اللهم استجب

سبحانك وبحمدك وأستغفرك أنت الله الشافي الكافي الرحمن الرحيم الغفار الغفور القادر القدير المقتدر الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر الخالق البارئ المصور... الواحد الأحد الواجد الماجد الملك المغيث لا إله إلا أنت وحدك لا شريك لك ..لك الملك ولك الحمد وأنت علي كل شيئ قدير ولا حول ولا قوة إلا بك وأستغفرك اللهم بحق أن لك هذه الأسماء وكل الأسماء الحسني وحق إسمك الأعظم الذي تعلمه ولا أعلمه أسألك أن تَشفني شفاءا لا يُغادر سقما وأن تَكفني كل همي وتفرج كل كربي وتكشف البأساء والضراء عني وأن تتولي أمري وتغفر لي ذنبي وأن تشرح لي صدري وأن تُيسر لي أمري وأن تحلل عُقْدَةً  من لساني يفقهوا قولي وأن تغنني بفضلك عمن سواك اللهم أصلحني: حالي وبالي وأعتقني في الدارين وخُذ بيدي يا ربي وأخرجني من الظلمات الي النور بفضلك  وأن ترحم وتغفر لوالديَّ ومن مات من اخوتي وان تغفر لهم أجمعين وكل من مات علي الايمان والتوبة اللهم آمين  //اللهم تقبل/ واستجب//https://download.tvquran.com/download/selections/315/5cca02c11a61a.mp3

المصحف

 تحميل المصحف

القرآن الكريم وورد word doc icon تحميل المصحف الشريف بصيغة pdf تحميل القرآن الكريم مكتوب بصيغة وورد تحميل سورة العاديات مكتوبة pdf

Translate

بحث هذه المدونة الإلكترونية

الجمعة، 27 مايو 2022

مجلد 7. جامع البيان {تفسير الطبري}

 

مجلد 7. جامع البيان في تأويل القرآن
المؤلف : محمد بن جرير بن يزيد بن كثير بن غالب الآملي، أبو جعفر الطبري،
[ 224 - 310 هـ ]

(ما نبغي) يقول : ما نبغي وراء هذا ، إن بضاعتنا ردت إلينا ، وقد أوفى لنا الكيل.
* * *
وقوله : (ونمير أهلنا) ، يقول : ونطلب لأهلنا طعامًا فنشتريه لهم.
* * *
يقال منه : " مارَ فلانٌ أهلهَ يميرهم مَيْرًا " ، ومنه قول الشاعر : (1)
بَعَثْتُكَ مَائِرًا فَمَكَثْتَ حَوْلا... مَتَى يَأْتِي غِيَاثُكَ مَنْ تُغِيثُ
* * *
(ونحفظ أخانا) ، الذي ترسله معنا(ونزداد كيل بعير) ، يقول : ونزداد على أحمالنا [من] الطعام حمل بعير (2) يكال لنا ما حمل بعير آخر من إبلنا(ذلك كيل يسير) ، يقول : هذا حمل يسير . كما : -
19477 - حدثني الحارث ، قال : حدثنا القاسم ، قال : حدثنا حجاج ، عن ابن جريج : (ونزداد كيل بعير) قال : كان لكل رجل منهم حمل بعير ، فقالوا : أرسل معنا أخانا نزداد حمل بعير وقال ابن جريج : قال مجاهد : (كيل بعير) حمل حمار . قال : وهي لغة قال القاسم : يعني مجاهد : أن " الحمار " يقال له في بعض اللغات : " بعير " .
19478 - حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : (ونزداد كيل بعير) ، يقول : حمل بعير.
19479 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : (ونزداد كيل بعير) نَعُدّ به بعيرًا مع إبلنا(ذلك كيل يسير).
* * *
__________
(1) لم أعرف قائله ، ولم أجد البيت في مكان ، وإن كنت أخالني أعرفه .
(2) الزيادة بين القوسين يقتضيها السياق .

(16/162)


قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلَّا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ فَلَمَّا آَتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قَالَ اللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ (66)

القول في تأويل قوله تعالى : { قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قَالَ اللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ (66) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : قال يعقوب لبنيه : لن أرسل أخاكم معكم إلى ملك مصر(حتى تؤتون موثقًا من الله) ، يقول : حتى تعطون موثقًا من الله بمعنى " الميثاق " ، وهو ما يوثق به من يمينٍ وعهد (1) (لتأتنني به) يقول لتأتنني بأخيكم(إلا أن يحاط بكم) ، يقول : إلا أن يُحيط بجميعكم ما لا تقدرون معه على أن تأتوني به . (2)
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
*ذكر من قال ذلك :
19480 - حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : (فلما آتوه موثقهم) ، قال : عهدهم.
19481 - حدثني المثنى قال : أخبرنا إسحاق قال : حدثنا عبد الله ، عن ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد مثله .
19482 - حدثنا الحسن بن محمد قال : حدثنا شبابة ، قال : حدثنا ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد قوله : (إلا أن يحاط بكم) : ، إلا أن تهلكوا جميعًا.
19483 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد
__________
(1) انظر تفسير " الميثاق " فيما سلف 14 : 82 ، تعليق : 1 ، والمراجع هناك .
(2) انظر تفسير " الإحاطة " فيما سلف 15 : 462 ، تعليق : 1 ، والمراجع هناك .

(16/163)


وَقَالَ يَا بَنِيَّ لَا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (67)

19484 - قال ، وحدثنا إسحاق ، قال : أخبرنا عبد الله ، عن ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
19485 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة : (إلا أن يحاط بكم) ، قال : إلا أن تغلَبوا حتى لا تطيقوا ذلك.
19486 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق قوله : (إلا أن يحاط بكم) : ، إلا أن يصيبكم أمرٌ يذهب بكم جميعًا ، فيكون ذلك عذرًا لكم عندي.
* * *
وقوله : (فلما آتوه موثقهم) ، يقول : فلما أعطوه عهودهم " قال " ، يعقوب : (الله على ما نقول) ، أنا وأنتم(وكيل) ، يقول : هو شهيد علينا بالوفاء بما نقول جميعًا . (1)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { وَقَالَ يَا بَنِيَّ لا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (67) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : قال يعقوب لبنيه لما أرادُوا الخروج من عنده إلى مصر ليمتاروا الطعام : يا بني لا تدخلوا مصر من طريق واحد ، وادخلوا من أبواب متفرقة.
__________
(1) انظر تفسير " الوكيل " فيما سلف 15 : 220 ، تعليق : 3 ، والمراجع هناك .

(16/164)


* * *
وذكر أنه قال ذلك لهم ، لأنهم كانوا رجالا لهم جمال وهيأة ، (1) فخاف عليهم العينَ إذا دخلوا جماعة من طريق واحدٍ ، وهم ولد رجل واحد ، فأمرهم أن يفترقوا في الدخول إليها . كما : -
19487 - حدثنا الحسن بن محمد قال : حدثنا يزيد الواسطي ، عن جويبر ، عن الضحاك : (لا تدخلوا من بابٍ واحد وادخلوا من أبواب متفرقة) ، قال : خاف عليهم العينَ .
19488 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : (يا بنيّ لا تدخلوا من باب واحد) خشي نبيُّ الله صلى الله عليه وسلم العينَ على بنيه ، كانوا ذوي صُورة وجَمال.
19489 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : (وادخلوا من أبواب متفرقة) ، قال : كانوا قد أوتوا صورةً وجمالا فخشي عليهم أنفُسَ الناس.
19490 - حدثني محمد بن سعد قال : حدثني أبي قال : حدثني عمي قال : حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : (وقال يا بني لا تدخلوا من باب واحد وادخلوا من أبواب متفرقة) ، قال : رهب يعقوب عليه السلام عليهم العينَ.
19491 - حدثت عن الحسين بن الفرج قال ، سمعت أبا معاذ قال ، أخبرنا عبيد بن سليمان ، قال ، سمعت الضحاك يقول في قوله : (لا تدخلوا من باب واحد) ، خشي يعقوب على ولده العينَ.
19492 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا زيد بن الحباب ، عن أبي معشر ، عن محمد بن كعب : (لا تدخلوا من باب واحد) ، قال : خشي عليهم العين.
__________
(1) في المطبوعة : " وهيبة " ، لأنها في المخطوطة : " وهمة " ، غير منقوطة ، وستأتي كذلك بعد ، وسأصححها دون أن أشير هذا التصحيح في سائر المواضع .

(16/165)


19493 - ... قال ، حدثنا عمرو ، عن أسباط ، عن السدي قال : خاف يعقوب صلى الله عليه وسلم على بنيه العين ، فقال : (يا بني لا تدخلوا من باب واحد) . فيقال : هؤلاء لرجل واحدٍ! ولكن ادخلوا من أبواب متفرقة.
19494 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق قال : لما أجمعوا الخروجَ يعني ولد يعقوب قال يعقوب : (يا بنيّ لا تدخلوا من باب واحد وادخلوا من أبواب متفرقة) ، خشي عليهم أعين الناس ، لهيأتهم ، وأنهم لرجل واحدٍ.
* * *
وقوله : (وما أغني عنكم من الله من شيء) ، يقول : وما أقدر أن أدفع عنكم من قضاء الله الذي قد قضاه عليكم من شيء صغير ولا كبير ، لأن قضاءه نافذ في خلقه (1) (إن الحكم إلا لله) ، يقول : ما القضاء والحكم إلا لله دون ما سواه من الأشياء ، فإنه يحكم في خلقه بما يشاء ، فينفذ فيهم حكمه ، ويقضي فيهم ، ولا يُرَدّ قضاؤه(عليه توكلت) ، يقول : على الله توكلت فوثقت به فيكم وفي حفظكم عليّ ، حتى يردكم إليّ وأنتم سالمون معافون ، لا على دخولكم مصر إذا دخلتموها من أبواب متفرقة(وعليه فليتوكل المتوكلون) ، يقول : وإلى الله فليفوِّض أمورَهم المفوِّضون . (2)
* * *
__________
(1) انظر تفسير " أغنى " فيما سلف 15 : 472 ، تعليق : 1 ، والمراجع هناك .
(2) انظر تفسير " التوكل " فيما سلف 15 : 545 ، تعليق : 1 ، والمراجع هناك .

(16/166)


وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ مَا كَانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (68)

القول في تأويل قوله تعالى : { وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ مَا كَانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِلا حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (68) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : ولما دخل ولد يعقوب(من حيث أمرهم أبوهم ، وذلك دخولهم مصر من أبواب متفرقة(ما كان يغني) ، دخولهم إياها كذلك(عنهم) من قضاء الله الذي قضاه فيهم فحتمه ، (من شيء إلا حاجة في نفس يعقوب قضاها) ، إلا أنهم قضوا وطرًا ليعقوب بدخولهم لا من طريق واحد خوفًا من العين عليهم ، فاطمأنت نفسه أن يكونوا أوتوا من قبل ذلك أو نالهم من أجله مكروه . كما : -
19495 - حدثنا الحسن بن محمد قال : حدثنا شبابة قال : حدثنا ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : (إلا حاجة في نفس يعقوب قضاها) ، خيفة العين على بنيه.
19496 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو حذيفة قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
19497 - ... قال : أخبرنا إسحاق قال : حدثنا عبد الله ، عن ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
19498 - حدثنا ابن وكيع قال : حدثنا ابن نمير ، عن ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : (إلا حاجة في نفس يعقوب قضاها) ، قال : خشية العين عليهم.

(16/167)


19499 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق قوله : (إلا حاجة في نفس يعقوب قضاها) ، قال : ما تخوَّف على بنيه من أعين الناس لهيأتهم وعِدّتهم.
* * *
وقوله : (وإنه لذو علم لما علمناه) ، يقولُ تعالى ذكره : وإن يعقوب لذو علم لتعليمنا إياه .
* * *
وقيل : معناه وإنه لذو حفظٍ لما استودعنا صدره من العلم .
* * *
واختلف عن قتادة في ذلك :
19500 - فحدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : (وإنه لذو علم لما علمناه) : أي : مما علمناه.
19501 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الله بن الزبير ، عن سفيان ، عن ابن أبي عروبة عن قتادة : (وإنه لذو علم لما علمناه) ، قال : إنه لعامل بما عَلم.
19502 - ... قال : المثنى قال إسحاق قال عبد الله قال سفيان : (إنه لذو علم) ، مما علمناه. وقال : من لا يعمل لا يكون عالمًا.
* * *
(ولكن أكثر الناس لا يعلمون) ، يقول جل ثناؤه : ولكن كثيرًا من الناس غير يعقوب ، لا يعلمون ما يعلمه ، لأنَّا حَرَمناه ذلك فلم يعلمه .
* * *

(16/168)


وَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آَوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ قَالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (69)

القول في تأويل قوله تعالى : { وَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ قَالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (69) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : ولما دخل ولد يعقوب على يوسف(آوى إليه أخاه) ، يقول : ضم إليه أخاه لأبيه وأمه. (1)
* * *
وكان إيواؤه إياه ، (2) كما : -
19503 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا عمرو ، عن أسباط ، عن السدي : (ولما دخلوا على يوسف آوى إليه أخاه) ، قال : عرف أخاه ، فأنزلهم منزلا وأجرى عليهم الطعام والشراب. فلما كان الليلُ جاءهم بِمُثُل ، فقال : لينم كل أخوين منكم على مِثَال. (3) فلما بقي الغلام وحده ، قال يوسف : هذا ينام معي على فراشي . فبات معه ، فجعل يوسف يشمُّ ريحه ، ويضمه إليه حتى أصبح ، وجعل روبيل يقول : ما رأيْنا مثل هذا! أريحُونا منه!
19504 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق قال : لما دخلوا يعني ولد يعقوب على يوسف ، قالوا : هذا أخونا الذي أمرتَنا أن نأتيك به ، قد جئناك به. فذكر لي أنه قال لهم : قد أحسنتم وأصبتم ، وستجدون ذلك عندي أو كما قال . ثم قال : إني أراكم رجالا وقد أردت أن أكرمكم. ودعا [صاحب]
__________
(1) انظر تفسير " الإيواء " فيما سلف 15 : 422 ، تعليق : 1 ، والمراجع هناك .
(2) كان الكلام في المطبوعة هكذا : " وكل أخوه لأبيه " ، فلم يحسن قراءة المخطوطة ، فجاء بكلام لا معنى له ، وكان فيها : " وكل إيواوه إياه " غير منقوطة ، وهذا صواب قراءته .
(3) " المثال " ( بكسر الميم ) ، وجمعه " مثل " ( بضمتين ) ، وهو الفراش ، وفي الحديث أنه دخل على سعد بن أبي وقاص ، وفي البيت متاع رث ومثال رث أي : فراش خلق بال . ويقال : هو النمط الذي يفترش من مفارش الصوف الملونة .

(16/169)


ضيافته. (1) فقال : أنزل كل رجلين على حدة ، ثم أكرمهما ، وأحسن ضيافتهما. ثم قال : إني أرى هذا الرجل الذي جئتم به ليس معه ثانٍ ، فسأضمه إليّ ، فيكون منزله معي . فأنزلهم رجلين رجلين في منازل شتَّى ، وأنزل أخاه معه ، فآواه إليه. فلما خلا به قال إني أنا أخوك ، أنا يوسف ، فلا تبتئس بشيء فعلوه بنا فيما مضى ، فإن الله قد أحسن إلينا ، ولا تعلمهم شيئًا مما أعلمتك . يقول الله : (ولما دخلوا على يوسف آوى إليه أخاه قال إني أنا أخوك فلا تبتئس بما كانوا يعملون).
19505 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : (ولما دخلوا على يوسف آوى الله أخاه) ، ضمه إليه ، وأنزله ، وهو بنيامين.
19506 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا إسماعيل بن عبد الكريم قال : حدثني عبد الصمد بن معقل قال : سمعت وهب بن منبه يقول وسئل عن قول يوسف : (ولما دخلوا على يوسف آوى الله أخاه قال إني أنا أخوك فلا تبتئس بما كانوا يعملون) : كيف أصابه حين أخذ بالصُّواع ، وقد كان أخبره [أنه] أخوه ، (2) وأنتم تزعمون أنه لم يزل متنكرًا لهم يكايدهم حتى رجعوا ؟ فقال : إنه لم يعترف له بالنسبة ، ولكنه قال : (أنا أخوك) مكانَ أخيك الهالك(فلا تبتئس بما كانوا يعملون) ، يقول : لا يحزنك مكانهُ.
* * *
وقوله : (فلا تبتئس) ، يقول : فلا تستكِنْ ولا تحزن.
* * *
__________
(1) في المطبوعة " ودعا ضافته " ، ولا أجد لها وجهًا . وفي المخطوطة كما أثبتها ، ولكنه لا يستقيم إلا بالذي زدته بين القوسين .
(2) في المطبوعة والمخطوطة : " كيف أجابه حين أخذ بالصواع ، وقد كان أخبره أخوه " ، ولعل الصواب ما أثبت ، مع هذه الزيادة بين القوسين .

(16/170)


وهو : " فلا تفتعل " من " البؤس " ، يقال منه : " ابتأس يبتئس ابتئاسًا " . (1)
* * *
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
*ذكر من قال ذلك :
19507 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة : (فلا تبتئس) ، يقول : فلا تحزن ولا تيأس.
19508 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا إسماعيل بن عبد الكريم قال ، حدثني عبد الصمد قال : سمعت وهب بن منبه يقول : (فلا تبتئس) ، يقول : لا يحزنك مكانه.
19509 - حدثنا ابن وكيع قال : حدثنا عمرو ، عن أسباط ، عن السدي : (فلا تبتئس بما كانوا يعملون) ، يقول : لا تحزن على ما كانوا يعملون.
* * *
قال أبو جعفر : فتأويل الكلام إذًا : فلا تحزن ولا تستكن لشيء سلف من إخوتك إليك في نفسك ، وفي أخيك من أمك ، وما كانوا يفعلون قبلَ اليوم بك .
* * *
__________
(1) انظر تفسير " ابتأس " فيما سلف 15 : 306 ، 307 .

(16/171)


فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ (70)

القول في تأويل قوله تعالى : { فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ (70) }
قال أبو جعفر : يقول : ولما حمّل يوسف إبل إخوته ما حمّلها من الميرة وقضى حاجتهم ، (1) كما : -
19510 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة
__________
(1) انظر تفسير " التجهيز " و " الجهاز " فيما سلف ص : 154 .

(16/171)


قوله : (فلما جهزهم بجهازهم) ، يقول : لما قضى لهم حاجتهم ووفّاهم كيلهم.
* * *
وقوله : (جعل السقاية في رحل أخيه) ، يقول : جعل الإناء الذي يكيلُ به الطعام في رَحْل أخيه .
* * *
و " السقاية " : هي المشربة ، وهي الإناء الذي كان يشرب فيه الملك ويكيلُ به الطعام .
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
*ذكر من قال ذلك :
19511 - حدثنا الحسن بن محمد قال ، حدثنا عفان قال : حدثنا عبد الواحد ، عن يونس ، عن الحسن : أنه كان يقول : " الصواع " و " السقاية " ، سواء ، هو الإناء الذي يشرب فيه.
19512 - ... قال : حدثنا شبابة قال ، حدثنا ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : " السقاية " و " الصواع " ، شيء واحد ، ، كان يشرب فيه يوسف.
19513 - ... قال ، أخبرنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الله ، عن ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد قال " السقاية " : " الصواع " ، الذي يشرب فيه يوسف.
19514 - حدثنا محمد بن الأعلى قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : (جعل السقاية) ، قال : مشربة الملك.
19515 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة : (السقاية في رحل أخيه) ، وهو إناء الملك الذي كان يشرب فيه.
19516 - حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال : حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : (قالوا نفقد صواع الملك ولمن جاء به حمل بعير) وهي " السقاية " التي كان يشرب فيها الملك يعني مَكُّوكه.
19517 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن

(16/172)


ابن جريج ، عن مجاهد قوله : (جعل السقاية) وقوله : (صواع الملك) ، قال : هما شيء واحد ، " السقاية " و " الصواع " شيء واحد ، يشرب فيه يوسف.
19518 - حدثت عن الحسين قال ، سمعت أبا معاذ يقول ، أخبرنا عبيد بن سليمان ، قال ، سمعت الضحاك يقول في قوله : (جعل السقاية في رحل أخيه) ، هو الإناء الذي كان يشرب فيه الملك.
19519 - حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد في قوله : (جعل السقاية في رحل أخيه) ، قال : " السقاية " هو " الصواع " ، وكان كأسًا من ذهب ، فيما يذكرون.
* * *
قوله : (في رحل أخيه) ، فإنه يعني : في متاع أخيه ابن أمه وأبيه (1) وهو بنيامين.
وكذلك قال أهل التأويل .
*ذكر من قال ذلك :
19520 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة : (في رحل أخيه) أي : في متاع أخيه.
* * *
وقوله : (ثم أذّن مؤذن) ، يقول : ثم نادى منادٍ. (2)
* * *
وقيل : أعلم معلم.
* * *
(أيتها العير) ، وهي القافلة فيها الأحمال(إنكم لسارقون) .
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
__________
(1) انظر تفسير " الرحل " فيما سلف ص : 157 .
(2) انظر تفسير " أذن " فيما سلف من فهارس اللغة ( أذن ) .

(16/173)


*ذكر من قال ذلك :
19521 - حدثنا ابن وكيع قال : حدثنا عمرو ، عن أسباط ، عن السدي : (فلما جهزهم بجهازهم جعل السقاية في رحل أخيه) ، والأخ لا يشعر. فلما ارتحلوا أذّن مؤذن قبل أن ترتحل العير : (إنكم لسارقون).
19522 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق قال ، ثم جهزهم بجهازهم ، وأكرمهم وأعطاهم وأوفاهم ، وحمَّل لهم بعيرًا بعيرًا ، وحمل لأخيه بعيرًا باسمه كما حمل لهم. ثم أمر بسقاية الملك وهو " الصواع " ، وزعموا أنها كانت من فضة فجعلت في رحل أخيه بنيامين . ثم أمهلهم حتى إذا انطلقوا وأمعنوا من القرية ، أمر بهم فأدركوا ، فاحتبسوا ، ثم نادى مناد : (أيتها العير إنكم لسارقون) ، قفوا. وانتهى إليهم رسوله فقال لهم فيما يذكرون : ألم نكرم ضيافتكم ، ونوفِّكم كيلكم ، ونحسن منزلتكم ، ونفعل بكم ما لم نفعل بغيركم ، وأدخلناكم علينا في بيوتنا ومنازلنا ؟ أو كما قال لهم قالوا : بلى ، وما ذاك ؟ قال : سقاية الملك فقدناها ، ولا نتَّهم عليها غيركم .(قالوا تالله لقد علمتم ما جئنا لنفسد في الأرض وما كنا سارقين).
* * *
وقوله : (أيتها العير) ، قد بينا فيما مضى معنى " العير " ، وهو جمع لا واحد له من لفظه. (1)
* * *
وحكي عن مجاهد أن عير بني يعقوب كانت حميرًا .
19523 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال : حدثنا عبد الله بن الزبير ، عن سفيان ، عن ابن جريح ، عن مجاهد : (أيتها العير) ، قال : كانت حميرًا.
19524 - حدثني الحارث قال ، حدثنا عبد العزيز قال ، حدثنا سفيان
__________
(1) انظر ما سلف ص : 173 .

(16/174)


قَالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ مَاذَا تَفْقِدُونَ (71) قَالُوا نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ (72)

قال : حدثني رجل ، عن مجاهد ، في قوله : (أيتها العير إنكم لسارقون) ، قال : كانت العير حميرًا
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { قَالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ مَاذَا تَفْقِدُونَ (71) قَالُوا نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ (72) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : قال بنو يعقوب لما نودوا : (أيتها العير إنكم لسارقون) ، وأقبلوا على المنادي ومن بحضرتهم يقولون لهم : (ماذا تفقدون) ، ما الذي تفقدون ؟(قالوا نفقد صواع الملك) ، يقول : فقال لهم القوم : نفقد مشربة الملك .
* * *
واختلفت القرأة في قراءة ذلك.
فذكر عن أبي هريرة أنه قرأه : " صَاعَ المَلِكِ " ، بغير واوٍ ، كأنه وجَّهه إلى " الصاع " الذي يكال به الطعام.
* * *
وروي عن أبي رجاء أنه قرأه : " صَوْعَ المَلِكِ " .
* * *
وروي عن يحيى بن يعمر أنه قرأه : " صَوْغَ المَلِكِ " ، بالغين ، كأنه وجَّهه إلى أنه مصدر من قولهم : " صاغ يَصُوغ صوغًا " .
* * *
وأما الذي عليه قرأة الأمصار : فَـ(صُوَاعَ المَلِكِ) ، وهي القراءة التي لا أستجيز القراءة بخلافها لإجماع الحجة عليها .

(16/175)


* * *
و " الصواع " ، هو الإناء الذي كان يوسف يكيل به الطعام. وكذلك قال أهل التأويل .
*ذكر من قال ذلك :
19525 - حدثنا محمد بن بشار قال : حدثنا محمد بن جعفر قال : حدثنا شعبة ، عن أبي بشر ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس في هذا الحرف : (صواع الملك) قال : كهيئة المكُّوك . قال : وكان للعباس مثله في الجاهلية يَشْرَبُ فيه
19526 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا وكيع وحدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي عن شعبة ، عن أبي بشر ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس في قوله : (صواع الملك) ، قال ، كان من فضة مثل المكوك . وكان للعباس منها واحدٌ في الجاهلية.
19527 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا وكيع وحدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي عن شريك ، عن سماك ، عن عكرمة في قوله : (قالوا نفقد صواع الملك) ، قال : كان من فضة.
19528 - حدثني يعقوب قال ، حدثنا هشيم ، عن أبي بشر ، عن سعيد بن جبير : أنه قرأ : (صواع الملك) ، قال وكان إناءه الذي يشرب فيه ، وكان إلى الطول ما هو.
19529 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا سويد بن عمرو ، عن أبي عوانة ، عن أبي بشر ، عن سعيد بن جبير : (صواع الملك) ، قال ، المكوك الفارسي.
19530 - حدثني المثنى قال ، حدثنا الحجاج بن المنهال قال ، حدثنا أبو عوانة ، عن أبي بشر ، عن سعيد بن جبير قال ، (صواع الملك) ، قال ، هو المكوك الفارسيّ الذي يلتقي طرفاه ، كانت تشرب فيه الأعاجم.

(16/176)


19531 - ... قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الرحمن بن مغراء ، عن جويبر ، عن الضحاك ، في قوله : (صواع الملك) ، قال ، إناء الملك الذي كان يشرب فيه.
19532 - حدثنا الحسن بن محمد قال ، حدثنا يحيى يعني ابن عباد قال ، حدثنا شعبة ، عن أبي بشر ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : (صواع الملك) ، مكّوك من فضة يشربون فيه . وكان للعباس واحدٌ في الجاهلية.
19533 - حدثنا ابن عبد الأعلى قال ، حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : (صواع الملك) ، إناء الملك الذي يشرب فيه.
19534 - حدثنا الحسن بن محمد قال ، حدثنا سعيد بن منصور قال ، حدثنا أبو عوانة ، عن أبي بشر ، عن سعيد بن جبير ، في قوله : (صواع الملك) ، قال : هو المكوك الفارسي الذي يلتقي طرفاه.
19535 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد قال ، " الصواع " ، كان يشرب فيه يوسف.
19536 - حدثنا محمد بن معمر البحراني قال ، حدثنا عبد الصمد بن عبد الوارث قال ، حدثنا صدقة بن عباد ، عن أبيه عن ابن عباس : (صواع الملك) ، قال ، كان من نحاس .
* * *
وقوله : (ولمن جاء له حمل بعير) ، يقول : ولمن جاء بالصواع حمل بعير من الطعام ، كما : -
19537 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : (ولمن جاء به حمل بعير) ، يقول : وقر بعير.
19538 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله تعالى : (حمل بعير) ، قال :

(16/177)


حمل حمار وهي لغة. (1)
19539 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد قال
19540 - وحدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الله ، عن ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد قوله : (حمل بعير) قال : حمل حمار وهي لغة.
19541 - حدثنا الحسن بن محمد قال ، حدثنا شبابة قال ، حدثنا ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
19542 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد قال ، قوله : (حمل بعير) قال ، حمل حمار.
* * *
وقوله ، (وأنا به زعيم) ، يقول : وأنا بأن أوفيّه حملَ بعير من الطعام إذا جاءني بصواع الملك كفيلٌ .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
*ذكر من قال ذلك :
19543 - حدثني علي قال ، حدثنا عبد الله قال ، حدثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس قوله : (وأنا به زعيم) ، يقول : كفيل.
19544 - حدثنا الحسن بن محمد قال ، حدثنا شبابة قال ، حدثنا ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد قوله : (وأنا به زعيم) ، " الزعيم " ، هو المؤذّن الذي قال : (أيتها العير).
19545 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة : " حمل طعام " ولا معنى له ، والصواب ما أثبت ، وهو تفسير لقوله : " بعير " ، انظر ما سلف ص : 162 ، رقم : 19477 ، 19478 ، 19523 ، 19524 وصوبت ذلك لقوله : " وهي لغة " لأنه زعموا ذلك لغة في الحمار ، أما " الطعام " ، فلا يصح أن يكون فيه لغة يقال لها " بعير " ! .

(16/178)


عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
19546 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله .
19547 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا محمد بن بكر ، وأبو خالد الأحمر ، عن ابن جريج قال : بلغني عن مجاهد ، ثم ذكر نحوه .
19548 - حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي قال ، حدثنا عبد الواحد بن زياد ، عن ورقاء بن إياس ، عن سعيد بن جبير : (وأنا به زعيم) ، قال : كفيل.
19549 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : (وأنا به زعيم) : أي : وأنا به كفيلٌ.
19550 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : (وأنا به زعيم) ، قال : كفيل.
19551 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبو خالد الأحمر ، عن جويبر ، عن الضحاك : (وأنا به زعيم) ، قال : كفيل.
19552 - حدثت عن الحسين بن الفرج قال ، سمعت أبا معاذ يقول : حدثنا عبيد بن سليمان قال ، سمعت الضحاك ، فذكر مثله .
19553 - حدثني الحارث قال ، حدثنا عبد العزيز ، عن سفيان ، عن رجل ، عن مجاهد : (وأنا به زعيم) ، قال : كفيل.
19554 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : قال لهم الرسول : إنه من جاءنا به فله حمل بعير ، وأنا به كفيلٌ بذلك حتى أؤدّيه إليه.
* * *
ومن " الزعيم " الذي بمعنى الكفيل ، قول الشاعر :

(16/179)


قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ (73)

(1)
فَلَسْتُ بِآمِرٍ فِيهَا بِسَلْمٍ... وَلَكِنِّي عَلَى نَفْسِي زَعِيمُ (2)
وأصل " الزعيم " ، في كلام العرب : القائم بأمر القوم ، وكذلك " الكفيل " و " الحميل " . ولذلك قيل : رئيس القوم زعيمهم ومدبِّرهم. يقال منه : " قد زَعُم فلان زعامة وزَعامًا " ، (3) ومنه قول ليلى الأخيلية :
حَتَّى إذَا بَرَزَ اللِّوَاءُ رَأَيْتَهُ... تَحْتَ اللِّوَاءِ عَلَى الخَمِيسِ زَعِيمَا (4)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الأرْضِ وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ (73) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : قال إخوة يوسف : (تالله) يعني : والله .
* * *
وهذه التاء في(تالله) ، إنما هي " واو " قلبت " تاء " كما فعل ذلك في " التوراة " وهي من " ورّيت " ، (5) و " التُّراث " ، وهي من " ورثت " ، و " التخمة "
__________
(1) هو حاجز بن عوف الأزدي السروي اللص الجاهلي ، وفي مجاز القرآن لأبي عبيدة : " وقال المؤسى الأزدي " ، وأخشى أن يكون " المؤسى " تصحيف لنسبته ، وهي " السروى " ، نسبة إلى " السرأة " وهي جبال الأزد .
(2) مجاز القرآن لأبي عبيدة 1 : 315 ، وبعد البيت ، وفيه تمام معناه : بِغَزْوٍ مِثْلِ وَلْغِ الذِّئْبِ حَتَّى ... يَنُوءَ بِصَاحِبي ثَأْرٌ مُنِيمُ
وهذا البيت في لسان العرب مادة ( ولغ ) ، منسوبًا لحاجز اللص .
(3) قوله : " وزعامًا " ، هذا المصدر مما أغفلته معاجم اللغة ، فليقيد في مكانه .
(4) اللسان ( زعم ) وأمالي القالي 1 : 248 ، وسمط اللآلئ 561 ، وتمام تخريجها هناك ، من قصيدة لها تعرض فيها بابن الزبير ، وقبل البيت : وَمُخَرَّقِ عَنْهُ القَمِيصُ تَخَالُه ... وَسْطَ البُيُوتِ مِنَ الحَياء سَقِيمَا
.
(5) في المطبوعة : " كما فعل ذلك في التورية ، وهي من وريت " ، فأساء غاية الإساءة ، فضلا عما فيه من الجهالة . والصواب من المخطوطة ، و " التوراة " ، وهي التي أنزلها الله على موسى ، قال الفراء في كتاب المصادر إنها " تفعلة " من " وريت " ، وجرت على لغة طئ ، كقولهم في " التوصية " " توصاة " وفي " الجارية " " جاراة " . وقال البصريون : " التوراة " ، أصلها " فوعلة " ، مثل " الحوصلة " و " الدوخلة " وكل ما كان على " فوعلت " ، فمصدره " فوعلة " ، وقلبت الواو تاء ، كما قلبت في " تولج " وأصلها " ولج " .

(16/180)


وهي من " الوخامة " ، قلبت الواو في ذلك كله تاء ، و " الواو " في هذه الحروف كلها من الأسماء ، وليست كذلك في(تالله) ، لأنها إنما هي واو القسم ، وإنما جعلت تاء لكثرة ما جرى على ألسن العرب في الأيمان في قولهم : " والله " ، فخُصَّت في هذه الكلمة بأن قلبت تاء . ومن قال ذلك في اسم الله فقال : " تالله " . لم يقل " تالرحمن " و " تالرحيم " ، ولا مع شيء من أسماء الله ، ولا مع شيء مما يقسم به ، ولا يقال ذلك إلا في " تالله " وحده .
* * *
وقوله : (لقد علمتم ما جئنا لنفسد في الأرض) ، يقول : لقد علمتم ما جئنا لنعصى الله في أرضكم. (1)
* * *
كذلك كان يقول جماعة من أهل التأويل .
*ذكر من قال ذلك :
19555 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع بن أنس ، في قوله : (قالوا تالله لقد علمتم ما جئنا لنفسد في الأرض) ، نقول : ما جئنا لنعصى في الأرض.
* * *
فإن قال قائل : وما كان عِلْمُ من قيل له (2) (لقد علمتم ما جئنا لنفسد في الأرض) ، بأنهم لم يجيئوا لذلك ، حتى استجاز قائلو ذلك أن يقولوه ؟
قيل : استجازوا أن يقولوا ذلك لأنهم فيما ذكر ردُّوا البضاعة التي وجدوها
__________
(1) انظر تفسير " الفساد في الأرض " فيما سلف من فهارس اللغة ( فسد ) .
(2) في المطبوعة : " وما كان أعلم من قيل له " ، وهو عبث وفساد ، صوابه ما في المخطوطة .

