اللهم استجب

سبحانك وبحمدك وأستغفرك أنت الله الشافي الكافي الرحمن الرحيم الغفار الغفور القادر القدير المقتدر الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر الخالق البارئ المصور... الواحد الأحد الواجد الماجد الملك المغيث لا إله إلا أنت وحدك لا شريك لك ..لك الملك ولك الحمد وأنت علي كل شيئ قدير ولا حول ولا قوة إلا بك وأستغفرك اللهم بحق أن لك هذه الأسماء وكل الأسماء الحسني وحق إسمك الأعظم الذي تعلمه ولا أعلمه أسألك أن تَشفني شفاءا لا يُغادر سقما وأن تَكفني كل همي وتفرج كل كربي وتكشف البأساء والضراء عني وأن تتولي أمري وتغفر لي ذنبي وأن تشرح لي صدري وأن تُيسر لي أمري وأن تحلل عُقْدَةً  من لساني يفقهوا قولي وأن تغنني بفضلك عمن سواك اللهم أصلحني: حالي وبالي وأعتقني في الدارين وخُذ بيدي يا ربي وأخرجني من الظلمات الي النور بفضلك  وأن ترحم وتغفر لوالديَّ ومن مات من اخوتي وان تغفر لهم أجمعين وكل من مات علي الايمان والتوبة اللهم آمين  //اللهم تقبل/ واستجب//https://download.tvquran.com/download/selections/315/5cca02c11a61a.mp3

المصحف

 تحميل المصحف

القرآن الكريم وورد word doc icon تحميل المصحف الشريف بصيغة pdf تحميل القرآن الكريم مكتوب بصيغة وورد تحميل سورة العاديات مكتوبة pdf

Translate

بحث هذه المدونة الإلكترونية

الخميس، 26 مايو 2022

مجلد 1 و2. كتاب : الجليس الصالح والأنيس الناصح

مجلد 1 و2. كتاب : الجليس الصالح والأنيس الناصح
المؤلف : المعافى بن زكريا
بسم الله الرحمن الرحيم.
مقدمة
وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيبالحمد لله الذي دل على معرفته بإتقان صنعته، وبديع لطائف حكمته، وبما أودعه نفوس المميزين من أعلام ربوبيته، واستحق على كل مكلف الخنوع لعظمته، والخشوع لعزته، والشكر والإشادة بما أسبغ من نعمته، ونشر من رحمته، وجعل قلوب أوليائه تسرح في ميادين محاسن ما ابتدعه، وعقولهم ترتاح لما من عليهم من استنباط المعرفة بما اخترعه، فأغناهم بالتنعم بما بسط لهم من المباحات، عما زجرهم عنه من المحظورات، فصار ما تدركه العقول من لطيف ما أنشأه، وشريف الغرض فيما ابتدأه، وغريب أفعاله في تدبير عباده، وتصريفهم، وتقدير منافعهم ومصالحهم، أقواتاً لها تربى على أقوات أجسادها التي هي أوعية تشتمل عليها، وأشهد أن لا إله إلا الله، وليّ النعم كلها دون من سواه، وأنه لا فلاح إلا لمن هداه، ولا صلاح إلا لمن عصمه من إتباع هواه، وأن محمداً عبده الذي ارتضاه، ونبيه الذي اختاره واجتباه، ورسوله الذي ائتمنه واصطفاه، ورفعه وأعلاه، وخصه بختم النبوة وحباه، وأبانه بأعلى منازل الفضل على كل آدمي عداه، ونسأله أن يصلي عليه وعلى آله ويسلم أزكى تسلم وصلاة، ويكرمه أتم تكريم وأنباه، ويجعلنا من الآوين إلى ظله وذراه، والداعين إلى نوره وهداه، ويعصمنا من الخروج عن طاعته، والولوج في معصيته، ويوفقنا لإيثار عبادته، ومجانبة عصيانه ومخالفته، وهو لي الإنعام بذلك، والتيسير له، والمعونة عليه من رحمته.
أما بعد، فإنني منذ مدة مضت، وسنةَ خلت، فكرت في أشياء من عجائب خلق الله وحكمه، وأياديه ونعمه، ومثلاته ونقمه، وقد اكتنفتني هموم وأحزان، ولوعات وأشجان، وفنون شتى من حوادث الزمان، وما قد فشا في الناس من التظالم التحاسد، والتقاطع والتباعد، وأن ما هو أولى بهم من الأنس للمجانسة، قد فارقوه إلى الاستيحاش للمنافسة، وحصلت على الاستئناس بالوحدة والخلوة، ثم تطلعت إلى جليس طمعاً في أنس وسلوة، فأعوزني ذو لب عاقل، واتفق لي كل غبي جاهل، فلاح لي أن أنشئ كتاباً أضمنه أنواعاً من الجد الذي يستفاد ويعتمد عليه، ومن الهزل في أثنائه ما يسر استماعه ويستراح إليه، فإن اختلاف الأنواع يسهل النظر فيها، وينشط الوقوف عليها، ويوفر الاستمتاع بها، وأن أضمنه علوماً غزيرة وآداباً كثيرة، وأجعله مجالس موزعة على الأيام والليالي، ولم اشترط فيها مبلغاً من العدد محصوراً ولا قدراً من المجالس محظوراً، ثم إن طوارق الزمان وموانعه، وأحداثه وفجائعه، وعوائقه وقواطعه، وأهواله وفظائعه، حالت بين وبين ما آثرته، ونفسي على هذه متعلقة به، ومؤثرة له ومنازعة إليه، إلى حيث انتهينا، ثم إنني حملت نفسي في هذا الوقت على الشروع فيه، الاشتغال به، وسهل الأمر علي فيه أن بعض أصحابنا يكتبه عني إملاء في الوقت بعد الوقت.
وقد صنف في نحو هذا الكتاب جماعة من أهل العلم والأدب كتباً على أنحاء مختلفة، فمنهم من جعل جملة كتابه جامعة لكتب مكتتبة، ومنهم من جعله أبواباً مبوبة، وأفرد أبوابه بفصول مميزة، ومعان خاصة غير ممتزجة، وسمى بعض هؤلاء ما ألفه الجواهر وبعضهم زاد المسافر وبعضهم الزهرة وبعضهم أنس الوحدة، في أشباه لهذه السمات عدة، وعمل أبو العباس محمد بن يزيد النحوي كتابه الذي سماه الكامل، وضمنه أخباراً وقصصاً لا إسناد لكثير منها، وأودعه من اشتقاق اللغة وشرحها وبيان أسرارها وفقهها ما يأتي مثله به لسعة علمه وقوة فهمه، ولطيف فكرته، وصفاء قريحته، ومن جلي النحو والإعراب وغامضها ما يقل وجود من يسد فيه مسده، إلا أن كتابه هذا مقصر عما وسمه به، واختاره من ترجمته، وغير لائق به ما آثره من تسميته، فحطه بهذا عن منزلة - لولا ما صنعه - كانت حاصلة له، فسبحان الله ما أبين انتفاء هذا الكتاب عن نسبه، وأشد منافاته للقبه! وأنشأ الصولي كتاباً سماها الأنواع مبوباً أبواباً شتى غير مستوفاة، وأتى فيه بأشياء مستحسنة على ما ضم إليه من أمور مستهجنة، وصنف أيضاً كتاباً كأبي قماش سماه النوادر، وهجاه بعض الشعراء بما كرهت حكايته، وإن كان حين وقف عليه فيما بلغني استغرب ضحكاً، غير أن الجميل أجمل، والتسلم من أعراض الناس أمثل، وصنف قوماً كتباً في هذا الباب تشتمل على فقر من الآداب والفوائد منثورة غير مبوبة، ومخلوطة غير مقيدة، بفصول متميزة ولا أبواب متحيزة.
وقد سميت كتابي الجليس الصالح الكافي، والأنيس الناصح الشافي وأودعته كثيراً من فنون العلوم والآداب، على غير حصر بفصول وأبواب، وضمنته كثيراً من محاسن الكلام وجواهره، وملحه ونوادره، وذكرت فيه أصولاً من العلم أتبعتها شرح ما يتشعب منها، ويتصل بها بحسب ما يحضر في الحال، مما يؤمن معه الملال، ومن وقف على ما أتيت به من هذا، علم أن كتابنا أحق بأن يوصف بالكمال والاستيفاء، والتمام والاستقصاء، وصدق وسمه بالجليس والأنيس، فإن الكتاب إذا حوى ما وصفناه من الحكمة وأنواع الفائدة، كان لمقتنيه والناظر فيه بمنزلة جليس كامل وأنيس فاضل، وصاحب أمين عاقل، وقد قيل في الكتاب ما معناه أنه حاضر نفعه، مأمون ضره، ينشط بنشاطك فينبسط إليك، ويمل بملالك فينفض عنك، إن أدنيته دنا، وإن أنأيته نأى، لا يبغيك شراً، ولا يفشي عليك سراً، ولا ينم عليك، ولا يسعى بنميمة إليك، ولذلك قال بعضهم:
نعم الصاحب والجليس كتاب ... تهلو به إن خانك الأصحاب
لا مفشياً عند القطيعة سره ... وتنال منه حكمة وصواب
وقال آخر:
لنا جلساء ما نمل حديثهم ... ألباء مأمونون غيباً ومشهدا
يفيدوننا من علمهم طرف حكمة ... ولا نتقي منهم لساناً ولا يداً
في أبيات.
وذكر عن عبد الله بن المبارك أنه سئل: أما تستوحش من مقامك منفرداً بهيت؟ فقال: كيف يستوحش من يجالس النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضوان الله عليهم، وقد كان بعض من كان له في الدنيا صيت ومكانة، عاتبني على ملازمتي المنزل، وإغبابي زيارته، وإقلالي ما عودته من الإلمام به وغشيان حضرته، وقال لي: أما تستوحش الوحدة ونحو هذا من المقالة، فقلت له: أنا في منزلي إذا خلوت من جليس يقصد مجالستي، ويؤثر مساجلتي، في أحسن أنس وأجمله، وأعلاه وأنبله، لأنني أنظر في آثار الملائكة والأنبياء، والأئمة والعلماء، وخواص الأعلام الحكماء، وإلى غيرهم من الخلفاء والوزراء، والملوك والعظماء، والفلاسفة والأدباء، والكتاب والبلغاء، والرجاز والشعراء، وكأنني مجالس لهم، ومستأنس بهم، وغير ناء عن محاضرتهم لوقوفي على أنبائهم، ونظري فيما انتهى إلي من حكمهم وآرائهم.
وقد تجشمت إملاء هذا الكتاب على ما خلفته ورائي من طول السنين، حصلت فيه من عشر التسعين، مع ترادف الهموم وتكاثف الغموم، ومشاهدة ما أزال مرتمضاً به، وممتعضاً منه لفساد الزمان وانتكاسه، وعجيب تقلبه وانعكاسه، واختلاطه وارتكاسه، ووضعه الأعلام الرفعاء، ورفعه الطغام الوضعاء، فقد أحل الأراذل محل الأفاضل، وأعطى السفيه الأخرق حظ النبيه العاقل، وصرف نصيب العالم إلى الجاهل، وصير الناقص مكان الوافر الكامل، والراجح الفاضل، وقدم على العلم المبرز الغفل الخامل، ولقد قلت في بعض ما دفعت إليه، وامتحنت به، حين منعت النصف، وحملت على الخسف، حتى انقدت للعنف، وأصبحت عند الغلبة والعسف:
علام أعوم في الشبه ... وأمري غير مشتبه
أرى الأيام معتبراً ... على ما بي من الوله
بلحظ غير ذي سنة ... وحظ غير منتبه
أروح وأغتدي غبناً ... أكثر من أقل به
وقلت في نحو هذا المعنى:
أأقتبس الضياء من الضباب ... وألتمس الشراب من السراب
أريد من الزمان النذل بذلاَ ... وأرياً من جنى سلع وصاب
أرجي أن ألاقي لاشتياقي ... سراة الناس في زمن الكلاب
في كثير من نحو هذا من النثر والقريض، وذم الزمان السوء بالصريح والتعريض، وأرجو أن يغير الله ما أصبحنا منه ممتعضين، وأمسينا معه مرتمضين، ويشفي صدور قوم مؤمنين، ويذهب غيظ قلوب الأماثل من العلماء المبرزين، فقد بلغ منهم ما يرون من تقديم الأراذل الضلال، والأداني الجهال، حتى صدروا في مجالس علم الدين، وقدموا في محافل ولاة أمور المسلمين، وصيروا قضاة وحكاماً ورؤساء وأعلاماً، دون ذوي الأقدار، وأولي الشرف والأخطار، وكثير ممن يشار إليهم منهم لا يفهم من كتاب الله آية، وإن تعاطي تلاوتها لحن فيها، وأتى بخلاف ما أنزل الله منها، ولا كتبوا سنة من سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا دورها، وإن تكلفوا ذكرها أحالوها، وآتو بها على غير وجهها، ولا عرفوا شيئاً من أبواب العربية وتصريفها، ولا لهم حظ من الفلسفة وأجزائها، ومع هذه فقد اتفق لبعضهم من فريق قد شدا من العلم طرفاً، ونال منه حظاً، عدد يعظمونه ويغلون في تعظيمه وتقديمه على أنفسهم، وإن كان أسوأ حالاً وأخفض عقلاً منهم، كما عبد الأصنام من هو أعلى منزلة منها بالحياة والقدرة، والعلم والمعرفة، والبطش والقوة، والتصرف والحيلة، وأقدم هؤلاء الأغمار على الشهادة بالزور لمن وصفنا جهله وسقوطه، بإضافتهم إليه من العلم بما هو أجهل الناس به، وأبعدهم من معرفته لميلهم إلى بعض ضلالاته، وأنسهم بكثير من خساراته، وإن كانت بخلاف ما يعذرون فيها من موافقته، فقد صاروا سخرياً مسخوراً منهم، وسخريا مسخرين لتقليد من وصفنا صفته، واستمر هذا الفريق المغرور على إتباع حزب الشيطان الذين اغتروا بهم، وبذلوا المناصرة لهم وممالأتهم ومضافرتهم وإعزازهم، ومظاهرتهم وتأييدهم ومؤازرتهم، واستفزهم ما يزخرفونه لهم من كلامهم، وإن كان مسترذلاً، ومخطأً ملحناً، عند من أعلاه الله من أفاضل العلماء عليهم، وأبانهم بالعلم والتفقه في الدين منهم، إذ أكثر ما يأتون به من الهجر الذي يسميه قوم الهاذور، وبمنزلة من قال فيه بعض الشعراء:
هذريان هذر هذاءة ... موشك السقطة ذو لب نثر
واستنزلهم من عبارتهم ما هو من نوع هجر باعة القميحة السفوفيين، وتنميق هذه أصحاب الفاكهة والرياحين، وهذيان أهل الحكاية والمخيلين، فلما وصفنا جنحنا إلى الصبر، واستصحبنا، الخمول رجاء إنعام الله بالإعانة والنصر، وذكرت - في وقتي هذا عند إثباتي ما أثبته من حال ذوي النقص الذي يتقلبون في دولة، وإن كانوا من باطلهم في بولة، على أنها سحابة صيف عن قليل تقشع - خبراً حدثنا به محمد بن القاسم الأنباري، قال: حدثني محمد بن المرزبان، قال: حدثنا محمد بن عثمان بن مهدي الأبلي، قال: حدثنا محمد بن عبد الرحمن السايح، قال: حدثنا حماد بن محمد بن عبد الله، قال: حدثنا محمد بن شعيب بن سابور، قال: سمعت الأوزاعي ينشد هذه الأبيات:
إذا كان الخطاء أقل ضراً ... وأنجحَ بالأمور من الصوابِ
وكان النِّوك مَحْموداً مذالاً ... وكان الدهر يرجع بانقلابِ
وعطِّلت المكارمُ والمعالي ... وأُغلقَ دون ذلك كلُّ بابِ
ويوعد كل ذي حَسَب ودينٍ ... وقُرِّب كل مهتوك الحجابِ
فما أحدٌ أضنَّ بما لديه ... من المتحرج المحْضِ اللُّباب
وأنشد شيخنا أبو جعفر الطبري رحمه الله هذه الأبيات، وفيما أنشده بيت آخر وهو:
وولّى بعضهم خَرْجاً وحربا ... وولِّي بعضهم فصلَ الخطابِ
وحذف من الجملة بيتاً.
وأنا منه هذه الرسالة إلى هذا الموضع، ومبتدئ بما قصدت إيداعه هذه الكتاب وتضمينه إياه.
؟
المجلس الأول
حديث من كذب علي متعمداً
حدثنا عبد الله بن محمد بن عبد العزيز البغوي في يوم الاثنين لثلاث ليل خلون من المحرم سنة سبع عشرة وثلاثمائة، قال: حدثنا الأوزاعي، قال: حدثني حسان بن عطية، قال: حدثني أبو كبشة: أن عبد الله بن عمر حدثه، أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " بلغوا عني ولو آية، وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج، ومن كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من الناي.
التعليق على الحديثقال القاضي أبو الفرج: قوله عليه السلام: " بلغوا عني ولو آية " أمر لأمته بتبليغ ما أتاهم به من وحي ربهم، ويسر الأمر عليهم فيما يبلغونه، ويلقونه، إلى ما بعدهم ويؤدونه، ليتصل نقل القرآن عنه إلى آخر أمته، ويلزم حجته جميع من انتهى إليه ممن يأتي بعده، فقد أتاه الوحي بما أتاه من قوله، " أوحي إلي هذا القرآن لأنذرنكم به ومن بلغ " ونظير ما أمر به من التبليغ قوله في خبر آخر: " نضر الله امرءاً سمع مقالتي فوعاها ثم أداها كما سمعها، فرب حامل فقه غير فقيه، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه " وقوله: ولو آية، فإنه أتى على وجه التقليل ليسارع كل امرئ في تبليغ ما وقع من الآي إليه، فيتصل بتبليغ الجميع أو بعضه نقله، ويتكامل باجتماعه واستكمال أداؤه.
الآية وما فيها من اللغة والنحوفأما الآية ففيها من طريق علم اللغة ثلاثة أوجه، ومن جهة صناعة النحو والإعراب ثلاثة أضرب، فأحد الوجوه فيها من قبل اللغة أنها العلامة الفاصلة، والوجه الثاني أنها لأعجوبة الحاصلة، والوجه الثالث إنها المثلة الفاصلة، وهذه الأوجه الثلاثة إذا ردت إلى أصولها متقاربة راجعة في المعنى إلى طريقة واحدة، وجملة آحادها متناسبة، فإذا قيل: اجعل لكذا وكذا آية، فالمعنى علامة فاصلة تدل على الشيء بحضورها، وتفقد دلالتها بغيبتها، ألا ترى إلى قول الله جل ثناؤه: " قال رب اجعل لي آية، قال آتيك ألا تكلم الناس " إلى آخر القصة فإنما سأل السائل ربه أن يجعل له علامة لما وعده وبشره به، في ما جانس هذه مما تضمنه كتاب الله عز ذكره، قال الشاعر:
ألا بلغ لديك بني تميم ... بآية ما يحبون الطعاما
وقال آخر:
ألكني إليها عمرك الله يا فتى ... بآية ما جاءت إلينا تهاديا
ومثل هذا في الشعر وسائر الكلام كثير.
ولما كان ذكر الآية يعني الأعجوبة فمنه ما ذكره الله عز ذكره في مواضع من كتابه عند ذكره ما أحله من النقمة بأعدائه: " إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين " بمعنى العجب مما حل بهم عندما كان من تكذيبهم رسل ربهم.
وأما العبارة بالآية عن العقوبات المنكلة فكثيرة في كلام الخاصة من أهل اللسان العربي كقولهم: قد جعل فلان آية، إذا جل به فظيع من المكروه ألا ترى أنهم يقولون لمن نزل به شيء من هذا به، أو حصل على صفة مذمومة يعير بها ويسب ويوصم بها: فلان آية منزلة، فأما العقد الجامع لهذه الأوجه الثلاثة الذي يردها إلى جملة واحدة، فهو أن العلامة إنما قيل لها لدلالتها وفضلها وإبانتها، ووقع الفصل في القرآن بها حتى تميزت بعض ألفاظه من غيرها، فصارت كل قطعة من ذلك جملة عل حالها.
وأما معنى الأعجوبة فإنما يقع في التعجب من المستغرب الذي يقل وقوعه، فينفصل من الكثير الوجود الذي يختلط فيها بعضه ببعض، ولا يكون فيه من الاختصاص ما في الموجود الذي قدمنا ذكره.
وأما النكال الحال بمن حل به فإنه يقال له آية، من حيث مسار أمره أعجوبة يعتبر ويتعظ بها، وكان معنى خاصاً قوبل به أمر خاص بما أتاه من وقعت المجازاة به، فكل واحد من هذه الأوجه الثلاثة مجانس لصاحبه في أنه أمارة وعلامة وأعجوبة لاختصاصها بما فيه حجة باهرة، ودلالة قاهرة، ومثلة ونقمة لما فيه من التميز والعجب وفظيع التنكيل، بأهل الزيغ والتبديل.
وأما الأضرب الثلاثة من قبل النحو وتصريف الإعراب، فإن النحويين من الكوفيين والبصريين اختلفوا في الآية ما وزنها من الفعل، فقال الكسائي: هي في الأصل فاعلة وأصلها آيية، وكان ينبغي أن تدغم الياء الأولى في الثانية لاجتماعهما متحركتين فتصير آية مثل دابة التي أصلها دابية، فاستثقلوا التشديد فقالوا: آية.
وقال نحويو البصرة: وزنها في الأصل فعلة وأصلها أيية، فصارت الياء ألفاً لتحركها وانفتاح ما قبلها. وقال الفراء: وزنها من الفعل فعلة وأصلها آية، فاستثقلوا التشديد فأتبعوه ما قبله فصارت الياء الأولى ألفاً كما قالوا: ديوان ودينار والأصل فيها دوان ودنار، والدليل على ذلك أنهم يقولون في جمعها دواوين ودنانير، ولا يقولون دياوين وديانير، ويجمع الآية آيات على جمع السلامة، وآياً على أنها من القبيل الذي سبق جمعه واحده فصار بين توحيده وجمعه الهاء التي في واحده. وقد زعم قوم أن معنى الآية: الجماعة، وهذا قول رابع لأنه خطأ، والبيان عنه أصل اشتقاق الآية بما بين الخليل وسيبويه والأخفش فيه من الاختلاف في تقدير مدته وتصريفه، واستيعاب بابه يأتي في كتابنا المسمى البيان الموجز، عن علوم القرآن المعجز إن شاء الله عز وجل.
وقوله عليه السلام: " وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج " فإن الحرج اصله في كلام العرب: الضيق، ومنه قيل للطائفة من الشجر الملتف المتضايق: حرجة، وكان مقاتل بن سليمان يتأول ما جاء في القرآن من ذكر الحرج أنه الشك، وهذه يرجع إلى ما وصفناه من معنى الضيق، لأن الشاك يضيق صدره، ويخالف العالم بالشيء المثلج صدره بما علمه في راحة اليقين، واتساع الصدر وانفساحه وتعريه من ازدحام الظنون واعتراض الشكوك التي تضيقه، وقد زعم بعض أهل الاشتقاق أن الذي يتخذه الركب من العيدان والخشب لرحالهم يقال لها حرجوج، لتضايقه واشتباكه ويجمع حراج، كما قال ذو الرمة:
فسيرا فقد طال الوقوف ومله ... قلائص أمثال الحراجيج ضمر
ومنه قليل للشيء المحظور المضيق بالتحريم والمنع: حرج وقرأ بعض المتقدمين: " هذه أنعام وحرث حرج " مكان القراءة الجمهور حجر وحجر وهي كلها لغات معروفة في الحجر بمعنى الحرام لغتان الضم والكسر، وقد قرئ بهما جميعاً، وقوله: حرث حجر أي حرام، وقوله: " ويقولون حجراً محجوراً " قال أهل التأويل: معناه حراماً محرماً، قال الشاعر:
حنت إلى النخلة القصوى فقلت لها ... حجر حرام ألا تلك الدهاريس
وقال آخر:
قالت وفيها حمقة وذعر ... عوذ بربي منكم وحجر
أي استعاذة تحرم عليكم ما أخافه من مكروهكم، والحجر أيضاً: العقل، والحجي، ومنه قول الله عز وجل: " هل في ذلك قسم لذي حجر " أي عقل يمنعه من السفه والخرق، ومنه حجر الحاكم على السفيه، هو من التضييق والمنع والتحريم، والمصدر منه مفتوح، وروى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للأعرابي الذي بال في المسجد ثم سمعه يقول: " اللهم ارحمني ومحمداً ولا ترحم معنا أحداً - " لقد تحجرت واسعاً " أي ضيقت ما وسعه الله عز ذكره وحظرت ما فسح فيه.
والحجر ديار ثمود، وحجر الكعبة مكسوران، وحجر اسم الرجل مضموم الحاء ساكن الجيم، كما قال عبيد بن الأبرص:
هلا على حجر بن أم ... قطام تبكي لا علينا
وهرٌّ تصيد قلوبَ الرجال ... وأفلت منها ابن عمرو حُجر
كما قال طرفة:
أيها الفتيان في مجلسنا ... جرِّدوا منها وارداً وشقرْ
والكلام شقر بالإسكان مثل حمر وصفر، وحجر اليمامة مفتوح قال الشاعر:
فلولا الريح أسمع من بحجرٍ ... صليلُ البيضِ تقرعُ بالذِّكورِ
وحجر الإنسان فيه لغتان: الفتح والكسر.
ومثل حرجٌ وحجر، صاعقة وصاقعة، وجذبته جذباً وجبذتهُ جبذاً، في نظائر لما وصفنا كثيرة، وأما حاجز فموضع معروف، قال الأعشى:
شاقك من قتله أطلالها ... فالشطُّ فالقفُّ إلى حاجِرِ
وخص بني إسرائيل بهذا لما مضت فيهم من الأعاجيب، كما خص البحر بما فيه من العجائب، وأرخص في التحدث عنهم مع اتقاء الحرج بالكذب فيه، وقوله: ولا حرج، يتجه فيه تأويلان، إحداهما: أن يكون خبراً محضاً في معناه ولفظه، كأنه لما ذكر بني إسرائيل وكانت فيهم أعاجيب وكان كثيرٌ من الناس ينبو سمعُه عنها، فيكون هذا مقطعه لمن عنده علم منها أن يحدث الناس بها، فربما أدى هذا إلى دروس الحكمة، وانقطاع مواد الفائدة، وانسداد طريق إعمال الفكرة، وإغلاق أبواب الاتعاظ والعبرة، وكأنه قال: ليس في تحدثكم بما علمتموه من ذلك حرج.
والتأويل الثاني: أن يكون المعنى في هذا: النهي فكأنه قال: ولا تحرجوا بأن تتحدثوا بما قد تبين لكم الكذب فيه محققين له أو غارين أحداً به، فهذا اللفظ على هذا الوجه لفظه لفظ الخبر وفائدته النهي من جهة المعنى، ولفظ النهي لا يأتي إلا متعلقاً بفعل مستقبل، فإذا قيل: ولا تحرجوا فهو صريح اللفظ بالنهي، فإذا قيل: ولا حرج جاز أن يكون خبراً محضاً معنى ولفظاً، وجاز أن يكون لفظه لفظ الخبر في بنيته، ومعناه النهي لقصد المخاطب وإرادته، دون صورة اللفظ وصيغته، ونصب الحرج في هذا الموضع هو الوجه على ما يقتضيه المعنى الذي يسميه البصريون النفي ويسميه الكوفيون التبرئة، وهو على قول الخليل مبني يضارع المعرب، وعلى قول سيبويه معرب يضارع المبني، ولو رفع ونُوِّن لكان وجهاً قد عرف واستعمل كما قال الشاعر:
من صد عن نيرانها ... فأنا ابن قيسٍ لا براحْ
وقولهم: لا حول ولا قوة إلا بالله، للعرب فيه خمسة مذاهب: لا حول ولا قوةَ إلا بالله، ولا حولَ ولا قوةً، ولا حولَ ولا قوةٌ، ولا حولٌ ولا قوةٌ، ولا حولٌ ولا قوّة.
وقال الله تعالى: " فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج " هذه قراءة شبيه ونافع وعاصم وحمزة والكسائي في آخرين، وقرئ: فلا رفثَ ولا فسوقَ ولا جدالَ، وهي قراءة أبي جعفر يزيد بن القعقاع المخزومي، وقرئ : فلا رفثٌ ولا فسوقٌ ولا جدال " وهي قراءة مجاهد وابن كثير وأبي عمرو وعدد غيرهم، وقد قرأ بعضهم ولا جدال مثل دراك ومناع، رويت هذه القراءة عن عبد الله بن أبي إسحاق، واختلف في علل إعراب هذه القراءات، وفي علة فرق في الإعراب بين بعضهما وبعض اختلاف يطول شرحه، وليس هذا موضع ذكره، ونحن مستقصو القول فيه عند انتهائنا إليه من كتابنا المسمى البيان الموجز في علم القرآن المعجز وفي كتابنا في القراءات، وكتابنا في عللها وتفصيل وجوهها.
وقوله: " من كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار " قد أتت الرواية بهذا اللفظ وما يقاربه من جهات كثيرة، وقيل: إنه على عمومه، وجاء في بعض هذه الأخبار: من كذب علي متعمداً ليضل به الناس، وروى أنه ورد عند قصة خاصة في رجل ادعى عند قوم أن النبي صلى الله عليه وسلم أرسلهم إليه ليزوجوه، حدثنا عبد الله بن محمد بن عبد العزيز البغوي: قال: حدثنا يحيى بن عبد الحميد الحماقي، قال: حدثنا علي بن منير، عن صالح بن حيان، عن ابن بريدة، عن أبيه، قال: أتى رجل إلى قوم في جانب المدينة، فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرني أن أحكم فيكم برأيي في كذا وكذا، وكان خطب امرأة منهم في الجاهلية فأبوا أن يزوجوه، ثم ذهب حتى نزل على المرأة فبعث القوم إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: " كذب عدو الله " ثم أرسل رجلاً فقال: " إن أنت وجدته حياً فاقتله، وإن وجدته ميتاً فحرّقه " ، فانطلق فوجده قد لدغ فمات فحرقه، فعند ذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: " من كذب علي متعمداً فليتبوأ معقده من النار "
حدثنا الحسن بن محمد بن شعبة الأنصاري، قال: حدثنا إسماعيل بن حيان الواسطي، قال: حدثنا زكريا بن عدي، قال: حدثنا عدي بن مسهر، عن صالح بن حيان، عن عبد الله بن بريدة، عن أبيه، قال: قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من كذب علي متعمداً فليتبوأ معقده من النار " كان حي من المدينة على ميل أو ميلين فأتاهم رجل عليه حلة، فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كساني هذه الحلة وأمرني أن أحكم نسائكم وأموالكم بما أرى، وكان قد خطب امرأة منهم فأبوا أن يزوجوه، قال: فأرسلوا رسولاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم إنك أمرت هذه أن يحكم في نسائنا وأموالنا بما يرى، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " كذب عدو الله " ثم قال لرجل: اذهب فإن وجدته حياً فاضرب عنقه، وإن وجدته قد مات فأحرق بالنار، وما أراك تجده حياً، قال: فجاء فوجدته قد لدغته حية أو أفعى فمات، فذلك قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من كذب علي متعمداً فليتبوأ معقده من النار " حدثنا محمد بن هارون أبو حامد الحضرمي، قال: حدثنا السري بن مزيد الخراساني، قال: حدثنا أبو جعفر محمد بن علي الفزاري، قال: حدثنا داود بن الزبرقان، قال: أخبرني عطاء بن السائب، عن عبد الله بن الزبير، أنه قال يوماً لأصحابه: أتدرون ما تأويل هذا الحديث: " من كذب علي متعمداً فليتبوأ معقده من النار " ؟ قال: رجل عشق امرأة فأتى أهلها مساء، فقال: إني رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم، بعثني إليكم أن أتضيف في أي بيوتكم شئت، قال: فكان ينتظر بيتوته إلى المساء، قال: فأتى رجل منهم النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن فلاناً أتانا يزعم أنك أخبرته أن يبيت في أي بيوتنا شاء، فقال: كذب، يا فلان انطلق معه فإن أمكنك الله منه فأضرب عنقه وأحرقه بالنار، ولا أراك إلا قد نعيته، فلما خرج الرسول، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أدعوه، فلما جاء قال: إني قد كنت أمرتك أن تضرب عنقه وأن تحرقه بالنار، فإن أمكنك الله منه فاضرب عنقه ولا تحرقه بالنار، فإن لا يعذب بالنار إلا رب النار ولا أراك إلا قد كفيته، فجاءت السماء فصبت فخرج ليتوضأ فلسعته أفعى، فلما بلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم قال: هو في النار، وقوله فليتبوأ أي فليوطن نفسه ويعلم أنه تبوأ معقده من النار أي تكون لنار مبوأ له،كما قال الله: " بوأنا بني إسرائيل مبوأ صدق " أي جعلناها منزلاً لهم، قال ابن هرمة:
وبوئت في صميم معشرها ... فتمَّ في قومها مُبوَّؤُهَا
وقال بعض بكر بن وائل يخاطب الفرزدق:
لقد بوَّأتك الدّار بكر بن وائل ... وقرّت لك الأحشاءُ إذ أنت محرم
وقول الله تعالى: " والذين آمنوا وعملوا الصالحات لنبَوِّئّنَهم من الجنة غرفاً " من هذا الباب، وكذلك قرأ جمهور أهل الحجاز والشام والبصرة والكوفة، وقرأ عدد من الكوفيين منهم حمزة والكسائي: لنثوينهم من الثواء، كما قال الحارث بن حلزة:
آذنَنْتَنا ببينها أسْمَاءُ ... ربّ ثاوٍ يملُّ منه الثُّواءُ
وفي تصريف الفعل من هذا لغتان يقال: ثوى يثوي وأثوى يثوي، ويروي بيت الأعشى على وجهين:
أثوى وقصر ليلةٌ ليزودا ... فَحَنى وأخلفَ من قُتَيْلةَ موعِدا
ويروي أثوى على الوجه الرباعي، ويروي أثوى بلفظ الاستفهام على أنه ثلاثي، ولو قيل ثوى من غير تقديم على أن يكون الجزء الأول من البيت مخروماً لكان ذلك صواباً.
ذكر بعض نوادر الأخبار
مجنون بني سعدحدثنا محمد بن القاسم الأنباري إملاءً من حديثه سنة ست وعشرين وثلثمائة، قال: حدثني محمد بن المرزبان، قال: حدثنا محمد بن سعيد بن صالح اليشكري، قال: حدثنا محمد بن محب المازني، قال: حدثني أبي، قال: لما قدم سليمان بن علي البصرة والياً عليها قيل له: إن بالمربد رجلاً من بني سعد، مجنوناً سريع الجواب لا يتكلم إلا بالشعر، فأرسل إليه سليمان بن علي قهرمانه، فقال له: أجب الأمير، فامتنع فجره وزبره، وخرق ثوبه، وكان المجنون يستقي على ناقة له فاستاق القهرمان الناقة وأتى بها سليمان بن علي، فلما وقف بين يديه قال له سليمان، حياك الله يا أخا بني سعد، فقال:
حيّاك رب الناس من أمير ... يا فاضل الأصل عظيم الخيرِ
إني أتاني الفاسِقُ الجلْوازُ ... والقلب قد طار به اهتزازُ
فقال سليمان: إنما بعثنا إليك لنشتري ناقتك، فقال:
ما قال شيئاً في شراء الناقه ... وقد أتى بالجهل والحماقة
فقال: ما أتى؟ فقال:
خرّق سربالي وشقّ بردتي ... وكان وجهي في الملا وزيني
فقال: أفتعزم على الناقة؟ فقال:
أبيعها بعد ما أوكس ... والبيعُ في بعض الأوان أكيس
قال: كم شراؤها عليك؟ فقال:
شراءها عشرٌ ببطن مكهْ ... من الدنانير القيام السُّكهْ
ولا أبيع الدهر أو أزادُ ... إنّي لريحٍ في الورى معتاد
قال: فبكم تبيعها؟ فقال:
خذها بعشرٍ وبخمسٍ وازنهْ ... فإنه ناقة صدق مازنه
قال: فحطنا، فقال:
تبارك الله العليُّ العالي ... تسألني الحطّ وأنت الوالي
قال: فنأخذها منك ولا نعطيك شيئاً، فقال:
فأين ربي ذو الجلال الأفضل ... إن أنتَ لم تخش الإله فافعل
قال: فكم أزنُ لك فيها؟ فقال:
والله ما ينعشني ما تعطي ... ولا يداني الفقر مني حطّي
خذه بما أحببت يا بن عباسِ ... يا بن الكرام من قريش الرّاسِ
فأمر له سليمان بألف درهم وعشرة أثواب، فقال:
إن رمتني نحوك الفجاج ... أبو عيال معدم محتاج
طاوي المعى ضيق المعيشِ ... فأنبتَ الله لديك ريشي
شرّفتني منك بألف فاخرة ... شرّفك الله بها في الآخرة
وكسوةٍ طاهرةٍ حسان ... كساك ربي حلل الجنانِ
التعليق على الخبرفقال سليمان: من يقول إن هذا مجنون؟ ما كلمت قط أعرابياً أعقل منه.
قول الإعرابي: ضيق المعيش، المعيش جمع معيشة، كما قال رؤبة:
أشكو إليك شدة المعيش ... ومرِّ أعوامٍ نتفن ريشي
ويكون المعيش الموضع والمعاش المصدر، مثل المضرب والمضرب والمقر والمقر.
قال القاضي أبو الفرج: قد أنهينا هذا المجلس إلى هنا لئلا يستطال، إذ قد تقدمته خطبةٌ ورسالة، والله المستعان.
المجلس الثاني
حديث جريجحدثنا عبد الله بن سليمان أبي داود بن الأشعث السجستاني إملاء من حفظه، في يوم الثلاثاء لأربع بقين من شعبان سنة ست عشرة وثلثمائة، قال: حدثنا العباس بن الوليد بن يزيد، قال: أخبرني أي، قال: حدثني عبد الله بن شوذب، قال: حدثني مطر، قال: ولا أعلم سنده إلا عن الحسن بن أبي هريرة رفعه، قال: كان رجل في بني إسرائيل يقال له جريج، وكان صاحب صومعة قال: فاشتاقت أمه إليه فأتته حتى قامت عند صومعته، فنادته: أي جريج! أي جريج! وهو قائم يصلي، ف فلما سمع النداء فعرف الصوت أمسك عن القراءة، فقال: أي رب! صلاتي أو أمي، ثم قال: ربي أعظم علي حقاً من أمي، قال: فمضى في صلاته، ثم نادته الثانية ففعل أيضاَ مثلها، وقالت الثالثة، ففعل أيضاً مثلها ولم يشرف عليها، فقالت: اللهم كما لم يرني وجهه فابتله بنظر المومسات في وجهه، فحملت امرأة من أهل القرية من فاحشة فولدت، فقيل لها: ممن هذا؟ قالت: صاحب الصومعة، فرفع ذلك إلى الملك، فقال: هذا صاحب صومعة، وهو يفعل مثل هذا؟ فأمر أهل القرية فأخذوا الفئوس والمساحي، حتى أتوه فنادوه وهو في صلاته فلم يكلمهم، قال: فقالوا: ضعوا الفئوس في الصومعة فضربوا حتى كادت أن تميل، قال: فأشرف عليهم، فقال: ماذا تريدون؟ مالي ولكم؟ فقالوا: أنت في الصومعة وأنت تحبل النساء؟ فقال: أنا؟ فنزل فصلى ركعتين ودعا الله تعالى ثم جاء إلى الصبي ولما يتكلم فضرب قفاه وقال: من أبوك؟ قال: صهيب صاحب الضأن، وكان صهيب رجلاً يرعى الغنم يأوي إلى الصومعة، قال: فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " والذي نفس محمد بيده، لو دعت الله أن يفتنه عن دينه لأفتنه عن دينه " . وقد روى خبر جريج عن طريق آخر، وذكر فيه أن الصومعة هدمت وأنه قيل له: نبنيها لك لبنة من فضة ولبنة من ذهب، فقال: بل ردوها كما كانت.
التعليق على الخبر
قوله في الخبر: المومسات هو جمع مومسة وهي البغي الفاجرة، فإن قال قائل: كيف دعت أمه عليه واستجيب لها فيه؟ وهو لم يقصد عقوقها، ولم يترك أجابتها تهاوناً بها، ولا استخفافاً بحقها، وإنما آثر مرضاة الله على أمرها، وإتمام صلاته التي ابتدأها، إما مؤدياً الفرض فيها، وإما متطوعاً بفعلها، قيل له: جائز أن يكون الكلام في شريعتهم كان جائزاً في صلاته كما كان في أول الإسلام ثم نسخ ما أبيح منه بحظره، والنهي عنه، على ما وردت الأخبار به، وجاء أن عبد الله بن مسعود أخبر أنه كان يسلم بعضهم على بعض في الصلاة فيرد عليه، وأنه ذكر أنه حين قدم من أرض الحبشة سلم على النبي صلى الله عليه وسلم وهو في الصلاة فلم يرد عليه، وأنه قال: فأخذني ما قرب وما بعد، وقال النبي صلى الله عليه وسلم حين فرغ من صلاته: أعوذ بالله من غضب الله وغضب رسوله، سلمت عليك فلم ترد، فقال: إن الله يحدث من أمره ما شاء، وأنه مم أحدث " ألا تكلموا في الصلاة " وأن يكون جريج رأى وإن كانت إجابته في أمه جائزة في صلاته أو غير قاطعة لها - بأن المضي على الصلاة أولى من إجابتها، وجائزة أن يكون القوم قد فرض عليهم إجابة أمهاتهم في الصلاة إذا دعونهم وإن كانوا في صلاتهم، فترك ذلك جريج لتفريط منه وفي فعله أو العلم به، وقد روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " لو نادني أحد أبوي وأنا في الصلاة فقال يا محمد لأجبته " ، وهذا محتمل أن يكون على بعض الوجوه المخصوصة أو المنسوخة، وجائز أن يكون أراد لأجبته بالتسبيح ليعلم أني قد سمعته أو في هذه الحال بالتصفيق، وقال: التسبيح للرجال والتصفيق للنساء، وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لبعض من ناداه وهو يصلي فلم يجبه فقال: ما منعك أن تجيبني؟ فقال: إني كنت أصلي فقال: ألم تسمع قول الله عز وجل: " استجيبوا لله ولرسوله إذا دعاكم " وروى أن إبراهيم النخعي سئل عمن شمت رجلاً في الصلاة، فقال: إنه لم يقل إلا معروفاً، والقول في هذا النحو مستقصى فيما ألفناه من كتبنا في الفقه.
حروف المقاربةوقوله في هذا الخبر: حتى كادت أن تميل.. الظاهر في كلام العرب أن يقولوا كادت تميل من غير أن يأتوا بأن، وكاد هذه من حروف المقاربة، فقال: كاد فلان يهلك وكاد يفعل كذا، قال الله عز وجل: " تكاد السموات يتفطرن منه " وقال: " فذبحوها وما كادوا يفعلون " ، وقال: " كانوا يكونون عليه لبدا " في نظائر لهذا كثيرة، وقد تقول العرب: كاد أن يفعل، كما قال الشاعر:
كادت النفس أن تفيض عليه ... إذ ثوى حشو ريطة وبرود
وقال الراجز:
قد كاد من طول البلى أن يمصحا
فكأنه أدخلها في باب عسى كما أدخل عسى عليها القائل من الشعراء:
عسى الكرب الذي أمسيت فيه ... يكون وراءه فرجٌ قريبُ
وقال آخر:
عسى الله يغني عن بلاد ابن قادر ... بمنهمرٍ جون الرّباب سكوبِ
وقال آخر:
عسى فرجٌ يأتي به الله إنه ... له كل يومٍ في خليقته أمْرُ
ومثل هذا لعل، الباب فيها لعلى القوم، قال الله: " لعلكم تفلحون " ، وقال: " لعله يتذكر أو يخشى " ، وقد تدخل على باب عسى لاشتراكها في باب الترجي والمقاربة والتوقع، وذلك قول الشاعر:
تتبع خبايا الأرض وادع مليكها ... لعلك يوماً أن تجاب وترزقا
وقال آخر:
ترفق أيها القمر المنير ... لعلك أن ترى حجراً يسير
وقال آخر:
لعلي إن مالت بي الريح ميلةً ... على ابن أبي ذبان أن يتندّما
وقد تأتي كاد بمعنى الإرادة لاشتراكهما في معنى المقاربة، كقولك: كاد الحائط أن يميل، وضربه حتى كاد أن يموت، أي أراد أن يميل وأن يموت، وقال الشاعر في هذا المعنى:
كادت وكدت وتلك خير إرادة ... لو عاد من وصل الحبيبة ما مضى
وقد قيل في قول الله: " إن الساعة آتية أكاد أخفيها " أن معناه أكاد أقيمها، فحذف. ثم ابتدأ فقال: أخفيها وأن الكلام انتهى إلى أكاد، وأنه وقف تام، وأخفيها ابتدأ كأنه قال: أخفيها لتجزى، لتجزى إخبار بصلة الفعل الذي هو الإخفاء.
وقرأ بعض القراء: أكاد أخفيها بفتح الهمزة بمعنى أظهرها، يقال: خفيت الشيء إذا أظهرته وأخفيته إذا سترته، وروى النبي صلى الله عليه وسلم أنه: " لعن المختفي والمختفية " يعني النباش والنباشة، سميا بذلك لإظهارهما ما ستر بالمواراة والإخفاء والدفن، ورويت هذه القراءة عن سعيد بن جبير وغيره، ومن هذا المعنى قول الشاعر:
داب شهرين ثم شهراً دبيكا ... باركين يخفيان غميرا
وقال آخر:
فإن تكتموا الداء لا نخفه ... وإن تبعثوا الحرب لا نقعد
وقال امرؤ القيس:
خفاهن من أنفاقهن كأنّما ... خفاهن ودقٌ من عشيٍّ مجلبُ
وخفيت وأخفيت جميعاً يرجعان إلى أصل واحد، خفيت أي أزلت الإخفاء وأخفيت أي فعلت الإخفاء، ونحن نبين ما في هذه الكلمة من القرآن والمعاني ووجوه التفسير وطريق الإعراب والتأويل في مواضعه من كتبنا في القرآن إن شاء الله.
وأما قول جريج للصبي: من أبوك؟ فقد يسأل السائل فيقول: كيف من قال من أبوك والعاهر ليس بأب لمن أتت به البغي من مائة في حكم الشريعة؟ قيل: في هذا وجهان من التأويل أحدهما: أنه جائز أن يكون في شريعة هؤلاء القوم إلحاق ولد العاهر به إذا حملت أمه به منه.
والوجه الآخر: أن يكون جريج قال هذه على وجه التمثيل أو كنى به تنزيهاً لألفاظه على جهة التشبيه، فقد تضاف الأبوة لفظاً من طريق التجاوز والاستعارة إلى من ليست له ولادة ولا نسب بينه وبين من ينسب إليه ولا قرابة، فيقال: فلان أبو الأرامل واليتامى إذا كفلهم وبرهم ووصلهم، وقام بتدبير أمورهم وكنفهم كفعل الآباء الوالدين لمن ولدوا من البنين.
وقد روى في بعض قراءات من رويت عنه القراءة من المتقدمين " النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وهو أب لهم وأزواجه أمهاتهم " وعبر عن الأزواج بأنهن للمؤمنين أمهات توكيداً لحرمتهن ودلالة على تأبيد تحريم نكاحهن على غير النبي صلى الله عليه وسلم، وفي ذلك استقصاء هذه الباب وما يناسبه ويتصل به طول.
وقوله: " ولما يتكلم " هذه لم الجازمة دخلت عليها ما وقيل: إنها تأتي لنفي حضور شيء منتظر متوقع وقيل: بل هي على طريق لم وإن ضمت إليها ما كما هي في: إن تقم أقم، وإما تقم أقم، ولهذا النحو موضع هو أولى به.
وأما قول النبي صلى الله عليه وسلم: " لو دعت الله أن يفتنه عن دينه لأفتنه عن دينه " فالذي أحفظ عن ابن أبي داود أنه قال في هذا الحديث هكذا أن يفتنه، وقال لأفتنه، وفي تصريف الفعل من الفتنة على تشعب معانيها واختلاف وجوهها لغتان: يقال: فتنة يفتنه على وزن فعل يفعل وهذه أعلى اللغتين وأفصحهما، وبها جاء كتاب الله تعالى في جميع القرآن، من ذلك: " لا يفتننكم الشيطان " ، وقوله " على خوف من فرعون وملأهم أن يفتنهم " وقوله: " وظن داوود أنما فتناه " بمعنى امتحناه، وأضاف هذه إليه جل ذكره، وقد قرئ أنما فتناه بالتخفيف على توجيه الفعل إلى الملكين، وقال تعالى: " ولكنكم فتنتم أنفسكم " وقال: " إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات " .
واللغة الثانية في هذه الكلمة هي أقلهما في كلام العرب وهي: أفتنه يفتنه على أفعل يفعل.
فإن كان ما روى لنا في هذا الحديث على اللفظ الذي وصفنا محفوظاً عند رواته ومن أداه إلينا فإنه مما جمع فيه بين اللغتين.
الجمع بين اللغتينوالجمع بين اللغتين كثير في كلام العرب، وقد جاء منه في كتاب الله عز ذكره على تجاوز واتصال، وتراح وانفصال، فمن المتصل قوله: " فمهل الكافرين أمهلهم " ، ومن المنفصل قوله في السورة التي يذكر فيها الأنفال: " ومن يشاقق الله ورسوله " على إظهار التضعيف، وفي سورة الحشر " ومن يشاق إلى الله " بالإدغام، ومثله " فليملل وليه " على لغة من يقول: أمللت الكتاب فأنا أمله، وقوله: " فهي تملي عليه " ، من أمليته أمليه، وقال الشاعر في الجمع بين اللغتين:
لئن فتنتني لهي بالأمس افتنت ... سعيداً فأضحي قد قلى كل مسلم
ومن الجمع بين اللغتين قول لبيد:
سقى قومي بني مجد وأسقى ... عميراً والقبائل من هلال
وقال آخر:
يا بن رفيع هل لها من مغبق ... هل أن ساقيها سقاك المسقي
وقرن بعضهم بين المعنيين في اللغتين فقال: سقيته أي ناولته ماء لشفته، وأسقيته إذا جعلت له شرباً دائماً، ويقال اسقيته إذا دعوت له بالسقيا.
كما قال ذو الرومة:
وقفت على ريع لمية ناقتي ... فما زلت أبكي عنده وأخاطبه
وأسقيه حتى كاد مما أبثه ... تكلمني أحجاره وملاعبه
ويقال: سقيته فشرب، وأسقيته جعلت له ماء وسقيا.
قال الخليل: سقيته مثل كسوته واسقيته مثل ألبسته، ولاستقصاء الكلام في هذا وفي هاتين اللغتين وهل هما بمعنى واحد أو بمعنيين، وفي ما اختلف نسخ كتاب سيبويه فيه من التفسير والتمييز له، وفي اختلاف القراءة بما أتى منه في مواضيع من القرآن متفق اللفظ أو مختلفة في مواضع مختلفة كقوله: " نسقيكم مما في بطونها " بالفتح في الموضعين على أنه من سقى يسقي بالضم من لغة من قال: اسقي يسقي، وفي تفريق من فرق بين القراءة في هذين الموضعين وبينها في قوله: " ونسقيه مما خلقنا أنعاماً " وجمع من جمع في الفتح والضم طول يتجاوز حد ما قصدناه بكتابنا هذا وبيانه في مواضع من كتبنا في علوم القرآن.
معنى الفتنةوللفتنة وجوه منها الصرف عن الشيء ومنه هذه الكلمة، وأفتنته مثل حزنته، ومذهب سيبويه أن من قال: فتنته أراد جعلت فيه فتنة، ومن قال: أفتنته أي جعلته فاتناً، يقال وفتن الرجل فهو فاتن، وقال سيبويه: وزعم الخليل أنك حيث قلت فتنته وحزنته لم ترد أن تقول جعلته داخلاً، ولكنك أردت أن تقول جعلت فيه حزناً وفتنة، فقلت فتنة كما قلت كحلته جعلت فيه كحلاً، ودهنته جعلت فيه دهناً، وقال الجرمي: سمعت أبا زيد يقول: حزنني الأمر حزناً وحزناً وأنا حزين ومحزون، وهذا مثل: جريح ومجروح وقتيل ومقتول، وقال سيبويه: كلهم يقول: أحزنني الأمر فإذا صار إلى يفعل ففيها لغتان، يقول قوم: يحزنني على غير قياس، ويقول قوم: يحزنني على قياس، وأما القراء فلم يزد في هذا على أن ذكر في حزن يحزن وأحزن يحزن لغتين.
وقد اختلفت القراءة في اللفظ بهذه الكلمة في القرآن، فكان أبو جعفر المدني يقرأ لا يحزنك الدين ، وإنه ليحزنك، وأيها الرسول لا يحزنك الدين، وإني ليحزنني أن تذهبوا به، ويستمر على هذا في القرآن كله إلا في قوله: ولا يحزنهم الفزع الأكبر، فإنه يضم الياء فيه، وأما نافع فعلى عكس هذا المذهب لأنه ضم ما فتحه أبو جعفر في هذا الباب وفتح ما ضمه، وكان ابن محيصن يضم ذلك كله، وكان الجمهور من القراء بعده يفتحون الجميع وفي استقصاء هذه المعنى وذكر ما يتصل له لتفريق من فرق بين بعضه وبين بعض، والاحتجاج فيما اختلف المقرئون فيه مواضع جمة من كتبنا في علوم القرآن، نأتي على البيان عنه إن شاء الله عز وجل.
من نزلت فيه هذه الآيةحدثنا الحسين بن القاسم الكوكبي قال: حدثنا أبو إسماعيل الترمذي، قال: حدثنا عبد الله بن الزبير الحميدي، قال: حدثنا سفيان بن عينة، عن أبي سعد، عن عكرمة، عن ابن عباس، في قوله تعالى: " واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها " قال: هو رجل كان في بني إسرائيل أعطي ثلاث دعوات يستجاب له فيهن ما يدعو به، وكان له امرأة له منها ولد وكان سمجة دميمة، قالت: ادع الله أن يجعلني أجمل امرأة في بني إسرائيل، فدعا الله لها، فلما علمت أن ليس في بني إسرائيل أجمل منها رغبت عن زوجها وأرادت غيره، فلما رغبت عنه دعا الله أن يجعلها كلبة نباحة، وذهبت عنه دعوتان، فجاء بنوها وقالوا: ليس بنا على هذا صبر أن صارت أمنا كلبة نباحة يعيرنا الناس بها، فادع الله أن يردها إلى الحال التي كان عليها أولاً، فدعا الله فعادت كما كانت فذهب فيها الدعوات الثلاث فسميت البسوس وقيل: أشأم من البسوس.
قال أبو الفرج: المشهور عند أهل السير والأخبار أن البسوس التي يقال من أجلها أشأم من البسوس، الناقة التي جرى فيما جرى من أمرها حرب داحس والغبراء، والمعروف من قول جمهور أهل التأويل أن قوله: " واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها " عنى به بلعم بن باعوراء الذي دعا للجبارين على موسى وبني إسرائيل، وقال بعضهم: نزلت في أمية بن أبي الصلت، ولكل واحد من هذين الذي سميناهما حديث طويل وقد جاء الخبر الذي وصفنا ما حكينا والله أعلم.
وفي هذا الخبر، قال: وكانت سمجة بكسر الميم مثل بطرة، وحكى سيبويه عن العرب: رجل سمج بتسكين الميم مثل سمح، وقال: فقالوا: سميح كقبيح، قال: ولم يقولوا سمح وإن كانت العامة قد أولعت به.
وقول الراوي في هذا الخبر: يعيرنا الناس بها، الفصيح من كلام العرب: عيرت فلاناً كذا، وأما عيرته بكذا فلغة مقصرة عن الأولى في الاشتهار والفصاحة، وإن كانت هي الجارية على ألسنة العامة، ومن اللغة الأولى قول النابغة:
وعيرتني بنو ذبيان رهبتهُ ... وهل عليَّ بأن أخشاك من عَارِ
وقال المتلمس:
يعيرني أميِّ رجالٌ ولا أرى ... أخاً كرمٍ إلا بأن يتكرما
وقال المقنع الكندي في اللغة الأخرى:
يعرني بالدين قومي وإنما ... تدانيت في أشياء تكسبهم مجدا
أقوال حكيمة عن بعض العلماء والأعرابحدثنا محمد بن الحسن بن دريد، قال: حدثنا عبد الرحمن عن عمه، قال: سمعت أعرابياً يقول: فوت الحاجة خيرٌ من طلبها من غير أهلها، قال الأصمعي: وسمعت آخر يقول: حمل المنن أثقل من الصبر على العدم.
قال: وسمعت آخر يقول: النزاهة أشرف من سرور الفائدة، قال: وبلغني أن ابن عباس يقول: كما يتوخى بالوديعة أهل الثقة والأمانة فكذلك ينبغي أن يتوخى بالمعروف أهل الوفاء والشكر.
قال القاضي أبو الفرج: في هذا المعنى وما يضاهيه وما يخالفه أخبار وكلام لعلنا نأتي به فيما يستقبل من كتابنا هذه إن شاء الله.
وأنشدنا ابن دريد، قال أنشدنا أبو حاتم
رأيت الدهر بالأحرار يكبو ... ويرفع راية القوم اللئام
كأنَّ الدهر موتورٌ حقودٌ ... فيطلبُ وتره عند الكرام
قال: وأنشدنا أبو حاتم أيضاً:
أظن الدهر أقسم ثم برَّا ... بأن لا يكسب الأموال حرَّا
لقد قعد الزّمان بكلِّ حرٍّ ... ونقض من قواه ما استمرا
المجلس الثالث
هذا في سبيل اللهحدثنا يحيى بن محمد بن صاعد إملاءً في يوم الأحد لست بقين من شعبان سنة ست عشرة وثلثمائة، قال: حدثنا محمد بن زياد بن الربيع الزيادي، قال: حدثنا حماد بن زيد، عن عاصم، عن أبي وائل، عن عبد الله، يعني ابن مسعود، قال: خط لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطاً، فقال: " هذا سبيل الله، ثم خط خطوطاً يميناً وشمالاً ثم قال: هذه سبل على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه " ثم قرأ " وإن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله " .
قال القاضي أبو الفرج: وهذا القول من النبي صلى الله عليه وسلم والتمثيل من أبين الأقوال البليغة وأفصحها، وأرصن الأمثال البليغة المضروبة الصحيحة وأوضحها، وذلك أنه خط خطاً جعله مثل الصراط في استقامته إذ لا زيغ فيه ولا ميل، ثم خط خطوطاً يمنة وشأمة آخذه في غير سمته وجهته، تفرق بمن سلكها واتبعها عن السبيل التي هي سبيل الهدى، والنجاة من مرديات الهوى، وبهذا جاء وحي الله وتنزيله في كتابه الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، قال: جل ذكره: " شرع لكم من الدين ما وصي به نوحاً والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه " فدل هذا على مثل ما دلت عليه الآية التي تلاها رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخبر الذي رويناه فقال تعالى: " إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً لست منهم في شيء " وقال: " فتقطعوا أمرهم بينهم زمراً كل حزب، بما لديهم فرحون " في كثير مما يضاهي هذا المعنى، والسبيل الطريق. وقول النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الخبر حين خط الخط " هذا سبيل الله " يحتمل أن يكون إشارة إلى الخط فذكر، إذ الخط مذكر، وجائز أن تكون الإشارة فيه إلى السبيل فذكره إذ العرب تذكر السبيل وتؤنثه، وقد جاء التنزيل باللغتين، على أن منه من يذكر الطريق ومنهم من يؤنثه وكذلك الصراط، قال عز وجل في التذكير: " وإن يروا سبيل الرشد لا يتخذوه سبيلاً، وإن يروا سبيل الغي يتخذوه سبيلاً " وذكر أنها في قراءة أبي بن كعب لا يتخذها ويتخذها بالتأنيث وقال في التأنيث: " وعلى الله قصد السبيل ومنها جائر " ، وقال: " قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة " والتذكير والتأنيث كثيرٌ موجود في الكتاب والسنة كقول النبي صلى الله عليه وسلم " لولا أنه سبيل آتٍ وحتم مقضي " وفي أشعار العرب وسائر كلامها، والتأنيث أكثر، وأنشد أبو عبيدة:
فلا تجزع فكل فتى أناسٍ ... سيصبح سالكاً تلك السبيلا
وأما قول الله " ولتستبين سبيل المجرمين " فقد أتت القراءة فيه بالوجهين معاً، أعني التذكير والتأنيث، فكان من قرأ بالتأنيث الحسن ومجاهد وعبد الله بن كثير وعبد الله بن عامر وأبو عمرو بن العلاء وأبو المنذر سلام بن المنذر، ويعقوب الحضرمي وقرأ ذلك بالتذكير الأعمش وعاصم وحمزة والكسائي، وقرأ ذلك أبو جعفر المدني وعبد الرحمن بن هرمز الأعرج وشيبة ونافع " ولتستبين سبيل المجرمين " أي لتتبينها يا أيها النبي وتستوضحها، والتاء في هذه القراءة للمخاطبة ولا دلالة فيها على تذكير ولا تأنيث، والسبيل منصوبة بالفعل، وقد اختلفت القراءة أيضاً في كسر " وأن هذا صراطي مستقيماً " وفتحها وتخفيفها وتشديدها وفتح الياء من صراطي وإسكانها، فقرأ بكل وجه من هذه الوجوه أئمة من قراء الأئمة، فمن قرأ وأن هذا بالفتح والتشديد في أن وصراطي بإسكان الياء أبو جعفر وأبن هرمز الأعرج وشيبة ونافع وعاصم وأبو عمرو، وممن قرأ بكسر إن وتشديدها وتسكين ياء صراطي عبد الله الأعمش، وطلحة بن مصرف والكسائي على الابتداء، وممن قرأ بفتح الهمزة وتخفيفها وفتح ياء صراطي عبد الله بن أبي إسحاق الحضرمي وعبد الله بن عامر وقرأ أبو المنذر سلام: وأن بالفتح والتشديد وصراطي بفتح الياء، وقرأ وأن بالفتح والإسكان لياء الصراطي يعقوب الحضرمي. قال القاضي أبو الفرج وبهذه القراءة أقرأ، وهين وسائر ما قدمنا ذكره من القراءات في هذه الآية صواب عندنا صحيح معناه لدينا، وقد تقرأ به وتراه مستقيماً حسناً في معناه ولفظه، وترى مختاري القراءة به مصيبين، ولسبيل الحق متبعين، وبالله ذي الطول والقوة والحول نستعين.
عزل الحجاج بن يوسف عن الحرمين
حدثنا محمد بن أبي الأزهر، قال: حدثنا الزبير بن بكار، قال: وحدثني محمد بن يحيى، قال: حدثني عمران بن عد العزيز بن عمر بن عبد الرحمن بن عوف الزهري قال: لما ولي الحجاج بن يوسف الحرمين، بعد قتل عبد الله بن الزبير استحضر إبراهيم بن طلحة بن عبيد الله وقربه في المنزلة فلم يزل على حاله عنده، حتى خرج إلى عبد الملك زائراً له فخرج معه فعادله لا يترك في بره وإجلاله وتعظيمه شيئاً، فلما حضر باب عبد الملك حضر به معه، فدخل على عبد الملك فلم يبدأ بشيء بعد السلام إلا أن قال: قدمت عليك يا أمير المؤمنين برجل الحجاز، لم أدع له والله فيها نظيراً في كمال المروءة والأدب والديانة، ومن الستر وحسن المذهب والطاعة والنصيحة، مع القرابة ووجوب الحق: إبراهيم بن طلحة بن عبيد الله وقد أحضرته بابك لتسهل عليه إذنك وتلقاه ببشرك وتفعل ما تفعل بمثله ممن كانت مذاهبه مثل مذاهبه، فقال عبد الملك: ذكرتنا حقاً واجباً ورحماً قريباً، يا غلام ائذن لإبراهيم بن طلحة، فلما دخل عليه قربه حتى أجلسه على فرشه، ثم قال له: يا ابن طلحة! إن أبا محمد أذكرنا ما لم نزل نعرفك به من الفضل والأدب وحسن المذهب، مع قرابة الرحم ووجوب الحق، فلا تدعن حاجة في خاص أمرك ولا عامته إلا ذكرتها، قال: يا أمير المؤمنين ! إن أولى الأمور أن تفتتح بها حوائج وترجى بها الزلف ما كان لله عز وجل رضا، ولحق نبيه صلى الله عليه وسلم أداء، ولك فيه ولجماعة المسلمين نصيحة، وإن عندي نصيحة لا أجد بداً من ذكرها ولا يكون البوح بها إلا وأنا خال، فأخلني ترد عليك نصيحتي، قال: دون أبي محمد؟ قال: نعم، قال: قم يا حجاج، فلما جاوز الستر قال: قل يا بن طلحة نصيحتك، قال: الله أمير المؤمنين أمير المؤمنين، قال: الله، قال: إنك عمدت إلى الحجاج مع تغطرسه وتعترسه، وتعجرفه وبعده عن الحق وركونه إلى الباطل، فوليته الحرمين، وفيهما من فيهما، وبهما من بهما من المهاجرين والأنصار، والموالي المنتسبة الأخيار، أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبناء الصحابة، يسومهم الخسف، ويقودهم بالعسف، ويحكم فيهم بغير السنة، ويطؤهم بطغام أهل الشام، ورعاع لا روية لهم في إقامة حق، ولا إزاحة باطل، ثم ظننت أن ذلك فيما بينك وبين الله ينجيك، وفيما بينك وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم يخلصك إذا جاثاك للخصومة في أمته، أما والله لا تنجو إلا بحجة تقيمن لك النجاة، فابق على نفسك أو دع، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " كلكم راعٍ وكلكم مسئول عن رعيته " فاستوى عبد الملك جالساً وكان متكئاً، فقال: كذبت - لعمرو الله - ومنت ولؤمت فيما جئت به، قد ظن بك الحجاج ما لم يجد فيك، وربما ظن الخير بغير أهله، قم فأنت الكاذب المائن الحاسد، قال: فقمت والله ما أبصر طريقاً، فلما خلفت الستر لحقني لاحق من قبله، فقال للحاجب: احبس هذا، أدخل أبا محمد للحجاج، فلبثت ملياً لا أشك أنهما في أمري، ثم خرج الآذن فقال: قم يا ابن طلحة فادخل، فلما كشف لي الستر لقيني الحجاج وأنا داخل وهو خارج فاعتنقني وقبل ما بين عيني، ثم قال: إذا جزى الله المتحابين بفضل تواصلهم فجازاك الله أفضل ما جزى به أخاً، فوالله لئن سلمت لك لأرفعن ناظرك، ولأعلين كعبك، ولأتبعن الرجال غبار قدمك، قال: فقلت: يهزأ بي، فلما وصلت إلى عبد الملك أدناني حتى أجلسني مجلسي الأول، ثم قال: يا ابن طلحة لعل أحد من الناس شاركك في نصيحتك؛ قال: قلت: لا والله، ولا أعلم أحداً كان أظهر عندي معروفاً ولا أوضح يداً من الحجاج،ولو كنت محابياً أحداً بديني لكان هو، ولكن آثرت الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه والمسلمين، فقال: قد علمت أنك آثرت الله عز وجل، ولو أردت الدنيا لكان لك بالحجاج أمل، وقد أزلت الحجاج عن الحرمين لما كرهت من ولايته عليهما، وأعلمته أنك استنزلتني له عنهما استصغاراً لهما، ووليته العراقين لما هنا من الأمور التي لا يرحضها إلا مثله، وأعلمته أنك استدعيتني إلى التولية له عليهما استزادة له ليلزمه من ذمامك ما يؤدي به عني إليك أجر نصيحتك، فاخرج معه فإنك غير ذام صحبته مع تقريظه إياك ويدك عنده، قال: فخرجت على هذه الجملة.
قال أبو بكر بن أبي الأزهر: يرحضها يعني يغسلها، قال القاضي أبو الفرج: الرحض: الغسل، ومنه سميت الأخلية المراحيض، وجاء في خبر عن عائشة رضي الله عنها، ذكرت فيه الخروج إلى الأقضية للحاجة وذلك قبل أن يتخذ الناس المراحيض، ومن ذلك ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال وقد سئل عن الطبخ في قدور المشركين " أرحضوها بالماء: ومن ذلك الرحضاء في الحمى وذلك حين يعرق صاحبها، كما قيل فيها الثؤباء من التثاؤب، والمطواء من التمطي، والعرواء إذا أعرت، من قولهم عر يعرو، وقيل لها رحضاء إما لأن العرق مؤذن بانصرافها فكأنه أماطها وغسلها، وإما لأن المحموم إذا عرق شبه بالمغتسل بالماء، وقول عبد الملك لإبراهيم بن طلحة في هذا الخبر: أعلمت الحجاج في موضعين، كلام غير خارج على طريق الصحة والتحقيق، وذلك لأن الإعلام هو إلقاء الشيء الصحيح الذي يقع بمثله العلم للملقى إليه، فأما ما لا حقيقة له فلا يقال أعلمت أحداً به، ولو كان أخبرته مكان أعلمته لكان الكلام مستقيماً، لأن المعلم لا يكون إلا محقاً، والمخبر قد يكون محقاً ومبطلاً، ألا ترى أن رجلاً لو قال لعبيده: من أعلمني منكم بقدوم زيد فهو حر، فقال له قائل منهم: قد قدم زيد وهو كاذب، لم يعتق، ولو كان قال: من أخبرني مكان من أعلمني لعتق هذا المخبر، وكذلك لو أخبره مخبر بهذا منهم بعد أن يقوم العلم له لم يعتق، لاستحالة إعلام من قد علم، ولو أخبره لعتق لصحة إخبار المخبر بما كان قد أخبر به.
عمر رضي الله عنه يتمثل بشعرحدثنا محمد بن الحسين بن دريد، قال أخبرنا أبو حاتم، عن أبي عبيدة، عن يونس، قال: جاء عبد الرحمن بن عوف إلى باب عمر بن الخطاب فسمعه وهو يتمثل في بيته:
وكيف مقامي بالمدينة بعدما ... قضى وطراً منها جميل بن معمر
قال القاضي أبو الفرج: ويروي كيف ثوائي بالمدينة، ثم قال: يا يرفأ! من بالباب؟ قال: عبد الرحمن بن عوف، قال: أدخله، فلما دخل قال: أسمعت؟ قال: نعم قال: إنا إذا خلونا في منازلنا قلنا ما يقول الناس. قال القاضي أبو الفرج: هذا جميل بن معمر الجمحي من مسلمة الفتح، قتل على عهد عمر، وليس بجميل بن عبد الله بن معمر العذري الشاعر.
كلمات مأثورةحدثنا الحسين بن القاسم الكوكبي، حدثنا حريز بن أحمد بن داؤد، قال سمعت العباس بن المأمون قال: سمعت أمير المؤمنين المأمون يقول: قال لي علي بن موسى الرضا: ثلاثة توكل بها ثلاثة، تحامل الأيام على ذوي الأدوات الكاملة، واستيلاء الحرمان على المقدم في صنعته، ومعادة العوام لأهل المعرفة.
من زهد رجال الحديثحدثنا محمد بن قاسم الأنباري، قال: حدثني أبي، قال: حدثنا موسى بن عبد الرحمن بن مسروق الكندي الكوفي، قال: حدثنا محمد ابن المنذر الكندي - قال: وكان جاراً لعبد الله بن إدريس قال: حج الرشيد ومعه الأمين والمأمون فدخل الكوفة فقال لأبي يوسف: قل للمحدثين يأتونا يحدثونا، فلم يتخلف عنه من شيوخ الكوفة إلا اثنان عبد الله بن إدريس وعيسى بن يونس، فركب الأمين والمأمون على عبد الله بن إدريس فحدثهما بمائة حديث، فقال المأمون لعبد الله: يا عم! أتأذن لي أن أعيدها عليك ومن حفظي؟ قال: افعل، فأعادها كما سمعها فكان ابن إدريس من أهل الحفظ يقول: لو لا أنني أخشى أن ينفلت مني القرآن ما رويت العلم، يعجب عبد الله من حفظ المأمون، وقال المأمون: يا عم! إلى جنب مسجدك دارٌ إن أذنت لنا اشتريناها ووسعنا بها المسجد، فقال: ما بي إلى هذا حاجة قد أجزأ من كان قبلي وهو يجزئني، فنظر إلى قرح في ذراع الشيخ فقال: إن معنا متطبين وأدوية، أتأذن لي أن يجيئك من يعالجك؟ قال: لا، قد ظهر بي مثل هذا وبرأ، فأمر له بمال وجائزة فأبى أن يقبلها وصار إلى عيسى بن يونس فحدثهما، فأمر له المأمون بعشرة آلاف درهم، فأبى أن يقبلها فظن أنه استقلها، فأمر له بعشرين ألفاً، فقال عيسى: لا ولا إهليلجة ولا شربة ماء على حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولو ملأت لي هذا المسجد ذهباً إلى السقف، فانصرفا من عنده.
من الشعر الحكيمحدثنا القاسم بن داود بن سليمان أبو ذر القراطيسي، قال: حدثنا أبو بكر بن أبي الدنيا، قال: أنشدني الحسين بن عبد الرحمن:
إذا لم تتسامح بالأمور تعقدت ... عليك فسامح وامزج العسر باليسر
فلم أر أوقى للبلاء من التقى ... ولم أر للمكروه أشفى من الصبر
المجلس الرابع
إن من الشعر حكماً
حدثنا أحمد بن إسحق بن بهلول إملاءً في يوم الاثنين لخمس ليال بقين من شعبان سنة ست عشرة وثلثمائة، قال: حدثنا أبي، عن أبيه، عن أبي شيبة، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن من الشعر حكماً، وإن أصدق بيت تكلمت به العرب قول الشاعر: ألا كل شيء ما خلا الله باطل "
مذهب للمؤلف في الصغيرقال القاضي أبو الفرج: هذا البيت الذي حكاه النبي صلى الله عليه وسلم عن قائله من الشعراء هو للبيد بن ربيعة، افتتح به كلمة فقال في أولها:
ألا كل شيءٍ ما خلا الله باطل ... وكل نعيم لا محالة زائلُ
وبعده:
وكل أناسٍ سوف تدخل بينهم ... دويْهيةٌ تصفرُّ منها الأنامل
وقد روى أن عثمان رضوان الله عليه، لما سمع قوله: وكل نعيم لا محالة زائل، قال كذب، نعيم أهل الجنة لا يزول، وهذا القول من عثمان يدل على أن مذهب القوم في العموم هو جارٍ في لغتهم على الشمول عند تجرده واستغراق الجنس بإطلاق لفظه.
وأما قول لبيد في البيت الآخر: دويهية على التصغير، فمن الناس من يقول هو تصغير معناه التكبير، وجعله مثبتو الأضداد في اللغة من الأضداد، وقال بعضهم: بل هو على تصغيره، وإنما أريد به أنه إذا كان الصغير منه يبلغ هذه المبلغ، ويؤثر هذه الأثر فكبيره أعظم وأبلغ، ولي في هذا مذهب استخرجته بنظري، وما علمت أحداً سبقني إليه ولا تقدمني فيه، ولكن الله الذي يؤتي الحكمة من يشاء نبهني عليه، وهو أن الاسم المصغر في ذاته وقلة أجزائه فالحجيرة الصغيرة التي ليس حجرة كبيرة، وأما المتعلق بشيء يسير فكقولك: أتيتك قبيل العصر أو بعيد الفجر، فتبين أن المتقدم من الزمان في قولك قبيل يسير قليل، والمتأخر منه في قولك بعيد قصير ليس بطويل، ونحو هذا قديديمة وريئة في قدام ووراء يجري الأمر فيه من جهة الأمكنة مجراه فيما قدمناه من باب الأزمنة كما قال الشاعر:
قديديمةُ التّجريبِ والحْلمِ أنني ... أرى غفلاتِ العيشِ قَبلَ التّجارِبِ
فظن من قال إن التصغير في هذا الباب تكبير لما رأى أن القصد من قائلة الإشعار بأمر عظيم وخطب كبير جسيم، ولو تأمل هذا الظان الأمر في هذا لبان له أن الصغير على صغره، فإنه نتج كبيراً وأدى إليه عظيماً في نفعه أو ضرره، وكل واحد من الأمرين على حقيقته في نفسه، وخصوصيته في جنسه، فالدويهية هنا صغيرة جرت أمراً كبيراً، كما قال:
ربَّ كبيرٍ هَاجهُ صغيرٌ ... وفي البُحُور تغرقُ النُّحورُ
وقول القائل من المحدثين:
لا تحقرنَّ سبيباً ... كم جَرَّ أمراً سُبَيْبُ
وكان بعض من يتعاطى الأدب، ويدأب في طلب المعاني واستنباط لطيفها سمع مني معنى ما ذكرته في هذا الفصل، بعد أن طعن على من قدمت له الحكاية عنه في هذا الباب، وقال: كيف يكون الصغير كبيراً؟ وإذا جاز هذه جاز منه أن يصح قول من قال: الداء هو الدواء السقم هو الشفاء، وهذا مما عبرت عن معناه بلفظي دون لفظ المتكلم به، لأنني لم أصمد لحفظه، ولأنه كان غير بليغ في نفسه ولا مستقيم في ترتيبه، فجليت معناه بلفظ لم آل في إيضاحه وتهذيبه.
