستاني، يقول: كان رجلٌ يحب الكلام ويختلف إلى حسين النجار، وكان ثقيلاً متشادقاً لا يدري ما يقول، فآذى حسيناً ثم فطن له، فكان يعد له الجواب من جنس السؤال فينقطع ويسكت، فقال له يوماً: ما تقول - أسعدك الله - في جد يلاشي التوهيمات في عنفوان القرب من درك المطالب؟ فقال له حسين: هذا من وجود فوت الكيفوفية على غير طريق الحسوبية، وبمثله يقع إلينا قي المجانسة على غير تلاقٍ ولا افتراق.
فقال الرجل: هذا محتاجٌ إلى فكر واستخراج، فقال حسين: افتكر، فإنا قد استرحنا.
المجلس الثاني والثلاثون
زوجات الرسول يسألنه النفقةحدثنا أحمد بن سليمان بن داود، أبو عبد الله الطوسي، حدثنا الزبير بن بكار، قال: حدثني عبد الجبار بن سعيد المساحقي، حدثنا عبد الرحمن بن أبي الزناد، عن موسى بن عقبة، عن أبي الزبير، عن جابر بن عبيد الله، قال: استأذن أبو بكر على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فوجد الناس محجوبين ببابه لم يؤذن لأحدٍ منهم، فأذن لأبي بكر فدخل، ثم أقبل عمر بن الخطاب فاستأذن فأذن له، فوجد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جالساً وحوله نساؤه، ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم واجمٌ، فقال عمر والله لأمازحن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ولأقولن شيئاً يضحكه، فقال: يا رسول الله! لو رأيت بنت خارجة سألتني آنفاً النفقة، فقمت إليها فوجأت في عنقها. فضحك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ثم قال: فهن حولي كما ترى يسألنني النفقة، قال: فقام أبو بكر إلى عائشة فوجأ في عنقها، وقام عمر إلى حفصة فوجأ في عنقها، وكلاهما يقول: لم تسألن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما ليس عنده، فقلن: والله لا نسأل رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - أبداً ما ليس عنده.
تعليق وشرح لغويقال القاضي: قول الراوي في هذا الخبر " ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: واجم، الواجم: الحزين، والوجوم: الحزن والفتور، يقال: وجم يجم وجوماً فهو واجم، مثل وقف يقف وقوفاً فهو واقف.
قال الأعشى ميمون بن قيس:
هريرة ودعها وإن لام لائم ... غداة غدٍ أم أنت للبين واجم
وقول عمر: فوجأت عنقها، معناه أنه صك عنقها بيده أو غيرها، ومن العرب من يترك الهمز فيه، كما قال الشاعر:
وكنت أذل من وتدٍ بقاعٍ ... يوجيء رأسه بالفهر واجي
وقيل: إن الشاعر اضطر فترك الهمز لإقامة الوزن في البيت، كما قال الآخر:
سألت هذيلٌ رسول الله فاحشةً ... ضلت هذيلٌ بما سالت ولم تصب
يريد: سألت.
وقال آخر:
فارعي فزارة ... لا هناك المرتع
يريد: هنأك.
خبر صخر بن شريد السلميحدثنا محمد بن الحسن بن دريد، أنبأنا أبو حاتم، أنبأنا الأصمعي، قال: التقى صخر بن عمرو بن الشريد السلمي ورجلٌ من بني أسد، فطعن الأسدي صخراً، فقيل لصخر: كيف طعنك؟ قال: كان رمحه أطول من رمحي بأنبوب، فمرض صخرٌ منها فطال مرضه، فكانت أمه إذا سئلت عنه، قالت: نحن بخيرٍ ما رأينا سواده بيننا، وكانت امرأته إذا سئلت عنه، قالت: لا حي فيرجى، ولا ميتٌ فيبكى، فقال صخر:
أرى أم صخرٍ ما تمل عيادتي ... وملت سليمى مضجعي ومكاني
إذا ما امرؤٌ سوى بأم حليلةً ... فلا عاش إلا في شقاً وهوان
لعمري لقد أيقظت لو كان نائماً ... وأسمعت لو كانت له أذنان
بصيراً بوجه الحزم لو يستطيعه ... وقد حيل بين العير والنزوان
قال القاضي، ويروى: أهم بأمر الحزم لو أستطيعه.
وقول أم صخر، ما رأينا سواده: أي شخصه، قال الشاعر:
بين المخارم يرتقبن سوادي
أي شخصي.
خبر عن تحليل النبيذ، والاستطراد إلى حكمهحدثنا محمد بن مزيد الخزاعي، قال: حدثنا الزبير، قال: حدثنا عمي مصعب بن عبد الله، عن جدي عبد الله بن مصعب، قال: حضرت شريكاً في مجلس أبي عبيد الله، وعنده الحسن بن زيد بن الحسن بن علي بن أبي طالب، والجريري رجلٌ من ولد جرير، وكان خطيباً للسلطان، فتذاكروا الحديث في النبيذ الأحمر واختلافهم فيه، فقال شريك: حدثني أبو إسحاق، عن عمرو بن ميمون الأودي، عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، قال: إنا نأكل من لحم هذه الإبل ونشرب عليها من النبيذ ما يقطعها في أجوافنا وبطوننا، فقال الحسن بن زيد: ما سمعنا بهذا في الملة الآخرة، إن هذا إلا اختلاق، فقال شريك: أجل والله ما سمعته، شغلك عن ذلك الجلوس على الطنافس في صدور المجالس وسكت.
فتذاكر القوم الحديث في النبيذ، فقال أبو عبيد الله: أبا عبد الله! حدث القوم بما سمعت في النبيذ، فقال: كلا، الحديث أعز على أهله من أن يعرض لتكذيبٍ على من يرد على أبي إسحاق الهمداني أو على عمرو بن ميمون الأودي.
تحقيق المسألةقال القاضي: ما أسكر من الأنبذة فهو خمرٌ محرم شرب قليله وكثيره، كما قال عبد الله بن إدريس الأودي:
كل شراب مسكرٍ كثيره ... من عنب أو غيره عصيره
فإنه محرمٌ يسيره ... إني لكم من شره نذيره
ويحقق هذا ما رواه سعد بن أبي وقاص، عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال: " أنهاكم عن قليل ما أسكر كثيره " .
وقد ذكرنا في كتبنا الفقهية الدليل من الكتاب والسنة والقياس، على تحريم الأنبذة التي أحلها من أحلها من متفقهة العراقين. وذكر من ذلك شيخنا أبو جعفر رضي الله عنه في كتبه في الرد على المخالفين فيه، ونقض ما اعتلوا به ما تشرف به الناصح لنفسه، الناظر لدينه، المحقق في نظره على موضع الصواب منه، فأما الرواية التي حدث بها شريكٌ عن عمر رضي الله عنه فإنها معروفة ولها نظائر مروية عنه، وهي في تأويلها غير مخالفةٍ لما ذهب إليه مخالفونا، مخطئون عندنا في تأويل بعضها، فكيف يظن بعمر غير ما أضفنا من القول إليه، وحملنا تأويل الروايات عنه عليه، وقد ثبت عنه أنه قال في ابنه: إن عبيد الله شرب شراباً وإني سائلٌ عنه، فإن كان مسكراً حددته، فسأل عنه فكان مسكراً فحده، فلم يسأل أي سائلٍ عنه: إن كان في نوعٍ مخصوصٍ أو نيئاً غير مطبوخ، ولا قال أي سائلٍ عن عبيد الله: هل تمادى في شرب ما شربه حتى أسكره؟ أم اقتصر على القليل منه؟ ووقف عند مقدارٍ لا يبلغ إلى السكر به؟ وقد نقل عنه أنه كان يحد في الرائحة، فأخذ بهذا جمهور المتفقهين من أهل المدينة.
وليس كتابنا هذا من مواضع الإطناب في هذا الباب ومحاجاة الخصوم فيه.
خلع عليه حتى استغاثوحدثنا إبراهيم بن محمد بن عرفة الأزدي، قال: حدثنا عبيد الله بن إسحاق بن سلام، قال: أتى الكميت باب مخلد بن يزيد بن المهلب يمدحه، فصادف على بابه أربعين شاعراً، فقال للآذن: استأذن لي على الأمير.
فاستأذن له عليه فأذن له، فقال له: كم رأيت بالباب من شاعرٍ؟ قال: أربعين شاعراً، قال: فأنت جالب التمر إلى هجر، قال: فإنهم جلبوا دقلاً وجلبت أزاذاً، قال: فهات أزاذك، فأنشد:
هلا سألت منازلاً بالأبرق ... درست فكيف سؤال من لم ينطق
لعبت بها ريحان ريح عجاجةٍ ... بالسافيات من التراب المعنق
والهيف رأئحةٌ لها ينتاحها ... طفل العشي بذي حناتم شرق
الحناتم: جرارٌ خضر شبه الغيم بها، والهيف: الريح الحارة، قال القاضي: من الهيف قول ذي الرمة:
وصوح البقل مازيٌ يجيء به ... هيفٌ يمانيةٌ في مرها نكب
والحناتم: واحدها حنتمة وحنتم، قال الشاعر في الحنتم:
وأقفر من حضارةٍ ورد أهله ... وقد كا يسقي في قلالٍ وحنتم
وقال في الحناتم:
يمشون حول مكدمٍ قد كدحت ... متنيه حمل حناتمٍ وقلال
قوله: كدحت متنيه حمل حناتم، كقول الشاعر:
أرى مر السنين أخذن مني ... كما أخذ السرار من الهلال
ولهذا نظائر تذكر وتشرح عللها في مواضع أخر.
تمام شعر الكميت:
تصل اللقاح إلى النتاج مزيةً ... لحقوق كوكبها وإن لم يحقق
غيرن عهدك بالديار ومن يكن ... رهن الحوادث من جديدٍ يخلق
إلا خوالد في المحلة بيتها ... كالطيلسان من الرماد الأورق
متبجحاً ترك الولائد رأسه ... مثل السواك ودمه كالمهرق
دار التي تركتك غير ملومةٍ ... دنا فارع بها عليك وأشفق
قد كنت قبل تتوق من هجرانها ... فاليوم إذ شحط المزار بها تق
والحب فيه حلاوةٌ ومرارة ... سائل بذلك من تطعم أو ذق
ما ذاق بؤس معيشةٍ ونعيمها ... فيما مضى أحدٌ إذا لم يعشق
من قال رب أخا الهموم ولم يبت ... غرض الهموم ونصبهن يؤرق
حتى بلغ إلى قوله:
بشرت نفسي إذ رأيتك بالغنى ... ووثقت حين سمعت قولك لي: ثق
فأمر بالخلع عليه، فخلع عليه حتى استغاث، فقال: أتاك الغوث، ارفعوا عنه.
اعتذارٌ بليغٌ لدى المأمون
حدثنا الحسين بن القاسم بن جعفر الكوكبي، قال: حدثنا أبو الفضل العباس بن الفضل الربعي، قال: حدثنا أبي وإبراهيم بن عيسى، قالا: دخل محمد بن عبد الملك بن صالح على المأمون - وقد كانت ضياعه حيزت وقبضت - فقال: السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته، محمد بن عبد الملك بين يديك، سليل نعمتك، وابن دولتك، وغصن من أغصان دوحتك، أتأذن لي في الكلام؟ قال: نعم.
فتكلم فقال: الحمد لله رب العالمين، ولا إله إلا الله رب العرش العظيم، وصلى الله على ملائكته المقربين، وعلى محمد خاتم النبيين، ونستميح الله لحياطة ديننا ودنيانا، ورعاية أقصانا وأدنانا ببقائك يا أمير المؤمنين، ونسأل الله أن يمد في عمرك وفي أثرك من أعمارنا وآثارنا، وأن يقيك الأذى بأسماعنا وأبصارنا، فإن الحق لا تعفو دياره، ولا يتهدم مساره، ولا ينبت حبله، ولا يزول ظله، ما دمت ظل الله في رعيته، والأمين على عباده وبلاده.
يا أمير المؤمنين! هذا مقام العائذ بظلك، الهارب إلى كنفك وفضلك، الفقير إلى رحمتك وعدلك، من تعاور الغوائب، وسهام المصائب، وكلب الدهر، وذهاب الوفر، وفي نظر أمير المؤمنين ما فرج كربة المكروب، وبرد غليل الملهوف.
ثم إنه تقدم من رأى أمير المؤمنين في الضياع التي أفادناها نعم آبائه الطاهرين، ونوافل أسلافه الراشدين، ما الله ولي الخيرة فيه لأمير المؤمنين، وإن عبد الملك بن صالح قدم الجزيرة حين قدمها والحرب لاقح، والسيف مشهور، والشام قد نفل أديمه، وتحطمت قرونه، والسفياني قد استعرت ناره، وكثرت أنصاره، ولبس للحرب لباسها، وأعد لها أحلاسها، وكلنا يومئذٍ في ثوب القلة والصغار، بين حربٍ دائرةٍ رحاها، وفتنةٍ تصرف بأنيابها، فكأنا نهزة دواعيها، وغرض راميها، إذا ثارت عجاجةٌ من عجاجها لم تنجل إلا عن شلو مأكول، أو دمٍ مطلول، أو منزلٍ مهدوم، أو مالٍ مكلوم، أو قلبٍ يجف، أو عين تذرف، أو حرمةٍ حرى، أو طريدة ولهى، قد أتعس الله جدها، تهتف بسيدها أمير المؤمنين من تحت رحا الدهر، وكلكل الفقر، وتدعو الله بإلباس الصبر، وإعداد النصر، فالحمد لله المتطول على أوليائك يا أمير المؤمنين، إعزاز نصرك، المبلغهم اليوم الذي كانوا يأملون، والأمد الأقصى الذي كانوا ينتظرون.
ثم إني قمت هذا المقام متوسلاً إليك بآبائك الطاهرين، بالرشيد خير الهداة الراشدين، والمهدي ربيع السنين، والمنصور نكال الظالمين، ومحمدٍ خير المحمدين بعد خاتم النبيين والمرسليين، وبعلي زين العابدين، وبعبد الله ترجمان القرآن ولسان الدين، وبالعباس وارث سيد المرسلين، مزداناً إليك بالطاعة التي أفرغ الله عليها غصني، واحتنكت بها سني، وسيط بها لحمي ودمي، متعوذاً من شماتة الأعداء، وحلول البلاء، ومقارنة الشدة بعد الرخاء.
يا أمير المؤمنين! قد مضى جدك المنصور وعمك صالح بن علي وبينهما من الرضاع والنسب ما قد علم أمير المؤمنين، فكان ذلك له خصوصاً ولبني أبيه عموماً، فسبق به بني أبيه، وفات به أقربيه، وهو صاحب الجعدي الناجم في مصر، حين اجتث الله أصله، وأيبس فرعه، وصرعه مصرعه، وهو صاحب عبد الله بن علي حين دعا الشيطان أولياءه فأجابوه، ورفع لهم لواء الضلالة فاتبعوه. وهو صاحب عيسى بن موسى حين رمى الخلافة ببصره، وسما إليها بنظره، ومشى إليها البخترى، ولبس لباس ولاة العهود، حتى اثبت الله الحق في نصابه، وأقره في قرابه.
يا أمير المؤمنين! الدهر ذو اغتيال، وقد تقلب بنا حالاً بعد حال، فليرحم أمير المؤمنين الصبية الصغار، والعجائز المحجوبات الكبار، واللاتي سقاهن الدهر كدراً بعد صفوٍ، ومراً بعد حلو، وهنيئاً نعم آبائك اللاتي غذتنا صغاراً وكباراً، وشباباً وأمشاجاً في الأصلاب، ونطفاً في الأرحام، وقربنا بحيث قربنا الله منك في القرابة والرحم، فإن رقابنا قد ذلت لسخطك، وإن وجوهنا قد عنت لموجدتك، فأقلنا عثرة عاثرنا، وعلى الله الملي الجزاء، وإن الحق في يدك، فهب لنا ما قصرنا فيه من ترك الرمم البالية، للأمم الخالية، منا في طاعة آبائك، فقد مضوا متمسكين بأقوى وسائلها، معتصمين بأقوى حبائلها، يوالون فيها البعيد الجنيب، وينادون فيها القريب الحبيب، على ذلك مضوا وبقينا حتى يرثنا الله عز وجل، وهو خير الوارثين.
يا أمير المؤمنين! إن الله عز وجل سهل بك الوعور، وجلى بك أن تجور، وملأ من خوفك القلوب والصدور، وجعل اسمك حبلاً كثيفاً، وجبلاً منيفاً، يردع بك الفاسق، ويقمع بك المنافق، فارتبط نعم الله عز وجل عنك بالعفو والإحسان، فإن كل إمامٍ مسؤل عن رعيته، وإن النعم لا تنقطع بالمزيد فيها حتى ينقطع الشكر عليها.
يا أمير المؤمنين! إنه لا عفو أفضل من عفو إمامٍ قادرٍ على مذنبٍ عاثر، وقد قال الله عز وجل: " وليعفو وليصفحوا، ألا تحبون أن يغفر الله لكم " .
حاط الله أمير المؤمنين بستره الضافي، وصنعه الكافي، ثم قال:
أمير المؤمنين أتاك ركبٌ ... لهم قربى وليس لهم بلاد
هم الصدر المقدم من قريش ... وأنت الرأس يتبعك العباد
فقد طابت لك الدنيا ولذت ... وأرجو أن يطيب لك المعاد
فقال المأمون: يفعل ذلك بمشيئة الله، وأسأله التوفيق في الرضا عنك، والإجابة إلى ما سألت، وأن يعقب ذلك محبوباً بمنه، وجميل عادته في مثله.
وأمر برد ضياعه، وأحسن جائزته، وقضى حاجاته.
المجلس الثالث والثلاثون
لا حليم إلا ذو عثرة
حدثنا عبد الله بن محمد بن زياد النيسابوري، قال: حدثني موهب بن يزيد، قال: حدثنا عبد الله بن وهب، قال: أخبرني عمر بن الحارث، عن دراج بن السمح، عن أبي الهيثم، عن أبي سعيد الخدري، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحدثنا علي بن محمد بن عبد الله الطوسي العنبري، قال: حدثنا أبو العباس السراج، ومحمد بن إسحاق إبراهيم الثقفي، قال: حدثنا قتيبة، قال: حدثنا ابن وهب، قال: أخبرني عمرو بن الحارث عن دراج أبي السمح، عن أبي الهيثم، عن أبي سعيد الخدري، عن النبي صلى الله عليه وسلم: قال: " لا حليم إلا ذو عثرة، ولا حكيم إلا ذو تجربة " .
قال القاضي: وهذا الخبر من بليغ الحكمة التي أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلمها أمته، والعاثر إذا كان لبيباً، والمجرب إذا كان محنكاً أريباً، فتبين هذا مغبة عثرته، وتهذب هذا بعواقب تجربته، استشعرا الحذار، وأنعما الاعتبار، واستصحبا الاستبصار، فتحرزا من العثار، وتنزها عن تورط الخبط والاغترار، وقد قال بعض العلماء الربانيين، ومن بصره الله رشده في الدنيا والدين:
لقد عثرت عثرةً لأختبر ... سوف أكيس بعدها واستمر
وفي قول الله عز وجل: " إن الذين اتقوا إذا مسهم طائفٌ من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون " . ما يؤيد هذا ويشهد له.
جعلنا الله وإياكم ممن يؤثر حظه من الخليقة الحسنى، والطريقة المثلى، على حظ نفسه من الهوى.
بنو أمية وتنقصها لعليحدثنا محمد بن الحسن بن دريد، قال: أخبرنا الحسن بن خضر، عن سعيد بن عثمان القرشي، قال: سمع عامر بن عبد الله بن الزبير ابنه ينال من علي بن أبي طالب عليه السلام، فقال: يا بني! لا تنتقصه، فإن بني أمية تنقصته ثمانين عاماً فلم يزده الله تعالى بذلك إلا رفعةً، أن الدين لم يبن شيئاً فهدمته الدنيا، وإن الدنيا لم تبن شيئاً إلا رجعت على ما بنت فهدمته.
التخلص البارعحدثنا محمد بن مزيد الخزاعي، قال: حدثنا الزبير بن بكار، قال: حدثني إسحاق بن إبراهيم التميمي، قال: سمعت الفضل بن الربيع يحدث عن أبيه، قال: كنا وقوفاً على رأس المنصور وقد طرحت للمهدي وسادة، إذ أقبل صالح ابنه فوقف بين السماطين والناس على مقادير أسنانهم ومواضعهم، وقد كان يرشحه لبعض أموره، فتكلم فأجاد، ومد المنصور يده إليه ثم قال: يا بني إلي واعتنقه، ونظر في وجوه أصحابه: هل يذكر أحدٌ فضله، ويصف مقامه؟ فكلهم كره ذلك، فقام شبة بن عقال بن معية بن ناجية التميمي، فقال: لله در خطيب قام عندك يا أمير المؤمنين! ماأفصح لسانه، وأحسن بيانه، وأمضى جنانه، وأبل ريقه وكيف لا يكون كذلك وأمير المؤمنين أبوه والمهدي أخوه، وهما كما قال زهير بن أبي سلمى:
يطلب شأو امرأين قدما حسناً ... نالا الملوك وبذا هذه السوقا
هو الجواد فأن يلحق بشأوهما ... على تكاليفه فمثله لحقا
أو يسبقاه على ما كان من مهلٍ ... فمثل ما قدما من صالحٍ سبقا
قال الربيع: فأقبل علي أبو عبيد الله فقال: والله ما رأيت مثل هذا تخلص، أرضى أمير المؤمنين، ومدح الغلام، وسلم من المهدي.
قال: والتفت إلى المنصور فقال: يا ربيع! لا ينصرفن التميمي إلا بثلاثين ألف درهم.
قصة عجيبة في البراعة في علم النجومحدثني محمد بن العباس البرتي، قال: حدثت أن محمد بن عبد الله بن طاهر كان مولوداً بحد السرطان، فلما أن كان ذات ليلة جمع أهل بيته، فقال: إني مولودٌ بحد السرطان، وإن طالع السنة السرطان، وإن القمر الليلة ينكسف في السرطان وهي ليلة الأحد، فإن نجوت في هذه الليلة فسأبقى سنين، وإن تكن الأخرى فإني ميتٌ لا محالة. فقالوا له: بل يطيل الله تعالى.
قال: فلما كان في الليلة دعا غلاماً له، كان قد علمه النجوم، فأصعده إلى قبة له فأعطاه بنادق واصطرلاباً، وقال له: خذ الطالع فكلما مضى من انكساف القمر دقيقة فاقذف إلي ببندقة حتى أعلم ذلك.
وجلس محمدٌ مع أصحابه فجعل الغلام كلما مضى من انكساف القمر دقيقة رمى إليه ببندقة، فلما انكسف من القمر ثلثه قال لأصحابه: ما تقولون في رجل قاعد معكم يقضي ويمضي وقد ذهب ثلث عمره، وقالوا له: بل يطيل الله تعالى عمرك أيها الأمير.
فلما مضى من القمر ثلثاه عمد إلى جواريه فأعتق منهن من أحب، ووقف من ضياعه ما وقف، وقال لهم: " ما تقولون في رجل معلم يقضي ويمضي، وقد ذهب ثلثا عمره، فقالوا له: بل يطيل الله عمرك أيها الأمير، فلما مضى من الثالث دقيقتان قال لهم محمد إذا استغرق القمر فأمضوا إلى أخي عبيد الله بن عبد الله بن طاهر، ثم قام فاغتسل ولبس أكفانه وتحفظ ودخل إلى بيتٍ له ورد عليه الباب واطضجع، فلما استغرق القمر في الانكساف فاضت نفسه، فدخلوا إليه فإذا هو ميت، فانطلقوا إلى عبيد الله أخيه ليعلموه فإذا عبيد الله أخوه في طيارة على الباب قد سبقهم، فقال لهم: أمات أخي؟ قالوا: نعم، فقال: ما زلت آخذ له الطالع حتى استغرق القمر في الكسوف، فعلمت أنه قد قبض، ثم دخل فأكب على أخيه باكياً طويلاً ثم خرج وهو يقول:
هد ركن الخلافة الموطود ... زال عنها السرادق الممدود
حط فسطاطها المحيط عليها ... هوت أطنابها فمال العمود
يا كسوفين ليلة الأحد النح ... س أضلتكما النجوم السعود
أحد كان حده، من نحوسٍ جمعت ... حدها إليه الأحود
أحدٌ كان حده مثل حد السي ... ف والنار شب فيها الوقود
كسف البدر والأمير جميعاً ... فانجلى البدر والأمير عميد
عاود البدر نوره لتجلي - يه ونور الأمير لا يعود
أظلمت بعده الخلافة والدن ... يا عليها كآبة وجمود
لأمور قد كان دبر منها ... مبرماً وقد مضى ومنها عنيد
قد بكاه العراق والشرق والغر ... ب فمنهما تهائمٌ ونجود
وبكى حاسدوه حزناً علي ... ه وبكى بعده العدو الحقود
يا ابن عبد الإله لم يك للمو ... ت إلى من سواك عنك محيد
قال: فلما حمل على السرير أنشأ يقول:
تداوله الأكف على سري ... ألا لله ما حمل السرير
أكف لو تمد إليه حياً ... إذاً رجعت وأطولها قصير
تباشرت القبور به وأضحى ... تبكيه الأرامل والفقير
الكسوف والخسوفقال القاضي: ورد هذا الخبر على ما وصفناه. وقيل فيه الكسوف والانكساف بالكاف واللغة الجيدة: خسف القمر بالخاء، قال الله عز وجل " وخسف القمر ط، وجاء عن النبي صلى الله عليه وسلم: " أن الشمس والقمر لا يكسفان لموت أحدٍ ولا لحياته، وإنما هما آيتان من آيات الله عز وجل، فإذا رأيتموهما فافزعوا إلى الصلاة " في خبرٍ ذكر فيه أن الشمس انكسفت على عهده.
وقد اختلف اللغويون في هذا فقال بعضهم: يقال: كسفت الشمس إذا لحق الكسوف بعضها وخسفت إذا استغرق الكسوف جميعها.
وقال بعضهم: يقال: كسفت الشمس وخسف القمر، وقيل: هما لغتان بمعنى واحد، وقال أوس بن حجر في عبد الله بن فضالة:
ألم تكسف الشمس شمس النها ... ر والنجم للجبل الواجب
ويروى: البدر فيما أروي.
والصلاة عند الكسوف سنة معروفة، وقد اختلف في صفتها وعدد ركعاتها، والجهر والمخافتة في القراءة فيها، وكان مالك يرى الاجتماع لها في كسوف الشمس دون القمر، وكان غيره يرى الاجتماع للصلاة في الخسوفين معاً، وقال جرير يرثي عمر بن عبد العزيز:
الشمس طالعةٌ ليست بكاسفةٍ ... تبكي عليك نجوم الليل والقمرا
وقد اختلف الرواة في رواية هذا البيت، فرواه البصريون: الشمس طالعة ليست بكاسفةٍ، ورواه الكوفيون الشمس كاسفةٌ ليست بطالعةٍ، ورواه بعض الرواة: ويبكي عليك نجوم الليل والقمرا، ورواه بعضهم: يبكي عليك نجوم الليل والقمرا.
وقد اختلف أصحاب المعاني وأهل العلم من الرواة وذووا المعرفة بالإعراب من النحاة في تفسير وجوه هذه الروايات وقياسها في العربية.
وفي ذكر ذلك طولٌ لا يحتمله هذا الموضع، وقد ذكرناه في موضع هو أولى به، على أنني سأذكر عند آخر تفسير ما في هذا الخبر طرفاً يشرف على جملة هذا الباب إن شاء الله.
القول في فاضت نفسه وفاظتوقول الراوي في هذا الخبر: فلما استغرق القمر في الإنكساف فاضت نفسه، معناه أنه مات وفارق الحياة وخرجت نفسه، وفي هذه اللفظة لغتان محكيتان عن العرب بالظاء والضاد على ما سنبينه إن شاء الله.
وقد يقال: فاذ وفاز في هذا المعنى في أحرف كثيرة.
وقد اختلف أهل العلم بالعربية في مواضع مما يأتي فيه فاظ وفاض، وأنا أذكر ما حضرني من جملة القول فيه مما حكي عن العرب، وما أروى من مذاهب اللغويين فيه، غير مستقصٍ لجميع ما رويناه لسعته وغيبة كثيرٍ منه، ومن يقف على ما أثبته من هذا الباب هاهنا يشرف على معرفته، ويشرك العلماء به في إدراك جملته أو معظمه، إن شاء الله.
فمما رويناه في ذلك ما حدثناه محمد بن القاسم الأنباري، قال: حدثنا أبي، قال: حدثنا أبو الحسن الطوسي، عن أبي عبيدة، عن الكسائي، قال: يقال: فاظت فسه وفاض الميت نفسه، وأفاظ الله تعالى نفسه، قال: وبعض بني تميم يقول: فاضت نفسه بالضاد.
وحدثنا محمد بن القاسم الأنباري، قال: حدثني أبي، قال: قال أبو الحسن وأبو جعفر محمد بن الحكم، عن أبي الحسن اللحياني، قال: يقال: فاظ الميت بالظاء، وفاض الميت بالضاد.
وحدثنا أبو بكر بن الأنباري: قال: حدثني أبي، قال: حدثنا أبو محمد عبد الله بن محمد بن وسيم، قال: أخبرنا يعقوب بن السكيت، قال: يقال: فاظ الميت يفوظ، وفاظ يفيظ.
وحدثنا ابو بكر، قال: حدثني أبي، قال: حدثنا محمد بن الجهم، عن الفراء، قال: يقال: فاظ الميت نفسه بالظاء ونصب النفس، قال أبو بكر، وأنشدني أبي، قال: أنشدني أبو عكرمة الضبي:
وفاظ ابن حضرة عانياً في بيوتنا ... يمارس قدا في ذراعيه مصحباً
" المصحب " : الذي عليه وبره.
وقال رؤبة:
لا يدفنون منهم من فاظا
قال القاضي: وقال ابن السكيت في كتاب الألفاظ، ويقال: فاظ الرجل وفاظت نفسه تفيظ فيظاًوفووظاً، وقال رؤبة:
لا يفنون منهم من فاظا
أي من هلك.
وقال الكسائي: فاظ هو نفسه، وأفظته أنا نفسه، قال: وقال أبو عبيدة: ومن العرب من يقول فاضت نفسه بالضاد، وأنشد لبعض الرجاز:
اجتمع الناس وقالوا عرس ... زلحلحات مائراتٌ ملس
ففقئت عينٌ وفاضت نفس ... إذا قصاعٌ كالأكف خمس
قال: وقال الكسائي: ناسٌ من تميم يقولون: فاضت نفسه تفيض.
وحدثنا أبو بكر بن الأنباري، قال: وحدثني أبي، قال: حدثنا أحمد بن عبيد، عن أبي عبيدة، قال: أتينا رجلاً من بني مخزوم، وكان مولى ضاحية بني تميم، فوافى دكين الراجز، فقال: للبواب: إني ألاع إلى السجن أدخلني، فأبى البواب أن يدخله، فوقف دكين الراجز على دكانٍ وقد انصرف بعض القوم، وأنشأ يقول:
اجتمع الناس وقالوا عرس ... إذا قصاع كالأكف خمس
زلحلحات قد جمعن ملس ... ففقئت عينٌ وفاظت نفس
فقال له البواب: من أنت لا حياك الله؟ قال: أنا دكين الراجز، فأدخله.
قال أبو بكر، قال لي أبي، قال أحمد بن عبيد: ألاع معناه: أتوقد حرصاً عليه، ويحترق فؤادي طلباً له، قال القاضي: من هذا قول الأعشى:
ملمعٍ لاعة الفؤاد على الجح ... ش فلاه عنها فبئس الفالي
قال ابن الأنباري: الزلحلحات: التي تجول وتذهب فكأنها لا تقر في موضع واحد - وجرى بين الأصمعي وأبي عبيدة في هذا الباب تشاجر ومنازعة - وفاظت نفس، فقال الأصمعي: العرب لا تقول: فاظت نفسه ولا فاضت نفسه، وإنما يقولون: فاظ الرجل إذا مات وطن الضرس.
وقال أبو عبيدة: كذب الباهلي - يعني الأصمعي - : ما هو إلا فاظت نفس.
قال القاضي: قول الأصمعي: وطن الضرس إخبارٌ منه، لأن الرواية الصحيحة في تمام هذا البيت: وطن الضرس مكان وفاظت نفس، وقد أتى في هذا أربع روايات: فاظت نفسٌ وفاضت نفسٌ، وطن الضرس وطنت ضرس، واستشهد بهذه الرواية من رأى تأنيث الضرس على معنى تأنيث السن.
وقال أبو حاتم في الضرس: ربما أنثوه على معنى السن، قال: وأنكر الأصمعي تأنيثه، قال: وأنشدنا قول دكين الراجز: ففقئت عينٌ وطنت ضرس إنما هو: وطن الضرس، قال: فلم يفهمه الذي سمعه، وأخطأ سمعه.
قال أبو بكر: قال أصحاب الكسائي والفراء ومن نقل عنهما، فقال: فاضت نفسه وفاظت نفسه، وفاظ الميت نفسه وأفاظه الله نفسه.
وحدثنا أبو بكر: قال: وحدثنا إسماعيل بن إسحاق القاضي، قال: حدثنا نصر بن علي، قال: حدثنا الأصمعي، عن أبي عمرو بن العلاء، قال: يقال: فاظ الميت ولا يقال: فاظت نفسه، وعلى قول من أجاز فاضت نفسه تفيض، قال الشاعر:
كادت النفس أن تفيض عليه ... إذ ثوى حشو ريطةٍ وبرود
قال القاضي: وأرى أن من قال: فاض الميت مكان فاظ، أخذه من قولهم: فاظ الإناء إذا طفح فخرج منه بعض ما فيه، وفاض الدمع: إذا انحدر وسال، فكأن النفس لما ضاق بها الحي لم يحملها ففاضت وسالت، يقال: نفس سائلة، قال امرؤ القيس:
ففاضت دموع العين مني صبابةً ... على النحر حتى بل دمعي محملي
وقال الأعشى:
من ديارٍ بالهضب هضب القليب ... فاض ماء الشئون فيض الغروب
أنشدنا أبو محمد بن الحسن بن عثمان البزار، قال: أنشدني محمد ابن الرومي مولى الطاهري. في أبي جعفر محمد بن جرير الطبري:
كان بحراً من العلوم فلما ... فاض بالنفس غاض بحرٌ معين
من له بعده إذا هو لا هو ... مثله غيره عليه أمين
وقال ابن السكيت، وقال الأصمعي: وجب الرجل فهو واجب إذا مات، وأنشد لقيس بن الخطيم:
أطاعت بنو عوفٍ أميراً نهاهم ... عن السلم حتى كان أول واجب
قال القاضي: فعلى هذا التأويل قد يحمل الجبل الواجب الذي في البيت، الذي قدمنا روايته عن أوس بن حجر: أن يكون معناه: الميت، ومعناه عندي: الواقع الساقط، ومن قولهم: وجبت الشمس إذا سقط القرص، وقال الله تبارك وتعالى: " فإذا وجبت جنوبها " .
توجيه إعراب بيت جريرونحن الآن منجزو ما وعدنا في البيان عن اختلاف النحويين في قول جرير:
تبكي عليك نجوم الليل والقمرا
وفي إعراب نجوم الليل، وفي وجه نصب قوله: والقمرا، فأما من روى:
الشمس طالعةٌ ليست بكاسفةٍ
فإنه ينصب: نجوم الليل بإعمال كاسفة، كما يقال: هي ضاربةٌ عبد الله، ويعطف القمر على نجوم الليل، وقوله: تبكي صفة لقوله الشمس طالعة، وتبكي في موضع رفع، كأنه قال: طالعة باكية، وقد يكون تبكي في موضع نصب على أنه بمعنى الحال، إما من الشمس أو من التاء في ليست، كأنه قال: ليست في حالة بكاء، وقد تكون سادةً مسد خبر ليس، ونصب نجوم الليل بكاسفة.
وأشهر الجوابات في هذا وأعرفها، وأقربها مأخذاً أن جملة معنى هذا القول: أن الشمس لم تقو على كسف النجوم والقمر لإظلامها وكسوفها، وقد قال قائلون: نصب نجوم الليل بقوله: تبكي، والمعنى: تبكي عليك مدة نجوم الليل والقمر، فنصب على الظرف.
وحكي عن العرب: لا أكلمك سعد العشيرة أي زمانه، وقال آخرون: المعنى تغلب ببكائها عليك بكاء نجوم الليل، وفي هذا التأويل وجهان، أحدهما أن يكون أريد بالنجوم والقمر السادات الأماثل، كما قال النابغة في مدح النعمان بن المنذر:
ألم تر أن الله أعطاك سورةً ... ترى كل ملكٍ دونها يتذبذب
فإنك شمس والملوك كواكب ... إذا طلعت لم يبد منهن كوكب
وقد تأول المفضل الضبي قول الفرزدق:
أخذنا بآفاق السماء عليكم ... لنا قمراها والنجوم الطوالع
أنه عنى بالقمر: محمداً وإبراهيم صلى الله عليهما، وبالنجوم الطوالع: أئمة الدين وخلفاء المسلمين، وإن كان غيره قد تأول ذلك أنه الشمس والقمر والكواكب، ومثل هذا أيضاً:
وما لتغلب إن عدوا مساعيهم ... نجمٌ يضيء ولا شمسٌ ولا قمر
وهذا التأويل في تبكي أي تغلب ببكائها من الباب الذي يقال فيه: خاصمني فخصمته وغالبني فغلبته، كما قال الأخطل:
إن الفرزدق صخرةً ملمومةٌ ... طالت فليس نيالها الأوعالا
يريد: طالت الأوعال فليست تنالها أنت، ذهب إلى هذا أبو بكر بن الأنباري، وما علمت أحداً سبقه إليه، وجائزٌ أن يكون المعنى: أن الأوعال ليست تنال الصخرة وقد طالتها، وتكون من باب الفاعلين والمفعولين اللذين يفعل كل واحد منهما لصاحبه مثل ما فعل به، مثل: ضربت وضربني زيدٌ وزيداً، ولهذا موضع ييسر فيه.
وأما من روى: نجوم الليل والقمرا، فإنه من باب المفعول معه، كقولهم: استوى الماء والخشبة، وما صنعت وأباك، ومنه قول الشاعر:
فكونوا أنتم وبني أبيكم ... مكان الكليتين من الطحال
ويروى: الشمس كاسفةً ليست بطالعة، فإنه استعظم أن تطلع ولا تكسف مع المصاب.
ومثل: ألم تكسف الشمس في البيت الذي قدمنا ذكره، مثل هذا قول الشاعر:
أيا شجر الخابور مالك مورقاً ... كأنك لم تجزع على ابن طريف
فتىً لا يحب الزاد إلا من التقى ... ولا المال إلا من قناة سيوف
احذر هؤلاء الخمسةحدثنا أبي رضي الله عنه، قال: حدثنا أبو أحمد الختلي، قال: حدثنا محمد بن يزيد مولى بني هشام، قال: حدثنا محمد بن عبد الله القرشي، قال: حدثني محمد بن عبد الله الهذلي، عن أبي حمزة الثمالي، عن أبي عبد الله جعفر بن محمد بن علي، قال: قال لي أبي: يا بني! انظر خمسةً لا تحادثهم ولا تصاحبهم، ولا ترى معهم في طريق، قلت: يا أبه! جعلت فداك، من هؤلاء الخمسة؟ قال: إياك ومصاحبة الفاسق، فإنه يبيعك بأكلةٍ أو أقل منها، قلت: يا أبه! وما اقل منها؟ قال: الطمع فيها ثم لا ينالها. قلت: يا أبه! ومن الثاني؟ قال: إياك ومصاحبة البخيل، فإنه يخذلك في ماله أحوج ما تكون إليه، قلت: يا أبه! ومن الثالث؟ قال: إياك ومصاحبة الكذاب فإنه يقرب منك البعيد ويباعد منك القريب، قلت: يا أبه! ومن الرابع؟ قال: إياك ومصاحبة الأحمق، فإنه يحذرك ممن يريد أن ينفعك فيضرك، قلت: يا أبه! ومن الخامس؟ قال: إياك ومصاحبة القاطع لرحمه، لأني وجدته ملعوناً في كتاب الله عز وجل في ثلاثة مواضع في الذين كفروا، " فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض " إلخ، وفي الرعد " الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه " الآية، وفي البقرة: " إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلاً " إلى آخر الآية.
واحذر هؤلاء إن...حدثنا محمد بن الحسن بن زياد، قال: أخبرنا داود بن وسيم، قال: أخبرنا عبد الرحمن بن أخي الأصمعي، عن عمه، قال: قال أبو عمرو بن العلاء: يا عبد الملك: كن من الكريم على حذرٍ إن أهنته، ومن اللئيم إذا أكرمته، ومن العاقل إذا أحرجته، ومن الأحمق إذا مازحته، ومن الفاجر إذا عاشرته، وليس من الأدب أن تجيب من لا يسألك، ولا تسأل من لا يجيبك، أو تحدث من لا ينصت لك.
قال القاضي: وكأن قول البحتري:
وسألت من لا يستجيب فكنت في اس ... تخباره كمجيب من لا يسأل
مأخوذٌ من قول أبي عمرو في هذا الخبر، وما ذكره من سؤال من لا يجيب، وإجابة من لم يسأل.
معنى تعاوره الشعراءحدثنا عبد الله بن جعفر بن إسحاق الحائري الموصلي بالبصرة، قال: كنت في منزل أبي عبد الله نفطويه إذ دخل عليه غلامٌ هاشمي نضر الوجه، فقال له: يا أستاذ! قد عملت من الشعر بيتين اسمعهما، فقال: أنشد، فأنشأ يقول:
كم صديقٍ منحته صفو ودي ... فجفاني وملني وقلاني
قل ما مل ثم عاود وصلي ... بعدما ذم صحبة الخلان
قال نفطويه: يا موصلي! ليس تجيئون بمثل هذه الملاحات. قال أبو محمد: فأمسكت ساعةً ثم عملت هذين البيتين:
أحمد الله ما امتحنت صديقاً ... لي إلا ندمت عند امتحاني
ليت شعري خصصت بالغدر من ... كل صديقٍ أم ذاك حكم الزمان
قال القاضي: وقد قال متقدموا الشعراء ومتأخروهم فيما تضمنته هذه الأبيات الأربعة ما يتعب جمعه ويشق استيعابه، ولعلنا نودع مجالس كتابنا هذا كثيراً منه إن شاء الله تعالى.
ومما جاء في هذا:
ذممتك جاهداً حتى إذا ما ... بلوت سواك عاد الذم حمدا
ولم أحمدك من خيرٍ ولكن ... وجدت سواك شرا منك جدا
فعدت إليك مبتئساً ذليلاً ... لأني لم أجد من ذاك بدا
كذي جوعٍ تحامى أكل ميتٍ ... فلما اضطر عاد إليه شدا
والبيت السائر في هذا المعنى:
عتبت على بشرٍ فلما جفوته ... وعاشرت أقواماً بكيت على بشر
ربما نفع الحمقحدثنا محمد بن يحيى الصولي، قال: حدثني أبو الحسن أحمد بن محمد الأنصاري، حدثنا ابن المدبر، قال: انفرد الرشيد وعيسى بن جعفر بن المنصور والفضل بن الربيع في صيد من الموكب، فلقوا أعرابياً مليحاً فصيحاً فولع به عيسى إلى أن قال له: يا ابن الزانية! فقال: بئس ما قلت، قد وجب عليك ردها أو العوض، فارض بهذين المليحين يحكمان بيني وبينك، فقال: قد رضيت، فقالا: يا أعرابي! خذ منه دانقين عوضاً من شتمك، فقال: أهذا الحكم؟ فقالا: نعم، فقال: هذا درهمٌ وأمكم جميعاً زانية، وقد أرجحت لكما بترك ما وجب لي.
فغلب عليهم الضحك، وما كان لهم سرور يومهم ذلك غير الأعرابي، وضم الرشيد الأعرابي إليه وخص به، وكان يدعوه في أكثرالأوقات، فكان الأعرابي بعد ذلك يقول للرشيد: لو عرفت لأبقيت، ولربما نفع الحمق.
المجلس الرابع والثلاثون
شكره الله أربع خصالحدثنا محمد بن مخلد بن حفص العطار، قال: حدثني محمد بن علي بن حمزة، أبو عبد الله العلوي العياشي، ثنا الحسن بن داود بن عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن جعفر ابن أبي طالب الجعفري، ثنا محمد بن الخصيب الحنفي، أبو عبد الله، ثنا أيوب بن بزاز، عن أبيه، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم لجعفر بن أبي طالب: إن الله تعالى أوحى إلي أنه شكرك على أربع خصال كنت عليهن مقيماً قبل أن يبعثني الله تعالى، فما هن؟ قال جعفر: بأبي أنت وأمي، لولا أن الله عز وجل نبأك بهن ما أنبأتك عن نفسي كراهية التزكية.
إني كرهت عبادة الأوثان لأني رأيتها لا تنفع ولا تضر، وكرهت الزنا لأني كرهت أن يؤتى إلي، وكرهت شرب الخمر لأني رأيتها منقصة للعقل، وكنت إلى أن أزيد في عقلي أحب إلي من أن أنقصه، وكرهت الكذب لأني رأيته دناءة.
تعليق المؤلفقال القاضي: وفي هذا الخبر من المحاسن لظاهر ما فيها من الفضل لذوي اللب والعقل، ما لا خفاء به لمن أحسن النظر لنفسه، ونصح لها، وحرص على رشدها وصلاحها، ونزهها عما يرديها ويشينها.
وقد أتت الشريعة بالدعاء إلى هذه الخصال، ووكدتها وحضت عليها وأيدتها، وذلك أظهر من أن يحتاج إلى ذكر ما أتى به التنزيل، وأنبأ به الرسول، وروي عن علماء أهل الفقه والتأويل، وأولى التقدم في الفهم والتحصيل، والأمر فيه أوضح من أن يحتاج إلى الإطلالة بإحضار ما روي فيه.
وفقنا الله وإياكم لما يرضيه، وعصمنا من الضلالة وهدانا لصالح الأعمال وحميد الفعال، وهو الولي الحميد، العلي المجيد.
ما كان زياد يقوله للرجل إذا ولاه عملاً
حدثنا محمد بن الحسن بن دريد، قال: أخبرنا أبو حاتم، عن أبي عبيدة، عن يونس، قال: كان زيادٌ إذا ولى رجلاً عملاً قال له: خذ عهدك وسر إلى عملك، واعلم أنك مصروف رأس سنتك، وأنك تصير إلى أربع خلال، فاختر لنفسك، إنا إن وجدناك أميناً ضعيفاً استبدلنا بك لضعفك، وسلمتك من معرتنا أمانتك، وإن وجدناك قوياً خائناً استهنا بقوتك، وأحسنا على خيانتك أدبك، وأوجعنا ظهرك، وثقلنا غرمك، وإن جمعت علينا الجرمين جمعنا عليك المضرتين، وإن وجدناك أميناً قويا زدنا في عملك، ورفعنا ذكرك، وكثرنا مالك، وأوطأنا عقبك.
معنى أوطأنا عقبكقال القاضي: قول زياد: وأوطأنا عقبك، يريد أن نشرفك وننوه بك ونرفع من قدرك، فيكثر أتباعك، ويطأ الرجال عقبك، باتباعهم إياك، وازدحامهم في موكبك، والعرب تقول للرجل إذا وصفته بالسؤدد: فلان موطأ الأعقاب، كما قال الشاعر:
يا سيداً ما أنت من سيدٍ ... موطأ الأعقاب رحب الذراع
قوال معروفٍ وفعاله ... وهاب أمات الفصال الرباع
قال هذا في الشعر: موطأ الأعقاب، وإنما للإنسان عقبان على أحد وجهين، إما إن يكون رأي الإثنين جمعاً. كما قال الله جل جلاله: " وهل أتاك نبأ الخصم إذ تسوروا المحراب، إذ دخلوا على داود ففزع منهم، قالوا: لا تخف، خصمان بغى بعضنا على بعض " إلى قوله: إن هذا أخي...، وإما يكون جمع العقبين بما حولهما كما قال الأعشى:
والزعفران على ترائبها ... شرفاته اللبات والنحر
فجمع اللبة بما حولها.
وقال: أمات في جمع أم، وهذا معروف في كلام العرب، وقد زعم بعضهم أن أمات تستعمل في البهائم وأمهات تستعمل في الأناسي، والجمهور على تجويز ذلك في الجميع، وقد قال الشاعر:
إذا الأمهات قبحن الوجوه ... فرجت الظلام بأماتكا
وفي مواضع من هذا الباب خلاف بين الكوفيين والبصريين ليس هذا موضع ذكره، واللغة المشهورة أمهات، وفي الواحدة هاء مقدرة، وربما أظهرت، كما قال الراجز:
أمهتي خندف والياس أبي
واللغة العالية المستفيضة السائرة التي جاء بها القرآن الكريم في مواضع كثيرة: أم وأمهات، قال الله تعالى: " وجعلنا ابن مريم وأمه آيةً " ، وقال تعالى: " حرمت عليكم أمهاتكم " .
معاوية وإعجابه بولده يزيد
حدثنا أحمد بن محمد، أبو عبد الله الأضاحي المعروف بحرمي، ثنا أبو سعيد عبد الله بن شبيب، قال: حدثني محمد بن عبد الله بن عمرو ابن معاوية بن عتبة بن أبي سفيان، عن أبيه، قال: جلست ميسون بنت بحدل الكلبية ترجل ابنها يزيد بن معاوية، وميسون يومئذ مطلقة، ومعاوية وفاختة بنت قرظة ينظران إليهما، ويزيد وأمه لا يعلمان، فلما فرغت من ترجيله نظرت إليه فأعجبها وقبلت بين عينيه، فقال معاوية بيتاً من شعر:
إذا مات لم تفلح مزينة بعده ... فنوطي عليه يا مزين التمائما
قال: ومضى يزيد فأتبعه فاختة بصرها، وقالت: لعن الله سواد ساقي أمك، فقال معاوية: قد رأيتها؟ أما والله على ذاك لما فرجت عنه وركاها خيرٌ مما تفرجت عنه وركاك.
وكان لمعاوية من بنت قرظة عبد الله، وكان أحمق الناس، قالت فاختة: لا والله ولكنك تؤثر هذا عليه، فقال: سوف أبين لك ذلك حتى تعرفيه قبل أن تقومي من مجلسك، يا غلام! ادع لي عبد الله، فدعاه فقال له معاوية: يا بني! إني قد أردت أن أسعفك وأن أصنع بك ما أنت أهله، فسل أمير المؤمنين فلست تسله شيئاً إلا أعطاكه. فقال: حاجتي أن تشتري لي كلباً فارهاً وحماراً، فقال معاوية: يا بني! أنت حمار ونشتري لك حماراً، قم فاخرج، قال: كيف رأيت؟ يا غلام! ادع لي يزيداً، فدعاه.
فقال: يا بني! إن أمير المؤمنين قد أراد أن يسعفك ويوسع عليك ويصنع بك ما أنت أهله، فاسأله ما بدا لك، قال: فخر ساجداً ثم قال حين رفع رأسه: الحمد لله الذي بلغ أمير المؤمنين هذه المدة، وأراه في هذا الرأي، حاجتي أن تعقد لي العهد من بعدك، وتوليني العام صائفة المسلمين، وتحسن جهازي وتقويني، فتكون الصائفة أول أسفاري، وتأذن لي في الحج إذا رجعت وتوليني الموسم، وتزيد أهل الشام عشرة دنانير لكل رجل، وتجعل ذلك بشفاعتي، وتفرض لأيتام بني جمح وأيتام بني سهم وأيتام بني عدي، قال: مالك ولبني عدي؟ قال: لأنهم جالفوني وانتقلوا إلى داري، قال معاوية: قد فعلت - إذا رجعت - ذلك بك، وقبل وجهه وقال لابنة قرظة: كيف رايت؟ قالت: يا أمير المؤمنين! أوصه بي، فأنت أعلم به، ففعل.
قال القاضي: قدر روينا هذا الخبر من طريق آخر، وفيه: أن عبد الله سأل مالاً وأرضاً، وأن يزيد قال لمعاوية: اعتقني من النار أعتق الله رقبتك من النار، فقال له: وكيف؟ قال: لأني وجدت في الأثر أنه " من تقلد أمر الأمة ثلاثة أيام حرمه الله على النار " ، فاعهد إلي من بعدك.
سيدة النساءحدثنا أبو الحسن أحمد بن محمد بن إسحاق بن إبراهيم العجلي البزاز المعروف بالمراجلي بسر من رأى، قال: أخبرنا محمد بن يونس الكديمي، قال: حدثنا يحيى بن عمر الليثي، قال: حدثنا الهيثم بن عدي، قال: حدثنا المجالد، عن الشعبي قال: مر بي مصعب بن الزبير وأنا في المسجد،فقال: يا شعبي! قم، فقمت فوضع يده في يدي وانطلق حتى دخل القصر فقصرت، فقال: ادخل يا شعبي، فدخل حجرة فقصرت، فقال: ادخل يا شعبي، ثم دخل بيتاً فقصرت، فقال: ادخل فدخلت، فإذا امرأة في حجلة، فقال: أتدري من هذه؟ فقلت: نعم هذه سيدة نساء المسلمين، هذه عائشة بنت طلحة بن عبيد الله، فقال: هذه ليلى، وتمثل:
وما زلت في ليلى لدن طر شاربي ... إني اليوم أخفي حبها وأداجن
وأحمل في ليلى لقومٍ ضغينة ... وتحمل في ليلى علي الضغائن
ثم قال لي: يا شعبي! إنها اشتهت على حديثك، فحادثها، وخرج وتركنا.
قال: فجعلت أنشدها وتنشدني، وأحادثها وتحادثني حتى أنشدتها قول قيس بن ذريح:
ألا يا غراب البين قد طرت بالذي ... أحاذر من لبنى فهل أنت واقع
تبكي على لبنى وأنت قتلتها ... وقد هلكت لبنى فما أنت صانع
قال: فلقد رأيتها وفي يدها غراب تنتف ريشه وتضربه بقضيبٍ وتقول له: يا مشوم.
وغراب يضرب في سوق الطيرحدثنا محمد بن مزيد الخزاعي، قال: حدثنا الزبير، قال: قال الخليل بن سعيد: مررت بسوق الطير فإذا الناس قد اجتمعوا يركب بعضهم بعضاً فاطلعت فإذا أبو السائب قابضاً على غرابٍ يباع قد أخذ طرف ردائه، وهو يقول للغراب يقول لك قيس بن ذريح:
ألا يا غراب البين قد طرت بالذي ... أحاذر من لبنى فهل أنت واقع
ثم لا يقع ويضربه بردائه والغراب يصيح.
وجارية تغني في ذمهحدثنا محمد بن إبراهيم الحكيمي، قال: أخبرنا يموت بن المزرع، قال: كنت آتي أبا إسحاق الزيادي إذ مرت به أمةٌ سوداء شوهاء، فقال لها: يا عنيزة! أسمعيني:
مر بالبين غرابٌ فنعب
فقالت: لا: والله، أو تهب لي قطعة.
فأخرج صريرة من جيبه فناولها قطعة أريت أن فيها ثلاث حباتٍ، فوضعت الجرة على ظهرها وقعدت عليها ثم رفعت عقيرتها:
مر بالبين غراب فنعب ... ليت ذا الناعب بالبين كذب
فلحاك الله من طيرٍ فقد ... كنت لو شئت غنيا أن تسب
قال أبو بكر: فأحسنت.
هذا الطائر المظلوموأنشدني الحكيمي لأبي الشيص:
الناس يلحون غرا ... ب البين لما جهلوا
وما غراب البين إلا ... ناقةٌ أو جمل
وما على ظهر غرا ... ب البين تمطى الرحل
ولا إذا صاح غرا ... ب في الديار احتملوا
ما فرق الألاف بع ... د الله إلا الإبل
قال القاضي: وأنشدني محمد بن الحسن بن مقسم، قال: أنشدني أحمد بن يحيى لأحمد بن مية - وهو أحد الظرفاء - شعراً:
يسب غراب البين ظلماً معاشر ... وهم آثروا بعد الحبيب على القرب
وما لغراب البين ذنب فأبتدي ... بسب غراب البين لكنه ذنبي
فيا شوق لا تنفد ويا دمع فض وزد ... ويا حب راوح بين جنبٍ إلى جنب
ويا عاذلي لمني ويا عائدي الحني ... عصيتكما حتى أغيب في الترب
إذا كان ربي عالماً بسريرتي ... فما الناس في عيني بأعظم من ربي
حقق الله لهم أمنياتهمحدثنا الحسين بن القاسم الكوكبي، حدثنا ابن أبي الدنيا، حدثني أبو الحسن علي بن عبد الأعلى الشيباني، قال: حدثنا إسماعيل بن أبان، قال: حدثنا سفيان الثوري، عن طارق بن عبد العزيز، عن الشعبي، قال: لقد رأيت عجباً، كنا بفناء الكعبة أنا، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن الزبير، ومصعب بن الزبير، وعبد الملك بن مروان، قال القوم بعد أن فرغوا من حديثهم: ليقم رجلٌ رجلٌ منكم فليأخذ بالركن اليماني ويسأل الله حاجته، فإنه يعطي من سعة.
قم يا عبد الله بن الزبير فإنك أول مولودٍ ولد في الهجرة، فقام فأخذ بالركن اليماني فقال: اللهم إنك عظيمٌ، أسألك بحرمة وجهك وحرمة عرشك، وبحرمة نبيك، ألا تميتني من الدنيا حتى توليني الحجاز ويسلم علي بالخلافة.
وجاء حتى جلس، فقالوا: قم يا مصعب بن الزبير، فقام فأخذ بالركن اليماني وقال: اللهم إنك رب كل شيءٍ وإليك يصير كل شيءٍ، أسألك بقدرتك على كل شيءٍ ألا تميتني من الدنيا حتى توليني العراقين، وتزوجني سكينة بنت الحسين بن علي عليهما السلام، وعائشة بنت طلحة بن عبيد الله.
وجاء حتى جلس، فقالوا: قم يا عبد الملك بن مروان، فقام وأخذ بالركن اليماني، وقال: اللهم رب السموات السبع والأرضين السبع، ذات النبت بعد القفر، أسألك بما سألك المطيعون لأمرك، وأسألك بحرمة وجهك، وأسألك بحقك على جميع خلقك، وبحق الطائفين حول بيتك، ألا تميتني من الدنيا حتى توليني شرق الأرض وغربها، ولا ينازعني أحدٌ إلا أتيت برأسه، ثم جاء حتى جلس.
ثم قالوا: قم يا عبد الله بن عمر، فقام حتى أخذ بالركن اليماني، ثم قال: أللهم إنك رحمنٌ رحيم، أسألك برحمتك التي سبقت غضبك، وأسألك بقدرتك على جميع خلقك، ألا تميتني من الدنيا حتى توجب لي الجنة.
قال الشعبي: فما ذهبت عيناي من الدنيا حتى رأيت كل رجل منهم قد أعطي ما سأل من الدنيا، وبشر عبد الله بن عمر بالجنة.
أسلوب الحكيمحدثنا محمد بن القاسم الأنباري، حدثنا محمد بن أحمد المقدمي، قال: حدثنا عبد الله بن عمرو، حدثنا أبو عبد الله القرشي، حدثنامحمد بن الضحاك الخزاعي، عن أبيه، قال:
أمر الحجاج بإحضار الغضبان بن القبعثري، وقال الحجاج: زعموا أنه لم يكذب قط، واليوم يكذب، فلما دخل عليه، قال: قد سمنت يا غضبان! قال: أصلح الله الأمير، القيد والرتعة، والخفض والدعة، وقلة التعتعة، ومن يكن ضيف الأمير يسمن، قال: أتحبني يا غضبان؟ قال: أصلح الله الأمير، أو فرقٌ خيرٌ من محبتي، قال: لأحملنك على الأدهم، قال: مثل الأمير حمل على الأدهم والكميت الأشقر، قال: أنه حديد، قال: لأن يكون حديداً خيرٌ من أن يكون بليداً.
الرد الخالصحدثنا المظفر بن يحيى بن أحمد المعروف بابن الشرابي، حدثنا أبو العباس المرثدي، حدثنا أبو إسحاق الطلحي، قال: أخبرني أحمد بن إبراهيم، قال: قال سعيد بن العاص لمعاوية وهو معه على سريره: يا أمير المؤمنين! والله لكأن عمتك هذه خمرة هند عند بعض أزواجها فيما يوصف لي. قال: فلم يجبه معاوية بشيء.
ودخل سليمان بن صرد، فقال له معاوية: مرحباً، هاهنا فأجلسه بينه وبين سعيد على السرير، فساءله طويلاً، ثم قال له: كيف بر هذا بك؟ فقال سعيد: ما أردت بهذا يا أمير المؤمنين؟ قال: وما أردت بخمرة هند.
لولا الحياءحدثني عثمان بن محمد بن شاذان القاضي، حدثنا عبد الملك بن القاسم الحارثي، قال: بلغني أن إسماعيل بن إسحاق القاضي كان يؤذن، فمر به غلامٌ حسن الوجه، فأطال النظر إليه، ثم قال عند فراغه من أذانه:
لولا الحياء وأنني مستور ... والعيب يلحق بالكبير كبير
لحللت بالأرض التي أنتم بها ... ولكان منزلنا هو المهجور
شيء من الصبوةحدثنا محمد بن يحيى الصولي، قال: كنت عند ثعلب جالساً فجاءه محمد بن داود الأصبهاني، فقال له: أهاهنا شيءٌ من صبوتك، فأنشده:
سقى الله أياماً لنا وليالينا ... لهن بأكناف الشباب ملاعب
إذ العيش غض والزمان بعزةٍ ... وشاهد آفات المحبين غائب
أحسن الشعرحدثنا إبراهيم بن محمد بن عرفة الأزدي، قال: استنشدني أبو سليمان داود بن علي بعقب قصيدة أنشدته إياها ومدحته فيها، وسألته الجلوس فأجابني، وقال لي في شيءٍ منها: لو أبدلت مكانه؟ فقلت له: هذا كلام العرب، فقال: أحسن الشعر ما دخل القلب بلا آذان، هذا بعد أن بدلت الكلمة، فقال لي إنسان بحضرته: ما أشد ولوعك بذكر الفراق في شعرك! فقال أبو سليمان: وأي شيءٍ أمض من الفراق؟ ثم حكى عن محمد بن حبيب، عن عمارة بن عقيل بن بلال بن جرير، أنه قيل له: ما كان أبوك صانعاً حيث يقول:
لو كنت أعلم أن آخر عهدكم ... يوم الرحيل فعلت ما لم أفعل
قال: يقلع عينه ولا يرى مظعن أحبابه
تعليقات بلاغية ونحويةقال القاضي: ولي من أبياتٍ لم يحضرني حفظها في هذا الوقت أيضاً هي في معنى قول أبي سليمان داود في هذا الخبر:
تخترق الحجب بلا حاجب ... وتدخل الأذن بلا آذن
والأذن مع الآذن يؤثر للمجانسة، وما يدخل القلب أبلغ في تحقيق المعنى وقوله:
لو كنت أعلم أن آخر عهدكم ... يوم الرحيل.....................
يروى: يوم الرحيل رفعاً ونصباً، فمن نصبه فعلى أنه ظرف، والمعنى أن آخر عهدكم في يوم الرحيل، ومن رفعه جعل يوم الرحيل نفسه هو آخر العهد.
وقد قرأت القرأة: " قال موعدكم يوم الزينة " ، فمن رفع جعل الموعد هو اليوم، ومن نصب جعل الموعد في اليوم.
وقال يونس: سألت رؤبة: أين منزلك؟ فقال: شرقي المسجد، وقال جرير:
هبت شمالاً فذكرى ما ذكرتكم ... إلى الصفاة التي شرقي حورانا
فنصب، والرفع جائز وذلك على ما مضى من بياننا، والاختيار عندي رفع قول رؤبة ونصب قول جرير في بيته على ما قالا، مع جواز خلافه، وذلك أنه سئل عن نفس منزله فأخبر أنه شرقي المسجد، ويقدر جوابه: منزلي هو شرقي المسجد أو شرقي المسجد هو منزلي، هذا هو عرف الناس في السؤال عن مثل هذا، والجواب عن: ما ثوبك؟ فيقال: خز أي من خز، وما لون فرسك؟ فيقال: أشقر، ولا يقال في الغالب: شقرة، والنصب فيه على معنى أنه سئل في أي موضع منزلك؟ فيقال: في شرقي المسجد، وأما شرقي حوران في بيت جرير فمعناه إلى الصفاة التي هي شرقي حوران، ولو أريد هذا فالوجه فيه إظهار هي فيقال التي هي شرقي حوران.
وقد قرأ يحيى بن يعمر: " تماماً على الذي أحسن " ، والوجه إذا أوثر هذا المعنى أن يقال: على الذي هو أحسن.
يتعلق بالقضاة حين يعزلونحدثنا ظاهر بن مسلم العبدي، حدثني محمد بن عمران الضبي، حدثنا أحمد بن حلايس، قال: لما عزل شريكٌ عن القضاء تعلق به رجل ببغداد، فقال: يا أبا عبد الله! لي عليك ثلثمائة درهم فأعطناها، قال: ومن أنا؟ قال: أنت شريك بن عبد الله القاضي، قال: ومن أنى هي لك؟ قال: من ثمن هذا البغل الذي تحتك، قال: نعم، تعال، فجاء يمشي معه حتى إذا بلغ الجسر قال: من هاهنا؟ فقام إليه أولئك الشرط، فقال: خذوا هذا فاحبسوه ولئن أطلقتموه لأخبرن أبا العباس عبد الله بن مالك، فقالوا: إن هذا الرجل يتعلق بالقاضي إذا عزل فيفتدى منه، وقد تعلق بسلمة الأحمر حين عزل عن واسط فأخذ منه أربعمائة درهم، فقال: هكذا.
فكلم فيه فأبى أن يطلقه، فقال له عبد الله بن مالك: إلى كم تحبس هذا الرجل؟ قال: حتى يرد على سلمة الأحمر أربعمائة درهم، قال: فرد على سلمة أربعمائة درهم، فجاء سلمة إلى شريك فتشكر له، فقال: يا ضعيف! كل من سألك مالك أعطيته إياه.
لعله الخضر أو إلياسحدثنا عبد الله بن محمد بن جعفر الأزدي، قال: حدثنا أبو بكر بن أبي الدنيا، حدثنا إسحاق بن إبراهيم الباهلي الصراف، قال: حدثنا عبد الله بن بكر السهمي، حدثنا الحجاج بن فرافصة، قال: كان رجلان يتبايعان عند عبد الله بن عمر، فكان أحدهما يكثر الحلف، فمر عليهم رجلٌ فقام عليهما فقال للذي يكثر الحلف: يا عبد الله! اتق الله ولا تكثر الحلف، فإنه لا يزيد في رزقك إن حلفت، ولا ينقص من رزقك إن لم تحلف، قال: امض لما يعنيك، قال: إن ذا مما يعنيني، فلما أخذ ينصرف عنهما، قال له: اعلم أن من آية الأيمان أن تؤثر الصدق حيث يضرك على الكذب حيث ينفعك، وألا يكون في قولك فضلٌ على عملك، واحذر الكذب في حديث غيرك. ثم انصرف..
فقال عبد الله بن عمر لأحد الرجلين: الحقه فاستكتبه هؤلاء الكلمات، فقام فأدركه، فقال: أكتبني هؤلاء الكلمات رحمك الله، قال: ما يقدر الله تعالى من أمرٍ يكون.
قال: فأعادهن علي حتى حفظتهن، ثم مشى معه حتى إذا وضع رجله في المسجد فقده، قال: فكأنهم كانوا يرون أنه الخضر أو إلياس.
سبق والبة إلى بيتين جيدينحدثنا أحمد بن إسماعيل بن القاسم الشرقي، حدثني الحسين بن سلام السكوني، قال: أخبرني إبراهيم بن جناح المحاربي، قال: سمعت أبا نواس يقول: سبقني والبة إلى بيتين من شعرٍ قالهما، وددت أني سبقته وأن بعض أعضائي اختلج مني:
وليس فتى الفتيان من راح واغتدى ... لشرب صبوحٍ أو لشرب غبوق
ولكن فتى الفتيان من راح واغتدى ... لضر عدو أو لنفع صديق
أسماء أوقات الشرابقال القاضي: شرب الغداة يقال له في كلام العرب: صبوح، ويقال لشرب نصف النهار: القيل، ولشرب العشي: الغبوق، ولشرب الليل: الفحمة، ولشرب السحر: الجاشرية.