(16/181)


قَالُوا فَمَا جَزَاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كَاذِبِينَ (74) قَالُوا جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (75)

في رحالهم ، فقالوا : لو كنا سُرَّاقًا لم نردَّ عليكم البضاعة التي وجدناها في رحالنا .
وقيل : إنهم كانوا قد عُرِفوا في طريقهم ومسيرهم أنهم لا يظلمون أحدًا ولا يتناولون ما ليس لهم ، فقالوا ذلك حين قيل لهم : (إنكم لسارقون) .
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { قَالُوا فَمَا جَزَاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كَاذِبِينَ (74) قَالُوا جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (75) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : قال أصحاب يوسف لإخوته : فما ثواب السَّرَق إن كنتم كاذبين في قولكم (1) (ما جئنا لنفسد في الأرض وما كنا سارقين) ؟ (قالوا جزاؤه من وجد في رحله فهو جزاؤه) . ، يقول جل ثناؤه : وقال إخوة يوسف : ثواب السرق من وجد في متاعه السرق(فهو جزاؤه) ، (2) يقول : فالذي وجد ذلك في رحله ثوابه بأن يسلم بسَرِقته إلى من سرق منه حتى يستَرِقّه(كذلك نجزي الظالمين) ، يقول : كذلك نفعل بمن ظلم ففعل ما ليس له فعله من أخذه مال غيره سَرَقًا .
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
*ذكر من قال ذلك :
19556 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : (فهو
__________
(1) " السرق " ( بفتحتين ) ، ومصدره فعل السارق . وسوف يسمى " المسروق " " سرقًا " ، بعد قليل ، وهو صحيح في العربية جيد . وهكذا كان يقوله أئمة الفقهاء القدماء .
(2) " السرق " ( بفتحتين ) ، ومصدره فعل السارق . وسوف يسمى " المسروق " " سرقًا " ، بعد قليل ، وهو صحيح في العربية جيد . وهكذا كان يقوله أئمة الفقهاء القدماء .

(16/182)


جزاؤه) ، أي : سُلِّم به(كذلك نجزي الظالمين) ، أي : كذلك نصنع بمن سرقَ منَّا.
19557 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الرزاق ، عن معمر قال ، بلغنا في قوله : (قالوا فما جزاؤه إن كنتم كاذبين) ، أخبروا يوسف بما يحكم في بلادهم أنه من سرق أخذ عبدًا ، فقالوا : (جزاؤه من وجد في رحله فهو جزاؤه).
19558 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا عمرو ، عن أسباط ، عن السدي : (قالوا فما جزاؤه إن كنتم كاذبين قالوا جزاؤه من وجد في رحله فهو جزاؤه) ، تأخذونه فهو لكم.
* * *
قال أبو جعفر : ومعنى الكلام : قالوا : ثوابُ السَّرَق الموجودُ في رحله كأنه قيل : ثوابه استرقاق الموجود في رحله " ، ثم حذف " استرقاق " ، إذ كان معروفًا معناه. ثم ابتدئ الكلام فقيل : ( هو جزاؤه كذلك نجزي الظالمين) .
* * *
وقد يحتمل وجهًا آخر : أن يكون معناه : قالوا ثوابُ السَّرق ، الذي يوجدُ السَّرق في رحله ، فالسارق جزاؤه فيكون " جزاؤه " الأول مرفوعًا بجملة الخبر بعده ، ويكون مرفوعًا بالعائد من ذكره في " هو " ، و " هو " مرافع " جزاؤه " الثاني . (1)
* * *
ويحتمل وجهًا ثالثًا : وهو أن تكون " مَنْ " جزاءً (2) وتكون مرفوعة بالعائد من ذكره في " الهاء " التي في " رحله " ، و " الجزاء " الأول مرفوعًا بالعائد من
__________
(1) في المطبوعة : " رافع " ، وأثبت ما في المخطوطة . وهذا الوجه الثاني مكرر في المخطوطة ، كتب مرتين .
(2) في المطبوعة : " جزائية " ، وهو تصرف معيب .

(16/183)


فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِنْ وِعَاءِ أَخِيهِ كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ (76)

ذكره في " وجد " ، ويكون جواب الجزاء " الفاء " في " فهو " . و " الجزاء " الثاني مرفوع ب " هو " ، فيكون معنى الكلام حينئذ : قالوا : جزاء السَّرق ، من وجد السرق في رحله فهو ثوابه ، يُستَرَقُّ ويُستعبَد . (1)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِنْ وِعَاءِ أَخِيهِ كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ (76) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : ففتش يوسف أوعيتهم ورحالهم ، طالبًا بذلك صواعَ الملك ، فبدأ في تفتيشه بأوعية إخوته من أبيه ، فجعل يفتشها وعاء وِعاءً قبل وعاء أخيه من أبيه وأمه ، فإنه أخّر تفتيشه ، ثم فتش آخرها وعاء أخيه ، فاستخرج الصُّواع من وعاء أخيه .
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
*ذكر من قال ذلك :
19559 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : (فبدأ بأوعيتهم قبل وعاء أخيه) ، ذكر لنا أنه كان لا ينظر في وعاء إلا استغفر الله تأثمًا مما قذفهم به ، حتى بقي أخوه ، وكان أصغر القوم ، قال : ما أرى هذا أخذ شيئًا! قالوا : بلى فاستبْرِهِ! (2) ألا وقد علموا حيث وضعوا سقايتهم
__________
(1) انظر معاني القرآن للفراء في تفسير هذه الآية ، فقد ذكر هذه الوجوه بغير هذا اللفظ .
(2) " بلى " ، انظر استعمالها في غير جواب الجحد فيما سلف ، في التعليق على رقم : 16987 ، والمراجع هناك . وقوله " استبره " من " الاستبراء " سهلت همزتها ، وأصله : واستبرئه ، و " الاستبراء " طلب البراءة من الشيء ، ما كان تهمة أو عيبًا أو قادحًا .

(16/184)


(ثم استخرجها من وعاء أخيه).
19560 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة قال : (فاستخرجها من وعاء أخيه) ، قال : كان كلما فتح متاعًا استغفر تائبًا مما صنع ، حتى بلغ متاعَ الغلام ، فقال : ما أظن هذا أخذ شيئًا! قالوا : بلى ، فاستَبْره!
19561 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا عمرو بن محمد ، عن أسباط ، عن السدي قال ، (فبدأ بأوعيتهم قبل وعاء أخيه) ، فلما بقي رحل الغلام قال : ما كان هذا الغلام ليأخذه! قالوا : والله لا يترك حتى تنظر في رحله ، لنذهب وقد طابت نفسك. فأدخلَ يده فاستخرجه من رحله. (1)
19562 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق قال : لما قال الرسول لهم : (ولمن جاء به حمل بعير وأنا به زعيم) ، قالوا : ما نعلمه فينَا ولا معنَا . قال : لستم ببارحين حتى أفتّش أمتعتكم ، وأعْذِر في طلبها منكم! فبدأ بأوعيتهم وعاء وعاءً يفتشها وينظر ما فيها ، حتى مرّ على وعاء أخيه ففتشه ، فاستخرجها منه ، فأخذ برقبته ، فانصرف به إلى يوسف . يقول الله : (كذلك كدنا ليوسف).
19563 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج قال : ذُكر لنا أنه كان كلما بَحَث متاع رجل منهم استغفر ربه تأثمًا ، قد علم أين موضع الذي يَطْلُب! حتى إذا بقي أخوه ، وعلم أن بغيته فيه ، قال : لا أرى هذا الغلام أخذه ، ولا أبالي أن لا أبحث متاعه ! قال إخوته : إنه أطيبُ لنفسك وأنفسنا أن تستبرئ متاعه أيضًا . فلما فتح متاعه استخرج بغيته منه ، قال الله : (كذلك كدنا ليوسف).
* * *
__________
(1) في المطبوعة : " فاستخرجها " ، وأثبت ما في المخطوطة .

(16/185)


واختلف أهل العربية في الهاء والألف اللتين في قوله : (ثم استخرجها من وعاء أخيه) .
فقال بعض نحويي البصرة : هي من ذكر " الصواع " ، قال : وأنّث وقد قال : (ولمن جاء به حمل بعير) ، لأنه عنى " الصواع " . قال ، و " الصواع " ، مذكر ، ومنهم من يؤنث " الصواع " ، وعني ههنا " السقاية " ، وهي مؤنثة . قال : وهما اسمان لواحد ، مثل " الثوب " و " الملحفة " ، مذكر ومؤنث لشيءٍ واحدٍ .
* * *
وقال بعض نحويي الكوفة في قوله : (ثم استخرجها من وعاء أخيه) ، ذهب إلى تأنيث " السرقة " . قال : وإن يكن " الصواع " في معنى " الصاع (1) فلعل هذا التأنيث من ذلك . قال ، وإن شئت جعلته لتأنيث السقاية . قال : و " الصواع " ذكر ، و " الصاع " يؤنث ويذكر ، فمن أنثه قال ، ثلاث أصوُع ، مثل ثلاث أدور ، ومن ذكره قال " أصواع " ، مثل أبواب .
* * *
وقال آخر منهم : إنما أنّث " الصواع " حين أنث لأنه أريدت به " السقاية " ، وذكّر حين ذكّر ، لأنه أريد به " الصواع " . قال : وذلك مثل " الخوان " و " المائدة " ، و " سنان الرمح " و " عاليته " ، وما أشبه ذلك من الشيء الذي يجتمع فيه اسمان : أحدهما مذكر ، والآخر مؤنث .
* * *
وقوله : (كذلك كدنا ليوسف) ، يقول : هكذا صنعنا ليوسف ، (2) حتى يخلص أخاه لأبيه وأمه من إخوته لأبيه ، بإقرارٍ منهم أن له أن يأخذه منهم ويحتبسه في يديه ، ويحول بينه وبينهم. وذلك أنهم قالوا ، إذ قيل لهم : (ما جزاؤه إن كنتم
__________
(1) في المطبوعة : " وإن لم يكن الصواع " ، زاد " لم " فأفسد الكلام ، وإنما عنى أن " الصاع " يذكر ويؤنث ، فمن أجل ذلك أنث " الصواع " .
(2) انظر تفسير " الكيد " فيما سلف ص : 141 ، تعليق : 1 ، والمراجع هناك .

(16/186)


كاذبين) : جزاءُ من سرق الصُّواع أن من وجد ذلك في رحله فهو مستَرَقٌّ به ، وذلك كان حكمهم في دينهم . فكاد الله ليوسف كما وصف لنا حتى أخذ أخاه منهم ، فصار عنده بحكمهم وصُنْعِ الله له .
* * *
وقوله : (ما كان ليأخذ أخا في دين الملك إلا أن يشاء الله) ، يقول : ما كان يوسف ليأخذ أخاه في حكم ملك مصر وقضائه وطاعته منهم ، لأنه لم يكن من حكم ذلك الملك وقضائه أن يسترقّ أحد بالسَّرَق ، فلم يكن ليوسف أخذ أخيه في حكم ملك أرضه ، إلا أن يشاء الله بكيده الذي كاده له ، حتى أسلم من وجد في وعائه الصواع إخوتُه ورفقاؤه بحكمهم عليه ، وطابت أنفسهم بالتسليم .
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
*ذكر من قال ذلك :
19564 - حدثنا الحسن قال ، حدثنا شبابة قال ، حدثنا ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد قوله : (ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك) ، إلا فعلة كادها الله له ، فاعتلّ بها يوسف.
19565 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
19566 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : (كذلك كدنا ليوسف) كادها الله له ، فكانت علَّةً ليوسف.
19567 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد : (ليأخذ أخاه في دين الملك إلا أن يشاء الله) ، قال : إلا فعلة كادها الله ، فاعتلّ بها يوسف قال حدثني حجاج ، عن ابن جريج قوله : (كذلك كدنا ليوسف) ، قال ، صنعنا.

(16/187)


19568 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا عمرو ، عن أسباط ، عن السدي : (كذلك كدنا ليوسف) ، يقول : صنعنا ليوسف.
19569 - حدثت عن الحسين قال ، سمعت أبا معاذ يقول ، أخبرنا عبيد بن سليمان قال ، سمعت الضحاك يقول في قوله : (كذلك كدنا ليوسف) ، يقول : صنعنا ليوسف
* * *
واختلف أهل التأويل في تأويل قوله : (ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك) .
فقال بعضهم : ما كان ليأخذ أخاه في سلطان الملك .
*ذكر من قال ذلك :
19570 - حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : (ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك) ، يقول : في سلطان الملك.
19571 - حدثت عن الحسين قال ، سمعت أبا معاذ ، يقول ، حدثنا عبيد بن سليمان قال ، سمعت الضحاك يقول في قوله : (ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك) ، يقول : في سلطان الملك.
* * *
وقال آخرون : معنى ذلك : في حكمه وقضائه .
*ذكر من قال ذلك :
19572 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : (ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك إلا أن يشاء الله) ، يقول : ما كان ذلك في قضاء الملك أن يستعبد رجلا بسرقة.
19573 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا محمد بن ثور ، عن

(16/188)


معمر ، عن قتادة : (في دين الملك) ، قال : لم يكن ذلك في دين الملك قال : حكمه.
19574 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو صالح محمد بن ليث المروزي ، عن رجل قد سماه ، عن عبد الله بن المبارك ، عن أبي مودود المديني قال : سمعت محمد بن كعب القرظي يقول : (قالوا جزاؤه من وجد في رحله فهو جزاؤه)(كذلك كدنا ليوسف ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك) ، قال : دين الملك لا يؤخذ به من سرق أصلا ولكن الله كاد لأخيه ، حتى تكلموا ما تكلموا به ، فأخذهم بقولهم ، وليس في قضاء الملك. (1)
19575 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق ، عن معمر قال : بلغه في قوله : (ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك) ، قال : كان حكم الملك أن من سَرَق ضوعف عليه الغُرْم.
19576 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا عمرو ، عن أسباط ، عن السدى : (ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك) ، يقول : في حكم الملك.
19577 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : (ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك) : ، أي : بظلم ، ولكن الله كاد ليوسف ليضمّ إليه أخاه .
19578 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد ، في قوله : (ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك) ، قال : ليس في دين الملك أن يؤخذ السارق بسرقته . قال : وكان الحكم عند الأنبياء ، يعقوب وبنيه ، أن يؤخذ السارق بسرقته عبدًا يسترقّ.
* * *
__________
(1) الأثر : 19574 - " محمد بن ليث المروزي " ، " أبو صالح " ، لم أجد له ترجمة في شيء من المراجع التي بين يدي .
و " أبو مودود المديني " هو " عبد العزيز بن أبي سليمان الهذلي " ، كان قاصًا لأهل المدينة ، كان من أهل النسك والفضل ، وكان متكلمًا يعظ ، ورأى أبا سعيد الخدري وغيره من الصحابة . ثقة ، مترجم في التهذيب ، وابن أبي حاتم 2 / 2 / 384 .

(16/189)


قال أبو جعفر : وهذه الأقوال وإن اختلفت ألفاظ قائليها في معنى " دين الملك " ، فمتقاربة المعاني ، لأن من أخذه في سلطان الملك عامله بعمله ، فبرضاه أخذه إذًا لا بغيره ، (1) وذلك منه حكم عليه ، وحكمه عليه قضاؤه .
* * *
وأصل " الدين " ، الطاعة. وقد بينت ذلك في غير هذا الموضع بشواهده بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع . (2)
* * *
وقوله : (إلا أن يشاء الله) كما : -
19579 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا عمرو ، عن أسباط ، عن السدي : (إلا أن يشاء الله) ، ولكن صنعنا له ، بأنهم قالوا : (فهو جزاؤه).
19580 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : (إلا أن يشاء الله) إلا بعلة كادَها الله ، فاعتلَّ بها يوسف.
* * *
وقوله : (نرفع درجات من نشاء) ، اختلفت القرأة في قراءة ذلك.
فقرأه بعضهم : " نَرْفَعُ دَرَجَاتِ مَنْ نَشَاءُ " بإضافة " الدرجات " إلى " من " بمعنى : نرفع منازل من نشاء رفع منازله ومراتبه في الدنيا بالعلم على غيره ، كما رفعنا مرتبة يوسف في ذلك ومنزلته في الدنيا على منازل إخوته ومراتبهم . (3)
* * *
وقرأ ذلك آخرون : ( نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ ) بتنوين " الدرجات " ، بمعني : نرفع
__________
(1) في المطبوعة : " فيريناه أخذه إذا لم يغيره " ، وهو كلام مختل لا معنى له ، وهو في المخطوطة غير منقوط بعضه ، وصواب قراءته إن شاء الله ما أثبت ، وأساء الناسخ في كتابته ، لأنه لم يحسن القراءة عن الأم التي نقل منها ، فجعل " فبرضاه " " فيريناه " ، وجعل " لا " ، " لم " ، أما " بغيره " فهي غير منقوطة في المخطوطة .
(2) انظر تفسير " الدين " فيما سلف 3 : 571 / 6 : 273 ، 274 ، وغيرها من المواضع في فهارس اللغة ( دين ) .
(3) انظر تفسير " الدرجة " فيما سلف 14 : 173 ، تعليق : 6 ، والمراجع هناك .

(16/190)


من نشاء مراتب ودرجات في العلم على غيره ، كما رفعنا يوسف . فـ " مَنْ " على هذه القراءة نصبٌ ، وعلى القراءة الأولى خفض . وقد بينا ذلك في " سورة الأنعام " . (1)
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
*ذكر من قال ذلك :
19581 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج قال ، قال ابن جريح قوله : (نرفع درجات من نشاء) ، يوسف وإخوته ، أوتوا علمًا ، فرفعنا يوسف فوقهم في العلم.
* * *
وقوله : (وفوق كل ذي علم عليم) ، يقول تعالى ذكره : وفوق كل عالم من هو أعلم منه ، حتى ينتهي ذلك إلى الله . وإنما عنى بذلك أنّ يوسف أعلم إخوته ، وأنّ فوق يوسف من هو أعلم من يوسف ، حتى ينتهي ذلك إلى الله .
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
*ذكر من قال ذلك :
19582 - حدثنا محمد بن بشار قال ، حدثنا أبو عامر العقدي قال ، حدثنا سفيان ، عن عبد الأعلى الثعلبي ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، أنه حدّث بحديث ، فقال رجل عنده : (وفوق كل ذي علم عليم) ، فقال ابن عباس : بئسما قلت ! إن الله هو عليم ، وهو فوق كل عالم.
19583 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا وكيع وحدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي عن سفيان ، عن عبد الأعلى ، عن سعيد بن جبير قال : حدَّث ابن عباس بحديث ، فقال رجل عنده : الحمد لله ، (وفوق كل ذي علم عليم) ! فقال ابن عباس : العالم الله ، وهو فوق كل عالم.
__________
(1) انظر ما سلف 11 : 505 .

(16/191)


19584 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا الثوري ، عن عبد الأعلى ، عن سعيد بن جبير قال : كنا عند ابن عباس ، فحدث حديثًا ، فتعجب رجل فقال ، الحمد لله ، (فوق كل ذي علم عليم) ! فقال ابن عباس : بئسما قلت : الله العليم ، وهو فوق كل عالم.
19585 - حدثنا الحسن بن محمد وابن وكيع قالا حدثنا عمرو بن محمد قال ، أخبرنا إسرائيل ، عن سالم ، عن عكرمة ، عن ابن عباس : (وفوق كل ذي علم عليم) ، قال : يكون هذا أعلم من هذا ، وهذا أعلم من هذا ، والله فوق كل عالم.
19586 - حدثنا الحسن بن محمد قال ، حدثنا سعيد بن منصور قال ، أخبرنا أبو الأحوص ، عن عبد الأعلى ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : (وفوق كل ذي علم عليم) ، قال ، الله الخبير العليم ، فوق كل عالم.
19587 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عبيد الله قال ، أخبرنا إسرائيل ، عن عبد الأعلى ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : (وفوق كل ذي علم عليم) ، قال : الله فوق كل عالم.
19588 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا وكيع وحدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي عن أبي معشر ، عن محمد بن كعب قال ، سأل رجل عليًّا عن مسألة ، فقال فيها ، فقال الرجل : ليس هكذا ولكن كذا وكذا. قال عليٌّ : أصبتَ وأخطأتُ ، (وفوق كل ذي علم عليم).
19589 - حدثني يعقوب ، وابن وكيع قالا حدثنا ابن علية ، عن خالد ، عن عكرمة في قوله : (وفوق كل ذي علم عليم) ، قال : علم الله فوق كل أحد.
19590 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا ابن نمير ، عن نضر ، عن عكرمة ، عن ابن عباس : (وفوق كل ذي علم عليم) ، قال ، الله عز وجل.

(16/192)


19591 - حدثنا ابن وكيع ، حدثنا يعلى بن عبيد ، عن سفيان ، عن عبد الأعلى ، عن سعيد بن جبير : (وفوق كل ذي علم عليم) ، قال : الله أعلم من كل أحد.
19592 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا جرير ، عن ابن شبرمة ، عن الحسن ، في قوله : (وفوق كل ذي علم عليم) ، قال : ليس عالمٌ إلا فوقه عالم ، حتى ينتهي العلم إلى الله.
19593 - حدثنا الحسن بن محمد قال ، حدثنا عاصم قال ، حدثنا جويرية ، عن بشير الهجيمي قال : سمعت الحسن قرأ هذه الآية يومًا : (وفوق كل ذي علم عليم) ، ثم وقف فقال : إنه والله ما أمسى على ظهر الأرض عالم إلا فوقه من هو أعلم منه ، حتى يعود العلم إلى الذي علَّمه.
19594 - حدثنا الحسن بن محمد قال ، حدثنا علي ، عن جرير ، عن ابن شبرمة ، عن الحسن : (وفوق كل ذي علم عليم) ، قال : فوق كل عالم عالم ، حتى ينتهي العلم إلى الله.
19595 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : (وفوق كل ذي علم عليم) ، حتى ينتهي العلم إلى الله ، منه بدئ ، وتعلَّمت العلماء ، وإليه يعود . في قراءة عبد الله : " وَفَوْقَ كُلِّ عَالِمٍ عَلِيمٌ " .
* * *
قال أبو جعفر : إن قال لنا قائل : وكيف جاز ليوسف أن يجعل السقاية في رحل أخيه ، ثم يُسَرِّق قومًا أبرياء من السّرَق (1) ويقول : (أيتها العير إنكم لسارقون) ؟
قيل : إن قوله : (أيتها العير إنكم لسارقون) ، إنما هو خبَرٌ من الله عن مؤذِّن أذَّن به ، لا خبر عن يوسف . وجائز أن يكون المؤذِّن أذَّن بذلك إذ فَقَد
__________
(1) " يسرق " ، أي ينسبهم إلى السرقة ، " سرقة يسرقه " ( بتشديد الراء ) ، نسبه إلى ذلك .

(16/193)


قَالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ قَالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَانًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَصِفُونَ (77)

الصُّواع (1) ولا يعلم بصنيع يوسف . وجائز أن يكون كان أذّن المؤذن بذلك عن أمر يوسف ، واستجاز الأمر بالنداء بذلك ، لعلمه بهم أنهم قد كانوا سرقوا سَرِقةً في بعض الأحوال ، فأمر المؤذن أن يناديهم بوصفهم بالسَّرق ، ويوسف يعني ذلك السَّرق لا سَرَقهم الصُّواع . وقد قال بعض أهل التأويل : إن ذلك كان خطأ من فعل يوسف ، فعاقبه الله بإجابة القوم إيّاه : (إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل) ، وقد ذكرنا الرواية فيما مضى بذلك . (2)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { قَالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ قَالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَانًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَصِفُونَ (77) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : (قالوا إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل) ، يعنون أخاه لأبيه وأمه ، وهو يوسف ، كما : -
19596 - حدثنا الحسن بن محمد قال ، حدثنا شبابة قال ، حدثنا ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : (إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل) ، ليوسف.
19597 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
19598 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الله ، عن
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة : " أن فقد الصواع " ، والصواب ما أثبت .
(2) انظر ما سلف رقم : 19559 - 19563 ، وذلك أنه كان يستغفر كلما فتش وعاء من أوعيتهم ، تأثمًا مما فعل . وعنى أبو جعفر أن يوسف كان يعلم أنه مخطئ في فعله . أما جواب إخوته له ، فلم يمض له ذكر فيما سلف .

(16/194)


ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله : (إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل) ، قال : يعني يوسف.
19599 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد : (فقد سرق أخ له من قبل) ، قال : يوسف.
* * *
وقد اختلف أهل التأويل في " السَّرَق " الذي وصفُوا به يوسف.
فقال بعضهم : كان صنمًا لجده أبي أمه ، كسره وألقاء على الطريق .
*ذكر من قال ذلك :
19600 - حدثنا أحمد بن عمرو البصري قال ، حدثنا الفيض بن الفضل قال ، حدثنا مسعر ، عن أبي حصين ، عن سعيد بن جبير : (إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل) ، قال : سرق يوسف صَنَمًا لجده أبي أمه ، كسره وألقاه في الطريق ، فكان إخوته يعيبونه بذلك. (1)
19601 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : (فقد سرق أخ له من قبل) ذكر أنه سرق صنمًا لجده أبي أمه ، فعيَّروه بذلك.
19602 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : (إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل) : أرادوا بذلك عيبَ نبيّ الله يوسف. وسرقته التي عابوه بها ، صنم كان لجده أبي أمه ، فأخذه ، إنما أراد نبيُّ الله بذلك الخير ، فعابوه.
19603 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن
__________
(1) الأثر : 19600 " أحمد بن عمرو البصري " ، شيخ الطبري ، مضى برقم : 9875 ، 13928 ، والكلام عنه في الرقم الأول .
و " الفيض بن الفضل البجلي الكوفي " ، مترجم في الكبير 4 / 1 / 140 ، وابن أبي حاتم 3 / 2 / 88 ، ولم يذكرا فيه جرحًا . وكان في المطبوعة : " العيص " وأخطأ لأن المخطوطة واضحة هناك كما أثبتها . وهذا الخبر ، رواه أبو جعفر في تاريخه 1 : 182 .

(16/195)


ابن جريج في قوله : (إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل) ، قال : كانت أمّ يوسف أمرت يوسف يسرق صنمًا لخاله يعبده ، وكانت مسلمةً.
* * *
وقال آخرون في ذلك ما : -
19604 - حدثنا به أبو كريب قال ، حدثنا ابن إدريس قال ، سمعت أبي قال : كان بنو يعقوب على طعام ، إذْ نظرَ يوسف إلى عَرْق فخبأه ، (1) فعيّروه بذلك(إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل). (2)
* * *
وقال آخرون في ذلك بما : -
19605 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة عن ابن إسحاق ، عن عبد الله بن أبي نجيح ، عن مجاهد أبي الحجاج قال : كان أوّل ما دخل على يوسف من البلاء ، فيما بلغني أن عَمَّته ابنة إسحاق ، وكانت أكبر ولد إسحاق ، وكانت إليها [صارت] منطقة إسحاق (3) وكانوا يتوارثونها بالكبر ، فكان من اختانها ممن وليها (4) كان له سَلَمًا لا ينازع فيه ، (5) يصنع فيه ما شاء . وكان يعقوب حين وُلِد له يوسف ، كان قد حضَنه عَمَّتَهُ (6) فكان معها وإليها ، فلم يحبَّ أحدٌ شيئًا من الأشياء حُبَّهَا إياه . حتى إذا ترعرع وبلغ سنواتٍ ، ووقعت نفس
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة : " اضطر يوسف إلى عرق " ، وهو خطأ محض ، وإنما وصل الكاتب " إذ " بقوله بعده " نظر " . و " العرق " ( بفتح فسكون ) : العظم عليه اللحم . فإن لم يكن عليه لحم ، فهو " عراق " ( بضم العين ) .
(2) الأثر : 19604 - رواه أبو جعفر في تاريخه 1 : 182 ، مطولا .
(3) الزيادة بين القوسين من تاريخ الطبري .
(4) في المطبوعة : " فكان من اختص بها " ، غير ما في المخطوطة ، فأفسد الكلام وأسقطه . والصواب منها ومن التاريخ . " اختانها " ، سرقها .
(5) " السلم " ( بفتحتين ) انقياد المذعن المستخذى ، كالأسير الذي لا يمتنع ممن أسره ، يقال : " أخذه سلمًا " ، إذا أسره من غير حرب ، فجاء به منقادًا لا يمتنع .
(6) في المطبوعة : " قد كان حضنته عمته " ، وأثبت ما في التاريخ . وأما المخطوطة ، فهي غير منقوطة .
وقوله : " حضنه عمته " فهو هنا فعل متعد إلى مفعولين ، وليس هذا المتعدي مما ذكرته كتب اللغة . وإنما ذكر " حضنت المرأة الصبي " ، إذا وكلت به تحفظه وتربيه ، وهي " الحاضنة " ، تضم إليها الطفل فتكفله . وهذا المتعدي إلى مفعولين ، صحيح عريق في قياس العربية ، بمعنى : أعطاها إياه لتحضنه . وهذا مما يزاد عليها إن شاء الله .

(16/196)


يعقوب عليه ، (1) أتاها فقال ، يا أخيَّة سلّمي إليّ يوسف ، فوالله ما أقدر على أن يغيب عني ساعة ! قالت : فوالله ما أنا بتاركته ، (2) والله ما أقدر أن يغيب عني ساعة ! (3) قال : فوالله ما أنا بتاركه ! قالت : فدعه عندي أيامًا أنظرْ إليه وأسكن عنه ، لعل ذلك يسلّيني عنه أو كما قالت . فلما خرج من عندها يعقوب عمدت إلى مِنْطقة إسحاق فحزمتها على يوسف من تحت ثيابه ، ثم قالت : لقد فقدت مِنْطقة إسحاق ، فانظروا من أخذها ومن أصابها ؟ فالتُمِسَتْ ، ثم قالت : كشِّفوا أهل البيت ! (4) فكشفوهم ، فوجدوها مع يوسف ، فقالت : والله إنه لي لسَلَمٌ ، أصنع فيه ما شئت . قال : وأتاها يعقوب فأخبرته الخبر ، فقال لها : أنت وذاك إن كان فعل ذلك ، فهو سَلَمٌ لك ، ما أستطيع غير ذلك . فأمسكته فما قدر عليه حتى ماتت . قال : فهو الذي يقول إخوة يوسف حين صنع بأخيه ما صنع حين أخذه : (إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل) . (5)
قال ابن حميد. قال ابن إسحاق : لما رأى بنو يعقوب ما صنع إخْوة يوسف ، ولم يشكُّوا أنه سرق ، قالوا أسفًا عليه ، لما دخل عليهم في أنفسهم (6) تأنيبًا له : (إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل) . فلما سمعها يوسف قال : (أنتم شر مكانًا) ،
__________
(1) في والمطبوعة المخطوطة : " وقعت " بغير واو ، والصواب إثباتها ، كما في تاريخ الطبري وقوله : " وقعت نفسه عليه " ، أي اشتاق إليه شديدا . وهذا مجاز لم تذكره معاجم اللغة ، وهو في غاية الحسن والدقة وبلاغة الأداء عن النفس وانظر بعد قوله : " ما أقدر على أن يغيب عني ساعة " ، فهو دليل على المعنى الذي استظهرته .
(2) في المطبوعة : " فقالت : والله ... " غير ما في المخطوطة ، وهو الموافق لما في تاريخ الطبري أيضًا .
(3) قولها : " والله ما أقدر ... " ، ليست في تاريخ الطبري ، فهي زيادة في المخطوطة .
(4) في المطبوعة : " اكشفوا " ، وأثبت ما في المخطوطة والتاريخ .
(5) الأثر : 19605 - إلى هذا الموضع ، رواه أبو جعفر في تاريخه 1 : 170 .
(6) في المطبوعة والمخطوطة : " أسفًا عليهم " ، وهو لا يكاد يستقيم ، وكان في المخطوطة أيضًا : " في أنفسنا " ، فصححها في المطبوعة ، وأصاب .

(16/197)


سِرًّا في نفسه(ولم يبدها لهم) (والله أعلم بما تصفون).
* * *
وقوله : (فأسرها يوسف في نفسه ولم يبدها لهم قال أنتم شر مكانًا والله أعلم بما تصفون) ، يعني بقوله : (فأسرها) ، فأضمرها. (1)
* * *
وقال : (فأسرها) فأنث ، لأنه عنى بها " الكلمة " ، وهي : " (أنتم شر مكانًا والله أعلم بما تصفون. ولو كانت جاءت بالتذكير كان جائزًا ، كما قيل : ( تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ ) [سورة هود : 49] ، و( ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْقُرَى ) ، [سورة هود : 100]
* * *
وكنى عن " الكلمة " . ولم يجر لها ذكر متقدِّم. والعرب تفعل ذلك كثيرًا ، إذا كان مفهومًا المعنى المرادُ عند سامعي الكلام . وذلك نظير قول حاتم الطائي :
أَمَاوِيَّ مَا يُغْنِي الثَّرَاءُ عَنِ الْفَتَى... إِذَا حَشْرَجَتْ يَوْمًا وَضَاقَ بهَا الصَّدْرُ (2)
__________
(1) انظر تفسير " الإسرار " فيما سلف ص : 7 ، تعليق ، والمراجع هناك .
(2) ديوانه : 39 ، وغيره ، من قصيدته المشهورة ، يقول بعده ، وهو من رائع الشعر : إذَا أنَا دَلاَّني الَّذِينَ أُحِبُّهُمْ ... بِمَلْحُودةٍ زَلْخٍ ، جَوَانِبُهَا غُبْرُ
وَرَاحُوا عِجَالاً ينفُضُونَ أكُفَّهُمْ ... يَقُولُونَ : قَدْ دَمَّى أَنَامِلَنَا الحفْرُ !
.
" ملحودة " ، يعني قبرًا قد لحد له . و " زلخ " ، ملساء ، يزل نازلها فيتردى فيها .

(16/198)


يريد : وضاق بالنفس الصدر فكنى عنها ولم يجر لها ذكر ، إذ كان في قوله : " إذا حشرَجَت يومًا " ، دلالة لسامع كلامه على مراده بقوله : " وضاق بها " . ومنه قول الله : ( ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ ) [سورة النحل : 110] ، فقال : " من بعدها " ، ولم يجر قبل ذلك ذكر لاسم مؤنث .
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
*ذكر من قال ذلك :
19606 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة : (فأسرها يوسف في نفسه ولم يبدها لهم) ، أما الذي أسرَّ في نفسه فقوله : (أنتم شر مكانًا والله أعلم بما تصفون).
19607 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : (فأسرها يوسف في نفسه ولم يبدها لهم قال أنتم شر مكانًا والله أعلم بما تصفون) ، قال هذا القول.
19608 - حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : (فأسرها يوسف في نفسه ولم يبدها لهم) ، يقول : أسرَّ في نفسه قوله : (أنتم شر مكانًا والله أعلم بما تصفون).
* * *
وقوله : (والله أعلم بما تصفون) ، يقول : والله أعلم بما تكذبون فيما تصفون به أخاه بنيامين . (1)
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
*ذكر من قال ذلك :
__________
(1) انظر تفسير " الوصف " فيما سلف : 15 : 586 ، تعليق : 1 ، والمراجع هناك .