وقال هذا القائل: إن الذي أجتبيته في هذا غير مخالف للقول الثاني الذي قدمت حكايته عن قائله، فكان من جوابي لهذا القائل أن قلت له: إن الفرق بين قولي وقول من رغبت عن قوله وتسبقني إلى موافقته، أن هذا الذي حكيت قوله، يزعم أن الصغير المذكور إذا جر إلى ضرر فكبيره أبلغ في الضرر منه، وأنا ذهبت إلى أن هذا التصغير يؤثر تأثيراً كبيراً من حيث كان جنسه يؤثر نفعاً أو ضراً بكيفيته دون كميته، وضربت لهذا المخاطب مثلاً قربت هذا الفصل عينه حين بعد عنه إدراكه، إذ كان الفرق بين هذين القولين لطيفاً جداً، وكان بينهما من بعض الوجوه تناسب وشبه تقارب. فقلت له: لما كان من الأشياء ما يكون عند قليل أجزائه منفعة جسيمة أو مضرة عظيمة، كالدرياق والسم بولغ في العبارة عن المنافع بها لاشتهار هذا المعنى، كقول الحباب بن المنذر: " أنا جذيلها المحكك وعذيقها المرجب " ، وفي الأخبار عن الجنس الضار قول لبيد: دويهية تصفر منها الأنامل، وجملة الفصل بين قولي وقول من خالفته وتوهمت أني وافقته أنه عني بالكمية وعنيت بالكيفية، وقد يكون من الأشياء ما يؤثر قليلة، وينتفي تأثيره عن كبيره، كالجروراء من الحيات والصرد والقرقس والبعوض من الجنس الواحد، وكنوع من الحيات ذوات الأجسام اللطيفة وعظيم ضررها، وقصور الحية الكبيرة المسماة الحفاث في ذلك عنها وإن كانت أعظم خلقاً وأشنع منظراً، وقد قال أهل العلم بصناعة الطب: إن السقمونيا ينتفع بتناول مقدار فيه يسير ذكروه، ويقاربه في النفع والضر ما قاربه من الأجزاء في المبلغ والقدر، وأنه إذا بلغ من الكثرة مقداراً متفاوتاً لم يضرر كبير ضرر، ولم يظهر في أخذه ما يظهر بتناول قليلة من الأثر في نفع ولا ضرر، ولقد حدثني بعض متفقهي القضاة إن قوماً دسوا كثيراً من السقمونيا في بعض المطاعم الحلوة لرجل كانوا يعاشرونه، وكان معروفاً بكثرة الأكل، وأنه أكل جميعه وانصرف عنهم، فندموا على ما كان منهم، وأشفقوا على هذه الرجل، وعلموا على الفحص عن أمره واستعلام خبره، فجاءهم يتأوه ويقول لهم: أي شيء أطعمتموني فقد عرض لي قولنج برح بي. وأما قول هذا المخاطب لي: كيف يكون الداء دواء والسقم شفاء؟ فإن هذا قد يوجد معنى ويستعمل لفظاً، وقد ظهر لعامة الناس وخاصتهم أن الداء المسمى خمار العارض عن الشراب المسكر يشفي منه شرب شيء مما تولد الخمار عنه، كما قال الشاعر:
وصرعة مخمورٍ رفعت بقرقفٍ ... وقد صرعتَني قبل ذلك قرقفُ
فقام يداوي صرعتي متعطفاً ... وكنت عليه قبلها أتعطف
يموتُ ويحيا تارةً بعد تارة ... وتُتلفنا هذي المدام وتخلف
إذا ما تسلقنا من الكأس سلوة ... تقاضى الكرى منها الذي نتسلف
وقال آخر:
تداويت من ليلي بليلي من الهوى ... كما يَتَدَاوى شاربُ الخمرِ بالخَمْرِ
وقال أبو نواس:
دع عنك لومي فإن اللومِ إغراءُ ... وداوني بالتي كانتْ هي الداء
أخذه من قول الأعشى:
وكأسٍ شربتُ على لَذّةٍ ... وأخرى تداويتُ منها بها
لكي يعلمَ الناسُ أني امرؤٌ ... أتيتُ المعيشة من بابها
وقال جرير:
يرمين من خلَلِ السُّتور بأعينٍ ... فيها السِّقام وبُرْءُ كلِّ سقيمِ
وكنت في الحداثة أنشأت كلمة مسمطة على نحو قصيدة مدرك الشيباني في عمرو النصراني فكان مما ذكرته في كلمتي هذه عند صفة عين إنسان نَعته ونسبت الكلمة به:
سُقم أوى أحسن عين تطرفُ ... تقوي به والقلوب تُضْعِفُ
كالسم في الأفعى تَقِي وتحتفُ ... تحيا به وبالنفوس تتلف
ثم قلت:
دواء من أقصده بسُقمه ... تكراره نحو مرامي سهمهِ
كالأفعوان يشتفي من سُمِّهِ ... بشُرب درياقِ كربهِ لَحْمِهِ
وقلت أيضاً من كلمته:
وشفائي بسقم مقلة ظبيٍ ... قدّ قلبي منه بأحسن قَدِّ
سُقمها لي شفاءُ دائِي إذا ... جادت وداءٌ إذا تصدَّتْ لصدِّ
وأنا استغفر الله من مساكنة ما يشغل عن عبادته، ومما يضارع ما وصفنا في هذا الفصل من وجه، قول ابن الرومي:
عيني لعينك تُبْصِرُ مقتلُ ... لكنّ عينكَ سهم حتفٍ مُرْسَلُ
ومن العجائِبِ أن مَعْنىً واحداً ... هو منك سهمٌ وهو مِنِّي مقتل
وليس بمنكر أن يكون الشيء يدوي شيئاً ويداوي غيره، وينتفع به في بعض ويستضر في بعض.
وهذا أفشى وأكثر وأبين وأظهر من أن نحتاج إلى الإطناب في شرحه وضرب الأمثال له، وقد حكى مما يدخل في هذا الباب أن بعض المترفين أسف إلى طريقة المتصوفة، واستشرف لصحبتهم والاختلاط بهم وملابستهم، فشاور في هذا بعض مشيختهم فرده عما تشوف إليه من هذا وحذره من التعرض له. فأبت نفسه إلا إجابة ما جذبته الدواعي إليه وعطفته الخواطر عليه، فمال إلى فريق من هذه الطائفة فعلق بهم واتصل بجلتهم، ثم صحب جماعة منهم متوجهاً إلى الحج فعجز في بعض الطريق عن مسايرتهم وقصر عن اللحاق بهم فمضوا وتخلف عنهم، واستند إلى بعض الأميال إرادة الاستراحة من الإعياء من الكلال، فمر به الشيخ الذي شاوره فيما حصل فيه قبل أن يتسنمه فنهاه عنه، وحذره منه، فقال هذا الشيخ مخاطباً له يقول:
إن الذين بخيرٍ كنت تذكرُهُمْ ... قَضَوا عليك وعنهم كنتُ أنهاكا
فقال له: فما أصنع الآن؟ فقال له:
لا تطلبن حياةً عند غيرهم ... فليس يحييك إلا من توفاكا
واستقصاء هذا الباب وما يضاهيه ويتشعب منه يطول، ولا يليق بهذا المجلس الزيادة عليه، وقد يتجه في التصغير أن يكون أتى به تنبيهاً على أنه قد يأتي صغيراً ثم ينمى فيصير كبيراًن أو أن يضامه غيره فيصير قليله كثيراً، كما قيل:
رب كبير هاجه صغير
وكما قيل:
ولا تحقرن سبيباً ... كم جر أمراً سُبيب
وقيل: رب محنةٍ حدثت عن لحظة، ورب حرب جنيت من لفظة.
وقد قالوا: القليل إلى القليل كثير، والذود غل الذود إبل وقد يملأ القطر الإناء فيفعم والشر تحقره وقد ينمى، وقد يفنى الجزء بعد الجزء الجملة، والشيء يتبع بعضه بعضاً، وقد يؤدي انقطاع الحبة من السلك إلى انقطاع سائر ما فيه، ونزع الحجر من سور أو جدار يؤدي إلى تهافت باقيه، وقد قالوا: العصا من العصية، وفسره بعضهم أن الفرد ينبت وينشأ ليناً صغيراً، ثم ينمى فيستطيل ويغلظ ويشتد ويصلب.
وقيل: بل المعنى إن العصا نتجت من أمها العصية، والعصا هي الدابة التي أشار إليها قصير على جذيمة بركوبها عند ظهور علامة ذكرها، إذ كانت على حد من الإحضار والسرعة والإهذاب، والجودة تفضل به ما هو من جنسها، وقد يكون الكثير من القليل، والجمار من الفسيل والفنيق من الفصيل.
؟
المحارب الشجاعحدثنا محمد بن الحسن بن دريد، قال: أخبرنا أبو معاذ خلف بن أحمد المؤدب، عن أبي إسحق الزيادي، قال: حدثني رجل من العرب قال: كان بيننا وبين قوم حرب فلقونا فهزمناهم فإذا فتى منهم قد صبر فجعل لا يحمل على ناحية من معسكرنا إلا كشفها وهزمها، ثم احتويناه بأرماحنا فأشفقنا عليه فعرضنا عليه الأمان. فقال:
أذل الحياة وذل الممات ... وكلاً أراه طعاماً وبيلاً
فإن كان لا بد من واحد ... فسيري إلى الموت سيراً جميلاً
ثم حملنا عليه فقتلناه فإذا هي امرأة.
حسن الظن باللهحدثنا أبو القاسم بن داود أبو ذر القراطيسي، قال: حدثنا أبو بكر بن أبي الدنيا قال: حدثني الحسن بن عبد الرحمن: أن وزير الملك نفاه الملك لموجده وجدها عليه فاغتم لذلك غماً شديداً فبينما هو ذات ليلة في بيت له إذ أنشده رجل كان معه:
أحسن الظن بربّ عَوَّدّكْ ... حسناً بالأمس وسَوّى أَوَدَكْ
إن ربّاً كان يكفيك الذي ... كان بالأمس سيكفيك غَدَك
تعليق على خبرهكذا في الخبر إذ أنشده فبينا هو، وكان الأصمعي ينكر الإتيان باذ في هذا الباب ويستخطئ القائل: بينا أنا جالس إذ أقبل فلان ويرى أن الكلام صحيح: بينا أنا جالس أقبل فلان، وكان سيبويه وغيره من أهل العلم بالعربية يرون ذلك جائزاً، وقد جاء في الكلام والأخبار كثيراً، وإذ من حروف المفاجأة الدالة عليها.
الجليس الصالح
حدثنا إبراهيم بن محمد بن عرفة الأزدي، قال: حدثنا أبو العباس المنصوري، عن القثمي، عن مبارك الطبري، قال: سمعت أبا عبيد الله، يقول سمعت المنصور يقول للمهدي: يا أبا عبد الله لا تجلس مجلساً إلا ومعك فيه رجل من أهل العلم يحدثك، فإن محمد بن مسلم بن شهاب قال: إن الحديث ذكر يحبه الذكور من الرجال ويكرهه مؤنثوهم، قال المنصور: صدق أخو بني زهرة.
وقال آخر:
إن المشيب وما بدا في عارضي ... صَرَفَ الغواني فانصرفتُ كريما
وسخوتُ إلا عن جليسٍ صالحِ ... حسنِ الحديث يزيدني تعليما
قال القاضي:
ولقد سئمتُ مآربي ... فكأن طيِّبُها خبيثُ
إلا الحديث فإنّه ... مثل اسمه أبداً حديث
وحدثنا محمد بن مزيد الخزاعي الأزهري: قال: دخلت إلى سر من رأى فقيل إن بها رجلاً يكنى أبا الفضل ويعرف بالعباس بن أبي العبيس بن حمدون النديم، له أدب ومعه ظرف وهو محتاج إلى مثلك يعاشره، فاكتب إليه أبياتاً فكتبت إليه:
أبا الفضل يا من ليس تحصى فضائله ... ومن ماله في الخلق خلق يعادله
أتقبل خلاًّ جاء يتبعُ شوقه ... إليك على علم بأنك قابله
يرحل عنك الهم عند حلوله ... ويُلهيك بالآداب حين تساجله
يكسر طمح العين من لحظاته ... ويغمض منه الجفن حين تخاتله
ويشرب ما تسقيه غير مماكس ... إلى أن يرى والرأس تهتز مائله
فحينئذ تثنى إلى الباب رجله ... وإن لم يكن بالباب ما هو حامله
فكتب إلي في جوابها من ساعته:
أتانا مقال أوجب الشكر حامله ... ودل على فضل الذي هو قائله
ومكن ودَّاً قبل تمكين رؤيةٍ ... ومن قبل ما لاحت بذاك مخايِله
سنقبل ما أهداه من صفو بره ... ونبذل منه فوق ما هو باذله
ونقصد أسبابَ التهاجر بيننا ... فنقطعها مذمومةً ونواصله
فإن دام دمنا لم نرد بدلاً به ... وإن زال عن عهد فلسنا نزايله
وتحت هذه الأبيات: تفضل - جعلت فداك - بالمصير إلينا من ساعتك، فصرت إليه فوجدته فوق الوصف، فلم نزل نتعاشر طول مقامي هناك إلى أن انحدرت.
من أين لك هذه الجبة؟
حدثنا محمد بن القاسم الأنباري، قال: حدثنا عمر بن شبة، قال: حدثني حسين الخليع، قال: كنا في حلقة فجاءنا أبو نواس وعليه جبة خز، فقلنا له: من أين لك هذه الجبة؟ فكتمنا، فترجمنا خبرها حتى وقع لنا أنها من جهة مؤنس بن عمران بن جميع، فانسللت من الحلقة وصرت إلى مؤنس فوجدت عليه جبة خز جديد، فقلت له: كيف أصبحت يا أبا عمران؟ فقال: بخير، صبحك الله بخير، فقلت:
إن لي حاجة فرأيك فيها ... أنا فيها وأنت لي سيان
فقال: اذكرها على بركة الله، فقلت:
جبة من جبابك الخز كيما ... لا يراني الشتاء حيث يراني
فقال: بسم الله خذها، وخلعها فلبستها ورجعت إلى الحلقة، فقال لي أبو نواس من أين لك هذه الجبة؟قلت: من حيث جبتك.
يستعيذ بالله من السبعحدثنا محمد بن يحيى الصولي، قال: حدثني أحمد بن إسماعيل الخصيب، قال: كان جميل بن محمد بن جميل إذا أراد الركوب في كل غداة يقول: اللهم إني أعوذ بك من السبع، فقيل له: أنت تركب إلى الكرخ، فأي سبع في الكرخ، فقال: لو أردت ذلك لقلت: السبع، ولكني أستعيذ من سبع خصال، فأقول: اللهم إني أعوذ بك من السبع وأضمرها، وهي اللهم إني أعوذ بك من السعي الخائب، والبربخ العائب، والحائط المائل، والميزاب السائل، ومشحمات الروايا، والمطايا التي تحمل البلايا، والتهور في البلاليع والركايا.
قال القاضي: قد تخفف العرب السبع فتقول السبع كما يقول عجز وعجز وقد قرئ وما أكل السبع، بتسكين الباء وجاءت هذه القراءة في بعض الروايات عن عاصم بن أبي النجود، وقوله في هذا الخبر الميزاب هو الذي تخطئ في اللفظ العامة فتقول مزراب، والميزاب مأخوذ من قولهم وزب الماء يزب إذا سال أو جرى، وأما المزراب فهو السفينة.
المجلس الخامس
صنائع المعروف تقي مصارع السوء
حدثنا محمد بن حمدان بن سفيان الطرائفي سنة أربع عشرة وثلثمائة قال: حدثنا محمد بن العباس التنيسي، قال: حدثنا عمر بن أبي سلمة، عن صدقة بن عبد الله الدمشقي، عن الأصبغ، عن بهز بن حكيم، عن أبيه، عن جده، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم تسليماً: " صنائع المعروف تقي مصارع السوء، وصدقة السر تطفئ غضب الرب "
التعليق على الحديثقال القاضي: وفي هذا الخبر من التنبيه على فضل اصطناع المعروف، وصدقة السر التي يراد الله عز وجل بها، ويطمئن المتصدق بها إلى الإيمان باطلاع عليها وإخلاصها من الرياء المبطل لثوابها ما يبعث كل ذي لب نصح لنفسه وأراد السعادة لها، والنجاة من هول عظيم المكروه بها، على الرغبة فيه والمسابقة إليه، فأعظم بالنعمة على من دفعه الله عز وجل لطاعته، ووقاه شح نفسه " ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون " وقد ورد في هذا المعنى من الترغيب في البر والحض على ما فعل ما عاد بجزيل الأجر وجميل الذكر، ما يطول شرحه ويتعب جمعه، مسنداً ومقطوعاً، ومرسلاً وموصولاً، ونحن نأتي بطرف منه كاف لمن تشوف إليه، وشاف لمن أراد لنفسه الصلاح به فمما جاء في هذا المعنى ما حدثنا إبراهيم بن عبد الصمد بن موسى الهاشمي، قال: حدثني أبي، قال: حدثني جدي محمد بن إبراهيم الإمام وكان يجلس لولده وولد ولده في كل يوم خميس فيعظهم ويحذرهم، فقال: أرسل إلي أمير المؤمنين المنصور بكرةً واستعجلني الرسول، فظننت ذلك لأمر حدث فركبت إذ سمعت وقع الحافر، فقلت للغلام: انظر من هذا؟ فقال: هذا أخوك عبد الوهاب، فرفقت في السير فلحقني فسلمت عليه وسلم علي فقال: أتاك رسول هذا؟ قلت: نعم، فهل أتاك؟ قال: نعم، فقلت: ففيم ذاك ترى؟ قال: تجده اشتهى خلاً وزيتاً سوداً الغداة فأحب أن نأكل معه، فقلت: ما أرى ذاك، وما أظن هذا إلا لأمر قال: فانتهينا إليه فدخلنا فإذا الربيع واقف عند الستر، وإذا المهدي ولي العهد في الدهليز جالس، وإذا عبد الصمد بن علي وداود بن علي وإسماعيل بن علي وسليمان بن علي وجعفر بن محمد بن علي بن الحسين، وعبد الله بن حسن بن حسن والعباس بن محمد فقال الربيع: اجلسوا مع بني عمكم، قال: فجلسنا ثم دخل الربيع وخرج، فقال المهدي: ادخل أصلحك الله، ثم خرج فقال: ادخلوا جميعاً، فدخلنا فسلمنا وأخذنا مجالسنا، فقال للربيع: هات دوياً يكتبون فيه، فوضع بين يدي كل منا داوة وورقاً، ثم التفت إلى عبد الصمد بن علي، فقال: يا عم حدث ولدك وإخوتك وبني أخيك بحديث البر والصلة، فقال عبد الصمد: حدثني أبي، عن جدي عبد الله بن العباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " إن البر والصلة ليطولان الأعمار ويعمران الديار ويثريان الأموال وإن كان القوم فجارا " ثم قال: يا عم الحديث الآخر، فقال عبد الصمد بن علي: حدثني أبي، عن جدي عبد الله بن العباس، فقال قال النبي صلى الله عليه وسلم: " إن البر والصلة ليخففان سوء الحساب يوم القيامة، ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم: " والذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل ويخشون ربهم ويخافون سوء الحساب "
فقال المنصور: يا عم الحديث الآخر، فقال عبد الصمد، حدثني أبي، عن جدي، عن النبي صلى الله عليه وسلم: " أنه كان في بني إسرائيل ملكان أخوان على مدينتين وكان أحدهما باراً برحمه عادلاً مع رعيته، وكان الآخر عاقاً برحمه جائراً على رعيته، وكان في عصريهما بنيٌ فأوحى الله عز وجل إلى ذلك النبي أنه قد بقي من عمر هذا البار ثلاث سنين، وبقي من عمر العاق ثلاثون سنة، فأخبر ذلك النبي رعية هذا ورعية ذلك فأحزن ذلك رعية العادل، وأحزن ذلك رعية الجائر، فقال: ففرقوا بين الأطفال من الأمهات وتركوا الطعام والشراب، وخرجوا إلى الصحراء يدعون الله عز وجل أن يمتعهم بالعادل ويزيل عنهم الجائر فأقاموا ثلاثاً، فأوحى الله عز وجل إلى ذلك النبي صلى الله عليه وسلم: " أخبر عبادي أني قد رحمتهم وأجبت دعاءهم، فجعلت ما بقي من عمر هذا البار لذلك الجائر، وما بقي من عمر الجائر لهذا البار، قال: فرجعوا إلى بيوتهم ومات العاق لتمام ثلاث سنين وبقي العادل فيهم ثلاثين سنة، ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم " وما يعمر من معمر ولا ينقص من عمره إلا في كتاب إن ذلك على الله يسير " ، ثم التفت المنصور إلى جعفر بن محمد، فقال: يا أبا عبد الله، حدث إخوتك وبني عمك بحديث أمير المؤمنين علي، عن النبي صلى الله عليه وسلم في البر، فقال جعفر بن محمد: حدثني أبين عن جدي، عن أبيه، عن علي ابن أبي طالب رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ما من ملك يصل ذا قرابته ويعدل على رعيته إلا شد الله ملكه، وأجزل له ثوابه وأكرم مآبه وخفف حسابه " .
حديث الحيةحدثنا الحسين بن القاسم بن جعفر الكوكبي، قال: حدثنا علي بن حرب الطائي، قال: حدثني جعفر الطائي قرابة القحاطبة من أهل جزيرة مهروبان، قال: حدثنا أبان بن عبد الجبار، قال: كنا عند سفيان بن عيينة وهو يحدثنا إذ التفت إلى شيخ جنبه فقال: يا أبا عبد الله! حدثنا حديث الحية.
فقال الشيخ: حدثني محمد بن عتبة، قال: خرج حميري بن عبد الله إلى مقصد له، فلما أقفرت به الأرض انسابت حية بين قوائم دابته فقامت على ذنبها، وقالت: آوني آواك الله في ظل عرشه، يوم لا ظل إلا ظله، فقال لها: ومم آويك؟ قالت: من عدو لي قد غشيني يريد أن يقطعني إرباً إرباً، قال لها: وأين آويك ؟ قالت: في جوفك إن أردت المعروف، قال لها: من أنت؟ قالت: من أهل قول لا إله إلا الله، قال لها: فهاك جوفي، فصيرها في جوفه، قال: فإذا هو بفتى قد أقبل ومعه صمصامة له وقد وضعها على عاتقه، فقال له: أيها الشيخ أين الحية التي استظلت بكنفك وأناخت بفنائك؟ قال: ما رأيت شيئاً، قال: عظمت كلمةً خرجت من فيك، قال: ما جاء منك أعظم، تراني أقول ما رأيت شيئاً، وتقول لي مثل هذا؟ فولى الفتى مدبراً فلما توارى قالت الحية: يا عبد الله انظر هل يراه بصرك أو يأخذه طرفك؟ قال: ما أرى شيئاً، قالت: اختر مني إحدى منزلتين إما أنكث قلبك نكثة فأجعله رميماً أو أرث كبدك رثاً فأخرجه من أسفلك قطعاً، قال لها: والله ما كافأتني يرحمك الله، قالت له: فما اصطناعك بالمعروف إلى من لا يعرف ما هو، لو لا جهلك، وقد عرفت العداوة التي كانت بيني وبين أبيك قبل، وقد علمت أنه ليس عندي مال أعطيكه ولا دابة أحملك عليها، قال: أردت المعروف، قال: فالتفت فإذا بفيء جبل قال: فإن كان لا بد ففي هذا الجبل، ثم نزل يمشي فإذا هو في الجبل بفتى قاعد كأن وجهه القمر ليلة البدر، فقال له الفتى: يا شيخ مالي أراك مستبسلاً للموت آيساً من الحياة؟ فقال: من عدو في جوفي آويته من عدوه فلما صار في جوفي وقص عليه القصة، فقال له الفتى أتاك الغوث، ثم ضرب بيده إلى ردنه فأخرج منه شيئاً أطعمه إياه فاختلجت وجنتاه، ثم أطعمه ثانية فوجدته تمخضاً في بطنه، ثم أطعمه الثالثة فرمى بالحية من أسفله قطعاً، فقال له حميري: من أنت رحمك الله، فما أحد علي أعظم منة منك؟ قال له: أو ما تعرفني أنا المعروف وأنه اضطربت ملائكة سماءٍ سماءٍ من خذلان الحية إياك فأوحى الله عز وجل إلى أن يا معروف أغث عبدي، وقل له: أردت شيئاً لوجهي فآتيتك ثواب الصالحين، وأعقبتك عقبى المحسنين ونجيتك من عدوك.
الجار إذا أراد شين جاره
حدثنا محمد بن الحسن بن دريد: قال: أخبرنا أبو حاتم، قال: أمير أخبرنا عمارة بن عقيل، قال: " كان الرجل فيما مضى إذا أراد شين جاره أو صاحبه طلب حاجته إلى غيره "
نادرة بين الحجاج وخارجيحدثنا إبراهيم بن محمد بن عرفة الأزدي، قال: حدثنا محمد بن عيسى الأنصاري، عن عبيد الله بن محمد التيمي، قال: أتي الحجاج برجل متهم برأي الخوارج، فقال له الحجاج: أخارجي أنت؟ قال: لا والذي أنت بين يديه غدا أذل مني بين يديك اليوم ما أنا بخارجي، فقال الحجاج: إني يومئذ لذليل. وأطلقه.
مال من يأخذ؟
حدثنا أحمد بن العباس العسكري: قال: حدثني محمد بن عبد الله بن صبيح، قال: ولى الحجاج رجلاً من الأعراب بعض المياه، فكسر عليه بعض خراجه فأحضره ثم قال له: يا عدو الله! أخذت مال الله، قال: فمال من آخذ؟ أنا والله مع الشيطان منذ أربعين سنة أن يعطيني حبة ما أعطاني.
لو كانت الجنة بيدهحدثنا عمر بن الحسن بن علي بن مالك الشيباني: قال: أخبرنا المنذر بن محمد، قال: حدثنا الحسن بن محمد بن علي، قال: حدثنا سليم ابن جعفر الهاشمي، عن الرضا رضي الله عنه، قال: حدثني أبي، عن أبيه، عن جده، قال علي بن الحسين: إن لأستحيي من الله عز وجل أن أرى الأخ من إخواني فأسأل الله عز وجل له بالجنة وأبخل عليه بالدنيا، فإذا كان يوم القيامة قيل لي: لو كانت الجنة بيدك لكنت بها أبخل وأبخل وأبخل.
جزاء الإحسانحدثنا محمد بن يحيى الصولي، قال: حدثنا محمد بن زكريا بن دينار الغلابي، قال: حدثنا عبد الله بن الضحاك، قال: حدثني الهيثم بن عدي، عن عوانة، قال: أتى الحجاج بأسارى من أصحاب قطري من الخوارج فقتلهم إلا واحداً، كانت له عنده يد وكان قريباً لقطري، فأحسن إليه وخلى سبيله، فصار إلى قطري فقال له قطري: عاود قتال عدو الله الحجاج، فقال هيهات، غل يداً مطلقها واسترق رقبةً معتقها، ثم قال:
أأقاتل الحجاج عن سلطانه ... بيد تقر بأنها مولاته
إني إذاً لأخو الدناءة والذي ... طمت على إحسانه جهلاته
ماذا أقول إذا وقفت إزاءه ... في الصف واحتجت له فعلاته
أأقول جار علي لا، إني إذاً ... لأحق من جارت عليه ولاته
وتحدث الأقوام أن صنائعاً ... غرست لديّ فحنظلت نخلاته
هذا وما ظني بحينٍ أنني ... فكيم لمطرقُ مشهدٍ وعلاته
كرم أبي أيوب الموريانيحدثنا محمد بن القاسم الأنباري، قال: حدثنا محمد بن المرزبان، قال: حدثنا عمر بن شبة، قال: حدثنا علي بن إسماعيل بن هيثم، قال: قال ابن شبرمة: زوجت ابني على ألفي درهم فلم اقدر عليها ففكرت فيمن أقصده فوقع في قلبي أبو أيوب المورياني فدخلت عليه فشرحت له خبري فقال: فلك ألفان، فلما نهضت لأقوم، قال: فالمهر ألفان فأين الجهاز؟ فلك ألفان للجهاز، فذهبت لأقوم فقال: المهر والجهاز فأين الخادم؟ فلك ألفان للخادم، فذهبت لأقوم، قال: فالشيخ لا يصيب شيئاً قال: فلك ألفان فلم أزل أقوم ويقعدني حتى انصرفت من عنده بخمسين ألفاً.
مثل يضربه الأعمشحدثنا إبراهيم بن عبد الصمد الهاشمي، ويزداد بن عبد الله بن يزداد المروزي واللفظ له، قال: حدثنا عبد الله بن إدريس، قال: سئل الأعمش عن حديث فامتنع منه، فلم يزالوا به حتى استخرجوه منه، فلما حدث له ضرب مثلاً، فقال: جاء قفاف، إلى صيرفي بدارهم يزينه إياها، فلما ذهب يزنها وجدها تنقص سبعين، فقال:
عجبت عجيبة من ذئب سوء ... أصاب فريسة من ليث غاب
فقف بكفه سبعين منها ... تنقاها من السود الصلاب
فإن أخدع فقد نخدع وتؤخذ ... عتيق الطير من جو السحاب
تعليق نحوي
قال القاضي أبو الفرج: أسكن في هذا البيت فقد تخدع والعرب إنما تسكن هذا ونحوه في كلامها إذا دخل عليه جازم، ومتى لم يدخل عليه جازم يجزمه ولا ناصب ينصبه فتسكينه إذا وصل بكلام بعده خارج عن الفصيح المعروف في كلام العرب، وينبغي أن يكون هذا مرفوعاً على أصله، ولما لم يمكن هذا الشاعر تحريكه لئلا ينكسر وزن البيت الذي قاله أسكنه، وأقرب ما يعتذر له به أنه عمل على السكوت عليه ونيته الرفع فيه، وقد روى مثل هذا الوجه المستقبح في أبيات روتها العلماء، من ذلك قول الشاعر:
أقول شييهات بما قال عالمٌ ... بهن ومن أشبه أباه فما ظلم
فهذا مما يستحق تحريكه بالفتح بناء لا إعراب، فيقال: ومن أشبه أباه، وما بهذا الشاعر ضرورة إلى ما أتاه لنه لو قال: ومن يشبه أباه فجزم بحرف الشرط إذ هو من باب الجزاء لكان مصيباً محسناً، وقال آخر:
شكونا إليه خراب السواد ... فحرم علينا لحوم البقر
فهذا حمل نفسه على هذا الوجه للضرورة، ولو كان قال: فحرم فينا لكان مصيباً.
وقد ذكر سيبويه في كتابه من هذا الباب طرفاً، وروى بيت امرئ القيس:
فاليوم أشرب غير مستحقب ... إثماً من الله ولا واغل
فأنكر هذا بعض أصحابه وقيل: إن الرواية الصحيحة فيه فاليوم فاشرب، أو فاليوم أسقي، وروى قول الفرزدق:
وقد بدا هنك من المئرز
قال من أنكر هذا: إنما هو: وقد بدا ذاك، وقد روى عن أبي عمرو أنه قرأ بهذه اللغة في مواضع من القرآن منها " فتوبوا إلى بارئكم " ويأمركم، وأنلزمكموها، فمن الرواة عنه من رواه بالسكون خالصاً وأجاز فيه وفي نظائره مثل هذا، كما قال الشاعر:
سوف أزحلقك غداً أو بعد غد
وروى أن هذا أتى مخففاً لكثرة الحركات فيه، فاحتج بعض أصحابه بأن الحروف التي أسكنها مخصوصة بجواز حذف الحركة بمعنى يخصها دون غيرها، وليس هذا موضع الاشتغال به، وأنكر بعض رواة أبي عمرو هذا، وذكر أنه كان مختلس الحركة فيظن من لا يعلم أنه أسكن، وهذا مذهب سيبويه في تأويل هذه القراءة وأما قول الشاعر في الخبر الذي ذكرناه عن الأعمش: فقد تخدع وتؤخذ، فإن قائله لو ضم تخدع وجزم وتؤخذ لكان قد أتى بوجه معروف من كلام العرب، وقد قرأ جمهور القراء في القرآن ما منزلته في الإعراب منزلته، وذلك أن يرد الفعل الثاني على موضع الفاء الداخلة على الفعل الأول، وذلك قول الله عز وجل: " فأصدق وأكن من الصالحين " فكره من قرأ ذلك مخالفة رسم المصحف إذ لا واو فيه، وله في العربية وجه مفهوم، ومن ذلك قول أبو داؤد الأيادي:
فأبلوني بليتكم لعلي ... أصالحكم فأستدرج نويّا
وكان أبو عمرو يختار أن يقرأ وأكون بإثبات الواو، وكان الأوجه عنده في العربية، وزعم أن الواو حذفت منه في الخط كما حذفت من كلمن، وليس الأمر عندنا على ما ذكر في هذا ففي الكلمتين فرق ظاهر، يقتضي الإثبات حيث أثبتت، والحذف حيث حذفت، وليس هذا موضع ذكره، وسيأتي في موضعه من كتبنا المؤلفة في علوم تنزيل القرآن وتأويله إن شاء الله.
المجلس السادس
خبأت هذا لكحدثنا الحسين بن محمد بن عفير الأنصاري، قال: حدثنا أبو الخطاب زياد بن يحيى الحساني، قال: حدثنا حاتم بن وردان، عن أيوب، عن ابن أبي مليكة، عن المسور بن مخرمة، قال: قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم أقبية، فقال لي أبي مخرمة: اذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لعله أن يعطينا منها شيئاً، قال: فأتيناه فسمع كلام أبي على الباب قال: فخرج إلينا وفي يده قباء وهو يري أبي محاسنه ويقول: خبأت هذا لك.
التعليق على الحديثقال القاضي: في هذا الخبر لعله أن يعطينا وهي لغة لبعض العرب، والأسير كلامها، لعله يعطينا بغير أن، وقد ذكرنا هذا الباب فيما مضى من مجالسنا هذه وشرحنا وجهه وأحضرنا صوراً من شواهد الشعر فيه، والقباء ممدود، وجمعه أقبية وهو من ملابس الأعاجم في الأغلب، واشتقاقه من الجمع والضم فقيل له قباء لما فيه من الاجتماع، وإما بجمعه جسم لابسه وضمه إياه عند لبسه ومنه قول سحيم عبد نبي الحسحاس:
فإن تهزئي مني فيا رب ليلةٍ ... تركتك فيها كالقباء المفرج
وقراء أهل المدينة ونحاتهم يعبرون عن المعرب والمبني الذي يسميه قراء العراق ون - اتهم مرفوعاً ومضموماً بأنه مقبوء، فيشيرون بعبارتهم إلى الضم الذي من باب الجمع، وقد شرحنا هذه الجملة شرحاً واسعاً في كتابنا الذي شرحنا فيه مختصر أبي عمر الجرمي في النحو.
وقد تسمي العرب القباء اليملق وتجمعه يلامق، كما قالت هند بن عتبة:
نحن بنات طارق ... نمشي على النمارق
ونلبس اليلامق
وقال ذو الرمة:
تجلو البوارق عن مجرمزٍ لهقٍ ... كأنه متقبي يلمق عزب
وذكر الأصمعي أنه فارسي معرب، وأنه في الأصل على كلام الأعاجم يلمه، كما قالت العرب شبرق وفالوذق، وقالت العجم: شبره وفالوذه، وقال الأصمعي: مثل هذا ف قول العرب استبرق، فإنه في كلام العجم استبره، وقال عدد من أهل العلم منهم أبو عبيدة: إن من زعم في القرآن شيئاً بغير العربية فقد أخطأ وأعظم على الله الفرية، لأن الله تعالى قال: " بلسان عربي مبين " ، وفي القرآن عدد من الكلم نسبه بعض أهل التأويل إلى لغة بعض أمم العجم، وأنكر هذا بعضهم، وذهب إلى اتفاق لغتين فيه أو لغات كثير منهم، وهذا مما بياننا مستقصى فيه في كتابنا المسمى كتاب البيان الموجز عن علوم القرآن المعجز، وفي كتاب شيخنا أبي جعفر رضي الله عنه، الذي سماه جامع البيان عن تأويل آي القرآن.
وفي خبر المسور هذا، البيان البين عن أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتفقد أصحابه بألطافه وصلاته، ويشاركهم فيما يسديه الله إليه من رزق ويفيئه عليه من فضله، وأنهم كانوا يسألونه عن حاجتهم، ويرغبون إليه في بذل الرفد لهم، وإضافة الأموال عليهم، لبسطه إياهم وخفض جناحه لهم، ولظهور جوده وسعة خلقه عندهم صلى الله عليه وسلم.
الشعراء على باب عمر بن عبد العزيزحدثنا محمد بن قاسم الأنباري، قال: حدثنا محمد بن المرزبان، قال: حدثنا أبو عبد الرحمن الجوهري، قال: حدثنا عبد الله بن الضحاك، قال: أخبرنا الهيثم بن عدي، عن عوانة بن الحك، قال: لما استخلف عمر بن عبد العزيز وفد الشعراء إليه فأقاموا ببابه أياماً لا يؤذن لهم، الرحيل، إذ مر بهم رجاء بن حيوة. وكان من خطباء أهل الشام فلما رآه جرير داخلاً على عمر أنشأ يقول:
يا أيها الرجل المرخي عمامته ... هذا زمانك فاستأذن لنا عمرا
قال: فدخل ولم يذكر من أمرهم شيئاً، ثم مر بهم عدي بن أرطأة، فقال له جرير:
يا أيها الراكب المزجي مطيته ... هذا زمانك إني قد مضى زمني
أبلغ خليفتنا إن كنت لاقيه ... أني لدى الباب كالمصفود في قرن
لا تنس حاجتنا لقيت مغفرةً ... قد طال مكثي عن أهلي وعن وطني
قال: فدخل عدي على عمر، فقال: يا أمير المؤمنين! الشعراء ببابك وسهامهم مسمومة وأقوالهم نافذة، قال: ويحك يا عدي! ما لي وللشعر، قال: أعز الله أمير المؤمنين، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد امتدح فأعطى، ولك في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوت حسنة، فقال: كيف؟ قال: امتدحه العباس بن مرداس السلمي فأعطاه حلة قطع بها لسانه، قال: أو تروي من قوله شيئاً؟ قال: نعم، وأنشد:
رأيتك يا خير البرية كلها ... نشرت كتابا جاء بالحق معلما
شرعت لنا دين الهدى بعد جورنا ... عن الحق لما أصبح الحق مظلما
ونورت بالبرهان أمراً مدنساً ... وأطفأت بالبرهان ناراً تضرما
فمن مبلغ عني النبي محمداً ... وكل امرئ يجزى بما كان قدما
أقمت سبيل الحق بعد اعوجاجه ... وكان قديماً ركنه قد تهدما
تعالى علواً فوق عرش إلهنا ... وكان مكان الله أعلى وأعظما
قال ويحك يا عدي! من بالباب منهم؟ قال: عمر بن عبد الله بن أبي ربيعة، قال: أليس هو الذي يقول:
ثم نبهتها فهبت كعاباً ... طفلة ما تبين رجع الكلامِ
ساعة ثم إنها بعد قالت ... ويلتا قد عجلت يا ابن الكرامِ
أعلى غير موعدٍ جئت تسري ... تتخطى إلي روس النيامِ
ما تجشمت ما يزين من الأم ... رِ ولا جئت طارقاً لخصامِ
فلو كان عدو الله إذ فجر كتم نفسه، لا يدخل علي والله أبداً، فمن بالباب سواه؟ قال: همام بن غالب، يعني الفرزدق، قال: أوليس هو الذي يقول:
هما دلتاني من ثمانين قامةً ... كما انقض بازٍ أقتم الريش كاسرُهُ
فلما استوت رجلاي بالأرض قالتا ... أحي يرجى أم قتيل نحاذره
لا يطأ والله بساطي، فمن سواه بالباب منهم؟ قال: الأخطل، قال: أدي! هو الذي يقول:
ولست بصائم رمضان طوعاً ... ولسب بآكل لحم الأضاحي
ولست بزاجر عنساً بكور ... إلى بطحاء مكة للنجاح
ولست بقائم كالعير يدعو ... قبيل الصبح حي على الفلاح
ولكني سأشربها شمولاً ... وأسجد عند منبلج الصباح
والله لا يدخل علي وه وكافر أبداً، فهل بالباب سوى من كرت؟ قال: نعم الأحوص، قال: أليس هو الذي يقول:
الله بيني وبين سيدها ... يفر مني بها وأتبعه
غرب عنه، فما هو بدون من ذكرت، فمن هاهنا أيضاً؟ قال: جميل بن معمر قال: يا عدي هو الذي يقول:
ألا ليتنا نحيا جميعاً وإن تمت ... يوافق في موتي ضريحي ضريحها
فما أنا في طول الحياة براغبٍ ... إذا قيل قد سوي عليها صفيحها
فلو كان عدو الله تمنى لقائها في الدنيا ليعمل بعد ذلك صالحاً، والله لا يدخل علي أبداً، هل سوى من ذكرت أحد؟ قال: جرير بن عطية، قال: أما إنه الذي يقول:
طرقتك صائدة القلوب وليس ذا ... حين الزيارة فارجعي بسلامِ
فإن كان لا بد فهو، قال فأذن لجرير، فدخل وهو يقول:
إن الذي بعث النبي محمداً ... جعل الخلافة في الإمام العادلِ
وسع الخلائق عدله ووفاؤه ... حتى ارعوى وأقام ميل المائلِ
إني لأرجو منك خيراً عاجلاً ... والنفس مولعة بحب العاجلِ
فلما مثل بين يديه قال: ويحك يا جرير، اتق الله ولا تقولن إلا حقاً، فأنشأ جرير يقول:
أأذكر الجهد والبلوى التي نزلت ... أم قد كفاني ما بلغت من خبري
كم باليمامة من شعثاء أرملةٍ ... ومن يتيم ضعيف الصوت والنظر
ممن يعدّك تكفي فقد والده ... كالفرخ في العش لم ينهض ولم يطر
يدعوك دعة ملهوفٍ كأن به ... خبلاً من الجن أو مساً من النشرِ
خليفة الله ماذا تأمرون بنا ... لسنا إليكم ولا في دار منتظر
ما زلت بعدك في هم يؤرقني ... قد طال في الحي إصعادي ومنحدري
لا ينفع الحاضر المجهود بادينا ... ولا يعود لنا بادٍ على حضر
إنا لنرجو إذا ما الغيث أخلفنا ... من الخليفة ما نرجو من المطر
نال الخلافة إذ كانت له قدراً ... كما أتى ربه موسى على قدر
هذي الأرامل قد قضيت حاجتها ... فمن لحاجةٍ هذا الأرمل الذكر
الخير ما دمت حياً لا يفارقنا ... بوركت يا عمر الخيرات من عمرِ
فقال: يا جرير! ما أرى لك هاهنا حقاً، فقال: بلى يا أمير المؤمنين، أنا ابن سبيل ومنقطع بي، فأعطاه من صلب ماله مائة درهم، وقد ذكر أنه قال له: ويحك يا جرير! لقد ولينا هذا الأمر وما نملك إلا ثلثمائة درهم، فمائة أخذها عبد الله ومائة أخذتها أم عبد الله، يا غلام أعطه المائة الباقية، قال: فأخذها وقال: والله لهي أحب مما اكتسبته إلي، قال: ثم خرج فقال له الشعراء: ما وراءك؟ قال: ما يسوءكم، خرجت من عند أمير المؤمنين وهو يعطي الفقراء، ويمنع الشعراء، وإني لراض، وأنشأ يقول:
رأيت رقي الشيطان لا تستفزه ... وقد كان شيطاني من الجن راقيا
وقد كتبنا هذا الخبر من طرق أخرى، والقصص فيها مختلفة في مواضع، على تقارب جملتها ولعلنا نأتي بها فيما يستقبل من مجالس كتابنا هذا إن شاء الله.
المؤنث المعنويوفي هذا الخبر موضع ذكر فيه المؤنث، وهو قوله: وأطفأت بالبرهان ناراً تضرما، ويريد تضرمت وفيه قبح في العربية، والوجه الذي يعتل به فيه على ضعفه أنه مما تأنيثه لفظي غير معنوي حقيقي، وقد أتى مثله في الشعر فمنه قول الشاعر:
فلا مزنة ودقت ودقها ... ولا أرض أبقل أبقالها
فذكر فعل الأرض وهي أنثى، ولو قال: أبقلت أبقالها لأنث ولم يذكر، إلا أنه كان تاركاً للهمزة، كما قال الأعشى:
عدي لغيبتي أشهراً ... إني لدى خير المقاول
وقال الأعشى:
وإن تعهديني ولي لمةٌ ... فإن الحوادث أودى بها
قال بعضهم: أراد الحدثان، وقال بعضهم: ذكر إذ لم يكن التأنيث فيه حقيقياً، ولو قال: اودت بها لصح الإعراب واستقام الوزن، إلا أنه يكون قد أتى ببيت غير مردف في كلمة جميع أبياتها مردفة، وهذا عيب عند أهل العلم بصناعة القوافي، وقد تأول قوم من أهل العلم بالعربية قراءة من قرأ " كأنما أغشيت وجوههم قطعاً من الليل مظلماً " بفتح الطاء على الجمع، أنه بمنزلة قول أبي ذؤيب:
لو أن مدحة حي منشر أحدا ... أحيا أباك لنا طول التماديحِ
ومثله:
إذ هي أحوى من الربعي، حاجبهُ ... والعين بالإثمد الحاري مكحول
والصواب عندنا من القول في وجه قراءة من قرأ قطعاً بالتحريك أن نصبه مظلماً على الحال والمعنى من الليل في حال إظلامه أي شدة ظلمته، والكوفيون من النحويين يقولون: هو منصوب على قطع النكرة من المعرفة، والمعنى من الليل المظلم، وفيه موضعان شذ لفظهما عن الوجه الأصح الأعرف في مقاييس العربية في الإعراب والبناء، أحدهما قول جميل:
وأن أمت يوافق في الموتى
برفع يوافق وكان سبيله بجزمه على ما تقتضيه العربية في باب الشرط والجزاء، وقد أتى مثله مما رد إلى أصله في الرفع ولم ينقل بالجزاء إلى الجزم في أبيات من الشعر منها:
يا أقرع بن حابسٍ يا أقرعُ
إنك إن يصرع أخوك تُصرعُ
وقد حمل قوم هذا على التقديم والتأخير، كأنه قال: إنك تصرع إن يصرع أخوك، ومثل هذا في بيت جميل أن يجري على أن معناه: ويوافق في الموتى وضريحي ضريحها إن أمت،وذهب آخرون في هذا إلى إرادة الفاء كأنه أراد فتصرع ويوافق.
اقطع عني لسانهحدثنا يزداد بن عبد الرحمن، قال: حدثنا الزبير بن بكار، قال: حدثنا إبراهيم بن المنذر الحزامي قال: حدثنا سفيان بن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن عكرمة مولى ابن عباس، قال: أتى شاعر النبي صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لبلال: " يا بلال اقطع عني لسانه " ، قال: فأعطاه أربعين درهماً وحلة، فذهب وهو يقول: قطعت والله لساني.
أعطيك بما مدحت اللهحدثنا يزداد، قال: حدثنا الزبير بن بكار، قال: وحدثني الحزامي، عن عبد الله بن وهب المصري، قال حدثنا هشام بن سعد، عن زيد بن أسلم، قال: بلغنا أن أبا بكر الصديق رضوان الله عليه أتى بشاعر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم في المسجد، فقال: ينشد يا رسول الله؟ قال: لا خير في الشعر، فقال: بلى يا رسول الله، فقال: فاخرجوا بنا إلى المقاعد، فأنشده مدحة لله ولرسوله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أعطيه يا بلال الناقة السوداء " ، ثم قال: " أعطيكها لما مدحت الله فأما مدحتي فلا أعطيك شيئاً " .
إلى أي شيء أفضي بهم الزهدحدثنا عمر بن الحسن بن علي بن مالك الشيباني، قال: أخبرنا أبي، عن أبي أحمد بن أبي الجوار، قال: سمعت مضاء العابد يقول لسباع العابد: يا أبا محمد! إلى أي شيء أفضى بهم الزهد؟ قال: إلى الأنْس به.
من الشعر الحكيمأنشدنا محمد بن الحسن بن دريد، قال: أنشدنا أبو حاتم، قال: أنشدنا أبو عبيدة، قال: كان الشعبي ينشد:
أرى أناساً بأدنى الدين قد قنعوا ... ولا أراهم رضوا في العيش بالدونِ
فاستغن بالدين عن دنيا الملوك كما ... استغنى الملوك بدنياهم عن الدينِ
المجلس السابع
الروح والفرج في الرضا واليقين
حدثنا الحسن بن محمد بن شعبة الأنصاري، حدثنا علي بن محمد السدي، قال: حدثنا أبي: محمد بن مروان بن عبد الله بن إسماعيل بن عبد الرحمن السدي مولى عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب، قال: حدثني عمرو بن قيس الملائي، عن عطية عن سعد العوفي، عن أبي سعيد الخدري، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن من ضعف اليقين أن ترضي الناس بسخط الله، وأن تحمدهم على رزق الله، وأن تذمهم على ما لم يؤتك الله، إن رزق الله لا يجره حرص حريص ولا يرده كره كاره، إن الله بحكمته وجلالته جعل الروح والفرج في الرضا واليقين، وجعل الغم والحزن في الشك والسخط " .
التعليق على الحديثقال القاضي أبو الفرج: في هذا الخبر تنبيه لذوي التمييز وحسن التفكر، والتحذير من إرضاء المخلوق الموسوم بالنقص والفقر، على الخالق المالك للنفع والضر، فقد قال الله عز وجل: " ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها، وما يمسك فلا مرسل له من بعده، وهو العزيز الحكيم " .
وقال تعالى جده: " قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا، هون مولانا وعلى الله فليتوكل المؤمنون " ، وهذا ظاهر في عقول ذوي الفطن السليمة، كثير في الكتاب والسنة، يطول إحصاؤه ويتعب استقصاؤه، وقد أكثر الشعراء والبلغاء في ذكر هذا المعنى وأسهبوا، وجمعه شاق جداً على متعاطيه، والقدر الذي أتينا به كاف فيه. وقد حدثنا أبي رضي الله عنه، قال: حدثنا أبو أحمد محمد بن جعفر بن سهل الختلي، قال: أخبرنا القاسم بن الحسن، قال: حدثنا محمد بن عبد الله، قال: أخبرني رجل، قال: أنشدني صديق لي:
لعمرك ما كل التعطل ضائراً ... ولا كل شغل فيه للمرء منفعه
إذا كانت الأرزاق في القرب والنوى ... عليك سواء فاغتنم لذة الدعه
إذا ضقت فاصبر يفرج الله ما ترى ... ألا كل ضيق في عواقبه سعه
ولي في هذا المعنى أبيات قلتها قديماً، هي:
مالك العالمين ضامن رزقي ... فلماذا أملك الخلق رقي
قد قضى لي بما علي وماليخالقي جل ذكره قبل خلقي
صاحب البذل والندى في يساري ... ورفيقي في عسرتي حسن رفقي
وكما لا يرد رزقي عجزي ... فكذا لا يجر رزقي حذقي
ما حجازية وتميميةقوله في الأبيات التي قدمنا إنشادها: ما كان التعطل ضائراً، أنشدناه نصباً على لغة أهل الحجاز، وهم يشبهونها بليس ما كانت على اصل ترتيبها، وأكثر ما تأتي بإدخال الباء عليها، كقولك: ما زيد بقائم، وبهذه اللغة جاء القرآن، قال الله تعالى: " ما هذا بشراً " وجلي أن من لم ينظر في المصحف من بني تميم يقرأونها بشر على لغتهم، ذكر هذا سيبويه وغيره، وروى عن بعض القراء " ما هذا بشري " أي ما هو بمشتري، قال الله عز وجل: " ما هن أمهاتهم " فنصب جمهور القراء على اللغة الحجازية إلا أن التاء كسرت إذ ليست أصلية، وروى المفضل عن عاصم " ما هن أمهاتهم " على اللغة التميمية، ومنها قول الشاعر:
ويزعم حسلٌ أه فرع قومه ... وما أنتفرع يا حسيل ولا أصل
وأنشد الفراء:
لشتان ما ينوي وينوي بنو أبي ... جميعاً فما هذان مستويان
تمنوا لي الموت الذي يشعب الفتى ... وكل امرئٍ والموت يلتقيان
وقال ذو الرمة:
أما نحن رؤو دارها بعد هذه ... بدا الدهر إلا أن نمر بها سفرا
ابن أبي عيينة يعزل والي البصرةحدثنا محمد بن القاسم الأنباري، قال:حدثني أبي، قال: حدثنا أبو عكرمة عامر بن عمران بن زياد، قال: كان إسماعيل بن جعفر بن سليمان والي البصرة، فأساء مجاورة محمد بن أبي عيينة فتباعد ما بينهما وقبح، وكان إسماعيل ينتقصه، فخرج محمد بن أبي عيينة إلى طاهر ابن الحسين يشكو إسماعيل بن جعفر ويطلب عزله عن البصرة، فصحب طاهر بن الحسين في بعض أسفاره فأدخل عليه ورفع حوائجه إليه وقال:
من أوحشته البلاد لم يقم ... فيها، ومن آنسته لم يَرِمِ
ومن يبت والهموم قادحةٌ ... في صدره بالسهاد لم ينمِ
ومن يرى النقص في مواطنه ... يزل عن النقص موطئ القدم
والقرب ممن ينأى بحاجته ... صدع على الشعب غير ملتئم
ورب أمر يعيا اللبيب به ... يحار منه في حيرة الظُّلُم
صبرٌ عليه كظم على مضضٍ ... وتركه من مراتع الندمِ
يا ذا اليمينين لم أزرك ولم ... آتك من خلةٍ ولا عدمِ
إني من الله في مراح غنىً ... ومغتدىً واسعٌ وفي نعمِ
زارتك منى همة منازعةٌ ... إلى العلا من مراتب الهممِ
وإنني للكبير محتملٌ ... في القدر من منصبي ومن شيمي
وقد تعلقت منك بالذمم ال ... كبرى التي لا تخيب في الذمم
فإن أنل همتي فأنت لها ... في الحق حق الإخاء والرحم
وإن يعق عائقٌ فلست على ... جميلِ رأي عندي بمتهمِ
في قدر الله ما أحمله ... تعويق أمري واللوح والقلمِ
لم تضق السبل والفجاج على ... حر كريم بالصب معتصم
ماضٍ كحد السنان في طرف ال ... عامل أوحد مصلت خذمِ
إذا ابتلاه الزمان كشفه ... عن ثوب حريه وعن كرم
ما ساء ظني إلا لواحدة ... في الصدر محصورة عن الكلمِ
ليهن قوم جزت المدى بهم ... ولم تقصر بهم ولم تلمِ
ما تنبت الأرض كل زهرتها ... ولا تعم السماء بالديم
وليست كل الدلاء راجعةً ... بالنصف أو ملئها إلى الوذم
ترجع بالحمأة القليلة أحياناً ... ورنق الصبابة الأمم
ما بي نقص عن كل منزلةٍ ... شريفةٍ والأمور بالقسمِ
فأجابه طاهر بن الحسين:
من تستضفه الهموم لم ينم ... غلا كنوم المريض ذي السقم
ولا يزل قلبه يكابد ما ... يولد الهم فيه من ألم
فدع أبا جعفر بعتب ما ... ليس التجني عنه بمنصرم
وقد سمعت الذي هتفت به ... وما بأذني عنك من صمم
وقد علمنا أن ليس تصحبنا ... لخلةٍ فيك لا ولا عدم
إلا لحق وحرمة وعلى ... مثلك رعى الحقوق والذمم
أنت امرؤ ما تزال عن كرم ... إلا إلى مثله من الكرم
وأنت من أسرة جحاجحة ... سادوا بحسن الفعال والشيم
فما ترم من جسيم منزلة ... فالحكم فيها إليك فاحتكم
إن كنت مستسقياً سماحتنا ... منا تجدك السماء بالديم
أو ترمِ في بحرنا بلدوك لا ... نعدمك ملأها إلى الوذم
إنا أناس لنا صنائعنا ... في العرب معروفة وفي العجم
مغتنمو كسب كل محمدة ... والكسب للحمد خير مغتنم
فاحتكم عليه عزل إسماعيل بن جعفر عن البصرة، فعزله عنها، وأمر لابن أبي عيينة بمائة ألف درهم عوناً له على سفره، وقال ابن أبي عيينة في عزل إسماعيل:
لا تعدم العزل يا أبا حسن ... ولا هزالاً في دولة السمن
ولا انتقالاً من دار عافية ... إلا إلى ديار البلاء والفتن
أنا الذي إذا كفرت نعمته ... أذبت ما في جنبيك من عكن
تعليق لغويحدثنا محمد بن القاسم، قال: حدثني أبي: قال: أخبرني الطوسي، عن أبي عبيد، قال: السيوز التي بين آذان الدلو والعراقي هي الوذم، يقال فيها: أوذمت الدلو إذا شددتها، والخشبتان اللتان تعترضان على الدلو كالصليب هما العرقوتان يقال: عرقيت الدلو عرقاة إذا شددتهما عليه.
نجابة الفتح بن خاقانحدثنا محمد بن أحمد بن إبراهيم الحكيمي، قال: أخبرنا محمد بن القاسم، قال: دخل المعتصم يوماً إلى خاقان غرطوج يعوده، فرأى ابنه الفتح وهو صبي لم يثغر، فمازحه فقال: أيهما أحسن داري أو داركم؟ فقال له الفتح: يا سيدي دارنا إذا كنت فيها أحسن، فقال المعتصم: لا أبرح والله أو ينثر عليه مائة ألف درهم، ففعل ذلك.
رضا المتجني
سمعت عبد الرحمن بن عثمان الشهوري، يقول: سمعت ابن اتيكين صاحب الشرطة ببغداد، يقول: سمعت ابن المثنى يقول: سمعت بشر بن الحارث يقول: سمعت المعافى بن عمران يقول: سمعت سفيان الثوري يقول: رضا المتجني غاية لا تدرك.
حدثنا أحمد بن كامل قال: سمعت ناشب المتوكلية تغني لإبراهيم ابن المهدي:أ
أنت امرؤ متجن ... وليس بالغضبان
هبني أسأتُ فألاً ... مننت بالغفرانِ
ونحو هذا تما أنشدناه عن إسحاق الموصلي:
فهبني أغفلت الجميل من الأم ... ر وساعدتُ أهل الغدر فيك على الغدرِ
ولم يك لي عذرٌ فتعذرني به ... أما لي نصيب في التجاوز والغفر؟
ونحوه بعض المحدثين يقول:
هبيني يا معذبتي أسأتُ ... وبالهجران قبلكم بدأتُ
فأين الفضل منك فدتكِ نفسي ... علي إذا أسأت كما أسأتُ
شعر الشاعر بمنزلة ولدهحدثنا أحمد بن جعفر بن موسى البرمكي جحظة، قال: حدثني خالد الكاتب، قال: قال لي علي بن الجهم: هب لي بيتك:
ليت ما أصبح من ... رقة خديك بقلبك
قال: فقلت له: هل رأيت أحداً يهب ولده؟
عدو همة ابن أبي داؤدحدثنا الحسين بن القاسم الكوكبي، قال: حدثني أبو مالك حريز بن أحمد بن أبي داؤد، قال: قال الواثق يوماً لأبي تضجراً بكثرة حوائجه:
يا أحمد! قد اختلت بيوت الأموال بطلباتك للائذين بك والمتوسلين إليك، فقال: يا أمير المؤمنين! نتائج شكرها متصلة بك، وذخائر أجلها مكتوبة لك، ومالي من ذلك إلا عشق اتصال الألسن بحلو المدح فيك، فقال: يا أبا عبد الله! والله لا منعناك ما يزيد في عشقك، ويقوي من همتك فينا ولنا.
الخليفة المنصور يخلع ثيابه على شاعرحدثنا محمد بن الحسن بن دريد، قال: أخبرنا الحسن بن خضر، عن أبيه، قال: دخل رجل على المنصور فقال:
أقول له حين واجهته: ... عليك السلام أبا جعفرِ
قال المنصور: وعليك السلام. فقال:
فأنت المهذب من هاشمٍ ... وفي الفرع منها الذي يذكرُ
فقال المنصور: ذاك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال:
فهذه ثيابي وقد أُخلقت ... وقد عضني زمن منكرُ
فألقى إليه المنصور ثيابه، وقال: هذه بدلها.
المجلس الثامن
حديث خرافةحدثنا عبد الله بن محمد بن زياد النيسابوري، قال: حدثنا أبو الأزهر، قال: حدثنا أبو النضر، قال: حدثنا أبو عقيل، قال: حدثنا مجالد بن سعيد،عن عامر، عن مسروق، أن عائشة رضي الله عنها، قالت: حدث رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة نساءه حديثاً، فقالت إحداهن: يا رسول الله! هذا حديث خرافة، قال: " أتدرين ما خرافة؟ إن خرافة كان رجلاً من عُذرة، أسرته الجن فمكث فيهم دهراً ثم ردوه إلى الإنس، فكان يحدث الناس بما رأى فيهم من الأعاجيب، فقال الناس: حديث خرافة " .
رواية أخرى للحديثحدثنا عبد الغافر بن سلامة بن أحمد بن أزهر الحضرمي الحمصي، قال: حدثنا إسحاق بن إبراهيم بن عرعرة، قال: حدثنا عاصم بن علي، وحدثنا محمد بن عمر بن حفص الدربندي، قال: حدثنا عثمان بن معاوية البصري، عن عبد الله بن عثمان صاحب شعبة، عن ثابت، عن أنس، قال: اجتمع على النبي صلى الله عليه وسلم نساءه يوماً فجعل يقول الكلمة كما يقول الرجل عند أهله، قال: فقالت إحداهن: كأن هذا حديث خرافة، فقال: تدرين ما حديث خراف؟ وذكر الحديث.
التعليق على الخبر
قال القاضي: عوام الناس يرون أن قول القائل: هذه خرافة، إنما معناه أنها حديث لا حقيقة له، وأنه مما يجري في السمر للتأنس به، وينتظم من الأعاجيب وطرف الأخبار ما يرتاح إليه ويتمتع أهل الأندية بالإضافة فيه، ويقطعون أوقات ندامهم بتداوله، وأنه أو معظمه لا أصل له، ورسول الله صلى الله عليه وسلم اصدق في كل ما يخبر عنه وأعلم بحقيقة الأمر فيه، وأولى من رجع إلى قوله وأخذ به، والغي ما خالفه، فأما ما وصفنا من مذهب العامة فيه، فإن الحديث مضاف إلى الجنس الذي هو جزء منه، وبعض من جملته ومميز له من كل حديث ليس بحديث خرافة، كقولهم هذا ثوب خز وخاتم فضة وباب حديد، واشتقاقه على هذا القول من قولهم: اخترف فلان من بستانه هذه الثمرة، وقولهم: هذه خرفة فلان، يشار به إلى شيء من الفاكهة، ومنه سمي الربيع الأول من السنة خريفاً لأن جل الفواكه تخترف فيه، وجاء في الخبر: أن عائد المريض في مخرفة الجنة إشارة إلى ما يرجى له من النعيم وثواب الملك الكريم. فقال أصحاب هذا المذهب: إن المجتمعين على هذه الأحاديث المعجبة الملذة المطرفة بمنزلة المجتمعين على ما يخترف من الفاكهة التي ينالون من قبلها المتعة السارة لهم الفائضة عليهم، ويتوهم هؤلاء أن مختلف الباطل ومفتعل الكذب بمنزلة من أتى شيئاً أو اخترفه في أنه قد ظفر بما يلهيه ويمتعه، وإن كان على ما وصفا في أصله، ويقولون لما لا يحققون صحته من الأخبار: هذه خرافة، وهذا حديث خرافة، وقال بعض مجان الشعراء عجز بيت له حكايته:
حديث خرافة يا أم عمرو
وقال رضي الله عنه منهم في آخر بيت قاله:
قالت ودعني من أحاديث خرفةٍ
وقال أبو العتاهية:
إذا أخلوا فأنت حديثي ... وذلك كالحديث من الخرافة
وأرى أن قولهم للإنسان إذا أفند وتغير وأهتر وهجر: قد خرف، من هذا الباب وأنه قيل له ذلك: إما لأنه يتعلق بما تخيله له وساوسه فيظهر من لفظه ما ينبئ عن اختلاله ويعجب سامعوه منه بضحك من خروجه عن الاعتدال والصحة، ويأتي بألفاظ خارجة عن سنن الحكمة، وإما لأن سامعيه يطربون تعجباً بما يبديه ويستخرجون منه ما ينشطون ويرتاحون عنده، فكأنهم يجتنون ثمرة أو يخترفون فاكهة، ومن ها هنا قيل: فكهت من كذا أي عجبت، كما قال الشاعر:
ولقد فكهت من الذين تقاتلوا ... ويم الخميس بلا سلاح ظاهرِ
ومن هذا الأصل قيل للمزاح: فكاهة، لما فيه من مسرة أهله والاستمتاع به، قال الشاعر:
حزق إذا ما القوم أبدوا فكاهةً ... تفكراً آإياه يعنون أم قردا
وقال بعض أهل العلم: الغيبة فاكهة القراء.
وقال الفضيل بن عياض أنه قال: لكل شيء ديباج، وديباج القراء ترك الغيبة.
ومن كلام العرب السائر: لا تمازح صبياً ولا تفاكهن أمة، يريد: ولا تمازحن، وخالف بين اللفظين مع اتفاق المعنى لأنه أحسن كما قال الشاعر:
وقدمت الأديم لراهشيه ... وألفى قولها كذابً ومينا
والمين: الكذب، وقال آخر:
ألا حبذا هند وأرض بها هندُ ... وهند التي من دونها الناي والبعدُ
ومن الخريف والاختراف على ما قدمنا ذكره: لفلان موضع كذا خرفة، أي مقام في الخريف، ويقال: زمان صائف وشات ورابع وقائظ، من الصيف والشتاء والربيع والقيظ، ولم يقولوا مثل هذا في الخريف، ويقال في النسب: خرفي وربعي، كما قال:
إن بني صبيةٌ صيفيون ... أفلح من كان له ربعيون
ومنه الربع في الماشية، قال الشاعر:
ولها بالماطرون إذا ... أكل النمل الذي جمعا
خرفة حتى إذا ارتبعت ... سكنت من جلق بيعا
في قبابٍ وسط دسكرةٍ ... حولها الزيتون قد ينعا
ويروى: خرفة على ما فسرنا، ويروى: خلفة من الاختلاف إلى المكان، وقول الله جل ذكره: " وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكورا " ، وقد اختلف أهل التأويل في تأويله، فقال بعضهم: معناه أن ما فات في أحدهما قضى في الآخر، كالصلاة تفوت ليلاً فتقضي نهاراً وتفوت نهاراً فتقضي ليلاً، وقال آخرون: المعنى أنه جعلهما مختلفين في ألوانهما هذا أسود وهذا أبيض، وقال آخرون: إن كل واحد منهما يخلف صاحبه، إذا ذهب هذا جاء هذا،وقيل:إنه لو لم يجعل كذلك لالتبس على الناس أمر دينهم في أوقات صومهم وصتهم، وقيل:إن الخلفة مصدر ولذلك وجدت، وهي خبر عن الليل والنهار، وقول زهير:
بها العين والآرام يمشين خلفةً ... وأطلاؤها ينهضن من كل مجثمِ
يعني تذهب منها طائفة وتحدث مكانها أخرى، وجائز أن يكون أراد الألوان والهيئات، وجائز أن يكون أراد أنها تذهب كذا وتجيء كذا.
وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان من أفكه الناس، بمعنى أنه كان يمزح، وقد روى عنه عليه السلام، أنه قال: " إني لأمزح ولا أقول إلا حقاً " .
وروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: " إن الله عز وجل لا يؤاخذ المزاح الصادق في مزاحه " .
حدثنا يعقوب بن إبراهيم بن احمد بن عيسى أبو بكر البزاز العسكري، قال: حدثنا علي بن حرب، قال: حدثنا يزيد بن أبي الزرقاء، عن أبي لهيعة، عن عمارة بن غزية، عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة، عن أنس، قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم من أفكه الناس.
وحدثنا محمد بن حمدان بن بغداد الصيدناني، قال: حدثني يوسف ابن الضحاك، قال: حدثني أبي، قال: حدثنا خالد الحذاء، عن أبي قلابة، عن عائشة: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان مزّاحاً،وكان يقول: " إن الله عز وجل لا يؤاخذ المزاح الصادق في مزاحه " .
قال القاضي أبو الفرج: إنما ذكرنا ما ذكرناه من باب المزاح ها هنا بحسب ما اقتضاه ما تقدم من كلامنا لاتصاله ومناسبته إياه، ولذكر ما جاء في المزاح من الاستحسان والرخصة والنهي والكراهية موضع غير هذا.
حدثنا أحمد بن عبد الله بن نصر بن بجير القاضي، قال: أخبرني أبي عبد الله بن نصر بن بجير، قال: حدثني أبو جعفر محمد بن عباد بن موسى قال: أخبرني أبو بكر الهذلي، قال: قال لي الشعبي: ألا أحدثك حديثاً تحفظه في مجلس واحد إن كنت حافظاً كما حفظته أنا، لما أُتي بي الحجاج وأنا مقيد وخرج إلي يزيد بن أبي مسلم، فقال: إنا لله وما بين دفتيك من العلم يا شعبي، وليس بيوم شفاعة، إذا دخلت على الأمير فبؤ له بالشرك والنفاق على نفسك فبالحري أن تنجو. فلما كنت قريباً من الإيوان خرج محمد بن الحجاج، فقال: إنا لله وما بين دفتيك من العلم يا شعبي، وليس بيوم شفاعة، إذا دخلت على الأمير فبؤ له بالشرك والنفاق فبالحري أن تنجو، فملا قمت بين يديه قال: هي يا شعبي، أكرمتك وأدنيتك وقربت مجلسك ثم خرجت علينا؟ قلت: أصلح الله الأمير، أحزن بنا المنزل وأجدب الجناب وضاق المسلك، واكتحلنا السهر، واستحلسنا الخوف، ووقعنا في
خزية لم نكن بررة أتقياء ولا فجرة أقوياء، قال: صدق والله، ما بروا حين خرجوا ولا قووا حين فجروا، أطلقوا عنه. ثم قال: تعهدني وكن مني قريباً، فأرسل إلي يوماً نصف النهار وليس عنده أحد، فقال: ما تقول في أم وجد وأخت؟ قلت: اختلف فيها خمسة من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، قال: من؟ قلت: علي وابن مسعود وابن عباس وعثمان وزيد بن ثابت، قال: فما بال علي؟ قلت: جعلها ستة فأعطى الأخت النصف ثلاثة، وأعطى الأم الثلث سهمين، وأعطى الجد السدس سهماً، قال: فما قال ابن مسعود؟ قلت: جعلها أيضاً ستة، وكان لا يفضل أماً على جد، فأعطى الأخت النصف ثلاثة، وأعطى الأم ثلث ما بقي، وأعطى الأم الثلث وأعطى الأخت الثلث وأعطى الجد الثلث وأعطى الجد الثلثين، قال: فما قال: قال عثمان؟ قلت: جعلها أثلاثاً فأعطى الأم الثلث وأعطى الأخت الثلث وأعطى الجد الثلث، قال: فما قال زيد؟ قلت: جعلها من تسعة فأعطى الأم الثلاثة وأعطى الأخت سهمين وأعطى الجد أربعة، جعلها منها بمنزلة الأخ، قال: يا غلام أمضها على ما قال أمير المؤمنين عثمان، قال: إذ دخل الحاجب فقال: إن بالباب رسلاً، قال: أدخلهم، فدخلوا وسيوفهم على عواتقهم وعمائمهم في أوساطهم وكتبهم بأيمانهم، قال: ائذن، فدخل رجل من بني سليم يقال له سيابة بن عاصم، قال: من أين؟ قال: من الشام، قال: كيف أمير المؤمنين؟ كيف هو في بدنه.
كيف هو في حاشيته، كيف كيف؟ قال: خير، قال: كان وراءك من غيث؟ قال: نعم أصابتني فيما بيني وبين أمير المؤمنين ثلاث سحائب، قال: فانعت كيف لي كيف كان وقع المطر وكيف كان أثره وتباشيره؟ قال: أصابتني سحابة بحوران فوقع قطر صغار وقطر كبار، فكان الصغار لحمة الكبار، ووقع سبطاً متداركاً وهو السح الذي سمعت به، فواد سائل وواد نازح، وأرض مقبلة وأرض مدبرة، وأصابتني سحابة بسوان فأندت الدياث وأسالت الغرار وأدحضت التلاع وصدعت عن الكمأة أماكنها، وأصابتني سحابة بالقريتين، فأفاءت الأرض بعد الري، ، وامتلأت الإخاذ وأفعمت الأودية، وجئتك في مثل مجر الضبع، قال: ائذن، فدخل رجل من بني أسد، قال: هل كان وراءك غيث؟ قال: لا، كثرت الأعصار واغبرت البلاد وأكل ما أشرف من الجنبة، واستيقنا أنه عام سنة، قال: بئس المخبر أنت، قال: أخبرتك بما كان، قال: ائذن، قال: فدخل رجل من بني حنيفة من أهل اليمامة، قال: هل كان وراءك من غيث؟ قال: سمعت الرواد يدعون إلى ريادتها، وسمعت قائلاً يقول: هل أظعنكم إلى محطة تطفأ فيها النيران وتشكى فيها النساء، وتتنافس فيها المعزى، قال: فوالله ما درى الحجاج ما أراد. قال: ويحك إنما تحدث أهل الشام فأفهمهم، قال: أما تطفأ النيران فأخصب الناس فلا توقد نار يختبز بها، فكان السمن والزبد واللبن، وأما تشكي النساء فإن المرأة تظل تريق بهمها وتمحض لبنها فتبيت ولها أنين من عضديها كأنهما ليسا منها، وأما تنافس المعزى فإنها ترى من أنواع الشجر وألوان الثمار ونور النبات ما يشبع بطونها ولا يشبع عيونها، فتبيت وقد امتلأت كروشها، لها من الكظة جرة، وتبقى الجرة حتى يستنزل بها الدرة، قال: ائذن فدخل رجل من الحمراء من الموالي، وكان من أشد أهل زمانه، قال: من أين؟ قال: من خراسان، قال: هل كان وراءك من غيث؟ قال: نعم، ولكن لا أحسن أن أقول كما قال هؤلاء، قال: فما تحسن أنت؟ قال: أصابتني سحابة بحلوان فلم أزل أطأ في أثرها حتى دخلت على الأمير، قال: إن كنت أقصرهم في المطر قصة، إنك لأطولهم بالسيف خطوة
عود إلى خبر الشعبي مع الحجاجوحدثني أبي رضي الله عنه، قال: حدثنا أبو عبد الله الصوفي، قال: حدثنا سليمان بن عمر الأقطع الرقي، قال: حدثنا عيسى بن يونس، قال: حدثنا عباد بن موسى رجل من أهل واسط عن أبي بكر الهذلي، عن الشعبي، قال: أتى بي الحجاج موثقاً فلما انتهينا إلى باب القصر لقيني يزيد بن أبي مسلم، فقال: إنا لله وإنا إليه راجعون يا شعبي لما بين دفتيك من العلم، وذكر الحديث.
وروى لنا خبر الحجاج مع الشعبي على نحو ما أتينا به في هذا الجزء من غير طريق ، وبعض رواياته يختلف ألفاظها ويزيد بعضها على بعض، وأنا أذكر ها هنا طريقاً حضرني وقرب مني.
حدثنا محمد بن جعفر بن سليمان النهرواني، وحمزة بن الحسين بن عمر أبو عيسى السمسار، قالا: حدثنا أحمد بن منصور الرمادي، قال: حدثنا يوسف بن بهلول التميمي، قال: حدثنا جابر بن نوح الحماني، قال: حدثني مجالد، عن الشعبي، قال: لما قدم الحجاج الكوفة قال لابن أبي مسلم: اعرض على العرفاء، فعرضهم عليه فرأى فيهم وحشاً من وحش الناس، قال: ويحك: هؤلاء خلفاء الغزاة في عيالهم؟ قال: نعم، قال: اطرحهم واغد علي بالقبائل، فغدا عليه بالقبائل على راياتها، فجعلوا يعرضون عليه فإذا وقعت عينه على رجل دعاه، فدعا بالشعبيين فمرت به السن الأولى فلم يدع منهم أحداً، ومرت به السن الثانية فدعاني، فقال: من أنت؟ فأخبرته؟ فقال: اجلس، فجلست، فقال: قرأت؟ قلت: نعم، قال: رويت الشعر؟ قلت: قد نظرت في معانيه، قال: نظرت في الحساب؟ قلت: نعم، فقال: لابن أبي مسلم: إنا لنحتاج إليه في بعض الدواوين، قال: رويت مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قلت: نعم قال: حدثني بحديث بدر، قال: فابتدأت له من رؤيا عاتكة حتى أذن المؤذن للظهر، ثم دخل وقال: لا تبرح، فخرج فصلى الظهر وأتممتها له، فجعلني عريفاً على الشعبيين ومنكباً على جميع همدان وفرض لي في الشرف، فلم أزل عنده بأحسن منزلة حتى كان عبد الرحمن بن الأشعث، فأتاني قراء أهل الكوفة فقالوا: يا أبا عمرو! إنك زعيم القراء، فلم يزالوا لي حتى خرجت معهم فقمت بين الصفين أذكر الحجاج وأعيبه بأشياء قد علمتها، قال: فبلغني أنه قال: ألا تعجبون من هذا الشعبي الذي جاءني وليس في الشرف من قومه، فألحقته بالشرف، وجعلته عريفاً على الشعبيين ومنكباً على همدان، ثم خرج مع عبد الرحمن يحرض علي، أما إنه لئن أمكن الله منه لأجعلن الدنيا أضيف عليه من مسك جمل، قال: فما لبثنا أن هزمنا فجئت إلى بيتي فدخلته وأغلقت علي بابي، فمكثت تسعى أشهر الدنيا علي أضيق من مسك جمل، فندب الناس لخراسان، فقام قتيبة بن مسلم، فقال: أنا لها، فعقد له خراسان وعلى ما غلب عليه منها وأمن له كل خائف، فنادى مناديه: إنه من لحق بعسكر قتيبة فهو آمن، فجاءني شيءٌ لم يجيئني شيء هو أسر منه، فبعث بمولى لي إلى الكناسة، فاشترى لي حماراً وزودني، ثم خرجت فكنت في العسكر، فلم أزل معه حتى أتينا فرغانة، فجلس ذات يوم وقد برق، فنظرت إليه فعرفت ما يريد، فقلت: أيها الأمير! عندي علم ما تريد؟ قال: ومن أنت؟ قال: قلت: أعيذك ألا تسل عن ذاك، قال: أجل، فعرف أني ممن يخفي نفسه، فدعا بكتاب فقال: أكتب نسخة، قلت: لست محتاجاً إلى ذلك، فجعلت أمل عليه وهو ينظر إلي حتى فرغت من كتاب الفتح، قال: فحملني على بغلة وأرسل إلي بسرق من حرير، وكنت عنده في أحسن منزلة، فإني ليلة أتعشى معه إذ أنا برسول من الحجاج بكتاب فيه: إذ نظرت في كتابي هذا فإن صاحب كتابك عامر الشعبي، فإن فاتك قطعت يديك على رجلك وعزلتك، قال: فالتفت إلي فقال: ما عرفتك قبل الساعة فامض حيث شئت من الأرض، فوالله لأحلفن له بكل يمين، قال: قلت: أيها الأمير إن مثلي لا يخفى، قال: فقال: أنت أعلم، قال: فبعثني إليه مع قوم وأوصاهم بي، وقال: إذا نظرتم إلى خضراء واسط فاجعلوا في رجليه قيداً ثم أدخلوا به على الحجاج، قال: فلما دنوت من واسط استقبلني ابن أبي مسلم فقال: يا أبا عمرو! إني لأضن بك على القتل، إذا دخلت على الحجاج فلما رآني قال: لا مرحباً بك ولا أهلاً يا شعبي الخبيث، جئتني ولست في الشرف من قومك ولا عريفاً ولا منكباً، فألحقتك بالشرف وجعلتك عريفاً على الشعبيين ومنكباً على جميع همدان، ثم خرجت مع عبد الرحمن تحرض علي؟ قال: وأنا ساكت لا أجيبه، قال: فقال لي: تكلم، قال: قلت: أصلح الله الأمير، كل ما ذكرت من فضلك فهو على ما ذكرت، وكل ما ذكرت من خروجي مع عبد الرحمن فهو كما ذكرت، ولكنا قد اكتحلنا بعدك بالسهر وتحلسنا الخوف، ولم نكن مع ذلك برره أتقياء ولا فجرة أقوياء، وإن حقنت لي دمي واستقبلت بي التوبة؟ قال: قد حقنت دمك واستقبلت بك التوبة، قال: فقال ابن أبي مسلم: الشعبي كان أعلم مني حيث لم يقبل مني الذي قلت له.
حدثنا محمد بن جعفر، وحمزة بن الحسين، قالا: حدثنا أحمد بن منصور قال: سمعت الأصمعي، يقول: حدثني عثمان الشحام، قال: لما أتى الحجاج بالشعبي عاتبه، فقال له الشعبي: أصلح الله الأمير، أجدب بنا الجناب، وأحزن بنا المنزل، واستحلسنا الخوف، واكتحلنا السهر، وأصابتنا خزية لم نكن فيها بررة أتقياء، ولا فجرة أقوياء، قال: لله درك يا شعبي.
قال القاضي: والذي ذكر في هذا الخبر على ما في الرواية التي بدأنا بها ذكر الفريضة التي سأل الحجاج الشعبي عنها فأجابهن وذكر أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم اختلفوا فيها على خمسة أقوال فهذا على ما ذكره، وهذه فريضة من فرائض الجد معروفة يسميها الفرضيون الخرقاء، وأصول الصحابة فيها مختلفة، فمنهم من ينزل الجد بمنزلة الأب الأدنى فلا يورث الإخوة والأخوات معه، ومنهم من يعطي الأخوات من الأب والأم أو الأب فرائضهن ويورث الجد بعد ما يستحقه، وهذا مذهب علي وعبد الله، إلا أن عبد الله لا يفضل أماً على جد، وقد روى عنه أن هذه المسألة من مربعاته، ومنهم من ينزل الجد مع الأخوات من الأب والأم أو من الأب بمنزلة الأخ في المقاسمة، وبينهم في القدر الذي تنتهي إليه المقاسمة ويفرض للجد فريضة، خلاف ليس هذه موضعه، وروى منع الإخوة والأخوات الميراث مع الجد عن أبي بكر وعائشة وابن عباس وابن الزبير فيعدد كثير من الصحابة والتابعين ومن بعدهم من علماء الأمصار والمسلمين، وإلى هذا نذهب، وبيانه مشروح فيما ألفناه من كتبنا في فرائض المواريث.