وقول أبي نواس: وأن بعض أعضائي اختلج مني، أي اقتطع، ومنه سمي المقتطع من البحر إلى الوادي خليجاً، كما قال الشاعر:
ومدرك أمرٍ كان يأمل دونه ... ومختلجٍ من دون ما كان يأمل
المجلس الخامس والثلاثون
طائر أبيض يرسل قبل الضيفحدثنا سهل بن أحمد بن الفضل، أبو حميد المكي، قال: حدثنا محمد بن سعيد الطبري، قال: حدثنا جويرة بن أشرس، قال: حدثنا العلاء أبو محمد، قال:
سمعت أنس بن مالك، يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " إن الله تبارك وتعالى إذا أراد أن يبعث ضيفاً إلى أهله بعث طائراً أبيض يسمى ضيفاً قبل ذلك بأربعين صباحاً، فيجيء الطائر فيقوم على عتبة بابه، وعظم ذلك الطائر مسيرة سبعين عاماً، قال: فينادي: يا أهل الدار! وليس يجيبه أحد، فيسكت عنهم ساعة؟ ثم ينادي الثانية بأعلى صوته، ويسمع صوته جميع أهل السماء السابعة والأرض السابعة ما خلا الثقلين، فيجيبه جبريل من فوق السماء السابعة من تحت عرش الجبار: لبيك يا رسول رب العالمين، ما حاجتك إلى أهل هذه الدار؟ فيقول: إن الله بعثني رسولاً إلى أهلها وهو يقرأ عليهم السلام، ويقول إن فلاناً يأتيكم ضيفاً إلى أربعين صباحاً وهذه بركته ورزقه من الجنة، فيقول جبريل: ناولنيه لأقبضه، فيناوله جبريل، فيقول: ما هذه الرقعة في منقارك؟ فيقول: إنها براءة لهم من النار، فيقول جبريل، ناولنيها فيناوله فيقرؤها ويتعجب جبريل من ذلك، فيقول الطائر: أتعجب من هذا؟ فيقول: نعم، فيقول الطائر: فإن الله تعالى أمرني أن أحصي عليهم حسناتهم ولا أحصي عليهم سيئاتهم ما دام الضيف فيهم، فإذا خرج من عندهم خرج بذنوب صغيرهم وكبيرهم ورجالهم ونسائهم، وإمائهم وعبيدهم، وحيهم وميتهم، وإنما سمي الضيف ضيفاً بذلك الطائر.
قال القاضي: في هذا الخبر ترغيب في إضافة الضيف وقضاء حق ضيافته، ودلالة على وجوب حقه ورفعة منزلة مضيفه، ولم تزل الأمم على اختلاف أديانها وآرائها، وأخلاقها وعاداتها، تستحسن الضيافة وترغب فيها وتتواصى بها، وتتحاض عليها، وتتعاير بالرغبة عنها، والتفريط في المسابقة إليها، وللعرب من الخصوصية في هذا، والحفوف فيه، والمباذلة والمباهاة، وحسن الاقتداء بها عليه والمضاهاة، ما بزت به من سواها وأبرت عليه، حتى أنها كانت تتدين باعتقاد وجوبه، ولزوم فرضه، وتقصب من أعراض عنه وتنبذه، وتسبه وتعيبه، وترى الحمد والذم فيه متوارثاً في أعقابها وأحسابها، ثم جاء الإسلام بتحسين هذا الباب والندب إليه والترغيب فيه، وروي عن النبي صلى الله عليه وآله أنه قال: " من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه " ، فهو من أشرف أفعال الإسلام، وأخلاق النبيين عليهم السلام، وما ورد في هذا عن النبي صلى الله عليه وعلى آله ومن بعده من أوائل السلف وأماثل الخلف، وذوي الأدب والحكمة، والبصائر والمعرفة، وعن الشعراء قديمهم وحديثهم مدحاً وذماً أكثر من أن يحصى المختار من لطيفه وبديعه، فضلاً عن أن يحاط بجميعه، وقد مضى في بعض مجالس كتابنا هذا صدر منه، ونحن نأتي فيما نستقبله منها بما يوفق الله تعالى بقوته ومشيئته ن.
من بركة آل البيت
حدثنا محمد بن عمر بن على الكاتب، قال: حدثني حفص بن محمد الكاتب، قال: حدثني علي بن محمد الكاتب، قال: حدثني حمد بن الخصيب قبل وزارته، قال: كنت كاتباً للسيدة شجاع أم المتوكل، فإني ذات يوم في مجلسي في ديواني إذ خرج إلي خادم خاص ومعه كيس، فقال لي: يا أحمد! إن السيدة أم أمير المؤمنين تقرئك السلام، وتقول لك: هذه ألف دينار من طيب مالي، خذها وادفعها إلى قوم مستحقين تكتب لي أسماءهم وأنسابهم ومنازلهم فكلما جاءنا من هذه الناحية شيءٌ صرفناه إليهم، فأخذت الكيس وصرت إلى منزلي، ووجهت خلف من أثق بهم فعرفتهم ما أمرت به، وسألتهم أن يسموا لي من يعرفون من أهل الستر والحاجة، فأسموا لي جماعةً، ففرقت فيهم ثلثمائة دينار وجاء الليل والمال بين يدي لا أصيب محقاً، وأنا أفكر في سر من رأى وبعد أقطارها وتكاثف أهلها، ليس بها محقٌ يأخذ ألف دينار، وبين يدي بعض حرمي ومضى من الليل ساعةٌ وغلقت الدروب وطاف العسس، وأنا مفكرٌ في أمر الدنانير، إذ سمعت باب الدار يدق، وسمعت البواب يكلم رجلاً من ورائه، فقلت: لبعض من بين يدي: اعرف الخبر، فعاد إلي، فقال لي: بالباب فلان بن فلان العلوي يسأل الأذن عليك، فقلت: مره بالدخول، وقلت: لمن بين يدي من الحرم: كونوا وراء هذا الستر، فما قصدنا في هذا الوقت إلا لحاجة، فدخل وسلم وجلس، وقال لي: طرقني في هذا الوقت طارق لرسول الله صلى الله عليه وآله من ابنة لرسول الله صلى الله عليه وآله، ولا والله ما عندنا ولا أعددنا ما يعد الناس، ولم يكن في جواري من أقرع إليه غيرك، فدفعت إليه ديناراً فشكر وانصرف، وخرجت ربة المنزل، فقالت: يا هذا تدفع إليك السيدة ألف دينار تدفعها إلى محق أحق من ابن رسول الله صلى الله عليه وآله في الدنيا، مع ما قد شكاه إليك؟ فقلت لها: فإيش السبيل؟ قالت: تدفع الكيس إليه، قلت: يا غلام! رده، فرده فحدثته بالحديث ودفعت الكيس إليه فأخذه وشكر وانصرف، فلما ولى جاء إبليس لعنه الله، فقال لي: المتوكل وانحرافه عن أهل هذا البيت، يدفع إليك ألف دينار تدفعها إلى مستحقين تكتب أسماءهم وأنسابهم ومنازلهم، فإيش تحتج؟ وقد دفعت إلى علوي سبع مائة دينار. فقلت لربة المنزل: وقعتيني فيما أكره، فإما سبعمائة دينار أو زوال النعم، وعرفتها ما عندي، فقالت: اتكل على جدهم، فقلت: دعي هذا عنك، المتوكل وانحرافه فإيش احتج إيش أقول؟ قالت: اتكل على جدهم، فما زالت بمثل هذا القول ومثله إلى أن اطمأننت وسكت وقمت إلى فراشي، فما استثقلت نوماً إلا وصوت الفرانق على الباب، فقلت: لبعض من يقرب مني: من على الباب؟ فعاد إلي، فقال: رسول السيدة يأمرك بالركوب إليها الساعة فخرجت إلى صحن الدار والليل بحالته والنجوم بحالتها، وجاء ثان وثالث فأدخلتهم، فقلت: الليل بحالته! فقالوا: لابد من أن تركب فركبت فلم أصل إلى الجوسق إلا وأنا في موكب من الرسل، فدخلت الدار فقبض خادمٌ على يدي فأدخلني إلى الموضع الذي كنت أصل، ووقفني، وخرج خادم خاصة من داخل فأخذ بيدي، وقال: يا أحمد! إنك تكلم السيدة أم أمير المؤمنين فقف حيث توقف، ولا تكلم حتى تسأل، وأدخلني إلى دار لطيفة فيها بيوت عليها ستورٌ مسبلة، وشمعةٌ وسط الدار، فوقفني على بابٍ منها فوقفت لا أتكلم، فصاح بي صائح، قال: يا أحمد! فقلت: لبيك يا أم أمير المؤمنين، فقالت: حساب ألف دينار، بل حساب سبعمائة دينار وبكت، فقلت في نفسي: نكبة! علويٌ أخذ المال ومضى ففتح دكاكين التجار في السوق واشترى حوائجه، وتحدث فكتب به بعض أصحاب الأخبار، فأمر المتوكل بقتلي وهي تبكي رحمةً لي، ثم أمسكت عن الكلام، وقالت: يا أحمد! حساب ألف دينار بل حساب سبعمائة دينار، ثم بكت ففعلت ذلك ثلاث مرات ثم أمسكت، وسألتني عن الحساب، فصدقتها عن القصة، فلما بلغت إلى ذكر العلوي بكت، وقالت: يا أحمد! جزاك الله خيراً وجزى من في منزلك خيراً، تدري ما كان جرى الليلة؟ قلت: لا، قالت: كنت نائمة في فراشي فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول: جزاك الله خيراً وجزى أحمد بن الخصيب خيراً، ومن في منزله خيراً، فقد فرجتم في هذه الليلة عن ثلاثةٍ من ولدي، ما كان لهم شيءٌ، خذ هذا الحلي مع هذه الثياب وهذه الدنانير وادفعها إلى العلوي، وقل له: نحن نصرف عليك ما جاء من هذه الناحية، وخذ هذا الحلي وهذه الثياب وهذا المال فادفعه إلى
زوجتك، وقل: يا مباركة! جزاك الله عناخيراً فهذه دلالتك، وخذ هذا يا أحمد، فدفعت إلي مالاً وثياباً، وخرجت يحمل ذلك بين يدي، وركبت منصرفاً إلى منزلي، وكان طريقي على باب العلوي، فقلت: أبدأ به إذا كان الله رزقنا هذا على يديه، فدققت الباب، فقيل لي: من هذا؟ فقلت: أحمد بن الخصيب، فخرج إلي فقال: يا أحمد هات ما معك، فقلت في بالي: وما يدريك ما معي؟ فقال لي: انصرفت من عندك بما أخذته منك ولم يكن عندنا شيء فدخلت على بنت عمي فعرفتها الخبر، ودفعت إليها المال ففرحت، وقالت: ما أريد أن تشتري شيئاً ولا آكل شيئاً، ولكن قم فصل أنت وادع حتى أؤمن على دعائك، فقمت فصليت ودعوت وأمنت ووضعت رأسي ونمت، فرأيت جدي عليه السلام في النوم وهو يقول لي: قد شكرتهم على ما كان منهم إليك، وهم باروك بشيءٍ فاقبله، فدفعت إليه ما كان معي وانصرفت، وصرت إلى منزلي فإذا ربة المنزل قلقة قائمة تصلي وتدعو، فعرفت إني قد جئت معافىً، فخرجت إلي فسألتني عن خبري، فحدثتها الحديث على وجهه، فقالت لي: ألم أقل لك: اتكل على جدهم، رأيت ما فعل؟ فدفعت إليها ما كان لها فأخذته. وقل: يا مباركة! جزاك الله عناخيراً فهذه دلالتك، وخذ هذا يا أحمد، فدفعت إلي مالاً وثياباً، وخرجت يحمل ذلك بين يدي، وركبت منصرفاً إلى منزلي، وكان طريقي على باب العلوي، فقلت: أبدأ به إذا كان الله رزقنا هذا على يديه، فدققت الباب، فقيل لي: من هذا؟ فقلت: أحمد بن الخصيب، فخرج إلي فقال: يا أحمد هات ما معك، فقلت في بالي: وما يدريك ما معي؟ فقال لي: انصرفت من عندك بما أخذته منك ولم يكن عندنا شيء فدخلت على بنت عمي فعرفتها الخبر، ودفعت إليها المال ففرحت، وقالت: ما أريد أن تشتري شيئاً ولا آكل شيئاً، ولكن قم فصل أنت وادع حتى أؤمن على دعائك، فقمت فصليت ودعوت وأمنت ووضعت رأسي ونمت، فرأيت جدي عليه السلام في النوم وهو يقول لي: قد شكرتهم على ما كان منهم إليك، وهم باروك بشيءٍ فاقبله، فدفعت إليه ما كان معي وانصرفت، وصرت إلى منزلي فإذا ربة المنزل قلقة قائمة تصلي وتدعو، فعرفت إني قد جئت معافىً، فخرجت إلي فسألتني عن خبري، فحدثتها الحديث على وجهه، فقالت لي: ألم أقل لك: اتكل على جدهم، رأيت ما فعل؟ فدفعت إليها ما كان لها فأخذته.
قال القاضي رمة الله عليه: وجدت ابن الخصيب مخطئاً في نسبة المتوكل إلى الانحراف عن أهل البيت، وسأبين فيما يأتي من مجالس هذا الكتاب ما يبطل قوله إن شاء الله تعالى.
وقصة أخرى في هذا الشأنحدثنا أحمد بن محمد بن الحسين الشحيمي القاضي، قال: حدثني عمر بن الحسن الحرضي، قال: حدثني عبد الله بن طاهر، قال: دخلت على إسحاق بن إبراهيم يوماً فقال لي: بينا أنا ذات يوم قاعدٌ دخل علي رجل، فقال: أنا رسول رسول الله إليك، قال لك: أطلق القاتل المحبوس، فقلت: ليس عندي قاتل محبوس، قال: فأمرت أن يفتش، فذكر لي رجلٌ فأمرت بإحضاره، فرفع في قصة أنه رجلٌ وجد معه سكينٌ أو أنهم وجدوا السكين معه؟ فقلت له: ما قصتك؟ فقال: أنا رجل بتريٌ، عملت كل بليةٍ من الزنا والفسق والشر وكنا جماعة في دار فأدخلنا امرأةً فصاحت، فقالت: يا قوم! اتقوا الله فإني امرأة من ولد الحسن بن علي ومن ولد فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فدفعتهم عنها، فقالوا: أيا فاسق لما قضيت بحاجتك منها تدفعنا، فجاذبتهم وجاذبوني حتى قتلت رجلاً منهم وخلصتها منهم، فابتدروني ومعي السكين وحبست، قال: قلت: رسول رسول الله جاءني وأمرني بإطلاقك، قال: فقال: فإني تائب إلى الله وإلى رسوله من كل شيءٍ كنت فيه ولا أعود في شيء منه أبداً فأطلقته.
قال الشحيمي: هذا معنى ما حدثني به حفظته منه حفظاً.
قال القاضي: عمر بن الحسن الحرضي هذا هو ابن الأشناني القاضي، والحرض في كلام العرب الأشنان والإناء الذي يجعل منه المحرضة فاتهمه لنا الشحيمي لأنا حدثنا عنه هذه القصة قبل موته بسنين كثيرة.
رأي القاضي في إطلاق سراح الرجل
قال القاضي: ودفع هذا المحبوس من حاول من أصحابه ركوب الفاحشة - على ما ذكر في هذا الخبر - حسنٌ في الدين، جميلٌ في شريعة المسلمين، وتخلية إسحاق بن إبراهيم سبيله وترك تعقبه بمكروه أو عقوبة صواب، إن كانت القصة جرت على ما حكاه، من عرضٍ لمسلم أو معاهدٍ يريد به مكروهاً، بغير حق في نفسه أو ماله، فحق على المسلمين دفعه عما قصده من ذلك وشرع فيه، وحربه وقتاله إن كانت له قوة وفيه منعة، وإن أبى دفعهم إياه بالطعن والضرب على نفسه إذ كان قصدهم دفعه عن ظلمه، وإعجازه عما يرومه من بغيه وعدوه، ودمه وما ناله من الجراح في نفسه وإتلاف إعضائه هدرٌ لا قصاص فيه ولا دية، ولا إرش ولا حكومة، ولا تبعة ولا عقوبة، ولا غرم ولا كفارة، وهذا هو القول المفهوم في الشريعة والموروث بين أهل الملة، والمستفيض بين أهل القبلة، والمتقبل من مذاهب خاصة علماء الأئمة، وعامة الأمة.
التجمل مع المصائبحدثنا محمد بن الحسن بن دريد، قال: أخبرنا عثمان، عن العتبي، قال: لما توفي عبد الملك بن مروان أسف عليه عمر بن عبد العزيز أسفاً منعه عن العيش وكان ناعماً فاستشعر مسحاً تحت ثيابه سبعين ليلة، فقال له قاسم بن محمد يوماً وهو يفاكهه: أما علمت أن من مضى من سلفنا كانوا يستحبون استقبال المصائب بالتجمل، ومواجهة النعم بالتواضع، فراح عمر من عجية يومه ذلك في ثيابٍ موشاة تقوم عليه بثمانمائة دينار.
مالك بن أسماء يضرب للحجاج مثلاً
حدثنا الحسين بن القاسم الكوكبي، قال: حدثني بن أبي سعيد، قال: حدثني أبو جعفر الضبي، قال: عاصم بن الحدثان، حدثني من شهد الحجاج وهو يعاتب مالك بن اسماء وكان يستعمله على الحيرة وطسوجها، فشكاه أهل الحيرة فبعث إليه فقال: يا عدو الله! استعملتك وشرفتك وأردت أن ألحقك بعلية الرجال فأفسدت نعمتك، وأشمت بأختك ضرائرها، وفضحت نفسك، وأقبلت على الباطل وما لا يحب الله من الشرب وقول الشعرن والانتشار به وأقبلت تغني، وتقول:
حبذا ليلتي بتل بونا ... حيث نسقى شرابنا ونغنى
بشرب الكاس ثمت الكاس حتى ... يحسب الجاهلون أنا جننا
أما لأخرجن جنونك من رأسك، يا حرسي أدخل من بالباب من أهل الحيرة، فدخلت جماعةٌ منهم شيخ من بني بقيلة، فقال لهم، أي أميرٍ أميركم؟ قال الشيخ: خير أميرٍ، غير أن الخمر غليت منذ ولينا، قال: وكيف ذاك، قال الشيخ: أخذ ألف دن في شهر، قال الحجاج: قاتله الله ما أمكره من شيخ! لجاد ما تخلص إلى ما يريد، قال: ومالكٌ ساكتٌ لا يتكلم، فأدخل عليه ملحان بن قيسٍ الراسبي وكان شيخاً كبيراً قد شهد مشاهد الحرورية فبعث إليه من البصرة، فقال له الحجاج: أملحان؟ قال: نعم ملحان، قال: أحمد الله الذي خصني بقتلك وأراق دمك على يدي، قال: فضحك ملحان، وقال: والله ما رأيت رجلاً كاليوم ابعد من كل خير ولا أقرب من كل قبيح، والله يا حجاج لو عرفت أن لك رياً وخفت عذاباً ورجوت ثواباً، ما اجترأت على الله هذه الجرأة، دونك دمي فأرقه، فالحمد لله الذي أكرمني بهوانك، عليك لعنة الله وعلى من ولا، فاستشاط الحجاج وغضب، وقال: اضرب عنقه، فضرب عنقه فتدهده رأسه حتى كاد يصيب مالك بن أسماء، قال: ثم سكن الحجاج قليلاً، ثم قال لمالك: تكلم، أما لك عذر؟ قبل الله عذرك، فقال مالك: أصلح الله الأمير، إن لي ولك مثلاً، قال الحجاج: ما هو قبح الله أمثالكم يا أهل العراق، قال: زعموا أن أسداً وثعلباً وذئباً اصطحبوا فخرجوا يتصيدون، فصادوا حماراً وظبياً وأرنباً، فقال الأسد للذئب: يا أبا جعدة! اقسم بيننا صيدنا، قال: الأمر أبين منذ لك، الحمار لك والأرنب لأبي معاوية، والظبي لي، فخبطه الأسد فأندر رأسه، ثم أقبل على الثعلب، وقال: قاتله الله ما أجهله بالقسمة هات أنت، قال الثعب: يا أبا الحارث! الأمر أوضح من ذلك، الحمار الحمار لغذائك والظبي لعشائك وتخلل بالأرنب فيما بين ذلك، قال الأسد: ما أقضاك! من علمك هذه القضية؟ قال: رأس الذئب النادر بين عيني، ولكن رأس ملحان أبطل حجتي أصلحك الله، قال: أخرجوه عني قبحه الله وقبح أمثاله.
قال عاصم بن الحدثان: ملحان الذي يقول:
وأبيض مخباتٍ إذا الليل جنه ... رعى حذر النار النجوم الطوالعا
إذا استثقل الأقوام نوماً رأيته ... حذاراً عقاب الله لله ضارعا
فطوراً تبكى ساجداً متضرعاً ... وطوراً يناجي الله وسنان راكعا
صحبت فلم أذمم وما ذم صحبتي ... وكان لخلات المكارم جامعا
سخياً شجاعاً يبذل النفس في الوغى ... حياةً إذا لاقى العدو المقارعا
فلاقى المنايا مسلم بن خويلد ... فلم يك إذ لاقى المنية جازعاً
مضى والقنا في نحره متقدماً ... إلى قرنه حتى تكعكع راجعا
وأدبرت الأقران عنهم وخافهم ... وكان قديماً للعدو مماصعا
فمات حميداً مسلم بن خويلد ... لأهل التقى والحزم والحلم فاجعا
ومسلم بن خويلد بن زيان الراسبي، قتل يوم النهروان، وأم مسلم أخت وهب الراسبي أعقب السجاد، عبد الله بن وهب ذي الثفنات وكان يقال له السجاد.
قال: القاضي: حتى تكعكع راجعاً معناه ارتد راجعاً ووقف عن المضي والإستمرار على وتيرته، وقوله: وكان قديماً للعدو مماصعاً: والمماصعة المضاربة والمجالدة، يقال: ماصعه مماصعةً ومصاعاً مثل ضاربه مضاربة وضراباً، وقاتله مقاتلة وقتالا وصارعه مصارعة وصراعاً.
ومن المصاع، قول الأعشى:
إذا هن نازلن أقرانهن ... وكان المصاع بما في الجوق
يصف جواري يلهون ويتلاعبن تضارباً بحليهن، وقال القطامي:
تراهم يغمزون من استركوا ... ويجتبنون من صدق المصاعا
وروي عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام في التذكية. إذا مصعت بذنبها وهو من هذا، وجاء عن بعض أهل التأويل في البرق: " مصع ملكٍ " في مثل هذا المعنى.
وفي المثل الذي ضربه مالك بن أسماء للحجاج تأديبٌ وتنبيه، وقياس زتشبيه، ويعتبر به ذوو اللب، وتتمكن حكمته في القلب.
ومما يضارع هذا المثل مما أتى به الحكماء على ألسن البهائم: ما ذكرمن أن الأسد كان يلازمه ويحضر مجلسه ذئب وثعلب، وأن الأسد وجد علةً فتأخر عنه الثعلب أياماً فتفقده وسأل عنه، فقال: ما فعل الثعلب فأنا لم أره منذ ثلاثة أيام مع ما عرض لي من المرض، فانتهزها الذئب ليغري به الأسد ويفسد حاله عنده، ويحمله على مكروهه، فقال: أيها الملك ما هو إلا أن وقف على علتك حتى استبد بنفسه ومضى فيما يخصه من كسبه ولهوه، وبلغ الثعلب هذا فوافى الأسد فلما دخل عليه، قال: ما أخرك عني مع علتي وحاجتي إلى كونك بالقرب مني، قال: أيها الملك لما وقفت على العلة العارضة لك لم يستقر بي قرار، وجعلت أجول وأجوب الآفاق إلى أن وقفت على ما يشفى الملك من مرضه، فقال: قد علمت أنك لا تفارق نصيحتي ولا تخرج عن طاعتي، فما الذي وقفت عليه مما أشتفي به، قال: تتناول خصى ذئب، فإنه يبرئك حين يستقر في جوفك، قال: أنا عامل على هذا، وخرج الثعلب فجلس في دهليز الأسد، ووافى الذئب فحين وقف بين يديه وثب عليه، فالتهم خصيتيه، فخرج والدم يسيل ويجري على فخذيه، فلما مر بالثعلب، قال له: يا صاحب السروال الأحمر، إذا جالست الملوك فانظر كيف تذكر حاشيتهم عندهم.
وقد روينا في بعض مجالسنا هذه أنه قيل لبعض الحكماء: ممن تعلمت العقل؟ قال: ممن لا عقل له، كنت أرى الجاهل يفعل الشيء فيضره فأجتنبه.
يا فتى! ألست ظريفاً؟
حدثنا محمد بن القاسم الأنباري، قال: حدثني أبي، قال: حدثنا عامر بن عمران أبو عكرمة الضبي، عن سليمان بن أبي شيخ، قال: بينا عبيد الله بن الحسن بن الحسن ابن علي بن أبي طالب عليهما السلام يطوف بالبيت، إذ رأى امرأة تطوف وتنشد:
لا يقبل الله من معشوقةٍ عملاً ... يوماً وعاشقها غضبان مهجور
قال القاضي: وفي غير هذه الرواية يليه بيتٌ آخر وهو:
وكيف يأجرها في قتل عاشقها ... لكن عاشقها من ذاك مأجور
فقال عبد الله للمرأة: يا أمة الله! مثل هذا الكلام في مثل هذا الموقف؟ فقالت: يا فتى ألست ظريفاً؟ قال: بلى، قالت: ألست راويةً للشعر؟ قال: بلى، قالت: ألم تسمع الشاعر يقول:
بيض غرائر ما هممن بريبةٍ ... كظباء مكة صيدهن حرام
يحسبن من لين الحديث زوانيا ... ويكفهن عن الخنا الإسلام
رأي أبي زيد في أصحاب الحديث
حدثنا محمد بن يحيى الصولي، قال: حدثنا القاسم بن إسماعيل التنوخي: سرق أصحاب الحديث نعل أبي زيد سعيد بن أوس، فكان إذا جاء أصحاب الشعر والأخبار رمى ثيابه ولم يتفقدها، وإذا جاء أصحاب الحديث ضمها إليه، وقال: ضم يا ضمام، واحذر لا تنام.
إنهن يكفر العشيرحدثنا أحمد بن جعفر بن موسى البرمكي، قال: حدثني ميمون بن هرون، قال: حدثني عبد الله بن العباس بن الفضل بن الربيع، عن جده الفضل بن الربيع. قال: خرج أمير المؤمنين الرشيد من عند زبيدة - وقد تغذى عندها ونام وشرب - وهو يضحك، فقلت: قد سرني سرور أمير المؤمنين، فقال: ما أضحك إلا تعجباً، أكلت عند هذه المرأة ونمت وشربت فسمعت رنةً، فقلت: ما هذا، قالوا: ثلثمائة ألف دينار وردت من مصر، فقالت: هبها لي يا ابن عم، فدفعتها إليها فما برحت حتى عربدت، وقالت: أي خير رأيت منك؟ قال القاضي: قد روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في النساء: " إنهن يكفرن العشير " ، وفسره بما ذكرت من إحسان الرجل إليها وأنها ترب منزلها، وتكشف وجهها بعد الحجر والخطر، وتقول لزوجها: ما رأيت منك خيراً قط.
المجلس السادس والثلاثون
خير شجرة في الجنةحدثنا أحمد بن محمد بن الحسين الشحيمي، قال: حدثنا عبد الرحمن بن معاوية الضبي إملاءً بمصر، قال: حدثنا أحمد بن محمد بن عمر بن يونس اليمامي، قال: حدثنا الحكم بن أبان عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن في الجنة شجرة يقال لها خيراً، أصلها في منزل رجلٍ من قريش لا أسميه لكم، وفرعها في سائر الجنة، فإذا قال الرجل لأخيه: جزاك الله خيراً، فإنما يعني به تلك الشجرة " .
لحن الراوي في كلمة خيرقال: القاضي: هكذا أما علينا الشحيمي هذا الحديث، ولفظ به كما رويناه، فقال: يقال لها خيراً، ولم يكن ذا علم بطريقة الإعراب، ولعله لحن فيه فغيره عن صوابه، ولحن فيه بعض من تقدمه من رواته الذين لا معرفة لهم بتصاريف الإعراب ووجوهه، والصواب فيه عندي أن يكون اللفظ في الخبر أتى على الصحة وهو يقال لها خير، فلو كان اللفظ خيراء على فعلاء، أو فعلى على خيرى، لكن وجهاً معروف المذهب في العربية، غير أنه كان غير مصروف ولا منون، والمشهور من هذا الخبر التنوين، وأن خيراً فيه من الخيرالذي هو ضد الشر، وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " إذا قال الرجل لأخيه: جزاك الله خيراً فقد أبلغ الثناء " ، والعرب تقول: جزى الله فلاناً خيراً إذا دعت له، وجزاه الله شراً إذا دعت عليه، كما قال الشاعر في المعنى الأول:
ألا رجلاً جزاه الله خيراً ... يدل على محصلةٍ تبيت
وقال أبو معبد:
جزى الله رب الناس خير جزائه ... رفيقن قالا خيمتي أم معبد
وقال الحطيئة في المعنى الثاني:
جزاك الله شراً من عجوزٍ ... ولقاك العقوق من البنينا
وهذا الوجه هو المعروف بين خاصة الناس وعامتهم، وغير ممتنع عندي أن يكون خير اسم الشجرة ويعني بقول القائل: جزاك الله خيراً الخير المعروف، فيجزى تلك الشجرة إذا كانت خيراً من الخيور، ونظير ذلك قولهم: ويلٌ لفلان، وذكر سيبويه أنه قبوح، وقال: غيره نحو ذلك، وجاء عن عددٍ من أهل التأويل أنه وادٍ في جهنم، فتأمل هذا فإنه وجه لطيفٌ حسن.
إنه شيطان الأحلامحدثنا الحسن بن أحمد بن محمد بن سعيد الكلبي، قال: حدثنا محمد بن زكريا الغلابي، قال: حدثني يعقوب بن جعفر بن سليمان، قال: حدثني أبي، عن أبيه، عن أم الحسين بنت جعفر بن حسن بن حسن، عن فاطمة بنت الحسين، عن عمتها زينب بنت علي عليهم السلام، عن أسماء بنت عميس، قالت:
أهدي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم عناقٌ مشوية فبعث إلى فاطمة، وعلي، والحسن والحسين عليهم السلام، فأجلسهم معه ليأكلوا فأول من ضرب بيده إليها الحسن فجذبت فاطمة يده وبكت، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: فداك أبوك! ما شأنك لم تبكين؟ قالت: يا رسول الله رأيت في منامي البارحة كأنه أهدي إليك هذه العناق وكأنك جمعتنا، فأول من ضرب بيده إليها الحسن فأكل فمات، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم، كفوا، ثم قال: يا رؤيا! فأجابه شيءٌ: لبيك يا رسول الله، قال: هل أريت حبيبتي شيئاً؟ قال: لا والذي بعثك بالحق، فقال: يا أضغاث! قال شيءٌ: لبيك يا رسول الله، قال: هل أريت حبيبتي شيئاً قال: لا والذي بعثك بالحق، قال: يا حديث النفس! فأجابه شيءٌ: لبيك يا رسول الله، قال: هل أريت حبيبتي شيئاً؟ قال: لا والذي بعثك بالحق، قال: يا شيطان الأحلام! أجابه شيءٌ: لبيك يا رسول الله، قال: هل أريت حبيبتي شيئاً؟ قال: نعم، أريتها كذا وكذا، قال: ما حملك على ذلك؟ قال: العبث، فقال: لا تعد إليها، ثم تفل عن يساره ثلاثاً، وقال: أعوذ بالله من شر ما رأيت، ثم قال: كلوا بسم الله.
خبران يرويهما الزهري عن نفسهحدثنا الحسن بن القاسم الكوكبي، قال: حدثنا ابن أبي سعيد، قال: حدثني أبو عمرو القعنبي، قال: حدثنا صفوان بن هبيرة التميمي، عن الصدفي، عن الزهري، قال: أتيت عبد الملك بن مروان فاستأذنت عليه فلم يؤذن لي، فدخل الحاجب، فقال: يا أمير المؤمنين إن بالباب رجلاً شابا أحمر، زعم أنه من قريش، قال: صفه فوصفه له، قال: لا أعرفه إلا أن يكون من ولد مسلم بن شهاب، فدخل عليه، فقال: هو من بني مسلم فدخلت، قال: من أنت؟ فانتسبت له وقلت: إن أبي هلك وترك عيالاً صبية، وكان رجلاً متلافاً لم يترك مالاً، فقال: لي عبد الملك: أقرأت القرآن؟ قلت: نعم بإعرابه، قال: وما ينبغي منه من وجوهه وعلله؟ قال: قلت: نعم، قال: إنما فوق ذلك فضل إنما يراد أن يعايا ويلغز به، قلت: نعم، قال: تعلمت الفرائض؟ قلت: نعم، قال: الصلب والجد واختلافهما؟ قلت: أرجو أن أكون قد فعلت، قال: وكم دين أبيك؟ قلت له: كذا وكذا، قال: قد قضى الله دين أبيك، وأمر لي: بجائزة ورزق يجري، وشراء دارٍ قطيعة بالمدينة، وقال: اذهب فاطلب العلم ولا تشاغل عنه بشيءٍ فإني أرى لك عيناً حافظة وقلباً زاكياً، وأئت الأنصار في منازلهم، قال الزهري وكنت أخذت العلم عنهم بالمدينة، فلما خرجت إليهم إذا علم جم فأتبعتهم حتى ذكرت لي امرأة نحو قباء تروي رؤيا فأتيتها، فقلت: أخبريني برؤياك، قال: فقالت: كان لي ولدان واحدٌ حين حبا، والآخر يتبعه، وهلك أبوهما وترك واهناً وداجناً ونخلات، فكان الداجن نشرب لبنها ونأكل تمر النخلات، فإني لبين النائمة واليقظانة - قال: القاضي: هكذا في الخبر والمشهور في العربية اليقظى - ولنا جديٌ فرأيت كأن ابني الأكبر قد جاء إلى شفرةٍ لنا فأخذها، وقال يا أمه! قد أضررت بنا وحبست اللبن عنا، فأخذ الشفرة وقام إلى ولد الداجن فذبحه بتلك الشفرة، ثم نصب قدراً لنا ثم قطعه ووضعه فيها، ثم قام إلى أخيه فذبحه بتلك الشفرة، واستنبهت مذعورة وإذا ابني الأكبر قد جاء، فقال: يا أمه! أين اللبن، فقلت: يشربه ولد هذه الداجن، فقال: ما لنا في هذا من شيءٍ، وقام إلى الشفرة فأخذها ثم أمرها على حلق الداجن ثم نصب القدر، قالت: فلم أكلمه حتى قمت إلى ابني الصغير فاحتضنته فأتيت به بعض بيوت الجيران فخبأته عندهم، ثم أقبلت مغتمة لما رأيت، ثم صعد على بعض تلك النخلات فأنزل رطباً ثم قال:
يا أمه! أدني فكلي، قلت: لا أريد، ثم مضى في بعض حوائجه وترك القدر فإني لمنكبة على بليس عندي إذ ذهب بي النوم فإذا أنا بآتٍ قد أتاني، فقال: مالك مغتمة؟ فقلت: لكذا وكذا، ولأن ابني صنع كذا وكذا، فنادى يا رؤياه يا رؤياه! فجاءت امرأةٌ شابةٌ حسنة الوجه طيبة الريح، فقال: ما أردت من هذه المرأة الصالحة، قالت: ما أردت منها شيئاً، فنادى: يا أضغاث يا أضغاث! فأقبلت امرأةٌ سوداء الخلقة وسخة الثياب دونها، فقال: ما أردت من هذه المرأة؟ قالت: رأيتها صالحة فأردت أن أغمها، قالت: ثم انتبهت فإذا ابني أقبل، فقال: يا أمه! أين أخي؟ قلت: لا أدري حبا إلى بعض الجيران، قالت: فذهب يمشي لهو أهدى إلى موضعه حتى أخذه وجاء به فقبله، ثم قعد فأكل وأكلت معه.
قال القاضي: قوله: في الخبر وترك لي ماهناً وداجناً، الماهن: الخادم، ويقال: مهن الرجل مهنةً ومهنةً، وفلان في مهنة أهله ومهنة أهله، والفتح عند كثير من أهل اللغة أعلى، ويقال: مهن مهانةً من الهوان، ومن المهان بمعنى الخادم، قول الشاعر:
وهزئن مني أن رأين مويهناً ... تبدو عليه شتامة المملوك
وأما الداجن فهي الشاة من شياه البيوت التي تعلف، وجمهور الفقهاء لا ترى في دواجن الشاء زكاة، وهو مذهب عامة أهل العراق وبه نقول، وقد أوجب عددٌ من فقهاء الحجاز الزكاة في دواجن الغنم، كما أوجبها الجميع في سوائمها، واختلافهم في عوامل الإبل والبقر كختلافهم في دواجن الغنم، وكلامنا في هذا على استقصاء الحجج مرسوم فيما ألفناه من كتبنا في الفقه.
وقول المرأة: وإني لمتكئةٍ على بلسٍ لي، البلس: بعض ما يكون في رحل القوم من المتاع الذي يتكأ عليه، وهو اسم أعجمي لا أعرفه في العربية وأراه بالرومية وقد استعمل على تولده قديماً وحديثاً فروي في خبرٍ ذكر أن أبا جفر الجمحي نظر بين الحسن بن زيد ومحمد بن عبد العزيز، فقال: إنه أقامني على البلس يعني الحسن، فكأنه اسم لما يعلى عليه من كراسي أو ما أشبهه ن.
ومما انتهى إلينا من عجائب أخبار الرؤيا ما يتعب جمعه وتصعب الإحاطة به، وإذا عثرنا منه على شيءٍ أتيناه في مستقبل مجالسنا مما تيسر منه، إذ لم نبن كتابنا هذا على استقصاء نوع نوع مما يشتمل عليه، وإنما نأتي منه بأبواب ممتزجة، وأجناس موشحة، والخروج من قصة إلى قصة ن.
سبب حدوث الزلزلةحدثنا محمد بن الحسن بن زياد المقري، قال: أخبرنا علي بن العباس بالكوفة، قال: أخبرنا أبو الأسباط، قال: أخبرنا عبد الرحمن، عن حسين، قال: سمعت أبا عبد الله جعفر بن محمد الصادق عليهما السلام يقول: لما خلق الله تعالى ذكره الحوت الذي على ظهره الأرض استعظم في نفسه واستكبر، وقال: ما خلق الله خلقاً هو أقوى مني فعلم الله ذلك منه، فخلق سمكة أكبر من النملة وأصغر من الجرادة، فدخلت في منخريه فضعف أربعين خريفاً ثم خرجت، ثم إذا أراد الله يوم زلزلةٍ تراءت له تلك السمكة فاضطرب من خوفها فاضطربت الأرض.
قال القاضي: روينا في الزلزلة هذا القول وقد جاء في كثير من الأخبار أنها من حركة الحوت واضطرابه من غير ذكر السمكة المحكي في هذا الخبر ودخولها في أنفه، وهي في الجملة من الآيات التي يخوف الله بها عباده، ويحث بها إلى طاعته، والتفكر في عجائب صنعته، ومجانبة معصيته.
والزلزلة يقل حدوثها في بعض الأرضين ويكثر في بعضها، كما يكثر المطر في بعض البلدان كطبرستان ويقل في بعضها كمصر، ونظير هذا ما يشاهد من الجزر والمد في بعض الأنهار دون بعض وقد جاء عن بعض السلف أنه قال - وقد سئل عن الجزر والمد: إن الله تعالى وكل ملكاً بقاموس البحر فإذا وضع قدمه فيه فاض، وإذا رفعها غاض.
وممن روي ذلك عنه ابن عباس، وأي الوجوه كان معناه فهو من عجيب آيات الله تعالى ذكره وبديع صنعته، وفيه دليل ظاهر على توحيده ولطيف حكمته، وظهور قدرته.
وقد ذكر عن سفيان بن عيينة أنه قال: لولا أن سفيان الثوري أو الفضيل بن عياض - أنا أشك - أخبرني عن الجزر والمد لما صدقت، ورأيت غلاماً لي وأنا مصعد من البصرة جالساً في جانب السفينة ناظراً إلى شاطىء دجلة منذ طلوع الشمس إلى قريبٍ من زوالها ثم أقبل علينا، فقال: لا إله إلا الله، ما أعجب هذا! أنا أراعي دجلة منذ غدوةٍ والماء بحاله لم يزد ولم ينقص، فعجب من فقده الجزر والمد إذ لم يره ن. وأما ما قاله المنجمون وغيرهم من الفلاسفة في هذا فإننا لم نؤثر ذكره في هذا الموضع وهذا معنىً لا يقع العلم به إلا بخبرٍ عن الله تعالى في كتابه أو على لسان رسوله، ولا ضرر على أحدٍ من الخلق في فوت العلم به، ولو كان مما يحتاج الناس إلى معرفته، وكلفوا عمله، انصب الله تعالى جده لهم دليلاً عليه، وجعل لهم سبيلاً هادياً إليه، فالاعتبار به واجب، والإيمان بأنه حكمة الله وصحة تدبيره وحسن تقديره لازم، وإن ثبت فيه ما يحيط العلماء من الخلق بحقيقته عمن يلزم احجة بقوله، وجب التسليم له والدينونة به.
أعرابي ظريف عند أحد العيادحدثنا محمد بن الحسن بن دريد، قال: أخبرنا الرياشي، عن محمد بن سلام، عن ابيه، قال: حدثني شيخ من بني ضبة، قال: رأيت أعرابياً كبير السن كثير المزاح، بيده محجن، وهو يجر رجليه حتى وقف على مسعر بن كدام وهو يصلي، فأطال الصلاة والأعرابي واقف، فلما أعيا قعد، حتى إذا فرغ مسعر من صلاته سلم الأعرابي عليه، وقال له: خذ من الصلاة كفيلاً فتبسن مسعرٌ، وقال: عليك بما يجدي عليك نفعه، يا شيخ كم تعد؟ قال: مائة وبضع عشرة سنة، قال: في بعضها ما كفى واعظاً فاعمل لنفسك، فقال:
أحب اللواتي هن من ورق الصبا ... ومن هن عن أزواجهن طماح
مسرات بغضٍ مظهرات مودةٍ ... تراهن كالمرضى وهن صحاح
فقال مسعر: أف لك، فقال: والله ما بأخيك حركة منذ أربعين سنة، ولكنه بحرٌ يجيش ويرمي بزبده، فضحك مسعر، وقال: إن الشعر كلامٌ حسنه حسن وقبيحه قبيح ن.
جزاء مجالسة الأنذالحدثنا أبو النضر العقيلي، قال: أخبرنا أبو إسحاق طلحة بن عبد الله الطلحي، قال: أخبرنا الزبير بن أبي بكر، قال: كان بشكست النحوي المدني وفد على هشام بن عبد الملك فلما حضر الغداء دعاه هشام، وقال لفتيان من بني أمية: تلاحنوا عليه، فجعل أحدهم يقول: يا أمير المؤمنين! رأيت أبي فلان، ويقول الآخر: مر بي أبا فلان، ونحو هذا، فلما ضجر أدخل يده في صحفةٍ فغمسها ثم طلى لحيته، وقال لنفسه: ذوقي هذا جزاؤك في مجالسة الأنذال.
من أخبار خالد بن يزيد الكاتبحدثنا يزيد بن الحسن البزاز، قال: حدثني خالد الكاتب، قال: دخلت على أبي عباد أبي الرغل بن أبي عباد، وعنده أحمد بن يحيى وابن الأعرابي فرفع مجلسي، فقال له ابن الأعرابي: من هذا الفتى الذي أراك ترفع من قدره؟ قال: أو ما تعرفه؟ قال: اللهم لا، قال: هذا خالد الكاتب الذي يقول الشعر، فقال: أنشدني من قولك شيئاً فأنشدته:
لو كان من بشرٍ لم يفتن البشرا ... ولم يفق في الضياء الشمس والقمرا
نور تجسم منحلٌ ومعقدٌ ... لو أدركته عيون الناس لانكدرا
فصاح ابن الأعرابي، وقال: كفرت يا خالد هذه صفة الخالق ليست صفة المخلوق، فأنشدني ما قلت غير هذا، فأنشدته:
أراك لما لججت في غضبك ... تترك رد السلام في كتبك
حتى اتيت على قولي:
أقول للسقم إلى بدني ... حبا لشفاً يكون من سببك
فصاح ابن الأعرابي، وقال: إنك لفطنٌ وفوق ما وصفت به.
قال القاضي: ابن الأعرابي هذا أولى بصفة الكفر من خالد، لأن خالداً لم يصف من ذكره في شعره إلا بصفة المخلوقين، إذ النور مخلوق متجسمه ومنحله ومنعقده، وهو والظلمة من خلق الله تعالى، وإنما ينكر خلقهما ويدعي أنهما أصلان قديمان الثنوية، وابن الأعرابي إذ جعل هذه الصفة للخالق دون المخلوق جاهل بالدين، ضال عن سبيل المؤمنين.
لا يقبلها أو يعرفهحدثنا أحمد بن جعفر بن موسى البرمكي، قال: قال خالد الكاتب: وقف علي رجلٌ بعد العشاء متلفحٌ برداء عدني أسود ومعه غلام معه صرة، فقال لي: أنت خالد؟ قلت: نعم، قال: أنت الذي يقول:
قد بكى العاذل لي من رحمتي ... فبكائي لبكاء العاذل
قلت: نعم، قال: يا غلام ادفع إليه الذي معك، فقلت: وما هذا، قال: ثلثمائة دينار، قلت: والله لا أقبلها أو أعرفك، قال: أنا إبراهيم بن المهدي.
الحب أعظم مما بالمجانينحدثنا محمد بن القاسم الأنباي، قال: حدثني محمد بن المرزبان، قال: حدثنا زكريا بن موسى، قال: حدثنا شعيب بن السكن، عن يونس النحوي، قال: لما اختلط عقل قيس المجنون وامتنع عن الطعام والشراب مضت أمه إلى ليلى، فقالت لها: يا هذه قد لحق ابني بسببك ما قد علمت، فلو صرت معي إليه رجوت أن يثوب لبه ويرجع عقله، إذا عاينك، فقالت: أما نهاراً فلا أقدر على ذلك، لأني لا آمن الحي على نفسي، ولكن أمضي معك ليلا، فلما كان الليل، صارت إليه، فقالت: له: يا قيس إن أمك تزعم أن عقلك ذهب بسببي، وأن الذي لحقك أنا أصله، ففتح عينيه فنظر إليها، وأنشأ يقول:
قالت جننت على ذكري فقلت لها ... الحب أعظم مما بالمجانين
الحب ليس يفيق الدهر صاحبه ... وإنما يصرع المجنون في الحين
كان يظنه هجاءً
حدثنا محمد بن أحمد بن إبراهيم الحكيمي، قال: حدثنا أبو إبراهيم الزهري، قال: حدثنا إبراهيم بن المنذر الخرامي، قال: حدثني معن بن عيسى، قال: دخل ابن سرجون السلمي على مالك بن أنس وأنا عنده، فقال له: يا أبا عبد الله! إني قد قلت أبياتاً من شعرٍ وذكرتك فيها، فاجعلني في حل، قال: أنت في حل، قال: أحب أن تسمعها، قال: لا حاجة لي بذلك، فقال: بلى، قال: هات، فقال: قلت:
سلوا مالك المفتي عن اللهو والغنا ... وحب الحسان المعجبات الفوارك
ينبئكم أني مصيب وإنما ... أسلي هموم النفس عني بذلك
فهل في محب يكتم الحب والهوى ... أثامٌ وهل في ضمة المتهالك
فضحك مالك وسري عنه، وقال: لا إن شاء الله، وكان ظن أنه هجاه.
بيتان لأبي العتاهية من أحسن الشعرحدثنا الحسن بن إسماعيل المحاملي، قال: حدثنا عبد الله بن أبي سعيد، قال: حدثني محمد بن علي ابن حمزة الهاشمي، قال: حدثني علي بن إبراهيم، قال: أخبرني موسى بن عبد الملك، قال: جاء أبو العتاهية يريد الدخول على أحمد بن يوسف فمنعه الحاجب فكتب إليه:
ألم تر أن الفقر يرجى له الغنى ... وأن الغنى يخشى عليه من الفقر
قال: فقلت له: لا تتعرض له وأسكته عنك، فوجه إليه بخمسة آلاف درهم، قال علي بن إبراهيم: فأعلمت ذلك علي بن جبلة، فقال: بئسما صنع كان ينبغي أن يقول له:
أحمد، إن الفقر يرجى له الغنى
فيشيد باسمه، قال: القاضي قد روينا هذا الخبر عن أبي العتاهية من غير هذا الطريق، وبعد بيته الذي فيه بيت آخر وهو:
ألم تر أن البحر ينضب ماؤه ... وتأتي على حيتانه نوب الدهر
من لحن العامةفي ينضب لغتان، ضم عين الفعل وكسرها وماضيه نضب بالفتح، وإنما ذكرت هذه لأنني أسمع العامة يقولون فيه: ينضب بالفتح وربما قالوا: نضب بكسر الضاد في الماضي، وهذان البيتان لأبي العتاهية من أحسن الشعر وأوضحه، على أنه قد سبقه إلى بيته الأول القائل:
فما يدري الفقير متى غناه ... وماد يدري الغني متى يعيل
وفيه حكمة وعبرة، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن من الشعر لحكمة " .
عذريٌ ورب الكعبة
حدثنا جعفر بن محمد بن نصير لخواص، قال: حدثنا أبو العباس ابن مسروق، قال: حدثنا عبد الله بن شبيب، قال: حدثنا محمد بن عبد الصمد البكري، أخبرنا ابن عيينة، قال: قال سعيد بن عقبة الهمداني لأعرابي: ممن أنت، فقال: من قوم إذا عشقوا ماتوا، قال: عذريٌ ورب الكعبة، فقلت: ومم ذاك، قال: في نسائنا صباحة، وفي فتياننا عفة.
أتلف ثلاثين ألف ألف درهمحدثنا يزداد بن عبد الرحمن بن يزداد، قال: حدثنا موسى بن إسماعيل البصري، قال: وحدثني ابن أبي زهير العبسي، عن عيسى بن أبي شيبة الأصغر، قال:
دخل عبيد الله بن أبي بكرة على الحجاج وفي إصبعه خاتم، فقال له: يا عبيد الله! على كم ختمت بخاتمك هذا؟ قال: على ثلاثين ألف ألف، قال: ففيم أتلفتها، قال: في تزوج العقائل والمكافأة بالصنائع، وأكل الحار وشرب القار، قال: أراك ضليعاً، قال: ذاك أصلحك الله لأني لا آكل إلا على نقاء، ولا أجامع إلا على شهوة، فإذا كان الليل رويت قدمي زنبقاً، ورأسي بنفسجة يصعد هذا ويحدر هذا فالتقيا في المعدة فعقد الشحم.
قال القاضي: العقائل جمع عقيلة، والعقيلة: درة البحر، وبها سميت المرأة لكرامتها، قال ابن قيس الرقيات:
تذهل الشيخ عن بنيه وتبدي ... عن خدام العقيلة العذراء
يحتاج صاحب السلطان إلى ثلاثحدثنا محمد بن سهل بن الفضل الكاتب، قال: حدثنا أبو زيد، قال: حدثني شيخ محدث عن عمه، قال: خرجت من عند يعقوب بن داود فلما استويت على دابتي قام إلي دهقان مجوسي وسأل أن أستأذن له يعقوب، فقلت: إنك لو كنت سألتني وأنا أدخل كان أحسن، فأما وأنا أخرج فلا، قال: فخطب علي خطبةً بالفارسية واضطرني إلى أن دخلت على يعقوب فاستأذنت له، فقال: أعرفه، ثم أرسل من أدخله، فقال له الدهقان: إنك تعلم أن من أمثالنا أن صاحب السلطان ينبغي أن يكون معه خلالٌ ثلاث: الصبر والعقل والمال، فأما ما لا ينفذ منها فمعي. الصبر والعقل، وأما ما تنفده الأيام فقد فني وهو المال، فإما أن تمدني بمالٍ فأقيم، وإما أن تقضي حاجتي، قال: فقضى حاجته وأعطاه.
المجلس السابع والثلاثون
من هدي النبوةحدثنا أبو عبد الله الواسطي أحمد بن عمرو بن عثمان، قال: حدثنا يعقوب بن إسحاق الفلوسي أبو يوسف، قال: حدثنا محمد بن عرعره، قال: حدثنا سكين بن أبي سراج أبو عمرو الكلبي، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر، قال: نادى رجلٌ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله: أي الناس أحب إلى الله، قال: أنفعهم للناس، قال: فأي الأعمال أحب إلى الله، قال: سرور تدخله على مسلم تكشف عنه كربةً أو تقضي عنه ديناً أو تطرد عنه جوعاً، ولأن أمشي لأخ لي مسلم في حاجة أحب إلي من أن أعتكف في هذا المسجد شهراً يعني مسجد المدينة، ومن كف غضبه ستر الله عورته ومن كظم غيظه ولو شاء أن يمضينه لأمضاه ملأ الله قلبه يوم القيامة رضى، ومن مشى مع أخ له مسلم في حاجة حتى يثبتها له ثبت الله قدمه يوم تزل الأقدام، وسوء الخلق يفسد العمل كما يفسد الخل العسل.
رواية أخرى للحديثحدثنا محمد بن القاسم من زكريا المحاربي، قال: حدثنا إسماعيل ابن إسحاق الراشدي، قال: حدثنا داهر بن نوح، قال: حدثنا أبو زيد الأنصاري، قال: حدثني عبد الصمد بن سليمان، عن سكين بن أبي سراج، قال: حدثنا عبد الله بن دينار، عن ميمون بن مهران، عن ابن عباس: أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله! أي الأعمال أحب إليك؟ قال: أنفعهم للناس وإن من أحب الأعمال إلى الله تعالى، سروراً تدخله على مسلم، أو تكشف عنه كربة أو تسد عنه جوعاً، ولأن أمشي مع أخ لي في حاجة أحب إلي من أن أعتكف شهرين في المسجد، ومن كف غضبه ستر الله عورته، ومن كظم غيظه ولو شاء أن يمضيه لأمضاه ملأ الله قلبه يوم القيامة رضاً، ومن مشى مع أخ له في حاجة حتى يثبتها ثبت الله قدمه يوم تزل الأقدام، وسوء الخلق يفسد العمل كما يفسد الخل العسل.
تعقيب للمؤلفقال القاضي: وقد روينا في هذه الجملة ونحوها أخباراً كرهنا الإطالة باستيعابها، واكتفينا بما أثبتناه في هذا الموضع منها، وفيها من إعلام النبي صلى الله عليه وسلم بما ذكره فيها من مكارم الأفعال، ومحاسن الأعمال، وحضه عليها، ووصفه ما أنبأ عنه من الفضل مما يدعو كل ذي بصيرة إلى الانقطاع إليه، والمواظبة عليه، وقوة الرغبة فيه، والمنافسة في وفور الحظ منه، وهو مؤكدٌ لما استقر في نفوس ذوي الفطن السليمة حسنه وشرفه، واستحقاق الأخذ به من الإجلال والتعظيم، والتشريف والتقديم، مع عظيم ما يرجى لمن تخلق به من أهل الإيمان بالله ورسوله، من جزيل الثواب، والفوز في المنقلب والإياب، والأمن من سوء الحساب، وأليم العذاب.
يتصدق بقصب بيتهحدثنا يحيى بن محمد بن صاعد، قال: أخبرنا الحسين بن الحسن المروزي، قال: سمعت الهيثم بن جميل، يقول:
كان الحسن بن صالح بن حي يتصدق، حتى إذا لم يبق في يده شيءٌ وجاء سائلٌ نزع خصاً كان يكون أمام بيته فأعطاه السائل، حتى إذا وجد شيئاً اشترى قصباً وبناه، قال: وكانوا إذا رأوا بابه بغير خص علموا أنه لم يبق عنده شيء.
خبر صخر بن شريد السلميحدثنا محمد بن الحسين بن دريد، قال: أخبرنا أبو حاتم، ثم حدثنا الأصمعي قال: التقى صخر بن عمرو بن الشريد السلمي ورجل من بني أسد، فطعن لأسدي صخراً فقيل لصخر كيف طعنك، قال: كان رمحه أطول من رمحي بأنبوب، فضمن صخرٌ منها فطال مرضه، وكانت أمه إذا سئلت عنه، قالت: نحن بخيرٍ ما رأينا سواده بيننا، وكان امرأته إذا سئلت عنه، قالت: لا حي فيرجى ولا ميت فينعى، فقال صخر:
أرى أم صخرٍ لا تمل عيادتي ... وملت سليمى مضجعي ومكاني
إذا ما امرؤٌ ساوى بأم حليلةً ... فلا عاش إلا في شقاً وهوان
لعمري لقد أيقظت من كان نائماً ... وأسمعت من كانت له أذنان
بصيراً بوجه الحزم لو أستطيعه ... وقد حيل بين العير والنزوان
شرح معنى الضمان والسوادقال: القاضي قوله فضمن معناه سقم وبلي جسمه، يقول: بفلان ضمانٌ مثل سقامٌ وضمانةٌ مثل زمانة، قال ابن الدمينة:
أميم بقلبي من هواك ضمانةٌ ... وأنت لها لو تعلمين طبيب
ويروي زمانة، وحكى: بفلان زمنٌ وزمانةٌ وزمنةٌ، وضمنٌ وضمنةٌ وضمانةٌ وضمان، وقول: أم صخر ما رأينا سواده يعني شخصه، قال الأسود بن يعفر:
إن المنية والحتوف كلاهما ... فوق المخارم يرمقان سوادي
معاني العيروالعير ها هنا الحمار، وهو اسمٌ يقع على أشياء ذوات عددٍ. منها اسم جبل، ويقال: للملك عير، وللعود الممتد متوسطاً لورق الشجر والنبات، وللناتىء في الكف، وللناتىء في ظهر القدم، ولما في سواد العين، كما قال الشاعر:
ويمشي القبصى قبل عيرٍ وما جرى ... ولم تدر ما شأني ولم أدر ما لها
القبصى مشيةٌ فيها توثب، ومن كلام العرب: افعل هذا قبل عيرٍ وما جرى، ويقال: للوتد عير، وقد قال أولو المعرفة من رواة الشعر في قول الحارث بن حلزة:
زعموا أن كل من ضرب العي ... ر موالٍ لنا وأنا الولاء
أقوالا وحمل كل منهم تأويله على وجه من الوجوه التي ذكرناها، ولذكر ذلك موضعٌ غير هذا، وأما النزوان فهو التوثب والتحرك صعداً، وذكر أهل العلم بالعربية أنها حركة فيها تصعد وارتفاع، ذكر نحو ذلك سيبويه، ومثل هذا الجولان والخفقان والبردان والرجفان والعسلان والسيلان مما يكثر تعداده.
شعرٌ على حائط
حدثنا الحسين بن محمد بن عفير الأنصاري، قال: قال لي أبو علي صديقنا حدثني بعض أهل المعرفة، أنه بينا هو في بعض بلاد الشام نزل في دار من دورها فوجد على بعض الحيطان كتوباً:
دعوا مقلتي تبكي لفقد حبيبها ... ليطفىء برد الدمع حر كروبها
ففي حل خيط الدمع للقلب راحةٌ ... فطوبى لنفس متعت بحبيبها
بمن لو رأته القاطعات أكفها ... لما رضيت إلا بقطع قلوبها
قال: فسأل عنه فأخبر أن بعض العمال ترك هذه الدار وقد أصاب ثلاثين ألف دينار، فعلق غلاماً فأنفق ذلك المال كله عليه، قال: فبينا أنا جالسٌ ومر بنا ذلك الغلام، قال: قال: فما رأيت غلاماً أحسن منه حسناً وجمالاً.
معنى إذا سرقت فاسرق درةحدثنا الليث بن محمد بن الليث أبو نصر المروزي، قال: سمعت أبا نصر محمد بن يحيى بن طاهر الخزاعي المروزي، يقول: سمعت عبد الله بن منصور بن طلحة، يقول: سمعت عمي عبد الله بن طاهر، يقول: سألني المأمون أمير المؤمنين، فقال: يا أبا العباس! ما معنى إذا سرقت فاسرق درة، وإذا زنيت فازن بحرة، فقلت: أويخبرني أمير المؤمنين، قال: ليس هذا حثاً على الزنا، ولا على السرقة، ولكن إذا رمت الزنا من الحرة تعذر عليك، وإذا رمت السرقة للدرة تعذر عليك لأنها مصونة فلا تقدر عليها.
بعض أخبار ذي الرمة وأخوته ومحبوبتهحدثنا إبراهيم بن محمد بن عرفة الأزدي، ومحمد بن القاسم الأنباري، قال: أخبرنا أحمد بن يحيى، عن أبي زيد، قال: حدثنا إسحاق بن ابراهيم، قال: حدثني أبو صالح الفزاري، قال:
ذكر ذو الرمة في مجلس فيه عدة من الأعراب، فقال: عصمة بن مالك شيخ منهم قد أتى له مائة سنة، فقال، كان من أظرف الناس، وقال: كان آدم خفيف العارضين حسن المضحك حلو المنطق، وكان إذا أنشد بربر وحسن صوته، وإذا واجهك لم تسأم حديثه وكلامه، وكان له إخوة يقولون الشعر منهم مسعود، وهمام، وخرواش، وكانوا يقولون القصيدة فيزيد فيها الأأبيات فيغلب عليها فتذهب له، فأتى يوماً فقال لي: يا عصمة! إن مية منقرية وبنو منقر أخبث حي وأبصره بأثر وأعلمه بطريق، فهل عندك من ناقة تزدار عليها مية؟ فقلت: نعم، عندي الجؤذر، قال: علي بها فركبناها جميعاً حتى نشرف على بيوت الحي، فإذا هم خلوف وإذا بيت مية خالٍ، فملنا إليه فتقوص النساء نحونا ونحو بيت مي، فطلعت علينا فإذا هي جارية أملودٌ واردة الشعر، وإذا عليها سب أصفر وقميص أخضر، فقلن أنشدن يا ذا الرمة، فقال: أنشدهن يا عصمة، فنظرت إليهن فأنشدتهن:
وقفت على رسم لمية ناقتي ... فما زلت أبكي عنده وأخاطبه
وأسقيه حتى كاد مما أبثه ... تكلمني أحجاره وملاعبه
حتى بلغت إلى قوله:
هوى آلفٍ جاء الفراق ولم تجل ... جوائلها أسراره ومعاتبه
فقالت ظريفة ممن حضر: فلتجل الآن، فنظرت إليها حتى أتيت على القصيدة إلى قوله:
إذا سرحت من حب مي سوارحٌ ... على القلب أبته جميعاً عوازبه
فقالت الظريفة منهن: قتلته قتلك الله، فقالت مي: ما أصحه وهنيئاً له، فتنفس ذو الرمة نفساً كاد من حره يطير شعر وجهه، ومضيت في الشعر حتى أتيت على قوله:
وقد حلفت بالله مية مالذي ... أقول لها إلا الذي أنا كاذبه
إذاً فرماني الله من حيث لا أرى ... ولا زال في داري عدو أحاربه
فقالت الظريفة: قتلته قتلك الله، فقالت مي: خف عواقب الله يا غيلان، ثم أتيت على الشعر حتى انتهيت إلى قوله:
إذا راجعتك القول مية أو بدا ... لك الوجه منها أو نصا الدرع سالبه
فيا لك من جد أسيلٍ ومنطق ... رخيم ومن خلقٍ تعلل جادبه
فقالت: تلك الظريفة: ها هذه وهذا القول قد راجعتك، تريد واجهتها فمن لك أن ينضو الدرع سالبه، فالتفتت إليها مية، فقالت: قاتلك الله ما أعظم ما تجيئين به، فتحدثنا ساعة ثم قالت الظريفة للنساء: إن لهما شأن فقمن بنا، فقمن وقمت معن فجلست بحيث أراهما، فجعلت مية تقول له: كذبت، فلبثت طويلاً ثم أتاني ومعه قارورةٌ فيها دهن، قال: هذا دهن طيبٍ أتحفتنا به مية، وهذه قلادة للجؤذر، والله لا أخرجتها من يدي أبداً، فكان يختلف إليها حتى إذا انقصى الربيع ودعا الناس الصيف أتاني، فقال: يا عصمة! قد رحلت مي فلم يبق إلا الربع والآثار، فاذهب بنا ننظر إلى آثارهم، فخرجنا حتى انتهينا فوقف، وقال:
ألا يا اسلمي يا دار ميٍ على البلى ... ولا زال منهلاً بجر عائك القطر
وإن لم تكوني غير شامٍ بقفرةٍ ... تجر بها الأذيال صيفيةٌ كدر
فقلت له: ما بالك، فقال لي: يا عصمة إني لجلد، وإن كان مني ما ترى فكان آخر العهد به.
والخبر على لفظ أبي عبد الله. قال: وحدثت عن ابن أبي عدي، قال: سمعت ذا الرمة يقول: بلغت نصف عمر الهرم أربعين سنة، وقال ذو الرمة:
على حين راهقت الثلاثين وارعوت ... لداتي وكان الحلم بالجهل يرجح
إذا خطرت من ذككر مية خطرةٌ ... على القلب كادت في فؤادك تجرح
تصرف أهواء القلوب ولا أرى ... نصيبك من قلبي لغيرك يمنح
وبعض الهوى بالهجر يمحى فيمحى ... وحبك عندي يستجد ويربح
ولما شكوت الحب كيما تثيبني ... بوجدي قالت إنما أنت تمزح
بعاداً وإدلالاً علي وقد رأت ... ضمير الهوى قد كاد بالجسم يبرح
لئن كانت الدنيا علي كما أرى ... تباريح من ذكراك للموت أروح
ويروى تباريح من مي فللموت أروح قال القاضي: وهذه القصيدة من قصائد ذي الرمة الطوال المشهورة المستحسنة وأولها:
أمنزلتي مي سلامٌ عليكما ... على النأي والنائي يود وينصح
ومنها ذكرتك إذ مرت بنا أم شادنٍ ... أمام المطايا تشرئب وتسنح
من المؤلفات الرمل أدماء حرةٌ ... شعاع الضحى في متنها يتوضح
رأتنا كأنا عامدون لصيدها ... ضحى فهي تدنو تارةً وتزحزح
هي الشبه أعطافاً وجيداً ومقلةً ... ومية أبهى بعد منها وأملح
وهذه من أحسن الحائيات التي أتت على هذا الروي، ونظيرها كلمة ابن مقبل التي أولها:
هل القلب عن أسماء سالٍ فمسمح ... وزاجره عنها الخيال المبرح
وقول جرير:
صحا القلب عن سلمى وقد برحت به ... وما كان يلقى من تماضر أبرح
وذكر في خبر ذي الرمة بهذا الإسناد إخوة ذي الرمة فقيل فيه: مسعود، وهمام، وخرقاش، فأما مسعود فمن مشهوري إخوته، وإياه عني ذو الرمة، بقوله:
أقول لمسعودٍ بجرعاء مالكٍ ... وقد هم دمعي أن تسح أوائله
ومنهم هشام وهو الذي استشهد سيبويه من الإضمار في ليس بقوله.