(16/199)


19609 - حدثنا الحسن بن محمد قال ، حدثنا شبابة قال ، حدثنا ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد قوله : (أنتم شر مكانًا والله أعلم بما تصفون) ، يقولون : يوسف يقوله.
19610 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
19611 - حدثني المثنى قال ، أخبرنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الله ، عن ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
19612 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة : (والله أعلم بما تصفون) ، أي : بما تكذبون.
* * *
قال أبو جعفر : فمعنى الكلام إذًا : فأسرها يوسف في نفسه ولم يبدها لهم ، قال : أنتم شرّ عند الله منزلا ممن وصفتموه بأنه سرق ، وأخبث مكانًا بما سلف من أفعالكم ، والله عالم بكذبكم ، وإن جهله كثيرٌ ممن حضرَ من الناس .
* * *
وذكر أن الصّواع لما وُجد في رحل أخي يوسف تلاوَمَ القوم بينهم ، كما : -
19613 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا عمرو ، عن أسباط ، عن السدي قال : لما استخرجت السرقة من رحل الغلام انقطعت ظهورهم ، وقالوا : يا بني راحيل ، ما يزال لنا منكم بلاء! متى أخذت هذا الصوع ؟ (1) فقال بنيامين : بل بنو راحيل الذين لا يزال لهم منكم بلاء ، ذهبتم بأخي فأهلكتموه في البرية! وضَع هذا الصواع في رحلي ، الذي وضع الدراهم في رحالكم! فقالوا : لا تذكر الدراهم فنؤخذ بها! فلما دخلوا على يوسف دعا بالصواع فنقرَ فيه ، ثم أدناه من أذنه ، ثم قال ، إن صواعى هذا ليخبرني أنكم كنتم اثني عشر رجلا وأنكم انطلقتم
__________
(1) في المطبوعة : " حتى أخذت " ، والصواب من المخطوطة والتاريخ .

(16/200)


بأخٍ لكم فبعتموه . فلما سمعها بنيامين ، قام فسجد ليوسف ، ثم قال ، أيها الملك ، سل صواعك هذا عن أخي ، أحيٌّ هو ؟ (1) فنقره ، ثم قال ، هو حيٌّ ، وسوف تراه . قال ، فاصنع بي ما شئت ، فإنه إن علم بي فسوف يستنقذني . قال ، فدخل يوسف فبكى ، ثم توضَّأ ، ثم خرج فقال بنيامين : أيها الملك إني أريد أن تضرب صُواعك هذا فيخبرك بالحقّ ، فسله من سرقه فجعله في رحلي ؟ فنقره فقال : إن صواعي هذا غضبان ، وهو يقول : كيف تسألني مَنْ صاحبي ، (2) وقد رأيتَ مع من كنت ؟ (3) قال : وكان بنو يعقوب إذا غضبوا لم يطاقُوا ، فغضب روبيل ، وقال : أيها الملك ، والله لتتركنا أو لأصيحنَّ صيحة لا يبقى بمصر امرأةٌ حامل إلا ألقت ما في بطنها ! وقامت كل شعرة في جسد رُوبيل ، فخرجت من ثيابه ، فقال يوسف لابنه : قم إلى جنب روبيل فمسَّه. وكان بنو يعقوب إذا غضب أحدهم فمسَّه الآخر ذهب غضبه ، فمر الغلام إلى جنبه فمسَّه ، فذهب غضبه ، فقال روبيل : مَنْ هذا ؟ إن في هذا البلد لبَزْرًا من بَزْر يعقوب! (4) فقال يوسف : من يعقوب ؟ فغضب روبيل فقال : يا أيها الملك لا تذكر يعقوب ، فإنه سَرِيُّ الله ، (5) ابن ذبيح الله ، ابن خليل الله . قال يوسف : (6) أنت إذًا كنت صادقًا. (7)
* * *
__________
(1) في التاريخ : " أين هو " ، ولكنه في المخطوطة : " أحي هو " .
(2) في المطبوعة : " عن صاحبي " ، والصواب من المخطوطة والتاريخ .
(3) في المطبوعة وحدها : " وقد رؤيت " .
(4) " البزر " ( بفتح فسكون ) ، الولد . يقال : " ما أكثر بزره " ، أي : ولده .
(5) في التاريخ : " إسرائيل الله " ، وكأن الذي في التفسير هو الصواب ، لأن " إيل " بمعنى " الله " ، و " إسرا " ، يضاف إليه ، وكأن " إسرا " ، بمعنى " سرى " ، وهو بمعنى المختار ، كأنه : " صفي الله " الذي اصطفاه . وفي تفسير ذلك اختلاف كثير .
(6) في المطبوعة ، حذف " إن " من قوله : " إن كنت صادقًا " .
(7) الأثر : 19613 - رواه أبو جعفر في تاريخه مطولا 1 : 182 ، 183 .

(16/201)


قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (78)

القول في تأويل قوله تعالى : { قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (78) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : قالت إخوه يوسف ليوسف : (يأيها العزيز) ، يا أيها الملك (1) (إن له أبًا شيخًا كبيرًا) كلفًا بحبه ، يعنون يعقوب(فخذ أحدنا مكانه) ، يعنون فخذ أحدًا منّا بدلا من بنيامين ، وخلِّ عنه (إنا نراك من المحسنين) ، يقول : إنا نراك من المحسنين في أفعالك .
* * *
وقال محمد بن إسحاق في ذلك ما : -
19614 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : (إنا نراك من المحسنين) ، إنا نرى ذلك منك إحسانا إن فعلتَ.
* * *
__________
(1) انظر تفسير " العزيز " فيما سلف ص : 62 ، تعليق : 5 ، والمراجع هناك .

(16/202)


قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ إِنَّا إِذًا لَظَالِمُونَ (79)

القول في تأويل قوله تعالى : { قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ إِنَّا إِذًا لَظَالِمُونَ (79) } قال أبو جعفر : -
يقول تعالى ذكره : قال يوسف لإخوته : (معاذ الله) ، أعوذ بالله .
* * *
وكذلك تفعل العرب في كل مصدر وضعته موضع " يفعل " و " تفعل " ، فإنها تنصب ، كقولهم : " حمدًا لله ، وشكرًا له " بمعنى : أحمد الله وأشكره.
* * *
والعرب تقول في ذلك : " معاذَ الله " ، و " معاذةَ الله " فتدخل فيه هاء

(16/202)


فَلَمَّا اسْتَيْئَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا قَالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ وَمِنْ قَبْلُ مَا فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ (80)

التأنيث. كما يقولون : " ما أحسن معناة هذا الكلام " و " عوذ الله " ، و " عوذة الله " ، و " عياذ الله " . ويقولون : اللهم عائذًا بك ، كأنه قيل : " أعوذ بك عائذا " ، أو أدعوك عائذًا .
* * *
(أن نأخذ إلا من وجدنا متاعنا عنده) يقول : أستجير بالله من أن نأخذ بريئًا بسقيم ، (1) كما : -
19615 - حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : (قال معاذ الله أن نأخذ إلا من وجدنا متاعنا عنده إنا إذا لظالمون) ، يقول : إن أخذنا غير الذي وجدنا متاعنا عنده إنَّا إذًا نفعل ما ليس لنا فعله ونجور على الناس.
19616 - حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا عمرو ، عن أسباط ، عن السدي : (قالوا يا أيها العزيز إن له أبًا شيخًا كبيرًا فخذ أحدنا مكانه إنا نراك من المحسنين قال معاذ الله أن نأخذ إلا من وجدنا متاعنا عنده إنا إذًا لظالمون) ، قال يوسف : إذا أتيتم أباكم فأقرئوه السلام ، وقولوا له : إن ملك مصر يدعو لك أن لا تموت حتى ترى ابنك يوسف ، حتى يعلمَ أنّ في أرض مصر صدِّيقين مثلَه.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا قَالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ وَمِنْ قَبْلُ مَا فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ الأرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ (80) }
قال أبو جعفر يعني تعالى ذكره : (فلما استيأسوا منه) فلما يئسوا منه من أن يخلى يوسف عن بنيامين ، ويأخذ منهم واحدًا مكانه ، وأن يجيبهم إلى ما سألوه من ذلك.
* * *
__________
(1) انظر تفسير " عاذ " فيما سلف ص : 32 ، تعليق : 1 ، والمراجع هناك .

(16/203)


وقوله(استيأسوا) ، " استفعلوا " ، من : " يئس الرجل من كذا ييأس " ، كما : -
19617 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : (فلما استيأسوا منه) يئسوا منه ، ورأوا شدّته في أمره.
* * *
وقوله : (خلصوا نجيًّا) ، يقول بعضهم لبعض يتناجون ، لا يختلط بهم غيرهم .
* * *
و " النجيّ " ، جماعة القوم المنتجين ، يسمى به الواحد والجماعة ، كما يقال : " رجل عدل ، ورجال عدل " ، و " قوم زَوْر ، وفِطْر " . وهو مصدر من قول القائل : " نجوت فلانا أنجوه نجيًّا " ، جعل صفة ونعتًا . ومن الدليل على أن ذلك كما ذكرنا ، قول الله تعالى(وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا ) [ سورة مريم : 52] فوصف به الواحد ، وقال في هذا الموضع : (خلصوا نجيًّا) فوصف به الجماعة ، ويجمع " النجيّ " أنجية ، كما قال لبيد :
وَشَهِدْتُ أنْجِيَةَ الأفَاقَةِ عَاليًا... كَعْبي وَأَرْدَافُ المُلُوكِ شُهُودُ (1)
وقد يقال للجماعة من الرجال : " نَجْوَى " كما قال جل ثناؤه : (وإذْ هُمْ نَجْوَ ى) [سورة الإسراء : 47 ] وقال : (مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ) [سورة المجادلة : 7 ] وهم القوم الذين يتناجون . وتكون " النجوى " أيضا مصدرًا ، كما قال الله :
__________
(1) ديوانه قصيدة : 7 ، بيت : 7 ، ومجاز القرآن لأبي عبيدة 1 : 315 من أبيات يقولها لابنته بسرة ، يذكر طول عمره ، فيقول لها : وَلَقَدْ سَئِمْتُ من الحَيَاةِ وطُولِهَا ... وسُؤَالِ هذَا النَّاسِ : كَيْف لَبِيدُ ?
وَغَنِيتُ سَبْتًا قَبْلَ مَجْرَى دَاحِسٍ ... لَوْ كَانَ للنِّفْسِ اللَّجُوجِ خُلُودُ
وَشَهِدْتُ................. ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
" مجرى داحس " ، هو الخبر المشهور عن داحس والغبراء وإجرائهما ، وكانت بسببه الحرب بين عبس وذبيان أربعين سنة ، وقوله : " سبتًا " ، أي : دهرًا .
و " الأفاقة " اسم موضع ، حيث كان اليوم المشهور بين لبيد ، والربيع بن زياد العبسي . و " أرداف الملوك " ، من " الردف " ، وهو الذي يكون مع الملك ، وينوب عنه إذا قام من مجلسه .

(16/204)


( إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ ) [سورة المجادلة : 10 ] تقول منه " : نجوت أنجو نجوى " فهي في هذا الموضع ، المناجاة نفسها ، ومنه قول الشاعر (1)
بُنَيَّ بَدَا خِبُّ نَجْوَى الرِّجَالِ... فَكُنْ عِنْدَ سرّكَ خَبَّ النَّجِيّ (2)
فـ " النجوى " و " النجي " ، في هذا البيت بمعنى واحد ، وهو المناجاة ، وقد جمع بين اللغتين .
* * *
وبنحو الذي قلنا في تأويل قوله : (خلصوا نجيًّا) قال أهل التأويل .
*ذكر من قال ذلك :
19618 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا عمرو ، عن أسباط ، عن السدي : (فلما استيأسوا منه خلصوا نجيًّا) وأخلص لهم شمعون ، وقد كان ارتهنه ، خَلَوْا بينهم نجيًّا ، يتناجون بينهم .
19619 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : (خلصوا نجيًّا) خلصوا وحدهم نجيًّا.
19620 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : (خلصوا نجيًّا) : أي خلا بعضهم ببعض ، ثم قالوا : ماذا ترون ؟
* * *
وقوله : (قال كبيرهم) اختلف أهل العلم في المعنيِّ بذلك.
__________
(1) هو الصلتان العبدي .
(2) شرح الحماسة 3 : 112 ، والشعر والشعراء : 479 ، والخزانة 1 : 308 ، وغيرها ، وهو من وصيته المشهورة التي أوصى بها ولده التي يقول فيها : أَشَابَ الصّغيرَ وَأَفْنَى الكَبيرَ ... كَرُّ الغَدَاةِ وَمَرُّ العَشِي
ثم يقول له بعد البيت الشاهد : وَسِرُّكَ مَا كَانَ عِنْدَ امْريٍ ... وَسِرُّ الثَّلاَثَةِ غَيْرُ الخَفِي
و " الحب " ( بكسر الخاء ) ، المكر ، و " الخب " ( بفتحها ) ، المكار .

(16/205)


فقال بعضهم : عنى به كبيرهم في العقل والعلم ، لا في السن ، وهو شمعون. قالوا : وكان روبيل أكبر منه في الميلاد .
*ذكر من قال ذلك :
19621 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قول الله : (قال كبيرهم) قال : هو شمعون الذي تخلّف ، وأكبر منهأو : أكبر منهم في الميلاد ، روبيل.
19622 - حدثنا الحسن بن محمد قال ، حدثنا شبابة قال ، حدثنا ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : (قال كبيرهم) : ، شمعون الذي تخلّف ، وأكبر منه في الميلاد روبيل.
19623 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
19624 - حدثني المثنى قال ، أخبرنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الله بن الزبير ، عن سفيان ، عن ابن جريج ، عن مجاهد : (قال كبيرهم) ، قال : شمعون الذي تخلف ، وأكبرهم في الميلاد روبيل.
* * *
وقال آخرون : بل عنى به كبيرهم في السن ، وهو روبيل .
*ذكر من قال ذلك :
19625 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة : (قال كبيرهم) ، وهو روبيل ، أخو يوسف ، وهو ابن خالته ، وهو الذي نهاهم عن قتله.
19626 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : (قال كبيرهم) ، قال : روبيل ، وهو الذي أشار عليهم أن لا يقتلوه.

(16/206)


19627 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا عمرو ، عن أسباط ، عن السدي : (قال كبيرهم) في العلم (1) (إن أباكم قد أخذ عليكم موثقًا من الله ومن قبل ما فرطتم في يوسف فلن أبرح الأرض) ، الآية ، فأقام روبيل بمصر ، وأقبل التسعة إلى يعقوب ، فأخبروه الخبرَ ، فبكى وقال : يا بنيّ ما تذهبون مرَّة إلا نقصتم واحدًا! ذهبتم مرة فنقصتم يوسف ، وذهبتم الثانية فنقصتم شمعون ، وذهبتم الآن فنقصتُم روبيل!
19628 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : (فلما استيأسوا منه خلصوا نجيًّا) قال : ماذا ترون ؟ فقال روبيل كما ذكر لي ، وكان كبير القوم : (ألم تعلموا أن أباكم قد أخذ عليكم موثقا من الله لتأتنني به إلا أن يحاط بكم ومن قبل ما فرطتم في يوسف) ، الآية.
* * *
قال أبو جعفر : وأولى الأقوال في ذلك بالصحة ، قول من قال : عنى بقوله : (قال كبيرهم) روبيل ، لإجماع جميعهم على أنه كان أكبرهم سنًّا. ولا تفهم العرب في المخاطبة إذا قيل لهم : " فلان كبير القوم " ، مطلقا بغير وصل ، إلا أحد معنيين : إما في الرياسة عليهم والسؤدد ، وإما في السن. فأما في العقل ، فإنهم إذا أرادوا ذلك وصَلوه ، فقالوا : " هو كبيرهم في العقل " . فأما إذا أطلق بغير صلته بذلك ، فلا يفهم إلا ما ذكرت.
وقد قال أهل التأويل : لم يكن لشمعون وإن كان قد كان من العلم والعقل بالمكان الذي جعله الله به على إخوته رياسةٌ وسؤدد ، فيعلم بذلك أنه عنى بقوله : (قال كبيرهم) فإذا كان ذلك كذلك فلم يبق إلا الوجه الآخر ، وهو الكبر
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة : " في العلم " ، ولم أجد ما أستوثق به من أن يكون الخبر في معنى الترجمة ، أعني مكان " في العلم " ، " في السن " .

(16/207)


في السن ، وقد قال الذين ذكرنا جميعًا " : روبيل كان أكبر القوم سنًّا " ، فصح بذلك القول الذي اخترناه .
* * *
وقوله : (ألم تعلموا أن أباكم قد أخذ عليكم موثقًا من الله ، ) يقول : ألم تعلموا ، أيها القوم ؛ أنَّ أباكم يعقوب قد أخذ عليكم عهودَ الله ومواثيقه : (1) لنأتينه به جميعا ، إلا أن يحاط بكم( ومن قبل ما فرطتم في يوسف ) ، (2) ومن قبل فعلتكم هذه ، تفريطكم في يوسف. يقول : أو لم تعلموا من قبل هذا تفريطكم في يوسف ؟ وإذا صرف تأويل الكلام إلى هذا الذي قلناه ، كانت " ما " حينئذ في موضع نصب .
وقد يجوز أن يكون قوله : (ومن قبل ما فرطتم في يوسف) خبرا مبتدأ ، ويكون قوله : (ألم تعلموا أن أباكم قد أخذ عليكم موثقًا من الله) خبرًا متناهيًا فتكون " ما " حينئذ في موضع رفع ، كأنه قيل : " ومن قبل هذا تفريطكم في يوسف " فتكون " ما " مرفوعة بـ " من " قبلُ.
هذا ويجوز أن تكون " ما " التي هي صلة في الكلام ، (3) فيكون تأويل الكلام : ومن قبل هذا فرطتم في يوسف . (4)
* * *
وقوله : (فلن أبرح الأرض) التي أنا بها ، وهي مصر فأفارقها(حتى يأذن لي أبي) بالخروج منها ، كما : -
19629 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : (فلن أبرح الأرض) التي أنا بها اليوم(حتى يأذن لي أبي) ، بالخروج منها.
19630 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن
__________
(1) انظر تفسير " الموثق " فيما سلف ص : 163 ، تعليق : 1 ، والمراجع هناك .
(2) زدت نص الآية ، وإن لم يكن ثابتًا في المخطوطة أو المطبوعة .
(3) في المطبوعة : " التي تكون صلة " ، ، وفي المخطوطة : " التي صلة " ، ورجحت ما أثبت
و " الصلة " ، الزيادة ، انظر ما سلف من فهارس المصطلحات .
(4) في المطبوعة " تفريطكم في يوسف " ، والصواب ما أثبت ، لأن " ما " زائدة هنا .

(16/208)


ارْجِعُوا إِلَى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يَا أَبَانَا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ (81)

ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : قال شمعون : (لن أبرح الأرض حتى يأذن لي أبي أو يحكم الله لي وهو خير الحاكمين).
* * *
وقوله : (أو يحكم الله لي) ، أو يقضي لي ربي بالخروج منها وترك أخي بنيامين ، وإلا فإني غير خارج(وهو خير الحاكمين) ، يقول : والله خير من حكم ، وأعدل من فصل بين الناس . (1)
* * *
وكان أبو صالح يقول في ذلك بما : -
19631 - حدثني الحسين بن يزيد السبيعي قال ، حدثنا عبد السلام بن حرب ، عن إسماعيل بن أبي خالد ، عن أبي صالح في قوله : (حتى يأذن لي أبي أو يحكم الله لي ، ) قال : بالسيف.
* * *
وكأنَّ أبا صالح وجّه تأويل قوله : (أو يحكم الله لي) ، إلى : أو يقضي الله لي بحرب من مَنَعَني من الانصراف بأخي بنيامين إلى أبيه يعقوب ، فأحاربه .
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { ارْجِعُوا إِلَى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يَا أَبَانَا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَمَا شَهِدْنَا إِلا بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ (81) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره ، مخبرًا عن قيل روبيل لإخوته ، حين أخذ يوسف أخاه بالصواع الذي استخرج من وعائه : ارجعوا ، إخوتي ، إلى أبيكم يعقوب فقولوا له يا أبانا إن ابنك بنيامين سرق) .
__________
(1) انظر تفسير " الحكم " فيما سلف من فهارس اللغة ( حكم ) .

(16/209)


* * *
والقرأة على قراءة هذا الحرف بفتح السين والراء والتخفيف : (إن ابنك سرق) .
* * *
ورُوي عن ابن عباس : " إنَّ ابْنَكَ سُرِّقَ " بضم السين وتشديد الراء ، على وجه ما لم يسمَّ فاعله ، بمعنى : أنه سَرَق(وما شهدنا إلا بما علمنا) .
* * *
واختلف أهل التأويل في تأويل ذلك.
فقال بعضهم : معناه : وما قلنا إنه سرق إلا بظاهر علمنا بأن ذلك كذلك ، لأن صواع الملك أصيب في وعائه دون أوعية غيره.
*ذكر من قال ذلك :
19632 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : (ارجعوا إلى أبيكم) فإني ما كنت راجعًا حتى يأتيني أمرُه(فقولوا يا أبانا إن ابنك سرق وما شهدنا إلا بما علمنا ) ، أي : قد وجدت السرقة في رحله ، ونحن ننظر لا علم لنا بالغيب(وما كنا للغيب حافظين).
* * *
وقال آخرون : بل معنى ذلك : وما شهدنا عند يوسف بأن السارق يؤخذ بسرقته إلا بما علمنا .
*ذكر من قال ذلك :
19633 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد : قال لهم يعقوب عليه السلام : ما يدري هذا الرجل أن السارق يؤخذ بسرقته إلا بقولكم! فقالوا : (ما شهدنا إلا بما علمنا) ، لم نشهد أن السارق يؤخذ بسرقته إلا وذلك الذي علمنا. قال : وكان الحكم عند الأنبياء ، يعقوب وبنيه أن يؤخذ السارق بسرقته عبدًا فيسترقّ.
* * *
وقوله : (وما كنا للغيب حافظين ) ، يقول : وما كنا نرى أن ابنك يسرق

(16/210)


ويصير أمرنا إلى هذا ، وإنما قلنا(ونحفظ أخانا) مما لنا إلى حفظه منه السبيل .
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك :
19634 - حدثنا الحسين بن الحريث أبو عمار المروزي. قال ، حدثنا الفضل بن موسى ، عن الحسين بن واقد ، عن يزيد ، عن عكرمة : (وما كنا للغيب حافظين). قال : ما كنا نعلم أن ابنك يسرق. (1)
19635 - حدثنا الحسن بن محمد قال ، حدثنا شبابة قال ، حدثنا ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : (وما كنا للغيب حافظين) ، لم نشعر أنه سيسرق.
19636 - حدثنا محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : (وما كنا للغيب حافظين) قال : لم نشعر أنه سيسرق.
19637 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : (وما كنا للغيب حافظين) قال : لم نشعر أنه سيسرق.
19638 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد وأبو سفيان ، عن معمر ، عن قتادة : (وما كنا للغيب
__________
(1) الأثر : 19634 - " الحسين بن الحريث " ، " أبو عمار المروزي " ، شيخ الطبري ، مضى برقم 11771 .
" الفضل بن موسى السيتاني " ، مضى أيضًا برقم : 11771 .
" الحسين بن واقد المروزي " ، مضى أيضًا برقم : 4810 ، 6311 ، 11771 ، وكان في المخطوطة والمطبوعة هنا أيضًا " الحسن بن واقد " ، وهو خطأ بين ، كما أشرت إليه قبل .

(16/211)


وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (82)

حافظين) قال : ما كنا نظن ولا نشعر أنه سيسرق.
19639 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة : (وما كنا للغيب حافظين) قال : ما كنا نرى أنه سيسرق.
19640 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى. قال حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : (وما كنا للغيب حافظين) ، قال : ما كنا نظن أن ابنك يسرق.
* * *
قال أبو جعفر : وأولى التأويلين بالصواب عندنا في قوله : (وما شهدنا إلا بما علمنا) قولُ من قال : وما شهدنا بأن ابنك سرق إلا بما علمنا من رؤيتنا للصواع في وعائه لأنه عَقيِب قوله : (إن ابنك سرق) ؛ فهو بأن يكون خبرًا عن شهادتهم بذلك ، أولى من أن يكون خبرًا عما هو منفصل.
* * *
وذكر أن " الغيب " ، في لغة حمير ، هو الليل بعينه . (1)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (82) }
قال أبو جعفر : يقول : وإن كنتَ مُتَّهمًا لنا ، لا تصدقنا على ما نقول من أن ابنك سرق : ( فاسأل القرية التي كنا فيها ) ، وهي مصر ، يقول : سل من فيها من أهلها(والعير التي أقبلنا فيها) ، وهي القافلة التي كنا فيها ، (2) التي أقبلنا منها معها ، عن خبر ابنك وحقيقة ما أخبرناك عنه من سَرَقِهِ ، (3) فإنك تَخْبُر
__________
(1) هذا معنى عزيز في تفسير " الغيب " ، لم أجده في شيء من كتب اللغة التي بين أيدينا .
(2) انظر تفسير : " العير " فيما سلف ص : 173 ، 174 .
(3) سرق الشيء يسرقه سرقًا ( بفتحتين ) ، وسرقًا ( بفتح السين وكسر الراء ) ، وسرقة .

(16/212)


قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (83)

مصداق ذلك (وإنّا لصادقون) فيما أخبرناك من خبره .
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك :
19641 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : (واسأل القرية التي كنا فيها) ، وهي مصر.
19642 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج قال ، قال ابن عباس : (واسأل القرية التي كنا فيها) قال : يعنون مصر.
19643 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق قال : قد عرف رُوبيل في رَجْع قوله لإخوته ، أنهم أهلُ تُهمةٍ عند أبيهم ، لما كانوا صنعوا في يوسف . وقولهم له : (اسأل القرية التي كنا فيها والعير التي أقبلنا فيها) ، فقد علموا ما علمنا وشهدوا ما شهدنا ، إن كنت لا تصدقنا(وإنا لصادقون).
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (83) }
قال أبو جعفر : في الكلام متروك ، وهو : فرجع إخوة بنيامين إلى أبيهم ، وتخلف روبيل ، فأخبروه خبره ، فلما أخبروه أنه سرق قال(بل سوّلت لكم أنفسكم أمرا) ، يقول : بل زينت لكم أنفسكم أمرًا هممتم به وأردتموه (1) (فصبر جميل) ، يقول : فصبري على ما نالني من فقد ولدي ، صبرٌ جميل لا جزع فيه
__________
(1) انظر تفسير : " التسويل " فيما سلف 15 : 583 .

(16/213)


وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ (84)

ولا شكاية (1) عسى الله أن يأتيني بأولادي جميعًا فيردّهم عليّ(إنه هو العليم) ، بوحدتي ، وبفقدهم وحزني عليهم ، وصِدْقِ ما يقولون من كذبه (الحكيم) ، في تدبيره خلقه (2) .
* * *
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك :
19644 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : (بل سولت لكم أنفسكم أمرا فصبر جميل) ، يقول : زينت وقوله : (عسى الله أن يأتيني بهم جميعًا) يقول : بيوسف وأخيه وروبيل.
19645 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق قال : لما جاءوا بذلك إلى يعقوب ، يعني بقول روبيل لهم ، اتَّهمهم وظن أن ذلك كفعلتهم بيوسف ، ثم قال : (بل سولت لكم أنفسكم أمرًا فصبر جميل عسى الله أن يأتيني بهم جميعا) أي : بيوسف وأخيه وروبيل.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ (84) }
قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره ، بقوله : (وتولى عنهم) ، وأعرض عنهم يعقوب (3) (وقال يا أسفا على يوسف) ، يعني : يا حَزَنا عليه .
__________
(1) انظر تفسير : " صبر جميل " فيما سلف 15 : 584 .
(2) انظر تفسير : " العليم " و " الحكيم " فيما سلف عن فهارس اللغة ( علم ) ، ( حكم ) .
(3) انظر تفسير : " التولي " فيما سلف من فهارس اللغة ( ولى ) .

(16/214)


* * *
يقال : إن " الأسف " هو أشدُّ الحزن والتندم. يقال منه " : أسِفْتُ على كذا آسَفُ عليه أسَفًا " .
* * *
يقول الله جل ثناؤه : وابيضَّت عينا يعقوب من الحزن(فهو كظيم) ، يقول : فهو مكظوم على الحزن ، يعني أنه مملوء منه ، مُمْسِك عليه لا يُبينه.
* * *
صُرِف " المفعول " منه إلى " فعيل " ، ومنه قوله : (والكَاظِمِينَ الغَيْظَ) [سورة آل عمران : 134 ] ، وقد بينا معناه بشواهده فيما مضى . (1)
* * *
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ما قلنا في تأويل قوله : (وقال يا أسفا على يوسف) :
19646 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : (وتولى عنهم) ، أعرض عنهم ، وتتَامَّ حزنه ، وبلغ مجهودَه ، حين لحق بيوسف أخوه ، وهيَّج عليه حزنه على يوسف ، فقال : (يا أسَفَا على يوسف وابيضَّت عيناه من الحزن فهو كظيم).
19647 - حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : (وتولى عنهم وقال يا أسفَا على يوسف) ، يقول : يا حزني على يوسف.
19648 - حدثنا الحسن بن محمد قال ، حدثنا شبابة قال ، حدثنا ورقاء وحدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا ابن نمير ، عن ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : (يا أسفا على يوسف) ، يا حَزَنَا.
19648 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : (يا أسفا على يوسف) ، يا جزعاه.
__________
(1) انظر تفسير " الكظم " فيما سلف 7 : 214 .

(16/215)


19649 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : (يا أسفا على يوسف) ، يا جَزَعاه حزنًا.
19650 - حدثني المثنى قال ، أخبرنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الله ، عن ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : (يا أسفا على يوسف) ، يا جَزَعَا.
19651 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : (يا أسفا على يوسف) أي : حَزَناه.
19652 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : (يا أسفَا على يوسف) ، قال : يا حزناه على يوسف. (1)
19653 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا محمد بن حميد المعمري ، عن معمر ، عن قتادة ، نحوه .
19654 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج قال ، قال ابن عباس : (وقال يا أسفا على يوسف) ..... (2)
19655 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا وكيع وحدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن أبي حجيرة ، عن الضحاك : (يا أسفا على يوسف) ، قال : يا حَزَنَا على يوسف.
19656 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا عمرو ، عن أبي مرزوق ، عن جويبر ، عن الضحاك : (يا أسفَا) ، يا حَزَنَاه. (3)
__________
(1) في المطبوعة ، أسقط قوله : " على يوسف " .
(2) لم يذكر مقالة ابن عباس في تفسير الآية ، سقط من النساخ .
(3) الأثر : 19656 - " عمرو " ، لعله " عمرو بن حماد بن طلحة القناد " ، وهو الذي يروي عنه " سفيان بن وكيع " أو " عمرو بن عون " ، وقد أكثر الرواية عنه .
وأما " أبو مرزوق " هذا ، فلم أستطع أن أجد له ذكرًا ، و " أبو مرزوق التجيبي " ، و " أبو مرزوق " الذي روى عن أبي غالب عن أبي أمامة ، أقدم من هذا الذي يروي عن " جوبير " .
فهذا إسناد في النفس منه شيء ، وأخشى أن يكون سقط منه بعض رواته ، فاستبهم على بيانه .

(16/216)


19657 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج قال ، حدثنا هشيم قال ، أخبرنا جويبر ، عن الضحاك : (يا أسفا) يا حزنا( على يوسف).
19658 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا الثوري ، عن سفيان العصفري ، عن سعيد بن جبير قال : لم يُعْطَ أحدٌ غيرَ هذه الأمة الاسترجاع ، (1) ألا تسمعون إلى قول يعقوب : (يا أسفَا على يوسف) ؟
19659 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو نعيم قال ، حدثنا سفيان ، عن سعيد بن جبير ، نحوه .
* * *
*ذكر من قال ما قلنا في تأويل قوله : (وابيضت عيناه من الحزن فهو كظيم ).
19660 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : (فهو كظيم) ، قال : كظيم الحزن.
19661 - حدثنا الحسن بن محمد قال ، حدثنا شبابة قال ، حدثنا ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : (فهو كظيم) ، قال : كظيم الحزن.
19662 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا ابن نمير ، عن ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، نحوه .
19663 - حدثني المثنى قال ، أخبرنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الله ، عن ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : (فهو كظيم) ، قال : الحزن.
19664 - حدثني المثنى قال ، أخبرنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن
__________
(1) " الاسترجاع " ، هو قولنا نحن المسلمين ، إذا أصابتنا مصيبة : { إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ } .

(16/217)


ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : (فهو كظيم) ، مكمود. (1)
19665 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد : (فهو كظيم) ، قال : كظيمٌ على الحزن.
19666 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عمرو بن عون قال ، أخبرنا هشيم ، عن جويبر ، عن الضحاك ، في قوله : (فهو كظيم) ، قال : " الكظيم " ، الكميد.
19667 - حدثنا ابن وكيع قال : حدثنا المحاربي ، عن جويبر ، عن الضحاك في قوله : (فهو كظيم) ، قال : كميد.
19668 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثنا هشيم قال ، أخبرنا جويبر ، عن الضحاك ، في قوله : (كظيم) ، قال : كميد.
19669 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة : (وابيضت عيناه من الحرن فهو كظيم) ، يقول : تردَّدَ حُزْنُه في جوفه ، ولم يتكلّم بسوء.
19670 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، في قوله : (فهو كظيم) ، قال : كظيم على الحزن ، فلم يقل بأسًا.
19671 - حدثنا الحسن بن محمد قال ، حدثنا الحسين بن الحسن قال ، حدثنا ابن المبارك قال ، أخبرنا معمر ، عن قتادة ، في قوله : (وابيضت عيناه من الحزن فهو كظيم) قال : كظيم على الحزن فلم يقل إلا خيرًا.
19672 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا يحيى بن يمان ، عن يزيد بن زريع ، عن عطاء الخراساني : (فهو كظيم ، ) قال : مكروب.
19673 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا عمرو ، عن أسباط ، عن السدى : (فهو كظيم) قال : من الغيظ.
__________
(1) في المخطوطة : " مكنود " ، والصواب ما في المطبوعة .

(16/218)


قَالُوا تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ (85)

19674 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد ، في قوله : (وابيضت عيناه من الحزن فهو كظيم) ، قال : " الكظيم " الذي لا يتكَّلم ، بلغ به الحزن حتى كان لا يكلِّمهم.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { قَالُوا تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ (85) }
قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره : قال ولد يعقوب الذين انصرفوا إليه من مصر له ، حين قال : (يا أسفا على يوسف) : تالله لا تزال تذكر يوسف .
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك :
19675 - حدثني محمد بن عمرو ، قال حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : (تفتأ) تفتر من حبه.
19676 - حدثنا الحسن بن محمد قال ، حدثنا شبابة قال ، حدثنا ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : (تفتأ) ، تفتر من حبه. (1)
قال أبو جعفر :
هكذا قال الحسن في حديثه ، (2) وهو غلط ، إنما هو : تفتر من حبه ، تزال تذكر يوسف. (3)
19677 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا ابن نمير ، عن ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : ( قالوا تالله تفتأ تذكر يوسف ) قال : لا تفتر من حبه.
__________
(1) في المطبوعة : " ما تفتر " بزيادة " ما " هنا ، وأثبت ما في المخطوطة كالذي قبله .
(2) في المطبوعة : " كذا قال " ، وأثبت ما في المخطوطة .
(3) اعتراض الطبري على خبر الحسن بن محمد ، يدل على أن الذي في أصله شيء آخر قوله غير : " تفتر من حبه " ، كما وردت في الخبر ، ولم أستطع أن أتبين كيف هذا الحرف في رواية الحسن .