لو حدثت أحداً لحدثتك
وحدثني أحمد بن كامل، قال: حدثني أبو عبد الله محمد بن القاسم المعروف بأبي العيناء، قال: أتيت عبد الله بن داود الخريبي فقال لي: قد حفظت القرآن، قال: فاقرأ: " واتل عليهم نبأ نوحٍ إذ قال لقومه " ، قال: فقرأت العشر حتى أنفدته، قال: اذهب فتعلم الفرائض، قال: فلت: قد حفظت الصلب والجد والكبر، قال: فأيما أقرب إليك، ابن أخيك أو عمك؟ قال: قلت: ابن أخي، قال: ولم؟ قال: قلت: لأن ابن أخي من أبي، وعمي من جدي، قال: اذهب الآن فتعلم العربية، قال: قلت: قد علمتها قبل ذين، قال: فلم قال عمر بن الخطاب حين طعن: يا لله للمسلمين، لم فتح تلك اللام وكسر هذه؟ قال: قلت: فتح تلك للدعاء ومسر هذه للاستنصار قال: لو حدثت أحداً لحدثتك.
قال القاضي: قلت لابن كامل أمل هذا الحديث: ما أنصفه لما أوقع به هذه المحنة، وأسرع بما لم ينكره من الإجابة، بمنعهما التمس من الفائدة، فضحك.
قال القاضي: هذا العشر الذي استقرأه الخريبي أبا العيناء يعرف بالصهيبي ويمتحن به من يتعاطى الحفظ من القراء، وله حديث نذكره فيما يأتي من مجالسناً هذه إن شاء الله، وأما اللام في الموضعين من هذين فإن أئمة النحويين من الكوفيين والبصريين رووها مفتوحة في الموضعين، وإذا قيل: يا للقوم، فهو استغاثة تفتح فيه لام المدعو، وإذا قيل: للماء فالكسر لازم لام المدعو له أو إليه، كأنه قال: أدعوكم للماء، وقال الشاعر:
يالَ بكرٍ انشروا لي كليباً ... يالَ بكرٍ أين أين الفرار؟
وقال الأعشى:
يالَ قيس لما لقينا العاما
أي أدعوكم لهذا، وشرح واستقصاء فروعه وعلله يطول، وله موضع غير هذا.
وصية الحجاج بأهل البصرةحدثنا الحسين بن أحمد الكلبي: قال: حدثنا محمد بن زكريا، قال: حدثنا عبد الله بن محمد بن عائشة: قال: حدثني أبي: قال: أراد الحجاج الخروج من البصرة إلى مكة فخطب الناس، فقال: يا أهل البصرة إني أريد الخروج إلى مكة وقد استخلفت عليكم محمداً ابني وأوصيته فيكم بخلاف ما أوصى به رسول الله صلى الله عليه وسلم في الأنصار، فإنه أوصى في الأنصار أن يقبل من محسنهم ولا يتجاوز عن مسيئهم، ألا وإني قد أوصيته فيكم ألا يقبل من محسنكم ولا يتجاوز عن مسيئكم، ألا وإنكم قائلون بعدي كلمة ليس يمنعكم من إظهارها إلا الخوف، ألا وإنكم قائلون: لا أحسن الله له الصحابة، إني معجلٌ لكم الجواب: لا أحسن الله عليكم الخلافة.
المجلس التاسع
مؤرق وفضيلة كتمان السر
حدثنا محمد بم مخلد بن حفص العطار، قال: حدثنا حاتم بن أبي الليث الجوهري، قال: حدثنا علي بن مهران الداري، قال: حدثنا أبو زهر عبد الرحمن بن مغربي، قال: حدثنا المفضل بن فضالة، عن بكر بن عبد الله، وثمامة بن عبد الله بن أنس، قالا: حدثنا أنس بن مالك، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن كان فيمن سلف من الأمم رجل يقال له مؤرق وكان متعبداً، فبينما هو قائم في صلاته إذ ذكر النساء فاشتهاهن وانتشر حتى قطع صلاته، فغضب فأخذ قوسه فقطع وترها فعقده بمذاكيره وشده إلى عقبيه، ثم مد رجله فانتزعها، ثم أخذ طمرية ونعليه حتى أتى أرضاً لا أنيس بها ولا وحش، فاتخذ عريشاً ثم قال يصلي، فجعل كلما اصبح انصدعت له الأرض، فخرج خارجة منها ومعه إناء فيه طعام فيأكل حتى يشبع، ثم يدخل وتلتئم عليه الأرض، فإذا أمسى فعل مثل ذلك، ومر ناسٌ منه فأتاه رجلان من القوم فمرا تحت الليل فسألاه عن قصدهما فسمت لهما بيديه، فقال: هذه قصد كما حيث تريدان، فسارا غير بعيد، فقال أحدهما لصاحبه: ما يسكن هذا الرجل ها هنا؟ أرض لا أنيس بها ولا وحش، ولو رجعنا إليه حتى نعلم علمه، فرجعا فقالوا له: يا عبد الله ما يقيمك بهذا المكان، بأرض لا أنيس فيها ولا وحش؟ فقال: امضيا لشأنكما ودعاني، فألحا عليه قال: فإني مخبركما على أن من كتم على منكما أكرمه الله في الدنيا والآخرة، ومن أظهر منكما أهانه الله تعالى في الدنيا والآخرة، قالا: نعم قال: أنزلا فلما أصبحا خرج من الأرض الذي كان يخرج من الطعام ومثلاه معه فأكلوا حتى شبعوا ثم دخل فخرج عليهم شراب فيه إناء مثل الذي كان يخرج في كلي يوم ومثلاه معه، فشربوا حتى رووا ثم دخل فالتأمت الأرض، فنظر أحدهما إلى صاحبه فقال: ما يعجلنا؟ هذا طعام وشرابٌ وقد علمنا سمتنا من الأرض، امكث إلى العشاء فمكثا فخرج إليهما في العشاء من الطعام والشراب مثل الذي خرج أول النهار، فقال أحدهما لصاحبه: امكث حتى نصبح، فمكثا فلما أصبحا خرج إليهما مثل ذلك، ثم ركبا فانطلقا، فأما أحدهما فلزم باب الملك حتى كان من خاصته، وأما الآخر فأقبل على تجارته وعمله، وكان ذلك الملك لا يكذب أحدٌ في زمانه من أهل مملكته كذبة تعرف إلا صلبه، فبينما هو ليلة في السمر فحدثوا ما رأوا من العجائب أنشأ ذلك الرجل يحدث، فقال: لأحدثنك أيها لملك بحديث ما سمعت بأعجب منه قط، فحدثه بحديث الرجل الذي رأى من أمره، قال الملك: ما سمعت بكذب قط أعظم من هذا، والله لتأتيني على ما قلت ببينة وإلا صلبتك، فقال: بينتي فلان، فقال: رضاً ائتوني به، فلما أتاه، قال الملك: إن هذا حدثني أنكما مررتما برجل كان من أمره كذا وكذا، قال له الرجل: أيها الملك: أو لست تعلم أن هذا كذب، وهذا مما لا يكون، ولو أني حدثتك بهذا لكان عليك من الحق أن تصلبني، قال: صدقت وبررت، فأدخل الذي كتم في خاصته وسمره وأمر بالآخر فصلب، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " فأما الذي كتم عليه فقد أكرمه الله في الدنيا وهو مكرمه في الآخرة " ثم نظر بكر بن عبد الله المزني إلى ثمامة بن عبد الله بن أنس فقال: يا أبا المثنى: أسمعت جدك أنساً يحدث هذا الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم.
بدء أمر الخضر عليه السلام
حدثنا أبو بكر بن أبي داود، قال: حدثنا حسين بن علي بن مهران، قال: حدثنا عامر بن فرات، عن أسباط، عن السدي، قال: كان ملك وكان له ابن يقال له الخضر، وإلياس أخوه - أو كما قال - فقال إلياس للملك: إنك قد كبرت وابنك الخضر ليس يدخل في ملكك، فلو زوجته ليكون ولده ملكاً بعدك؟ فقال: يا بني تزوج، فقال: لا أريد، قال: لا بد لك، قال: فزوجني، فزوجه امرأة بكراً، فقال لها الخضر: إنه لا حاجة لي في النساء فإن شئت عبدت الله عز وجل معي فأنت في طعام الملك ونفقته، وإن شئت طلقتك، قالت: بل أعبد الله معك، قال: فلا تظهري سري فإنك إن حفظت سري حفظك الله، وإن أظهرت عليه أهلك أهلكك الله، فكانت معه سنة لم تلد، فدعاها الملك فقال: أنت شابة وابني شاب فأين الولد وأنت من نساء ولد؟ فقالت: إنما الولد بأمر الله تعالى، فدعا الخضر فقال: أين الولد يا بني، فقال: الولد بأمر الله تعالى، فقيل للملك: لعل هذه المرأة عقيم لا تلد، فزوجه امرأة قد ولدت، فقال للخضر: طلق هذه، قال: لا تفرق بيني وبينها فقد اغتبطت بها، فقال: لا بد، فطلقها، ثم زوجه ثيباً، قد ولدت، فقال لها الخضر كما قال للأولى، فقالت: بل أكون معك، فلما كان الحول دعاها فقال: إنك ثيب قد ولدت قبل ابني فأين ولدك، فقالت: هل يكون الولد إلا من بعل؟ وبعلي منشغل بالعبادة ولا حاجة له في النساء فغضب الملك وقال: اطلبوه، فهرب فطلبه ثلاثة فأصابته اثنان منهم فطلب إليهما أن يطلقاه فأبيا، وجاء الثالث فقال: لا تذهبا به فلعله يضربه وهو ولده فأطلقاه، ثم جاءا إلى الملك فأخبره الاثنان أنهما أخذاه وأن الثالث أخذه منهما، فحبس الثالث، ثم فكر الملك فدعا الاثنين فقال: أنتما خوفتما ابني حتى هرب، فذهب فأمر بهما فقتلا، ودعا بالمرأة فقال لها: أنت هربت ابني وأفشيت سره، ولو كتمت عليه لأقام عندي، فقتلها وأطلق المرأة الأولى والرجل، فذهبت فاتخذت عريشاً على باب المدينة وكانت تحتطب وتبيعه وتتقوت بثمنه، فخرج رجل من المدينة فقير الحال فقال: باسم الله، فقالت المرأة: وأنت تعرف الله؟ قال: أنا صاحب الخضر، قالت: وأنا امرأة الخضر، فتزوجها وولدت له، وكانت ماشطة ابنة فرعون، فقال أسباط، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، أنها بينما هي تمشط ابنة فرعون سقط المشط من يدها، فقالت: سبحان ربي، فقالت ابنة فرعون: أبي؟ قالت: لا ربي ورب أبيك، قالت: أخبر أبي؟ قالت: نعم، فأخبرته، فدعا بها، وقال: ارجعي، فأبت فدعا بنقرة من نحاس فاخذ بعض من ولدها فرمى به في النقرة وهي تغلي، ثم قال: ترجعين؟ قالت: لا، فأخذ الولد الآخر حتى ألقى الأولاد أجمعين، ثم قال لها: ترجعين؟ قالت: لا، فأمر بها، قالت: إن لي حاجة، فقال: وما هي؟ قالت: إذا ألقيتني في النقرة تأمر بالنقرة أن تحمل ثم تطفأ في بيتي بباب المدينة وتنحي النقرة وتهدم البيت علينا حتى تكون قبورنا، فقال: نعم إن لك علينا حقاً، قال: ففعل بها ذلك، قال ابن عباس: قال النبي صلى الله عليه وسلم: " مررت ليلة أسري بي فشممت رائحة طيبة، فقلت: يا جبريل! ما هذا؟ قال: هذا ريح ماشطة ابنة فرعون وولدها "
التعليق على الخبرقال القاضي: في هذين الخبرين عظة ومعتبر، وتنبيه لمن عقل ومزدجر، وفيما اقتضى فيها ما دعا ذوي النهي إلى الصدق وحفظ الأمانة، وحذر من ركوب الغدر والخيانة، وفي خزن السر وحياطته، وصونه وحراسته ما لا يحيل على الألباء وفور فضيلته، كما لا يذهب عليهم ما في إفشائه وإضاعته، من سقوط القدر، وقبيح الذكر، وما يكسب صاحبه من حطه عن منزلة من يشرف ويعتمد عليه، ويؤتمن ويركن في جلائل الخطوب إليه، والناس في هذين الخلقين المتناقضين معافى مكرم، ومبتلي مذمم، وقد قال بعض من افتخر بالخلق الكريم منها:
وأطعن الطعنة النجلاء عن عرض ... وأكتم السر فيه ضربة العنقِ
وقال بعض من خالف هذه صفته، وسلك خلاف محجته:
ولا أكتمُ الأسرارَ لكن أذيعها ... ولا أدعُ الأسرار تغلِي على قلبي
وما أتى من هاتين الخليقتين المتضادتين من منثور الأخبار ومنظوم الأشعار ما يتعب إحصاؤه، ويمل استقصاؤه، ولعلنا نضمن في مجالس كتابنا هذا منه ما يستفيده الناظر فيه، إذا أتى ما يجره ويقتضيه، إن شاء الله.
وذكرت من النوع الذي تضاد فيه فريقان فيما وصف به كل واحد منهما نفسه، شيئاً أحببت أن أثبته فيما ها هنا، وإن كان بابه أوسع من أن يستوعى، وأكثر من أن يستغرق ويستوفي، وهو ما روى لنا أن منفوسة بنت زيد الفوارس لما أهديت إلى قيس بن عاصم قربت إليه إهداء، فقال لها: أين أكيلي؟ فلم تدر ما يقول لها، فأنشأ يقول:
أيا ابنة عبد الله وابنة مالكٍ ... ويا بنة ذي البردين والفرس الوردْ
إذا ما صنعتِ الزّاد فالتمسي له ... أكيلاً فإني لستُ أكلهُ وحدِي
أخاً طارقاً أو جار بيت فإنني ... أخاف ملامات الأحاديثِ من بعدي
وإني لعبد الضيف ما غير ذلة ... وما في إلا ذاك من شيم العبدِ
فسمعه جار له وكان مبخلاً، فقال:
لبيني وبين المرء قيس بن عاصم ... بما قال بون في الفعال بعيد
وإنا لنجفو الضيف من غير عسرة ... مخافة أن يغرى بنا فيعود
عقبى الحسنى
حدثنا عمر بن الحسن بن علي بن مالك الشيباني، قال: أخبرنا أحمد بن محمد بن عبد الحسين بن قتبي، قال: حدثنا أبي، قال: حدثنا أحكم الأعمى، عن أبي خالد بن محمد ، عن محمد بن مسلم، عن أبي عبد الله بن جعفر بن محمد الصادق رضي الله عنه، أن رجلاً من بني إسرائيل خرج في بعض حوائجه، وكانت له امرأة فأوصى بها أخاه، وسأله يتعهدها ويقوم بحوائجها وما تريد، فكان يأتيها فيسألها عن بعض حوائجها وما تريد، إلى أن رآها فوقعت في نفسه، فراودها فأبت عليه، فقال لها: والله لئن لم تفعلي لأهلكنك، قالت: لا والله ما أنا بفاعلة ولا أنا متابعتك على ما تريد فعله فافعل ما أنت فاعل، فسكت عنها إلى أن قدم أخوه فتلقاه وسأله وحادثه إلى أن جرى ذكرها، فقال: يا أخي علمت أنها راودتني عن نفسي وفعلت وفعلت؟ فقال: أخوه أي شيء تقول؟ قال: هو والله ما قتل لك، فلما قدم الرجل لم تكن له همة إلا أن حملها ولم يسألها عن شيء تصديقاً لأخيه، فأنزلها ليلاً وضربها بسيفه حتى ظن أنه قتلها ثم مضى، وإن المرأى بقي بها رمق، فقامت تدب إلى أن انتهت إلى أصل دير راهب فسمع أنينها فأشرف عليها من ديره، فلما رآها نزل ودعا غلاماً له أسود فاحتملاها فأدخلاها الدير، فلم يزل الراهب يعالجها حتى برأت، وكان له ابن صغير قد ماتت أمه، فقال الراهب: إن شئت أن تذهبي فاذهبي، وإن شئت أن تقيمي فأقيمي، فقالت: بل أقيم فأخدمك أبداً، فدفع إليها ابنه وكانت تربيه إلى أن وقعت في نفس العبد الأسود فراودها، وقال: والله لئن لم تتابعيني لأهلكنك، قالت: ما أنا بمتابعتك فافعل ما أنت فاعل، فلما كان الليل جاء إلى الصبي وهو نائم بين يديها فذبحه، فلما فعل لك مضى إلى الراهب فقال له: أما علمت ما كان من أمر هذه الخبيثة وما فعلت بابنك؟ وترى هذه فعل بها ما فعل إلا من أمر عظيم قد أتته، قال الراهب: ويحك وما فعلت بابني؟ قال: ذبحته. فجاء الراهب فوجد ابنه متشحطاً في دمه، فقال لها: ما هذا؟ قالت: لا علم لي غير أن غلامك كان من أمره وكان، فقصت عليه القصة، فقال الراهب: قد شككتني في أمرك، ولست أحب مقامك معي، فهذه خمسون ديناراً فخذيها وامضي حيث شئت تكون لك قوة، فأخذتها ومضت حيث انتهت إلى قرية، فإذا رجل قدم ليصلب والناس مجتمعون والوالي، فقالت للوالي - وقد يرفع الرجل على الخشبة - هل لك أن تأخذ مني خمسين ديناراً وتخلي سبيل هذا الرجل؟ قال: هات. فحلت كمها فدفعت إليه الخمسين ديناراً فخلى سبيل الرجل، فقال لها الرجل: ما صنع أحد بأحد ما صنعت لي أنت، ولست بمفارقك، أخدُمك حتى يفرق الموت بيننا. فمضى معها حتى انتهيا إلى ساحل البحر والناس يعبرون في السفن فدخل وأدخلها وكان لها هيئة وجمال، فلما رآها أهل السفينة قالوا: من هذه المرأة منك؟ قال: مملوكة لي، وقد وقعت في نفس رجل منهم لما رآها، فقال له الرجل: أتبيعها؟ قال: إني لأكره بيعها، ولو أردت ذلك ثم علمت للقيتُ منها أذى لأنها تحبني، وقد أخذت على ألا أبيعها أبداً، قال الرجل: بعها وخذ مالك واخرج ولا تعلمها، فباعه إياها بمال كثير فدفعه إليه وأشهد عليه أهل السفينة وهي مع النسا، وقرب إليه قارباً فرجع فيه وهي لا تعلم ومضوا في البحر، فلما علم الذي اشتراها أنه قد تباعد ولا تقدر عليه قام يكلمها ويعلمها أنه قد اشترها، قالت: اتق الله فإني امرأة حرة، قال: دعي هذا عنك فقد مضى صاحبك فلا تقدرين عليه، فلا تزوجي بما لا تنتفعين به، وأقبل أهل السفينة عليها وقالوا: يا عدوة الله! قد اشتراك الرجل ونحن نشهد، قالت: ويحكم! خافوا الله فإني والله امرأة حرة وما ملكني أحد قد، قالوا: قم إليها حتى تفعل بها كذا وكذا، فإنك إذا فعلت ذلك سكنت، فقام إليها فلما خافت على نفسها دعت الله عز وجل عليهم فإذا السفينة قد انقلبت بهم، فلم ينج منهم غيرها على ظهر السفينة، وكان للملك ذلك اليوم عيد على ساحل البحر من الجانب الآخر، وهو واقف وأهل مملكته فلما رأى ذلك بعث من دخل عليهم في السفن فلم يقدر على غيرها، فأخرجت إليه، فساءلها عن أمرها ودعاها إلى التزويج فأبت، وقال: إن لي قصة وليس يجوز لي التزويج، فصيرها في دار فكان إذا ورد عليه الأمر الذي يهوله أتاها فشاورها، فتشير عليه فيرى في مشورتها البركة، إلى أن حضر الملك فجمع أهل مملكته، فقال: كيف كنت لكم؟ قالوا: كالأب الرحيم فجزاك الله
خيراً، فقال: كيف رأيتم أول أمري من آخره قالوا: كنت في آخر أمرك أحزم، قال: فإن جميع ما رأيتم من ذلك كان بمشورة هذه المرأة، وقد رأيت لكم رأياً، قالوا: وما هو أيها الملك؟ قال: أملكها عليكم من بعدي، قالوا: فرأيك، فملكها عليهم ومات الملك، وإنها أمرت بحشر الناس إليها ليبايعوها، فحشر الناس وجلست تنظر، فمر بها زوجها وأخوه، فقالت: اعزلوا هذين ثم مر بها المصلوب الذي باعها، فقالت: اعزلوا هذا، ثم مر بها الراهب وغلامه، فقالت: اعزلوا هذين، ثم صرفت الناس ودعت بهم فقالت لزوجها: تعرفني؟ قال: لا والله، إلا أني أعلم أنك الملكة، قالت: أنا فلانة امرأتك، وإن أخاك فعل بي وفعل وخبرته الخبر، وإن الله تعالى يعلم أنه لم يصل إلي رجل منذ فارقتك، ثم دعت بأخيه فقتل، ثم دعت بالراهب فأجازته، وقالت: ارفع غلي ما كانت لك من حاجة، وحدثته بقصة الغلام وما صنع بابنه، ثم أمرت بالغلام فقُتل، ثم دعت بالمصلوب وأمرت به أن يقتل ويصلب، ففعل ذلك بهن ومكثت في ملكها ما أراد الله أن تمكث ثم ماتت.، فقال: كيف رأيتم أول أمري من آخره قالوا: كنت في آخر أمرك أحزم، قال: فإن جميع ما رأيتم من ذلك كان بمشورة هذه المرأة، وقد رأيت لكم رأياً، قالوا: وما هو أيها الملك؟ قال: أملكها عليكم من بعدي، قالوا: فرأيك، فملكها عليهم ومات الملك، وإنها أمرت بحشر الناس إليها ليبايعوها، فحشر الناس وجلست تنظر، فمر بها زوجها وأخوه، فقالت: اعزلوا هذين ثم مر بها المصلوب الذي باعها، فقالت: اعزلوا هذا، ثم مر بها الراهب وغلامه، فقالت: اعزلوا هذين، ثم صرفت الناس ودعت بهم فقالت لزوجها: تعرفني؟ قال: لا والله، إلا أني أعلم أنك الملكة، قالت: أنا فلانة امرأتك، وإن أخاك فعل بي وفعل وخبرته الخبر، وإن الله تعالى يعلم أنه لم يصل إلي رجل منذ فارقتك، ثم دعت بأخيه فقتل، ثم دعت بالراهب فأجازته، وقالت: ارفع غلي ما كانت لك من حاجة، وحدثته بقصة الغلام وما صنع بابنه، ثم أمرت بالغلام فقُتل، ثم دعت بالمصلوب وأمرت به أن يقتل ويصلب، ففعل ذلك بهن ومكثت في ملكها ما أراد الله أن تمكث ثم ماتت.
التعليق على الخبرقال القاضي: وإن مما تقدمت روايتنا إياه في هذا المجلس من التنبيه ما يبعث الألباء على تأمل عاقبة أعمالهم، وما تؤثره نياتهم ومقاصدهم في أفعالهم، وحسن عقبى الحسنى وسوء مغبة السوءى. نسأل الله عز وجل أن يهب لنا بصيرة مؤدية لنا إلى السلامة والغنيمة في الدنيا والآخرة، فلم ينل أحد خيراً إلا بتوفيقه وإحسانه، ولم يحلل به سوء في دنياه إلا بامتحانه، ولا في دينه إلا بخذلانه.
الوشاية منزلة بين الخيانة والإثمحدثنا ابن دريد، قال: حدثنا أبو حاتم، قال: أخبرني أبو الحسن المدائني، قال: وشى واش بعبد الله بن همام السلولي إلى زياد أنه هجاك فقال زياد: أجمع بينك وبينه؟ قال: نعم، قال: فبعث زياد إلى ابن همام فجيء به فأدخل الرجل بيتاً، ثم قال زياد: يا ابن همام! بلغني أنك هجوتني، قال: كلا أصلحك الله ما فعلت، ولا أنت لذلك بأهل، قال: فإن هذا أخبرني - وأخرج الرجل - فأطرق ابن همام هنيهة، ثم أقبل على الرجل فقال:
وأنت امرؤ إما ائتمنتك خالياً ... فخنت، وإما قلت قولاً بلا علم
فأنت من الأمر الذي كان بيننا ... بمنزلةٍ بين الخيانة والإثم
فأعجب زياداً جوابه، وأقصى الساعي ولم يقبل منه.
هذا سوار ساقه الله إليك
حدثنا محمد بن القاسم الأنباري، قال: حدثني أبي، قال: قال أبو العباس محمد بن إسحاق بن أبي العنبس، عن إسحاق بن يحيى بن معاذ، قال: حدثني سوار صاحب رحبة سوار، قال: انصرفت يوماً من دار المهدي، فلما دخلت منزلي عوت بالغداء فجاشت نفسي وأمرت به فرد، ثم دعوت بالنرد ودعوت جارية لي ألاعبها فلم تطب نفسي لذلك، فدخلت للقائلة فلم يأخذني النوم، فنهضت وأمرت ببغلة لي شهباء فأسرجت فركبتها، فلما خرجتُ استقبلني وكيل لي ومعه مال فقتل: ما هذا؟ فقال: ألفا درهم جبيتها من مستغلك الجديد، قلت: أمسكها معك واتبعني، قال: وخليت رأس البغلة حتى عبرت الجسر ثم مضيت في شارع دار الرقيق حتى انتهيت إلى الصحراء، ثم رجعت إلى باب الأنبار فطوفت، فلما صرت في شارع باب الأنبار انتهيت إلى باب دار نظيف عليه شجرة وعلى الباب خادم، فوقفت وقد عطشنا، فقال للخادم، أعندك ما تسقيني؟ قال: نعم، وقام فأخرج قلة نظيفة حيرية طيبة الرائحة عليها منديل، فناولني فشربت، وحضر وقت العصر فدخلت مسجداً على الباب فصليت فيه، فلما قضيت صلاتي إذ أنا بأعمى يتلمس، فقلت: ما تريد يا هذا؟ قال: إياك أريد، قلت: وما حاجتك؟ فجاء حتى قعد إلي فقال: شممت منك رائحة الطيب فظننت أنك من أهل النعيم، فأردت أن ألقي عليك شيئاً، فقلت: قل، قال: أترى باب هذا القصر؟ قلت: نعم، قال: هذا قصر كان لأبي فباعه وخرج إلى خراسان وخرجت معه، فزالت عنا النعم التي كنا فيها، فقدمت فأتيت صاحب الدار لأسأله شيئاً يصلني به وأصير إلى سوار، فإنه كان صديقاً لأبي، قلت: ومن أبوك؟ قال: فلان بن فلان، قال: فإذا أصدق الناس كان لي فقلت له: يا هذا فإن الله عز وجل قد أتاك بسوار ومنعه النوم والطعام حتى جاء به فأقعده بين يديك، ثم دعوت الوكيل وأخذت الدراهم منه ودفعتها إليه، وقتل له: إذا كان غد فصر إلى المنزل، ثم مضيت فقتل: ما أحدث أمير المهدي بشيء هو أطرف من هذا، فأتيته فاستأذنت عليه فأذن لي، فدخلت إليه فحدثته فأعجبه فأمر لي بألفي دينار، فأحضرت، فقال: ادفعها إليه. قال: فنهضت، فقال لي: أعليك دين؟ قلت: نعم، قال كم؟ قلت: خمسون ألف دينار. فأمسك وجعل يحدثني ساعة، ثم قال: امض إلى منزلك، فصرت إلى منزل فإذا خادم معه خمسون ألف دينار فقال: يقول لك أمير المؤمنين اقض بهما دينك. قال: فقبضتها، فلما كان من الغد أبطأ علي المكفوف وجاء رسول المهدي يدعوني فجئته، فقال: فكرت في أمرك وقتل: يقضي دينه ثم يحتاج إلى الحيلة والقرض، وقد أمرتُ لك بخمسين ألف دينار أخرى، قال: فقبضتها وانصرفت فأتاني المكفوف فدفعت إليه الألفي دينار، وقتل قد رزق الله تعالى بكرمه بك خيراً كثيراً، وأعطيته من مالي ألفي دينار.
أبيات في التوديعحدثنا محمد بن يحيى الصولي، قال: كنا عنده عشية - يعني أبا العباس أحمد بن يحيى - وذلك في سنة ثلاث وثمانين في شوال، فجاءه أبو الحسن الأسدي يودعه في خروجه إلى مكة، فقال له: لو كنا نحسن صنعنا عند وداعك ما صنع غيرنا، فقال: وما هو؟ قال: قال أبو سعيد عبد الله ابن شبيب: أتيت هشام بن إبراهيم الأنصاري لأودعه في خرجة خرجها إلى المدينة، فقال: لا أودعك حتى أغنيك، فغنى:
وأنا بكيت على الفرا ... ق فهل بكيتَ كما بكيتُ
ولطمتُ خدي خالياً ... ومرسته حتى اشتفيتُ
وعواذلي ينهينني ... عمن هويتُ فما انتهيتُ
قال أبو العباس بعقب هذا شيئاً لم أفهمه إلا أنه تكلم في أنا بكيت أراد أنا بكيت بغير وقوف على الألف. قال: قال أبو سعيد: فجئت إلى الزبير لأودعه فحدثته بحديث هشام، فقال: وأنا لا أودعك حتى أغني:
أزِف البين المبين ... وجلا الشك اليقين
لم أكن لا كنتُ أدري ... أن ذا البين يكونْ
علموني كيف أشتا ... ق إذا خف القطينْ
حنّت العيس فأبكي ... من العيس الحنين
حذف ألف أنا في الوصلقال القاضي: الكلام المشهور: أنا فعلت بغير ألف في الوصل، فإذا وقف المتكلم قال: أنا، فأثبت الألف، وإثباتها في الوصل لغة قد قرئ بها في مواضع من القرآن، وممن قرأ كذلك نافع فيمن وافقه من أهل المدينة، ومن هذه اللغة، قول الشاعر:
أنا شيخ العشيرة فاعرفوني ... حميداً قد تذريت السناما
نصب حميداً على المدح والافتخار، وقد قرأ بعض المتقدمين " ونحن عصبة " نصباً على هذا النحو من الاختصاص والافتخار.
أبيات لسوار يغني بهاحدثنا المظفر بن يحيى بن أحمد المعروف بابن الشرابي، قال: حدثنا الحسين بن قصر، قال: حدثنا الجرمي، قال: دخلتُ حماماً في درب الثلج، فإذا فيه سوار بن عبد الله القاضي في البيت الداخل قد استلقى وعليه المئزر، فجلست بقربه فساكتني ساعة ثم قال: قد أحشمتني يا رجل، فإما أن تخرج أو أخرج فقلت: جئت أسألك عن مسألة، فقال: ليس هذا موضع المسائل، فقلت: إنها من مسائل الحمام، فضحك وقال: هاتها، فقلت: من الفتى الذي يقول:
سلبتِ عظامي لحمها فتركتها ... عَواريَ مما نالها تتكسرُ
وأخليتها من مخها فتركتها ... قوارير في أجوافها الريح تصفرُ
إذا سمعتْ ذكرَ الفراق تراعدت ... مفاصلها خوفاً لما تتنظرُ
خذي يدي ثم اكشفي الثوب فانظري ... بلى جسدي لكنني أتستر
فقال سوار: أنا والله قلتها. قلت: فإنه يغني بها ويجود، فقال: لو شهد عندي الذي يغني بها لجزت شهادته.
قوله: أحشمتني لغة، وحشمتني أكثر في العربية، قال الشاعر:
لعمرك إن قرص أبي خبيب ... بطيء النضج محشوم الأكيلِ
ومن مأثور الحكمحدثنا محمد بن مزيد الخزاعي، قال: حدثنا الزبير بن بكار، قال: حدثني علي بن محمد المدائني، قال: قال ملك من ملوك الأعاجم لحكيم من حكمائهم: أي الملوك أحزم؟ قال: من ملك جده هزله، وقهر رأيه هواه، وعبر فعله عن ضميره، ولم يخدعه رضاهُ عن خطئه، ولا غضبه عن كيده.
قال القاضي: هذا من أفصح لفظ وأحسنه، وأوضح معنى وأبينه، وأنشدنا محمد بن القاسم الأنباري، قال: أنشدني أبي لبعض الأعراب:
ألا يا حمام الشعب شعب مؤنسٍ ... سقيت الغوادي من حمام ومن شعب
سقيت الغوادي رب خودٍ خريدة ... أصاخت لخفضٍ من غنائك أو نصبِ
فإن يرتحلْ صحبي بجثمان أعظُمي ... يقم قلبي المحزون في منزل الركبِ
المجلس العاشر
رجل أحب قومهحدثنا أحمد بن محمد أبو بكر بن أبي شيبة البزاز، في المحرم سنة سبع عشرة وثلثمائة قال حدثنا ابن حسان، قال: حدثنا بقية، قال: حدثنا شعبة، عن ثابت، عن أنس، قال: قيل: يا رسول الله! رجل أحب قوماً ولما يعمل مثل عملهم، قال: " هو منهم " قال: فما فرح أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء فرحهم بهذا الحديث.
التعليق على الحديثقال القاضي أبو الفج: أبان رسول الله صلى الله عليه وسلم بما جاء عنه في هذا الحديث أن من تولى قوماً وأحبهم، وكان راضياً بما أتوه من أفعالهم فهو منهم، في استحقاقه الثناء والمدح، والتولي لمشاركته إياهم في اعتقاد ما يعتقدونه وفي استحسان ما يستحسنونه، وكذلك الأمر في من تولى قوماً على اعتقاد فاسد وفعل قبيح في أنه ملحق في الذم بهم، وجار في سقوط المنزلة مجراهم.
وجاء في الخبر أن من حضر الفتنة فأنكرها فهو بمنزلة ن غاب عنها، ومن غاب عنها ورضي بها كان بمنزلة من شهدها، وقد قال الله جل جلاله " يا أيها الذين آمنا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء، بعضهم أولياء بعضٍ، ومن يتولّهُم منكم فإنه منهم، إن الله لا يهدي القوم الظالمين " ، وقال جل اسمه: " المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض " ، وقال: " والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض " وما أتى به في هذا المعنى من الكتاب والسنة كثير جداً، وقد نعى الله عز وجل على من كان منهم على عهد نبينا صلى الله عليه وسلم من كفرة أهل الكتاب ما كان من قبل أسلافهم ومن تقادم عهده من آبائهم أنبياءهم، لرضاهم بذلك ودينونتهم به، وتوليهم من تولى دونهم فعله، وإن لم يدركوه ولم يباشروا ما تقدم منه، ولم تزل العرب تفتخر بما أتاه الماضون من آبائهم، وتتمادح وتتعاير به، وينسبونه في ألفاظهم إلى أنفسهم في أشعارهم وخطبهم لهذا المعنى، وهذا مذكور على استقصاء بشواهده في كتابنا المسمى البيان الموجز عن علوم القرآن المعجز، وإذا كان الأمر في هذا الفصل على ما وصفنا، فتبين أن الراضي بالفعل والمؤتى له والدال عليه مشارك لفاعله فيما بكسبه من حمد أو ذم، أو أجرٍ أو إثم، ولذلك أشرك رسول الله صلى الله عليه وسلم بين من تولى الحج من غيره وبين من أوصى به، وبين من نفذه في الأجر، وبين آكل الربا ومؤكله وكاتبه وشاهده في الوزر، وبين العاصر والمعتصر، والبائع والمشتري، والحامل والمحمول إليه والساقي والشارب في اللعنة التي أوقعها في الخمر، وقال صلى الله عليه وسلم: " من كتم على غال فهو مثله " وجاء في الكاتم على السارق سرقته أنه يشركه في عارها وإثمها، وهذا الباب أكثر من أن يحصى، ولم يزل ذوو النهي وأولو البصائر والحجى يبعثون على إتيان المحاسن وفعل المكارم ويحضون عليها، فيحسن الذكر لهم والثناء عليهم، ويتوفر من جميل الأحدوثة عنهم ما يرى كثيراً على من باشر الفعل بنفسه، وبذل في العرف خاصة ماله، ولله در القائل:
وإذا امرؤٌ أهدى إليك صنيعهً ... من جاهه فكأنها من ماله
وقد حدثنا أبو النضر أحمد بن إبراهيم بن إسحاق بن سعيد بن الحارث العقيلي، قال: أخبرنا أبو الحسن محمد بن راهويه الكاتب، قال: كتب إلي سهل بن صالح الحلواني أن الحسن بن سهل كتب لرجل شفاعة، فقال الرجل يدعو له ويشكره فقال له الحسن، على ما تشكرنا ونحن نرى كتب الشفاعات زكاةُ مروءاتنا، وأنشد:
فرضت علي زكاة ما ملكت يدي ... وزكاة جاهي أن أعين وأشفعا
فإذا ملكت فجد وإن لم تستطع ... فاجهد بوسعك كله أن تنفعا
هكذا أمل علينا أبو النضر هذا الخبر من حفظه، فقال فيه: فقام إليه يدعو له ويشكره، وقال: على ما تشكرنا؟ والفصيح من كلام العرب فشكر له، تقول العرب: شكرت النعمة وشكرت للمنعم، قال الله تعالى " واشكروا نعمة الله إن كنتم إياه تعبدون " ، وقال: " قال رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي " وقال تعالى ذكره: " واشكروا لي ولا تكفرون " ، وقال: " أن أشكر لي ولوالديك " وقد جاء: شكرتُ فلاناً في لغةٍ قليلة، من ذلك قول الشاعر:
هم جمعوا نعمى وبؤسي عليكمُ ... فهلا شكرت القوم إذ لم تقاتل
وقال أبو نخيلة السعدي:
شكرتك إن الشكر حبلٌ من التقى ... وما كل من أوليته نعمةً يقضي
قال القاضي: ولنا في هذا المعنى، والكلام على فقهه، وبيان أصل ما يتفرع منه رسالة مفردة مستقصاة، يعز المتصورون لها، ويقل القائمون بها، ونحمد الله على ظاهر نعمه وباطنها.
وأما قوله في هذا الخبر: على ما تشكرنا، فقد بينا في مجلس من مجالسنا هذه أن الفصيح من كلام العرب حذف الألف فيما يأتي في هذا الباب على لفظ الاستفهام، كقولك: فيم أنت، ولم فعلت؟ وعلام تذهب؟ وعم تسأل؟ وذكرنا ما تستشهد به على هذا، وبعض ما أتى على اللغة الأخرى الآتية بإثبات الألف بشواهده بما كرهنا إعادته، ومن هذا الباب أيضاً: حتام كذا، كما قال الكميت:
فتلك ولاةُ السوء قد طال عهدهم ... فحتام حتام العناء المطولُ
حدثنا الحسين بن القاسم الكوكبي، قال: حدثنا محرز الكاتب، قال: قال الحسن بن سهل: كتب الشفاعات زكاة الجاه.
امرأتك أكرمكم
حدثنا بن القاسم الأنباري، قال: حدثني أبي، قال: حدثنا أبو عكرمة الضبي، قال: حدثنا سليمان بن أبي شيخ، قال: حدثنا أبو عبد الله الواقدي القاضي، قال: جاءتني جارتي يوم عرفة، فقالت لي: ما عندنا من آلة العيد شيء، فمضيت إلى صديق لي من التجار فعرفته حاجتي إلى القرض، فأخرج إلي كيساً مختوماً فيه ألف ومائتا درهم، فانصرفت به إلى المنزل، فما استقررت جالساً حتى استأذن علي رج من بني هاشم، فذكر تخلف غلته واختلال حاله وحاجته إلى القرض، فدخلت إلى امرأتي فعجبتها من ذلك، فقالت: فما عزمك؟ قلت: أشاطره الكيس، فقالت: والله ما أنصفت، لقيت رجلاً سوقة فأعطاك شيئاً، وجاءك رجل له من رسول الله صلى الله عليه وسلم رحم فتعطيه نصف ما أعطاك السوقة، فأخرجت الكيس بخاتمه فدفعته إليه، ومضى صديقي التاجر يلتمس منه القرض فأخرج إليه الكيس بخاتمه، فلما رآه عرفه فجاءني به، ثم وافاني رسول يحيى بن خالد يقول: إن الوزير شُغل عنك بحاجاتِ أمير المؤمنين وهو يطلبك، فركبتُ إليه وحدثته حديث الكيس وانتقاله، فقال: يا غلام! هات الدنانير، فجاء بعشرة آلاف دينار، فقال: خذ أنت ألفين، وأعط الهاشمي ألفين، وصديقك التاجر ألفين، وامرأتك أربعة آلاف دينار، فإنها أكرمكم.
قال القاضي: أملى علينا أبو بكر بن الأنباري هذا الخبر في إثر خبر الواقدي مع يحيى بن خالد، وهو يضارع هذا الخبر في الجملة ويناسبه، وأنا ذاكره، إن شاء الله.
خبر الواقدي مع يحيى بن خالدحدثنا محمد بن القاسم الأنباري، قال: حدثنا أبي، قال: حدثنا عامر ابن عمران بن زياد، أبو عكرمة الضبي، قال: حدثنا محمد بن يحيى العنبري، عن أبي عبد الله الواقدي، قال: كنت حناطاً بالمدينة أضارب بمائة ألف درهم من مال الناس قبلي، فلزمني وضائع فشخصت إلى بغداد وقصدت يحيى بن خالد البرمكي، فجلست في دهليز وآنست الخدم والحاشية، وعرفتهم حاجتي إلى الوصول إليه، فقال لي بعضهم: إذا وضع الطعام لم يحجب عنه أحد، فحينئذ أدخل فأجلسك معه على المائدة، ففعل بي ذلك، وسألني يحيى عن خبري فشرحته له، فلما غسلنا أيدينا دنوت منه أقبل رأسه فاشمأز مني، فلما صرت إلى الموضع الذي يركب منه إذ قد لحقني خادم بكيس فيه ألف دينار، فقال: الوزير يقرأ عليك السلام ويقول لك: استعن بهذا على أمرك، فأخذت وعدت في اليوم التالي فأجلست معه على المائدة، فسألني عما سألني في اليوم الماضي، كأنه لم يرني، فلما غسلنا أيدينا دنوت لأقبل رأسه فاشمأز من ذلك، فلما صرت إلى موضع الركوب لحقني الخادم بمثل ذلك الكيس ومثل تلك الرسالة، فأخذته وانصرفت، وفعل بي في اليوم الثالث مثل ذلك، فلما كان اليوم الرابع وغسلنا أيدينا دنوت لأقبل رأسه فلم يشمأز من ذلك، وقال: إنما امتنعت من هذا فيما مضى لأنه لم يكن وصل إليك من معروفنا ما يحتمل هذا، ثم قال: يا غلام! سلم إليه الدار الفلانية، يا غلام! افرشه الفرش الفلاني، ثم قال: ادفعوا إليه مائة ألف درهم توجه في قضاء دينك واحمل عيالك إلى حضرتنا، فقتل: إن رأي الوزير أن يأذن لي في الشخوص لأسلم إلى غرمائي حقوقهم فأنا بهم أعرف، وأدم بعيالي فأنا بهم أرفق. فقال: فلا تتأخر عنا، وأمر لي بجائزة أخرى للشخوص، فقدمت المدينة فقضيت ديني وقدمت بعيالي، ولم أزل في ناحيته ومنقطعاً إليه.
قال القاضي: وقد روينا في هذا المعنى من أبواب المكارم ما يعود من محمود مغبتها وحسن عاقبتها، وجميل الأحدوثة عن أهلها ويأتي بالثناء عليهم، وإن تصرمت أزمانهم ففقدت أعيانهم، وقد جاء في تأويل قوله عز وجل: " واجعل لي لسان صدقٍ في الآخرين " أنه الثناء الحسن، وقد قال حاتم:
أماوي إن المال غاد ورائحٌ ... ويبقى من المال، الأحاديث والذكرُ
وقال آخر:
ثمن الإحسان شكرُ ... ويدُ المعروف ذخرُ
وثناء الحي بعد المو ... ت للميت عمرُ
ولعمري إن الزمان الذي يثنى فيه على الميت بعد موته أحسن عمريه وأطولهما وأشرفهما وأفضلهما، ومما قيل في هذا المعنى:
ردت صنائعه إليه حياته ... فكأنه من نشرها منشورُ
تعليق لغوي
قوله: فكأنه من نشرها منشور، فيه وجهان: أحدهما فكأنه من حياة ذكره والثناء عليه حي غي ميت، يقال: لفلان ذكر حي إذا كان بادياً غير خامل، وقد مات ذكر فلان إذا انقطع، قال أبو نخيلة:
فأحييت لي ذكرى وما كنت خاملاً ... ولكن بعض الذكر أنبه من بعض
والوجه الثاني: أن يكون عني بنشرها رائحتها الطيبة، كما قال الشاعر:
سقيت دماً إن لم أرعك بضرةٍ ... بعيدة مهوى القرط طيبة النشر
وقال المرقش الأكبر:
النشر مسكٌ والوجوه دنانيرٌ ... وأطراف الأكف عنم
وقال امرؤ القيس:
كأن المدام وصوب الغمامِ ... ونشر الخزامى وريح القطرْ
ويروي القطر، القطر: العود الذي يتبخر به، وقيل للمجموعة التي توضع فيها لتتبخر به: مقطرة، اشتقاقاً منه، قال المرقش الأصغر:
في كل ممشى لها مقطرة ... فيها كباء معد وحميم
الكباء ممدود: العود وقيل: ما يتبخر به، والكبا مقصور المزبلة، وقوله: منشور فيه وجهان، أحدهما: أن يكون معناه النشر المقابل للطي، كما قال الشاعر:
طوى الموت ما بيني وبين محمدٍ ... وليس لما تطوي المنية ناشرُ
فجعل موته بمنزلة ثوب أو غيره طوي ما كان منه ظاهراً وخفي، وقد قال الشاعر:
فإن أظهروا خيراً فجاء بمثله ... وإن هم طووا عنك الحديث فلا تسل
وقال بعض المحدثين:
فإن يك هذا منك جداً فإنني ... مداوي الذي بيني وبينك بالهجرِ
ومنصرف عنك انصراف ابن حرةٍ ... طوى وده والطي أبقى على النشرِ
قال أبو العتاهية - وقد روى لنا عمن تقدم بزمان طويل:
طوتك خطوب دهرك بعد نشرٍ ... كذاك خطوبه نشراً وطياً
ويقال للحديث إذا اشتهر واستفاض وتفرق: انتشر.
والوجه الثاني: أن يكون معنى منشور: محياً، وفي هذا الوجه لغتان يقال: أنشر الله الميت إنشاراً فنشر هو نشوراً، وهذه أعلى اللغتين، وأكثرهما وأفصحهما وأظهرهما وبها جاء التنزيل، قال الله تعالى ذكره: " ثم إذا شاء أنشر " ، يقال من هذه اللغة: أنشره الله وهو منشره، ونشر الميت فهو ناشر، قال الأعشى:
لو أسندت ميتاً إلى نحرها ... عاش ولم ينقل إلى قابرِ
حتى يقول الناس مما رأوا ... يا عجباً للميت الناشرِ
وقال الله أصدق القائلين: " أم اتخذوا آلهة من الأرض هم ينشرون " واللغة الثانية: نشر الميت فهو منشور، وهو أقل اللغتين، وكثير من أهل العلم لا يعرفها وقد حكيت لنا، وممن حكاها أبو بكر بن دريد، وقال الله عز وجل: " وانظر إلى العظام كيف ننشرها " ، فأتت فيها ثلاث قراءات، ننشرها بضم النون والراء بمعنى نحييها، كما قال عز ذكره: " قال من يحي العظام وهي رميم " وننشرها بالراء أيضاً بفتح النون، وفي هذه القراءة وجهان من التأويل، أحدهما النشر الذي هو خلاف الطي، والآخر حمله على لغة من يقول: نر الله الميت فنشر، مثل جبر الله فجبر، كما قال العجاج: قد جبر الدين الإله فجبر ومثله: فغرتُ فاه ففغر إذا فتحته فانفتح، ومثله: شحا فاه وشحا فوه.
والقراءة الثالثة: ننشزها بالزاي بضم النون أي نرفع بعضها إلى بعض واستقصاء الكلام في معاني هذه القراءات وتسمية القراء بها وبيان ما يختار منها يطول، وهو مرسوم فيما ألفناه من كتبنا في القراءات وعلوم القرآن على الشرح والبيان.
ومما جاء في حسن الثناء ما أنشدناه عبيد الله بن محمد بن جعفر الأزدي، قال: أنشدنا أبو بكر بن أبي الدنيا، قال: أنشدني أبو جعفر القرشي:
كل الأمور تزول عنك وتنقضي ... إلا الثناء فإنه لك باقِ
ولو أنني خيرت كل فضيلة ... ما اخترتُ غير محاسن الأخلاق
وقد روينا في بذل العطاء وما ينتج من حسن الثناء ما لم نر إطالة هذه المجلس به، لأنا بنينا كتابنا هذا على تضمينه أنواعاً منثورة، وغير جارية على أبواب مجموعة محصورة، لئلا تتفاوت مجالس الكتاب في الطول والقصر، ونحن نأتي من هذا الباب فيما نستقبله من هذه المجالس ما يتفق ويحضر أولاً أولاً، إن شاء الله.
حدثنا الحسين بن القاسم الكوكبي، قال: حدثنا أبو العباس المبرد، قال: أخبرنا التوزي، عن أبي عبيدة، قال: لما بلغ حاتم طييء قول المتلمس:
قليل المال تصلحه فيبقى ... ولا يبقى الكثير على الفسادِ
وحفظُ المال خيرٌ من فناهُ ... وعسف في البلاد بغير زاد
قال: ما له قطع الله لسانه حمل الناس على البخل، فهلا قال:
فلا الجود يفني المال قبل فنائه ... ولا البخل في مال الشحيح يزيدُ
فلا تلتمس مالاً بعيش مقتر ... لك غد رزق يعود جديدُ
ألم تر أن المال غادٍ ورائحُ ... وأن الذي يعطيك غير بعيدُ
ولقد أحسن حاتم في قوله: وأن الذي يعطيك غير بعيد ولو كان مسلماً لرجي له بما أتى من هذا ما يغتبطه في معاده، وقد أتى كتاب الله عز وجل في هذا المعنى بما يعجز المخلوقون عن مساواته، قال الله تعالى ذكره: " واسألوا الله من فضله " ، وقال جل ثناؤه: " وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداعي إذا دعان " .
العباس بن الأحنف يؤتى به ليلاً لإجازة بيت
حدثنا محمد بن القاسم الأنباري، قال: حدثني أبي قال: حدثنا أبو محمد بن أبي سعد، قال: حدثنا عبد الله بن الربيع، قال: حدثني بعض أصحابنا، قال: صنع الرشيد ذات ليلة بيتاً واضطرب عليه الثاني، فقال: علي بالعباس بن الأحنف، فأتي به في جوف على حال من الذعر عظيمة، فقال له الرشيد: لا ترع، قال: وكيف لا يكون ذلك؟ وقد طرقت في منزلي في مثل هذا الوقت فلم أخرج من منزلي إلا والراعبة فيه، وأهلي لا يشكون في قتلي، فقال: إنما أحضرتُك لبيت قلته صعب علي أن أشفعه بمثله، قال: ما هو؟ قال:
جنانٌ قد رأيناها ... فلم نر مثلها بشراً
فقال العباس:
يزيدك وجهها حسناً ... إذا ما زدته نظراً
إذا ما الليل جن علي ... ك بالإظلام واعتكرا
ودج فلم تر قمرا ... فأبرزها ترى قمرا
فقال الرشيد: أقل ما يجب علينا أن ندفع إليك دينك إذ نزل بك هذا الروع بعيالك منا. فأمر له بعشرة آلاف درهم وصرفه.
في صلة هذا الخبرحدثنا محمد بن يحيى الصولي، قال: حدثنا الغلابي، قال: سئل ابن عائشة عن أشعر المحدثين، قال: الذي يقول:
كأن ثيابه أطلع ... ن من أزراره قمراً
قال أبو بكر الصولي: فأخذ هذا المعنى أحمد بن يحيى بن العراق الكوفي فقال:
بدا وكأنما قمرٌ ... على أزراره طلعا
بحت المسك من ... عرق الجبين بنانه ولعا
حدثنا محمد بن يحيى الصولي، قال حدثنا أحمد بن إسماعيل، قال: حدثني محمد بن يزيد المبرد، قال: صرت إلى مجلس ابن عائشة وفيه الجاحظ والجماز، فسأله عيسى بن إسماعيل تينة: من اشعر المولدين؟ فقال: الذي يقول:
كأن ثيابه أطلع ... ن من أزراره قمراً
يزيدك وجهه حسناً ... إذا ما زدته نظراً
بعين خالط التفتي ... ر من أجفانها الحورا
ووجه سامري إذ تصوب ماؤه قطرا
يعني العباس بن الأحنف.
في وجهه شافعحدثنا محمد بن يحيى الصولي، قال: حدثنا علي بن يحيى، قال: كنت واقفاً بين يدي المعتضد وهو مقطب، فأقبل بدرٌ فلما رآه من بعيد تبسم وأنشد:
في وجهه شافع يمحو إساءته ... من القلوب وجيه حيث ما شفعا
ثم قال لي: لمن هذا؟ قلت: يقوله الحكم بن قنبر المازني البصري، قال: أنشدني باقي شعره، فأنشدته:
لهفي على من أطار النوم فامتنعا ... وزاد قلبي على أوجاعه وجعا
كأنما الشمسُ من أعطافه لمعتْ ... حسناً إلى البدر من أزراره طلعا
مستقبل بالذي يهوى وإن عظمت ... منه الإساءة معذور بما صنعا
في وجهه شافع يمحو إساءته ... من القلوب وجيهٌ حيث ما شفعا
قال الصولي: وأخذ هذا المعنى أحمد بن يحيى العراق الكوفي فقال:
بدا فكأنما قمرٌ
وأنشد البيتين، ثم قال الصولي: حدثني أبو عبد الله حرمي الكاتب، قال: حدثني أحمد بن يحيى العراق، قال: خرجت من بغداد أريد الكوفة واكتريت حماراً فتألمت من ركوبه، وكان مع المكاري عدة من الحمير للكراء غيره، ففكرت في أن اسأله إبداله لي بغيره فابتدأ يغني:
بدا وكأنما قمر ... على أزراره طلعا
فقلت: أعلمه أن الشعر لي حتى يهل عليه إبداله حماري، فقلت: لمن هو؟ فقال: لمن أمه ألف مؤاجرة، جروالك جر، فخفت والله أن أزداد فيزيدني، ومر بي من الحمار شدة.
القول في معنى في وجهه شافعقال القاضي: يتجه في قوله: في وجهه شافع يمحو إساءته من القلوب، أن يكون المعنى: يمحو من القلوب الإساءة فيزيلها منها، ويجوز أن يكون المعنى: في وجهه شافع من القلوب وجيه، ويكون في الكلام تقديم وتأخير، ويكون من القلوب من صلة شافع، ويشهد لهذا أنه قد روى هذا البيت من طريق آخر:
في وجهه شافع يمحو أساءته ... مشفع ووجيه حيث ما شفعا
فعلى هذا: من القلوب صفة لشافع كمشفع، والتقديم والتأخير إذا دلت جملة الكلام على معناه وعلى موضع كل شيء منه، كثير في اللغة مشهور في العربية. قال الله عز وجل: " الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجاً قيماً " .
وقال الشاعر:
إذا شاب الغراب لقيت أهلي ... وصار القار كاللبن الحليب
الأصمعي يعادي ابن الأحنفحدثنا الحسين بن القاسم الكوكبي، قال: قال لي أبو العباس محمد بن يزيد المبرد الثمالي: كان الأصمعي يعادي عباس بن الأحنف، فقال عباس يوماً وهو بين يدي الرشيد والأصمعي بالحضرة:
إذا أحببت أن تع ... مل شيئاً يعجبُ الناسا
فصور ها هنا فوزا ... وصور ثم عباسا
ودع بينهما فتراً ... فإن زدت فلا باسا
فإن لم يدنوا حتى ... ترى رأسيهما راسا
فكذبها بما قاست ... وكذبه بما قاسا
فقال الرشيد: ما رأيت معنى أحسن من هذا. فقال الأصمعي: قد سبقه إلى هذا المعنى رجلٌ من العرب ورجل من النبط، فقال: ما قال العربي؟ قال: كان رجل يقال له عمر يحب جارية يقال لها قمر، فقال:
إذا أحببت أن تب ... صر شيئاً يعجب البشرا
فصور ها هنا قمراً ... وصور ها هنا عُمرا
فإن لم يدنوا حتى ... ترى بشريهما بشرا
فكذبها بما ذكرت ... وكذبه بما ذكرا
قال الرشيد: فما قال النبطي؟ قال: كان رجل يقال له زورا يحب جارية يقال لها فلقا، فقال:
إذا أحببت أن تع ... مل شيئاً يعجب الخلقا
وتسمع صوت معشو ... قين لاقي في الهوى ربقا
فصور ها هنا زورا ... وصور ها هنا فلقا
فإن لم يدنوا حتى ... ترى خلقيهما خلقا
فكذبها بما لاقت ... وكذبه بما يلقى
تعليق نحويقال القاضي: هكذا رواه لنا الكوكبي. فصور ها هنا فوزاً بالصرف، وترك الصرف أعلى، وكان الزجاج لا يجيز صرف شيء من الأسماء المؤنثة إلا في ضرورة الشعر، وكان جميع من تقدم من النحاة يجيز في مثل هند ودعد، وما كان وسطه من أسماء المؤنث ساكناً ويختارون ترك الصرف في غير الشعر.
وقوله: حتى ترى رأسيهما رأساً، ثنى الرأس في اللفظ، والفصيح فيه وفيما كان في الجسد منه واحد أن يؤتى به على لفظ الجميع في تثنيته وجمع، قال الله تعالى: " فقد صغت قلوبكما " واللغة الأخرى معروفة ويبين ذلك قول أبي ذؤيب:
فتخالسا نفسيهما بنوافذٍ ... كنوافذ العبط التي لا ترقعِ
ويروي العبط وهو جمع عبيط، يقال: اعتبط الرجل إذا هلك شاباً، واعتبط البعير إذا نُحر فتياً، قال أمية بن أبي الصلت:
من لم يمت عبطةً يمت هرماً ... للموت كأسٌ والمرء ذائقها
والدم العبيط: الطري، ويروي كنوافذ العطب وهو جمع عطبة، وهي القطعة من القطن، مثل غرفة وغرف وحجرة وحجر.
أنشدنا ابن دريد، قال: أنشدني أبو حاتم، عن أبي عبيدة:
لي صاحبٌ ليس يخلو ... لسانه عن جراحي
يجيد تمزيق عرضي ... على طريق المزاحِ
المجلس الحادي عشر
نعم الإبل الثلاثونحدثنا بدر بن الهيثم الحضرمي الكوفي، قال: حدثنا محمد بن عمر بن الوليد قال: حدثنا أبو أسامة عن محمد يعني ابن شريك، قال: سمعت عطاء يقول: قال أبو هريرة، قال النبي صلى الله عليه وسلم: " نعم الإبل الثلاثون، ينحر سمينها ويحمل على نجيبها " .
التعليق على الحديث
قال القاضي: قد نبه النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الخبر على أن هذا العدد من الإبل قصدٌ من المال، وأشار بمدحه فيه إلى من نحر السمين منها وحمل على النجيب، فدل على فضل من نحر المال لسبل المعروف ووجوه البر، وأومأ إلى الترغيب في قري الضيف وإنفاق أعلى الظهر وبث المكارم العائدة بالأجر وجميل الذكر، ولم يزل الألباءُ يؤثرون بذل النوال وإفاضة الإفضال، تزوداً ليوم العرض، وصيانة للعرض، ورغبة في إحراز الذكر، وحسن القالة وجميل الذكر، على تشعب الأمور الباعثة لهم على كريم السخاء وشريف العطايا.
فمن جود معن بن زائدةحدثنا عمر بن الحسن بن علي بن مالك اليباني، قال: حدثنا محمد بن يزيد النحوي، قال: حدثنا قعنب، قال: قال سعيد بن سلم: لما ولي المنصور معن بن زائدة أذربيجان قصده قوم من أهل الكوفة، فلما صاروا ببابه استأذنوا عليه فدخل الآذن فقال: أصلح الله الأمير بالباب وفد من أهل العراق، قال: من أي العراق؟ قال: من الكوفة، قال: ائذن لهم، فدخلوا عليه فنظر إليهم معن في هيئة زرية، فوثب على أريكته وأنشأ يقول:
إذا نوبة نابت صديقك فاغتنم ... مرمتها فالدهر بالناس قُلّبُ
فأحسنُ ثوبيكَ الذي هو لابسٌ ... وأفْره مُهريك الذي هو يركب
وبادر بمعروفٍ إذا كنت قادراً ... زوال اقتدارٍ أو غنى عنك يُعقِبُ
قال: فوثب إليه رجل من القوم، وقال: أصلح الله الأمير، ألا أنشدك أحسن من هذا؟ قال: لمن؟ قال: لابن عمك ابن هرمة، قال: هات، فأنشأ يقول:
وللنفس تاراتٌ تحل بها العرى ... وتسخو عن المال النفوس الشحائح
إذا المرءُ لمن ينفعك حياً فنفعه ... أقلُّ إذا ضُمّت عليه الصفائحُ
لأية حالٍ يمنعُ المرء ماله ... غدا فغدا والموت غاد ورائح
قال معن: أحسن والله وإن كان الشعر لغيرك، يا غلام! أعطهم أربعة آلاف يستعينوا بها على أمورهم إلى أن يتهيأ لنا فيهم ما نريد، فقال الغلام: يا سيدي! أجعلها دنانير أم دراهم، فقال معن: والله لا تكون همتك أرفع من همتي، صفّرها لهم.
ومن سخاء يزيد بن المهلبحدثنا إسماعيل بن يونس بن أبي اليسع، قال: حدثنا أحمد بن أبي الحارث، قال: حدثنا المدائني، قال: جاء رجل إلى يزيد بن المهلب فامتدحه، فأحمد عقله وفصاحته فجعله أحد ندمائه، وكان ينصرف في كل يوم من عطيته بمائة دينار، فلما أراد الرحيل والانصراف إلى أهله أمر له بثلاثة آلاف دينار، ثم قال: إن - والله - ما أستقلها تكبراً ولا أستكثرها امتناناً، ولا أستزيدك بها ثناءً ولا أقطع لك بها رجاءً.
ليلى الأخيلية ووفودها على الحجاجحدثنا محمد بن القاسم الأنباري، قال: حدثني أبي، قال: أخبرنا أحمد بن عبيد، عن أبي الحسن المدائني، عمن حدثه، عن مولى لعنبسة ابن سعيد بن العاص، قال: كنت أدخل مع عنبسة إذا دخل على الحجاج، فدخل يوماً ودخلت إليهما وليس عند الحجاج أحد غير عنبسة، فقعدت فجيء الحجاج بطبق فيه رطب، فأخذ الخادم منه شيئاً فجاءني، ثم جاء بطبق آخر فأتاني الخادم منه بشيء، ثم جيء بطبق آخر حتى كثرت الأطباق، وجعل لا يؤتون بشيء إلا جاءني منه بشيء حتى ظننت أن ما بين يدي أكثر مما عندهم، ثم جاء الحاجب فقال: امرأة بالباب، فقال الحجاج: أدخلها. فدخلت، فلما رآها الحجاج طأطأ رأسه حتى ظننت أن ذقنه قد أصاب الأرض، فجاءت حتى قعدت بين يديه فنظرت إليها فإذا امرأة قد أسنت، حسنة الخلق، ومعها جاريتان لها، وإذا هي ليلى الأخيلية، فسألها الحجاج عن نسبها فانتسبت له، فقال لها: يا ليلى! ما أتاني بك؟ قالت: إخلاف النجوم وقلة الغيوم وكلب البرد وشدة الجهد، وكنت لنا بعد الله الرفد، فقال لها: صفي لنا الفجاج، فقاتل: مغبرة والأرض مقشعرة، والمبرك معتل، وذو العيال مختل، والمال القُلّ، والناس مُسنتون، رحمة الله يرجون، وأصابتنا سنون مجحفة مبلطة، لم تدع لنا هبعاً ولا ربعاً، ولا عافطة ولا نافطة، أذهبت الأموال ومزقت الرجال وأهلكت العيال، ثم قالت: قد قلت في الأمير قولاً، قال: هاتي، فأنشأت تقول:
أحجاج لا يفلل سلاحك إنما ال ... منايا بكف الله حيث يراها
أحجاج لا تعطي العداة مناهم ... ولا الله يعطي للعداة مناها
ذا هبط الحجاج أرضاً مريضة ... تتبع أقصى دائها فشفاها
شفاها من الداء العضال الذي بها ... غلام إذا هز القناة سقاها
سقاها فرواها بشرب سجاله ... دماء رجال حيث قال حشاها
إذا سمع الحجاج رز كتيبة ... أعد لها قبل النزول قراها
أعد لها مسمومة فارسية ... بأيدي رجال يحلبون صراها
فما ولد الأبكار والعون مثله ... ببحر ولا أرض يجف ثراها
قال: فلما قالت هذا البيت، قال الحجاج: قاتلها الله! ما أصاب صفتي شاعر منذ دخلت العراق غيرها، ثم التفت إلى عنبسة بن سعيد، فقال: والله إني لأعد للأمر عسى ألا يكون أبداً، ثم التفت غليها، فقال: حسبك، فقالت: قد قلت أكثر من هذا، قال: حسبك ويحك حسبك، ثم اقل: يا غلام! اذهب بها إلى فلان فقل له: اقطع لسانها، فقال له: يقول لك الأمير: اقطع لسانها، قال: فأمر بإحضار الحجام، والتفتت إليه وقالت: ثكلتك أمك، أما سمعة ما قال، إنما أمرك أن تقطع لساني بالبر والصلة فبعث إليه يستثبته، فاستشاط الحجاج غضباً وهم بقطع لسانه، وقال: ارددها، فلما دخلت عليه، قالت: كاد - وأمانة الله - أيها الأمير يقطع مقولي، ثم أنشأت تقول:
حجاج أنت الذي ما فوقه أحد ... إلا الخليفة والمستغفر الصمدُ
حجاج أنت شهاب الحرب إن لقحت ... وأنت للناس نور في الدجى يقدُ
ثم أقبل الحجاج على جلسائه، فقال: أتدرون من هذه؟ قالوا: لا والله أيها الأمير، إلا أننا لم نر امرأة قط أفصح لساناً ولا أحسن محاضرة، ولا أصبح وجهاً ولا أرصن شعراً منها، فقال: هذه ليلى الأخيلية التي مات توبة الخفاجي من حبها، ثم التفت إليها، فقال: أنشدينا يا ليلى بعض ما قال فيك توبة، فقالت: نعم أيها الأمير، هو الذي يقول:
وهل تبكين ليلى إذا مت قبلها ... وقامت على قبري النساء النوائحُ
كما لو أصاب الموت ليلى بكيتها ... وجاد لها دمع من العين سافحُ
وأغبط من ليلى، بمالاً أنالهُ ... بلى كل ما قرت به العين صالح
ولو أن ليلى الأخيلية سلمت ... علي وفوقي تربة وصفائحُ
لسلمت تسليم البشاشة أوزقا ... إليها صدىً من جانب القبر صائحُ
فقال لها: زيدينا يا ليلى من شعره، فقال: نعم، هو الذي يقول:
حمامة بطن الواديين ترنمي ... سقاك من الغر الغوادي مطيرُها
أبيني لنا لا زال ريشك ناعماً ... ولا زلت في خضراء دان نضيرها
وأشرف بالقوز اليفاع لعلني ... أرى نار ليلى أو يراني بصيرها
وكنت إذا ما جئت ليلى تبرقعت ... فقد رابني منها الغداة سفورها
يقول رجال لا يضيرك نأيها ... بلى كل ما شف النفوس يضيرها
بلى قد يضير العين أن تكثر البك ... ى يمنع منها نومها وسرورها
وقد زعمت ليلى بأني فاجرٌ ... لنفسي تقاها أو عليها فجورها
فقال الحجاج: يا ليلى! ما الذي رابه من سفورك؟ قالت: أيها الأمير! كان يلم بي كثيراً فأرسل إلي يوماً: أني آتيك، ففطن الحي فأرصدوا له، فلما أتاني سفرت فعلم أن ذلك لشر، فلم يزد على التسليم والرجوع، فقال: لله درك! فهل رأيت منه شيئاً تكرهينه؟ قال: لا، والله الذي أسأله أن يصلحك، غير أنه قال لي مرة قولاً ظننت أنه قد خضع لبعض الأمر فأنشأت أقول:
وذي حاجة قلنا لا تبح بها ... فليس إليها ما حييت سبيلُ
لنا صاحب لا نبتغي أن نخونه ... وأنتَ لأخرى صاحب وخليلُ
فلا والله الذي أسأله أن يصلحك ما رأيت منه شيئاً قد فرق الموت بيني وبينه، قال: ثم مه، قالت: ثم إنه لم يلبث أن خرج في غزاةٍ له فأوصى ابن عمه: إذا أتيت الحاضر من بني عبادة فناد بأعلى صوتك:
عفا الله عنها هل أبيتن ليلةً ... من الدهر لا يسري إلي خيالها
فخرج وأنا أقول:
وعنه عفا ربي وأحسن حالهُ ... فغز علينا حاجةً لا ينالُها
قال: ثم مه، قالت: ثم لم يلبث أن مات فأتى نعيه، قال: فأنشدينا بعض مراثيك فيه، فأنشدته:
كأن فتى الفتيان توبة لم ينخ ... قلائص يفحصن الحصى بالكراكر
ليبك العذارى من خفاجة نسوة ... بماء شئون العبرة المتحادر
فلما فرغت من القصيدة، قال محصن الفقعسي، وكان من جلساء الحجاج: من الذي يقول هذه هذا فيه، فوالله إني لأظنها كاذبة، فنظرت إليه ثم قالت: والله أيها الأمير إن هذا القائل لي لو رأى توبة لسَرَّه ألا يكون في داره عذراء وهي حامل منه، فقال له الحجاج: هذا وأبيك الجواب، وقد كنت عنه غنياً، ثم قال لها: سلي يا ليلى تعطي، قالت: أعط فمثلك أعطى فأحسن، قال: لك عشرون قالت زد فمثلك زاده فأجمل، قال: لك أربعون، قالت: زد فمثلك زاد فأفضل، قال: لك ستون قالت: زد فمثلك زاد فأكمل، قال: لك ثمانون، قالت: زد فمثلك زاد فتمم، قال: لك مائة، واعلمي يا ليلى أنها غنم، قالت: معاذ الله أيها الأمير، أنت أجود جوداً وأمجد مجداً وأورى زنداً من أن تجعلها غنماً، قال: فما هي ويحك يا ليلى؟ قالت: مائة ناقة برعاتها، فأمر لها بها، ثم قال: لك حاجة بعدها، قالت: تدفع إلي النابغة الجعدي في قيد، قال: قد فعلت، وقد كانت تهجوه ويهجوها، فبلغ النابغة ذلك فخرج هارباً عائذاً بعبد الملك بن مروان فاتبعته فهرب إلى قتيبة بن مسلم بخراسان فاتبعته على البريد بكتاب الحجاج إلى قتيبة، فماتت بقومس ويقال بحلوان.
ذكر السبب في وفاتهاوقد ذكر في وفاتها أمر عجيب يخالف ما فيه هذه الرواية، وأنا بعون الله ذاكر ما حضرني منه ومتبعه البيان عما يشكل من غريب هذا الخبر إن شاء الله.
فمما رويناه من وفاة ليلى الأخيلية ما حدثناه محمد بن أحمد بن أبي الثلج، قال: حدثنا حسين بن فهم، قال: حدثني حسين بن فهم، قال: حدثني محمد بن يحيى الأزدي، عن القتبي قال: قال توبة بن الحمير:
ولو أن ليلى الأخيلية سلمت ... علي وفوقي جندل وصفائحُ
لسلمتُ تسليم البشاشة أوزقا ... إليها صدى من جانب القبر صائح
وأغبط من ليلى بما لا أناله ... بلى كل ما قرت به العين صالح
قال: فلما قتل توبة وأتى بعد مقتله دهر، اجتاز زوج ليلى الأخيلية وهي معه على قبر توبة، فقال لها: يا ليلى! هذا قبر توبة الذي يقول:
لسلمتُ تسليم البشاشة أوزقا ... إليها صدىً من جانب القبر صائحُ
ناديه حتى يجيبك كما زعم، قالت: اذهب عنك، فأبى وألح وحلف عليها أن تناديه، قال: فاستعبرت ثم نادت: يا توبة، قال: ويزقو ثعلب كان إلى جانب القبر فخرج يصيح ويفوت ناقة ليلى، فسقطت عنها فارتاعت لذلك واحتملها زوجها فذهب بها فكان ذلك سبب موتها، عاشت أياماً ثم ماتت.
خبر ثان في ذلكومن ذلك ما حدثناه محمد بن القاسم الأنباري، قال: حدثني أبي، قال: حدثني أبو العباس الأزدي قال: خرج زوج ليلى الأخيلية بليلى، فمرا على قبر توبة بن الحمير، فقال لها: يا ليلى هذا الذي يقول فيك:
ولو أن ليلى الأخيلية سلمت ... علي وفوقي تربة وصفائحُ
لسلمت تسليم البشاشة أو زقا ... إليها صدى من جانب القبر صائح
فقال: أنت طالقٌ إن لم تسلمي عليه حتى أنظر ما يرد عليك، فقالت: وما دعاك إلى عظام قد رمت، قال: هو ما سمعت، فدنت منه، فقالت: السلام عليك يا توبة فتى الفتيان وسيد الشبان، قال: وكانت قطاة قد عششت في جانب القبر، فلما سمعت الصوت نفرت وخرجت تقول: قطا قطا، فلما سمعت ناقةُ ليلى الصوت نفرت بليلى فسقطت فاندقت عنقها، فدفنت إلى جانبه.
خبر آخر عجيب في ذلكومن أعجب ما روى لنا في هذه القصة، ما حدثنا أبي رضي الله عنه، قال: حدثنا أبو أحمد الختلي، قال: أخبرنا عمر بن محمد بن الحكم النسائي، قال: حدثني إبراهيم بن زيد النيسابوري: أن ليلى الأخيلية بعد موت توبة تزوجت، ثم إن زوجها بعد ذلك مر بقبر توبة وليلى معه، فقال لها: يا ليلى تعرفين هذا القبر؟ فقالت لا، قال: هذا قبر توبة فسلمي عليه، فقالت: امض لشأنك فما تريد من توبة وقد بليتُ عظامه، قال: أريد تكذيبه، أليس هو الذي يقول:
ولو أن ليلى الأخيلية سلمت ... علي ودوني تربة وصفائح
لسلمت تسليم البشاشة أوزقا ... إليها صدى من جانب القبر صائح
فوالله لا برحت أو تسلمي عليه، فقالت: السلام عليك يا توبة ورحمك الله وبارك لك فيما صرت إليه، فإذا طائر قد خرج من القبر حتى ضرب صدرها فشهقت شهقة فماتت فدفنت إلى جانب قبره فنبتت على قبره شجرة وعلى قبرها شجرة فطالتا فالتفتا.
التعليق على الخبر بأكملهقال القاضي: قول ليلى الأخيلية في هذا الخبر الذي قدمنا روايته: أصابتنا سنون مجحفة مبلطة، فمجحفة التي قد جهدتم وأصارتهم إلى اختلال أحوالهم، والنقص البين في وفرهم وأموالهم، قال الشاعر:
لو قد نزلت بهم تريد قراهمُ ... منعوك من جهد ومن إجحافِ
والمبلطة على نحو هذا المعنى، وهي التي فرقت جماعتهم، وشتتت شملهم، وفرقتهم للقحط الذي لا مقام معه، والجدب الذي لا صبر عليه، وقد حدثنا المظفر بن يحيى قال: حدثنا احمد بن محمد بن بشر المرثدي، قال: أخبرني أبو إسحاق طلحة بن عبد الله الطلحي قال: أخبرني أحمد بن إبراهيم، قال: أخبرني القرمطي الوالبي: الإبلاط غاية الجهد والحاجة، قد أبلط الرجل، والسنة المبلطة التي قد أكلت كل شيء فلم تدع شيئاً.
وقولها: لم تدع لنا هبعاً ولا ربعاً: الربع من الإبل التي تأتي في أول النتاج والهبع التي تأتي في آخره، قال الشاعر:
ولا وجد ثكلى كما وجدت ... ولا أم أضلها ربعُ
وقال الأعشى:
تلوي بعذق خضاب كلما خطرت ... عن فرج معقومة لم تتبع ربعا
ويقال له ربيع، قال الشاعر:
إن بني صبية صيفيون ... أفلح من كان له ربعيون
وقال آخر:
إذ هي أحوى من الربعي، حاجبه ... والعين بالإثمد الحاري مكحولُ
وروى أن دراهم أصحاب الكهف كانت كأخفاف الربع ويروي أن يونس عليه السلام لما جعل النبوة تفسخ تحتها كما يتفسخ الربع تحت الحمل الثقيل.
وقولها: ولا عافطة، تريد الواحدة من الضأن، ولا نافطة، الواحدة من المعز، يقال: نفطت العنز وعفطت الضائنة، وهما منهما كالامتخاط والاستنثار من الناس، فكأنها قالت: لم تدع لنا عنزاً ولا ضأناً، ومثل هذا قولهم: ماله سبد ولا لبد، يريدون شاة ولا ناقة، وقد يقال للصوف: لبد، والسبد: الشعر، ونظير هذا قوله: لم تبق له ثاغية ولا راغية أي شاة ولا بعير، فالثغاء صوت الغنم والرغاء صوت الإبل، ومن الرغاء قول الشاعر:
رغا فوقهم سقب السماء فداحصٌ ... بشكته لم يستلب فسليب
يعني سقب ناقة صالح، ومثله قول الشاعر:
فلما رأى الرحمن أن ليس فيهم ... رشيد ولا ناهٍ أخاه عن الغدرِ
وصب عليه تغلب ابنة وائلٍ ... فكأن عليهم مثل راغية البكرِ
ومن السبد قول الشاعر:
أما الفقير الذي كانت حلوبته ... وفق العيال فلم يترك له سبدُ
وفي الطير طائر يقال له السبد لوفور ريشه.
وقولها: فما ولد الأبكار والعون مثله، العون: جمع عوان وهي التي بين الكبيرة والصغيرة، قال الله تعالى ذكره في صفة بقرة بني إسرائيل " إنها بقرة لا فارضٌ ولا بكرٌ عوانٌ بين ذلك " ، ويقال: حرب عوان إذا لم تكن مبتدأة، وحاجة عوان إذا لم تكن بكر الحاج، قال الشعار:
قعوداً لدى الأبواب طالبُ حاجةٍ ... عوانٍ من الحاجات أو حاجة بكر
ومما نستحسنه لبعض المحدثين في معاتبة بعض ذوي الخيانة من الإخوان:
وكنت أخي بإخاء الزمان ... فلما انقضى صرت حرباً عواناً
وكنت أعدك للنائبات ... فها أنا أطلب منك الأمانا
ونظير هذا قول الشاعر الآخر:
أيا مولاي صرت قذىً لعيني ... وستراً بين جفني والمنام
وكنتَ من الحوادث لي ملاذاً ... فصرت مع الحوادث في نظام
وكنت من المصائب لي عزاءً ... فصرت من المصيبات العظام
وقال آخر:
هب الزمان زماني ... الشان في الخُلان
يا من رماني لما ... رأى الزمان رماني
ومن ذخرتُ لنفسي ... فعاد ذخر الزمانِ
لو قيل لي خذ أماناً ... من أعظم الحدثانِ
لما أخذتُ أماناً ... إلا من الإخوانِ
وقال ابن الرومي:
تخذتكم ظهراً وعوناً لتدفعوا ... نبال العدا عني فصرتم نصالها
وقد كنت أرجو منكم خير صاحبً ... على حين خذلان اليمين شمالها
فإن أنتم لم تحفظوا لمودتي ... فكونوا كفافاً لا عليها ولا لها
قفوا موقف المعذور عني بمعزلٍ ... وخلوا نبالي والعدا ونبالها
ومما يضارع هذا النوع بعض المضارعة قول ابن الرومي:
عدوك من صديقك مستفاد ... فلا تستكثرن من الصحابِ
فإن الداء أكثر ما تراه ... يكون من الطعام أو الشراب
وأعجبه هذا المعنى فقال:
عدوك من صديقك مستفادٌ ... فلا تكثرن من الصديق
فإن الداء أكثر ما تراه ... يكون من المسوغ في الحلوق
وهذا باب إن استقصيناه طال جداً وتجاوزنا به حد المجلس الواحد من مجالس كتابنا هذا، ولم يبن هذا الكتاب على استيفاء أبواب أنواعه، وإنما جعلناه موشحاً ممتزجاً، بمنزلة الحدائق المشتملة على أنواع مختلفة، يقع الأنس بمشاهدتها، والالتذاذ بجناها، والانتفاع بثمرها.