فقال: قال هشام بن عقبة أخو ذي الرمة:
هي الشفاء لدائي لو ظفرت بها ... وليس منها شفاء الداء مبذول
ومنهم أوفى وهو الذي عناه بعض أخوته في شعرٍ رثا فيه ذا الرمة أخاهما:
تعزيت من أوفى بغيلان بعده ... عزاءً وجفن العين ملآن مترع
ولم تنسني أوفى المصيبات بعده ... ولكن نكء القرح بالقرح أوجع
وذكره ذو الرمة، فقال:
أقول لأوفى حين أبصر باللوى ... صحيفة وجهي قد تغير حالها
وقوله: فإذا هم خلوف، يقال: لمن تخلف بالحي إذا ظعنوا وانتجعوا: خلوف، قال الشاعر:
فيا لذات يومٍ أزور وحدي ... ديار الموعدي وهم خلوف
يروي فيالذات يوم ويومٍ، أزور، فمن عنى بقوله فيالذات بالإضافة إلى الياء التي هي ضمير المتكلم وأسقطها اكتفاءً بكسرة التاء التي هي في موضع نصب لإقامة وزن الشعر، فيوم منصوب لا غير على الظرف، ومن أضاف قوله فيالذات إلى اليوم جاز له النصب لإضافته إلى الفعل وهي التي يسميها كوفيو النحاة إضافة غير محصنة، وجاز الجر واختير لاضافته إلى فعل معرب غير مبني.
وقد يقال أيضاً للحي الظاعن: خلوف.
وقول الراوي في هذا الخبر: مي في مواضع فيه، ومية في مواضع أخر، فقد ذكر النحويون أن ذا الرمة كان يسميها تارةً مية وتارةً مي، وهذا بين في كثير من شعره، من ذلك قوله:
ديار مية إذ مي تساعفنا ... ولا يرى مثلها عجمٌ ولا عرب
وروى قوله:
فيما مي ما يدريك أين مناخنا ... معرقة الألحى يمانية شجرا
بالرفع والنصب فمن رواه بالنصب فوجهه أنه رخم على قول من قال: يا حار أقبل وهو أقيس وجهي الترخيم، ومن رواه بالرفع فعلى أن مي اسمٌ تامٌ غير مرخم، لأنه منادى مفرد وقد يجوز ترخيمه على قول من قال: يا حار.
ومما يبين أنه كان يقصد تسميتها بمي على غير الترخيم، قوله:
تداويت من مي بتكليم ساعةٍ ... فما زاد إلا ضعف ما بي كلامها
وقوله: جاريه أملود، معناه: ناعمة كما قال الشاعر:
أريت أن جاءت به أملودا ... مرجلاً ويلبس البرودا
وأما قوله وإذا عليها سبٌ أصفر، فإنه يكون الرداء والخمار، قال الشاعر:
وأشهد من عوف حلولا كثيرةً ... يحجون سب الزبرقان المزعفرا
والسب: الخيط، والسب أيضاً الكفؤ في السباب كما قال الشاعر:
لا تسببني فلست بسبي ... إن سبي من الرجال الكريم
وقال الأخطل:
بني أسد لستم بسبي فأقصروا ... ولكنما سبي سليمٌ وعامر
قوله: أونضا الدرع سالبه، معنى نضاه: خلعه، يقال: نضا السيف من غمده وانتضاه ونضا الثوب عنه إذا خلعه، قال: امرؤ القيس:
فقمت وقد نضت لنوم ثيابها ... لدى الستر إلا لبسة المتفضل
وقوله ومنطق رخيم، الرخيم الذي فيه تقطع يستحسن ومثله قوله أيضاً:
لها بشرٌ مثل الحرير ومنطقٌ ... رخيم الحواشي لا هراءٌ ولا نزر
ومن هذا قولهم: رخمت الدجاجة إذا قطعت بيضها، ومنه ترخيم الكلام في العربية كقولك: يا حار ويا مال، وقوله تعلل جادبه، الجادب: العائب، ومنه الخبر " جدب عمر السمر بعد العشاء " أي عاب السمر وكرهه بعد العشاء.
وقوله إلا يا اسلمي، معناه: يا هذه اسلمى، وعلى هذا المذهب قراءة من قرأ " ألا يا اسجدوا " ومن هذا النحو قول الأخطل:
ألا يا اسلمي يا هند هند بني بدرٍ ... وإن كان حيانا عدىً آخر الدهر
وقال الآخر:
يا لعنة الله والأقوام كلهم ... والصالحين على سمعان من جار
وهذا باب واسع جداً ونحن نشبع القول فيه إذا انتهينا إلى البيان عن قول الله عز وجل: " ألا يا اسجدوا لله " وشرح ما فيه من التأويل والقراآت في موضعه في كتبنا في علل التأويل والتلاوة إن شاء الله.
وقول ذي الرمة: على حين راهقت الثلاثين بنصب حين، هكذا رويناه، وهو الوجه المتفق على صحته في الإعراب، والمختار عند كثير من نظار النحاة الفتح لاضافته إلى مبنيٍ غير معرب، وذلك " راهقت " الذي هو فعل ماض كما قال الشاعر:
على حين عاتبت المشيب على الصبا ... وقلت ألما تصح والشيب وازع
وعلى هذا الوجه قراءة من قرأ من القرأة " ومن خزي يومئذ " ومن قرأ: يومئذٍ " ومن عذاب يومئذ " ، وهذا كله مشروح مع تسمية من قرأ به، وحجج المختلفين فيه في كتبنا المؤلفة في حروف القرآن وتأويله.
الصغرى أظرفهنحدثنا الحسين بن القاسم الكوكبي، قال: حدثنا أحمد بن زهير بن حرب بن أبي خيثمة، قال: أخبرنا الزبير بن بكار، قال: حدثني مصعب عمي، قال: ذكر لي رجلٌ من أهل المدينة، أن رجلاً خرج حاجا فنزل تحت سرحةٍ في بعض الطريق من مكة إلى المدينة، فنظر إلى كتاب معلقٍ على السرحة مكتوب فيه: بسم الله الرحمن الرحيم: أيها الحاج القاصد بيت الله، إن ثلاث أخواتٍ خلون يوماً فبحن بأهوائهن وذكرن أشجانهن، فقالت الكبرى:
عجبت له إذ زار في النوم مضجعي ... ولو زارني مستيقظاً كان أعجبا
وقالت الوسطى:
وما زارني في النوم إلا خياله ... فقلت له أهلاً وسهلاً ومرحبا
وقالت الصغرى:
بنفسي وأهلي من أرى كل ليلةٍ ... ضجيعي ورياه من المسك أطيبا
وفي أسفل الكتاب مكتوب: رحم الله امرأً نظر في كتابنا هذا فقضى بالحق بيننا، ولم يجر في القضية، قال: فأخذ الكتاب فكتب في أسفله:
أحدث عن حورٍ تحدثن مرةً ... حديث امرىءٍ ساس الأمور وجربا
ثلاثٌ كبكرات الهجان عقائل ... نواعم يغلبن اللبيب المهذبا
خلون وقد غابت عيونٌ كثيرةٌ ... من اللائي قد يهوين أن يتغيبا
فبحن بما يخفين من لاعج الهوى ... معاً واتخذن الشعر ملهىً وملعبا
عجبت له أن زار في النوم مضجعي ... ولو زارني مستيقظاً كان أعجبا
فلما أخبرت ما أخبرت وتضاحكت ... تنفست الأخرى، وقالت تطربا
وما زارني في النوم إلا خياله ... فقلت له أهلاً وسهلاً ومرحبا
وشوقت الأخرى وقالت مجيبة ... لهن بقولٍ كان أشهى وأعجبا
بنفسي وأهلي من أرى كل ليلةٍ ... ضجيعي ورياه من المسك أطيبا
فلما تبينت الذي قلن وانبرى ... لي الحكم لم أترك لذي القول معتبا
قضيت لصغراهن بالظرف إنني ... رأيت الذي قالت إلى القلب أعجبا
قال القاضي: السرحة الشجرة، قال عنترة يصف رجلاً بعظم الجثة وكمال الخلقة وبهاء الصورة:
بطلٌ كأن ثيابه في سرحةٍ ... تحذى نعال السبت ليس بتوأم
وقال بعض الأعراب:
يا سرحة الدوح أين الحي واكبدا ... روحي تذوب وبيت الله من حسر
وقال حميد بن ثور الهلالي:
أبى الله إلا أن سرحة مالكٍ ... إلى القلب من بين العضاه تروق
الدوح: جمع دوحة، وهو ما عظم من الشجر.
المجلس الثامن والثلاثونإذا أحب الله عبداً منحه القبول
حدثنا الحسين بن محمد بن إشكاب، قال: حدثنا إبراهيم بن محشر، قال: حدثنا عبيدة بن حميد، عن سهل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة، قال:
قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن الله تعالى إذا أحب عبداً دعا جبريل صلى الله عليه، فقال: إني أحببت فلاناً فأحبه، قال: فيحبه جبريل، قال: وينادي جبريل في السماء: إن الله تعالى قد أحب فلاناً فأحبوه، قال: فيحبه أهل السماء، قال: ويوضع له القبول في الأرض، قال: ولا أدري لعله قال في البغض مثل ذلك.
شرح الحديثقال القاضي إن الله جل جلاله يحب من عباده من أطاعه، ويضع القبول لمن قبل وصاياه وعمل بما يعود بمرضاته، فنسأل الله تعالى توفيقنا لطاعته الموجبة لمحبته، وعصمتنا من معصيته المؤدية إلى سخطه، فطوبى لمن أطاع ربه فأحبه، وويل لمن عصاه وأغضبه، وقد قال الله تعالى ذكره: " قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم " وقال جل اسمه: " وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه قل فلم يعذبكم " ، ومن أحبه ربه أكرمه ولم يهنه، ونعمه ولم يعذبه، ولقد أحسن لقائل:
تعضي الإله وأنت تظهر حبه ... هذا مجالٌ في القياس شنيع
لو كان حبك صادقاً لأطعته ... إن المحب لمن أحب مطيع
ضبط بعض المصادر التي أتت على فعولقوله في هذا الخبر: ويوضع له القبول في الأرض، والقبول والوقود والولوع والوضوء والطهور مصادر جاءت على فعول، والظاهر الفاشي في المصادر الفعول، وأكثر ما يأتي في اللازم من الفعل غير المتعدي، كالقعود والجلوس وما أشبههما، ويطرد الفرق بين الاسم بالفتح والمصدر بالضم، وذلك كالسحور والفطور والصعود والصعود والهبوط والهبوط وما أشبه هذا، وقد اختلف في الوقود والوضوء ومجاريهما، وفي قراءة قوله: " وقودها الناس والحجارة " ووقود النار، وبيان هذا مرسوم في أولى المواضع به، ومن الولوع قول عمر بن عبد الله بن أبي ربيعة:
إن همي قد نفى النوم عني ... وحديث النفس شيءٌ ولوع
في قوله: ولوع وجهان: يكون مصدراً مبدلاً من شيء، ويكون صفةً لشيءٍ مثل رجل ضروب، وحكى الفراء عن الكسائي أنه روى: وجب البيع وجوبا، وذكر الفراء أنه لم يسمع في هذا إلا الضم، فأما جمهور أهل العلم فلم يعرفوا في هذا الباب الفتح إلا في الأحرف الخمسة التي قدمنا ذكرها على ما في بعضها من الإختلاف في تفصيله وتصريفه، وإذا ضم إلى هذا ما حكيناه عن الكسائي فهو حرفٌ سادس، وقد وجدنا حرفاً سابعاً في هذا محكيا، وهو غريب نادر وذلك الجور.
حدثنا محمد بن محمود الأزهري، عن أبي العباس ثعلب، عن ابن : وجرت الصبي آجره وجوراً ووجوراً.
بيتان في المحبة والتفضيل بينهماحدثنا محمد بن الحسن بن دريد، قال: أخبرنا عبد الرحمن، عن عمه، قال: سمعت جعفر بن سليمان، يقول: ما سمعت بأشعر من القائل:
إذا رمت منها سلوةً قال شافعٌ ... من الحب ميعاد السلو المقابر
فقلت: اشعر منه الأحوص حيث يقول:
سيبقى لها في مضمر القلب والحشا ... سريرة ود يوم تبلى السرائر
قال القاضي: بيت الأحوص أوفى معنىً وتقصير البيت المقدم عنه في المعنى الذي قصده الشاعران، أجلى وأظهر من أن يخفى من وجوه شتى منها: أن الأول، قال: إذا رمت عنها سلوةً، والآخر أومأ إلى اتصال وده وامتناع انقطاعه وتصرمه، وقال الأول: إن الذي يثنيه عن السلوة شافع يصرفه عنها بعد رومه إياها، وجعل الأول وقت السلو حيت تجنه وأهلها القبور، وصيره ميعاداً ينتظره من رام السلوه، فهذا نقد متيسر ظاهر لمتأمله، وإن لم يقل في جهبذة هذا الشأن وطبقته.
بيت لأبي طالب في مدح الرسولحدثنا محمد بن أحمد بن الحسن، أستاذ الهروي، قال: حدثني علي بن سهل، قال: حدثنا محمد بن المغيرة النوفلي، قال: حدثنا يحيى بن حكمة المقوم، قال: حدثنا سفيان بن عيينة، قال: سمعت علي بن زيد يقول: تذاكروا أي بيت من الشعر أحسن، قال: فقال رجلٌ: ما سمعت بيت شعرٍ أحسن من قول أبي طالب للنبي صلى الله عليه وسلم:
وشق له من اسمه ليجله ... فذو العرش محمودٌ وهذا محمد
تعليق عروضيقال القاضي: قوله من اسمه، يروى على وجهين: أحدهما من إسمه على همزة مقطوعة لإقامة الوزن وقد جاء مثله في الشعر، كما قال الشاعر:
بأبي امرؤٌ ألشام بيني وبينه ... أتتني ببشرى برده ورسائله
وقال الآخر:
ألا لا أرى إثنين أكرم شيمةً ... على حدثان الدهر مني ومن جمل
وقال آخر:
إذا جاوز الإثنين سر فإنه ... ببث وتكثير الوشاة قمين
ويروى ألا كل سر جاوز اثنين أنه، فعلى هذه الرواية لا شاهد فيه، والوجه الثاني في رواية البيت: وشق له من اسمه على الوصل وترك القطع إقراراً له على أصله في إخراجه عن قياسه، فإذا روي هكذا فهو على الزحاف وزحافه حذف خامس جزئه الثاني مفاعي لن، فيصير مفاعلن ويسمى هذا الزحاف القبض، وقد يقع الزحاف في هذا الخبر بإسقاط سابعه، وهو نون مفاعي لن ويسمى الكف، والقبض في هذا أحسن الزحافين عند الخليل، والكف أحسنهما عند الأخفش، وهذان الزحافان يتعاقبان ولا يجتمعان.
من أحسن ما قيل في الرثاءحدثنا الحسين بن إسماعيل المحاملي، قال: حدثنا عبد الله بن أبي سعيد، قال: حدثنا أحمد بن موسى الملقي، قال: حدثنا سوار، قال: قال الأصمعي: جهدت العرب أن تقول مثل هذا البيت فما قدرت:
لقد سخى ربيعة أن يوماً ... عليها مثل يومك لا يعود
قال القاضي: وقد نحا هذا النحو عددٌ من الشعراء، إما اقتداءً وإما ابتداءً، وفي جمعه طول كرهت الإطناب فيه، ومن أحسن ما قيل في معناه:
لعمري لئن كنا فقدناك سيداً ... كريماً له حق التناوش والفزع
لقد جر نفعاً فقدنا لك إننا ... أمنا على كل الرزايا من الجزع
وقال آخر:
لئن كانت الأيام أطولن لوعتي ... لفقدك أو ألزمن قلبي التفجعا
لقد أمنت نفسي المصائب بعده ... فأصبحت منها آمناً أن أروعا
وهذا النوع وما يضارعه كثير، كرهنا الإطالة بذكره.
أبيات في الزهدحدثنا عبد الله بن محمد بن جعفر الأزدي، قال: حدثنا أبو بكر بن أبي الدنيا، قال: حدثني أحمد بن محمد الأزدي، قال: حدثني حامد بن أحمد بن أسيد، قال: أخذت بيد علي بن جبلة يوماً فأتينا أبا العتاهية فوجدناه في الحمام، فانتظرناه فلم يلبث أن جاء، فدخل عليه إبراهيم بن مقاتل بن سهل وكان جميلاً، فتأمله أبو العتاهية، وقال متمثلاً:
يا حسان الوجوه سوف تموتو ... ن وتبلى الوجوه تحت التراب
فأقبل على علي بن جبلة، فقال: اكتب:
يا مربي شبابه للتراب ... سوف يلهو البلى بعطر الشباب
يا ذوي الأوجه الحسان المصونا ... ت وأجسامها الغضاض الرطاب
أكثروا من نعيمها أو أقلوا ... سوف تهدونها لعفر التراب
قد تصبك الأيام نصباً صحيحاً ... بفراق الإخوان والأصحاب
قال: فقال لي أبو العتاهية: قل يا حامد، قلت: معك ومع أبي الحسن؟ فقال: نعم، فقلت:
يا مقيمين رحلوا للذهاب ... بشفير القبور حط الركاب
نعموا الأوجه الحسان فما ... صونكموها إلا لعفر التراب
والبسوا ناعم الثياب ففي الحف ... رة تعرون من جميع الثياب
قد ترون الشباب كيف يموتو ... ن إذا استنضروا بماء الشباب
إسحاق الموصلي يحكم بين شاعرينحدثنا الحسين بن القاسم الكوكبي، قال: حدثني أبو بكر بن عجلان، قال: حدثني حماد بن إسحاق، قال: كان عند الفضل بن يحيى وعنده مسلم بن الوليد الأنصاري ومنصور النمري ينشدانه، فقال: احكم بينهما، فقلت: الحكم عيبٌ علي، والأمير أولى من حكم وقد سمع شعرهما، قال: أقسمت عليك لما فعلت، قلت: هما صديقان شاعران وقل من حكم بين الشعراء فسلم منهم، ولكن إن أحب الأمير وصفت له شعرهما، فقال: فصفه، فقلت: أما منصور النمري فحسن البناء، قريب المعنى، سهل كلامه، صعب مرامه، سليم المتون، كثير العيون، وأما مسلم فمزج كلام البدويين، بكلام الحضريين، وضمنه المعاني اللطيفة، والألفاظ الطريفة، فله جزالة البدويين ورقة الحضريين، قال: أبيت أن تحكم فحكمت، منصور أشعرهما.
آراء للمؤلف في النقد بحضرة الخليفة
قال القاضي: وكنت يوماً جالساً في دار أمير المؤمنين القادر بالله وبالحضرة جماعة من أماثل شعراء زماننا، وفيهم من له حظ من أنواع الآداب، وتصرف في نقد الشعر ومعرفة بأعاريضه وقوافيه، وخواصه ومعانيه، وما يمتنع منه ويجوز فيه، فأفاضوا في هذه الوجوه إلى أن انتهوا إلى ذكر أبي تمام ومسلم بن الوليد، وقال كل واحد منهم في تجميل أوصافهما، وترتيب أشعارهما بما حضره، ولم أصغ كل الأصغاء إلى ما أتوابه من ذلك، إذ لم يجر على قصد التحقيق، وظهر منهم أو من بعضهم تشوف إلى أن آتي بما عندي في ذلك، فقلت: أبو تمام له التقدم في إحكام الصنعة وحبك الألفاظ المطابقة المستعذبة، وإبداع المعاني اللطيفة المستغربة، والإستعارة المتقبلة الغريبة، والتشبيهات الواضحة العجيبة، ومسلم له الطبع وقرب المأخذ، فقبلوا بهذا وأعجبوا به، وأظهروا استحسانه، والاغتباط باستفادته، ثم حضرني بعض من يتعاطى هذا الشأن فسألني إملاءه عليه، فقلت له: أنا قائل لك في هذا قولاً وجيزاً مختصراً يأتي على المعنى، وله مع الإختصار حلاوة، وبهاء وطلاوة، وهو أن أبا تمام أصنع، ومسلم أطبع، وكان بعض من قدمت الحكاية عنه من الشعراء لما قلت في ذلك المجلس ما قلته أقبل علي، وقال لي: ما أحدٌ يدانيك في هذا الباب، فلم لا تكون منا؟ ولم تؤثر مجالسة غيرنا، لغلبة هذا الشأن عليه، وجرى يوماً بيني وبين رجلٌ له حظ من العلم والأدب ذكر بعض من كنا نجالسه من رؤساء ذوي السلطان والولاية، وأهل العلم والأدب والرواية، مع وفور حظه من التدين، والنزاهة والتصون، وأنه كان يخالفنا في أشياء، ويمارينا فيها مع ظهور صحة مذاهبنا، وفساد اختياراته المفارقة لاختيارنا، وتذاكرنا ما يظهره من الزراية على أبي تمام وابن الرومي وأنه لا يقف عند التسوية بينهما وبين من هو منخفض بدرجات متفاوتة عنهما، حتى يحطهما عمن هو أدون رتبة وأوفى منزلة، فقلت لهذا الرجل: كأن هذا الأمر يختلف بحسب اختلاف الأمزجة، وتركيب الأبنية، ويلحق بما يختلف فيه شهوات الناس ولذاتهم من الأطعمة والأشربة، ويؤثرونه من المراكب والملابس والمواطن، ثم ذكرت له أحوال الناس في اختيارهم ما يختارونه من الشعر، وأن كثيراً منهم بالطويل أشد إعجاباً منه بغيره، ويذهب غيره إلى مثل هذا بالبسيط، وبعضهم في الكامل، وبعضهم في الوافر، وقد كان قدامة الكاتب يرى تقدم أول السريع على غيره من أنواع الشعر في بهائه وتقبل الطبائع له، وألف كتاباً في نقد الشعر وأتى بهذا المعنى فيه، وذهب غيره إلى إيثار الخفيف، وذكر أن الألحان أحسن موقعاً فيه منها فيما سواه، قال: ولذلك صار محتملاً من الزحاف ما لا يحتمله غيره، فقلت لهذا الرجل: إن نقد الشعر على التحقيق عزيزٌ جداً، وإن الناقد الذي يعتمد في النقد عليه، ويرجع في صحته إليه، لا يكون كاملاً حتى يكون مفرقاً على الصحة بين المطبوع على المنظوم المؤلف، وبين النظم المتكلف، والطريق المتعسف، ويكون ناقداً في فقه اللغة غير مقصر على تأدية مسموعها، وحفظ منصوصها ومسطورها، ومضطلعاً بلطيف الإعراب وقياس النحو، حافظاً للأمثال المضروبة، مهتدياً بأعلام العقل المنصوبة، حاصراً لمجاري العرف والعادة، آخذاً من كل علم وأدب بحظ، وضارباً في صناعات الفكر بسهم، ويكون ناظراً مدرهاً، قد أنس بجملة من أساليب المتفلسفين، وصناعة المتكلمين، وجدال المتناظرين، ويكون مع هذا معتدلاً بعيداً من الهوى والتعصب لنوع دون نوع، وشخص دون شخص، وبحسب تكامل هذه الخلال، واجتماع هذه الخصال ، تتكامل لناقد الشعر نقده، وبحسب ما يعدم منها يقل حظه، وبقدر ما تمكن هذا الناقد من النقد بين الرجحان، والتساوي والنقصان، كما يميز وازن الذهب والفضة بين الزائد والمعتدل والناقص بالعيان، ويتجلى المعنى لأحدهما ببصره والآخر ببصيرته.
بعض الناس يدعي من الآراء ما ليس له
وكان بعض من مضى لسبيله من أهل زماننا شكا لبعض من يحاضره في مجلس بعض ولاة هذا الزمان، وحكى عنه أنه يعارضه في أشياء يأتي بها من الآداب، يدعيها لنفسه، وكان مما حكى أنه وصف أبا تمام والبحتري، فقال: أبو تمام أعلى، والبحتري أحلى، وادعى لنفسه هذا القول، وقد كان عبيد الله بن محمد الأزدي حكى أنه سمع رجلاً في مجلس ثعلب يقول هذا، فاستحييت من هذا المخاطب إلى أن أقول له هذا كلام قد سبقتما إليه، وليس هو لك ولا له، وكلاكما مدعٍ منه ما لا حق له فيه، وخطر بقلبي، قول القائل:
تجمعوا في فلانٍ فكلهم يدعيه ... والأم تضحك منهم لعلمها بأبيه
وحكى لي بعض كتاب ابن الفرات: أن ابن الفرات أنشد هذا، قال: فقلت له: لو قال: لجهلها بأبيه، كان أجود، فأعجبه ذلك فناظرت الحاكي في هذا، وبصرت ما أتى به هذا الشاعر ولم أوثر إطالة كتابي بحكايته، وكان بعض أصحابنا حكى لي عن هذا المخاطب الشاكي إلى أنه ادعى مثل هذه الدعوى في شيءٍ أنا ذاكرٌ ما روي لي فيه.
دابة وما أشبهها لا تقع في شعرحدثنا صديقنا الحسن بن خالويه، قال: كتب الأخفش إلى صديق له من الكتاب يستعير منه دابة، ودابة لا تقع في شعر لأنه جمع بين ساكنين، فكتب إليه:
أردت الركوب إلى حاجةٍ ... فمر لي بفاعلةٍ من دببت
وكان المكتوب إليه ظريفاً فأجابه:
بريذيننا يا أخي غامزٌ ... فكن سيدي فاعلاً من عذرت
فحكى صاحبنا هذا أن هذا الرجل ادعى هذه القصة وهذا الشعر لنفسه.
قال: القاضي: فأما امتناع دخول دابة وخاصة وما أشبهها في الشعر لئلا يلتقي فيه ساكنان، فهذا هو الأصل في هذا الباب، وإنما يجتمع في الشعر ساكن ومسكن كقول امرىء القيس:
لا وأبيك ابنة العامري ... لا يدعي القوم أني أفر
إذا ركبوا الخيل واستلأموا ... تحرقت الأرض واليوم قر
وقول الأعشى:
إذا أنا سلمت لم يرجعوا ... تحيتهم وهم غير صر
وهذا كثير وتفسيرهذا له موضع لم نر إطالة كتابنا هذا بذكره، وقد بيناه في أولى المواضع، وقد جاء في الشعر اجتماع الساكنين في مزاحف للمتقارب، وذلك:
فقالوا القصاص وكان القصا ... ص حقاً وعدلاً على المسلمينا
وقد روي وكان القصاص على الأصل والوجه الجائز المعروف، وقد كان بعضهم أتى في الشعر بالدواب وخفف الباء فلم يلتق ساكنان، وبعضهم يكره التقاء الساكنين في منثور الكلام ويهرب منه إلى الهمز، فيما لا أصل للهمز فيه، وقد قرأ أيوب السختياني " ولا الضالين " بالهمز، وهذه قراءةٌ مخالفة لقراءة سائر الأئمة، ولما نقله من في نقله الحجة من الأئمة، وكذلك سبيل القراءة التي رويناها.
أمثلة مما همز ولا أصل للهمز فيهحدثنا محمد بن يحيى الصولي، قال: حدثنا محمد بن يزيد، قال: حدثنا أبو عثمان المازني، قال: حدثنا سعيد بن أوس، قال: سمعت عمرو بن عبيد يقرأ : فيومئذٍ لا يسأل عن ذنبه إنسٌ ولا جان " ، مهموزاً، فظننت أنه قد لحن، حتى سمعت العرب تقول: امرأة شأبة، وهذه دأبة على أن كثيراً قد قال:
وأنت ابن ليلى خير قومك مأثراً ... إذا ما احمأرت بالدماء العوامل
فعلمت أنه ما قرأ إلا بأصل.
قال محمد بن يزيد: فقلت للمازني: أفتحب أنت هذه القراءة؟ قال: أختارها، والتقاء الساكنين اللذين أولهما من حروف المد واللين منها ما هو بمنزلة حركة من فصيح كلام العرب الجاري مجرى فصيح اللغة.
وقد روينا خبراً في معنى الخبر الذي ريوناه عن ابن خالويه والشعر الذي تضمنه.
نحوي يحادث جاريتهحدثنا الحسين بن القاسم الكوكبي، قال: حدثنا محمد بن سعد الكراني، قال: حدثني يقدم بن محمد، قال: قال عوانة: كان رجلٌ يتكلف النحو وكانت له جارية تسمى زهرة، فناداها: يا فعلة من زهرت، هاتي فيعلاني من طلست، يريد طيلسانه.
رجل يعاب من لا يصطنعه
حدثنا محمد بن يحيى الصولي، قال: حدثنا محمد بن زكريا الغلابي، قال: حدثنا أبو سهل الرازي، قال: لما دخل المأمون بغداد تلقاه أهلها، فقال له رجلٌ من الموالي: يا أمير المؤمنين! بارك الله لك في مقدمك، وزاد في نعمك، وشكرك عن رعيتك، فقد فقت من قبلك، وأتعبت من بعدك، وأيأست أن يعتاض منك، لأنه لم يكن مثلك، ولا علم شبهك، أما فيمن مضى فلا يعرفونه، وأما فيمن بقى فلا يرتجونه، فهم بين دعاءٍ لك، وثناءٍ عليك، وتمسكٍ بك، أخصب جانبك، واحلولى لهم ثوابك، وكرمت مقدرتك، وحسنت مبرتك، ولانت نظرتك، فجبرت الفقير، وفككت الأسير، وأنت كما قال الشاعر:
ما زلت للبذل للنوال وإط ... لاق لعانٍ بجرمه غلق
حتى تمنى البزاة أنهم ... عندك أمسوا في القد والحلق
فقال المأمون: مثلك يعاب من لا يصطنعه، ويعر من يجهل قدره، فاعذرني في سالفك، فإنك ستجدنا في مستأنفنا.
بالإحسان في البديهة تفاضلت العقولحدثنا عبد الباقي بن قانع، قال: حدثنا محمد بن زكريا الغلابي، قال: حدثنا مهدي بن سابق، قال: دخل المأمون ديوان الخراج فمر بغلام جميل على أذنه قلم فأعجبه ما رأى من حسنه، فقال: من أنت يا غلام؟ قال: الناشىء في دولتك وخريج أدبك يا أمير المؤمنين المتقلب في نعمتك، والمؤمل لخدمتك الحسن بن رجاء، فقال له المأمون: يا غلام بالإحسان في البديهة تفاضلت العقول، ثم أمر أن يرفع عن مرتبته في الديوان، وأمر له بمائة ألف درهم.
تام الآلات في كل شيء
حدثنا محمد بن الحسن من زياد المقري، قال: حدثنا أبو عثمان سعيد بن عبد الله بن سعيد المهرقاني بالبصرة، قال: أخبرنا العباس بن الفرج الرياشي، عن الأصمعي، عن أبي عمرو بن العلاء أنه قال: كان عمرو بن معدي كرب يحدث بحديث، فقال فيه: لقيت في الجاهلية خالد بن الصقعب وضربته وقدوته، وخالدٌ في الحلقة، فقال له رجل: إن خالداً في الحلقة، فقال له: اسكت يا سيىء الأدب، إنما أنت محدثٌ فاسمع أو فقم، ومضى في حديثه فلم يقطعه، فقال له الرجل: أنت شجاعٌ في الحرب والكذب معاً، قال: كذلك أنا تام الآلات.
المجلس التاسع والثلاثون
حكم الحداء والإنشادحدثنا محمد بن يحيى بن صاعد، قال: حدثنا عقبة بن قارم العمي ببغداد، قال: حدثنا عبد الله بن حرب الليثي، قال: حدثني أبو عبيدة معمر بن المثنى، قال: ابن صاعد ثم خرجنا إلى البصرة سنة خمسين ومائتين فحدثناه أبو حاتم السجستاني سهل بن محمد، قال: حدثنا أبو عبيدة معمر بن المثنى، قال: حدثنا رؤبة بن العجاج، قال: حدثني أبي، قال: سألت أبا هريرة، فقلت: يا أبا هريرة ما تقول في الحداء؟
طاف الخيالان وهاجا سقما ... خيال تكنى وخيال تكتما
قامت تريك رهبةً أن تصرما ... ساقاً بخنداة وكعباً أدرما
فقال: أبو هريرة كان يحدى بنحو هذا أو مثل هذا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يعبه.
قال القاضي: هذا الخبر قد كتبناه عن عدة من الشيوخ، وفيه دلالة على الرخصة في هذا الفن من الإنشاد والحداء والنصب، ولشيخنا أبي جعفر ولنا في هذا الباب كلام واسع، وقوله: بخنداة بعني الساق الممتلئة الحسنة، والأدرم: الأملس الذي ليس لحجمه نتوء.
المتوكل لم يكن منحرفاً عن أهل البيت
حدثني أبو النضر العقيلي، قال: أخبرنا أبو الحسن بن راهويه الكاتب، قال: حكى علي بن الجهم عن المتوكل وقد بلغه أن رجلاً أنكر على رجل ينتمي إلى التشيع قولاً أغرق فيه من مدح أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام فغضب المتوكل، وقال: الناسب هذا المدح إلى الغلو جاهلٌ، وهو إلى التقصير أقرب، وهل أحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم من أئمة المسلمين أحق بكل ثناءٍ حسنٍ من علي؟ وأتى من هذا المعنى بما ذكر ابن راهويه أنه ذهب عنه حفظه.
قال القاضي: وكنت رويت في المجلس الخامس والثلاثين من مجالس كتابنا هذا عن أحمد بن الخصيب خبراً نسب فيه المتوكل إلى الانحراف عن أهل البيت عليهم السلام، فخطأت الخصيب في قوله هذا، ووعدت أن آتي فيما أستقبله من المجالس بما يشهد لما قلته، فعثرت على هذا الخبر فأوردته، ولعلي آتي بكثير مما روى معناه إذا وقعت عليه، فإن المتوكل أفضل من أن لا يعلم أن تعظيمه أهل البيت من أعظم مفاخره بعد تعظيمه رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ هو من آله ديناً ونسباً، ولو كان المتوكل من عامة بني هاشم دون خلفائهم لكان حقيقاً بتعظيمه للإمام العدل الهاشمي ابن الهاشميين أبي سبطي رسول الله صلى الله عليه وسلم الحسن والحسين عليهما السلام.
ابن عباس كان يأخذ بركابي الحسن والحسينوقد حدثنا محمد بن يحيى الصولي، قال: حدثنا الغلابي، قال: حدثنا ابن عائشة، قال: حدثنا حسن بن حسين الفزاري، قال: حدثنا قطري الخشاب، عن مدرك بن عمارة، قال: رأيت ابن عباس آخذاً بركاب الحسن والحسين فقيل له: تأخذ بركابهم وأنت أسن منهما، فقال: إن هذين ابنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، أوليس من سعادتي أن آخذ بركابهما، والمتوكل لمن أحق الناس بأن يتقبل ما فعله جده، وأولى من تأسى بما أتاه ولم يعده، وإنما كان انحرافه عمن نازعه خلافته وسعى في تشعيث سلطانه، والقدح في ملكه، وكيف يظن ذو لب بالمتوكل الانحراف عن عشيرته وأسرته وفصيلته، ولحمته الذين شرف بهم وورث المجد عنهم.
خبر زيد بن موسى المعروف بالناروقد حدثنا عبد الله بن منصور الحارثي، قال: أخبرنا الغلابي، قال: حدثنا رجاء بن مسلمة، قال: حدثني زيد بن موسى بن جعفر، قال: لما أدخلت على المأمون وبخني، ثم قال: اذهبوا به إلى أخيه أبي الحسن، فجيء بي إلى الرضا فتركت بين يديه ساعة واقفاً ثم رفع رأسه إلي، فقال: يا زيد سوءةً لك، ما أنت قائلٌ لرسول الله صلى الله عليه وسلم إذ سفكت الدماء وأخفت السبيل، وأخذت المال من غير حله؟ لعلك غرك حديث حمقى أهل الكوفة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن فاطمة أحصنت فرجها فحرم الله زريتها على النار، ويلك! إنما هذا لمن خرج من بطنها الحسن والحسين فقط لا لي ولك، والله ما نالوا ذلك إلا بطاعة الله فإن أردت أن تنال بمعصية الله تعالى ما نالوه بطاعة الله عز وجل إنك إذاً لأكرم على الله عز وجل منهم.
زيد هذا امرؤ يعرف بزيد النار، وله أخبارٌ، وقد كان بعض ولده قدم من بلاد العجم إلى العراق ونوزع في نسبه، وكان له حججٌ في دعوته كانت مني معونةٌ له، فهذا الذي حكى لنا عن الرضا هو اللائق بفضله وديانته ونبله ونباهته، وشرفه ونزاهته، وقد اتبع في سبيل سلفه، واهتدى بالمصطفين من آبائه المكرمين بالنبوة والإمامة، صلوات الله عليهم، وقد أوضح هذا المعنى كتاب الله عز وجل، قال الله تبارك وتعالى: " فلا أقسم بما تبصرون وما لا تبصرون، إنه لقول رسولٍ كريم، وما هو بقول شاعرٍ قليلاً ما تؤمنون، ولا بقول كاهنٍ قليلاً ما تذكرون تنزيلٌ من رب العالمين، ولو تقول علينا بعض الأقاويل، لأخذنا منه باليمين، ثم لقطعنا منه الوتين، فما منكم من أحدٍ عنه عاجزين " ، فانظر إلى ما قاله في خير الناس عنده وأسعاهم في مرضاته، وأعلمهم بطاعته، وأتقاهم له، وأورعهم عن محارمه، وأعرفهم به، وأحفظهم لحدوده، وأعلمهم بشرائعه، وافقههم في دينه، وأنصحهم لخلقه، وأكرمهم عليه، إعلاماً منه لعباده، أنه لا محاباة لديه فذكر أمكن الرسل عنده، قصداً إلى تحذير خلقه، وتخويف عباده، وكذلك قوله تعالى: " ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين " فخصه بخطابه وهو يريد غيره، تشريفاً له وتعظيماً لقدره، ودلالة على خطر ما ذكره له، كما خصه بقوله: " يا أيها النبي إذا طلقتم النساء " وهكذا قص علينا في أمر غيره من علية أنبيائه ورسله، فذكر تعالى جده في السورة التي يذكر فيها الأنعام خليله إبراهيم عليه السلام ثم، قال: " ووهبنا له إسحاق ويعقوب كلا هدينا ونوحاً هدينا من قبل ومن ذريته داود وسليمان وأيوب ويوسف وموسى وهرون وكذلك نجزي المحسنين، وزكريا ويحيى وعيسى وإلياس كلٌ من الصالحين، وإسماعيل واليسع ويونس ولوطأ وكلا فضلنا على العالمين، ومن آبائهم وذرياتهم وإخوانهم واجتبيناهم وهديناهم إلى صراطٍ مستقيم، ذلك هدى الله يهدي به من يشاء من عباده ولو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون أولئك الذين آتيناهم الكتاب والحكم والنبوة فإن يكفر بها هؤلاء فقد وكلنا قوماً ليسوا بها بكافرين أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده " .
الأسد في سفينة نوحوقد حدثنا أحمد بن جعفر بن المنادين قال: حدثنا العباس بن محمد بن حاتم، قال: حدثنا عفان بن مسلم أبو عثمان الصفار، قال: حدثنا المبارك بن فضالة، عن بكر بن عبد الله المزني، قال: لما أمر نوحٌ عليه السلام أن يحمل معه في السفينة من كل شيء فكان فيما حمل معه الأسد، فجاع فزأر زأرةً خاف أهل السفينة أن يأكلهم، فشكوه إلى نوح فشكاه نوح إلى الله عز وجل، فألقى الله تعالى عليه الحمى، وكان نوح يمر بعد ذلك فيركله برجله، ويقول له: أرنا ما أنت بسرا، قال: فيقول: له الأسد لا رباه، قال ابن المنادي، قال لنا العباس بن محمد: قد أكدت بهذا الحديث يحيى بن معين فاستحسنه واستغربه، وقال: مع كثرة كتابتي عن عفان لم أكتب هذا، فأين كتبت عنه هذا الحديث؟ فقلت: بالبصرة.
لا يحب الله من الظلم شيئاً
وحدثنا العباس أيضاً، قال: حدثني أبو يحيى الحماني، قال: حدثنا الأعمش،عن مجاهد، لما أمر نوح بأخراج من في السفينة مر بالأسد، وقد ألقيت عليه الحمى فضربه ليقيمه، قال: أبا يحيى: ما أدري بيده أم برجله، فخمشه الأسد فبات ساهراً فشكا ذلك نوح إلى الله تعالى، فأوحى الله تعالى إليه: إني لا أحب من الظلم شيئاً.
قضية رجل يسب السلفكنت بحلوان سنة خمس وثلاثين وثلثمائة فاتفق أن شيخاً كان يجالسنا بها من أهل الدينور يعرف بأبي الحسن بن ظفران ويؤنسنا، وكان محدثاً قد حلب الدهر أشطره، وخالط الرؤساء وصحب السلطان وتعلق بأربه وتصرف في أعماله، وكنا نعجب بمعاشرته وحديثه، وذكر لابي الحسن بن طاهر الكاتب فعرفه وذكر أن له ابناً هو خليفته وصاحبه على البريد والخبر بالدينور.
فحدثنا أبو الحسن بن ظفران هذا من حفظه، بما أن موردٌ معناه بلفظ دون لفظه عمن حدثه، قال: كان بالدينور شيخٌ يتشيع ويميل إلى مذهب أهل الإمامة، وكان له أصحاب يجتمعون إليه، ويأخذون عنه، ويدرسون عنه، يقال: له بشر الجعاب فرفع صاحب الخبر بالدينور إلى المتوكل أن بالدينور رجلاً رافضياً يحضر جماعةً من الرافضة ويتدارسون الرفض، ويسبون الصحابة، ويشتمون السلف، فلما وقف المتوكل على كتابه أمر وزيره عبيد الله بن يحيى بالكتابة إلى عامله على الدينور بإشخاص بشر هذا والفرقة التي تجالسه، فكتب عبيد الله بن يحيى ذلك، فلما وصل إلى العامل كتابه وكان صديقاً لبشر الجعاب، حسن المصافاة له، شديد الإشفاق عليه، همه ذلك وشق عليه، فاستدعى بشراً وأقرأه ما كوتب به في أمره وأمر أصحابه، فقال له بشر: عندي في هذا رأي إن استعملته كنت غير مستبطىءٍ فيما أمرت به، وكنت بمنجاة مما أنت خائف علي منه، قال: وما هو، قال: بالدينور شيخ خفاف اسمه بشر ومن الممكن المتيسر أن تجعل مكان الجعاب الخفاف، وليس بمحفوظ عندهم وما نسبت إليه من الحرفة والصناعة، فسر العامل بقوله وعمد إلى العين من الجعاب فغير عينها وغير استواء خطها وانبساطه، ووصل الباء بما صارت به فاء، وكان أخبره عن بشر الخفاف أنه رجلٌ في غاية البله والغفلة، وأنه هزأة عند أهل بلده وضحكة، وذلك أن أهل سواد البلد يأخذون منه الخفاف التامة والمقطوعة بنسيئة، ويعدونه بأثمانها عند حصول الغلة، فإذا حصلت وحازوا مالهم منها ماطلوه بدينه، ولووه بحقه، واعتلوا بأنواع الباطل عليه، فإذا انقضى وقت البيادر، ودنا الشتاء واحتاجو إلى الخفاف وما جرى مجراها وافوا بشر هذا واعتذروا إليه وخدعوه، وابتدوا يعدونه الوفاء ويؤكدون مواعيدهم بالأيمان الكاذبة، والمعاهدة الباطلة ويضمنون له أداء الديون الماضية والمستأنفة، فيحسن ظنه بهم ويستسلم إليهم، ويستأنف أعطائهم من الخفاف وغيرها ما يريدونه، فإذا حضرت الغلة أجروه على العادة وحملوه على ما تقدم من السنة ثم لا يزالون على هذه الوتيرة من أخذ سلفه في وقت حاجاتهم، ودفعه عن حقه في أبان غلاتهم، فلا ينتبه من رقدته ولا يفيق من سكره وغفلته، فأنفذ صاحب الخبر كتابه وأشار بتقديم هذا الخفاف أمام القول، والإقبال عليه بالمخاطبة وتخصيصه بالمسألة، ساكناً إلى أنه يأتي من ركاكته وعيه وفهاهته بما يضحك الحاضرين ويحسم الأشتغال بالبحث عن هذه القصة، ويتخلص من هذه البلية، فلما ورد كتاب صاحب الخبر أعلم عبيد الله بن يحيى المتوكل به وبحضور القوم فأمره أن يجلس ويستحضرهم ويخاطبهم فيما حكي عنهم، وأمر فعلقت بينه وبينهم سبنية ليقف على ما يجري ويسمعه ويشاهده، ففعل ذلك، وجلس عبيد الله واستدعى المحضرين فقدموا إليه يقدمهم بشر الخفاف، فلما جلسوا أقبل عبيد الله على بشر، فقال: أنت بشر الخفاف فقال: نعم، فسكنت نفوس الحاضرين معه إلى تمام هذه الحيلة، وإتمام هذه المدالسة، وجواز هذه المغالطة، فقال: إنه رفع إلى أمير المؤمنين من أمركم شيء أنكره فأمر بالكشف عنه، وسؤالكم بعد إحضاركم عن حقيقته، فقال له بشر: نحن حاضرون، فما الذي تأمرنا به؟ قال: بلغ أمير المؤمنين أنه يجتمع إليك قوم فيخوضون معك في الترفض وشتم الصحابة، فقال بشر: ما أعرف من هذا شيئاً، قال: فقد أمرت بامتحانكم والفحص عن مذاهبكم فما تقول في السلف، قال: لعن الله السلف، فقال له عبيد الله: ويلك تدي ما تقول؟ فقال: نعم، لعن الله السلف، فخرج خادم من بين يدي المتوكل، فقال لعبيد الله: يقول لك أمير المؤمنين: سله الثالثة فإذا أقام على هذا فاضرب عنقه، فقال له: إني أسألك في هذه المرة فإن لم تثب وترجع عما قلت أمرت بقتلك، فما تقول الآن في السلف؟ فقال: لعن الله السلف، قد خرب بيتي، وأبطل معيشتي، وأتلف مالي وأفقرني وأهلك عيالي، قال: وكيف، قال: أنا رجلٌ أسلف الأكرة وأهل الرستاق الخفاف والتمشكان، على أن يوفوني الثمن مما يحصل لهم من غلاتهم، فأصير إليهم عند حصول الغلة في بيادرهم، فإذا أحرزوا الغلت، دفعوني عن حقي وامتنعوا من توفيتي مالي، ثم يعودون عند دخول الشتاء فيعتذرون إلي، ويحلفون لي أنهم لا يعاودون مطلي وظلمي، وأنهم يؤدون إلي المتقدم والمتأخر من مالي، فأجيبهم إلى ما يلتمسونه وأعطيهم ما يطلبونه، فإذا جاء وقت الغلة عادوا إلى مثل ما
كانوا عليه من ظلمي وكسروا مالي، فقد اختلت حالي، وافتقرت أنا وعيالي، قال: فسمع ضحكٌ عالٍ من وراء السبنية، وخرج الخادم، فقال: استحلل هؤلاء القوم وخل سبيلهم، فقالوا: أمير المؤمنين في حل وسعة، فصرفهم فلما توسطوا صحن الدار، قال بعض الحاضرين: هؤلاء قومٌ مجان يحتالون وصاحب الخبر فطنٌ متيقظ، لا يكتب إلا بما يعلمه ويثق بصحته، وينبغي أن يستقصى الفحص عن هذا والنظر فيه، فأمر بردهم، فلما أمروا بالرجوع، قال بعض الجماعة التابعة لبعض: ليس هذا من ذلك الذي تقدم، فيجب أن نتولى نحن الكلام، ونسلك طريق الجد والديانة، ورجعوا فأمروا بالجلوس ثم أقبل عبيد الله عليهم، فقال لهم: إن الذي كتب في أمركم ما كتب ليس ممن يقدم على الكتب بما لم يقتله علماً ويحيط به خبراً، وقد أمر أمير المؤمنين باستئناف امتحانكم وإنعام التفتيش عن أمركم، فقالوا له: افعل ما أمرت به، فقال: من خير الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قلنا: أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، فقال لخادم بين يديه: قد سمعت ما قالوا فأخبر أمير المؤمنين به، فمضى ثم عاد، فقال: يقول لكم أمير المؤمنين: هذا مذهبي، فقلنا: الحمد لله الذي وافق أمير الؤمنين في دينه ووفقنا لاتباعه وموافقته على مذهبه، ثم قال لهم: ما تقولون في أبي بكر رضي الله عنه؟ فقالوا: رحمة الله على أبي بكر، نقول فيه خيراً، قال: فما تقولون في عمر قلنا: رحمة الله عليه ولا نحبه، قال: ولم؟ قلنا: لأنه أخرج مولانا العباس من الشورى، قال: فسمعنا من وارء السبنية ضحكاً أعلى من الضحك الأول ثم أتى الخادم، فقال لعبيد الله عن المتوكل: أتبعهم صلةً فقد لزمهم في طريقهم مؤونة واصرفهم، فقالوا: نحن في غنىً وفي المسلمين من هو أحق بهذه الصلة وإليها أحوج.وا عليه من ظلمي وكسروا مالي، فقد اختلت حالي، وافتقرت أنا وعيالي، قال: فسمع ضحكٌ عالٍ من وراء السبنية، وخرج الخادم، فقال: استحلل هؤلاء القوم وخل سبيلهم، فقالوا: أمير المؤمنين في حل وسعة، فصرفهم فلما توسطوا صحن الدار، قال بعض الحاضرين: هؤلاء قومٌ مجان يحتالون وصاحب الخبر فطنٌ متيقظ، لا يكتب إلا بما يعلمه ويثق بصحته، وينبغي أن يستقصى الفحص عن هذا والنظر فيه، فأمر بردهم، فلما أمروا بالرجوع، قال بعض الجماعة التابعة لبعض: ليس هذا من ذلك الذي تقدم، فيجب أن نتولى نحن الكلام، ونسلك طريق الجد والديانة، ورجعوا فأمروا بالجلوس ثم أقبل عبيد الله عليهم، فقال لهم: إن الذي كتب في أمركم ما كتب ليس ممن يقدم على الكتب بما لم يقتله علماً ويحيط به خبراً، وقد أمر أمير المؤمنين باستئناف امتحانكم وإنعام التفتيش عن أمركم، فقالوا له: افعل ما أمرت به، فقال: من خير الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قلنا: أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، فقال لخادم بين يديه: قد سمعت ما قالوا فأخبر أمير المؤمنين به، فمضى ثم عاد، فقال: يقول لكم أمير المؤمنين: هذا مذهبي، فقلنا: الحمد لله الذي وافق أمير الؤمنين في دينه ووفقنا لاتباعه وموافقته على مذهبه، ثم قال لهم: ما تقولون في أبي بكر رضي الله عنه؟ فقالوا: رحمة الله على أبي بكر، نقول فيه خيراً، قال: فما تقولون في عمر قلنا: رحمة الله عليه ولا نحبه، قال: ولم؟ قلنا: لأنه أخرج مولانا العباس من الشورى، قال: فسمعنا من وارء السبنية ضحكاً أعلى من الضحك الأول ثم أتى الخادم، فقال لعبيد الله عن المتوكل: أتبعهم صلةً فقد لزمهم في طريقهم مؤونة واصرفهم، فقالوا: نحن في غنىً وفي المسلمين من هو أحق بهذه الصلة وإليها أحوج.
قال القاضي: فهذه الحكاية تبين أن المتوكل على خلاف ما توهمه ابن الخصيب، وبمعزلٍ مما نسبه في هذا المعنى إليه، والله تعالى أعلم بالضمائر، وخفيات السرائر، وهو المجازي كل محسن ومسيء بعمله.
اعتذار الحسن بن وهب عن الإعطاءحدثنا محمد بن يحيى الصولي، قال: حدثنا محمد بن موسى البربري، قال: كتب رجلٌ إلى الحسن بن وهب يستميحه وكان مضيقاً، فكتب إليه الحسن:
الجود طبعي ولكن ليس لي مالٌ ... فكيف يحتال من بالرهن يحتال
وشهوتي في العطايا وانبساط يدي ... وليس ما أشتهي يأتي به الحال
فهاك خطي فزرني بحيث لي نشبٌ ... وحيث يمكن إحسانٌ وإفضال
المجلس الأربعون
لن يدخل الجنة شحيح أو بخيلحدثنا رضوان بن أحمد بن جالينوس الصيد نائي، قال: حدثني ابن أبي الدنيا، قال: حدثني إبراهيم بن عبد الله، قال: حدثنا سليمان بن داود أبو الربيع، قال: حدثنا محمد بن حرب، عن سعيد بن سنان، عن أبي شجرة، عن أبي الدرداء.
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: " أفتقولون أو يقول قائلكم: الشحيح أعذر من الظالم وأي ظلم أظلم عند الله من الشح، ما أسرع في نفض الإسلام شيءٌ إسراع الشح، وحلف الله بعزته وجلاله، لا يدخل الجنة شحيحاً ولا بخيلاً " .
قال القاضي: في هذا الخبر ما يبعث عن التنزه عن الشح، والرغبة عن الدناءة والبخل، ويدعو إلى السماحة والبذل، ويحث على السخاء، ويبعث على العطاء، وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم بمثل هذا الخبر أخبار كثيرة، وعن السلف والخلف، وأتى فيه من أخبار العرب وجواهر كلامها، ومنظوم أشعارها، مما يقف الناظر في مجالس كتابنا هذا على الكثير المستحسن منه، ولا يحتمل هذا المكان الإتيان بجميعه في مجلس واحد لطوله.
تعزية بليغةحدثنا محمد بن الحسن بن دريد، قال: أخبرنا أبو حاتم، قال: عزى رجلٌ بعض ملوك العجم، فقال: أغناك الله عن الحاجة إلى الصبر بحسن العزاء، ولا أنساك مصيبتك بأعظم منها ولا حرمك جزيل الثواب عليها.
مخارق يهاجم إسحاق الموصلي فيدافع هذا عن نفسهحدثنا الحسين بن القاسم الكوكبي، قال: حدثني أبو الفضل الربعي، قال: حدثني إسحاق بن إبراهيم الموصلي، قال: قال لي علي بن هشام: قد عزمت على الصبوح فاغد علي، فعانقني عائق عن البكور إليه، فجئت في وقت الظهر وعنده مخارق، فقال لي: يا أبا إسحاق أين كنت؟ فقلت: شغلني - أعز الله الأمير - ما لم أجد من القيام به أبداً، ثم دعا بطعام وجلسنا على شرابنا فغنى مخارق صوتاً من الطويل شعر المؤقل، والغناء لأبي سعيد مولى فايد وهو:
وقد لامني في حب مكنونة التي ... أهيم بها أهل الصفاء فأكثروا
يقولون لي مهلاً وصبراً فلم أجد ... جواباً سوى ان قلت كيف التصبر
أأصبر عن نفسي وقد حيل دونها ... ووافقني منها الذي كنت أحذر
فأخطأ فيه، فقلت: أخطأت ويلك! ثم غنى صوتاً من البسيط شعره لحميد بن ثور، والغناء للهذلي وهو:
يا موقد النار بالعلياء من إضمٍ ... قد هجت لي سقماً يا موقد النار
يا رب نارٍ هدتني وهي موقدة ... بالند والعنبر الهندي والغار
تشبها إذ خبت أيدٍ مخضبةٌ ... من ثيباتٍ مصوناتٍ وأبكار
قلوبهن ولم يبرحن شاخصةٌ ... ينظرن من أين يأتي الطارق الساري
فأخطأ فيه، فقلت: أخطأت ويلك! ثم تغنى صوتاً ثالثاً من الكامل، شعره لكثير، والغناء لمعبد:
إني لأستحي أن أبوح بحاجتي ... فإذا قرأت صحيفتي فتهمني
وعليك عهد الله إن أنبأته ... أحداً ولا أظهرته بتكلم
فأخطأ فيه، فقلت: أخطأت ويلك! فغضب، قال: يا أبا إسحاق يأمرك الأمير بالبكور فتأتي ظهراً، وتغنيت أصواتاً كلها يحبها ويطرب إليها فخطأتني فيها، وتزعم أنك لا تضرب بالعود إلا بين يدي خليفةٍ أو ولي عهد، ولو قال لك بعض البرامكة مثل هذا لبكرت وضربت وغنيت، فقلت: ما ظننت أن هذا يجري، ووالله ما أبديه انتقاصاً لمجلس الأمير أعثره الله، ولكن اسمع يا جاهل، ثم أقبلت على ابن هشام، فقلت: دعاني - أصلح الله الأمير - يحيى بن خالد يوماً، وقال لي: بكر فإني علىالصبوح، وقد كنت يومئذ في دارٍ بأجرة،فجاءني من الليل صاحب الدار فأزعجني إزعاجاً شديداً. فجرت مني يمينٌ غليظة أني لا أصبح حتى أتحول، فلما أصبحت خرجت أنا وغلماني حتى اكتريت منزلاً وتحولت ثم صرت إلى يحيى وقت الظهر، فقال لي: أين كنت إلى الساعة؟ فحدثته بقصتي وقعدنا على شربنا وأخذنا في غنائنا، فلم ألبث أن دعا يحيى بداوة وقرطاس فوقع شيءاً لم أدر ما هو، ثم دفع الرقعة إلى جعفر فوقع فيها شيئاً ودفعها إلي، وإذا يحيى قد كتب: يدفع إلى إسحاق ألف ألفٍ يبتاع بها منزلاً، وإذا جعفر قد كتب يدفع إلى إسحاق ألف ألف يصرفها في نفقاته ومروءته، فقلت في نفسي هذا حلم، فلم ألبث أن جاء خادم أخذها من يدي، فلما كان في وقت الإنصراف استأذنت وخرجت، فإذا أنا والله بالمال وإذا الوكلاء ينتظروني حتى أقبضه منهم فعلام يلومني هذا الجاهل؟ ثم قلت لمخارق: هات العود فأخذته ورددت الأصوات التي أخطأ فيها، وغنيت صوتاً من الطويل بشعر لابن ياسين، والغناء فيه لي وهو:
إلهي منحت الود مني بخيلةً ... وأنت على تغيير ذاك قدير
شفاء الهوى بث الجوى واشتكاؤه ... وإن امرأً أخفى الهوى لصبور
فطرب لذلك طرباً شديداً ثم قال: حق لك، ثم أقبل على مخارق، فقال: يا فاسق! ما أنت والكلام، وأمر لي بمائة ألف درهم وخلعة، وأمر لمخارق بعشرة ألاف درهم، فبلغ ذلك إسحاق بن خلف فأنشأ يقول:
إن جئت ساحته تبغي سماحته ... تلقاك راحته بالوبل والديم
ما ضر زائره الراجي لنائله ... إن كان ذا رحمٍ أو غير ذي رحم
فعاله كرمٌ وقوله نغمٌ ... بقوله نعمٌ قد لج في نعم
قال القاضي: قول حميد بن ثور: الند والعنبر الهندي، زعم بعض علماء اللغة أن الند أعجمي، وهذا حميد بن ثور أتى به في شعره، وقد روي شعرٌ في خبر لمعاوية نسبه بعض الرواة إلى عبد الرحمن بن حسان، وبعضهم إلى أبي دهبل، فذكر بعض من رواه أنه قال فيه:
تجعل الند والألوة والمس ... ك صلالها على الكانون
وقال العرجي:
تشب متون الحمر بالند تارةً ... وبالعنبر الهندي والعرف ساطع
وقال الأحوص:
إذا خبت أوقدت بالند واشتعلت ... ولم يكن عطرها مسكٌ وأظفار
وقوله: تشبها إذا خبت، معنى تشبها: تلهبها وتضرمها، قال الأحوص بن محمد الأنصاري:
أمن خليدة وهناً شبت النار ... ودوننا من ظلام الليل أستار
باتت تشب وبتنا الليل نرقبها ... تعنى قلوبٌ بها مرضى وأبصار
يقال: شبت النار والرحب شبهما الإنسان يشبها شبوباً وشباً، وشب الصبي يشب شباباً وشبيبةً، وشب الفرس يشب شباباً وشبوباً، وقوله: إذا خبت يعني إذا خمدت، يقال: خبت النار تخبو خبواً إذا سكنت، قال الشاعر:
ومنا ضرار وابنماه وحاجبٌ ... مؤجج نيران المكارم لا المخبي
وقال آخر:
أمن زينب ذي النار ... قبيل الصبح ما تخبو
إذا ما خمدت يلقى ... علينا المندل الرطب
وقال القطامي:
وكنا كالحريق أصاب غابا ... فيخبو تارةً ويهب ساعا
وقد قيل في قوله تعالى: " كلما خبت زدناهم سعيراً " أقوال، قيل: إن المعنى كلما سكنت، وقيل المعنى كلما التهبت وتوقدت، وجعلوا هذه الكلمة من الأضداد، وقيل: بل المعنى بهذه الجلود، والتأويل كلما خبت جلودهم.
وشرح هذا يأتي في كتابنا المسمى " البيان الموجز عن علوم القرآن المعجز " إن شاء الله.
وقول: كثير: إني أستحيك، اللغة الفصيحة إني أستحييك، قال: قال تعالى: " إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلاً " ، وقال عز ذكره: " إن ذلكم كان يؤذي النبي فيستحيي منكم، والله لا يستحيي من الحق " وللعرب فيه لغة أخرى بعد هذا وهي استحى يستحي كما قال الشاعر:
ألا يستحي منا رجالٌ وتتقي ... محارمنا لا يبوء الدم بالدم
ونسب إسحاق الشعر الذي ختم مجلسه بالغناء فيه إلى أنه من الطويل، وهو كما قال، إلا أنه لم يبين أي نوع من الطويل هو، فرأيت أن أبينه وأقول: إنه النوع الثالث منه، وهو مقبوض العروض محذوف الضرب ما كان مطلقاً، ومنه:
أقيموا بني النعمان عنا صدوركم ... وإلا تقيموا صاغرين الرؤسا
فإذا صرع ألحقت عروضه بضربه، فصارت محذوفة بمنزلته وكانت في الإطلاق أتم وأطول منه، فمن مصرع هذا النوع قول امرىء القيس:
لمن طللٌ أبقرته فشجاني ... كخط الزبور في عسيبٍ يمان
وقال أيضاً:
أجارتنا إن الخطوب تنوب ... وإني مقيمٌ ما أقام عسيب
وقبض فعولن الذي قبل الضرب من هذا الشعر، عذب في الأسماع من إيراده سالماً.
ابن بيض يتحقق له حلمهحدثنا محمد بن القاسم الأنباري، قال: حدثنا عبدالله بن بنان، قال: حدثنا عمرو الكوفي، قال: دخل حمزة بن بيض على يزيد بن المهلب يوم جمعة وهو يتأهب للمضي إلى المسجد، وجاريةٌ تعممه فضحك، فقال: له يزيد: مم تضحك، فقال: لله رؤيا رأيتها إن أذن لي الأمير قصصتها، قال: قل، فأنشأ يقول:
رأيتك في المنام سننت خزاً ... علي بنفسجاً وقضيت ديني
فصدق ما هديت اليوم رؤيا ... رأتها في المنام كذاك عيني
قال: كم دينك؟ قال: ثلاثون ألفاً، قال: قد أمرت لك بها وبمثلها، ثم قال: يا غلمان! فتشوا الخزائن فجيؤه منها بكل خز بنفسجٍ تجدونها، فجاءوا بثلاثين جبة، فنظر إليه يلاحظ الجارية، فقال: يا جارية عاوني عمك على قبض الجباب، فإذا وصلت إلى منزله فأنت له، فأخذها والجباب والمال وانصرف.
قال: سننت خزاً أي ألقيته وصببته علي، يقال صب عليه ثوبه كما قال أبو نواس:
صببت على الأمير ثياب مدحي ... فقال الناس أحسن بل أجاد
ويقال: سننت علي قميصي، وسننت الماء على وجهي بالسين المهملة، وشننت علي الماء إذا أفضته على جسدك، بالشين النعجمة، وكذلك شن عليه الدرع، وشن عليهم الغارة، وقيل في قوله تعالى: " من حمأٍ مسنون " أي مصبوب على قصد، وقيل: متغير الرائحة، وهذا مسنون وسنين، ولهذا الباب موضع هو مستقصى فيه، والسنة مشتقة من خذا الأصل لأنها شيءٌ جار على وجهه، ومنه سنة الطريق وسننه، قال لبيد:
من معشر سننت لهم آباؤهم ... ولكل قوم سنةٌ وإمامها
وسنة الوجه كأنها الشيء المصبوب الجاري على طريقة مقصودة: كما قال ذو الرمة:
تريك سنة وجهٍ غير مقرفةٍ ... ملساء ليس بها خالٌ ولا ندب
يروى غير مقرفة وغير بالنصب والجر، فمن رواه نصباً فهو الوجه الظاهر في الصحة الذي لا شبهة فيه ولا مرية إذ هو صفةٌ لمنصوب، وهو السنة المنصوبة بالفهل وهو تريك، ومن رواه جراً فإنه أتبعه إعراب وجه المخفوض يالإضافة، على الطريقة التي يجيزها من يجيزها للمجاورة، ويجعلها بمنزلة قولهم " حجر ضب خربٍ " ، وهذا وجه ضعيف مرغوب عنه، وكثيرمن النحويين لا يجيزه، ومن محقيقيهم من يلحن المتكلم به، وينسب مجيزه من النحاة إلى الخطأ والمتكلم به من العرب وإن كان قدوة حجة في اللغة إلى الغلط، وهذا يتسع القول فيه، وقد استقصينا بيانه في كتابنا " الشافي في طهارة الرجلين " وغيره من كتبنا ومسائلنا.
توصي له بثلث مالها نظير بيت شعرحدثنا أحمد بن العباس العسكري، قال: حدثنا عبد الله بن أبي سعد، قال: حدثني أحمد بن عمر الزهري، قال: حدثني أبو بركة الأشجعي، قالك حضرت امرأةً من بني نمير الوفاة، فقيل لها: أوصي، فقالت: نعم، خبروني من القائل:
لعمرك ما رماح بني نميرٍ ... بطائشة الصدور ولا قصار
قال: فقيل لها: زياد الأعجم، قالت: فأشهدكم أن له ثلث مالي، قال: فحمل إليه من ثلثها أربعة آلاف درهم.
من جود عبد الله بن جعفر
حدثني عبيد الله بن محمد بن جعفر الأزدي، قال: حدثنا أبو بكر بن أبي الدنيا، قال: حدثت محمد بن الحسين، قال: حدثنا داود بن محمد، عن سوادة بن أبي الأسود، عن شهر بن حوشب.
أن رجلاً عطبت راحلته فأتى أمير المدينة فسأله فلم يحمله، فقيل له: ائت ابن جعفر فأتاه فقال:
أبا جعفرٍ إن الحجيج ترحلوا ... وليس لرحلي فاعلمن بعير
أبا جعفر من أهل بيت نبوةٍ ... صلاتهم للمؤمنين طهور
أبا جعفر ضن الأمير بماله ... وأنت على ما في يديك أمير
قال: فأمر له براحلة ونفقة وكسوة سابغة.
إبليس يعلم الغناءحدثني أبو النضر العقيلي، قال: حدثنا الحسن بن راهويه الكاتب، قال: قال: لي شيخٌ من الكتاب قد أتى عليه نحو ثمانين سنة، انصرفت من ديواني وأنا حدثٌ من أحسن الناس وجهاً فلقيني شيخٌ في موضع كان زيه زي الرهبان فعلق بكمي، ثم رفع صوته وغنى غناءً ما سمعت قط أشجى ولا أحسن منه فقال: انظر إلي يا طوالوالحن، ثم خلى كمي وانصرف، وأحسبه إبليس.
من أخبار ابن جدعانحدثني عبد الباقي بن قانع، قال: حدثنا محمد بن زكريا، قال: حدثنا ابن عائشة، قال: أتى رجل عبد الله بن جدعان فأعطاه شيئاً يسيراً فلامه الرجل، ولابن جدعان جارٌ من قريش له مالٌ لا يعطي أحداً شيئاً، فقال عبد الله بن جدعان:
ألام وأعطي والبخيل مجاوري ... له مثل مالي لا يلام ولا يعطي
قال القاضي: ابن جدعان التيمي من مشهوري أجواد قريش، وفيه يقول أمية بن أبي الصلت:
علم جدعان بن عم ... رٍو أنه يوماً مدابر
ومسافر سفراً بعي ... داً لا يؤوب له المسافر
فقدروه بفنائه ... للضيف مترعةٌ زوافر
وله أخبار كثيرةٌ، لعلنا نأتي بها فيما نستقبله من هذه المجالس.
العلم من ظهور الدفاترحدثنا محمد بن الحسين بن زياد المقري، قال: حدثنا أبو خليفة الفضل ابن الحباب: أن أبا زيد الأنصاري، رأى رجلاً حسن العلم، كثير الراوية، جيد الحفظ لملح الأخبار، لا يتمثل إلا بحسن، ولا يستشهد إلا بجيد، فقال: كأن علمه والله من ظهور الدفاتر.