(16/219)


19678 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : ( تفتأ ) : تفتر من حبه.
19679 .... - قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الله ، عن ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله : ( تالله تفتأ تذكر يوسف ) ، قال : لا تزال تذكر يوسف.
19680 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا وكيع وحدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن إسرائيل ، عن سماك ، عن عكرمة ، عن ابن عباس : ( قالوا تالله تفتأ تذكر يوسف ، ) قال : لا تزال تذكر يوسف. قال ، لا تفتر من حبه.
19681 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : ( تفتأ تذكر يوسف ) قال : لا تزال تذكر يوسف.
19682 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : ( تفتأ تذكر يوسف ، ) قال : لا تزال تذكر يوسف. (1)
* * *
يقال منه : " ما فَتِئت أقول ذاك " ، " وما فَتَأت " لغة ، " أفْتِئُ وأفْتَأ فَتأً وفُتوُءًا " (2) . وحكي أيضًا : " ما أفتأت به " ، ومنه قول أوس بن حجر :
فَمَا فَتِئَتْ حَتَّى كأَنَّ غُبَارَهَا... سُرَادِقُ يَوْمٍ ذِي رِيَاحٍ تَرَفَّعُ (3)
وقوله الآخر
__________
(1) الأثر : 19682 - هذا الأثر مكرر في المطبوعة والمخطوطة بإسناده ولفظه ، وبين أنه سهو من الناسخ ، فحذفته .
(2) قوله : " أفتئ " ، هكذا جاءت في المخطوطة والمطبوعة ، و ليس في كتب اللغة ما يؤيد هذا الذي قاله أبو جعفر ، وهو غريب جدًا .
(3) ديوانه ، البيت : 17 ، القصيدة : 12 ، اللسان ( شرم ) ، وروايته فيهما : " فما فتئت خيل كأن غبارها " .

(16/220)


(1)
فَمَا فَتِئَتْ خَيْلٌ تَثُوبَ وَتَدَّعِي... وَيَلْحَقُ مِنْهَا لاحِقٌ وتَقَطَّعُ (2)
بمعنى : فما زالت.
وحذفت " لا " من قوله : ( تفتأ ) وهي مرادة في الكلام ، لأن اليمين إذا كان ما بعدها خبرًا لم يصحبها الجحد ، ولم تسقط " اللام " التي يجاب بها الأيْمان ، وذلك كقول القائل : " والله لآتينَّك " ، وإذا كان ما بعدها مجحودًا تُلُقِّيت بـ " ما " أو بـ " لا " . فلما عرف موقعها حُذِفت من الكلام ، لمعرفة السامع بمعنى الكلام ، (3) ومنه قول امرئ القيس :
فَقُلْتُ يَمِينَ اللهِ أبْرَحُ قَاعِدًا... وَلَوْ قَطَّعُوا رَأْسِي لَدَيْكِ وأوْصَالِي (4)
فحذفت " لا " من قوله : " أبرح قاعدًا " ، لما ذكرت من العلة ، كما قال الآخر :
فَلا وأَبِي دَهْمَاءَ زَالَتْ عَزِيزَةً... عَلَى قَوْمِهَا مَا فَتَّلَ الزَّنْدَ قَادِحُ (5)
يريد : لا زالت .
* * *
وقوله : ( حتى تكون حرضًا ، ) يقول : حتى تكون دَنِفَ الجسم مخبولَ العقل.
* * *
وأصل الحرض : الفساد في الجسم والعقل من الحزن أو العشق ، ومنه قول العَرْجيّ :
__________
(1) هو قول أوس بن حجر أيضًا .
(2) ديوانه القصيدة : 17 ، البيت : 10 ، الجمهرة 3 : 287 ، ومجاز القرآن لأبي عبيدة 1 : 316 ، والمعاني الكبير : 1002 .
(3) انظر معاني القرآن للفراء في تفسير الآية .
(4) مضى البيت وتخريجه فيما سلف 4 : 425 ، ويزاد عليه معاني القرآن للفراء .
(5) معاني القرآن للفراء ، في تفسير الآية ، ومشكل القرآن : 174 ، والخزانة 4 : 45 ، 46 ، وشرح شواهد المغني : 278 ، وكان في المطبوعة والمخطوطة : " ما قبل الزند " ، وهو خطأ صرف .

(16/221)


إنِّي امْرُؤٌ لَجّ بي حُبٌّ فأَحْرَضَني... حَتَّى بَلِيتُ وحَتّى شَفَّني السَّقَمُ (1)
يعني بقوله : " فأحرضني " ، أذابني فتركني مُحْرَضًا. يقال منه : " رجل حَرَضٌ ، وامرأة حَرَضٌ ، وقوم حَرَضٌ ، ورجلان حَرَضٌ " ، على صورة واحدة للمذكر والمؤنث ، وفي التثنية والجمع. ومن العرب من يقول للذكر : " حَارِض " ، وللأنثى " حارضة " . فإذا وُصف بهذا اللفظ ثُنِّي وجُمع ، وذكِّر وأنث. وَوُحِّد " حَرَض " بكل حال ولم يدخله التأنيث ، لأنه مصدر ، فإذا أخرج على " فاعل " على تقدير الأسماء ، لزمه ما يلزم الأسماء من التثنية والجمع والتذكير والتأنيث. وذكر بعضهم سماعًا : " رجُل مُحْرَضٌ " ، إذا كان وَجِعًا ، وأنشد في ذلك بيتًا :
طَلَبَتْهُ الخَيْلُ يَوْمًا كَامِلا... وَلَوَ الْفَتْهُ لأضْحَى مُحْرَضَا (2)
وذكر أنَّ منه قول امرئ القيس :
أَرَى المَرْءَ ذَا الأذْوَادِ يُصْبِحُ مُحْرَضًا... كَإِحْرَاضِ بَكْرٍ في الدِّيَارِ مَريضِ (3)
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك :
19683 - حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : ( حتى تكون حرضًا ) يعني : الجَهْدَ في المرض ، البالي.
19684 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا ابن نمير ، عن ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : ( حتى تكون حرضًا ) قال : دون الموت.
__________
(1) ديوانه : 5 ، مجاز القرآن لأبي عبيدة : 317 ، واللسان ( حرض ) .
(2) لم أجد البيت ، ولم أعرف قائله .
(3) ديوانه : 77 ، واللسان ( حرض ) .

(16/222)


19685 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا ابن فضيل ، عن ليث ، عن مجاهد : ( حتى تكون حرضًا ) قال : الحرض ، ما دون الموت.
19686 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
19687 - ...قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الله ، عن ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
19688 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله .
19689 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
19690 - حدثنا الحسن بن محمد قال ، حدثنا شبابة قال ، حدثنا ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
19691 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة : ( حتى تكون حرضًا ) حتى تبلى أو تهرم.
19692 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : ( حتى تكون حرضًا ) حتى تكون هَرِمًا.
19693 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا عمرو ، عن أبي بكر الهذلي ، عن الحسن : ( حتى تكون حرضًا ) قال : هرمًا.
19694 - ...قال ، حدثنا المحاربي ، عن جويبر ، عن الضحاك قال : " الحرض " ، الشيء البالي.
19695 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عمرو بن عون قال ، أخبرنا هشيم ، عن جويبر ، عن الضحاك ، في قوله : ( حتى تكون حرضًا ) قال : الحرض : الشيء البالي الفاني.
19696.... - قال ، حدثنا سويد بن نصر قال ، أخبرنا ابن المبارك

(16/223)


، عن أبي معاذ ، عن عبيد بن سليمان ، عن الضحاك : ( حتى تكون حَرَضًا ) " الحرضُ " البالي.
19697 - حدثت عن الحسين بن الفرج قال ، سمعت أبا معاذ قال ، حدثنا عبيد بن سليمان ، عن الضحاك يقول في قوله : ( حتى تكون حرضًا ) : هو البالي المُدْبر. (1)
19698 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا عمرو ، عن أسباط ، عن السدي : ( حتى تكون حرضًا ) باليًا.
19699 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق قال : لما ذكر يعقوبُ يوسفَ قالوا يعني ولده الذين حضروه في ذلك الوقت ، جهلا وظلمًا : ( تالله تفتأ تذكر يوسف حتى تكون حرضًا ، ) أي : تكون فاسدًا لا عقل لك( أو تكون من الهالكين. )
19700 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد ، في قوله : ( حتى تكون حرضًا أو تكون من الهالكين ) ، قال : " الحرض " : الذي قد رُدَّ إلى أرذل العمر حتى لا يعقل ، أو يهلك ، فيكون هالكًا قبل ذلك.
* * *
وقوله : ( أو تكون من الهالكين ) ، يقول : أو تكون ممن هلك بالموت .
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك :
19701 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا ابن فضيل ، عن ليث ، عن مجاهد : ( أو تكون من الهالكين ، ) قال : الموت.
19702 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : ( أو تكون من الهالكين ، ) من الميتين.
19703 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا المحاربي ، عن جويبر ، عن
__________
(1) في المطبوعة : " البالي المندثر " ، وأثبت ما في المخطوطة ، وهو أجود .

(16/224)


قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (86)

الضحاك ، ( أو تكون من الهالكين ) قال : الميتين.
19704 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عمرو بن عون قال ، أخبرنا هشيم ، عن جويبر ، عن الضحاك ، مثله .
19705 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا عمرو بن عون ، عن أبي بكر الهذلي ، عن الحسن : ( أو تكون من الهالكين ) ، قال : الميتين.
19706 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة : ( أو تكون من الهالكين ) ، قال : أو تموت.
19707 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : ( أو تكون من الهالكين ، ) قال : من الميتين.
19708 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا عمرو ، عن أسباط ، عن السدي : ( أو تكون من الهالكين ، ) قال : الميتين. (1)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ (86) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : قال يعقوب للقائلين له من ولده : ( تالله تفتأ تذكر يوسفَ حتى تكون حرضًا أو تكون من الهالكين ) : لست إليكم أشكو بثي وحزني ، وإنما أشكو ذلك إلى الله .
* * *
ويعني بقوله : ( إنما أشكو بثي ) ، ما أشكو هَمِّي وحزني إلا إلى الله.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
__________
(1) في المطبوعة : " من الميتين " ، بزيادة " من " .

(16/225)


* ذكر من قال ذلك :
19709 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج : ( إنما أشكو بثي ) ، قال ابن عباس : " بثي " ، همي.
19710 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق قال : قال يعقوب عَنْ عِلْمٍ بالله : ( إنما أشكوا بثي وحزني إلى الله وأعلم من الله ما لا تعلمون ) ، لما رأى من فظاظتهم وغلظتهم وسوء لَفْظهم له : (1) لم أشك ذلك إليكم( وأعلم من الله ما لا تعلمون ).
19711 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبو أسامة ، عن عوف ، عن الحسن : ( إنما أشكو بثي وحزني إلى الله ) قال : حاجتي وحزني إلى الله.
19712 - حدثنا الحسن بن محمد قال ، حدثنا هوذة بن خليفة قال ، حدثنا عوف ، عن الحسن ، مثله .
* * *
وقيل : إن " البثّ " ، أشد الحزن ، (2) وهو عندي من : " بَثّ الحديث " ، وإنما يراد منه : إنما أشكو خبري الذي أنا فيه من الهمِّ ، وأبثُّ حديثي وحزني إلى الله .
* * *
19713 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا يحيى بن سعيد ، عن عوف ، عن الحسن ، ( إنما أشكو بثي ) ، قال : حزني.
19714 - حدثنا ابن بشار قال ، حدثني يحيى بن سعيد ، عن عوف ، عن الحسن : ( إنما أشكو بثي وحزني ) ، قال : حاجتي.
__________
(1) في المخطوطة والمطبوعة : " لفظهم به " ، وهو لا يستقيم ، صوابه ما أثبت ، ويعني جفاءهم فيما يخاطبونه به من الكلام .
(2) هو لفظ أبي عبيدة في مجاز القرآن 1 : 317 .

(16/226)


* * *
وأما قوله( وأعلم من الله ما لا تعلمون ) فإن ابن عباس كان يقول في ذلك فيما ذكر عنه ما : -
19715 - حدثني به محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، في قوله : ( وأعلم من الله ما لا تعلمون ، ) يقول : أعلم أن رؤيا يوسف صادقة ، وأني سأسجد له.
19716 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا عمرو ، عن أسباط ، عن السدي قال : ( إنما أشكو بثي وحزني إلى الله وأعلم من الله ما لا تعلمون ) ، قال : لما أخبروه بدعاء الملك ، أحسَّت نفسُ يعقوب وقال : ما يكون في الأرض صِدِّيق إلا نبيّ ! فطمع قال : لعله يوسف. (1)
19717 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة : ( قال إنما أشكو بثي وحزني إلى الله ) الآية ، ذكر لنا أن نبي الله يعقوب لم ينزل به بلاءٌ قط إلا أتى حُسْنَ ظنّه بالله من ورائه.
19718 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا حكام ، عن عيسى بن يزيد ، عن الحسن قال ، قيل : ما بلغ وجدُ يعقوب على ابنه ؟ قال : وجد سبعين ثكلى! . قال : فما كان له من الأجر ؟ قال : أجر مئة شهيدٍ . قال : وما ساء ظنه بالله ساعةً من ليل ولا نهارٍ.
19719 - حدثنا به ابن حميد مرة أخرى قال ، حدثنا حكام ، عن أبي معاذ ، عن يونس ، عن الحسن ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، مثله .
19720 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن المبارك بن مجاهد ، عن رجل من الأزد ، عن طلحة بن مصرِّف الإيامي قال ، ثلاثة لا تذْكُرْهنّ واجتنب ذكرهُنّ : لا تشك مَرَضَك ، ولا تَشكُّ مصيبتك ، ولا تزكِّ نفسك . قال :
__________
(1) هذا خبر مضطرب اللفظ ، أخشى أن يكون فيه سقط أو تحريف .

(16/227)


وأنبئت أنّ يعقوب بن إسحاق دخل عليه جار له ، فقال له : يا يعقوب ما لي أراك قد انهشمت وفنيتَ ، ولم تبلغ من السن ما بلغ أبوك ؟ قال : هَشَمني وأفناني ما ابتلاني الله به من همّ يوسف وذكره! فأوحى الله إليه : يا يعقوب أتشكوني إلى خلقي ؟ فقال : يا رب خطيئة أخطأتُها ، فاغفرها لي ! قال : فإني قد غفرت لك . وكان بعد ذلك إذا سئل قال ، ( إنما أشكو بثي وحزني إلى الله وأعلم من الله ما لا تعلمون ).
19721 - حدثنا عمرو بن علي قال ، حدثني مؤمل بن إسماعيل قال ، حدثنا سفيان ، عن حبيب بن أبي ثابت قال ، بلغني أن يعقوب كبر حتى سقط حاجبَاه على وجنتيه ، فكان يرفعهما بخِرْقَة ، فقال له رجل : ما بلغ بك ما أرى ؟ قال : طول الزمان وكثرة الأحزان . فأوحى الله إليه : يا يعقوب تشكوني ؟ قال : خطيئة فاغفرها.
19722 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا يحيى بن واضح قال ، حدثنا ثور بن يزيد قال : دخل يعقوب على فرعون وقد سقط حاجبَاه على عينيه ، فقال : ما بلغ بك هذا يا إبراهيم ؟ فقالوا : إنّه يعقوب ، فقال : ما بلغ بك هذا يا يعقوب ؟ قال : طول الزمان وكثرة الأحزان . فقال الله : يا يعقوب أتشكوني ؟ فقال : يا رب خطيئة أخطأتها ، فاغفرها لي.
19723 - حدثنا عمرو بن علي قال ، حدثنا عبد الوهاب قال ، حدثنا هشام ، عن ليث بن أبي سليم قال ، دخل جبريل على يوسف السجنَ ، فعرفه ، فقال : أيها المَلَكُ الحسن وجهه ، الطيبة ريحُه ، الكريمُ على ربه ، ألا تخبرني عن يعقوب أحيٌّ هو ؟ قال : نعم . قال : أيها الملك الحسنُ وجههُ ، الطيبة ريحه ، الكريم على ربه ، فما بلغ من حزنه ؟ قال : حزن سبعين مُثْكِلة . قال : أيها الملك الحسن وجهه ، الطيبة ريحه ، الكريم على ربه ، فهل في ذلك من أجر ؟ قال : أجر مئة شهيد.

(16/228)


19724 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن ليث بن أبي سليم ، عن مجاهد قال : حُدّثت أن جبريل أتى يوسف صلى الله عليه وسلم وهو بمصر في صورة رجل ، فلما رآه يوسف عرَفه ، فقام إليه : فقال : أيها الملك الطيبُ ريحه ، الطاهرُ ثيابه ، الكريم على ربه ، هل لك بيعقوب من علم ؟ قال : نعم! قال : أيها الملك الطاهر ثيابه ، الكريم على ربه ، فكيف هو ؟ قال : ذهب بصره . قال : أيها الملك الطاهر ثيابه ، الكريم على ربه ، وما الذي أذهب بصره ؟ قال : الحزنُ عليك . قال : أيها الملك الطيب ريحه ، الطاهر ثيابه ، الكريم على ربه ، فما أعطي على ذلك ؟ قال : أجر سبعين شهيدًا.
19725 - حدثني يونس بن عبد الأعلى قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال أبو شريح : سمعت من يحدث أن يوسف سأل جبريل : ما بلغ من حزن يعقوب ؟ قال : حزن سبعين ثكلى . قال : فما بلغ أجره ؟ قال : أجر سبعين شهيدًا.
19726 - ... قال : أخبرنا ابن وهب قال ، أخبرني نافع بن يزيد ، عن عبيد الله بن أبي جعفر قال ، دخل جبريل على يوسف في البئر أو في السجن ، فقال له يوسف : يا جبريل ، ما بلغ حزن أبي ؟ قال : حزن سبعين ثكلى . قال : فما بلغ أجره من الله ؟ قال : أجر مئة شهيدٍ.
19727 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا إسماعيل بن عبد الكريم قال ، حدثني عبد الصمد بن معقل قال ، سمعت وهب بن منبه يقول : أتى جبريل يوسف بالبشرى وهو في السجن. فقال : هل تعرفني أيها الصِّدِّيق ؟ قال : أرى صورة طاهرة ورُوحًا طيبة لا تشبه أرواح الخاطئين . قال : فإني رسول رب العالمين ، وأنا الروح الأمين . قال : فما الذي أدخلك على مُدْخَل المذنبين ، وأنت أطيب الطيبين ، ورأس المقربين ، وأمين رب العالمين ؟ قال : ألم تعلم يا يوسف أن الله يطّهر البيوت بطُهْر النبيين ، وأن الأرض التي يدخلونها هي أطهر الأرَضِين ،

(16/229)


وأن الله قد طهَّر بك السجن وما حوله يا أطهر الطاهرين وابن المطهَّرين ؟ (1) إنما يتطهر بفضل طهرك وطهر آبائك الصالحين المخلَصِين! قال : كيف لي باسم الصّدِّيقين ، وتعدُّني من المخلصين ، وقد أدخلت مُدْخَل المذنبين ، وسميت في الضالين المفسدين ؟ (2) قال : لم يُفْتَتَنْ قلبُك ، ولم تطع سيدتك في معصية ربك ، ولذلك سمَّاك الله في الصديقين ، وعدّك من المخلَصين ، وألحقك بآبائك الصالحين . قال : لك علم بيعقوب أيها الروح الأمين ؟ قال : نعم ، وهبه الله الصبر الجميل ، وابتلاه بالحزن عليك ، فهو كظيم . قال : فما قَدْرُ حزنه ؟ قال : حزن سبعين ثكلى . قال : فماذا له من الأجر يا جبريل ؟ قال : قدر مئة شهيدٍ.
19728 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا جرير ، عن ليث ، عن ثابت البناني قال ، دخل جبريل على يوسف في السجن ، فعرفه يوسف قال ، فأتاه فسلم عليه ، فقال : أيها الملك الطيبُ ريحه ، الطاهر ثيابه ، الكريم على ربه ، هل لك من علم بيعقوب ؟ قال : نعم . قال : أيها الملك الطيبُ ريحه ، الطاهر ثيابه ، الكريم على ربه ، هل تدري ما فعل ؟ قال : ابيضَّت عيناه . قال : أيها الملك الطيب ريحه ، الطاهر ثيابه ، الكريم على ربه ، ممّ ذاك ؟ قال : من الحزن عليك. (3) قال ، أيها الملك الطيب ريحه ، الطاهر ثيابه ، الكريم على ربه ، وما بلغ من حزنه ؟ قال : حزن سبعين مُثْكِلة . قال : أيها الملك الطيب ريحه ، الطاهر ثيابه ، الكريم على ربه ، هل له على ذلك من أجر ؟ قال : نعم أجر مئة شهيدٍ.
19729 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا عمرو ، عن أسباط ، عن السدي قال ، أتى جبرئيل يوسف وهو في السجن فسلّم عليه ، وجاءه في صورة رجلٍ حسن
__________
(1) في المطبوعة و المخطوطة : " يا طهر الطاهرين " ، والصواب ما أثبت .
(2) في المطبوعة والمخطوطة : " وسميت بالضالين المفسدين " ، وهو لا يستقيم ، صوابه ما أثبت . وانظر بعد قوله : " وسماك الله في الصديقين " .
(3) في المخطوطة : " قال : قد ابيضت عيناه من الحزن عليك " ، وحذف ما بين الكلامين من سؤال وجواب .

(16/230)


الوجه طيّب الريح نقيّ الثياب ، فقال له يوسف : أيها المَلك الحسن وجهه ، الكريم على ربه ، الطيب ريحه ، حدثني كيف يعقوب ؟ قال : حزن عليك حزنًا شديدًا . قال : وما بلغ من حزنه ؟ قال : حزن سبعين مُثْكِلة . قال : فما بلغ من أجره ؟ قال : أجر سبعين أو مئة شهيدٍ . قال يوسف : فإلى من أوَى بعدي ؟ قال : إلى أخيك بنيامين . قال : فتراني ألقاه أبدًا ؟ قال : نعم . فبكى يوسف لما لقي أبوه بعده ، ثم قال : ما أبالي ما لقيت إنِ اللهُ أرانيه.
19730 - ... قال : حدثنا عمرو بن محمد ، عن إبراهيم بن يزيد ، عن عمرو بن دينار ، عن عكرمة قال ، أتى جبريل يوسف وهو في السجن ، فسلم عليه ، فقال له يوسف ، أيها الملك الكريم على ربه ، الطيب ريحه ، الطاهر ثيابه ، هل لك من علم بيعقوب ؟ قال : نعم ما أشد حزنه ! قال : أيها الملك الكريم على ربه ، الطيب ريحه ، الطاهر ثيابه ، ماذا لَه من الأجر ؟ قال : أجر سبعين شهيدًا . قال : أفتراني لاقيه ؟ قال : نعم . قال : فطابت نفس يوسف.
19731 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا جرير ، عن ليث ، عن سعيد بن جبير قال : لما دخل يعقوب على الملك وحاجباه قد سقطا على عينيه ، قال الملك : ما هذا ؟ قال : السنون والأحزان ، أو : الهموم والأحزان ، فقال ربه : يا يعقوب لم تشكوني إلى خلقي ، ألم أفعل بك وأفعل ؟
19732 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا الثوري ، عن عبد الرحمن بن زياد ، عن مسلم بن يسار يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال : من بثَّ لم يصبر (1) ثم قرأ : ( إنما أشكو بثي وحزني إلى الله ) .
19733 - حدثني عمرو بن عبد الحميد الآملي قال ، حدثنا أبو أسامة ،
__________
(1) في المخطوطة : " من بب فلم نصير " ، غير منقوطة وعلى الجملة حرف ( ط ) دلالة على الخطأ ، والذي في المطبوعة ، هو نص ما في الدر المنثور 4 : 31 .

(16/231)


عن هشام ، عن الحسن قال ، كان منذ خرج يوسف من عند يعقوب إلى يوم رجع ثمانون سنة ، لم يفارق الحزن قلبه ، يبكي حتى ذهبَ بصره . قال الحسن : والله ما على الأرض يومئذ خليقةٌ أكرم على الله من يعقوب صلى الله عليه وسلم.
* * *

(16/232)


يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْئَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ (87)

القول في تأويل قوله تعالى : { يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ (87) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : حين طمع يعقوب في يوسف ، قال لبنيه : (يا بني اذهبوا) إلى الموضع الذي جئتم منه وخلفتم أخويكم به( فتحسَّسوا من يوسف ) ، يقول : التمسوا يوسف وتعرَّفوا من خبره .
* * *
وأصل " التحسُّس " ، " التفعل " من " الحِسِّ " .
* * *
( وأخيه ) يعني بنيامين( ولا تيأسوا من روح الله ) ، يقول : ولا تقنطوا من أن يروِّح الله عنا ما نحن فيه من الحزن على يوسف وأخيه بفرَجٍ من عنده ، فيرينيهما( إنه لا ييأس من روح الله ) يقول : لا يقنط من فرجه ورحمته ويقطع رجاءه منه (1) ( إلا القوم الكافرون ) ، يعني : القوم الذين يجحدون قُدرته على ما شاءَ تكوينه .
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
*ذكر من قال ذلك :
__________
(1) انظر تفسير " اليأس " فيما سلف 9 : 516 .

(16/232)


19734 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا عمرو ، عن أسباط ، عن السدي : ( يا بني اذهبوا فتحسسوا من يوسف وأخيه ) ، بمصر( ولا تيأسوا من روح الله ) ، قال : من فرج الله أن يردَّ يوسف.
19735 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة ، في قوله : ( ولا تيأسوا من روح الله ) ، أي من رحمة الله.
19736 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة نحوه .
19737 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق قال ، ثم إن يعقوب قال لبنيه ، وهو على حسن ظنه بربه مع الذي هو فيه من الحزن : ( يا بني اذهبوا ) إلى البلاد التي منها جئتم( فتحسسوا من يوسف وأخيه ولا تيأسوا من روح الله ) : أي من فرجه( إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون )
19738 - حدثت عن الحسين بن الفرج قال ، سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد بن سليمان قال ، سمعت الضحاك يقول في قوله : ( ولا تيأسوا من روح الله ) ، يقول : من رحمة الله.
19739 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد في قوله : ( ولا تيأسوا من روح الله ) ، قال : من فرج الله ، يفرِّج عنكم الغمّ الذي أنتم فيه
* * *

(16/233)


فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ (88)

القول في تأويل قوله تعالى : { فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ (88) }
قال أبو جعفر : وفي الكلام متروك قد استغني بذكر ما ظهر عما حذف ، وذلك : فخرجوا راجعين إلى مصر حتى صاروا إليها ، فدَخلوا على يوسف( فلما دخلوا عليه قالوا يا أيها العزيز مسنا وأهلنا الضر ) ، أي الشدة من الجدب والقحط (1) ( وجئنا ببضاعة مزجاة ) . كما : -
19740 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق قال ، وخرجوا إلى مصر راجعين إليها(ببضاعة مزجاة) : أي قليلة ، لا تبلغ ما كانوا يتبايعون به ، إلا أن يتجاوز لهم فيها ، وقد رأوا ما نزل بأبيهم ، وتتابعَ البلاء عليه في ولده وبصره ، حتى قدموا على يوسف. فلما دخلوا عليه قالوا : (يا أيها العزيز ) ، رَجَاةَ أن يرحمهم في شأن أخيهم (2) ( مسنا وأهلنا الضر ) .
* * *
وعنى بقوله : ( وجئنا ببضاعة مُزْجاة ) بدراهم أو ثمن لا يجوز في ثمن الطعام إلا لمن يتجاوز فيها .
* * *
وأصل " الإزجاء " : السوق بالدفع ، كما قال النابغة الذبياني :
وَهَبّتِ الرِّيحُ مِنْ تِلْقَاءِ ذِي أُرُلٍ... تُزْجِي مَعَ اللَّيْلِ مِنْ صَرَّادِهَا صِرَمَا (3)
__________
(1) انظر تفسير " الضر " فيما سلف من فهارس اللغة ( ضرر ) .
(2) في المطبوعة : " رجاء " ، وأثبت ما في المخطوطة ، وهو بمثل معناه .
(3) ديوانه : 52 ، و " ذو أرل " ، جبل بديار غطفان . و " الصراد " ، سحاب بارد رقيق تسفره الريح وتسوقه . و " الصرم " جمع صرمة ، وهي قطع السحاب . وقبل البيت : هَلاَّ سَأَلْتَ بَني ذُبْيَانَ ما حَسَبي ... إذَا الدُّخَانُ تَغَشَّى الأشْمَطَ البَرَمَا
من أبيات يذكر فيها كرمه في زمن الجدب والشتاء .

(16/234)


يعني تسوق وتدفع ; ومنه قول أعشى بني ثعلبة :
الوَاهِبُ المِئةَ الهِجَانَ وعَبْدَهَا... عُوذًا تُزَجِّي خَلْفَها أطْفَالَها (1)
وقول حاتم :
لِبَيْكِ عَلَى مِلْحَانَ ضَيْفٌ مُدَفَّعٌ... وَأَرْمَلَةٌ تُزْجِى مَعَ اللَّيلِ أَرْمَلا (2)
يعني أنها تسوقه بين يديها على ضعف منه عن المشي وعجز ; ولذلك قيل : ( ببضاعة مزجاة ) ، لأنها غير نافقة ، وإنما تُجَوَّز تجويزًا على وَضعٍ من آخذيها. (3)
* * *
وقد اختلف أهل التأويل في البيان عن تأويل ذلك ، وإن كانت معاني بيانهم متقاربة .
*ذكر أقوال أهل التأويل في ذلك :
19741 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا وكيع وحدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن إسرائيل ، عن سماك ، عن عكرمة ، عن ابن عباس : ( ببضاعة مزجاة ) قال : رديَّةٍ زُيُوفٍ لا تنفق حتى يُوضَع منها.
19742 - حدثنا الحسن بن محمد قال ، حدثنا عمرو بن محمد العنقزي قال ، حدثنا إسرائيل ، عن سماك ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، في قوله : ( وجئنا ببضاعة مزجاة ) ، قال : الردِيّة التي لا تنفق حتى يُوضَع منها.
__________
(1) ديوانه : 25 ، من قصيدته في قيس بن معد يكرب ، مضت منها أبيات . و " الهجان " ، الإبل الأبيض ، وهي كرام الإبل . و " العوذ " جمع عائذ ، وهي الناقة الحديثة النتاج .
(2) ليس في ديوانه ، وأنشده ابن بري غير منسوب ( اللسان : رمل ) ، وظاهر أن الشعر لحاتم ، لأن " ملحان " ، هو ابن عمه " ملحان بن حارثة بن سعد بن الحشرج الطائي " ، وكنت وقفت على أبيات من هذا الشعر ، ثم أضعتها اليوم .
(3) في المخطوطة والمطبوعة : " على نفع من آخذيها " ، والصواب ما أثبتناه ، إن شاء الله ، تدل عليه الآثار الآتية بعد . ولو قرئت " على دفع " ، فلا بأس بذلك .

(16/235)


19743 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا ابن عيينة ، عن عثمان بن أبي سليمان ، عن ابن أبي مليكة ، عن ابن عباس : ( وجئنا ببضاعة مزجاة ) ، قال : خَلَقٍ (1) الغِرَارة والحبلُ والشيء.
19744 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا ابن عيينة ، عن عثمان بن أبي سليمان ، عن ابن أبي مليكة قال ، سمعت ابن عباس ، وسئل عن قوله : ( وجئنا ببضاعة مزجاة ) ، قال : رِثَّةُ المتاع ، (2) الحبلُ والغرارةُ والشيء.
19745 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا ابن عيينة ، عن عثمان بن أبي سليمان ، عن ابن أبي مليكة ، عن ابن عباس ، مثله .
19746 - حدثنا محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : ( وجئنا ببضاعة مزجاة ) ، قال : " البضاعة " ، الدراهم ، (3) و " المزجاة " : غير طائل.
19747 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عمرو بن عون قال ، أخبرنا هشيم ، عن ابن أبي زياد ، عمن حدثه ، عن ابن عباس قال ، كاسدة غير طائل.
19748 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا أبو بكر بن عياش قال ، حدثنا أبو حصين ، عن سعيد بن جبير ، وعكرمة ، : ( وجئنا ببضاعة مزجاة ) ، قال سعيد : ناقصة وقال عكرمة : دراهم فُسُول. (4)
__________
(1) الخلق : البالي .
(2) الرث ( بفتح الراء ) ، والرثة ( بكسرها ) ، والرثيث : الخلق الخسيس البالي من كل شيء .
(3) انظر تفسير " البضاعة " فيما سلف : ص : 4 ، 156 .
(4) " فسول " جمع " فسل " ( بفتح فسكون ) : وهو الردئ الرذل من كل شيء . يقال : " دراهم فسول " ، أي : زيوف .

(16/236)


19749 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبو بكر بن عياش ، عن أبي حصين ، عن سعيد بن جبير وعكرمة ، مثله .
19750 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا وكيع وحدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن إسرائيل ، عن أبي حصين ، عن سعيد بن جبير وعكرمة : ( وجئنا ببضاعة مزجاة ) ، قال أحدهما : ناقصة . وقال الآخر : رديَّةٌ.
19751 - ... وبه قال ، حدثنا أبي عن سفيان ، عن يزيد بن أبي زياد ، عن عبد الله بن الحارث قال ، كان سَمْنًا وصُوفًا.
19752 - حدثنا الحسن قال ، حدثنا علي بن عاصم ، عن يزيد بن أبي زياد قال : سأل رجل عبد الله بن الحارث وأنا عنده عن قوله : ( وجئنا ببضاعة مزجاة ) ، قال : قليلةٌ ، متاعُ الأعراب : الصوفُ والسَّمن.
19753 - حدثنا إسحاق بن زياد القطان أبو يعقوب البصري ، قال ، حدثنا محمد بن إسحاق البلخي ، قال : حدثنا مروان بن معاوية الفزاري ، عن مروان بن عمرو العذري ، عن أبي إسماعيل ، عن أبي صالح ، في قوله : ( وجئنا ببضاعة مزجاة ) ، قالالصنوبر والحبة الخضراء. (1)
19754 - حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن مغيرة ، عن يزيد بن الوليد ، عن إبراهيم ، في قوله : ( وجئنا ببضاعة مزجاة ) ، قال : قليلة ، ألا تسمع إلى قوله : " فَأَوْقِرْ رِكَابَنَا " ، وهم يقرءون كذلك. (2)
__________
(1) الأثر : 19753 - " إسحاق بن زياد القطان " ، " أبو يعقوب البصري " ، شيخ الطبري لم أجد له بعد ترجمة ، وقد مضى برقم : 14146 ، وهو هناك " العطار النصري " ، ثم في رقم : 17430 ، وهو هناك : " إسحاق بن زيادة العطار ؛ " بزيادة التاء . ولا طاقة لنا بالفصل في ذلك ، حتى نجد ما يدل عليه .
و " محمد بن إسحاق البلخي : مضى برقم : 14146 ، روى عنه هناك " إسحاق بن زياد " أيضًا .
و " مروان بن معاوية الفزاري " ، مضى مرارًا آخرها : 15446 .
أما " مروان بن عمرو العذري " ، فلم أجد له ذكرًا في كتب التراجم ، وأخشى أن كون فيه تحريف وأما " أبو إسماعيل " . فلم أتبين من يكون ، لما في هذا الإسناد من الظلمة .
(2) يعني أصحاب عبد الله بن مسعود ، كما سترى في الأثر التالي .