وقول توبة: وأشرف بالقوزِ اليفاع، القوز: الواحد من أقواز الرمل وهو ما علا واشرف منه، وكذلك اليفاع ما ارتفع، وقال: أيفع الغلام فهو يافع إذا ارتفع، وهو من نوادر أبواب العربية، لأنه جاء على أفعل فهو فاعل، وله أخوات معدودة منها: أورف الظل فهو وارف، وأورس الرمث فهو وارس، وقد قال النابغة:
كليني لهم يا أميمة ناصبٍ ... وليلٍ أقاسيه بطيء الكواكب
بمعنى منصب، كما قال في كلمة أخرى:
تعنّاك همٌّ من أميمة منصبُ
وقوله: أرى نار ليلى أو يراني بصيرها، أي يراني المبصر بها، والعرب تقول: ليل نائم وسر كاتم أي منوم ومكتوم، قال جرير:
لقد لُمْتِنَا يا أم غيلان في السُّرى ... ونِمتِ، وما ليلُ المطي بنائم
ومثل هذا كثير.
أعطنا حقنا الذي في هذا المصحفحدثنا محمد بن يحيى الصولي، قال: حدثنا القاسم بن إسماعيل، قال: حدثنا أحمد بن سعيد بن مسلم الباهلي، عن أبيه، قال: حدثني من حضر مجلس السفاح وهو أحشد ما كان ببني هاشم والشيعة ووجوه الناس، فدخل عبد الله بن حسن بن حسن ومعه مصحف، فقال: يا أمير المؤمنين! أعطنا حقنا الذي جعله الله لنا في هذا المصحف، فأشفق الناس أن يعجل السفاح بشيء إليه فلا يريدون ذلك في شيخ بني هاشم في وقته، أو يعيا بجوابه فيكون ذلك نقصاً وعاراً عليه، قال: فأقبل عليه غير مغضب ولا منزعج، فقال: إن جدك علياً رضي الله عنه وكان خيراً مني وأعدل، ولي هذا الأمر فأعطى جدك الحسن والحسين رضي الله عنهما وكانا خيراً منك شيئاً، وكان الواجب أن أعطيك مثله، فإن كنت فعلت فقد أنصفتُك، وإن كنت زدتُك فما هذا جزائي منك، قال: فما رد عبد الله جواباً، وانصرف الناس يتعجبون من جوابه له.
حكمة علي محبرةحدثنا أبي رضي الله عنه، قال: حدثنا أبو العباس بن مسروق قال: رأيت على محبرة مكتوباً:
تمكن في الفؤاد فما أبالي ... أطال الهجر أم منح الوصالا
المجلس الثاني عشر
امرؤ القيس يحمل لواء الشعر إلى النارحدثنا أحمد بن عبد الله بن نصر بن بجير القاضي، قال: حدثنا سليمان ابن سيف، قال: حدثنا حيان أبو عبد الله جار أبي عاصم، قال: حدثني هشام بن محمد بن السائب، قال: حدثني فروة بن سعيد بن عفيف بن معدي كرب، عن أبيه، عن جده، قال: بينا نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ أقبل إليه وفد من اليمن، فقالوا: يا رسول الله! لقد أحيانا الله عز وجل ببيتين من شعر امرئ القيس، قال: وكيف ذال؟ قالوا: أقبلنا نريدك حتى إذا كنا ببعض الطريق أخطأنا الطريق فمكثنا ثلاثاً لا نقدر عليه، فتفرقنا إلى أصول طلح وسمر ليموت كل رجل منا في ظل شجر، فينما نحن بآخر رمق غذ راكب يوضع على بعير معتم، فلما رآه بعضنا قال والراكب يسمع:
لما رأت أن الشريعة همها ... وأن البياض من فرائصها دامي
تيممت العين التي عند ضارجٍ ... يفيء عليها الظل عرمضها طامي
قال الراكب من يقول هذا الشعر؟ وقد رأى ما بنا من الجهد، قال: قلنا: امرؤ القيس بن حجر، قال: ما كذب وإن هذا لضارجٌ أو ضارج عندكم، فنظرنا فإذا بيننا وبين الماء نحون من خمسين ذراعاً، فحبونا إليه على الركب، فإذا هو كما قال امرؤ القيس عليه العرمض يفيء عليه الظل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ذاك رجل مذكور في الدنيا منسي في الآخرة، شريف في الدنيا خامل في الآخرة، بيده لواء الشعراء يقودهم إلى النار " .
رواية أخرى للخبرحدثنا أحمد بن علي بن السكين البلدي، قال: حدثني أبو داود سليمان بن سيف الحراني، قال: حدثنا حيان بن هلال أبو عبد الله البصري جار أبي عاصم قال حدثنا محمد بن عبد الله بن السائب، قال: حدثنا فروة بن عفيف أو قال: عفيف بن معدي كرب، عن أبيه، عن جده، قال: كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم فأتاه قوم من الأعراب حفاة عراة، فقالوا: يا رسول الله لقد أنجانا الله ببيتين من شعر امرئ القيس بن حجر، قال: وكيف ذاك؟ قالوا: يا رسول الله! أقبلنا نريدك حتى إذا كنا ببعض الطريق أضللناه ثلاثاً لا نقدر عليه، فبينا نحن كذلك عمد كلُّ رجل منا إلى ظل شجرة أو سمرة ليموت تحتها، فإذا راكب على بعير له يوضع، فلما رآه بعضنا قال والراكب يسمع:
لما رأت أن الشريعة همها ... وأن البياض من فرائصها دامي
تيممت العين التي عند ضارج ... يفيء عليها الظل عرمضها طامي
قال: فقال الراكب: يا عبد الله! من يقول هذا الشعر؟ قال: امرؤ القيس بن حجر، قال: والله ما كذب وإن عنده الآن لضارجاً عليه العرمض يفيء عليه الظل، قال: فنظرنا فإذا ليس بينا وبينه إلا قدر عشرين ذراعاً، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " ذاك رجل مذكور في الدنيا، منسي في الآخرة، بيده لواء الشعراء يقودهم إلى النار " .
قال القاضي: قوله في هذا الخبر والشعر: وأن البياض من فرائصها دامي (الفرائص) جمع فريصة وهي الموضع الذي يترعد من الدابة، قال النابغة الذبياني:
شك الفريصة بالمدري فأنفذها ... شك المبيطر إذ يشفي من العضدِ
ومن ها هنا أخذ قولهم: فلان ترعد فرائصه إذا وصف بشدة الخوف، ومن ذاك الخبر المروي أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بأصحابه ورأى رجلين ترعد فرائصهما.
وأما قوله: تيممت العين، فمعناه قصدت وتعمدت، يقال: يممت كذا وكذا إذا قصدته، ومن ذلك قول الله عز وجل: " فتيمموا صعيداً طيباً " يعني اقصدوا، وذكر أنها في قراءة عبد الله بن مسعود. فأقول: والمعنى واحد، أممت وتيممت مثل عمدت وتعمدت، ويقال: أممت، قال الله عز وجل " ولا آمّين البيت الحرام " يعني قاصدين وعامدين، وقال عز ذكره: " ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون " ، وقرأ مسلم بن جندب: ولا تيمموا أي توجهوا، ومن هذا الباب قول الشاعر:
إني كذاك إذا ما ساءني بلد ... يممت صدر بعيري غيره بلداً
ويروي: أممت، قال الأعشى:
تيممتُ قيساً وكم دونه ... من الأرض من مهمة ذي شزن
وقال آخر:
تيممتُ همدان الذين همُ همُ ... إذا ناب خطبٌ جنتي وسهامي
وقال خفّاف بن ندبة:
فإن تك خيلي قد أصيب صميمها ... فعمداً على عيني تيممت مالكا
ومن هذا قولهم: أمر أمم أي قصد، قال الأعشى:
أتانا عن بني الأحرا ... ر عنه قولٌ لم يكن أمما
وقال ابن قيس الرقيات:
كوفيةٌ نازحٌ محلتها ... لا أممٌ دارها ولا صقبُ
الأمم: القصد، والصقب: القرب، ومنه: الجار أحق بصقبه، وقال الشاعر:
ولو نار ليلى بالعذيب بدت لنا ... لحبت إلينا دار من لا يصاقبُ
وقال الأعشى:
فما انس ملْ الأشياءِ لا أنس قولها ... لعل النوى بعد التفرق تصقبُ
وهذا باب يكثر ويتسع جداً، وفيما ذكرنا منه ها هنا بل في بعضه كفاية.
ومعنى قوله: يفيء عليها الظل، معنى يفيء: يرجعن يقال فاء الظل أي رجع قبل الزوال، ولا يقال له حينئذ فيءٌ، وإنما يقال له فيء بعد الزوال لرجوعه، وكلا الوجهين ظل، قال حميد بن ثور الهلالي:
فلا الظل من برد الضحى نستطيعهُ ... ولا الفيء من برد العشي نذوقُ
ومن هذا سمي ما رد الله على المؤمنين من مال المشركين فيئاً، وقال الله عز وجل: " وما أفاء الله على رسوله منهم " ، وقال: " وما أفاء الله على رسوله من أهل القرى " ، وقال تقدس اسمه: " فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله " ، وقال: " فإن فاءوا " أي رجعوا إلى غشيان من آلوا من نسائهم، وهذا الباب أيضاً واسع بين.
وقول امرئ القيس: عرمضها طامي، العرمض: الطحلب الذي يكون في الماء ويقال له عرمض وعلفق ونَوْر، وقوله: طامي، يعني أنه عال يقال: طما الوادي إذا امتلأ وعلا ماؤه، قال الأعشى:
ما جُعل الجد الظنون الذي ... جنب صوب اللجب الماطِرِ
مثل النواتي إذا ما طما ... يقذف بالبوصي والماهر
من مصارع العشاقحدثنا محمد بن القاسم الأنباري، قال: حدثنا محمد بن مرزبان، قال: حدثنا إبراهيم بن محمد الطائف، قال: حدثنا يوسف بن محمد الصيمري، قال: حدثنا محمد بن مسعدة الأخفش، قال: حدثنا أبو محظورة الوراق، قال: حدثنا أبو مالك الراوية قال: سمعت الفرزدق يقول: أبق غلامان لرجل من بني نهشل يقال له الخضر. فحدثني الخضر قال: خرجت أبغيهما وقصدت ناحية اليمامة على ناقة لي عيساء كوماء، قال: ابن الأنباري: العيساء: البيضاء، والكوماء: العظيمة السنام - فنشأت سحابة فرعدت وبرقت وحلت عزاليها، فملت إلى بعض ديار بني حنيفة وقصدت داراً وطلبت القرى، فقيل لي: ادخل فأنخت ناقتي ودخلتُ وجلست تحت ظلة من جريد - قال ابن الأنباري: الجريد ما جُرد من النخل - وفي الدار جويرية سويداء فدخلت جاريةٌ كأنها سبيكة فضة، وكأن عينيها كوكبان، فقال: لمن هذه الناقة؟ قالت السويداء: لضيفكم هذا، فسلمت علي وقالت: ممن الرجل؟ قلت: من بني حنظلة، قالت: من أيهم؟ قالت: من بني دارم، قال: من أيهم؟ قلت من بني نهشل، قال: وأنت من الذي يقول فيهم الفرزدق:
إن الذي سمك السماء بنى لنا ... بيتاً دعائمه أعز وأطولُ
بيتاً بناه لنا المليكُ وما بنى ... ملك السماء فإنه لا يُنقلُ
بيتاً زرارة محتبٍ بفنائه ... ومجاشع وأبو الفوارس نهشلُ
فأعجبني ذلك من قولها: فقالت: إلا أن ابن الخطفي نقض عليه، فقال:
أخزي الذي سمك السماء مجاشعاً ... وبنى بناءك بالحضيض الأسفل
بيتاً يحمم قينكم بغنائه ... دنساً مقاعده خبيث المدخل
فخجلت واستحييت، ثم قلت لها: أيم أنت أم ذات بعل؟ فقالت:
إذا رقد النيام فإن عمراً ... تؤرقه الهموم إلى الصباحِ
تقطع قلبه الذكرى وقلبي ... فما هو بالخلي ولا بصاحِ
سقى الله اليمامة دار قومٍ ... بها عمرو تحن إلى الرواحِ
فقلت لها: من عمرو هذا؟ فقالت:
سألت ولو علمت كففت عنهُ ... ومن لك بالجواب سوى الخبيرِ
فإن تك سائلاً عنه فعمرو ... مع القمر المضيء المستنيرِ
ثم قالت: أين تؤم؟ قلت: اليمامة، فتنفست الصعداء، ثم قالت:
تذكرني بلاداً حل أهلي ... بها أهل المودة والكرامه
ألا فسقي الإله أجش صوبٍ ... يسح بدرهِ بلد اليمامه
وحيّ بالسلام أبا نُجيدٍ ... وأهلٍ للتحية والسّلامه
ثم قالت:
يخيل لي أيا عمرو بن كعبٍ ... بأنك قد حُملت على سريرِ
فإن يك هكذا يا عمرو إني ... مبكرةٌ عليك إلى القبورِ
ثم شهقت شهقة فماتت فألف عنها فصل لي: هي من ولد محرق ابن النعمان بن المنذر وعمرو بن كعب هوى لها باليمامة فركبت ناقتي فصرت إلى اليمامة. فسألت عن عمرو بن كعب، فخبرت أنه مات في ذلك الوقت الذي قالت فيه الجارية ما قالت.
أعطه لكل بيت ألف دينار
حدثنا الحسن بن أحمد بن محمد بن سعيد، أبو علي الكلبي، قال: حدثني إبراهيم بن محمد الدجاجي، قال: حدثني عمرو بن سعيد بن سلم الباهلي، قال: كنت في حرس المأمون بحلوان حين قفل من خراسان أو حين قفل من العراق، - أبو علي يشك - قال القاضي: والصواب قفل من خراسان أو قفل إلى العراق، والقفول الرجوع لا ابتداء السفر، والمأمون رجع من خراسان إلى العراق، بعد قتل الأمين واستتباب الخلافة له، قال: فخرج لينظر إلى العسكر في بعض الليل، فعرفته ولم يعرفني فأغفلته، فجاء من ورائي حتى وضع يده على كتفي، فقال لي: من أنت: قال: عمرو عمرك الله، ابن سعيد أسعدك الله، ابن سلم سلمك الله، فقال: أنت الذي كنت تكلؤنا في هذه الليلة؟ فقلت: الله يكلؤك يا أمير المؤمنين، فأنشأ المأمون يقول:
إن أخاك الحق من يسعى معك
ومن يضر نفسه لينفعك
ومن إذا ريب زمان صدعك
فرّق من جميعه ليجمعك
ثم قال: يا غلام! أعطه لكل بيت ألف دينار، فوددت أن تكون الأبيات طالت علي فأجد الغنى، فقلت: يا أمير المؤمنين وأزيدك بيتاً من عندي، فقال: هات، فقلت:
وإن غدوت ظالماً غدا معك
فقال: أعطه لهذا ألف دينار، فما برحت من موقفي حتى أخذت خمسة آلاف دينار.
التعليق على الخبرقال القاضي: فإن قال قائل: كيف أعطى المأمون عن قوله:
فإن غدوت ظالماً غدا معك
ولم وافقه على تصويب مساعدة وممالأته، قيل: إنه لم يظهر في قول هذا القائل ما يوجب مظافرة الظالم في عمله، وقوله: غدا معك، يتجه فيه أن يكون معناه غدا معك ليكفك عن الظلم، بالوعظ لك والرق بك والاستعطاف على ما تسول لك نفسك ظلمه، فيصرفك عن الظلم، ويثنيك عن معرة الإثم.
وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً " فقيل له: يا رسول الله! أنصره مظلوماً فكيف أنصره ظالماً؟، قال: " تحجبه عن الظلم فذلك نصرك إياه " .
الأمر لا حيلة لهحدثنا الحسين بن القاسم الكوكبي، قال: حدثني أبو عجلان، قال: سمعت الفضل بن مروان يقول: كان ابن المقفع يقول: إذا نزل بك أمر مهم فانظر فإن كان مما له حيلة فلا تجزع.
ضعف قلبي عن الردحدثنا محمد بن أحمد بن أبي الثلج، قال: حدثنا حسين بن فهم، قال: قال ابن الموصلي، حدثني أبي، قال: أتيت يحيى بن خالد بن برمك فشكون إليه ضيقة، فقال: ويحك! ما أصنع بك، ليس عندنا في هذا الوقت شيء، ولكن ها هنا أمر أدلك عليه فكن فيه رجلاً، فقد جاءني خليفة صاحب مصر يسألني أن استهدي صاحبه شيئاً، وقد أبيت عليه ذلك فألح علي، وقد بلغني أنك أعطيت في جاريتك فلانة ألف دينار، فهو ذا أستهديه إياها وأخبره أنها قد أعجبتني، فإياك أن تنقصها عن ثلاثين ألف دينار، وانظر كيف تكون؟ قال: فوالله ما شعرت إلا بالرجل قد وافاني فساومني الجارية، فقلت: لا أنقصها من ثلاثين ألف دينار، فلم يزل يساومني حتى بذل لي عشرين ألف دينار، فلما سمعتها ضعف قلبي عن ردها، فبعتها وقبضت المال العشرين ألفاً، ثم صرت إلى يحيى بن خالد، فقال لي: كيف صنعت في بيعك الجارية، فأخبرته وقلت: والله ما ملكت نفسي أن أجبت إلى العشرين حين سمعتها، فقال: إنك لخسيس، وهذا خليفة صاحب فارس قد جاءني في مثل هذا، فخذ جاريتك فإذا ساومك فها فلا تنقصها عن خمسين ألف دينار، فإنه لا بد أن يشتريها منك بذاك، قال: فجاءني الرجل فاستمت عليه خمسين ألف دينار، فلم يزل يساومني حتى أعطاني ثلاثين ألف دينار، فضعف قلبي عن ردها ولم أصدق بها وأوجبتها له، ثم صرت إلى يحيى بن خالد فقال: بكم بعت الجارية؟ فقتل: بثلاثين ألف دينار، فقال: ويحك! ألم تؤدِّبُك الأولى عن الثانية؟ قال: قلت: ضعفت والله عن رد شيء لم أطمع فيه، قال: فقال: هذه جاريتك فخذها إليك، قال: فقلت: جارية أفدتُ بها خمسين ألف دينار ثم أملكها! أشهدك أنها حرة وأني قد تزوجتها.
نصيحة أعرابيحدثنا محمد بن الحسن بن دريد، قال: حدثنا عبد الرحمن، عن عمه الأصمعي، قال: رأيت أعرابياً يعظ آخر ويحذره، وقال: إن فلاناً وإن ضحك لك فإنه يضحك منك، وإن أظهر الشفقة عليك إن عقاربه تسري إليك، فإن لم تجعله عدواً لك في علانيتك، فلا تجعله صديقاً لك في سريرتك.
قريش أسخى أم أمية
حدثنا عبيد الله بن محمد بن جعفر الأزدي، قال: حدثنا أبو بكر بن أبي الدنيا، قال: حدثني محمد بن الحسين قال: حدثنا سليم بن حرب، قال: حدثنا أبو هلال الرباضي، عن حميد بن هلال، قال: تفاخر رجلان رجل من قريش ورجل من بني أمية، فقال هذا: قومي أسخى من قومك، وقال هذا: لا، قومي أسخى من قومك، فقال: سل في قومك حتى أسل في قومي، فافترقا على ذلك، فسأل الأموي عشرة من قومه فأعطوه مائة ألف عشرة آلاف عشرة آلاف، قال: وجاء الهاشمي إلى عبيد الله بن عباس فسأله فأعطاه مائة ألف، ثم أتى الحسن بن علي فسأله فقال له: هل أتيت أحداً قبلي؟ قال: نعم، عبيد الله بن عباس فأعطاني مائة ألف، فأعطاه الحسن مائة ألف وثلاثين ألفاً، ثم أتى الحسين بن علي فسأله، فقال: هل سألت أحداً قبل أن تأتيني، قال: نعم، أخاك الحسن فأعطاني مائة ألف وثلاثين ألفاً.
فقال: لو أتيتني قبل أن تأتيه أعطيتك أكثر من ذلك، ولكن لم أكن لأزيد على سيدي، فأعطاه مائة ألف وثلاثين ألفاً، قال: فجاء الأموي بمائة ألف وثلاثين ألفاً، قال: فجاء الأموي بمائة ألف من عشرة، وجاء الهاشمي بثلثمائة وستين ألفاً من ثلاثة، فقال الأموي: سألت عشرة من قومي فأعطوني مائة ألف، وقال الهاشمي سألت ثلاثة من قومي فأعطوني ثلثمائة ألف وستين ألفاً، قال: ففخر الهاشمي الأموي فرجع الأموي إلى قومه فأخبرهم الخبر، فرد عليهم المال فقبلوه، ورجع الهاشمي إلى قومه فأخبرهم الخبر فرد عليهم المال فأبوا أن يقبلونه، وقالوا: لم نكن لنرتجع شيئاً قد أعطيناه.
سمى الله المستهزئ جاهلاً
حدثنا يعقوب بن محمد بن صالح الكريري، قال: حدثني عبد الجليل ابن الحسين، قال: كان مما عرف عن أحمد بن المعذل وهو صبي له ذؤابة في مجلس أبي عاصم، ومر لأبي عاصم حديثٌ فيه فقه، فقال أحمد: إنه مما ألقح إلينا عن مالك بن أنس في هذا الخبر، فسمع أبو عاصم، فقال: لا زرعك الله، فخجل أحمد، فلما كان المجلس الثاني مر لأبي عاصم حديث فيه فقه، فقال: أين أنت يا منقوص؟ أنس ألقح إليكم عن مالك، قال: فخجل أحمد ثم وثب، فقال: يا أبا عاصم! إن اله خلقك جداً فلا تهزلن، فإن الله عز وجل سمى المستهزئ في كتابه جاهلاً فقال: " إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة، قالوا: أتتخذنا هزوا؟ قال: أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين " قال: فخجل أبو عاصم وكان لا يحدث حتى يحضر أحمد فيقعده إلى جنبه.
أخبار أصحاب الغلمان
النوبختي وزرزر المغنيحدثنا عبيد الله بن محمد الكاتب، قال: كان علي بن العباس النوبختي مع جماعة من أهله على سطح دار أبي سهل النوبختي في ليلة من ليالي الصيف يشربون ومعهم إبراهيم بن القاسم بن زرزر المغني، وكان إذ ذاك أمرد حسن الوجه، وكان في السماء غيم ينجاب مرة ويتصل أخرى، فانجاب الغيم عن القمر فانبسط فقال علي بن العباس، واقبل على إبراهيم:
لم يطلع البدر إلا من تشوقه ... إليك حتى يوفي وجهك النظرا
ولم يتمم البيت حتى استتر القمر، فقال:
ولا تغيب إلا عند خجلته ... لما رآك تولى عنك فاستترا
المعتز ويونس بن بغاحدثنا محمد بن يحيى الصولي، قال: حدثنا محمد بن يحيى بن أبي عباد، قال: حدثني عمر بن محمد بن عبد الملك، قال: شرب المعتز ويونس بن بغا بن يديه يسقيه والجلساء والمغنون حضور قد أعد الخلع والجوائز، إذ دخل بغا فقال: يا سيدي! والدة عبدك يونس في الموت وهي تحب أن تراه، فأذن له فخرج، وفتر المعتز لبعده ونعس، فقام الجلساء وتفرق المغنون إلى أن صليت المغرب وعاد المعتز إلى مجلسه، ودخل يونس وبين يديه الشموع فلما رآه المعتز دعا برطل فشربه وسقى يونس رطلاً، وغنى المغنون وعاد المجلس أحسن ما كان، فقال المعتز:
تغيب فلا أفرح ... فليتك لا تبرحْ
فإن جئت عذبتني ... فإنك لا تسمحْ
فأصبحت ما بين دَيْ ... ن ولي كبد تجرح
على ذاك يا سيدي ... دنوك لي أصلح
ثم قال: غنوا فيه فجعلوا يفكرون، وقال المعتز لابن القصار الطنبوري: ويلك ألحان الطنبور أملح وأخف فغن لنا، فغنى فيه لحناً، فقال: دنانير الخريطة، وهي مائة دينار فيها مائتان مكتوب على كل دينار منها ضرب هذا الدينار الحسني لخريطة أمير المؤمنين، ثم دعا بالخلع والجوائز لسائر الناس، فكان ذلك المجلس من أحسن المجالس.
وناسك يقتله الوجدحدثنا جعفر بن محمد بن النصير بن القاسم الخواص، قال: حدثنا أبو العباس بن مسروق، قال: حدثني فضل اليزيدي، عن إسحاق بن إبراهيم بن المهدي عن عمر الهلالي، قال: شهدت أبا يحيى التيمي، يقول: كان يختلف معنا رجل من النساك يقال له أبو الحسن إلى مسعر بن كدام، وكان يختلف معه فتىً حسن الوجه يفتن الناس إذا رأوه، فأكثر الناس القول فيه وفي صحبته إياه، فمنعه أهله أن يصحبه وأن يكلمه، فذهل عقله حتى خشي عليه التلف، فبلغ ذلك مسعراً، فقال: قولوا له: ألا يقربني ولا يأتي مجلسي، فإني له كاره، فلقيته فأخبرته ذلك، فتنفس الصعداء وأنشأ يقول:
يا من بدائع حسن صورته ... تثني إليه أعنة الحدقِ
لي منك ما للناس كلهم ... نظر وتسليم على الطرق
لكنهم سعدوا بأمنهم ... وشقيت حين أراك بالفرق
قال: ثم صرخ صرخة وشخص بصره نحو السماء، وسقط فحركته فإذا هو ميت.
لو أمر الله العباد بالجزعحدثنا الحسن بن أحمد الكلبي، قال: حدثنا محمد بن زكريا، قال: حدثني مهدي بن سابق، قال: قال يحيى بن خالد: لو أمر الله تعالى العباد بالجزع دون الصبر لكان قد كلفهم أشد المعنيين على القلوب، وقال الشاعر:
بكى جزعاً لفقدان الحبيب ... وأسبل دمع ملهوف كئيب
وكان الصبر أجمل لو تعزى ... وأشفى للصدور من النحيبِ
فلو جعل الإله الحزن فرضاً ... لكان الصبر من جل الخطوبِ
لكان الحزن فيه غير شك ... أشد المعنيين على القلوب
الأمين يتوجع لإصابة خادمه كوثرحدثنا الصولي، قال: حدثنا محمد بن القاسم بن خلاد، قال: حدثني محمد بن عمر، قام كوثر خادم الأمين ليرى الحرب، فأصابته رجمةٌ في وجهه فجلس يبكي فوجه محمد من جاء به، وجعل يمسح الدمع عن وجهه، ثم قال:
ضربوا قرة عيني ... ولأجلي ضربوه
أخذ الله لقلبي ... من أناسٍ أحرقوه
فأراد زيادة في الأبيات، فقال للفضل بن الربيع: من هاهنا من الشعراء؟ فقال: الساعة رأيت عبد الله بن أيوب التيمي. فقال: علي به، فلما دخل أنشده البيتين وقال: قل عليهما، فقال:
ما لمن أهوى شبيه ... فيه الدنيا تتيه
وصله حلو ولكن ... هجره مر كريه
من رأى الناس له الفض ... ل عليهم حسدوه
مثل ما قد حسد القا ... ئم بالملكِ أخوه
فقال: قد أحسنت، هذا والله خير مما أردت، بحياتي عليك يا عباسي إلا نظرت فإن كان جاء على الظهر ملأت أحمال ظهره دراهم، وإن كان جاء في زورق ملأته له، فأوقر له ثلاثة أبغل دراهم.
المأمون يعاتبه بسبب هذا البيت فيلجأ إلى الفضل بن سهلقال الصولي: فحدثنا الحسن بن علي العنزي، قال: حدثني محمد بن إدريس، قال: لما قتل الأمين خرج أبو محمد التيمي إلى المأمون فامتدحه، فلم يأذن له فصار إلى الفضل بن سهل ولجأ إليه وامتدحه، فأوصله إلى المأمون، فلما سلم عليه، قال له: يا تيمي:
مثل ما قد حسد القا ... ئم بالملك أخوه؟
فقال أبو محمد التيمي:
نصر المأمون عبد الله لما ظلموه
نقض العهد الذي كان قديماً أكدوه
لم يعامله أخوه الذي أوصى أبوه
ثم أنشده قصيدة امتدحه بها أولها:
جزعت ابن تيم أن علاك مشيبُ ... وبان الشبابُ والشباب حبيبُ
فلما فرغ منها قال المأمون: قد وهبتك لله ولأخي أبي العباس، يعني الفضل بن سهل، وأمرت لك بعشرة آلاف درهم.
خمسة آلاف في تفسير كلمة
حدثنا محمد بن الحسن بن دريد، قال: حدثنا أبو حاتم، عن الأصمعي، قال: دخلتُ على الرشيد هرون ومجلسه حافل، قال: يا أصمعي! ما أغفلك عنا وأجفاك لحضرتنا! قلت: والله يا أمير المؤمنين ما ألاقتني بلاد بعدك حتى أتيتك، قال: فأمرني بالجلوس فجلست حتى خلا المجلس فجلست وسكت عني حتى تفرق الناس إلا أقلهم، فنهضت للقيام فأشار إلي أن أجلس، فجلست ولم يبق غيري وغيره ومن بين يديه من الغلمان، فقال لي: يا أبا سعيد: ما ألاقتني؟ قلت: أمسكتني يا أمير المؤمنين:
كفاك كف ما تليق درهماً ... جواداً وأخرى تعط بالسيف الدما
أي ما تمسك درهماً، فقال: أحسنت وهكذا فكن وفرنا في الملاء وعلمنا في الخلاء، وأمر لي بخمسة آلاف دينار.
أبيات غزليةأنشدنا الصولي، قال أنشدنا المبرد:
أنت إلفُ العُيُو ... ن فاكتحلي أو تمرهي
لست عنكم ولو قتل ... ت بدا الدهر أنتهي
قادني نحوك الشقا ... ء كذا كنت أشتهي
المجلس الثالث عشر
حديث الغارحدثنا محمد بن نوح بن عبد الله المعروف بالجنديسابوري، إملاء في يوم السبت لليلتين خلتا من المحرم سنة عشرين وثلثمائة، قال: حدثنا علي بن حرب الجنديسابوري قال: حدثنا عثمان بن أبي مقسم، عن نافع، أن ابن عمر أخبره أن نبي الله صلى الله عليه وسلم حدثهم: " أن ثلاثة نفر انطلقوا يتماشون فأصابهم المطر فأووا إلى غار في جبل، فوقعت عليهم صخرة، فقال بعضهم لبعض: ادعوا الله أن يفرج عنا فرجة نرى منها السماء، فقال أحدهم: اللهم إنك تعلم أنه كان لي أبوان وكان لي امرأة وصبوة، وكنت أرعى عليهما فإذا مشيت حلبت لهما في إنائهما ثم سقيتهما، وأني جئت ذات ليلة وقد دنا السحر وقد ناما، وكنت قد حلبت لهما في إنائهما فقمت على رؤوسهما والصبوان يتضاغون عند رجلي أكره أن أوقظهما وأكره أن أسقي الصبوان قبلهما، اللهم إن كنت تعلم أني إنما فعلت ذلك من مخافتك فافرج عنا فرجة نرى منها السماء، قال: فأفرجت منها فرجة رأوا منها السماء.
قال: وقال الآخر: اللهم إن كنت تعلم أنه كانت لي ابنة عم وأني راودتها عن نفسها فأبت علي حتى أتيتها بمائة دينار، فلما قعدت بين رجليها، قالت: يا عبد الله اتق الله ولا تكسر الخاتم إلا بحقه، فقمت عنها وتركته لها، اللهم إن كنت تعلم أني إنما فعلت ذلك مخافتك، فافرج لنا فرجة نرى منها السماء، فأفرجت فرجة أخرى فرأوا منها السماء.
قال: وقال الثالث: اللهم إنك تعلم أني استأجرت أجيراً يعمل لي في فرق من زيت، فلما عمل أتاني يطلب أجره، فقلت: اعمد إلى هذا الفرق الزيت فخذه، فرغبت عنه نفسه، فعدت إليه، فجمعته فبعت منه حتى كان بقراً ورعاتها، فأتاني فقال: يا عبد الله اتق الله وأعطني أجرتي، فقلت: املك هذه البقرات ورعاتها. فاستاقها، اللهم إن كنت تعلم أني إنما فعلت ذلك مخافتك فافرج عنا الحجر، فأفرج عنهم الحجر، فخرجوا يتماشون إلى أهاليهم " .
التعليق على الحديثقال القاضي: حديث الغار هذا معروف عند أهل العلم، وقد ورد الخبر به عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من وجوه، وكتبناه من طرق شتى عن الشيوخ، وأتينا بهذا لأنه حضرنا في هذا الوقت دون غيره.
وفيه ما يدعو إلى فعل الخير واصطناع المعروف والإشفاق من الظلم، والحذر من وخيم مغبته وسوء عاقبته، وفيه بيان أن أكثر فعل البر عدة لصاحبه، وذخر يورثه النجاة من المخوفات، ويعطيه الإغاثة عند اللزبات.
وقد حدثنا محمد بن حمدان بن سفيان الطرائقي، قال: حدثنا محمد ابن العباس بن النصير التنيسي، قال: حدثنا عمر بن أبي سلمة، عن صدقة بن عبد الله الدمشقي، عن الأصبغ، عن بهز بن حكيم، عن أبيه عن جده، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " صدقة السر تطفئ غضب الرب، وصنائع المعروف تقي مصارع السوء، وأكثروا من قول لا حول ولا قوة إلا بالله، فإنها كنز من كنوز الجنة " .
كثير من أصحاب الحديث لا يضبط اللغة
وروى لنا الجنديسابوري هذا الخبر، فقال فيه: الصبوة والصبوان كأن اللافظ اعتبر فيه لفظ الصبوة. وقولهم: صبا يصبو، والسائر في كلام العرب الصبية في جمع صبي والصبيان، وأصحاب الحديث لا يضبط كثير منهم مثل ذلك فيحيله ولا يضبطه، ورسول الله صلى الله عليه وسلم أفصح العرب، وكلامه جار على أوضح الإعراب، وأعلى مراتب الصواب.
إعراب المفعول لهوقول من حكى عنه في هذا الخبر: إنما فعلت ذلك مخافتك، المعنى به لمخافتك ومن مخافتك ولأجل مخافتك، وهذا الذي ينتصب عند النحاة لأنه مفعول له، يقال: دنوت ابتغاء الخير، ونأيت حذار الشر، قال الله عز وجل: " يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصواعق حذر الموت " أي لحذر الموت، أو من حذره، وقد قيل إن المعنى، أنهم جعلوا أصابعهم في آذانهم حذر الموت، وأن حذر الموت منصوب لأنه مفعول ثان، فقولك: جعلت مالك في بيتك عدة لزمانك، وسلاحك في رحلك جنة من عدوك، ومن هذا النحو، قول الشاعر:
وأغفر عوراء الكريم ادخاره ... وأعرض عن ذنب اللئيم تكرما
غار آخر ينطبق على تسعة إخوةحدثنا أبي رضي الله عنه، قال: حدثنا أبو أحمد محمد بن جعفر الختلي: قال: حدثنا عبد الله - يعني ابن عمرو البلخي - قال: حدثني إبراهيم بن عبد الله الختلي، قال: حدثني محمد بن الحسين، قال: حدثني أبو عمرو العمري، قال: أخبرني حسين بن حسن بن سلمة بن مزينة العاري، عن أبيه: أن امرأة من بني عامر كان لها بنون عشرة، فخرج تسعة منهم في بعض حاجتهم، فأصابتهم السماء فابتدروا كهفاً فتحدرت صخرة فردمت عليهم باب الكهف، فمكثوا فيه لا يقدرون على الخروج منه حتى ماتوا عن آخرهم، فلما طال ذلك على أمهم، قالت لابنها العاشر: انطلق فاقف آثار إخوتك فما أراني إلا وقد رزئتهم، قال: يقول ابنها: كيف ذاك يا أمه؟ قالت: يا بني إني والله أجد كبدي تحترق احتراقاً، كلما قلت قد سكن عاد تلهباً، فانطلق هل تحس لهم أثراً، أو تعلم لهم خبراً، قال: فخرج الفتى يقفو آثار إخوته حتى انتهى إلى ذلك الكهف فاطلع فيه فإذا إخوته موتى مجدلين، فرجع يريد أمه باكياً، فلما أتاها قالت: ما وراءك يا قيس؟ قال: خير يا أمه، قالت: علي ذلك يا بني، قال:
لا تأسفن على شيء فجعت به ... إن المنايا خلال الوعث والجدد
ربيتهم تسعة حتى إذا اتسقوا ... أصبحت منهم كقرن الأغضب الفرد
وكل أم وإن سرت بما ولدت ... يوماً ستثكل ما ربت من الولدِ
قالت: فنحبت العجوز نحيباً شديداً، ثم قالت:
بني لا صبر لي فيما فجعت به ... عن تسعة مثلهم غراء لم تلدِ
زُهرٌ جحاجحةٌ بيض خضارمة ... وفي الهزاهز والروعات كالأسْدِ
الأعضب وما قيل فيه من اللغة والفقهقال القاضي: الأعضب القرن: المكسور، وقيل إنه المكسور نصفه، وقيل: ثلثه، وبين الفقهاء خلاف في جواز الأضحية بالمعضوب القرن، وفي القدر المانع من تجويز الضحية به كاختلاف أهل اللغة، ويقال لذي الزمانة والكسر من الناس: المعضوب، ومن هذا الباب قول لبيد بن ربيعة يرثي أربد أخاه:
يا اربد الخير الكرام جدوده ... خليتني أمشير كقرنٍ أعضُبِ
شعر لا يستنكر إنشاده في المسجدحدثنا محمد بن الحسن بن دريد، قال: أخبرنا أبو حاتم، عن أبي عبيدة، قال: قدم أعرابي من اليمن فدخل مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فجلس في حلقة فيها الحسن بن علي رضي الله عنه، فقال: هل فيكم من ينشد، فقيل له: إنك لجاهل، أتستنشد ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: والله لأنشدن ما لا ينكره، ثم إن أحب قال، وإن أحب سكت، ثم أنشأ يقول:
رُبَّ أمور قد بريت لحاها ... وقومت من أصلابها ثم رشتها
أقيم بدار الصدق ما لم أُهن بها ... وإن خفت من دار هوانا تركتها
وأصبح خالي المال حتى تخالني ... بخيلاً وإن حق عراني أهنتها
ولست بولاج البيوت لفاقة ... ولكن إذا استغنيت عنها ولجتها
إذا قصرت أيدي الرجال عن العلا ... مددت يدي باعاً إليها فنلتها
ومكرمة كانت سجية والدي ... فعلميها والدي فعلمتها
وقد علمت أعلام قومي أنني ... إذا نال أظفاري صديقاً قلمتها
رجاء غدٍ أن يعطف الود بيننا ... ومظلمة منهم بجنبي عركتها
وإني سألقى الله لم أرم حرةً ... ولم تأتمني سر قوم فخنتها
ولا باغياً خمراً وأسماع قينة ... ولا قائلاً في الشعر أني شربتها
ولا غائراً ما لم تغرني حليلتي ... متى ما أغر إن لم تغرني ظلمتها
فقال الحسن رضي الله عنه: ما رأيت كاليوم شعراً أرصن، وأمر له بصلة لم يقبلها، وانصرف.
؟أكله كُلّه حدثنا محمد بن إبراهيم بن عرفة المهلبي، قال: حدثني أبو عتبة البصري، قال: قدم عمارة بن عقيل البصرة، فأتاه الناس يكتبون عنه، فقال لرجل حضره: أنشدني بعض ما قاله الفرزدق لجدي، وبعض ما قال جدي للفرزدق، فأنشده قول الفرزدق:
حلقت برب مكة والمصلى ... وأعناق الهدي مقلداتِ
لقد قلّدت جلف بني كليبٍ ... قلائد في السوالف باقياتِ
قلائد ليس من ذهبٍ ولكن ... قلائد من جهنم منضجاتِ
حتى أتى عليها فجعل يتلظّى، ثم قال: هات ما قاله له أبي فأنشده:
تعللنا أمامة بالعدات ... وما يشفي القلوب الصادياتِ
ولولا حبها وإله موسى ... لودعت الصبا والغانيات
إذا رضيت رضيت وتعتريني ... إذا غضبت كهيضات السبات
وما صبري عن الذلفاء إلا ... كصبر الحوت عن ماء الفرات
ثم قال: ماذا؟ قد قطع الفرزدق عرضه وهو في أمامة؟ حتى إذا بلغ إلى قوله:
رجوتم يا بني وقبان موتي ... وأرجو أن تطول لكم حياتي
إذا اجتمعوا علي فخل عنهم ... وعن بازٍ يصك حبارياتِ
إذا طرب الحمام حمام نجدٍ ... نعى جار الأقارع والحتات
فقام يحجل طرباً، وقال: أكله كله.
أبشر بطول سلامة يا مربعقال أبو عبد الله بن عرفة: وقد تمثل بهذا البيت الحسن بن قحطبة حين هم أبو جعفر المنصور بالبيعة للمهدي أبي عبد الله، فدخل عليه الحسن بن قحطبة فقال: يا أمير المؤمنين! ما تنتظر بالفتى المقبل المبارك، جدد له البيعة فما أحد ممتنع وراء هذا الستر، ومن أبى فهذا سيفي، وبلغ الخبر عيسى بن موسى، فقال: والله لئن ظفرت به لأشرب البارد، وبلغ الحسن بن قحطبة الخبر والمنصور فدخل الحسن ابن قحطبة على المنصور وعنده عيسى بن موسى، فتمثل المنصور بقول جرير:
زعم الفرزدق أن سيقتل مربعاً ... أبشر بطول سلامة يا مربع
مربع رجل من بني جعفر بن كلاب، كان يروي شعر جرير فنذر الفرزدق دمه، فقال جرير:
زعم الفرزدق أن سيقتل مربعاً ... أبشر بطول سلامة يا مربعُ
إن الفرزدق قد تبين لؤمه ... حيث التقى حششاؤه والأخدعُ
فلما خلع المنصور عيسى بن موسى مر في موكب، فقال إنسان: من هذا؟ فسمعه مخنث، فقال: هذا الذي أراد أن يكون غداً فصار بعد غد، وقد روينا في خبر آخر: أن عيسى بن موسى قال لمخنث يتهدده: أما تعرفني؟ فقال: بلى، أنت الذي كنت غداً فصرت بعد غد.
وقول جرير: حيث التقى حششاءه، الحشاشاوان: هما العظمان الناشزان وراء الأذنين، والواحد حششاء وهما لغتان إحداهما هذه مثل فعلاء، والأخرى حشاء علي فعلاء مثل قسطاس وفسطاط من الصحيح، وكذلك قوياء وليس في الأسماء على هذا الوزن غيرهما.
وأما فعلى فقد حكى الفراء ويعقوب وغيرهما فيه ثلاثة أحرف، وحكى غيرهما فيه رابعاً وخامساً وسادساً، فأما الأحرف الثلاثة فأدمى اسم مكان، وأربى من أسماء الداهية، كما قال الشارع:
هي الأربى جاءت بأم حبو كرى
وشعبى اسم بلدة، قال جرير:
أعبداً حل في شعبى غريباً ... ألؤماً لا أبا لك واغترابا
وأما الحروف الأخر فحكاهن فيما روى لنا أبو عمر الشيباني وابن الأعرابي.
حدثنا أبو عمر محمد بن عبد الواحد، قال: أخبرنا ثعلب، قال: جاءت حروف لم يأت بها يعقوب ولا الفراء، أتى بها أبو عمرو الشيباني وابن الأعرابي، وهي: جمدى اسم موضع وجسقى اسم بلد، وجبنى اسم جبل.
دع لله إحداهما تنل الأخرى
حدثنا علي بن محمد بن الجهم، أبو طالب الكاتب، قال: حدثنا العباس بن الفضل الربعي، قال: وحدثني علي بن محمد بن خلف العطار، قال: حدثني الحسن بن الحسين الأشقر، قال: كنت أطوف مع عبد الله بن حسن بن حسن فإذا نحن بامرأة حسناء تطوف، قال: فقال لها عبد الله بن حسن بن حسن:
أهوى هوى الدين واللذات تعجبني ... فكيف لي بهوى اللذات والدينِ
فقالت: يا ابن رسول اله دع لله إحداهما تنل الأخرى، فقال: هل من زوج؟ قالت: كان فدُعي، قال: منذ كم؟ قالت: منذ سنة، فقال: الحمد لله على تمام النعمة، قال: هل لك في التزويج؟ قالت: والله ما كان ذاك رأيي، ولكن لك فنعم، فتزوجها.
عبد الله بن طاهر يجيز العتابي ثلاث مراتحدثنا الحسين بن القاسم الكوكبي، قال: حدثنا أحمد بن أبي طاهر، قال: حدثني أبو هفان، قال: حدثني أبي، قال: دخل العتابي على عبد الله بن طاهر فأنشده:
حسن ظني وحسن ما عوّد ال ... له سوائي بك الغداة أتى بي
أي شيءٍ يكون أحسن من حس ... نِ يقين حدا إليك ركابي
فأمر له بجائزة، ثم دخل عليه مرة أخرى فأنشده:
جودك يكفينيك في حاجتي ... ورؤيتي تكفيك مني السؤالِ
كيف أخشى الفقر ما عشت لي ... وإنما كفاك لي بيت مالِ
فأجازه أيضاً، ثم دخل عليه اليوم الثالث فأنشده:
أكسني ما يبيد أصلحك الل ... ه فإني أكسوك ما لا يبيدُ
فأجازه وكساه وحمله.
قصة أبيات من الشعر لعبد الله بن طاهرحدثنا محمد بن أحمد بن إبراهيم الحكيمي، أبو عبد الله الكاتب، قال: أخبرنا أبو عبد الله أحمد بن الحسن بن هشام، قال: كنا عند أبي العباس محمد بن عبد الله بن طاهر يوماً، ودخل محمد بن عيسى الكاتب، فقال أبو العباس: أعطوه قدحاً، فأبى واعتذر، فقيل عذره وجلس وغنينا وشربنا، ثم تغنى كنيز دبّة صوتاً فالتفت أبو العباس ونظر إلى قدحٍ فيه أربعة أرطالٍ في يد محمد بن عيسى فقال: ما هذا يا أبا جعفر؟ فقال: أعز الله الأمير، لي ولهذا الشعر حديث، كنت مع أبي العباس عبد الله بن طاهر جالساً فشكا إلي وجده وعشقه لإنسان فقال:
أعياني الشادن الربيبُ
فقلت: داره، فقال:
أكتبُ أشكو فلا يجيبُ
فقلت: داوه، فقال:
فكيف أرجو دواءَ دائي ... وإنما دائي الطبيبُ
ثم افترقا فلم أسمع أحداً يذكره حتى سمعت هذا يغني به الساعة.
أبيات ثلاثة لأبي نواس تساوي شعر أبي العتاهية كلهحدثنا محمد بن القاسم الأنباري، قال: حدثنا أبي، قال: حدثنا الحسن بن عبد الرحمن الربعي قال: حدثنا محمد بن إسحاق، قال: حدثنا محمد بن أحمد بن مطهر الكوفي، قال: قال أبو العتاهية، قال: قلت عشرين ألف بيت في الزهد وودت أن لي مكانها الأبيات الثلاثة التي لأبي نواس:
يا نواسي توقر ... وتعزى وتصبر
إن يكن ساءك دهرٌ ... فلما سرك أكثر
يا كثير الذنب عفو ال ... له من ذنبك أكبر
قال الحسن بن عبد الرحمن، قال أبو مسلم الكاتب: هذه الأبيات مكتوبة على قبر أبي نواس، فزادني أبي فيها بغير هذا الإسناد:
أعظم الأشياء في أص ... غر عفو الله يصغُر
ليس للإنسان إلا ... ما قضى الله وقدر
ليس للمخلوق تدبي ... ر بل الله المدبر
ريبة الرشيد في النمريحدثنا محمد بن يحيى الصولي، قال: حدثنا عون بن محمد، أن سعيد ابن سلم قال: حضرت النمري ينشد الرشيد شعراً فمر فيه وصفٌ لسيوفه:
ليست كأسيافِ الحسينِ ولا ... بني حسنٍ ولا آل الزبير الكلل
هرونُ في الخلفاء مثل محمد ... في الأنبياء مفضل لمفضل
فقال له الرشيد: ما يولعك بذكر قوم لا ينالهم ذم إلا شاطرتهم إياه، قد رابني منك هذا وفيك، لا تعد له، وإنما نفارقهم في الملك ثم لا افتراق في شيء بعده.
شعر يعزل قاضياً عن القضاء
حدثنا محمد بن الحسن بن زياد المقري، قال: أخبرنا مسبح بن حاتم، قال: أخبرني يعقوب بن إسرائيل، قال: أخبرني محمد بن علي بن أمية، قال: كنا بحضرة المأمون بدمشق فغنى علويه:
برئت من الإسلام إن كان ذا الذي ... أتاك به الواشون حقاً كما قالوا
ولكنهم لما رأوك سريعةً ... إلي تواصوا بالنميمة واحتالوا
فقد صرت أذناً للوشاة سميعةً ... ينالون من عرضي ولو شئت ما نالوا
فقال المأمون لعلويه: لمن هذا الشعر؟ قال: للقاضي، قال: أي قاض؟ قال: قاضي دمشق، فأقبل على أخيه المعتصم، فقال له: يا أبا إسحاق اعزله، قال: قد عزلته، قال: فليحضر الساعة، فأحضر شيخ خضيب ربعة من الرجال، فقال له المأمون من تكون؟ فنسب نفسه، فقال: تقول الشعر؟ قال: قد كنت أقوله، قال: يا علويه أنشده الشعر فأنشده، فقال: هذا شعرك؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين، ونساؤه طوالق وعبيده أحرار وماله في سبيل الله إن كان قال شعراً غلا منذ ثلاثين سنة وإلا في زهد أو معاتبة صديق، قال: يا أبا إسحاق اعزله، فما كنت لأولي الحكم بين المسلمين من يبدأ في هزله وجده بالبراءة من الإسلام، ثم قال: اسقوه، فأتي بقدح فيه شراب فأخذه بيده وهي ترعد، ثم قال: يا أمير المؤمنين! الله الله ما ذقته قط، قال: أفحرام هو؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين، فقال المأمون: أولى لك بها، أي نجوت. ثم قال لعلويه: لا تقل برئت من الإسلام، ولكن قل:
حرمتُ منائي منك إن كان ذا الذي أتاك به الواشون حقاً كما قالوا
قال محمد بن الحسن المقري: هذا القاضي هو عمر بن أبي بكر الموصلي، روى عنه الزبير بن بكار وإبراهيم بن المنذر.
تعليق نحوي مد المقصور وقصر الممدودقال القاضي: مد المأمون المنى في هذا وهو مقصور، وكان نحاة البصرة من متقدميهم ومتأخريهم لا يجيزون ذاك في شعر ولا نثر، إلا الأخفش فإنه كان يجيزه في الشعر، وهو مذهب متقدمي نحاة الكوفيين، وكان الفراء يجيزه في بعض الوجوه ويأباه في بعضها، فأما قصر الممدود في الشعر فجائز عند جميع النحويين، ولو جعل مكان هذا: حرمت رجائي أو شفائي أو ما أشبهها لكان وجهاً صحيحاً لا ينكر ولا يختلف في جوازه.
عمر رضي الله عنه يعزل والياً بسبب شعره
ونظير عزل هذا القاضي عن عمله لما أنكره إمامهُ من القول السيئ في شعره، الخبر الوارد عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه من عزله النعمان ابن عدي بن نضلة، وذلك ما حدثناه علي بن محمد بن الجهم أبو طالب الكاتب، قال: حدثنا أبو سعيد عبد الرحمن بن محمد بن منصور البصري، قال: حدثنا وهب بن جرير، قال: حدثني أبي، عن محمد بن إسحاق، قال: أنبئت أن عدي بن نضلة بن عبد العزى بن حرثان بن عوف بن عبيد بن عويج بن عدي بن كعب ممن هاجر إلى أرض الحبشة ومات بها، وكان معه ابنه النعمان بن عدي وهو الذي استعمله عمر بن الخطاب رضي الله عنه على ميسان، فقال أبياتاً من الشعر فعزله، فقال:
ألا هل أتى الحسناء أن حليلها ... بميسان يسقى في زجاجٍ وحنتم
إذا شئت عادتني دهاقين قريةٍ ... ورقاصة تجدو على كل منسمِ
فإن كنت ندماني فبالأكبر اسقني ... ولا تسقين بالأصغر المتثلم
لعل أمير المؤمنين يسوءهُ ... تنادُمُنا بالجوسق المتهدم
فلما بلغت عمر الأبيات، قال: أجل والله إن ذلك ليسوءني، فمن لقيه منكم فليخبره أني قد عزلته، فقدم علي عمر فاعتذر، حلف ما صنع مما قال شيئاً، ولكني كنت امرأً شاعراً وجدت فضلاً من قول كما يقول الناس، فقال عمر: والله لا تعمل لي عملاً ما بقيت وقد قلت ما قلت.
تعليق لغوي وبلاغيقال القاضي: قوله تجذو على أطراف أصابع رجليها: أي تقوم، يقال منه: جذا يجذو على أصابع رجليه، وجثا يجثو على ركبتيه.
وسمى الرجل منسماً استعارة وهو في الأصل للبعير، كما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في المستحاضة لتستثفر، وهو في الأصل للدواب ذات الحافر، وكما قال: " من حفظ ما بين فقميه وما بين رجليه دخل الجنة " يريد الفم والفرج، وأصل الفقم للحية، ومن المنسم قول زهير:
ومن لم يصانع في أمور كثيرة ... يضرس بأنيابٍ ويوطأ بمنسمِ
والذي يسمى من الإنسان الظفر يقال له من ذوات الخف المنسم.
من الشعر العفيف
حدثنا يعقوب بن محمد بن صالح الكريري، قال: حدثنا أحمد بن إسماعيل القيسي، قال: حدثنا عبد الله بن شبيب المدني، قال: حدثنا الزبير بن بكار، قال: أنشدنا عبد الله بن مصعب لخيرة بنت أبي ضيغم البلوية:
وبتنا خلاف الحي لا نحن منهمُ ... ولا نحن والأعداء مختلطانِ
وبتنا يقينا بارد الطلِّ والندى ... من الليل برداً يمنة عطران
نذوذ بذكر الله عنا من الخنا ... إذا كان قلبانا بنا يردانِ
ونصدر عن ري العفاف وربما ... نقعنا غليل الصدر بالرشفان
أبيات تمثل بها ابن الزبير منصرفه يوم الجملحدثنا عبد الباقي بن قانع، قال: حدثنا أبو الحسن أحمد بن محمد بن صالح بن شيخ، قال: حدثنا الرياشي، قال: حدثنا محمد بن الحكم الجبلي، قال: حدثنا محمد بن حلحلة القرشي، عن أبي ريحانة، قال: لما انصرف الزبير يوم الجمل تمثل:
أمرتهم أمري بمنعرج اللوى ... ولا أمر للمعصي إلا مضيعا
فقلت لكأسٍ ألجميها فإنما ... حللت الكثيب من زرود لأفزعا
كأن بليتها وبلدة نحرها ... من النبل كراث الصريم المنزعا
إذا المرء لم يغش الكريهة أوشكت ... حبال الهوينا بالفتى أن تقطعا
قال الرياشي: الليتان صفحتا العنق من الناقة، وهما تحت القرط من المرأة، قال القاضي: من الليت قول الشاعر:
وفرع يصير الجيد وحفٍ كأنه ... على الليت قِنوانِ الكروم الدوالحُ
وقال آخر:
إذا هي قامت تقشعر شواتها ... ويبرق بين الليت منها إلى الصقل
قال الرياشي في قوله وبلدة نحرها: البلدة من الإنسان اللبة، ومن البعير الكركرة، وكراث الصريم: نبت له ثلاثة عروق ينبت في الرمل فإذا أخرجه كان أسفله كأنه قذذ السهم، فشبه النبل بذاك، والصريم: الرمل، وأنشد الرياشي:
أنيخت فألقت بلدة فوق بلدةٍ ... قليلٌ بها الأصوات إلا بُغامُها
يقال لصوت البعير بغام، قال الشاعر:
حَسِبْتَ بُغام راحلتي عناقاً ... وما هي ويب غيرك بالعناقِ
المجلس الرابع عشر
الصاحب مسئول عن صاحبهحدثنا محمد بن هرون، أبو حامد الحضرمي، قال: حدثنا زيد بن سعيد، قال: حدثنا عبد المجيد بن عبد العزيز، قال: حدثنا مروان بن سالم، عن يحيى بن الحكم، عن عبد الله، قال: صحب النبي صلى الله عليه وسلم صاحباً فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم غيضة فقطع غصنين، أحدهما أعوج والآخر مستقيم، فدفع إلى صاحبه المستقيم وأمسك الأعوج، فقال الرجل: يا رسول الله! أنت أحق بهذا، فقال: " كلا، ما من صاحب يصحب صاحباً إلا وهو مسئول عنه يوم القيامة ولو ساعةً من نهار " .
حدثنا أحمد بن عيسى بن السكين البلدي، قال: حدثنا أبو سهل أحمد بن محمد بن عمر بن يونس بن القاسم اليمامي، قال: حدثنا عمر بن يونس، قال: حدثنا أبي، عن حموة بن عبد الله بن عمر، قال: كان ابن عمر يحدث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل غيضة ومعه صاحب له، فأخذ منها مسواكين أراكا، أحدهما مستقيم والآخر معوج، فأعطى صاحبه المستقيم وحبس المعوج، فقال: يا رسول الله! أنت أحق بالمستقيم مني، قال: " كلا، إنه ليس من صاحبٍ يصاحب صاحباً ولو ساعة من نهار إلا سأله الله عز وجل يوم القيامة عن مصاحبته إياه، فأحببت ألا أستأثر عليك بشيء " .
العبرة من الحديثقال القاضي: تأملوا - رحمكم الله - ما في هذا الخبر من ذكر ما أتى به من أخلاق رسول الله صلى الله عليه وسلم الشريفة العلية، وعشرته لمن صاحبه الكريمة الرضية، والإفضال والإيثار، وعزوفه عن الاستبداد والاستئثار، ومن أولى بذلك ممن القرآن العظيم أدبه، ومُنزل الوحي الحكيم مُؤدبه، وقد روى أن عائشة رضي الله عنها سئلت عن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: كان خلقه القرآن.
قال القاضي: وأعظم بقول الله عز وجل " وإنك لعلى خلق عظيم " نبلاً ومجداً وفضلاً وجدّاً، وقد جاء في الأثر أنه كان أحيا من عذراء في خدرها، وأنه كان أشد الناس فيما كان من أمر الله عز وجل، فيرضى أحسن الرضا حين التواضع، ويعطي أجزل العطاء عند السماحة والاسترفاد، ويغضب لله عز وجل أشد الغضب عند ظهور الغي والعناد، والعبث والفساد، وكان في أمر ربه ونصرة دينه كالحسام الباتر، والضرغام الخادر، فأكرم بنفسه السمحة الزكية الشريفة الأبية، وسجاياه السهلة الرضية، وعطاياه الفاضلة السنية، اللهم لفك الحمد على توفيقك إيانا لتصديقه، وهدايتك لنا به، اللهم فأسعدنا بإتباع أوامره، والوقوف عند زواجره، والاستمرار على سنته، والسعادة بشفاعته.
جدُّ أعشى همدان وصاحبه
حدثنا ابن دريد، قال: أخبرنا السكن بن سعيد، عن العباس بن هشام، عن أبيه، عن عوانة بن الحكم، قال: حدثنا شيخان من همدان قالا: كان نظام بن جشم بن عمر بن مالك بن عبد الجن الهمداني، وهو جد أعشى همدان، واسم الأعشى عبد الرحمن بن الحارث بن نظام، مؤاخياً لأشوع بن أبي مرثد الهمداني وكانا مغوارين فاتكين قرضوبين جوداين - قال ابن دريد: القرضوب: الذي يأخذ كل ما لاح له - لا يليقان شيئاً، قال القاضي: يقال للصوص: قراضبة، ويقال للفقير قرضوب، قال الشاعر:
قوم إذا صرحت كحل فدارهم ... كهف الضعيف ومأوى كل قرضوبِ
رجع الحديث: لا يليقان شيئاً، فخرجا يريدان الغارة على مهرة ابن حيدان، وكان يختلسان الصرمة ثم يشلانها مجاهرة، فإن أدركا رمياً فلم يسقط لهما سهم، قال ابن الكلبي: قال أبي، قال عوانة: سمعت من أثقب به من رجال همدان يخبر أن السرب من القطا كان يمر بهما طائراً فيقولان: أيها تريدون؟ فيومأ إلى الواحدة منها فيرميانها فلا يخطئان، وكذلك الظباء، وبين بلاد همدان وبلاد مهرة مفازة منكرة، لا تسلكها الخيل وتسوخ فيها أخفاف الإبل فتصب فيها أودية مهرة وأودية الحوف، وهي سبخة ملحة نشاشة، لا تنبت عوداً ليس العكرش، قال: ففوزا أياماً وشول ماؤهما وخافا الهلاك، فأبصرا يوماً مع ذرور الشمس طيراً تحوم على غمضٍ من الأرض، فقال أحدهما لصاحبه: ألا ترى ما أراه، فقال: بلى والله إنها لتحوم على لحم أو ماء، وأيها كان فهو ملكٌ أو وشل فقصدا الجهة حتى هبطا غائطاً ذا خبراوات ونقعان، فأناخا وشربا وسقيا وعضدا لراحلتيهما، واستظلا ببعض تلك الشهر، فبينا كذلك إذ مر بهما أُمعوز، وهو جماعة من الظباء، فرمياه فصرعا ظبيين وأورقا وأوريا واشتويا وقعدا يرقبان الليل ليستدلا بالنجوم، فإذا سواد مقبل فأخمرا راحلتيهما، قال ابن دريد: أي وارياها تحت الشجر، قال القاضي: وهو الخمر، قال الشاعر:
ألا يا زيد والضحاك سيرا ... فقد جاوزتما خمر الطريقِ
وطلعا دوحة فتغيبا في شعابها فإذا صرمة زهر كالصوار يحدوها عبد أسود وهو يقول:
روحي إلى خير أبي المعارك ... لمبركٍ من أرحب المبارك
فإن بيت أضيافه هنالك ... فابشري بوقع عضبٍ باتك
يبتر منك أسوق البوائك
فما غاب الأول عن أعيننا حتى بدت صرمة أخرى يحدوها عبد أسود، وهو يقول:
روحي إلى مبركك الدماثر ... إلى فتى كهبان والمهاجرِ
وعصمة المعتر والمهاجر ... والليث في اليوم العماس الخادر
قال ابن دريد: العماس الشديد -
فإن منيتِ بمضاف زائر ... فأيقني بوقع عضبٍ باتِر
ثم اعتراقٍ بشفارٍ جازر ... مخطرفٍ للجلة البهازر
فلما غاب الراعيان عن أعيننا خرجنا نقتفي آثار الإبل، حتى قربنا من الحلة فأنخنا فلما هدأت الرجل خرجنا مصلتين حتى انتهينا إلى المبرك فاستثرنا من إطراره صرمة فشللناها ليلتنا، حتى إذا انحسر خدرُ الليل وذر الشروق إذا شبح يهوى إلينا هوي العقاب، فما ارتد الطرف حتى أثبتناه نظراً، فإذا رجل على ناقة كأنها ظبي صرع، قال القاضي: الصرع الذي بين الكبير والصغير، قال الأعشى يصف وعلاً:
قد يترك الدهر في خلقاء راسيةٍ ... وهياً وينزل منها الأعصم الصرعا
فأية بالصرمة فانكفأت راجعة، فأقبلنا نصورها أي نعطفها ونمليها كما قال الشاعر:
وفرعٍ يصير الجيد وحفٍ كأنه ... على الليت قِنوانُ الكروم الدوالحُ
وقال الشاعر:
وجاءت خلعةٌ دهسٌ صفايا ... يصور عنوقها أحوى زنيم
ويقال أيضاً: صار يصير كما قال الشاعر: وفرع يصير... البيت وقد قرئ: فصرهن إليك وقصرهن.. والمعنى الميل، وقيل: القطع، وبيان هذا في كتبنا في علوم القرآن مستقصاة.
رجع الحديث، وهي سرع إلى تأييهه، فلما دنا منا قال: خليا عنها لا أم لكما، فقلنا: ولا نعمى عين، وبوأنا له سهمين فأقحم من راحلته كالوعل المذعور، وانتضى سيفه وثنى رأسه في درقته، فوالله ما أرسلنا سهمينا حتى خالطنا، فضرب عرقوبي ناقة صاحبي فغادرها نكوس، وأهوى للأخرى فبتر عرقوبها وهو يقول:
علام أسقي رسلها وأمنحُ ... وأُشبع الضيف بها وأجرحُ
إن لم أقاتل دونها وأضرحُ ... عنها إذا خام الكمي الشحشحُ
ثم قال: استأسرا، فتذامرنا وإن أنفسنا لتنازعا إلى ما قال، فكررنا عليه بأسيافنا فوثب وثبات الفهد، فوقف حجرة وفوت النبل ثم كر راجعاً، فضرب درقة صاحبي فاقتدها، فلما رأينا ذلك استسلمنا وقلنا عياذاً بك يا بن الكرام، فقال: بمعاذ عذتما، وسألنا عن أنسابنا فأخبرناه، فقال: ارتدفا على راحلتي واصرفا وجهتها شطر مطلع الشمس تبلغكما الحي، فخبت بنا الناقة تهوي لا تملكنا من أمرنا شيئاً حتى وردت بنا الحي، فكلا ولا إذ أقبل ضاحكاً كأنه لم تمسسه مشقة، وقد مشى مسيرة ليلة للراكب المجد، فقال: دونكما الصرمة التي اطردتماها وناقتين من سر إبلي برحليهما وحملنا وسرّحنا، فقال: اسمعا ما أقول لكما، فقال:
أقول لخاربي همدان لما ... أثارا صِرمة حمرا وعيسا
ألم تعلما أن لن تفوتا ... وأن لن تعجزا الليث الهموسا
فظن عاجز أن تسلباني ... ومن ذا يسلب الليث الفريسا
ومن دون الذي أملتماه ... ضراب يقطر البطل البليسا
إذا أنا لم أذد عن مدفآتٍ ... فيحدو بيدها الحزن الشريسا
فمم أجنب الأضياف ذمي ... إذا النكباء أوجفت البئيسا
ومما أحسب الجمم اللواتي ... يظل لها الرجال إلي شوسا
ومما أنعش العفى إذا ما ... تراءى وجه دهرهم عبوسا
أهيبا خاربي همدان منها ... بزهر تطرد الفقر الضروسا
وأوبا سالمين بها ولمّا ... أثر لكما النآد المرمريسا
قال ابن دريد: يريد الداهية، قال القاضي: أحسب الجمم معناه أنيلهم ما يكفهم يقال: احسبني الطعام وغيره يحسبني أن كفاني، وقولهم حسبك معناه كافيك، وقيل في قوله تعالى: " عطاءً حساباً " معناه عطاء كافياً يحسبهم أي يكفيهم وقوله: الجمم جمع جمة وهم القوم يسألون في الدية، وقوله: شوساً جمع أشوس وهو الذي ينظر نظراً شديداً، قال الشاعر:
خلا أن العتاق من المطايا ... أحسن به فهن إليه شوس
وقوله: ومما أنعش العفى، معنى أنعش أرفع، وقولهم: نعشك الله أي رفعك إما بسد خلتك أو بإقالة عثرتك وما أشبههما، ومنه قيل لسرير الميت نعش لأنه يرفع عليه، وقوله: العفّى جمع عاف وهو السائل للحاجة وطالبها، يقال: عفا فلان فلاناً يعفوه إذا سأله ورغب إليه في حاجته، وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال يوم أُحُد " لولا أن يحزن ذلك نساءنا لتركنا حمزة بالعراء تأكله عافية الطير " يقال: عافٍ وجماعة عافية مثل كاف وجماعة كافية، ويقال للعافي: معتف، وهو مفعل منه قال الشاعر:
ترى حولهن المعتفين كأنهم ... على صنمٍ في الجاهلية عكّفُ
جمع العافي أيضاً عفاة، مثل كاف وكفاة وساق وسقاة وقاض وقضاة في أشباه لهذا كثيرة جداً، ومن هذا قول الأعشى:
تطوف العفاة بأبوابه ... كطوف النصارى ببيت الوثن
وجمع العافي في الشعر الذي بلغ في هذا الخبر عُفى على وزن فُعّل مثل غاز وغزىً هاد وهدى، قال الله عز وجل: " أو كانوا غزىً " ومثله في الصحيح راكع وركع وساجد وسجد، قال الراجز يخاطب النبي صلى الله عليه وسلم:
إن قريشاً أخلفوك الموعدا ... ونقضوا ميثاقك المؤكدا
وقتلونا ركعاً وسجدا
وقال الله تعالى: " الركع السجود " .
خبر مقتل أبي مسلم صاحب الدولةحدثنا إبراهيم بن محمد بن عرفة، قال: حدثنا أبو العباس المنصوري، قال: لما قتل أمير المؤمنين المنصور أبا مسلم، قال: رحمك الله أبا مسلم، بايعتنا وبايعناك، وعاهدتنا وعاهدناك، ووفيت لنا ووفينا لك، وإنا بايعناك على ألا يخرج علينا أحد في هذه الأيام إلا قتلناه فخرجت علينا فقتلناك.
ولما أمر المنصور بقتله وقد دس له رجالاً من خاصته، وقال لهم: إذا سمعتم تصفيقي فاضربوه، فضربه شبيب بن داج ثم ضربه القواد، فدخل عيسى بن موسى وقد كان كلم المنصور في أمره، فلما رآه قتيلاً استرجع، فقال له المنصور: احمد الله تعالى أنك هجمت على نعمة ولم تهجم على مصيبة، فقال أبو دلامة:
أبا مسلم ما غير الله نعمةً ... على عبده حتى يغيرها العبدُ
أبا مسلم خوفتني القتل فانتحى ... عليك بما خوفتني الأسد الوردُ
خبر للمؤلف مع بعض الرؤساء في شأن أبيات لأبي تمامحدثنا محمد بن أحمد بن إبراهيم الحكيمي، قال: أخبرني أحمد بن الحسين بن هشام قال: أنشدني أبو تمام:
يقولون هل يبكي الفتى لخريدةٍ ... متى ما أراد اعتاض عشراً مكانها
وهل يستعيض المرء من خمسِ كفه ... ولو بدلت حر اللجين بنانها
وكيف على نار الليالي معرسي ... إذا كان شيب العارضين دخانها
قال القاضي: كان بعض رؤساء الزمان أنشد بعض هذه الأبيات، فاستحسنها جداً، وقال - ونحن بحضرته جماعة - : أتعرفون لهذه الأبيات أولاً؟ فقلت له: هذه كلمة لأبي تمام مشهورة أولها:
ألم ترني خليت نفسي وشأنها ... فلم أحفل الدنيا ولا حدثانها
لقد خوفتني الحادثات صروفها ... ولو آمنتني ما قبلتُ أمانها
وأنشدته منها:
يقولون هل يبكي الفتى لخريدة ... إذا ما أراد اعتاض عشراً مكانها
وهل يستعيض المرء من خمس كفه ... ولو صاغ من حر اللجين بنانها
فطرب عند الانتهاء إلى هذا وجعل يردده ويتعايا فه إلى أن حفظه، وقال: هذا ألذ من كل شراب وغناء.
الحسين يرفض تزويج زينب من يزيد
حدثنا محمد بن القاسم الأنباري، قال: أخبرني أبي، عن أبي الفضل العباس بن ميمون، قال: حدثني سليمان بن داود المقري الشاذ كوني، قال: أخبرني محمد بن عمر بن واقد السلمي، عن عبد الله بن جعفر المدني، عن أم بكر بنت المسور بن مخرمة، قال: سمعت أبي يقول: كتب معاوية إلى مروان وهو على المدينة أن يزوج ابنه يزيد بن معاوية زينب بنت عبد الله بن جعفر، وأمها أم كلثوم بنت علي وأم أم كلثوم فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويقضي عن عبد الله بن جعفر دينه، وكان دينه خمسين ألف دينار، ويعطيه عشرين ألف دينار، ويصدقها أربع مائة دينار ويكرمها بعشرة آلاف دينار. فبعث مروان بن الحكم إلى عبد الله بن جعفر فأجابه، واستثنى عليه رضى الحسين بن علي رضي الله عنه، وقال: لن أقطع أمراً دونه مع أني لست أولى بها منه وهو خالٌ، والخال والد، قال: وكان الحسين رضي الله عنه بينبع، فقال له مروان: ما انتظارك إياه بشيء، فلو حزمت؟ فأبى وتركه، فلم يلبثوا إلا خمس ليال حتى قدم الحسين رضي الله عنه، فأتاه عبد الله بن جعفر، فقال: كان من الحديث ما تسمع وأنت خالها ووالدها، وليس لي معك أمر فأمرها بيدك، فأشهد عليه الحسين جماعة بذلك، ثم خرج الحسين رضي الله عنه فدخل على زينب، فقال: يا بنت أختي إنه قد كان من أمر أبيك أمر، وقد ولاني أمرك وإني لا آلوك حسن النظر إن شاء الله، فإنه ليس يخرج منا غريبةً فأمرك بيدي، قال: نعم بأبي أنت وأمي، فقال الحسين رضي الله عنه: اللهم إنك تعمل أني لم أرد إلا الخير، فقيض لهذه الجارية رضاك من بني هاشم، ثم خرج حتى لقي القاسم بن محمد بن جعفر بن أبي طالب، فأخذ بيده فأتى المسجد، وقد اجتمعت بنو هاشم وبنو أمية وأشراف قريش وهيأوا من أمورهم ما يصلحهم، فتكلم مروان فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: إن يزيد بن أمير المؤمنين يريد القرابة لطفاً والحق عطفاً، ويريد أن يتلافى ما كان صلاح هذين الحيين مع ما يحب من أثره عليهم، ومع المعاد الذي لا غناء به عنه مع رضا أمير المؤمنين، وقد كان من أمر عبد الله بن جعفر في ابنته ما قد حسن فيه رأيه، وولى أمرها خالها الحسين ابن علي رضي الله عنهما، وليس عند الحسين خلاف لأمير المؤمنين إن شاء الله. فتكلم الحسين فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: إن الإسلام يرفع الخسيسة ويتم النقيصة ويذهب الملامة، فلا لوم على امرئ مسلم إلا في مأثم، وإن القرابة التي عظم الله حقها وأمر برعايتها، وسأل الأجر في المودة عليها والمحافظة في كتاب الله عز وجل قرابتنا أهل البيت، وقد بدا لي أن أزوج هذه الجارية من هو أقرب إليها نسباً وألطف سبباً، وهو هذا الغلام، يعني القاسم بن محمد بن جعفر، ولم أرد صرفها عن كثرة مال نازعتها نفسها ولا أبوها إليه، ولا أجعل لامرئ في أمرها متكلماً، وقد جعلت مهرها كذا وكذا، فلما في ذلك سعة إن شاء الله. فغضب مروان، وقال: أغدراً يا بني هاشم؟ ثم أقبل على عبد الله بن جعفر، فقال: ما هذه بأبادي أمير المؤمنين عندك، وما غبت عما تسمع، فقال عبد الله: قد أخبرتك الخبر حيث أرسلت إلي وأعلمتك أني لا أقطع أمراً دونه، فقال الحسين: على رسلك أقبل علي، فأول الغدر منكم وفيكم، انتظر رويداً حتى أقول، نشدتكم الله أيها النفر ثم أنت يا مسور بن مخرمة، أتعلم أن حسن بن علي خطب عائشة بنت عثمان حتى إذا كنا بمثل هذا المجلس من الإشفاء على الفراغ، وقد ولتك يا مروان أمرها، قلت: إنه قد بدا لي أن أزوجها عبد الله بن الزبير، هل كان ذلك يا أبا عبد الرحمن؟ يعني المسور، قال: اللهم نعم، فقال مروان: قد كان ذلك وأنا أجيبك وإن كنت لم تسألني، قال الحسين: فأنت موضع الغدر.
عمرو بن حريث يتزوج ابنة عدي بن حاتم على حكمه
========================

======================
مجلد 2. من كتاب : الجليس الصالح والأنيس الناصح المعافى بن زكريا
حدثنا ابن دريد: قال: حدثني عمي، عن أبيه، عن ابن الكلبي، عن محمد بن سليم أبي هلال الراسبي، عن حميد بن هلال الخدري، قال: خطب عمرو بن حريث إلى عدي بن حاتم فقال: لا أزوجك إلا على حكمي، فرجع عمرو وقال: امرأة من قريش على أربعة آلاف درهم أعجب إلي من امرأة من طييء على حكم أبيها، فرجع ثم أبت نفسه فرجع إليه، فقال: على حكمي؟ قال: نعم، فرجع عمرو بن حريث فلم ينم ليلته مخافة أن يحكم عليه بما لا يطيق، فلما أصبح بعث إليه أن عرفني ما حكمت به علي، فأرسل إليه: إني حكمت بأربع مائة درهم وثمانين درهماً سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبعث إليه بعشرة آلاف درهم وكسوة فردها وفرق الثياب في جلسائه، وقال:
يرى ابن حريث أن همي ماله ... وما كنت موصوفاً بحب الدراهم
وقالت قريش لا تحكمه إنه ... على كل ما حال عدي بن حاتم
فيذهب منك المال أول وهلة ... وحمامها والنخل ذات الكمائم
فقلت معاذ الله من ترك سنةٍ ... جرت من رسول الله والله عاصمي
وقلت معاذ الله من سوء سنة ... يحدِّثها الركبان أهل المواسمِ
بين حفص بن غياث القاضي وأبي الديك المعتوهحدثنا محمد بن الحسن بن زياد المقري، قال: أخبرنا القتات بالكوفة، قال: أخبرنا أبو نعيم، قال: كنت جالساً عند حفص بن غياث بعد أن ولي القضاء، فدخل عليه أبو الديك المعتوه وكان ذاهب العقل محتالاً للمعاش، وكان دخوله في يوم من أيام الشتاء شديد البرد فرآه حافياً حاسراً فرحمه، فدعا الجارية فسارها فجاءته بعمامة وخفين، فقال: ارفعيه إلى أبي الديك، قال: فلف العمامة على رأسه ولبس الخف ثم قام بين يديه فأخذ قميصه وكان خلقاً رثاًُ فجال بإصبعه ثم قال: أيها القاضي! جزاك الله عن الأطراف خيراً، وحرك قميصه بإصبعه أي انظر إلى قميصي ورقته ورثاثته، فضحك حفص بن غياث ثم قام فدخل ثم خرج وقد خلع الجبة التي عليه وقميصها، ولبس غيرهما وأمر بدفعهما إلى أبي الديك فلبسهما أبو الديك ثم قال: أيها القاضي! يحكى أن عبد الملك ابن مروان قال لبعض ولده: أي الثياب أعجب إليك؟ قال: ما رأيته على غيري يا أمير المؤمنين، قال: فأي الرجال اخترت لنفسك؟ قال: أحسنهم اختياراً يا أمير المؤمنين. وقد اخترت لنفسك أيها القاضي الثواب وحسن الثناء وسررت أبا الديك كل السرور إلا قطيرة، فقال له حفص: يا أبا الديك! وما القطيرة؟ قال: شيء أنصرف به إلى عيالي، قال: حفص: حباً وكرامة، والله ما في منزلي ذهب ولا فضة ولكن أستقرض لك، يا غلام! قل لفلان أقرضنا ديناراً أدفعه إلى أبي الديك، قال: يقول له أبو الديك: أيها القاضي! والله ما أجد لك مثلاً إلا قول الشاعر:
يعيرني بالدين قومي وإنما تقرضت في أشياء تكسبهم مجداً
وقول صاحبه:
وما كنت إلا كالأصم بن جعفرٍ ... رأى المال لا يبقى فأبقى به حمداً
المجلس الخامس عشر
قول الرسول في مخاطبة قتلى بدرحدثنا علي بن عبد الله بن مبشر الواسطي، قال: حدثنا محمد بن إسحاق قال: حدثنا نصر بن حماد البجلي، قال: حدثنا شعبة، عن السدي، عن مقسم، عن ابن عباس، قال: وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم على قتلى بدر فقال: " جزاكم الله عني من عصابة شراً، فقد خونتموني أميناً وكذبتموني صادقاً، ثم التفت إلى أبي جهل بن هشام فقال: هذا أعتى على الله من فرعون، إن فرعون لما أيقن بالهلكة وحد الله عز وجل، وإن هذا لما أيقن بالهلكة دعا باللات والعزى " .