أعرابي يسأل عمرحدثنا إسماعيل بن علي بن إسماعيل الخطي، قال: حدثنا محمد بن يونس بن موسى، قال: حدثنا محمد بن عبد الله بن عتبة، قال: حدثني أبي، عن المسيب بن شريك بن عبد الوهاب بن عبد الله بن أبي بكرة، عن أبيه، عن أبي بكرة، قال: جاء إعرابي إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال:
يا عمر الخير جزيت الجنة ... أكس بنياتي وأمهنه
أقسم بالله لتفعلنه
فقال له عمر: فإن لم أفعل يكون ماذا؟ قال:
إذاً أبا حفصٍ لأذهبته
قال: فإذا ذهبت يكون ماذا؟ قال:
تكون عن حالي لتسألنه ... يوم تكون الأعطيات يمنه
والواقف المسئول بينهنه ... إما إلى نارٍ وإما جنه
قال: فبكى عمر حتى اخضلت لحيته، ثم قال: يا غلام أعطه قميصي هذا لذلك اليوم لا لشعره، أما والله ما أملك غيره.
نمو النبات مرتبط بطاعة اللهحدثني أحمد بن الهيثم الشبي، قال: حدثنا الحارث بن أبي أسامة، قال: حدثنا هوذة بن خليفة، قال: حدثنا عوف الأعرابي، عن محمد بن سيرين، قال: أصابوا في خزائن كسرى سلةً فيها حنطة كأمثال اللؤلؤ مكتوب فيها: هذا نبت في سنةٍ كان يعمل فيها بطاعة الله.
بكاء الشعراء على الشبابحدثنا علي بن سليمان الأخفش، قال: حدثني السكري، عن المهلبي، قال: حدثني إسحاق الموصلي، أحسبه عن ابن سلام، عن يونس، قال: ما بكت الأعراب في أشعارها شيئاً ما بكت الشباب وما بلغت كنهه، فاتبع هذا الكلام النمري، فقال:
ما كنت أوفي شبابي كنه عزته ... حتى انقضى فإذا الدنيا له تبع
قال يزيد: وسمعت أحمد بن المعذل يتعجب من بيت النمري بعد هفا ويقول: أما ترى حيث اشترط النمري حيث يقول:
ما واجه الشيب من عين وإن ومقت ... إلا لها نبوةٌ عنه ومرتدع
فتح أول الأسم في النسبة وعلة ذلك
قال القاضي: النمري منسوبٌ إلى النمر بن قاسط، وإنما فتح الميم في النسبة، وهي في الاسم قبل إضافته مكسورة، فراراً من ثقل الكسرة إلى خفة الفتحة، لما اجتمع في الاسم من الكسرات والياءات، وقد أتى هذا كثيراً فاشياً في ثلاثة أسماءٍ عند النسب، أحدهن النمري كما فسرناه والشقري في النسب إلى بني شقرة من بني تميم، والسلمي في النسب إلى بني سلمة من الأنصار، والشقرة الواحدة من شقائق النعمان، والسلمة حجارةٌ سود.
وفي علة تغيير الكسرة ونقلها في النسب إلى الفتحة حيث ذكرنا، وعلى ما بينا، وجهٌ آخر لم أجد أحداً تقدمني في استخراجه، وهو أنهم يسكنون أوسط ما كان فعل وإن كان أصله الحركة تخفيفاً مثل ملك وكتف وكان تخفيفه إذا اتصل به ياء النسب أولى وكانوا إلى تسكينه أحوج، فخففوه وفتحوا ثانيه عوضاً مما حذفوه، ولأنه قد ازداد بياء النسب ثقلاً، ولزمت الكسرة ما قبل الياء الأولى منها.
ممازحةحدثنا محمد بن يحيى الصولي، قال: حدثنا عون بن محمد الكندي، قال: خرجت مع محمد بن أبي أمية إلى ناحية الجسر ببغداد، فرأى فتى من أولاد الكتاب جميلاً فمازحه فغضب وتهدده، فطلب من غلامه دواته وكتب من وقته:
دون باب الجسر دارٌ لهوى ... لا أسميه ومن شاء فطن
قال كالمازح واستقلمني ... أنت صب عاشقٌ لي أو لمن؟
قلت سل قلبك يخبرك به ... فتحايا بعدما كان مجن
حسن ذاك الوجه لا يسلمني أبداً منه إلى غير حسن
ثم دفع الرقعة إليه فاعتذر وحلف أنه لم يعرفه.
يعاف المشرب المشتركحدثنا عبد الله بن منصور الحارثي، قال: حدثنا أبو إسحاق الطلحي، قال: حدثني عبيد الله بن القاسم، قال: عشق التيمي جاريةً عند بعض النخاسين، فشكا وجده ومحبته إلى أبي عيسى الرشيد، فقال أبو عيسى للمأمون: يا أمير المؤمنين! إن التيمي يجد بجاريةٍ لبعض النخاسين، وقد كتب إلي بيتين يسألني فيهما، فقال: له: وما كتب إليك؟ فأنشده:
يا أبا عيسى إليك المشتكى ... وأخو الصبر متى عيل شكا
ليس لي صبرٌ على هجرانها ... وأعاف المشرب المشتركا
قال: فأمر له بثلاثين ألف درهم فاشتراها.
أبيات لحسان في مدح الخمر وذمهاحدثنا محمد بن سهل بن الفضل الكاتب، قال: حدثنا أبو زيد، قال: حدثني هارون بن عبد الله الزهري، قال: حدثنا يوسف بن عبد العزيز بن المجاشون، عن أبيه، قال: قال حسان بن ثابت: أتيت جبلة بن الأبهم، الغساني وقد مدحته، وكان حسان قد اشتكى، فقال: له: يا أبا الوليد ما تشتهي، قال: ما لا تقدرون عليه، قال نتكلفه لك، قال: رطباتٌ محلقماتٌ من بنات ابن طاب، قال: هذا مما لا نقدر عليه ببلادنا هذه، فقال: يا أبا الوليد: إن الخمر قد شغفتني فاذممها لعلي أرفضها، فقال:
لولا ثلاثٌ هن في الكأس لم يكن ... لها ثمن من شاربٍ حين يشرب
لها نزقٌ مثل الجنون ومصرع ... دني وأن العقل ينأى ويعزب
فقال: أفسدتها فحسنها، فقال:
ولولا ثلاثٌ هن في الكأس أصبحت ... كأنفس مالٍ يستفاد ويطلب
أمانيها والنفس تظهر طيبها ... على حزنها والهم يسلى فيذهب
قال: لا جرم لا أدعها أبداً.
نصيحة أب لابنه
حدثنا أبي رضى الله عنه، قال: حدثنا أبو أحمد الختلي، قال: حدثني القاسم بن الحسن الزبيدي، قال: حدثنا سهل بن محمد، قال حدثني العتبي، قال: حدثني أبي، عن أبي خالد عن سفيان بن عمرو بن عتبة، قال: لما بلغت خمس عشرة سنة، قال لي أبي: أي بني! قد انقطعت عنك شرائع الصبا، فاختلط بالخير تكن من أهله، ولا تزايله فتبين منه كله، ولا يغرنك من اغتر بالله عز وجل فيك فمدحك بما تعلم خلافه من نفسك، واعلم أنه يا بني لا يقول أحدٌ في احدٍ من الخير ما لا يعلم إذا رضي، إلا قال فيه مثله من الشر مما ليس فيه إذا سخط، فاستأنس بالوحدة من جلساء السوء تسلم من عواقبهم، ولا تنقل حسن ظني بك إلى غيره، قال: سفيان فما زال كلام أبي لي قبلةً أنتقل معها ولا أنتقل عنها وما شيءٌ أحمد مغبةً من قبولٍ من ناصح معروفٍ نصحه.
فليغننا أصواتاً بدلاً من العطاء
حدثنا أحمد بن إبراهيم الطبري، قال: حدثني محمد بن القاسم بن مهويه، قال: وجدت في كتاب أبي بخطه، قالك لما بويع إبراهيم بن المهدي ببغداد قل المال عنده فكان يلجأ إليه أعراب من أعراب السواد وغيرهم، فاحتبس عليهم العطاء فجعل إبراهيم يسوفهم بالمال ولا يرون لذلك حقيقة، إلى أن اجتمعوا يوماً فخرج رسول إبراهيم إليهم يصرح لهم أنه لا مال عنده، فقال قومٌ من غوغاء أهل بغداد: فأخرجوا إلينا خليفتنا فليغن لأهل هذا الجانب ثلاثة أصوات، ولأهل ذلك الجانب ثلاثة أصوات، فيكون عطاء لهم، فأنشدني دعبل في ذلك:
يا معشر الأعراب لا تغلطوا ... خذوا عطاياكم ولا تسخطوا
فسوف يعطيكم حنينيةً ... لا تدخل الكيس ولا تربط
والمعبديات لقوادكم ... وما بهذا أحدٌ يغبط
فهكذا يرزق أجناده ... خليفةٌ مصحفه البربط
قال القاضي: البربط العود، وأصله بالفارسية والعرب تسميه المزهر، وقد زعم بعضهم أن هذا الضرب من آلات الملاهي تسمى العود في سالف الأمم وغابرها، وأن من أسمائه عند العرب الكران والبربط والموتر، ولنا في هذا قولٌ ليس هذا موضع ذكره.
المجلس الحادي والأربعونوجوب ضبط العلم وتقييد الحكمة حدثنا عبد الله بن سليمان بن الأشعث السجستاني، قال: أخبرنا سليمان بن داود، قال: حدثنا عبد الله بن وهب، قال: حدثني عبد الرحمن بن سليمان، عن عقيل بن خالد، عن عمه شعيب، أن شعيباً حدثه ومجاهداً أن عبد الله بن عمرو: حدثهما أنه، قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أكتب ما سمعت منك؟ قال: نعم، قال: عند الغضب وعند الرضا، قال: نعم، إنه لا ينبغي أن أقول إلا حقاً.
قال القاضي: في هذا الخبر دلالة واضحة على أنه من الصواب ضبط العلم وتقييد الحكمة، بالكتاب حفظاً لهما وحرزاً من تشذ بهما، وعتاداً يرجع إليها، ويفزع الناسي إليهما فيذكر ما نسيه منه، ويستدل على ما عزب عنه، وعلى فساد قول من ذهب إلى كراهية ذلك، وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " قيدوا العلم بالكتاب " ، وجاء في الأثر: أن سليمان بن داود، قال لبعض من أسره من الشياطين: مالكلام؟ قال: ريح، قال: فما يقيده، قال: الكتاب، وفي إحضار ما ورد في هذا المعنى وإيراد الحجج فيه طول لا حاجة بنا إلى ذكره في هذا الموضع.
نصائح غالية للأحنف بن قيسحدثنا محمد بن الحسن بن دريد، قال: أخبرنا أبو عمرو، عن الثوري، قال: أخبرني رجل من أهل البصرة، عن رجل من بني تميم، قال حضرت مجلس الأحنف بن قيس وعنده قومٌ مجتمعون في أمرٍ لهم، فحمد الله تعالى وأثنى عليه، ثم قال: إن من الكرم منع الحرم، ما أقرب النقمة من أهل البغي، لا خير في لذةٍ تعقب ندماً، لن يهلك ولن يفتقر من زهد، رب هزلٍ قد عاد جداً، من أمن الزمان خانه، ومن تعظم عليه مهانه، دعوا المزاح فإنه يورث الضغائن، خير القول ما صدقه الفعل، واحتملوا لمن أدل عليكم، واقبول عذر من اعتذر إليكم، أطع أخاك وإن عصاك، وصله وإن جفاك، انصف من نفسك قبل أن ينتصف منك، وإياك ومشاورة النساء، واعلم أن كفر النعمة لؤم، وصحبة الجاهل شؤم، ومن الكرم الوفاء بالذمم، ما أقبح القطيعة بعد الصلة، والجفاء بعد اللطف، وأقبح العداوة بعد الود، لا تكونن على الأساءة أقوى منك على الإحسان، ولا إلى البخل أسرع إلى البذل، وأعلم أن لك من دنياك ما أصلحت به مثواك، فأنفق في حق، ولا تكونن خازناً لغيرك، وإذا كان الغدر في الناس موجوداً فالثقة بكل أحدٍ عجز، أعرف الحق لمن عرفه لك، واعلم أن قطيعة الجاهل تعدل صلة العاقل.
قال: فما رأيت كلاماً أبلغ منه. فقمت وقد حفظته.
قال القاضي: هذا لعمري من أشرف الكلام وأبلغه وأحسنه، وأبلغ الخطاب وأبينه، فرحم الله أبا بحر كيف أشار بالرشد، وهدى إلى القصد، وما فصل من فصول خطبته هذه إلا وقد وردت الآثار بما يؤيده، مع ما في العقول مما يدعو إليه ويؤكده، ومجالسنا هذه تتضمن كثيراً مما ورد في معناه، إن شاء الله، وأيد بعونه وتوفيقه.
بم سدت قومك؟
حدثنا محمد بن القاسم الأنباري، قال: حدثنا إسماعيل بن إسحاق، قال: حدثنا نصر بن علي، قال: حدثنا الأصمعي، قال: حدثني ابن المهيبي رجل من الأنصار، قال: قال معاوية لعرابة الأوسي: بم سدت قومك؟ قال: كنت أعطي سائلهم، وأعفو عن جاهلهم، وأسعى في مصالحهم، فمن فعل مثل فعلي فهو مثلي، ومن زاد عليه فهو خيرٌ مني ومن قصر عنه فأنا خير منه.
كيف قال فيك ذو الرمة هذه الأشعار؟
حدثنا الحسين بن القاسم الكوكبي، قال: حدثنا أبو المهلهل الحداني، قال: ارتحلت إلى الرمال في طلب مي صاحبة غيلان ذي الرمة، فما زلت أطلب موضع بيتها حتى أرشدت إلى البيت، فإذا خيمة كبيرةٌ على بابها عجوز هتماء فسلمت عليها، ثم قلت لها: أين منزل مي؟ قالت: مي ذي الرمة، قلت: نعم، قالت: أنا مي، فعجبت ثم قلت لها: العجب كل العجب من ذي الرمة وكثرة ما قال فيك، ولست أرى من الشاهد والوصف شيئاً، فقالت: لا تعجبن يا هذا منه، فإني سأقوم بعذره عنك، قال: ثم قالت: يا فلانة، قال: فخرجت من الخيمة جاريةٌ ناهدةٌ عليها برقع، فقالت: أسفري عنك، فلما أسفرت تحيرت لما رأيت من جمالها وبراعتها وفصاحتها، فقالت لي علق ذو الرمة بي وأنا في سنها، فقلت: عذره الله ورحمه، أنشديني ما قال فيك، قال: فجعلت تنشد وأكتب أنا ما كنت مقيماً عندها، ثم ارتحلت. فكانت مما أنشدتني قوله:
خليلي لا ربعٌ بوهبين مخبرٌ ... ولا ذو حجى يستنطق الدار يعذر
فسيرا فقد طال الوقوف ومله ... حراجيج أمثال الحنيات ضمر
فيا صاح لو كان الذي بي من الهوى ... به لم أذره أن يعزى وينظر
خليلي هلا عجت إذ أنا واقفٌ ... أغيض البكا في دار مي وأزفر
القصيدة...
قوله: عجوز هتماء: الهتم: سقوط الأسنان من فوق ومن أسفل، يقال: امرأة هتماء ورجل أهتم، ويقال: ضربه فهتم فاه، قال الفرزدق:
إن الأراقم لن ينال قديمها ... كلبٌ عوى متهتم الأسنان
مرثية من أحسن المراثيحدثنا أبي رضي الله عنه، قال: حدثنا أبو أحمد الختلي، قال: أخبرنا القاسم بن الحسن، قال: حدثنا زكريا بن أبي خالد البلدي، قال: حدثني إسحاق بن إبراهيم الوراق، عن الأصمعي، قال: خرجت إلى مقابر البصرة فإذا امرأة واقفةٌ على قبر، وهي تندب وتقول:
هل أخبر القبر سائليه ... وقر عيناً بزائريه
أم هل تراه أحاط علماً ... بالجسد المستكن فيه
يا موت لو تقبل افتداءً ... كنت بنفسي سأفتديه
أنعي بريداً لمجتديه ... أنعي بريداً لمعتفيه
أنعي بريداً إلى حزوبٍ ... تحسر عن منظرٍ كريه
أنعت من لا يحيط علماً ... بوصفه ندب واصفيه
يا جبلاً كان ذا امتناع ... وركن عز لآمليه
يا نخلةً طلعها نضيدٌ ... يقرب من كف مجتنيه
ويا مريضاً على فراشٍ ... تؤذيه أيدي ممرضيه
ويا صبوراً على بلاءٍ ... كان به الله مبتليه
يا موت ماذا أردت مني ... حققت ما كنت أتقيه
دهر رماني بفقد إلفي ... أذم دهري وأشتكيه
آمنك الله كل روع ... وكل ما كنت تتقيه
أسكنك الله في محل ... يقصر عن وصف ذاكريه
قال القاضي رحمة الله عليه: هذه المراثي من أحسن المراثي وأبلغها من القلوب، للطف معانيها، ورقة حواشيها، وقرب ألفاظها وعذوبتها، وسماحة مجاريها وطلاوتها، وقل ما أثر في قلبي منظوم تأثيرها عند أنشادها، وكانت لي ابنة لطيفة المحل من قلبي، نفيسة المنزلة في نفسي، ذات محاسن كثيرة، وفضائل غزيرة، ورزقت حظاً من حفظ التلاوة والآداب الدينية، مع عقل رصينٍ ونزاهة ودين، وهبها الله ليبفضله ونعمته، ثم استأثر بها بعدله ومشيئته، فسلمت للرب جل جلاله قضاءه فيها وعرفت حسن اختياره لي ولها، إذ كان خالقها أملك بها من والدها ومنشيها، وأرحم بها من ثاكلها، وصابرت عظيم المصاب بها، ورضيت بثواب الله عوضاً منها، ولهجت بهذه الأبيات التي قدمت ذكرها فمكثت زماناً أقطع ليلي ونهاري بترجيعها والترنم بها، وأستشفي بفيض دموعي ورفع عفيرتي بتردادها، ولإعجابي بها رأيت إتباعها بذكر ما حضرني من الأخبار التي تضمنتها أنساً مني بإعادتها، ولم أدخل بعض الآتية بها في بعض إذ كانت قد وقعت إلي من جهاتٍ شتى وطرق مختلفة.
فمن ذلك ما حدثنا أحمد بن سليمان الطوسي، قال: أخبرنا الزبير، قال: قال عبد الملك بن قريب الأصمعي: خرجت ذات يوم في البادية فإذا أنا بامرأة إلى جانب قبر وهي تشير بيدها، فقلت: ينبغي أن تكون هذه تندب أو ترثي، فدنوت حتى قربت منها فإذا هي تقول:
هل خبر القبر سائليه ... أم قر عيناً بزائريه
أم هل تراه أحاط علماً ... بالجسد المستكن فيه
لو يعلم القبر من يواري ... تاه على كل من بليه
يا قبر لو تقبل افتداءً ... كنت بنفسي سأفتديه
أنعي بريداً إلى حزوب ... تحسر عن منظرٍ كريه
أندب من لا يحيط علماً ... بوصفه ندب نادبيه
يا جبلاً كان فا امتناعٍ ... ةركن عز لآمليه
أنعي بريداً لمجتنيه ... أنعي بريداً لمعتفيه
يا نخلة طلعها نضيدٌ ... يقرب من كف مجتنيه
تحلو نعم عنده سماحاً ... وطيبها راتب بفيه
أيا صبوراً على بلاءٍ ... كان به الله مبتليه
قال: عبد الملك فحفظت ما قالت، ثم دنوت إليها، فقلت لها: أعيدي لفظك رحمك الله، قالت: أما والله لو علمت أن أحداً يسمعني ما تفوهت به، قال: فقلت لها: إني أسألك ألا أعدتيه، فقالت: يا شيخ سوءةً لك، أقول لك ما أقول وتعيد علي الكلام فقلت لها: إني أسألك إلا سمعتيه مني، فأقبلت علي بوجهها، وسفرت عن قناعها، وقالت: اللهم إن يأت في الدنيا أصمعي فهذا هو، فقلت: أنا هو، من الفتى تندبين؟ فقالت: أخي وابن أمي.
ورواية ثالثة حدثنا الحسن بن القاسم الكوكبي، قال: حدثنا محمد بن زكريا الغلابي، قال: حدثنا إبراهيم بن عمر، قال: سمعت الأصمعي أنه أتى المقابر ذات يومٍ فإذا جارية كادت أن تختفي بين قبرين قلة ودمامة، وهي تبكي بقلب موجع، وكلامٍ حزينٍ، ولفظ كأنه خرزاتٌ نظمن تحدرن، وقد أدخلت رأسها في لوح القبر، وهي تقول:
هل أخبر القبر سائليه ... أم قر عيناً بزائريه
أم هل تراه أحاط علماً ... بالبدن المستكن فيه
لو يعلم القبر ما يواري ... تاه على كل من يليه
يا موت لو تقبل افتداءً ... كنت بنفسي سأفتديه
أنعي بريداً لمجتنيه ... أنعي بريداً لمعتفيه
أبكي بريداً إلى حزوبٍ ... تحسر عن منظرٍ كريه
يا جبلاً كان ذا امتناع ... وركن عز لآمليه
يا نخلةً طلعها هضيمٌ ... يقرب من كف مجتنيه
ويا مريضاً على فراشٍ ... تؤذيه أيدي ممرضيه
ويا صبوراً على بلاءً ... كان به الله مبتليه
يا دهر ماذا أردت مني ... حققت ما كنت أتقيه
دهرٌ رماني بفقد صبري ... أذم دهري وأشتكيه
ذهبت يا موت بابن أمي ... بالسيد الفاضل الوجيه
المجلس الثاني والأربعون
فضل ابن عباس
=====================

========================
كتاب : الجليس الصالح والأنيس الناصح
المؤلف : المعافى بن زكريا
حدثنا محمد بن حمدان بن سفيان الطرائقي، قال: حدثنا الحسن بن محمد بن الصباح الزعفراني، قال: حدثنا يحيى بن عباد، قال: حدثنا خالد بن أبي خالد أبو العلاء، قال: حدثنا حصين وليس ابن عبد الرحمن السلمي، قال: بينما سائلٌ يسأل وابن عباس في الملأ جالس، فقال له ابن عباس: يا سائل، فقال: لبيك، قال: أتشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتصلي الخمس وتصوم رمضان؟ قال: نعم، قال: فحق علينا أن نصلك قال: فنزع ثوباً كان عليه وكساه إياه، وقال عند ذلك: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " أيما مسلمٍ كسا مسلماً ثوباً كان في حفظ الله تعالى ما بقيت منه رقعة " .
تعليق المؤلفقال القاضي: وفي هذا الحديث ما يدعو إلى فعل الخير، ويحض عليه، ويرغب في اصطناع المعروف، ويندب إليه، ورحمة الله ورضوانه على ابن عباس ترجمان التنزيل، وحبر التأويل، وبحر العلوم والحكم، والجود والكرم، فلقت أجيبت فيه دعوة ابن عمه صلى الله عليه وسلم، نبي الرحمة إذ دعا له بالفقه والحكمة، فأقبس علمه لقاصديه من الأمة، وأفاض فيهم مكارمه، وأفادهم غرائب علم الدين ومسائله.
عينٌ للحجاج يوفق في مهمته
حدثنا محمد بن الحسن بن دريد، قال: أخبرنا أبو حاتم، عن الأصمعي، عن يونس، عن أبي عمرو، قال: بعث الحجاج - إذ كان يقاتل شبيباً والحرورية بالعراق - إلى صاحب أهل دمشق، فلما أتاه، قال له: اطلب لي من أصحابك رجلاً جليداً بئيساً ذا عقل ورأي، فقال: أصلح الله الأمير، وما أحسبني إلا وقد أصبته، إن في أصحابي رجلاً من حكم بن سعد يقال له: الجراخ جلد صحيح العقل يعد ذلك من نفسه، يعني البأس، قال: فابعث إليه فلما رآه الحجاج قال له: ادن يا طويل، فلم يزل يقول له ذلك ويشير إليه بيده حتى لصق به أو كاد، ثم قال: اقعد، فقعد تحك ركبته ركبته، وليس عنده غيره، ثم قال له: قم الساعة إلى فرسك فاحسسه وأعلفه وأصلح منه، ثم خذ سرجه ولجامه، وسلاحك فضعه عند وتد فرسك، ثم ارقب أصحابك حتى إذا أخذوا مضاجعهم ونوموا فاشدد على فرسك سرجه ولجامه، واصبب عليك سلاحك وخذ رمحك واخرج حتى تأتي إلى عسكر أعداء الله تعالى تعاينهم وتنظر إلى حالاتهم وما هم عليه، ثم تصبحني غداً، ولا تحدثن شيئاً حتى تنصرف، فإذا انصرفت إلى أصحابك فلا تخبرهم بما عهدته إليك.
فنهض الجراح، فلما أتى أصحابه وهم متشوفون له سألوه عن أمره، فقال: سألني الأمير عن أمر أهل دمشق، واعتل لهم به، ثم فعل ما أمره به الحجاج، ثم خرج من العسكر يريد عسكر القوم، فلما كان في المنصف من العسكرين لقى رجلاً في مثل حاله، فعلم الجراح أنه عين العدو يريد مثل الذي خرج له فتواقفا وتساءلا، ثم شد عليه الجراح فقتله، وأوثق فرسه برحله، ثم نفذ إلى العسكر الذي فيه القوم فعاينه، وعرف من حاله وحال أهله ما أمر به، ثم انصرف إلى القتيل فاحتز رأسه وأخذ سلاحه وجنب فرسه، وعلق الرأس في عنق فرسه، ثم أقبل.
وصلى الحجاج صلاة الصبح وقعد في مجلسه، وأمر بالأستار فرفعت وهو متشوف منتظرٌ الجراح، وجعل يرمي بطرفه إلى الناحية التي يظن أنه يقبل منها، فبينا هو كذلك إذ أقبل الجراح يجنب الفرس والرأس منوطٌ في لبان فأقبل الحجاج يقول ويقلب كفيه: فعلت ما أمرتك به؟ قال: نعم، وما لم تأمرني، حتى وقف بين يديه وسلم، ثم نزل وحدث الحجاج بما صنع وما عاين من القوم، فلما فرغ من حديثه زبره الحجاج وانتهره، وقال له الحجاج: انصرف فانصرف، فبينا هو في رحله إذ أقبل فراشون يسألون عن الجراح، معهم رواق وفرشٌ وجارية وكسوة، فدلوا على رحله، فلم يكلموه حتى ضربوا له الرواق وفرشوا له فرشاً واقعدوا فيه الجارية، ثم أتوه فقالوا: انهض إلى صلة الأمير وكرامته، فلم يزل الجراح بعدها يعلو ويرتفع حتى ولي أرمينية فاستشهد، قتلته الخزر.
قال أبو حاتم: الجراح مولى مسكان أبي هانىء أي أبي نواس، وذلك عنى أبو نواس بقوله حيث يقول:
يا شقيق النفس من حكم ... نمت عن ليلي ولم أنم
معنى البئيس واللبان
قال القاضي: في هذا الخبر: فاطلب لي من أصحابك رجلاً جليداً بئيساً، البئيس: الشجاع الشديد في الحرب، وهو من البأس، والبأس: الحرب قال أبو كبير الهذلي في البئيس:
ومعي لبوسٌ للبئيس كأنها ... قرنٌ بجبهة ذي نعاج مجفل
من قول الله عز وجل: " بعذابٍ بئيسٍ " معناه: شديد، وقول الراوي في هذا الخبر: والرأس منوطٌ في لبان فرسه، اللبان: الصدر قال عنترة:
يدعون عنتر والرماح كأنها ... أشطان بئرٍ في لبان الأدهم
ما زلت أرميهم بثغرة نحره ... ولبانه حتى تسربل بالدم
فازور من وقع القنا بلبانه ... وشكا إلي بعبرةٍ وتحمحم
وأما اللبان بالضم فهو الكندر، واللبانة: الحاجة، قال لبيد:
قض اللبانة لا أبالك واذهب ... والحق بأسرتك الكرام الغيب
فأما اللبان بالكسر فهو ما يدر به ثدي النساء، ويقال له: منهن اللبان ومن غيرهن من إناث الحيوان: لبن، قال الأعشى:
رضيعي لبانٍ ثدي أم تقاسما ... بأسحم داجٍ عوض لا نتفرق
وقال بعض العرب:
دعتني أخاها أم عمروٍ ولم أكن ... أخاها ولم أرضع لها بلبان
وقد كثر استعمال الناس لفظ اللبن في اللبان، واستفاض في الآثار، وكلام فقهاء السلف والخلف ومنطق الخاصة والعامة، وأنكره بعض أهل اللغة.
الحجاج يكثر الخير في البيوتحدثنا الحسين بن القاسم الكوكبي، قال: حدثنا ابن أبي سعد، قال: أخبرنا علي بن الحسن، قال: أخبرني إبراهيم بن محمد، عن الهيثم بن الربيع، قال: قال الحجاج: إني لا أرى الناس قد قلوا على موائدي فما بالهم؟ فقال له رجل من عرض الناس: أصلح الله الأمير، إنك أكثرت خير البيوت فقل غشيان الناس لطعامك، فقال: الحمد لله وبارك الله عليك، من أنت؟ قال: أنا الصلت بن قران العبدي، فأحسن إليه.
الخلفاء يغارون من أبيات جيدة قيلت في غيرهمحدثنا أحمد بن العباس العسكري، قال: حدثنا عبد الله بن أبي سعد، قال: حدثنا عبد الله بن محمد بن موسى بن حمزة، مولى بني هاشم، قال: حدثني أحمد بن موسى بن حمزة، قال: الفضل بن يزيغ، قال: رأيت مروان بن أبي حفصة قد دخل على المهدي بعد موت معن بن زائدة في جماعةٍ من الشعراء وفيهم سلم الخاسر وغيره، فأنشده مديحاً، فقال: من؟ قال: شاعرك مروان بن أبي حفصة، فقال له المهدي: ألست القائل:
أقمنا باليمامة بعد معنٍ ... مقاماً لا نريد به زيالا
وقلنا أين نرحل بعد معنٍ ... وقد ذهب النوال فلا نوالا
قد جئت تطلب نوالنا وقد ذهب النوال، لا شيء لك عندنا، جروا برجله. قال: فجروا برجله حتى أخرج، فلما كان في العام المقبل تلطف حتى دخل مع الشعراء - وإنما كانت الشعراء تدخل على الخلفاء في ذلك الحين في كل عام مرة - قال: فمثل بين يديه وأنشده قصيدته التي يقول فيها:
طرقتك زائرةٌ فحي خيالها ... بيضاء تخلط بالحياء دلالها
قادت فؤادك فاستقاد وقبلها ... قاد القلوب إلى الصبا فأمالها
قال: فأنصت لها حتى إذا بلغ إلى قوله:
هل تطمسون من السماء نجومها ... بأكفكم أو تسترون هلالها
أو تدفعون مقالةً عن ربكم ... جبريل بلغها النبي فقالها
شهدت من الأنفال آخر آيةٍ ... بتراثهم فأردتم إبطالها
يعني بني علي وبني العباس، قال: فرأيت المهدي وقد زحف من صدر مصلاه حتى صار على البساط إعجاباً بما سمع، ثم قال له: فإنها لأول مائة ألف أعطيها شاعر في خلافة بني العباس.
قال: فلم تلبث الأيام أن أفضت الخلافة إلى هارون الرشيد، قال: فرأيت مروان بن أبي حفصة ماثلاً مع الشعراء، بين يدي الرشيد وقد أنشده شعراً، فقال له: من؟ قال: شاعرك مروان بن أبي حفصة، فقال له: ألست القائل البيتين اللذين له في معن اللذين أنشدهما المهدي: خذوا بيده فأخرجوه، فإنه لا شيء له عندنا، فأخرج.
فلما كان بعد ذلك بيومين تلطف حتى دخل عليه فأنشده قصيدته التي يقول فيها:
لعمرك لا أنسى غداة المحصب ... إشارة سلمى بالبنان المخضب
وقد صدر الحجاج إلا أقلهم ... مصادر شتى موكباً بعد موكب
قال: فأعجبته، قال له: كم قصيدتك بيتاً؟ قال له: ستون أو سبعون بيتاً، فأمر له بعدد أبياتها ألوفاً، فكان ذلك رسم مروان حتى مات.
مزرد ينتقم لحرمانهحدثنا محمد بن القاسم الأنباري، قال: حدثني أبي، قال: حثنا أحمد بن عبيد، قال: أخبرنا الأصمعي.
قال: كنت يوماً عند هارون أمير المؤمنين، فقدمت إليه فالوذجة، فقال: يا أصمعي! قلت: لبيك يا أمير المؤمنين، فقال: حدثني حديث مزرد أخي شماخ، فقلت: يا أمير المؤمنين! إن مزرداً كان غلاماً نهماً جشعاً، وكانت أمه تؤثر عيالها بالزاد عليه، وكان ذلك يغيظه ويغمه، فذهبت أمه يوماً في بعض حقوق أهلها وخلفت مزرداً في رحلها، فدخل الخيمة وأخذ صاعي دقيق وصاع عجوةٍ وصاع سمن، فضرب بعضه ببعض وأكله، ثم أنشأ يقول:
ولما مضت أمي تزور عيالها ... أغرت على العكم الذي كان يمنع
خلطت بصاعي حنطة صاع عجوةٍ ... إلى صاع سمنٍ وسطه يتربع
ودبلت أمثال الأثافي كأنها ... رءوس نقادٍ قطعت يوم تجمع
وقلت لبطني اشبع اليوم إنه ... حمى أمنا مما تفيد وتجمع
فإن كنت مصفوراً فهذا دواؤه ... وإن كنت غرثاناً فذا يوم تشبع
قال: فاستضحك هارون حتى أخذ على بطنه، واستلقى. ثم قعد، فمد يده وقال: خذوا باسم الله.
معنى النهم والنقد، والصفر والغرثقال القاضي: قوله: كان غلاماً نهماً، يعني حريصاً على الأكل وهو كالشره والجشع، يقال: نهم ينهم نهماً فهو نهم، مثل شره يشره شرهاً ويقال أيضاً: رجل منهوم، وقد قدمنا القول في ذلك.
والنقاد: الغنم الصغار التي هي شرطٌ ليست خيرات ولا حرزات، يقال لها: نقد، كما قال الراجز:
لو كنتم شاءً لكنتم نقدا
وقول مزردٍ يخاطب بطنه: فإن كنت مصفوراً، يعني: وإن كان بك الصفر وهو داء في البطن يهيج الجوع على صاحبه، قال الشعر:
لا يغمز الساق من أين ولا نصب ... ولا يعض على شرسوفه الصفر
وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال: " لا عدوى ولا هامة ولا صفر " ، وكان العرب ترى أن ذلك يعدي، فتأول قوم هذا الخبر على أنه عني به هذا المعنى وذهب به آخرون إلى أنه الشهر المسمى صفراً، وإبطال ما كانت العرب تفعله في تقديمه إلى المحرم على ما كانوا يذهبون إليه في النسيء.
واستقصاء بيان هذا مرسوم في موضعه، فأما الصفر في بيت مزرد وفي البيت الذي استشهدنا به، فإنه الداء الذي وصفناه دون غيره.
وأما قوله: فإن كنت غرثاناً فإنه من الغرث، وهو الجوع، يقال: رجل غرثان أي جائع، وامرأة غرثى، مثل غضبان وغضبى، قال الأعشى:
تبيتون في المشتى ملاءً بطونكم ... وجاراتكم غرثى يبتن خمائصا
وتروي غر مكان غرثى، وقال حسان بن ثابت:
حصانٌ رزانٌ ما تزن بريبةٍ وتصبح غرثى من لحوم الغوافل
رد على عتابحدثنا محمد بن يحيى الصولي، قال: حدثنا أحمد بن يزيد المهلبي، قال: سمعت هبة الله ابن إبراهيم بن المهدي، يقول: كتب أبي إلى بعض من عتب عليه في شيء: لو عرفت الحسن لتجنبت القبيح، ولو استحليت الحلم لاستمررت الخرق، وأنا وأنت كما قال زهير:
وذي خطلٍ في القول يحسب أنه ... مصيبٌ فلم يلمم به فهو قائله
عبأت له حلمي وأكرمت غيره ... وأعرضت عنه وهو بادٍ مقاتله
وإن من إحسان الله تعالى إلينا وإساءتك إلى نفسك أنا أمسكنا عما تعلم، وقلت ما لا تعلم، وتركنا الممكن وتناولت المعجز.
أشعب يتوب عن لحم الجداءحدثنا المظفر بن يحيى بن أحمد المعروف بابن الشرابي، قال: حدثنا أبو العباس الرثدي، قال: أخبرنا أبو إسحاق الطلحي، قال: أخبرني أبو محمد عيسى بن عمر بن عيسى التيمي، قال:
كان زياد بن عبد الله الحارثي خال أبي العباس أمير المؤمنين والياً لأبي العباس على مكة، فحضر أشعب مائدته في أناسٍ من أهل مكة، وكانت لزياد بن عبد الله الحارثي صحفة يخص بها، فيها مضيرةٌ من لحم جديٍ، فأتى بها فأمر الغلام أن يضعها بين يدي أشعب وهو لا يدري أنها المضيرة، فأكلها اشعب، يعني أتى على ما فيها، فاستبطأ زياد بن عبد الله المضيرة، فقال: يا غلام! الصحفة التي كنت تأتيني بها، قال: قد أتيت بها - أصلحك الله - فأمرتني أن أضعها بين يدي أبي العلاء، قال: هنأ الله أبا العلاء وبارك له، فلما رفعت المائدة، قال: يا أبا العلاء - وذلك في استقبال شهر رمضان - قد حضر هذا الشهر المبارك، وقد رققت لأهل السجن لما هم فيه من الضر، ثم لانضمام الصوم عليهم، وقد رأيت أن أصيرك إليهم فتلهيهم بالنهار وتصلي بهم الليل، وكان أشعب حافظاً لكتاب الله، فقال: أو غير ذلك - أصلح الله الأمير - قال: وما هو؟ قال: أعطي الله عهداً ألا آكل مضيرة جديٍ أبداً.
أول تعرف الشعراء بأبي تمامحدثنا محمد بن محمود الخزاعي، قال: حدثنا علي بن الجهم، قال: كان الشعراء يجتمعون في كل جمعةٍ في القبة المعروفة بهم في جامع المدينة، فيتناشدون الشعر ويعرض كل واحد منهم على أصحابه ما أحدث من القول بعد مفارقتهم في الجمعة التي قبلها.
فبينا أنا في جمعة من تلك الجمع، ودعبل وأبو الشيص وابن أبي فنن يجتمعون والناس يستمعون إنشاد بعضنا بعضاً، أبصرت شاباً في أخريات الناس جالساً في زي الأعراب وهيئتهم، فلما قطعنا الإنشاد قال لنا: قد سمعت إنشادكم منذ اليوم، فاسمعوا إنشادي، قلنا: هات، فأنشدنا:
فحواك عينٌ على نجواك يا مذل ... حتام لا ينقضي من قولك الخطل
فإن أسمج من تشكو إليه هوى ... من كان أحسن شيء عنده العذل
كأنما جاد مغناه فغيره ... دموعنا يوم بانوا وهي تنمهل
ولو ترانا وإياهم وموقفنا ... في موقف البين لاستهلالنا زجل
من حرقةٍ أطاعتها فرقةٌ أسرت ... قلباً ومن عذلٍ في نحره غزل
وقد طوى الشوق في أحشائنا بقرٌ ... عين طوتهن في أحشائها الكلل
ثم مر فيها حتى انتهى إلى قوله في مدح المعتصم:
تغاير الشعر فيه إذ سهرت له ... حتى ظننت قوافيه ستقتتل
قال: فعقد أبو الشيص عند هذا البيت خنصره ثم مر فيها إلى آخرها، فقلنا: زدنا فأنشدنا:
دمنٌ ألم بها فقال سلامٌ ... كم جل عقد ضميره الإلمام
ثم أنشدناها إلى آخرها، وهو يمدح فيها المأمون، فاستزدناه فأنشدنا قصيدته التي أولها:
قدك اتئب أربيت في الغلواء ... كم تعذلون وأنتم سجرائي
حتى انتهى إلى آخرها، فقلنا له: لمن هذا الشعر؟ فقال: لمن أنشدكموه، قلنا: ومن تكون؟ قال: أبو تمام حبيب بن أوس الطائي، قال أبو الشيص: تزعم أن هذا الشعر لك وتقول:
تغاير الشعر فيه إذ سهرت له ... حتى ظننت قوافيه ستقتتل
قال: نعم، لأني سهرت في مدح ملكٍ ولم أسهر في مدح سوقة، فقربناه حتى صار معنا في موضعنا، ولم نزل نتهاداه بيننا، وجعلناه كأحدنا، واشتد إعجابنا به لدماثته وظرفه، وكرمه وحسن طبعه، وجودة شعره، وكان ذلك اليوم أول يوم عرفناه فيه، ثم تراقت حاله حتى كان من أمره ما كان.
شرح وإعرابقال القاضي: قول أبي تمام: يا مذل، المذل، الفتور والخدر، قال الشاعر:
وإن مذلت رجلي دعوتك أشتكي ... بدعواك من مذلٍ بها فيهون
وقوله:
حتى ظننت قوافيه ستقتتل
اسكن الياء وحقها النصب لضرورة الشعر، وقد جاء مثله في كثير من العربية، ومن ذلك قول الأعشى:
فتى لو ينادي الشمس ألقت قناعها ... أو القمر الساري لألقى المقالدا
وقال رؤبة:
كأن أيديهن بالقاع القرق ... أيدي جوارٍ يتعاطين الورق
وقد قرأ بعض النحويين من القرأة حرفاً من القرآن على هذه اللغة في رواية انتهت إلينا عنه، ذلك أن أبي حدثني قال: حدثنا محمد بن معاذ بن قرة الهروي، قال: حدثنا علي بن خشرم، قال: سمعت الكسائي يقرأ: " وإني خفت الموالي من ورائي " قال:
كأن أيديهن بالقاع القرق ... أيدي جوارٍ يتعاطين الورق
والمعروف في هذا الموضع من التلاوة قراءتان، إحداهما: " وإني خفت الموالي " بمعنى: قلت الموالي، فالموالي في هذه القراءة ساكنة، وهي في موضع رفع بالفعل.
رويت هذه القراءة عن عثمان بن عفان رضي الله عنه وعدد من متقدمي القرأة، والقراءة الثانية: وإني خفت، من الخوف الموالي بالنصب، إذ هي مفعول بها.
وهذا باب واسع مستقصى في كتبنا المؤلفة في علوم التنزيل والتأويل، والمعروف مما نقله رواة الشعر في بيت الأعشى: فتى لو ينادي الشمس، فيه وجهان من التفسير.
أحدهما: أن يكون من الدعاء والمناداة، والمعنى: لو دعاها لأجابته مذعنةً طائعة. والآخر: أن يكون المعنى: لو جالسها في الندي والنادي، ورواه ابو العباس محمد بن يزيد النحوي: لو يباري من المباراة، وهي المعارضة، والعرب تقول: فلانٌ يباري الريح، أي يعارضها، قال طرفة:
تباري عناقاً ناجياتٍ وأتعبت ... وظيفاً وظيفاً فوق مورٍ معبد
وقول أبي تمام: قدك، معناه: حسبك، قال النابغة:
قالت: ألا ليتما هذا الحمام لنا ... إلى حمامتنا أو نصفه فقد
ومعنى: اتئب: استحيي، أربيت: زدت في الغلواء، مأخوذ من الغلو وتجاوز الحد، قال الشاعر:
إلا كناشرة الذي ضيعتم ... كالغصن في غلوائه المتثبت
والسجراء بالسين المهملة جمع سجير، وهو القريب الولي، فأما الشجراء بالشين المعجمة فإنه جمع شجير، وهو البعيد والعدو.
المجلس الثالث والأربعون
الزجر عن أذى اليتيمحدثنا الحسن بن إبراهيم بن عبد المجيد المقري، قال: حدثنا أبو يوسف الفلوسي، قال: حدثنا عمرو بن سفيان القطيغي، قال: حدثنا الحسن بن أبي جعفر، عن علي بن زيد، عن سعيد بن المسيب، عن عمر بن الخطاب، قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن اليتيم إذا بكى اهتز عرش الرحمن عز وجل لبكائه، يقول الله تعالى: من أبكى عبدي وأنا قبضت أباه وواريته في التراب؟ فيقولون: ربنا لا علم لنا، قال: اشهدوا أن من آواه أرضيته يوم القيامة " .
تعليق المؤلفقال القاضي: في هذا الخبر زجر عن أذى اليتيم وترغيب في التعطف عليه، والإحسان إليه، والعقول السليمة والفطن السوية، تنبئان عن حظر ظلمه، وحسن حفظه وتعهده، وما أتى عن الله عز وجل في محكم تنزيله وعلى لسان رسوله من التوصية به، والتوعد بأليم العقاب على ظلمه، كثير ظاهر، قد قامت الحجة به واستفاض العلم بصحته، في خاصة المسلمين وعامتهم، ومأموميهم وأئمتهم، فاتقى امرؤٌ ربه، وخاف مقامه، وأشفق مما هو أمامه، وتدبر قول الله عز وجل: " وليخشن الذين لو تركوا من خلفهم ذريةً ضعافاً خافوا عليهم فليتقوا الله وليقولوا قولاً سديداً، إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً إنما يأكلون في بطونهم ناراً وسيصلون سعيراً " فإن هذا الذي تلوناه في نظائره من التنزيل أجزل لفظٍ وأبلغ وعظ، وفي فضل المصيخ إليه، والعامل عليه، والقابل له، والقائم بالقسط فيه، أوفر حظ.
وفقنا الله وإياكم لمرضاته وأعاننا على طاعته، وعصمنا من معصيته، إنه جواد كريمٌ، رءوف رحيم.
سآكل منها ولو شققت بطنكحدثنا محمد بن الحسن بن دريد، قال: أخبرنا أبو حاتم، قال: أخبرنا العتبي، عن أبيه، قال: حج معاوية رحمه الله وكان عامله على المدينة مروان، فلما ورد المدينة هيأ له مروان طعاماً فأكثر وجوده، فلما حضر الغداء جاء متطببٌ نصراني لمعاوية فوقف وجعل إذا أتى لونٌ قال: كل يا أمير المؤمنين من هذا، وإذا أتى لونٌ ظن أنه لا يوافقه، قال: لا تأكل من هذا.
فلما كان في بعض غدائهم، أقبل زنجيان مؤتزران بربطتين بيضاويين يدلحان بجفنةٍ لها أربع حلقات مترعةً حيساً، فلما رآها معاوية استشرف لها وحسر عن ذراعيه، فقال له الطبيب: أي شيءٍ تريد يا أمير المؤمنين؟ قال: أريد - والله - أن أواقع ماترى، قال: أمزق ثيابي، قال: ولو مزقت بطنك، فجعل يدبل مثل دبل البعير ويقذف في جوفه حتى إذا نهل، قال: يا مروان! ما حيسكم هذا؟ قال: يا أمير المؤمنين، عجوةٌ ناعمة، وإقطةٌ مزنية، وسمنةٌ جهنمية، قال: هذه - والله - الأشفية جمعت لا كما يقول هذا النصراني.
زهد بعض الصحابة وتقشفهم
حدثنا محمد بن القاسم الأنباري، قال: حدثنا موسى بن علي الختلي، قال: حدثنا أبو السكن زكريا بن يحيى، قال: حدثني عم أبي زحر بن حصنٌٍ، قال: حدثني عنبسة بن عمرو الوهبي، قال: مر بنا عبد الله بن مسعود ونحن بسرفٍ وهو يريد الحج، فأهدينا إليه إقطاً وسمناً ولبناً وطيراً جاءت بها الرعاة من مسيرة أربعة أيام، فقال: وددت أني في موضع هذا الطير حيث لا أرى أحداً ولا يراني، ثم جلس يأكل وجلست آكل معه، فلما فرغ من الأكل جعل يلحس الصحفة ويلعق ما فيها، فقلت له: يا أبا عبد الرحمن! إن هاهنا من يكفيك غسلها، فقال: إن لعق الصحاف يعدل عتق الرقاب.
عود إلى خبر معاوية وأكله من الحيسحدثنا محمد بن القاسم الأنباري، قال: حدثنا موسى بن علي الختلي، قال: حدثنا أبو السكين، قال: حدثني عمي زحر بن حصن، عن جده حميد بن منهب، قال: حج معاوية وعامله على المدينة مروان، فاتخذ طعاماً فلما حضر وجلس يأكل قام نصراني على رأس معاوية وجعل يقول: كل من هذا فإنه ينفعك، ودع هذا فأنه يضرك، وأتي بعد الطعام بجفنةٍ عظيمةٍ يحملها أسودان مؤتزران بربطتين بيضاوين، مملوءة حيساً، أحسب أن كل واحدٍ منهما يحمل جفنة، فاستشرف لها معاوية فلما وضعت بين يديه جعل يدبل منها تدبيلاً، فعظم ذلك على النصراني وقال: يا أمير المؤمنين! لا تأكل منها وإلا مزقت ثيابي، قال: والله لآكلن ولو مزقت بطنك، وجعل يمعن في الأكل حتى اكتفى، ثم قال: يا مروان! ما جفنتك هذه؟ قال: عجوةٌ ناعمة، وإقطةٌ مزينة وسمنةٌ جهنمية، قال: هذه والله أشفيه كلها لا ما يقول هذا النصراني.
قال موسى: أبو السكين بن عباس خرج إلى البادية إلى شيخنا هذا زحر بن حصن فكتب منه هذه الأخبار، وكان يسميها " أخبار الأشراف " .
ابن الأنباري لا يرغب في تفسير الحيسقال القاضي: لما ذكر ابن الأنباري الحيس في هذا الخبر وهو يمليه علينا سئل أن يفسر الحيس، فأبى فروجع، فامتنع وضحر، وكان فيما قال: لم يفسره من قلبي فأفسره أنا! فعجبت من اعتلاله في الإمتناع من تفسيره بأنه لم يفسره من قبله، والناس يحتاجون إلى تفسير من تأخر لهم ما لم يتقدمه في تفسيره من رواه قبله، وأعجب من هذا أنه أورد تفسيره في الخبر نفسه عند آخره.
قال القاضي: والحيس من مطاعم العرب المعروفة لهم المشهورة، ومنه قول الشاعر:
وإذا تكون كريهةٌ أدعى لها ... وإذا يحاس الحيس يدعى جندب
وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم أولم على صفية بحيسٍ بعد أن أعتقها وتزوجها.
وقول الراوي في الخبر الذي رويناه عن ابن دريد: دلحان، عني به حملهما وتناولهما، وجعلهما بمنزلة الدالح الذي هو أحد من تناول الدلو عند الإستقاء، وبعده الماتح والمائح.
أول من ذكر الحيس في شعرهحدثنا محمد بن يحيى الصولي، قال: حدثنا شيخ ذكره يقال له محمد بن عبد الرحمن، حدثه وذهب عني اسمه، عن ابن دأب، قال: كان ضمرة بن بكر بن عبد مناة، سيد بني كنانة، وقد ضم ولد أعمامه إليه فأغير على إبل له فخرج أهله واستنقذوها، وكان أشدهم بأساً أحمر بن الحارث بن عبد مناة، فلما ردوا الإبل على ضمرة عمل حيساً فأطعمه ابنه جندب إذ كان أحمر قد خرج، فعمد أحمر إلى سلاحه فلبسه وأخذ إبله ورحله، وقال: والله لا ساكنت ضمرة أبداً وقد عرف حسن بلائي، وهو مقبلٌ على ابنه دوني، وقال:
يا ضمر أخبرني ولست بفاعلٍ ... وأخوك صادقك الذي لا يكذب
هل في القضية أن إذا استغنيتم ... وأمنتم وأنا البعيد الأجنب
وإذا الشدائد بالمخنق مرةً ... أشجتكم فأنا الحبيب الأقرب
وإذا تكون شديدة أدعى لها ... وإذا يحاس الحيس يدعى جندب
عجباً لتلك قضيةً وإقامتي ... فيكم على تلك القضية أعجب
فأكون فيكم مثل عبد أبيكم ... لا أم لي إن كان ذاك ولا أب
فقال جندب:
لنا صاع إذا كلنا خصومنا ... نطففها ونوفي للوفي
لأحمر حيسه ولنا غنانا ... كما أغنى وإن عابوا الغني
فلذا قال عبيد بن الأبرص
سنهدي إليكم أي هاتين شئتم ... ونعطيكم الصاع الذي قال جندب
المشهور من الرواية في هذا الشعر:
وإذا تكون كريهةً أدعى لها
وشديدةٌ أيضاً، وفي البيت الذي يليه:
ذاكم وجدكم الصغار بعينه ... لا أم لي............
والهوان أيضاً، وقد روي: عجبٌ لتلك قضيةً بالرفع، على أنه - أعني العجب - شيءٌ لازم، مثل قولهم: ويلٌ له، وقوله:
فتربٌ لأفواه الوشاة وجندلٌ
وقالوا: ترباً وجندلاً، وتراباً، جعلوه نائباً عن الإهانة والإذلال.
وروي: عجباً لتلك، نصباً على إضمار الفعل، بمنزله قولهم: سقياً ورعياً.
وقد روي لنا هذا الخبر - أعني خبر ضمرة - عن أبي محمد الأنباري وفي بعض ألفاظه اختلاف، ولعلنا نخرجه فيما يستقبل من مجالسنا هذه إن شاء الله.
طالبٌ مشاكس
حدثنا علي بن محمد بن كامل النخعي، قال: حدثنا علي بن جعفر الرماني، قال: حدثنا إسماعيل السدي، قال: كنت في مجلس مالك أكتب عنه، فسئل عن فريضة فيها اختلاف عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأجاب فيها بجواب زيد بن ثابت، فقلت: فما قال فيها علي بن أبي طالب وعبد الله بن مسعود، فأومأ إلى الحجبة فلما هموا بي حاصرتهم وحاصروني فأعجزتهم، وبقيت محبرتي بكتبي بين يدي مالك، فلما أراد أن ينصرف، قال له الحجبة: ما نعمل بكتب الرجل ومحبرته، فقال: اطلبوه ولا تهيجوه بسوءٍ حتى تأتوني به، فجاءوا إلى فرفقوا بي حتى جئت معهم، فقال لي: من أين أنت؟ فقلت: من أهل الكوفة، فقال لي: إن أهل الكوفة قوم معهم معرفة بأقدار العلماء، فأين خلفت الأدب؟ قال: قلت: إنما ذاكرتك لأستفيد، فقال: إن عليا وعبد الله لا ينكر فضلهما، وأهل بلدنا على قول زيد، وإذا كنت بين ظهراني قومٍ فلا تبؤهم بما لا يعرفون فيبدأك منهم ما تكره.
قال: ثم حججت من سنتي وقدمت الشام، فدخلت دمشق فجلست في حلقة الوليد بن مسلم، فلم اصبر أن سألته عن مسألة فأصاب، فقلت: أخطأت يا أبي العباس، فقال: تخطئني في الصواب وتلحن في الإعراب، فقلت: خفضتك كما خفضك ربك، وداخلته الإحتجاج فمال الناس إلي وتركوه، وقالوا: أهل الكوفة أهل الفقه والعلم، فخفت أن يندأني منه ما ندأني من مالك بن أنس، فإذا رجلٌ له حلمٌ ودينٌ وزعه عن الإقدام.
السفلة، وسفلة السفلةحدثني أحمد بن محمد بن الجراح الضراب، قال: حدثنا يحيى بن محمد بن أمين، قال: حدثنا إسماعيل بن أبي أويس، قال: سمعت مالك بن أنس، يقول: قال ربيعة الرأي: يا مالك! من السفلة؟ قال: من أكل بدينه، قال: فمن سفلة السفلة؟ قال: قلت: من أصلح دنيا غيره بفساد دينه، قال: زه، صدقتني.
شهرة قاضٍ بالغلمان
حدثنا إسماعيل بن محمد بن إسماعيل الصفار، قال: سمعت أبا العيناء في مجلس أبي العباس محمد بن يزيد، قال: كنت في مجلس أبي عاصم النبيل، وكان أبو بكر بن يحيى بن أكثم حاضراً فنازع غلاماً، فارتفع الصوت، فقال أبو عاصم: مهيم؟ فقالوا: هذا أبو بكر ابن يحيى بن أكثم ينازع غلاماً، فقال: إن يسرق فقد سرق أبٌ له من قبل.
وحكاية أخرى في المعنىحدثنا محمد بن إبراهيم الحكيمي، قال: قال أبو عبيد الله محمد ابن القاسم: لما عزل إسماعيل بن حماد عن البصرة، شيعوه فقالوا: عففت عن أموالنا وعن دمائنا، فقال إسماعيل: وعن أبنائكم. يعرض بيحيى بن أكثم من اللواط.
وقاضٍ تفتنه حسناء
وحدثنا الحكيمي، قال: قال أبو عبد الله: وكان الحسن بن عبد الله بن الحسن العنبري قاضياً عندنا في الفتنة، وكان عابساً كالحاً، فقدمت إليه جاريةٌ لبعض أهل البصرة تخاصم في ميراث، وكانت حسنة الوجه، فتبسم وكلمها، فقال عبد الصمد بن المعذل:
ولما سفرت عنها القناع متيمٌ ... تروح منها العنبري متيما
رأى ابن عبد الله وهو محكمٌ ... عليها، لها طرفاً عليه محكما
وكان قديماً عابس الوجه كالحاً ... فلما رأى منها السفور تبسما
فإن يصب قلب العنبري فقبلها ... صبا باليتامى قلب يحيى بن أكثما
مصدر فاعل الفعال والمفاعلةقال القاضي: قول أبي العيناء في الحكاية الأولى من حكايتيه هاتين في قول إسماعيل ما قاله يعرض بيحيى بن أكثم باللواط هكذا قال:
فاللواط مصدر لاوط يلاوط ومصدره لواطٌ وملاوطة في القياس، مثل زانى يزاني مزاناةً وزناءً، وقاتل يقاتل قتالاً ومقاتلةً، في نظائر ذلك من باب الفعال والمفاعلة، وأتى بالمصدر فيه صحيحاً بالواو لصحة فعله، وذلك لاوط يلاوط ولو كان مصدر لا يلوط لأعل إعلال فعله فقيل لاط لياطاً، وقلبت واوه ياءً لانكسار ما قبلها، ألا ترى أنهم يقولون: قام قياماً في مصدر قام يقوم، وقوام في مصدر قاوم يقاوم، قال الله تعالى: " قد يعلم الله الذين يتسللون منكم لواذاً " فلواذاً مصدر لاوذ يلاوذ، فأما مصدر لاذ يلوذ يقال فيه: لاذ لياذ، قال حسان بن ثابت في مصدر " لاوذ " :
وقريشٌ تفر منهم لواذاً ... لم يقيموا وخف منها الحلوم
وقال ذو الرمة في مصدر " لاذ " :
تلوذ من الشمس أطلاؤها ... لياذ الغريم من الطالب
وفي استقصاء تصريف هذا الجنس من الأفعال والمصادر، وذكر أصوله تقديراً وتقريراً، وتمييز مقايسه تفصيلاً وتحريراً، طولٌ، وله موضع وهو أولى به.
أيهما الأصل الفعل أم المصدروقد تعلق نحاة الكوفيين على أصحابنا البصريين بأنهم قد اتفقوا على حمل المصدر في الإعتلال على الفعل فأجروه مجرى التابع التالي له، وأن هذا يدل على صحة قول من قدم الفعل فجعل المصدر مأخوذاً منه، وفساد قول البصريين بتقديم المصدر والحكم بأنه أخذ منه الفعل.
وللبصريين جوابٌ عن هذا وانفصال منه، وذلك أن كره اختلاف الجملة واضطراب الباب، وأوثر التوفيق بين بعضه وبعض، فلما حضر معنى أوجب اعتلال الفعل اعتل المصدر، على أن المعتل من المصادر ما كان متجاوزاً الأصل فإنه هو أولٌ في الحقيقة له، ألا ترى أن أصل المصدر في القيام قام قومةً وقوماً على أصل القياس في التقدير، مثل: صام صوماً وعام عوماً ورام روماً.
ومن فائدة الإختلاف في أبنية المصادر يحصل الفرق بين المعاني المختلفة، كقولهم: وجدان في المال، ووجود في الإدراك، وموجدة في الغضب، ووجدٌ في الغنى، وجدةٌ في المال، ووجدٌ في الحب والغضب، والفعل فيه كله وجد يجد، وفرع المولدون من هذا قولهم: وجادةٌ: ما كان من العلم أخذ من صحيفة من غير سماع ولا إجازة ولا مناولة.
ومثل هذا في الأسماء التي حفظت مصادرها يستفاد به الفرق في العلاقة بالفتح في المحبة والخصومة، والعلاقة بالكسر في السيف والسوط، ولا خلاف في سبق هذه الأسماء للأفعال وتقدمها عليها.
وومما يبين إيثارهم توفيق المفضول في الجلمة وإن كان القياس يقتضي لشيء منها دون غيره من بابه حكماً، فيستتبع ما سواه وإن لم يكن فيه من العلة ما فيه، قولهم: آمن، وأبدلوا من الهزة مدة كراهيةً لإجتماع الهمزتين، ثم حملوا عليه يومن وتومن ونومن للتوفيق والتسوية، وإن كانوا قد يقرونه على أصله، ويتركون إلحاقه بما العلة خاصة فيه.
وفي شرح هذا الباب وبسط القول فيه طول ليس هذا موضعه، والفراء وهو من أنبه مخالفي البصريين في هذا الفضل وأعلمهم وأنظرهم في قياسه واستدلاله قد احتج في استحقاق الفعل الماضي الفتح يحمله إياه على التثنية في قولك: جلس وجلسا، فألزم الواحد وهو متقدم حكم الإثنين وهو بعده، فأتبع الأول الثاني وعلق عليه حكمه كأن ثانيه أولٌ له، ومن كان هذا مذهبه فحقيقٌ على أن لا ينكر على خصمه مثله، وكيف وقد أومأنا من مذهب مخالفيه إلى ما يوضح عن حقيقته، ويدل على صحته.
علمته الحياةحدثنا الحسين بن القاسم الكوكبي، قال: حدثنا أبو الفضل الأصفهاني، قال: حدثنا بندار، عن الأصمعي، قال: مثل فتى بين يدي الحجاج، فقال: أصلح الله الأمير، مات أبي وأنا حملٌ، وماتت أمي وأنا رضيع، فكفلني الغرباء حتى ترعرعت، فوثب بعض أهلي على مالي فاجتاحه، وهو هاربٌ مني ومن عدل الأمير. فقال الحجاج: الله! مات أبوك وأنت حمل وماتت أمك وأنت رضيع وكفلك الغرباء، فلم يمنعك ذلك من أن فصح لسانك، وأنبأت عن إرادتك! اطردوا المؤدبين عن أولادي.
كيف تختار أصدقاؤك؟
حدثنا أبي، قال: حدثنا أبو أحمد الختلي، قال: سمعت محمد ابن عمر البزاز، يذكر عن محمد بن عباد، قال: حدثنا سفيان بن عيينةن قال علقمة بن لبيد العطاردي، لابنه: يا بني! إن نزعتك إلى صحبة الرجال حاجةٌ، فاصحب من إن صحبته زانك، وإن خدمته صانك، وإن عركت به مانك.
من إن قلت صدق قولك، وإن صلت سدد صولك، يزاول عنك من رام ونالك.
من إن مددت يدك يصل مدها، وإن بدرت منك ثلمةٌ سدها، وإن رأى منك حسنةً عدها.
من إن سألته أعطاك، وإن سكت عنه ابتدأك.
من إن نزلت بك إحدى ملمات الزمان آساك، من لا تأتيك منه البوائق، ولا تختلف عليك من الطرائق، ولا يخذلك عند الحقائق.
من إن حاولت حويلاً أمرك، وإن تنازعتما منفساً آثرك.
قوله: إن حاولت حويلاً أي رمت أمراً طالباً ومنازعاً أمرك، ويتجه في قوله: أمرك وجهان، أحدهما: أن يأمرك بالصواب فيه، ويشير عليك بركوب الحزم فيما تحاوله، ويرشدك إلى وجه الرأي في التأتي له. والوجه الثاني: أن يكون معنى قوله: أمرك كثرك فيما تحاوله، وأيدك فيما تجاذبه وتزاوله، وأمدك بقوته، ورفدك بمعونته، من قولهم: قد أمر بنو فلان: أي كثروا، كما قال لبيد:
إن يغبطوا يهبطوا وإن أمروا ... يوماً يصيروا للذل والعار
وقال آخر:
أم عيالٍ ضنؤها أمر ... لو نحرت لضيفها عشر جزر
لأصبحت من لحمهن تعتذر
وقد تأول قول الله عز وجل " أمرنا مترفيها " على وجهين في قراءة الجماعة، والوجهان: أمرنا أي أمروا بالطاعة ففسقوا، وقيل: فيه أكثرنا، وقرىء أمرنا من الإمارة، وأمرنا بمعنى أكثرنا، وروي عن الحسن أنه قال: أمرنا بكسر الميم على معنى أكثرنا، وأنكر الفراء هذه القراءة وذكر أن أمر لا يتعدى إلى مفعول. وحكى أبو زيد التعدي في هذا الفعل عن العرب، فصحت قراءة الحسن من جهة العربية، وإن شذت عما نقلته الجماعة في هذه الكلمة من القراءة.
واستقصاء هذا الفعل وتلخيصه، في موضعه من كتبنا في علوم التنزيل والتأويل.
المجلس الرابع والأربعون
نعيمان الصحابي الظريفحدثنا أحمد بن سليمان بن داود الطوسي، قال: حدثنا الزبير - يعني ابن بكار - قال: وحدثني يحيى بن محمد، قال: حدثني يعقوب بن جعفر بن أبي كثير، قال: حدثني أبو طوالة عبد الرحمن بن عبد الله الأنصاري، عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، عن أبيه، قال: كان بالمدينة رجل يقال له نعيمان، يصيب الشراب، فكان يؤتى به إلى النبي صلى الله عليه وسلم فيضربه بنعله، ويأمر أصحابه فيضربونه بنعالهم، ويحثون عليه التراب، فلما كثر ذلك منه، قال له رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: لعنك الله، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تفعل، فإنه يحب الله ورسوله.
قال: وكان لا يدخل المدينة طرفة إلا اشترى منها ثم جاء إلى به إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله! هذا أهديته لك، فإذا جاء صاحبه يطالب نعيمان بثمنه جاء به إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله! أعط هذا ثمن متاعه، فيقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: أولم تهده إلي؟ فيقول: يا رسول الله! إنه - والله - لم يكن ثمنه عندي، ولقد أحببت أن تأكله، فيضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم ويأمر لصاحبه بثمنه.
وفي هذا الخبر ما أبان فضل مكارم رسول الله صلى الله عليه وسلم وحسن فكاهته وسعة خلقه وسجاحته. وقد روينا أنه كان من أفكه الناس، وأنه كان يقول: " إني لأمزح ولا أقول إلا حقاً " ، وأنه قال: " إن الله تعالى لا يؤاخذ المزاح الصادق في مزاحه " .
ونعيمانٌ هذا ممن شهد بدراً مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان كثير الدعابة بديع الممازحة، وجلده رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخمر، وكانت له على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم دعاباتٌ استحسنها الناس ويعجبون بها.
منها، ما حدثناه أحمد بن سليمان الطوسي، قال: حدثنا الزبير، قال: وحدثني يحيى بن عبد الله بن أبي الحارث بن عبد الله الأصغر بن زمعة، عن جابر بن علي بن يزيد بن عبد الله الأصغر بن وهب بن زمعة، عن قريبة بنت عبد الله الأصغر بن وهب، عن أبيها، عن أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم، قالت: خرج أبو بكر الصديق قبل وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم بعام في تجارة إلى بصرى ومعه نعيمان بن عمرو الأنصاي وسليط بن حرملة، وهما ممن شهد بدراً مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان سليط بن حرملة على الزاد، وكان نعيمان مزاحاً، فقال لسليط، أطعمني، فقال: لا أطعمك حتى يأتي أبو بكر، فقال نعيمان لسليط: لأغيظنك.