(16/237)


19755 - حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا هشيم ، قال ، أخبرنا مغيرة ، عن إبراهيم ، أنه قال : ما أراها إلا القليلة ، لأنها في مصحف عبد الله : " وَأَوْقِرْ رِكَابَنا " ، يعني قوله : " مزجاة " .
19756 - حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا جرير ، عن القعقاع بن يزيد ، عن إبراهيم قال ، قليلة ، ألم تسمع إلى قوله : " وَأَوْقِرْ رِكَابنَا " ؟
19757 - حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا عمرو بن محمد ، عن أبي بكر الهذلي ، عن سعيد بن جبير والحسن : بضاعة مزجاة قال سعيد : الرديّة وقال الحسن : القليلة.
19758 - حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا ابن إدريس ، عن يزيد ، عن عبد الله بن الحارث قال ، متاع الأعراب سمنٌ وصوف.
19759 - حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا ابن إدريس ، عن أبيه ، عن عطية قال ، دراهم ليست بطائل. (1)
19760 - حدثني محمد بن عمرو ، قال ، حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : ( مزجاة ) ، قال : قليلة.
19761 - حدثنا الحسن بن محمد ، قال : حدثنا شبابة ، قال : حدثنا ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : ( مزجاة ) قال : قليلة.
19762 - حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
19763 - ... قال ، حدثنا قبيصة بن عقبة ، قال ، حدثنا سفيان ، عن يزيد بن أبي زياد ، عن عبد الله بن الحارث : ( وجئنا ببضاعة مزجاة ) قال : شيء من صوف ، وشيء من سمن.
__________
(1) ]في المخطوطة : " ليس بطائل " ، ولا بأس به .

(16/238)


19764 - ... قال ، حدثنا عمرو بن عون ، قال ، أخبرنا هشيم ، عن منصور ، عن الحسن قال : قليلة.
19765 - حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا محمد بن بكر ، عن ابن جريج ، عمن حدثه ، عن مجاهد : ( مزجاة ) قال : قليلة.
19766 - حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله .
19767 - ... قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا أبو بكر بن عياش ، عن أبي حصين ، عن عكرمة قال : ناقصة وقال سعيد بن جبير : فُسُولٌ.
19768 - ... قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج ، عن أبي بكر ، عن سعيد بن جبير : ( وجئنا ببضاعة مزجاة ) ، قال : رديّة.
19769 - حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا المحاربي ، عن جويبر ، عن الضحاك قال : كاسدة لا تنفق .
19770 - حدثني المثنى ، قال : حدثنا عمرو بن عون ، قالأخبرنا هشيم ، عن جويبر ، عن الضحاك قال : كاسدة.
19771 - حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا عبدة ، عن جويبر ، عن الضحاك قال : كاسدة غير طائل.
19772 - حدثت عن الحسين بن الفرج ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : حدثنا عبيد قال ، سمعت الضحاك يقول في قوله : ( ببضاعة مزجاة ) ، يقول : كاسدة غير نافقة.
19773 - حدثنا أحمد بن إسحاق ، قال ، حدثنا أبو أحمد الزبيري ، قال : حدثنا إسرائيل ، عن أبي حصين ، عن سعيد بن جبير : ( وجئنا ببضاعة مزجاة ) ، قالالناقصة وقال عكرمة : فيها تجوُّزٌ.

(16/239)


19774 - ... قال ، حدثنا إسرائيل ، عن سماك ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : الدراهم الرديّة التي لا تجوز إلا بنقصان.
19775 - ... قال ، حدثنا إسرائيل ، عن أبي يحيى ، عن مجاهد قال : الدراهم الرُّذَال ، (1) التي لا تجوز إلا بنقصان. (2)
19776 - حدثنا ابن وكيع ، قال ، حدثنا عمرو ، عن أسباط ، عن السدي قال : دراهم فيها جَوازٌ.
19777 - حدثنا بشر ، قال ، حدثنا يزيد ، قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : ( وجئنا ببضاعة مزجاة ) : ، أي : يسيرة.
19778 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال ، حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، مثله .
19779 - حدثنا يونس ، قال ، أخبرنا ابن وهب ، قال ، قال ابن زيد ، في قوله : ( وجئنا ببضاعة مزجاة ) قال : " المزجاة " ، القليلة.
19780 - حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : ( وجئنا ببضاعة مزجاة ) : ، أي قليلة لا تبلغ ما كنا نشتري به منك ، إلا أن تتجاوز لنا فيها.
* * *
وقوله : ( فأوف لنا الكيل ) ..... بها (3) وأعطنا بها ما كنت تعطينا
__________
(1) ]يقال : " هذا رذل " و " هذا رذال " ( بضم الراء ) أي : دون خسيس رديء . وفي المخطوطة (الرذل) وهو مثله .
(2) الأثر (19775) في المطبوعة (إسرائيل عن ابن أبي نجيح) غير ما في المخطوطة ، فإنه كان فيها : " عن أبي يحيى " كأنه أراد أن يكتب " نجيح " ، ثم صيرها : " يحيى " ، غير منقوطة . و " أبو يحيى " ، هو : " أبو يحيى القتات الكوفي " ، وهو الذي يروي عن مجاهد ، وقد سلف برقم : 12139 ، 15697 .
(3) لا شك عندي أنه قد سقط من كلام أبي جعفر شيء في تفسير " أوف لنا " ، لم يبق منه إلا قوله : " بها " ، فلذلك وضعت هذه النقط . والمراد من ذلك ظاهر ، كأنه كتب : " فأتم لنا حقوقنا في الكيل بها ، وأعطنا ... " ، وانظر تفسير " الإيفاء " فيما سلف 12 : 224 ، 554 .

(16/240)


قبل بالثمن الجيّد والدراهم الجائزة الوافية التي لا تردّ ، كما : -
19781 - حدثنا ابن حميد ، قال ، حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : ( فأوف لنا الكيل ) : ، أي أعطنا ما كنت تعطينا قَبْلُ ، فإن بضاعتنا مزجاة.
19782 - حدثنا ابن وكيع ، قال ، حدثنا عمرو ، عن أسباط ، عن السدي : ( فأوف لنا الكيل ) قال : كما كنت تعطينا بالدراهم الجياد.
* * *
وقوله : ( وتصدق علينا ) يقول تعالى ذكره : قالوا : وتفضل علينا بما بَيْنَ سعر الجياد والرديّة ، فلا تنقصنا من سعر طَعامك لرديِّ بضاعتنا( إن الله يجزي المتصدقين ) ، يقول : إن الله يثيب المتفضلين على أهل الحاجة بأموالهم . (1)
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
*ذكر من قال ذلك :
19783 - حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا عمرو ، عن أسباط ، عن السدي : ( وتصدق علينا ) ، قال : تفضل بما بين الجياد والرديّة.
19784 - حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج ، عن أبي بكر ، عن سعيد بن جبير : ( فأوف لنا الكيل وتصدق علينا ) ، لا تنقصنا من السعر من أجل رديّ دراهمنا.
* * *
واختلفوا في الصدقة ، هل كانت حلالا للأنبياء قبل نبيِّنا محمد صلى الله عليه وسلم ، أو كانت حرامًا ؟
فقال بعضهم : لم تكن حلالا لأحدٍ من الأنبياء عليهم السلام .
*ذكر من قال ذلك :
19785 - حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج ، عن أبي بكر ، عن سعيد بن جبير قال ، ما سأل نبيٌّ قطٌّ الصَّدقَة ، ولكنهم قالوا :
__________
(1) انظر تفسير " التصدق " فيما سلف 9 : 31 ، 37 ، 38 / 14 : 369 .

(16/241)


( جئنا ببضاعة مزجاة فأوف لنا الكيل وتصدق علينا ) ، لا تنقصنا من السعر.
* * *
وروي عن ابن عيينة ما : -
19786 - حدثني به الحارث ، قال : حدثنا القاسم قال : يحكى عن سفيان بن عيينة أنه سئل : هل حرمت الصدقة على أحدٍ من الأنبياء قبل النبيّ صلى الله عليه وسلم ؟ فقال : ألم تسمع قوله : ( فأوف لنا الكيل وتصدق علينا إن الله يجزي المتصدقين ).
قال الحارث : قال القاسم : يذهب ابن عيينة إلى أنهم لم يقولوا ذلك إلا والصدقة لهم حلالٌ ، وهم أنبياء ، فإن الصدقة إنما حُرِّمت على محمد صلى الله عليه وسلم ، وعليهم . (1)
* * *
وقال آخرون : إنما عنى بقوله : ( وتصدق علينا ) وتصدق علينا بردّ أخينا إلينا .
*ذكر من قال ذلك :
19787 - حدثنا القاسم ، قال ، حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، قوله : ( وتصدق علينا ) قال : رُدَّ إلينا أخانا.
* * *
قال أبو جعفر : وهذا القول الذي ذكرناه عن ابن جريج ، وإن كان قولا له وجه ، فليس بالقول المختار في تأويل قوله : ( وتصدَّق علينا ) لأن " الصدقة " في متعارف [العرب] ، (2) إنما هي إعطاء الرجل ذا حاجةٍ بعض أملاكه ابتغاءَ ثواب الله
__________
(1) في المطبوعة : " صلى الله عليه وسلم لا عليهم " ، غير ما في المخطوطة ، كأنه ظن أن قوله : " وعليهم " ، معطوف على قوله : " إنما حرمت على محمد ... وعليهم " ، وظاهر أن المراد : " صلى الله عليه وسلم وعليهم " ، أي : وصلى عليهم .
(2) في المطبوعة : " في المتعارف " ، وفي المخطوطة : " في متعارف إنما هي " ، وفي الكلام سقط لا شك فيه ، وإنما سقط منه لأن " متعارف " هي آخر كلمة في الصفحة ، و " إنما " في أول الصفحة الأخرى ، فسها الناسخ ، فاستظهرت هذه الزيادة التي بين القوسين .

(16/242)


قَالَ هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ (89)

عليه ، (1) وإن كان كلّ معروف صدقةً ، فتوجيه تأويل كلام الله إلى الأغلب من معناه في كلام من نزل القرآن بلسانه أولى وأحرى .
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال مجاهد .
19788 - حدثني الحارث ، قال ، حدثنا القاسم ، قال ، حدثنا مروان بن معاوية ، عن عثمان بن الأسود ، قال : سمعت مجاهدًا ، وسئل : هل يُكْرَهُ أن يقول الرجل في دعائه : اللهم تصدّق عليّ ؟ فقال : نعم ، إنما الصَّدقة لمن يبغي الثوابَ.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { قَالَ هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ (89) }
قال أبو جعفر : ذكر أن يوسف صلوات الله عليه لما قال له إخوته : ( يا أيها العزيز مسنا وأهلنا الضر وجئنا ببضاعة مزجاة فأوف لنا الكيل وتصدق علينا إن الله يجزي المتصدقين ) ، أدركته الرقّة وباح لهم بما كان يكتمهم من شأنه ، كما : -
19789 - حدثنا ابن حميد ، قال ، حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق قال ، ذكر لي أنهم لما كلموه بهذا الكلام غلبته نفسه ، فارفضَّ دمعه باكيًا ، ثم باح لهم بالذي يكتم منهم ، فقال : ( هل علمتم ما فعلتم بيوسف وأخيه إذ أنتم جاهلون ) ؟ ولم يعن بذكر أخيه ما صنعه هو فيه حين أخذه ، ولكن للتفريق بينه وبين أخيه ، إذ صنعوا بيوسف ما صنعوا.
__________
(1) في المطبوعة : " إعطاء الرجل ذا الحاجة " ، وهو خطأ وتصرف في نص المخطوطة لا وجه له والصواب ما في المخطوطة كما أثبته . وقوله : " ذا حاجة " مفعول المصدر من قوله : " إعطاء الرجل .. . " .

(16/243)


قَالُوا أَئِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (90)

19790 - حدثنا ابن وكيع ، قال ، حدثنا عمرو ، قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : ( فلما دخلوا عليه قالوا يا أيها العزيز مسنا وأهلنا الضر ) ، الآية ، قال : فرحمهم عند ذلك ، فقال لهم : ( هل علمتم ما فعلتم بيوسف وأخيه إذ أنتم جاهلون ) ؟
* * *
قال أبو جعفر : فتأويل الكلام : هل تذكرون ما فعلتم بيوسف وأخيه ، إذ فرقتم بينهما وصنعتم ما صنعتم إذ أنتم جاهلون ؟ يعني في حال جهلكم بعاقبة ما تفعلون بيوسف ، وما إليه صائر أمره وأمركم.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { قَالُوا أَئِنَّكَ لأَنْتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (90) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : قال إخوة يوسف له حين قال لهم ذلك يوسف : ( إنك لأنت يوسف) ؟ ، فقال : نعم أنا يوسف(وهذا أخي قد مَنَّ الله علينا) بأن جمع بيننا بعد ما فرقتم بيننا( إنه من يتق ويصبر ) ، يقولإنه من يتق الله فيراقبه بأداء فرائضه واجتناب معاصيه(ويصبر) ، يقول : ويكفّ نفسه ، فيحبسها عما حرَّم الله عليه من قول أو عمل عند مصيبةٍ نزلتْ به من الله (1) ( فإن الله لا يضيع أجر المحسنين ) ، يقول : فإن الله لا يُبْطل ثواب إحسانه وجزاء طاعته إيَّاه فيما أمره ونهاه .
* * *
وقد اختلف القرأة في قراءة قوله : ( أإنك لأنت يوسف ) .
فقرأ ذلك عامة قرأة الأمصار : ( أَإِنّكَ ) ، على الاستفهام .
__________
(1) انظر تفسير " التقوى " ، و " الصبر " فيما سلف من فهارس اللغة ( وقى ) ، ( صبر ) .

(16/244)


قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آَثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ (91)

* * *
وذكر أن ذلك في قراءة أبيّ بن كعب : " أَوَأَنْتَ يُوسُفُ.
* * *
وروي عن ابن محيصن أنه قرأ : " إِنَّكَ لأَنْتَ يُوُسُفُ " ، على الخبر ، لا على الاستفهام .
* * *
قال أبو جعفر : والصواب من القراءة في ذلك عندنا ، قراءةُ من قرأه بالاستفهام ، لإجماع الحجّة من القرأة عليه .
* * *
19791 - حدثنا ابن حميد ، قال ، حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق قال ، لما قال لهم ذلك يعني قوله : ( هل علمتم ما فعلتم بيوسف وأخيه إذ أنتم جاهلون ) كشف الغِطاء فعرفوه ، فقالوا : ( أإنك لأنت يوسف ) ، الآية.
19792 - حدثنا القاسم ، قال ، حدثنا الحسين ، قال ، حدثني من سمع عبد الله بن إدريس يذكر ، عن ليث ، عن مجاهد ، قوله : ( إنه من يتق ويصبر ) ، يقول : من يتق معصية الله ، ويصبر على السِّجن.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ (91) }
قال أبو جعفر : يقول جل ثناؤه : قال إخوة يوسف له : تالله لقد فضلك الله علينا ، وآثرك بالعلم والحلم والفضل( وإن كنا لخاطئين ) ، يقول : وما كنا في فعلنا الذي فعلنا بك ، في تفريقنا بينك وبين أبيك وأخيك وغير ذلك من صنيعنا الذي صنعنا بك ، إلا خاطئين يعنون : مخطئين.
* * *
يقال منه : " خَطِئَ فلان يَخْطَأ خَطَأ وخِطْأً ، وأخطأ يُخْطِئُ إِخْطاءً " ، (1)
__________
(1) انظر تفسير " خطيء " فيما سلف 2 : 110 / 6 : 134 .

(16/245)


ومن ذلك قول أمية بن الأسكر :
وَإنَّ مُهَاجِرَيْنِ تَكَنَّفَاهُ... لَعَمْرُ اللهِ قَدْ خَطِئا وحَابَا (1)
* * *
__________
(1) مضى البيت وتخريجه وتصويب روايته فيما سلف 2 : 110 / 7 : 529 ، ويزاد عليه ، مجاز القرآن 1 : 113 ، 318 ، وكان في المطبوعة والمخطوطة هنا أيضًا " وخابا " بالخاء ، وقد فسره أبو جعفر في 7 : 529 ، بمعنى : أثما ، من " الحوب " وهو الإثم ، وهو الصواب المحض إن شاء الله .

(16/246)


قَالَ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (92)

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
*ذكر من قال ذلك :
19793 - حدثنا ابن وكيع ، قال ، حدثنا عمرو ، عن أسباط ، عن السدي قال : لما قال لهم يوسف : ( أنا يوسف وهذا أخي ) اعتذروا إليه وقالوا : ( تالله لقد آثرك الله علينا وإن كنا لخاطئين ) فيما كنا صنعنا بك.
19794 - حدثنا بشر ، قال ، حدثنا يزيد ، قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : ( تالله لقد آثرك الله علينا ) وذلك بعد ما عرَّفهم أنفسهم ، يقول : جعلك الله رجلا حليمًا.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { قَالَ لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (92) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : قال يوسف لإخوته : ( لا تثريب ) يقول : لا تعيير عليكم (1) ولا إفساد لما بيني وبينكم من الحرمة وحقّ الأخوة ، ولكن لكم عندي الصفح والعفو .
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
*ذكر من قال ذلك :
19795 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد ، قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : ( لا تثريب عليكم ) ، لم يثرِّب عليهم أعمالهم.
19796 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق ، قال ، حدثنا عبد الله بن الزبير ، قوله : ( لا تثريب عليكم اليوم ) ، قال : قال سفيان : لا تعيير عليكم.
19797 - حدثنا ابن حميد ، قال ، حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : ( قال لا تثريب عليكم اليوم ) : ، أي لا تأنيب عليكم اليوم عندي فيما صنعتم.
19798 - وحدثنا ابن وكيع ، قال ، حدثنا عمرو ، عن أسباط ، عن السدي قال ، اعتذروا إلى يوسف فقال : ( لا تثريب عليكم اليوم ، ) يقول : لا أذكر لكم ذنبكم.
* * *
وقوله : ( يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين ) ، وهذا دعاء من يوسف لإخوته بأن يغفر الله لهم ذنبهم فيما أتوا إليه وركبوا منه من الظلم ، يقول : عفا الله لكم عن ذنبكم وظلمكم ، فستره عليكم( وهو أرحم الراحمين ) ، يقول : والله أرحم الراحمين لمن تاب من ذنبه ، (2) وأناب إلى طاعته بالتوبة من معصيته . كما : -
19799 - حدثنا ابن حميد ، قال ، حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : ( يغفر الله وهو أرحم الراحمين ) حين اعترفوا بذنبهم.
* * *
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة : " تغيير " ، بالغين ، والصواب ما أثبته بالعين المهملة ، وهو صريح اللغة . وقد صححته في كل موضع يأتي بعد هذا .
(2) في المطبوعة والمخطوطة : " ممن تاب " ، وصواب الكلام ما أثبت .

(16/247)


اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيرًا وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ (93) وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلَا أَنْ تُفَنِّدُونِ (94)

القول في تأويل قوله تعالى : { اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيرًا وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ (93) }
قال أبو جعفر : ذكر أن يوسف صلى الله عليه وسلم لما عرّف نفسه إخوته ، سألهم عن أبيهم ، فقالوا : ذهب بصره من الحزن! فعند ذلك أعطاهم قميصَه وقال لهم : ( اذهبوا بقميصي هذا ) .
* * *
*ذكر من قال ذلك :
19800 - حدثنا ابن وكيع ، قال ، حدثنا عمرو ، عن أسباط ، عن السدي قال : قال لهم يوسف : ما فعل أبي بعدي ؟ قالوا : لما فاته بنيامين عمي من الحزن. قال : ( اذهبوا بقميصي هذا فألقوا على وجه أبي يأت بصيرًا وأتوني بأهلكم أجمعين ).
* * *
وقوله : ( يأت بصيرًا ) يقول : يَعُدْ بصيرًا (1) ( وأتوني بأهلكم أجمعين ) ، يقول : وجيئوني بجميع أهلكم .
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلا أَنْ تُفَنِّدُونِ (94) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : ولما فصلت عير بني يعقوب من عند يوسف متوجهة إلى يعقوب ، (2) قال أبوهم يعقوب : ( إني لأجد ريح يوسف ) .
__________
(1) هذا معنى يقيد في معاجم اللغة ، في باب " أتى " ، بمعنى : عاد وهو معنى عزيز لم يشر إليه أحد من أصحاب المعاجم التي بين أيدينا .
(2) انظر تفسير " فصل " فيما سلف 5 : 338 .

(16/248)


ذُكر أن الريح استأذنت ربها في أن تأتي يعقوب بريح يوسف قبل أن يأتيه البشير ، فأذن لها ، فأتته بها .
* * *
*ذكر من قال ذلك :
19801 - حدثني يونس ، قالأخبرنا ابن وهب ، قال : حدثني أبو شريح ، عن أبي أيوب الهوزني حَدّثه قال ، استأذنت الريح أن تأتي يعقوب بريح يوسف حين بعث بالقميص إلى أبيه قبل أن يأتيه البشير ، ففعل. قال يعقوب : ( إني لأجد ريح يوسف لولا أن تفندون ). (1)
19802 - حدثنا أبو كريب ، قال ، حدثنا وكيع ، عن إسرائيل ، عن أبي سنان ، عن ابن أبي الهذيل ، عن ابن عباس ، في قوله : ( ولما فصلت العير قال أبوهم إني لأجد ريح يوسف لولا أن تفندون ) ، قال : هاجت ريح ، فجاءت بريح يوسف من مسيرة ثمان ليالٍ ، فقال : ( إني لأجد ريح يوسف لولا أن تفندون ). (2)
19803 - حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن إسرائيل ، عن أبي سنان ، عن ابن أبي الهذيل ، عن ابن عباس : ( ولما فصلت العير ) قال : هاجت ريح ، فجاءت بريح قميص يوسف من مسيرة ثمان ليال.
19804 - حدثني أبو السائب ، قال : حدثنا ابن فضيل ، عن ضرار ، عن ابن أبي الهذيل قال ، سمعت ابن عباس يقول : وجد يعقوب ريح يوسف ، وهو منه على مسيرة ثمان ليال.
__________
(1) الأثر : 19801 - " أبو شريح " ، وهو : " عبد الرحمن بن شريح بن عبد الله المعافري " ، ثقة روى له الجماعة ، مضى برقم : 6199 .
وأما " أبو أيوب الهوزني " ، فلم أستطع أن أعرف من هو ، وقد ذكره الطبري بكنيته هنا ، وفي تاريخه 1 : 185 ، وساق هذا الخبر بنصه .
(2) الأثر : 19801 - " أبو سنان " ، هو الشيباني الأكبر : " ضرار بن مرة " ، ثقة ، مضى برقم : 17336 ، 17337 ، وسيأتي الخبر بعد رقم : 19804 وما بعده.
و " ابن أبي الهذيل " ، هو " عبد الله ابن أبي الهذيل العنزي " ، ثقة ، مضى برقم : 13932 .

(16/249)


19805 - حدثنا ابن وكيع والحسن بن محمد ، قالا حدثنا سفيان بن عيينة ، عن أبي سنان ، عن ابن أبي الهذيل قال ، كنت إلى جنب ابن عباس ، فسئل : من كم وجد يعقوب ريح القميص ؟ قال : من مسيرة سبع ليالٍ أو ثمان ليال.
19806 - حدثنا ابن وكيع ، قال ، حدثنا جرير ، عن أبي سنان ، عن ابن أبي الهذيل قال : قال لي أصحابي : إنك تأتي ابن عباس ، فسله لنا. قال : فقلت : ما أسأله عن شيء ، ولكن أجلس خلف السرير ، فيأتيه الكوفيون فيسألون عن حاجتهم وحاجتي ، فسمعته يقول : وجد يعقوب ريح قميص يوسف من مسيرة ثمان ليال ، قال ابن أبي الهذيل : فقلت : ذاك كمكان البصرة من الكوفة.
19807 - حدثنا الحسن بن محمد ، قال : حدثنا علي بن عاصم ، عن ضرار بن مرة ، عن عبد الله بن أبي الهذيل ، قال : سمعت ابن عباس يقول : وجد يعقوب ريح قميص يوسف من مسيرة ثمان ليال . قال : فقلت في نفسي : هذا كمكان البصرة من الكوفة
19808 - حدثنا أبو كريب ، قال ، حدثنا وكيع وحدثنا ابن وكيع ، قال ، حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن أبي سنان ، عن ابن أبي الهذيل ، عن ابن عباس ، في قوله : ( إني لأجد ريح يوسف ) قال : وجد ريح قميص يوسف من مسيرة ثمان ليال . قال : قلت له : ذاك كما بين البصرة إلى الكوفة . واللفظ لحديث أبي كريب.
19809 - حدثنا الحسين بن محمد ، قال ، حدثنا عاصم وعلي ، قالا أخبرنا شعبة قال ، أخبرني أبو سنان ، قال ، سمعت عبد الله بن أبي الهذيل ، عن ابن عباس في هذه الآية : ( إني لأجد ريح يوسف ) ، قال : وجد ريحه من مسيرة ما بين البصرة إلى الكوفة.
19810 - حدثني المثنى ، قال : حدثنا آدم العسقلاني ، قال ، حدثنا شعبة ، قال : حدثنا أبو سنان ، قال : سمعت عبد الله بن أبي الهذيل يحدث عن ابن عباس ، مثله .

(16/250)


19811 - ... قال : حدثنا أبو نعيم ، قال : حدثنا سفيان ، عن أبي سنان ، عن عبد الله بن أبي الهذيل ، قال : كنا عند ابن عباس فقال : ( إني لأجد ريح يوسف ) قال : وجد ريح قميصه من مسيرة ثمان ليال.
19812 - حدثنا الحسن بن يحيى ، قالأخبرنا عبد الرزاق ، قالأخبرنا إسرائيل ، عن أبي سنان ، عن عبد الله بن أبي الهذيل ، قال : سمعت ابن عباس يقول : ( ولما فصلت العير ) قال : لما خرجت العير ، هاجت ريح فجاءت يعقوبَ بريح قميص يوسف ، فقال : ( إني لأجد ريح يوسف لولا أن تفندون ) قال : فوجد ريحه من مسيرة ثمان ليال.
19813 - حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، عن الحسن : ذكر لنا أنه كان بينهما يومئذ ثمانون فرسخًا ، يوسف بأرض مصر ويعقوب بأرض كنعان ، وقد أتى لذلك زمان طويل. (1)
19814 - حدثنا القاسم ، قال ، حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، قوله : ( إني لأجد ريح يوسف ) قال : بلغنا أنه كان بينهم يومئذ ثمانون فرسخًا ، وقال : ( إني لأجد ريح يوسف ) وكان قد فارقه قبل ذلك سبعًا وسبعين سنة.
19815 - حدثنا أحمد بن إسحاق ، قال ، حدثنا أبو أحمد ، قال ، حدثنا سفيان ، عن أبي سنان ، عن عبد الله بن أبي الهذيل ، عن ابن عباس ، في قوله : ( إني لأجد ريح يوسف ) قال : وجد ريح القميص من مسيرة ثمانية أيام.
19816 - ... قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا إسرائيل ، عن أبي سنان ، عن عبد الله بن أبي الهذيل ، عن ابن عباس ، قوله : ( ولما فصلت العير ) قال : فلما خرجت العير هبت ريح ، فذهبت بريح قميص يوسف إلى يعقوب ،
__________
(1) قوله : " وقد أتى لذلك زمان طويل " ، يعني مدة فراق يعقوب ويوسف ، كما يظهر من الأثر التالي .

(16/251)


فقال : ( إني لأجد ريح يوسف ) قال : ووجد ريح قميصه من مسيرة ثمانية أيام.
19817 - حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق قال : لما فصلت العير من مصر استروَح يعقوب ريح يوسف ، فقال لمن عنده من ولده : ( إني لأجد ريح يوسف لولا أن تفنّدون ).
* * *
وأما قوله : ( لولا أن تفندون ) ، فإنه يعني : لولا أن تعنّفوني ، وتعجّزوني ، وتلوموني ، وتكذبوني.
ومنه قول الشاعر : (1)
يَا صَاحِبَيَّ دَعَا لَوْمِي وَتَفْنِيدِي... فَلَيْسَ مَا فَاتَ مِنْ أَمْرِي بمَرْدُودِ (2)
ويقال : " أفند فلانًا الدهر " ، وذلك إذا أفسده ، ومنه قول ابن مقبل :
دَعِ الدَّهْرَ يَفْعَلْ مَا أَرَادَ فإنَّهُ... إِذا كُلِّفَ الإفْنَاد بالنِّاسِ أَفْنَدا (3)
* * *
واختلف أهل التأويل في معناه.
فقال بعضهم : معناه : لولا أن تسفهوني.
*ذكر من قال ذلك :
19818 - حدثنا ابن وكيع ، قال ، حدثنا ابن عيينة ، عن أبي سنان ، عن ابن أبي الهذيل ، عن ابن عباس : ( لولا أن تفندون ) قال : تسفّهون.
19819 - حدثنا أبو كريب ، قال ، حدثنا وكيع وحدثنا ابن وكيع ، قال ، حدثنا أبي ، عن إسرائيل ، عن أبي سنان ، عن ابن أبي الهذيل ، عن ابن عباس ، مثله .
__________
(1) هو هانئ بن شكيم العدوي ، هكذا نسبة أبو عبيدة .
(2) مجاز القرآن 1 : 318 ، وروايته هناك : " عن أمر " ، بغير إضافة .
(3) لم أجد البيت فيما بين يدي من المراجع .

(16/252)


19820 - ... وبه قال ، حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن خصيف ، عن مجاهد : ( لولا أن تفندون ) قال : تسفّهون.
19821 - حدثني المثنى وعلي بن داود قالا حدثنا عبد الله ، قال : حدثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس ، قوله : ( لولا أن تفندون ) يقول : تجهِّلون.
19822 - حدثنا أحمد بن إسحاق ، قال ، حدثنا أبو أحمد ، قال ، حدثنا إسرائيل ، عن أبي سنان ، عن عبد الله بن أبي الهذيل ، عن ابن عباس : ( لولا أن تفندون ) ، قال : لولا أن تسفهون.
19823 - حدثنا أحمد ، قال ، حدثنا أبو أحمد وحدثني المثنى ، قال ، حدثنا أبو نعيم قالا جميعًا : حدثنا سفيان ، عن خصيف ، عن مجاهد : ( لولا أن تفندون ) ، قال : لولا أن تسفهون.
19824 - حدثني المثنى ، قال ، حدثنا الحماني ، قال : حدثنا شريك ، عن أبي سنان ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، وسالم عن سعيد : ( لولا أن تفندون ) ، قال أحدهما : تسفهون وقال الآخر : تكذبون.
19825 - حدثني يعقوب ، قال ، حدثنا هشيم ، قال ، أخبرنا عبد الملك بن أبي سليمان ، عن عطاء : ( لولا أن تفندون ) ، قال : لولا أن تكذبون ، لولا أن تسفّهون.
19826 - حدثنا ابن وكيع ، قال ، حدثنا يزيد بن هارون ، عن عبد الملك ، عن عطاء قال ، تسفهون.
19827 - حدثنا بشر ، قال ، حدثنا يزيد ، قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة : ( لولا أن تفندون ) ، يقول : لولا أن تسفهون.
19828 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : ( لولا أن تفندون ) ، يقول : لولا أن تسفهون.
19829 - حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال ، أخبرنا

(16/253)


إسرائيل ، عن أبي سنان ، عن عبد الله بن أبي الهذيل ، قال : سمعت ابن عباس يقول : ( لولا أن تفندون ) ، يقول : تسفهّون.
19830 - حدثنا الحسن بن محمد ، قال : حدثنا شبابة ، قال : حدثنا ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : ( لولا أن تفندون ) ، قال : ذهبَ عقله!
19831 - حدثني محمد بن عمرو ، قال ، حدثنا أبو عاصم ، قال ، حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : ( تفندون ) ، قال : قد ذهبَ عقله!
19832 - حدثني المثنى ، قال ، حدثنا أبو حذيفة ، قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد
19833 - وحدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق ، قال ، حدثنا عبد الله ، عن ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : ( لولا أن تفندون ) ، قال : قد ذهب عقله!
19834 - حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد : ( لولا أن تفندون ) قال : لولا أن تقولوا : ذهب عقلك!
19835 - حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : ( لولا أن تفندون ) ، يقول : لولا أن تضعِّفوني.
19836 - حدثني يونس ، قال ، أخبرنا ابن وهب ، قال ، قال ابن زيد ، في قوله : ( لولا أن تفندون ) ، قالالذي ليس له عقل ذلك " المفنّد " ، يقول : لا يعقل. (1)
* * *
وقال آخرون : معناه : لولا أن تكذبون .
*ذكر من قال ذلك :
19837 - حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا سويد بن عمرو الكلبي ، عن شريك ، عن سالم عن سعيد : ( لولا أن تفندون ) قال : تكذبون.
__________
(1) في المطبوعة : " يقولون : لا يعقل " ، وما في المخطوطة صواب محض ، على منهاجهم .