قال القاضي: وفي هذا الخبر ما ينبه أولي الألباب من المؤمنين على نعمة الله عز وجل عليهم في هدايته إياهم إلى الإيمان به، وتوفيقهم لتصديق نبيه، والإقرار بصحة نبوته، الاعتراف بوفور أمانته، والإذعان لاتباعه والجد في طاعته، وأن بصرهم من دينه ما عمي عنه أعداؤه، وعصمهم من الضلالة التي هلك فيها عصاة عباده، وعتاة خلقه، فالحمد لله على نعمته علينا في ديننا ودنيانا، وله الشكر على إحسانه إلينا في جميع شئوننا، ونظره لنا فيما يصلحنا، ويعود علينا بالفوز في معادنا، والنجاة من العطب يوم حشرنا.
جارية ظريفة ترد على أبي الشعثاء حين أخبرها بحبه
حدثنا محمد بن الحسن بن دريد، قال: أخبرنا الرياشي، عن ابن سلام، قال: أخبرني علي بن هشام أو من أخبرني عن علي بن هشام، قال: كان بالكوفة رجل يكنى أبا الشعثاء، عفيفاً مزاحاً، وكان يدخل على سراة أهل الكوفة، فمزح مع جارية لبعضهم وأخبرها أنه يهواها، وكان شاعرة ظريفة، فقالت:
لآبي الشعثاء حب باطنٌ ... ليس فه تهمة للمتهمْ
يا فؤادي فازدجر عنه وإن ... عبث الحب به فاقعد وقمْ
جاءني منه كلام صائبٌ ... ورسالات المحبين الكلم
صائد تأمنه غزلانه ... مثل ما تأمن غزلان الحرم
صل إن أحببت أن تعطى المنى ... يا أبا الشعثاء لله وصمْ
ثم ميعادك بعد الموت في ... جنة الخلد إن الله رحمْ
حيث نلقاك غلاماً ناشئاً ... كلاماً قد كملت فيك النعم
ابن الزبير يغضب من ابني العباس بن عبد المطلبحدثنا محمد بن القاسم الأنباري، قال: حدثني أبي، قال: حدثنا عامر بن عمران أبو عكرمة الضبي، قال: دخل عبد الله بن صفوان على عبد الله بن الزبير، فقال: أنت والله كما قال الشاعر:
إن تصبك من الأيام جائحةٌ ... لم نبك منك على دنيا ولا دينِ
قال: وما ذاك؟ قال: هذان ابنا العباس بن عبد المطلب، أحدهما يفتي الناس في دينهم والآخر يطعم فما بقيا لك، فأرسل إليهما: إنكما تريدان أن ترفعا رايةً قد وضعها الله، ففرقا من قبلكما من مراق العراق، فقال عبد الله: أي الرجلين نطرد عنا؟ أقابس علم أم طالب نيل، وبلغ الخبر أبا الطفيل، فقال:
لا در در الليالي كيف يضحكنا ... منها عجائب أنباءٍ وتبكينا
مثل ما تحدث الأيام من عجبٍ ... وابن الزبير عن الدنيا يلهينا
كنا نجيء ابن عباسٍ فيقبسنا ... علماً ويكسبنا أجراً ويهدينا
ولا يزال عبيد الله مترعة ... جفانه مطعماً ضيفاً ومسكيناً
فالدين والعلم والدنيا ببابهما ... ننال منها الذي شئنا إذا شينا
ففيم تمنعنا منهم وتمنعهم ... منا وتؤذيهم فينا وتؤذينا
إن الرسول هو النور الذي كشفت ... به عماية ماضينا وباقينا
وأهله عصمة في ديننا ولهم ... حق علينا وحق واجب فينا
ولست فاعلم بالأولى به نسباً ... يا بن الزبير ولا الأولى به دينا
لن يجزي الله من أجزى لبغضهم ... في الدين عزاً ولا في الأرض تمكينا
زواج شرحبيل بن الحارث الغساني
من مية بنت عمرو ثم تطليقه لها بأمر أبيهحدثنا ابن دريد، قال: أخبرنا السكن بن سعيد، عن محمد بن عباد، عن ابن الكلبي، قال: قدم شرحبيل بن الحارث الغساني - وكان من أهل بيت الملك - موسماً من مواسم العرب، وحضرت ذلك العام بكر بن وائل، فخطب شرحبيل مية بنت عمرو بن مسعود بن عامر بن عمرو ابن أبي ربيعة بن ذهل بن شيبان وهو أصم بني ربيعة، فقال له أبوها: هي لك وقومها بيدك، فوالله ما في غسان ملك أحب إلي صهراً منك، فأنكحه إياها، فاحتملها شرحبيل إلى أبيه الحارث بن مرة، فكانت معهم وانقطعت إليهم بكر بن وائل وذلك في أيام الطوائف قبل ملك بني نصر بالحيرة، فبينا هو نائم ذات ليلة هي بين يديه، إذ أقبل أسود سالخ يهوى إلى الفتى فاتحاً فاه والسراج تزهر، حتى إذا أهوى إليه أخذت بحلقه فخنقته حتى مات، ثم جعلته بين أثناء الفراش، وكان أبوه إذا أصبح غدا عليه هو وأمه تعظيماً له، ثم يأتيه الناس فيسلمون عليه فلما اجتمع الناس أهوت إلى الأسود فأخرجته ميتاً، فذعر الشيخ فقال: من قتل هذا؟ فقالت: أنا قتلته ولو كان أشد منه لقتلته، فقال: يا شرحبيل خل عنها، فهي - وأبيها - للرجال أقتل، فكره شرحبيل أن يعصي أباه فسار بها وبمالها حتى إذا دنا من أرض بكر بن وائل بعث معها من يلحقها بقومها، فقالت: لو مضيت بين إلى أبي كان أحب إلي، فقال: واسوءَتاه! أنظر إلى أبيك وقد طلقتك في غير ذنب، فقدمت إلى أبيها، فدعا قبيصة ابن هانئ بن مسعود فأنكحها إياه، فقال شرحبيل:
أوزجتني غراء من خير نسوةٍ ... نماها إلى العلياء عمرو وعامرُ
فلما ملأت صدري سروراً وبهجة ... عزمت بحق ليس لي فيه عاذرُ
فطلقتها من غير ذنب أتت به ... إلي سوى أني بمية غادرُ
سرى في سواد الليل أسود سالخٌ ... إلي وقد نامت عيونٌ سوامر
فأهوت له دون الفراش بكفها ... فأصبح مقتولاً فهل أن شاكر
فقال أبوه:
لعمري لئن طلقتها إن مثلها ... إذا طلب القوم من النساء قليل
ولكنني حاذرتها أن تعيدها ... فتصبح محجوباً وأنت قتيل
وأصبح في غسان أبكي بعبرةٍ ... عليك ورزئي عند ذاك جليل
من مخارج أبي يوسف الفقيهة
حدثنا محمد بن أبي الأزهر، قال: حدثنا حماد بن إسحاق الموصلي، قال: حدثني أبي، قال: حدثني بشر بن الوليد وسألته من أين جاء؟ قال: كنت عند أبي يوسف يعقوب بن إبراهيم القاضي، وكنا في حديث طريف، قال: فقلت له: حدثني به قال: قال لي يعقوب: بينا أنا البارحة قد أويت إلى فراشي، فإذا داقٌّ يدق الباب دقاً شديداً، فأخذت علي إزاري وخرجت، فإذا هرثمة بن أعين فسلمت عليه فقال: أجب أمير المؤمنين، قلت: يا أبا حاتم! لي حرمة وهذا وقت كما ترى، ولمت آمن أن يكون أمير المؤمنين دعاني لأمر من الأمور، فإنك أمكنك أن تدفع بذلك إلى غدٍ فلعله أن يحدث له رأي، فقال: ما إلى ذلك سبيل، قلت: فما كيف كان السبب؟ قال: خرج إلي مسرور الخادم فأمرني أن آتي أمير المؤمنين بك، قلت: تأذن لي أن أصب علي ماء وأتحنط، فإن كان أمر من الأمور كنت قد أجدت وأحكمت أمري، وإن رزق الله تعالى العافية فلن يضر، فأذن لي فدخلت فلبست ثياباً جدداً وتطيبتُ بما أمكن من الطيب، ثم خرجنا حتى أتينا دار أمير المؤمنين الرشيد، فإذا مسرور واقف فقال له هرثمة: قد جئت به، فقلت لمسرور: يا أبا هاشم! خدمتي وحرمتي وميلي، وهذا وقتٌ ضيق، لِمَ طلبني أمير المؤمنين؟ قال: لا، قلت: فمن عنده؟ قال: عيسى بن جعفر، قلت:ومن؟ قال: ما عنده ثالث، قال: مر، فإذا صرت في الصحن فأته في الرواق وهو ذاك جالسٌ، فحرك رجلك بالأرض فإنه سيسألك، فقل له: أنا، فجئت ففعلت، قال: من هذا؟ قلت: يعقوب، قال: ادخل، فدخلت فإذا هو جالس وعن يمينه عيسى بن جعفر، فسلمت فرد علي السلام، وقال: أظننا روعناك؟ قلت: إي والله وكذاك من خلفي، قال: اجلس فجلست حتى سكن روعي، ثم التفت إلي فقال: يا يعقوب تدري لم دعوتك؟ قلت: لا. قال: دعوتك لأشهدك على هذا، إن عنده جارية سألته أن يهبها لي فامتنع، وسألته أن يبيعها فأبى، ووالله لئن لم يفعل لأقتلنه، قال: فالتفتُّ إلى عيسى، فقلت: وما بلغ الله بجارية تمنعها أمير المؤمنين وتنزل نفسك هذه المنزلة؟ قال: فقال: عجلت علي في القول قبل أن تعرف ما عندي؟ قلت: وما في هذا الجواب؟ قال: إن علي يميناً بالطلاق والعتاق وصدقة ما أملك ألا أبيع هذه الجارية ولا أهبها، فالتفت الرشيد فقال: هل له في ذلك مخرج؟ قلت: نعم، يهب لك نصفها ويبيعك نصفها، فيكون لم يهب ولم يبع، قال عيسى: ويجوز ذلك؟ قلت:نعم، قال: فأشهدك أني قد وهبت له نصفها وبعته النصف الباقي بمائة ألف دينار، فقال: الجارية، فأتي بالجارية وبالمال، فقال: خذها يا أمير المؤمنين بارك الله لك فيها، قال: يا يعقوب؟ بقيت واحدة، قلت: وما هي؟ قال: هي مملوكة ولا بد أن تستبرأ، ووالله لئن لم أبت معها ليلتي إني لأظن نفسي ستخرج، فقلت: يا أمير المؤمنين تعتقها وتتزوجها فإن الحرة لا تستبرأ، قال: فإني قد عتقتها فمن يزوجنيها؟ قلت: أنا، قال: فافعل، فدعا بمسرور الخادم وحسين فخطبت فحمدت الله وزوجته على عشرين ألف دينار، ودعا بالمال ودفعه إليها، ثم قال: يا يعقوب؟ انصرف، ورفع رأسه إلى مسرور فقال: يا مسرور؟ قال لبيك يا أمير المؤمنين، قال: احمل إلى يعقوب مائتي ألف درهم وعشرين تختاً ثياباً، فحمل ذلك معي. قال: فقال بشر بن الوليد: فالتفت إلي يعقوب فقال: هل رأيت بأساً فيما فعلت؟ قلت: لا، قال: فخذ منها حقك، قال: وما حقي؟ قال: العشر. فشكرته ودعوت له، ذهبت لأقوم فإذا بعجوز قد دخلت فقالت: يا أبا يوسف؟ ابنتك تقرئك السلام وتقول لك والله ما وصل إلي في ليلتي هذه من أمير المؤمنين سوى المهر الذي قد عرفته، وقد حملت إليك النصف منه وخلفت الباقي لما أحتاج إليه فقال: رديه فوالله لا قبلتها، أخرجتها من الرق وزوجتها أمير المؤمنين وترضى لي بهذا، فلم نزل نطلب إليه أنا وعمتي حتى قبلها وأمر لي بألف دينار.
؟؟
إسقاط اسبتبراء الأمة وتولية عقد نكاحها
قال القاضي: إسقاط أبي يوسف الاستبراء في هذه المسألة هو مذهبه ومذهب من تقدمه ومن اتبعه من أصحابه، فأما مذهب الجمهور من الحجازيين وغيرهم فعلى أن الاستبراء ها هنا باقٍ بحاله، وأما توليه عقد نكاح هذه المعتقة فإن مذهب أبي يوسف ومتقدمي أصحابه من أهل العراق ومتأخريهم أن مولى الأمة المعتق لها أولى بعقد النكاح له ولغيره عليها، ومذهب عامة أهل العلم من الحجازيين وغيرهم من الشاميين والعراقيين - وكان الشافعي يرى أنه يعقد عليها النكاح لغيره ولا يعقده لنفسه - وأنه إذا أراد أن يتزوجها تولى العقد له عليها الحاكم، ورأيت أبا جعفر شيخنا رحمه الله قد أفتى بهذا في مسائله، والقول الأول أولى بالحق عندي وأشبه بقوله، وبيان هذا الباب وشرحه مستقصى فيما رسمناه من كتبنا في الفقه، وبالله التوفيق.
عمة محمد بن أحمد بن عيسى تستشفع له لدى المعتضدحدثنا محمد بن يحيى الصولي، قال: كان مع المعتضد أعرابي فصيح يقال له شعلة بن شهاب اليشكري، وكان يأنس به فأرسله إلى محمد بن عيسى بن شيخ وكان عارفاً به ليرغبه في الطاعة ويحذره العصيان ويرفق به، فقال شعلة بن شهاب فصرت إليه فخاطبته أقرب خطاب فلم يجبني، فوجهت إلى عمته أم الشريف فصرت إليها فقالت: يا أبا شهاب! كيف خلفت أمير المؤمنين، فقلت: خلفته والله أماراً بالمعروف فعالاً للخير، متعززاً على الباطل متذللاً للحق، لا تأخذه في الله لومة لائم، فقالت لي: أهل ذلك هو مستحقه ومستوجبه، وكيف لا يكون كذلك وهو ظل الله عز وجل الممدود على بلاده، وخليفته على عباده، وأعز به دينه، وأحيا به سنته، وثبتت به شرائعه، ثم قالت: يا أبا شهاب فكيف رأيت صاحبنا؟ قلت: رأيت حدثاً معجباً قد استحوذ عليه السفهاء واستبد بآرائهم وأنصت لأفواههم، يزخرفون له الكذب ويوردونه الندم، فقالت: هل لك أن ترجع إليه بكتابي قبل لقاء أمير المؤمنين، فلعلك تحل عقدة السفهاء؟ قال: قلت: أجل، فكتبت إليه كتاباً حسناً لطيفاً معجباً أجزلت فيه الموعظة وأخلصت فيه النصيحة بهذه الأبيات:
اقبل نصيحة أم قلبها وجل ... عليك خوفاً وإشفاقاً وقل سدداً
واستعمل الفكر في قولي فإنك إن ... فكرت ألفيت في قولي لك الرشدا
ولا تثق برجال في قلوبهمُ ... ضغائن تبعث الشنآن والحسدا
مثل النعاج خمولاً في بيوتهم ... حتى إذا أمنوا ألفيتهم أسدا
وداوِ داءك والأدواء ممكنة ... وإذ طبيبك قد ألقى إليك يدا
أعط الخليفة ما يرضيه منك ولا ... تمنعه مالاً ولا أهلاً ولا ولدا
واردد أخا يشكر رداً يكون له ... ردءاً من السوءِ لا تشمت به أحداً
قال: فأخذت الكتاب وصرت به إلى محمد بن أحمد بن عيسى، فلما نظر فيه رمى به إلي ثم قال: يا أخا يشكر ما بآراء النساء تتم الأمور، ولا بعقولهن يساس الملك، ارجع إلى صاحبك. فرجعت إلى أمير المؤمنين فأخبرته الخبر على حقه وصدقه، فقال: وأين كتاب أم الشريف؟ فدفعته إليه فقرأه وأعجبه شعرها، ثم قال: والله إني لأرج أن أشفعها في كثير من القوم، فلما كان من فتح آمد ما كان، أرسل المعتضد فقال: يا شعلة! هل عندك علم من أم الشريف؟ قال: قلت لا والله يا أمير المؤمنين، قال: فامض مع هذا الخادم فإنك ستجدها في جملة نسائها، قال: فمضيت فلما بصرت بي من بعيد سفرت عن وجهها، وأنشأت تقول:
ريب الزمان وصرفه ... معتادة كشف القناعا
أذل بعد العز منا ال ... صعب والبطل الشجاعا
ولكم نصحت فما أطع ... ت وكم حرصت بأن أطاعا
فأبى بنا المقدار إلا ... أن نقتسم أو نباعا
يا ليت شعري هل ترى ... يوماً لفرقتنا اجتماعا
قال: ثم بكت حتى علا صوتها وضرت بيدها على الأخرى، وقالت: يا أبا شهاب إنا لله وإنا إليه راجعون، كأني والله كنت أرى ما أرى، فقلت لها: إن أمير المؤمنين وجه بي إليك وما ذاك إلا لجيل رأيه فيك، فقال: هل لك أن توصل لي رقعة إليه، قلت: فدفعت إلي رقعة فيها:
قل للخليفة والإمام المرتضى ... ابن الخلائف من قريش الأبطحِ
علم الهدى وسراجه ومناره ... مفتاح كل عظيمة لم تفتحِ
بك أصلح الله البلاد وأهلها ... بعد الفساد وطال ما لم تصلح
فتزحزحت بك هضبة العرب التي ... لولاك بعد الله لم تتزحزح
أعطاك ربك ما تحب فأعطه ... ما قد يحب وجد بعفوك واصفح
يا بهجة الدنيا وبدر ملوكها ... هب ظالمي ومفسدي لمصلحي
قال: فأخذت الرقعة وصرت بها إلى المعتضد، فلما قرأها ضحك، وقال: لقد نصحت لو قبل منها فأمر أن تحمل إليها خمسون ألف درهم وخمسون تختاً من الثياب، وأمر بأن يحمل مثل ذلك إلى محمد بن احمد بن عيسى.
حكم ما بعد لولا من الضمير المتصلقال القاضي: قول أم الشريف له في هذا الشعر:
لولاك بعد الله لم تتزحزح
جائز عند جميع متقدمي النحاة ومتأخريهم، كوفيهم وبصريهم غلا أبا العباس محمد بن يزيد فإنه كان لا يجيزه ويطعن فيما ورد في الشعر منه، وينسب قائله إلى الشذوذ ومفارقة السماع والقياس، ومما جاء في الشعر من هذا قول ابن أم الحكم:
وأنت امرؤٌ لولاي طحت كما هوى ... بأجرامه من قلة النيق منهوي
وقال آخر:
تقول لي من داخل الهودج ... لولاك هذا العام لم أحجج
وقول الآخر:
أتطمع فينا من أراق دماءنا ... ولولاك لم يطمع بأحسابنا حَسَن
وقد اختلف النحويون في موضع ما يلي لولا من المضمر المتصل من الإعراب، وكان سيبويه والكسائي يقولان: هو مجرور وإن كان الظاهر إذا حل محله رفع، وكان الفراء والأخفش يحكمان على موضعه بالرفع، وإن كان آتياً على الصورة التي صيغت في الأصل إلى ضمير المجرور لغلبة الاشتراك في صيغة المضمر بينه وبين المنفصل وهو كثير في هذا الباب، ومنه قول الشاعر:
فأحسن وأجمل في أسيرك إنه ... ضعيف ولم يأسر كإياك آسرُ
وقالوا: أنت كأنا وأنا كأنت، ولاستقصاء هذا الباب والاحتجاج فيه موضع هو أولى به من هذا الموضع، والأفصح والأوضح في العربية سماعاً وقياساً: لولا أنا ولولا أنت، والقضاء على موضع هذا المضمر المنفصل فإنه في موضع رفع كما هو في الظاهر كذلك، كقولك: لولا زيد ولولا عبد الله، غير أن الوجه الآخر جائز، كما قال جمهور النحويين لروايتهم إياه عن العرب وما استشهدوا به من أشعارها، وليس بمطرحٍ لاحق باللحن المرغوب عنه كما زعم أبو العباس محمد بن يزيد.
عظة واعتبارحدثنا أبو الحسين أحمد بن جعفر بن موسى البرمكي المعروف بجحظة، قال: قال لي صافي الحرمي: لما مات المعتضد بالله كفنته والله في ثوبين قوهي قيمتهما ستة عشر قيراطاً.
خبر مقدم وكيع وابن إدريس وحفص على الرشيد
حدثنا ابن مخلد، قال: حدثنا حماد بن المؤمل، أبو جعفر الضرير الكلبي، حدثني شيح على باب بعض المحدثين، قال: سألت وكيعاً عن مقدمه وهو وابن إدريس وحفص على هارون الرشيد، فقال لي: ما سألني عن هذا أحد قبلك، قدمنا على هارون أنا وعبد الله بن إدريس وحفص بن غياث، فأقعدنا بين السريرين فكان أول من دعا به أنا، فقال لي هارون: يا وكيع! فقلت: لبيك يا أمير المؤمنين قال: إن أهل بلدك طلبوا مني قاضياً وسموك لي فيمن سموا، وقد رأيت أن أشركك في أمانتي وصالح ما أدخل فيه من أمر هذه الأمة، فخذ عهدك وامض. فقلت: يا أمير المؤمنين! وإحدى عيني ذاهبة والأخرى ضعيفة؟ فقال هارون: اللهم غفراً، خذ عهدك أيها الرجل وامض، فقلت: يا أمير المؤمنين والله لئن كنت صادقاً إنه لا ينبغي أن تقبل مني وإن كنت كاذباً فلا ينبغي أن تولي القضاء كذاباً، فقال: اخرج، فخرجت، فدخل ابن إدريس فكأن هارون قد وسم له من ابن إدريس واسم، يعني خشونة جانبه، فدخل فسمعنا صوت ركبتيه على الأرض حين برك، وما سمعناه يسلم إلا سلاماً خفياً، فقال له هارون: أتدري لم دعوتك؟ قال: لا، قال: إن أهل بلدك طلبوا مني قاضياً وأنهم سموك لي فيمن سموا، وقد رأيت أن أشركك في أمانتي وأدخلك في صالح ما أدخل فيه من أمر هذه الأمة، فخذ عهدك وامض، فقال له ابن إدريس: لست أصلح للقضاء، فنكث هارون بإصبعه وقال له: وددت أني لم أكن مثلتك، قال له ابن إدريس: وأنا وددت أني لم أكن رأيتك، فخرج ثم دخل حفص بن غياث، فقال له كما قال لنا، فقبل عهده وخرج، فأتانا خادم معه ثلاثة أكياس في كل كيس خمسة آلاف دينار، فقال: إن أمير المؤمنين يقرئكم السلام ويقول لكم: قد لزمتكم مؤونة في شخوصكم فاستعينوا بهذه في سفرتكم، قال وكيع: أقرئ أمير المؤمنين السلام وقل: قد وقعت مني بحيث يحب أمير المؤمنين وأنا عنها مستغن، وفي رعية أمير المؤمنين من هو أحوج إليها مني، فإن رأى أمير المؤمنين أن يصرفها إلى من أحب، وأما ابن إدريس فصاح به: مر من ها هنا وقبلها حفص، وخرجت الرقعة إلى ابن إدريس من بيننا، عافانا الله وإياك سألناك أن تدخل في أعمالنا فلم تفعل، ووصلناك من أموالنا فلم تقبل، فإذا جاءك ابني المأمون فحدثه إن شاء الله، فقال للرسول: إذا جاء مع الجماعة حدثنا إن شاء الله، ثم مضينا، فلما صرنا إلى الياسرية حضرت الصلاة فنزلنا نتوضأ للصلاة، قال وكيع: فنظرتُ إلى شرطي محموم نائم في الشمس عليه سواده فطرحت كسائي عليه، وقلت: تدفأ إلى أن نتوضأ، فجاء ابن إدريس فاستلبه ثم قال: رحمته لا رحمك الله، في الدنيا أحد رحم مثل ذا؟ ثم التفت إلى حفص وقال: قد علمت حين دخلت إلى سوق أسد فخضبت لحيتك ودخلت الحمام أنك ستلي القضاء، ولا والله لا كلمتك حتى تموت، فما كلمه حتى مات.
المأمون يترك جاريته الحبيبة إلى بلاد الرومحدثنا الحسين بن القاسم الكوكبي، قال: حدثنا أبو محمد عبد الله بن مالك النحوي، قال: أخبرنا يحيى بن أبي حماد الموكبي، عن أبيه، قال: لما وصفت للمأمون جارية بكل ما توصف به امرأة من الكمال والجمال، فبعث في شرائها فأتى بها وقت خروجه إلى بلاد الروم، فلما هم بلبس درعه خطرت بباله فأمر فأخرجت إليه، فلما نظر إليها أعجب بها وأعجبت به، فقالت: ما هذا: قال: أريد الخروج إلى بلاد الروم. قالت: قتلتني والله يا سيدي، وجرت دموعها على خدها كنظم اللؤلؤ، وأنشأت تقول:
سأدعو دعوة المضطر ربا ... يثيب على الدعاء ويستجيب
لعل الله أن يكفيك حرباً ... ويجمعنا كما تهوى القلوب
فضم المأمون إلى صدره وأنشأ متمثلاُ يقول:
فيا حسنها إ يغسل الدمع كحلها ... وإذ هي تذري الدمع منها الأنامل
صبيحة قالت في العتاب قتلتني ... وقتلي بما قالت هناك تحاول
ثم قال لخادمه: يا مسرور احتفظ بها وأكرم محلها وأصلح لها كل ما تحتاج إليه من المقاصير والخدم والجواري إلى وقت رجوعي، فلولا ما قال الأخطل حين يقول:
قومٌ إذا حاربوا شدوا مآزرهم ... دون النساء ولو باتت بأطهارِ
ثم خرج فلم يزل يتعهدها ويصلح ما أمر به، فاعتلت الجارية علة شديدة أشفق عليها منها وورد نعي المأمون، فلما بلغها ذلك تنفست الصعداء وتوفيت، وكان مما قالت وهي تجود بنفسها:
إن الزمان سقانا من مرارته ... بعد الحلاوة أنفاساً فأروانا
أبدى لنا تارةً فأضحكنا ... ثم انثنى تارة أخرى فأبكانا
إنا إلى الله فيما لا يزال لنا ... من القضاء ومن تلوين دنيانا
دنيا نراها ترينا من تصرفها ... ما لا يدوم مصافاةً وأحزانا
ونحن فيها كأنا لا نزايلها ... للعيش أحياؤنا يبكون موتانا
المجلس السادس عشر
حديث ما ذئبان جائعان في حظيرةحدثنا محمد بن إسماعيل بن إسحاق الفارسي، قال: حدثنا أحمد بن زهير أبو بكر بن أبي خيثمة، قال: حدثنا قحطبة بن العلاء، قال حدثني سفيان الثوري، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ما ذئبان جائعان في حظيرة وثيقة يأكلان ويفترسان، بأضرّ فيها من حب المال والشرف في دين المرء المسلم " .
تعليق المؤلفقال القاضي: هذا خبر صحيح مشهور، قد رويناه من غير وجه، وفي جملة ألفاظه اختلاف في اللفظ دون المعنى، في بعضها: ما ذئبان ضاريان، وفيه تنبيه على أن أولى الأمور بالمرء حفظه دينه، وإشفاقه من دخول الخلل فيه، فإن حب المال والشرف والسعي في اكتسابهما، والحرص على حيازتهما والانهماك في مسابقة أهلهما إليهما، ومغالبته عليهما، مما يؤدي إلى هدم الدين وتوهين أركانه، وطمس معالمه وحط بنيانه، مع ما فيه من حمل المرء منه على أسباب الهلكة، وجده فيما يورطه في حبائل الرذائل، وبعده عن شريف الفضائل، فقل من سلم ممن وصفنا حاله من البغي والعدوان والحسد والطغيان، وقد يحرم مع هذا مما أمل إدراكه، وطمع في بلوغه، فحصل من الكد والجد، والعناء والشقاء ولاستيلاء النحوس عليه وانحطاط الجد، فنسأل الله تعلى توفير حظنا من رحمته وعصمته، وأن يتمم ما ابتدأنا به من نعمته، فلقد هلك من هلك من الناس في ركوبهم ما حذر منه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأوضح البيان عنه.
وقد ذكر عن الحجاج بن أرطاة وكان من المشهورين بالفقه والقضاء والرواية والتصرف في الآراء، أنه قال: أهلكني حب الشرف. وروى عنه أنه كان لا يشهد جمعة ولا جماعة ويقول: أكره مزاحمة الأنذال.
أمر الحجاج بن علاط السلمي وحيلته في جمع ماله من مكةحدثنا أحمد بن إبراهيم الخليل الكاتب النهرواني، قال: حدثني أبو عبد العزيز بن علي بن المنتصر، قال: حدثني أحمد بن محمد بن المنتصر، قال حدثنا هرون بن محمد بن إسحاق بن موسى بن عيسى الهاشمي الكوفي، قال: حدثنا جعفر بن محمد المعيدي ويعقوب، قالا: حدثنا يوسف بن بهلول، قال: حدثني ابن إدريس، عن ابن إسحاق، قال: حدثني عبد الله بن أبي بكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم انصرف حتى قدم المدينة في آخر صفر، وكان افتتاح خيبر في عقب المحرم، قال: ولما أسلم الحجاج بن علاط السلمي ثم البهزي شهد خيبر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال أحمد بن إبراهيم: وأخبرنا عبيد الله بن عبد الله بن محمد بن مزيد النحوي بإسناد له، قال: ولما أسلم حجاج بن علاط السلمي وكان قد أسلم ولم تعلم قريش بإسلامه، فاستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم خيبر في أن يصير إلى مكة فيأخذ ما كان له من مال، وقال الهاشمي في حديثه: قال الحجاج: يا رسول الله! إن لي مالاً بمكة عند أبي طلحة، وعلى التجار، وعند صاحبتي أم شيبة بنت أبي طلحة أخت بني عبد الدار، وأنا أتخوف إن علموا بإسلامي أن يذهب، فأذن لي باللحوق به لعلي أخلصه.
وقال أبو العباس في حديثه: فاستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في يوم خيبر بأن يصير إلى مكة فيأخذ ما كان له من مال بها، وكانت له أموال متفرقة وهو رجل غريب فهم، إنما هو أحد بني سليم بن منصور ثم أحد بني بهز، فأذن له رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله! إني أحتاج إلى أن أقول، قال: فقل. وقال الهاشمي في حديثه: لا بد لي من أن أقول: قال: قل وأنت في حل. قال أبو العباس: وهذا كلام حسن يقال على جهة الاحتيال غير الحق، فأذن له فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنه من باب الحيلة وليس من باب الفساد والشر ما يقال في هذا المعنى، يقول كما قال الله عز وجل: " أم يقولون تقوله " . وقال الهاشمي في حديثه: فخرج الحجاج، قال: فلما انتهيت إلى ثنية البيضاء وجدت بها رجالاً من قريش يتسمعون الأخبار وقد بلغهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد سار إلى خيبر، وكانوا قد عرفوا أنها أرض الحجاز وبها منعة ورجال. وقال أبو العباس في حديثه: فلما أبصروني قالت قريش: هذا لعمر الله عنده الخبر، أخبرنا يا حجاج فقد بلغنا أن القاطع قد سار إلى خيبر.
وقال أبو العباس في حديثه: وقال الهاشمي في حديثه وهي بلد يهود وريف الحجاز قال: قلت: قد بلغني أنه قد سار إليها وعندي من الخبر ما يسركم، قال: فالتبطوا بجنبتي ناقتي يقولون: هي يا حجاج، قال: قلت: هُزم هزيمة لم تسمعوا بمثلها قط، وقتل أصحابه قتلاً لم تسمعوا بمثله قط، وأخذوا محمداً أسيراً، وقالوا: لن نقتله حتى نبعث به إلى مكة فيقتلوه بين أظهرهم بمن كان أصابهم من رجالهم، فقاموا فصاحوا بمكة وقالوا: قد جاءكم الخبر، هذا محمد إنما تنتظرون أن يقدم به عليكم، وهذا الكلام كله من حديث الهاشمي، قال: فقلت: أعينوني على جمع مالي بمكة على غرمائي فإني أبادر خيبر فأصيب من فل محمد وأصحابه قبل أن يسبقني التجار إلى ما هناك، قال: فجمعوا مالي كله كأحث جمع سمعت به، وجئت صاحبتني، فقلت: مالي قبل أن يسبقني التجار، فلما سمع العباس بن المطلب ذلك، حتى وقف إلى جنبي وأنا في خيمة من خيام التجار، وقال أبو العباس في حديثه: فأتاني العباس وهو كالمرأة الوالهة فقال: ويحك يا حجاج! ما تقول؟ قال: فقلت: أكاتم أنت علي خبري؟ وقال الهاشمي في حديثه: فقال: يا حجاج! ما هذا الذي جئت به؟ قال: قلت: وهل عندك حفظ لما يوضع عندك؟ قال: نعم. قال: استأخر حتى ألقاك على خلاء فإني في جمع مالي كما ترى، وقال أبو العباس في حديثه: وقلت: فالبث عني شيئاً يخف موضعي، فانصرف عني حتى إذا فرغت من كل شيء وأجمعت أمري على الخروج لقيته فقلت: احفظ علي حديثي فإني أخشى الطلب، قال: أفعل قال: إني والله تركت ابن أخيك عروساً على ابنة ملكهم صفية بنت حيي، وقال أبو العباس في حديثه: خلفت رسول الله صلى الله عليه وسلم قد فتح خيبر، وخلفته عروساً على ابنة ملكهم وما جئتكم إلا مسلماً. وقال الهاشمي في حديثه: ولقد افتتح خيبر ونقل ما كان فيها وساق وصارت له ولأصحابه. وقال أبو العباس في حديثه: فاكتم الخبر ثلاثً حتى أعجز القوم ثم أشعه فإنه والله الحق. قال الهاشمي في حديثه: فاكتم علي ثلاثاً، وما جئت إلا لأخذ مالي فرقاً من أن أغلب عليه، فإذا مضت ثالثة فأظهر أمرك، والأمر والله على ما تحب، قال: فلما كان اليوم الثالث لبس العباس الحلة وتخلق ثم أخذ عصاه وخرج يطوف بالبيت، فلما رأته قريش قالت: يا أبا الفضل هذا والله التجلد لحر المصيبة، قال: كلا ومن حلفتم به، لقد افتتح رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر فنزل عروساً على ابنة ملكهم، قالوا: ومن جاءك بهذا الخبر؟ قال: قلت: الذي جاءكم بما جاءكم ولقد دخل عليكم مسلماً وأخذ ما له وانطلق فلحق برسول الله صلى الله عليه وسلم يصحبه ويكون معه، قالوا: أفلت عدو الله، أما والله لو علمنا لكان لنا وله شأن، قال: ولم يلبثوا أن جاءهم الخبر.
وقال هارون في حديثه، قال صالح، قال محمد بن حميد حدثنا جرير، عن شيخ، قال: لما أخبر العباس يوم خيبر أن النبي صلى الله عليه وسلم حي أعتق غلامه الذي خبره، وقال في رواية أخرى: فلما سمع بذلك أراد أن يقوم فلم يقدر، ودعا بابن له يقال له قثم، وكان شبيهاً برسول الله صلى الله عليه وسلم وجعل يرتجز وينشد، ولأعداء الله يقول:
ابني قثمْ ... ذو الأنف الأشمْ
شبيه ذي الكرم ... برغم من رغمْ
نبي ذي النعم
وقال هارون في حديث آخر: حدثنا أبو مسلم، عن علي بن المديني، عن زيد بن عياض بن جعدة، قال: ولما فتح الله عز وجل لرسوله صلى الله عليه وسلم خيبر خرج الحجاج بن علاط السلمي إلى مكة وقد أسلم ليأخذ مالاً له عند امرأته، وكان مكثراً له من ماله معادن الذهب بأرض سليم، وذكر كلام الحجاج بطوله، وبلغ العباس فأراد النهوض فلم يقدر، وأمر بباب الدار ففتح ثم دعا غلامه أبا رافع فقال: انطلق إلى الحجاج فقل له: إن الله أعلى وأجل من أن يكون الذي تبلغ حقاً، فأبلغه وأشار إليه، قال لأبي الفضل عندي ما تسر به، فرجع فلم يستطع أن يكتم الخبر فرحاً، فقام إليه العباس فقبل ما بين عينيه. فقال هارون في حديثه: أخبرنا أبو الفضل الربعي، قال: حدثني أحمد بن محمد بن أيوب، عن إبراهيم بن سعيد، عن محمد بن إسحاق، قال: كان مع النبي صلى الله عليه وسلم في يوم حنين من أهل بيته سبعة ثامنهم مولى لهم: العباس بن عبد المطلب، وعلي بن أبي طالب، والفضل بن العباس وأبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب وزيد بن حارثة، وأسامة بن زيد، وعقيل بن أبي طالب، وثامنهم أيمن بن أم أيمن، وكان العباس آخذاً بعنان بغلة النبي صلى الله عليه وسلم وأبو سفيان آخذاً بثفرها، فالتفت إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: من هذا يا عم؟ فقال له العباس: أخوك وابن عمك أبو سفيان بن الحراث. قال: نعم أخي وخير أهلي. وقال العباس في ذلك اليوم:
نصرنا رسول الله في الحرب سبعةً ... وقد فر من قد فر عنه فأقشعوا
وثامننا لاقى الحمام بنفسه ... لما مسه في الله لا يتوجع
وقولي إذا ما الفضل شد بسيفه ... على القوم أخرى يا بني فيرجعوا
قال القاضي: هكذا هو في كتابي فإن يكن في أصل الشيخ على هذا، فتقدير الكلام اشدد أخرى فيرجعوا فدخلت الفاء جواباً، وإن كنت الرواية في الأصل فيرجع على الخبر عن الواحد بالمعنى فهو يرجع.
الحجاج وفراشة التي كانت تجهز الخوارج
حدثنا ابن دريد، قال: حدثنا أبو حاتم، عن أبي عبيدة، وذكره أبو حاتم عن العتبي أيضاً، قال: كانت امرأة من الخوارج من الأزد يقال لها فراشة، وكانت ذات نبهٍ في رأي الخوارج تجهز أصحاب البصائر منهم، وكان الحجاج يطلبها طلباً شديداً، فأعوزته فلم يظفر بها، وكان يدعو الله أن يمكنه من فراشة أو من بعض من جهزته، فمكث ما شاء الله ثم جيء برجل فقال: هذا ممن جهزته فراشة، فخر ساجداً ثم رفع رأسه، فقال له: يا عدو الله، قال: أنت أولى بها يا حجاج، قال: أين فراشة؟ قال: مرت تطير منذ ثلاث. قال: أين تطير؟ قال: تطير ما بين السماء والأرض، قال: أعن تلك سألتك عليك لعنة الله؟ قال: عن تلك أخبرتك عليك غضب الله، قال: سألتك عن المرأة التي جهزتك وأصحابك، قال: وما تصنع بها؟ قال: دلنا عليها، قال: تصنع بها ماذا؟ قال: أضرب عنقها. قال: ويلك يا حجاج، ما أجهلك! تريد أن أدلك وأنت عدو الله على من هو ولي الله؟ قد ضللت إذاً وما أنا من المهتدين. قال: فما رأيك في أمير المؤمنين عبد الملك؟ قال: على ذاك الفاسق لعنة الله ولعنة اللاعنين، قال: ولم لا أم لك؟ قال: إنه أخطأ خطيئة طبقت بين السماء والأرض، قال: وما هي؟ قال: استعماله إياك على رقاب المسلمين، فقال الحجاج لجلسائه: ما رأيكم فه؟ قالوا: نرى أن تقتله قتلة لم يقتل مثلها أحد، قال: ويلك يا حجاج، جلساء أخيك كانوا أحسن مجالسة من جلسائك، قال: وأي أخوي تريد؟ قال: فرعون حين شاور موسى فقالوا: أرجه وأخاه، وأشار عليك هؤلاء بقتلي، قال: وهل حفظت القرآن؟ قال: وهل خشيت فراره فأحفظه؟ قال: هل جمعت القرآن؟ قال: ما كان متفرقاً فأجمعه، قال: أقرأته ظاهراً؟ قال: معاذ الله بل قرأته وأنا أنظر إليه، فقال: فكيف تراك تلقى الله إن قتلتك؟ قال: ألقاه بعملي وتلقاه بدمي، قال: إذاً أعجلك إلى النار، قال: لو علمت أن ذلك إليك أحسنت عبادتك واتقيت عذابك ولم أبغ خلافك ومناقضتك، قال: إني قاتلك، قال: إذاً أخاصمك لأن الحكم يومئذ إلى غيرك، قال: نقمعك عن الكلام السيئ، يا حِرسي! اضرب عنقه، وأومى إلى السياف إلا يقتله، فجعل يأتيه من بين يديه ومن خلفه ويروعه بالسيف، فلما طال ذلك عليه رشح جبينه، قال: جزعت من الموت يا عدو الله؟ قال: لا يا فاسق، ولكن أبطأت علي بما لي فيه راحة، قال: يا حرسي أعظم جرحه، فلما أحس بالسيف قال: لا إله إلا الله، ووالله ما أتمها ورأسه في الأرض.
حمدان البرتي يهيم بامرأة طقطق الكوفيحدثنا محمد بن الحسن بن زياد المقري، قال: حدثنا أحمد بن الصلت، قال:كان حمدان البرتي على قضاء الشرقية، فقدمت امرأة طقطق الكوفي طقطقاً إليه فادعت عليه مهراً أربعة آلاف درهم، فسأله القاضي عما ذكرت، فقال: أعز الله القاضي، مهرها عشرة دراهم، فقال لها البرتي: أسفري، فسفرت حتى انكشف صدرها، فلما رأى ذلك قال لطقطق: ويلك! مثل هذا الوجه يستأهل أربعة آلاف دينار ليس أربعة آلاف درهم، ثم التفت إلى كاتبه فقال له: في الدنيا أحسن من هذا الشذر على هذا النحر؟ فقال له طقطق، فديتك، إن كانت قد وقعت في قلبك طلقتها، قال له البرتي: تهددها بالطلاق وقد قال الله عز وجل: " فلما قضى زيد منها وطراً زوجناكها " إن طلقتها كان ها هنا ألف ممن يتزوجها، فقال طقطق: إني والله ما قضيت وطري مها، وأنا طقطق ليس أنا زيد، فأقبل البرتي على المرأة: فقال لها: يا حبيبتي ما أدري كيف كان صبرك على مباضعة هذا البغيض؟ ثم أنشأ يقول:
تربص بها ريب المنون لعلها ... تطلق يوماً أو يموت حليلها
فقام طقطق فتعلق به وصيف غلام البرتي فصاح به: دعه يذهب عنا في سقر، ثم قال لها: إن لم يصر لك إلى ما تريدين فصيري إلى امرأة وصيف حتى تعلمني فأضعه في الحبس، فكتب صاحب الخبر بما كان فعلق به البرتي وصانعه على خمس مائة دينار على ألا يرفع الخبر بعينه، ولكن يكتب أن عجوزاً خاصمت زوجها فألط فاستغاثت بالقاضي فقال لها: ما اصنع يا حبيبتي هو حكم ولا بد أن أقضي بالحق، وانصرف البرتي متيماً، فما زال مدنفاً يبكي ويهيم فوق السطوح، ويقول الشعر فكان مما قاله:
وا حسرتي على ما مضى ... ليتني لم أكن أعرف القضا
أحببت امرأة وخفت الل ... ه حقاً فما تم حتى انقضى
وغير ذلك من شعر لا وزن له ولا روى، إلى أن ارعوى ورجع.
لطّ وألطّ وأيهما أصح
قال القاضي: هكذا في الخبر ألطّ، والمعروف في العربية لط، وقالوا في اسم الفعل ملط على غير القياس لأن قياس ألط ملط وقياس لط لاط، غير أن السماع لا اعتراض لأحد فيه، ولا يترك للقياس بل يترك القياس له.
بينما يبول من فزعه إذ يبول على قبرهحدثنا أحمد بن جعفر بن موسى بالبرمكي المعروف بجحظة، قال: قال لي ميمون بن هرون الكاتب: جرد شعيب بن عجيف رجلاً ليضربه بالسياط في مال اختانه منه، فبال الرجل لما رأى السياط فجرى بوله من بائكة سراويله فأطله، وشخص مع المعتصم يريدون بلاد الروم، فمات شعيب بن عجيف في الطريق، وخرج الرجل خلف العسكر يطلب الرزق، فغمزه البول في السحر وهو ببعض القرى، فرأى ركاماً فبال عليه فقال له رجل من القرية: بئسما فعلت، بلت على قبر شعيب بن عجيف، فقال الرجل: لا إله إلا الله، بينا أنا أبول من فزعه إذ بلت على قبره.
إلا يكن أخاً بالنسب فإنه أخ بالأدب
حدثنا محمد بن يحيى الصولي، قال: حدثنا موسى بن محمد بن موسى بن حماد، قال: سمعت علي بن الجهم، وقد ذكر دعبلاً وكفره ولعنه، وقال: كان قد أغرى بالطعن على أبي تمام وهو خير منه ديناً وشعراً، فقال له رجل: لو كان أبو تمام أخاك ما زاد على كثرة وصفك له، فقال: إلا يكن أخاً بالنسب فإنه أخ بالأدب والدين والمروءة، أما سمعت في قوله في:
إن يكد مطرف الإخاء فإننا ... نغدو ونسري في إخاء تالدِ
أو يختلف ماء الوصال فماؤنا ... عذب تحدر من زلال بارد
أو يفترق نسب يؤلف بيننا ... أدب أقمناه مقام الوالد
أبيات متفاضلة في المدح لبعض الشعراءحدثنا محمد بن أحمد الحكيمي، قال: حدثنا عبد الله بن عمرو الوراق، قال: حدثنا محمد بن عبد الرحمن بن بشر، قال: أنشد أبو السمط بن أبي الجنوب بن أبي حفصة لرؤبة:
إن جئت أعطاني وإن كنت لم أجي ... تنفذ أمري فوق ما كنت أرتجي
فقال: لي والله أجود من هذا في عبد الله بن طاهر، وهو متوجه إلى نصر بن شيث فوجه إلي بعشرين ألفاً، فقلت:
لعمري لنعم الغيث غيث أصابنا ... ببغداد من أرض الجزيرة وابله
ونعم الفتى والبيد بيني وبينه ... بعشرين ألفاً صبحتنا رسائله
وكنا كحي صبح الغيث أهله ... ولم يحتمل أظعانه وحمائله
وأنشدنا هذا الشعر عمارة بن عقيل، فقال: لي - والله - في خالد بن يزيد أحسن من هذا، ثم أنشد:
لم استطع سيراً لمدحة خالد ... فجعلت مدحيه إليه رسولا
فليرحلن إلي نائل خالدٍ ... وليكفين رواحلي الترحيلا
وأنشد هذه الشعر المسمعي، فقال: أنشدني الأصمعي أجود من هذا:
جزى الله خيراً والجزاء بكفه بنى السمط أخدان السماحة والحمد
أتاني وأهلي بالعراق جداهم ... كما انقض غيث في تهامة أو نجد
زيارة حرقة بنت النعمان لسعد بن أبي وقاصحدثنا محمد بن القاسم الأنباري، قال: حدثني أبي، قال: حدثنا أبو بكر محمد بن يعقوب الدينوري، قال: حدثنا حسان بن أبان البعلبكي، قال: لما قدم سعد بن أبي وقاص القادسية أميراً أتته حرقة بنت النعمان بن المنذر في جوار في مثل زيها، تطلب صلته، فلما وقفن بين يديه، قال: أيتكن حرقة؟ قلن: هذه، قال: أنت حرقة؟ قالت: نعم، فما تكرارك استفهامي؟ إن الدنيا دار زوال وإنها لا تدوم على حال، تنتقل بأهلها انتقالاً، وتعقبهم بعد حال حالاً، إنا كنتا ملوك هذا المصر قبلك، يجبى إلينا خرجه، ويطيعنا أهله، مدة المدة وزمان الدولة، فلما أدبر الأمر وانقضى، صاح بنا صائح الدهر، فصدع عصانا وشتت ملأنا، وكذاك الدهر يا سعد، إنه ليس من قوم بحبرة إلا والدهر معقبهم عبرة، ثم أنشأت تقول:
فبينا نسوس الناس والأمر أمرنا ... إذا نحن فيهم سوقة نتنصف
فأف لدنيا لا يدوم سرورها ... تقبل تاراتٍ بنا وتصرف
فقال سعد: قاتل الله عدي بن زيد كأنه كان ينظر إليها حيث تقول:
إن للدهر صولة فاحذرنها ... لا تبين قد أمنت الشرورا
قد يبيت الفتى معافىً فيرزاً ... ولقد كان آمناً مسرورا
وأكرمها سعد وأحسن جائزتها فلما أرادت فراقه، قالت: حتى أحييك تحية أملاكنا بعضهم بعضاً: لا جعل الله لك إلا لئيمٍ حاجة، ولا زال لكريم عندك حاجة، ولا نزع من عبد صالح نعمة إلا جعلك سبباً لردها عليه. فلما خرجت من عنده تلقاها نساء المصر فقلن لها: ما صنع بك الأمير؟ قالت:
حاط لي ذمتي وأكرم وجهي ... إنما يكرم الكريم الكريما
المغيرة بن شعبة يعرض عليها الزواج فترفضوقد روينا بإسناد لم يحضر الآن ولعله يأتي فيما بعد، أن المغيرة بن شعبة خطب حرقة هذه، فقالت: له: إنما أردت أن يقال: تزوج ابنة النعمان بن المنذر وإلا فأي حظ لأعور في عمياء.
أم جعفر البرمكي وما وصلت إليها حالتها من عظة وعبرةحدثنا الحسين بن القاسم الكوكبي، قال: حدثني أبو بكر الضرير وجه الهرة، قال: حدثني غسان بن محمد بن القاضي، عن محمد بن عبد الرحمن الهاشمي صاحب صلاة الكوفة قال: دخلت على أمي في يوم أضحى وعندها امرأة برزة في أثواب دنسة رثة، فقالت لي: أتعرف هذه؟ قلت: لا، قالت: هذه عبادة أم جعفر بن يحيى بن خالد، فسلمت عليها ورحبت بها وقتل لها: يا فلانة! حدثيني ببعض أمركم، قالت: أذكر لك جملة كافية فيها اعتبار لمن اعتبر، وموعظة لمن فكر، لقد هجم علي مثل هذا العيد وعلى رأسي أربع مائة جارية ووصيفة وأنا أزعم أن جعفر ابني عاق بي، وقد أتيتكم في هذا اليوم والذي يقنعني جلد شاتين أجعل أحدهما شعاراً والآخر دثاراً.
زبيري يقُتُّ بهاشم
حدثنا إسماعيل بن يونس بن أبي اليسع أبو إسحاق السبيعي، قال: حدثنا أبو زيد عمر بن شبة، قال: لما قال الزبيري للرشيد فيما أغراه بيحيى بن عبد الله بن حسن وعند الرشيد يحيى، فقال: إن هذا يخبرني عنك بأمور إن صحت وجب علي تأديبك وإن أتى التأديب على نفسك. قال يحيى: يا أمير المؤمنين! إنما الناس نحن وأنتم، فإن خرجنا عليكم فيما أكلتم وأجعتمونا، ولبستم وأعريتمونا، وركبتم وأرحلتمونا، فوجدنا بذلك مقالاً فيكم ووجدتم بخروجنا عليكم مقالاً فينا يتكافأ فيه القول، ويعود أمير المؤمنين فيه على أهله بالفضل، يا أمير المؤمنين! فلم تجرئ هذا وضرباؤه على أهل بيتك؟ يسعى بهم عندك، والله ما يسعى بنا إليك نصيحة منه لك، وإنه ليأتينا فيسعى بك عندنا من غير نصيحة منه لنا، يريد أن يباعد بيننا ويشتفي من بعض ببعض، ووالله يا أمير المؤمنين إنه للخائن بن الخائن، يسقط بين اللحاء والقضيب، يريد أن يوهنهما جميعاً حسداً وبغياً وغلاً، ثم التفت إلى الزبيري متمثلاً بقول الشاعر:
وقد يسود عصر السوء مثلكم ... وقد يعود رءوس الناس أذنابا
وقد قال بعض أهلك:
أليس من إلقاء الزمان على استه ... وقوف
زبيري يقت بهاشمإذا ما رآهم كان همزاً ولامزاً ... لأعراضهم مينا وبغياً لحازم
قوله: يقت معناه ينم، وقال: لا يدخل الجنة قتات، وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لعن القتات يعني النمام.
رجاء يرجئ ما أمر بهحدثنا الحسين بن القاسم الكوكبي، قال: حدثني أبو الفضل أحمد بن أبي طاهر، قال: مدحت الحسن بن مخلد فأرسل إلي أني قد أمرت لك بمائة دينار، فالحق رجاء، فلقيت رجاء فقال: لم يأمرني بشيء، فكتبت إليه:
أما رجاء فأرجي ما أمرت به ... وكيف إن كنت لم تأمره يأتمر
بادر بجودك إما كنت مقتدراً ... فليس في كل حال أنت مقتدر
المجلس السابع عشرحديث فليقل خيراً أو لينصت
حدثنا محمد بن يوسف بن يعقوب، أبو عمر القاضي، قال: حدثنا الحسن بن محمد، قال: حدثنا محمد بن معاوية النيسابوري، قال: حدثنا نهشل بن سعيد قال: حدثنا داود بن أبي هند، عن الشعبي، عن علقمة، عن عبد الله، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو لينصت " .
قال القاضي: هذا حديث غريب، والأخبار متظاهرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " من كان يؤمن بالله واليم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت " . وفي بعض الروايات: أو ليسكت. ولما أمل علينا أبو عمر هذا الخبر على من يليه كالمبتسم وإلى جنبه أبو بكر النيسابوري كالمتعجب المستغرب لهذه اللفظة، ومعنى هذه الألفاظ تتفق.
ونحو منه ما ورد الخبر به من قوله: رحم الله امرأ تكلم فغنم أو سكت فسلم.
وفي الكلام مما هو خير وصدق وعدل، وحق الأجر والفائدة، والغنيمة الباردة، وفي الصمت في مواطن الصمت الراحة والسلامة، والتنزه عما عاقبته المكروه والندامة، وقد ذكر في فضل النطق ومدح الصمت نثراً ونظماً ما يطول إتيانه ويكثر تعداده، وليس هذا موضع الإتيان به، وجملة القول أن لكل واحد من الأمرين موضعاً هو فيه أولى من صاحبه، وقد يعتدلان في بعض الأحوال ويتقاربان، وإن كانا في بعضهما يتفاوتان ويتفاضلان. وقد حدثنا عثمان بن أحمد بن عبد الله الدقيقي قال: حدثنا الحسن بن عمر السبيعي، قال: سمعت بشر بن الحارث يقول: الصبر هو الصمت، والصمت هو الصبر، ولا يكون المتكلم أورع من الصامت إلا رجل عالم يتكلم في موضعه ويسكت في موضعه.
خالد بن الوليد وعبد المسيح بن عمرو الغساني في فتح الحيرةحدثنا محمد بن الحسن بن دريد، قال: حدثنا العكلي، قال: حدثنا محمد بن مرزوق، قال: حدثنا هشام بن محمد بن السائب، عن عوانة بن الحكم، وشرقي بن قطامي وأبي مخنف قالوا: لما انصرف خالد بن الوليد من اليمامة، وضرب عسكره على الجرعة التي بين الحيرة والنهر وتحصن منه أهل الحيرة في القصر الأبيض وقصر ابن بقيلة وجعلوا يرمونه بالحجارة حتى نفدت، ثم رموه بالخزف من آنيتهم، فقال له ضرار بن الأزور: ما لهم مكيدة أعظم مما ترى، فبعث إليهم: ابعثوا إلي رجلاً من عقلائكم أسائله ويخبرني عنكم، فبعثوا له عبد المسيح بن عمرو بن قيس بن حيان بن بقيلة الغساني، وهو يومئذ ابن خمسين وثلثمائة سنة، فأقبل يمشي إلى خالد فلما رآه قال: ما لهم أخزاهم الله بعثوا إلي رجلاً لا يفقه، فلما دنا قال: أنعم صباحاً أيها الملك، فقال خالد: قد أكرمنا الله عز وجل بغير هذه التحية، بالسلام، ثم قال له خالد: من أين أقصي أثرك؟ قال: من ظهر أبي. قال: من أين خرجت؟ قال: من بطن أمي. قال: على ما أنت: قال: على الأرض. قال: فيم أنت ويحك؟ قال: في ثيابي. قال: أتعقل؟ قال: نعم وأقيد، قال: ابن كم أنت: قال: ابن رجل واحد. قال خالد: ما رأيت كاليوم قط، أسائله عن شيء وينحو في غيره، قال: ما أجبتك إلا عما سألت عنه فاسأل عما بدا لك، قال: كم أتى عليك؟ قال: خمسون وثلثمائة سنة، قال: أخبرني ما أنتم؟ قال: عرب استنبطنا ونبط استعربنا، قال: فحرب أنتم أم سلم؟ قال: بل سلم. قال: فما بال هذه الحصون؟ قال: بنيناها لنحبس السفيه حتى ينهاه الحليم، قال: ومعه سم ساعة يقلبه في يده، فقال له: ما هذا معك؟ قال: هذا السم، قال: وما تصنع به؟ قال: أتيتك فإن رأيت عندك ما يسرني وأهل بلدي حمدت الله تعالى، وإن كانت الأخرى لم أكن أول من ساق إليهم ضيماً وبلاء فآكله وأستريح، وإنما بقي من عمري اليسير، فقال: هاته فوضعه في يد خالد، فقال: بسم الله وبالله رب الأرض ورب السماء، الذي لا يضر مع اسمه داء، ثم أكله فتجلته غشية فضرب بذقنه على صدره ثم عرق وأفاق، فرجع ابن بقيلة إلى قومه، فقال: جئت من عند شيطان أكل سم ساعة فلم يضره، أخرجوهم عنكم، فصالحوهم على مائة ألف، فقال له خالد: ما أدركت؟ قال: أدركت سفن البحر ترفأ غلينا في هذا الجرف، ورأيت المرأة من أهل الحيرة تخرج إلى الشام في قرى متواترة ما تزود رغيفاً، وقد أصبحت خراباً يبابا، كذلك دأب الله في العباد والبلاد، وقال عبد المسيح حين رجع:
أبعد المنذرين أرى سواما ... تروح بالخورنق والسدير
تحاماها فوارس كل حي ... مخافة ضيغم عالي الزئير
وبعد فوارس النعمان أرعى ... رياضاً بين ذروة والحفير
فصرنا بعد هلك أبي قبيس ... كمثل الشاء في اليوم المطير
تقسمها القبائل من معد ... علانية كأيسار الجزور
وكنا لا يباح لنا حريم ... فنحن كضرة الناب الفخور
كذاك الدهر دولته سجالٌ ... تصرف بالمساءة والسرور
قال القاضي: قول عبد المسيح لخالد لما سأله ما أنتم؟ قال: عرب استنبطنا ونبط استعربنا، معناه أنا عرب ونبط خالط بعضنا بعضاً وجاوره، فأخذ كل فريق منا من خلائق صاحبه وسيرته.
حدثنا أحمد بن محمد بن إبراهيم بن أبي الرحال الصالحي، قال: حدثنا العباس بن محمد الدوري، قال: حدثنا محمد بن بشر، قال: حدثنا فضيل الخياط، عن جعفر بن أبي جعفر: أنه كان يتعوذ من النبطي إذا استعرب والعربي إذا استنبط، فقيل له: كيف يستنبط العربي؟ قال: يأخذ بأخلاقهم ويتأدب بآدابهم.
خبر الغضبان بن القبعثري مع الحجاج
حدثنا محمد بن القاسم الأنباري، قال: حدثني أبي، قال: حدثنا أحمد بن عبيد بن ناصح، قال: حدثت أن الحجاج بن يوسف بعث الغضبان بن القبعثري ليأتيه بخبر عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث وهو بكرمان، وبعث عليه عيناً وكان كذلك يفعل، فلما انتهى الغضبان إلى عبد الرحمن قال له: ما وراءك؟ قال: شر، تغد بالحجاج قبل أن يتعشى بك، وانصرف الغضبان فنزل رملة كرمان وهي أرض شديدة الرمضاء، فبينا هو كذلك إذ ورد عليه أعرابي من بني بكر بن وائل على فرس له يقود ناقة، فقال: السلام عليك، قال الغضبان: السلام كثير وهي كلمة مقولة، قال الأعرابي: ما اسمك؟ قال: آخذ. قال: أفتعطي؟ قال: لا أحب أن يكون لي اسمان، قال: من أين أقبلت؟ قال: من الذلول، قال: وأين تريد؟ قال: المشي في مناكبها، قال: من عرض اليوم؟ قال: عرض المتقون. قال: فمن سبق؟ قال الفائزون، قال: فمن غلب؟ قال: حزب الله، قال: فمن حزب الله؟ قال: هم الغالبون، قال: فعجب الأعرابي من منطقه، قال: أما تقرض؟ قال: إنما تقرض الفأرة، قال: أتسمع؟ قال: إنما تسمع القينة، قال: أفتنشد؟ قال: إنما تنشد الضالة، قال: أفتقول؟ قال: إنما يقول الأمير، قال: أفتتكلم؟ قال: كل متكلم، قال: أفتنطق؟ قال: إنما ينطق كتاب الله، قال: أتسمع؟ قال: حدثني أسمع، قال: أفتسجع؟ قال: قال إنما تسجع الحمامة، قال الأعرابي: تالله ما رأيت كاليوم قط، قال: بلى ولكنك نسيت، قال الأعرابي: فكيف أقول؟ قال: لا أدري والله، قال الأعرابي: كيف ترى فرسي هذه؟ قال الغضبان: هو خير من آخر شر منه وآخر خير منه أفره منه، قال الأعرابي: إني قد علمت ذلك، قال: لو علمت لم تسألني، قال، قال الأعرابي: إنك لمنكر، قال الغضبان: إنك لمعروف. قال: ليس ذاك أريد، قال: فما تريد؟ قال: أردت إنك لعاقل قال: أفتعقل بعيرك هذا؟ قال الأعرابي: أفتأذن لي فأدخل عليك؟ قال الغضبان: وراؤك أوسع لك، قال الأعرابي: قد أحرقتني الشمس، قال: الساعة يفيء عليك الفيء، قال الأعرابي: إن الرمضاء قد آذتني، قال: بل على قدميك، قال قد أوجعني الحر، قال الغضبان: ما لي عليه سلطان، قال الأعرابي: إني لا أريد طعامك ولا شرابك، قال: لا تعرض بهما فوالله لا تذوقهما، قال الأعرابي: سبحان الله، قال: من قبل أن تطلع رأسك، قال الأعرابي: أما عندك إلا ما أرى؟ قال: بلى، هراوتان أضرب بهما رأسك، فقال الأعرابي: الله، قال: ظلمك أحد؟ فلما رأى الأعرابي ذك قال: إني لأظنك مجنوناً، قال الغضبان: اللهم اجعلني ممن يرغب إليك، قال: إني لأظنك حرورياً، قال: اللهم اجعلني ممن يتخير الخير، ثم قال: له الغضبان: أهذا بعيرك يا أعرابي؟ قال: نعم: فما شأنه؟ أرى فيه داء فله أنت بائعه ومشتر ما هو شر منه، فولى الأعرابي وهو يقول: والله إنك لمرح أحمق. فلما قدم الغضبان على الحجاج قال: كيف تركت أرض كرمان؟ قال: أصلح الله الأمير، أرض ماؤها وشل، وثمرها دقل ولصها بطل، فالجيش فيها ضعاف، إن كثروا فيها جاعوا، وإن قلوا بها ضاعوا، فقال الحجاج له: أما إنك صاحب الكلمة التي بلغتني عنك حين قلت تغد بالحجاج قبل أن يتعشى بك؟ قال الغضبان: أما إنها - جعلني الله فداءك - لم تنفع من قيلت له، ولا تضر من قيلت فيه، فأمر الحجاج به إلى السجن، فلما ذهب مكث فيه حتى إذا بنى الحجاج خضراء واسط أعجبته كما لم يعجبه بناء قط فقال لمن حوله: كيف ترون قبتي هذه؟ قالوا: أصلح الله الأمير، ما بنى ملك قط مثلها، وما نعلم للعرب مأثرة أفضل منها، قال الحجاج: أما إن لها عيباً، سأبعث إلى من يخبرني به فبعث إلى الغضبان فأقبل يرسف في قيده، فلما دخل عليه سلم، فقال الحجاج : كيف ترى قبتي هذه ؟ قال: أصلح الله الأمير هذه قبة بنيت في غير بلدك لغير ولدك، لا يسكنها وارثك ولا يدوم لك بقاؤها كما لم يئيم هالك ولم يبق فان، وأما هي فكأن لم تكن، قال: صدقت، ردوه إلى السجن فإنه صاحب الكلمة التي بلغتني عنه، قال: أصلح الله الأمير، ما ضرت من قيلت فيه ولا نفعت من قيلت له، قال: أتراك تنجو مني لأقطعن يديك ورجليك ولأكوين عينيك، قال: ما يخاف وعيدك البريء ولا ينقطع منك رجاء المسيء، قال: لأقتلنك إن شاء الله، قال: بغير نفس، والعفو أقرب للتقوى، قال له الحجاج: إنك لسمين، قال: لمكان القيد والرتعة ومن يكن جار الأمير يسمن. قال الحجاج ردوه إلى السجن، قال: أصلح الله الأمير
قد أثقلني الحديد فما أطيق المشي، قال: احملوه لعنه الله، فلما حملته الرجال على عواتقها قال: " سبحان الذي يخر لنا هذا وما كنا له مقرنين " ، قال: أنزلوه أخزاه الله، قال " اللهم أنزلني منزلاً مباركاً وأنت خير المنزلين " ، قال: جروه أخزاه الله، قال: " بسم الله مجريها ومرساها إن ربي لغفور رحيم " ، قال: ويحكم، اتركوه فقد غلبني بخبثه. أثقلني الحديد فما أطيق المشي، قال: احملوه لعنه الله، فلما حملته الرجال على عواتقها قال: " سبحان الذي يخر لنا هذا وما كنا له مقرنين " ، قال: أنزلوه أخزاه الله، قال " اللهم أنزلني منزلاً مباركاً وأنت خير المنزلين " ، قال: جروه أخزاه الله، قال: " بسم الله مجريها ومرساها إن ربي لغفور رحيم " ، قال: ويحكم، اتركوه فقد غلبني بخبثه.
معنى الوشل في اللغةقال القاضي: قول الغضبان في وصله للحجاج كرمان: ماؤها وشل، يعني به الماء القليل كماء الِأنهار الصغار والجداول التي ليست كالبحور والأودية العظيمة يريد الخبر عن قلته كما قال الشاعر:
اقرأ على الوشل السلام وقل له ... كل المشارب مذ فقدت ذميمُ
وقال جرير:
إن الذين غدو بلبك غادروا ... وشلا بعينك لا يزال معينا
وجمع الوشل أوشال، كما قال امرؤ القيس:
عيناك دمعهما سجالُ ... كان شأنيهما أوشال
وفسر قوم أوشال بأنه ما قطر من الجبل.
جعفر بن محمد يزوج حسين بن زيد ويوصله إلى الثراء
حدثنا محمد بن أحمد بن سعيد الكوفي، قال: حدثني أحمد بن يوسف ابن يعقوب بن حمزة بن زياد الجعفي، قال: حدثني سليمان بن مقبل أبو أيوب الهاشمي المدني، قال: حدثني سليم بن جعفر الجعفري، عن حسين بن زيد، أنه كان نشأ في حجر أبي عبد الله يعني جعفر بن محمد، فلما بلغ مبالغ الرجال قال له أبو عبد الله: ما يمنعك أن تتزوج فتاة من فتيات قومك؟ قال: فأعرضت عن ذلك فأعاد على غير مرة، فقلت له: من ترى أن أتزوج؟ قال: كلثم بن عبد الله الأرقط، فإنها ذات جمال مال، قال: فأرسلت إليها فثارت على رسولي وضحكت منه وتعجبت كل العجب لإقدامي وجرأتي على خطبتها، فأتيت أبا عبد الله فأخبرته، فقال لمعتب: آتني بثوبين يمنيين معلمين فأتى بهما فلبستهما، ثم قال: تعرض أن تمر قرب منزلها وتستسقي ماء واحرص على أن تعلم بمكانك، قال: فوقفت بالباب فعلمت مكاني ففتحت منظراً لها فأشرفت علي وأنا لا أعرفها فنظرت إلي وقالت: تسمع بالمعيدي خير من أن تراه - قال القاضي: أكثر الكلام: تسمع بالمعيدي لا أن تراه، ثم انصرفت فأتيت أبا عبد الله فأخبرته، وكنت ربما غبت عن المدينة أتصيد، فقال لي: إذا شئت، فغبت عن المدينة أياماً ثم نزلت المدينة فإذا مولاة لها قد أتتني، فقالت: نحن نريد أن نعمرك للعرس وأنت تطلب الصيد وتضحي للشمس، قد جئت طلبتك غير مرة، وبعثت معي ألف دينار وعشرة أثواب وتقول لك: تقدم إذا شئت فاخطبني وأمهرنيها، فإن لك عندي عشرة جميلة ومواتاة، قال: فغدوت فملكتها وبعثت إليها بالألف الدينار وأمرتها بالتهيؤ، ثم أتيت أبا عبد الله فأخبرته فقال: تهيأ للسفر وانظر من يخرج معك من مواليك على جمل علي زادك، فسميت له الموالي، فقال: إذا كان ليلة الخميس فادخل إلى مسجد النبي صلى الله عليه وسلم فسلم على جدك وودعه ينتظرك بعير زياد بن عبد الله، ففعلت ما أمرني به، فأتيته فأجده والقاسم بن إسحاق بن إبراهيم بن حسن، فلما وقفت عليه أمر لي بثياب السفر وخلا بي فقال: استشعر تقوى الله تعالى، وأحدث لكل ذنب توبة، لذنب السر توبة ولذنب العلانية توبة، وامض لوجهك، فقد كتبت لك إلى معن بن زائدة كتاباً، وغيبتك في سفرك ثلاثة أشهر إنشاء الله، فإذا قدمت صنعاء فانزل منزلاً ولا تحمل على معنٍ بأحد، وتأت له أن تدخل عليه بإذن عام مع الناس، فإذا دخلت عليه فعرفه من أنت، فإن رأيت منه جفوة أو نبوة فاغتفرها وأعرض عنها، فإنك ستصيب منه عشرين ألف دينار سوى ما تصيب من غيره، فخرجت حتى قدمت صنعاء، ففعلت جميع ما أمرني به ودخلت عليه بإذن عام، فإذا أنا به قاعداً وحده وإذا برجل جهم الوجه مختضب بالسواد والناس سماطان قيام، فأقبلت حتى سلمت عليه فرد السلام، فقال: من أنت؟ فأخبرته بنسبي، فصاح: لا والله، ما أريد أن تأتوني، ولباب أمير المؤمنين أعود عليكم من بابي، فقلت له: على رسلك، أنا أستغفر الله من حسن الظن بك، وانصرفت من عنده، فأدركني رجل من أهل البلد فأخبرته خبري، فقال: قد عوضك الله خيراً مما فاتك، ثم بعث غلاماً فأتاه بثلاثة آلاف دينار فدفعها إلي، وسألني عما أحتاج إليه من الكسوة فكتبتها له، فلما كان بعد العشاء دخل إلى صاحب المنزل فقال: هذا الأمير معن بن زائدة يدخل إليك، فلما دخل أكب على رأسي ويدي، ثم قال: سيدي وابن سادتي اعذرني فإني أعرف ما أداري، فلما قر قراره أعلمته بالكتاب الذي معي من أبي عبد الله فقبله وقرأه، ثم أمر لي بعشرة آلاف دينار، ثم قال: أي شيء أقدمك؟ فأخبرته خبري، فأمر لي بعشرة آلاف دينار أخرى وبعشرة من الإبل وثلاث نجائب برجالها وكساني ثلاثين وشياً وغيرها وقال لي: جعلت فداك، إني أظن أبا عبد الله متطلعاً إلى قدومك، فإن رأيت أن تخف الوقفة وتمضي فعلت، وودعني، فتلومت بعد ذلك أياماً، وقضيت حوائجي ثم خرجت حتى قدمت مكة موافياً لعمرة شهر رمضان، فإني لفي الطواف حتى لقيت معتباً مولى أبي عبد الله، فسلمت عليه وسألته، فقال: هو ذا أبو عبد الله قد وافى وإن أحدث ما ذكرك البارحة، فمضيت حتى أتيته فسلمت عليه وساءلته وقبلت رأسه، فقال: تركت معناً؟ فأخبرته بسلامته، فقال: أصبت منه بعد ما جبهك وصاح عليك عشرين ألفاً سوى ما لقيت من غيره؟ قلت: نعم، جعلت فداك. قال: فإن معنا جماعة من أصحابك ومواليك وقد كانوا يدعون لك ويذكرونك فمر لهم بشيء، قلت: ذاك إليك جعلني فداك، قال:فأعطهم ما
رأيت، كم في نفسك أن تعطيهم؟ فقلت: ألف دينار، قال: إذاً تجحف نفسك، ولكن فرق عليهم خمس مائة دينار، وخمس مائة دينار لمن يعتريك بالمدينة، ففعلت ذلك، فقدمت المدينة واستخرجت عيني بذي المروة وبالمضيق بالسقيا، وبنيت منازلي بالبقيع، فتروني أؤدي شكر أبي عبد الله وولده أبداً، وضممت إلي أهلي ورزقت منها علياً والحسن ابني والبنات.، كم في نفسك أن تعطيهم؟ فقلت: ألف دينار، قال: إذاً تجحف نفسك، ولكن فرق عليهم خمس مائة دينار، وخمس مائة دينار لمن يعتريك بالمدينة، ففعلت ذلك، فقدمت المدينة واستخرجت عيني بذي المروة وبالمضيق بالسقيا، وبنيت منازلي بالبقيع، فتروني أؤدي شكر أبي عبد الله وولده أبداً، وضممت إلي أهلي ورزقت منها علياً والحسن ابني والبنات.
مصعب بن الزبير يتمثل عن هزيمته ببيتي شعرحدثنا إسماعيل بن يونس بن أبي اليسع، أبو إسحاق، قال: حدثنا زبير بن بكار، قال: حدثني إبراهيم بن محمد بن حمزة، عن جدي عبد الله بن مصعب عن أبيه، قال: لما تفرق عن مصعب جنده، قال: له أوداؤه: لو اعتصمت ببعض القلاع وكاتبت من قد بعد عنك من أوليائك كمثل المهلب وابنه الأشتر وفلان وفلان فإذا اجتمع لك من ترضاه لقيت القوم بأكفائهم، فقد ضعفت جداً واختل أصحابك. فلبس سلاحه وخرج فيمن بقي معه من أصحابه وهو يتمثل بشعر قيل إنه لطريف العنبري، وكان طريف العنبري يعد بألف فارس من فرسان خراسان:
علام تقول السيف يثقل عاتقي ... إذا أنا لم أركب به المركب الصعبا
سأحميكم حتى أموت ومن يمت ... كريماً فلا لوم عليه ولا عتبا
جمع القلعة قلاع خلافاً لابن الأعرابي
قال القاضي: في هذا الخبر، أنه قيل لمصعب: لو اعتصمت ببعض القلاع وهي جمع قلعة، وهذا صحيح في القياس ومثله في قياس العربية رقبة ورقاب وعقبة وعقاب في أحرف كثيرة، وقد جاء في الأخبار عن السلف الذين كلامهم حجة في اللغة لسبقهم اللحن، وزعم ابن الأعرابي أن القلعة لا تجمع قلاعاً، والذي قاله خطأ من جهة السماع والقياس معاً، وقد حكى القلاع في جمع القلعة عدد من علماء اللغويين منهم أبو زيد وغيره.
نديم ينتقم من صاحب بيت المالحدثنا محمد بن يحيى الصولي، قال: حدثنا عمرو بن محمد الرومي، قال: كان على بيت مال المعتصم رجل من أهل خراسان يكنى أبا حاتم، فخرجت لي جائزة فمطلني بها، وكان ابنه قد اشترى جارية مغنية تسمى قاسم بستين ألف درهم، قال: فعملت فيه شعراً وجلست ألاعب المعتصم بالشطرنج في يوم الخمار، وكان يشرب يوماً ويستريح يوماً فيلعب فيه ونلعب بين يديه، فجعلت أنشد:
لتنصفني يا أبا حاتم ... أو لتصيرن إلى حاكم
فتعطي الحق على ذلةٍ ... بالرغم من أنفك ذا الراغم
يا سارقاً مال إمام الهدى ... سيظهر الظلم على الظالم
ستين ألفاً في شرا قاسم ... من علٍ هذا الملك الفئم
فقال له: ما هذا الشعر؟ فتفازعت كأني أنشدته ساهياً ولجلجت، فقال: أعده فقتل: إن رأى أمير المؤمنين أن يعفيني، وإنما أريد أن يحرص على أن يسمعه، فقال: أعده ويلك، فأعده، فقال: ما هذا؟ فقتل: أظن صاحب بيت المال مطل بعض هؤلاء الشعراء بشيء له فعمل فيه هذا الشعر، قال: فما معنى قاسم؟ قلت:جارية اشتراها ابنه بستين ألف درهم، قال: وأراني أنا الملك النائم صدق والله قائل هذا الشعر، والله لو عرفته لوصلته لصدقته، رجل مملق وليته بيت المال ليعيش برزقه منذ سنتين، من أين لابنه هذا المال؟ ثم قال لإيتاخ: قيد صاحب بيت المال وابنه حتى تأخذ منهما مائتي ألف درهم وول بيت المال غيره.
حكم من كلام الخليل بن أحمدحدثنا محمد بن الحسن بن زياد المقري، قال: أخبرنا عبد الله محمد بن المروزي بمرو، قال: أخبرنا يحيى بن أكثم، قال: أخبرنا النضر بن شميل، قال: سمعت الخليل بن أحمد يقول: التواني إضاعة، والحزم بضاعة، والإنصاف راحة، واللجاج وقاحة.
ومن كلام علي بن أبي طالب رضي الله عنه
حدثنا الحسن بن علي بن زكريا البصري، قال: حدثنا الهيثم بن عبد الله الرماني، قال: حدثني المأمون، قال: حدثني الرشيد، قال: حدثني المهدي، قال: حدثني المنصور عن أبيه، عن جده، عن ابن عباس، قال: قال علي بن أبي طالب عليه السلام: من الدهاء حسن اللقاء.
صحبة لطيفةحدثنا محمد بن القاسم الأنباري، قال: حدثني أبي، عن المغيرة بن محمد المهلبي، قال:حدثني مروان بن موسى بن عبد الله المدني مولى عثمان بن عفان، قال: حدثني موسى بن جعفر بن أبي نمير مولى زريق، قال: بعثني علي بن المهدي من مصر إلى الرشيد هرون أمير المؤمنين على البريد فلحقت شيخاً في طريقي على دابة دميم، فقال لي: يا هذا، إن دابتي هذه قد أتعبتني فهل لك أن أسايرك وتحبس علي، فإن عندي والله ظاهراً وباطناً، قال: قلت له: أفعل، قال: فقلت له يوماً: أما ظاهرك فحسن محادثتك وظرفك، فما باطنك؟ قال أغني والله أحسن غناء في الأرض، قال: فغناني:
بزينب ألمم قبل أن يرحل الركب ... وقل إن تملينا فما ملك القلب
قال القاضي: الشعر لنصيب.