فمروا بقوم فقال نعيمان لهم: أتشترون مني عبداً لي؟ قالوا: نعم، قال: إنه عبد له كلام، وهو قائل لكم لست بعبده وأنا ابن عمه، فإن كان إذا قال لكم ذلك تركتموه فلا تشتروه ولا تفسدوا علي عبدي، قالوا: لا، بل نشتريه ولا ننظر في قوله.
فاشتروه منه بعشر قلائص، ثم جاءوا ليأخذوه فامتنع منهم، فوضعوا في عنقه عمامة، فقال: لا، إنه يتهزأ ولست بعبده، فقالوا: قد أخبرنا خبرك ولم يسمعوا كلامه.
فجاء أبو بكر الصديق فأخبروه الخبر، فأتبع القوم فأخبرهم أنه مزحٌ، ورد عليهم القلائص وأخذ سليطاً منهم، فلما قدموا على النبي صلى الله عليه وسلم أخبروه الخبر فضحك من ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه جولاً وأكثر.
ولنعيمان أخبار كثيرة لا يحتمل كتابنا هذا إحضار جميعها، وقد استدل مستدلون بما أتى في الخبر الأول من ثناء النبي صلى الله عليه وسلم على نعيمان، وزجره للاعنه، ونظائره من الأخبار على فساد مذهب المعتزلة في وعيد أهل الصلاة وعلى صحة تجويز العفو عنهم وأنهم في مشيئة الله تعالى.
وللكلام في هذا الباب موضع آخر.
صفة الوليد بن يزيد وبعض شعرهحدثنا محمد بن الحسن بن دريد، قال: حدثنا عبد الرحمن، عن عمه، قال: أخبرني مروان بن أبي حفصة، قال: قال لي هارون أمير المؤمنين: هل رأيت الوليد بن يزيد؟ قال: قلت: نعم، قال: صفه لي. قال: فذهبت أتحرج، فقال: إن أمير المؤمنين لا يكره ما تقول فقل، فقلت: كان من أجمل الناس وأشعرهم واشدهم، قال: أتروي من شعره شيئاً؟ قلت: نعم، ودخلت عليه مع عمومتي ولي جمة فينانة. فجعل يقول بالقضيب فيها ويقول: يا غلام! هل ولدتك سكر؟ " أم ولدٌ كانت لمروان بن الحكم، زوجها أبا حفصة " فقلت: نعم، فسمعته يقول أنشد عمومتي:
ليت هاشماً عاش حتى يرى ... محلبه الأوفر قد أترعا
كلنا له الصاع التي كالها ... وما ظلمناه بها آصعا
وما أتينا ذاك عن بدعةٍ ... أحلها القرآن لي أجمعا
قال: فأمر هارون بكتابتها فكتبت.
قال القاضي: جمةٌ فينانة معناها الوافرة الجثلة، وقول الوليد في شعره: محلبه الأوفر: يعني: الإناء الذي يحلب فيه بكسر ميمه، أجرأه في بابه الأعم في الأواني والأدوات، كالمخرف والمكتل والمرجل والمقطع والمحيط والمبضع، فأما المتطبب به الذي تغلظ فيه العامة، فيقولون: المحلب فهو المحلب بفتح الميم مثل المندل، وهو العود.
الوليد يسافر ليشرب في حانة بالحيرةحدثنا الحسين بن القاسم الكوكبي، قال: حدثني أبو الفضل الربعي، قال: أخبرنا إسحاق الموصلي، قال: قال محمد بن منصور الأزدي، حدثني شيخ من أهل الكوفة، قال: حدثني خمارٌ كان بالحيرة، قال: ما شعرت يوماً وقد فتحت حانوتي إذا فوارس ثلاثة متلثمون بعمائم خز قد أقبلوا من طريق السماوة في البرية، فقال لي أحدهم: أنت مر عبد الخمار؟ قلت: نعم، وكنت موصوفاً بالنظافة وجودة الخمر وغسل الأواني، فقال: اسقني رطلاً، فقمت فغسلت يدي ثم نقرت الدنان فنظرت إلى أصفاها فبزلته وأخذت قدحاً نظيفاً فملأته ثم أخذت منديلاً جديداً فناولته إياه فشرب، وقال: اسقني آخر. فغسلت يدي وتركت ذلك الدن وذلك القدح وذلك المنديل، ونقرت دناً آخر فبذلت منه رطلاً في قدح نظيف، وأخذت منديلاً جديداً فسقيته فشرب، وقال: اسقني رطلاً آخر، فسقيته في غير ذلك القدح، وأعطيته غير ذلك المنديل، فشرب وقال: بارك الله عليك، فما أطيب شرابك وأنظفك! فما كان رأيي أن أشرب أكثر من ثلاثة، فلما رأيت نظافتك دعتني إلى شرب آخر فهاته، فناولته إياه على تلك السبيل، ثم قال: لولا أسبابٌ تمنع من بيتك لكان حبيباً إلي أن أجلس فيه بقية يومي هذا.
وولي راجعاً في الطريق الذي بدا منه، وقال: اعذرنا، ورمى إلي أحد الرجلين اللذين كانا معه بشيء فنظرت فإذا صرة فيها خمس مائة دينار، وإذا هو الوليد بن يزيد أقبل من دمشق حتى شرب من شراب الحيرة وانصرف.
قال القاضي: أخبار الوليد بن يزيد كثيرة، وقد ذكرها الإخباريون مجموعة ومفرقة، ومعظمها يأتي متفرقاً في مجالس كتابنا هذا.
وكنت جمعت شيئاً منها فيه، من سيره وآثاره ومن شعره الذي ضمنه ما فجر به من خرقة وسفاهته، وحمقه وخسارته، وهزله ومجونه، وركاكته وسخافة دينه، وما صرح به من الإلحاد في القرآن، والكفر وباطله ممن أنزله وأنزل عليه، وعارضت شعره السخيف بشعرٍ حصيف، وباطله بحق نبيهٍ شريف، وأتيت في هذا بما توخيت به رضا الله تعالى، واستيجاب مغفرته.
خطبة يزيد بن الوليد بعد عزله لابن عمهوقد حدثنا محمد بن يحيى الصولي، قال: حدثنا محمد بن يزيد النحوي، قال: خطب الناس يزيد بن الوليد، فقال: أما بعد، أيها الناس فإني والله ما خرجت أشراً ولا بطراً ولا حرصاً على الدنيا، ولا رغبةً في المال، ومابي إطرء نفسي، إني لظلومٍ لها إلا أن يرحمني ربي، ولكنني خرجت غضباً لله تعالى ولدينه، وداعياً إلى الله جل ثناؤه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، لما هدمت معالم الهدى، وأطفىء نور أهل التقوى، وظهر الجبار العنيد المستحل لكل حرمة، الراكب كل بدعة، يعني الوليد بن يزيد، مع أنه والله ما كان يصدق بالكتاب، ولا يؤمن بيوم الحساب، وإنه لابن عمي في النسب، وكفئي في الحسب، فلما رأيت ذلك استخرت الله تعالى في أمره، وسألته ألا يكلني إلى نفسي، ودعوت إلى ذلك.
من أجابني من أهل ولايتي
حتى أراح الله منه العباد وطهر منه البلاد بحول الله وقوته لا بحولي وقوتي
أيها الناس! إن لكم علي إلا أضع حجراً على حجر، ولا لبنةً على لبنة، ولا أكنز مالاً، ولا أحمل خراجاً من بلدٍ، إلى بلد، حتى أشد ثغر ذلك البلد وخصاصته، فإن فضل عنه شيءٌ نقلته إلى البلد الذي يليه، وإلى من هو أحوج إليه منه،ولا أجمركم في نفوركم، فأفتنكم وأفتن أهاليكم، ولا أغلق بابي دونكم، فيأكل قويكم ضعيفكم، ولا أحمل أهل جزيتكم ما يجليهم عن بلادهم، ويقطع نسلهم، وإن لكم عندي أعطياتكم في كل سنة، وأرزاقكم في كل شهر، حتى تستوي المعيشة بين المسلمين، فيكون أقصاهم كأدناهم، فإن أنا وفيت بما قلت، فلي عليكم السمع والطاعة، وحسن المؤازرة، وإن أنا لم أف فلكم أن تستتيبوني فإن تبت وإلا فانتم في حل من بيعتي ودمي، وإن علمتم أحداً يعرف بالصلاح يعطيكم مثل الذي أعطيتكم فأردتم أن تبايعوه فأنا أول من بايعه ودخل في طاعته.
أيها الناس! أنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، ولا وفاء في نقض عهد الله تعالى، وإنما الطاعة طاعة الله تعالى، فمن أطاع الله عز وجل فأطيعوه بطاعة الله تعالى، فإذا عصى الله عز وجل، ودعا إلى معصيته فهو أهل أن يعصى وأن يقتل.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
معنى التجميرقال القاضي: قوله: ولا أجمركم في ثغوركم، التجمير: أن يبعث الرجل إلى الثغر ثم يترك فيه فلا يقفل إلى أهله، ويرد إلى وطنه، فيضر به ويعرض للفتنة في نفسه وأهله، والعدل ألا يجمر الجند في البعث، وأن يعقب بينهم في كل ستة أشهر فيما يختاره، وقد كان بعض من تقدم من ولاة الأمر وبما عقب في كل سنة، والأمر في هذا عندنا أن يتوخى فيه الأئمة وأولو الأمر المصلحة، ويحملوا الناس على الرفق بهم، ويجتهد في حسن النظر لهم، ويتحرى في هذا الباب من التدبير ما هو أبلغ في سياسة الرعية، وتحصين الثغور، وحفظ البيضة، وحماية الحوزة، والتحرز من الفساد والفتنة، وانتشار الكلمة، فالتجمير في هذا الخبر معناه ما وصفنا.
والتجمير: حضور الجمار بمنى ورميها، كما قال الشاعر:
فلم أرى كالتجمير منظر ناظرٍ ... ولا كليالي الحج أفتن ذا هوى
والتجمير: مصدر جمرت النخلة إذا نزعت جمارها.
الدار التي كان يقف فيها ابن أبي ربيعةحدثنا إبراهيم بن محمد المهلبي، قال: أخبرنا أحمد بن يحيى، قال: أخبرنا الزبير ابن بكار، قال:
كنت أرمي الجمار راجلاً فإذا أعييت جئت إلى دار بكارٍ مولى الأخنس بن شريق، وهي الدار التي عند الجمرة، فكنت مع عمي مصعب بن عبد الله ونحن نرمي الجمار، فقلت: هذه دار بكار، قال: أو ما عندك من خبرها أكثر من هذا؟ فقلت: لا، قال: موضعها كان عمر بن أبي ربيعة يقف عليه ينظر إلى النساء إذا خرجن يرمين الجمرة، وكان إذا ذاك دكاناً، قال: وكان بكارٌ لي صديقاً فأنشدنا أصحابنا عنه يرثي المهدي، وكان المهدي أعطاه بداره أربعة آلاف دينار فأبى وقال: ما كنت لأبيع جوار أمير المؤمنين بشيء أبداً، فقال المهدي: أعطوه أربعة آلاف دينار ودعوه وداره، فلما مات المهدي، قال بكارٌ يرثيه:
ألا رحمة الله في كل ساعةٍ ... على رمةٍ أمست بما سبذان
لقد غيب القبر ثم سؤدداً ... وكفين بالمعروف يبتدران
قال عبد الله بن محمد: وكان المهدي مات بما سبذان سنة تسع وستين ومائة.
يتمنى كل يوم حجة أو اعتماراً
حدثنا محمد بن القاسم الأنباري، قال: حدثني أحمد بن سعيد الدمشقي، قال: حدثنا الزبير بن بكار، قال: حدثنا مسلم بن عبد الله بن مسلم بن جندب، عن أبيه، قال: أنشد ابن أبي عتيق سعيد بن المسيب قول عمر بن أبي ربيعة:
أيها الراكب المجد ابتكاراً ... قد قضى من تهامة الأوطارا
إن يكن قلبك الغداة خليا ... ففؤادي بالخيف أمسى معارا
ليت ذا الدهر كان حتماً علينا ... كل يومين حجةً واعتمارا
وقال: لقد كلف المسلمين شططاً، فقال: في نفس الجمل شيءٌ غير ما في نفس سائقه.
قال: وقال عبد الله بن عمر لعمر بن أبي ربيعة: يا ابن أخي! ما اتقيت الله حيث قلت:
ليت ذا الدهر كان حتماً علينا ... كل يومين حجةً واعتمارا
فقال: يا أبا عبد الرحمن! إني وضعت ليت حيث لا تقع، قال: صدقت.
بعض ما كان يلقاه أتباع البرامكةحدثنا أحمد بن العباس العسكري، قال: حدثنا عبد الله بن أبي سعد، عن هاشم بن موسى أخي مسرور الكبير، قال: حدثني عمي مسرور، قال: لما أصيب يحيى بن خالد بن برمك بعثني هارون إلى جارية له كانت قد ترهبت، مغنية يقال لها قرب، وكانت صاحبة أمر يحيى بن خالد، فقال: ائتني بها، فدخلت عليها وعليها لباس الصوف، فقلت: أجيبي أمير المؤمنين، فقالت: أنا أعلم لم يدعوني، وهذا أمرٌ قد تركته لله تعالى فأحب أن تحتال لي، فأعلمتها ألا حيلة في ذلك.
قال: فدعت بأثوابٍ فلبستها ثم تقنعت بسبعة أخمرة، قال: فجئت بها فدخلت بها عليه. فأقعدها ثم قال: هات عوداً، قال: فجئته به، قال: ادفعه إليها، فقالت: يا أمير المؤمنين! هذا أمرٌ تركته لله تعالى ونويت ألا أفعله بعد يحيى بن خالد، قال: فألح فأبت، فقال: يا مسرور! خذ مقرعة وقف على رأسها فإن أبت فاضرب رأسها أبداً، قال: فأبت، فضربتها، حتى تقطعت السبعة أخمرة، فنظرت إلى شعرها والدم قد خرج من رأسها، فقالت: أفعل، ثم تناولت العود، فغنت:
لما رأيت الديار قد درست ... أيقنت أن النعيم لم يعد
قال: فوالله ما فرغت حتى نظرت إلى دموع هارون على لحيته، ثم قال: انصرفي فقامت من بين يديه وهي تبكي، فقال لي: يا مسرور! الحقها بعشرة آلاف دينار وقل لها: يقول لك أمير المؤمنين: اصرفيها فيما تحتاجين إليه، واجعليني في حل، فقالت: يا مسرور لا حاجة لي فيها، وهو في حل.
ما أحسن الحق!حدثنا عبيد الله بن محمد بن جعفر الأزدي، قال: حدثنا أبو بكر بن أبي الدنيا، قال: حدثني الحسين بن عبد الرحمن، عن بعض أشياخه، عن العلاء بن المنهال، قال: أتى خاقان رجلٌ من غني في وفد أتوه من العرب، وبوجه الرجل ضربةً منكرة، فقال له خاقان: أي يوم ضربت هذه الضربة؟ وهو يرى أنها ضربة سيف، فقال الرجل: ضربني فرسٌ لي، فقال خاقان: لصدقه أعجب لي مما ظننت، ما أحسن الحق! فأضعف له الجائزة.
كيف تولى أبو الأحوص ولاية مصرحدثنا محمد بن الحسن بن زياد المقري، قال: أخبرنا محمد بن إسحاق السراج بنيسابور، قال: أخبرنا داود بن رشيد، عن الهيثم بن عدي، قال:
وجه المهدي أمير المؤمنين إلى أبي الأحوص فأقدم عليه ليوليه مصر وأعمالها، قال: فلما حضر عرض عليه ذلك فامتنع منه امتناعاً شديداً، فاغتاظ من ذلك المهدي فهم بضرب عنقه، وكان بحضرة المهدي محمد بن داود جليس خير، فقال له: يا أمير المؤمنين! تمهل عليه ثلاثة أيام، ففعل وأمره بالانصراف، فلما خرج من عنده اشتد غيظه وقال: أما ترى إلى هذا الشيخ، قد لبس خفاً أحمر وخفاً أسود ليوهم أنه مضطرب العقل! فقال له محمد بن داود الجليس الصالح: لا تقل ذلك، لعل الشيخ أخرج إليه ما يلبسه في الظلمة فلم يعلم، فسكن.
ومضى محمد بن داود إلى الشيخ أبي الأحوص فألفاه متشكياً يبكي، فقال له: ما شأنك؟ فقال: إنه خرج لي من الظلمة خف أحمر وخف أسود، فلبستها ولم أعلم، فلما خرجت من عند أمير أمير المؤمنين جعل الصبيان يصيحون ويضحكون، فلما تبينت ذلك نزعت الخفين ومشيت حافياً فلحقني وجعٌ عظيم في رجلي، فقال له محمد بن داود: إن أمير المؤمنين وقع له غير هذا فثنيته عما كان وقع له، فإذا حضرت عنده فإياك أن تأبى أو تمتنع، فمضى إلى المهدي فعرفه ذلك فسكن غضبه، واشتد حرصه على تقليد أبي الأحوص.
فلما حضر بين يديه في اليوم الرابع دعا بسفطٍ فأخرج منه كتاباً فيه عهده على مصر وأعمالها، ثم دفع إليه كتاباً ثانياً إلى صاحب الشرطة يأمره بالحضور مجلسه وألا يخليه، ثم دفع إليه كتاباً ثالثاً، فقال: هذا تبيين ٌ برزقك على العامل، وهو ألف دينار في كل شهر، ومائتا دينار للمائدة، ثم دعا بسفطٍ آخر فأخرج منه ثياباً وطيباً فدفعه إليه، وأمر له بثلثمائة دينار للنفقة، ثم قال له: الرزق تأخذه معجلاً هنياً تستعين به، وللمائدة مائتا دينار وكل الطيب لتقوي به نفسك، ولا تمل إلى شيءٍ بتة، لأن نفسك غنية بالرزق، وهذه الثلثمائة دينار تستعين بها على نفقة الطريق، فلا تعترضن من أحد شيئاً فتستحش منه، وهذه الثياب والطيب تكون معك، فإن - وعائذ بالله تعالى - حدث حادث عليك كان هذا معداً، فانظر لنفسك وأعزها فقد أعززناك وامددناك، وفقك الله تعالى للصواب.
فخرج أبو الأحوص إلى مصر فحكم بها سنين كثيرة فحسن أثره وحمد أمره.
ما لهذا حسنة ولا لك سيئةحدثنا محمد بن القاسم الأنباري، قال: حدثنا أبي، عن المغيرة، عن هارون، قال: حدثني عبد الملك بن عبد العزيز الماجشون، قال: كنا نأتي المغيرة بن عبد الرحمن فجاءه يوماً مولى له يقال له كبة، وكان شيخاً كبيراً، فقال له المغيرة: يا كبة! بالله حدثنا بعض ما كان في شبابك، فقال: نعم، دخلنا مرةً بيت مغنية أنا وثلاثة من مزاحي المدينة، فغنت صوتاً، فقال لها أحدهم: أسأل الله تعالى ألا ينزل لي حسنةً إلا كتبها لك، ثم غنت صوتاً آخر، فقال لها الآخر منهم: بأبي أنت، غرك والله، لا والله ما له حسنة، ولكن أسأل الله تعالى ألا ينزل لك سيئة إلا كتبها علي، ثم غنت صوتاً آخر، فقال لها الثالث: غراك والله، لا والله ما لهذا حسنة ولا كرامة له، ولا لك سيئة، ولكن أسأل الله تعالى ألا يخرجك من الدنيا حتى تريه أعمى يقاد.
قال القاضي: قد قال جميل في نحو هذا:
ألا ليتني أعمى أصم تقودني ... بثينة لا يخفى علي كلامها
ولو كان هو القاضيحدثنا عثمان بن أحمد الدقيقي، قال: حدثنا سهل بن علي الدفتري، قال: حدثني فروة بن عبد الله المديني، قال: حدثنا أبو عبد الرحمن بشر بن آدم، قال: سأل الأغضف مالك بن أنس عن مسألة فأجابه، ثم سأله فأجابه، وقال الأغضف: لم قلت ذلك؟ قال مالك: يا غلام! خذ بيده فاذهب به إلى السجن، فلما ولى به الغلام قال له الأغضف: إني قاضي أمير المؤمنين! قال: ذاك أهون لك علي، قال: يا أبا عبد الله لا أعود، قال: خل سبيله.
المجلس الخامس والأربعون
لا يتمنين أحدكم الموت لضر نزل بهحدثنا سعيد بن محمد بن أحمد أبو عثمان البزاز، أخو الزبير الحافظ، قال: حدثنا يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثنا روح، قال: حدثنا محمد بن أبي حفصة، قال: حدثنا ابن شهاب، عن أبي عبيد مولى عبد الرحمن بن عوف، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا يتمنين أحدكم الموت لضر نزل به إما مسيءٌ فيستعتب، وإما محسنٌ فيزداد " .
وحدثنا سعيد بن محمد، قال: حدثنا روح، قال: حدثنا الربيع بن صبيح، قال: أخبرنل حبيب بن فضالة
أن أبا هريرة ذكر الموت وكأنه تمناه، فقال بعض أصحابه: وكيف تمنى الموت بعض قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ليس لأحد أن يتمنى الموت لا باراً ولا فاجراً، أما بارٌ فيزداد، وأما فاجر فيستعيب " ، قال: وكيف لا أتمنى الموت وأنا أخاف أن تدركني فتنة الدهماء، وبيع الحكم، وتقاطع الأرحام، وكثرة الشرط، ونشءٌ يتخذون القرآن مزامير " .
قال القاضي: قد ورد هذا الخبر بالنهي عن تمني الموت لما بين فيه من المعنى، وجاء في معناه عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن علماء السلف أخبار منها قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا يتمنين أحدكم الموت لضلر نزل به، فإن كان لا بد فاعلاً فليقل: اللهم أحيني ما كانت الحياة خيراً لي، وتوفني ما كانت الوفاة خيراً لي " .
وروى عن ابن عباس أنه قال: ما أحدٌ إلا والموت خير له من بر ولا فاجر، إن كان براً فقد قال الله عز وجل: " وما عند الله خيرٌ للأبرار " وإن كان فاجراً فقد قال الله تعالى: " أنما نملي لهم ليزدادوا إثماً " .
قال القاضي: وهذا الخبر عن ابن عباس خارج على معنى يواطىء ما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما قدمنا روايته، ولا ينافيه إذا حمل على الوجه الصحيح في المعنى.
ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن تمني الموت عند الضرر ونزوله، ووقع البلاء وحلوله، وأرشد إلى استقبال التوبة من الإساءة والوزر، والازدياد من فعل الخير وأعمال البر، وأن يستعتب المرء من فرطاته، ويستكثر من طاعاته، فأما إذا توفاه الله جل جلاله من غير تمن منه للموت، وهو على غير علم منه بحاله فيه، ولا متيقن أن إماتته خير له من تبقيه، فإن حاله في هذا مخالفة للمعنى الآخر الذي قدمنا بيانه، ولكل وجهٍ من هذين المعنين حكمٌ جارٍ على طريقته، ومختص بحقيقته، وقد كان أعلام السلف الأخيار، وصلحاؤهم الأبرار، يرغبون إلى الله تعالى في الشهادة في سبيله ويحرصون عليها ويتعرضون لها ويأسون على فوتها، ويغبطون من رزقها، وأكرم بها لظهور فضلها وشرف أهلها، وهذا يوضح عن أجراء كل جهة من هذه الجهات على حكمها، وإنزالها منزلتها، وأنا ما ذكره أبو هريرة من فتنة الدهماء وبيع الحكم وتقاطع الأرحام وكثرة الشرط ونشءٍ يتخذون القرآن مزامير، فقد رأينا جميع ما تخوفه، وأدركنا ما خاف أن يدركه، فإلى الله عز وجل نجأر بالشكوى، وإياه نستعين على كل بلوى.
فأما قوله: فتنة الدهماء، فإنه أضاف الفتنة إلى الدهماء، وللنحويين في هذا مذهبان: منهم من يجعل الفتنة مضافة إلى الدهماء ويجيز إضافة الشيء إلى نفسه ويجري هذا في أشيئاء كثيرة: لحق اليقين، ودار الآخرة، ةمسجد الجامع، وصلاة والأولى.
وكثير من محققيهم ينكر هذا المذهب، ويخالف هؤلاء في تأويل هذه الكلمات، وما أتى من نظائرها، ويحمل حق اليقين على معنى حق العلم اليقين، والأمر اليقين على إقامة الصفة مقام الموصوف، ويقول: معنى دار الآخرة أي دار المنزلة الآخرة أو النشأة والمذمة، ومعنى مسجد الجامع: الوقت الجامع، أو الفرض الجامع، وصلاة الأولى صلاة المكتوبة الاولى، ونحو هذا الوجه من التأويل الصحيح في المعنى الجاري على القياس.
فأما الدهماء في هذا الخبر ففيه وجهان في التأويل، أحدهما صفة الفتنة أو ما اضيفت إليه بالدهمة والسواد والظلمة، وقد قال عبد الله بن المبارك في خبرٍ ضمن شعراً له:
فنحن في فتنةٍ عشواء مظلمةٍ ... نستغفر الله من أهوال ما فيها
والوجه الآخر: غشيان الفتنة وهجومها وتراكمها وعمومها، من قولهم دهمت القوم الخيل تدهمهم.
وقوله: نشءٌ يتخذون القوم مزامير، فإنه عنى به من حدث ونشأ من الأشرار بعد من مضى من البررة الأخيار، قال نصيب:
ولولا أن يقال صبا نصيبٌ ... لقلت: بنفسي النشء الصغار
وهؤلاء الذين عنوا بهذا الخبر هم الذين يرددون القرآن لبطونهم بالألحان غير خاشعين ولا متعظين ولا معتبرين ولا متفهمين، وأمر هذا النشء في زماننا فاشٍ، فهم من أشد الناس فتنةً، وأعظمهم على أهل الدين بلية، فقد جعلوا اجتماعهم على تلاوة القرآن بمنكر الألحان، ومزامير الشيطان، وعلى تهم القيان وملاهيهم من المعازف والعيدان، والزيادة في كتاب الله تعالى ما ليس منه بالإيقاع والأوزان، وحصل خواص أهل العلم والإيمان بمنزلة إقصاء وهوان، ومن عداهم من حليف فتنة وأسير قينة، وأكثر من تراه في وقتنا ممن أومىء إليه، إما واهي العزيمة ضعيف العقدة، قد تأول المحكم غير تأويله، وتشبث بجملة المتشابه لعجزه عن معرفة تفصيله، وإما ماجنٌ خليعٌ أو مغرورٌ مخدوعٌ قد استفزه الغار له بجرأته وجسارته، واستنزله الماكر به فورطه في خسارته، فأوهمه أن الذي دعاه إليه، وحمله عليه، من أعمال البر، والقرب الكابسة للأجر، وأن النبي صلى الله عليه وسلم أشار إلى هذا بما ذكره من التغني بالقرآن، وتحسين التلاوة بالترنم والألحان، والذي عناه النبي صلى الله عليه وسلم عندنا، قراءة القرآن بالتحسين والخشوع وتحقيقه وترتيله، وتبيينه وتفصيله، وتحسين الصوت به من غير إحداث زيادة في إضعافه بالزمزمة والنقرات، والهمهمة والنبزات.
الأذان بالألحانحدثنا المظفر بن يحيى ابن الشرابي، قال: حدثنا أبو عيسى محمد بن جعفر بن محمد، قال: حدثنا الحسن يعني ابن عبد العزيز الهروي، قال: حدثنا الحارث بن مسكين، عن ابن وهب، أو عبد الرحمن بن القاسم، عن مالك، أنه قال: لهممت أو أردت أن أكلم أمير المؤمنين في الأذان بألأحان أن يمنع من ذلك، قال الله عز وجل: " فماذا بعد الحق إلا الضلال " أفمن الحق أن يؤذن بألحان.
والكلام في هذا الباب يطول ويتسع، واستقصاؤه يتعذر ويمتنع، ولنا في هذا الباب ولشيخنا أبي جعفر رضي الله عنه كلام كثير مرسوم في مواضعه، من كتبنا، وقد رسمنا من ذلك صدراً صالحاً في كتابنا المسمى " بتذكير العاقلين وتحذير الغافلين " فمن أحب الوقوف عليه فينظر فيه، ففيه بيان وفائدة لمن نصح نفسه ونظر لدينه، بمشيئة الله وعونه.
عبد الملك يتوسم الخلافة بأمور في نفسهحدثنا محمد بن الحسن بن دريد، قال: أخبرنا أبو حاتم، عن العتبي، عن أبي عبيدة، عن عمارة العقيلي، أو غير رجل عن عمارة، قال: كنا نجلس عند الكعبة وعبد الملك بن مروان يجالسنا من رجل عذب اللسان لا يمل جليسه حديثه، فقال لي ذات يوم: يا أبا إسحاق! إنك إن عشت فسترى الأعناق إلي مادة، والآمال إلي سامية.
ثم قام فنهض من عندنا، فأقبلت على جلسائي فقلت: ألا تعجبون من هذا القرشي! يذهب بنفسه إلى معالي الأمور، وإلى أشياء لعله لا ينالها، قال: فلا والله ما ذهبت الأيام حتى قيل لي: إنه قد أفضيت إليه الخلافة، فذكرت قوله، فتحملت إليه فوافيت دمشق يوم الجمعة، فدخلت المقصورة فإذا أنا به وقد خرج علي من الخضراء، فصعد المنبر فحمد الله جل وعز وأثنى عليه، فبينما هو يخطب إذ نظر إلي ثم أعرض عني، فساءني ذلك، ونزل فصلى بنا ودخل الخضراء.
فما جلست إلا هنيهة حتى خرج غلامه قائلاً: أين عمارة العقيلي؟ قلت: هأنذا، قال: أجب أمير المؤمنين فدخلت إليه فسلمت عليه بالخلافة فقال لي: أهلاً وسهلاً، وناقةً ورحلاً، كيف بعدي كنت؟ وكيف كنت في سفرك؟ وكيف من خلقت؟ لعلك أنكرت إعراضي عنك فإن ذلك موضع لا يحتمل إلا ما صنعت، يا غلام! بوىء له بيتاً معي في الدار، فأنزلني بيتاً فكنت آكل معه وأسامره حتى مضت لي عشرون يوماً، فقال لي: يا أبا إسحاق! قد أمرنا لك بعشرين ألف دينار وأمرنا لك بحملان وكسوة فلعلك قد أحببت الإلمام بأهلك ثم الإذن في ذلك إلينا، أتراني حققت أملك يا أبا إسحاق؟ قال: قلت: يا أمير المؤمنين، وإنك لذاكر لذلك؟!، قال: أي والله، وإن تمادى به عهد، قلت: يا أمير المؤمنين! أكان عندك عهدٌ ما قلت لي، أم ماذا؟ قال: بثلاث اجتمعن في، منها إنصافي جليسي في مجلسي، ومنها أني ما خيرت بين أمرين قط إلا اخترت أيسرهما، ومنها: قلة المراء.
متى تكون الشركة في الهديةحدثنا الحسين بن القاسم الكوكبي، قال: حدثنا أبو الحسن الديباجي، قال: حدثني أبو عبد الله اليوسفي.
أن أم جعفر كتبت إلى أبي يوسف: ما ترى في كذا، وأحب الأشياء أن يكون الحق فيه كذا، فأفتاها بما أحبت.
فبعثت إليه بحق فضة فيه حقائق فضة مطبقاتٌ، في كل واحدة لون من الطيب، وفي جام دراهم وسطه جامٌ فيه دنانير، فقال له جليسٌ له: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من أهديت له هديةٌ فجلساؤه شركاؤه فيها " ، فقال أبو يوسف: ذاك حين كانت هدايا الناس التمر واللبن.
شماتةالأعداء في العزلحدثنا محمد بن القاسم الأنباري، قال: حدثني محمد بن المزربان، قال: حدثنا أبو يعقوب النخبي، قال: حدثنا إبراهيم بن بشار، قال: حدثنا سفيان بن عيينة، قال: قيل لشريك لما قلد القضاء: ليتك خلصت من هذا الأمر ولو بالموت، فقال: أما بالموت فلا، ولكن بعورٍ أو شلل.
فلما تعصبت عليه القبائل وعزل عن القضاء جعل يسعى في أن يرد، فقال له ذلك الرجل: ليتك أعدت إلى الحكم ولو بعورٍ أو شلل، إنك لتمنى ذلك، فقال: نعم يا ابن أخي، وشماتة الأعداء شديدة.
قال القاضي: نظير هذا قول عمر لعمار: ساءك إذ عزلتك؟ فقال: والله يا أمير المؤمنين لقد ساءني أن وليتني، ولقد ساءني أن عزلتني.
معبد يتحدى الغريضحدثنا المظفر بن يحيى بن أحمد المعروف بابن الشرابي، قال: حدثنا أبو العباس أحمد بن محمد بن عبد الله بن بشر المرثدي، قال: حدثنا أبو إسحاق طلحة بن عبد الله الطلحي، قال: أخبرني أحمد بن إبراهيم، قال: وحدثني أبي، عمن حدثه، قال: خرج معبدٌ - وهو يومئذ أحسن أهل المدينة غناءً - إلى مكة يتحدى الغريض، فسأل عن منزله فدل عليه، فأتاه فقرع الباب فقالت الجارية: من هذا؟ فقال: قولي لأبي فلان، هذا رجلٌ من أهل المدينة من إخوانك، فقال: افتحي له، فدخل فحياه وسأله عن حاجته، فقال: أنا رجلٌ من أهل صناعتك، وقد أحببت أن أسمع منك وأسمعك ، فقال هات على اسم الله تعالى، فغناه معبد، فقال: أحسنت والله يا أخي، حتى انتهى، ثم اندفع هو يغني، فسمع معبد شيئاً لم يسمع بمثله قط، فقال له: أنت أحسن الناس غناءً، فقال له: كيف لو سمعت عجوزاً لنا في سفح أبي قبيس، يعني ابن سريج، فقال: كيف لي - جعلت فداك - بأن أسمعه منه؟ قال: قم بنا إليه، قال: فنهضنا حتى أتينا باب ابن سريج فقرعه الغريض فعرفته الجارية، فقالت: ادخل فدخلا جميعاً فإذا ابن سريج نائم الصبحة، وإذا عليه قرقرة أصفر.
قال القاضي: كذا قال ابن الشرابي، وهكذا رأيته في أصل كتابه والصواب قرقل في قول الجمهور، وإن كان بعضهم قد رد هذا وصواب قولهم قرقر، وقد خضب يديه وزراعيه إلى مرفقيه، فقال له الغريض: جعلت فداك، هذا رجل من إخوانك من أهل المدينة يتغنى، وقد أحب أن يسمعك غناه ويسمع منك، قال: هات، فغناه معبد فقال له ابن سريج: أحسنت والله ثم استل ابن سريج دفاً مربعاً وتغنى:
نظرت عيني فلا نظرت ... بعده عيني إلى أحدٍ
قال معبد: فسمعت شيئاً ما سمعت مثله قط، ولا ظننت يكون، فأخذت أئتم به واختلف إليه.
من صفة الغريضوحدثنا المظفر، قال: حدثنا محمد بن أحمد المرثدي، قال: أخبرنا أبو إسحاق الطلحي، قال: وأخبرني أحمد، قال: كان الغريض مخنثاً وكان جميلاً له شعر، وكان مولى الثريا بنت عبد الله بن الحارث بن أمية الأصغر، وكان يتعلم من ابن سريج.
من نوادر طويسوحدثنا المظفر، قالك أخبرني أحمد، قال: أخبرنا أبو إسحاق، قال: وخبرني أحمد، قال: حدثني أبي، قال: مر طويس وكان مخنثاً أحسن الناس غناءٍ، ومعه جماعة من المخنثين، فمر بنهر حمام يكون ذراعاً، فرفع ثيابه ووضعها تحت إبطه اعتزاءً وتجلداً، ثم قال: أنا زيد الخيل، أنا عامر بن الطفيل، انا دريد بن الصمة، ثم قفز قفزة فإذا هو مستنقعٌ في النهر، وصاح المخنثون الغريق الغريق.
من مخارج أبي يوسفحدثنا محمد بن الحسن بن زياد المقري، قال: أخبرنا عبد الله بن الحسن أبو شبيب، قال: حدثنا علي بن الجعد، قال:
أرسل أمير المؤمنين الرشيد إلى قاضي القضاة أبو يوسف، في ساعةٍ لم يكن يرسل إليه في مثلها، قال أبو يوسف: فتحنطت وتكفنت ولبست فوق ذلك ثيابي، ودخلت على أمير المؤمنين، فألفيته جالساً على طرف المصلى، وإذا بين يديه سيف مسلول، فسلمت فرد علي السلام وأدناني، فشم مني رائحة الحنوط، فقال: ما هذه الرائحة فأخبرته الخبر فاسترجع، ثم أمر بذلك فنزع عني، وجاءني بثياب فلبستها، ثم قال لي: تدري من خلف هذا الستر؟ قلت: لا، يا أمير المؤمنين، قال: إن خلفه أعز خلق الله تعالى علي، قال: فظننت أنها الخيزران، ثم قال: إني أودعتها عقوداً لها مقدار، وجوهراً له خطر، وإني فقدت منها عقداً، فحلفت بأيمان البيعة وأكدتها على نفسي أنها تصدقني عن خبره، فإن لم تصدقني ضربتها بسيفي هذا حتى أبضعها قطعاً، قال أبو يوسف: يا أمير المؤمنين! قد أخرجك الله تعالى من يمينك، فمر بالسيف يرد إلى غمده، فأمر به فرد إلى غمده، فقلت: يا أمير المؤمنين! سلها وعرفها يمينك، فسألها وغلظ عليها الأمر، قال: قل لها: لا تجيبك حتى أقول لها، ثم قال لها أبو يوسف: أمسكي، ثم قال: يا أمير المؤمنين! فسلها ثانية، فسألها وغلظ عليها ما حلف به، فقال لها أبو يوسف: قولي إني لم آخذه، فقالت: لم آخذه.
ثم التفت إلى أمير المؤمنين، فقال: قد صدقتك في أحد القولين إن كانت أخذته فقد صدقت، وإن كانت لم تأخذه فقد صدقتك.
فأمر له بعشرة آلاف درهم، وقاما وخرجا من البيت الذي كانا فيه إلى خزانة، فأمر بها ففتحت وأخرج إليه أسفاطٌ فأمر بها فحلت، فإذا فيها جوهر له خطر، فقال أبو يوسف: يا أمير المؤمنين! ما رأيت أحسن من هذا، فإن رأيت أن تهبه لي؟ فقال: لا والله ما نفسي بذلك طيبة، فقال: فهبه لأم جعفر، فقال: لا والله، ولا نفسي به طيبة، قال: يا أمير المؤمنين! فإن لم تفعل لا هذا ولا ذا فتعلم أم جعفرٍ أني سألتك أن تهب لها هذه العقود فأبيت، قال: أما ذا فنعم، فأعلم أم جعفر بذاك فأنفذت إلى أبي يوسف بمائة ألف درهم.
سبب شدة المنصور على مخالفيهحدثنا محمد بن يحيى الصولي، قال: حدثنا أحمد بن يحيى، عن محمد بن إسماعيل، عن أبيه قال: قال عبد الصمد بن علي للمنصور: يا أمير المؤمنين! لقد هجمت بالعقوبة حتى كأنك لم تسمع بالعفو، فقال: لأن بني مروان لم تبل رممهم، وآل أبي طالب لم تغمد سيوفهم، ونحن بين قومٍ قد رأونا أمس سوقةً واليوم خلفاء، فليس تتمهد هيبتنا في صدورهم إلا بنسيان العفو واستعمال العقوبة، ولو لم أفعل هذا لاحتجنا إلى ما هو أعظم منه.
من مروءة الحسن البصريحدثنا أبي رضي الله عنه، قال: حدثني أبو أحمد الختلي، قال: أخبرنا أبو حفص النسائي، قال: حدثنا أحمد بن إبراهيم بن كثير، قال: حدثنا محمد بن كثير بن مخلد بن الحسين، عن هشام بن حسان، قال: كان الحسن إذا اشترى له شيء بكذا وكذا ونصف أتمه به، فباع الحسن بغلاً له بأربع مائة درهم، فقيل لصاحبه، لو اتيته فاستحططته من ثمنه شيئاً، فأتاه فقال: يا أبا سعيد! إن رأيت أن تخفف عني من ثمن البغل! فقال له: خمسون درهماً أرضيت؟ قال: نعم، يا أبا سعيد، قال: فلك خمسون أخرى أرضيت؟ قال: نعم، رضي الله عنك، قال: فلما أدبر الرجل قال: هلم فإنه بلغني أن من الإحسان أن يضع الرجل نصف حقه، اذهب فلك مائتان.
المجلس السادس والأربعون
قصة مقتل أمية بن خلفحدثنا محمد بن القاسم الأنباي، قال: حدثني أبي، عن أبي الفضل العباس بن ميمون، عن يعقوب بن محمد الزهري، عن إبراهيم بن سعد، عن أبيه، عن جده عبد الرحمن بن عوف، قال: كنت أعرف بعبد عمرو فسماني رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الرحمن، فلما كان يوم بدر سلبت أربعة ادرعٍ من دروع المشركين وأقبلت بهن، فمر بي أمية بن خلف وابنه علي، فناداني أمية: يا عبد عمرو! فلم أجبه، فقال: يا عبد الرحمن! قلت: وما شأنك؟ قال: أنا وابني خيرٌ لك من هذه الأدرع، فألقيتهن وأقبلت بهما، فبصر بهما بلال فأقبل بسيفه، وقال: أمية رأس الكفر؟ الحمد لله الذي أمكنني منك، فقلت: يا بلال! كانت معي والله أربعة أدرع وألقيتهن واعتمدت على هذين، فلا تفجعني بهما.
فأقبل يريدهما فقلت: تنح يا ابن السوداء، وقام إلى قوم من الأنصار، فقال: معاشر المسلمين! أمية رأس الكفر وابنه، فأقبلوا بالسيوف إليهما، فما ملكوني من أمرهما شيئاً، فضرب علي ضربةً فطنت ساقه، فصاح أمية صيحة ما سمعت مثلها قط، ثم حملوا فذففوا عليهما.
فكان عبد الرحمن يقول: رحم الله بلالاً، فجعني بأسيري وذهبت أدراعي.
معنى ذففوا: أجهزوا، قال أبو بكر: قال أبي: قال العباس: فحدثت بهذا الحديث ابن عائشة، فقال لي: حدثني أبي أن شاعراً من المسلمين مدح بلالاً لما فعل ذلك، فقال:
هنيئاً زادك الرحمن خيراً ... فقد أدركت ثأرك يا بلال
فما نكساً وجدت ولا جباناً ... غداة تنوشك الأسل الطوال
معنى التناوش مهموزاً و غير مهموز
قال القاضي: معنى تنوشك: تناولك، وهو من المناوشة، وقيل: إن التناوش: التناول من قريب بغير همز، والتناؤش بالهمز: التناول من بعيد، قال الراجز:
فهي تنوش الحوض نوشاً من علا ... نوشاً به تقطع أجواز الفلا
فهذا غير مهموز، وقال نهشل بن حري في الهمز:
تمنى نئيشاً أن يكون أطاعني ... وقد حدثت بعد الأمور أمور
وقد قرأت القرأة: " وأنى لهم التناؤش " بالهمز وتركه، ونسب الصلولي شيخنا أبا جعفر رحمه الله إلى التصحيف في بيت نهشل، وذكر أنه رواه تمنى حبيشٌ، وجرت بيننا وبينه في هذا مخاطبة قمعته بحضرة جماعة منهم أولو علم ومعرفة، ولنا في هذا رسالة أوضحنا فيها سقوط ما أورده الصولي وحكاه، وضمناها من خطأ الصولي وتصحيفه وتعاطيه ما لا يحسنه في مواضع من تأليفه، ومن نظر في ذلك أشرف منه على علم مستفاد، وبيان مستجاد، إن شاء الله.
الوليد يتوله بجارية نصرانيةحدثنا محمد بن الحسن بن دريد، قال: أخبرنا أبو حاتم، قال: أخبرنا العتبي، قال: كان الوليد بن يزيد نظر إلى جارية نصرانية من أهيأ الناس يقال لها سفرى، فجن بها وجعل يراسلها وتأبى عليه، حتى بلغه أن عيداً للنصارى قد قرب، وأنها ستخرج فيه وكان موضع العيد بستانٌ حسن، وكان النساء يدخلنه، فصانع الوليد صاحب البستان أن يدخله فينظر إليها فتابعه، وحضر الوليد وقد تقشف وغير حليته، ودخلت سفرى البستان فجعلت تمشي حتى انتهت إليه، فقالت لصاحب البستان: من هذا؟ قال لها: رجلٌ مصابٌ، فجعلت تمازحه وتضاحكه حتى اشتفى من النظر إليها ومن حديثها، فقيل لها: ويلك! تدرين من ذلك الرجل؟ قالت: لا، فقيل لها: الوليد بن يزيد فإنما تقشف حتى ينظر إليك، فجنت به بعد ذلك، وكانت عليه أحرص منه عليها، فقال الوليد في ذلك:
أضحى فؤادك يا وليد عميدا ... صباً قديماً للحسان صيودا
من حب واضحة العوارض طفلةٍ ... برزت لنا نحو الكنيسة عيدا
ما زلت أرمقها بعيني وامق ... حتى بصرت بها تقبل عودا
عود الصليب فويح نفسي من رأى ... منكم صليباً مثله معبودا
فسألت ربي أن أكون مكانه ... وأكون في لهب الجحيم وقودا
قال القاضي: لم يبلغ مدرك الشيباني هذا الحد من الخلاعة فيما قال في عمرو النصراني:
يا ليتني كنت له صليباً ... وكنت منه أبداً قريبا
أبصر حسناً وأشم طيباً ... لا واشياً أخشى ولا رقيبا
فلما ظهر أمره وعلمه الناس، قال:
ألا حبذا سفري وإن قيل إنني ... كلفت بنصرانيةٍ تشرب الخمرا
يهون علينا أن نظل نهارنا ... إلى الليل لا أولى نصلي ولا عصرا
وللوليد في هذا النحو من الخلاعة والمجون وسخافة الدين ما يطول ذكره، وقد ناقضناه في أشياء من منظوم شعره والمتضمن ركيك ضلاله وكفره، وما لعلنا نورده فيما نستقبله من مجالس في كتابنا هذا.
حكم الوادي يضطرب أمام الوليدحدثنا المظفر بن يحيى بن أحمد المعروف بان الشرابي، قال: حدثنا أبو العباس المرثدي، قال: حدثنا أبو إسحاق الثلجي، قال: أخبرني أبي، عن حكم الوادي، قال:
قال الوليد بن يزيد بن عبد الملك لجلسائه من المغنيين: إني لأشتهي غناء أطول من أهزاجكم وأقصر من الغناء الطويل، قالوا جميعاً: قد أصبته يا أمير المؤمنين، بالمدينة رجل يقال له: مالك بن أبي السمح الطائي حليف لقريش وهذا غناؤه، وهو أحسن الناس خلقاً وأحسنهم حديثاً، قال: أرسلوا إليه، فأرسل إليه فشخص حتى وافاه بالشام بدمشق.
قال: فلما دخلنا في وقت النبيذ دخل معنا، فقال له الوليد: غنه، فاندفع يضرب فلم يطاوعه حلقه ولم يصنع قليلاً ولا كثيراً، فقال له الوليد: قم فاخرج.
قال: وأقبل علينا يعنفنا، ويقول: ما تزالون تغروني بالرجل وتزعمون أن عنده بعض ما أشتهيه حتى أدخله وأطلعه على ما لم أكن أحب أن يطلع عليه أحد، ثم لا أجد عنده ما أريد. فقلنا: يا أمير المؤمنين! والله ما كذبنا ولكن عسى الرجل قد تغير بعدنا، قال: ولم نزل به حتى استرسل وطابت نفسه وغنيناه حتى نام، ثم انصرفنا فجعلنا طريقنا على مالك، فافترينا عليه وكدنا نتناوله، قال: فقال: ويحكم! دخلتني له هيبةٌ منعتني من الغناء ومن الكلام لو أردته، فأعيدوني إليه فإني أرجو أن يرجع إلى حلقي وغنائي.
قال: فكلمنا الوليد فدعا به، فكان في الثانية أسوأ حالاً منه في الأولى فصاح به أيضاً فخرج، وفعلنا كفعلنا، قال: فقال: أعيدوني إليه فامرأته طالق وما يملك في سبيل الله إن لم أستنزله عن سريره إن هو أنصفني، قال: فجئنا إلى الوليد، قال: فأخبرناه، قال: فقال: وعلي مثل يمينه إن هو لم يستنزلني أن أنفذ فيه ما حلف به فهو أعلم.
قال: فأتيناه فأخبرناه بمقالة الوليد ويمينه، قال: قد قبلت، قال: فحضرنا معه داراً نكون فيها إلى أن يدعي بنا، فمر به صاحب الشراب فأعطاه ديناراً على أن يأتيه بقدحٍ حبشاني مملوءٍ شراباً من شراب الوليد، فأتاه بقح ثم بقدح ثم بقدح، بثلاثة أقداح، فأعطاه ثلاثة دنانير ثم أدخلناه عليه، فقال له الوليد: هات، فقال: لا، والله أوترجع إلي نفسي وأضطرب وأرى للغناء موضعاً، قال: فذاك لك، قال: فاشرب يا أمير المؤمنين، قال: فشرب وجعل يشرب ويغني المغنون، حتى إذا ثمل الوليد وثمل هو سل صوتاً فأحسن وجاء بما يغرب، فطربنا وطرب الوليد وتحرك، وقال: اسقني يا غلام فسقي وتغنى مالكٌ صوتاً آخر فجاء بالعجب، فقال له الوليد: أحسنت أحسنت أحسن الله إليك، فقال: الأرض الأرض يا أمير المؤمنين، قال: ذاك له ونزل فحياه وأحسن إليه، ولم يزل معه، حتى قتل الوليد.
ألا أن تحج ثانية يا أمير المؤمنينحدثنا الحسين بن القاسم الكوكبي، قال: حدثنا أبو الفضل الربعي، قال: حدثنا إسحاق الموصلي، قال: حدثني أبي، عن إبراهيم الجرجاني، قال: حججت مع أمير المؤمنين الرشيد فدخلت مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبينا أنا بين القبر والمنبر، إذ أنا عن يميني برجل حسن الهيئة خاضب، معه رجلٌ في مثل حاله، فحانت مني لفتة نحوه فإذا هو يكسر حاجبه، ويفتح فاه، ويلوي عنقه، ويشير بيده، فتجوزت في صلاتي وسلمت، فقلت: أفي مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم تتغنى؟ قال: قنعك الله دار مخرمة، ما أجهلك! - قال: ودار مخرمة صخرة - أما في الجنة غناء؟ قلت: بلى، فيها ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين، قال: فأنا في روضة من رياض الجنة، قلت: لا، قال: واحرباه! أترد على رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله: " بين قبري ومنبري روضةٌ من رياض الجنة " ، فنحن في تلك الروضة، فقلت: قبح الله شيخاً وشارة، ما أسفهك! فقال: بالقبر لما أنصت إلي، فتخوفت إلا أنصت إليه، فاندفع فتغنى بصوتٍ يخفيه:
فليست عشيات الحمى برواجع ... عليك ولكن خل عينك تدمعا
فوالله إن قمت للصلاة مما دخا علي، فلما رأى ما نزل بي، قال: يا ابن أمي! أرى نفسك قد استجابت وطابت، فهل لك في زيادة؟ قلت: ويحك! مسجد رسول الله صلى الله وسلم، قال: أنا أعرف بالله ورسوله منك، فدعنا من جهلك، وتغنى:
فلو كان واشٍ باليمامة داره ... وداري بأعلى حضرموت اهتدى ليا
وما بالهم لا أحسن الله حفظهم ... من الحظ هم في نصر هم ليلى حياليا
قال: فقال له صاحبه: يا ابن أخي! أحسنت والله، عتق ما يملك لو أن هذا في موضع أمير المؤمنين الرشيد لخلع عليك ثيابه مشقومةً طرباً، قال: فقمت وهما لا يعلمان من أنا، فدخلت على أمير المؤمنين الرشيد، فحدثته، فقال: أدركهما لا يفوتانك، فوجهت من أتى بهما، فلما دخلا عليه ودخلا بوجوهٍ قد ذهب ماؤها، وأنا قائمٌ على رأسه، فقال: يا إبراهيم! هذان هما؟ قلت: نعم، يا أمير المؤمنين، فنظر المغني منهما إلي وقال: سعاية في جوار قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فسري عن أمير المؤمنين بعض غضبه، فقال: ما كنتما فيه؟ قالا: خيرٌ، قال: فما من ذلك الخير؟ فسكتا، فقال للمغني منهما: من أنت؟ فابتدره جماعة فقالوا: يا أمير المؤمنين! هذا ابن جريج فقيه أهل مكة، فقال: فقيه يتغنى في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: يا أمير المؤمنين! لم يكن ذلك بالقصد مني، ولكني سمعت من هذا المخزومي - يعني صاحبه - صوتين لم يزالا في قلبي حتى التقينا وأحببت أن يأخذهما علي فأخذهما علي، وحلفت إني قد أحسنت وأنه لو كان في موضع أمير المؤمنين لخلع علي، وسكت.
فقال: إن كنت تركت من الحديث شيئاً فهاته، فقال: ما تركت يا أمير المؤمنين شيئاً، قال: والله لتقولن ما قال أو لأضربن عنقك.
قال: يا أمير المؤمنين! قال: لو كنت في موضعه لخلعت عليه ثيابك مشقوقة طرباً، فتبسم الرشيد وقال: أما هذا فلا، ولكن سأنبذها لك صحيحة فهو خيرٌ لك، ثم دعا بثيابٍ ونبذ إليه ثيابه، وأمر له بعشرة آلاف درهم، ولصاحبه بخمسة آلاف درهم، وقال: لا تعود لمثل هذا.
قال: فقال صاحب ابن جريج: إلا أن تحج ثانيةً يا أمير المؤمنين، فضحك وقال: ألحقوه بصاحبه في الجائزة.
وصية أعرابية لولدهاحدثنا محمد بن القاسم الأنباري، قال: حدثني أبي، قال: حدثني عبد الله بن محمد بن رستم، قال: حدثني محمد بن عيسى النحوي، قال: قال أبان بن تغلب - وكان عابداً من عباد البصرة: شهدت أعرابية وهي توصي ولداً لها يريد سفراً وهي تقول له: أي بني! اجلس امنحك وصيتي، وبالله تعالى توفيقك، فإن الوصية أجدى عليك من كثير عقلك.
قال أبان: فوقفت مستمعاً لكلامها مستحسناً لوصيتها فإذا هي تقول: أي بني! إياك والنميمة، فإنها تزرع الضغينة وتفرق بين المحبين، وإياك والتغرض للعيوب، فتتخذ غرضاً، وخليق إلا يثبت الغرض على كثرة السهام، وقل ما اعتورت السهام هدفاً إلا كلمته حتى يهي ما اشتد من قوته، وإياك والجود بدينك، والبخل بمالك، وإذا هززت فاهزز كريماً يلين لهزتك، ولا تهزز اللئيم فإنه صخرة لا يتفجر ماؤها، ومثل لنفسك أمثال ما استحسنت من غيرك فاعمل به، وما استقبحت من غيرك فاجتنبه، فإن المرء لا يرى عيب نفسه، ومن كانت مودته بشره، وخالف ذلك فعله، كان صديقه منه على مثل الريح في تصرفها، ثم أمسكت. فدنوت منها فقلت: بالله يا أعرابية إلا زدتيه في الوصية، قالت: أوقد أعجبك كلام الأعراب يا عراقي؟ قلت: نعم، قالت: والغدر أقبح ما تعامل به الناس بينهم، ومن جمع الحلم والسخاء فقد أجاد الحلة ريطتها وسربالها.
عندما يسمع المحب اسم حبيبهحدثنا محمد بن يحيى الصولي، قال: حدثنا عون بن محمد، قال: حدثني إدريس بن بدر أخو الجهم بن بدر، قال: كان أبي منقطعاً إلى الفضل بن يحيى، فكان معه يوماً في موكبه، فقال أبي: فرأيت من الفضل حيرةً وجولة، فنظر إلي ففطن أني قد استبنت ما كان فيه، فقال: عرفني يا بدر، كيف قال المجنون: وداع دعا.......؟ فأنشده:
وداعٍ دعا إذ نحن بالخيف من منى ... فهيج أحزان الفؤاد وما يدري
دعا باسم ليلى غيرها فكأنما ... أطار بليلى طائراً كان في صدري
قال: هذه والله قصتي، كنت أهوى جاريةً يقال لها خشف، فكان مني ما رأيت ونالني مثل ما نال المجنون.
كتاب سوء الأدبحدثنا محمد بن الحسن بن زياد المقري، قال: حدثنا محمد بن عبد الرحمن الشامي بهراة، قال: أخبرني علي بن الجعد، قال: كتب أبو يوسف القاضي يوماً وعن يمينه إنسان، فلاحظه يقرأ ما يكتب، ففطن به أبو يوسف، فقال له: وقفت على شيءٍ من خطأ؟ قال: لا، والله، ولا حرف. فقال له أبو يوسف: جزيت خيراً كفيتنا مؤونة قراءته، ثم أنشأ يقول:
كأنه من سوء تأدابه ... تعلم في كتاب سوء الأدب
لم يدعه يسأل غيرهحدثنا عبيد الله بن محمد بن جعفر الأزدي، قال: حدثنا أبو بكر بن أبي الدنيا، قال: حدثني سليمان بن منصور الخزاعي، قال: حدثنا أبو سفيان الحميري، عن عبد الحميد بن جعفر الأنصاري، قال: قدم أعرابي المدينة يطلب في أربع دياتٍ حنلها، فقيل له: عليك بحسن ابن علي، وعليك بعبد بن جعفر، وعليك بسعيد بن العاص، وعليك بعبد الله بن العباس، فدخل المسجد فرأى رجلاً يخرج ومعه جماعة، فقال: من هذا؟ قيل: سعيد بن العاص، قال: هذا أحد أصحابي الذين ذكروا لي، فمشى معه فأخبره بالذي قدم له، ومن ذكره وأنه أحدهم، وهو ساكتٌ لا يجيبه، فلما بلغ باب منزله قال لخازنه: قل لهذا الأعرابي فليأت بمن يحمل له، فقيل له: ائت بمن يحمل، قال: عافى الله سعيداً، إنما سألناه ورقاً ولم نسأله تمراً، قال: ويحك إئت بمن يحمل لك، فأخرج إليه أربعين ألفاً، فاحتملها الأعرابي فمضى إلى البادية ولم يلق غيره.
كيف خلصه الله من الغلامحدثنا محمد بن أحمد بن أبي الثلجن قال: حدثنا الحسين بن فهم، قال: حدثنا عمر بن شية، عن فلان من أهل البصرة، قال: مررت بالنخاسين ببغداد فإذا أنا برجل ينادي على غلام نظيف له هيئة وجمال، وهو يقول: من يشتري غلاماً سارقاً آبقاً قتولاً لمواليه؟ فعد خلال سوء، قال: فقلت: يا غلام! ما هذه الصفات بك؟ قال: فقال لي: امض إلى عملك إن أردت أن تمضي، فإن مولاي يريد أن يستعيبني بهذا، قال: فرغبني هذا الكلام فيه، فقلت للمنادي: بعنيه، فقال: مع كل ما وصفت من الخلال المذمومة فيه؟ قال: فقلت: ارم بثمن هذا في البحر.
فاشتريته بسبعة عشر ديناراً وصرت به إلى منزلي، فمكث شهوراً لا أرى إلا كل خلةٍ جميلة، حيطة وشفقة ونصحاً حتى أمنته وسلمت إليه، فقبض على كيسٍ لي فيه جملةٌ ثم هرب، فلم أعرف له خبراً، ولم يكن لي على بيعه حجةٌ لما بين من خلاله.
قال: فقلت: ما أرى كل ما قيل فيه إلا حقاً، وحمدت الله عز وجل إذ كانت النازلة بمالي ولم تكن بي. قال: ثم اتصل بي الخبر أنه بالكوفة قد انقطع إلى صيرفي، قال: فخرجت خلفه فأراه قاعداً في الصيارف في دكان رجل نبيلٍ منهم، قال: فقبضت عليه وقلت: يا عدو الله يا آبق! قال: فقال الصيرفي: أهو مملوك؟ قال: فقلت: نعم، وهو عبدي، قال: فقال الغلام: نعم، هو مولاي وأنا مملوكه، فراعني تماوته، قال: وخفت أن ينالني ما قال المنادي، قال: فجئت به إلى حدادٍ فقلت له: ضع بيدي ويده مصكةً وثيقة، قال: وقلت: والله لا نزال هكذا إلى بغداد، وخرجت من الكوفة أمشي ويمشي لا يتهيأ لنا الركوب من أجل المصكة، حتى وافينا برقيا، قال: فنمنا في الخان على تعب، قال: فما شعرت إلا بوثبة الأسد فوق الغلام، قال: فأخذه يجره ويجرني معه بالمصكة قال: فذكرت سكيناً في خفي صغيرة، فأخرجتها فحززت يده فبقيت في المصكة، ومضى به الأسد، ثم نزعت المصكة ودفنت يده
رواية أخرى للخبرحدثنا أبو النضر العقيلي بنحو هذا عن أبي الحسن بن راهوية الكاتب، قال: حكى بعض التجار أن مملوكاً سرق منه كيساً فيه جملة من الدنانير وهرب، قال: فخرجت في طلبه فأدركني المساء في موضع حدده وذكر لي أنه مسبعٌ، فرأيت شجرة عاليه فتسنمتها، فلما كان في الليل أقبل الأسد والأرض كادت تنشق من زئيره، فجزعت وجذبت غصناً من الشجرة متعلقاً به لأرتفع من مكاني وازداد بعداً من الأرض، فسقط شخص من الشجرة سمعت وجبته، فوثب الأسد عليه وجعل يلغ في دمه، ويلتهم لحمه ثم ولى، وأقمت بمكاني حتى جاء الصبح وانتشر الناس، فنزلت فإذا رأس غلامي ملقى وإلى جنبه كيسي بحاله، فأخذته وانصرفت.
أبى إلا الحقحدثنا إبراهيم بن محمد بن عرفة الأزدي، قال: حدثني إسماعيل بن حسان قال: حدثنا حماد بن داود التغلبي، عن عوانة بن الحكم، قال:
أتى الحجاج برجلين من الخوارج، فقال لأحدهما: ما دينك؟ قال: دين إبراهيم حنيفاً مسلماً وما أنا من المشركين، فقال: يا حرسي! اضرب عنقه، ثم قال للآخر: أنت ما دينك؟ قال: دين الشيخ يوسف بن الحكم - يعني أبا الحجاج - قال: ويحك أخبرته؟ لقد كان صواماً قواماً، يا حرسي! خل عنه، فقال: ويحك يا حجاج! أشقيت نفسك واثمت بربك، قتلت رجلاً على دين إبراهيم صلى الله عليه وسلم، قال الله تعالى: " ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه " : فقال: أبيت، يا حرسي! اضرب عنقه، فانطلق به فأنشأ يقول:
سبحان رب قد يرى ويسمع ... وقد مضى في علمه ما تصنع
ولو يشا في ساعةٍ بل أسرع ... فيرسلن عليك ناراً تسطع
فيترك السرير منك بلقع
فضربت عنقه.
من طرائف القضاةحدثنا جعفر بن أحمد بن جعفر النهرواني، قال: حدثني أبي، عمن حدثه، قال: ولى يحيى بن أكثم إسماعيل بن سماعة القضاء بغربي بغداد، وولى سوار بن عبد الله شرقيها، وكانا أعورين، فكتب فيه محمد بن راشد الكاتب:
رأيت من العجائب قاضيين ... هما احدوثة في الخافقين
هما فال الزمان بهلك يحيى ... إذ افتتح القضاء بأعورين
فلو جمع العمى يوماً بأفقٍ ... لكانا للزمانة خلتين
ةتحسب منهما من هز رأساً ... لينظر بزاله من فرد عين
وكان يحيى بن أكثم أعور.
من رسائل العتابيحدثنا الحسين بن المزربان النحوي، قال: حدثني محمد بن العباس اليزيدي، قال: حدثني أبو جعفر محمد بن صدقة النحوي، قال: كتب العتابي إلى داود بن يزيد بن المهلب: أما بعد، فإني امرؤ في خلتان: حصرٌ مقيد بالحياء، وعزة نفس شبيهةٌ بالجفاء، ولم أزل أرغب بنفسي في صحبة غطارفة الرجال، وأبناء ذوي الفعال، فوردت العسكر فرفع إلي أقوام منهم من يرتاش حاله، ولا يشرف إلا بماله، ومنهم من أنحل أديمه، ولم يصل قديمه، في طبات شتى يضيق عنهم المدح، ويتسع فيهم الذم، ورأيت وجوه القبائل تصدر عنك بأنواع الفضائل في حمل الديات، وفضل الهبات، ورأيتك من نبعةٍ أصلها الكرم، وأغصانها الهمم، تثمر الحمد، وترقع المجد، فحططت رحلى بفنائك وشددت عراه بأطناب وفائك، وقلت في ذلك
داود خير فتىً يعاذ بركنه ... ملكٌ يجير من الزمان القاسي
كم من يد لك أصبحت مشهورةً ... بيضاء تجلو ظلمة الإبلاس
فلقلما تلقاه إلا واقفاً ... متحرماً بين الندى والباس
أثر الهدية في النفوسحدثنا أبي، قال: حدثنا أبو أحمد الختلي، قال: اخبرنا أبو حفص - يعني النسائي - قال: حدثني أحمد بن محمد بن يعقوب التميمي، عن علي بن محمد القرشي، قال: حدثنا حفص بن عمرو بن خاقان، قال: حدثني يونس بن عبيد، قال: أتيت محمد بن سيرين، فقلت: قولوا له: يونس بن عبيد بالباب، فقال: قولوا له: أنا نائم، فقلت: قولوا له: إن معي هدية، فقال: كما أنت إذاً.
هل كذب ابن سيرينقال القاضي: قول ابن سيرين، فقال: قولوا له: إنه نائم وليس بنائم، أراد به - والله أعلم - أنه نائمٌ بعد هذا الوقت، كقول الرجل: أنا قاتم غداً، قال الله عز وجل: " إنك ميتٌ وإنهم ميتون " ، وابن سيرين ممن تنزه عن الكذب لدينه وورعه. وقد روي عنه في ذم الكذب أشياء كثيرة.
لماذا يهدأ ولماذا يضرب؟
حدثنا أحمد بن محمد بن السري التميمي، قال: حدثنا أحمد بن قرج، قال: سمعت أبا عمر الدفتري، يقول: سمعت الكسائي يقول: كنت يوماً أقرأ على حمزة فدخل سليم فاضطربت، فقال لي حمزة: يا هذا! تقرأ علي وأنت مستمر حتى إذا دخل سليم اضطربت؟ قلت: إني إذا قرأت عليك فأخطأت قومتني، وإذا أخطأت فسمعني سليم عيرني.
القصة يرويها الكسائيحدثنا محمد بن الحسين بن مقسم، قال: حدثنا أبو أحمد المخرمي، قال: حدثنا أبو هشام، قال: حدثني سليم، قال: رأيت الكسائي يقرأ على حمزة فجئته فاستندت إلى المحراب بجنب حمزة، فجعل الكسائي يرعد، فقال له حمزة: كأنه أهيب في عينك مني؟ قال: لا، ولكني إذا أخطأت علمتني، وهذا إذا سمعني أخطىء شنع علي.
ألفاظ التلبية
حدثنا عبد الله بن الحسن بن محمد، أبو عمر البزاز، قال: حدثنا محمد بن خلف، قال: حدثني محمد بن إسحاق، قال: حدثنا الحسن بن موسى، قال: حدثنا زهير، قال: قال ابن إسحاق لأخي: يا رجيل! قال: لبيك، قال: لبى يديك.