(16/254)


19838 - ... قال : حدثنا عمرو ، عن أسباط ، عن السدي قال : لولا أن تهرِّمون وتكذبون.
19839 - ... قال : حدثنا محمد بن بكر ، عن ابن جريج ، قال : بلغني عن مجاهد قال : تكذبون.
19840 - ... قال : حدثنا عبدة ، وأبو خالد ، عن جويبر ، عن الضحاك قال : لولا أن تكذبون.
19841 - حدثت عن الحسين ، قال ، سمعت أبا معاذ ، يقول ، حدثنا عبيد بن سليمان قال ، سمعت الضحاك يقول في قوله : ( لولا أن تفندون ) تكذبون.
19842 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عمرو قال ، أخبرنا هشيم ، عن عبد الملك ، عن عطاء في قوله : ( لولا أن تفندون ) قال : تسفهون أو تكذبون.
19843 - حدثني محمد بن سعد ، قال : حدثني أبي ، قال : حدثني عمي ، قال : حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : ( لولا أن تفندون ) ، يقول : تكذبون .
* * *
وقال آخرون : معناه تهرِّمون.
*ذكر من قال ذلك :
19844 - حدثنا أحمد بن إسحاق ، قال ، حدثنا أبو أحمد ، قال ، حدثنا إسرائيل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : ( لولا أن تفندون ) ، قال : لولا أن تهرِّمون.
19845 - حدثنا ابن وكيع ، قال ، حدثنا عبيد الله ، عن إسرائيل ، عن أبي يحيى ، عن مجاهد ، مثله .
19846 - حدثنا بشر ، قال ، حدثنا يزيد ، قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة ، عن الحسن قال : تهرِّمون.
19847 - حدثني يعقوب ، قال ، حدثنا هشيم ، قال ، أخبرنا أبو الأشهب ،

(16/255)


قَالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلَالِكَ الْقَدِيمِ (95)

عن الحسن : ( لولا أن تفندون ) ، قال : تهرِّمون.
19848 - حدثني المثنى ، قال ، حدثنا عمرو بن عون ، قال ، أخبرنا هشيم ، عن أبي الأشهب وغيره ، عن الحسن ، مثله .
* * *
قال أبو جعفر : وقد بينا أن أصل " التفنيد " : الإفساد . وإذا كان ذلك كذلك فالضعف والهرم والكذب وذهاب العقل وكل معاني الإفساد تدخل في التفنيد ، لأن أصل ذلك كله الفساد والفساد في الجسم : الهرمُ وذهاب العقل والضعف وفي الفعل : الكذب واللوم بالباطل ، ولذلك قال جرير بن عطية :
يا عَاذِليَّ دَعَا المَلامَ وأَقْصِرَا... طَالَ الهَوَى وأَطَلْتُما التَّفْنيدا (1)
يعني : الملامة فقد تبيّن ، إذ كان الأمر على ما وصفنا ، أنّ الأقوال التي قالها من ذكرنا قولَه في قوله : ( لولا أن تفندون ) على اختلاف عباراتهم عن تأويله ، متقاربةُ المعاني ، محتملٌ جميعَها ظاهرُ التنزيل ، إذ لم يكن في الآية دليلٌ على أنه معنيٌّ به بعض ذلك دون بعض .
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { قَالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ (95) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : قال الذين قال لهم يعقوب من ولده( إني لأجد ريح يوسف لولا أن تفندون ) : تالله ، أيها الرجل ، إنك من حبّ يوسف وذكره لفي خطئك وزللك القديم (2) لا تنساه ، ولا تتسلى عنه .
__________
(1) ديوانه : 169 ، من قصيدة له طويلة ، ورواية البيت خطأ في الديوان ، صوابه ما ههنا ، " وأقصرا " ، بالراء ، من " الإقصار " ، وهو الكف عن فعل الشيء .
(2) في المخطوطة : " لفي حطامك في ذلك القديم " غير منقوطة ، والصواب ما في المطبوعة . ولكنه كتب هناك : " خطئك " مكان " خطائك " ، وهما بمعنى واحد . وسيأتي في مواضع أخرى ، سأصححها على رسم المخطوطة .

(16/256)


وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
*ذكر من قال ذلك :
19849 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله قال ، حدثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس ، قوله : ( إنك لفي ضلالك القديم ) ، يقول : خطائك القديم.
19850 - حدثنا بشر ، قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة : ( قالوا تالله إنك لفي ضلالك القديم ) أي : من حب يوسف لا تنساه ولا تسلاه. قالوا لوالدهم كلمةً غليظة ، لم يكن ينبغي لهم أن يقولوها لوالدهم ، ولا لنبيّ الله صلى الله عليه وسلم.
19851 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا عمرو ، عن أسباط ، عن السدي : ( قالوا تالله إنك لفي ضلالك القديم ) ، قال : في شأن يوسف.
19852 - حدثنا أحمد قال ، حدثنا أبو أحمد ، قال ، قال سفيان : ( تالله إنك لفي ضلالك القديم ) ، قال : من حبك ليوسف.
19853 - حدثنا ابن وكيع. قال ، حدثنا عمرو ، عن سفيان ، نحوه .
19854 - حدثنا القاسم ، قال ، حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج : ( قالوا تالله إنك لفي ضلالك القديم ) ، قال : في حبك القديم.
19855 - حدثنا ابن حميد ، قال ، حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : ( قالوا تالله إنك لفي ضلالك القديم ) ، أي إنك لمن ذكر يوسف في الباطل الذي أنت عليه.
19856 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب ، قال ، قال ابن زيد في قوله : ( تالله إنك لفي ضلالك القديم ) ، قال : يعنون : حزنه القديم على يوسف " وفي ضلالك القديم " : لفي خطائك القديم.
* * *

(16/257)


فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيرًا قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (96)

القول في تأويل قوله تعالى : { فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيرًا قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ (96) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : فلما أن جاء يعقوبَ البشيرُ من عند ابنه يوسف ، وهو المبشّر برسالة يوسف ، وذلك بريدٌ ، فيما ذكر ، كان يوسف أبردَهُ إليه. (1)
* * *
وكان البريد فيما ذكر ، والبشير : يهوذا بن يعقوب ، أخا يوسف لأبيه .
*ذكر من قال ذلك :
19857 - حدثني محمد بن سعد ، قال : حدثني أبي ، قال : حدثني عمي ، قال : حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : ( فلما أن جاء البشير ألقاه على وجهه ) ، يقول : " البشير " : البريدُ.
19858 - حدثنا القاسم ، قال ، حدثنا الحسين ، قال ، حدثنا هشيم ، قال ، أخبرنا جويبر ، عن الضحاك : ( فلما أن جاء البشير ) قالالبريد .
19859 - حدثنا الحسن بن محمد قال ، حدثنا محمد بن يزيد الواسطي ، عن جويبر ، عن الضحاك : ( فلما أن جاء البشير ) ، قالالبريد.
19860 - ... قال ، حدثنا شبابة ، قال ، حدثنا ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : ( فلما أن جاء البشير ) ، قال : يهوذا بن يعقوب.
19861 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : ( البشير ) قال : يهوذا بن يعقوب.
__________
(1) في المطبوعة : " برده إليه " ، وأثبت ما في المخطوطة ، وكلاهما صواب. يقال : " برد بريدًا ، وأبرده " ، أي : أرسله.

(16/258)


19862 - حدثني المثنى ، قال ، حدثنا أبو حذيفة ، قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد قال : يهوذا بن يعقوب.
19863 - ... قال : حدثنا إسحاق ، قال ، حدثنا عبد الله ، عن ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد قال : هو يهوذا بن يعقوب.
19864 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج : ( فلما أن جاء البشير ) ، قال : يهوذا بن يعقوب ، كان البشير.
19865 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الله بن الزبير ، عن سفيان ، عن ابن جريج ، عن مجاهد : ( فلما أن جاء البشير ) ، قال : هو يهوذا بن يعقوب.
قال سفيان : وكان ابن مسعود يقرأ : " وَجَاءَ البَشِيرُ مِنْ بَيْنِ يَدَي العِيرِ " (1) .
19866 - حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا المحاربي ، عن جويبر ، عن الضحاك : ( فلما أن جاء البشير ) ، قالالبريد ، هو يهوذا بن يعقوب.
19867 - ... قال : حدثنا عمرو ، عن أسباط ، عن السدي قال ، قال يوسف : ( اذهبوا بقميصي هذا فألقوه على وجه أبي يأت بصيرا وأتوني بأهلكم أجمعين ) ، قال يهوذا : أنا ذهبتُ بالقميص ، ملطخًا بالدم إلى يعقوب فأخبرته أن يوسف أكله الذئب ، وأنا أذهب اليوم بالقميص وأخبره أنه حيٌّ فأفرحه كما أحزنته . فهو كان البشير.
19868 - حدثنا أحمد بن إسحاق ، قال : حدثنا أبو أحمد قال ، حدثنا هشيم ، عن جويبر ، عن الضحاك : ( فلما أن جاء البشير ) ، قالالبريد.
* * *
__________
(1) هذه قراءة لا يقرأ بها كما سلف مرارًا لمخالفتها ما في المصحف ، ولكن هذه فيها إشكال ، فلو صح أنها : " وجاء البشير " ، لوجب أن تكون القراءة بعدها : " فألقاه " بالفاء . وإلا وجب أن تكون القراءة : " فَلَمَّا أَنْ جَاءَ البشِيرُ مِنْ بَيْنِ يَدَي العِيرِ } .

(16/259)


قال أبو جعفر : وكان بعضُ أهل العربيّة من أهل الكوفة يقول : " أنْ " في قوله : ( فلما أن جاء البشير ) وسقوطُها ، بمعنى واحدٍ ، وكان يقول هذا في : " لما " و " حتى " خاصّة ، ويذكر أن العرب تدخلها فيهما أحيانًا وتسقطها أحيانًا ، كما قال جل ثناؤه : ( وَلَمَّا أَنْ جَاءَتْ رُسُلُنَا ) [سورة العنكبوت : 33] ، وقال في موضع آخر : ( وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا ) [سورة هود : 77] ، وقال : هي صلة ، (1) لا موضع لها في هذين الموضعين. يقال : " حتى كان كذا وكذا " ، أو " حتى أن كان كذا وكذا " .
* * *
وقوله : ( ألقاه على وجهه ) ، يقولألقى البشير قميص يوسف على وجه يعقوب ، كما : -
19869 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : فلما أن جاء البشير ألقى القميص على وجهه.
* * *
وقوله : ( فارتد بصيرًا ) ، يقول : رجع وعادَ مبصرًا بعينيه ، (2) بعد ما قد عمي( قال ألم أقل لكم إني أعلم من الله ما لا تعلمون ) ، يقول جل وعز وجل : قال يعقوب لمن كان بحضرته حينئذ من ولده : ألم أقل لكم يا بني إني أعلم من الله أنه سيردّ عليَّ يوسف ، ويجمع بيني وبينه ، وكنتم لا تعلمون أنتم من ذلك ما كنت أعلمه ، لأن رؤيا يوسف كانت صادقة ، وكان الله قد قضى أن أخِرَّ أنا وأنتم له سجودًا ، فكنت مُوقنًا بقضائه .
* * *
__________
(1) قوله : " صلة " ، أي زيادة ، وانظر ما سلف : 1 : 190 ، 405 ، 406 ، 548 . 4 : 289 / 5 : 460 ، 462 / 7 : 340 ، 341 / 12 : 325 ، 326 / 13 : 508 / 14 : 30 / 15 : 497 .
(2) انظر تفسير " ارتد " فيما سلف 3 : 163 / 4 : 316 / 10 : 170 ، 409 ، 410 .

(16/260)


قَالُوا يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ (97) قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (98)

القول في تأويل قوله تعالى : { قَالُوا يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ (97) قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (98) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : قال ولد يعقوبَ الذين كانوا فرَّقوا بينه وبين يوسف : يا أبانا سل لنا ربك يعفُ عنَّا ، ويستر علينا ذنوبنا التي أذنبناها فيك وفي يوسف ، فلا يعاقبنا بها في القيامة ( إنا كنا خاطئين ) ، فيما فعلنا به ، فقد اعترفنا بذنوبنا ( قال سوف أستغفر لكم ربي ) ، يقول جل ثناؤه : قال يعقوب : سوف أسأل ربي أن يعفو عنكم ذنوبكم التي أذنبتموها فيّ وفى يوسف.
* * *
ثم اختلف أهل العلم ، (1) في الوقت الذي أخَّر الدعاء إليه يعقوبُ لولده بالاستغفار لهم من ذنبهم.
فقال بعضهم : أخَّر ذلك إلى السَّحَر .
* ذكر من قال ذلك :
19870 - حدثني أبو السائب ، قال : حدثنا ابن إدريس ، قال : سمعت عبد الرحمن بن إسحاق ، يذكر ، عن محارب بن دثار ، قال : كان عمٌّ لي يأتي المسجدَ ، فسمع إنسانًا يقول " : اللهم دعوتني فأجبت وأمرتني فأطعت ، وهذا سَحَرٌ ، فاغفر لي " قال : فاستمع الصوت فإذا هو من دار عبد الله بن مسعود. فسأل عبد الله عن ذلك ، فقال : إن يعقوب أخَّر بنيه إلى السحر بقوله : ( سوف أستغفر لكم ربي). (2)
__________
(1) في المطبوعة : " أهل التأويل " ، وأثبت ما في المخطوطة .
(2) الأثر : 19870 - " عبد الرحمن بن إسحاق بن سعد الواسطي " ، " أبو شيبة " ، قال أحمد : ليس بشيء ، منكر الحديث ، وضعفه الباقون . مترجم في التهذيب ، وابن أبي حاتم 2 / 2 / 213 .
و " محارب بن دثار السدوسي " ، " أبو مطرف " ، ثقة ، مضى برقم : 11331 .

(16/261)


19871 - حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا ابن فضيل ، عن عبد الرحمن بن إسحاق ، عن محارب بن دثار ، عن عبد الله بن مسعود : ( سوف أستغفر لكم ربي ) ، قال : أخَّرهم إلى السَّحر.
19872 - .... قال : حدثنا أبو سفيان الحميري ، عن العوام ، عن إبراهيم التيميّ في قول يعقوب لبنيه : ( سوف أستغفر لكم ربي ) ، قال : أخّرهم إلى السحر. (1)
19873 - .... قال : حدثنا عمرو ، عن خلاد الصفار ، عن عمرو بن قيس : ( سوف أستغفر لكم ربي ) ، قال : في صلاة الليل.
19874 - حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج : ( سوف أستغفر لكم ربي ) ، قال : أخَّر ذلك إلى السَّحر.
* * *
وقال آخرون : أخَّر ذلك إلى ليلة الجمعة .
* ذكر من قال ذلك :
19875 - حدثني المثنى ، قال : حدثنا سليمان بن عبد الرحمن أبو أيوب الدمشقي ، قال : حدثنا الوليد ، قال : أخبرنا ابن جريج ، عن عطاء وعكرمة ، عن ابن عباس ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( سوف أستغفر لكم ربي ) ، يقول : حتى تأتي ليلة الجمعة . وهو قول ، أخي يعقوب لبنيه. (2)
__________
(1) الأثر : 19872 - " أبو سفيان الحميري " ، هو " سعيد بن يحيى بن مهدي " صدوق ، مضى برقم : 12193 .
(2) الأثر : 19875 - " سليمان بن عبد الرحمن التميمي " ، " أبو أيوب الدمشقي " ، ثقة ، ولكنه حدث بالمناكير ، متكلم في روايته عن غير الثقات ، مضى برقم : 14212 .
و " الوليد بن مسلم الدمشقي القرشي " ، ثقة ، روى له الجماعة ، مضى مرارًا ، آخرها : 13461 .
وسائر رجال الخبر ثقات ، وقد ذكره ابن كثير في تفسيره 4 : 477 ، ثم قال : " وهذا غريب من هذا الوجه ، وفي رفعه نظر ، والله أعلم " .
وهذا الحديث ، من حديث الوليد بن مسلم ، رواه الترمذي من طريق أحمد بن الحسن ، عن سليمان بن عبد الرحمن الدمشقي ، عن الوليد بن مسلم ، في باب (أحاديث شتى من أبواب الدعوات) ، وهو حديث طويل جدًا ، وقال الترمذي : " هذا حديث حسن غريب ، لا نعرفه إلا من حديث الوليد بن مسلم " .
ورواه الحاكم في المستدرك 1 : 316 . من هذه الطريق نفسها ثم قال : " هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ، ولم يخرجاه " .
وقد علق الذهبي فقال : " هذا حديث منكر شاذ ، أخاف لا يكون موضوعًا ، وقد حيرني والله جودة سنده ، فإن الحاكم قال فيه : حدثنا أبو النضر محمد بن محمد الفقيه ، وأحمد بن محمد العنزي قالا حدثنا عثمان بن سعيد الدارمي (ح) وحدثني أبو بكر بن محمد بن جعفر المزكي ، حدثنا محمد بن إبراهيم العبدي ، قالا حدثنا أيوب سليمان بن عبد الرحمن الدمشقي ، حدثنا الوليد بن مسلم ، فذكره مصرحًا بقوله : " حدثنا ابن جريج " ، فقد حدث به سليمان قطعًا وهو ثبت ، فالله أعلم " .
وهذا الإشكال الذي حير الذهبي ، ربما فسره ما قال يعقوب بن سفيان ، في سليمان بن عبد الرحمن : " كان صحيح الكتاب ، إلا أنه كان يحول ، فإن وقع فيه شيء فمن النقل ، وسليمان ثقة " . فإن صح هذا فربما كان هذا الحديث مما وهم في تحويله ، لأن أسانيد هذا الخبر تدور كلها على " سليمان بن عبد الرحمن " ، ولم نجد أحدًا رواه عن الوليد بن مسلم : غير سليمان . والله أعلم.
وسيأتي بإسناد آخر يليه.

(16/262)


19876 - حدثنا أحمد بن الحسن الترمذي ، قال : حدثنا سليمان بن عبد الرحمن الدمشقي ، قال : حدثنا الوليد بن مسلم ، قال : أخبرنا ابن جريج ، عن عطاء وعكرمة مولى ابن عباس ، عن ابن عباس ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : قد قال أخي يعقوب : ( سوف أستغفر لكم ربي ) ، يقول : حتى تأتي ليلة الجمعة. (1)
* * *
وقوله : ( إنه هو الغفور الرحيم ) ، يقول : إن ربي هو الساتر على ذنوب التائبين إليه من ذنوبهم " الرحيم " ، بهم أن يعذبهم بعد توبتهم منها .
* * *
__________
(1) الأثر : 19876 - هذا مكرر الذي سلف.
و " أحمد بن الحسن الترمذي " ، شيخ الطبري ، كان أحد أوعية الحديث ، مضى برقم : 7489 ، 14212 .

(16/263)


فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آَوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آَمِنِينَ (99) وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (100)

القول في تأويل قوله تعالى : { فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ (99) وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نزغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (100) }
قال أبو جعفر : يقول جل ثناؤه : فلما دخل يعقوب وولده وأهلوهم على يوسف (آوى إليه أبويه ) ، يقول : ضم إليه أبويه (1) فقال لهم : ( ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين ) .
* * *
فإن قال قائل : وكيف قال لهم يوسف : ( ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين ) ، بعد ما دخلوها ، وقد أخبر الله عز وجل عنهم أنهم لما دخلوها على يوسف وضَمّ إليه أبويه ، قال لهم هذا القول ؟
قيل : قد اختلف أهل التأويل في ذلك.
فقال بعضهم : إن يعقوب إنما دخل على يوسف هو وولده ، وآوى يوسف أبويه إليه قبل دخول مصر. قالوا : وذلك أن يوسف تلقَّى أباه تكرمةً له قبل أن يدخل مصر ، فآواه إليه ، ثم قال له ولمن معه : ( ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين ) ، بها قبل الدخول .
* ذكر من قال ذلك :
__________
(1) انظر تفسير " الإيواء " فيما سلف ص : 169 ، تعليق : 1 ، " والمراجع هناك .

(16/264)


19877 - حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا عمرو ، عن أسباط ، عن السدي : فحملوا إليه أهلهم وعيالهم ، فلما بلغوا مصر ، كلَّم يوسف الملك الذي فوقه ، فخرج هو والملوك يتلقَّونهم ، فلما بلغوا مصر قال : ( ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين ) ( فلما دخلوا على يوسف آوى إليه أبويه ).
19878 - حدثني الحارث ، قال : حدثنا عبد العزيز ، قال : حدثنا جعفر بن سليمان ، عن فرقد السبخي ، قال : لما ألقي القميص على وجهه ارتد بصيرًا ، وقال : ( ائتوني بأهلكم أجمعين ) ، فحمل يعقوب وإخوة يوسف ، فلما دنا أخبر يوسف أنه قد دنا منه ، فخرج يتلقاه. قال : وركب معه أهلُ مصر ، وكانوا يعظمونه. فلما دنا أحدهما من صاحبه ، وكان يعقوب يمشي وهو يتوكأ على رجل من ولده يقال له يهوذا. قال : فنظر يعقوب إلى الخيل والناس ، فقال : يا يهوذا ، هذا فرعون مصر ؟ قال : لا هذا ابنك! قال : فلما دنا كل واحد منهما من صاحبه ، فذهب يوسف يبدؤه بالسلام ، فمنع من ذلك ، وكان يعقوب أحقّ بذلك منه وأفضل ، فقال : السلام عليك يا ذاهب الأحزان عني هكذا قال : " يا ذاهب الأحزان عني " . (1)
19879 - حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : قال حجاج : بلغني أن يوسف والملك خرجا في أربعة آلاف يستقبلون يعقوب وبنيه.
قال : وحدثني من سمع جعفر بن سليمان يحكي ، عن فرقد السبخي ، قال : خرج يوسف يتلقى يعقوب ، وركب أهل مصر مع يوسف ثم ذكر بقية الحديث ، نحو حديث الحارث ، عن عبد العزيز.
* * *
__________
(1) يعني أنه قال ذلك معديًا " ذهب " من قولهم " ذهب به ، وأذهبه " ، أي : أزاله كأنه قال : يا مذهب الأحزان عني . وهذا غريب ، يقيد لغرابته ، وانظر إلى دقة الرواية عندنا ، حتى في مثل هذه الأخبار ، ولكن أهل الزيغ يريدون أن يعبثوا بهذه الدلائل الواضحة ، ليقع الناس في الشك في أخبار نبيهم ، وفي رواية رواتهم ، والله من ورائهم محيط .

(16/265)


وقال آخرون : بل قوله : ( إن شاء الله ) ، استثناءٌ من قول يعقوب لبنيه : ( استغفر لكم ربي ) . قال : وهو من المؤخر الذي معناه التقديم. قالوا : وإنما معنى الكلام : قال : أستغفر لكم ربي إن شاء الله إنه هو الغفور الرحيم . فلما دخلوا على يوسف آوى إليه أبويه ، وقال ادخلوا مصر ، ورفع أبويه .
* ذكر من قال ذلك :
19880 - حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج : ( قال سوف أستغفر لكم ربي إن شاء الله آمنين وبَيْن ذلك ما بينه من تقديم القرآن.
* * *
قال أبو جعفر : يعني ابن جريج : " وبين ذلك ما بينه من تقديم القرآن " ، أنه قد دخل بين قوله : ( سوف أستغفر لكم ربي ) ، وبين قوله : ( إن شاء الله ) ، من الكلام ما قد دخل ، وموضعه عنده أن يكون عَقِيب قوله : ( سوف أستغفر لكم ربي ) .
* * *
قال أبو جعفر : والصواب من القول في ذلك عندنا ما قاله السدي ، وهو أن يوسف قال ذلك لأبويه ومن معهما من أولادهما وأهاليهم قبل دخولهم مصر حين تلقَّاهم ، لأن ذلك في ظاهر التنزيل كذلك ، فلا دلالة تدل على صحة ما قال ابن جريج ، ولا وجه لتقديم شيء من كتاب الله عن موضعه أو تأخيره عن مكانه إلا بحجّة واضحةٍ .
* * *
وقيل : عُنِي بقوله : ( آوى إليه أبويه ) : ، أبوه وخالتُه. وقال الذين قالوا هذا القول : كانت أم يوسف قد ماتت قبلُ ، وإنما كانت عند يعقوب يومئذ خالتُه أخت أمه ، كان نكحها بعد أمِّه.
* ذكر من قال ذلك :

(16/266)


19881 - حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا عمرو ، عن أسباط ، عن السدي : ( فلما دخلوا على يوسف آوى إليه أبويه ) ، قال : أبوه وخالته.
* * *
وقال آخرون : بل كان أباه وأمه .
* ذكر من قال ذلك :
19882 - حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : ( فلما دخلوا على يوسف آوى إليه أبويه ) ، قال : أباه وأمه.
* * *
قال أبو جعفر : وأولى القولين في ذلك بالصواب ما قاله ابن إسحاق ; لأن ذلك هو الأغلب في استعمال الناس والمتعارف بينهم في " أبوين " ، إلا أن يصح ما يقال من أنّ أم يوسف كانت قد ماتت قبل ذلك بحُجة يجب التسليم لها ، فيسلّم حينئذ لها.
* * *
وقوله : ( وقال ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين ) ، مما كنتم فيه في باديتكم من الجدب والقحط.
* * *
وقوله : ( ورفع أبويه على العرش ) ، يعني : على السرير ، كما : -
19883 - حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا عمرو ، عن أسباط ، عن السدي : ( ورفع أبويه على العرش ) ، قال : السرير.
19884 - حدثنا الحسن بن محمد ، قال : حدثنا محمد بن يزيد الواسطي ، عن جويبر ، عن الضحاك ، قال : " العرش " ، السرير.
19885 - .... قال : حدثنا شبابة ، قال : حدثنا ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : ( ورفع أبويه على العرش ) ، قال : السرير.
19886 - حدثنا محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا

(16/267)


عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
19887 - حدثني المثنى ، قال : أخبرنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل عن ابن أبي نجيح عن مجاهد
19888 - وحدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الله ، عن ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد مثله .
19889 - حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله .
19890 - حدثني المثنى ، قال : أخبرنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد
19891 - وحدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الله ، عن ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله.
19892 - حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله .
19893 - حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : ( ورفع أبويه على العرش ) ، قال : سريره.
19894 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : ( على العرش ) ، قال : على السرير.
19895 - حدثني محمد بن سعد ، قال : حدثني أبي ، قال : حدثني عمي ، قال : حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : ( ورفع أبويه على العرش ) ، يقول : رفع أبويه على السرير.
19896 - حدثنا أحمد بن إسحاق ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : قال سفيان : ( ورفع أبويه على العرش ) ، قال : على السرير.

(16/268)


19897 - حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : ( ورفع أبويه على العرش ) ، قال : مجلسه.
19898 - حدثني ابن عبد الرحيم البرقي ، قال : حدثنا عمرو بن أبي سلمة ، قال : سألت زيد بن أسلم ، عن قول الله تعالى : ( ورفع أبويه على العرش ) ، فقلت : أبلغك أنها خالته ؟ قال : قال ذلك بعض أهل العلم ، يقولون : إن أمّه ماتت قبل ذلك ، وإن هذه خالته.
* * *
وقوله : ( وخرّوا له سجدًا ) ، يقول : وخرّ يعقوب وولده وأمّه ليوسف سجّدًا.
* * *
19899 - حدثني محمد بن سعد ، قال : حدثني أبي ، قال : حدثني عمي ، قال : حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : ( وخرُّوا له سجدًا ) ، يقول : رفع أبويه على السرير ، وسجدا له ، وسجد له إخوته.
19900 - حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، قال : تحمّل يعني يعقوب بأهله حتى قدموا على يوسف ، فلما اجتمع إلى يعقوب بنوه ، دخلوا على يوسف ، فلما رأوه وقعوا له سجودًا ، وكانت تلك تحية الملوك في ذلك الزمان أبوه وأمه وإخوته.
19901 - حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : ( وخروا له سجّدًا ) وكانت تحية من قبلكم ، كان بها يحيِّي بعضهم بعضًا ، فأعطى الله هذه الأمة السلام ، تحية أهل الجنة ، كرامةً من الله تبارك وتعالى عجّلها لهم ، ونعمة منه.
19902 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : ( وخروا له سجدًا ) ، قال : وكانت تحية الناس يومئذ أن يسجد بعضهم لبعض.

(16/269)


19903 - حدثنا أحمد بن إسحاق ، قال : حدثنا أبو إسحاق ، قال : قال سفيان : ( وخرّوا له سجدًا ) ، قال : كانت تحيةً فيهم.
19904 - حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج : ( وخروا له سجدًا ) ، أبواه وإخوته ، كانت تلك تحيّتهم ، كما تصنع ناسٌ اليومَ.
19905 - حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا المحاربي ، عن جويبر ، عن الضحاك : ( وخروا له سجدًا ) قال : تحيةٌ بينهم.
19906 - حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : ( وخرُّوا له سجدًا ) ، قال : قال : ذلك السجود لشرَفه ، كما سجدت الملائكة لآدم لشرفه ، ليس بسجود عبادةٍ.
* * *
وإنما عنى من ذكر بقوله : " إن السجود كان تحية بينهم " ، أن ذلك كان منهم على الخُلُق ، لا على وجه العبادة من بعضهم لبعض. ومما يدل على أن ذلك لم يزل من أخلاق الناس قديمًا قبل الإسلام على غير وجه العبادة من بعضهم لبعض ، قول أعشى بني ثعلبة :
فَلَمَّا أَتَانَا بُعَيْدَ الكَرَى... سَجَدْنَا لَهُ وَرَفَعْنَا عَمَارَا (1)
* * *
__________
(1) ديوان : 39 ، وهذا البيت من قصيدته في تمجيد قيس بن معد يكرب ، وكان خرج معه في بعض غاراته ، فكاد الأعشى أن يؤسر ، فاستنقذه قيس ، فذكر ذلك فقال : فَيَا لَيْلَةً لِيَ فِي لَعْلَعٍ ... كَطَوْفِ الغَرِيبِ يَخَافُ الإسَارَا
فلمَّا أَتَانا ............ ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
و " لعلع " مكان بين الكوفة والبصرة . يذكر في البيت الأول قلقه وشدة نزاعه وحيرته ، لما تأخر قيس ، وقد كاد هو يقع في أسر العدو ، فلما جاء قيس استنقذه ومن معه ، فسجدوا له وحيوه . و " العمار " مختلف في تفسير قيل : هو العمامة أو القلنسوة ، وقيل الريحان يرفع للملك يحيا به ، وقيل : رفعنا أصواتنا بقولنا : " عمرك الله " .
وفي المطبوعة : " ورفعنا العمارا " ، واثبت ما في المخطوطة ، وهو الموافق لرواية الديوان وغيره من المراجع .

(16/270)


وقوله : ( يا أبت هذا تأويل رؤياي من قبل قد جعلها ربي حقًّا ) ، يقول جل ثناؤه : قال يوسف لأبيه : يا أبت ، هذا السجود الذي سجدتَ أنت وأمّي وإخوتي لي( تأويل رؤياي من قبل ) ، يقول : ما آلت إليه رؤياي التي كنت رأيتها ، (1) وهي رؤياه التي كان رآها قبل صنيع إخوته به ما صنعوا : أنَّ أحد عشر كوكبًا والشمس والقمر له ساجدون ( قد جعلها ربي حقًّا ) ، يقول : قد حقّقها ربي ، لمجيء تأويلها على الصحَّة.
* * *
وقد اختلف أهل العلم في قدر المدة التي كانت بين رؤيا يوسف وبين تأويلها.
فقال بعضهم : كانت مدّةُ ذلك أربعين سنة .
* ذكر من قال ذلك :
19907 - حدثني محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا المعتمر ، عن أبيه ، قال : حدثنا أبو عثمان ، عن سلمان الفارسي ، قال : كان بين رؤيا يوسف إلى أن رأى تأويلها أربعون سنة.
19908 - حدثني يعقوب بن برهان ويعقوب بن إبراهيم ، قالا حدثنا ابن علية قال : حدثنا سليمان التيمي ، عن أبي عثمان النهدي ، قال : قال عثمان : كانت بين رؤيا يوسف وبين أن رأى تأويله. قال : فذكر أربعين سنة. (2)
19909 - حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا ابن علية ، عن التيمي ، عن أبي عثمان ، عن سلمان ، قال : كان بين رؤيا يوسف وتأويلها أربعون سنة.
__________
(1) انظر تفسير " التأويل " فيما سلف ص : 119 ، تعليق : 1 ، والمراجع هناك .
(2) الأثر : 19908 - " يعقوب بن برهان " ، شيخ الطبري ، لم أجد له ذكرًا في شيء من دواوين الرجال .
وأنا أخشى أن يكون هو : " يعقوب بن ماهان " ، شيخ الطبري أيضًا ، روى عنه فيما سلف رقم : 4901 ، وقال : " حدثني يعقوب بن إبراهيم ، يعقوب بن ماهان ، قالا ، حدثنا هشيم ... " ، وهو شبيه بهذا الإسناد كما ترى ، وكأن الناسخ أساء القراءة ، فنقل مكان " ماهان " " برهان " .

(16/271)


19910 - حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو نعيم ، قال : حدثنا سفيان ، عن أبي سنان ، عن عبد الله بن شداد ، قال : رأى تأويل رؤياه بعد أربعين عامًا.
19911 - .... قال : حدثنا سفيان ، عن سليمان التيمي ، عن أبي عثمان ، عن سلمان ، مثله .
19912 - حدثني أبو السائب ، قال : حدثنا ابن فضيل ، عن ضرار ، عن عبد الله بن شداد أنه سمع قومًا يتنازعون في رؤيا رآها بعضهم وهو يصلي ، فلما انصرف سألهم عنها ، فكتموه ، فقال : أما إنه جاء تأويل رؤيا يوسف بعد أربعين عامًا.
19913 - حدثنا أبو كريب ، قال ، حدثنا وكيع وحدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي عن إسرائيل ، عن ضرار بن مرة أبي سنان ، عن عبد الله بن شداد ، قال : كان بين رؤيا يوسف وتأويلها أربعون سنة.
19914 - حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا ابن فضيل وجرير ، عن أبي سنان ، قال : سمع عبد الله بن شداد قومًا يتنازعون في رؤيا ، فذكر نحو حديث أبي السائب ، عن ابن فضيل .
19915 - حدثنا أحمد ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا سفيان ، عن سليمان التيمي ، عن أبي عثمان ، عن سلمان ، قال : رأى تأويل رؤياه بعد أربعين عامًا.
19916 - حدثنا الحسن بن محمد ، قال : أخبرنا ابن عيينة ، عن أبي سنان ، عن عبد الله بن شداد ، قال : وقعت رؤيا يوسف بعد أربعين سنة ، وإليها ينتهي أقصى الرؤيا. (1)
19917 - .... قال : حدثنا معاذ بن معاذ ، قال : حدثنا سليمان
__________
(1) في المطبوعة : " وإليها تنتهي أيضًا الرؤيا " ، وهو كلام فارغ ، ولم يحسن قراءة المخطوطة ، لأنها غير منقوطة ، ولأن رسم " أقصى " فيها : " أنصا " .

(16/272)


التيمي ، عن أبي عثمان ، عن سلمان ، قال : كان بين رؤيا يوسف وبين أن رأى تأويلها أربعون سنة.
19918 - .... قال ، حدثنا عبد الوهاب بن عطاء ، عن سليمان التيمي ، عن أبي عثمان ، عن سلمان ، قال : كان بين رؤيا يوسف وبين عبارتها أربعون سنة.
19919 - .... قال ، حدثنا سعيد بن سليمان ، قال : حدثنا هشيم ، عن سليمان التيمي ، عن أبي عثمان ، عن سلمان ، قال : كان بين رؤيا يوسف وبين أن رأى تأويلها أربعون سنة.
19920 - .... قال ، حدثنا سعيد بن سليمان ، قال : حدثنا هشيم ، عن سليمان التيمي ، عن أبي عثمان ، عن سلمان ، قال : كان بين رؤيا يوسف وبين أن رأى تأويلها أربعون سنة.
19921 - .... قال ، حدثنا عمرو بن محمد العنقزي ، قال : حدثنا إسرائيل ، عن أبي سنان ، عن عبد الله بن شداد ، قال : كان بين رؤيا يوسف وبين تعبيرها أربعون سنة.
* * *
وقال آخرون : كانت مدة ذلك ثمانين سنة .
* ذكر من قال ذلك :
19922 - حدثنا عمرو بن علي ، قال : حدثنا عبد الوهاب الثقفي ، قال : حدثنا هشام ، عن الحسن ، قال : كان منذ فارق يوسف يعقوب إلى أن التقيا ، ثمانون سنة ، لم يفارق الحزن قلبه ، ودموعه تجري على خديه ، وما على وجه الأرض يومئذ عبدٌ أحبَّ إلى الله من يعقوب.
19923 - حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن أبي جعفر جسر بن فرقد ، قال : كان بين أن فقد يعقوب يوسف إلى يوم رد عليه ثمانون سنة. (1)
__________
(1) الأثر : 19923 - " جسر بن فرقد " ، " أبو جعفر القصاب " ، ليس بذاك ، مضى برقم : 16940 ، 16941 ، وكان في المطبوعة هنا " حسن بن فرقد " ، لم يحسن قراءة المخطوطة .