المجلس الثامن عشر
حديث جالس الكبراءحدثنا إبراهيم بن حماد، قال: حدثنا محمد بن يحيى الجنبسي، قال: حدثنا حسن بن قتيبة المدائني، قال: حدثني عبد الملك بن حسين أبو مالك النخعي، عن سلمة بن كهيل، عن أبي جحيفة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " جالس الكبراء، وسائل العلماء، وخاطب الحكماء " .
حدثنا محمد بن سليمان بن محمد، أبو جعفر الباهلي، قال: قال، حدثنا الحسين بن عبد الرحمن الجرجرائي، قال: أخبرنا طلق بن غنام، قال: حدثنا أبو مالك، عن سلمة بن كهيل، عن أبي جحيفة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " جالسوا الكبراء، وخالطوا الحكماء، وسائلوا العلماء " .
تعليق المؤلفقال القاضي: وفي هذا الخبر إرشاد من النبي صلى الله عليه وسلم أمته إلى مخالطة ذوي الفضل في مخالطتهم ومجالستهم ومعاشرتهم، فحقيق على كل ذي لب تقبل ذلك والرجوع إليه، والعمل عليه، ففيه امتثال أمر النبي صلى الله عليه وسلم والأخذ بسنته والتأدب بأدبه، وفيه السلامة من معرة الجهال، ومضرة الضلال، واكتساب الآداب والفوائد، وحيازة المصالح والمراشد، وحسن الثناء والمحامد، والأمن في العواقب، والتنزه عن المعايب، ونسأل الله توفيقاً لما نغتبط به في ديننا ودنيانا وآخرتنا.
عبد الملك يوجه نظر الحجاج إلى إسرافه ورد الحجاج عليهحدثنا محمد بن الحسن بن دريد، قال: أخبرنا أبو حاتم، قال: أخبرنا أبو عبية، قال: لما قتل الحجاج ابن الأشعث وصفت له العراق قدم قيساً واتسع له في إنفاق الأموال، فكتب إليه عبد الملك: أما بعد، فقد بلغ أمير المؤمنين أنك تنفق في اليوم ما لا ينفق أمير المؤمنين في الأسبوع، وتنفق في الأسبوع ما لا ينفقه أمير المؤمنين في الشهر، عليك بتقوى الله في الأمر كله وكن لوعيده تخشى وتضرع، ووفر خراج المسلمين وفيأهم، وكن لهم حصناً يجير ويمنع، فكب إليه الحجاج:
لعمري لقد جاء الرسول بكتبكم ... قراطيس تملي ثم تطوى فتطبع
كتاب أتاني فيه لين وغلظة ... وذكرت والذكرى لذي اللب تنفع
وكانت أمور تعتريني كثيرة ... فأرضخ أو أعتل حيناً فأمنع
إذا كنت سوطاً من عذاب عليهم ... ولم يك عندي في المنافع مطمع
أيرضى بذاك الناس أم يسخطونه ... أم أحمد فيهم أم ألام فأقدع
وكانت بلاداً جئتها حيث جئتها ... بها كل نيران العداوة تلمع
فقاسيت فيها ما علمت ولم أزل ... أصارع حتى كدت بالموت أصرع
فكم أرجفوا من رجفة قد سمعتها ... ولو كان غيري طار مما يروع
وكنت إذا هموا بإحدى هناتهم ... حسرت لهم رأسي ولا أتقنع
فلو لم يذد عني صناديد منهم ... تقسم أعضائي ذئاب وأضبع
فكتب إليه عبد الملك: اعمل برأيك.
الحجاج يؤمن الناس إلا أربعة
حدثنا عبيد الله بن محمد بن جعفر الأزدي، قال: حدثنا أبو بكر بن أبي الدنيا، قال: حدثني علي بن الحسن بن موسى، عن عبد الله بن حمد التيمي، قال: حدثني محمد بن حفص، عن عبيد الله بن عبد الله بن فضالة الزهراني، قال: نادى منادي الحجاج بن يوسف يوم رستقا باذ: آمن الناس كلهم إلا أربعة: عبد الله بن الجارود وع بن فضالة وعكرمة بن ربعي وعبد الله بن زياد بن ظبيان، قال: فأتى برأس عبد الله بن الجارود فلم يصدق فرحاً به، وقال: عمموه لي أعرفه فإني لم أره قط إلا معمماً فعمم له فعرفه، فأمر المنادي فنادى: أمن الناس إلا ثلاثة: عبد الله بن فضالة وعبيد الله بن زياد بن ظبيان وعكرمة بن ربعي، فأما عبيد الله بن زياد فإنه انطلق إلى عمان فأصابه الفالج بها فمات، وأما عكرمة ابن ربعي فإنه لحقته خيل الحجاج في بعض سكك المربد فعطف عليهم فقتل منهم نيفاً وعشرين رجلاً ثم قتلوه، وأما عبد الله بن فضالة فإنه أتى خراسان فلم يزل بها حتى ولي المهلب خراسان فأمر بأخذه حيث أصابه، وقيل له: أكن ذلك ولا تبده فيحذر ويحرز فاحرص على أسره دون قتله، قال: فبعث المهلب ابنه حبيباً أمامه فساق من سوق الأهواز إلى مرو على بغلة شهباء في سبع عشرة ليلة فأخذه غارا بمرور وهو لا يشعر، ثم كتب إلى الحجاج يعلمه ذلك، فجاء المغيرة بن المهلب إلى منزل حبة ابنة الفضل، امرأة عبد الله بن فضالة وهي ابنة عم عبد الله، فأرسل إليها أن حبيباً قد أخذ عبد الله، وقد كتب إلى الحجاج يعلمه بذلك، فإن كان عندك خير فشأنك وعولي علي من المال ما بدا لك، فأرسلت إليه: لا ولا كرامة، تقتلونه وآخذ منكم المال، هذا ما لا يكون، فتحولت إلى منزل أخيها لأمها خولى بن مالك الراسبي وأرسلت إلى بني سعد فاشترى لها باب عظيم وألقته على الخندق ليلاً ثم جازت عليه فغشي عليها، فلما أفاقت قالت: إني لم أكن أتعب، فمتى أصابني هذا فشدوني وثاقاً ثم سيروا بي، فخرجت مع خادمها وغلامها ودليلها، لا يعلم بها أحد، فسارت حتى دخلت دمشق على عبد الملك بن مروان، فأتت أم أيوب بنت عمرو بن عثمان بن عفان، وكانت أمها بنت ذؤيب بن حلحلة الخزاعي، قالت: يا أم أيوب قصدتك لمر بهظني وغم كظمني وأعلمتها الخبر وقصت عليها القصة، فقالت أم أيوب: قد :كنت أسمع أمير المؤمنين يكثر ذكر صاحبك ويظهر التلظي عليه، قالت: وأين رحلتي إليك؟ قالت: سأدخلك مدخلاً وأجلسك مجلساً إن شفعت ففيه، وإن رددت فلا تنصبي، فلا شفاعة لك بعده فأجلستها في مجلسها الذي كانت تجلس فيه لدخول عبد الملك ليلاً، وجلست أم أيوب قريباً منها فقالت لها: إذا دخل فشأنك، فدخل عبد الملك ليلاً مغتراً، فلما دنا أخذت بجانب ثوبه ثم قالت: هذا مكان العائذ بك يا أمير المؤمنين، ففزع عبد الملك وأنكر الكلام، فقالت أم أيوب: ما يفزعك يا أمير المؤمنين من كرامة ساقها الله عز وجل إليك! فقال:عذت معاذاً، فمن أنت؟ قالت: تؤمن يا أمير المؤمنين من جئتك فيه من كان من خلق الله تعالى ممن تعرف أو لا تعرف، ممن عظم ذنبه لديك أو صغر شامياً أو عراقياً أو غير ذلك من الآفاق؟ قال: نعم، هو آمن، قالت:بأمان الله عز وجل ثم أمانك يا أمير المؤمنين؟ قال: نعم، فمن هو أيتها المرأة؟ قالت: عبد الله بن فضالة، قال: أرسلي ثوبي أنبئك عنه، قالت: أغدراً يا بني مروان؟ قال: لا، أرسلي ثوبي أحدثك ببلائك عنده، وهو أمن لك ولمعاذك قالت: فحدثني يا أمير المؤمنين ببلائك عنده، قال: ألم تعلمي أني وليته السوس وجندي سابور وأقطعته كذا وكذا وفرضت له كذا ونوهت بذكره ورفعت من قدره؟ قالت: بلى والله يا أمير المؤمنين، أفلا أحدثك ببلائه عندك؟ قال: بلى، قالت: أتعلم يا أمير المؤمنين أن داره هدمت ثلاث مرات بسببك لا يستتر من السماء بشيء، قال: نعم، قالت: أفتعلم يا أمير المؤمنين أنك كتبت إلى وجوه أهل البصرة وأشرافها وكتبت إليه فلم يكن منهم أحد أجابك ولا أطاعك غيره، قال: نعم قالت: أفتعلم أنه كان قبل زلته سيفاً لك على أعدائك وسلماً وبساطاً لأوليائك قال: نعم، حسبك قد أجبت وأبلغت، قالت: أفيذهب يوم من إساءته بصالح أيامه وطاعته وحسن بلائه، قال: لا، هو آمن، قالت: يا أمير المؤمنين إنه الدما وإنه الحجاج وإنه إن رآه قتله، قال: كلا، قالت: فالكتاب مع البريد يا أمير المؤمنين، قال: فكتب لها كتاباً مؤكداً: إياك وإياه أحسن جائزته
ورفده وخل سبيله، ثم وجه به مع البريد، ثم أقبل عليها فقال:ما أنت منه؟ قالت: امرأته وابنة عمه، قال: فضحك وقال: أين نشأت، قالت: في حجر أبيه، قال: فوالله لأنت أعرب منه وأفصح لساناً، فهل معه غيرك؟ قالت:نعم، ابنة عبيد بن كلاب، قال: النميري قالت: نعم، وكذا وكذا جارية، قال: فأنا أوليك طلاقها وعتق جواريه، قالت: بل تهنيه نساءه كما هنأته دمه، فأقبل على أم أيوب فقال لها: يا أم أيوب لا نساء إلا بنات العم. ثم قال: أقيمي عند أم أيوب حتى يأتيك الكتاب بمحبتك إن شاء الله، وقدم الكتاب وقد قدم به على الحجاج من خراسان، فأقامه للناس في سراويل وقد كان نزع ثيابه قبل ذلك وعرضه على الناس في الحديد ليعرفوه، فلما أمسى دعا به الحجاج فقال له عبد الله: أتأذن لي في الكلام؟ قال: لا كلام سائر اليوم، قال: فكساه وحمله وأجازه وخلى سبيله، وانصرف إلى أهله فسألهم عن حبة، فأخبر بأمرها وقيل له: ما ندري أين توجهت، ثم بلغه ما صنعت، فكتب إليها: إنك قد صنعت ما لم تصنع أنثى فأعلميني بمقدمك أتلقاك ويتلقاك الناس معي، فلم تعلمه حتى قدمت ليلاً وهو عند ابنة عبيد بن كلاب، فقالت: لا والله لا يؤذن بي الليلة، فلما أصبح، أخبر بمكانها فأتاها.رفده وخل سبيله، ثم وجه به مع البريد، ثم أقبل عليها فقال:ما أنت منه؟ قالت: امرأته وابنة عمه، قال: فضحك وقال: أين نشأت، قالت: في حجر أبيه، قال: فوالله لأنت أعرب منه وأفصح لساناً، فهل معه غيرك؟ قالت:نعم، ابنة عبيد بن كلاب، قال: النميري قالت: نعم، وكذا وكذا جارية، قال: فأنا أوليك طلاقها وعتق جواريه، قالت: بل تهنيه نساءه كما هنأته دمه، فأقبل على أم أيوب فقال لها: يا أم أيوب لا نساء إلا بنات العم. ثم قال: أقيمي عند أم أيوب حتى يأتيك الكتاب بمحبتك إن شاء الله، وقدم الكتاب وقد قدم به على الحجاج من خراسان، فأقامه للناس في سراويل وقد كان نزع ثيابه قبل ذلك وعرضه على الناس في الحديد ليعرفوه، فلما أمسى دعا به الحجاج فقال له عبد الله: أتأذن لي في الكلام؟ قال: لا كلام سائر اليوم، قال: فكساه وحمله وأجازه وخلى سبيله، وانصرف إلى أهله فسألهم عن حبة، فأخبر بأمرها وقيل له: ما ندري أين توجهت، ثم بلغه ما صنعت، فكتب إليها: إنك قد صنعت ما لم تصنع أنثى فأعلميني بمقدمك أتلقاك ويتلقاك الناس معي، فلم تعلمه حتى قدمت ليلاً وهو عند ابنة عبيد بن كلاب، فقالت: لا والله لا يؤذن بي الليلة، فلما أصبح، أخبر بمكانها فأتاها.
خبر الحجاج بن عبد الله الثعلبي مع عبد الملكحدثنا عدد من الشيوخ منهم عبد الواحد أبو عمر هذا الخبر على لفظه، قال: أخبرنا ثعلب، عن عبد الله بن شبيب، قال: أخبرني زبير، قال أخبرني عمي، قال: كان عبد الله بن الحجاج الثعلبي من أشد الناس على عبد الملك بن مروان في طاعة ابن الزبير مع القيسية، فلما قتل ابن الزبير أرسل عبد الملك يطلب عبد الله بن الحجاج فلم يظفر به، فلما خاف عبد الله بن الحجاج أن يظفر به أقبل فدخل على عبد الملك في اليوم الذي يطعم فيه أصحابه فمثل بين يديه ثم، قال:
منع الفرار فجئت نحوك هارباً ... جيش يجر ومقنب يتلمع
فقال: أي الأخابث أنت؟ فقال:
ارحم أصيبيتي هديت فإنهم ... حجل تدرج بالشربة جوعُ
فقال: أجاع الله بطونهم، فقال:
مال لهم فيمن يظن جمعته ... يوم القليب فحيز عنهم أجمع
فقال: أحسبه كسب سوء، فقال:
أدنوا لترحمني وتقبل توبتي ... وأراك تدفعني فأين المدفع
قال: إلى النار، فقال:
ضاقت ثياب الملبسين ونفعهم ... عني فألبسني فثوبك أوسع
قال: فنزع مطرفاً كان عليه فطرحه عليه، ثم قال له: آكل؟ قال: كل. فلما وضع يده على الطعام قال: أمنت ورب الكعبة، قال: كنت من كنت إلا عبد الله بن حجاج، قال: فأنا عبد الله بن حجاج، قال: أولى لك.
وقد روى لنا هذا الخبر عن طريق آخر، وفيه: أن عبد الله قال له: لا سبيل لك إلى قتلي، قد جلست في مجلسك وأكلت طعامك ولبست من ثيابك.
من جود خالد بن عبد الله القسري
حدثنا أبي رضي الله عنه، قال: حدثنا أبو أحمد الختلي، قال: أخبرنا أبو حفص يعني النسائي، قال: وقرأت في كتاب عن عبد الملك بن قريب الأصمعي، قال: دخل أعرابي على خالد بن عبد الله القسري، فقال: أصلح الله الأمير، إني قد امتدحتك ببيتين ولست أنشدكهما إلا بعشرة آلاف وخادم، فقال له خالد: قل. فأنشأ يقول:
لزمت نعم حتى كأنك لم تكن ... سمعت من الأشياء شيئاً سوى نعم
وأنكرت لا حتى كأنك لم تكن ... سمعت بها في سالف الدهر والأمم
فقال خالد بن عبد الله: يا غلام! عشرة آلاف وخادماً يحملها.
ودخل عليه أعرابي: فقال: إني قد قلت فيك شعراً، فأنشأ يقول:
أخالد إني لم أزرك لحاجة ... سوى أنني عافٍ وأنت جواد
أخالد إن الأجر والحمد حاجتي ... فأيهما أتاني فأنت عماد
فقال له خالد بن عبد الله: سل يا أعرابي، قال: وقد جعلت المسألة إلي أصلح الله الأمير؟ قال: نعم. قال:مائة ألف درهم، قال: أكثرت يا أعرابي قال: فأحطك أصلح الله الأمير قال: نعم، قال: قد حططتك تسعين ألفاً، قال له خالد: يا أعرابي ما أدري من أي أمريك أعجب؟ فقال: له : أصلح الله الأمير: إنك لما جعلت المسألة إلي سألتك على قدرك وما تستحقه في نفسك، فلما سألتني أن أحط حططت على قدري وما أستأهله في نفسي، فقال له خالد: والله يا أعرابي لا تغلبني، يا غلام، مائة ألف، فدفعها إليه.
شعر لبشار بن برد في قينةحدثنا الحسين بن القاسم الكوكبي، قال: حدثنا العباس بن الفضل الربعي، قال: حدثنا إسحاق بن إبراهيم الموصلي، قال: كانت بالبصرة لرجل من آل سليمان بن علي جارية، وكانت محسنة بارعة الظرف والجمال، وكان بشار بن برد صديقاً لمولاها ومداحاً له، فحضر مجلسه والجارية نغنيهم، فشرب مولاها وسكر ونام ونهض للانصراف من كان بالحضرة، فقالت الجارية لبشار: أحب أن نذكر مجلسنا هذا في قصيدة مليحة وترسل بها إلي على ألا تذكر فيها اسمي واسم سيدي، فقال بشار وبعث بها مع رسوله إليها:
وذات دل كأن الشمس صورتها ... باتت تغني عميد القلب سكرانا
إن العيون التي في طرفها حور ... قتلننا ثم لم يحيين قتلانا
فقلت: أحسنت يا سؤلي ويا أملي ... فأسمعيني جزاك الله إحسانا
يا حبذا جبل الريان من جبل ... وحبذا ساكن الريان من كانا
قالت: فهلا فدتك النفس أحسن من ... هذا لمن كان صب القلب حيرانا
يا قوم أذني لبعض الحي عاشقة ... والأذن تعشق قبل العين أحيانا
فقلت: أحسنت أنت الشمس طالعة ... أضرمت في القلب والأحشاء نيرانا
فأسمعينا غناء مطربا هزجاً ... يزيد حباً محباً فيك أشجانا
يا ليتني كنت تفاحاً تمخضه ... وكنت من قضب الريحان ريحانا
حتى إذا وجدت ريحي فأعجبها ... وكنت في خلوة مثلت إنسانا
فحركت عودها ثم انثنت طرباً ... تبدي الترنم لا تخفيه كتمانا
أصبحت أطوع خلق الله كلهم ... نفساً لأكثر خلق الله عصيانا
فقلت: اطربينا يا زين مجلسنا ... فغننا، أنت بالإحسان أولانا
فغنت الشرب صوتاً مؤنقاً رصفا ... يُذكي السرور ويبكي العين أحيانا
لا يقتل الله من دامت مودته ... والله يقتل أهل الغدر من كانا
قال القاضي: قول بشار في هذا الشعر: حتى إذا وددت ريحي فأعجبها، على لفظ التذكير والريح مؤنثة، وقد يكن فعل هذا في ضرورة الشعر وجعل الضمير الذي في - فأعجبها - عائداً على الريح وهي مؤنثة، إما لأن تأنيثها ليس بحقيقي، وإما لأنه أراد بقوله: ريحي نسيمي ونحوه، وقد جاء في الشعر مثله كما قال الشاعر:
فلا مزنة ودقت ودقها ... ولا أرض أبقل أبقالها
وقد اختف النحويون في الفرق بين التأنيث الحقيقي والتأنيث الذي هو غير حقيقي فقال بعضهم: التأنيث الذي هو حقيقي ما لا يطلق لفظه على مذكره لاختصاص مؤنثه بلفظة كامرأة وناقة، وأما التأنيث الذي ليس بحقيقي، فكقولهم شاة للذكر من هذا النوع والأنثى، كما قال الأعشى:
فلما أضاء الصبح قام مبادراً ... وكان انطلاق الشاة من حيث خيما
قيل إن الشاة ها هنا الثور، وقوله دابة وحية لذكرهما وأنثاهما، وهذا مذهب الكوفيين، فأما البصريون فيرون الفصل بين هذين التأنيثين ومقابلهما من التذكيرين من قبل اختلافهما من جهة الفروج المختلفة فيهما، كرجل وامرأة وجمل وناقة وفتى وفتاة، وفي تذكير بشار المضمر في قوله فأعجبها وجه آخر حسن ليس فيه ما في الوجه الذي قدمنا ذكره من الضرورة، وهو جائز مطرد في النثر والشعر، ولم أر أحداً ممن يتعاطى هذا الشأن من أهل العلم والأدب أتى به وهو أن يكون لما قال: وجدت ريحي فلم يستو له التأنيث متى رد الضمير إلى الريح لئلا ينكسر الشعر ويفسد الوزن رده إلى الوجود، كأنه قال: وجدت ريحي فأعجبها وجود ريحي، واعتمد على دلالة الفعل الذي هو وجدت وعلى المصدر الذي هو وجود، وهذا صحيح مستفيض في كلام العرب، وقولهم: من كذب كان شراً له، فدل قولهم كذب على الكذب، وقد قال الله تعالى جده: " ولا تحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو خيراً لهم بل هو شر لهم " المعنى: لا تحسبن البخل، فدل يبخلون على البخل، ومن هذا الباب: قول الشاعر:
إذا نهي السفيه جرى إليه ... وخالف والسفيه إلا خلاف
أراد جرى إلى السفه، فدل قوله السفيه على السفه، وهذا باب واسع جداً.
عبيد الله بن يحيى بن خاقان يتنبأ بالأحداثحدثنا علي بن محمد بن الجهم، أبو طالب الكاتب، قال: حدثني أبو العباس محمد بن عبد الله بن طاهر، قال: حدثني أبي، عن أحمد بن إسرائيل، قال: صرت يوماً إلى عبيد الله بن يحيى بن خاقان فلما صرت في صحن الدار رأيته مضطجعاً على مصلاه مولياً ظهره باب مجلسه، فهممت بالرجوع، فقال لي الحاجب: أدخل فإنه منتبه، فلما سمع حسي جلس، فقلت: حسبتك نائماً، قال: لا، ولكني كنت مفكراً، قلت: فيماذا أعزك الله؟ قال: فكرت في أمر الدنيا وصلاحها في هذا الوقت واستهوائها ودرور الأموال وأمن السبيل وعز الخلافة فعلمت أنها أمكر وأنكر وأغدر من أن يدوم صفاؤها لأحد، قال: فدعوت له وانصرفت، فما مضت أربعون ليلة منذ ذلك اليوم حتى قتل المتوكل ونزل به من النفي ما نزل.
وتنبؤ آخر للإمام أبي جعفر الطبريحدثني بعض شيوخنا: أن بعضهم حدثه: أنه لما كان من خلع المقتدر في المرة الأولى ما كان، وبويع عبد الله بن المعتز بالخلافة، دخل على شيخنا أبي جعفر الطبري رضي الله عنه فقال له: ما الخبر، وكيف تركت الناس؟ أو نحو هذا من القول، فقال له: بويع عبد الله بن المعتز، قال: فمن رشح للوزارة؟ قال: محمد بن داود بن الجراح، قال: فمن ذكر للقضاء؟ قال الحسن بن المثنى، فأطرق ملياً ثم قال: هذا أمر لا يتم ولا ينتظم، قال: قلت له: فكيف؟ فقال: كل واحدٍ من هؤلاء الذين سميت متقدم في معناه على الرتبة من أبناء جنسه، والزمان مدبر والدنيا مولية، وما أرى هذا إلا إلى اضمحلال وانتقاص ولا يكون لمدته طول، فكان الأمر كما قال، ورأيت صحة قوله في أسرع وقت.
صدقه حين كذب وكذبه حين صدقحدثني شيخ من أهل بغداد بجسر النهروان يعرف بالقدامي ذهب عني اسمه، وكان ذا أدب ومعرفة، بإسناد ذهب عني حفظه:
أن إسحاق بن إبراهيم الطاهري، قال لمحمد بن شجاع الثلجي: أريد أن توجه إلي رجلاً من أفاضل أصحابك أستكفيه شيئاً من أموري، قال: فأرسلت إليه بعض من كان يلزم مجلسي ويأخذ الفقه عني، وله دين وعلم فمضى إليه ثم عاد إلي فأخبرني أنه كلفه تفرقة مال دفعه إليه فصرفه في وجوه البر، فلما كان في العام القابل سأل إسحاق أيضاً أبا عبد الله بن شجاع إنفاذ الرجل إليه ففعل، فلما كان من الغد أرسل الرجل إلى ابن شجاع يذكر أن إسحاق حبسه، فارتاع لذلك وأتى إسحاق فقال له: لم حبست صاحبنا؟ قال: هذا رجل خائن، وكان ابن شجاع قبل أن يلقى إسحاق قد دخل على صاحبه في محبسه فسأله عن قصته فقال له: أعطاني في العام الماضي عشرة آلاف درهم وقال:اصرفها في ذوي الحاجة بها، وفكرت في الذي آتيه فيها، فحدثتني نفسي أن آخذها لنفسي وأسد بها خلتي وأنفقها على عيالي وأرم بها حالي، إذ كنت في عسرة وضيق من المعيشة وعلى حد من الفاقة، وقلت تارة: إن كنت أصرفها فيما يخصني موافقاَ لجملة ما رسمه لي على طريقة من الخيانة إذ لم يأمر لي بهذا المال، فكان ما قاله يقتضي دفعه إلى غيري، ثم قلت :إن غيري إنما أرجح أنه محتاج أو مستحق إلى ظاهر وظن غالب، وأنا من صورة أمري على يقين وعلم بالباطن، وغلبت هذا على عزيمتي، فصرفت المال في صلاح شئوني وقضاء ديوني والتوسعة على عيالي، ثم رجعت إليه فقال لي: ما صنعت ؟ فأخبرته أني أتيت بما كلفنيه وامتثلت أمره فيه، فقال:امض جزاك الله خيراً، فلما كان هذا العام أعطاني مثل نفسي لا عذر لك في أداء الأمانة واستفراغ الجهد والطاقة والتنزه عن السفسفة أو الخيانة، فأتعبت نفسي وأعملت فكري وكددت جسمي في تحري أهل المسكنة وتوخي ذوي الحاجة حتى بلغت الغاية، وصرفت المال بأسره في هذه الطبقة، ولم آخذ لنفسي منه مثقال ذرة ثم جئته فقال:ما صنعت؟ فأخبرته أنني أتيت ما أمرني به، فقال كذبت وأمر بي إلى السجن، فقال له ابن شجاع: أهكذا كان الأمر؟ قال: نعم قال: فهل كان غير هذا؟ قال: لا، قال ابن شجاع: فقلت لإسحاق: إن عندي في هذا شيئاً أذكره لك، وفصصت عليه القصة على وجهها، فنكث في الأرض وقال: قد صدق الرجل فيما ذكره وأمر بتخليته، فقلت له: كيف علمت بصدقه بعد ما كان منك؟ قال: أمرنا هذا جار على الإدغال وخلاف الصحة، فإذا عوملنا بمثل عملنا سكناً إليه وأحسنا الظن بعامله، وإذا أتى ما يخالفه أنكرناه ونفرنا عنه ولم نصدق صاحبه.
قال القاضي: حدثني الشيخ بهذه الحكاية بلفظ غير هذا عبرت عنه بلفظي ولم أخل بمعناه، وبالله التوفيق.
المجلس التاسع عشر
ائتوني بسكين أشقه بينكماحدثنا عبد الله بن محمد بن زياد أبو بكر النيسابوري، قال: حدثنا أحمد بن حفص، قال: حدثنا أبي، قال: حدثنا إبراهيم بن طهمان، عن موسى بن عقبة، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم: " بينا امرأتان معهما ابناهما فجاء الذئب فذهب بأحدهما: فقالت هذه لصاحبتها: إنما ذهب بابنك، وقالت الأخرى: إنما ذهب بابنك، فتحاكمتا إلى داود فقضى للكبرى، فخرجتا إلى سليمان فأخبرتاه، فقال:ائتوني بسكين أشقه بينكما، فقالت الصغرى: يرحمك الله هو ابنها، فقضى للصغرى به " ، وقال أبو هريرة: والله إن سمعت بالسكين قط قبل ذلك اليوم وما كنت أقول إلا المدية.
قال القاضي: السكين والمدية معاً اسمان لهذه الأداة التي تذبح الحيوان وينحر بها وهما موجودان في كلام العرب، ولعل أبا هريرة لم يعرف السكين ولم تكن من لغة قومه، فأما المدية فمؤنثة بحرف التأنيث الذي فيها وهو الهاء وجمعها مدى مثل زبية وزبى ورقية ورقى وكنية وكنى، قال الشاعر:
من كل كوماء سحوف إذا ... جفت من اللحم مدى الجازر
وقد اختلفت أهل العلم بالعربية في تذكير السكين وتأنيثه، فذكر بعضهم وأنكر تأنيثه، وأنثه آخرون وأبوا تذكيره، وأجاز فريق الوجهين معاً فيه، وهذا أولى الأقوال بالصواب عندنا فيه، لأن أولي المعرفة بهذا الباب قد حكوها وأتوا بشواهد ردوها فيها، وأنا ذاكر ما ورد في ذلك عنهم بمشيئة الله وتوفيقه.
قال أبو حاتم السجستاني: السكين تذكر،قال: وسألت أبا زيد الأنصاري والأصمعي وغيرهما ممن أدركنا فكلهم يذكره وينكر التأنيث، قال: أنشدني الأصمعي للهذلي:
يرى ناصحاً فيما بدا وإذا خلا ... فذلك سكين على الحلق حاذق
وقال أبو هفان: قال أبو عمر الجرمي في تذكير حاذق: هذا كما يقول شفرة قاطع وحاذق، وامرأة حائض وعاقر، قال أبو بكر بن الأنباري: وهذا عندي ليس بمنزلة ذلك، لأن الحيض لا يكون إلا للنساء، والحذق يكون للمذكر والمؤنث فلا بد فيه من الهاء إذا وصف به المؤنث، وهذا البيت يدل على تذكير السكين.
قال القاضي: الذي ذكره ابن الأنباري في تذكير لفظ حائض من العلة هو مذهب أصحابه الكوفيين، وقد خالفه فيه البصريون على اختلاف بينهم على تعيين العلة سوى أبي حاتم السجستاني فإنه اختار فيه قول الكوفيين، ولشرح هذا موضع هو أولى به. ولو سلم إلى ابن الأنباري اعتلاله في حائض لكان ما احتج به أبو عمر الجرمي من قولهم شفرة قاطع وحاذق كافياً فيما استدل به ولم يقل أبو بكر في هذا شيئاً ولا عرض للمعتل بطعن في اعتلاله، وهذا يدل على لزومه إياه وعجزه عن الانفصال منه، وقد قالت العرب: امرأة عاشق وهذا مثل حاذق والعشق يكون للرجال والنساء وحدثنا أبو بكر الأنباري، قال: وأخبرنا أبو العباس، عن سلمة، عن الفراء، أنه قال: السكين ذكر وقد أنثت، وأنشد في التأنيث:
فعيث في السنام غداة قر ... بسكين موثقة النصاب
وأنشد في التأنيث أيضاً:
إذا أعرضت منها عناق رأيته ... بسكينه من حولها يتلهف
يلوذ بها عن عينها لا يروعها ... كأنه من حوبائه الموت يصرف
وحدثنا ابن الأنباري، قال: حدثنا عبد الله بن الحسن الحزامي، قال: حدثنا يعقوب، قال ابن الأنباري: وحدثني أبي، عن محمد بن الحكم، عن اللحياني، قال: السكين تذكر وتؤنث، قال اللحياني: لم يعرف الأصمعي في السكين إلا تذكير السكين وتأنيث السراويل، وأنشدنا عن ثعلب:
ادن إلى الشاة من خيارها ... واخرج السكين من قمجارها
القمجار: الغلاف، فهذا شاهد التأنيث.
ذكاء عبد الملك وعلمهحدثنا محمد بن الحسن بن دريد، قال: حدثنا العكلي، عن الحرمازي قال: أنشد رجل من جلساء عبد الملك أبيات أحيحة بن الجلاح:
استغن أو مت ولا يغررك ذو نشب ... من ابن عم ولا عم ولا خال
يلوون ما عندهم من حق جارهم ... وعن عشيرتهم والمال بالوالي
واجمع ولا تحقرن شيئاً تجمعه ... ولا تضيعه يوماً على حال
إني مقيم على الزوراء أعمرها ... إن الكريم على الأقوام ذو المال
لها ثلاث بئار في جوانبها ... وكلها عقب تسقى بإقبال
كل النداء إذا ناديت يخذلني ... إلا ندائي إذا ناديت يا مالي
ما إن يقول لشيء حين أفعله ... لا أستطيع ولا ينمو على حال
فقال رجل من جلساء عبد الملك، وما الزوراء يا أمير المؤمنين، والله لو أرسلت فيها الأشقر ما ترك حوضاً، فقال له عبد الملك: إن أبا عمرو كان من رجال قومه وكان يرى أنه عنى هذا، فعجب الناس من ذكاء عبد الملك ومن معرفته بكنية أحيحة.
قصة غريبة مما كان يرد على القضاةحدثنا الحسين بن القاسم الكوكبي، فقال: حدثنا ابن أبي الدنيا، قال حدثنا داود بن محمد بن يزيد، عن أبي عبد الله النباجي، قال: دخل ابن أبي ليلى على أبي جعفر المنصور
وهو قاض فقال له أبو جعفر: إن القاضي قد يرد عليه من طرائف الناس ونوادرهم أمور، فإن كان ورد عليك شيء فحدثنيه، فقد طال علي يومي، فقال: والله لقد ورد علي - منذ ثلاث - أمر ما ورد علي مثله، أتتني عجوز تكاد أن تنال الأرض بوجهها أو تسقط من انحنائها، فقالت: أنا بالله ثم بالقاضي أن يأخذ لي بحقي وأن يعينني على خصمي، قلت: من خصمك؟ قالت: ابنة أخ لي، فدعوت بها فجاءت امرأة ضخمة ممتلئة فجلست منبهرة، فقالت العجوز: أصلح الله القاضي، إن هذه ابنة أخي وأوصى إلي بها أبوها، فربيتها فأحسنت التربية، ووليتها فأحسنت الولاية، وأدبتها فأحسنت التأديب، ثم زوجتها ابن أخ لي، ثم أفسدت علي بعد ذلك زوجي، فقلت لها: ما تقولين؟ قالت: يأذن لي القاضي أن أسفر فأخبر بحجتي؟ فقالت: يا عدوة الله تريدين أن تسفري فتفتني القاضي بجمالك، فقال: فأطرقت خوفاً من مقالتها، وقلت: تكلمي، فقالت: صدقت أصلح الله القاضي، هي عمتي أوصى بي إليها أبي وربتني فأحسنت ووليتني فأحسنت وأدبتني فأحسنت، وزوجتني ابن عم لي وأنا كارهة، فلم أزل حتى عطف الله بعضنا على بعض واغتبط كل واحد منا بصاحبه، ثم نشأت لها بنية فلما أدركت حسدتني على زوجي ودأبت في فساد ما بيني وبينه، وحسنت ابنتها في عينه حتى علقها وخطبها إليها، فقالت: لا أزوجك حتى تجعل أمر امرأتك بيدي ففعل، فأرسلت إلي: أي بنية إن زوجك قد خطب إلى ابنتي فأبيت أن أزوجه حتى يجعل أمرك في يدي ففعل، وقد طلقتك ثلاثاً، فقلت صبراً لأمر الله وقضائه، فما لبثت أن انقضت عدتي فبعث إلي زوجها: إني قد علمت ظلم عمتك لك وقد أخلف الله عليك زوجاً فهل لك فيه؟ قلت: من هو؟ قال: أنا، وأقبل يخطبني فقلت: لا والله حتى تجعل أمر عمتي في يدي ففعل، فأرسلت إليها: إن زوجك قد خطبني فأبيت عليه إلا أن يجعل أمرك في يدي ففعل، وقد طلقتك ثلاثاً، فلم يزل حياً حتى توفي رحمة الله عليه، ثم لم ألبث أن عطف الله قلب زوجي الأول فتذكر ما كان من موافقتي إياه فأرسل إلي: هل لك في المراجعة، قلت: قد أمكنك ذلك، فخطبني فأبيت إلا أن يجعل أمر بنتها في يدي ففعل، فطلقتها ثلاثاً، فوثبت العجوز وقالت: أصلح الله القاضي، فعلت هذا مرة وفعلته هي مرة بعد مرة، فقلت: إن الله تبارك وتعالى لم يوقت لهذا وقتاً، وقال: " ومن بغي عليه لينصرنه الله " .
التعليق على الخبرقال القاضي: إن زوج العمة لم يكن له أن يتزوج ابنة أخيها وهي في حباله، وأرى أن الجارية أرادت أن يتولى التفريق بينه وبينها، استيفاء منها ومجازاة لها على فعلها، وقد رويت لنا هذه القصة عن طريق آخر وفيها مخالفة لهذه الرواية في السند والمتن معاً، وأنا ذاكرها ليستوفي الناظر في كتاب هذا الأمرين جميعاً بمشيئة الله وعونه.
حدثنا محمد بن داود بن سليمان النيسابوري، قال: حدثنا أحمد بن جعفر بن محمد بن سهل السامري بفلسطين، قال: حدثنا عبد الله بن محمد الإمام، قال: حدثني محمد بن الخليل، قال: أخبرني روح بن حرب السمسار، قال: كنت في دار الطيالسة فإذا الهيثم به عدي حاضر، قال: سمعت محمد بن أبي ليلى يقول: كنت يوماً في مجلس القضاء فوردت على عجوز ومعها جارية شابة، قال: فذهبت العجوز تتكلم قال: فقالت الشابة: أصلح الله القاضي، مرها فلتسكت حتى أتكلم بحجتي وحجتها، فإن لحنت بشيء فلترد علي، فإن أذنت لي سفرت، قال: فقلت: أسفري، قال: فقالت العجوز: إن سفرت قضيت لها علي، قال: قلت: أسفري، فأسفرت والله عن وجه ما ظننت أن يكون مثله إلا في الجنة، فقالت: أصلح الله القاضي، هذه عمتي، مات أبي وتركني يتيمة في حجرها فربتني فأحسنت التربية، حتى إذا بلغت مبلغ النساء قالت: يا بنية! هل لك في التزويج؟ قلت: ما أكره ذلك يا عمة، هكذا كان؟ قالت العجوز: نعم. قالت فخطبني وجوه أهل الكوفة فلم ترض لي إلا رجلاً صيرفياً فزوجتني، فكنا كأننا ريحانتان ما يظن أن الله تعالى خلق غيري، ولا أظن أن الله عز وجل خلق غيره، يغدو إلى سوقه ويروح علي بما رزقه الله، فلما رأت العمة موقعه مني وموقعي منه حسدتنا على ذلك، قالت: فكانت لها ابنة فسوقتها وهيأتها لدخول زوجي علي فوقعت عينه عليها، فقال لها: يا عمة! هل لك أن تزوجيني ابنتك؟ قالت: نعم بشرط، قال لها: وما الشرط؟ قالت: تصير أمر ابنة أخي إلي، قال: قد صيرت أمرها إليك، قالت: فإني قد طلقتها ثلاثاً بتة، وزوجت ابنتها من زوجي، فكان يغدو عليها ويروح كما كان يغدو علي ويروح. فقلت لها: يا عمة! تأذنين لي أن أنتقل عنك، قالت: نعم، فانتقلت عنها، قالت: وكان لعمتي زوج غائب فقدم فلما توسط منزله، قال: مالي لا أرى ربيبتنا؟ قالت تزوجت وطلقها زوجها فانتقلت عنا، فقال لها: علينا من الحق ما نعزيها بمصيبتها، قالت: فلما بلغني مجيئه تهيأت له وتسوقت، قالت: فلما دخل علي سلم وعزاني بمصيبتي ثم قال لي: إن في بقية من الشباب فهل لك أن أتزوجك؟ قلت: ما أكره ذاك ولكن على شرط، قال لي: وايش الشرط؟ قلت: تصير أمر عمتي بيدي، قال: فإني قد صيرت أمرها بيدك، قلت: فإني قد طلقتها ثلاثاً بتة، قالت: وقدم بثقله علي من الغد ومعه ستة آلاف درهم، فأقام عندي ما أقام ثم إنه اعتل فتوفي، فلما انقضت عدتي جاء زوجي الأول يعزيني بمصيبتي فلما بلغني مجيئه تهيأت له وتسوقت، فلما دخل علي قال: يا فلانة! إنك لتعلمين أنك كنت أحب الناس إلي وأعزهم علي، وقد حل لنا الرجعة فهل لك في ذلك؟ قلت: ما أكره ذلك ولكن تصير أمر ابنة عمي بيدي، قال: فإني قد فعلت صيرت أمر ابنة عمتك بيدك، قلت: فإني قد طلقتها ثلاثاً بتة، أصلح الله القاضي، فرجعت إلى زوجي، فما استعداؤها علي، فقال ابن أبي ليلى: واحدة بواحدة والبادي أظلم، قومي إلى منزلك. قال ابن أبي ليلى: فحدثت الهادي بذلك، فقال: ويحك يا محمد! ما سمعت حديثاً أحسن من هذا، أنا أحب أن أحدث به الخيزران، يعني أمه.
قال القاضي: وقصة هذا الخبر كقصة المقدم له في أنه لا يحل الجمع بين المرأة وعمتها في النكاح، وأن التماس هذه الجارية من خاطبها تمليكها طلاق عمتها وبنتها من حباله لما وصفنا أنها أرادت أن تشفي غيظها وتتولى التفريق بينها وبين زوجها بنفسها مقابلة لها على ما ابتدأتها به من إساءتها.
أخاف أن يكون في قبولهما وهق رقبتي
حدثنا محمد بن القاسم الأنباري، قال: حدثني أبي، قال:حدثنا موسى بن عبد الرحمن، قال: حدثنا محمد بن حسان، قال: قال لي عمي: قدم محمد بن قحطبة الكوفة فقال: أحتاج إلى مؤدب يؤدب أولادي، حافظ لكتاب الله عز وجل، عالم بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وبالآثار والفقه والنحو والشعر وأيام الناس فقيل له: ما يجمع هذه الأشياء إلا داود الطائي وكان محمد بن قحطبة ابن عم داود، فأرسل إليه يعرض ذلك عليه ويسني له الأرزاق والفائدة، فأبى داود ذلك، فأرسل بدرة فيها عشرة آلاف درهم، وقال له: استعن بها على دهرك، فردها، فوجه إليه ببدرتين مع غلامين له مملوكين، وقال: إن قبل البدرتين فأنتما حران. فمضيا بهما إليه فأبى أ ن يقبلهما فقالا له: في قبولهما عتق رقابنا، فقال لهما: إني أخاف أن يكون في قبولهما وهق رقبتي في النار، رداها إليه وقولا له أن يردهما على من أخذتهما منه أولى من أن تعطيني إياهما.
لو علم السببحدثنا محمد بن يحيى الصولي، قال: كنا عند المبرد فجاءه رجل من ولد ابن الزيات فشكا إليه أمر ابن له خدع وليس يدري أين هو، فقال له: إنه جميل الوجه، وشاور أبا العباس في أمره، فلما قام قال أبو العباس: أنشدنا الرياشي:
ولو كان هذا الضب لا ذنب له ... ولا كشية ما مسه الدهر لامس
ولكنه من أجل طيب ذنيبه ... وكشيته دبت إليه الدهارس
قال القاضي: الكشية:الشحمة، ويقال: إن على جنبتي ظهره من جهتي عنقه إلى ذنبه شحمتين ممتدتين إليه هما كشيتاه، و جمع الكشية كشى مثل كلية وكلى، قال الشاعر:
إنك لو ذقت الكشى بالأكباد ... لم ترسل الضبة إعداء الواد
والدهارس والدهاريس: الدواهي، قال الشاعر:
حنت إلى النخلة القصوى فقلت لها ... حجر حرام ألا تلك الدهاريس
بأي شيء استحق سعيد بن عبد الرحمن توليه القضاء
حدثنا محمد بن زياد المقري، قال: أخبرنا محمد بن إسحاق السراج بنيسابور، قال: أخبرنا داود بن رشيد، قال: قلت للهيثم بن عدي: بأي شيء استحق سعيد بن عبد الرحمن أن ولاه المهدي القضاء وأنزله منه تلك المنزلة الرفيعة؟ قال: إن خبره في اتصاله بالمهدي طريف، إن أحببت شرحته لك، قلت: قد والله أحببت ذلك، قال: اعلم أنه وافى الربيع الحاجب حين أفضت الخلافة إلى المهدي، فقال: استأذن لي على أمير المؤمنين، فقال له الربيع: يا هذا! وما حاجتك؟ قال:أنا رجل رأيت لأمير المؤمنين أعزه الله رؤيا صالحة، وقد أحببت أن تذكرني له، قال: له الربيع: يا هذا! إن القوم لا يصدقون ما يرونه لأنفسهم فكيف ما تراه لهم، فاحتل بحيلة هي أرد عليك من هذه، فقال له: إن لم تخبره بمكاني سألت من يوصلني إليه، فأخبرته أني سألتك الإذن لي عليه فلم تفعل، فدخل الربيع على المهدي فقال له: يا أمير المؤمنين إنكم قد أطمعتم الناس في أنفسكم، فقد احتالوا لكم بكل ضرب، فقال له المهدي: هكذا تصنع الملوك فما ذلك؟ قال: رجل بالباب يزعم أنه رأى لأمير المؤمنين أيده الله رؤيا حسنة، وقد أحب أن يقصها عليه، فقال له المهدي: ويحك يا ربيع! إني والله أرى الرؤيا لنفسي فلا تصح لي، فكيف إذا ادعاها لي من لعله قد افتعلها؟ قال: قد والله قلت له مثل ذلك فلم يقبل، قال:فهات الرجل، قال: فأدخل عليه سعيد بن الرحمن وكان له رواء وجمال ومروءة ظاهرة ولحية عظيمة وعارضة ولسان،فقال له المهدي: هات بارك الله عليك، ماذا رأيت؟ قال: رأيت يا أمير المؤمنين آتياً أتاني في منامي فقال لي: إن أمير المؤمنين المهدي يعيش ثلاثين سنة في الخلافة، وآية ذلك أنه يرى في ليلته هذه في منامه كأنه يقلب يواقيت ثم يعدها فيجدها ثلاثين ياقوتة كأنها قد وهبت له، فقال له المهدي: ما أحسن ما رأيت! ونحن نمتحن رؤياك في ليلتنا المقبلة على ما خيبرتنا، فإن كان الأمر على ما ذكرت أعطيناك ما تريد، وإن كان الأمر بخلاف ذلك لم نعاقبك لعلمنا أن الرؤيا ربما صدقت وربما أخلفت، قال له سعيد: يا أمير المؤمنين فماذا أصنع أنا الساعة إذا صرت إلى منزلي وعيالي وأخبرتهم أني كنت عند أمير المؤمنين أكرمه الله ثم رجعت صفراً؟ قال له المهدي: فكيف نعمل؟ قال: يعجل لي أمير المؤمنين أعزه الله ما أحب وأحلف له بالطلاق أني قد صدقت، فأمر له بعشرة آلاف درهم، وأمر أن يؤخذ منه كفيل ليحضر في غير ذلك اليوم، فقبض المال وقيل: من يكفل بك، فمد عينه إلى خادم له حسن الوجه والزي فقال: هذا يكفل بي، فقال له المهدي: أتكفل به يا تملك، فاحمر وخجل وقال: نعم يا أمير المؤمنين، فكفل به وانصرف سعيد بن عبد الرحمن بعشرة آلاف درهم، فلما كان في تلك الليلة رأى المهدي ما ذكر له سعيد حرفاً حرفاً، وأصبح سعيد فوافى الباب واستأذن فأذن له، فلما وقعت عين المهدي عليه قال: أين مصداق ما قلت لنا؟ قال له سعيد: وما رأى أمير المؤمنين شيئاً؟ فضجع في جوابه، فقال له سعيد: امرأتي طالق إن لم يكن رأيت شيئاً، قال له المهدي: ويحك! ما أجرأك على هذا الحلف بالطلاق! قال: لأني أحلف على صدق، قال له المهدي: فقد والله رأيت ذلك مبيناً، فقال له سعيد: الله أكبر، فأنجز لي يا أمير المؤمنين ما وعدتني، قال له: حباً وكرامة، ثم أمر له بثلاثة آلاف دينار وعشرة تخوت ثياباً من كل صنف، وثلاث مراكب من أنفس دوابه محلاة، فأخذ ذلك وانصرف، فلحق به الخادم الذي كفل به، وقال له: سألتك بالله هل كان لهذه الرؤيا التي ذكرتها من أصل؟ قال له سعيد: لا والله، قال الخادم: كيف وقد رأى أمير المؤمنين ما ذكرته له؟ قال هذه من المخاريق الكبار التي لا يأبه لها أمثالكم، وذلك أني لما ألقيت إليه هذا الكلام خطر بباله وحدث نفسه وأسر به قلبه وشغل به فكره، فساعة نام خيل له ما حل في قلبه وما كان شغل به فكره في المنام، فقال له الخادم: قد حلفت بالطلاق، قال: طلقت واحدة وبقيت معي على ثنتين فأزيد في مهرها عشرة دراهم وأتخلص وأحصل على عشرة آلاف درهم وثلاثة آلاف دينار وعشرة تخوت من أصناف الثياب وثلاث مراكب فرهة، فبهت الخادم في وجهه وتعجب من ذلك، فقال له سعيد: قد صدقتك وجعلت صدقي لك مكافأتك على كفالتك بي فاستر علي، ففعل ثم طلبه المهدي لمنادمته، وحظي عنده وقلده القضاء على عسكر المهدي فلم يزل على ذلك إلى أن مات.
فهذا كان السبب في وصلة سعيد بن الرحمن بأمير المؤمنين المهدي، فهل سمعت بأعجب من ذلك يا داود؟ قال: لا.
التعليق على هذه القصةقال القاضي: قول سعيد في هذا الخبر أنه طلق واحدة وبقيت معه على اثنتين وأنه يزيد في مهرها عشرة دراهم، من كلام الحمقى العامة وجهالهم، لأن مطلق امرأته المدخول بها واحدة إن راجعها في عدتها فلا مهر عليه لها، وإن تزوجها بعد بينونتها فعليه الصداق مبتدئاً غير زائد على قدر منه متقدم، وفي حمل سعيد نفسه في هذه القصة على الكذب وخاصة في الرؤيا وإطلاع الخادم على قبيح ما أتاه، وكذبه فيما حكاه، وجعله هذا مكافأة له على كفالته به، واعتماده مسترسلاً إليه في ستر رذيلته عليه، دليل على أنه كان بمحل من الغرق، وأن عظم لحيته كان على شكل يدل على السفاهة والحمق. وقد حدثنا علي بن الفضل بن طاهر البلخي قال: حدثنا محمد بن أيوب بن يزيد، قال: حدثنا أحمد بن يعقوب، قال حدثنا مصعب بن خارجة، عن أبيه، من كانت لحيته طويلة فلا يلم في عقله شيء.
حدثنا الليث بن محمد بن الليث المروزي، قال: سمعت عبد الله بن محمود، يقال: نظر علي بن حجر إلى أبي الدرداء، قال: وهو طويل اللحية فأنشأ يقول:
ليس بطول اللحى ... يستوجبون القضا
إن كان هذا كذا ... فالتيس عدل رضا
قال: ومكتوب في التوراة: لا يغرنك طول اللحى، فإن التيس له لحية.
حكاية عن القاضي العوفي، وكان طويل اللحيةحدثنا محمد بن الحسن المقري، قال: أخبرني الساجي بالبصرة، قال: اشترى رجل من أصحاب القاضي العوفي جارية فغاضبته ولم تطعه، فشكا ذلك إلى العوفي فقال: أنفذها إلي حتى أكلمها فأنفذها إليه، فقال لها: يا عزوب يا لعوب يا ذات الجلابيب، ما هذا التمنع المجانب للخيرات، والاختيار للأخلاق المشنوءات، فقالت له: أيد الله القاضي: ليس لي فيه حاجة فمره يبيعني، فقال لها: يا منية كل حليم، وبحاث عن اللطائف عليم، أما علمت أن فرط الاعتياصات من الموموقات على طالبي المودات والباذلين لكرائم المصونات مؤديات إلى عدم المفهومات؟ فقالت الجارية: ليس في الدنيا أصلح لهذه العثنونات على صدور أهل الركاكات من المواسي الحالقات، وضحكت وضحك أهل المجلس. وكان العوفي عظيم اللحية.
قال القاضي: العوفي هو الحسن بن الحسن بن عطية بن سعيد بن جنادة، ويكنى أبا عبد الله من أهل الكوفة وقد سمع سماعاً كثيراً، غير أنه ضعيف في الحديث، قدم بغداد وولي قضاء الشرقية بعد حفص بن غياث ثم نقل من الشرقية فولى قضاء عسكر المهدي في خلافة هارون ثم عزل، فلم يزل ببغداد إلى أن توفي بها سنة إحدى أو اثنتين ومائتين، وكان من أعظم الناس لحية.
المجلس العشرون
حديث إن يصدق ذو العقيصتين يدخل الجنة
حدثنا أحمد بن محمد بن إبراهيم بن أبي الرجال الصالحي، قال: حدثنا أبو داود سليمان بن يوسف الحراني، حدثنا سعيد بن بزيع، قال: فحدثني محمد بن إسحاق، قال: فحدثني محمد بن محمد بن الوليد بن نويفع، عن كريب مولى ابن عباس، عن ابن عباس، قال: بعث بنو سعيد بن بكر ضمام بن ثعلبة وافداً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقدم عليه فأناخ بعيره على باب المسجد ثم عقله، ثم دخل المسجد ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس في أصحابه، وكان ضمام رجلاً جلداً أشعر ذا غديرتين فأقبل حتى وقف على رسول الله صلى الله عليه وسلم في أصحابه فقال: أيكم ابن عبد المطلب؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنا ابن عبد المطلب، قال: محمد؟ قال: نعم، قال: فيا ابن عبد المطلب فإني سائلك ومغلظ في المسألة، فلا تجدن في نفسك، قال: لا أجد في نفسي فسل عما بدا لك، قال: أنشدك لله إلهك وإله من كان قبلك وإله من هو كائن بعدك، الله بعثك إلينا رسولاً؟ قال: اللهم نعم، قال: فنشدة مثلها، الله أمرك أن نعبد الله وحده لا شريك له وأن نخلع هذه الأنداد التي كان آباؤنا يعبدون معه؟ قال: اللهم نعم، قال: فنشدة مثلها، الله أمرك أن نصلي هذه الصلوات الخمس؟ قال: اللهم نعم، قال: ثم جعل يذكر شرائع الإسلام يناشده عند كل فريضة كما يناشده في التي قبلها، حتى إذا فرغ قال: فإني أشهد ألا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله، وأؤدي هذه الفرائض، وأجتنب ما نهيتني عنه ولا أزيد ولا أنقص، قال: ثم انصرف إلى بعيره، قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين ولى: " إن يصدق ذو العقيصتين يدخل الجنة " . قال: فأتى إلى بعيره فأطلق عقاله ثم خرج حتى قدم على قومه فاجتمعوا إليه، فكان أول ما تكلم به أن قال: بئست اللات والعزى، فقالوا: مه يا ضمام، اتق البرص، اتق الجذام، اتق الجنون، قال: ويلكم، والله ما يضران ولا ينفعان، إن الله تعالى بعث رسولاً وأنزل كتاباً لينقذكم به مما كنتم فيه، وإني أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله، وقد جئتكم من عنده بما أمركم به وما نهاكم عنه، قال: فوالله ما أمسى في ذلك اليوم وفي حاضره رجل ولا امرأة إلا مسلمة، قال: يقول ابن عباس: ما سمعنا بوافد قوم ذكر كلمة من ضمام بن ثعلبة.
قال القاضي رحمه الله: لم يذكر لنا ما الكلمة، ولعلها ذهبت عن حفظ بعض الرواة أو سقطت من كتابه، وينبغي أن يكون معناه أعظم بركة أو ما أشبه هذا من الوجوه، وفي هذا الخبر: ما أبان عن حسن دعاء النبي صلى الله عليه وسلم ووطاءة كنفه ولين جانبه، وإجابته إلى الحلف لما فيه من تسكين نفس مساجله، وتأميله زوال الريب عن قلبه، وهو صلى الله عليه وسلم أصدق الناس في قيله، وأوفاهم أمانة فيما هو بسبيله.
كتاب قيصر إلى عمر رضي الله عنه بشأن النخلةحدثنا محمد بن منصور بن أبي الجهم الشيعي، قال: حدثنا عمرو بن علي، قال: حدثنا أبو قتيبة، قال: حدثنا يونس بن الحارث الطائفي، عن الشعبي، قال: كتب قيصر إلى عمر: أخبرك أن رسلي أتتني من قبلك فزعمت أن قبلكم شجرة ليست بخليقة لشيء من الخير، تخرج مثل آذان الحمر ثم تشقق عن مثل اللؤلؤ أحسبه قال: الأبيض ثم تخضر فتكون مثل الزمرد الأخضر ثم تحمر فتكون مثل الياقوت الأحمر، ثم تينع وتنضج فتكون كأطيب فالوذج أكل، ثم تيبس فتكون عصمة للمقيم وزاداً للمسافر، فإن تكن رسلي صدقتني فلا أرى هذه الشجرة إلا من شجر الجنة. فكتب إليه عمر؟ " من عبد الله عمر أمير المؤمنين إلى قيصر ملك الروم: إن رسلك قد صدقتك، هذه الشجرة عندنا هي الشجرة التي أنبتها الله عز وجل على مريم حين نفست بعيسى ابنها عليه السلام فاتق الله ولا تتخذ عيسى إلهاً من دون الله، فإن مثل عيسى عندنا كمثل آدم، خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون، الحق من ربك فلا تكن من الممترين " .
بعض ما تلحن فيه العامة الزمرد والزبرجد
قال القاضي رحمه الله: قد روينا هذا الخبر من طرق شتى، وفي بعضها ألفاظ ليست في بعض، وقوله الزمرد العامة يخطئون فيه فيقولون زمرد بالدال المهملة، ويقولون الزبرجذ بالذال المعجمة، والذي حكاه أهل اللغة عن العرب أنه الزمرد بالإعجام والزبرجد بالإبهام على عكس ما يقوله من لا علم به من العوام، وذكر بعض أهل المعرفة أن من فضل النخل أن جميعه في بلاد الإسلام، وأنه ليس في بلاد الشرك منه شيء.
من شهداء الهوىحدثنا محمد بن الحسن بن دريد، قال: أخبرنا العباس بن الفرج الرياشي، قال: أخبرنا محمد بن سلام، قال كان بالمدينة فتى من بني أمية من ولد سعيد بن عثمان بن عفان وكان يختلف إلى قينة لبعض قريش، وكان طريراً ظريفاً، وكانت الجارية تحبه ولا يعلم بحبها، فأراد يوماً أن يشكو ذلك، فقال لبعض إخوانه: امض بنا إلى فلانة، وانطلقا فدخلا إليها وتوافى فتيان من قريش والأنصار، فلما جلست مجلسها واحتجرت بمزهرها، قال الأموي تغنين:
أحبكم حباً بكل جوارحي ... فهل لكم علم بما لكم عندي
وتجزون بالود المضاعف مثله ... فإن الكريم من جزى الود بالود
قالت نعم، وأحسن منه، وغنت:
للذي ودنا المودة بالضع ... ف وفضل البادي به لا يجازى
لو بدا بنا لكم ملأ الأر ... ض وأقطار شامها والحجازا
فعجب القوم من سرعته مع شغل قلبه، ومن ذهنها وحسن جوابها فازداد بها كلفاً، وصرح عما في قلبه فقال:
أنت عذر الفتى إذا هتك الست ... ر وإن كان يوسف المعصوما
من يقم في هواك يقصر عن اللو ... م وإما زال كان ملوماً
وبلغ عمر بن عبد العزيز وهو على المدينة خبرها، فاشتراها بعشر حدائق ووهبها له وما يصلحها، فمكثت عنده حولاً ثم ماتت فرثاها، فقال:
قد تمنيت جنة الخلد بالجه ... د فأدخلتها بلا استئهال
ثم أخرجت إذ تطعمت بالنع ... مة منها والموت أحمد حالي
وكرر هذا الشعر مراراً وقضى، فدفنا معاً، فقال أشعب: هذان شهيدا الهوى انحروا على قبره سبعين نحرة كما كبر رسول الله صلى الله عليه وسلم على قبر حمزة سبعين تكبيرة.
قال: وبلغ أبا حازم فقال: لو محب في الله عز وجل يبلغ في الحب هذا المبلغ فهو ولي.
من نزاهة حفص بن غياث في الحكم
حدثنا محمد بن مخلد بن حفص حفص العطار: قال: حدثني يحيى ابن الليث، قال: باع رجل من أهل خراسان جمالاً بثلاثين ألف درهم من مرزبان المجوسي وكيل أم جعفر، فمطله بثمنها وحبسه، فطال ذلك على الرجل فأتى بعض أصحاب ابن غياث فشاوره، فقال له: اذهب إليه فقل له: أعطني ألف درهم وأحيل عليك بالمال الباقي وأخرج إلى خراسان، فإذا فعل هكذا فالقني حتى أشير عليك، ففعل الرجل وأتى مرزبان فأعطاه ألف درهم، فرجع إلى الرجل فأخبره، فقال: عد إليه فقل له: إذا ركبت غداً فطريقك على القاضي تحضر وأوكل رجلاً يقبض المال وأخرج، فإذا جلس إلى القاضي فادع عليه ما بقي لك من المال، فإذا أقر حبسه حفص وأخذت مالك، فرجع إلى مرزبان فسأله فقال: انتظرني بباب القاضي، فلما ركب من الغد وثب إليه الرجل فقال: إن رأيت أن ننزل إلى القاضي حتى أوكل بقبض المال وأخرج فنزل مرزبان فتقدما إلى حفص بن غياث فقال الرجل: أصلح الله القاضي، لي على هذا تسعة وعشرون ألف درهم، قال حفص: ما تقول يا مجوسي؟ قال: صدق أصلح الله القاضي، قال: ما تقول يا رجل فقد أقر لك؟ قال: يعطيني مالي أصلح الله القاضي، فأقبل حفص على المجوسي فقال: ما تقول؟ قال: هذا المال على السيدة، قال: أنت أحمق، تقر ثم تقول: على السيدة، ما تقول يا رجل؟ قال: أصلح الله القاضي، إن أعطاني مالي وإلا حبسته، قال حفص: ما تقول يا مجوسي؟ قال: المال على السيدة، قال: خذوا بيده إلى الحبس، فلما حبس بلغ أم جعفر الخبر فغضبت فبعثت إلى السندي: وجه إلي مرزبان، وكانت القضاة تحبس الغرماء في الجسر، فعجل السندي فأخرجه، وبلغ حفصاً الخبر فقال: أحبس أنا ويخرج السندي، لا جلست مجلسي هذا أو يرد مرزبان إلى الحبس، فجاء السندي إلى أم جعفر فقال: الله الله في، إنه حفص بن غياث وأخاف من أمير المؤمنين أن يقول: بأمر من أخرجته، رديه إلى الحبس وأنا أكلم حفصاً في أمره فأجابته فرجع مرزبان إلى الحبس، فقالت أم جعفر لهارون: قاضيك هذا أحمق، حبس وكيلي واستخف به فمره لا ينظر في الحكم ويولي أمره إلى أبي يوسف، فأمر لها بكتاب وبلغ حفصاً الخبر، فقال للرجل: أحضرني شهوداً حتى أسجل لك على المجوسي بالمال، فجلس حفص فسجل على المجوسي وورد كتاب هارون مع خادم، فقال: هذا كتاب أمير المؤمنين، قال: مكانك نحن في شيء حتى نفرغ منه، فقال: كتاب أمير المؤمنين، فقال: انظر ما يقال لك، فلما فرغ حفص من السجل أخذ الكتاب من الخادم فقرأه، فقال: اقرأ على أمير المؤمنين السلام وأخبره أن كتابه ورد وقد أنفذت الحكم، فقال الخادم: قد والله عرفت ما صنعت، أبيت أن تأخذ كتاب أمير المؤمنين حتى تفرغ مما تريد، و والله لأخبرن أمير المؤمنين، بما فعلت، فقال له حفص: قل ما أحببت، فجاء الخادم فأخبر هارون فضحك، وقال: مر لحفص بن غياث بثلاثين ألف درهم، فركب يحيى بن خالد فاستقبل حفصاً منصرفاً من مجلس القضاء، فقال: أيها القاضي! قد سررت أمير المؤمنين اليوم وأمر لك بثلاثين ألف درهم، فما كان السبب في هذا؟ قال: تمم الله سرور أمير المؤمنين وأحسن حفظه وكلاءته، ما زدت على ما أفعل كل يوم، قال: علي ذلك؟ قال: ما أعلم إلا أن يكون سجلت على مرزبان المجوسي بما وجب عليه، فقال يحيى بن خالد: بهذا سر أمير المؤمنين، فقال حفص: الحمد لله كثيراً، فقالت أم جعفر لهارون: لا أنا ولا أنت إلا أن تعزل حفصاً، فأبى عليها، ثم ألحت عليه فعزله عن الشرقية وولاه القضاء على الكوفة فمكث عليها ثلاث عشرة سنة، وكان أبو يوسف لما ولي حفص قال لأصحابه: تعالوا نكتب نوادر حفص، فلما وردت أحكامه وقضاياه على أبي يوسف قال له أصحابه: أين النوادر التي زعمت نكتبها؟ فقال: ويحكم! إن حفصاً أراد الله فوفقه. قال ابن مخلد: قال أبو علي: سمعت أبا علي حسن بن حماد سجادة يقول: قال حفص بن غياث: والله ما وليت القضاء حتى حلت لي الميتة، ومات يوم مات ولم يخلف درهماً وخلف عليه تسع مائة درهم ديناً، قال سجادة: وكان يقال:ختم القضاء بحفص بن غياث.
لا يستحيي أحدكم من التعلم
حدثنا محمد بن الفتح القلانسي، قال: أخبرنا ابن أبي عمرو الشيباني، عن أبيه، عن أبي عبد الرحمن الطائي، قال: قال لي عبد الله بن زيد القيسي: بينا أنا واقف على رأس ابن هبيرة وبين يديه سماطان من وجوه الناس إذ أقبل شاب لم أر في مثل جماله وكماله، حتى دنا من ابن هبيرة فسلم عليه بالإمرة فقال: له: أصلح الله الأمير، امرؤ قدحته كربة، وأوحشته غربة، ونأت به الدار، وحل به عظيم، خذله أخلاؤه، وشمت به أعداؤه، وأسلمه البعيد، وجفاه القريب، فقمت مقاماً لا أرى لي معولاً و لا حازباً إلا الرجاء لله تعالى وحسن عائدة الأمير، وأنا أصلح الله الأمير ممن لا تجهل أسرته ولا تضيع حرمته، فإن رأى الأمير - أصلحه الله - أن يسد خلتي ويجبر خصاصتي يفعل، فقال ابن هبيرة: من الرجل؟ قال: من الذين يقول لهم الشاعر:
فزارة بيت العز والعز فيهم ... فزارة قيس حسب قيس فعالها
لها العزة القصوى مع الشرف الذي ... بناه لقيس في القديم رجالها
وهل أحد إن مد يوماً بكفه ... إلى الشمس في مجرى النجوم ينالها
لهيهات ما أعيا القرون التي مضت ... مآثر قيس واعتلاها فعالها
فقال ابن هبيرة: إن هذا لأدب حسن مع ما أرى من حداثة سنك، فكم أتى لك من السن؟قال:تسع وعشرون سنة، فلحن الفتى، فأطرق ابن هبيرة كالشامت به، ثم قال: أو لحان أيضاً مع جميل ما أتى عليه منطقك؟ شنته والله بأقبح العيب، قال: فأبصر الفتى ما وقع فيه، فقال: إن الأمير أصلحه الله عظم في عيني وملأت هيبته صدري،فنطق لساني بما لم يعرفه قلبي، فوالله إلا ما أقالني الأمير عثرتي عندما كان من زلتي، فقال ابن هبيرة: وما على أحدكم أن يتعلم العربية فيقيم بها أوده، ويحضر بها سلطانه، ويزين بها مشهده، وينوء بها على خصمه، أو يرضى أحدكم أن يكون لسانه مثل لسان عبده أو أكاره؟ وقد أمرنا لك بعشرة آلاف درهم، فإن كان سبقك لسانك وإلا فاستعن ببعض ما أوصلناه إليك، ولا يستحيي أحدكم من التعلم، فإنه لولا هذا اللسان لكان الإنسان كالبهيمة المهملة، وفي رواية أخرى: أو كالصورة الممثلة، قتل الله الشاعر حيث يقول:
ألم تر مفتاح الفؤاد لسانه ... إذا هو أبدى ما يقول من الفم
وكائن ترى من صاحب لك معجب ... زيادته أو نقصه في التكلم
لسان الفتى نصف ونصف فؤاده ... فلم يبق إلا صورة اللحم والدم
قال القاضي: في هذا الخبر: فإن رأى الأمير يفعل، فالأحسن: فإن رأى فعل، أو فإن ير يفعل ليتفق لفظ الشرط ولفظ الجزاء، وفعل الجزاء مستقبل في المعنى وإن أتى به بلفظ المضي، ومجيئه مختلط على ما في هذا الخبر صواب، وقال زهير:
ومن هاب أسباب المنايا ينلنه ... ولو نال أسباب السماء بسلم
اللحانون من الخاصةحدثنا إسماعيل بن علي الخطبي، قال: أخبرنا أبو أحمد البربوني، قال: قال أبو أيوب يعني سليمان بن أبي شيخ، وقال أبو الزناد: كان الوليد بن عبد الملك بن مروان لحاناً كأني أسمعه على منبر النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول: يا أهل المدينة. قال: وقال عبد الملك بن مروان لرجل من قريش: إنك لرجل لولا أنك لحان، فقال: وهذا ابنك الوليد يلحن، قال: لكن ابني سليمان لا يلحن، قال الرجل: وأخي فلان لا يلحن.
قال أبو أيوب: كان ربيعة الرأي لحاناً، ومالك بن أنس لحاناً.
حدثنا محمد بن يحيى الصولي، قال: حدثنا عمر بن عبد الرحمن السلمي قال: حدثنا المازني، قال: سمع أبو عمرو أبا حنيفة يتكلم في الفقه ويلحن فأعجبه كلامه واستقبح لحنه، فقال: إنه لخطاب لو ساعده صواب، ثم قال لأبي حنيفة: إنك أحوج إلى إصلاح لسانك من جميع الناس.
جاريتان تغلبان عيسى بن أبان
حدثني طاهر بن مسلم العبدي، قال: حدثني الغلابي، قال: حدثني أحمد بن سليمان قال: سمعت عيسى بن أبان، يقول: كنت عند المأمون فاستأذنته في الخروج إلى البصرة إلى عيالي، فقال: أمير المؤمنين أشوق إليك منك إلى عيالك، ولكن وجه إليهم فيحملوا، ثم قال لخادم على رأسه: قل لهم: يحثوا، قال: فإذا غلام أمرد قد أقبل لم تر عيني أحسن منه مغلف بالغالية يخطر حتى جاء فسلم، فقال له: مرحباً ثم أجلسه على فخذه اليمنى، ثم أقبل آخر مثله فأقعده على فخذه اليسرى فجعلت أنظر إلى حسنهما، فقال لي: يا عيسى! بأيهما ترى أن أبدأ، فقلت: أعيذ أمير المؤمنين بالله، لقد نزهه الله عن هذا وصانه، قال: يا عيسى ليس هو الذي ذهبت إليه، إنهما جاريتان اشتهيتهما في زي الغلمان، فقلت: أمير المؤمنين أعلى عيناً، فقالت الأولى: والله يا عيسى ما تحسن الحكومة، ألم تسمع إلى قول الله عز وجل: " السابقون الأولون " قال: فبقيت والله متعجباً وتمنيت أني كنت اهتديت إلى ما قالت بجميع ملكي، ثم قالت الأخرى: لا والله يا عيسى، ما تبصر من الحكومة شيئاً، ألم تسمع إلى قول الله عز وجل: " وللآخرة خير لك من الأولى " فتركته معهما وخرجت.
أبو نواس يأخذ معنى حديث شريف وينظمه شعراً
حدثنا محمد بن يحيى الصولي، قال: حدثنا محمد بن سعيد، قال: حدثني أبو ثمامة القيسي، قال: فحدثنا محمد بن المهلب، قال: حدثنا يزيد بن زريع، قال: رأيت أبا نواس عنده روح بن القاسم، فتحدث روح عن سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " القلوب جنود مجندة، فما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف " . قال أبو نواس: أنت لا تأنس بي وسأجعل هذا الحديث منظوماً بشعر، قلت: فإن قلت ذلك فجئني به، فجاءني فأنشدني:
يا قلب رفقاً، أجد منك ذا الكلف ... ومن كلفت به جان كما تصف
وكان في الحق أن يهواك مجتهداً ... بذاك خبر منا الغابر السلف
إن القلوب لأجناد مجندة ... لله في الأرض بالأهواء تعترف
فما تناكر منها فهو مختلف ... وما تعارف منها فهو مؤتلف
حدثنا الصولي: قال: حدثني محمد بن يزيد المهلبي ، قال: حدثني ابن مهدوية،قال: حدث أبو حفص عمر بن إبراهيم العدوي، قال: حدثنا محمد بن المنهال - إلا أنه قال الضرير - قال: حدثني يزيد بن زريع: وساق الخبر، إلا أنه زاد فيه قال يزيد بن زريع: وكان أبو نواس صبياً.
شرب نبيذاً ثم لا يدري أطلق امرأته أم لا، وحكم ذلك
حدثنا أبي رضي الله عنه، قال: حدثنا عبد الله بن أيوب بن زاذان القربي، قال: حدثنا أحمد بن محمد بن سعيد التميمي، قال: حدثنا عبد الرحمن بن معري، قال: جاء رجل إلى أبي حنيفة، فقال: إني شربت البارحة نبيذاً فلا أدري طلقت امرأتي أم لا، قال: المرأة امرأتك حتى تستيقن أنك طلقتها، ثم أتى سفيان الثوري فقال: يا أبا عبد الله! إني شربت البارحة نبيذاً فلا أدري طلقت امرأتي أم لا، قال: اذهب فراجعها فإن كنت قد طلقتها فقد راجعتها وإن لم تك طلقتها لم تضرك المراجعة شيئاً، ثم أتى شريك بن عبد الله، فقال: يا أبا عبد الله! إني شربت البارحة نبيذاً ولا أدري طلقت امرأتي أم لا، قال: اذهب فطلقها ثم راجعها، ثم أتى زفر بن الهذيل، فقال: يا أبا الهذيل! إني شربت البارحة نبيذاً ولا أدري طلقت امرأتي أم لا، قال: سألت غيري؟ قال: أبا حنيفة، قال: فما قال لك؟ قال: المرأة امرأتك حتى تستيقن أنك قد طلقتها، قال: الصواب قال، قال: فهل سألت غيره؟ قال: سفيان الثوري، قال: فما قال لك؟ قال: اذهب فراجعها فإن كنت قد طلقتها فقد راجعتها وإن لم تك طلقتها لم تضرك المراجعة شيئاً، قال: ما أحسن ما قال! قال: فهل سألت غيره؟ قال: شريك بن عبد الله، قال: فما قال لك؟ قال: اذهب فطلقها ثم راجعها، فضحك زفر وقال: لأضربن لك مثلاً، رجل مر بمثغب يسيل فأصاب ثوبه، قال لك أبو حنيفة: ثوبك طاهر وصلاتك تامة حتى تستيقن أمر الماء، وقال لك سفيان: اغسله فإن يك نجساً فقد طهر، وإن يك نظيفاً زاد نظافة، وقال لك شريك: اذهب فبل عليه ثم اغسله.
حذف ألف الاستفهام
قال القاضي: في هذا الخبر: ولا أدري طلقت امرأتي أم لا، والفصيح ولا أدري أطلقت، غير أنه قد جاء في مواضع بغير ألف اكتفاء بدلالة أم، قال امرؤ القيس:
تروح من الحي أم تبتكر ... وماذا يضرك لو تنتظر
وقال آخر:
لعمرك ما أدري وإن كنت دارياً ... شعيب بن سهم أم شعيب بن منقر
وقال ابن أبي ربيعة:
فوالله ما أدري وإن كنت دارياً ... بسبع رمين الجمر أم بثمان
وقد أجاز قوم حذف ألف الاستفهام وإن لم تكن أم في الكلام، وتأولوا مثل هذا في القرآن، كقوله " هذا ربي " واستشهدوا بقول الهذلي:
رفوني وقالوا يا خويلد لم ترع ... فقلت وأنكرت الوجوه: هم هم؟
وقول ابن أبي ربيعة:
ثم قالوا: تحبها؟ قلت بهراًعدد الرمل والحصى والتراب وأنكر هذا بعض نظار النحويين، إذ فيه عنده التباس الخبر والاستخبار، وقال: الأبيات
على الخبر دون الاستفهام.
وقد أحسن زفر في فصله بين هؤلاء الثلاثة فيما أفتوا به في هذه المسألة وفيما ضربه لسائله من الأمثل، وأما قول أبي حنيفة فهو محض النظر ومر الحق، ولا يجوز أن يحكم على امرئ في زوجته بطلاقها بعد صحة زوجيتها، ويقين العلم بثبوت النكاح بينه وبينها، بظن عرض له وحسبان أنه أوقع الطلاق في حال يتغير فيها الفهم، ويزول معها التمييز، وهو أبعد عند ذوي الأفهام، من أضغاث الأحلام، ورؤيا الراقد في المنام، من حال الصحة التي تلزم فيها الأحكام، وتجري فيها الأقلام، فأما ما قال سفيان الثوري فإنه أشار بالاستظهار والتوقفة والأخذ بالحزم والحيطة وهذه طريقة أهل الورع المتقين، وذوي الاستقصاء على أنفسهم من أهل الدين، وفتيا أبي حنيفة في هذا عين الحق وجل الفقه، وأي هاتين المحجتين سلك من نزلت به هذه النازلة، وعرضت له هذه الحادثة فهو مصيب محسن على ما بينا فيها من الفضل بين المنزلتين، وأما ما أفتى به شريك وتعجب زفر منه واقع في موقعه، ولا وجه في الصحة لما أشار به، وقد أصاب زفر أيضاً في المثل الذي ضربه له، وأرى أن شريكاً توهم أن الرجعة لا تتحقق إلا مع تحقق الطلاق، فأمر باستئناف تطليقة لتصح الرجعة بعدها، وهذا ما لا يحيل فساده، ولو كان كما نرى أنه توهمه لما أثرت الرجعة إلا في التطليقة التي أوقعها وتيقنها دون التي أشفق من تقدمها وهو على غير يقين منها، ولو أن رجلاً وكل رجلاً في طلاق زوجته، ثم غاب الوكيل فأشفق من تطليقه إياها عليه، وأشهد على رجعتها وهو غير عالم بوقوعها، ثم تبين أنها وقعت قبل مراجعته لصحت رجعته، وكذلك لو كتب إلى زوجته بطلاقها إذا وصل إليها كتابه، ثم أشهد على الرجعة بعد الوصول وقبل انقضاء العدة، لكانت الرجعة صحيحة لوقوعها بعد الطلاق الذي لم يكن عالماً به.؟
؟
المجلس الحادي والعشرون
حديث إنكم لن تسعوا الناس بأموالكمحدثنا محمد بن علي بن إسماعيل الأبلي، قال: حدثنا أحمد بن عبد الرحمن بن خلف الجيلاني، قال: حدثنا أبي: قال: حدثنا محمد بن إبراهيم بن ذي حمام، عن علي بن الفضل الحنفي ويكنى أبا الفضل، عن زيد، عن عبد الله بن سعيد، عن أبي هريرة، قال: قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إنكم لن تسعوا الناس بأموالكم ولكن يسعهم منكم بسط الوجه وحسن الخلق " .