قال القاضي: قول القائل: لبيك، بالإضافة فيه إلى كاف المخاطبة، وليست الإضافة فيه إلى الأسماء الظاهرة أعلامها ومبهمها، كقولك: لبى زيد، ولبى هذا الظاهر المستعمل في العربية، وقد أتى على شذوذه كما أتى في هذه الكلمة، أعني لبى يديك، وذلك أن عدداً من النحويين أنشدوني هذا البيت:
دعوت لما نابني مسوراً ... فلبى فلبى يدي مسور
وللتلبية أحكام قد رسمنا فيها رسالةً تحوي تفسير معانيها، وما اتفق عليه واختلف فيه منها، من جهة النحو والإعراب، وأبواب الفقه، وسببها ومجاريها في الحج والعمرة، ومن نظر فيه أشرف على أنواع من الفائدة.
الهموم تزيد مع النعمحدثنا أبي، قال: وحدثني بعض أصحابنا، قال: حدثنا أبو عمرو الضرير بالكوفة، قال: قال يحيى بن معين: كنت أنا وأحمد بن حنبل عند عبد الرزاق، وكنت أكتب الشعر والحديث، وكان أحمد يكتب الحديث وحده، فخرج إلينا يوماً عبد الرزاق، وهو يقول:
كن موسراً إن شئت أو معسراً ... لا بد في الدنيا من الهم
وكلما زادك من نعمخ زا ... دك ما زادك من غم
فقال له أحمد: كيف قلت؟ كيف قلت؟ فأعادها عليه فكتبها.
رواية أخرى للخبر فيها زيادةحدثنا محمد بن القاسم الأنباري، قال: وحدثني أبي، عن بعض أصحابه، عن أبي عاصم، عن ابن جريج.
قال: خرجت في السحر، فرأيت رقعةً تضربها الرياح فأخذتها فلما أضاء الصبح فتحتها، فإذا فيها:
كن موسراً إن شئت أو معسراً ... لا بد في الدنيا من الهم
وكلما زادك من نعمةٍ ... زادك الذي زادك في الغم
إني رأيت الناس في دهرنا ... لا يطلبون العلم للعلم
إلا مباهاةً لأصحابهم ... وعدةً للغشم والظلم
قال ابن جريج: والله لقد منعتني هذه الأبيات عن أشياء كثيرة.
المجلس السابع والأربعون
تأكل من فم رسول اللهحدثنا محمد بن أحمد بن أبي الثلج، قال: حدثنا حسين بن فهم، قال: حدثنا عبد الله بن الرومي، قال: حدثنا النضر بن محمد، عن عكرمة بن عمار، عن أثال بن قرة، عن شهر بن حوشب، قال: " كانت بالمدينة امرأةٌ تضحك الثكلى، قال: فدخلت على عائشة ورسول الله صلى الله عليه وسلم عندها وهو يأكل قديداً، فقالت: انظروا يأكل ولا يطعمني! قال: فناولها رسول الله صلى الله عليه وسلم مما كان بين يديه، فقالت: لا آكله إلا من فيك، فأخرج لها النبي صلى الله عليه وسلم من فيه فأكلت، فما تكلمت بعد ذلك بكلمة بطالة " .
تعليق المؤلفقال القاضيك وكيف يستبعد هذا وقد أكلت من طعامٍ كان في وعاء الصدق، وظرف الحق، وطريق العلم، والوقار والحلم.
وفي القصة التي أتى هذا الخبر بها ما فيه البيان عن فضل النبي صلى الله عليه وسلم وبركته، ويمن نقيبته، ووضوح أعلام نبوته، وظهور جاهه عند ربه، ونحن نحمد الله تعالى على هدايتنا لتصديقه، وتوفيقنا للإيمان به، ونسأله أن يثبتنا على التمسك بملته، وحفظ شريعته، ويعصمنا من معصيته ويجعلنا من الفائزين يوم الحساب بولايته فيسعدنا برفع الدرجات بشفاعته إنه سميع الدعاء، لطيف لما يشاء.
اللحن في أذنه أوقعحدثنا محمد بن الحسن بن دريد، قال: أخبرنا أبو معمر، عن أبيه، قال: كان أمير على الكوفة من بني هاشم، وكان لحاناً فاشترى دوراً من جيرانه ليزيدها في داره، فاجتمع إليه جيرانه فقالوا له: أصلحك الله، هذا الشتاء قد هجم علينا فتمهلنا إن رأيت حتى يقبل الصيف ونتحول، فقال: لسنا بخارجيكم.
قال: ودعا يوماً بابنه وبمؤدبه، وهو على سطح فمر ثوران في الطريق، فقال الغلام: ما أحسن هذان الثوران! فلما نزلا من عنده قال المؤدب للغلام: ويحك! أهلكتني، فقال له الغلام: هذا حمار، ولو قلت هذين الثورين ما وقع عنده موقعا وستنظر ما يكون؟ فلم يلبث أن جاءته خمس مائة درهم وتخت ثيابٍ، فقال: كيف رأيت؟
تخريج قولهم ما أحسن هذان
قال القاضي: أما قول هذا اللحان الجاهل: لسنا بخارجيكم يريد بمخرجيكم، فمن النوادر المضحكة الدالة على انحطاط منزلة المتكلم وركاكاته. وأما قول ابنه: ما أحسن هذان الثوران، فليس بلحن، وإن كان الفصيح المختار خلافه، وقد رسمنا من القول في هذا ما يوضح عن علله ووجوهه فيما بيناه في وجه قراءة من قرأ: " إن هذان لساحران " ، ولا حاجة بنا في هذا الموضع إلى التشاغل به.
حيلة عراقي في أخذ جارية ابن جعفرحدثنا أبو النضر العقيلي، قال: حدثني عبد الله بن أحمد بن حمدون النديم، عن أبي بكر العجلي، عن جماعة من مشايخ قريش من أهل المدينة، قالوا: كانت عند عبد الله بن جعفر جاريةٌ مغنية يقال له عمارة، وكان يجد بها وجداً شديداً، وكان لها منه مكانٌ لم يكن لأحدٍ من جواريه، فلما وفد عبد الله بن جعفر على معاوية خرج بها معه، فزاره يزيد ذات يوم فأخرجها إليه، فلما نظر إليها وسمع غناءها وقعت في نفسه، فأخذه عليها ما لا يملكه، وجعل لا يمنعه من أن يبوح بما يجد بها إلا مكان أبيه مع يأسه من الظفر بها.
ولم يزل يكاتم الناس أمرها إلى أن مات معاوية وأفضى الأمر إليه، فاستشار بعض من قدم عليه من أهل المدينة وعامة من يثق به في أمرها وكيف الحيلة فيها، فقيل له: إن أمر عبد الله بن جعفر لا يرام، ومنزلته من الخاصة والعامة ومنك ما قد علمت، وأنت لا تستجيز إكراهه، وهو لا يبيعها بشيء أبداً، وليس يغني في هذا إلا الحيلة.
فقال: انظروا لي رجلاً عراقيا له أدبٌ وظرفٌ ومعرفة، فطلبوه فأتوه به، فلما دخل رأى بياناً وحلاوة وفهماً، فقال يزيد: إني دعوتك لأمر إن ظفرت به فهو حظوتك آخر الدهر، ويدٌ أكافئك عليها إن شاء الله، ثم أخبره بأمره فقال له: إن عبد الله بن جعفر ليس يرام ما قبله إلا بالخديعة، ولن يقدر أحدٌ على ما سئلت، وأرجو أن أكونه والقوة بالله، فأعني بالمال، قال: خذ ما أحببت، فأخذ من طرف الشام وثياب مصر واشترى متاعاً للتجارة من رقيقٍ ودواب وغير ذلك، ثم شخص إلى المدينة فأناخ بعرصة عبد الله بن جعفر، واكترى منزلاً إلى جانبه ثم توسل إليه، وقال: رجلٌ من أهل العراق قدمت بتجارة وأحببت أن أكون في عز جوارك وكنفك إلى أن أبيع ما جئت به.
فبعث عبد الله إلى قهرمانه أن أكرم الرجل ووسع عليه في نزله، فلما اطمأن العراقي سلم عليه أياماً وعرفه نفسه وهيأ له بغلة فارهة وثياباً من ثياب العراق وألطافاً، فبعث بها إليه وكتب معها: إني يا سيدي رجلٌ تاجر ونعمة الله تعالى علي سابغة، وقد بعثت إليك بشيء من لطفٍ وكذا وكذا من الثياب والعطر، وبعثت ببغلة خفيفة العنان وطيئة الظهر فاتخذها لرجلك، فأنا أسألك بقرابتك من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا قبلت هديتي، ولا توحشني بردها، فإني أدين لله تعالى بمحبتك وحب اهل بيتك، فإن أعظم أملي في سفرتي هذه أن أستفيد الأنس بك والتحرم بمواصلتك.
فأمر عبد الله بقبض هديته وخرج إلى الصلاة، فلما رجع مر بالعراقي في منزله فقام وقبل يده واستكثر منه، فرأى أدباً وظرفاً وفصاحةً فأعجب به وسر بنزوله عليه، فجعل العراقي في كل يوم يبعث إلى عبد الله بلطف وطرفٍ، فقال عبد الله: جزى الله ضيفنا هذا خيراً، فقد ملأنا شكراً وما نقدر على مكافأته، فإنه لكذلك إلى أن دعاه عبد الله ودعا عمارة وجواريه، فلما طاب لهما المجلس وسمع غناء عمارة تعجب وجعل يزيد في عجبه، فلما رأى ذلك عبد الله سر به إلى أن قال له: هل رأيت مثل عمارة؟ قال: لا والله يا سيدي، ما رأيت مثلها ولا تصلح إلا لك، وما ظننت أنه يكون في الدنيا مثل هذه الجارية حسن وجه وحسن غناء، قال: وكم تساوي عندك؟ قال: ما لها ثمن إلا الخلافة، قال: تقول هذا لتزين لي رأيي فيها وتجتلب سروري؟ قال له: يا سيدي والله إني لأحب سرورك، وما قلت لك إلا الجد، وبعد فإني تاجر أجمع الدرهم إلى الدرهم طلباً للربح، ولو أعطيتها بعشرة آلاف دينار لأخذتها، فقال له عبد الله عشرة آلاف دينار؟ قال: نعم، ولم يكن في ذلك الزمان جارية تعرف بهذا الثمن، فقال له عبد الله: أنا أبيعكها بعشرة آلاف دينار، قال: وقد أخذتها، قال: هي لك، قال: وجب البيع، فانصرف العراقي.
فلما أصبح عبد الله لم يشعر إلا بالمال قد وافى به، فقيل لعبد الله: قد بعث العراقي بعشرة آلاف دينار، وقال: هذا ثمن عمارة فردها وكتب إليه: إنما كنت أمزح معك، ومما أعلمك أن مثلي لا يبيع مثلها، فقال له: جعلت فداك، إن الجد والهزل في البيع سواء، فقال له عبد الله: ويحك! ما أعلم جاريةً تساوي ما بذلت، ولو كنت بائعها من أحدٍ لآثرتك، ولكني كنت مازحاً، وما أبيعها بملك الدنيا لحرمتها بي وموضعها من قلبي، فقال العراقي: إن كنت مازحاً فإني كنت جاداً، وما اطلعت على ما في نفسك، وقد ملكت الجارية وبعثت إليك بثمنها، وليست تحل لك وما لي من أخذها من بد.
فمانعه إياها، فقال له: ليست لي بينة، ولكني استحلفك عند قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم ومنبره، فلما رأى عبد الله الجد قال: بئس الضيف أنت، ما طرقنا طارقٌ ولا نزل بنا نازلٌ أعظم علينا بليةً منك، تحلفني فيقول الناس اضطهد عبد الله ضيفه وقهره فألجأه إلى أن استحلفه، أما والله ليعلمن الله جل ذكره أني سائله في هذا الأمر الصبر وحسن العزاء، ثم أمر قهرمانه بقبض المال منه وتجهيز الجارية بما يشبهها من الثياب والخدم والطيب، فجهزت بنحو من ثلاثة آلاف دينار، وقال: هذا لك ولها عوضاً مما ألطفتنا، والله المستعان.
فقبض العراقي الجارية وخرج بها، فلما برز من المدينة قال لها: يا عمارة! إني والله ما ملكتك قط، ولا أنت لي، ولا مثلي يشتري جارية بعشرة آلاف دينار، وما كنت لأقدم على ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأستلبه أحب الناس إليه لنفسي، ولكنني دسيسٌ من يزيد بن معاوية وأنت له، وفي طلبك بعث بي فاستترى مني، وإن داخلني الشيطان في أمرك وتاقت نفسي إليك فامتنعي.
ثم مضى بها حتى ورد دمشق فتلقاه الناس بجنازة يزيد، وقد استخلف ابنه معاوية بن يزيد، فأقام الرجل أياماً ثم تلطف للدخول عليه فشرح له القصة - وروي أنه لم يكن أحدٌ من بني أمية يعدل بمعاوية بن يزيد في زمانه نبلا ونسكا - فلما أخبره قال: هي لك، وكل ما دفعه إليك في أمرها فهو لك، وارحل من يومك فلا أسمع من خبرك في بلاد الشام، فرحل العراقي، ثم قال للجارية: إني قلت لك حين خرجت بك من المدينة، وأخبرتك أنك ليزيد وقد صرت لي، وأنا اشهد الله أنك لعبد الله بن جعفر، فإني قد رددتك إليه فاستتري مني، ثم خرج بها حتى قدم المدينة فنزل قريباً من عبد الله بن جعفر، فدخل عليه بعض خدمه، فقال له: هذا العراقي، ضيفك الذي صنع بنا ما صنع وقد نزل العرصة لا حياه الله.
فقال عبد الله: مه! أنزلوا الرجل وأكرموه.
فلما استقر به، بعث إلى عبد الله: جعلت فداك، إن رأيت أن تأذن لي أذنة خفيفة لأشافهك بشيء؟ فقلت: فأذن له، فلما دخل سلم عليه وقبل يده وقربه عبد الله ثم اقتص عليه القصة حتى فرغ، ثم قال: قد - والله - وهبتها لك قبل أن أراها أو أضع يدي عليها فهي لك، ومردودة عليك، وقد علم الله جل وعز أني ما رأيت لها وجهاً إلا عندك، وبعث إليها فجاءت وجاءت بما جهزها به موفراً، فلما نظرت إلى عبد الله خرت مغشياً عليها، وأهوى إليها عبد الله وضمها إليه.
وخرج العراقي وتصايح أهل الدار: عمارة عمارة، فجعل عبد الله يقول ودموعه تجري: أحلم هذا؟ أحقٌ هذا؟ ما أصدق هذا! فقال له العراقي: جعلت فداءك، ردها الله عليك بإيثارك الوفاء وصبرك على الحق، وانقيادك له، فقال عبد الله: الحمد لله، اللهم إنك تعلم أني صبرت عنها، وآثرت الوفاء وسلمت لأمرك، فرددتها علي بمنك، ولك والحمد.
ثم قال: يا أخا العراق! ما في الأرض أعظم منة منك، وسيجازيك الله تعالى.
فأقام العراقي أياماً، وباع عبد الله غنماً له بثلاثة عشر ألف دينار، وقال لقهرمانة: احملها إليه، وقل له: اعذر واعلم أني لو وصلتك بكل ما أملك لرأيتك أهلاً لأكثر منه.
فرحل العراقي محموداً وافر العرض والمال.
الوليد وعطرد المغنيحدثنا الحسين بن القاسم الكوكبي، قال: حدثنا محمد بن عجلان أبو بكر، قال: حدثني حماد بن إسحاق، عن أبيه، قال: حدثني محمد بن عبد الحميد بن إسماعيل بن عبد الحميد بن يحيى، عن عمه أيوب بن إسماعيل، قال: لما استخلف الوليد كتب إلى عامله بالمدينة: أن أشخص إلي عطرد المغني قال عطرد: فدفع إلي العامل الكتاب فقرأته، وقلت: سمعاً وطاعة.
فدخلت عليه في قصره وهو قاعدٌ على شفير بركة ليست بالكبيرة، يدور فيها الرجل سباحة، فوالله ما كلمني كلمة حتى قال: أعطرد؟ فقلت: لبيك يا أمير المؤمنين، قال: غنني حي الحمول. قال عطرد: فغنيت:
حي الحمول بجانب العزل ... إذ لا يناسب شكلها شكلي
الله أنجح ما طلبت به ... والبر خير حقيبة الرحل
إني بحبلك واصلٌ حبلي ... وبريش نبلك رائشٌ نبلي
وشمائلي ما قد علمت وما ... نبحت كلابك طارقاً مثلي
قال: فوالله ما تكلم بكلمة حتى شق بردةً صنعانية عليه - ما يدري ما ثمنها - نصفين فخرج منها كما ولدته أمه، ثم رمى بنفسه في البركة فنهل منها حتى تعرفت فيها النقصان فأخرج منها ميتاً سكراً، فضربت يدي إلى البردة فأخذتها فوالله ما قال لي الخادم خذها ولا دعها، وانصرفت إلى منزلي وأنا أفكر فيه وفيما رأيت منه.
فلما كان من الغد دعاني في مثل ذلك الوقت، وهو قاعد في مثل ذلك الموضع، فقال: عطرد؟ قلت: لبيك يا أمير المؤمنين، قال: غنني، فغنيته:
أيذهب عمري هكذا لم أنل منه ... مجالس تشفي قرح قلبي من الوجد
وقالوا: تداوى إن في الطب راحةً ... فعزيت نفسي بالدواء فلم يجد
فلم يتكلم حتى شق بردة كانت عليه مثل البردة والأمسية فخرج منها ورمى بنفسه في البركة فنهل والله حتى تبينت النقصان، فأخرج ميتاً سكراً، وضممت البردة إلي فما قيل لي خذ ولا دع، فانصرفت إلى منزلي، فلما كان في اليوم الثالث دعاني فدخلت إليه وهو في بهوٍ قد كنت ستوره، فكلمني من وراء الستر، فقال: أعطرد؟ فقلت: لبيك يا أمير المؤمنين ، قال: كأنني بك الآن قد أتيت المدينة فقلت: دعاني أمير المؤمنين فدخلت إليه ففعل وفعل، قال يا ابن الفاعلة لئن تكلمت - بشيء مما كان - شفتاك، لأطرحن الذي فيه عيناك، يا غلام! أعطه خمسمائة، الحق بالمدينة.
قلت: أفلا يأذن لي أمير المؤمنين فأقبل يده وأتزود نظرة إلى وجهه، قال: لا، قال عطرد: فخرجت من عنده فما تكلمت بشيء من هذا حتى دخلت الهاشمية.
قوله: وقالوا: تداوى.....خرجه على الأصل لإقامة الوزن، وقد بينا هذا فيما مضى بشواهده.
شعر لا يصدر من قلب سليمحدثنا محمد بن القاسم الأنباري، قال: حدثنا أحمد بن يحيى النحوي، قال: حدثنا عبد الله بن شبيب، عن عمرو بن عثمان، قال: مرت سكينة بعروة بن أذينة، وكان يتنسك، فقالت له: يا أبا عامر! ألست القائل:
إذا وجدت أذى للحب في كبدي ... أقبلت نحو شفاء الحب أبترد
هذا بردت ببرد الماء ظاهره ... فمن لحر على الأحشاء يتقد
أولست القائل:
قالت وأبثثتها سري فبحت به ... قد كنت عهدي تحب الستر فاستتر
ألست تبصر من حولي فقلت لها ... غطى هواك وما ألقى على بصري
هؤلاء أحرار - وأشارت إلى جواريها - إن كان هذا خرج من قلب سليم.
قال القاضي: وأنشدنا بيتي عروة الأولين من غير هذه الرواية.
لما وجدت أوار الحب في كبدي ... أقبلت نحو سجال القوم أبترد
هذا بردت ببرد الماء ظاهره ... فمن لنارٍ على الأحشاء تتقد
والأوار: ما يجد من الغلة والحرارة، كما قال الشاعر:
والنار قد تشفي من الأوار
وأما السجال فجمع سجلٍ، وهو الكبير من الدلاء، قال الراجز:
لطالما حلأتماها لا ترد ... فخلياها والسجال تبترد
وأما قوله: أبترد فهو افتعل من قولهم: برد الماء حرارة جوفي، قال الشاعر:
ةعطل قلوصي في الركاب فإنها ... ستبرد أكباداً وتبكي بواكيا
وروي لنا قوله في الشعر الثاني: وأبثثتها وجدي مكان سري.
الالتذاذ بالتلاقي بعد الفراقحدثنا محمد بن يحيى الصولي، قال: حدثنا المبرد، قال: حرم محمد بن عبد الله القيان، وكتب إليه أحمد بن عبد السلام الخزاعي رقعة ولم يترجمها ودسها في رقاع المتظلمين، فيها:
عرفات الأمير أيده الل ... ه بطول التوفيق والتسديد
فرقت بيننا وبين مدل ... وعجابٍ ومنصفٍ وفريد
كم قلوب قد أحرقت في صدور ... ودموعٍ قد أقرحت من خدود
فوقع محمد بن عبد الله بن طاهر في رقعته:
حسن رأي الأمير في العشاق ... وفر الحب بامتناع التلاق
خاف أن تحدث الملال سلواً ... فتلافى الهوى ببعض الفراق
وأغض اللقاء ما كان منه ... من تناءٍ وبعد طول اشتياق
شجرٌ غرسه كريهٌ ولكن ... يجتنى غبه لذيذ المذاق
قال القاضي: قد قال الناس في تضاعيف الالتذاذ بالتلاقي بعد الفراق، وفي تسهيل الفراق، واستحبابه لوفور الاستمتاع بالأوبة والاتفاق، فأكثروا، وإن كان أكثرهم يعلل نفسه ويرضيها بما لو خلي وما يختاره لم يرضه لها، لم نبن كتابنا هذا على استقصاء أنواعه، واستيفاء الأبواب فيه، فنجمع ذلك ونستوعبه، وهو يأتي في هذه المجالس متفرقاً بحسب ما يحضرنا، ويخرج لنا، وبالله توفيقنا، وبمشيئته وحسن معرفته نرجو أن تجري مقاصدنا ومتصرفاتنا.
أبيات وجدت على سد مأربحدثنا عبيد الله بن محمد بن جعفر الأزدي، قال: حدثنا أبو بكر بن أبي الدنيا، قال: حدثني محمد بن الحسين، قال: حدثني بعض أصحابنا، قال: لما هدمت مأرب سبأ أصيب في ركن من أركانها:
ستأتي سنون هي المعضلا ... ت ترجع مل الهجعة الأجدل
وفيها يهين الصغير الكبير ... وذو الحلم يسكته الأجهل
ترى الشيخ يلقي العصا طائعاً ... ويمشي عليها الفتى الأرجل
وفي الركن الثاني:
ما يكن كائناً لا شك فيه ... يزده الصبح والليل اقترابا
وليسا زائدي شيئاً تولى ... وحالاً دونه إلا ذهابا
وفي الركن الثالث:
أيالك دهراً قد خلا عجبه ... دهراً تحول رأسه وذنبه
دهراً تداوله الإماء فقد ... ترضى بماء بطونها عربه
وفي الركن الرابع الأخير:
الأخير شر ... الأخير شر
قال القاضي: ترجع مل الهجعة أراد من الهجعة، فحذف النون، ولم يأت بالكلمة على أصلها لئلا ينكسر الشعر، وهذا مذهبٌ معروف في العربية إذا كانت هذه اللام ظاهرةً كقولهم: بلعنبر وبلحرث وبلقين، فإذا كانت اللام لا تظهر أخرج على أصله كقولك، بنو الرحل ويقولون: بلمرة لظهور اللام، قال الشاعر:
غدا بني علباء بكر بن وائل ... وعجا صدور الخيل نحر تميم
ومن الكثير الفاشي من هذا الباب في كلامهم قولهم: ما أنس مل أشياء بمعنى من الأشياء، قال الأعشى:
فما مل أشياء لأنس قولها ... لعل النوى بعد التغرق تصقب
فما أنسى مل أشياء لا أنسى قولها ... وأدمعها يغسلن حشو المكاحل
وهذا باب يتسع، ويتصل به البيان عن قراءة أبي عمرو: " وأنه أهلك عادل أولى " ، وقال الشماخ بن ضرار يمدح عرابة الأوسي:
رأيت عرايتل أوسي يسمو ... إلى الخيرات منقطع القرين
ولشرح هذا المعنى موضع من كتبنا هو أحق به.
المجلس الثامن والأربعون
خبر بني أبيرقحدثنا يحيى بن محمد بن صاعد، سنة ثماني عشرة وثلثمائة، قال: حدثنا أبو مسلم الحسن بن أحمد الحراني ببغداد سنة ثمان وأربعين ومائتين، قال: حدثنا محمد بن سلمة الحراني، قال: حدثنا محمد بن إسحاق، عن عاصم بن عمر، عن قتادة، عن أبيه، عن جده قتادة بن النعمان، قال: كان أهل بيتٍ منا يقال لهم " بنو أبيرق " : بشر وبشير ومبشر، وكان بشير رجلاً منافقاً، وكان يقول الشعر يهجو به أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم ينحله بعض العرب، ثم يقول: قال فلان كذا وقال فلان كذا، فإذا سمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك الشعر، قالوا: والله ما يقول هذا الشعر إلا الخبيث، فقال:
أوكلما قال الرجال قصيدةً ... أصموا وقالوا ابن الأبيرق قالها؟
وكانوا أهل بيت فاقةٍ وحاجةٍ في الجاهلية والإسلام، وكان الناس إنما طعامهم بالمدينة التمر والشعير، وكان الرجل إذا كان له يسارٌ فقدمت ضافطةٌ من الشام، ابتاع الرجل منها فخص به نفسه، فأما العيال فإنما طعامهم التمر والشعير، فقدمت ضافطةٌ من الشام فابتاع عمي رفاعة بن زيدٍ حملاً من الدرمك فجعله في مشربة له، وفي المشربة سلاحٌ له درعان وسيفاهما وما يصلحهما، فعدي عليه من تحت الليل فنقبت المشربة فأخذ الطعام والسلاح، فأتى عمي رفاعة، فقال: ابن أخ! أتعلم أنه قد عدي علينا في ليلتنا هذه، فنقبت مشربتنا فذهب بطعامنا وشرابنا وسلاحنا، قال: فتحسسنا في الدار وسألنا، فقيل لنا: قد رأينا بني أبيرق استوقروا في هذه اليلة، ولا نرى فيما نراه إلا بعض طعامكم، قال: وقد كان بنو أبيرق - قالوا ونحن نسأل في الدار: والله ما نرى صاحبكم إلا لبيد بن سهل - رجلٌ منا له صلاح وإسلام - فلما سمع ذلك لبيدٌ اخترط سيفه وقال: أبني أبيرق! والله ليخالطنكم هذا السيف أو لتبن هذه السرقة، قالوا: إليك عنا أيها الرجل، فوالله ما أنت بصاحبها، فسألنا في الدار، حتى لم نشك أنهم أصحابنا، فقال: لي عمي: يا ابن أخي لو أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت له ذلك، قال: قتادة: فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له، فقلت له: يا رسول الله! إن أهل بيتٍ منا أهل جفاءٍ عمدوا إلى عمي رفاعة بن زيدٍ فنقبوا مشربةً له وأخذوا سلاحه وطعامه، فليردوا سلاحنا فأما الطعام فلا حاجة لنا به، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: سأنظر في ذلك، فلما سمع ذلك بنو أبيرق أتوا رجلاً منهم، يقال له: أسيد بن عروة فكلموه في ذلك، واجتمع إليه قومٌ من أهل الدار فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: إن قتادة بن النعمان وعمه عمدوا إلى بيتٍ منا أهل إسلام وصلاح يرمونهم بالسرقة على غير بينةٍ ولا تثبتٍ، قال قتادة: فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فكلمته، فقال: عمدت إلى أهل بيتٍ ذكر فيه إسلام وصلاح ترميهم بالسرقة على غير تثبتٍ ولا بينة، قال: فرجعت ولوددت أني خرجت من بعض مالي ولم أكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك، فأتى عمي رفاعة، فقال يا ابن أخ! ما صنعت؟ فأخبرته بما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: الله المستعان، فلم يلبث أن نزل القرآن " إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيماً - أي بني أبيرق - وأنت، واستغفر الله إن الله كان غفوراً رحيماً - أي مما قلت لقتادة - ، ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم - أي بني بيرق - إن الله لا يحب من كان خواناً أثيماً، يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله وهو معهم إذ يبيتون ما لا يرضى من القول وكان الله بما يعملون محيطاً، هأنتم هؤلاء جادلتم عنهم في الحياة الدنيا فمن يجادل الله عنهم يوم القيامة أم من يكون عليهم وكيلا، ومن يعمل سوءاً أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفوراً رحيماً - أي أنهم لو استغفروا الله غفر لهم - ومن يكسب إثماً فإنما يكسبه على نفسه وكان الله عليماً حكيماً، ومن يكسب خطيئةً أو إثماً ثم يرم به بريئاً فقد احتمل بهتاناً وإثماً مبيناً، ولولا فضل الله عليك ورحمته لهمت طائفةٌ منهم أن يضلوك وما يضلون إلا أنفسهم وما يضرونك من شيءٍ، وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة وعلمك ما لم تكن تعلم، وكان فضل الله عليك عظيماً، لا خير في كثيرٍ من نجواهم إلا من أمر بصدقةٍ أو معروفٍ أو إصلاح بين الناس، ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضات الله فسوف نؤتيه أجراً عظيماً " إلى: ومن يشاقق الرسول . فلما نزل القرآن إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فرده إلى رفاعة، قال: قتادة: فلما أتيت عمي بالسلاح وكان شيخاً قد عمي في الجاهلية وكنت أرى إسلامه مدخولاً، فلما أتيته بالسلاح، قال: يا ابن أخي! هو في سبيل الله، قال: فعرفت إن إسلامه كان صحيحاً، فلما نزل القرآن لحق بشيرٌ بالمشركين ونزل على سلافة بنت سعد بن شهيد، فأنزل الله تعالى فيه: " ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا، إن الله لا يغفر أن يشرك به " إلى آخر الآية، فلما نزل على سلافة رماها حسان بأبياتٍ من شعر، فأخذت رحله فوضعته على رأسها ثم خرجت به فرمته في الأبطح، ثم
قالت: أهديت إلى شعر حسان، ما كنت تأتيني بخير.قالت: أهديت إلى شعر حسان، ما كنت تأتيني بخير.
معنى الضافطة، والدرمكقال القاضي: قول الراوي في هذا الخبر: ضافطة أراد عيراً أو رفقه فيها ميرة، وقوله: الدرمك يريد النقى، ومنه الخبر: " أن الأرض بعد البعث درمكةٌ بيضاء " ، قال: أعشى بني قيس بن ثعلبة:
له درمك في رأسه ومشاربٌ ... وقدرٌ وخبازٌ وصاع وديسق
وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: في تربة الجنة: إنها الخبز من الدرمك.
وقال ابن الأنباري: الدرمك خبز الحوارى، وأنشد:
ذهب الذين إذا استجعت فزرتهم ... خبزوا الفؤاد بدرمكٍ وشراب
حذف الياء في مثل يا ابن أخ ويا ابن أموفي الخبر: يا ابن أخ، بحذف الياء المضاف إليها وإبقاء الكسرة دلالة عليها ، وهذا وجه معروف في كلام العرب، غير أن معظم النحويين زعموا أن الذي يكثر استعماله في هذا الباب موضعان: يا ابن أم ويا ابن عم، على اختلاف القراءة في فتح الميم وكسرها من قوله يا ابن أم، وعلى ما في هذه الكلمة من لغات العرب، واعتل بعضهم في اختصاص هذين الاسمين لهذا المعنى بابن الرجل يقول: يا ابن أم ويا ابن عم، لمن ليس بأخيه ولا ابن عمه، وهذا عندي لازم في يا أخي ويا ابن أخي لكثرة قولهم: يا أخي ويا ابن أخي للأجنبي، وقد يقولون يا ابن أمي في الإضافة في يا ابن أمي، ويسكنونها تارةً ويحركونها أخرى، قال الشاعر:
يا ابن أمي ويا شقيق نفسي ... أنت خليتني لدهرٍ شديد
وقال آخر:
يا ابن أمي ولو شهدتك إذ ... تدعو تميماً وأنت غير مجاب
وقوله: وكان شيخاً قد عسى، يعني أن الكبر قد بلغ منه وأثر فيه، وقد قرىء " وقد بلغت من الكبر عسياً " وعسيا على ما بين القراء من الاختلاف في ضم العين على الأصل وكسرها، قال الشاعر:
لولا الحياء وأن رأسي قد عسا ... فيه المشيب لزرت أم القاسم
ويروى: وقد بدا، ويقال: في هذا الباب العسو والعتو
كتب بني أمية أقصر من كتب بني العباسحدثنا محمد بن الحسين بن دريد، قال: حدثنا أبو حاتم، قال: سمعت بعض أصحابنا يحدث عن عبد الله بن سوار، قال: كنت غلاماً أكتب بين يدي يحيى بن خالد، فدخل عليه شيخٌ ضخمٌ جميل الهيئة، فأعظمه يحيى وأقعده إلى جانبه وحادثه ثم قال له: ما بالكم كنتم تكتبون الكتب إلى عمالكم في سائر أموركم فلا تطبلون، وإنما الكتاب بقدر الفضل من كتبنا، ونحن نطيل إطالة لا يمكنا غير ذلك، فقال: اعفني، فأبى عليه إلا أن يجيبه، فقال وأنت غير ساخط؟ٍ قال: نعم، قال: إن بني أمية كانت لا تكتب في الباطل أنه حقٌ، ولا في الحق أنه باطل فلا تعقب أمراً قد نفذ بخلافه أمرٌ، فلا يحتاجون إلى الأطالة وطلب المعاذير والتلبيس، وأنتم تكتبون في الشيء الحق أنه باطل والباطل أنه حق، ثم تعقبون ذلك بخلافه فلا بد لكم من الإطالة.
قال عبد الله بن سوار: فسألت عن الشيخ فقيل لي: هذا رجلٌ من كتاب بني أمية القدماء من أهل الشام.
قال القاضي: قول يحيى لهذا الكتاب في سائر أموركم، إن كان أراد فيما يسير وينتشر من أموركم، فهو صواب في اللفظ، وإن كان أراد به العموم والإحاطة على معنى جميع أموركم، فهو خطأ من جهة اللفظ والمعنى، إذ السائر في هذا المعنى تأويله الباقي، وإنما يقال: فعلت في باب كذا كيت وكيت وفي سائر الأبواب لمعنى الفاضل والبقية، يقال: أسأرت في الإناء أسأر بالهمز قال الشاعر:
أعط الملوح سؤر الكلب يشربه ... إن الملوح شرابٌ على الكدر
وقال الأعشى:
بانت وقد أسأرت في النفس حاجتها ... بعد ائتلافٍ وخير الود ما نفعا
وقال أيضاً:
فبانت وقد أسأرت في الفؤا ... د صدعاً على نأيها مستطيرا
وقال حميد بن ثور الهلالي:
إلا إن أمي ما يزال مطالها ... شديداً وفيها سؤرةٌ وهي قاعد
يعني بقية من الشباب، وهي من القواعد، وقد روي بيت الأخطل على وجهين:
وشاربٌ مربحٌ بالكأس نادمني ... لا بالحصور ولا فيها بسوار
بالهمز في سوار وغيره فمن رواه مهموزاً قالمعنى أنه لا يفضل في الكأس شيئاً إذ أن هذا عيبٌ عندهم من وجهين، أحدهما: أنه يدل على عجزه عن الشراب أو كراهية الشراب والندام، ومن رواه بسوار غير مهموز فمعناه بوثاب من المساورة والمواثبة، فهذا بيان الخطأ في هذا من جهة اللفظ، وأما من جهة المعنى فلكثرة كتب بني أمية في عظيم الآثام وجسيم الإحرام، وذميم الجور والإحكام، ولكثرة الإطالة في كتبهم، والعجب من يحيى كيف أمسك عن جواب هذا المتكلم من أن يريه من إطالة كتب بني أمية وخطأ معانيها، ونقضها أكثر ما أصدرت من أحكامها.
ما للشيطان ذنب في هذاصلى رجل منهم خلف إمام فلما قرأ " الحمد " أرتج عليه فلم يدر ما يقول، فجعل يقول: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، ويردد ذلك مراراً، فقال الشاطر من خلفه: ما للشيطان ذنبٌ إلا أنك أنت ما تحسن تقرأ.
مجان الشعراء يصفون صلاة أحدهمحدثنا أبو النضر العقيلي، قال: حدثنا أبو الحسن بن راهويه، قال: صلى يحيى بن المعلى الكاتب، وكان في مجلسٍ فيه أبو نواس ووالبة بن الحباب وعلي بن الخليل والحسين الخليع صلاةً فقرأ فيها: قل هو الله أحد، فغلظ فسلم، فقال: أبو نواس:
أكثر يحيى غلظاً ... في قل هو الله أحد
فقال والبة:
قام طويلاً ساكناً ... حتى إذا أعي سجد
فقال علي بن الخليل:
يزحر في محرابه ... زحير حبلى بولد
فقال الحسين الخليع:
كأنما لسانه شد ... بحبلٍ من مسد
منزلة أبي العتاهية عند العباسيينحدثنا محمد بن يحيى الصولي، قال: حدثنا عون بن محمد، قال: حدثنا إبراهيم بن الحسن، قال: سمعت أبا العتاهية ينشد المأمون:
مولاي أعلم ذي علمٍ بما يأتي ... يزيدني كل يومٍ في كراماتي
لم يأت شيئاً من الأشياء أعلمه ... إلا تحرى به بري ومرضاتي
أعطيت فوق المنى من سيدٍ ملكٍ ... وخصني الله منه بالكرامات
عدوه من جميع الناس كلهم ... فالحمد لله من يبغي معاداتي
فقل لحاسد هذا الحب مت كمداً ... فالحب يقسمه رب السموات
إن لم يعاوده شكري في مدائحه ... فلا تمليت منه حسن عاداتي
فقال المأمون: أنت يا أبا إسحاق تمدحنا منذ خمسين سنة، لو كنت تذمنا لكانت لك حرمة، وكل ما نفعله بك من استحقاقك.
المجلس التاسع والأربعون
الحب في الله ومنزلتهأخبرنا المعافي، قال: حدثنا الفضل بن أحمد بن منصور المقري أبو العباس الزبيدي، قال: حدثنا عبد الأعلى بن حماد الرسي، قال: حدثنا حماد بن سلمة، عن ثابت البناني، عن أبي رافع، عن أبي هريرة.
عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في رجلٍ زار أخاً له في قرية أخرى، فأرصد الله على مدرجته ملكاً، فلما أتى عليه قال له الملك: أين تريد؟ قال: أريد أخاً لي في هذه القرية أسلم عليه، قال: هل له عليه قرض؟ قال: لا، غير أني أحببته في الله، قال: فإني رسول الله إليك يعلمك أنه قد أحبك كما أحببته فيه " .
تعليق المؤلفقال القاضي: هذا خبرٌ معروف قد كتبناه عن عددٍ من الشيوخ من طرق شتى، وأتى في معناه عن النبي صلى الله عليه وسلم عدةٌ من الأخبار، وأنه قال في بعضها: إن الله تعالى ذكره، قال: " حقت محبتي للمتحابين في، وحقت محبتي للمتزاورين في، وحقت محبتي للمتباذلين في، وإن المتحابين في الله يوم القيامة على منابر من نور " .
مما أشبه هذا مما يرغب في التحاب في الله والتواصل فيه، وإنما يخلص المودة والمخالة في الله وله مع التقوى، وقد جاء في الأثر: " أنه ما تحاب قط رجلان في الله إلا كان أحبهما إلى الله أشدهما حباً لصاحبه " ، متى عري المتحابان من تقوى الله فإلى أشد العداوة مآلهما، وأقبح التباغض عاقبة أمرهما، وقد قال الله جل جلاله: " الأخلاء يومئذٍ بعضهم لبعضٍ عدو إلا المتقين " وقد اقتص الله من أحوال الكفار وإخوانهم وطواغيتهم وأذنابهم، ومن تبرؤ بعضهم من بعض، ولعن بعضهم بعضاً، ما فيه تنبيهٌ للناظرين، وعظةٌ للمعتبرين، والله نسأل التوفيق لما يرضيه، والعصمة من جميع معاصيه.
من أعلام النبوة
حدثنا محمد بن الحسن بن دريد، قال: حدثنا أبو حاتم، عن أبي عبيدة، عن يونس، قال: قال رجل من بني ليثٍ: بعثني قومي إلى النبي صلى الله عليه وسلم لما دخل مكة لآتيهم بخبره، فقدمت فبت في جبل آل خويلد، ومعي فلان ابن فلان، فلم أر كرعبه، فقلت: أبهذا القلب تقاتل محمداً صلى الله عليه وسلم، فقال: إن نفسي تخبرني أنه إن رآني قتلني، فلما أصبح أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وقد قال لي الرجل: أئتني بخبره ولا يعلمن بمكاني، قال: فأتيته فأجده جالساً بالأبطح في ثوبين أبيضين كأني انظر إلى أعكان بطنه، وبلالٌ قائم يقرأ " يس، والقرآن الحكيم " فقلت له: مره فليزدنا من هذا الكلام الطيب، فقال: زده يا بلال، فقرأ " اقتربت الساعة وانشق القمر " فدنوت منه فقلت: يا رسول الله، كيف الإسلام؟ قال: تشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وتفعل ما تؤمر به وتنهى عما تنهى عنه، فقلت: يا رسول الله! إن عندي أمانةً لرجلٍ أفأكتمها أم أحدثك بها؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اكتمها وهو فلان ابن فلان، بات معك في هذه الليلة في جبل آل خويلد وللظالمين مصارع، الله صارعه فيها؟ قال: ورحل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حنين ورحلت معه فانكشفت هوازن، ووقف رسول الله صلى الله عليه وسلم على ذلك الرجل صريعاً يركض برجليه، فقال: أبعدك الله فأنك كنت تبغض قريشاً.
قال القاضي: في هذا الخبر علمٌ من أعلام النبي صلى الله عليه وسلم الدالة على ثبوت رسالته، وصحة نبوته، وما أطلعه الله عليه من غيبه، الذي يكرم من يخصه به، وعلى منزلة قريش قوم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأسرته ورهطه الأدنين وعزته. وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه، قال: " من يرد هوان قريش أهانه الله " وكيف يبغض ذو حجىً قبيلاً منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، سيد أصفيائه، وخاتم أنبيائه.
يستحيي من النهرحدثنا الحسين بت القاسم الكوكبي، قال: حدثنا أبو يوسف يعقوب بن إسحاق القاضي، قال: حدثنا يحيى بن صالح الوحاصي، قال: حدثنا إسماعيل بن عياش، عن صفوان بن عمرو، عن شريح بن عبيد الحضرمي، عن كعب الأحبار.
أن رجلاً من بني إسرائيل أتى فاحشة فدخل نهراً يغتسل فيه، فناداه الماء: يا فلان ألا تستحي ألم تتب من هذا الذنب؟ فقلت إنك لا تعود فيه؟ فخرج من الماء فزعاً وهو يقول: لا أعصي الله، فأتى جبلاً فيه اثنا عشر رجلاً يعبدون الله فلم يزل معهم حتى تخطوا موضعهم فنزلوا يطلبون الكلأ، فمروا على ذلك النهر، فقال الرجل: أما أنا فلست بذاهب معكم، قالوا له: لم؟ قال: لأن ثم من قد اطلع مني على خطيئةٍ فأنا أستحيي منه أن يراني، فتركوه ومضوا، فناداهم النهر: يا أيها العباد! ما فعل صاحبكم؟ قالوا: زعم لنا أن هاهنا من قد اطلع منه على خطيئةٍ فهو يستحيي منه أن يراه، قال: يا سبحان الله! إن بعضكم ليغضب على ولده أو على قراباته، فإذا تاب ورجع إلى ما يحب أحبه، وإن صاحبكم قد تاب ورجع إلى ما أحب فأنا أحبه، فأتوه فأخبروه، واعبدوا الله على شاطئي. فأخبروه فجاء معهم فأقاموا يعبدون الله زماناً، ثم إن صاحب الفاحشة توفي، فناداهم النهر: يا أيها العباد والعبيد الزهاد! غسلوه من مائي وادفنوه على شاطئي حتى يبعث يوم القيامة من قربي، ففعلوا به ذلك، وقالوا: نبيت ليلتنا هذه على قبره نبكي، فإذا أصبحنا سرنا، فباتوا على قبره يبكون، فلما جاء وجه السحر غشيهم النعاس، فأصبحوا وقد أنبت الله على قبره اثنتي عشرة سروة، فكان أول سروٍ أنبته الله تعالى على وجه الأرض، فقالوا: ما أنبت هذا الشجر في هذا المكان إلا وقد أحب عبادتنا فيه، فأقاموا يعبدون الله على قبره، كلما مات منهم رجلٌ دفنوه إلى جانبه حتى ماتوا بأجمعهم، قال كعب: فكانت بنو إسرائيل يحجون إلى قبورهم.
خطبة زياد البتراء، وتعليق بعض من سمعها
حدثنا محمد بن القاسم الأنباري، قال: حدثني أبي، قال: حدثنا أبو بكر محمد بن أبي يعقوب الدينوري، قال: حدثنا عبد الله بن محمد الفريابي، قال: حدثنا سفيان بن عيينة، قال: حدثنا عبد الملك بن عمير، قال: شهدت زياد بن أبي سفيان وقد صعد المنبر فسلم تسليماً خفياً، وانحرف انحرافاً بطياً، وخطب خطبةً بتيرا، قال ابن الفريابي: والبتيرا: التي لا يصلى فيها على النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ثم قال: إن أمير المؤمنين قد قال ما سمعتم، وشهدت الشهود بما قد علمتم، وإنما كنت امرأً حفظ الله مني ما ضيع الناس، ووصل مني ما قطعوا، ألا إنا قد سسنا وساسنا السائسون، وجربنا وجربنا المجربون، وولينا وولي علينا الوالون، وإنا وجدنا هذا الأمر لا يصلحه إلا شدةٌ في غير عنف، ولينٌ في غير ضعف، وأيم الله إن لي فيكم صرعى، فليحذر كل رجل منكم أن يكون من صرعاي، فوالله لآخذن البريء بالقسيم، والمطيع بالعاصي، والمقبل بالمدبر، حتى تلين لي قناتكم، وحتى يقول القائل: " انج سعد، فقد قتل سعيد " ، ألا رب فرحٍ بإمارتي لن تنفعه، ورب كارهٍ لها لن تضره، وقد كانت بيني وبين أقوام منكم إحن وأحقاد، وقد جعلت ذلك خلف ظهري وتحت قدمي، ولو بلغني عن أحدكم أن البغض لي قتله ما كشفت له قناعاً، ولا هتكت له ستراً، حتى يبدي لي صفحته، فإذا أبداها لم أقله عثرته، ألا ولا كذبة أكثر شاهدٍ عليها من كذبة إمام على منبر، فإذا سمعتموها مني فاغتمزوها في، وإذا وعدتكم خيراً أو شراً فلم أف به فلا طاعة لي في رقابكم، ألا وأيما رجل منكم كان مكتبه خراسان فأجله سنتان ثم هو أمير نفسه ألا وأيما رجلٍ منكم كان مكتبه دون خراسان فأجله ستة أشهر ثم هو أمير نفسه، وأيما امرأةٍ احتاجت فإننا نعطيها عطاء زوجها ثم نقاصه به، وأيما عقال فقدتموه من مقامي هذا إلى خراسان فأنا له ضامنٌ، فقام إليه نعيم بن الأهتم المنقري، فقال: أشهد قد أوتيت الحكمة وفصل الخطاب، فقال: كذبت أيها الرجل ذاك نبي الله داود عليه السلام، ثم قام إليه الأحنف بن قيس، فقال: أيها الرجل إنما الجواد بشده، والسيف بحده، والمرء بجده، وقد بلغك جدك ما ترى، وإنما الشكر بعد العطاء، والثناء بعد البلاء، ولسنا نثني عليك حتى نبتليك، فقال: صدقت، ثم قام أبو بلال مرداس ابن أدية، فقال: أيها الرجل: قد سمعت قولك: والله لآخذن البريء بالسقيم والمطيع بالعاصي والمقبل بالمدبر، ولعمري لقد خالفت ما حكم الله في كتابه إذ يقول: " ولا تزر وازرةٌ وزر أخرى " فقال: إيهاً عني، فوالله ما أجد السبيل إلى ما تريد أنت وأصحابك حتى أخوض الباطل خوضاً. ثم نزل.
فقام مرداس بن أدية، وهو يقول:
يا طالب الخير نهر الجور معترضٌ ... طول التهجد أو فتكٌ بجبار
لا كنت إن لم أصم عن كل غانيةٍ ... حتى يكون بريق الحور إفطاري
فقال له رجلٌ: أصحابك يا أبا بلال شباب، فقال: شباب مكتهلون في شبابهم، ثم قال:
إذا ما الليل أظلم كابدوه ... فيسفر عنهم وهم سجود
فسرى وانجفل الناس معه، فكان قد ضيق الكوفة على زياد.
شريطة بشارحدثنا محمد بن يحيى الصولي، قال: حدثنا عوف بن محمد، قال: قال دعبل لإبراهيم بن العباس: أريد أن أصحبك إلى خراسان، فقال له إبراهيم: حبذا أنت صاحباً مصحوباً إن كنا على شريطة بشار قال: وما شريطة بشار قال: قوله:
أخ خيرٌ من آخيت أحمل ثقله ... ويحمل عني حين يفدحني ثقلي
أخٌ إن نبا دهرٌ به كنت دونه ... وإن كان كونٌ كان لي ثقة مثلي
أخ ماله لي لست أرهب بخله ... ومالي له لا يرهب الدهر من بخلي
قال: ذلك لك ومزية فاصطحبا.
من كنوز العلمحدثنا عبد الباقي بن قانع، قال: محمد - يعني بن زكريا الغلابي - ، قال: حدثنا ابن عائشة، قال: قال: ابن يحيى الأسلمي، عن ليث، عن مجاهد، قال:
شهدت مائدةً عليها الحسن والحسين، ومحمد بنو علي بن أبي طالب، وعبد الله بن العباس، وعبد الله بن جعفر، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن الزبير، وعبد الله بن صفوان، فسقطت جرادةٌ على المائدة، فقال ابن عباس لمحمد بن الحنيفة: يا أبا القاسم! ما كان أبوك يقول على جناح الجرادة مكتوب؟ قال: ما كنت لأتكلم بحضرة أبي محمد - يعني الحسن - فقال: يا أبا محمد! ما كان أبوك يقول؟ قال: كان أبي يقول: على جناح الجرادة مكتوب بالسريانية: أنا الله رب الجرادة وخالقها، فإذا شئت أن أبعثها رزقاً لقوم فعلت، وإذا شئت أن أبعثها عزاباً على قومٍ فعلت، فقام محمد إلى الحسن فقبل رأسه، وقال: هذا والله من كنوز العلم.
سبب غضب بشار على سلمحدثنا عبد الله بن الحسن بن محمد البزاز، حدثنا محمد بن خلف بن المرزبان، حدثني أبو الحسن علي بن يحيى، حدثني أحمد بن صالح المؤدب وكان أحد العلماء، قال: أخبرني جماعة من أهل الأدب أن بشاراً غضب على سلمٍ الخاسر وكان من تلامذته ورواته، فاستشفع عليه: بجماعة من إخوانه فأتوه، فقالوا: جئناك في حاجة، قال: كل حاجةٍ لكم مقضية إلا سلماً، قالوا: ما جئناك إلا في سلم فلا بد من أن ترضى عنه، قال: فأين هو؟ قال: هوذا فقام سلم فقبل رأسه ويديه، وقال: يا أبا معاذ! خريجك وأديبك، قال: يا سلم! من الذي يقول:
من راقب الناس لم يظفر بحاجته ... وفاز بالطيبات الفاتك اللهج
قال: أنت يا أبا معاذ، جعلني الله فداك، قال: فمن الذي يقول:
من راقب الناس مات غماً ... وفاز باللذة الجسور
قال: خريجك يقول ذلك - يعني نفسه - فقال: فتأخذ معاني التي عنيت بها، وتعبت في استنباطها، فتكسوها ألفاظاً أخف من لفاظي حتى يروى ما تقول: ويذهب شعري، لا أرضى عنك أبداً، قال: فما زال يتضرع إليه ويتشفع له الجماعة حتى رضي عنه.
انتقام العنزيحدثني عبيد الله بن محمد بن جعفر الأزدي، حدثنا أبو العباس أحمد بن يحيى النحوي.
قال: كان رجل من عنزة دعا رؤبة بن العجاج فأطعمه وسقاه، وأنشده فخره على عنزة، فساء ذلك العنزي، فقال لغلامه سراً: اركب فرسي وجئني بأبي النجم، فطلبه فجاء وعليه جبة حزوبت من غير سراويل، فدخل وأكل وشرب، ثم قال: العنزي: أنشدنا يا أبا النجم ورؤبة لا يعرفه، فانتحى في قوله:
الحمد لله الوهوب المجرل
حتى بلغ:
تبقلت من أول التبقل ... بين رماحي مالك ونهشل
قال القاضي: ثنى أبو النجم في قوله بين رماحي، لأن رماح الفريقين وإن كانت جمعاً جملتان كما قال الشاعر:
ألم يحزنك أن جبال قيسٍ ... وتغلب قد تباينتا انقطاعا
وقد قال الله عز وجل: " هذان خصمان اختصموا " وقال جل ذكره: " سنفرغ لكم أيها الثقلان " فثنى وجمع على ما فسرناه، فقال له رؤبة: إن نهشلاً ابن مالك يرحمك الله، فقال له: يا ابن أخي إن الناس أشباه، إنه ليس مالك بن حنظلة، إنه مالك بن ضبيعة، قال: فخزي رؤبة وحيي من غلبة أبي النجم إياه، ثم أنشده أبو النجم فخره على تميم، فاغتم رؤبة، وقال لصاحب البيت: لا يحبك قلبي أبداً.
قال القاضي: والبت: الكساء ويجمع بتوتاً.
وقد ذكر أن رؤبة ذوكر بالأراجيز، فقال: وقد ذكر أبو النجم قصيدته تلك: لعنها الله، يعني هذه اللامية لاستجادته إياها وغضبه منها وحسده عليها.
القصيدة أيضاً
حدثنا المظفر بن يحيى بن أحمد، قال: حدثنا أبو العباس أحمد بن محمد بن عبد الله بن بشر المرشدي، أخبرني أبو إسحاق الطلحي، حدثنا المازني، قال: حدثنا الأصمعي، قال: حدثني أبو سليم العلاء، قال: قلت لرؤبة: كيف رجز أبي النجم عندكم؟ قال: لاميته تلك عليها لعنة الله، قال: فإذا هي قد غاظته وبلغت منه.
أسوأ الناس حالاً
حدثنا أحمد بن محمد بن سلم الكاتب، قال: حدثنا الزبير بن بكار، قال: قال بعضهم: أسوأ الناس حالاً من قويت شهوته، وبعدت همته، واتسعت معرفته وضاقت قدرته.
أين حدث الخرققال: وقال: الزبير: كان بالبصرة رجل بصيرٌ بالغناء، فحضر مجلس بعض الأشراف فحفظ عنه بعضهم صوتاً أخل به بعد، فلقيه يوماً بباب بعض الأمراء، فقال: يا أبا فلان! الثوب الذي أعطيتنا كان فيه خرق، فقال: عندكم حدث ذلك.
هذه الأحاديث الصغار
حدثنا إبراهيم بن محمد بن عرفة الأزدي، قال: سمعت محمد بن يونس، يقول: سمعت أبا عاصم وذكر هذه الأحاديث الصغار، فقال: هذا اللؤلؤ.
شكر ورد عليهحدثنا محمد بن الحسن بن زياد المقري، قال: حدثنا أبو خليفة قال: أخبرني القاضي محمد بن الفتح السياري.
قال: اجتزت بالكوفة في بعض شوارعها، فأخذني بطني فلم أدر ما أصنع، إذ رأيت خصيا على باب كبير، فقلت: أصلحك الله، هل من موضعٍ أبول فيه؟ فقال لي: ادخل، فدخلت فإذا دار كبيرة قوراء، في وسطها بستان، فرأيت عيناً من ثقبٍ في الستارة، ووجهاً لا ينبغي أن يكون أحسن منه، فلما قضيت حاجتي، قلت في نفسي: إن كان مع هذا الوجه الحسن براعة لسان فهو غاية، فقلت وأنا خارج لأسمعها: أحسن الله لكم، وبارك عليكم، وتولى مكافأتكم بالحسنى، فقالت مسرعةً: وأنت، فبارك الله عليك وأحسن إليك، فما رأينا خارئاً أشكر منك، فأفحمتني.
لا، ولا العوراءحدثنا الحسين بن محمد بن سعيد المطيقي، حدثنا يوسف بن موسى المروزي، قال: قال عبد الله بن خبيق، سمعت بعض أصحابنا، يقول: قيل للفضيل بن عياض مات حماد البربري وأوصى بخمسة أفراس، قال فضيل: وأصابوا من يقبلها؟ قالوا: نعم، قال: وإيش يطلبون عليها، قالوا: الحوراء، قال: لا ولا العوراء
معنى الرفهحدثنا محمد بن أحمد بن إبراهيم الحكيمي، قال: أنبأنا أحمد بن أبي خيثمة، قال: أنشدت لسعيد بن سليمان المساحقي القاضي، في هارون بن زكريا كاتب العباس بن محمد:
أزورك رفهاً كل يومٍ وليلةٍ ... ودرك مخزونٌ علي قصير
لأي زمانٍ أرتجيك وخلةٍ ... إذا أنت لم تنفع وأنت وزير
فإن الفتى ذا اللب يطلب ماله ... وفي وجهه للطالبين بشير
قال القاضي قوله: أزورك رفهاً، يعني كل يوم من غير إغباب، وقد أبان ذلك بقوله: كل يوم وليلة، وهو مأخوذ من قولهم في الإبل: هي ترد الماء رفهاً، إذا اتصل وردها، ثم يقال في إظمائها غبٌ وربعٌ وخمس إلى عشر، وهو أقصى الإظماء، وكنت بحضرة بعض المجدودين يوماً ممن حكمه زمان السوء فينا، وجار ببسط يده وقبض أيدينا، وأشاع له في عامة الناس وعشرائهم، وأغمارهم وغوغائهم، أنه أوحد دهره، وقريع عصره، علماً وذكاءً، وأدباً ومضاء، فتمثل ببيت البحتري من كلمته السينية التي يصف فيها إيوان كسرى، وهي من جيد شعره وحسنه، وأولها:
صنت نفسي عما يدنس نفسي ... وترفعت عن جدا كل جبس
والبيت الذي تمثل به هذا الرجل على قبح خطئه فيه:
وبعيدٌ ما بين وارد خمسٍ ... عللٍ شربه ووارد سدس
فما رأيت أحداً من حاضري مجلسه يومئذٍ على كثرتهم قد تبين منه إنكار هذا اللفظ ولا لحظ، وعاد بعد بمثل هذا في مجلس آخر، ثم إنني كنت أنا وهو يوماً خاليين، فأنشد هذا البيت غير مرةٍ على الوجه الذي أنكرته، فقلت له: قد سمعتك تنشد هذا البيت غير مرةٍ على ما أنشدته في هذا الوقت، ولست أدري كيف اتفق لك الخطأ فيه مع ظهوره؟ وكيف لم تتأمله فتعرف فساد المعنى الذي إنشادك عبارة عنه؟ قال: فكيف هو؟ فقلت له:
وبعيدٌ ما بين وارد رفهٍ عللٍ شربه ووارد خمس
فقال: لا، وهو على ما رويته، فقلت له: وأي بعد بين الخمس والسدس؟ هو تاليه المتصل به الذي يليه، وبين الرفه وبين الخمس وما دونه بعد ظاهر، وفضل حائل، فلم يبن لي منه رجوع، وقد كان كثيراً، ما يرجع في أشياء كثيرةٍ إلي، ويرجع عنها عند توقيفي إياه وتثبيتي له.
المجلس الخمسون
لا نستعمل على عملنا من طلبهحدثنا أحمد بن محمد بن المغلس، قال: حدثنا حماد بن الحسن، حدثنا عبد العزيز بن الخطاب، حدثنا مندل، عن أبي إسحاق، عن عبد الله بن أبي بردة، عن أبيه.
قال: قال أبو موسى: " دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعي رجل، فقال: استعملني، فقال: إنا لا نستعمل على عملنا من طلبه ولا من حرص عليه " .
شرح السبب في ذلك
قال القاضي: تأملوا رحمنا الله وإياكم، ما ورد به هذا الخبر عن نبينا صلى الله عليه وسلم من إخباره أنه لا يستعمل على الناس من طلب العمل عليهم، ولا من حرص على ولاية أمورهم، لأن من سأل هذا وحرص عليه لم يؤمن زيغه عن العدل في من يلي عليه، ومحاباته لمن يواليه، وشفاء غيظه ممن يعاديه، والإستطالة بما بسط فيه على من بسط عليه، فيجور في حكمه، ويستعين بسلطانه على ظلمه، وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم فيمن سأل القضاء، واستعان عليه بالشفعاء، ما روي من أن الله وكله إلى نفسه.
وروي عن عبد الرحمن بن سمرة " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال له: " يا عبد الرحمن! لا تسل الإمارة، فإنك أن أوتيتها عن غير مسألةٍ أعنت عليها، وإن أوتيتها عن مسألةٍ وكلت إليها " .
وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " لا يحرصن أحدٌ على الإمارة فيعزل " .
وقد كان سلفاؤنا من علماء المسلمين ينأون عن الولايات ويمتنعون من ملابستها والدخول فيها، ويجانبون أهلها مع دعائهم إليها وإكراههم عليها، حتى إن منهم من يتهيب الفتيا في الدين، ويكل مستفتيه إلى غيره من المفتين، ولو ذكرنا ما روي في تفصيل هذه الجملة لأطلنا القول والوصف، وملأنا الأجلاد والصحف، وقد مضى في بعض ما تقدم من مجالس كتابنا هذا من ذلك طرفٌ، ولعلنا نأتي بكثير من هذا الباب في المؤتنف، وبالله نستعين، وإلى الله المشتكى مما يراد في زماننا هذا، من تقليد السفلة والجهال السخفاء الضلال للأحكام، وإجلاسهم مجالس الأئمة الأعلام، مع عظيم جهالتهم، وسقوط عدالتهم، وفساد أمانتهم، وقبح الظاهر والباطن من أمرهم، والله ولي الإنتقام ممن يطوي في هذا الباب بصحة الإمام، ويسعى لما يساق إليه من الأحكام، في هدم شريعة الإسلام، ونستعين الله على تمكيننا من إيضاح هذا الأمر، وإنهائه إلى من إليه الأمر، ساسة الأمة، ومدبري الملة، حتى تنكشف له نصيحة المحقين، وفضيلة المحققين، ويظهر له تمويه الممخرقين، وما تنحوه ولبسوه، وتبجحوا فيه ودنسوه، ويوفقه الله جل جلاله لتأمله حق تأمله، والإصغاء إليه وتقبله، ويبسط فيه لسانه ويده، ويعلى فيه أمره ونهيه، فينزل كل ذي منزلةٍ منزلته، ويقف كل امرىءٍ عند انتهاء قدره، اللهم فبك نستعين، وأنت خير معين، وأنت أرضى بما نحبه، وأكره لما نكرهه، وأقدر على نصرة الحق وأهله، ومحق الباطل وحزبه.
الشكوى من تولي الجهال الأمروقد حدثنا عبيد الله بن محمد بن جعفر الأزدي، حدثنا أحمد بن يحيى، أخبرني أبو عبد الله محمد بن زياد الأعرابي، قال: كان من كلام علي بن أبي طالب عليه السلام وكثيراً ما يقوله في حروبه: اللهم أنت أرضى للترضي، واسخط للسخط، وأقدر على أن تغير ما كرهت، وأعلم بما تقدر، ولا تغلب على باطل، ولا تعجز عن حق، وما أنت بغافلٍ عما يعمل الظالمون.
ثم إني أقول: اللهم إني أستعدي على الوسائط الفجار، والسفراء الأشرار، وكل ساخط خامل، وسفيه جاهل، ممن قدم على نبيهٍ فاضل، ورضي به بدلاً من كل عالم عاقل، فهو يغر إمامه، ويفجر أمامه وتأملوا أيها الألباء قضاة الحضرة، والعراقين الكوفة والبصرة، بله أطراف البلاد ورسا تيق السواد، أين هم من العلم بالكتاب والسنة وفقه الشريعة؟ وأي حظ لهم من العدالة والعفاف والأمانة؟ وقد كان الأئمة فيما مضى ربما دلس عليهم في أعمالهم من هو على بعض الصفات التي قدمنا ذكرها، فينتبه الراقد منهم من غفلته، ويستيقظ الوسنان من رقدته، ويقبل على سوام رعيته، فيبني ما انهدم، ويسد ما انثلم، ويستدرك الفاسد بإصلاحه، ويتلافى التفريط باستصلاحه، وكانت الرعايا تمتعض من منكر هذا النوع، وتشمئز منه فلا تقار عليه، فيؤدي ذلك إلى رفض الأراذل، وإجتباء الأماثل، وتقديم الأفاضل، ولم يكن أحد يقلد شيئاً من شعب الدين والمملكة، إلا بعد الإبتلاء والخبرة، والإمتحان والتجربة.
ما قيل في تقلد نوح بن دارج القضاءوقد حدثنا الحسن بن علي أبو سعيد البصري، قال: حدثنا الحسن بن علي بن راشد، قال: قيل لشريك بن عبد الله: قد تقلد القضاء نوح بن دراج، فقال: ذهبت العرب الذين كانوا إذا غضبوا كفروا، وقد كان لنوح بن دراج في العلم والمعرفة والفهم منزلة معروفة، لا ينكرها ذو معرفة، وقد كان استدرك بعض ما أغفله رجلٌ من علماء القضاة، حتى قال ذلك القاضي:
كادت تزل به من حالقٍ قدمٌ ... لولا تداركها نوح بن دراج
تصحيح رواية البيتقال القاضي: رأيت المحدثين يقولون في رواية هذا البيت: لولا تداركها بفتح الراء والكاف، وهذا خطأ منهم، لأنه إذا كان على هذا كانت لولا فيه بمعنى التحضيض، كقولك: يا هذا فعلت كذا ولولا ما فعلت وإلا فعلت، ولا معنى لذلك هاهنا، وإنما المراد لولا التي تؤذن بامتناع الشيء الوجود غيره، كقولك لولا أنت للقيت زيداً، والصواب إذاً أن تروى لولا تداركها بضم الراء والكاف وعلى إعمال المصدر، والمعنى لولا أن تداركها، كقول الله تعالى: " لولا أن تداركه نعمةٌ من ربه " ومن قصد هذا المعنى فقد أخطأ بحذفه الموصول وإبقائه الصلة.
فهم القضية، فولاه القضاءحدثنا محمد بن الحسن بن دريد، قال: حدثنا عبد الأول بن مريد، عن أبيه، عن الهيثم بن عدي، عن مجالد، عن الشعبي، قال: أتت امرأة عمر رضي الله عنه، فقالت: يا أمير المؤمنين! ما رأيت أفضل من زوجي، إنه ليقوم الليل ولا ينام، ويصوم النهار ما يفطر، فقال عمر: جزاك الله خيراً، مثلك أثنى بالخير، فاستحيت ثم ولت، وكان كعب بن سور الأزدي ثم أحد بني لقيط بن الحارث بن مالك بن فهم حاضراً، فقال: يا أمير المؤمنين ألا أعديت المرأة إذ جاءت تستعدي؟ قال: أوليس إنما جاءت تثني على زوجها وتذكر خصال الخير؟ فقال: والذي أعظم حقك لقد جاءت تستعدي، فقال عمر: علي بها، فجاءت، فقال لها عمر: أصدقيني فلا بأس بالحق، فقالت: والله يا أمير المؤمنين إني لامرأة، وإني لأشتهي كما يشتهي النساء، فقال: يا كعب! فقال: يا كعب اقض بينهما فإنك قد فهمت من أمرهما ما لم أفهم، فقال: يا أمير المؤمنين! تحل له من النساء أربع، فله ثلاثة أيام وثلاث ليلالٍ يتعبد فيهن ما شاء، ولها يوما، وليلتها، فقال عمر: ما لحق إلا هذا، اذهب فأنت قاضٍ على أهل البصرة، فلم يزل قاضياً بقية خلافة عمر وخلافة عثمان، فلما كان يوم الجمل تقلد مصحفاً وخرج يصلي بين الناس فأتاه سهمٌ غربٌ فقتله، وقتل يومئذٍ أخوان فجاءت أمهم بعدما انقضت الحرب فحملتهم وهي تقول:
أعيني جودا بدمعٍ سرب ... فتيةٍ من خيار العرب
وما ضرهم غير حتف النفو ... س أي أميري قريشٍ غلب
قال القاضي: الذي قضى به كعب بن سور فيما بين هذه المرأة وبين زوجها هو قول علماء السلف، وعليه فقهاء الخلف وبه تقول، وما احتج به كعبٌ فيه صحيح على ما ذكره.