(16/273)


19924 - حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا حسن بن علي ، عن فضيل بن عياض ، قال : سمعت أنه كان بين فراق يوسف حجر يعقوب إلى أن التقيا ، ثمانون سنة.
19925 - حدثنا الحسن بن محمد ، قال : حدثنا داود بن مهران ، قال : حدثنا عبد الواحد بن زياد ، عن يونس ، عن الحسن ، قال : ألقي يوسف في الجب وهو ابن سبع عشرة سنة ، وكان بين ذلك وبين لقائه يعقوب ثمانون سنة ، وعاش بعد ذلك ثلاثًا وعشرين سنة ، ومات وهو ابن عشرين ومائة سنة.
19926 - .... قال : حدثنا سعيد بن سليمان ، قال : حدثنا هشيم ، عن يونس ، عن الحسن ، نحوه غير أنه قال : ثلاث وثمانون سنة .
19927 - قال : حدثنا داود بن مهران ، قال : حدثنا ابن علية ، عن يونس ، عن الحسن ، قال : ألقي يوسف في الجب وهو ابن سبع عشرة سنة ، وكان في العبوديّة وفي السجن وفي الملك ثمانين سنة ، ثم جمع الله عز وجل شمله ، وعاش بعد ذلك ثلاثًا وعشرين سنة.
19928 - حدثني الحارث ، قال : حدثنا عبد العزيز ، قال : حدثنا مبارك بن فضالة ، عن الحسن ، قال : ألقي يوسف في الجب وهو ابن سبع عشرة ، فغاب عن أبيه ثمانين سنة ، ثم عاش بعدما جمع الله له شمله ورأى تأويل رؤياه ثلاثًا وعشرين سنة ، فمات وهو ابن عشرين ومائة سنة.
19929 - حدثنا مجاهد ، قال : حدثنا يزيد ، قال : أخبرنا هشيم ، عن الحسن ، قال : غاب يوسف عن أبيه في الجب وفي السجن حتى التقيا ثمانين عامًا ، فما

(16/274)


جفَّت عينا يعقوب ، وما على الأرض أحد أكرمَ على الله من يعقوب. (1)
* * *
وقال آخرون : كانت مدة ذلك ثمان عشرة سنة .
* ذكر من قال ذلك :
19930 - حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، قال : ذكر لي ، والله أعلم ، أن غيبة يوسف عن يعقوب كانت ثمان عشرة سنة. قال : وأهل الكتاب يزعمون أنها كانت أربعين سنة أو نحوها ، وأنّ يعقوب بقي مع يوسف بعد أن قدم عليه مصر سبع عشرة سنة ، ثم قبضه الله إليه.
* * *
وقوله : ( وقد أحسن بي إذ أخرجني من السجن وجاء بكم من البدو ) ، يقول جل ثناؤه ، مخبرًا عن قيل يوسف : وقد أحسن الله بي في إخراجه إياي من السجن الذي كنت فيه محبوسًا ، وفي مجيئه بكم من البدو . وذلك أن مسكن يعقوب وولده ، فيما ذكر ، كان ببادية فلسطين ، كذلك : -
* * *
19931 - حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، قال : كان منزل يعقوب وولده ، فيما ذكر لي بعض أهل العلم ، بالعَرَبات من أرض فلسطين ، ثغور الشأم. وبعضٌ يقول بالأولاج من ناحية الشِّعْب ، وكان صاحب بادية ، له إبلٌّ وشاء.
19932 - حدثنا ابن وكيع ، قال : حدنا عمرو ، قال : أخبرنا شيخ لنا أن يعقوب كان ببادية فلسطين.
19933 - حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : ( وقد أحسن بي إذ أخرجني من السجن وجاء بكم من البدو ) ، وكان يعقوب وبنوه بأرض كنعان ، أهل مواشٍ وبرّية.
__________
(1) الأثر : 19929 - " مجاهد " هذا ، هو : " مجاهد بن موسى بن فروخ الخوارزمي " ، شيخ الطبري ، مضى برقم : 510 ، 3396 .

(16/275)


19934 - حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج : ( وجاء بكم من البدو ) ، قال : كانوا أهل بادية وماشية.
* * *
و " الَبْدوُ " مصدر من قول القائل : " بدا فلان " : إذا صار بالبادية ، " يَبْدُو بَدْوًا " .
* * *
وذكر أن يعقوب دخل مصر هو ومن معه من أولاده وأهاليهم وأبنائهم يوم دخلوها ، وهم أقلّ من مائة. وخرجوا منها يوم خرجوا منها وهم زيادة على ست مائة ألف.
* ذكر الرواية بذلك :
19935 - حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا زيد بن الحباب وعمرو بن محمد ، عن موسى بن عبيدة ، عن محمد بن كعب القرظي ، عن عبد الله بن شداد ، قال : اجتمع آل يعقوب إلى يوسف بمصر وهم ستة وثمانون إنسانًا ، صغيرهم وكبيرهم ، وذكرهم وأنثاهم. وخرجوا من مصر يوم أخرجهم فرعون وهم ست مائة ألف ونَيّف.
19936 - .... قال : حدثنا عمرو ، عن إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن أبي عبيدة ، عن عبد الله ، قال : خرج أهل يوسف من مصر وهم ست مائة ألف وسبعون ألفًا ، فقال فرعون : ( إِنَّ هَؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ ) [سورة الشعراء : 54] .
19937 - حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج ، عن إسرائيل والمسعودي ، عن أبي إسحاق ، عن أبي عبيدة ، عن ابن مسعود ، قال : دخل بنو إسرائيل مصر وهم ثلاث وستون إنسانًا ، وخرجوا منها وهم ست مائة ألف قال إسرائيل في حديثه : ست مائة ألف وسبعون ألفًا.
19938 - حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا عمرو ، عن إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن مسروق ، قال : دخل أهل يوسف مصر وهم ثلاث مائة وتسعون من بين رجل وامرأة.
* * *

(16/276)


وقوله : ( من بعد أن نزغ الشيطان بيني وبين إخوتي ) ، يعني : من بعد أن أفسد ما بيني وبينهم ، وجَهِل بعضنا على بعض.
* * *
يقال منه " : نزغ الشيطان بين فلان وفلان ، يَنزغ نزغًا و نزوغًا. (1)
* * *
وقوله : ( إن ربي لطيف لما يشاء ) ، يقول : إن ربي ذو لطف وصنع لما يشاء ، (2) ومن لطفه وصنعه أنه أخرجني من السجن ، وجاء بأهلي من البَدْوِ بعد الذي كان بيني وبينهم من بُعد الدار ، وبعد ما كنت فيه من العُبُودة والرِّق والإسار ، كالذي : -
19939 - حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : ( إن ربي لطيف لما يشاء ) ، لطف بيوسف وصنع له حتى أخرجه من السجن ، وجاء بأهله من البدو ، ونزع من قلبه نزغ الشيطان ، وتحريشه على إخوته.
* * *
وقوله : : ( إنه هو العليم ) ، بمصالح خلقه وغير ذلك ، لا يخفى عليه مبادي الأمور وعواقبها ( الحكيم ) ، في تدبيره.
* * *
__________
(1) انظر تفسير " نزغ " فيما سلف 13 : 333 ، وهذا المصدر الثاني " النزوخ " ، مما لم تذكره كتب اللغة ، فيجب إثباته في مكانه منها .
(2) انظر تفسير " اللطيف " فيما سلف 12 : 22 .

(16/277)


رَبِّ قَدْ آَتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (101)

القول في تأويل قوله تعالى : { رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الأحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (101) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : قال يوسف بعد ما جمع الله له أبويه وإخوته ، وبسط عليه من الدنيا ما بسط من الكرامة ، ومكنه في الأرض ، متشوِّقًا إلى لقاء آبائه الصالحين : ( رب قد آتيتني من الملك ) ، يعني : من ملك مصر ( وعلمتني من تأويل الأحاديث ) ، يعني من عبارة الرؤيا ، (1) تعديدًا لنعم الله عليه ، وشكرًا له عليها ( فاطر السموات والأرض ) ، يقول : يا فاطر السموات والأرض ، يا خالقها وبارئها (2) ( أنت وليي في الدنيا والآخرة ) ، يقول : أنت وليي في دنياي على من عاداني وأرادني بسوء بنصرك ، وتغذوني فيها بنعمتك ، وتليني في الآخرة بفضلك ورحمتك .( (3) توفني مسلمًا ) ، يقول : اقبضني إليك مسلمًا (4) .( وألحقني بالصالحين ) ، يقول : وألحقني بصالح آبائي إبراهيم وإسحاق ومن قبلهم من أنبيائك ورسلك .
* * *
وقيل : إنه لم يتمن أحدٌ من الأنبياء الموتَ قبل يوسف .
* ذكر من قال ذلك :
19940 - حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : ( رب قد آتيتني من الملك وعلمتني من تأويل الأحاديث ) ، الآية ،
__________
(1) انظر تفسير " التأويل " فيما سلف ص : 271 ، تعليق : 1 ، والمراجع هناك .
(2) انظر تفسير " فاطر " فيما سلف 15 : 357 ، تعليق : 2 ، والمراجع هناك .
(3) انظر تفسير " الولي " فيما سلف من فهارس اللغة ( ولي ) .
(4) انظر تفسير " التوفي " فيما سلف 15 : 218 ، تعليق : 1 ، والمراجع هناك .

(16/278)


كان ابن عباس يقول : (1) أول نبي سأل الله الموت يوسف.
19941 - حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قال ابن عباس ، قوله : ( رب قد آتيتني من الملك ) ... ، الآية ، قال : اشتاق إلى لقاء ربه ، وأحبَّ أن يلحق به وبآبائه ، فدعا الله أن يتوفَّاه ويُلْحِقه بهم. ولم يسأل نبيّ قطّ الموتَ غير يوسف ، فقال : ( رب قد آتيتني من الملك وعلمتني
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة : " قال ابن عباس يقول " ، وبين صواب ما أثبت ، وانظر الخبر التالي رقم : 19942 .

(16/279)


من تأويل الأحاديث) ، الآية قال ابن جريج : في بعض القرآن من الأنبياء (1) : " توفني " (2)
19942 - حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : ( توفني مسلمًا وألحقني بالصالحين ) ، لما جَمَع شمله ، وأقرَّ عينه ، وهو يومئذ مغموس في نَبْت الدنيا وملكها وغَضَارتها ، (3) فاشتاق إلى الصالحين قبله . وكان ابن عباس يقول : ما تمنى نبي قطّ الموت قبل يوسف.
19943 - حدثني المثنى ، قال : أخبرنا إسحاق ، قال : أخبرنا عبد الله بن الزبير ، عن سفيان ، عن ابن أبي عروبة ، عن قتادة ، قال : لما جمع ليوسف شمله ، وتكاملت عليه النعم سأل لقاء ربّه فقال : ( رب قد آتيتني من الملك وعلمتني من تأويل الأحاديث فاطر السموات والأرض أنت وليي في الدنيا والآخرة توفّني مسلمًا وألحقني بالصالحين ) قال قتادة : ولم يتمنَّ الموت أحد قطُّ ، نبي ولا غيره إلا يوسف.
19944 - حدثني المثنى ، قال : حدثنا هشام ، قال : حدثنا الوليد بن مسلم ، قال : حدثني غير واحد ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : أن يوسف النبي صلى الله عليه وسلم ، لما جمع بينه وبين أبيه وإخوته ، وهو يومئذ ملك مصر ، اشتاق إلى الله وإلى آبائه الصالحين إبراهيم وإسحاق ، فقال : ( رب قد آتيتني من الملك وعلمتني من تأويل الأحاديث فاطر السموات والأرض أنت وليي في الدنيا والآخرة توفني مسلمًا وألحقني بالصالحين. )
19945 - حدثني المثنى ، قال : أخبرنا إسحاق ، قال : حدثنا هشام ، عن مسلم بن خالد ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : ( وعلمتني من تأويل الأحاديث ) ، قال : العِبَارة.
19946 - حدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ ، يقول : أخبرنا عبيد بن سليمان ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : ( توفني مسلمًا وألحقني بالصالحين ) ، يقول : توفني على طاعتك ، واغفر لي إذا توفَّيتني.
19947 - حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، قال : قال يوسف حين رأى ما رأى من كرامة الله وفضله عليه وعلى أهل بيته حين جمع الله له شمله ، وردَّه على والده ، وجمع بينه وبينه فيما هو فيه من الملك والبهجة : ( يا أبت هذا تأويل رؤياي من قبل قد جعلها ربي حقًّا ) ، إلى قوله : ( إنه هو العليم الحكيم ) . ثم ارعوى يوسف ، وذكر أنّ ما هو فيه من الدنيا بائد وذاهب ، فقال : ( رب قد قد آتيتني من الملك وعلمتني من تأويل الأحاديث فاطر السموات والأرض أنت وليي في الدنيا والآخرة توفّني مسلمًا وألحقني بالصالحين).
* * *
__________
(1) في المخطوطة : " في بعض القرآن قد قال الأنبياء توفني " ، وصوابها ما أثبت ، أما المطبوعة فقد كتبت : " في بعض القرآن من الأنبياء من قال توفني " ، غير مكان الكلام لغير حاجة .
(2) لم أجد للذي قاله ابن جريج دليلا في القرآن ! فلعله وهم ، فإن النهي عن تمني الموت صريح في السنة .
(3) في المطبوعة : " مغموس في نعيم الدنيا " ، وفي المخطوطة : " مغموس في نعيم الدنيا " غير منقوطة ، وهذا صواب قراءتها . وعنى بالنبت هنا : المال الكثير الوفير ، والنعمة النامية ، وقد جاء في الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لقوم من العرب : أنتم أهل بيت أو نبت ؟ فقالوا نحن أهل بيت وأهل نبت . وقالوا في تفسيره : أي نحن في الشرف نهاية ، وفي النبت نهاية ، أي : ينبت المال على أيدينا
وهذا الذي قلته أصح في تأويل الحديث ، وفي تأويل هذا الخبر .

(16/280)


وذُكِر أن بَني يعقوب الذين فعلوا بيوسف ما فعلوا ، استغفر لهم أبوهم ، فتاب الله عليهم وعفا عنهم وغفر لهم ذنبهم
* ذكر من قال ذلك :
19948 - حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج ، عن صالح المريّ ، عن يزيد الرقاشي ، عن أنس بن مالك ، قال : إن الله تبارك وتعالى لما جمع ليعقوب شمله ، وأقر عينه ، خَلا ولده نَجِيًّا ، فقال بعضهم لبعض : ألستم قد علمتم ما صنعتم ، وما لقي منكم الشيخ ، وما لقي منكم يوسف ؟ قالوا : بلى! قال : فيغرُّكم عفوهما عنكم ، فكيف لكم بربكم ؟ فاستقام أمرهم على أن أتوا الشيخ فجلسوا بين يديه ، ويوسف إلى جنب أبيه قاعدٌ ، قالوا : يا أبانا ، أتيناك في أمر لم نأتك في أمرٍ مثله قط ، ونزل بنا أمر لم ينزل بنا مثله! حتى حرّكوه ، والأنبياء أرحم البرية ، فقال : مالكم يا بَني ؟ قالوا : ألستَ قد علمت ما كان منا إليك ، وما كان منا إلى أخينا يوسف ؟ قال : بلى! قالوا : أفلستما قد عفوتُما ؟ قالا بلى! قالوا : فإن عفوكما لا يغني عنّا شيئًا إن كان الله لم يعفُ عنا! قال : فما تريدون يا بني ؟ قالوا : نريد أن تدعو الله لنا ، فإذا جاءك الوحي من عند الله بأنه قد عفا عمّا صنعنا ، قرّت أعيننا ، واطمأنت قلوبنا ، وإلا فلا قرّةَ عَين في الدنيا لنا أبدًا . قال : فقام الشيخ واستقبل القبلة ، وقام يوسف خلف أبيه ، وقاموا خلفهما أذلةً خاشعين . قال : فدعا وأمَّن يوسف ، ، فلم يُجَبْ فيهم عشرين سنة قال صالح المرِّي : يخيفهم. قال : حتى إذا كان رأس العشرين ، نزل جبريل صلى الله عليه وسلم على يعقوب عليه السلام ، فقال : إن الله تبارك وتعالى بعثني إليك أبشرك بأنه قد أجاب دعوتك في ولدك ، وأنه قد عفا عما صنعوا ، وأنه قد اعتَقَد مواثيقهم من بعدك على النبوّة. (1)
__________
(1) الأثر : 19948 - " صالح المري " ، هو " صالح بن بشير بن وداع المري " ، منكر الحديث ، قاص متروك الحديث ، مضى برقم : 9234 .
و " يزيد الرقاشي " ، هو " يزيد بن أبان الرقاشي " ، قاص ، متروك الحديث ، مضى قبل مرارًا ، آخرها : 11408 .
وهذا خبر هالك ، من جراء هذين القاصين المتروكين ، صالح المري ، ويزيد الرقاشي .

(16/281)


19949 - حدثني المثنى ، قال : حدثنا الحارث ، قال : حدثنا عبد العزيز ، قال : حدثنا جعفر بن سليمان ، عن أبي عمران الجوني ، قال : والله لو كان قتلُ يوسف مضى لأدخلهم الله النارَ كُلَّهم ، ولكن الله جل ثناؤه أمسك نفس يوسف ليبلغ فيه أمره ، ورحمة لهم . ثم يقول : والله ما قصَّ الله نبأهم يُعيّرهم بذلك إنهم لأنبياء من أهل الجنة ، ولكن الله قصَّ علينا نبأهم لئلا يقنط عبده.
* * *
وذكر أن يعقوب توفي قبل يوسف ، وأوصى إلى يوسف وأمره أن يدفنه عند قبر أبيه إسحاق .
* ذكر من قال ذلك :
19950 - حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا عمرو ، عن أسباط ، عن السدي ، قال : لما حضر الموتُ يعقوبَ ، أوصى إلى يوسف أن يدفنه عند إبراهيم وإسحاق ، فلما مات ، نُفِخ فيه المُرّ وحمل إلى الشأم. قال : فلما بلغوا إلى ذلك المكان أقبل عيصا أخو يعقوب (1) فقال : غلبني على الدعوة ، فوالله لا يغلبني على القبر! فأبى أن يتركهم أن يدفنوه . فلما احتبسوا ، قال هشام بن دان بن يعقوب (2) وكان هشامٌ أصمَّ لبعض إخوته : ما لجدّي لا يدفن! قالوا : هذا عمك يمنعه! قال : أرونيه أين هو ؟ فلما رآه ، رفع هشام يده فوجأ بها رأس العيص وَجْأَةً سقطت عيناه على فخذ يعقوب ، فدفنا في قبر واحد.
* * *
__________
(1) في المطبوعة : " عيص " ، وأثبت ما في المخطوطة ، وسيأتي بعد : " العيص " ، بالتعريف ، وهو في كتاب القوم " عيسو " ، وهو ولد إسحاق الأكبر ، وهو أخو يعقوب .
(2) في المطبوعة : " هشام بن دار " ، لم يحسن قراءة المخطوطة ، وولد يعقوب في كتاب القوم هو " دان " كما أثبته .
و " هشام " هذا ، هو في كتاب القوم " حوشيم " .

(16/282)


ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ (102)

القول في تأويل قوله تعالى : { ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ (102) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : هذا الخبر الذي أخبرتك به من خبر يوسف ووالده يعقوب وإخوته وسائر ما في هذه السورة ( من أنباء الغيب ) ، يقول : من أخبار الغيب الذي لم تشاهده ، ولم تعاينه ، (1) ولكنا نوحيه إليك ونعرّفكه ، لنثبِّت به فؤادك ، ونشجع به قلبك ، وتصبر على ما نالك من الأذى من قومك في ذات الله ، وتعلم أن من قبلك من رسل الله إذ صبروا على ما نالهم فيه ، وأخذوا بالعفو ، وأمروا بالعُرف ، وأعرضوا عن الجاهلين فازوا بالظفر ، وأيِّدوا بالنصر ، ومُكِّنوا في البلاد ، وغلبوا من قَصَدوا من أعدائهم وأعداء دين الله . يقول الله تبارك وتعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : فبهم ، يا محمد ، فتأسَّ ، وآثارهم فقُصَّ ( وما كنت لديهم إذ أجمعوا أمرهم وهم يمكرون ) ، يقول : وما كنت حاضرًا عند إخوة يوسف ، إذ أجمعوا واتفقت آراؤهم ، (2) وصحت عزائمهم ، على أن يلقوا يوسف في غيابة الجب. وذلك كان مكرهم الذي قال الله عز وجل : ( وهم يمكرون ) ، كما : -
19951 - حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : ( وما كنت لديهم ) ، يعني محمدًا صلى الله عليه وسلم ، يقول : ما كنت لديهم وهم يلقونه في غيابة الجب ( وهم يمكرون ) ، أي : بيوسف.
19952 - حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن عطاء الخراساني ، عن ابن عباس : ( وما كنت لديهم إذ أجمعوا أمرهم وهم يمكرون ) ، الآية ، قال : هم بنو يعقوب.
* * *
__________
(1) انظر تفسير " النبأ " و " الغيب " فيما سلف من فهارس اللغة ( نبأ ) و ( غيب ) .
(2) انظر تفسير " الإجماع " فيما سلف 15 : 147 ، 148 ، 573 .

(16/283)


وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ (103)

القول في تأويل قوله تعالى : { وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ (103) }
قال أبو جعفر : يقول جل ثناؤه : وما أكثر مشركي قومك ، يا محمد ، ولو حرصت على أن يؤمنوا بك فيصدّقوك ، ويتبعوا ما جئتهم به من عند ربك ، بمصدِّقيك ولا مُتَّبِعيك .
* * *

(16/284)


وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (104)

القول في تأويل قوله تعالى : { وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (104) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره لمحمد صلى الله عليه وسلم : وما تسأل ، يا محمد ، هؤلاء الذين ينكرون نبوتك ، ويمتنعون من تصديقك والإقرار بما جئتهم به من عند ربك ، على ما تدعوهم إليه من إخلاص العبادة لربك ، وهجر عبادة الأوثان وطاعةِ الرحمن ( من أجر ) ، يعني : من ثواب وجزاء منهم ، (1) بل إنما ثوابك وأجر عملك على الله. يقول : ما تسألهم على ذلك ثوابًا ، فيقولوا لك : إنما تريد بدعائك إيّانا إلى اتباعك لننزلَ لك عن أموالنا إذا سألتنا ذلك. وإذ كنت لا تسألهم ذلك ، فقد كان حقًّا عليهم أن يعلموا أنك إنما تدعوهم إلى ما تدعوهم إليه ، اتباعًا منك لأمر ربك ، ونصيحةً منك لهم ، وأن لا يستغشُّوك.
* * *
وقوله : ( إن هو إلا ذكر للعالمين ) ، يقول تعالى ذكره : ما هذا الذي أرسلك
__________
(1) انظر تفسير " الأجر " فيما سلف من فهارس اللغة ( أجر ) .

(16/284)


وَكَأَيِّنْ مِنْ آَيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ (105)

به ربك ، يا محمد ، من النبوة والرسالة ( إلا ذكر ) ، يقول : إلا عظة وتذكير للعالمين ، ليتعظوا ويتذكَّروا به. (1)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ (105) }
قال أبو جعفر : يقول جل وعز : وكم من آية في السموات والأرض لله ، وعبرةٍ وحجةٍ ، (2) وذلك كالشمس والقمر والنجوم ونحو ذلك من آيات السموات ، وكالجبال والبحار والنبات والأشجار وغير ذلك من آيات الأرض ( يمرُّون عليها ) ، يقول : يعاينونها فيمرُّون بها معرضين عنها ، لا يعتبرون بها ، ولا يفكرون فيها وفيما دلت عليه من توحيد ربِّها ، وأن الألوهةَ لا تنبغي إلا للواحد القهَّار الذي خلقها وخلق كلَّ شيء ، فدبَّرها.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
* ذكر من قال ذلك :
19953 - حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : ( وكأين من آية في السموات والأرض يمرون عليها ) ، وهي في مصحف عبد الله : : " يَمْشُونَ عَلَيْهَا " ، السماء والأرض آيتان عظيمتان.
* * *
__________
(1) انظر تفسير " الذكر " فيما سلف من فهارس اللغة ( ذكر ) .
(2) انظر تفسير " كأين " فيما سلف 7 : 263 .

(16/285)


وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ (106)

القول في تأويل قوله تعالى : { وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلا وَهُمْ مُشْرِكُونَ (106) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : وما يُقِرُّ أكثر هؤلاء الذين وصَفَ عز وجل صفتهم بقوله : ( وكأين من آية في السموات والأرض يمرُّون عليها وهم عنها معرضون ) بالله أنه خالقه ورازقه وخالق كل شيء ( إلا وهم مشركون ) ، في عبادتهم الأوثان والأصنام ، واتخاذهم من دونه أربابًا ، وزعمهم أنَّ له ولدًا ، تعالى الله عما يقولون.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
* ذكر من قال ذلك :
19954 - حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا عمران بن عيينة ، عن عطاء بن السائب ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : ( وما يؤمن أكثرهم بالله ) الآية ، قال : من إيمانهم ، إذا قيل لهم : مَن خلق السماء ؟ ومن خلق الأرض ؟ ومن خلق الجبال ؟ قالوا : الله . وهم مشركون.
19955 - حدثنا هناد ، قال : حدثنا أبو الأحوص ، عن سماك ، عن عكرمة ، في قوله : ( وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون ) ، قال : تسألهم : مَن خلقهم ؟ ومن خلق السماوات والأرض ، فيقولون : الله . فذلك إيمانهم بالله ، وهم يعبدون غيره.
19956 - حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا وكيع ، عن إسرائيل ، عن جابر ، عن عامر ، وعكرمة : ( وما يؤمن أكثرهم بالله ) الآية ، قالا يعلمون أنه ربُّهم ، وأنه خلقهم ، وهم يشركون به. (1)
__________
(1) في المطبوعة : " مشركون به " ، وأثبت ما في المخطوطة .

(16/286)


19957 - حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن إسرائيل ، عن جابر ، عن عامر ، وعكرمة ، بنحوه.
19958 - .... قال : حدثنا ابن نمير ، عن نضر ، عن عكرمة : ( وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون ) ، قال : من إيمانهم إذا قيل لهم : من خلق السماوات ؟ قالوا : الله. وإذا سئلوا : من خلقهم ؟ قالوا : الله. وهم يشركون به بَعْدُ.
19959 - .... قال : حدثنا أبو نعيم ، عن الفضل بن يزيد الثمالي ، عن عكرمة ، قال : هو قول الله : ( وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ ) [سورة لقمان : 25/ سورة الزمر : 38]. فإذا سئلوا عن الله وعن صفته ، وصفوه بغير صفته ، وجعلوا له ولدًا ، وأشركوا به. (1)
19960 - حدثنا الحسن بن محمد ، قال : حدثنا شبابة ، قال : حدثنا ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : ( وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون ) ، إيمانهم قولهم : الله خالقُنا ، ويرزقنا ويميتنا.
19961 - حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : ( وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون ) ، فإيمانهم قولُهم : الله خالقنا ويرزقنا ويميتنا.
19962 - حدثني المثنى ، قال : أخبرنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : ( وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون ) ، إيمانُهم قولهم : الله خالقنا ويرزقنا ويميتنا. ، فهذا إيمان مع شرك عبادتهم غيرَه.
19963 - .... قال ، حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الله ، عن ورقاء ،
__________
(1) الأثر : 19959 - " الفضل بن يزيد الثمالي البجلي " ، كوفي ثقة ، مترجم في التهذيب ، والكبير 4 / 1 / 116 ، وابن أبي حاتم 3 / 2 / 69 .
وكان في المخطوطة والمطبوعة : " الفضيل " بالتصغير ، وهو خطأ صرف .

(16/287)


عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : ( وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون ) قال : إيمانهم قولهم : الله خالقنا ويرزقنا ويميتنا
19964 - حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا هانئ بن سعيد وأبو معاوية ، عن حجاج ، عن القاسم ، عن مجاهد ، قال : يقولون : " الله ربنا ، وهو يرزقنا " ، وهم يشركون به بعدُ.
19965 - حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، قال : إيمانهم قولُهم : الله خالقنا ، ويرزقنا ويميتنا.
19966 - .... قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا أبو تميلة ، عن أبي حمزة ، عن جابر ، عن عكرمة ، ومجاهد ، وعامر : أنهم قالوا في هذه الآية : ( وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون ) ، قال : ليس أحد إلا وهو يعلم أن الله خلقه وخلق السموات والأرض ، فهذا إيمانهم ، ويكفرون بما سوى ذلك.
19967 - حدثنا بشر ، قال ، حدثنا يزيد ، قال حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : ( وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون ) ، في إيمانهم هذا. إنك لست تلقى أحدًا منهم إلا أنبأك أن الله ربه ، وهو الذي خلقه ورزقه ، وهو مشرك في عبادته.
19968 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : ( وما يؤمن أكثرهم بالله ) الآية ، قال : لا تسأل أحدًا من المشركين : مَنْ رَبُّك ؟ إلا قال : ربِّيَ الله! وهو يشرك في ذلك.
19969 - حدثني محمد بن سعد ، قال : حدثني أبي ، قال : حدثني عمي ، قال : حدثني أبي عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : ( وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون ) ، يعني النصارى ، يقول : ( وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ ) ، [سورة لقمان : 25/ سورة الزمر : 38 ] ، ( وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ ) [سورة الزخرف : 87] ، ولئن سألتهم من يرزقكم من السماء والأرض ؟ ليقولن : الله .

(16/288)


وهم مع ذلك يشركون به ويعبدون غيره ، ويسجدون للأنداد دونه. ؟
19970 - حدثني المثنى ، قال : أخبرنا عمرو بن عون ، قال ، أخبرنا هشيم ، عن جويبر ، عن الضحاك ، قال : كانوا يشركون به في تلبيتهم.
19971 - حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا ابن نمير ، عن عبد الملك ، عن عطاء : ( وما يؤمن أكثرهم بالله ) ، الآية ، قال : يعلمون أن الله ربهم ، وهم يشركون به بعدُ.
19972 - حدثني المثنى ، قال : حدثنا عمرو بن عون ، قال : أخبرنا هشيم ، عن عبد الملك ، عن عطاء ، في قوله : ( وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون ) ، قال : يعلمون أن الله خالقهم ورازقهم ، وهم يشركون به.
19973 - حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال : سمعت ابن زيد يقول : ( وما يؤمن أكثرهم بالله ) ، الآية ، قال : ليس أحدٌ يعبد مع الله غيره إلا وهو مؤمن بالله ، ويعرف أن الله ربه ، وأن الله خالقه ورازقه ، وهو يشرك به. ألا ترى كيف قال إبراهيم : ( أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الأقْدَمُونَ فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلا رَبَّ الْعَالَمِينَ ) [سورة الشعراء : 75 - 77] ؟ قد عرف أنهم يعبدون رب العالمين مع ما يعبدون. قال : فليس أحد يشرك به إلا وهو مؤمن به. ألا ترى كيف كانت العرب تلبِّي تقول : " لبيك اللهم لبيك ، لبيك لا شريك لك ، إلا شريك هو لك ، تملكه وما ملك " ؟ المشركون كانوا يقولون هذا.
* * *

(16/289)


أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غَاشِيَةٌ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (107)

القول في تأويل قوله تعالى : { أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غَاشِيَةٌ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (107) }
قال أبو جعفر : يقول جل ثناؤه : أفأمن هؤلاء الذين لا يقرُّون بأن الله ربَّهم إلا وهم مشركون في عبادتهم إياه غيرَه ( أن تأتيهم غاشية من عذاب الله ) ، تغشاهم من عقوبة الله وعذابه ، على شركهم بالله (1) أو تأتيهم القيامة فجأةً وهم مقيمون على شركهم وكفرهم بربِّهم (2) فيخلدهم الله عز وجل في ناره ، وهم لا يدرون بمجيئها وقيامها.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
* ذكر من قال ذلك :
19974 - حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : ( أن تأتيهم غاشية من عذاب الله ) ، قال : تغشاهم.
19975 - حدثنا الحسن بن محمد ، قال : حدثنا شبابة ، قال : حدثنا ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : ( غاشية من عذاب الله ) ، قال : تغشاهم.
19976 - حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
19977 - .... قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الله ، عن ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
__________
(1) انظر تفسير " الغاشية " فيما سلف 12 : 435 ، 436 .
(2) انظر تفسير " الساعة " فيما سلف 11 : 324 .
وتفسير " البغتة " فيما سلف 11 : 325 ، 360 ، 368 / 12 : 576 / 13 : 297 .

(16/290)


قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (108)

19978 - حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله .
19979 - حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : ( أفأمنوا أن تأتيهم غاشية من عذاب الله ) ، أي : عقوبة من عذاب الله.
19980 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : (غاشية من عذاب الله ) ، قال : " غاشية " ، وقيعة تغشاهم من عذاب الله. (1)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (108) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : ( قل ، يا محمد ، هذه الدعوة التي أدعو إليها ، والطريقة التي أنا عليها من الدعاء إلى توحيد الله وإخلاص العبادة له دون الآلهة والأوثان ، والانتهاء إلى طاعته ، وترك معصيته ( سبيلي ) ، وطريقتي ودعوتي ، (2) ( أدعو إلى الله وحده لا شريك له ( على بصيرة ) ، بذلك ، ويقينِ عليمٍ منّي به أنا ، ويدعو إليه على بصيرة أيضًا من اتبعني وصدقني وآمن بي (3) ( وسبحان الله ) ، يقول له تعالى ذكره : وقل ، تنزيهًا لله ، وتعظيمًا له من أن يكون له شريك في ملكه ، (4) أو معبود سواه في سلطانه : ( وما أنا من المشركين ) ، يقول : وأنا بريءٌ من أهل الشرك به ، لست منهم ولا هم منّي.
* * *
__________
(1) في المطبوعة : " واقعة " ، وأثبت ما في المخطوطة ، وهو صواب محض .
(2) انظر تفسير : السبيل " فيما سلف من فهارس اللغة ( سبل ) .
(3) انظر تفسير " البصيرة " فيما سلف 12 : 23 ، 24 / 13 : 343 ، 344 .
(4) انظر تفسير " سبحان " فيما سلف من فهارس اللغة ( سبح ) .

(16/291)


وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
* ذكر من قال ذلك :
19981 - حدثني المثنى ، قال : أخبرنا إسحاق ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع بن أنس ، في قوله : ( قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة ) ، يقول : هذه دعوتي .
19982 - حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : ( قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة ) ، قال : " هذه سبيلي " ، هذا أمري وسنّتي ومنهاجي ( أدعوا إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني ) ، قال : وحقٌّ والله على من اتّبعه أن يدعو إلى ما دعا إليه ، ويذكِّر بالقرآن والموعظة ، ويَنْهَى عن معاصي الله.
19983 - حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج ، عن أبي جعفر ، عن الربيع بن أنس ، قوله : ( قل هذه سبيلي ) : ، هذه دعوتي.
19984 - حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا حكام ، عن أبي جعفر ، عن الربيع : ( قل هذه سبيلي ) ، قال : هذه دعوتي.