التعليق على الحديثقال القاضي: هذا الذي ذكره رسول الله صلى الله عليه وسلم من أحسن الكلام وألطفه، وأبلغ بيان وأشرفه، ولقد أرشد أمته إلى الحاضر المتيسر، والموجود الذي ليس بمستصعب ولا متعذر، وقد جاء عنه وعن السلف بعده في حسن الخلق، وبسط الوجه، وتوطئة الكنف، وجميل المعاشرة، وكريم الصحبة، ما يطول ذكره ويتعب جمعه، وجاء عل النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " إن الرجل ليدرك بحسن خلقه درجة الصائم القائم، وإن خير ما أوتي المرء بعد الإيمان بالله عز وجل خلق حسن " وجاء عنه صلى الله عليه وسلم أيضاً في ذم سوء الخلق ما يطول ذكره، وأمر هذين الخلقين في فضله وحسنه، ونقض الآخر وقبحه، بين عند خواص العاقلين وعوام المتميزين، من أن يحتاج إلى الإطناب فيه والإسهاب في الاستشهاد عليه، وفقنا الله وإياكم من الأخلاق لكل ما يحمد ويستحسن، وأعاذنا مما يذم ويستهجن، فلن ندرك خيراً إلا بفضله ومعونته، ولن ندرأ شراً إلا بحوله وقوته.
عيش الفقراء وحساب الأغنياءحدثنا محمد بن الحسن بن دريد، قال: أخبرنا أبو حاتم، عن العتبي، عن سعيد، قال: سمعت أعرابياً، يقول: عجباً للبخيل المتعجل للفقر الذي منه هرب، والمؤخر للسعة التي إياها طلب، ولعله يموت بين هربه وطلبه، فيكون عيشه في الدنيا عيش الفقراء، وحسابه في الآخرة حساب الأغنياء، مع أنك لم تر بخيلاً إلا وغيره أسعد بماله منه، لأنه في الدنيا مهتم بجمعه، وفي الآخرة آثم بمنعه، وغيره آمن في الدنيا من همه، وناج في الآخرة من إثمه.
قال القاضي: وفيما حكى لي من منثور كلام ابن المعتز: بشر مال البخيل بحادث أو وارث، ومن منظومه:
يا مال كل جامع ووارث ... أبشر بريب حادث أو وارث
سبب نكبة أبي أيوب المورياني وزير المنصور
حدثنا الحسين بن القاسم الكوكبي، قال: حدثنا أبو الفضل العباس بن الفضل الربعي، قال: حدثني أبي: قال: كان أبو جعفر المنصور في بعض أسفاره في أيام بني أمية تزوج امرأة من الأزد بالموصل عن ضر شديد أصابه حتى أكرى نفسه مع الملاحين يمد في الحبل، حتى انتهى إلى الموصل أو فعل ذلك لأمر خافه على نفسه، فتنكر وأكرى نفسه في مدادي السفن، فخطب هذه المرأة ورغبها في نفسه، ووعدها ومناها وأخبرنا أنه نابه القدر، وأنه من أهل بيت شرف، وأنها إن تزوجته سعدت به، فلم يزل يمنيها بهذا وشبهه حتى أجابته وأقام معها، وكان يختلف في أسبابه ويجعل طريقه عليها بما رزقه الله عز وجل، ثم اشتملت على حمل، فقال لها: أيتها المرأة! هذه رقعة مختومة عندك لا تفتحيها حتى تضعي ما في بطنك، فإن ولدت ابناً فسميه جعفراً وكنيه أبا عبد الله، وإن ولدت بنتاً فسميها فلانة، وأنا عبد الله بن محمد ابن علي بن عبد الله بن عباس بن عبد المطلب، فاستري أمري فإنا قوم مطلوبون، والسلطان إلينا سريع، وودعها وخرج، فقضي أنها ولدت ذكراً وأخرجت الرقعة وقرأت النسب فسمته جعفراً وضرب الدهر على ذلك ما تسمع له خبراً، ونشأ الصبي مع أخواله وأهل بيت أمه، وكان كيساً ذهناً لقناً واستخلف أبو العباس فقيل للمرأة: إن كنت صادقة في رقعتك وكان من كتبها صادقاً فإن زوجك الخليفة أمير المؤمنين، قالت: ما أدري صفوا لي صفة هذا الخليفة، قالوا: غلام حين اتصل وجهه، قالت: ليس هو هو، قيل: فاستري إذاً أمرك، ولم يلبث أبو العباس أن مات واستحق عندها اليأس، وأقبل ابنها على الأدب فتأدب وظرف وكتب ونزعت به همته إلى بغداد، فدخل ديوان أبي أيوب كاتب المنصور، وانقطع إلى بعض أهله فأتى عليه زمان يتقوت الكتب ويتزيد في أدبه وفهمه وخطه، حتى بلغ أن صار يكتب بين يدي أبي أيوب، إلى أن تهيأ أن خرج خادم يوماً إلى الديوان يطلب كاتباً يكتب بين يدي المنصور، فقال أبو أيوب للغلام: خذ دواتك وقم واكتب بين يدي أمير المؤمنين، فدخل الغلام فكتب وكانت تتهيأ من أبي جعفر إليه النظرة بعد النظرة يتأمله، وألقيت عليه محبته واستجاد خطه واسترشق فهمه، فلبث زماناً لا يزال الخادم قد خرج فيقول: يا غلام خذ دواتك وقم واكتب بين يدي أمير المؤمنين، واستراح أبو أيوب إلى مكانه، ورأى أنه قد حمل عنه ثقلاً، وبر الغلام ووصله وكساه كسوة تصلح أن يدخل بها إلى أمير المؤمنين، ثم إن أبا جعفر قال للغلام يوماً: ما اسمك؟ قال: جعفر، قال: ابن من؟ فسكت متحيراً، قال: ابن من ويحك؟ قال: ابن عبد الله قال: فأين أبوك؟ قال: لم أره ولم أعرفه، ولكن أمي أخبرتني أن أبي شريف، وأن عندها رقعة بخطه فيها نسبه، عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس بن عبد المطلب، فساعة ذكر الرقعة تغير وجه المنصور، فقال: وأين أمك؟ قال: بالموصل، قال: وأين تنزلون؟ قال: في موضع كذا، قال: فتعرف فلاناً؟ قال: نعم هو إمام مسجد محلتنا، قال: أفتعرف فلاناً؟ قال: نعم بقال في سكتنا، فلما رأى الغلام أبا جعفر ينزع بأسماء قوم يعرفهم أدركته هيبة له، وجزع وتدمع، فأدركت أبا جعفر الرقة عليه فلم يتمالك أن قال: فلانة بنت فلان من هي منك؟ قال: أمي، قال: ففلانة؟ قال: خالتي، قال: ففلان؟ قال: خالي، فضمه إليه وبكى، وقال: يا غلام! لا يعلمن أبو أيوب ولا أحد من خلق الله تعالى ما دار بيني وبنيك، انظر انظر احذر احذر، فنهض الغلام فخرج، فقال له أبو أيوب لقد احتبست عند أمير المؤمنين، قال: كتبت كتباً كثيرة وأملها علي، قال: فأين هي؟ قال: جعلها نسخاً يتردد فيها حتى يحكمها ثم تخرج إلى الديوان ثم إن أبا جعفر جعل يقول في بعض الأيام لأبي أيوب: هذا الغلام الذي يكتب بين يدي كيس فاستوص به، قال: فاتهم أبو أيوب الغلام أنه يلقي إلى أبي جعفر الشيء بعد الشيء من خبره، ثم لم يلبث أن سأله عنه مرة بعد مرة فقذف في قلب أبي أيوب بغض الغلام، وأنه يقوم مقامه إن فقده أبو جعفر، وقذف في قلبه أنه يسعى عليه وأنه يخرج أخباره، فجعل إذا خرج الخادم يطلب كاتباً بعث معه غيره وأبو جعفر يزداد ولهاً إلى الغلام ويجن جنوناً وليس يمنعه من إدنائه وإظهار أمره إلا لأمر يريده، فلما رأى أن أبا أيوب يحبسه عنه عناداً، قال للخادم: اخرج إلى الديوان فجئني بفلان الغلام الذي كان يكتب بين يدي، فإن بعث معك أبو أيوب بغيره فقل:
لا، أمرني أمير المؤمنين ألا يدخل عليه غيره، ففعل الخادم ذلك فاستحق في قلب أبي أيوب ما حذره وحدثته به نفسه، فقال الغلام: يا أمير المؤمنين - جعلني الله فداك - قد تعرفت من أبي أيوب البغض والاستثقال بمكاني، وله غوائل لا يحيط بها علمي وأنا أخافه على نفسي، فقال له أبو جعفر: بارك الله عليك، فما أخطأت الذي في نفسي وهذا كله يا بني قد جال في صدري، فإذا كان غد فتعرض لأن يغلظ لك، فإذا أغلظ فقم فانصرف كأنك مغضب، ولا تعد إلى الديوان واجعل وجهك إلى أمك، وأوصل إليها هذا العقد وهذا الكيس وكتابي هذا، واحمل أمك ومن اتبعها من قرابتك وأقبل فانزل موضع كذا، فإني منفذ إليك خادماً يتفقد أمورك ويعرف خبرك، ولا تطلعن أحداً من الخلق طلع ما معك، وامض بهذا المال وبهذا العقد وأحرزه أولاً قبل رجوعك إلى الديوان، ثم قال للخادم: أخرجه من باب كذا وكذا، فخرج الغلام فأحرز ما كان معه ثم رجع إلى الديوان، وأبو أيوب في فكره من احتباسه عند المنصور، ورجع الغلام بوجه بهج مسرور لا يخفي ذلك عليه وظهور الفرح في وجهه وشمائله، فقال أبو أيوب: أحلف بالله لقد رجع هذا الغلام بغير الوجه الذي مضى به، ولقد دار بينه وبين أمير المؤمنين من ذكرى ما سره، واستشعر الوحشة منه وصرف أكثر عمله عنه، ثم لم يلبث أن أغلظ له، فقال الغلام: أنا إنسان غريب أطلب الرزق وأنت تستخف بي، فكأني قد ثقلت عليك فأنتحي عنك قبل أن تطردني، ثم قام فانصرف وافتقده أبو أيوب أياماً، ورأى أن أبا جعفر لا يسأل عنه ولا يذكره، ثم إن نفس أبي أيوب نازعته إلى علم حقيقة خبره، فأرسل من يسأل عنه في الموضع الذي كان نازلاً فيه، فقيل له: إنه قد تهيأ للسفر وتجهز جهازاً حسناً وشخص إلى أهله بالموصل، فقال أبو أيوب في نفسه: ومن أين له ما يتجهز به، وكم مبلغ ما ارتزق معي وارتفق به؟ لهذا الأمر نبأ، وجعلت نفسه تزداد وحشة منه ومن خبره إلى أن قيل له: قد كان أبو جعفر وصله بمال ووهب له شيئاً، فقال في نفسه: هذا الذي ظننت وقد ربصه لمكاني وينبغي أن يكون استأذنه في أن يخرج إلى أهله فيلم بهم ثم يرجع إليه فيقلده مكاني، فقال لرجل من أصحابه: اخرج إلى طريق الموصل قرية قرية براً وبحراً، فإذا عرفت موضعه فاقتله وجئني بما معه، فشخص وتهيأ، ثم إن الغلام لما خرج عن بغداد رأى أنه قد أمن فقصر في مسيره، وكان يقيم في الموضع فيستطيبه اليوم واليومين والأكثر والأقل، فلحقه رسول أبي أيوب وعرفه، فباتا بقرية فقام إليه الرسول فخنقه وطرحه في البئر وأخذ خرجه وخرائط كانت معه، وركب دابة له ورجع إلى أبي أيوب وسلم ذلك إليه وشرح الخبر له، ففتش متاعه أبو أيوب فإذا المال والعقد فعرفه، وإذا كتاب المنصور بخطه إلى أمه فوجم أبو أيوب وندم وعلم أنه قد عجل وأخطأ، وأن الخبر لم يكن كما ظن، وعزم على الحلف والمكابرة إن عثر على شيء من أمره، وأبطأ خبر الغلام على أبي جعفر، واستبطأه في الوقت الذي ضرب له، فدعا خادماً من ثقاته ورجلاً من خاصته، فقال لهما: استقرئا المنازل إلى الموصل منزلاً منزلاً وقرية قرية، وأعطيا صفة الغلام حتى تدخلا الموصل، ثم اقصدا موضع كذا من الموصل فسلا عن فلانة، ووصف لهما كل ما أراد ففعلا، فلما انتهيا إلى الموضع الذي أصيب فيه الغلام أعلما خبره، وذكروا الوقت الذي أصيب فيه فإذا التاريخ بعينه، ثم مضيا إلى الموصل فسألا عن أمه فوجداها أشد خلق الله تعالى ولهاً إلى ابنها، وحاجة إلى علم خبره، فأطلعاها طلع حاله، وأمراها أن تستر أمرها، ثم رجعا إلى أبي جعفر بجملة خبره، فكادت أمه أن تقتل نفسها ولم ترد الدنيا بعده، وكان المنصور يذكره فيكاد ذكره يصدع قلبه، وأجمع أبو جعفر على الإيقاع بأبي أيوب عند ذلك، فاستصفى ماله ومال أهل بيته، ثم قتلهم جميعاً وأباد عصراءهم، وكان إذا ذكر أبا أيوب لعنه وسبه، وقال: ذاك قاتل حبيبي.، أمرني أمير المؤمنين ألا يدخل عليه غيره، ففعل الخادم ذلك فاستحق في قلب أبي أيوب ما حذره وحدثته به نفسه، فقال الغلام: يا أمير المؤمنين - جعلني الله فداك - قد تعرفت من أبي أيوب البغض والاستثقال بمكاني، وله غوائل لا يحيط بها علمي وأنا أخافه على نفسي، فقال له أبو جعفر: بارك الله عليك، فما أخطأت الذي في نفسي وهذا كله يا بني قد جال في صدري، فإذا كان غد فتعرض لأن يغلظ لك، فإذا أغلظ فقم فانصرف كأنك مغضب، ولا تعد إلى الديوان واجعل وجهك إلى أمك، وأوصل إليها هذا العقد وهذا الكيس وكتابي هذا، واحمل أمك ومن اتبعها من قرابتك وأقبل فانزل موضع كذا، فإني منفذ إليك خادماً يتفقد أمورك ويعرف خبرك، ولا تطلعن أحداً من الخلق طلع ما معك، وامض بهذا المال وبهذا العقد وأحرزه أولاً قبل رجوعك إلى الديوان، ثم قال للخادم: أخرجه من باب كذا وكذا، فخرج الغلام فأحرز ما كان معه ثم رجع إلى الديوان، وأبو أيوب في فكره من احتباسه عند المنصور، ورجع الغلام بوجه بهج مسرور لا يخفي ذلك عليه وظهور الفرح في وجهه وشمائله، فقال أبو أيوب: أحلف بالله لقد رجع هذا الغلام بغير الوجه الذي مضى به، ولقد دار بينه وبين أمير المؤمنين من ذكرى ما سره، واستشعر الوحشة منه وصرف أكثر عمله عنه، ثم لم يلبث أن أغلظ له، فقال الغلام: أنا إنسان غريب أطلب الرزق وأنت تستخف بي، فكأني قد ثقلت عليك فأنتحي عنك قبل أن تطردني، ثم قام فانصرف وافتقده أبو أيوب أياماً، ورأى أن أبا جعفر لا يسأل عنه ولا يذكره، ثم إن نفس أبي أيوب نازعته إلى علم حقيقة خبره، فأرسل من يسأل عنه في الموضع الذي كان نازلاً فيه، فقيل له: إنه قد تهيأ للسفر وتجهز جهازاً حسناً وشخص إلى أهله بالموصل، فقال أبو أيوب في نفسه: ومن أين له ما يتجهز به، وكم مبلغ ما ارتزق معي وارتفق به؟ لهذا الأمر نبأ، وجعلت نفسه تزداد وحشة منه ومن خبره إلى أن قيل له: قد كان أبو جعفر وصله بمال ووهب له شيئاً، فقال في نفسه: هذا الذي ظننت وقد ربصه لمكاني وينبغي أن يكون استأذنه في أن يخرج إلى أهله فيلم بهم ثم يرجع إليه فيقلده مكاني، فقال لرجل من أصحابه: اخرج إلى طريق الموصل قرية قرية براً وبحراً، فإذا عرفت موضعه فاقتله وجئني بما معه، فشخص وتهيأ، ثم إن الغلام لما خرج عن بغداد رأى أنه قد أمن فقصر في مسيره، وكان يقيم في الموضع فيستطيبه اليوم واليومين والأكثر والأقل، فلحقه رسول أبي أيوب وعرفه، فباتا بقرية فقام إليه الرسول فخنقه وطرحه في البئر وأخذ خرجه وخرائط كانت معه، وركب دابة له ورجع إلى أبي أيوب وسلم ذلك إليه وشرح الخبر له، ففتش متاعه أبو أيوب فإذا المال والعقد فعرفه، وإذا كتاب المنصور بخطه إلى أمه فوجم أبو أيوب وندم وعلم أنه قد عجل وأخطأ، وأن الخبر لم يكن كما ظن، وعزم على الحلف والمكابرة إن عثر على شيء من أمره، وأبطأ خبر الغلام على أبي جعفر، واستبطأه في الوقت الذي ضرب له، فدعا خادماً من ثقاته ورجلاً من خاصته، فقال لهما: استقرئا المنازل إلى الموصل منزلاً منزلاً وقرية قرية، وأعطيا صفة الغلام حتى تدخلا الموصل، ثم اقصدا موضع كذا من الموصل فسلا عن فلانة، ووصف لهما كل ما أراد ففعلا، فلما انتهيا إلى الموضع الذي أصيب فيه الغلام أعلما خبره، وذكروا الوقت الذي أصيب فيه فإذا التاريخ بعينه، ثم مضيا إلى الموصل فسألا عن أمه فوجداها أشد خلق الله تعالى ولهاً إلى ابنها، وحاجة إلى علم خبره، فأطلعاها طلع حاله، وأمراها أن تستر أمرها، ثم رجعا إلى أبي جعفر بجملة خبره، فكادت أمه أن تقتل نفسها ولم ترد الدنيا بعده، وكان المنصور يذكره فيكاد ذكره يصدع قلبه، وأجمع أبو جعفر على الإيقاع بأبي أيوب عند ذلك، فاستصفى ماله ومال أهل بيته، ثم قتلهم جميعاً وأباد عصراءهم، وكان إذا ذكر أبا أيوب لعنه وسبه، وقال: ذاك قاتل حبيبي.
جميل وقول أحدهم فيه لن يفلح هذا أبداً
حدثني أبو المنذر، قال: حدثني شيخ من أهل وادي القرى، قال: لما استعدى آل بثينة مروان بن الحكم على جميل وطلبه ربعي ابن دجاجة العبدي صاحب تيماء هرب إلى أقاصي بلادهم، فأتى رجلاً من بني عذرة شريفاً وله بنات سبع كأنهن البدور جمالاً، فقال: يا بناتي! تحلين بجيد حليكن والبسن جيد ثيابكن ثم تعرضن لجميل فإني أنفس على مثل هذا من قومي، فكان جميل إذا تزين ورآهن أعرض بوجهه فلا ينظر إليهن، ففعلن ذلك مراراً وفعله جميل، فلما علم ما أريد بهن أنشأ يقول:
حلفت لكي تعلمن أني صادق ... وللصدق خير في الأمور وأنجح
لتكليم يوم من بثينة واحد ... ورؤيتها عندي ألذ وأصلح
من الدهر أو أخلو بكن وإنما ... أعالج قلباً طامحاً حيث يطمح
قال: فقال لهن أبوهن: ارجعن، فوالله لا يفلح هذا أبداً.
أبو إسحاق الفزاري يرد على اتهام الرشيد لهحدثنا محمد بن القاسم الأنباري، قال: حدثني محمد بن المرزبان، قال: حدثنا يزيد بن محمد المهلبي، قال: حدثنا الأصمعي، قال: كنت جالساً بين يدي هارون الرشيد أنشده شعراً، وأبو يوسف القاضي جالس على يساره، فدخل الفضل بن الربيع، فقال: بالباب أبو إسحاق الفزاري، فقال: أدخله، فلما دخل قال: السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته، فقال له الرشيد: لا سلم الله عليك ولا قرب دارك ولا حيا مزارك، قال: لم يا أمير المؤمنين؟ قال: أنت الذي يحرم لبس السواد، قال: يا أمير المؤمنين، من أخبرك بهذا؟ لعل ذا أخبرك؟ وأشار إلى أبي يوسف - فعلى هذا لعنة الله وعلى أستاذه من قبله، والله يا أمير المؤمنين لقد خرج إبراهيم على جدك المنصور فخرج أخي معه، وعزمت على الغزو فأتيت أبا حنيفة فذكرت ذلك له، فقال لي: مخرج أخيك أحب إلي مما عزمت عليه من الغزو، ووالله ما حرمت السواد. فقال الرشيد: فسلم الله عليك وقرب دارك وحيا مزارك، اجلس يا أبا إسحاق، يا مسرور! ثلاثة آلاف دينار لأبي إسحاق، فأتى بها ووضعها في يده وخرج وانصرف، فلقيه ابن المبارك فقال: من أين أقبلت؟ فقال من عند أمير المؤمنين، وقد أعطاني هذه الدنانير، وأنا عنها غني، قال: فإن كان في نفسك منها شيء فتصدق بها فما خرج من سوق الرافقة حتى تصدق بها كلها.
كأس أم حكيمحدثنا محمد بن يحيى الصولي، قال: حدثني عون بن محمد الكندي، قال حدثنا إبراهيم بن إسماعيل، أبو أحمد إبراهيم، قال: ركب الرشيد يوماً بكراً فنظر إلى محمد الأمين يميل به سرجه، فقال: ما أصارك إلى هذا يا محمد؟ قال: أصارني إليه البارحة:
عللاني بعاتقات الكروم ... واسقياني بكأس أم حكيم
قال: فانصرف يا محمد، فلما رجع الرشيد وجه إليه بخادم ومعه كأس أم حكيم، وكان كأساً كبيراً فرعونياً، قد جعل فيه طوق ذهب ومقبض من ذهب، فإذا هو مملوء دنانير، وقال له: يقول لك أمير المؤمنين بعثت إليك بالذي أسهرك لتشرب فيه وتنتفع بما يصل معه، قال: فأعطى الخادم قبضة من دنانير، وفرق نصفه ما فيه على جلسائه وأعطى النصف خازنه وشرب في القدح ثلاثة أرطال رطلاً بعد رطل ورده، فكان مبلغ الدنانير عشرة آلاف دينار.
متى يقال الليلة الماضية، ومتى يقال البارحةقال القاضي: جاء في هذا الخبر أن الأمين قال: بكراً أصابني البارحة، وهذا كلام مستفيض في العامة إطلاقهم إياه في خطابهم وفيما يروونه عن غيرهم، فأما أهل العلم بالعربية فيذهبون إلى أنه يقال في أول النهار إلى زوال الشمس لليلة الماضية كان كذا وكذا الليلة، فإذا زالت الشمس قالوا حينئذ: البارحة، وفي هذا الخبر ذكر الكأس، وقد ذهب قوم إلى أنها اسم للخمر واسم للإناء، قال الله تعالى ذكره: " يطاف عليهم بكأس من معين، بيضاء لذة للشاربين " وقيل إنها في قراءة عبد الله: صفراء، وقال الفراء: الكأس: الإناء بما فيه، فإذا أخذ ما عليه وبقي فارغاً رجع إلى اسمه إن كان طبقاً أو خواناً أو غير ذلك، وقال بعض أهل التأويل: الكأس الخمر، قال الله عز وجل: " إن الأبرار يشربون من كأس كان مزاجها كافوراً " وقال جل ذكره: " ويسقون فيها كأساً كان مزاجها زنجبيلاً " وأنشد أبو عبيدة:
وما زالت الكأس تغتالنا ... وتذهب بالأول الأول
وقال الأعشى:
وكأس شربت على لذة ... وأخرى تداويت منها بها
وقال آخر:
ومن لم يمت عبطة يمت هرماً ... الموت كأس والمرء ذائقها
العبطة: أن يموت الرجل من غير علة، ومن هذا قولهم: دم عبيط إذا كان طرياً قد خرج من جسم صحيح، وقال أبو حاتم السجستاني: لا يقال للموت كأس، قال القاضي: وهذا خطأ منه، قد يضاف الكأس إلى المنية، وقد توصف المنية بأنها كأس كما توصف بأنها رحى، ويضاف إليها الرحى فيقال: المنية رحى دائرة على الخلق، وللمنية على الناس رحى دائرة، وللموت كأس مرة، والموت كأس كريهة، ويقال شرب فلان كأس المنية، فيضاف الكأس إليها، قال مهلهل:
ما أرجى العيش بعد ندامي ... قد أراهم سقوا بكأس حلاق
أي بكأس المنية، لأن حلاق من أسماء المنية بمنزلة حذام وقطام، ورواه بكأس خلاق بالخاء فقال: يعني بكأس تصيبهم من الموت وهذا أكثر وأشهر من أن يخيل على عالم بالعربية، وأعجب بذهابه على أبي حاتم مع سعة معرفته، ولكنهم بشر وأنى إنسان يحيط بالعلم كله ولا يخفى عليه شيء من جليه فضلاً عن غامضه وخفيه، وقد قال الشاعر في هذا المعنى:
أين القرون التي عن حظها غفلت ... حتى سقاها بكأس الموت ساقيها
وقال السجستاني: في البيت الذي فيه الموت إنما هو الموت كأس، قال: وقطع ألف الوصل لأنها في مبتدأ النصف الثاني وهذا يحتمل، وقال: أنشدناه الأصمعي لبعض الخوارج، وقال: ليس لأمية بن أبي الصلت، قال القاضي: وقد روت الرواة هذا الشعر لأمية بن أبي الصلت وأما المعنى الذي ذكره السجستاني من تجويز قطع ألف الوصل فقد جاء في الشعر كثيراً كقول الشاعر:
بأبي امرؤ ألشام بيني وبينه ... أتتني ببشر برده ورسائله
وقال آخر:
إذا جاوز الإثنين سر فإنه ... ببث وتكثير الوشاة قمين
وقال آخر:
ألا لا أرى إثنين أحسن شيمة ... على حدثان الدهر مني ومن جمل
وأحسن هذا الباب ما كان في الأوائل والأركان والأنصاف قال حسان:
لتسمعن وشيكاً في ديارهم ... الله أكبر يا ثارات عثمانا
القضاة في نظر أبي يوسفحدثنا محمد بن الحسن بن زياد المقري، قال: حدثنا عبد الله بن الحسن الحراني، قال: حدثنا علي بن الجعد، قال: سمعت أبا يوسف القاضي يقول: ما ولي القضاء أحد أفقه في دين الله ولا أقرأ لكتاب الله ولا أعف عن الأموال من ابن أبي ليلى قال: فقلت: فابن شبرمة، قال: رجل مكثار، قال علي: وولى حفص بن غياث القضاء من غير مشورة أبي يوسف فاشتد عليه فقال بن الوليد والحسن اللؤلؤي تتبعا قضاياه، فتتبعناها فلما نظر إليها، قال: هذه قضايا ابن أبي ليلى، ثم قال لهما: تتبعا الشروط والسجلات ففعلا، فلما نظر فيها، قال حفص بن غياث ونظراؤه يعانون قيام الليل.
كم كان يصلي بهم لو أكلوا اللوزينجحدثنا محمد بن مزيد البوشنجي، قال: سمعت سفيان بن وكيع بن الجراح، يقول: سمعت سفيان بن عيينة، يقول: دعانا سفيان الثوري يوماً فقدم إلينا تمراً ولبناً خاثراً فلما توسطنا الأكل قال: قوموا بنا نصلي ركعتين شكراً لله تعالى قال سفيان بن وكيع: لو كان قدم إليهم شيئاً من هذا اللوزينج المحدث لقال لهم: قوموا بنا نصلي التراوح.
إغباب الزيارةأنشدنا محمد بن أبي الأزهر، قال: أنشدني محمد بن يزيد المبرد:
عليك بإقلال الزيارة إنها ... تكون إذا دامت إلى الهجر مسلكاً
فإني رأيت القطر يسلم دائماً ... ويسأل بالأيدي إذا هو أمسكا
قال ابن أبي الأزهر: فأنشدت هذين البيتين أبا بشر البندنيجي بإسكان بني سعيد فقال: هما في شعر طويل، وأنشدني القصيدة وهي طويلة، فقلت له: أنشدني المبرد هذين البيتين منذ ثلاثين سنة، قال: قد قلتهما أكثر من سبعين سنة، قال القاضي: في نحو هذا المعنى قول أبي تمام:
وطول مقام المرء في الحق مخلق ... لديباجتيه فاغترب يتجدد
فإني رأيت الشمس زيدت محبة ... إلى الناس إذ ليست عليهم بسرمد
ومن البيان الحسن في هذا المعنى، ما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم من قوله: " زر غباً تزدد حباً " .
أنشدنا عمر بن الحسن بن علي بن مالك الشيباني، قال: أنشدني أبو بكر القرشي، قال: أنشدني الحسين بن عبد الرحمن:
هل الدهر إلا ساعة ثم تنقضي ... بما كان فيها من عناء ومن خفض
فهونك لا تحفل بمشتاة عارض ... ولا فرحة سرت فكلتاهما تمضي
المجلس الثاني والعشرون
فضل العقلحدثنا عبد الله بن محمد بن أبي سعيد، أبو بكر البزاز، قال: حدثنا محمد بن عبد النور الحراني، قال: حدثنا أحمد بن مفضل، قال: حدثنا سفيان، عن حبيب بن أبي ثابت، عن عاصم بن ضمرة، عن علي رضي الله عنه، قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إذا تقرب الناس إلى خالقهم بأنواع البر فتقرب إليه بأنواع العقل، تسبقهم بالدرجات والزلف عند الناس في الدنيا وعند الله في الآخرة " .
قال القاضي: وهذا ما يبين به شرف العقل وفضله، وأن الأعمال الصالحة تزكو به ويتضاعف ثواب عاملها بحسب حظهم منه، وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " إن الرجل ليكون من أهل الصلاة وأهل الصيام وأهل الجهاد - حتى عد سهام الخير - ويجازي إلا على قدر عقله " وروى عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: " ما استودع الله عز وجل عبداً عقلاً إلا استنقذه به يوماً ما " .
وما روي عن العقل وفضله، وشرف منزلته، وعظيم نفعه، أكثر من أن يحصى.
وقد حدثنا الحارث بن محمد بن أبي أسامة قال: حدثنا محمد بن حسين، عن عمرو بن حمزة، قال: حدثنا صالح المري، عن حسن، عن أنس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن الحكمة تزيد الشريف شرفاً، وترفع العبد المملوك حتى تجلسه مجالس الملوك " . وإن في هذا ما يرغب في اقتباس العلم واكتساب الحكمة ورفع المرء قدره عن طبقة العوام، ومنزلة الهمج الطغام، فكم ذي علم ومعرفة وحكمة وبصيرة، قد نبه وسما وارتفع وعلا، وصار متبوعاً معظماً وزعيماً مقدماً، وكم من ذي قدر وحسب، ومنصب ونسب، ومال ونشب، وشرف في أصله، ومنزلة في أهله، قد هدم ما بناء له أهله وشيدوه، وخفض ما رفعوه، وحط ما علوه وعمدوه، وقد روينا أن بعض ولد روح بن حاتم بن قبيصة بن المهلب وجد في القبة التي بالبصرة، وهي التي يقال لها " خضراء روح " على سوءة، فقيل له: ويحك أفي محل شرفك؟! فقال:
ورثنا المجد عن آباء صدق ... أسأنا في ديارهم الصنيعا
ومما يستحسن في هذا المعنى قول القائل:
إن الفتى من يقول هأنذا ... ليس الفتى من يقول كان أبي
ولله در القائل:
لسنا وإن أحسابنا كرمت ... أبداً على الأحساب نتكل
نبني كما كانت أوائلنا تبني ... ونفعل مثل ما فعلوا
وقد روينا أن زيد بن علي تمثل بهذين البيتين، ولقد كان رضوان الله عليه من أعلام الأبرار والأئمة الأخيار، سلك سبيل سلفه، واقتفى آثارهم فارتفع واعتلى، وأم أنوارهم فاستبصر واهتدى، ورفع قواعد بنيانهم، وشيد وثيق أركانهم، واتبع سبيلهم في نصرة حزب الإسلام وأوليائه، ومحاربة حرب الدين وأعدائه، وغضب لله جل جلاله من طغيان المترفين وعدوان المسرفين، فجاهد في سبيل ربه بنفسه ومن أطاعه من أهله المتقين، وأوليائه من أماثل المسلمين، وإخوانه في الملة والدين، وأبدى صفحته، وبذل في ذات الله ماله وصحبته، فقضى الله تعالى له بالتوفيق والسعادة، وختم له بالفوز والشهادة، ونقله إلى دار كرامته، وجعل أعداؤه بغرض الانقلاب إلى دار عذابه ونقمته.
حدثنا ابن دريد، قال: أخبرنا أبو معاذ المؤدب خلف بن أحمد، قال سمعت المازني ينشد:
ولرب ذي مال تراه مباعداً ... كالكلب ينبح من وراء الباب
وترى الأديب وإن دهته خصاصة ... لا يستخف به على الأبواب
ولقد أحسن ابن الرومي في قوله:
فلا تفتخر إلا بما أنت فاعل ... ولا تحسبن المجد يورث كالنسب
وليس يسود المرء إلا بفعله ... وإن عد آباء كراماً ذوي حسب
إذا العود لم يثمر وإن كان شعبة ... من المثمرات اعتده الناس في الحطب
وهذا باب يتسع ويكثر جمعه، ولنا فيه رسالة تشتمل على جملة كثيرة منه.
خبر سعد العشيرة
حدثنا محمد بن الحسن بن دريد، قال: أخبرني عمي، عن أبيه، عن ابن الكلبي، عن أبيه، قال: وفد سعد العشيرة في مائة من ولده إلى بعض ملوك حمير، وكان سعد قد عمر مائة وخمسين سنة، فلما دخل على الملك قال له: ما معك يا سعد؟ قال: عشيرتي، قال: أنت سعد العشيرة. فسمي سعد العشيرة، قال له الملك: إنه قد بلغني عنك رجاحة لب، ورصانة حلم، وأصالة رأي، ونفاذ في الأمور، مع ما جربت من تصرف الدهور، فهل أنت مخبري عما أسائلك عنه؟ فقال: أيها الملك: إن عقلي وقلبي مضغتان مني، حراهما الدهر كما حرى سائر جسمي، ولكني أبو روية ثاقبة ما خذلتني منذ أيدتني، فليقل الملك أسمع، فإن أوفق للصواب فبيمن الملك، وإن يخني الجواب، فبما ثلمته مني الأحقاب، قال له: يا سعد! ما صلاح الملك؟ قال: أيها الملك! معدلة شائعة، وهيبة وازعة، ورعية طائعة، فإن في المعدلة حياة الأنام، وفي الهيبة نفي الظلام، وفي طاعة الرعية التآلف والالتئام. قال له الملك: يا سعد! فمن أحمد الملوك إيالاً، وأحسنهم عند الرعية حالاً؟ قال: من كثرت في اصطناع المعروف رغبته، ومالت إلى الأضياف رحمته، وتخول بالمراعاة رعيته، واعتدلت بهيبته رأفته، قال: يا سعد! يستدرك عنه الملوك حسن المكانة؟ وتستبدل منه الفظاظة بالليانة؟ قال: بالمبالغة في طاعته، والانتهاء إلى مشيئته، ومجانية مسخطته، والتقرب إليه بموافقته، قال: فبم تؤمن سطوة الملك ويحتجب من بوادر عقوبته؟ قال: بالنصيحة غير الممذوقة، وأداء الأمانة غير المشوبة بالخيانة، وقطع لسان العتاب بالحيطة بالمغيب، والتحفظ عن إفشاء الكلمة في الطعن عليه، فإن الكلام إذا لفظه اللسان لم تملك إعادته إلى القلب، ولم يؤمن منه عثرة غير مقالة، وكبوة غير مغتفرة، قال: فأين يوجد الرأي الأصيل، والصواب الأليل؟ قال: عند الناصح اللبيب، الحازم الأريب، الذي إعلانه ككمنونه، ومبتذله كمصونه، قال: فبم يدرك علم الأمر في الولاج المازول والرأي المستور في مستقر التامور؟ قال: بإحدى خلتين، إما بالعشيرة المماطلة، والتجربة المصاولة، أو بالمحبة البالغة، والبصيرة الثاقبة، قال: من أحق الناس بالمعاونة على دهره وأحراهم بالمساعدة على أمره؟ قال: من جعلك سنداً لظهره، وألقى إليك مقاليد أمره، وجعل رجاءك عامر صدره، قال: بم تتأكد محبة الخاصة، ويستعطف رضا العامة؟ قال: ببسط يد العدل، أو إطلاق عقل البذل، والتجافي عن العثار، ما لم يخرج ذلك إلى انتشار، قال: فبم تحسن أحدوثة الملك؟ قال: بإرجائه العقوبة في سلطان الغضب، وتعجيل مكافأة المحسن قبل الطلب، وتسليط الحلم والأناة على الطيش والنزق واستصلاح أولى الانقياد لاستجلاب أولى الرهق.
معنى الألفاظ اللغويةقال القاضي: قول سعد العشيرة في عقله وقلبه: حراهما الدهر كما حرى سائر جسمي معناه نقصهما، يقال: حرى الشيء يحرى أي نقص، كما قال القائل:
في جسد ينمي وعقل يحري
وفي قوله: فبما ثلمته مني الأحقاب يعني السنين، قال الله عز وجل: " لابثين فيها أحقابا " والواحد حقب، قال الله تعالى: " أو أمضي حقبا " وقيل إن الحقب ثمانون عاماً، وقيل له: حقبة من الدهر يراد به المدة الطويلة، قال متم بن نويرة: يرثي أخاه مالكاً:
وكنا كندماني جذيمة حقبة ... من الدهر حتى قيل لن يتصدعا
وقوله: أحمد الملوك إيالا: يعني الإصلاح والتدبير والسياسة، ويقال فلان حسن الإيالة إذا وصف بالإحسان في سياسة أمره، وقوله: الولاج المأزول يعني المدخل الضيق، ويقال: أصاب القوم أزل أي شدة وضيق.
قال الشاعر:
وإن أفسد المال الجماعات والأزل
فأما الإزل بكسر الهمزة: فالكذب، كما قال ابن دارة:
يقولون إزل حب ليلى وودها ... وقد كذبوا ما في مودتها إزل
وقوله: التامور يريد القلب، ويعبر بالتامور عن النفس وهو الدم، يقال نفس سائلة أي دم، والنفاس والنفساء من هذا.
الوليد يوافق الحجاج على عسفه بآل المهلب
حدثنا أبو إسحاق إسماعيل بن يونس، قال: حدثنا أبو توبة بن دراج، قال: قال الأصمعي: كتب الحجاج إلى الوليد بن عبد الملك يذكر عسفه آل المهلب ومطالبته إياهم بما اختانوا من الأموال، فوقع في كتابه بخطه: ليس للخائن حرمة تبعث الأحرار عن ترفيههم، فإياك وتضييع حق قد وجب، وأمانة مال خطير يزين الدولة ويحصن الخلافة، ويؤخذ من خائن لم يشكر عليه، ويدفع إلى ناصح يحتاج إليه، فلما قرأ الحجاج كتابه أنشأ يقول متمثلاً بشعر من بني كلاب:
وإني لصوان لنفسي وإنني ... على الهول أحياناً بها لرحوم
وإني لأزري في خلال كثيرة ... على المرء أن يختال وهو لئيم
أنا أشعر أم أنت؟
حدثنا محمد بن مزيد البوشنجي، قال: حدثنا الزبير بن بكار، قال: أخبرني ثابت بن الزبير بن هشام، قال: قدم المأمون من خراسان ومعه شاعر، فلقيه أبو العتاهية فقال له: من أشعر أنا أم أنت؟ قال: أنت أشعر وأولى بالتقدمة ووقره، فقال أبو العتاهية: كم تقول في الليلة من بيت شعر؟ قال: ربما أقمت على القصيدة لا تكون ثلاثين بيتاً شهراً، قال: فأنا أشعر منك، ربما دعوت الجارية فأمليت عليها خمس مائة بيت، قال: فحمي الخراساني فقال: لو كنت أرضى مثل شعرك لقلت في الليلة خمسة آلاف بيت، قال: مثل أي شعر؟ مثل قولك:
ألا يا عتبة الساعه ... أموت الساعة الساعه
قال: فاستضحك القوم منه.
وحدثنا ابن دريد قال: أخبرنا أبو حاتم، قال: قيل لأبي مهدية: يعجبك قول الشاعر:
ألا يا عتبة الساعه ... أموت الساعة الساعه
قال: لا، ولكنه يغمني،قال: فقيل له: فما يعجبك؟ قال: يعجبني:
جاء زهير عارضاً رمحه ... إن بني عمك فيهم رماح
هل أحدث الدهر لنا نكبة ... أو فل يوماً لزهير سلاح
بدء أمر أبي العتاهيةحدثنا الحسين بن القاسم الكوكبي، قال: حدثني أحمد بن صدقة، قال: أخبرني محمد بن عبد الله الأسدي، قال: أخبرني إبراهيم بن سلام،قال: كان أبو العتاهية يعمل الفخار، وكان أبو العتاهية معتوهاً، وكان يعرف بإبراهيم المجنون، قال: فجاء إنسان يوماً فصاح: أين إبراهيم المجنون؟ فقال أبو العتاهية:
لا ذنب إن كان ذا جنونا ... كذا أراد الله أن أكونا
وانطلق يقول الشعر واشتهر به وبإحسانه فيه.
يقول شعراً وهو لا يدري
حدثنا محمد بن محمود الكاتب، قال: حدثني عبدوس بن مهدي بالكرخ، قال: نزلت على ابن أبي البغل عند تقلده الإشراف على أعمال الجبل، فزارته مغنية كان بها لهجاً على قلة إعجابه بالنساء، فإنا لليلة ونحن قعود بالبستان نشرب وقد طلع القمر، فهبت ريح عظيمة فقلبت صوانينا التي كان فيها شرابنا فشيلت وأقبل الغلمان يسقوننا، فسكر ابن أبي البغل على ضعف شربه، وقام إلى مرقده وأخذنا معه والمغنية، فلما حصلنا فيه استدعى قدحاً ولنا مثله، وأنشأ يقول:
مغموسة في الحسن معشوقة ... تقتل ذا الصب وتحييه
بات يرينيها هلال الدجى ... حتى إذا غاب أرتنيه
وطرح الشعر على المغنية فلقنته وغنتنا به، وشربنا القدح وانصرفنا، فلما كان من غد وحضرنا المائدة وهي معنا فاتحناه بما كان منه، فحلف أنه لم يعقل بما جرى ولا بالشعر، واستدعى دفتره فأثبت البيتين فيه.
طرأ الواغل برغم هروبهم إلى الصحراءحدثنا أحمد بن محمد بن إسحاق المعروف بحرمي، قال: حدثني أبو جعفر محمد بن عبد الرحمن البصري ويعرف بالمخضوب، بمكة سنة خمسين ومائتين، قال: حدثني ابن عائشة: أن ثلاثة فتيان من فتيان أهل البصرة وكانوا يتنادمون، فتطربوا يوماً إلى الصحراء والخلوة فيها ممن يغل عليهم في شرابهم وينبذ عليهم، فخرجوا في غب مطر إلى ظهر البصرة فأخذوا في شرابهم ولهوهم يتناشدون حتى كربت الشمس أن تغيب، فإذا بأعرابي كالنجم المنقض يهوى حتى جلس بينهم، فقال بعضهم لبعض: قد علمنا أن مثل هذا اليوم لا يتم لنا ثم قال له أحدهم:
أيها الواغل الثقيل علينا ... حين طاب الحديث لي ولصحبي
ثم قال الآخر:
خل عنا فأنت أثقل والل ... ه علينا من فرسخي دير كعب
ثم قال الثالث:
ومن الناس من يخف ومنهم ... كرحي البزر ركبت فوق قلبي
فقال الأعرابي:
لست بالبارح العشية والل ... ه لشج ولا لشدة ضرب
أو ترون بالكبار مشاشي ... وتعلون بعد ذاك بقعب
وطرح قعبا كان معلقاً فضحكوا من ظرفه وحملوه معهم إلى البصرة فلم يزل نديماً لهم.
الواغل والوارشقال القاضي: الواغل الذي يغل على الشرب من غير أن يدعوه الناس، قال امرؤ القيس:
فاليوم أشرب غير مستحقب ... إثماً من الله ولا واغل
ويقال للذي يفعل مثل هذا في الطعام وارش.
احتكم يا أبا السمطحدثنا يزداد بن عبد الرحمن الكاتب، قال: حدثنا أبو موسى يعني عيسى بن إسماعيل البصري، قال: حدثني القتبي، قال: قدم معن ابن زائدة بغداد فأتاه الناس وأتاه ابن أبي حفصة، فإذا المجلس غاص بأهله، فأخذ بعضادتي الباب ثم قال:
وما أحجم الأعداء عنك تقية ... عليك ولكن لم يروا فيك مطمعا
له راحتان الجود والحتف فيهما ... أبى الله إلا أن يضر وينفعا
فقال معن: احتكم يا أبا السمط؟ فقال: عشرة آلاف، فقال معن: ربحت والله عليك تسعين ألفاً.
مكافأة بغا على شجاعتهحدثنا محمد بن أحمد بن علي بن الحسين بن عبد الأعلى الكاتب، قال: حدثنا جدي علي بن الحسين بن عبد الأعلى، قال:كان عبد الله بن طاهر قد أهدى للمعتصم شهربين ملمعين ذكر أن خراسان لم تخرج مثلهما، فسأله بغا أن يحمله على أحدهما فأبى وقال: تخير غيرهما ما شئت فخذه، قال: فخرجنا ولم يأخذ شيئاً فلما كنا بطبرستان عرض له قوم من أهلها، فقالوا: أعز الله الأمير! إن في بعض الغياض سبعاً قد استكلب على الناس وأقناهم، فقال: إذا أردت الرحيل غداً فكونوا معي حتى تقفوني على موضعه، قال: فلما رحلنا من غد حضر جماعة منهم فانفرد معهم في عشرين فارساً من غلمانه، ومعه قوسه ونشابتان في منطقته، قال: فصاروا به إلى الغيضة فثار السبع في وجهه من بينهم، قال: فحرك فرسه من بين يديه وأخذ نشابة من النشابتين فرماه في استه، فمر السهم فيها إلى الريش، وركب السبع رأسه، قال: وعاد بغا إليه فما اجترأ أحد على النزول إليه حتى نزل بغا فوجده ميتاً، قال: فشبرناه فكان من رأسه إلى رأس ذنبه ستة عشر شبراً ، ووجدناه أحص الشعر إلا معرفته، قال: فكتبنا بخبره إلى المعتصم، فلحقنا جواب كتابنا بحلوان يذكر فيه أنه قد تفاءلت بقتل السبع، ورجا أن يكون من علامات الظفر ببابك، وأنه قد وجه إلى بغا بالشهربين اللذين كان طلب أحدهما فمنعه، وبسبع خلع من خاصة خلعه وثيابه، وخمس مائة ألف درهم صلة له وجزاء على قتله السبع، قال: وإنما أراد المعتصم بذلك إضراؤه على طاعته ومجاهدة عدوه.
قال القاضي: قوله في السبع وجدناه أحص: لا شعر عليه، كما قال الشاعر:
قد حصت البيضة رأسي فما ... أطعم نوماً غير تهجاع
أول ما ظهر من فهم سليمان عليه السلام
حدثنا محمد بن الحسين بن زياد المقري، قال: أخبرنا الحسن بن سفيان، قال: حدثنا صفوان بن صالح، قال: أخبرنا الوليد، قال: أخبرنا سعيد بن بشير، عن قتادة، عن مجاهد، عن عبد الله بن عباس، قال: لما تزوج داود عليه السلام بتلك المرأة، وولدت له سليمان بن داود بعدما تاب الله عز وجل عليه، غلاماً طاهراً نقياً فهماً عاقلاً عالماً، وكان من أجمل الناس وأعظمه وأطوله، فبلغ مع أبيه حتى كان يشاوره في أموره ويدخله في حكمه، فكان أول ما عرف داود من حكمته وتفرس فيه النبوة أن امرأة كانت كسيت جمالاً، فجاءت إلى القاضي تخاصم عنده، فأعجبته فأرسل إليها يخطبها، فقالت: ما أريد النكاح فراودها على القبيح، فقالت: أنا عن القبيح أبعد، فانقلبت منه إلى صاحب الشرطة فأصابها منه مثل الذي أصابها من القاضي، فانقلبت إلى صاحب السوق فكان منه مثل ذلك، فانقلبت منه إلى حاجب داود فأصابها منه ما أصابها من القوم، فرفضت حقها ولزمت بيتها فبينا القاضي وصاحب الشرطة وصاحب السوق والحاجب جلوس يتحدثون فوقع ذكرها، فتصادق ا لقوم بينهم وشكا كل واحد منهم إلى صاحبه ما أصابه من العجب بها، قال بعضهم: وما يمنعكم وأنتم ولاة الأمر أن تتلطفوا بها حتى تستريحوا منها فاجتمع رأي القوم على أن يشهدوا أن لها كلباً وأنها تضطجع فترسله على نفسها حتى ينال منها ما ينال الرجل من المرأة، فدخلوا على داود عليه السلام، فذكروا له أن امرأة لها كلب تسمنه وترسله على نفسها حتى يفعل بها ما يفعل الرجل بالمرأة فكرهنا أن نرفع أمرها إليك حتى تتحقق، فمشينا حتى دخلنا منزلاً قريباً منها في الساعة التي بلغنا أنها تفعل ذلك، فنظرنا إليها كيف حلته من رباطه ثم اضطجعت له حتى نال منها ما ينال الرجل من المرأة، ونظرنا إلى الميل يدخل في المكحلة ويخرج منها، فبعث داود عليه السلام فأتى بها فرجمها، فخرج سليمان يومئذ وهو غلام حين ترعرع ومعه الغلمان ومعه حصانه يلعب، فجعل منهم صبياً قاضياً آخر على الشرطة وآخر على السوق وآخر حاجباً وآخر كالمرأة، ثم جاءوا يشهدون عند سليمان مثل ما شهد أولئك عند داود عليه السلام يريدون رجم ذلك الصبي كما رجمت المرأة، قال سليمان عند شهادتهم:فرقوا بينهم، ثم دعا بالصبي الذي جعله قاضياً، فقال: أيقنت الشهادة؟ قال: نعم. قال: فما كان لون الكلب؟ قال: أسود، قال: نحوه، ونادى بالذي جعل على الشرطة، فقال له: أيقنت الشهادة؟ قال: نعم. قال: فما كان لون الكلب؟ قال أحمر، قال: نحوه، ثم دعا بصاحب السوق فقال: أيقنت الشهادة؟ قال: نعم، قال: فما كان لون الكلب؟ قال: أبيض قال: نحوه، ثم دعا بالذي جعله حاجباً، فقال: أيقنت الشهادة؟ قال:نعم. قال: فما كان لون الكلب؟ قال: أغبش، قال: أردتم أن تغشوني حتى أرجم امرأة من المسلمين، فقال للصبيان: ارجموهم، وخلي سبيل الصبي الذي جعله امرأة ورجع إلى حصانه، فدخلوا على داود عليه السلام فأخبروه الخبر، فقال داود: علي بالشهود الساعة واحداً واحداً فأتى بهم فسأل القاضي: ما كان لون الكلب؟ قال: أسود، ثم أتى بصاحب الشرطة فسأله فقال: أبيض، ثم أتى بصاحب السوق فسأله فقال: كان أحمر، ثم أتى بالحاجب فسأله فقال: كان أغبش، فأمر بهم داود عليه السلام فقتلوا مكان المرأة، فكان هذا أول ما استبان لداود عليه السلام من فهم سليمان عليه السلام.
وقد حدث في أيام الدولة العباسية في وديعة أودعها بعض الشهود بواسط، فأبدلها واختان صاحبها فيها ما يضارع هذه القصة من بعض جهاتها، نحن نأتي بها فيما نستأنفه من مجالس كتابنا هذا إن شاء الله.
المجلس الثالث والعشرون
من مكارم الأخلاق
حدثنا محمد بن القاسم بن زكريا بن يحيى المحارمي، قال: حدثنا إسماعيل بن إسحاق الراشدي، قال: حدثنا داهر بن نوح، قال: حدثنا أبو زيد الأنصاري، قال: حدثني عبد الصمد بن سليمان، عن سكين ابن أبي سراج، قال: حدثنا عبد الله بن دينار، عن ميمون بن مهران، عن ابن عباس، " أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله! أي الناس أحب إليك؟ قال: أنفعهم للناس، وإن من أحب الأعمال إلى الله تعالى سروراً يدخل على مسلم، أو يكشف عن كربه أو يسد عنه جوعاً، ولأن أمشي مع أخ لي في حاجة أحب إلي من أن اعتكف شهرين في المسجد، ومن كف غضبه ستر الله عورته، ومن كظم غيظه ولو شاء أن يمضيه لأمضاه ملأ الله قلبه يوم القيامة رضاً، ومن مشى مع أخ له في حاجة حتى يثبتها ثبت الله قدمه يوم تزول الأقدام، وسوء الخلق يفسد العمل كما يفسد الخل العسل " .
قال القاضي: قال أبو العباس بن سعيد في سكين، يقال سكين بن أبي سراج وسكين بن سراج، قال القاضي: وفي هذا الخبر ترغيب في أنواع من أفعال الخير وأبواب البر ومكارم الأخلاق، وذم لسوء الخلق وتكريه له، وكل فصل من فصول هذا الخبر قد أتى في معناه أخبار، ورويت في مجالسه آثار عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن الصحابة والتابعين، ومن تقدمنا من الأئمة الماضين والسلف الصالحين، والخاصة من علماء المسلمين وحكماء أهل الدين، وكتابنا هذا متضمن لكثير منه متفرقاً في المجالس المرسومة فيه، وحقيق على من كرمت نفسه عليه، وحببت منافعها إليه، أن يسعى في اكتساب ما يزينها ويصلحها، ويهذب أخلاقه وينقحها، ويهجر مذموم الخلائق ويطرحها، نسأل الله المعونة على ذلك بفضله وطوله، وقوته وحوله.
خبر عمرو بن المسبح أرمى عربيحدثنا محمد بن الحسن بن دريد، قال: أخبرنا السكن بن سعيد، عن العباس بن هشام، قال: حدثني جميل بن مراد الطائي من بني معن، عن أشياخه، قال: كان عمرو بن المسبح أرمى عربي على وجه الأرض فأدرك امرأ القيس وله يقول امرؤ القيس:
رب رام من بني ثعل
وعاش حتى أدرك النبي صلى الله عليه وسلم وهو ابن خمسين ومائة سنة فسأله عن الصيد ، فقال " كل ما أصميت ودع ما أنميت " وفيه يقول رجل من طييء:
نعب الغراب وليته لم ينعب ... بالبين من سلمى وأم الحوشب
ويروى زعب الغراب وهي لغة، قال القاضي: وكأن زعب في هذه اللغة من رفع الشيء وأخذه ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم لعبد بن عمرو: " وأرغب لك من المال " قال الشاعر:
ليت الغراب رمى حماطة قلبه ... عمرو بأسهمه التي لم تلغب
ويروى تغلب، واللغاب عيب في السهام، وهو اختلاف في الريش التي يراش بها واللؤام خلافه وهو محمود، وذكر ابن الكلبي أن عمراً هذا كان يمر به السرب من القطا يطير في السماء، فيقول: أيتها تريدون؟ فيشار له إلى واحدة فيصرعها، قوله: كل ما أصميت ودع ما أنميت، يقال: أصمي الرجل الصيد إذا أصابه فمات بحضرته، وأنماه إذا أصابه فتحامل فعاب عنه ثم مات وأشواه إذا أخطأه ويقال: هذا شوى إذا لم يصب المقتل، قال الشاعر:
وكنت إذا الأيام أحدثن نكبة ... أقول شوى ما لم يصبن صميمي
ويقال: أشوي إذا أخطأ الصميم وأصاب الأطراف كاليدين والرجلين، قال امرؤ القيس:
سليم الشظى عبل الشوى شنج النسا ... له حجبات مشرفات على الفال
وقد يقال لجلدة الرأس شواة وتجمع شوا، وقال بعض أهل التأويل في قوله عز ذكره " نزاعة للشوى " أن معناه الأطراف، وقيل: فروة الرأس، وقيل الهام، وقيل العصب والعقب، وقد اختلف الفقهاء في أكل الصيد إذا أتاه راميه وغاب عن عينه فأحله بعضهم، وحرمه بعضهم على ظاهر الخبر الذي ذكرناه، وقدر آخرون لغيبته مدة على اختلاف منهم في قدرها، قال القاضي: وأرى أنه قيل للرامي في الموضع الذي وصفنا لإصابته الصميم، وأصمى أصله عندي أصمم فاستثقل التضعيف فقيل أصمي، وأشبعت فتحة الميم الأولى فصارت ألفاً مكان الميم الثانية وبدلاً منها، والعرب تقول: تمطى فلان من المطا وهو الظهر وأصله تمطط، ويقولون تقضى من القضة وأصله تقضض، قال الراجز:
داني جناحيه من الطور فمر ... تقضي البازي إذا البازي كسر
وهذا الباب كثير جداً، وما وجدت أحداً سبقني إلى ما قلت في الصميم
وهو بين، ومن الشوى بمعنى فروة الرأس، قول الشاعر:
إذا هي قامت تقشعر شواتها ... ويشرق بين الليث منها إلى الصقل
وقال الأعشى:
قالت قتيلة ما له ... قد جللت شيباً شواته
وذكر عن أبي عمرو بن العلاء أنه قال: من رواه هكذا فقد صحف، وزعم أنه سراته بالسين والراء يعني أعلاه، وما ذكره أبو عمرو أولى بالتصحيف، ورواية البيت بالشين والواو،وقد ثبت وصحت في تأويلها وعرفت، وقول أبي عمرو في السراة صحيح لو أتى به الشاعر، ومن السراة قول امرئ القيس:
كأن سراته وجدة متنه ... مدك عروس أو صراية حنظل
وقد روى أن أبا عمرو لما تبين صحة الرواية بالشين رجع إليها، وقد ذكرنا كلاماً في هذا الفصل أشبع من هذا في كتابنا الذي أمللناه في شرح مختصر الجرمي في النحو.
لم يسمع بأسرة دخلت الإسلام كهؤلاءوحدثنا ابن دريد، قال: أخبرنا السكن بن سعيد، عن العباس بن هشام، عن أبيه، قال: حدثني الوليد بن عبد الله الجعفي، عن أبيه، عن أشياخ قومه قالوا: كانت عند أبي سبرة وهو يزيد بن مالك بن عبد الله بن الذؤيب بن سلمة بن عمرو بن ذهل بن مران بن جعفي امرأة منهم فولدت له سبرة وعزيزاً ثم ماتت فورثت ابناها إبلاً، ثم تزوج أبو سبرة أخرى فجفا ابنيه ونحاهما في إبلهما التي ورثاها عن أمهما، فلما بلغهما مهاجرة النبي صلى الله عليه وسلم قال سبرة لمولى لأمه كان يرعى عليه: ابغني ناقة كنازاً ذات لبن، فقال القاضي: هي الكثيرة اللحم المجتمعة الجسم، فأتاه بها فركبها وهو يقول لأبيه:
ألا أبلغا عني يزيد بن مالك ... ألما يأن للشيخ أن يتذكرا
رأيت أبانا صد عنا بوجهه ... وأمسك عنا ماله وتنمرا
ثم توجه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأسلم وأقبل أخوه عزيز، فقال للمولى: أين أخي؟ قال: ندت له ناقة فذهب في طلبها، فنظر في الإبل فلم ير شيئاً، فقال للمولى: لتخبرني، فأخبره وأنشده البيتين، فدعا بناقة فركبها وهو يقول:
ألا أبلغا عني معاشر مذحج ... فهل لي من بعد ابن أمي معبر
ولحق بالنبي صلى الله عليه فأسلم، ثم أقبل أبو سبرة فقال للمولى: أين ابناي؟ فأخبره خبرهما وأنشده شعرهما، فركب وهو يقول:
وسبرة كان النفس لو أن حاجة ... ترد ولكن كان أمراً تيسرا
وكان عزيز خلتي فرأيته ... تولى ولم يقبل علي وأدبرا
ثم لحق بهما وخلف عند المولى غلاماً له يقال له شنفر، فمكث المولى أياماً ثم لحق بهم وأنشد يقول:
بدلت أنياباً حيالاً وشنفرا ... بأهلي لا أرضى بهم من أولئك
قال القاضي: الأنياب جمع ناب وهي الناقة المسنة، والحيال: جمع حائل وهي التي حالت عن أن تشتمل على حمل، فأتى أبو سبرة النبي صلى الله عليه وسلم ومعه ابناه فأسلموا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لعزيز: ما اسمك؟ قال: عزيز، قال: لا عزيز إلا الله، أنت عبد الرحمن، وقال أبو سبرة للنبي صلى الله عليه وسلم: إن بظهر كفي سلعة قد منعتني من خطام راحلتي، فدعا النبي صلى الله عليه وسلم بقدح فجعل يضرب به على السلعة ويمسحها فذهبت، ودعا له ولابنيه وأقطعه جروان وادياً في بلاد قومه، قال ابن الكلبي: فلم يسمع لأهل بيت أجابوا إلى الإسلام طوعاً بمثل هؤلاء.
خبر مقتل عمرو ذي الكلب
حدثنا محمد بن القاسم الأنباري، قال: حدثني أبي، قال: حدثنا أحمد بن عبيد، عن الذماري، قال: دخل عمرو بن معدي كرب الزبيدي على عمر رضي الله عنه يوماً، فقال له: يا أبا ثور! أخبرني بأعجب ما رأيت، فقال: إني أخبرك يا أمير المؤمنين أني خرجت يوماً أريد حياً من أحياء العرب حتى إذا ما كنت بواد يقال له بطن شريان إذا أنا برجل مفترس أسداً قد أدخل رأسه في جوفه، وهو يلغ في دمه كما يفترس الأسد الناس والبهائم ويلغ في دمائهم، فهالني ذلك وراعني وظننته شيطاناً ثم عاتبت نفسي، فصحت بالرجل فوالله ما نهنه صياحي به حتى صحت به صيحة أخرى فلم يبل، فصحت الثالثة فرفع رأسه ونظر إلي وعيناه كالجمرتين، ثم أعاد رأسه في جوف الأسد احتقاراً لي، فوقفت أنظر إليه تعجباً منه، فأقبلت حية كان على طريقها تكون شبراً أو نحوه فتعثرت به فلدغته لدغة في منكبه كما كان باركاً على الأسد، فصاح منها صيحة ثم أطرق فلم أره يتحرك كما كان قبل ذلك، فدنوت منه فإذا سيف له وقوس موضوعان، وفرس مشدود فأخذت سلاحه، فلم يتحرك فأممته ودنوت منه وضربت بيدي إلى ذراعيه فتبعتني والله يده من الكف فوقعت، فقلت: إن هذا للعجب، لا أبرح حتى أعلم علمه عند بعض من يمر فأسأله فإذا كلب رابض ناحية، فأقبلت السباع والنسور فحماه الكلب فلما جنني الليل انصرفت وتركته على هيئته فمضى لذلك زمن، فبينا أنا بسوق عكاظ في أيام الموسم في أجمع ما كان الناس، إذا امرأة تنشد الرجل فعرفت النعت والصفة، فقلت: أنا صاحب الرجل، وهذا سيفه وقوسه، قال: فقالت: يا عمرو!إنه لا يجمل بمثلك الكذب وأنت فارس قومك، فأسألك باللات والعزى إلا صدقتني، فخبرتها الخبر، فقالت: صدقت، وإنما كان يفعل ذلك لأن أسداً مرة عدا على أخ كان له يقال له صخر فأكله، فآلى على نفسه ألا يلقى أسداً إلا افترسه وولغ في دمه، وقال: إنما هو كلب، فسمى عمراً ذا الكلب، وأنا أخته الجنوب، وبكته في شعر تقول فيه:
وكل حي وإن طالت سلامتهم ... يوماً طريقهم في الشر مركوب
أبلغ هذيلاً وخصص في سراتهم ... عني مقالاً وبعض القول تكذيب
بأن ذا الكلب عمراً خيرهم نسباً ... ببطن شريان يعوي عنده الذيب
تمشي النسور إليه وهي لاهية ... مشي العذارى عليهن الجلابيب
الطاعن الطعنة النجلاء يتبعها ... مثعنجر من نجيع الجوف أثغوب
أيهما أجود؟
حدثنا الحسن بن أحمد الكلبي، قال حدثنا محمد بن زكريا، قال: حدثنا العباس بن بكار، قال: حدثنا عيسى بن يزيد، عن صالح بن كيسان، وحدثني الحسن بن أحمد، قال: حدثنا محمد بن زكريا، قال: وحدثنا عبد الله بن ضحاك، قال: حدثنا هشام بن محمد، عن عوانة، قال: وفد عبيد الله بن العباس على معاوية بن أبي سفيان، فلما كان ببعض الطريق عارضته سحابة فأم أبياتاً من الشعر، فإذا هو بأعرابي قد قام إليه فلما رأى هيئته وبهاءه، وكان من أحسن الناس شارة وأحسنهم هيئة، قام إلى عنيزة له ليذبحها فجاذبته امرأته ومانعته، وقالت: أكل الدهر مالك ولم يبق لك ولبناتك إلا هذه العنيزة يتمتعون منها ثم تريد أن تفجعهن بها، فقال: والله لأذبحنها، فذبحها أحسن من اللؤم، قالت: إذن والله لا تبقي لبناتك شيئاً فأخذ العنيزة - وأضجعها، وقال:
قرينتي لا توقظي بنيه ... إن توقظيها تنتحب عليه
وتنزع الشفرة من يديه ... أبغض بهذا وبذا إليه
ثم ذبح الشاة وأضرم ناراً وجعل يقطع من أطايبها ويلقيه على النار ثم يناوله عبيد الله ويحدثه في خلال ذلك بما يلهيه ويضحكه، حتى إذا أصبح عبيد الله وانجلت السحابة وهم بالرحيل قال لقيمه: ما معك؟ قال: خمس مائة دينار، قال: ألقها إلى الشيخ، قال: القيم جعلت فداك، إن هذا يرضيه عشر ما سميت وأنت تأتي معاوية ولا تدري على ما توافقه على ظاهره أم على باطنه، قال: ويحك إنا نزلنا بهذا وما يملك من الدنيا إلا هذه الشاة فخرج لنا من دنياه كلها، وإنما جدنا له ببعض دنيانا فهو أجود منا، ثم ارتحل فأتى معاوية فقضى حوائجه، فلما انصرف وقرب من رحل الأعرابي قال لوكيله: انظر ما حال صاحبنا، فعول إليه فإذا إبل وحال حسنة وشاء كثير، فلما بصر الأعرابي بعبيد الله قام إليه فأكب على أطرافه يقبلها، ثم قال: بأبي أنت وأمي، قد مدحتك وما أدري من أي خلق الله أنت ثم أنشده:
توسمته لما رأيت مهابة ... عليه وقلت: المرء من آل هاشم
وإلا فمن آل المرار فإنهم ... ملوك وأبناء الملوك الأكارم
فقمت إلى عنز بقية أعنز ... فأذبحها فعل امرئ غير نادم
فعوضني منها غناي وإنما ... يساوي لحيم العنز خمس دراهم
أفدت بها ألفاً من الشاء حلبا ... وعبداً وأنثى بعد عبد وخادم
مباركة من هاشمي مبارك ... خيار بني حواء من نسل آدم
فلله عيناً من رأى لعنيزة ... أفادت وراشت بعد عشر قوادم
فقلت لعرسي في الخلاء وصبيتي ... أحق ترى هذا أم أحلام نائم
قال عبيد الله: قد أصبت وأنا من ولد العباس وأنا من آل المرار، فبلغت معاوية، فقال: لله در عبيد الله، من أي بيضة خرج، وفي أي عش درج، عبيد الله معلم الجود، وهو والله كما قال الحطيئة:
أولئك قوم إن بنوا أحسنوا البنا ... وإن عاهدوا أوفوا وإن عقدوا شدوا
وإن كانت النعمى عليهم جزوا بها ... وإن أنعموا لا كدروها ولا كدوا
مطايب الجزور وأطايب الفاكهةقال القاضي: في هذا الخبر: وجعل يقطع من أطايبها، والصواب من مطايبها هكذا يقال في اللحم، والعرب تقول: مطايب الجزور وأطايب الفاكهة، والمطايب من الجمع الذي لا واحد له على منهاج لفظه، وقياسه مثل ملامح ومشابه وهذا كثير. وقد حكى الفراء أنه سأل بعض العرب عن الواحد في مطايب الجزور، فحكى عنه ما معناه أنه لم يكن عنده فيه شيء يحفظه، وأنه أخذ يتكلف فيه قولاً يستخرجه وجعل يقول: مطيبة وأنه ضحك من هذا من قوله مطيبة، وقول الحطيئة أحسنوا البنا هكذا رأيته بضم الباء. وقد حدثنا محمد بن يحيى الصولي، قال: حدثنا القاسم بن إسماعيل، قال: حدثنا عبيد الله بن محمد القرشي، قال: حدثنا الأصمعي، قال: أتيت شعبة يوماً وعنده حماد بن سلمة وهما يتكلمان في حديث، فقال له شعبة: يا أبا سلمة! هذا الفتى الذي ذكرته لك، فقال لي حماد بن سلمة كيف تنشد قول الحطيئة: أولئك قوم...، فابتدأت القصيدة من أولها:
ألا طرقتنا بعدما هجعت هند ... وقد سرن خمساً واتلأب بنا نجد
إلى أن بلغت البيت:
أولئك قوم إن بنوا أحسنوا البنا ... وإن عاهدوا أوفوا وإن عقدوا شدوا
فقال لي حماد بن سلمة: يا بني! إن العرب تقول: بنى يبني بناء في العمران، ويقولون في الشرف: بنا يبنو بناء فأنشد هذا: أولئك قوم إن بنوا أحسنوا إلينا، فعرفت قدر حماد بن سلمة من ذلك اليوم، فما كنت أنشده إلا ما كنت أتقنه.
قال القاضي: والبناء في الرباع والمساكن ممدود مكسور الباء في لغات عامة العرب، وبهذه اللغة جاء القرآن، قال الله تعالى: " والسماء بناء " ، وذكر الفراء أن من العرب من يقصر البناء ها هنا.
أعرابي يشرب بجزة صوف فتعاتبه امرأتهحدثنا محمد بن القاسم الأنباري، قال: حدثني أبي، قال: حدثنا أحمد بن عبيد، قال: حدثنا أبو نصر، عن الأصمعي، قال: شرب أعرابي بجزة صوف، فلامته امرأته وعتبت عليه، فأنشأ يقول:
عتبت علي لأن شربت بصوف ... فلئن عتبت لأشربن بخروف
ولئن عتبت لأشربن بنعجة ... ذرءاً ومن بعد الخروف سحوف
الذرء: التي في رأسها بياض، والسحوف: سمينة.
ولئن عتبت لأشربن بلقحة ... صهباء مالئة الإناء صفوف
ولئن عتبت لأشربن بصاهل ... ما فيه من هجن ولا تقريف
الهجين: الذي أمه من غير جنس أبيه، والمقرف مثله.
ولئن عتبت لأشربن بواحدي ... ويكون صبري بعد ذاك حليفي
فلقد شربت الخمر في حانوتها ... صفراء صافية بأرض الريف
ولقد شهدت الخيل تقرع بالقنا ... وأجبت صوت الصارخ الملهوف
قال أبو بكر بن الأنباري: إني وجدت بغير هذا الإسناد أن امرأته أجابته فقالت:
ما إن عتبت لأن شربت بصوف ... أو أن تلذ بلقحة وخروف
فاشرب بكل نفيسة أوتيتها ... وملكتها من تالد وطريف
وارفع بطرفك عن بني فإنه ... من دونه شغب وجذع أنوف
فطنة قاضحدثنا محمد بن الحسن بن زياد المقري، قال: أخبرنا إدريس الحداد، قال: حدثنا هارون الحمال، عن يزيد بن هارون، قال: تقلد القضاء بواسط رجل ثقة كثير الحديث ما أظنه إلا أكره على القضاء والله أعلم - فجاء رجل فاستودع بعض الشهود كيساً مختوماً ذكر أن فيه ألف دينار، فلما حصل الكيس عند الشاهد، وطالت غيبة الرجل، قدر أنه قد هلك، فهم بإنفاق المال، ثم دبر ففتق الكيس من أسفله وأخذ الدنانير وجعل مكانها دراهم وأعاد الخياطة كما كانت، وقدر أن الرجل وافى وطالب الشاهد بوديعته فأعطاه الكيس بختمه، فلما حصل في منزله فض ختمه فصادف في الكيس دراهم فرجع إلى الشاهد، وقال له: عافاك الله، اردد علي مالي فإني استودعتك دنانير والذي وجدت دراهم مكانها، فأنكر ذلك واستعدى عليه القاضي المقدم ذكره، فأمر بإحضار الشاهد مع خصمه، فلما حضرا سأل الحاكم: مذ كم أودعته هذا الكيس؟ قال: مذ خمس عشرة سنة، فأقبل على الشاهد، فقال: ما تقول؟ قال: صدق هو عندي منذ خمس عشرة سنة، فأخذ القاضي الدراهم وقرأ شكلها فإذا هي دراهم منها ما قد ضرب منذ سنتين وثلاثة ونحو ذلك فأمره أن يدفع الدنانير إليه فدفعها إليه أو مكانها وأسقطه، فقال له: يا خائن ونادى مناديه: ألا إن فلان بن فلان القاضي قد أسقط فلان بن فلان الشاهد، فاعلموا ذلك ولا يغترر به أحد بعد اليوم، فباع الشاهد أملاكه بواسط، وخرج منها هارباً فلا يعلم عنه خبر، ولا أحس منه أثر.
رأي أبي يوسف القاضي فيمن يشهدون عندهحدثنا عبد الله بن منصور الحارثي، قال: حدثنا أبو العباس أحمد بن قال حدثني بعض أصحابنا، قال: قال الرشيد لأبي يوسف القاضي: بلغني أنك تقول إن هؤلاء الذين يشهدون عندك وتقبل أقوالهم متصنعة، فقال: نعم يا أمير المؤمنين، قال وكيف ذلك؟ قال: لأن من صح ستره وخلصت أمانته لم يعرفنا ولم نعرفه، ومن ظهر أمره وانكشف ستره لم يأتنا ولم نقبله، وبقيت هذه الطبقة وهم هؤلاء المتصنعة الذين أظهروا الستر وأبطنوا غيره، فتبسم الرشيد وقال: صدقت.
نوع الشهود الذين اختارهم إسماعيل بن حماد بن أبي حنيفةحدثنا إسماعيل بن علي أبو محمد الخطبي، قال: لما ولى إسماعيل بن حماد بن أبي حنيفة القضاء، قال: يجب أن يكون بين أيدينا قوم نتمندل بهم ويتمندلون هم بالعامة، ولا يجب أن يكونوا من أكابر الناس ومن أعاليهم، ولا سوقتهم وسفلتهم، فاختار متوسطي التجار فجعلهم شهوداً.
معنى السوقة الصحيحقال القاضي: قول ابن حماد من سوقتهم وسفلتهم، يدل على أنه كان يظن أن السوقة أهل الأسواق، ولم يعلم أن السوقة هم الذين يسوقهم الملوك بسياستهم وأن الناس ملوك وسوقة أي رعية، كما قال زهير:
يا حار لا أرمين منكم بداهية ... لم يلقها سوقة قبلي ولا ملك
وقالت حرقة بنت النعمان بن المنذر:
فبينا نسوس الناس والأمر أمرنا ... إذا نحن فيهم سوقة نتنصف
ما قيل في نوح بن دراج القضاءحدثنا الحسن بن علي العدوي، قال: أخبرنا الحسن بن علي بن راشد، قال: قيل لشريك بن عبد الله: قد تقلد القضاء نوح بن دراج، قال: ذهبت العرب الذين كانوا إذا غضبوا كفروا.
النسب القصير
حدثنا محمد بن أحمد بن الحسن الصواف، قال: حدثني أحمد بن الصلت الحماني، قال: حدثنا النضر بن علي، قال: حدثنا خالد بن الحارث، عن أبيه، قال: قال الفرزدق بن غالب: خرجت من البصرة أريد العمرة، فرأيت عسكراً في البرية، فقلت: عسكر من هذا؟ قالوا: عسكر الحسين بن علي رضي الله عنهما، قال: فقلت: لأقضين حق رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه، فأتيته فسلمت، فقال: من الرجل؟ فقلت: الفرزدق بن غالب، فقال: هذا نسب قصير، فقلت: أنت أقصر مني نسباً، أنت ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لي : أبو من؟ فقلت: أبو فراس، قال: يا أبا فراس كيف خلفت الناس ومن أين وإلى أين؟ قال: قلت: من البصرة أريد العمرة، وما سألت عنه من أمر الناس فقلوبهم معك وسيوفهم مع بني أمية والقضاء ينزل من السماء قال: فاغرورقت عيناه، وقال: هكذا الناس في كل زمان، أتباع لذي الدينار والدرهم، والدين لغو على ألسنتهم فإذا فحصوا بالابتلاء قل الديانون.
قال القاضي: معنى ما ذكر من قصر النسب في هذا الخبر، أن النبيه الذي بغير نظير له يشاركه في نسبه وما يعرف به فلا يحتاج إلى زيادة في انتسابه وإطالته، وهو مستغن بقصير ما يعرف به عن كثيره، كما قال الشاعر:
أحب من النسوان كل قصيرة ... لها نسب في العالمين قصير
ومن هذا النسب نسب الرسل والأنبياء والملوك والخلفاء، وقد قال النسابة البكري لرؤبة بن العجاج لما انتسب له: مه قصرت وعرفت.
وحكى لي بعض أصحابنا، أنه وجد بخط صاحبنا محمد بن جعفر بن جمهور: سألت أبا جعفر محمد بن جرير بن يزيد الطبري أن يزيدني في نسبه، فقال متمثلاً قول رؤبة:
قد يرفع العجاج بيتاً فادعني ... باسم إذا الأنساب طالت يكفني
المجلس الرابع والعشرون
من يكن في حاجة أخيهحدثنا عبد الله بن محمد بن سعيد الحمال، قال: حدثنا عمي، قال: ابن نافع، قال: حدثنا ابن المنكدر، عن أبيه، عن الحسين بن أبي الحسن، عن جابر بن عبد الله، أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: " من يكن في حاجة أخيه يكن الله عز وجل في حاجته " .
قال القاضي: في هذا الخبر ما يرغب في قضاء حاجات الإخوان، إذ سعيهم فيها يعود عليهم بمعونة الله عز وجل لهم في حاجتهم، ويرجى به إدراكهم منها ما لا يبلغونه بسعيهم، دون معونة الله لهم عليه وتيسيره إياه، وقد جاء في هذا المعنى ونحوه أخبار كثيرة، وقد مضى بعض ذلك فبما مضى في كتابنا، فلعلنا نأتي فيما بعد بما يحضرنا منه إن شاء الله.