السبب في زوال ملك بني أمية في رأي ملك النوبةحدثنا الحسين بن القاسم الكوكبي، قال: حدثنا أبو العباس الفضل بن العباس الربعي، قال: حدثني إبراهيم بن عيسى بن أبي جعفر المنصور، قال: سمعت عمي سليمان بن أبي جعفر يقول:
كنت واقفاً على رأس المنصور ليلةً وعنده إسماعيل بن علي، وصالح بن علي، وسليمان بن علي، وعيسى بن علي، فتذاكروا زوال ملك بني أمية وما صنع بهم عبد الله، وقتل من قتل منهم بنهر أبي فطرس، فقال المنصور: رحمة الله ورضوانه على عمي، ألا من عليهم حتى يروا من دولتنا ما رأينا من دولتهم، ويرغبوا إلينا كما رغبنا إليهم، فلقد لعمري عاشوا سعداء وماتوا فقراء، فقال له إسماعيل بن علي: يا أمير المؤمنين! إن في حبسك عبد الله بن مروان بن محمد، وقد كانت له قصة عجيبة مع ملك النوبة، فابعث فسله عنها، فقال: يا مسيب! علي به، فأخرج فتىً مقيداً بقيدٍ ثقيل وغل ثقيل فمثل بين يديه، فقال: السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته، فقال: يا عبد الله! رد السلام أمنٌ، ولم تسمح لك نفسي بذلك بعد، ولكن اقعد، فجاءوا بوسادةٍ فثنيت فقعد عليها، فقال له: لقد بلغني أنه كانت لك قصةٌ عجيبةٌ مع ملك النوبة فما هي؟ قال: يا أمير المؤمنين! لا والذي أكرمك بالخلافة، ما أقدر على النفس من ثقل الحديد، ولقد صدىء قيدي مما أرشش عليه من البول، وأصب عليه الماء في أوقات الصلوات، فقال: يا مسيب! أطلق عنه حديده، ثم قال: نعم يا أمير المؤمنين، لم قصد عبد الله بن علي إلينا، كنت المطلوب من بين الجماعة، لأني كنت ولي عهد أبي من بعده، فدخلت إلى خزانة فاستخرجت منها عشرة آلاف دينار، ثم دعوت عشرة من غلماني وحملت كل واحدٍ على دابة ودفعت إلى كل غلامٍ ألف دينار وأوقرت خمسة أبغلٍ فرشاً، وشددت في وسطي جوهراً له قيمة مع ألف دينار، وخرجت هارباً إلى بلاد النوبة فسرت فيها ثلاثاً، فوقفت إلى مدينة خراب فأمرت الغلمان فعدلوا إليها وكشحوا منها ما كان قذراً ثم، بسطنا بعض تلك الفرش، ودعوت غلاماً لي كنت أثق بعقله، فقلت: انطلق إلى الملك فأقرئه مني السلام، وخذ لي منه الأمان وابتع لي ميرةً، قال: فأبطأ علي حتى سؤت به ظناً، ثم أقبل ومعه رجل آخر، فلما أن دخل كفر لي ثم قعد بين يدي، فقال لي: الملك يقرأ عليك السلام، ويقول لك: من أنت؟ وما جاء بك إلى بلادي؟ أمحارب أم راغب إلي أم مستجيرٌ بي، قلت: ترد على الملك السلام، وتقول له: أما محارباً لك فمعاذ الله فأما راغباً في دينك فما كنت أبغي بديني بدلاً، وأما مستجير بك فلعمري، قال: فذهب ثم رجع إلي، فقال: إن الملك يقرأ عليك السلام، ويقول لك: أنا صائر إليك غداً فلا تحدثن في نفسك حدثاً ولا تتخذ شيئاً من ميرةٍ فإنها تأتيك وما تحتاج إليه، فأقبلت الميرة فأمرت غلماني ففرشوا ذلك الفرش كله وأمرت بفرشٍ فنصبت له ولي مثله، وأقبلت من غدٍ أرقب مجيئه، فبينا أنا كذلك إذ أقبل غلماني يحضرون، قالوا: إن الملك قد اقبل، فقمت بين شرفتين من شرف القصر أنظر إليه، فإذا أنا برجلٍ قد لبس بردين ائتزر بأحدهما وارتدى الآخر، حافٍ راجلٍ وإذا عشرة معهم الحراب ثلاثة يقدمونه وسبعة خلفه، وإذا الرجل الموجه إلي جنبة فاستصغرت أمره، وهان علي لما رأيته في تلك الحال، وسولت لي نفسي قتله، فلما قرب من الدار إذا أنا بسواد عظيم، فقلت: ما هذا السواد؟ فقيل: الخيل، فوافى يا أمير المؤمنين زهاء عشرة آلاف عنان، وكان موافاة الخيل الدار في وقت دخوله فأحد قوابها، فدخل إلي فلما نظر إلي، قال: لترجمانه: أين الرجل؟ فأومأ الترجمان إلي، فلما نظر إلي، وثبت له فأعظم ذلك وأخذ بيدي فقبلها ووضعها على صدره، وجعل يدفع ما وإلى الفسطاط برجله ويشوش الفرش، فظننت أن ذلك شيئاً يجلونه أن يطؤوا على مثله حتى انتهى إلى الفراش فقلت لترجمانه: سبحان الله لم لم يقعد على الموضع الذي قد وطىء، فقال: قل له: إني ملكٌ، وحق كل ملك أن يتواضع لعظمة الله إذ رفعه الله، قال: ثم أقبل طويلاً ينكت بإصبعه في الأرض ثم رفع رأسه، فقال لي، كيف سلبتم هذا الملك وأخذ منكم وأنت أقرب الناس إلى نبيكم صلى الله عليه وسلم، فقلت: جاء من كان أقرب قرابة إلى نبينا صلى الله عليه وسلم فسلبنا وقتلنا فطردنا، فخرجت إليك مستجيراً بالله عز وجل ثم بك، قال: كنتم تشربون الخمر وهي محرمةٌ عليكم في كتابكم؟ فقلت: فعل ذلك عبيدٌ وأتباعٌ وأعاجم دخلوا في ملكنا، من غير رأينا، قال: فلم كنتم تلبسون الحرير والديباج، وعلى دوابكم الذهب والفضة وقد حرم ذلك عليكم، قلت: عبيدٌ وأتباعٌ دخلوا في ملكنا، قال: قال: فلم كنتم أنتم بأعيانكم
إذا خرجتم إلى نزهكم وصيدكم تقحمتم على القرى فكلفتم أهلها ما لا طاقة لهم به، بالضرب الوجيع ثم لا يقنعكم ذلك حتى تدوسوا زروعكم فتفسدوها في طلب دراجٍ قيمته نصف درهم، أو في عصفور قيمته لا شيء والفساد محرم عليكم في دينكم، قلت: عبيدٌ وأتباع، قال: لا ولكنكم استحللتم ما حرم الله عليكم وأتيتم ما عنه نهاكم، فسلبكم الله العز وألبسكم الذل، ولله فيكم نقمة لم تبلغ غايتها بعد، وإني أتخوف أن تنزل النقمة وهي إذا نزلت عمت وشملت، فاخرج بعد ثلاث، فإني أن وجدتك بعدها أخذت جميع ما معلك وقتلتك وقتلت جميع من معك، ثم وثب فخرج. فأقمت ثلاثاً وخرجت إلى مصر، فأخذني واليك فبعث بي إليك فها أنذا والموت أحب إلي من الحياة ، قال: فهم أبو جعفر بإطلاقه، فقال له إسماعيل بن علي: في عنقي بيعة له، قال: فماذا ترى؟ قال: ينزل في دارٍ من دورنا ونجري عليه ما يجري على مثله، قال: ففعل ذلك به، فوالله ما أدري أمات في حبسه أن أطلقه المهدي. خرجتم إلى نزهكم وصيدكم تقحمتم على القرى فكلفتم أهلها ما لا طاقة لهم به، بالضرب الوجيع ثم لا يقنعكم ذلك حتى تدوسوا زروعكم فتفسدوها في طلب دراجٍ قيمته نصف درهم، أو في عصفور قيمته لا شيء والفساد محرم عليكم في دينكم، قلت: عبيدٌ وأتباع، قال: لا ولكنكم استحللتم ما حرم الله عليكم وأتيتم ما عنه نهاكم، فسلبكم الله العز وألبسكم الذل، ولله فيكم نقمة لم تبلغ غايتها بعد، وإني أتخوف أن تنزل النقمة وهي إذا نزلت عمت وشملت، فاخرج بعد ثلاث، فإني أن وجدتك بعدها أخذت جميع ما معلك وقتلتك وقتلت جميع من معك، ثم وثب فخرج. فأقمت ثلاثاً وخرجت إلى مصر، فأخذني واليك فبعث بي إليك فها أنذا والموت أحب إلي من الحياة ، قال: فهم أبو جعفر بإطلاقه، فقال له إسماعيل بن علي: في عنقي بيعة له، قال: فماذا ترى؟ قال: ينزل في دارٍ من دورنا ونجري عليه ما يجري على مثله، قال: ففعل ذلك به، فوالله ما أدري أمات في حبسه أن أطلقه المهدي.
قال القاضي في هذا الخبر اتعاظٌ ومعتبر وتحذيرٌ ومزدجر، والله نسأل توفيقنا وعصمتنا مما يوجب حلول الغير، ويلهمنا الشكر، وييسرنا لأعمال البر، وان يحكم عقدة الأنس بيننا وبين نعمه، حتى يألفنا لشكرنا إياها، وتأدية حق ربنا المنعم علينا بها، ويوطنها فلا ننأى عنها.
أبيات في تحذير بني العباسحدثنا محمد بن يحيى الصولي، حدثني عبد الله الألوسي، قال: لما صار جيش الدعي بالبصرة إلى النعمانية طرحت رقعة في دار الناصر مختومة، فجاءوا بها إلى الموفق، فقال: فيها عقرب لاشك، ففتوحها فإذا فيها:
أرى ناراً تأجج من بعيدٍ ... لها في كل ناحيةٍ شعاع
وقد نامت بنو العباس عنها ... وأصبحت وهي غافلة رتاع
كما نامت أمية ثم هبت ... لتدفع حين ليس لها دفاع
فأمر الموفق من ساعته بالإرتحال إلى البصرة.
قال القاضي: وهذا الشعر مما يجابه قائله قول القائل في بني أمية:
أرى تحت الرماد وميض جمرٍ ... وأخلق أن يكون له ضرام
وقد غفلت أمية عن سناها ... ويوشك أن يكون لها اضطرام
أقول من التعجب ليت شعري ... أأيقاظٌ أمية أم نيام
مروان بن محمد حين أحيط بهوحدثني أبو النضر العقيلي، قال أبو الحسن بن راهويه الكاتب، عمن أخبره: أن مروان بن محمد جلس يوماً وقد أحيط به، وعلى راسه خادم له، فقال له: ألا ترى ما نحن فيه؟ لهفي على يدٍ ما ذكرت، ونعمةٍ ما شكرت، ودولةٍ ما نصرت، فقال له: يا أمير المؤمنين! من ترك القليل حتى يكثر، والصغير حتى يكبر، والخفي حتى يظهر، وأخر فعل اليوم لغدٍ، حل به أكثر من هذا، فقال: هذا القول أشد علي من فقد الخلافة.
قال القاضي: ونحن نلجأ إلى الله جل جلاله راغبين إليه،خاضعين له، واثقين به، راجين لإحسانه، مستجيرين بعفوه وكرمه، في أن يحفظ علينا الخلافة الهاشمية والدولة العباسية، ونعوذ به أن نضحى بعد الإستظلال بظلها، والتقلب في عدلها، والبشر بخدمة أهلها، ونسأله سؤال من وجه رغبته إليه، واعتمد في دينه ودنياه عليه، أن يتمم نعمته، ويهني موهبته، ويوفر تشريفه وتكرمته، لعبده القادر بالله أمير المؤمنين، ويعز نصره، ويرفع في الملأ الأعلى ذكره، وينفذ في شرق البلاد وغربها أمره، ويبسط يده في جميع الرعايا ولسانه، ويديل من كل مخالفٍ عليه سلطانه، حتى يفيض العدل فينا، ويديل ظالمنا، وينيل مظلومنا، ويظهر له ما ستره المنافقون، ويمكنه من نقض ما أبرمه المارقون، حنى يدني كل أمين، ويقصي كل ظنين، ويستبطن أولي النعم من أهل الدين، ويصطنع ذوي الفقه والإمامة، ويطرح أهل الريب والخيانة، إنه لطيفٌ خبير.
المهتدي يتشبه بعمر بن عبد العزيزحدثني بعض الشيوخ ممن شاهد جماعةً من العلماء، وخالط كثيراً من الرؤساء أن هاشم بن القاسم الهاشمي، حدثه وقد حدث هاشم هذا حديثاً كثيراً، وكتبنا عنه الآن هذه الحكاية، لم أسمعها منه وحدثني بها هذا الشيخ الذي قدمت ذكره، قال أبو العباس هاشم بن القاسم: كنت بحضرة المهتدي عشيةً من العشايا، فلما كادت الشمس تغرب وثبت لأنصرف، وذلك في شهر رمضان، فقال: اجلس فجلست، ثم إن الشمس غابت، وأذن المؤذن لصلاة المغرب وأقام، فتقدم المهتدي فصلى بنا ثم ركع وركعنا، ودعا بالطعام فأحضر طبق خلافٍ وعليه رغفٌ من الخبز النقي، وفيه آنيةٌ في بعضها ملح وفي بعضها خل، وفي بعضها زيتٌ، فدعاني إلى الآكل فابتدأت آكل مقداراً أنه سيؤتى بطعامٍ له نيقةٌ وفيه سعة، فنظر إلى وقال لي: ألم تك صائماً؟ قلت: بلى، قال: أفلست عازماً على صوم غدٍ، فقلت: كيف لا وهو شهر رمضان، فقال: فكل واستوف غذاءك فليس هاهنا من الطعام غير ما ترى، فعجبت من قوله، ثم قلت: والله لأخاطبنه في هذا المعنى، فقلت: ولم يا أمير المؤمنين؟ وقد أوسع الله نعمته وبسط رزقه وكثير الخير من فضله، فقال: أن الأمر لعلى ما وصفت والحمد لله، ولكنني فكرت في أنه كان في بني أمية عمر بن عبد العزيز، وكان من التقلل والتقشف على ما بلغك، فغرت على بني هاشم أن لا يكون في خلفائهم مثله، فأخذت نفسي بما رأيت.
قال القاضي: ولم تزل المنافسة في أعمال البر وأبواب الخير، في أثر المتقين وسبيل الصالحين، وقد وفق الله المهتدي رضوان الله عليه من هذا لما يرجى له المثوبة منه والزلفى لديه، وفقنا الله وإياكم لطاعته وحسن عبادته.
آراء لهشام بن عبد الملكحدثني محمد بن القاسم الأنباري، قال: حدثني أبي أحمد بن الحارث، قال: قال: أبو الحسن.
قال يوماً هشام بن عبد الملك وهو يسير في موكبه: يا لك دنيا ما أحسنك! لولا أنك ميراثٌ لآخرك، وآخرك كأولك، فلما حضرته الوفاة نظر إلى ولده يبكون حوله، فقال: جاد لكم هشام بالدنيا وجدتم عليه بالبكاء، وترك لكم ما جمع، وتركتم عليه ما كسب، ما أعظم منقلب هشام إن لم يغفر الله له!
متى أحصل عندك؟
حدثني محمد بن عمر بن نصير الحربي، قال: حدثنا محمد بن جعفر الكوفي، قال: أخبرني عبد الله بن إبراهيم الوراق، قال: صحبت رجلاً في السفر وأنست به لأدبه وحسن أخلاقه، فصرنا إلى مصر، وكنت أقصده وأبيت عنده الليلة والليلتين في الأسبوع، وقل ما أخل بزيارته في ليلة كل جمعة، وكان ينزل غرفةً من الغرف فقصدت في بعض العشايا زيارته فوجدت غرفته مغلوقة وعليها مكتوب:
أبداً تحصل عندي ... ف
متى أحصل عندكإن تناصفنا وإلا ... أنت يا وراق وحدك
فانصرفت إلى منزلي ثم لقيته من غدٍ فضحك كل واحدٍ منا إلى صاحبه فيما كان من مداعبته فيما كتبه، واستدعيت بعد ذلك زيارته إياي، وكان يبيت الليالي عندي وأبيت عنده إلى أن فرقت بيننا حوادث الأيام.
تأخير كل وتقديمها
قال القاضي: قوله في هذه الحكاية: في ليلة كل جمعة واللفظ الآتي في هذا الخبر صحيح يؤدي عن هذا المعنى، وقد جاء في بعض القرآن نحو هذا في موضع من القرآن، وهو قول الله تعالى " كذلك يطبع الله على كل قلبٍ متكبرٍ جبار " فقرأ جمهور القراء من أهل الحرمين والشام والعراقين على كل قلبٍ متكبرٍ، بإضافة كل إلى قلبٍ، على أن قوله متكبر جبار، من صفة ذي القلب، وإن كان القلب نفسه قد يوصف بذلك، ونحو هذا قولهم: فلانٌ سليم القلب، وقلب فلانٍ سليم، فيجري الصفة على اللفظ تارةً أي على القلب إذ كانت السلامة والتكبر والجبرية فيه، وتارة على صاحبه ويجعل صفةً لجملته لاستحقاقه الوصف لها، وإن كانت حالة في قلبه، وقد قرأ بعض القراء على كل قلبٍ متكبرٍ بتنوين القلب، وجعل الصفة له إذ كانت فيه، وممن قرأ هكذا أبو عمرو بن العلاء من البصرة، وذكر أنها من قراءة عبد الله بن مسعود على كل قلب متكبر، بإضافة قلب إلى كل على الوجه الذي قدمنا ذكره، وهذه القراءة شاهدةٌ للإضافة موافقةٌ في المعنى قراءة من أضاف على الوجه الآخر، وحكى الفراء أنه سمع بعض العرب يقول: رجل سفره يوم كل جمعة، يريد كل يوم جمعة، قال: والمعنى واحد.
قال القاضي: ولفظ قراءتنا على ما في مصاحفنا على الإضافة أولى بإبانة المعنى وطريق التحقيق دون التجوز، لأن قراءتنا أتت بإضافة كل إلى قلب، واستوعبت قلوب المنكرين، وجرت على إضافة جمع إلى ما دليل الجمع ظاهر في لفظه، وقراءة عبد الله أضيف فيها واحد إلى جماعة تجوزاً وعني به معنى الجمع وهو بمنزلة قول الشاعر:
كلوا في نصف بطنكم تعيشوا ... فإن زماننا زمن خميص
وقول الآخر:
كانه وجه تركيين قد عصبا ... مستهدفٌ لطعان غير تذبيب
وقول ابن عبدة:
بها جيف الحسرى فأما عظامها ... فبيضٌ وأما جلدها فصليب
وقول جرير:
الواردين وتيمٌ في ذرا سبأٍ ... قد عض أعناقهم جلد الجواميس
وقال الآخر:
لا تنكروا القتل وقد سبينا ... في حلقكم عظمٌ وقد شجينا
على أن وجه قراءة عبد الله في هذا المعنى أقوى مما في هذه الأبيات، لأن لكل لفظاً يقتضي التوحيد، ومعنى يقتضي الجمع، وقد يتجه في قراءة عبد الله حملها على ما لا يتغير المعنى به من التجوز، الذي يسميه النحويون القلب، وقد تأول عليه قومٌ من النحويين كثيراً من آي القرآن وما وردت به الأخبار، وهو الباب الذي بلغتين: أدخلت القلنسوة رأسي، وتهيبني الفلاة، كما قال الشاعر:
ولا تهيبني الموماة اركبها ... إذا تجاوبت الأصداء بالسحر
وهذا باب قد استقصيناه في كتبنا، وأمللنا منه قدراً واسعاً على شرحٍ وتفصيل فيما أمللناه من النثر والنظم، ومن شرح مختصر أبي عمرو الجرمي في النحو، واتينا فيه بما لا نعلم أحداً سبقنا إليه، ومن نظر فيما هنالك تبين منه ما وصفنا إن شاء الله.
المجلس الحادي والخمسون
أي الخلق أعجب إيماناً
حدثنا محمد بن الحسن بن محمد أبو عيسى القرشي، قال: حدثنا إبراهيم بن محمد بن إسحاق البصري، قال: حدثنا منهال بن بحر، عن هشام بن أبي عبد الله، عن يحيى بن أبي كثير، عن زيد بن أسلم، عن أبيه، عن عمر، قال: قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أي الخلق أعجب إيماناً؟ قالوا: الملائكة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كيف لا يكونون مؤمنين وهم عند الرحمن؟ قالوا: فالنبيون، قال: كيف لا يكونون مؤمنين والوحي ينزل عليهم؟ قالوا: فنحن، قال: كيف لا تكونون مؤمنين وأنا بين أظهركم؟ وإن أعجب الخلق إيماناً قومٌ يأتون من بعدي يجدون اسمي في ورقةٍ فيؤمنون بي ويصدقوني " .
تعقيب المؤلف
قال القاضي: فالحمد لله الذي هدانا لدينه، والإيمان بنبيه، وتصديقنا بكتابه ووحيه، ووفقنا لموالاة من تقدمنا من السابقين الأولين، وتابعيهم بإحسانٍ من السلف الصالحين، وبصر بأفضل أئمتنا الخلفاء الراشدين المهديين، الذين سبقونا بالإيمان ولاتجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا ربنا إنك رءوف رحيم، ونبرأ إلى الله تعالى ممن عادى الأئمة، وسب الأخيار من سلف الأمة، وكان فيما وجدته عن عمر بن ذر، ثم وجدته عن عبد الله بن عمر، ثم وجدته عن علي بن أبي طالب عليه السلام أنه قال - وقد ذكر له أن أناساً يشتمون أصحابه - : قاتلهم الله أيشتمون قوماً - يعني الصحابة - أسلموا من مخافة الله عز وجل، وأسلم الناس من مخافة أسيافهم؟
أطع كل أميروقد حدثنا محمد بن الحسين بن علي بن سعد الترمذي، قال: حدثنا عبد الله بن أحمد، قال: حدثنا الحكم بن موسى، قال: حدثنا إسماعيل بن عياش، عن جميل بن مالك الحمصي، عن مكحول، عن معاذ بن جبل، قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يا معاذ! أطع كل أمير، وصل خلف كل إمامٍ، ولا تسبن أحداً من أصحابي " .
قال القاضي: وما ورد في هذا الباب من الأخيار ونقل الروايات والآثار مما لا يتسع استقصاؤه، ويمتنع على رواته جمعه وإحصاؤه.
كيف يسب أحد أصحاب النبيوقد حدثنا أبي رضي الله عنه، قال: حدثنا موسى بن هارون، قال: حدثنا أبو بشر هارون بن حاتم البزاز، قال: سمعت محمد بن صبيح ابن السماك، يقول: علمت أن اليهود لا يسبون أصحاب موسى عليه السلام، وأن النصارى لا يسبون أصحاب عيسى عليه السلام، فما بالك يا جاهل سببت أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، وقد علمت من أين أتيت، لم يشغلك ذنبك، أما لو شغلك ذنبك لخفت ربك، لقد كان في ذنبك شغل عن المسيئين، فكيف لم يشغلك عن المحسنين، أما لو كنت من المحسنين لما تناولت المسيئين، ولرجوت لهم أرحم الراحمين، ولكنك من المسيئين، فمن ثم عبت الشهداء والصالحين، أيها العائب لأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم لو نمت ليلك وأفطرت نهارك لكان خيراً لك من قيام ليلك وصيام نهارك، مع سوء قولك في أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، فويحك! لا قيام ليلٍ ولا صوم نهارٍ وأنت تتناول الأخيار، فأبشر بما ليس فيه البشرى إن لم تتب مما تسمع وترى، ويحك! هؤلاء شرفوا في أحد، وهؤلاء جاء العفو عن الله تعالى فيهم، فقال: " إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان إنما استنزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا ولقد عفا الله عنهم " فما تقول فيمن عفا الله عنهم؟ نحن نحتج بخليل الرحمن إبراهيم، قال: " فمن تبعني فإنه مني ومن عصاني فإنك غفورٌ رحيم " فقد عرض العاصي للغفران فلو قال: فإنك عزيزٌ حكيم، أو عذابك عذابٌ أليم، فبم تحتج يا جاهل إلا بالجاهلين، شر الخلف خلف شتم السلف، والله لواحدٌ من السلف خير من ألفٍ من الخلف.
القول في كلمة " خلف "قال القاضي: في هذا الخبر قد حرك لام الخلف، وقد اختلف أولو العلم باللغة والعربية في هذا، فقال معظمهم: يقال: هؤلاء خلف صدقٍ بالتحريك، وخلف سوءٍ بالتسكين، ومن أمثال العرب في الذي يطيل السكوت ثم يتكلم بالفاسد من الكلام: " سكت ألفاً ونطق خلفاً " ومنه قول لبيد:
ذهب الذين يعاش في أكنافهم ... وبقيت في خلفٍ كجلد الأجرب
وذكر أن أعرابياً كان مع قومٍ فحبق فتشور ثم أومى بيده إلى استه، فقال: خلف سوءٍ نطقت خلفاً، ويقال للمحال الفاسد من المقال: هذا خلف، وذكر الأخفش أنه يقال: خلفٌ للمتبع لمن سلف قبله، وخلف لمن أتى بعد من تقدمه من غير تفريق منه بين المدح والذم فيه، وهذا قول حسن غير مستبعد، وقد يكون تحريك اللام في الخلف في هذا الخبر لاقترانه بالسلف كما قال من قال: من العير الخير، كما قالوا: الغدايا والعشايا، وهذا باب يتسع منظومه ومنثوره، وقد أتينا به أو بمعظمه في مواضع من كتبنا.
وقال الفراء: هو خلف سوءٍ من أبيه، ولك عندي خلفٌ من مالك، وربما ثقلوا خلف سوءٍ، وهو قليل.
وصية معاوية
حدثنا محمد بن الحسن بن دريد، قال: أنبأنا أبو حاتم، عن العتبي، عن أبيه، عن خالد، عن أبيه، عن عمرو بن عتبة، قال: لما اشتكى معاوية مشكاته التي هلك فيها أرسل إلى فاس من بني أمية فخص ولم يعم، فقال: يا بني أمية! إنه لما قرب ما لم يكن بعيداً، وخفت أن يسبقكم الموت إلي سبقته بالموعظة إليكم، لا لأرد قدراً ولكن لأبلغ عذراً، لو وزنت بالدنيا لرجحت بها، ولكني وزنت بالآخرة فرجحت بي، إن الذي أخلف لكم من الدنيا أمرٌ ستشاركون فيه أو تغلبون عليه، والذي أخلف لكم من رأيٍ أمر مقصور عليكم نفعه إن فعلتموه، مخوفٌ عليكم ضرره إن ضيعتموه، فاجعلوا مكافأتي قبول وصيتي، إن قريشاً شاركتكم في نسبكم وبنتم منها بفعالكم، فقدمكم ما تقدتم فيه، إذ أخر غيركم ما تأخروا له، وبالله لقد جهر لي فعلمت، ونغم لي ففهمت، حتى كأني أنظر إلى أبنائكم بعدكم نظري إلى آبائهم قبلهم، إن دولتكم ستطول، وكل طويل مملول مخذول، فإذا انقضت مدتكم كان أول تجادلكم فيما بينكم، واجتماع المختلفين عليكم، فيدبر الأمر بضد الحسن الذي أقبل به، فلست أذكر عظيماً يركب منكم ولا حرمةً تنتهك، إلا والذي أكف عن ذكره أعظم، فلا معول عليه عند ذلك أفضل من الصبر، وتوقع النصر، واحتساب الأجر، فيمادكم القوم دولتهم امتداد العنانين في عنق الجواد، فإذا بلغ الله عز وجل بالأمر مداه، وجاء الوقت المحتوم، كانت الدولة كالإناء المكفو، فعندها أوصيكم بتقوى الله الذي لم يتقه غيركم فيكم، فجعل العاقبة فيكم، والعاقبة للمتقين.
سليمان بن عبد الملك وشرهه إلى الطعامحدثنا الحسين بن القاسم الكوكبي، قال: حدثنا ابن أبي سعد، قال: حدثني علي بن محمد بن سليمان الهاشمي، قال: حدثني أبي، قال: حدثني عبد الله وصله، قال: قال: لنا سليمان يوماً: إني قد أمرت قيم بستاني أن يحبس علي الفاكهة ولا يجني منها شيئاً حتى تدرك، فاغدوا علي مع الفجر - يقول: لأصحابه الذين كان يأنس بهم: لنأكل الفاكهة في برد النهار - فغدونا في ذلك الوقت، فصلى الصبح وصلينا، ثم دخل ودخلنا معه، فإذا الفاكهة متهدلةٌ على أغصانها وإذا كل فاكهة مختارة قد أدركت كلها، فقال: كلوا، ثم أقبل فأكلنا بمقدار الطاقة، وأقبلنا نقول: يا أمير المؤمنين: هذا العنقود، فيخرطه في فيه، يا أمير المؤمنين، هذه التفاحة، كلما رأينا شيئاً نضيجاً أومأنا إليه فيأخذه فيأكله ويحطمه، حطماً، حتى ارتفع الضحى ومتع النهار، ثم أقبل على قيم البستان، فقال: ويحك يا فلان، إني قد استجعت فهل عندك شيء تطعمنيه؟؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين عناقٌ حولية حمراء، قال: ائتني بها ولا تأتين معها بخبز، فجاء بها على خوان لا قوائم له وقد انفخت وملأت الخوان، وجاء بها غلمةٌ يحملونها فأدنوها منه وهو قائم، فأقبل يأخذ العضو فيجيء معه لنضجه فيطرحه فيخرطه في فيه، ويلقي العظم حتى أتى عليها، ثم عاد لأكل الفاكهة فأكل فأكثر ثم قال للقيم: ويحك! ما عندك شيء تطعمنيه؟ قال: بلى يا أمير المؤمنين، دجاجتان قد عبئتا شحماً، قال: ائتني بهما، ففعل بهما كما فعل بالعناق، ثم عاد لأكل الفاكهة، فأكل مليا ثم قال للقيم: هل عندك شيء تطعمنيه، فإني قد جعت، قال: عندي سويقٌ جديدة يعني الحنطة كأنه قطع الأوتار وسمن سلاء وسكر، قال: أفلا أعلمتني بهذا قبل: ائتني وأكثر، فجاء بقعبٍ يقعد فيه الرجل، وقد ملأه من السويق قد خلطه بالسكر وصب عليه سمن سلاء، وأتى بجرة ماءٍ بارد وكوزٍ فأخذ القعب على كفه، وأقبل القيم يصب عليه الماء فيحركه حتى كفأه على وجهه فارغاً، ثم عاد لأكل الفاكهة فأكل مليا حتى حرت عليه الشمس، فدخل وأمرنا أن ندخل إلى مجلسه فدخل وجلسنا، فما مكث أن خرج علينا فلما جلس قام كبير الطباخين حياله يؤذنه بالغداء، فأومأ إليه أن أئت بالغداء، فوضع يده فأكل، فما فقدنا من أكله شيئاً.
أكفأه وكفأهقال القاضي: في هذا الخبر حتى أكفأه على وجهه بمعنى قلبه وهو خطأ إنما هو كفأه، فرويناه على الصواب، يقال: كفأت الإناء فهو مكفوءٌ، وأنا كافىء، وأما أكفأ فإنه في الشعر، وهو من عيوب قوافيه، وأهل هذه الصناعة مختلفون في ماهيته، وله موضه هو مذكور فيه على شرح لمعانيه وقد روي لنا هذا الخبر من طريق آخر، وفيه أن سليمان بن عبد الملك بعد فراغه من أكله هذا عرضت له حمى أدته إلى الموت.
الأعرابي الذي استحمل ابن الزبيرحدثنا محمد بن القاسم الأنباري، قال: حدثني أبي، قال: حدثني أحمد بن الحارث، قال: قال أبو الحسن، قال أبي: أتى فضالة بن شريك الكاهلي الأسدي - أسد بني خزيمة - عبد الله بن الزبير، فقال له: قد نفدت نفقتي ونقبت راحلتي فاحملني، فقال له: أحضر راحلتك، فأحضرها، فقال له: أقبل بها أدبر بها ففعل، فقال: ارقعها بسبتٍ واخفصها بلهبٍ، وأنجد بها يبرد خفها وسر عليها البردين تصح، فقال ابن فضالة: إنما أتيتك مستحملاً ولم آتك مستوصفاً، لعن الله ناقةً حملتني إليك، فقال ابن الزبير: إن وراكبها، يريد نعم وراكبها، فانصرف ابن فضالة وهو يقول:
أقول لغلمتي شدوا ركابي ... أفارق بطن مكة في سواد
فما لي حين أقطع ذات عرقٍ ... إلى ابن الكاهلية من معاد
سيبعد بيننا نص المطايا ... وتعليق الأداوى والمزاد
وكل معبدٍ قد أعلمته ... مناسمهن طلاع النجاد
أرى الحاجات عند أبي خبيبٍ ... نكدن ولا أمية بالبلاد
من الأعياص أو من آل حربٍ ... أغر كغرة الفرس الجواد
قال: فالكاهلية إحدى جدات ابن الزبير، فقال: علم أنها ألأم جداتي فسبني بها قال القاضي رضي الله عنه: إن في قول ابن الزبير إن وراكبها معناها نعم، وهي لغةٌ مشهورة يمانية، وقد حمل قوم عليها إن في قول الله عز وجل: " إن هذان لساحران " فقالوا: المعنى نعم، وجاء في بعض فصيح الخطب: إن الحمد لله، برفع الحمد، بمعنى نعم الحمد لله، ومن ذلك قول الشاعر:
بكرت علي عواذلي ... يلحونني وألومهنه
ويقلن شيبٌ قد علا ... ك وقد كبرت فقلت إنه
يعني بقوله إنه: نعم، والهاء للسكت والوقف، كقولهم: تعاله، والقول مستقصي على شرحه في إن هذه وفيما أتى من القرآن والتلاوات في قوله: إن هذان في مواضعه من تآليفنا وإملائنا، وقول ابن فضالة في شعره هذا: نص المطايا النص ضربٌ من السير فيه ظهور وارتفاع، ومن هذا إشتق اسم المنصة أعني الإرتفاع والظهور، وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم في قصة ذكرت أنه كان يسير العنق فإذا وجد فجوة نص، ومنه: نصصت الحديث إلى صاحبه أي رفعته إليه، وقال امرؤ القيس:
وجيدٍ كجيد الرئم ليس بفاحشٍ ... إذا هي نصته ولا بمعطل
وقوله: وكل معبد: المعبد المذلل، قال طرفة:
إلى أن تحامتني العشيرة كلها ... وأفردت إفراد البعير المعبد
وأبو خبيب: هو عبد الله بن الزبير، كان يكنى أبا خبيب وأبا بكر. وقال الشاعر فيه، وفي أخيه مصعب:
قدني من نصر الخبيبين قدي ... ليس أميري بالشحيح الملحد
يروي الخبيبين مثنى، يراد هو وأخوه، ويروي الخبيبين على الجمع، من باب الأشاعثة والمسامعة والمهالبة، يراد هو وذووه، وقوله: ولا أمية في البلاد نصب بلا النافية، وإنما تعمل في النكرة دون المعرفة، لأنه أراد: ولا مثل أمية، كما قال الآخر:
لا هيثم ... الليلة للمطي
أي لا مثل هيثم، وقوله: من الأعياص، نسب بني أمية مقسوم على الإضافتين الأعياص والعنابس والأعياص أعلاهما.
قال القاضي رحمه الله: ابن الزبير حين ذكر الكاهلية ونسبة ابن فضالة إياه إليها معنى لطيف، وتعريض بسبه أبلغ من التصريح، إذ علم أن الكاهلية ألأم أمهات ابن الزبير فسبه بها، فالسب راجعٌ عليه بأعظم من سبه من هجاه، إذ بنو كاهل رهط ابن فضالة وعصبته.
وقول ابن الزبير: ارقعها بسبت، السبت: جلودٌ يؤتى بها من اليمن تتخذ منها النعال، وهي من جلود البقر، وكانت من ملابس الملوك، وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لرجل رآه يمشي في المقبرة لابساً شيئاً منها: يا صاحب السبتين: اخلع سبتيك.
وقال عنترة يصف رجلاً بالنبل وتمام الخلق:
بطلٌ كأن ثيابه في سرحةٍ ... يحذى نعال السبت ليس بتوأم
وقوله: اخصفها بهلب: يعني ما أخذ من شعر الذنب، وقوله: وأنجد بها، يريد: أئت بها نجداً: أنجد الرجل إذ أتى نجداً، وأغار إذا أتى الغور، ومن كلام العرب " أنجد من رأى حصناً " أي شارف نجداً، وحصن جبيل، قال الأعشى:
نبي يرى ما لا ترون وذكره ... أغار لعمري في البلاد وأنجدا
وقوله: وسر عليها البردين: البردان: أول النهار وآخره، وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " من صلى البردين دخل الجنة " . قال: الله عز وجل: " وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفاً من الليل " ومن الدليل على ما قلناه في معنى البردين قول حميد بن ثور الهلالي:
فلا الظل من برد الضحى نستطيعه ... ولا الفيء من برد العشي نذوق
ما رأيكم في صفعهحدثنا محمد بن يحيى الصولي، قال: ثنا عبد الله بن عبد الله بن طاهر، قال: حدثني الفضل بن محمد اليزيدي، قال: كنت أختلف إلى محمد بن نصر ويقرأ علي وأولاده الأشعار، وكذلك إلى ولد عبد الله بن إسحاق بن إبراهيم، وكان محمد بن نصر وعبد الله بن إسحاق صفرين من الأدب، على جلالة مروءتهما وشرفهما وسروهما، فاجتمعا يوماً في مجلس يشبه مجالس الخلفاء، وأحضر طعام كطعامهم ثم ضربت ستارةٌ وجلسا وبين أيديهما أولادهما، فغنت الستارة بشعر جرير:
ألا حي الديار بسعد إني ... أحب لحب فاطمة الديارا
فقال: عبد الله بن إسحاق لمحمد بن نصر: يا أخي! لولا حمق العرب وجهلها ما ذكر السعد هاهنا، فقال محمد بن نصر: لا تفعل يا أخي فإن فيه منافع، يشد اللثة ويطيب النكهة ويصلح المعدة، فالتفت علي بن محمد إلى إخوته وإلى ولد عبد الله فقال: أما أنا فقد أطلقت على هذا العلم أن يصفع أبي، فما رأيكم أنتم؟ فقالوا: مثل رأيك، وامتلأ المجلس ضحكاً.
المأمون وكلب الجنةحدثنا عبد الباقي بن قانع، حدثنا محمد بن زكريا، قال: حدثنا محمد بن عبد الرحمن، قال: حدثني بعض الهاشمين، قال: خرج المأمون يوماً من الرصافة يريد الشماسية فدنونا من ركابه فسلمنا عليه وقبلنا يده، قال: وكان أمامي رجلٌ من الطالبيين يلقب بكلب الجنة، وكان طيباً ظريفاً، فلما دنا من المأمون قبل يده، فقال له المأمون كالمسر إليه: كيف أنت يا كلب الجنة؟ قال: أما الدنانير والدراهم والزينة فلعمرو بن مسعدة وأبي عباد، وأما الطنز والتجمهر فلبني هاشم، فرد المأمون كمه على فيه، وقال: ويلك كف لا تفضحني، قال: لا والله أوتضمن لي شيئاً تعجله لي، قال: العشية يأتيك رسولي، فأتاه عمرو بن مسعدة بثلاثين ألف درهم.
ويخرج بأسلحته لنصرة المأمونوحدثنا عبد الباقي بن قانع، قال: حدثنا محمد بن زكريا، قال: حدثنا محمد بن عبد الرحمن، قال: حدثني هذا الهاشمي، قال: ركب المأمون يوماً إلى المطبق وبلغ القواد ركوبه فتبعوه، قال: فكان كلب الجنة ممن ركب تلك العشية، قال: فبصر به المأمون وفي يده خشبةٌ من حطب الوقود، وفي اليد الأخرى لحافه، فقال: يا كلب الجنة؟ قال: نعم كلب الجنة بلغه ركوبك فجاء لنصرتك، والله ما وجدت سلاحاً إلا هذه المشققة من حطب البقال، ولا ترساً إلا لحافي هذا، وعياش بن القاسم في بيته ألف ترس وألف درع وألف سيف قائم غير مكترث فوصله بثلاثين ألفاً وجاء عياش يركض، فشتمه المأمون وناله بمكروه.
أول مكسٍ وضع في الأرض
وحدثنا علي بن محمد بن الجهم أبو طالب الكاتب، قال: حدثنا العباس بن عبد الله الترفقي، قال: حدثنا محمد بن يوسف القربان، عن سفيان، عن أبي إسحاق، قال: سمعت هشام بن الحارث يقول: أول مكسٍ وضع على وجه الأرض، خرجت عجوزٌ على عهد سليمان النبي صلى الله عليه وسلم، ومعها دقيقٌ لها فسكبته الريح فذرته، فأتت سليمان تستعدي على الريح، فقال: انظروا من طابت له الريح اليوم في البحر فأغرموه دقيقها.
قال: القاضي رحمه الله: الذي أتت به شريعة النبي صلى الله عليه وسلم في هذا أن لا عوض مما تذروه الريح على من طابت له وعلى من لم تطب له وشريعة نبينا هي المأخوذ بها إلى يوم القيامة وما خالف شيئاً منها في الصورة من شرائع الأمم الخالية والقرون الماضية فهو منسوخ بما أتت، وهذا الخبر لم يأت من طريق ينقطع العذر به ويقطع على مغيبه، ولا عزي إلى من تجب الحجة بقوله، وإن ثبت أن نبي الله سليمان عليه السلام قضى هذه القضية، فإنها كانت هكذا في شريعته إذ هو نبي معصومٌ ولا يقضي بغير الحق، ولا يحكم بخلاف العدل، وقد قال الله جل ذكره: " لكل جعلنا منكم شرعةً ومنهاجاً، ولو شاء الله لجعلكم أمةٌ واحدةً ولكن ليبلوكم فيما آتاكم " ، وقال: جل ثناؤه: " تلك أمةٌ قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عما كانوا يعملون " .
قال القاضي: ولم يكن من الصواب عندي أن يعبر فيما أتى به هذا الخبر بالمكس، إذ المكس ما يأخذ الظالمون من العشارين وغيرهم من المسلمين قسراً بغير وجه حق وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في بعض الزناة وغيرهم أنه قال: " لقد تاب هذا توبةً لو تابها صاحب مكسٍ لغفر له " ، وفي بعض المحرمات: " من فعل هذا كان عليه من الإثم مثل ما عليه صاحب مكس " ، وكل هذا ينبىء عن عظيم إثم المكس، وفي المكس قول الشاعر:
وفي كل أسواق العراق إتاوةٌ ... وفي كل ما باع امرؤ مكس درهم
المجلس الثاني والخمسون
مكافأة قيمة على تصحيح كلمة من حديث شريفحدثنا محمد بن محمود بن أبي الأزهر الخراعي، قال: حدثنا الزبير بن بكار، قال: حدثني النضر بن شميل، قال: دخلت على أمير المؤمنين المأمون بمرو، وعلي أطمارٌ مترعبلة، فقال: لي: يا نضر أتدخل على أمير المؤمنين في مثل هذه الثياب؟ فقلت: يا أمير المؤمنين إن حر مرو لا يدفع إلا بمثل هذه الأخلاق، قال: لا، ولكنك تتقشف، قال: فتجاذبنا الحديث، فقال المأمون: حدثني هشيم بن بشير، عن مجالد، عن الشعبي، عن ابن عباس، قال: قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إذا تزوج الرجل المرأة لدينها وجمالها كان فيها سدادٌ من عوز " . قلت: صدق قول أمير المؤمنين عن هشيم، حدثني عوف الأعرابي، عن الحسن، أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: " إذا تزوج الرجل المرأة لدينها وجمالها كان فيها سدادٌ من عوز " فكان المأمون متكأً فاستوى جالساً، وقال: السداد لحنٌ يا نضر؟ قلت: نعم هاهنا، وإنما لحن هشيم وكان لحاناً، فقال: مالفرق بينهما، قلت: السداد: القصد في السبيل، والسداد: البلغة وكل ما سددت به شيئاً فهو سداد، قال: أفتعرف العرب ذلك، قلت: نعم، هذا العرجي من ولد عثمان بن عفان يقول:
أضاعوني وأي فتى أضاعوا ... ليوم كريهةٍ وسداد ثغر
فأطرق المأمون ملياً ثم، قال: قبح الله من لا أدب له، ثم قال: أنشدني يا نضر أخلب بيت للعرب، قلت: قول ابن بيضٍ في الحكم بن مروان:
تقول لي والعيون هاجعةٌ ... أقم علينا يوماً فلم أقم
أي الوجوه انتجعت قلت لها: ... لأي وجه إلا إلى الحكم
متى يقل حاجبا سرادقه ... هذا ابن بيضٍ بالباب، يبتسم
قد كنت أسلمت قبل مقتبلاً ... هيهات أدخل أعطني سلمي
قال القاضي: قوله: أسلمت مقتبلاً، معناه أسلفت وأخذت قبل قبيلاً يعني كفيلاً، ومن السلف من كره الرهن والقبيل في السلم، ومنهم من أجازه، وقال: استوثق من حقه، فقال المأمون: لله درك! فكأنما شق لك عن قلبي، أنشدني أنصف بيت قالته العرب، قلت: قول ابن أبي عروبة المديني يا أمير المؤمنين:
إني وإن كان ابن عمي عاتباً ... لمزاحم من خلفه وورائه
ومفيده نصري وإن كان امرأً ... مترجرجاً في أرضه وسمائه
وأكون والي سره وأصونه ... حتى يحيز إلى وقت أدائه
وإذا الحوادث أجحفت بسوامه ... قرنت صحيحنا إلى جربائه
وإذا أتى من وجهه بطريفةٍ ... لم أطلع فيما وراء خبائه
وإذا ارتدى ثوباً جميلاً لم أقل ... ياليت أن علي حسن روائه
فقال: أحسنت يا نضر، أنشدني الآن أقنع بيتٍ للعرب، فأنشدته قول ابن عبدل:
إني امرؤٌ لم أزل وذاك من الله أديباً أعلم الأدبا
أقيم بالدار ما اطمأنت بي الد ... ار وإن كنت نازحاً طربا
لا أجتوي خلة الصديق ولا ... أتبع نفسي شيئاً إذا ذهبا
أطلب ما يطلب الكريم من الر ... زق بنفسي وأجمل الطلبا
وأحلب الثرة الصفي ولا ... أجهد أخلاف غريبٍ حلبا
قال ابن أبي الأزهر: ويروي الضفي، قال أبو بكر: وسمعت بنداراً الكرخي، يقول: لا أحب الضفي بالضاد فيما يرويه الناس، لأن الضفي يكون للملك دون السوقة، والصفي بالصاد أبلغ في المعنى لأنها الغزيرة اللبن، قال القاضي رحمه الله: والذي حكي في هذا عن بندار قريب، وجائزٌ أن يكون الصفي بمعنى الشيء الذي يختار ويصطفى، وإن كان مصطفيه غير ملكٍ، لأن صفي المال إنما وسم بهذه السمة لأن الملك اصطفاه لنفسه، وجائزٌ أن يصطفيه الملك ثم يصير لبعض السوقة، وجائز أن يقال للشيء الكريم صفي بمعنى أنه لنفاسته مما يصطفيه الملوك ويصلح أن يصطفوه، فيعبر عنه بذلك قبل أن يصطفى، كما قال الله عز وجل: " ولا يأبى الشهداء إذا ما دعوا " فسماهم شهداء قبل أن يشهدوا، وكقوله: " إني أراني أعصر خمراً " وكانت الملوك قبل الإسلام تصطفي من الغنيمة علقاً منها كريماً أو غرة مشتراة لأنفسها فيأخذه دون الجيش، وفي ذلك يقول الشاعر:
لك المرباع منها والصفايا ... وحكمك والنشيطة والفضول
يعني بالمرباع: ربع الغنيمة، والصفايا: جمع صفية، وهي ما ذكرنا، وقوله: وحكمك أي ما تتحكم فيه وتحكم به، والنشيطة ما تنشطه من المغنم فتأخذه، والفضول ما فضل عن القسمة أو كان القسم لا يحتمله، ثم جعل الله تبارك وتعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم فيما غنمه المسلمون من المشركين الخمس ولذوي القربى من رهطه ومن سمى معهم، فحط ما جعل له عن قدر ما كانت الملوك تأخذه قبله، تطييباً لنفوس أصحابه، وتوكيداً لما نزهه عن أخذ الأجر على ما جاء به، وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " ما لي في هذا المال إلا الخمس، وهو مردودٌ فيكم " ، وكان صلى الله عليه وسلم يأخذ منه حاجته لمؤونته ومؤونة أهله، ويصرف ما بقي مما خلص له وهو خمس الخمس في الكراع والسلاح وما كان تأييداً للدين وعتاداً لنوائب المسلمين، وكان له صلى الله عليه وسلم الصفي أيضاً، فكان يأخذه من أصل الغنيمة، وروي أنه صلى الله عليه وسلم أغار على بني المصطلق وهم غارون، فقتل مقاتلهم وسبى زراريهم، واصطفى منهم جويرية ابنة الحارث.
رجعنا إلى تمام الشعر، شعر ابن عبدل وبقية الخبر المتضمن له:
إني رأيت الفتى الكريم إذا ... رغبته في صنيعةٍ رغبا
والعبد لا يطلب العلا ولا ... يعطيك شيئاً إلا إذا ضربا
ولم أجد عروة الخلائق إلا الد ... ين لما اختبرت والحسبا
قد يرزق الخافض المقيم وما ... شد بعنسٍ رحلاً ولا قتبا
ويحرم الرزق ذو المطية والر ... حل ومن لا يزال مغتربا
قال: أحسنت يا نضر، أفعندك ضد هذا؟ قلت: نعم، أحسن منه، قال: هاته، فأنشدته:
يد المعروف غنمٌ حيث كانت ... تحملها كفورٌ أو شكور
فقال: أحسنت يا نضر، وأخذ القرطاس فكتب شيئاً لا أدري ما هو، ثم قال: كيف تقول: أفعل من التراب؟ قلت: أترب، قال: الطين؟ قلت: طن، قال: فالكتاب ماذا؟ قلت: متربٌ مطين، قال: هذه أحسن من الأولى، قال: فكتب لي بخمسين ألف درهم، ثم أمر الخادم أن يوصله إلى الفضل بن سهل ج فمضيت معه، فلما قرأ الكتاب قال: يا نضر! لحنت أمير المؤمنين؟ قلت: كلا، ولكن هشيماً لحانة، فأمر لي بثلاثين ألفاً، فخرجت إلى منزلي بثمانين ألفاً وقال لي الفضل: يا نضر! حدثني عن الخليل بن أحمد، قلت: حدثني الخليل بن أحمد، قال: أتيت أبا ربيعة الأعرابي وكان من أعلم ما رأيت، وكان على سطح أو سطيح، فلما رأيناه أشرنا إليه بالسلام، فقال: استووا، فلما ندر ما قال، فقال لنا شيخٌ عنده: يقول لكم: ارتفعوا، فقال الخليل بن أحمد: هذا من قول الله عز وجل: " ثم استوى إلى السماء وهي دخانٌ " ، ثم ارتفع ثم قال: هل لكم في خبزٍ فطيرٍ ولبنٍ هجيرٍ وماءٍ نمير، فلما فارقناه، قال: سلاماً، قلنا: فسر قولك هذا، فقال: متاركة لا خير ولا شر، فقال الخليل: هذا مثل قول الله جل وعز " وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاماً " أي متاركةً.
قال القاضي رحمه الله: قوله في الخبر أطمارٌ مترعبلة، يريد ثياباً متقطعة، يقال: رعبلت الثوب وغيره إذا قطعته، قال الشاعر:
يا من رأى ضرباً يرعبل بعضه ... بعضاً كمعمعة الأباء المحرق
الأباء: القصب، قال القاضي: خبر النضر بن شميل هذا قد كتبناه من طرقٍ شتى متقاربة الألفاظ والمعاني، وفيه زيادة ليست في غيره، والأشعار التي أنشدها النضر المأمون فيه لما استنشده غير ما في سائر ما كتبناه من قبل الرواية المشهورة، وهي بليغة حسنة، فرأيت إحضار هذه الرواية ليتكامل للناظر الفائدة في كتابنا، وإن تكرر بعض ألفاظ متن الخبر.
الرواية الأخرىحدثنا عبد الله بن إسحاق بن إبراهيم الخراساني، قال: أحمد بن عبيد بن ناصح، قال: أبو زيد، قال: النضر بن شميل: قال: دخلت على المأمون، وعلي أطمارٌ أخلاقٌ غسيلٌ، فقال لي: يا نضر! تدخل علي في مثل هذه الأخلاق؟ ثم قال: نحمل منك هذا على التقشف، ثم تجاذبنا الحديث، فقال: المأمون: حدثنا هشيم بن بشير، عن مجالد، عن الشعبي، عن ابن عباس، قال: قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إذا تزوج الرجل المرأة لدينها وجمالها وكمالها كان فيه سداد من عوز " ، قال: فقلت: يا أمير المؤمنين: أخبرني عوف الأعرابي، عن الحسن، عن علي بن أبي طالب عليه السلام، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إذا تزوج الرجل المرأة لدينها وجمالها وكمالها كان فيه سداد من عوز " وكان متكئاً، فجلس واستوى، وقال: يا نضر! السداد في هذا الموضع لحنٌ؟ قلت: نعم، يا أمير المؤمنين، وإنما لحن هشيم، فقال لي: ماالفرق بين السداد والسداد، قلت: السداد: القصد في الدين والسبيل، والسداد: البلغة في الشيء أسد به الشيء، فقال: هل تعرف ذلك العرب؟ قلت: نعم، هذا العرجي من ولد عثمان بن عفان، يقول:
أضاعوني وأي فتىً أضاعوا ... ليوم كريهةٍ وسداد ثغر
كأني لم اكن فيهم وسيطاً ... ولم تك نسبتي في آل عمرو
فأطرق طويلاً ثم رفع رأسه، وقال: قبح الله من لا أدب له، ثم تجاذبا الحديث ثم قال: قبح الله اللحن، قلت: ما لحن أمير المؤمنين، وإنما لحن هشيم، وكان هشيم لحانةً، فتبع أمير المؤمنين ألفاظه، قال: وكيف روايتك الشعر، قلت: قد رويت الكثير منه، قال: فأنشدني في أحسن ما قالت العرب في الحكم، فأنشدته:
إذا كان دوني من بليت بجهله ... أبيت لنفسي أن أقابل بالجهل
وإن كان مثلي في محلي من العلا ... هويت إذاً حلماً وصفحاً عن المثل
وإن كنت أدنى منه في الفضل والحجا ... فإن له حق التقدم والفضل
قال: ما أحسن ما قال! فأنشدني أحسن ما قالت العرب في الحزم، فأنشدته:
على كل حالٍ فاجعل الحزم عدةً ... لما أنت باغيه وعوناً على الدهر
فإن نلت أمراً نلته عن عزيمةٍ ... وإن قصرت عنه الحقوق ففي عذر
فقال: ما أحسن ما قال! فأنشدني ما قالت العرب في إصلاح العدو، حتى يكون صديقاً فأنشدته:
وذي غيلة سالمته فقهرته ... فأوقرته مني بعبء التجمل
ومن لا يدافع سيئات عدوه ... بإحسانه لم يأخذ الطول من عل
ولم أر في الأشياء أسرع مهلكا ... لضغنٍ قديمٍ من وادٍ معجل
قال: ما أحسن ما قال! فأنشدني أحسن ما قالت العرب في السكوت، فأنشدته:
إني ليهجرني الصديق تجنباً ... فأريه أن لهجره أسبابا
وأراه إن عاقبته أغريته ... فيكون تركي للعتاب عتابا
وإذا بليت بجاهلٍ متحكم ... يجد المحال من الأمور صوابا
أوليته منى السكوت وربما ... كان السكوت عن الجواب جوابا
ثم قال: ما مالك؟ قلت: أريضةٌ بمرو الروذ أتمززها، قال: أفلا نفيدك مالاً؟ قلت: إن رأى أمير المؤمنين ذلك، فدعا بدواةٍ وقرطاسٍ وكتب، ولا أدري ما كتب، ثم قال: إذا أردت أن تترب الكتاب كيف تأمر، قلت: يا غلام أترب الكتاب، قال: فهو ماذا؟ قلت: متربٌ، قال: فمن السحاة، قلت: يا غلام أسح الكتاب، قال: فهو ماذا؟ قلت: كتاب مسحىً، قال: الطين، قلت: يا غلام طن الكتاب، وأطن الكتاب، قال: فهو ماذا؟ قلت: مطينٌ ومطان، قال: يا غلام اترب واسح وطن الكتاب، ثم قال امض إلى الفضل بن سهل بهذا الكتاب، فمضيت فأوصلته، فقال: بم استأهلت أن يأمر لك بخمسين ألف درهم؟ فحدثته الحديث على جهته، فقال: لحنت أمير المؤمنين؟ قلت: ما لحن، وإنما لحن هشيم، فتبع أمير المؤمنين ألفاظه، فأمر لي بأربعين ألفٍ أخرى من عنده، وانصرفت بكلمة أفادوها بتسعين ألف درهم.
تعقيب للمؤلف بشرح حال العلماء في زمنهقال القاضي رحمه الله: قد كان من مضى من العلماء وأهل الفضل من الأدباء، تمسهم الفاقة، وتنالهم العسرة والإضافة، ثم يصلون من الخلفاء، والسادة الرؤساء، بيسير ما عندهم من العلم والحكمة، والأدب والمعرفة، إلى الحظ الخطير، والوفر الكبير، والنضر بن شميل ممن اتفق له ذلك بعد شدة عظيمة لحقته، وفاقة مجحفة لزمته، وكان أحد الأعلام ممن أخذ عن الخليل علم العربية، وله من رواية السنن والآثار، والأحاديث والأخبار، منزلته ولما أضر به إيطان البصرة، ونبت بها عنه المعيشة، شرع في الظعن عنها، فذكر فيما روي لنا عنه من طريق لم يحضرني في هذا الوقت، ولعلي أورده إذا عثرت عليه بعد، أنه تبعه سبع مائة رجل أو نحوهم من أصحابه يشيعونه، وجعلوا يبكون توجعاً لمفارقته إياهم، وأظهر لهم نحو هذا من استيحاشه وكراهته النأي عليها عنهم، وقال: لو كان لي في كل يومٍ ربع من الباقلى أتقوته لما ظعنت، قال الراوي: فعجبت من أنه لم يكن في هذا الجمع الكثير من المتفجعين لفقده من يكفيه هذا القدر، ويقوم له به، ثم إنه أتى خراسان فاستغنى وأثرى بما أسدى إليه المأمون لما وصل إليه وسمع كلامه، ووقف على أدبه، ولقد ظهر من المأمون في هذا الخبر من النبل والإنصاف لأهل العلم والتواضع لمن تجيء له من قبله فائدة، وظهر له منه علم ومعرفة، ما شكر الله تعالى لما أراده به، ألا ترون إلى ما اقترحه من الأشعار في المعاني التي ذكر، وإلى نقده إياها، وإلى نقد استحسانه لها، ولقد كان في الشعراء إذا أنشده النقاد، والشعراء إذا أنشدوه كان من الأجواد، ولقد روي لنا عنه من نقد الشعر وتبريزه في التمييز بين جيده ورديئه، وإبرازه على أهل هذه الصناعة فيه، وعلوه بالحجة عليهم عند مخالفتهم إياه ما يطول ذكره، وسناتي بما يحضرنا منه في مستأنف مجالسنا هذه.
صناعة نقد الشعر
ونقد الشعر والتحقيق في معانيه من الصناعات التي أكثر المضطلعين لها قد عدموا وقد قلوا، وقد كان بعض من يختلف إلي للأخذ عني، والقراءة علي من أهل بعض الأطراف، قد قرأ علي شيئاً مما صنفه ابن السكيت في هذا المعنى وابن قتيبة، وما ألفه أبو الفرج قدامة الكاتب في نقد الشعر والكتاب المنسوب إلى أبي عثمان الأشنانداني علق عني صدراً صالحاً من الزيادة في ذلك، وشرح مستغلقه وإيضاح شكله، وتفسير مجمله، وتلخيص مهمله، وتخطئة من أخطأ في تأويله، ثم غاب عني فانقطعت عن التفرغ لتتبع ما بقي منه، وقد وقع إلينا في هذا الباب فقرٌ حسنة عن شيخي هذه الصناعة في زمانهما وهما أبو العباس النحويان أحمد بن يحيى، ومحمد بن يزيد، وكان محمد بن يحيى الصولي يتكلم كثيراً في هذا النوع، ويدعي فيه دعاوى يدفعه عن التقدم فيها، ظهور تأخره عنها، وتفاحش خطئه فيما يورده منها، وقد أخرج قومٌ من هذا القبيل إعجابهم بأنفسهم، وفساد تخيلهم، إلى تخطئة الفحول من الشعراء الجاهليين، ومن بعدهم من المخضرمين، ومن بينهم من الإسلاميين الذين قولهم حجة على من بعدهم، ومن تأخر عنهم، فأحسن حالاته في هذا الباب أن يكون تبعاً لهم، فمن ذلك أن لغدة الأصبهاني أقدم على تخطئة الطبقة الأولى، كامرىء القيس وزهير والنابغة والأعشى ومن يجري مجراهم، فخطأهم فيما أصابوا فيه فتفاقم خطؤه، وتعاظم خطله، وقد كنت أمللت على بعض من حضرني ما يتبين فيه قصور معرفته، وضعف بصيرته، ثم رأيت أبا حنيفة أحمد بن داود الدينوري قد صمد لكتاب لغدة هذا فنقضه، وأورد أشياء صحيحة تنبيء على إغفاله وضعف تأمله، ومع هذا فلسنا ننكر أن يخطىء الرئيس في عمله، والسابق في فهمه، فلا يضع ذلك من قدره، ولا يحطه عن مرتبته، إذ فوق كل ذي علم عليم حتى ينتهي العلم إلى ربنا عالم الغيب والشهادة العزيز الحكيم.
وقد كان للمتوكل خادم يعرف " بعرق الموت " قد شدا أشياء من الأدب، وحفظ صدراً من الشعر إلا أنه حل بقلبه من النقص نحو ما حل بجسمه، فظن أنه قد اضطلع بأفانين الأدب، واطلع على بلاغات العرب، وأخذ في نحو ما كان لغدة أخذ فيه، ونسب امرأ القيس إلى ذهابه في بعض شعره عن صحة ترتيب نظمه، ووصل الشكل بشكله، وإلحاق المثل بمثله، وحمل الفرع على أصله، وتوهم عليه هذا الباب من العيب، ونعاه عليه، وتكلف بإغفاله إصلاحه عند نفسه، بخطأ أتى به من عنده، وذكر هذا في بيتين من كلمة امرىء القيس التي أولها:
ألا أنعم صباحاً أيها الطلل البالي ... وهل يعمن من كان في العصر الخالي
والبيتان:
كأني لم أركب جواداً للذةٍ ... ولم أتبطن كاعباً ذات خلخال
ولم أسبأ الزق الروي ولم أقل ... لخيلي كري كرةً بعد إجفال
فظن أن امرأ القيس قلب وجه الترتيب، وعدل عن محجة التأليف، وأتى بذكر الجواد في صدر البيت وقرن به تبطن الكاعب، ثم صدر البيت الثاني بسبئه الخمر وجعل عجزه في حثه الخيل على الكر، وتوهم أن هذا متنافرٌ غير متشاكل، ومتخالف غير متماثل، وأن الوجه في هذا لو تنبه عليه هو أن يقول:
كأني لم أركب جواداً ولم أقل ... لخيلي كري كرة بعد إجفال
ولم أسبأ الزق الروي للذةٍ ... ولم أتبطن كاعباً ذات خلخال
قال القاضي رحمه الله: ولو ثاب إلى هذا الخادم عازب لبه، وفتح له القفل الضاغط عليه، لتيقظ للوقوف على فساد توهمه، ولتجلى له الخلل فيما آثره وقدمه، وتعلم أن ترتيب امرىء القيس في هذين البيتين من أصح الترتيب وأحسنه، وأوضح التأليف وأبينه، وأنه متسقٌ مستتب، ومتفقٌ متلئب، ولا ستفاد علماً جماً لما يتبينه من اطراده وتلاومه، وائتلافه وتقاومه، وأنه من أحسن الشعراء، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن من الشعر حكمة " وأنا مبين هذا بياناً كافياً، وملخصه تلخيصاً مفيداً شافياً إن شاء الله وبه التوفيق.