إسلام سادن الصنمحدثنا محمد بن الحسن بن دريد، قال: أخبرنا السكن، عن العباس ابن هشام، عن أبيه، قال: حدثني أبو كبران المرادي، عن يحيى بن هاني بن عروة، عن عبد الرحمن بن أبي سبرة الجعفي، قال: كان لسعد العشيرة صنم يقال له فراس وكانوا يعظمونه، وكان سادنه رجلاً من بني أنس الله بن سعد العشيرة، يقال له ابن دقشة، قال عبد الرحمن: فحدثني رجل من بني أنس الله يقال له ذباب، قال: كان لابن وقشة رئي من الجن يخبره بما يكون، قال: فأتاه ذات يوم وأنا عنده فأخبره بشيء فنظر إلي وقال لي: يا ذباب، اسمع العجب العجاب، بعث الله أحمد بالكتاب، يدعو بمكة فلا يجاب، قال: فقلت ما تقول؟ فقال: ما أدري هكذا قال لي، فلم يكن إلا قليل حتى سمعنا بظهور النبي صلى الله عليه وسلم فثرت إلى الصنم فحطمته، ثم أتيت النبي صلى الله عليه وسلم، فقلت:
تبعت رسول الله إذ جاء بالهدى ... وخلفت فراساً بدار هوان
شددت عليه شدة فتركته ... كأن لم يكن والدهر ذو حدثان
فلما رأيت الله أظهر دينه ... أجبت رسول الله حين دعاني
فأصبحت للإسلام ما عشت ناصراً ... وألقيت فيه كلكلي وجراني
فمن مبلغ سعد العشيرة أنني ... شريت الذي يبقى بآخر فان
مناظرة ابن عباس للحرورية
حدثنا علي بن محمد بن الجهم، أبو طالب الكاتب، قال: حدثني أبو عبد الله أحمد بن يوسف بن الضحاك الفقيه، قال: حدثنا عمر بن علي الفلاسي، قال: حدثنا عبد الرحمن بن سدي، قال: حدثنا عكرمة بن عمار، قال: حدثني أبو رميل، قال: حدثني عبد الله بن عباس، قال: لما خرجت الحرورية اعتزلوا في دار، وكانوا ستة آلاف، فقلت لعلي: يا أمير المؤمنين! أبرد بالصلاة لعلي أكلم هؤلاء القوم، فقال: إني أخافهم عليك، قلت: كلا فلبست أحسن ما يكن من اليمنة وترجلت ودخلت عليهم في دار نصف النهار وهم يأكلون، فقال: مرحباً بك يا أبن عباس، فما جاء بك؟ فقلت لهم: أتيتكم من عند أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم والمهاجرين والأنصار، ومن عند ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وصهره، وعليهم نزل القرآن، وهم أعلم بتأويله منكم، وليس فيكم منهم أحد لأبلغكم ما يقولون وأبلغهم ما تقولون، فقال بعضهم: لا تخاصموا قريشاً فإن الله عز وجل قال: " بل هم قوم خصمون " فانتحى لي نفر منهم فقالوا: لنكلمنه، فقلت: هاتوا ما نقمتم على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وابن عمه، قالوا: ثلاثاً، قلت: ما هن؟ قالوا: أما إحداهن فإنه حكم الرجال في أمر الله تعالى، وقد قال الله عز وجل: " إن الحكم إلا لله " ما شأن الرجال والحكم؟ قلت: هذه واحدة، قالوا: وأما الثانية فإنه قاتل ولم يسب ولم يغنم، فإن كانوا كفاراً فقد حل سباهم وقتالهم، ولئن كانوا مؤمنين فما حل قتالهم ولا سباهم، قلت: هذه ثنتان فما الثالثة؟ قالوا: إنه محا نفسه من إمرة المؤمنين فإن لم يكن أمير المؤمنين فهو أمير الكافرين، قال: قلت: هل عندكم من غير هذا؟ قالوا: حسبنا هذا، قلت: أرأيتم إن قرأت عليكم من كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم ما يرد قولكم هذا ترجعون؟ قالوا: نعم، قلت أما قولكم حكم الرجال في أمر الله تعالى، فأنا أقرأ عليكم من كتاب الله عز وجل أن قد صير الله عز وجل حكمه إلى الرجال في ثمن ربع درهم، وأمر الله عز وجل الرجال أن يحكموا في أرنب، قال الله تعالى: " يا أيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم، ومن قتله منكم متعمداً فجزاء مثل ما قتل من النعم يحكم به ذوا عدل منكم " وكان من حكم الله عز وجل انه صيره إلى الرجال يحكمون فيه ولو شاء لحكم فيه فجاز حكم الرجال، أنشدكم بالله أحكم الرجال في صلاح ذات البين وحقن دمائهم أفضل أم حكمهم في أرنب؟ وفي المرأة وزوجها: " وإن خفتم شقاق بينها فابعثوا حكماً من أهله وحكماً من أهلها إن يريدا إصلاحاً يوفق الله بينهما " ، نشدتكم الله فحكم الرجال في إصلاح ذات بينهم وحقن دمائهم أفضل أم حكمهم في بضع امرأة؟ أخرجت من هذه؟ قالوا: نعم. وأما قولكم قاتل ولم يسب ولم يغنم أفتسبون أمكم عائشة فتستحلون منها ما تستحلون من غيرها وهي أمكم، فإن قلتم: إنا نستحل منها ما نستحل من غيرها لقد كفرتم، ولئن قلتم ليست بأمنا لقد كفرتم لقوله تعالى: " النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم " فأنتم بين ضلالتين فأتوا منهما مخرجاً، أخرجت من هذا؟ قالوا: نعم. وأما قولكم محا نفسه من إمرة المؤمنين فأنا آتيكم بما ترصون به، إن نبي الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية صالح المشركين فقال لعلي: " اكتب يا علي: هذا ما صالح عليه محمد رسول الله قالوا: لا نعلم أنك رسول الله، ولو نعلم أنك رسول الله ما قاتلناك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : امح يا علي، اللهم إنك تعلم أني رسول الله، أمح يا علي واكتب: هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله، ووالله، لرسول الله خير من علي لقد محا نفسه، ولم يكن محوه ذلك يمحوه من النبوة، أخرجت من هذه؟ قالوا: نعم، فرجع منهم ألفان وخرج سائرهم فقتلوا على ضلالة، قتلهم المهاجرون والأنصار.
خبر الأصدقاء الثلاثة
حدثنا محمد بن القاسم الأنباري، قال: حدثني أبي، قال: حدثنا أصحابنا أن عبد الملك بن مروان كتب إلى الحجاج: أنفذ مع عبد الله بن كعب أربعة آلاف إلى خراسان ففعل، فشخص في المعسكر ثلاثة كانوا متؤاخين متصاحبين على اللذات ومعاقرة الشراب، يقال لهم: أوس بن حارثة وأنيس بن خالد وبشر بن غالب، وكانوا إذا نزلوا منزلاً انفردوا دون الناس فخلوا بشرابهم ولذاتهم، فلم يزالوا على ذلك حتى دخلوا سجستان ونزلوا رزداق راوند وخزازى..قال أحمد بن يحيى: الصواب ما ذكره وهو رزداق، ورستاق خطأ - فمات أوس - قال القاضي: أصل هذا الكلام بالفارسية وعرب فقيل: رزداق ورستاق، وهو أكثر في كلام من تقدم ومن تأخر فيما وردت الأخبار عنهم به فعظم حزنهما عليه وجزعهما له، وقال أنيس يرثيه:
تخطى إلي الموت من بين من أرى ... فأتلف ندماني لقد جار واعتدى
أثلبني فتى كان النديم حياته ... لنا دون خلق الله كان أبا الرضا
حليماً أديباً ماجداً ذا سماحة ... بعيداً عن الفحشاء والشر والخنا
أميناً جواداً غير كز مخالف ... ولا جاعلاً رباً من المال ما حوى
يخونه الدهر الخئون بريبة ... فأصبح رهناً للصفائح والصفا
أناديه يا أوس بن حارثة الذي ... به كنت أنفي الهم عني والأذى
أجبني لقد أنفذت بالوجد عبرتي ... عليك أما ترثى لباك إذا بكى
وقد كنت ذا رأي وسمع وفطنة ... سريعاً إلى الداعي مجيباً الندا
فليس لنا إذا مات أوس منادم ... سوى قبره حتى يحل بنا الردى
وقال فيه أيضاً:
وردنا خزازي إذ وردنا ثلاثة ... كأنا جميعاً أيها الناس واحد
أنيس وأوس الحارثي بن خالد ... ونصر أخوهم والمنايا رواصد
فكنا ولا نبغي من الناس رابعاً ... كأنا أثاف لا نريم رواكد
فلما رمانا الناس بالأعين التي ... متى يرمقوا شيئاً بها فهو بائد
رمتني بنات الدهر منا بأسهم ... ونبل المنايا للرجال قواصد
فأردين أوساً لهف نفسي لفقده ... سقي قبره صوب الغمام الرواعد
فمات أنيس فعظم حزن نصر عليه، واتصل بكاؤه وجزعه له، وقال يرثيه:
أنيس فدته النفس ميتاً فقدته ... فنفسي له حرى عليه تقطع
أنيس فدتك النفس أصبحت مفردا ... وحيداً فما أدري أخي كيف أصنع
أنيس فدتك النفس خلفت حسرة ... علي فعيني الدهر ما عشت تدمع
أنيس فدتك النفس ماذا رزئته ... لقد خفت أن أقضي وشيكاً فأسرع
فكيف بقائي بعد أوس أخي الفدى ... وبعد أنيس لست في العيش أطمع
ثم جعل يجلس بين قبريهما فيشرب قدحاً ويصب في كل قبر قدحاً، ويقول:
خليلي هبا ما قد رقدتما ... أجدكما لا تقضيان كراكما
ألم تعلما ما إن راوند كلها ... ولا بخزازي لي صديق سواكما
أصب على قبريكما من مدامة ... فإلا تذوقا أرو منها ثراكما
مقيم على قبريكما لست بارحاً ... طوال الليالي أو يجيب صداكما
أجدكما ما ترثيان لموجع ... حزين على قبريكما إذ بكاكما
جرى النوم بين اللحم والعظم منكما ... كأنكما كأسي عقار سقاكما
ألم ترحماني أنني صرت مفرداً ... وأني مشتاق إلى أن أراكما
أناديكما بالجهر مني صبابة ... كأنكما لم تسمعا من دعاكما
فإن كنتما لا تسمعاني فما الذي ... خليلي عن سمع الدعاء عداكما
سأبكيكما حتى الممات فما الذي ... يرد على ذي عولة إن بكاكما
فلم يزل يشرب ويردد هذا الشعر حتى مات، فدفن إلى جانبهما، فقبورهم هناك تسمى قبور الإخوة.
تعليق لغوي
قال القاضي: قول أنيس في شعره: كأنا أثاف لا تريم رواكد، الأثافي أثافي القدر، وهي ما تنصب عليه من حجارة أو غيرها، والواحدة أثفية، ومثله أمنية وأماني وأوقية وأواق ، وقد يخفف هذا فيقال أماني وأواقي، وروى عن بعض المتقدمين أنه قرأ " لا يعلمون الكتاب إلا أماني " بالتخفيف، وقيل: هو في تخفيفه وتشديده بمنزلة قراقر وقراقير في جمع قرقور، والعرب تقول في دعائها على الرجل: رماه الله بثالثة الأثافي يريدون الجبل، لأنهم يجعلون للقدر أثفيتين ويسندونهما إلى الجبل فيغنيهم عن أثفية أخرى، وقيل: إنهم يخففون الأثافي من هذا الباب أكثر من تخفيفهم غيره لكثرة استعماله، ومن قال هذا ونحوه: الأخفش وقوله: لا تريم، أي لا تبرح، يقال: لا أريم وما أريم،ولا يستعمل إلا في النفي لا يقال: ما رمت كما يقال ما زلت، ولا يقال زلت في الأبيات، قال الشاعر:
لمن طلل برامة ما يريم ... عفا وخلا له حقب قديم
وقال الأعشى:
أبانا فلا رمت من عندنا ... فإنا بخير إذا لم ترم
وقال أيضاً:
أفي الطوف خفت علي الردى ... وكم من ردٍ أهله لم يرم
وقول نصر بن غالب في أنيس أيضاً: لقد خفت أن أقضي وشيكاً أسكن الياء في أقضي وحكمها أن تنصب بأن ليسلم بيته من الانكسار، وقد يجعل هذا على لغة من يقرأ الفعل المضارع على الرفع بعد أن ولا ينصبه وقد جاءت في الشعر أبيات على هذا في الصحيح غير المعتل، من ذلك قول الشاعر:
وإني لأجتاز القِرى طاوي الحشا ... محاذرةً من أن يقال لئيمُ
وروى بعضهم عن مجاهد أنه قرأ: " لمن أراد أن يتم الرضاعة " والأشهر عنه: من أراد أن يتم الرضاعة، وعلى توجيه الفعل إليها وقراءة الجمهور من السلف والخلف التي لا نستجيز تعديها " من أراد أن يتم الرضاعة " لوجوب الحجة بنقلها لصحتها في العربية ومقاييسها، ومما أسكنت ياؤه من معتل هذا الباب قول الأعشى:
فتىً لو ينادي الشمس ألقت قناعها ... أو القمر الساري لألقى المقالدا
وجاء مثله في الواو، وذلك قول الفرزدق:
فإن حراماً أن أسب مقاعساً ... بآبائي الشم الكرام الخضارمِ
ولكن نصفاً لو سببتُ وسبّني ... بنو عبد شمسٍ من منافٍ وهاشمِ
أولئك أكفائي فجئتني بمثلهم ... وأعبدُ أن أهجو كليباً بدارمِ
ومثل هذا كثير وشواهده وذكر علله من جهة النحو والإعراب واسع جداً، وله موضع هو أولى به، وقد أضيفت جملة هذا الشعر والخبر الذي تضمنه في رواية أخرى إلى قس بن ساعدة وأنه أنشد هذا في نديميه، وقد رويناه في أخبار قس وأقاصيصه.
الصمصامة سيف عمرو بن معدي كرب
حدثنا أبو النضر العقيلي أحمد بن إبراهيم بن إسحاق بن الحارث، قال: حدثنا محمد بن زكريا، قال: حدثنا محمد بن عبد الله، قال: أخبرني أحمد بن أبي محمد اليزيدي، قال: كان أبي ربّى الرشيد وموسى ابني المهدي وأدبهما قال: فدخلت على موسى وقد استخلف وكان يجلني ويكرمني، فسلمت فرد علي السلام واستقعدني فقعدت، وإذا بين يديه سيف عريض كأنه بقلة، فقلت: يا أمير المؤمنين! ما هذا؟ قال: هذا سيف عمرو بن معدي كرب الصمصامة، فاستحسنته، فقال لي أمير المؤمنين: قد كنت سألت أمير المؤمنين المهدي رضي الله عنه أن يهب لي هذا السيف فضن به عني ومنعنيه، فآليت إن بلغني الله تعالى أملي أن أمتحنه، وقد عزمت على أن أدعو غلامي طرخان الحريري وهو جيد الذراع، وأن يحضر لي صخرة سوداء طولانية من حجارة القصارين، وأتقدم إليه أن يجمع يديه في السيف ثم يضرب به الرأس الدقيق من الصخرة، فإن سلم سلم وإن يقطع يقطع، قال: فلم نزل نطلب إليه ونسأله إعفاء السيف من المحنة ونقول: شرفٌ من شرف العرب وسيف لا يوجد مثله، فأبى ودعا غلامه طرخان وأحضر الصخرة، قال أحمد، قال أبي: فقلت له: يا أمير المؤمنين! فإذا لم تطعني فاعمل له حديثاً يبقى على الدهر، يدخل من بالباب من الشعراء حتى يحضروا السيف ومحنته، فإن سلم وصفوه وإن يقطع رثوه، فأمر بإحضار الشعراء، وكان بالباب منهم أبو الهول وأبو الغول التميمي وسلم الخاسر، فقيل لهم: إن أمير المؤمنين أحضركم لمحنة هذا السيف فمن أحسن الوصف له والقول فيه فصلته عشرة آلاف درهم وخلعة وحملان، ثم أحضر طرخان والسيف بين يدي موسى، فحسر عن ذراعيه وهزه وجمع يديه في قائمة ثم ضرب به الصخرة فمضى فها باتراً لها ولم يصبه شيء،فأما أبو الهول فلم يصف شيئاً، وأما سلم فلم يرض ما قال، وأما أبو الغول فوصف فأحسن واخذ الصلة عشرة آلاف درهم والحملان والخلع وانصرف، وأمر لأبي الهول وسلم الخاسر بخمسة آلاف خمسة آلاف وانصرفا، فكان الشعر لأبي الغول حيث يقول:
حاز صمصامة الزبيدي من بي ... ن جميع الأنام موسى الأمين
سيف عمرو وكان فيما علمنا ... خير ما أغمدت عليه الجفون
أخضر اللون بين حديه بردٌ ... من رياحٍ تميس فيه المنون
أوقدتْ فوقه الصواعق نارا ... ثم شابته بالزعاف القيون
فإذا ما سللته بهر الشم ... س ضياء فلم تكد تستبين
ما يبالي إذا الضريبة حانت ... أشمالٌ سطت به أم يمين
نتيجة الرفق ونتيجة التعذيبحدثنا الحسين بن المرزبان النحوي، قال: حدثني علي بن جعفر بن بنان المخزمي، قال: حدثني عمر بن شبة، قال: حدثني علي بن محمد المدائني، عن أبي المضرحي، قال: أمر الحجاج محمد بن المنتشر بن أخي مسروق بن الأجدع أن يعذب أزداد مرذ بن الهربز، فقال أزداد مرذ: يا محمد! إن لك شرفاً قديماً، وإن مثلي لا يعطى على الذل شيئاً، فاستأد وارفق بي، فاستأدى في جمعة ثلاثمائة ألف، فغضب الحجاج وأمر معبداً صاحب العذاب أن يعذبه فدق يديه ورجليه فلم يعطهم شيئاً، قال : فإني لأسير بعد ثلاثة أيام إذ أنا بأزداد مرذ معترضاً على بغل قد دقت يداه ورجلاه، فقال: يا محمد! فكرهت أن آتيه فيبلغ الحجاج، وتذممت من تركه إذ دعاني، فدنوت منه فقتل: حاجتك؟ فقال: إنك قد وليت مني مثل هذا فأحسنت إلي، ولي عند فلانة مائة ألف درهم، فانطلق فخذها، قفلت: لا والله لا آخذ تدرهماً وأنت على هذه الحال، قال: فإني أحدثك حديثاً سمعته من أهل دينك، يقولون: إذا أراد الله بالعباد خبراً أمطرهم في أوانه، واستعمل عليهم خيارهم، وجعل المال عند سمحائهم، وإذا أراد بهم شراً أمطروا في غير أوانه، واستعمل عليهم شرارهم، وجعل المال في أشحائهم. ومضى وأتيت منزلي فما وضعت ثيابي حتى جاءني رسول الحجاج، فأتيته وقد اخترط سيفه فهو في حجره، فقال: ادنُ، فدنوت قليلً، ثم قال: ادن، فقلت: ليس بي دنو، وفي حجر الأمير ما أرى، فأضحكه الله تعالى لي وأغمد السيف فقال: ما قال لك الخبيث، فقلت: والله ما غششتك منذ استنصحتني، ولا كذبتك مذ صدقتني، ولا خنتك منذ ائتمنتني، وأخبرته بما قال: فلما أردت ذكر الرجل الذي عنده المال صرف وجهه، وقال لا تسمه، ثم قال: لقد سمع عدو الله الأحاديث.
كيف يكون بارداً وله هذا الشعر
حدثنا إبراهيم بن الفضل بن حبان الحلواني، قال: حدثني أبو بكر بن ضباب، قال: سمعت بعض أصحابنا بالرقة يقول: كبر خالد الكاتب حتى دق عظمه ورق جلده فوسوس، فرأيته ببغداد والصبيان يتبعونه ويصيحون به: يا بارد يا بارد! فاسند ظهره إلى قصر المعتصم، وقال: كيف أكون بارداً وأنا الذي أقول:
بكى عاذلي من رحمتي فرحمته ... وكم من مبعدٍ من مثله ومعينِ
ورقت دموع العين حتى كأنها ... دموعي لا دموع جفوني
السيد الحميري يستكمل هديةحدثنا محمد بن الحسن بن زياد المقري، قال: أخبرنا الصائغ بمكة، قال: أخبرنا يحيى بن معين، قال: أخبرني محمد بن كناسة: أن والياً كان بالكوفة أهدى إلى السيد بن محمد الحميري رداءً عدنياً، فكتب إليه السيد في شعر وجه به إليه:
وقد أتانا رداءٌ من هديتكم ... فلا عدمناك طول الدهر من والِ
نعم الرداء جزاك الله صالحة ... لو أنه كان موصولاً بسربال
فلما قرأ اشعر أهدى إليه خلعة تامة.
معاتبات في عدم قضاء الحاجةحدثنا محمد بن أحمد بن إبراهيم الحكيمي، قال: حدثنا أحمد بن أبي خيثمة، قال: أنشدت لسعيد بن سليمان المساحقي القاضي في هارون بن زكريا كاتب العباس بن محمد:
أزورك رفهاً كل يومٍ وليلةٍ ... ودرك مخزونٌ علي قصير
لأي زمان أرتجيك وخلة ... إذا أنت لم تنفع وأنت وزير
فإن الفتى ذا اللب يطلب ماله ... وفي وجهه للطالبين بشير
حدثنا أبي، قال: حدثنا أبو أحمد الختلي، قال: أخبرنا أبو حفص النسائي قال: حدثني محمد بن عبد الرحمن، قال: كتب رجل إلى يحيى ابن خالد بن برمك في حاجة وكان وعده فمطله إياها فأرسل إليه بهذه الأبيات:
لولا الممات وأن العمر منتقص ... لما اكترثت بما تأتي من العلل
إما اعتزمت على تنفيذ وعدك لي ... فامنع حياتي من الآفات والأجل
وما تذكر قوم ما فعلت بهم ... عند الورود على معروفك الخضل
إلا استعنت بوجه الأرض أنكته ... وأضم بعضي إلى بعضي من الخجل
قال: فقضى حاجته وأحسن جائزته، ووقع ما قاله بألطف الموقع عنده.
عبيد الله بن جعفر يهب ثيابه لبعض الفتيانحدثنا عبيد الله بن محمد بن جعفر الأزدي، قال: حدثنا أبو بكر بن أبي الدنيا، قال: حدثني أحمد بن عبد الأعلى الشيباني، وأحمد بن عبيد الله الغنوي، أن عبد الله بن جعفر كان في سفر له، فمر بفتيان يوقدون تحت قدر لهم، فقام إليه أحدهم، فقال:
أقول له حين ألفيته ... عليك السلام أبا جعفر
فوقف وقال: وعليك السلام ورحمة الله، فقال:
وهذي ثيابي فقد أخلقت ... وقد عضني زمن منكر
قال: فهذه ثيابي مكانها - وعليه جبة خز وعمامة خز ومطرف خز - ونعينك على زمنك، فقال:
فأنت كريم بني هاشم ... وفي البيت منها الذي يذكر
قال: يا ابن أخي، ذاك رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال القاضي: وهذي ثيابي، ويقال: هاتا أيضاً، قال الشاعر:
فهذي سيوف يا صدي بن مالك ... كثير ولكن أين بالسيف ضارب
وقال آخر في هاتا:
إن كنت كارهة لعيشتنا ... هاتا فحلي في بني بدر
وروى عن أبي عبد الرحمن السلمي أنه قرأ " ولا تقربا هذه الشجرة " ، وأما هذا ففيه ثلاث لغات. هذا وهي أفصحهن وأشهرهن، وهذاء بمدة بعدها همزة مكسورة، وهذائه بمدة بعدها همزة ثم هاء مكسورتان وكسرة الهاء مشبعة، قال الشاعر في هذه اللغة:
هذائه الدفة خير دفتر ... في كف خير عالم مصور
وآخرون يروون هذه القصة عن المنصور.
حدثنا أبو بكر بن دريد، قال: أخبرنا الحسن بن خضر، عن أبيه، قال: دخل رجل على المنصور، فقال:
أقول له حين واجهته ... عليك السلام أبا جعفر
فقال له المنصور: وعليك السلام، فقال:
فأنت المهذب من هاشم ... وفي الفرع منها الذي يذكر
فقال له المنصور: ذاك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال:
فهذي ثيابي قد أخلقت ... وقد عضني زمن منكر
فألقى إليه المنصور ثيابه وقال: هذه بدلها.
المجلس الخامس والعشرون
الرزق على قدر النفقةحدثني محمد بن عمر بن نصير الحربي الحمال، قال: حدثني محمد بن سعد كاتب الواقدي، قال: حدثنا محمد بن عمر الواقدي، قال: أوصلت إلى أمير المؤمنين رقعة أشكو فيها غلبة الدين وحالا قد دفعت إليها، فوقع على ظهر رقعتي: فيك يا شيخ خلتان: الحياء والسخاء، أما السخاء فهو الذي أخرج ما في يديك، وأما الحياء فهو الذي قطعك عن إطلاعنا على حالك، وقد أمرت لك بمائة ألف درهم فإن كانت فيها بلغة فذاك، وإن يكن غير ذلك فهذه ثمرة ما جنيت على نفسك، فأنت حدثتني وأنت قاض لأبي الرشيد، عن محمد بن إسحاق الزهري، عن أنس بن مالك، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " إن مفاتيح الرزق متوجهة نحو العرش فينزل الله عز وجل على الناس أرزاقهم على قدر نفقاتهم، فمن كثر كثر له، ومن قلل قلل له " . قال الواقدي: فكنت أنسيت هذا الحديث حتى حدثني به المأمون فكان أحظى عندي من الصلة.
ابن هرمة يرثى الحكم بن المطلبحدثنا محمد بن الحسن بن دريد، قال: أخبرنا أبو عثمان، قال: أخبرني رجل من قريش بمكة، أحسبه قال: من ولد عبد الرحمن بن عوف، قال: حدثني حميد بن مغوث الحمصي عن أبيه، قال: كنت فيمن حضر الحكم بن المطلب بن عبد الله بن المطلب بن حنظب بن الحارث ابن عبد بن عمر بن مخزوم وهو يجود بنفسه بمنبج، قال: ولقي من الموت شدة، فقال رجل ممن حضر وهو في غشية له: اللهم هون عليه فإنه كان وكان، فلما أفاق قال: من المتكلم؟ قال: المتكلم أنا. فقال: إن ملك الموت يقول لك: إني بكل سخي رفيق، قال: وكأنما كانت فتيلة أطفئت، فلما بلغ موته ابن هرمة قال:
سألا عن الجود والمعروف أين هما ... فقلت إنهما ماتا مع الحكم
ماتا مع الرجل الموفي بذمته ... يوم الحفاظ إذا لم يوف بالذمم
ماذا بمنبج لو تنشر مقابرها ... من التهدم بالمعروف والكرم
قال ابن دريد: فسألت أبا حاتم عن قوله: لو تنشر مقابرها لم جزم؟ فقال: قال قوم من النحويين: كراهة لكثرة الحركات، كما قال الراجز:
إذا اعوججن قلت صاحب قوم ... بالدو أمثال السفين العوم
وقال: لو قال: لو نبشت مقابرها لاستراح من اللبس وكان كلاماً فصيحاً.
قال القاضي: وقد بينا فيما مضى من هذه المجالس هذا النحو مما سكن في الشعر مع استحقاقه التحريك، وذكرنا ما أنشده سيبويه في هذا المعنى والاختلاف في روايته واستجازته، ما يغني عن إعادته، فأما قول أبي حاتم في معنى نبشت في لفظ الفعل الماضي وإسكان عينه، فهو كما قال: وهو مطرد في القياس وقد جاء منه شيء كثير، ومن ذلك قول أبي النجم:
لو عصر منه المسك والبان انعصر
ومثله:
رجم به الشيطان في ظلمائه
وفود جرير على عبد الملك بن مروانحدثنا محمد بن القاسم الأنباري، قال: حدثني أبي، قال: حدثنا عبد الله بن عمرو الوراق، قال: حدثنا محمد بن عبد الله بن طهمان قال: حدثنا عمرو بن أبي عمرو الشيباني، عن أبي عمرو الشيباني، قال: حدثني مروان بن أبي حفصة، قال: جلس عبد الملك بن مروان يوماً للناس على سرير، وعند رجل السرير محمد بن يوسف أخو الحجاج بن يوسف، وجعل الوفود يدخلون عليه ومحمد بن يوسف يقول: يا أمير المؤمنين! هذا فلان، هذا فلان، إلى أن دخل جرير بن الخطفي فقال: يا أمير المؤمنين! هذا جرير بن الخطفي، قال: فلا حياه الله، القاذف للمحصنات والعاضة لأعراض الناس - قال أبو بكر بن الأنباري: العاضه: المغتاب، ويقال: العاضه : النمام، ويقال: الساحر، قال القاضي: ومنه الخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه لعن العاضهة والمستعضهة، يعني الساحرة والمستسحرة، قال الراجز:
الماء من عضاههن زمزمه
وقيل في قول الله تعالى: " الذين جعلوا القرآن عضين " أقوال منها: هذا، وهو أن المشركين قالوا: هو سحر، وقيل: إنهم عضوه بأن آمنوا ببعضه وكفروا ببعضه، وقيل، بل اقتسموه بينهم استهزاء فقالوا: لفلان هذه السورة ولفلان هذه السورة، فعضوه كما تعضى الشاة وكما تجزأ أعضاء الجزور فتقسم وتوزع بين مقتسميها وهذا فيما يتضمن عنه بمشيئة الله وعونه كتابنا المسمى البيان الموجز عن علوم القرآن المعجز ونأتي على ما جاء فيه عن أهل العلم، وأصحاب التأويل والمفسرين، وعن أصحاب المعاني النحويين، ومن العضه السحر، ما أنشدنيه عبيد الله بن محمد بن جعفر الأزدي، قال: أنشدنا أحمد بن يحيى:
أعوذ بربي من النافثا ... في عقد العاضه المعضه
وقال: يعني بهما الساحر، وقال أبو موسى الحامض: المعضه الذي يأتي بالأمر العظيم ثم يبهت - فقال جرير: يا أمير المؤمنين دخلت فاشرأب الناس نحوي، ودخل قوم بعدي فلم يشرئب الناس إليهم، فقدرت أن ذلك لذكر جميل ذكرني به أمير المؤمنين، فقال عبد الملك: لما ذكرت لي قلت: لا حياه الله القاذف للمحصنات العاضه لأعراض الناس، فقال جرير: والله يا أمير المؤمنين ما هجوت أحداً حتى أجزه عرضي سنة، فإن أمسك أمسكت، وإن أقام استعنت عليه وهجوته، فقال له: هذا صديقك أبو مالك سلم عليه - يعني الأخطل - فاعتنقه وقال: والله يا أمير المؤمنين ما هجاني أحد كان هجاؤه علي أشد من هجائه، إلا أني كنت أظن أنه يرشي على هجائي، فقال له الأخطل: كذبت وأتن أمك، قال له جرير: صدقت وخنازير أمك، فقال عبد الملك: أحضروا جامعة فأحضرت و غمز الوليد الغلام أن ناجز بها، فقال عبد الملك للأخطل: أنشد، فأنشد:
تأبد الربع من سلمي بأجفار ... وأقفرت من سليمي دمنة الدار
حتى ختمها، فقال له عبد الملك: قضينا لك أنك أشعر من مضى ومن بقي. واستأذنت قيس عبد الملك في أن ينشد جرير فأبى، ولم يزل جرير مقيماً دهراً يلتمس إنشاد عبد الملك وقيس تشفع له، وعبد الملك يأبى إلى أن أذن له يوماً، فأنشده:
أتصحو بل فؤادك غير صاح ... عشية هم صحبك بالرواح
فقال عبد الملك: بل فؤادك يا بن اللخناء - قال أبو بكر: اللخناء: المنتنة الريح، فلما انتهى إلى قوله:
تعزت أم حزرة ثم قالت ... رأيت الموردين ذوي اللقاح
تعلل وهي ساغبة بنيها ... بأنفاس من الشبم القراح
قال أبوبكر: الشبم: البارد، والقراح: الماء الذي ليس معه لبن، والساغبة الجائعة، قال القاضي: ومن دعاء العرب: حلبت قاعداً وشربت بارداً، يريدون كنت ذا غنم تحلبها وأنت قاعد ولا إبل لك تحلبها قائماً، وشربت بارداً أي ماء محضاً، قال عبد الملك: لا أروى الله عيمتها، قال القاضي: العيمة: شهوة اللبن، يقال: عمت إلى اللبن أعيم عيمة، ومن دعاء العرب: ما له عام وغام وآم، فغام: قرم إلى اللبن ولم يقدر عليه، وآم: ماتت امرأته، كما قال الشاعر:
وأبنا وقد آمت نساء كثيرة ... ونسوان سعد ليس فيهن أيم
معنى آمت نساء مات أزواجهن، وغام: عطش فلم يقدر على الماء، فلما انتهى إلى قوله:
ألستم خير من ركب المطايا ... وأندى العالمين بطون راح
قال عبد الملك: من مدحنا فليمدحنا هكذا. فلما ختمها أمره بإعادتها، فلما أنشد:
أتصحو أم فؤادك غير صاح
لم يقل له ما قال في المرة الأولى، ولما ختمها أمر له بمائة ناقة بأداتها ورعاتها، فقال جرير: يا أمير المؤمنين! اجعلها من إبل كلب، وإبل كلب إبل كرام.
قال القاضي: وقد كتبنا هذا الخبر عن أبي بكر بن الأنباري في مجلس آخر: فأتى به بزيادة في هذه القصيدة وأنشد فيه كلمة جرير كلها وفسر غريبها، وإذا عثرنا عليه رسمناه فيما نستقبله من مجالسنا هذه إن شاء الله.
الرشيد يحبس محمد بن الليث ثم يطلقه ويكرمه
حدثنا الحسين بن القاسم الكوكبي، قال: حدثنا الحسن بن زيد أبو علي الكاتب المعروف بالحكيمي، قال: سمعت أحمد بن يوسف الكاتب يقول: حدثني ثمامة بن أشرس، قال: أول ما أنكر يحيى بن خالد من أمره، أن محمد بن الليث أبي الربيع الكاتب كتب إلى الرشيد رسالة يعظه فيها ويذكر فيها يحيى بن خالد ويقول: يا أمير المؤمنين إن يحيى بن خالد لا يغني عنك من الله شيئاً، وقد جعلته فيما بينك وبين الله عز وجل، فكيف أنت إذا وقفت بين يديه فسألك عما عملت في عباده وبلاده، فقلت: أي رب! استكفيت يحيى بن خالد أمور عبادك، أتراك تحتج بحجة يرضاها؟ مع كلام فيه توبيخ وتقريع، فلما قرأها الرشيد دعا يحيى بن خالد وقد تقدم إلى يحيى خبر هذه الرسالة، فقال له: أتعرف محمداً بن الليث؟ قال: نعم، قال: فأي الرجال هو؟ قال: متهم على الإسلام. فأمر الرشيد بمحمد بن الليث فوضع في المطبق فأقام دهراً، فلما تنكر الرشيد للبرامكة ذكره فأمر بإخراجه فأحضر، فقال له بعد مخاطبة طويلة: يا محمد! أتحبني، قال: لا والله يا أمير المؤمنين، قال: أوتقول هذا؟ قال: نعم، وضعت في رجلي الأكبال وحلت بيني وبين العيال بلا ذنب ولا حدث أحدثت سوى قول حاسد يكيد الإسلام وأهله، ويحب الإلحاد وأهله، فكيف أحبك؟قال: صدقت، وأمر بإطلاقه، ثم قال له: يا محمد بن الليث أتحبني، قال لا والله يا أمير المؤمنين، ولكن قد ذهب بعض ما كان في قلبي، فأمر أن يدفع إليه من ساعته مائة ألف درهم فأحضرت، فقال: يا محمد أتحبني؟ قال: أما الآن فنعم، قد أنعمت وأحسنت، فقال: انتقم الله لك ممن ظلمك وأخذ بحقك ممن بغى عليك، فكان هذا أول ما ظهر من الرشيد في أمر يحيى بن خالد ثم تزيد الأمر بعد ذلك.
خبر وضاح اليمنحدثنا أبي، قال: حدثنا أبو أحمد الختلي، قال: أخبرنا أبو حفص النسائي، قال: حدثني محمد بن حبان بن صدقة، عن محمد بن أبي السري، عن هشام بن محمد بن السائب، قال: كانت عند يزيد بن عبد الملك بن مروان أم البنين بنت فلان، وكان لها من قلبه موضع قال: فقدم عليه من ناحية مصر بجوهر له قيمة وقدر، قال: فدعا خصياً له فقال: اذهب بهذا إلى أم البنين وقل لها: أتيت به الساعة فبعثت به إليك، قال: فأتاها الخادم فوجد عندها وضاح اليمن وكان من أجمل العرب وأحسنها وجهاً، فعشقته أم البنين فأدخلته عليها، فكان يكون عندها فإذا أحست بدخول يزيد بن عبد الملك عليها أدخلته في صندوق من صناديقها، فلما رأت الغلام قد أقبل أدخلته في الصندوق فرآه الغلام ورأى الصندوق الذي دخل فيه، فوضع الجوهر بين يديها وأبلغها الرسالة، ثم قال: يا سيدتي هبي لي منه لؤلؤة، قالت: لا، ولا كرامة، فغضب وجاء إلى مولاه فقال: يا أمير المؤمنين! إني دخلت عليها وعندها رجل، فلما رأتني أدخلته صندوقاً فهو في الصندوق الذي من صفته كذا وكذا وهو الثالث أو الرابع، فقال له يزيد: كذبت يا عدو الله، جئوا في عنقه فوجأوا عنقه ونحوه عنه، قال: فأمهل قليلاً ثم قام فلبس نعله ودخل على أم البنين وهي تمتشط في خزانتها، فجاء حتى جلس على الصندوق الذي وصف له الخادم، فقال: يا أم البنين! ما أحبب إليك هذا البيت؟ قالت: يا أمير المؤمنين! أدخله لحاجتي وفيه خزانتي فما أردت من شيء أخذته من قرب، قال: فما في هذه الصناديق التي أراها؟ قالت: حليي وأثاثي، قال: فهبي لي منه صندوقاً، قالت: كلها يا أمير المؤمنين، قال: لا أريد إلا واحداً ولك علي أعطيك زنته وزنة ما فيه ذهباً، قالت: فخذ ما شئت، قال: هذا الذي تحتي، قالت: يا أمير المؤمنين! عد عن هذا وخذ غيره، فإن لي فيه شيئاً يقع بمحبتي، قال: ما أريد غيره، قالت: هو لك، قال: فأخذه ودعا الفراشين فحملوا الصندوق فمضى به إلى مجلسه فجلس ولم يفتحه ولم ينظر ما فيه، فلما جنه الليل دعا غلاماً له أعجمياً، فقال له: استأجر أجراء غرباء ليسوا من أهل المصر، قال: فجاء بهم فأمرهم فحفروا له حفرة في مجلسه حتى بلغ الماء، ثم قال: قدموا لي الصندوق فألقي في الحفرة ثم وضع فمه على شفره فقال: يا هذا! قد بلغنا عنك الخبر فإن يكن حقاً فقد قطعنا أثره وإن يكن باطلاً فإنما دفنا خشباً، ثم أهالوا عليه التراب حتى استوى، قال: فلم ير وضاح اليمن حتى الساعة، قال: فلا والله ما بان لها في وجهه ولا في خلائقه ولا في شيء حتى فرق الموت بينهما.
جنه وجن عليه
قال القاضي: في هذا الخبر: فلما جنه الليل، والفصيح من كلام العرب: جن عليه الليل وأجنه الليل، قال الله جل اسمه " فلما جن عليه الليل رأى كوكباً " وفيه لغة أخرى وهو جنه كما جاء في الخبر، وقد روى عن بعض الماضين من القراء " جنه المأوى " وهذا وجه شاذ في القراءة، واللغة، وفي هذا الخبر أيضاً وجه من اللغة ليس بالظاهر السائر وهو قوله: ثم أهالوا عليه التراب، واللغة الفاشية الصحيحة العالية: هلت عليه التراب أهيله، قال الله جل ثناؤه: " وكانت الجبال كثيباً مهيلاً " .
من أدب آل البيتحدثنا عبد الله بن محمد بن جعفر بن شاذان أبو الحسن البزاز،قال: حدثنا أبو غسان، عن عبد الله بن محمد بن يوسف بالقلزم، قال: حدثني عبد الله بن محمد اليماني، عن علي بن يوسف المدائني، قال: سمعت سفيان الثوري، يقول: دخلت على أبي عبد الله جعفر بن علي رضي الله عنهم، فقلت: يا ابن رسول الله أوصني، فقال: يا سفيان! لا مروءة لكذوب، ولا راحة لحسود، ولا خلة لبخيل، ولا أخاً لملول، ولا سؤدد لسيء الخلق ، قلت يا ابن رسول الله، زدني، قال: يا سفيان! كف عن محارم الله تكن عابداً، وارض بما قسم الله لك تكن مسلماً، واصحب الناس بما تحب أن يصحبوك به تكن مؤمناً، ولا تصحب الفاجر فيعلمك من فجوره، وشاور في أمورك الذين يخشون الله تعالى، فقلت: يا ابن رسول الله: زدني، قال: يا سفيان! من أراد عزاً بلا عشيرة وهيبة بلا سلطان، فليخرج من ذل معصية الله تعالى إلى طاعة الله عز وجل، قلت: يا ابن رسول الله زدني قال: يا سفيان أدبني أبي بثلاث وأتبعني بثلاث، قلت يا ابن رسول الله! ما الثلاث التي أدبك بهن أبوك؟ قال: قال لي أبي: من يصحب صاحب السوء لا يسلم، ومن يدخل مداخل السوء يتهم، ومن لا يملك لسانه يندم. ثم أنشدني:
عود لسانك قول الخير تحظ به ... إن اللسان لما عودت معتاد
موكل بتقاضي ما سننت له ... في الخير والشر فانظركيف ترتاد
قال: فقلت: فما الثلاث الأخر؟ قال: قال أبي: إنما يتقى حاسد نعمة، أو شامت بمصيبة، أو حامل نميمة.
وفود كثيرة عزة على عبد الملك وحديثه معهحدثنا الحسين بن علي بن المزربان النحوي، قال: حدثنا عبد الله بن هارون النحوي، قال: أخبرنا أبو بكر محمد بن أبي يعقوب الدينوري، قال: أخبرني نصر بن منصور، عن العتبي، قال: كان عبد الملك بن مروان يحب النظر إلى كثير إذا دخل عليه آذنه يوماً، فقال: يا أمير المؤمنين! هذا كثير بالباب، فاستبشر عبد الملك، وقال: أدخله يا غلام، فدخل كثير وكان دميماً حقيراً تزدريه العين فسلم بالخلافة، فقال عبد الملك: تسمع بالمعيدي خير من أن تراه، فقال كثير: مهلاً يا أمير المؤمنين، فإنما الرجل بأصغريه - قال القاضي: العرب تقول: تسمع بالمعيدي لا أن تراه، وأن تسمع بالمعيدي خير من أن تراه، وهو مثل سائر - بلسانه وقلبه، فإن نطق نطق ببيان، وإن قاتل قاتل بحنان، وأنا الذي أقول يا أمير المؤمنين:
وجربت الأمور وجربتني ... فقد أبدت عريكتي الأمور
وما يخف الرجال علي إني ... بهم لأخو مثاقبة خبير
ترى الرجل النحيف فتزدريه ... وفي أثوابه أسد يزير
ويعجبك الطرير فتبتليه ... فيخلف ظنك الرجل الطرير
وما عظم الرجال لهم بزين ... ولكن زينها كرم وخير
بغاث الطير أطولها جسوماً ... ولم تطل البزاة ولا الصقور
وروى
بغاث الطير أكثرها فراخاً ... وأم الصقر مقلات نزور
وفي بغاث الطير لغتان: بغاث وبغاث بالفتح والكسر، فأما الضم فخطأ عند أهل العلم باللغة، فقد أجاز بعضهم الضم، والمقلات التي لا يعيش لها ولد، والقلت بفتح اللام: الهلاك ، ومن ذلك ما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " المسافر وما معه على قلت إلا ما وقى الله عز وجل " ومنه قول الشاعر
فلم أر كالتجمير منظر ناظر ... ولا كليالي الحج أقلتن ذا هوى
ويروى: أفلتن بالفاء، فأما القلت بسكون اللام: فالنقرة في الجبل أو الحجر يجتمع فيها الماء، تجمع قلات، قال الشاعر:
كأن عينيه من الغئور ... قلتان في جوف صفاً منقور
ثم رجعنا إلى شعر كثير:
لقد عظم البعير بغير لب ... فلم يستغن بالعظم البعير
فيركب ثم يضرب بالهراوي ... فلا عرف لديه ولا نكير
قال القاضي فيروى:
يجرره الصبي بكل سهب ... ويحبسه على الخسف الجرير
قال القاضي: الجرير: الحبل، وبه سمي الرجل: قال الشاعر:
يرى في كف صاحبه خلاء ... فيفزعه ويجبنه الجرير
رجعنا إلى شعر كثير:
وعود النبع ينبت مستمراً ... وليس يطول والقصباء خور
قال القاضي: النبع من كريم الشجر وتتخذ منه القسي، قال الشاعر:
ألم تر أن النبع يصلب عوده ... ولا يستوى والخروع المتقصف
وقال الأعشى:
ونحن أناس عودنا عود نبعة ... إذا افتخر الحيان بكر وتغلب
قال:فاعتذر إليه عبد الملك ورفع مجلسه، ثم قال: يا كثير! أنشدني في إخوان دهرك هذا، فأنشده:
خير إخوانك المشارك في المر ... روأين الشريك في المر أينا
الذي إن حضرت سرك في الح ... ي وإن غبت كان أذناً وعينا
ذاك مثل الحسام أخلصه الق ... ين وجلاه الجلاء فاداد رينا
قال القاضي: ويروى: جلاه التلام يريد التلامذة والتلاميذ وهم الصياقلة ها هنا، ويقال التلام المدوس وهو حجر يجلى به، رجع الشاعر:
أنت في معشر إذا غبت عنهم ... بدلوا كل ما يزينك شينا
فإذا ما رأوك قالوا جميعاً ... أنت من أكرم الرجال علينا
فقال له عبد الملك: يغفر الله لك يا كثير، فأين الإخوان؟ قال: غير أني أنا الذي أقول:
صديقك حين تستغني كثير ... ومالك عند فقرك من صديق
فلا تنكر على أحد إذا ما ... طوى عنك الزيارة عند ضيق
وكنت إذا الصديق أراد غيظيعلى حنق وأشرقني بريقي غفرت ذنوبه وصفحت عنهمخافة أن أكون بلا صديق
خروج عبد الملك بنفسه إلى حرب مصعب وتمثله بشعر لكثيرحدثنا محمد بن يحيى الصولي، قال حدثنا محمد بن يزيد، قال: أخبرني محمد بن عبد الله بن طاهر، عن أبيه، عن جده، قال: وفد كثير على عبد الملك وهو يريد الخروج إلى مصعب، فقال له لما خرج: يا ابن أبي جمعة! ذكرتك بشيء من شعرك الساعة، فإن أصبته فلك حكمك، قال: نعم يا أمير المؤمنين أردت الخروج فبكت عاتكة بنت يزيد وحشمها - يعني امرأته - فذكرت قولي:
إذا ما أراد الغزو لم تثن همه ... حصان عليها نظم در يزينها
نهته فلما لم تر النهي عاقه ... بكت فبكى مما عراها قطينها
فقال: أصبت والله، احتكم، قال: مائة ناقة من نوقك المختارة، قال: هي لك،فلما كان الغد نظر عبد الملك إلى كثير يسير في عرض الناس ضارباً بذقنه على صدره يفكر، فقال علي بكثير فجيء به، قال: فإن أصبت ما كنت تفكر فيه فلي حكمي؟ قال: نعم، قال: الله، قال: الله، قال: قلت في نفسك: ما أصنع بالمسير مع هذا الرجل، ليس على نحلتي ولا على مذهبي يسير إلى رجل كذلك وكلاهما عندي ظالم من أهل النار، ويلتقي الحيان فيصيبني سهم غرب فأكون قد خسرت الدنيا والآخرة، قال: والله يا أمير المؤمنين ما أخطأت حرفاً فاحتكم، قال حكمي أحسن صلتك وأصرفك إلى أهلك، ففعل ذلك
معنى الغربقال القاضي: يقال: أصابه سهم غرب وغرب والتحريك أعلاهما، وهو أن يصيبه السهم على حين غفلة منه، والغرب أيضاًً علة تعرض للعين، والغرب دلو عظيمة، ومنه الخبر: " بالغرب ففيه نصف العشر " ويجمع غروباً، كما قال الأعشى:
من ديار بالهضب هضب القليب ... فاض ماء الشؤون فيض الغروب
والغرب مقابل الشرق، والغرب بالتحريك ضرب من الشجر معروف، والغرب بالفتح أيضاً من أسماء الفضة،قال الأعشى:
إذا انكب أزهر بين السقاة ... ولعوا به غرباً أو نضارا
قال أبو عبيدة:الغرب: الفضة، والنضار: الذهب، وقال الأصمعي: الغرب: الخشب، والنضار: الأثل، وكل ناعم فهو نضار، وقيل للأصمعي: أنهم لم يكونوا يشربون في آنية الخشب يعني الأكاسرة، ويقال للفضة:اللجين، والقطعة منه سبيكة ودبلة، والذهب: نضر وعقيان وعسجد، ويقال له: الزخرف، والغرب أيضاً: ما سال من الحوض والبئر من الماء، كما قال ذو الرمة:
فأدرك المتبقى من ثميلته ... ومن ثمائلها واستنشئ الغرب
قوله: واستنشئ الغرب معناه أنه شم من قولهم: شممت منه نشوة طيبة أي ريحاً طيبة، يقول:شممن الماء من شدة العطش، يعني حمر الوحش.
/بسم الله الرحمن الرحيم
المجلس السادس والعشرون
أصل المعانقة والمصافحةحدثنا محمد بن أحمد بن إبراهيم، أبو سعيد الخوارزمي، حدثنا يوسف بن محمد الطويل، حدثنا محمد بن حاتم الجرجائي، حدثنا سلمة ابن صالح الأحمر، عن عثمان بن عطاء، عن أبيه، عن أبي سفيان، عن تميم الداري، قال: " سئل رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، عن معانقة الرجل الرجل إذا لقيه؟ قال: كان تحية الأمم وخالص ودهم العناق، وإن أول من عانق خليل الرحمن إبراهيم صلى الله عليه وسلم، فإنه خرج يرتاد لماشيته بجبلٍ من جبال بيت المقدس، إذ سمع صوت مقدسٍ يقدس الله عز وجل، فذهل عما كان يطلب، فقصد ذلك الصوت، فإذا هو بشيخ طوله ثمانية عشر ذراعاً، فقال له إبراهيم: يا شيخ! من ربك؟ قال: من في السماء، قال: فمن رب من في الأرض؟ قال: الذي في السماء، قال: ألها رب غيره؟ قال: فمن رب من في الأرض؟ قال: الذي في السماء، قال: ألها رب غيره؟ قال: مالها رب غيره، وهو رب من فيها ورب من تحتها ومن فوقها، لا إله إلا الله وحده، قال إبراهيم: أين قبلتك؟ فأومأ إلى الكعبة، فسأله عن طعامه، قال: أجمع من هذا التمر في الصيف فآكله في الشتاء، فقال: ما بقي معك من قومك أحد؟ قال: لا أعلم أحدٌ بقي من قومي غيري، قال له إبراهيم عليه السلام: أين منزلك؟ قال: في تلك المغارة قال: أفترينا بيتك، قال: بيني وبينه وادٍ لا يخاض، فقال إبراهيم: كيف تعبره؟ قال: أمشي عليه ذاهباً وأمشي عليه جائياً، فقال له إبراهيم: فانطلق بنا لعل الذي ذلله لك أن يذلله لي، قال: فانطلقا يمشيان حتى انتهيا إليه، فمشيا عليه، كل واحد يتعجب مما أوتي صاحبه، فلما دخلا المغارة إذا قبلته قبلة إبراهيم عليه السلام، فقال له إبراهيم: أي يومٍ خلق الله تعالى أشد؟ قال الشيخ: يوم الدين، يوم يضع كرسيه، يوم تؤمر جهنم فتزفر زفرةً فلا يبقى نبي مرسل، ولا ملك مقرب إلا تهمه نفسه، قال إبراهيم: يا شيخ! ادع الله لي أن يؤمني وإياك من هول ذلك اليوم، فقال الشيخ: وما تصنع بدعائي، إن لي في السماء دعوةً محبوسةً منذ ثلاث سنين، قال له إبراهيم: ألأا أخبرك بما حبس دعوتك؟ قال: بلى، قال: إن الله تعالى إذا أحب عبداً حبس دعواته لحب صوته، ثم يجيبه من بعد ذلك، وإن الله تعالى إذا أبغض عبداً عجل له الحاجة وألقى اليأس في صدره لبغض صوته، ما دعوتك يا شيخ التي في السماء محبوسة؟ قال: مر بي هاهنا شاب في رأسه ذؤابة منذ ثلاث سنين ومعه غنمٌ كأنها حشف، وبقرٌ كأنها حفيت...
قال القاضي: هكذا في الحديث وأحسبه حفلت أي جمع اللبن في ضروعها واخر حلابها، قلت: لمن هذه؟ قال: لخليل الرحمن إبراهيم، قلت: اللهم إن كان لك في الأرض خليلٌ فارنيه قبل خروجي من الدنيا، قال إبراهيم: قد أجيبت دعوتك، فاعتنقا، فيومئذٍ كان أصل المعانقة، وكان قبل ذلك السجود هذا لهذا وهذا لهذا، ثم جاء الصفاح مع الإسلام فلم يسجدوا ولم يعانقوا، ولا تتفرق الأصابع حتى يغفر الله لكل مصافح.
التعليق على الخبر الإصر، الذراعقال القاضي: الحمد لله الذي وضع عنا الآصار، والآصار: جمع إصر، وهو العهد، وأصله الثقل، قال الله عز وجل: " ربنا ولا تحمل علينا إصراً كما حملته على الذين من قبلنا " يعني التشديد في العبادة، والتثقيل في الشريعة، وقال تعالى ذكره: " وأخذتم على ذلكم إصري " أي عهدي، وقال جل ثناؤه: " ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم " يعني التثقيل فيما كلفوه وكتب عليهم، وقد قرىء: آصارهم على الجمع.
وفي هذا الخبر: أن الرجل الذي لقيه إبراهيم عليه السلام كان طوله ثمانية عشر ذراعاً، فجاء به على التذكير والأغلب فيه التأنيث، وفي تذكيره خلاف بين اللغويين، وقد أجازه بعضهم وحكاه، وقد استقصينا القول في هذا في موضع غير هذا، وشرحناه وأوضحنا البيان عنه وبيناه.
حكم المصافحة والمعانقة والقيام للزائر
وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنه ندب إلى المصافحة وكان يفعلها، وأنه سئل: أينحني الرجل لصاحبه، فقال: لا، قيل أفيعانقه؟ قال: لا، قيل: أفيصافحه؟ قال: نعم.
وقد ذكر استعمال القيام والمصافحة عن بعض السلف، وليسا عندي بمحظورين، أولا أحد من أهل القدوة حرم ذلك، غير أن الأخذ بما أدب به رسول الله صلى الله عليه وسلم أمته أولى بذوي الألباب، وأليق بوجه الحق والصواب.
أصل اليمن، ما هوحدثنا محمد بن الحسن بن دريد، حدثنا السكن بن سعيد، حدثنا يحيى بن عمارة، عن الحسن بن موسى الأنصاري، حدثنا أبو غزية الأنصاري، قال: حدثني قرظة المازني، عن زياد بن عبد الله الحارثي، وكان أميراً على المدينة في أيام المنصور، قال: خرجت وافداً إلى مروان بن محمد في جماعة ليس فيهم يمانٍ غيري، فلما كنا ببابه دفعنا إلى ابن هبيرة وهو على شرطه وما وراء بابه، فتقدم الوفد رجلاً رجلاً كلهم يخطب ويطنب في أمير المؤمنين وابن هبيرة، فجعل يبحثهم عن أنسابهم، فكرهت ذلك، وقلت: إن عرفني زادني ذلك عنده شرا، وكرهت أن أتكلم فأطنب، فجعلت أتأخر رجاء أن يمل كلامهم فيمسك، حتى لم يبق غيري، ثم تقدمت فتكلمت بدون كلامهم وإني لقادر على الكلام، فقال: ممن أنت؟ فقلت: من أهل اليمن، قال: من أيها؟ قلت: من مذحج، قال: إنك لتطمح بنفسك، اختصر. قلت: من بني الحارث بن كعب، قال: يا أخا بني الحارث! إن الناس ليزعمون أن أبا اليمن قردٌ، فما تقول في ذلك؟ قلت: وما أقول أصلحك الله، إن الحجة في هذا لغير مشكلة، فاستوى قاعداً، وقال: وما حجتك؟ قلت: تنظر إلى القرد أبا من يكنى، فإن كان أبو اليمن فهو أبوهم، وإن كان يكنى أبا قيس فهو أبو من كني به. فنكس ونكت بظفره إلى الأرض، وجعلت اليمانة تعض على شفاهها تظن أن قد هويت، والقيسية تكاد أن تزدردني، ودخل بها الحاجب إلى أمير المؤمنين ثم رجع، فقام ابن هبيرة فدخل ثم لم يلبث أن خرج، فقال الحارثي: فدخلت ومروان يضحك، فقال: إيهٍ عنك وعن ابن هبيرة فقلت: قال: كذا فقلت كذا، فقال: وايم الله لقد حججته، أو ليس أمير المؤمنين الذي يقول:
تمسك أبا قيس بفضل هناتها ... فليس عليها إن هلكت ضمان
فلم أر قرداً قبلها سبقت به ... جياد أمير المؤمنين أتان
قال زياد: فخرجت واتبعني ابن هبيرة فوضع يده بين منكبي، ثم قال: يا أخا بني الحارث، والله ما كان كلامي إياك إلا هفوة، وإن كنت لأربأ بنفسي عن ذلك، ولقد سرني إذ لقنت علي الحجة ليكون ذلك لي أدباً فيما أستقبل، وأنا لك بحيث تحب، فاجعل منزلك علي، ففعلت فأكرمني وأحسن منزلي.
قال ابن دريد: والبيتان ليزيد بن معاوية، وذلك أنه كان حمل قرداً على أتانٍ وحشية فسبق بينها وبين الخيل.
وعلى ذكر القردحدثنا أحمد بن كامل، قال: حدثني داود بن محمد بن نجيح أبي مضر، وقال: هو نجيح بن عبد الرحمن، قال: حدثني أبي، عن جدي، قال: خطب عبد الله بن الزبير فقال من خطبته: يزيد القرد وشارب الخمر، قال: فبلغت يزيد بن معاوية، فما بات ليلته حتى جهز عشرين ألفاً، وجلس والشمع بين يديه وعليه ثياب معصفرة وهو يرتجز، ويقول:
أبلغ أبا بكر إذا الأمر انبرى
وأخذ الجيش على وادي القرى
عشرون ألفاً بين كهل وفتى
أجمع سكرانٍ من القوم ترى
في أول لقاء بين أبي نواس وأبي العتاهيةحدثنا محمد بن القاسم الأنباري، قال: حدثني محمد بن المرزبان، ثنا أحمد بن منصور المروزي، حدثنا عمر بن يحيى، حدثنا إسحاق بن إبراهيم الموصلي، قال: اجتمع عندي أبو نواس وأبو العتاهية، وكل واحد منهما لا يعرف صاحبه، فعرفت أبا العتاهية أبا نواس فسلم عليه، وجعل أبو نواسٍ ينشد من شغشاف شعره، فاندفع أبو العتاهية فأنشد، فقال له أبو نواس: هذا والله المطمع الممتنع، فقال له أبو العتاهية: هذا القول منك - والله - أحسن من كل ما أنشدت، كيف البيت الذي مدحت به الرشيد أو الربيع:
قد كنت خفتك ثم آمنني ... من أن أخافك خوفك الله
لوددت أني كنت سبقتك إليه.
قال أبو بكر بن الأنباري: وأنشدني أبي هذه الأبيات لأبي نواس في الفضل بن الربيع بغير هذا الإسناد:
ما من يدٍ في الناس واحدةٍ ... إلا أبو العباس مولاها
نام الثقات وطال نومهم ... وسرى إلى نفسي فأحياها
قد كنت خفتك ثم آمنني ... من أن أخافك خوفك الله
فغفوت عني عفو مقتدرٍ ... حلت له نقمٌ فألغاها
هشام بن عبد الملك يسترضي الأبرش الكلبيحدثنا عبد الله بن محمد بن جعفر الأزدي، ثنا أبو بكر بن أبي الدنيا، قال: حدثني الحسين بن عبد الرحمن، عن أبي عبد الرحمن الطائي، عن عبد الله بن عباس، قال: حدثني الأبرش بن الوليد الكلبي، قال: دخلت على هشام بن عبد الملك فسألته حاجة فامتنع علي، فقلت: يا أمير المؤمنين! لا بد منها، فإنا قد ثنينا عليها رجلاً، قال: ذلك أضعف لك أن تثني رجلك على ما ليس عندك، فقلت: يا أمير المؤمنين! ما كنت أظن أني أمد يدي إلى شيء مما قبلك إلا نلته، قال: ولم؟ قلت: لأني رأيتك لذلك أهلاً ورأيتني مستحقه منك، قال: يا أبرش! ما أكثر من يرى أنه يستحق أمراً ليس له بأهل، فقلت: أف لك لكن إنك - والله ما علمت - قليل الخير نكده، والله إن نصيب منك الشيء إلا بعد مسألة، فإذا وصل إلينا مننت به، والله إن أصبنا منك خيراً قط، قال: لا، والله، ولكنا وجدنا الأعرابي أقل شيء شكراً، قلت: والله إني لأكره للرجل أن يحصي ما يعطي.
ودخل عليه أخوه سعيد بن عبد الملك ونحن في ذلك، فقال: مه يا أبا مجاشع، لا تقل ذلك لأمير المؤمنين، قال: فقال هشام: أترضى بأبي عثمان بيني وبينك؟ قلت: نعم، قال سعيد: ما تقول يا أبا مجاشع؟ فقلت: لا تعجل، صحبت - والله - هذا وهو أرذل بني أبيه، وأنا يومئذٍ سيد قومي وأكثرهم مالاً وأوجههم جاهاً، أدعى إلى الأمور العظام من قبل الخلفاء، وما يطمع هذا يومئذٍ فيما صار إليه، حتى إذا صار إلى البحر الأخضر غرف لنا منه غرفةً ثم قال: حسب.
فقال هشام: يا أبرش! اغفرها لي، فوالله لا أعود لشيءٍ تكرهه أبداً، صدق يا أبا عثمان.
قال: فوالله ما زال مكرماً لي حتى مات.
الفرزدق يؤجل ثلاثاً
حدثنا أبي رحمه الله، حدثنا أبو أحمد الحنلى، أخبرنا أبو حفص النسائي، قال: حدثني عبد الله بن عمرو بن بشر، قال: حدثني أحمد بن عمرو الزهري، قال: حدثني عمرو بن خالد العماني، قال: قدم الفرزدق المدينة في سنةٍ جدبةٍ حصباء، فمشى أهل المدينة إلى عمر بن عبد العزيز، وهو يومئذ أميرها فقالوا له: أصلح الله الأمير، إن الفرزدق قدم مدينتنا هذه في هذه السنة الجدبة التي قد خلت أموالها، وليس عند أحدٍ منهم ما يعطيه، فلو أن الأمير بعث إليه فأرضاه وتقدم إليه ألا يعرض لأحدٍ بمدحٍ ولا هجاء، قال: فبعث إليه عمر بن عبد العزيز، فقال: يا فرزدق! إنك قدمت مدينتنا في هذه السنة الجدبة، وليس عند واحد منا ما يعطي شاعراً، وقد أمرت لك بأربعة آلاف درهم، فخذها ولا تعرض لأحدٍ بمدح ولا هجاء.
قال: فأخذها الفرزدق ومر بعبد الله بن عمرو بن عثمان وهو جالس في سقيفة داره وعليه مطرفٌ وعمامة خز حمراء وجبة خز حمراء، فقال:
أعبد الله أنت أحق ماشٍ ... وساعٍ بالجماعير الكبار
فللفاروق أمك وابن أروى ... أبوك وأنت منصدع النهار
هما قمر السماء وأنت نجمٌ ... به في الليل يدلج كل سار
قال: فخلع عليه جبته والمطرف والعمامة ودعا له بعشرة آلاف درهم. قال: فخرج رجلٌ كان عندعبد الله بن عمرو بن عثمان، وقد حضر الفرزدق عندما أعطاه عمر بن عبد العزيز وتقدم إليه فأخبر عمر بن عبد العزيز الخبر، فبعث إليه عمر: ألم أتقدم إليك يا فرزدق ألا تعرض لأحدٍ بمدحٍ ولا هجاء، اخرج فقد أجلتك ثلاثاً، فإن وجدتك بعد ثلاث نكلت بك، قال: فخرج الفرزدق وهو يقول:
أأوعدني وأجلني ثلاثاً ... كما وعدت لمهاكها ثمود؟
قد يصلح العشق الفتيان
حدثنا الحسين بن القاسم الكوكبي، ثنا عيسى بن محمد بن ناظرة السدوسي، قال: حدثني قبيصة بن محمد المهلبي، قال: أخبرني اليمان ابن عمر مولى ذي الرياستين قال: كان ذو الرياستين يبعثني وأحداثاً من أحداث أهله إلى شيخ بخراسان له أدب وحسن معرفةٍ بالأمور، ويقول لنا: تعلموا منه الحكمة فإنه حكيم، فكنا نأتيه، فإذا انصرفنا من عنده سألنا ذو الرياستين واعترض ما حفظناه فنخبره، فصرنا ذات يوم إلى الشيخ فقال لنا: أنتم أدباء وقد سمعتم الحكمة، ولكم خيراتٌ ونعمٌ، فهل فيكم عاشق؟ فقلنا: لا، فقال: اعشقوا فإن العشق يطلق اللسان الغبي، ويفتح حيلة البليد والبخيل، ويبعث على التنظف، وتحسين اللباس، وتطييب المطعم، ويدعو إلى الحركة والذكاء. ويشرف الهمة، وإياكم والحرام.
فانصرفنا من عنده إلى ذي الرياستين، فسألناه عما أفدناه في يومنا ذلك، فهبناه أن نخبره، فغرم علينا، فقلنا له: أمرنا بكذا وكذا، وقال لنا كذا وكذا، قال: صدق والله، أتعلمون من أين أخذ هذا؟ قلنا: لا، قال ذو الرياستين: إن بهرام جور كان له ابن وكان قد رشحه للأمر من بعده، فنشأ الفتى ناقص المروءة، خامل النفس، سيىء الأدب، فغمه ذلك، ووكل به من المؤدبين والمنجمين والحكماء من يلازمه ويعلمه، وكان يسألهم عنه فيحكون له ما يغمه، من سوء فهمه وقلة أدبه، إلى أن سأل بعض مؤدبيه يوماً، فقال له المؤدب قد كنا نخاف سوء أدبه فحدث من أمره ما صرنا إلى اليأس من فلاحه، قال: وما ذاك الذي حدث؟ قال: رأى أمة فلانٍ المرزبان فعشقها حتى غلبت عليه، فهو لا يهذي إلا بها، ولا يتشاغل إلا بذكرها، فقال بهرام: الآن رجوت فلاحه.
ثم دعا بأبي الجارية، فقال: إني مسر إليك سراً فلا يعدونك، فضمن له سره، فأعلمه أن ابنه قد عشق ابنته، وأنه يريد أن ينكحها إياه، وأمره أن يأمرها بإطماعه في نفسها، ومراسلته من غير أن يراها، أو تقع عينه عليها، فإذا استحكم طمعه فيها تجنت عليه وهجرته، فإن استعتبها أعلمته أنها لا تصلح إلا لملكٍ ومن همته همة ملك، وأنه يمنعها من مواصلته أنه لا يصلح للملك، ثم ليعلمه خبرها وخبره، لايطلعها على ما أسر إليه.
فقبل أبوها ذلك منه، وفعلت المرأة ما أمرها به أبوها، فلما انتهت إلى التجني عليه، وعلم الفتى السبب الذي كرهته، أخذ في طلب الأدب والحكمة، والعلم والفروسية، والرماية وضرب الصوالجة، حتى مهر في ذلك، ثم رفع إلى أبيه أنه يحتاج من الدواب والآلات والمطاعم والملابس والندماء إلى فوق ما يقدر له، فسر بذلك وأمر له به.
ثم دعا مؤدبه فقال له: إن الموضع الذي وضع ابني نفسه من حب هذه المرأة لا يزري به، فتقدم إليه أن يرفع إلي أمرها، ويسألني أن أزوجه إياها ففعل، فرفع الفتى ذلك إلى أبيه، فدعا بأبيها فزوجه إياها، وأمر بتعجيلها إليه، وقال له: إذا اجتمعت وهي فلا تحدث شيئاً حتى أصير إليك، فلما اجتمعا صار إليه، فقال: يا بني! لا يضعن منها عندك مراسلتها إياك وليست في حبالك، فإني أنا أمرتها بذلك، وهي أعظم الناس منةً عليك بما دعتك إليه من طلب الحكمة، والتخلق بأخلاق الملوك، حتى بلغت الحد الذي تصلح معه للملك من بعدي، فزدها من التشريف والإكرام بقدر ما تستحق منك، ففعل الفتى وعاش مسروراً بالجارية، وعاش أبوه مسرورٌ به، وأحسن ثواب أبيها، ورفع مرتبته وشرفه، بصيانته سره وطاعته، وأحسن جائزة المؤدب بامتثاله ما أمره به، وعقد لابنه على الملك من بعده.
قال اليماني مولى ذي الرياستين، ثم قال لهم ذو الرياستين: سلوا الشيخ الآن لم حملكم على العشق؟ فسألناه، فحدثنا حديث بهرام جور وابنه.
الآن ظرف ولطفقال القاضي: وقد حكى لي بعض ذوي الفضل والأدب أنه أخبر عن فتى من خاصة أهله أنه عشق، على وجه الزراية عليه، فقال: الآن ظرف ولطف ونظف.
من التلطف في ترقية المرء إلى المعالي
ومما يضارع خبر بهرام جور في السياسة والتدبير والتلطف والإحتيال، في ترقية المرء من الدناءة إلى معالي الأحوال، ما حدثني به بعض إخواننا من أهل الأدب عمن ذكره من نظرائه، أن بعض الحكماء حض أصحابه على طلب العلم، وذكر لهم عظم فضله وشرف أهله، وقص عليهم فيه قصصاً، وضرب لهم أمثلة، فكان مما قاله لهم: إن الرجل قد يبلغه الكبر، فتكل أدواته، وتضعف آلاته، وتنقطع لذاته، فلا يحفل بشيءٍ من أمر الدنيا إلا بأن يثنى عليه بالمعرفة، ويعظم بأن يشار إليه بالعلم والحكمة، فجدوا في طلب العلم، ولا تيأسوا من إدراكه.
فقد بلغني أن رجلاً قرأ في صحيفة: أنه من أراد شيئاً وسعى في طلبه ناله أو شيئاً منه، فقال في نفسه: أريد أتزوج فلانة - يعني ملكة كانت في زمانه، وأخذ في طلب ذلك، فتوجه إلى بلادها وأتى قصرها، ورأى الحاشية المحيطة ببابها، وكان يأتي الباب في كل يوم فيجلس في فنائه، وصار بينه وبين الحاشية بعض الأنس لكثرة ترداده، وكان يحدثهم ويحدثونه، وربما سألوه عن حاجة إن كانت له فلا يجيبهم بشيء، إلا أنه بعد قال: لي حاجة إلى الملكة، فقالوا له: أخبرنا بها فإن وراءنا خدماً ومن بعدهم جوارٍ ووصائف بحضرتها، ومن قبلهن تنتهي الأخبار إليها، فقال: لا أذكر حاجتي إلا لها، فأمسكوا عنه، وكانت الملكة تشرف من بعض مستشرفاتها على فناء قصرها، وترى من يحضر ببابها، فأرسلت بعد سنةٍ من مصير ذلك الرجل إلى حضرتها إلى من بالباب: إني أرى منذ سنة رجلاً غريباً يأتي في كل يوم، فانظروا ما شأنه، فإن كان مظلوماً نصرناه، وإن كان مستميحاً أعطيناه، وإن خطب عملاً يصلح لمثله وليناه، فأرسلوا إليها بما خاطبهم به إذ سألوه عن حاله، فأمرت بإدخاله إليها، فلما وقف بين يديها سألته عن حاجته، فقال: لا أذكرها وأحد يسمع ما أذكره، فأمرت جواريها بالتباعد، ثم قالت له: قل، فقال: قصدت الملكة خاطباً لها، أتزوجني نفسها؟ فقالت: إنك لست بملكٍ ولا من ولد الملوك، ومتى تزوجتك سقطت منزلتي، وزال ملكي، ولكن مالذي جراك على أن خاطبتني بهذا؟ فأخبرها بما خطر له حين قرأ الصحيفة، فقالت له: فإنني أرى أن تطلب الحكمة، وتتعلم العلم حتى تصير رأساً فيه، وتشتهر في الناس منزلتك منه، فإن منزلة العلم اشرف من منزلة الملك، فإذا صرت فرداً في الحكمة حسن منك أن تخطبني وحسن بي أن أتزوجك، وأن أسمع أهل مملكتي فأقول لهم: قد طالت أيام ملكي وليس في أهل بيتي من يقوم به بعدي، وقد رأيت أن أتزوج إلى هذا وأرجع إلى رأيه في حياتي، لفضل علمه وظهور حكمته، ويقوم مقامي بعد وفاتي، فلا ينكر ذلك أحد من رعيتي.
وفي هذه المدينة دارٌ يجتمع فيها أهل الحكمة ورؤساء الفلاسفة، ويجتمع الناس إليهم للقراءة عليهم والتعلم منهم، وأنا أتقدم إلى المتقدم منهم بالتقديم لك والإقبال عليك، فاجتهد في التعلم، واقطع ليلك ونهارك باقتباسه، فإذا بلغت منه رتبةً عالية فحينئذ تنال ما أنت راغبٌ فيه من جهتي، ففعل ذلك وصار إلى الدار وأقبل على التعلم، وكان ذا ذكاءٍ وفطنة، وكان يأخذ في المدة اليسيرة ما يأخذ غيره في المدة الطويلة، إلى أن لحق بمن هنالك من متقدمي الحكماء، ثم تقدمهم إلى أن صار فرداً فيهم، واشتهر في الناس فضله، وعظموه لسعة علمه وظهور حكمته، وصار مقصوداً للإستفادة منه، فخطر ببال الملكة ذكره، فسألت عنه فأخبرت بما انتهى إليه أمره، فأمرت باستدعائه فحضر، فقالت له: قد بلغني ما أصبته من الحكمة، فهل لك فيما كنت سألتنيه؟ فقال: لا حاجة لي في ذلك، فقالت: ولم، وقد كنت حريصاً عليه؟ فقال: رغبت في هذا وانا أرى أنه أفضل ما يبلغه الإنسان في دنياه، فلما نلت ما نلته من الحكمة، وعلمت ما علمت من أفانين العلم، تبينت ما بين العلم والملك من الفضل، فرغبت بعلمي عن ملك الدنيا، فقالت له: لهذا أمرتك بما أمرتك به، ورأيت أنك إن لم تبلغ الغاية في العلم لم تعد إلي، وإن علت طبقتك فيه رغبت بنفسك عن أمور الدنيا، وعلمت أن ما ظفرت به أفضل مما كنت التمسته.
وصرفته ولم تزل مكرمةً له.
ودرسٌ من أفلاطون للحث على التعلم
وقد حكى لي بعض المفلسفين بأن فتىً كان يحضر مجلس أفلاطون ويحبه ويعظمه، ويؤثر استماع كلامه، ولا يقرأ عليه شيئاً، ولا يتعلم منه كما يتعلم غيره، وأن هذا الفتى قال لأفلاطون يوماً: قد أحببت أيها الحكيم أن تحضر اليوم منزلى وتأكل من طعامي، وتكرمني بالمشاربة والمنادمة، فأجابه، فلما صار إلى منزله أكلا وأخذا في تناول - الشراب واستماع الملاهي، ثم إن أفلاطون بصق في وجهه - يعني الفتى - فارتاع لذلك، وقال: ما هذا أيها الحكيم ؟ فقال: إنه عرض لي هذا الذي نفثته كما يعرض لسائر الناس فيلقونه في أهون الأماكن وأخسها، ورأيت منزلك وفرشك وآنيتك، فلم أر موضعاً أخس من نفسك، فنبذت هذا الأذى فيه، فقال: قد وعظت أيها الحكيم فأبلغت، ونصحت فأحسنت، وأنا منذ الآن أسعى في تشريف نفسي بدراسة العلم وطلب الحكمة.
ثم صار من أشد حاضري مجلس أفلاطون حرصاً على اكتساب الحكمة، وأحسنهم للعلم أخذاً.
المجلس السابع والعشرون
مذق فمذق لهحدثنا أبي رحمه الله، ثنا أبو عبد الله محمد بن العباس مولى بني هاشم، قال: حدثني محمد بن أبي السري، حدثنا علي بن عاصم، عن حميد الطويل، عن الحسن، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " بينا رجلٌ ممن كان قبلكم يتجر بالخمر في البحر إذ فكر في نفسه، فقال: إني آتي قوماً لا معرفة لهم بجيد الخمر من رديئه، فلو أني مزجت الخمر أضعف لي في الثمن، فأمهل حتى استعذبوا الماء، فعمد إلى أوانيه فنصفها من الخمر ثم مزجه بالماء حتى ملأها، ثم أتى الموضع فباع بضعف ما كان يبيع، فلما انصرف رأى في طريقه قردةً فاستحسنها فاشتراها. وحملها معه في سفينته، فلما لججوا عدث القردة على كيسه فأخذته وصعدت الدقل، فأقعت عليه والكيس بين رجليها، فصاح بها أهل السفينة، فقال لهم: لا تفعلوا فإني أخاف أن تقذف بنفسها والكيس في البحر، فتركوها ففتحت الكيس ثم أقبلت تخرج ديناراً فترمي به في السفينة وديناراً في البحر، ودرهماً في السفينة ودرهماً في البحر، حتى أتت على جميع ما في الكيس ثم نزلت في السفينة، فقال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: " مذق فمذق له " .
قال القاضي: في هذا الخبر ما أوجب مجانبة الغش، وتدليس العيب في البيع، وظلم الناس في أموالهم، وبخسهم أشياءهم، وتخويف لذوي الألباب بتعجيل العقوبة لهم، وسوء العاقبة في أموالهم، وسلبهم ما طمعوا أن يتمتعوا به في دنياهم، وينتفعوا به في معايشهم مع التعرض للإثم في معادهم، وحلول ما لا قبل لهم به من عقوبة ربهم.
وقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: " مذق فمذق له " أي مزج سلعته بغيرها غشا للناس إرادة تثمير ماله وغش غيره، فجوزي بسلبه الفضل الذي ظلم بأخذه، فسميت مجازاته مذقاً، إلحاقاً لها بالممذوق في حقيقة اللغة من جهة التسمية، وهذا ضرب من فصيح كلام العرب، ومستحسن خطابها، كما قال الله تعالى: " وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به " ، فسمى المبتدأ باسم الجزاء، وإن كان الإبتداء لا يسمى عقوبة في انفراده، طلباً للائتلاف، واتفاق ألفاظ الجملة في الخطاب، وهذا كثير في القرآن وألفاظ الشريعة، ومنثور كلام العرب ومنظومه، من ذلك قول عمرو بن كلثوم:
ألا لا يجهلن أحدٌ علينا ... فنجهل فوق جهل الجاهلينا
وأصل المذق فيما ذكرنا: الخلط والمزج، يقال: لبن صرفٌ وصريفٌ وممذوقٌ، ويقال له أيضاً: مذق، فيسمى باسم المصدر، كما قال الشاعر:
لم يسقها مذقٌ ولا نصيف ... ولا تميرات ولا تعجيف
لكن غذاها المذق والصريف
وقد استعار هذا المعنى بعض المحدثين، فقال:
وأراك تشربني وتمذقني ... ولقد عهدتك شاربي صرفا
وقال صالح بن عبد القدوس، وبعضهم يرويه لسابق البربري:
إن الكريم إذا أحبك قلبه ... أعطاك منه مودةً لا تمذق
وقال أبو معدان مولى آل أبي الحكم:
جرعاني ممذوقةٌ وامزجاها ... ليس صرف الشراب كالممذوق
وهذا النحو كثير واسع.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

تابع أخبار مكة وما جاء فيها من الآثار

أخبار مكة وما جاء فيها من الآثار   ج1وج2. ج / 1 ص -3- بسم الله الرحمن الرحيم مقدمة التحقيق: لا نعرف عن بدايات التأليف في...