إن الجواد يركب لأغراضٍ شتى، منها المحاربة وشن الغارة وإدراك العدو والهارب، وفوت الثائر الطالب، وطلب الأوتار وأخذ الثأر، والتماس المعيشة والبرهان وزيارة الإخوان ومجاراة الأقران، والسبق والنضال، والتدرب بالفروسية والقتال، والركض والرياضة، والإسراع والمواشكة في الحاجة، في لواحق هذه الأمور وتوابعها، أو ما يقاربها ويضارعها، كالمجازاة والمضاهاة والمباهاة، وكانوا إذا كان لهم ذحلٌ يحرمون الخمر على أنفسهم حتى يثأروا فحينئذٍ يستحلونها، قال امرؤ القيس:
حلت لي الخمر وكنت امرأً ... عن شربها في شغل شاغل
فاليوم أسقى غير مستحقبٍ ... إثماً من الله ولا واغل
ومنها القصد لضروب اللهو والمتعة، والنشاط والرتعة، والالتذاذ باختيال الجواد وقطعه الجدد، قالركوب الذي قصد امرؤ القيس بقوله: كأني لم أركب جواداً، إنما عنى به بعض ما فيه التذاذ ومتعة، ولهو ورتعة، وقد أبان ذلك بقوله: للذة، فكان من أليق ما يليه، ويقرن به ما جانسه في التمتع واللهو، إذ لم يكن ركوبه للغارة والغزو فلذلك قال: ولم أتبطن كاعباً ذات خلخال، ولو قال بعد قوله: كأني لم أركب جواداً للذة، حسب ما اقترحه وقال الخادم وأشار به، لكان قد أتى بمجمع من القول غير متسق، ومضربٍ من التأليف غير متفق، ولم يقدم هذا الخادم على هذا الرأي الفائل، والتوهم الباطل، إلا بعد حذفه من قول امرىء القيس ما ينكشف المعنى بإثباته، ويزداد وضوحه بإحضاره، وذلك قوله: للذةٍ، ولو لم يذكر اللذة لم يؤمن على مثل هذا اراد الشبهة وإن كانت من المتأمل الناظر، والنحرير الماهر، مأمورٌ به لوجوب حسن الظن بامرىء القيس في نظمه، ونسبته إلى وصل بعض كلامه بحسب ما يليق به، وكيف وقد أوضح المعنى وأومأ إليه، وافصح به ونص عليه، وأما قوله: " ولم أسبأ الرزق الروي فإنه قد يسبأ رزق الخمر للنادم واللذة، والارتياح والنشوة، وقد يسبأ للبيع والتجارة ولإهدائه إلى ذي المروءة لتحريك الطبائع بشربه على تذكر الأضغان والغمر، وتهيج الحقد وطلب الوتر، والجد في القيام بالثأر، وتجرئة الجبان، وتنشيط الجنان، والسماحة في إدراك الشرف بالنفوس، وبذل كل علق مضنةٍ نفيسٍ، وأراد امرؤ القيس بما سبأه من الخمر هذه المعاني أو ما أراد منها، فكان اللائق بقوله: ولم أسبأ الزق الروي أن يكون عجز بيته هذا ما وصفه في قوله: ولم أقل لخيلي كري كرةً بعد إجفال فاغفل هذا الخادم المقصوص، والأتي المنقوص، هذا المعنى، وأخذ من البيت الأول قوله للذة فألحقها بالبيت الثاني، فلم يتم له بما غيره ما قدره، وذهب عنه فهم ما رتبه امرؤ القيس وقرره، وما ذكرنا من تقسم المعاني التي وصفنا بها سبايا الخمر أشهر في عرف الناس وكلام العرب من أن يحتاج إلى الاستشهاد عليه، وقد قال الله جل وعز " يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثمٌ كبيرٌ ومنافعٌ للناس، وإثمهما أكبر من نفعهما " وهذا معنى بين الصحة غير مشكلٍ على ذي بصيرة، قال: حسان بن ثابت:
نوليها الملامة إن ألمنا ... إذا ما كان مغثٌ أو لحاء
ونشربها فتتركنا ملوكاً ... وأسداً ما ينهنهنا اللقاء
وقال الأعشى:
لعمرك إن الراح إن كنت سائلاً ... لمختلف عشيها وغداتها
لنا من صحاها خبث نفسٍ وكأبةٌ ... وذكر همومٍ ما تغب اذاتها
وعند العشي طيب نفسٍ ولذةٌ ... ومال كثير غدوةً نشواتها
وقال المتنخل:
ولقد شربت من المدا ... مة بالكبير وبالصغير
فإذا انتشيت فإنني ... رب الخورنق والسدير
وإذا صحوت فإنني ... رب الشويهة والبعير
وهذا كثير جداً، وقول امرىء القيس: لم أقل لخيلي كري، أراد لفرسان خيلي، كما قالت العرب: يا خيل الله اركبي وأبشري بالجنة، أي: يا فرسان خيل الله، وقال: الله جل ثناؤه، وقوله أصدق القول وأحسنه " واسأل القرية " يعني أهلها، وقال: تعالى ذكره:
" فأشربوا في قلوبهم العجل " أي حب العجل في قول معظم أهل التأويل، وذكر بعضهم أنه سحل وألقي في اليم فشربوه، والقول الأول أولى بالصواب لأنه لا يقال في ما شرب ولحس من الماء وغيره قد أشربته في قلبي، وإنما يقال: أشرب فلان حب فلان في قلبه أو عداوته وبغضه، وذكرت أبياتاً غزلة لبعض المحدثين فأوردتها ها هنا لأني استحسنتها هاهنا وفي بيت منها نحو هذا المعنى، وهي:
وقد كنت أرجو في مغيبك سلوةً ... ولم أدر أن الطيف إن غبت طالبي
ووالله لا ينكى محب بمثلها ... وإن كان مكروهاً فراق الحبايب
وأشرب قلبي حبها ومشى به ... تمشي حميا الكأس في رأس شارب
يدب هواها في عظامي ولحمها ... كما دب في الملسوع سم العقارب
المجلس الثالث والخمسون
من قال لا إله إلا الله..حدثنا أحمد بن جعفر بن محمد بن عبد الله بن داود المنادي، وأبو الحسين، قال: حدثنا جدي، قال: حدثنا أبو بدر شجاع بن الوليد بن قيس السكري الكوفي، قال: حدثنا عبد الرحمن بن زياد بن أنعم الأثري، قال: حدثنا مالك بن قيس، عمن حدثه، عن عقبة بن عامر الجهني، قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره، وكان على كل رجل منا رعية الإبل يوماً، فكان اليوم الذي أرعى فيه، فبصرت بالنبي صلى الله عليه وسلم في حلقةٍ يحدثهم، فسعيت إليه فأدركته وهو يقول: من توضأ فأحسن وضوءه ثم ركع ركعتين لا يريد فيهما إلا وجه الله تعالى غفر الله تعالى ما كان قبلهما من ذنب، فكبرت فإذا رجل يضرب على كتفي فالتفت فإذا هو أبو بكر الصديق، فقال أبو بكر: التي قبلها يا ابن عامر أفضل منها، قلت: وما هي؟ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من قال: لا إله إلا الله يصدق لسانه قلبه دخل من أي أبواب الجنة الثمانية شاء " .
رواية أخرى للحديثحدثنا ابن المنادى، قال: حدثنا العباس بن محمد الدوري، وعلي بن سهل النسائي، قال: حدثنا عبيد الله بن موسى أبو محمد العبسي الكوفي، قال: أخبرنا إسرائيل بن يونس عن أبي إسحاق السبيعي، عن عبد الله بن عطاء، عن عقبة بن عامر الجهني، قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم أنا ونفرٌ من جهينة فكنا نتناوب رعي الإبل على كل رجل منا يوم، فجاءت نوبتي فرعيتها ثم روحت نفسي فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهويخطب، فجلست إلى جنب عمر بن الخطاب فأدركت من كلامه وهو يقول: ما من رجل مسلم يتوضأ فيحسن الوضوء، ثم يقوم إلى مصلاه فيعلم ما يقول فيها، إلا انقل كيوم ولدته أمه من الخطايا " ، قال: فلما سمعتها لم أملك نفسي أن قلت: بخٍ بخٍ، فقال: عمر - وهو إلى جنبي قاعدٌ - قال: أجود منها قبل أن تجيء، قلت: وما هي: فداك أبي وأمي؟ فقال: قال: " ما من رجل مسلم يتوضأ فيحسن الوضوء ثم يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله إلا فتحت له ثمانية أبواب الجنة يدخل من أيها شاء.
معنى بخ بخ واللغات فيهاقال القاضي أبو الفرج: قوله بخ بخ، هذه كلمة تقولها العرب عند الشيء تفضله وتمدحه وتعجب به، وفيها لغتان: التسكين والكسر والتنوين، فمن سكن فعلى الأصل فيما يبنى ولا يعرب، والكسر على الباب في الساكن إذا حرك، والتنوين في قول محققي نحاة البصريين يؤذن بالتنكير، وحذفه يدل على التعريف، وأكثر ما تستعمل هذه الكلمة بالتكرير ولها نظائر فيما وصفنا من حكمها، قال الشاعر:
بين الأشج وبين قيسٍ باذخٌ ... بخ بخ بوالده وبالمولود
ومثل هذا صهٍ صهٍ ومهٍ مهٍ.
وفي القصة التي رويناها بهذين السندين ما يرغب في العمل بما أنبأت بفضله، ويدل على سعة إحسان الله تعالى وتفضله، وقد روي لنا هذا الخبر من وجهٍ فيه عللٌ عارضته في سنده، وأنا ذاكره ليحصل لمن وقف عليه الفائدة منه إن شاء الله.
العلل التي في سند الحديث
حدثنا محمد بن مخلد بن حفص العطار، قال: حدثنا أبو يحيى محمد بن سعيد بن غالب العطار، سنة ست وخمسين ومائتين، قال: سمعت نصر بن حماد، قال: كنا على باب شعبة نتذاكر، فقلت: حدثنا إسرائيل بن يونس، عن أبي إسحاق، عن عبد الله بن عطاء، عن عقبة بن عامر، قال: كنا نتناوب رعية الإبل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجئت وحوله أصحابه، قال: فسمعته يقول: " من توضأ فأحسن الوضوء وصلى ركعتين، واستغفر الله تعالى غفر الله تعالى له " ، قلت: بخ بخ، فحدثني رجلٌ من خلفي فإذا عمر، فقال: الذي قال قبل أحسن، قلت: وما قال؟ قال: " من شهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله قيل له ادخل من أي أبواب الجنة شئت " ، قال: فخرج شعبة فلطمني ثم رجع فدخل من ناحية الباب ثم خرج، فقال: ما له بعد يبكي، فقال له عبد الله بن إدريس: إنك أسأت إليه، قال شعبة: انظر ما يحدث عن إسرائيل، عن عبد الله بن عطاء، عن عقبة بن عامر، عن النبي صلى الله عليه وسلم؟ قلت لأبي إسحاق: من حدثك؟ قال: حدثني عبد الله بن عطاء، عن عقبة بن عامر، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قلت: سمع عبد الله بن عطاء، عن عقبة، فغضب، ومسعر بن كدام حاضر، فقال مسعر: أغضب الشيخ؟ قلت: يصححن هذا الحديث أو لأرمين بحديثه، فقال لي مسعر: عبد الله بن عطاء بمكة. قال شعبة: فرحلت إلى مكة لم أرد الحج أردت الحديث، فلقيت عبد الله بن عطاء فسألته، فقال: سعد بن إبراهيم حدثني، قال شعبة: فلقيت مالكاً، قال: سعدٌ بالمدينة لم يحج العام، قال شعبة: فرحلت إلى المدينة فلقيت سعد بن إبراهيم، فقال: الحديث من عندكم زياد بن مخراق، قلت: إيش هذا الحديث؟ بينما هو كوفي إذ صار مكياً، إذ صار مدنياً، إذ صار بصرياً، قال شعبة: فرحلت إلى البصرة فلقيت زياد بن مخراق فسألته، فقال: ليس هذا الحديث مما تبغي، قلت: حدثني به، قال: لا ترده، قلت: حدثني، فقال: حدثني شهر بن حوشب، عن أبي ريحانة، عن عقبة بن عامر، عن النبي صلى الله عليه وسلم فلما ذكر شهراً، قلت: دمر على هذا الحديث، لو صح لي هذا الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لكان أحب إلي من أهلي ومالي والناس أجمعين.
وقد حدثنا أبي رضي الله عنه، عن العباس بن الفضل البغدادي، عن محمد بن سعيد، وساق القصة على اختلاف ألفاظها مع تقارب معانيها وفي آخر الحديث أعني حديث أبي، عن العباس بن الفضل - قال: محمد بن سعيد: قدم علينا مغني بن معاذ، فذكرت له هذا الحديث، فقلت له: عندكم أصل، قال: نعم، حدثني بشر بن المفضل، عن شعبة، كهذه القصة، وزاد فيها حرفاً هو، قال محمد بن سعيد: لم أحفظه.
التدليس في الحديثقال القاضي أبو الفرج: والتدليس في الحديث كثير، والمدلسون من أهله كثير، وكذلك الإرسال وكان شعبة ينكر التدليس، ويقول فيه ما يتجاوز الحد مع كثرة روايته عن المدلسين، وشاهدت من كان مدلساً من أعلام أهل العلم المحدثين كالأعمش وسفيان الثوري وسفيان بن عيينة وهشيم بن بشير وغيرهم، والمدلس من هؤلاء ليس بكذاب في روايته، ولا مجروح في عدالته، ولا مغموصٍ في أمانته، وأعلام الفقهاء يحتجون في الدين بنقله، وكان الشافعي لا يرى ما يرويه المدلس حجة، إلا أن يقول في روايته: حدثنا أو أخبرنا أو سمعت، وقد وجدناه لشعبة مع سوء قوله في التدليس في عدة أحاديث رواها، وجمعنا ذلك في موضع هو أولى به، قال القاضي: وفي ظاهر هذه الحكاية عن شعبة أنه قد انتهك من حرمة هذا الرجل ما هو حمى محظور، وإلى الله تصير الأمور، وفي ما يصلح إثبات مثله في هذا الكتاب، من الأخبار المدلسة وأحوال المدلسين ما يتسع، فلعنا نأتي منه بجملة فيما نستقبل إن شاء الله.
أحكم ما قالته العرب وأوجزهحدثني محمد بن الحسين بن دريد، قال: أبو عثمان الأشنانداني، قال: أخبرني العتبي، قال: دخل الشعبي على عبد الملك، فقال: يا شعبي! أنشدني أحكم ما قالت العرب وأوجزه، فقال: يا أمير المؤمنين، قول امرىء القيس:
صبت عليه وما تنصب من أممٍ ... إن الشقاء على الأشقين مصبوب
وقول زهير:
ومن يجعل المعروف من دون عرضه ... يفره ومن لا يتق الشتم يشتم
وقول النابغة:
ولست بمستبقٍ أخاً لا تلمه ... على شعثٍ أي الرجال المهذب
وقول عدي بن زيد:
عن المرء لا تسأل وأبصر قرينه ... إن القرين بالمقارن يقتدي
وقول طرفة:
ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلاً ... ويأتيك بالأخبار من لم تزود
وقول عبيد بن الأبرص:
وكل ذي غيبةٍ يؤوب ... وغائب الموت لا يؤوب
وقول لبيد:
إذا المرء أسرى ليلةً ظن أنه ... قضى أملاً والمرء ما عاش عامل
وقول الأعشى:
ومن يغترب عن قومه لا يزل يرى ... مصارع مظلومٍ مجراً ومسحبا
وقول الحطيئة:
من يفعل الخير لا يعدم جوازيه ... لا يذهب العرف بين الله والناس
وقول الحارث بن عمرو:
فمن يلق خيراً يحمد الناس أمره ... ومن يغو لا يعدم على الغي لائما
وقول الشماخ:
وكل خليل غير هاضم نفسه ... لوصل خليلٍ، صارمٌ أو معارز
فقال عبد الملك: حججتك يا شعبي بقول طفيل الغنوي:
ولا أخالس جاري في حليلته ... ولا ابن عمي غالتني إذاً غول
حتى يقال إذا دليت في جدثٍ ... أين ابن عوفٍ أبو قران مجعول
قال القاضي أبو الفرج: بيتا طفيل اللذان أنشدهما عبد الملك وفضلهما وزعم أنه حج الشعبي من أشعار الشعراء غير مقصر عنهما، ومن تأمل ما وصفنا وجده على ما ذكرنا، من غير أن يحتاج إلى تكلف تفسير ذلك، وإطناب في الاحتجاج له، فأما بيت الشماخ فإن معنى قوله: غير هاضم نفسه، أي حامل عليها لخليله والهضم: النقص، يقال: هضم فلانٌ فلاناً حقه أي نقصه، قال الله جل جلاله: " ومن يعمل من الصالحات وهو مؤمنٌ فلا يخاف ظلماً ولا هضماً " وأما قوله: أو معارز، فالمعارز المتقبض، يقال: استعرز علي فلان إذا انقبض، وألقيت البضعة على النار فعرزت، وكأن الشماخ سلك سبيل النابغة في بيته الذي أنشده الشعبي في هذا الخبر، وأصل الغرض في هذه الجملة، على ما بين البيتين مما لأحدهما من الشف من تنقيح ألفاظ الشعر، وفضل استغناء أجزاء أحد البيتين على أجزاء الآخر، وأنا قائلٌ في هذا قولاً يبين صحته ويوضح حقيقته إن شاء الله، وأقول وبالله التوفيق: إن جملة الألفاظ للبيتين التي تجمعهما على معنى واحد، هو أن الذي يحفظ الأخوة بين الأخوين، ويحرس الخلة بين الخليلين أن يلم أحدهما صاحبه على شعثه ويهضم له نفسه، ومتى لم يفعل هذا لم يكن على ثقة من استبقائه وكان بعرض مصارمته، وانقباضه عنه ومعارزته، وبيت النابغة في هذا الباب أفحل وأوفى، وأجزل وأشفى، وقد كشف عن العلة فيما أتى به بقوله: أي الرجال المهذب، فأحسن العبارة عن هذا المعنى: " من تك يوماً بأخيك كله " ، وقد نوه بيت النابغة هذا رواة الشعر ونقلته، ونقاده وجهابذته، واستحسنوا تكافؤ أجزائه، واستقلال أركانه، واشتماله على فقر قائمة بأنفسها، كافية كل واحدة منها، وهذا من النوع المستفصح، والفن المستعذب، من أعلى طبقات البلاغة، وقد أتى القرآن منه بالكثير الذي يقل ما أتى منه في الشعر إذا قيس إليه، فتبين للمميزين كثير فضل ما في القرآن عليه، فمن ذلك قول الله جل وعز: " فلذلك فادع واستقم كما أمرت ولا تتبع أهواءهم وقل آمنت بما أنزل الله من كتابٍ وأمرت لأعدل بينكم، الله ربنا وربكم، لنا أعمالنا ولكم أعمالكم لا حجة بيننا وبينكم، الله يجمع بيننا وإليه المصير " ولنا في هذا الباب رسالة أبنا فيها رجحان ما في القرآن من هذا الجنس على كثرته، على ما أتى منه في الشعر على قلته، فلم نطل كتابنا هذا بإعادته، وقد ضممنا معه شطراً صالحاً كتابنا المسمى " البيان الموجز في علوم القرآن المعجز " ومن نظر فيه أرشف على ما يبتهج بدراسته، ويغتبط باستفادته بتوفيق الله تعالى وهدايته.
ثمامة وهو سكران ومحاورته للمأمونحدثنا الحسين بن القاسم الكوكبي، قال: حدثنا القربي، قال: حدثني صالح بن سعيد الضبعي، قال: حدثني أبي، قال:
قال الوليد بن عياش بن زفر، خرج ثمامة من منزل محمد بن نوح العمكري مع المغرب وهو سكران، وإذا هو بالمأمون قد ركب في نفر، فلما رآه ثمامة عدل عن طريقه، وبصر به المأمون فضرب كفل دابته وحاذاه، فوقف ثمامة فقال له المأمون: ثمامة؟ قال: إي والله، قال: سكران؟ قال: لا والله، قال: أفتعرفني؟ قال: أي والله، قال: من أنا؟ قال: لا أدري والله، فضحك المأمون حتى تثنى عليه عن دابته، ثم قال: عليك لعائن الله، قال: تترى يا أمير المؤمنين، قال: فعاد في الضحك، وأمر له بخمسين ألف درهم.
متى حلت له الخمرحدثنا محمد بن أبي مزيد، قال: حدثنا الزبير، قال: حدثني عبد الله بن الحسين، قال: حدثني الضحاك بن عثمان، قال: أتى عبد الملك بن مروان بفتىً من قريش قد شرب نبيذاً، فقال: له أين شربت؟ فقال:
شربت مع الجوزاء كأساً ريوةً ... وأخرى مع الشعرى إذا ما استقلت
معتقةً كانت قريشٌ تصونها ... فلما استحلوا قتل عثمان حلت
قال: فخلاه، وأعطاه عشرة آلاف درهم.
في أقل من هذا ما يحفظ لكحدثنا محمد بن القاسم الأنباري، قال: حدثني أبي، قال: حدثنا أحمد بن عبيد، عن الحرمازي، قال: أتى رجلٌ من الأنصار عمر بن عبيد الله بن معمر التيمي بفارس فتعرض له فلم يصب منه طائلاً، فانصرف وهو يقول:
رأيت أبا حفص تجهم مقدمي ... فلط بقولٍ عدره أو مواربا
فلا تحسبني إن تجهمت مقدمي ... أرى ذاك عاراً أو أرى الخير ذاهباً
ومثلي إذا ما بلدة لم تواته ... تنكب عنها واسترم العواقبا
قال: فبلغت الأبيات عمر بن عبيد الله، فقال: علي بالرجل فجاءوا به، فقال: يا عبد الله! ما أخرج هذا منك؟ أبيني وبينك قرابة؟ قال: لا، قال: أفلك عندي يدٌ أسديتها، قال: لا، قال: فما دعاك إلى هذا؟ قال: أفضل الأشياء، كنت أدخل مسجد المدينة أحفل ما يكون فأتجاوز من الحلق إلى حلقتك فأجلس فيها وأوثرك، فقال: في أقل من هذا والله ما يحفظ لك، كم أقمت؟ قال: أربعين ليلة، فأمر له بأربعين ألفاً وجهزه إلى أهله.
بيتان يلغيان قراراً للأمير
حدثنا الحسين بن محمد بن خالويه النحوي، قال: حدثني اليزيدي، قال: حدثني أبو موسى، عن دماذ، عن الأصمعي، قال: حرم خالد بن عبد الله القسري الغناء فأتاه حنين بن بلوع مع أصحاب المظالم ملتحفاً على عود، فقال: أصلح الله الأمير شيخ كبير ذو عيال، كانت له صناعة حلت بينه وبينها، قال: وما ذاك؟ فأخرج عوده وغنى:
أيها الشامت المعير بالشي ... ب أقلن بالشباب افتخارا
قد لبست الشباب قبلك حيناً ... فوجدت الشباب ثوباً معارا
فبكى خالد، وقال: صدق والله، إن الشباب لثوبٌ معار، عد إلى ما كنت عليه، ولا تجالس شاباً ولا معربداً.
قل إن شاء اللهحدثنا الحسن بن علي بن زكريا البصري، قال: الحسن بن علي بن راشد، قال: سمعت القاضي شريك بن عبد الله، يقول: كنت ذات ليلة أصلي في السطح وإلى جنب سطحي امرأة تطلق وقد عسر عليها ولادها، فكادت تموت فشغلت قلبي، وزوجها في ناحية السطح يسمع صراخها، فسمعته يقول: والله يا هذه لئن خلصك الله تعالى لا أعود أضاجعك أبداً، فقالت له مسرعة: قل إن شاء الله يا مشوم، فأضحكني قولها، وما ذكرتها وأنا في الصلاة إلا وضحكت من قولها.
معلومات أبي حنيفة في التاريخحدثنا محمد بن الحسين بن زياد المقري، قال: حدثنا ابن خزيمة بنيسابور، عن المزني، عن الشافعي، قال: مضى أبو يوسف القاضي ليسمع المغازي من أبي إسحاق أو من غيره فأخل مجلس أبي حنيفة أياماً فلما أتاه، قال له أبو حنيفة: يا أبا يوسف من كان صاحب راية طالوت؟ قال له أبو يوسف: إنك إمام وإن لم تمسك عن هذا سألتك والله على رؤوس الملأ أيما كانت أولى بدراً أو أحداً، فإنك لا تدري أيهما كان قبل، فأمسك عنه.
بعض ما رثى به البرامكة
حدثنا محمد بن مزيد، قال: حدثنا الزبير بن بكار، قال: حدثني عمي مصعب بن عبد الله، قال: لما قتل جعفر بن يحيى وصلب بباب الحسن رأسه في ناحية وجسده في ناحية، مرت به امرأة على حمارٍ فارهٍ فوقفت عليه، ثم نظرت إلى الرأس، فقالت بلسان فصيح: والله لئن صرت اليوم آيةً لقد كنت في المكارم غاية، ثم أنشأت تقول:
بكيت على يحيى وأيقنت أنما ... قصارى الفتى يوماً مفارقة الدنيا
ولما رأيت السيف خالط جعفراً ... ونادى منادي للخليفة في يحيى
وما هي إلا دولةٌ بعد دولةٍ ... تخول ذا نعمى وتعقب ذا بلوى
إذا أنزلت هذا منازل رفعةً ... من الملك حطت ذا إلى غاية سفلى
ثم حركت الحمار فكأنها كانت ريحاً لم تعرف.
قال القاضي أبو الفرج: قد روى لنا فيما رثي به البرمكي بعض من وقف على خشبته غير حكاية، وستأتي بعد إن شاء الله.
أضمر الملك لنا شراً
حدثنا أحمد بن كامل، قال: حدثني محمد بن موسى بن حماد القيسي، قال: حدثنا محمد بن أبي السرى، قال هشام بن محمد بن السائب الكلبي، عن أبيه قال: خرج كسرى في بعض أيامه للصيد ومعه أصحابه، فعن له صيدٌ فتبعه حتى انقطع عن أصحابه وأظلته سحابة فأمطرت مطراً حال بين أصحابه وبين اللحوق به فمضى لا يدري أين يقصد، فرفع له كوخٌ فقصده فإذا عجوزٌ بباب الكوخ وأدخل فرسه وأقبل الليل فإذا ابنة العجوز قد جاءت معها بقرة قد رعتها بالنهار، فأدخلتها الكوخ وكسرى ينظر، فقامت العجوز إلى البقرة ومعها آنية فاحتلبت البقرة لبناً صالحاً وكسرى ينظر، قال: فقال في نفسه: ينبغي أن يجعل على كل بقرة إتاوة، فهذا حلابٌ كثيرٌ وأقام بمكانه، فلما مضى أكثر الليل، قالت العجوز: يا فلانة! قومي إلى فلانة فاحتلبيها، فقامت إلى البقرة فوجدتها حائلاً لا لبن فيها، فنادت أمها: يا أمتاه قد والله أضمر لنا الملك شراً، قالت: وما ذاك؟ قالت: هذه فلانة حائل ما تبس بقطرة، قال: فقالت لها أمها: امكثي عيها قليلاً، قال: فقال كسرى في نفسه: من أين علمت ما أضمرت في نفسي؟ أما إني لا أفعل ذلك، قال: فمكثت ثم نادتها، يا بنية! قومي إلى فلانة، قال: فقامت إليها فوجدتها جافلاً، فنادت أمها: يا أمتاه! قد والله ذهب ما كان في نفس الملك من الشر هذه فلانة جافل فاحتلبتها، وأقبل الصبح وتتبع الرجال إثر كسرى حتى أتوه، فركب وأمر بحمل العجوز وابنتها إليه فحملتا، فأحسن إليهما، وقال: كيف علمت أن الملك قد أضمر شراً، وأن الشر الذي أضمره قد عدل عنه، قالت العجوز: أنا بهذا المكان من كذا وكذا ما عمل فينا بعدلٍ إلا خصب بلدنا واتسع عيشنا، وما عمل فينا بجورٍ إلا ضاق عيشنا وانقطعت مواد النفع عنا.
قال القاضي: قول المرأة في هذا الخبر فلانة يعني البقرة، قال كثير من أهل اللغة: إنما يقال فلانة في المرأة، فأما ما عداها من البهائم وغيرها فوجه الكلام أن يقال: الفلانة، والوجه الآخر عندي غير مستنكرٍ، إذ قد كانوا يخصون كل واحدٍ منه التلقيب والتسمية.
المجلس الرابع والخمسون
من أدب المؤاكلةحدثنا أحمد بن محمد بن سعد أن الصيداني، قال: حدثنا جعفر بن محمد الوراق، حدثنا عبيد الله بن موسى العبسي، قال: حدثنا عبد الأعلى بن أعين، عن يحيى بن أبي كثير، عن عروة، عن ابن عمر، قال: قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إذا وضعت المائدة فليأكل أحدكم مما يليه، ولا يتناول مما يلي جليسه، ولا يأكل من ذروة القصعة فإن البركة تأتيها من أعلاها، ولا يرفع الرجل يده حتى يفرغ القوم، فإن ذلك يخجل جليسه فيمتنع من الطعام، ولعله أن يكون له فيه حاجة " .
تعليق للمؤلفقال القاضي: وفي هذا الخبر من أدب الطعام وحسن الأكل والمؤاكلة، ما يحق على كل ذي لب وحجى الأخذ به، والله تعالى يجازي نبينا محمد صلى الله عليه وسلم على تعليمه إيانا أولى الأمور في ديننا ودنيانا، أفضل ما جزى نبياً عن أمته.
سوف يبحث عنه سنة كاملةحدثنا محمد بن الحسن بن دريد، قال: أخبرني الحسن بن الخضر، قال: أبو بكر - أظن عن أبيه، قال:
كتب الحسن بن سهل إلى محمد بن سماعة القاضي: أما بعد فإني قد احتجت في أموري إلى رجلٍ جامعٍ لخصال الخير، ذي عفةٍ ونزاهةٍ طعمة، قد هذبته الآداب، وأحكمته التجارب، ليس بظنين في رأيه، ولا بمطعون في حسبه، إن أؤتمن على الأسرار قام بها، وإن قلد مهماً من الأمور أدى قبوله، له سن مع أدبٍ ولسانٍ، تقعده الرزانة، ويسكته الحلم، قد فر عن ذكاء وفطنة، وعض عن قارحةٍ من الكمال، تكفيه اللحظة، وترشده السكتة، قد أبصر خدمة الملوك وأحكمها، وقام بأمورهم فحذقها، له أناة الوزراء، وصولة الأمراء، وتواضع العلماء، وفهم الفقهاء، وجواب الحكماء، لا يبيع نصيب يومه بحرمان غده، يكاد يسترق قلوب الرجال بحلاوة لسانه، وحسن لفظه، دلائل الفضل عليه لائحة، وأمارات العلم له شاهدة، مضطلع بما استنهض، مستقلاً بما حمل، وقد آثرتك بطلبه وحبوتك بارتياده، ثقة بفضل اختيارك، ومعرفة بحسن تأتيك، فكتب إليه: إني عازم على أن أرغب إلى الله حولاً كاملاً في ارتياد هذه الصفة، وأفرق الرسل الثقات إلى الآفاق لالتماسه، وأرجو أن يمن الله تعالى بالإجابة، وأفوز لديك بقضاء حاجتك إن شاء الله.
قال القاضي أبو الفرج: قوله: في هذا الخبر: ونزاهة طعمة بكسر الطاء الطاعم وهو هيئة على فعلة للتطعم مثل الركبة والجلسة، والطعمة بالضم الشيء المطعوم وما جعل للإنسان من ضد الطعمة، قال الشاعر:
وما أن طبنا جبنٌولكنمنايانا وطعمة آخرينا
ويقال: قد جعلت هذه الأرض لفلان طعمة أي جعلها لطعمه، والطعمة بالفتح المرة في القياس من طعمت طعمةً واحدةً مثل الركبة والجلسة.
لا آمن أن يكون معه حديدةحدثنا الحسين بن القاسم الكوكبي، قال: حدثنا ابن أبي سعد، قال: حدثنا أبو زكريا يحيى بن الحسن بن عبد الخالق، قال: حدثني محمد بن القاسم.
قال: دخل الربيع على المهدي وأبو عبيد الله جالس يعرض كتباً، فقال له أبو عبيد الله: يا أمير المؤمنين يتنحى هذا، يعني الربيع، فقال له المهدي: تنح، قال: لا أفعل، قال: كأنك تراني بالعين الأولى، قال: بل أراك بالعين التي أنت بها، قال: فلم لا تتنحى إذ أمرتك؟ قال: لا آمن أن يكون معه حديدة ينالك بها وأنت سعرة المسلمين وقد قتلت ابنه، فقام المهدي مذعوراً وأمر بتفتيشه، فوجدوا بين جوربه وخفه سكيناً، فردت الأشياء إلى الربيع، فجعل كاتبه يعقوب بن داود مكانه، فقال فيه الشاعر:
أدخلته فعلا علي ... ك كذاك شؤم الناصية
يعقوب يحكم في الأمو ... ر وأنت تنظر ناحيه
محمد البيدق ينتقم من النمريحدثنا محمد بن مزيد البوشنجي، قال: حدثنا الزبير، قال: حدثنا محمد البيدق - وكان أحسن الشعراء إنشاداً كان إنشاده أحسن من الغناء - قال: دعاني هارون الرشيد في عشي يوم وبين يديه طبقٌ وهو يأكل مما فيه ومعه الفضل بن الربيع، فقال لي الفضل: يا محمد! أنشد أمير المؤمنين ما يستحسن من مديحه، فأنشدته للنمري، فلما بلغت إلى هذا الموضع.
أي امرىءٍ بات من هارون في سخطٍ ... فليس بالصلوات الخمس ينتفع
إن المكارم والمعروف أوديةٌ ... أحلك الله منها حيث تجتمع
إذا رفعت أمراً فالله رافعه ... ومن وضعت من الأقوام متضع
نفسي فداؤك والأبطال معلمةٌ ... يوم الوغى والمنايا بينهم قرع
قال: فأمر برفع الطعام، وقال: هذا والله أطيب من كل الطعام ومن كل شيء، وأجاز النمري بجائزة سنية، قال محمد البيدق: فأتيت النمري فعرفته أني كنت سبب الجائزة فلم يعطني شيئاً، وشخص إلى رأس عين فأحفظني وأغاظني، ثم دعاني الرشيد يوماً آخر، فقال: أنشدني يا محمد، فأنشدته:
شاءٌ من الناس راتعٌ هامل ... يعللون النفوس بالباطل
فلما بلغت إلى قوله:
إلا مساعير يغضبون لها ... بسلة البيض والقنا الذابل
قال: أراه يحرض علي، ابعثوا إليه من يجيئني برأسه، فتكلم الفضل بن الربيع فلم يغن كلامه شيئاً، فوجه الرسول إليه فوافاه في اليوم الذي مات فيه وقد دفن، فأراد نبشه وصلبه فكلم في ذلك فأمسك عنه.
قال القاضي أبو الفرج: النمري منسوب إلى النمر بن قاسط والميم من النمر مكسورة إلا أنها فتحت في الغضافة استثقالاً للكسرتين واليائين، وقد أتى ذلك عن العرب مستفيضاً مطرداً في ثلاثة مواضع، قالوا: النمري والشقري في النسب إلى شقرة بن تميم، والسلمي في النسب إلى بني سلمة من الأنصار، وقد يأتي النسب كثيراً على غير القياس، وقد قالوا الدهري في النسب إلى الدهر إذا وصفوا الرجل بطول العمر، وهو كثير جداً وعلله وشواهده مذكورة في مواضعها.
من المفاخرة بين المدنحدثنا محمد بن القاسم الأنباري، قال: حدثني أبي، قال: حدثنا محمد بن أحمد، حدثنا عمرو بن علي بن بحر بن كثير السقا، مولى باهلة أبو حفص، قال: حدثنا محمد بن عباد المهلبي، عن أبي بكر الهذلي، قال: كتب بباب أبي العباس حين ولي الخلافة فخرج آذنه فأدخل من كان بالباب من أهل الكوفة، فدخل عليه محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، والحجاج بن أرطأة، والحسن ابن زياد، وأدخل من كان من أهل البصرة، فقال محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى: نحن أكثر من أهل البصرة خراجاً وأوسع منهم أنهاراً، فقال لي: ما تقول يا أبا بكر؟ قال: قلت: معاذ الله من ذلك يا أمير المؤمنين، وكيف يكونون كذلك ولنا كرمان ومكران وفارس والأهواز والسند والهند والقرص والقرص، افتتحناها بالبيض القواضب، حتى ربطنا أعنة الخيل بأصول القنا بأرض الفلفل، قال: فقال محمد بن عبد الرحمن: نحن أكثر منكم علماً وفقهاً، قال: فما تقول يا أبا بكر؟ قال: قلت: بل هم أعظم كبرياء وأقل أتقياء وأكثر أنبياءً كان منهم المغيرة الخبيث السريرة، وبيان وأبو بيان، والله يا أمير المؤمنين، ما رأيت شيئاً قط أكثر بدناً مصلوباً ولا رأساً منصوباً من أهل الكوفة، وما لنا إلا نبي واحد صلى الله عليه وسلم، قال: فتبسم أبو العباس، فقال الحسن بن زياد: أتشتم أصحاب علي؟ وقد سرتم إليه لتقتلوه، فإن قلت: نحن والله أصحاب علي سرنا إليه لنقتله فكف الله تعالى شوكتنا وسلاحنا عنه حتى أخرجه من بين أظهرنا، فقتله أهل الكوفة من بين أظهركم فأينا أعظم ذنباً، فقال الحجاج بن أرطأة: بلغني أن أهل البصرة كانوا يومئذٍ ثلاثين ألفاً وأهل الكوفة تسعة آلاف فلما التقت حلقنا البطان، وتناهد النهدان، وأخذت الرجال أقرانها، ما كانوا إلا كرمادٍ اشتدت به الريح في يوم عاصف، قال: ما تقول يا أبا بكر؟ قلت: معاذ الله تعالى من ذلك يا أمير المؤمنين، ومن أين كنا ثلاثين ألفاً وقد خرجت ربيعة تعين علينا، وخرج الأحنف بن قيسٍ في سعدٍ والرباب وهم الشام الأعظم والجمهور الأكبر، ولكن سلهم كم كان عددنا يوم استغاثوا بنا؟ فلما التفت حلقتا البطان، وتناهد النهدان، وأخذت الرجال أقرانها، شدخ منهم في صعيدٍ واحد تسعة آلاف وذبحوا ذبح الحملان، قال: فقال محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى: يا أمير المؤمنين نحن أكثر منهم أشرافاً، وأكرم منهم أسلافاً، قال: ما تقول يا أبا بكر؟ قلت: معاذ الله يا أمير المؤمنين، هل كان في تميم الكوفة مثل الأحنف بن قيس الذي يقول فيه الشاعر:
إذا الأبصار أبصرت ابن قيسٍ ... ظللن مهابة منه خشوعا
وهل كان في قيس عيلان الكوفة مثل قتيبة بن مسلم الذي يقول فيه الشاعر:
كل يوم يحوي قتيبة نهباً ... ويزيد الأموال مالاً جديداً
باهلي قد عصب التاج حتى ... شاب منه مفارقٌ كن سواد
ويروى: كل يوم يجري قتيبة نهباً، وهل كان في بكر بن وائل الكوفة مثل مالك بن مسمع الذي يقول له الشاعر
إذا ما خشينا من أميرٍ ظلامةً ... دعونا أبا الأيتام يوماً فعسكرا
وهل كان في أزد الكوفة مثل المهلب بن أبي صفرة الذي يقول له الشاعر:
إذا كان المهلب من ورائي ... هدا ليلي وقر له فؤادي
ولم أخش الدنية من أناسٍ ... ولو صالوا بقوة قوم عاد
وهل كان في عبد قيس الكوفة مثل الحكم بن المنذر بن الجارود، الذي يقول له الشاعر:
يا حكم بن المنذر بن الجارود ... أنت الجواد ابن الجواد المحمود
سرادق المجد عليك ممدود
حكم نذر الكتابي إذا أسلمقال: فقال أبو العباس ما رأيت مثل هذه الغلبة.
قال: وقال أبو حفص: حدثني عون بن أبي سنان الراسبي، عن أبي بكر الهذلي، قال: سألنا أبو العباس في هذا المجلس عن يهوديةٍ مرضت فنذرت في مرضها إن الله سلمها لتسرحن في كنيسةٍ من كنائس اليهود، ولتطعمن مساكين من مساكينهم، فقامت من مرضها وقد أسلمت، قال: فسكت القوم، فقلت: يا أمير المؤمنين سألت عنها الحسن بن أبي الحسن، فقال: تسرج في مسجد من مساجد المسلمين وتطعم مساكين من مساكينهم، وسألت قتادة وهو إلى جانبه، فقال لي: مثل مقالة الحسن، فلقيت محمد بن سيرين فسألته عن ذلك، فقال لي: ليس عليها شيء، هدم الإسلام ما كان قبله، فلقيت الشعبي فأخبرته بما قال الحسن وقتادة، فقال لي: فأين أنت عن الأصم ابن سيرين؟ فقلت له: قد سألته عن ذلك، فقال لي: ليس عليها شيء هدم الإسلام ما كان قبله، فقال: أصاب الأصم وأخطأ الحسن وقتادة، وقال: يعني محمد بن أحمد: حدثني جعفر بن عبد الواحد، قال: كنت أتغدى مع المتوكل فسألت عن نصراني حلف على يمين ونذر نذراً ثم أسلم، هي يجب عليه؟ فقال له: حدثني عبد الله بن بكر السهمي، قال: حدثنا بهز بن حكيم، عن أبيه، عن جده، قال: قلت: يا رسول الله! ما أتيتك حتى حلفت بعدد أولاء، وجمع بين أصابع يده، على أن لا آتيك ولا آتي دينك، فقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم إسلامه ولم يأمره بكفارة يمينه.
قال القاضي أبو الفر: قد اختلف أهل العلم في الكافر ينذر نذراً في هذه أو يخلف يميناً ثم يسلم، فأسقط عنه الكفارة والإتيان بما نذره كثيرٌ من فقهاء الحجاز والعراق، وأوجب ذلك عليه عددٌ منهم، واحتجوا بأن الإسلام يجب ما قبله، وأن الكافر في كفره لا تصح منه قربة إلى ربه قبل إسلامه، وأن الأسباب التي تؤدي إلى وجوب أسباب الطاعات تجري مجرى مواقيت الفروض والنوافل في خصوصية المسلمين بها، ومفارقة أهل الكفر لهم فيها، واعتل في ذلك بعضهم بقول الله عز وجل: " قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف " واحتج مخالفوهم بأن العبادات التي أتت شريعة الإسلام بها لازمة لكل ذي مرةٍ سوي فعلها والرجوع إليها والأخذ بها، وما أسقط الله عنهم بعد الإسلام أداءه وقصاءه سقط دون غيره مما لم ينصب دلالةً على إسقاطه، إذ الواجب إقراره على أصله، واحتجوا أيضاً بأن عمر بن الخطاب، قال: نذرت أن أعتكف ليلةً في الجاهلية، فلما أسلمت سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: " أوف بنذرك " ، ورأيت شيخنا أبا جعفر ذكر في الكافر يحلف في حال كفره ثم يحنث فيها بعد إسلامه أنه لا كفارة عليه، واعتل بأن الكافر يحلف بإلاهه الذي يعبده، ومن مذهبه أنه من حلف بغير الله تعالى ثم حنث فلا كفارة عليه، فكأنه أسقط الكفارة عمن حلف بغير الله من الكفار، وقال في حديث عمر، لما رواه. أنه يدل على وجوب النذر فيما ورد خبر عمر فيه، وقد شرحت مذهبه في هذا وأتيت بما حضرني فيه فيما صنفته من كتب الفقه، وكرهت الإطالة في هذا الموضع بإعادته، وأما ما أفتى فيه الحسن وقتادة من الإسراج في مسجد من مساجد المسلمين مكان نذر الناذرة في كفرها أن تسرج في كنيسة من كنائس اليهود فإن إبطال نذرها في الكنيسة صواب إذ هو معصية، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من نذر أن يطيع الله فليطعه ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه " ، وقال: " ولا نذر في معصية، وكفارته كفارة يمين والكفارة في هذا عندنا غير واجبة، وقد ضعف شيخنا سند هذا الخبر الآتي بها وجمهور فقهاء الكوفيين يوجبونها ويوجبون معها كفارة يمين، إذا كان الناذر يميناً والإسراج في مسجد من مساجد المسلمين غير واجب عندنا في هذه المسألة إذ لم يكن نذره ولا أتت حجةٌ بوجوبه ومن أوجبه فقوله: مضارع لمن أوجب على الناذر أن ينحر ولده ذبح شاةٍ من الغنم أو نحر شيءٍ من الإبل، وأما ما أفتيا به من إطعام مساكين من المسلمين مكان من منذرت إطعامه من مساكين اليهود فإن إطعام مساكين اليهود يجزىء في النذر إذا جعل لهم، وفيه قربة إلى الله جل وعز، وقد أجاز كثيرٌ من فقهاء المسلمين صرف صدقة الفطر وكفارة الأيمان والجهاد إلى أهل الذمة، ومن إجاز إطعام مساكين المسلمين ما نذر إطعامه مساكين أهل الذمة، فشاهده من القياس جواز صلاة القادر أن يصلى في مسجد سماه وعينه إذا صلى في مسجدٍ غيره هو مثله أو أفضل منه، فأما إبطال نذر إطعام مساكين أهل الذمة وإيجاب نقله إلى مساكين أهل المسلمين فلا وجه له في الصحة، وأما فتيا الشعبي وابن سيرين فهي جاريةٌ على أصل مذهب من قدمنا حكاية مذهبه، ممن يبطل أصل نذر الكافر في أصل كفره، وأما الخبر الذي رواه جعفر بن عبد الواحد للمتوكل فلا حجة له فيه، وذلك أن جد بهزر بن حكيم القشيري وهو معاوية بن حيدة للنبي صلى الله عليه وسلم أنه حلف، وقال له: حلفت ولم يذكر الذي حلف به، وجائز أن يكون حلف بغير الله تعالى فلا كفارة عليه عندنا بعد حنثه، وأيضاً فأنه قال: حلفت، ومن قال حلفت لأفعلن كذا وكذا ، أو لا أفعل كذا فليس عليه عندنا ما على القائل: أحلف بالله من الكفارة إذا حنث، حتى يقول: أحلف بالله وأقسم بالله أو أولي بالله أو أشهد بالله، وإن كان من أهل العلم من يجعل قول القائل: أشهد وأحلف وأولي وأقسم يميناً، ويسوي بين هذا وبين ما وصله باسم الله تعالى، فقال: أشهد بالله وأحلف بالله وأولي بالله وأقسم بالله.
هل يتلازم الجود والشجاعةحدثنا محمد بن يحيى الصولي، قال حدثنا البربري، قال: من كلام أحمد بن أبي خالد: لا يعدن شجاعاً من لم يكن جواداً، فإن من لم يقدر على نفسه بالبذل لم يقدر على عدوه بالقتل.
قال القاضي: ذكر عن بعض أهل العلم أنه قال: كان الناس يقولون إن الشجاع لا يكون بخيلاً، وإن الشجاعة والبخل لا يجتمعان، وذلك أن من جاد بنفسه كان بماله أجود، حتى نشأ عبد الله بن الزبير فكان من الشجاعة بحيث لا يدانيه كبير أحد، وكان من البخل على مثل هذا الحد، ونحو قول من استنكر اجتماع الشجاعة والبخل، قول الشاعر:
يجود بالنفس إذ ضن الجواد بها ... والجود بالنفس أقصى غاية الجود
خليفة يأمر ابنه بكتابة بيتينحدثنا أبو النضر العقيلي، قال: أخبرني أحمد بن محمد بن عيسى، قال: حدثني عمر بن عبد الله الإخباري، قال: سمعت المهتدي يقول: كنت أمشي خلف أبي الواثق على ميدان من البستان في الهاروني فالتفت إلي، فقال: اكتب هذين البيتين واحفظهما:
تنح عن القبيح ولا ترده ... ومن أوليته حسناً فزده
ستلقى من عدوك كل كيدٍ ... إذا كاد العدو ولم تكده
لا يفرح إلا بما تحت يدهحدثنا أحمد بن محمد بن الجراح، قال: العباس بن محمد الهاشمي مولى لهم، قال: عبد الرحمن بن أبي البختري الدلال الكوفي، قال: سمعت يحيى بن آدم يقول لأبي بكر بن عياش: يا أبا بكر! ما أصبحت تفرح بشيءٍ من الدنيا؟ فقال: ما أفرح إلا بدرهمٍ في كمي مصرور، وقدرٍ قد جعلتها الجارية في التنور.
رب نصح خير من مالحدثنا أبو هاشم الحمصي، عن عبد الغافر بن سلامة الحضرمي، قال: حدثنا أبو حميد، قال: حدثنا أبو حبوة، قال: حدثنا أبو عتبة، قال: حدثني أبو سبأ عتبة بن تميم التنوخي، عن أبي عمير الصوري، قال: كلمة لك في أخيك خيرٌ لك من مالٍ يعطيك، لأن كلمته تحييك، والمال يطغيك.
من نوادر المعلمينحدثنا أبو بكر أحمد بن محمد بن أبي شيبة، قال: حدثني أبو يعلى المعروف بالبربري، قال: جاءني رجلٌ، فقال أشغلني في موضعٍ أؤدب فيه، قلت: ما تحسن حتى أطلب لك على قدر ذلك؟ قال: احفظ القرآن وليس عندي من العربية شيءٌ، فشغلته عند رجل فأنشده:
من يذق الحرب يجد طعمها ... مرا وتتركه بجعجاع
فقال له: هذه الآية في أي سورة هي؟ قال: هي في: " حم عسق " .
المجلس الخامس والخمسون
من جوامع الكلمحدثنا إسماعيل بن إبراهيم بن إسماعيل أبو بكر الناقد، بسر من رأى، سنة ثلاث وعشرين وثلثمائة، قال: حدثنا إبراهيم يعني ابن الهيثم، قال: حدثنا إبراهيم بن العلاء الزبيدي الحمصي، حدثنا إسماعيل بن عياش، حدثنا مطعم بن المقدام، عن نصيح القيسي، عن ركب المصري، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " طوبى لمن تواضع في نفسه من غير منقصة، وذل في غير مسكنة، وأنفق مالاً جمعه في غير معصية، ورحم أهل الذل والمسكنة، وخالط أهل الفقه والحكمة " .
رواية أخرى للحديثحدثنا إبراهيم بن سليمان بن حمدويه الدهان المروزي، بالنهروان، قدم للحج سنة تسع عشرة وثلثمائة، قال: حدثنا أحمد بن علي بن سلمان أبو بكر، قال: حدثنا محمد بن ثميلة، قال: حدثنا محمد بن عيسى، عن أبان، عن أنس، قال: سمع النبي صلى الله عليه وسلم قهقهةً عند القبور، فقال: ما يؤمن هذا بيوم الحساب، ثم خطب فقال: يا أيها الناس! كأن الموت فيها على غيرنا كتب، وكأن الحق فيها على غيرنا وجب، وكأن الذين نشيع من الموتى يعني في نفرٍ وهم إلينا راجعون، وكأنا مخلدون بعدهم، طوبى لمن شغله عيبه عن عيوب الناس، طوبى لمن تواضع لله في غير منقصة، وأنفق مالاً جمعه في غير معصية، ورحم أهل الذل والمسكنة، وخالط أهل الفقه والحكمة، طوبى لمن ذل في نفسه، وطاب كسبه، وصلحت سبريرته، وحسنت علانيته، واعتزل عن الناس شره، طوبى لمن عمل بعلمه، وأنفق الفضل من ماله، وأمسك الفضل من قوله، ووسعته السنة، ولم يتعدها إلى بدعة.
قال: القاضي: لقد أبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه الموعظة، وضمنها أصولاً من الحكمة، وأرشد فيها إلى ما يكسب النجاة والعصمة، ويأمن العامل به المتقبل له العطب والهلكة.
وقد روي أن عبد الله بن مسعود سمع رجلاً ضحك في المقبرة، فقال له: لا أكلمك أبداً.
وحكي لنا عن بشر بن الحارث مثله، ولعمري إن المقبرة لمحلة يدعو حضورها ذا اللب وسلامة الصدر والقلب، إلى الرهبة والدعاء، والتذكر والبكاء، روي أن النبي صلى الله عليه وسلم استأذن ربه في زيارة قبر أمه، فأذن له وأنه زارها في ألف مقنع، فلم ير باكٍ ولا باكية أكثر من يومئذ.
مجاهدٌ تلفظه الأرض
حدثنا محمد بن الحسن بن دريد، قال: حدثنا العكلي، قال: أخبرني رجلٌ من أهل البصرة، قال: رأيت رجلاً له هيئة وسمتٌ وعليه الصوف، فسألته عن اسمه، فقال: اسمي علي بن محمد فجلست إليه فحدثته فخبرني أنه مضى إلى المصيصة غازياً، فرأى في مسجدها شيخاً جميلاً هيباً، وحوله قومٌ يسمعون من حديثه، قال: فجلست إليه فسألنى عن حالتي، فقلت: رجلٌ من أهل العراق قدمت أريد وجه الله تعالى والدار الآخرة، فقال: رزقك الله حياةً طيبة ومنقلباً كريماً، ثم قال لي: إن لي إليك حاجةً لا تردني عنها، قلت: نعم، قال: تتحول إلي وتنزل علي فما كان إلا ساعةً، ثم نزلت برجلٍ قد وهب الله له قوةً على الصيام والقيام وطلب الخير، فأقمت عنده حتى تهيأ لصاحب الثغر الغزو، وخف معه عشرة آلاف من المطوعة، فقدم ابنه وكان حدثاً، وكان رب منزلي فيمن خرج فخرجت بخروجه، فلما أوغلنا في بلاد العدو دلف إلينا جمعٌ عظيمٌ فوقفنا لهم وأقبل الفتى يحرض الناس ثم برز الشيخ فتكلم، وقال: هذه أبواب الجنة فافتحوها بسيوفكم، فحمل الفتى فأصيب، وحمل الشيخ رب منزلي فأصيب رحمهما الله، ثم إن الله تعالى منحنا أكتاف العدو فقتلنا وأسرنا ورجعنا إلى مواضعنا، فخفرنا لمن أكرمهم الله بالشهادة فدفناهم، ودفنا الشيخ، وسوينا عليه لحده، فارتجت الأرض ورجفت بنا، ثم لفظت الشيخ فوقع على عشرة أذرع من قبره، فقلنا: رجفة أو زلزلة، فحفرنا له قبراً آخر وسوينا عليه، فسمعنا ما هو أهول وأفظع، ولفظت به الأرض أبعد من ذلك الموضع، فحفرنا له قبراً ثالثاً ودفناه، فجاءت هدةٌ طاشت منها عقولنا ولفظته الأرض، وسمعنا هاتفاً يقول: أيتها العصابة! إن هذا الرجل لم يزل يدعو الله أن يجعل محشره من بطون السباع وحواصل الطير، فدعوه إن الله جل جلاله قد سمع نداه، فتركناه وانصرفنا.
ابن صفوان ينصح السفاح بالاستمتاع بالنساءحدثنا الحسين بن القاسم بن جعفر الكوكبي، قال: حدثنا أبو الفضل الربعي، عن العباس بن الفضل، قال: قال: إسحاق يعني ابن إبراهيم الموصلي، قال شبيب بن شيبة:
دخل خالد بن صفوان التميمي على أبي العباس وليس عنده أحد، فقال: يا أمير المؤمنين! إني والله ما زلت منذ قلدك الله تعالى خلافة المسلمين إلا وأنا أحب أن أصير إلى مثل هذا الموقف في الخلوة، فأن رأى أمير المؤمنين أن يأمر بإمساك الباب حتى أفرغ فعل، قال: فأمر الحاجب بذلك، فقال: يا أمير المؤمنين! إني فكرت في أمرك، وأجلت الفكر فيك فلم أر أحداً له مثل قدرك، ولا أقل استمتاعاً في الاستمتاع بالنساء منك، ولا أضيق فيهن عيشاً، إنك ملكت نفسك امرأةً من نساء العالمين واقتصرت عليها، فإن مرضت مرضت، وإن غابت غبت، وإن عركت عركت، وحرمت نفسك يا أمير المؤمنين التلذذ باستطراف الجواري وبمعرفة اختلاف أحوالهن، والتلذذ بما يشتهى منهن؟ إن منهن يا أمير المؤمنين الطويلة التي تشتهى لجسمها، والبيضاء التي تحب لروعتها، والسمراء اللعساء، والصفراء العجزاء، ومولدات المدينة والطائف واليمامة ذوات الألسن العذبة والجواب الحاضر، وبنات سائر الملوك، وما يشتهي من نظافتهن وحسن هندامهن، وتخلل بلسانه فأطنب في صفات ضروب الجواري وشوقه إليهن، فلما فرغ خالد، قال: ويحك! ما سلك مسامعي والله كلامٌ قط أحسن من هذا، فأعد علي كلامك فقد وقع مني موقعاً، فأعاد عليه خالد كلامه بأحسن مما ابتدأه، ثم قال: انصرف، وبقي أبو العباس مفكراً فيما سمع من خالد يقسم أمره، فبينا هو يفكر إذ دخلت عليه أم سلمة، وقد كان أبو العباس حلف أن لا يتخذ عليها ووفى لها، فلما رأته مفكراً متغيراً، قالت له: إني لأنكرك يا أمير المؤمنين، فهل حدث أمر تكرهه أو أتاك خبر ارتعت له؟ فقال: لا، والحمد لله، ثم لم تزل تستخبره حتى أخبرها بمقالة خالد، قالت: فما قلت لابن الفاعلة؟ فقال: ينصحني وتشتمينه! فخرجت إلى مواليها من البخارية فأمرتهم بضرب خالد، قال خالد: فخرجت إلى الدار مسروراً بما ألقيت إلى أمير المؤمنين، ولم اشك في الصلة، فبينا أنا مع الصحابة واقفاً إذ أقبلت البخارية تسأل عني، فحققت الجائزة والصلة، فقلت لهم: هأنذا، فاستبق إلي أحدهم بخشبةٍ فلما أهوى إلي غمزت برذوني ولحقني فضرب كفله، وتنادى إلى الباقون وغمزت البرذون فأسرع، ثم راكضتهم ففتهم، واختفيت في منزلي أياماً - قال القاضي: الصواب: استخفيت - ووقع في قلبي أني أتيت من قبل أم سلمة، فطلبني أبو العباس فلم يجدني، فلم أشعر إلا بقوم قد هجموا علي، فقالوا: أجب أمير المؤمنين، فسبق إلي قلبي أنه الموت، فقلت: إنا لله وإنا إليه راجعون، لم أر دم شيخٍ أضيع، فركبت إلى دار أمير المؤمنين، ثم لم ألبث أن اذن لي فاصبته خالياً فرجع إلي عقلي، ونظرت في المجلس ببيتٍ عليه ستورٌ رقاق، فقال: يا خالد لم أرك! قلت: كنت عليلاً، قال: ويحك! إنك وصفت لأمير المؤمنين في آخر دخلةٍ دخلتها علي من أمور النساء والجواري صفةً لم يخرق مسامعي قط كلام أحسن منه، فأعده علي، قال: وسمعت حساً خلف الستر - فقال: نعم يا أمير المؤمنين، أعلمتك أن العرب إنما اشتقت اسم الضرتين من الضر، وأن احداً لم يكن عنده من النساء أكثر من واحدة إلا كان في ضر وتنغيص، قال له أبو العباس: لم يكن هذا في الحديث، قال: بلى والله يا أمير المؤمنين، قال: فأنسيت إذاً، فأتمم الحديث، قال: وأخبرتك أن الثلاث من النساء كأثا في القدر يغلى عليهن، قال: برئت من قرابتي من رسول الله صلى الله عليه وسلم إن كنت سمعت هذا منك ولا مر في حديثك، قال: وأخبرتك أن الأربع من النساء شر مجموع لصاحبهن يشيبنه ويهرمنه ويحقرنه ويقسمنه، قال: لا والله ما سمعت هذا منك ولا من غيرك، قلت: بلى والله، قال: أفتكذبني؟ قلت: أفتقتلني! نعم والله يا أمير المؤمنين وأخبرتك أن أبكار الإماء رجال إلا أنهن ليست لهن خصى، قال خالد: فسمعت ضحكاً من خلف الستر، ثم قلت: نعم، وأخبرتك أن عندك ريحانة قريش، وأنك تطمح بعينيك إلى النساء والجواري، قال: فقيل لي من وراء الستر: صدقت والله يا عماه، بهذا حدثته ولكنه غير حديثك ونطق عن لسانك، فقال أبو العباس: مالك قاتلك الله، وفعل بك وفعل؟ قال: وانسللت، قال: فبعثت إلي أم سلمة بعشرة آلاف درهم وبرذون وتخت.
قال القاضي أبو الفرج: قوله في هذا الخبر: السمراء اللعساء التي في شفتها سمرة وسواد، ومن ذلك قول ذي الرمة:
لمياء في شفتيها حوةٌ لعس ... وفي اللثات وفي أنيابها شنب
اللما مقصور: سمرة الشفة، والحوة: الحمرة إلى السواد شبيه به، واللعس مثل ذلك، والشنب برد وعذوبة في الأسفان، ويقال: امرأة لمياء ورجل ألمى، وذكر عن الأصمعي أنه قال: اللعس السواد الخالص، ويقال: ليل ألعس، ولا أدري يقال: لعسٌ أم لا؟ ويقال: حوي يحوى وقياسه في اللمالمي يلمى، وقوله: ينصحني وتشتمينه الكلام الفصيح السائر: وينصح لي، قال الله تعالى: " إن أردت أن أنصح لكم " ويقال: فنصحت لكم، ونصحت فلاناً: لغة قد حكيت، وهي دون هذه في الفصاحة من ذلك قول الشاعر:
نصحت بني عوف فلم يتقبلوا ... لديهم رسائلي
وأصل النصح: الإخلاص والمناصحة المخالصة ويقال: هذا شيءٌ ناصح أي خالص، كما قال الشاعر:
تركت بنا لوحاً ولو شئت جادنا ... بعيد الكرى ثلجٌ بكرمان ناصح
أأزرع أنا ويحصد يوشعحدثنا أحمد بن العباس العسكري قال: حدثنا عبد الله بن أبي سعد، حدثنا أبو الأصبغ، قال: حدثنا ضمرة، عن ابن عطاء، عن أبيه، قال: أوحى الله إلى موسى بن عمران أن يوشع هو القائم على الناس بعدك، فقال: يارب أأزرع أنا ويحصد يوشع أأرعى أنا الغنم حتى إذا صلحت واستوت صارت إلى يوشع، فقال الله تعالى: إن أيام يوشع مخرجتك من الدنيا، فقال: يارب فأنا أكون من قبل يوشع، فقيل له: فاصنع به كما كان يصنع بك، فقال: نعم، وكان من رسم يوشع أن ينبه موسى للصلاة، فجاء موسى إلى باب يوشع، فقال: يا يوشع! فضرب الله على أذنه فلم ينتبه، وجعل بنو إسرائيل يمرون على موسى، فقال: يارب مائة موتةٍ أهون من ذل ساعة، وانتبه يوشع فلما رأى موسى فزع، وقال: يا نبي الله أنت واقفٌ هاهنا، ومضى موسى إلى الجبل واتبعه يوشع فجعل موسى يوصيه: اصنع ببني إسرائيل كذا وافعل كذا، ثم قال له: ارجع فأبى فخلع موسى نعليه ورمى بهما، وقال: جئني بنعلي، فذهب ليجيء بهما فأرسل الله نوراً حال بين يوشع وموسى فلم يصل إليه فرجع يوشع إلى بني إسرائيل فأخبرهم فجاءوا إلى الموضع من الجبل فإذا موسى قد قبض، ورصفت الحجارة عليه.
قد قاربتك جهديحدثنا عبد الله بن جعفر بن درستويه النحوي، قال: حدثنا أبو العباس محمد بن يزيد، عن المازني، قال: اجتمعت مع يعقوب بن السكيت، عن محمد بن عبد الملك الزيات، فقال لي محمد بن عبد الملك: سل أبا يوسف عن مسألة، فكرهت ذلك وجعلت أتبطأ وأدافع، مخافة أن أوحشه لأنه كان لي صديقاً، فألح علي محمد بن عبد الملك، فقال لي: لم لا تسأله؟ فاجتهدت في اختيار مسألةٍ سهلة لأقارب يعقوب، فقلت له: ما وزن " نكتل " من الفعل من قول الله تعالى: " فأرسل معنا أخانا نكتل " فقال لي: نفعل، فقلت: ينبغي أن يكون ماضيه كتل، فقال: ليس هذا وزنه إنما هو نفتعل، فقلت له: نفتعل كم هو حرفٌ؟ قال: خمسة أحرف، فقلت له: فنكتل كم حرف هو؟ قال: أربعة أحرف، فقلت: له أيكون أربعة أحرف بوزن خمسة أحرف، فانقطع وخجل وسكت، فقال محمد بن عبد الملك: فأنما تأخذ كل شهر ألفي درهم على أنك لا تحسن ما وزن نكتل؟ فلما خرجنا، قال لي يعقوب: يا أبا عثمان! هل تدري ما صنعت؟ فقلت له: والله لقد قاربتك جهدي، وما لي في هذا ذنبٌ
قال القاضي أبو الفرج: نكتل في هذا الموضع هو في أوليته وابتدائيته في ماضيه ومستقبله: كال يكيل على فعل يفعل، مثل مال يميل وقياسه في أصل تقديره كيل يكيل، نظيره من الصحيح ضرب يضرب، إلا أن الياء في كيل انقلبت ألفاً لتحركها وانفتاح ما قبلها، والألف لا تكون إلا ساكنة إلا أنها في نية حركة ونقلت كسرة الياء في المضارع ونقلت كسرتها إلى الكاف وكانت ساكنة، فكسرت إذ لم يستقم التقاء الساكنين فصار نكتل، وقيل في الجمع: كلنا نكتل، ثم لما زيدت التاء دلالة على الإفتعال قيل: اكتال نكتال وأصله اكتيل يكتيل، نحو افتعل يفتعل نظيره من الصحيح: اكتتب يكتتب واكترث يكترث واستبق يستبق ثم قلبت الياء من اكتيل ألفاً لتحركها وانفتاح ما قيلها، فصار اكتال ومضارعه يكتال، وأصله يكتيل، وفي الجمع نكتيل وزنه نفتعل، فلما قيل نكتل فأعرب بالجزم إذ هو جواب الأمر اقتضى الجزم سكون اللام، فالتقى ساكنان اللام والألف المنقلبة من الياء فأسقطت الألف لذلك فبقي نكتل، ووزنه في الأصل نفتعل ثم لما حذفت الألف المنقلبة من الياء وهي عين الفعل صار نكتل فوزنه نفتل، على طريقة التحرير وتمييز الزوائد من الأصول بالعبارة عن الأصليات بالفاء والعين واللام وتسمية الزوائد بأنفسها، ألا ترى أنا نقول في وزن جهور أنه فعول فيعبر عن الجيم والهاء والراء الأصليات بالفاء والعين واللام، وتأتي باسمها الواو فهي الزيادة إذ ليست من الفعل فاءً ولا عيناً ولا لاماً، ويعقوب لما رأى نكتل موافقاً لوزن نفعل تسرع إلى ما أجاب به مع ذعر المحنة وإزعاج البديهة وهيبة الحاث لسائله على شراسة خلقه وإشفاقه من تشعث منزلته عنده، وقطع مادة المعيشة من جهته.
ووزن ألفاظ الكلم تأتي على جهات مختلفة بحسب أغراض الوازنين، وعلى قدر ترتيب الصناعة من المقابلين، والنحويون يزنون الحروف على أخصر من وزن العروضين، لأنهم يقابلون في الزنة الحركة بجنسها من التحريك الذي هو خلاف السكون ونوعها إن ضماً وإن فتحاً وإن كسراً، على اختصاص كل واحد من هذه الأنحاء دون صاحبه، والعناية بذات الحرف دون الإعراب والتنوين وما يزاد ويحذف خطا ولفظاً، والعروضيون يراعون ذلك كله ويسوقونه ويبنون وزنهم على اللفظ، ويجرون وزنهم على مقابلة الحركة جنساً لا نوعاً، فيسوون فيها بين الضم والفتح والكسر، ولما تساوى نكتال واكتال في عدد الحروف وسبيل حرف المضارعة أن تجري به الزيادة على حروف الماضي، فلأن همزة اكتال زائدة للوصل تذهب إذا تحركت فاء الفعل وليست بلازمة للكلمة، وقد اختلف فيما زاد من الأسماء من الثلاثي الذي هو فاءٌ وعينٌ ولام فأتى رباعياً أو خماسياً من غير أن يكون فيه شيءٌ من حروف الزيادة كقولك جعفر وفرزدق، فحكم بعضهم على هذا بأن الحرف والحرفين منه مما أتى بعد الفاء والعين واللام مجهول، وقضى بأن الطرف أولى منه بباب الزيادة، وذهب آخرون إلى مثل هذا في العين، وميزوا بين تجانس الحرفين في آخره، وذلك كفعلل الذي هو وزن قردد، وبين ما اختلفا فيه نحو جعفر، وهذا باب لا يحتمل كتابنا هذا الإتساع فيه، وله موضع هو أولى به.
ومما اتفق في هذه القصة مع ما ذكرنا من الأحوال العارضة أن يعقوب كان في صناعة النحو ذا بضاعة مزجاةٍ نزرة، وقد صنف مع هذا في النحو كتاباً مختصراً لم يعد فيه القدر الذي تناله يده، وإن كان إماماً علماً في اللغة، وقدوة سابقاً مبرزاً في اختلاف أهلها من البصريين والكوفيين، وله فيها كتبٌ مؤلفة حسنة، وأنواع مصنفة مفيدة، وأبو عثمان المازني وإن كان قد قصد الجميل من مقاربته وتسهيل مناظرته فإنما أتى بما هو متيسر له دونه، وقد كان الأولى بما قصده تنكب ما فيه اعتلالٌ وقلب، والعدول به عن التصريف الكاد للقلب الشاق على اللب، وقد رد المازني على سيبويه مسائل في بعضها حججٌ وفي بعضها شبهٌ، وسأل الأخفش عن مسائل نسبه إلى التقصير والإنقطاع في بعضها، وحكي أن الأخفش رجع عند أول توقيف منه عليها في البعض منها، وقد ذكرنا من هذا طرفاً في موضعه.
بنو الأحرار تهجي وتمدححدثنا محمد بن يحيى الصولي، قال: حدثنا الغلابي، قال: حدثنا الضبي، قال: سمع أعرابي رجلاً يقول: " الأعراب كفراً ونفاقاً " ثم سمعه يقول: " ومن الأعراب من يؤمن بالله واليوم الآخر " الآية، فقال: هجا ومدح، لا بأس، ثم أنشد:==

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

تابع أخبار مكة وما جاء فيها من الآثار

أخبار مكة وما جاء فيها من الآثار   ج1وج2. ج / 1 ص -3- بسم الله الرحمن الرحيم مقدمة التحقيق: لا نعرف عن بدايات التأليف في...