(16/292)


وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدَارُ الْآَخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلَا تَعْقِلُونَ (109)

* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلا رِجَالا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدَارُ الآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلا تَعْقِلُونَ (109) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : وما أرسلنا ، يا محمد ، من قبلك إلا رجالا لا نساءً ولا ملائكة ( نوحي إليهم ) آياتنا ، بالدعاء إلى طاعتنا وإفراد العبادة لنا ( من أهل القرى ) ، يعني : من أهل الأمصار ، دون أهل البوادي ، (1) كما : -
19985 - حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : ( وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم من أهل القرى ) ، لأنهم كانوا أعلم وأحلم من أهل العَمُود (2) .
* * *
وقوله : ( أفلم يسيروا في الأرض ) ، يقول تعالى ذكره : أفلم يسر هؤلاء المشركون الذين يكذبونك ، يا محمد ، ويجحدون نبوّتك ، وينكرون ما جئتهم به
__________
(1) انظر تفسير " القرية " فيما سلف 8 : 453 / 12 : 299 .
(2) قوله " أهل العمود " ، العمود ( بفتح العين ) : وهو الخشبة القائمة في وسط الخباء ، والأخبية بيوت أهل البادية ، فقوله " أهل العمود " ، يعني أهل البادية ، كما يدل عليه السياق هنا ، وكما بينه ابن زيد في تفسير هذه الآية إذ قال : " أهل القرى أعلم وأحلم من أهل البادية " ( تفسير أبي حيان 5 : 353 ) . وقال الزمخشري في الأساس " ويقال لأصحاب الأخبية : هم أهل عمود ، وأهل عماد ، وأهل عمد " ، وروى صاحب اللسان بيتًا ، وهو : ومَا أهْلُ العَمُود لنَا بأَهْلٍ ... ولاَ النَّعَمُ المُسَامُ لَنا بمَالٍ
فهذا قول رجل يبرأ من أن يكون من أهل البادية ، فذكر الخصائص التي يألفها أهل البادية ، ويكونون بها أهل بادية .

(16/293)


من توحيد الله وإخلاص الطاعة والعبادة له ( في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم ) ، إذ كذبوا رسُلنا ؟ ألم نُحِلّ بهم عقوبتنا ، فنهلكهم بها ، وننج منها رسلنا وأتباعنا ، فيتفكروا في ذلك ويعتبروا ؟
* * *
* ذكر من قال ذلك :
19986 - حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج ، قال : قال ابن جريج : قوله : ( وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم ) ، قال : إنهم قالوا : ( مَا أَنزلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ [سورة الأنعام : 91]) ، قال : وقوله : ( وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ ) [سورة يوسف : 103 ، 104] ، وقوله : ( وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا ) [سورة يوسف : 105] ، وقوله : ( أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غَاشِيَةٌ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ ) [سورة يوسف : 107] ، وقوله : ( أفلم يسيروا في الأرض فينظروا ) ، من أهلكنا ؟ قال : فكل ذلك قال لقريش : أفلم يسيروا في الأرض فينظروا في آثارهم ، فيعتبروا ويتفكروا ؟
* * *
وقوله : ( ولدار الآخرة خير ) ، يقول تعالى ذكره : هذا فِعْلُنا في الدنيا بأهل ولايتنا وطاعتنا ، أَنّ عقوبتنا إذا نزلت بأهل معاصينا والشرك بنا ، أنجيناهم منها ، وما في الدار الآخرة لهم خير.
* * *
وترك ذكر ما ذكرنا ، اكتفاء بدلالة قوله : ( ولدار الآخرة خير للذين اتقوا ) ، عليه ، وأضيفت " الدار " إلى " الآخرة " ، وهي " الآخرة " ، لاختلاف لفظهما ، كما قيل : ( إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ ) ، [سورة الواقعة : 95] ، وكما قيل :

(16/294)


" أتيتك عام الأوَّل ، وبارحة الأولى ، وليلة الأولى ، ويوم الخميس " ، (1) وكما قال : الشاعر : (2)
أَتَمْدَحُ فَقْعَسًا وَتَذُمُّ عَبْسًا... أَلا للهِ أُمُّكَ مِنْ هَجِينِ... وَلَوْ أَقْوَتْ عَلَيْكَ دِيَارُ عَبْسٍ... عَرَفْتَ الذُّلَّ عِرْفَانَ اليَقِينِ (3)
يعني : عرفانًا له يقينًا . (4)
* * *
قال أبو جعفر : فتأويل الكلام : وللدار الآخرة خير للذين اتقوا الله ، بأداء فرائضه واجتناب معاصيه .
* * *
وقوله : ( أفلا تعقلون ) ، يقول : أفلا يعقل هؤلاء المشركون بالله حقيقةَ ما نقول لهم ونخبرهم به ، من سوء عاقبة الكفر ، وغِبّ ما يصير إليه حال أهله ، مع ما قد عاينوا ورأوا وسمعوا مما حلّ بمن قبلهم من الأمم الكافرة المكذبةِ رسلَ ربّها ؟ (5)
* * *
__________
(1) هذا موجز كلام الفراء في معاني القرآن ، في تفسير الآية .
(2) لم أعرف قائله .
(3) رواهما الفراء في معاني القرآن ، في تفسير الآية . وكان في المطبوعة : " ولو أفزت " ، وهو خطل محض ، وفي المخطوطة " ولو أفرت " ، غير منقوطة ، وهو تصحيف .
و " الهجين " ، ولد العربي لغير العربية . و " أقوت الدار " : أقفرت وخلت من سكانها . وظاهر هذا الشعر ، أن قائله يقوله في رجل من بني عبس ، كان هجينًا ، فمدح فقعسًا وذم قومه لخذلانهم إياه . فهو يقول له : لو فارقت عبس مكانها وأفردتك فيه ، لعرفت الذل عرفانًا يقينًا .
(4) في المطبوعة والمخطوطة : " عرفانا به " ، وكأن الصواب ما أثبت . وفي الفراء : " عرفانًا يقينًا " ، بغير " له " ، وهو أجود .
(5) في المطبوعة : " بما قبلهم من الأمم " ، والصواب من المخطوطة .

(16/295)


حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (110)

القول في تأويل قوله تعالى : { حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (110) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : ( وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم من أهل القُرَى ) ، فدعوْا من أرسلنا إليهم ، فكذبوهم ، وردُّوا ما أتوا به من عند الله ( حتى إذا استيأسَ الرسل ) ، الذين أرسلناهم إليهم منهم أن يؤمنوا بالله ، (1) ويصدِّقوهم فيما أتوهم به من عند الله وظن الذين أرسلناهم إليهم من الأمم المكذِّبة أن الرسل الذين أرسلناهم قد كذبوهم فيما كانوا أخبروهم عن الله ، من وَعده إياهم نصرَهم عليهم ( جاءهم نصرنا ).
* * *
وذلك قول جماعة من أهل التأويل .
* ذكر من قال ذلك :
19987 - حدثنا أبو السائب سلم بن جنادة ، قال : حدثنا أبو معاوية ، عن الأعمش ، عن مسلم ، عن ابن عباس ، في قوله : (حتى إذا استيأس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا) ، قال : لما أيست الرسل أن يستجيب لهم قومُهم ، وظنَّ قومهم أن الرسل قد كذَبَوهم ، جاءهم النصر على ذلك ، فننجّي من نشاء.
19988 - حدثنا الحسن بن محمد ، قال : حدثنا أبو معاوية الضرير ، قال : حدثنا الأعمش ، عن مسلم ، عن ابن عباس ، بنحوه غير أنه قال في حديثه ، قال : " أيست الرسل " ، ولم يقل : " لما أيست " . (2)
__________
(1) انظر تفسير " استيأس " فيما سلف ص : 203 ، 204 ، وفهارس اللغة ( يأس ) .
(2) مرة أخرى ، أوقفك على هذه الدقة البليغة في رواية أخبارنا ، فضلاً عن رواية حديث نبينا صلى الله عليه وسلم . ومع ذلك كله فالسفهاء يقولون ، متبعين أهواء أصحاب الضلالة من المستشرقين وأشباههم . فليت قومي يعلمون أي تراث يضيعون ، وأي سخف يتبعون . انظر ما سلف ص : 265 ، تعليق : 1 .

(16/296)


19989 - حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا مؤمل ، قال : حدثنا سفيان ، عن عطاء بن السائب ، عن سعيد بن جبير : (حتى إذا استيأس الرسل) ، أن يسلم قومهم ، وظنّ قوم الرسل أن الرسل قد كَذَبُوا جاءهم نصرنا.
19990 - حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا مؤمل ، قال : حدثنا سفيان ، عن الأعمش ، عن أبي الضحى ، عن ابن عباس ، مثله .
19991 - حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا عمران بن عيينة ، عن عطاء ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : (حتى إذا استيأس الرسل وظنوا أنهم قد كُذِبوا) ، قال : حتى إذا استيأس الرسل من قومهم ، وظن قومهم أن الرسل قد كَذَبوا ، (جاءهم نصرنا).
19992 - حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن حصين ، عن عمران السلمي ، عن ابن عباس : (حتى إذا استيأس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا) ، أيس الرسل من قومهم أن يصدِّقوهم ، وظن قومهم أن الرسل قد كذبتهم. (1)
19993 - حدثنا عمرو بن عبد الحميد ، قال : حدثنا جرير ، عن حصين ، عن عمران بن الحارث السلمي ، عن عبد الله بن عباس ، في قوله : (حتى إذا استيأس الرسل ) ، قال : استيأس الرسل من قومهم أن يستجيبوا لهم (وظنوا أنهم قد كذبوا) ، قال : ظن قومهم أنهم جاؤوهم بالكذب.
19994 - حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا ابن إدريس ، قال : سمعت حصينًا ، عن عمران بن الحارث ، عن ابن عباس : حتى إذا استيأس الرسل من أن يستجيب لهم قومهم ، وظنَّ قومهم أن قد كذبوهم (جاءهم نصرنا).
__________
(1) الأثر : 19992 - " عمران السلمي " ، هو " عمران بن الحارث السلمي " ، " أبو الحكم " تابعي كوفي ثقة ، روى عن ابن عباس ، وابن الزبير ، وابن عمر . مترجم في التهذيب ، وابن أبي حاتم 3 / 1 / 296 .
وستأتي روايته هذه في الأخبار التالية إلى رقم : 19998 .

(16/297)


19995 - حدثني أبو حصين عبد الله بن أحمد بن يونس ، قال : حدثنا عبثر ، قال : حدثنا حصين ، عن عمران بن الحارث ، عن ابن عباس ، في هذه الآية : (حتى إذا استيأس الرسل ) ، قال : استيأس الرسل من قومهم أن يؤمنوا ، وظنَّ قومُهم أن الرسل قد كَذَبوهم فيما وعدوا وكذبوا ( جاءهم نصرنا ). (1)
19996 - حدثنا محمد بن المثنى ، قال : حدثنا ابن أبي عدي ، عن شعبة ، عن حصين ، عن عمران بن الحارث ، عن ابن عباس ، قال : ( حتى إذا استيأس الرسل ) ، من نصر قومهم ( وظنوا أنهم قد كذبوا ) ، ظن قومهم أنهم قد كَذَبوهم.
19997 - حدثنا الحسن بن محمد ، قال : حدثنا محمد بن الصباح ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا حصين ، عن عمران بن الحارث ، عن ابن عباس ، في قوله : ( حتى إذا استيأس الرسل ) ، قال : من قومهم أن يؤمنوا بهم ، وأن يستجيبوا لهم ، وظن قومهم أن الرسل قد كذبوهم( جاءهم نصرنا ) ، يعني الرسلَ.
19998 - حدثني المثنى ، قال : حدثنا عمرو بن عون ، قال : أخبرنا هشيم ، عن حصين ، عن عمران بن الحارث ، عن ابن عباس ، بمثله سواء .
19999 - حدثنا الحسن بن محمد ، قال : حدثنا عبد الوهاب بن عطاء ، عن هارون ، عن عباد القرشي ، عن عبد الرحمن بن معاوية ، عن ابن عباس : ( وظنوا أنهم قد كُذِبوا ) خفيفة ، وتأويلها عنده : وظن القومُ أن الرسل قد كذبوا. (2)
__________
(1) الأثر : 19995 - " عبد الله بن أحمد بن يونس " ، هو " عبد الله بن أحمد بن عبد الله ابن يونس اليربوعي " ، " أبو حصين " ، شيخ الطبري ، سلف برقم : 12336 .
و " عبثر " ، هو " عبثر بن القاسم الزبيدي " ، ثقة ، مضى برقم : 12336 ، 12402 ، 17106 .
(2) الأثر : 19999 - " عبد الوهاب بن عطاء " ، هو الخفاف ، مضى مرارًا آخرها رقم : 16842
و " هرون " ، كأنه " هرون بن سفيان بن بشير " ، " أبو سفيان " ، المعروف بالديك ، مستملي يزيد بن هارون ، روى عن معاذ بن فضالة ، وأبي زيد النحوي ، ومطرف بن عبد الله المديني ، ومحمد بن عمر الواقدي . مترجم في تاريخ بغداد 14 : 25 ، رقم : 7357 .
و " عباد القرسي " ، هو " عباد بن موسى القرشي البصري " ، ثقة ، روى عن إسرائيل بن يونس ، وإبراهيم بن طهمان ، وسفيان الثوري ، وروى عنه هرون بن سفيان المستملي ، مترجم في التهذيب .
و " عبد الرحمن بن معاوية " ، هو " عبد الرحمن بن معاوية بن الحويرث الأنصاري ، الزرقي " ، " أبو الحويرث " ، روى عن ابن عباس ، وغيره ، مضى برقم : 15756 .

(16/298)


20000 - حدثنا أبو بكر ، قال : حدثنا طلق بن غنام ، عن زائدة ، عن الأعمش ، عن مسلم ، عن ابن عباس ، قال : ( حتى إذا استيأس الرسل ) ، من قومهم أن يصدِّقوهم ، وظن قومُهم أن قد كذبتهم رُسُلهم ( جاءهم نصرنا ) . (1)
20001 - حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح قال : حدثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس ، قوله : ( حتى إذا استيأس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا ) ، يعني : أيس الرسل من أن يتّبعهم قومهم ، وظن قومُهم أن الرسل قد كَذَبوا ، فينصر الله الرسل ، ويبعثُ العذابَ.
20002 - حدثني محمد بن سعد ، قال : حدثني أبي ، قال : حدثني عمي ، قال : حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : ( حتى إذا استيأس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا جاءهم نصرنا ) ، حتى إذا استيأس الرسلُ من قومهم أن يطيعوهم ويتبعوهم ، وظنَّ قومُهم أن رسلهم كذبوهم ( جاءهم نصرنا ).
20003 - حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا محمد بن فضيل ، عن حصين ، عن عمران بن الحارث ، عن ابن عباس : ( حتى إذا استيأس الرسل ) ، من قومهم ( وظنوا أنهم قد كذبوا ) ، قال : فما أبطأ عليهم إلا من ظن أنهم قد كَذَبوا.
20004 - .... قال : حدثنا آدم العسقلاني ، قال : حدثنا شعبة ، قال :
__________
(1) الأثر : 20000 - " أبو بكر " ، لم أعرف من هو من شيوخ أبي جعفر ، وظني أن صوابه " أبو كريب " ، فهو الذي ذكروا أنه يروي عن طلق بن غنام .
و " طلق بن غنام بن طلق بن معاوية النخعي " ثقة ، لم يكن بالمتبحر في العلم ، مترجم في التهذيب ، والكبير 2 / 2 / 361 ، وابن أبي حاتم 2 / 1 / 491 .

(16/299)


أخبرنا حصين بن عبد الرحمن ، عن عمران بن الحارث قال : سمعت ابن عباس يقول : ( وظنوا أنهم قد كذبوا ) خفيفةً . وقال ابن عباس : ظن القومُ أنّ الرسل قد كَذَبوهم ، خفيفةً.
20005 - حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا جرير ، عن عطاء ، عن سعيد بن جبير ، في قوله : ( حتى إذا استيأس الرسل ) ، من قومهم ، وظنّ قومُهم أن الرسل قد كَذَبوهم .
20006 - .... قال : حدثنا محمد بن فضيل ، عن خصيف ، قال : سألت سعيد بن جبير ، عن قوله : ( حتى إذا استيأس الرسل ) ، من قومهم ، وظن الكفار أنهم هم كَذَبوا.
20007 - حدثني يعقوب والحسن بن محمد ، قالا حدثنا إسماعيل بن علية . قال : حدثنا كلثوم بن جبر ، عن سعيد بن جبير ، قوله : ( حتى إذا استيأس الرسل ) ، من قومهم أن يؤمنوا ، وظن قومُهم أن الرسل قد كَذَبتهم.
20008 - حدثني المثنى ، قال : حدثنا عارم أبو النعمان ، قال : حدثنا حماد بن زيد ، قال : حدثنا شعيب ، قال : حدثني إبراهيم بن أبي حرة الجزري ، قال : سأل فتى من قريش سعيد بن جبير ، فقال له : يا أبا عبد الله ، كيف تقرأ هذا الحرف ، فإني إذا أتيت عليه تمنَّيت أن لا أقرأ هذه السورة : ( حتى إذا استيأس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا ) ؟ قال : نعم ، حتى إذا استيأس الرسل من قومهم أن يصدِّقوهم ، وظن المرسَلُ إليهم أن الرُّسُل كَذَبوا . قال : فقال الضحاك بن مزاحم : ما رأيت كاليوم قط رجلا يدعى إلى علم فيتلكَّأ!! لو رحلت في هذه إلى اليمن كان قليلا! (1)
__________
(1) الأثر : 20008 - " شعيب " ، هو " شعيب بن الحبحاب الأزدي " ، ثقة ، مضى برقم : 6180 ، 6442 .
و " إبراهيم بن أبي حرة الجزري " ، وثقه ابن معين ، وأحمد ، وقال ابن أبي حاتم : ثقة ، لا بأس به وضعفه الساجي ، وذكره ابن حبان في الثقات . كان قليل الحديث . مترجم في لسان الميزان 1 : 46 ، والكبير 1 / 1 / 281 ، وابن أبي حاتم 1 / 1 / 96 ، وابن سعد 7 / 2 / 179 .
وكان في المطبوعة : " ابن أبي حمزة " ، لم يحسن قراءة المخطوطة ، ولأن الناسخ وضع أمام هذا السطر علامة الشك .
والفتى المذكور هنا ، هو " مسلم بن يسار : كما يظهر من الأثر التالي .
وأما كلمة الضحاك بن مزاحم ، فهي كلمة رجل قد ملأ حب العلم قلبه ، وقل من الناس من يمتلئ قلبه بحب العلم حتى يقول مثل هذه المقالة ، إلا ما كان من أسلافنا هؤلاء ، فإن الله قد نشأهم أحسن تنشئة في حجور الأنبياء والصالحين من صحابة رسولنا صلى الله عليه وسلم .

(16/300)


20009 - حدثني المثنى ، قال : حدثنا الحجاج ، قال : حدثنا ربيعة بن كلثوم ، قال : حدثني أبي ، أن مسلم بن يسار ، سأل سعيد بن جبير ; فقال : يا أبا عبد الله ، آية بلغت مني كل مبلغ : ( حتى إذا استيأس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا ) ، فهذا الموتُ ، أن تظنّ الرسل أنهم قد كُذِبوا ، أو نظنّ أنهم قد كَذَبوا ، مخففة! (1) قال : فقال سعيد بن جبير : يا أبا عبد الرحمن ، حتى إذا استيأس الرسل من قومهم أن يستجيبوا لهم ، وظن قومُهم أن الرسل كذبتهم ( جاءهم نصرنا فنجى من نشاء ولا يرد بأسنا عن القوم المجرمين ) . قال : فقام مسلم إلى سعيد ، فاعتنقه وقال : فرّج الله عنك كما فرّجت عني (2)
20010 - حدثنا الحسن بن محمد ، قال : حدثنا يحيى بن عباد ، قال : حدثنا وهيب ، قال : حدثنا أبو المعلى العطار ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : ( حتى إذا استيأس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا ) قال : استيأس الرسل من إيمان قومهم ; وظنَّ قومهم أن الرسل قد كَذَبوهم ، ما كانوا يخبرونهم ويبلِّغونهم. (3)
__________
(1) في المخطوطة : " وظنوا أنهم قد كذبوا ، ونظن أنهم قد كذبوا مخففة ... " ، سقط من الكلام ما أتمه ناشر المطبوعة الأولى من الدر المنثور للسيوطي 4 : 41 .
(2) الأثر : 20009 - " ربيعة بن كلثوم بن جبر البصري " ، ثقة ، مضى برقم 6240 ، 12522 .
وأبوه : " كلثوم بن جبر البصري " ، ثقة ، مضى أيضًا برقم : 6240 ، 12522 .و " مسلم بن يسار البصري " ، أبو عبد الله الفقيه ، روى عن أبيه ، وابن عباس ، وابن عمر تابعي ثقة ، مترجم في التهذيب ، والكبير 4 / 1 / 275 ، وابن أبي حاتم 4 / 1 / 198 .
وانظر الخبر الآتي رقم : 20014 .
(3) الأثر : 20010 - " الحسن بن محمد بن الصباح الزعفراني " ، شيخ الطبري ، مضى مرارًا آخرها رقم : 18807 ، 18817 .
و " يحيى بن عباد الضبعي " ، " أبو عباد البصري " ، ثقة ، حدث عنه أهل بغداد ، وقال الخطيب : أحاديثه مستقيمة ، لا نعلمه روى منكرًا . مترجم في التهذيب ، والكبير 4 / 2 / 292 ، وابن أبي حاتم 4 / 2 / 173 ، وتاريخ بغداد 14 : 144 - 146 .
و " وهيب " هو " وهيب بن خالد بن عجلان الباهلي " ، ثقة ، روى له الجماعة ، مضى برقم : 4345 ، 12444 .
و " أبو المعلى العطار " ، هو " يحيى بن ميمون " ، ثقة ليس به بأس ، مضى برقم : 8346 ، 8347 ، 11162 .

(16/301)


20011 - .... قال : حدثنا شبابة ، قال : حدثنا ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله ;( حتى إذا استيأس الرسل ) أن يصدقهم قومهم ، وظن قومهم أن الرسل قد كَذَبوا ، جاء الرسل نَصرُنا.
20012 - حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
20013 - حدثني المثنى : قال : حدثنا الحجاج ، قال : حدثنا حماد ، عن عطاء بن السائب ، عن سعيد بن جبير ، في هذه الآية : حتى إذا استيأس الرسل من قومهم ، وظن قومهم أن الرسل قد كَذَبت.
20014 - .... قال : حدثنا حماد ، عن كلثوم بن جبر ، قال : قال لي سعيد بن جبير : سألني سيد من ساداتكم عن هذه الآية فقلت : استيأس الرسل من قومهم ، وظنَّ قومهم أن الرسل قد كذبت. (1)
20015 - حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : ( حتى إذا استيأس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا ) ، قال : استيأس الرسل أن يؤمن قومهم بهم ، وظنَّ قومهم المشركون أن الرسل قد كَذَبوا ما وعدهم الله من نصره إياهم عليهم ، وأخْلِفُوا ، وقرأ : ( جاءهم نصرنا ) ، قال : جاء الرسلَ النصرُ حينئذ. قال : وكان أبيّ يقرؤها : " كُذِبُوا " .
20016 - حدثنا الحسن بن محمد ، قال : حدثنا عبد الوهاب بن عطاء ، عن سعيد ، عن أبي المتوكل ، عن أيوب ابن أبي صفوان ، عن عبد الله بن الحارث ،
__________
(1) الأثر : 20014 - انظر الخبرين السالفين رقم : 20008 ، 20009 .

(16/302)


أنه قال : ( حتى إذا استيأس الرسل ) ، من إيمان قومهم ( وظنوا أنهم قد كذبوا ) ، وظن القوم أنهم قد كذبوهم فيما جاءوهم به. (1)
20017 - حدثنا الحسن بن محمد ، قال : حدثنا عبد الوهاب ، عن جويبر ، عن الضحاك ، قال : ظن قومهم أن رسلهم قد كَذَبوهم فيما وعدوهم به.
20018 - حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا محمد بن فضيل ، عن جحش بن زياد الضبي ، عن تميم بن حذلم ، قال : سمعت عبد الله بن مسعود يقول في هذه الآية : " حتى إذا استيأس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا " ، قال : استيأس الرسل من إيمان قومهم أن يؤمنوا بهم ، وظن قومهم حين أبطأ الأمر أنهم قد كَذَبوا بالتخفيف. (2)
20019 - حدثنا أبو المثنى ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ،
__________
(1) الأثر : 20016 - " سعيد " ، هو " سعيد بن أبي عروبة " .
وأما " أبو المتوكل " فلا أدري ما هو ، وسيأتي أنه عند البخاري و ابن أبي حاتم : " المتوكل " ، ومع ذلك ، فلست أدري من يكون على التحقيق .
و " أيوب بن أبي صفوان " ، هكذا جاء في ترجمة " أيوب بن صفوان " في التاريخ الكبير للبخاري ، أي هكذا يقال فيه أيضًا ، وأما ابن أبي حاتم فاقتصر على أنه : " أيوب بن صفوان " ، مولى عبد الله بن الحارث ، وفي ترجمة أبي حاتم تخليط كثير .
قال البخاري في ترجمته : " قال عبد الأعلى ، حدثنا سعيد ، عن متوكل ، عن أيوب بن صفوان ، مولى عبد الله بن الحارث الهاشمي ، عن عبد الله بن الحارث ، عن أم هانئ ، عن النبي صلى الله عليه وسلم " ، يعني في صلاة الضحى " . ثم ذكره في إسناد آخر هكذا " أيوب بن أبي صفوان " ، كالذي هنا .
وأما ابن أبي حاتم فقال : " أيوب بن صفوان ، مولى عبد الله بن الحارث بن نوفل ، روى عن المتوكل ، عن عبد الله بن الحارث ، روى عنه سعيد بن أبي عروبة " ، وهو خلط أرجح أن صوابه : " روى عنه المتوكل ، عن عبد الله بن الحارث ، وروى عن المتوكل سعيد بن أبي عروبة " .
وهذا خبر مشكل إسناده كما ترى ، ولا حيلة لنا فيه ، حتى نجد شيئًا يهدي إلى الصواب فيه .
(2) الأثر : 20018 - " جحش بن زياد الضبي " ، روى عن تميم بن حذلم ، روى عنه سفيان الثوري ، وجرير ، ومحمد بن فضيل ، وأبو بكر بن عياش . لم يذكروا فيه جرحًا ، مترجم في الكبير 1 / 2 / 251 ، وابن أبي حاتم 1 / 1 / 550 .
و " تميم بن حذلم الضبي " ، من أصحاب ابن مسعود ، ثقة ، قليل الحديث ، روى له الجماعة ، مضى برقم : 13623 . في ترجمة ولده .

(16/303)


عن أبي المعلى ، عن سعيد بن جبير ، في قوله : ( حتى إذا استيأس الرسل ) ، قال : استيأس الرسل من نصر قومهم ، وظنّ قومُ الرسل أن الرسل قد كَذَبوهم. (1)
20020 - حدثنا أحمد بن إسحاق ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا عمرو بن ثابت ، عن أبيه ، عن سعيد بن جبير : حتى إذا استيأس الرسل أن يصدِّقوهم ، وظن قومُهم أن الرسل قد كذبوهم. (2)
20021 - .... قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا إسرائيل ، عن عطاء بن السائب ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : حتى إذا استيأس الرسل أن يصدّقهم قومهم ، وظن قومُهم أن الرسل قد كَذَبوهم.
20022 - حدثت عن الحسين بن الفرج ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : حدثنا عبيد بن سليمان ، قال : سمعت الضحاك في قوله : ( حتى إذا استيأس الرسل ) ، يقول : استيأسوا من قومهم أن يجيبوهم ، ويؤمنوا بهم " وظنوا " ، يقول : وظن قوم الرسل أن الرسل قد كَذَبوهم الموعد.
* * *
قال أبو جعفر : والقراءة على هذا التأويل الذي ذكرنا في قوله : ( كُذِبُوا ) بضم الكاف وتخفيف الذال. وذلك أيضًا قراءة بعض قرأة أهل المدينة وعامة قرأة أهل الكوفة .
وإنما اخترنا هذا التأويل وهذه القراءة ، لأن ذلك عقيب قوله : ( وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم من أهل القرى أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف
__________
(1) الأثر : 20019 - " أبو المعلي " ، هو العطار ، " يحيى بن ميمون " ، مضى قريبًا برقم : 20010 .
(2) الأثر : 20020 - " عمرو بن ثابت بن هرمز البكري " ، روى عن أبيه ، ضعيف جدًا ليس بثقة ، مضى برقم : 641 ، 680 ، 5969 .
وأبوه " ثابت بن هرمز " ، الحداد ، " أبو المقدام " ، ثقة ، مضى برقم : 641 ، 680 ، 5969 ، 16645 .

(16/304)


كان عاقبة الذين من قبلهم ) ، فكان ذلك دليلا على أن إياس الرسل كان من إيمان قومهم الذين أهلكوا ، وأن المضمر في قوله : ( وظنوا أنهم قد كذبوا ) ، إنما هو من ذكر الذين من قبلهم من الأمم الهالكة ، وزاد ذلك وضوحًا أيضًا ، إتباعُ الله في سياق الخبر عن الرسل وأممهم قوله : ( فنجي من نشاء ) ، إذ الذين أهلكوا هم الذين ظنوا ان الرسل قد كذبتهم ، (1) فكَذَّبوهم ظنًّا منهم أنهم قد كَذَبوهم.
* * *
وقد ذهب قوم ممن قرأ هذه القراءة ، إلى غير التأويل الذي اخترنا ، ووجّهوا معناه إلى : حتى إذا استيأس الرسل من إيمان قومهم ، وظنَّتِ الرسل أنهم قد كُذِبوا فيما وُعِدُوا من النصر .
* ذكر من قال ذلك :
20023 - حدثنا الحسن بن محمد ، قال : حدثنا عثمان بن عمر ، قال : حدثنا ابن جريج ، عن ابن أبي مليكة ، قال : قرأ ابن عباس : ( حتى إذا استيأس الرسل وظنوا أنهم قد كُذِبوا ) ، قال : كانوا بشرًا ضَعفُوا ويَئِسوا.
20024 - .... قال : حدثنا حجاج بن محمد ، عن ابن جريج ، قال : أخبرني ابن أبي مليكة ، عن ابن عباس ، قرأ : ( وظنوا أنهم قد كُذِبوا ) ، خفيفة ، قال ابن جريج : أقول كما يقول : أخْلِفوا. قال عبد الله : قال لي ابن عباس : كانوا بشرًا. وتلا ابن عباس : ( حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ ) [سورة البقرة : 214] قال ابن جريج : قال ابن أبي مليكة : ذهب بها إلى أنهم ضَعُفوا فظنوا أنهم أخْلِفوا.
20025 - حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا مؤمل ، قال : حدثنا سفيان ، عن الأعمش ، عن أبي الضحى ، عن مسروق ، عن عبد الله ، أنه قرأ : ( حتى إذا
__________
(1) في المخطوطة : " إن الذين أهلكوا " ، والصواب ما في المطبوعة .

(16/305)


استيأس الرسل وظنوا أنهم قد كُذِبوا ) ، مخففة. قال عبد الله : هو الذي تَكْرَه.
20026 - .... قال : حدثنا أبو عامر ، قال : حدثنا سفيان ، عن سليمان ، عن أبي الضحى ، عن مسروق ، أن رجلا سأل عبد الله بن مسعود : ( حتى إذا استيأس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا ) ، قال : هو الذي تكره مخففةً.
20027 - .... قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، عن أبي بشر ، عن سعيد بن جبير ، أنه قال في هذه الآية : ( حتى إذا استيأس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا ) ، قلت : " كُذِبوا " ! قال : نعم ألم يكونوا بشرًا ؟
20028 - حدثنا الحارث ، قال : حدثنا عبد العزيز ، قال : حدثنا إسرائيل ، عن سماك ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، في قوله : (حتى إذا استيأس الرسل وظنوا أنهم قد كُذِبوا ) ، قال : كانوا بشرًا ، قد ظنُّوا.
* * *
قال أبو جعفر : وهذا تأويلٌ وقولٌ ، غيرُه من التأويل أولى عندي بالصواب ، (1) وخلافه من القول أشبه بصفات الأنبياء ، والرسل إن جاز أن يرتابوا بوعدِ الله إياهم ويشكوا في حقيقة خبره ، مع معاينتهم من حجج الله وأدلته ما لا يعاينه المرسَل إليهم فيعذروا في ذلك ، فإن المرسَلَ إليهم لأوْلى في ذلك منهم بالعذر. (2) وذلك قول إن قاله قائلٌ لا يخفى أمره.
* * *
وقد ذُكِر هذا التأويل الذي ذكرناه أخيرًا عن ابن عباس لعائشة ، فأنكرته أشد النُكرة فيما ذكر لنا.
* ذكر الرواية بذلك عنها ، رضوانُ الله عليها :
20029 - حدثنا الحسن بن محمد ، قال : حدثنا عثمان بن عمر ، قال : حدثنا
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة : " هذا تأويل وقول غيره من أهل التأويل ... " بزيادة " أهل " ، وهو لا يستقيم ، لأنه لو عنى ذلك لقال : " وقول غيرهما " ، لأن الراوية قبل عند عبد الله بن عباس ، وعبد الله بن مسعود . ويصحح ما فعلت من حذف هذه الزيادة ، قوله بعد : " وخلافه من القول .... " .
(2) في المطبوعة و المخطوطة : " أن المرسل إليهم " بغير الفاء ، وهي واجبة في جواب الشرط من قوله : " والرسل إن جاز أن يرتابوا ... فإن المرسل إليهم ... " .

(16/306)


ابن جريج ، عن ابن أبي مليكة ، قال : قرأ ابن عباس : ( حتى إذا استيأس الرسل وظنوا انهم قد كذبوا ) ، فقال : كانوا بشرًا ، ضعفوا ويئسوا قال ابن أبي مليكة : فذكرت ذلك لعروة ، فقال : قالت عائشة : معاذ الله! ما حدَّث الله رسوله شيئًا قطُّ إلا علم أنه سيكون قبل أن يموت ، ولكن لم يزل البلاء بالرسل حتى ظن الأنبياء أن من تبعهم قد كذّبوهم . فكانت تقرؤها : " قَدْ كُذِّبُوا " ، تثقلها. (1)
20030 - .... قال : حدثنا حجاج ، عن ابن جريج ، قال : أخبرني ابن أبي مليكة ، أن ابن عباس قرأ : ( وظنوا أنهم قد كُذِبوا ) ، خفيفة ، قال عبد الله : ثم قال لي ابن عباس : كانوا بشرًا وتلا ابن عباس : ( حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ ) [سورة البقرة : 214] قال ابن جريج : قال ابن أبي مليكة : يذهب بها إلى أنهم ضَعُفوا ، فظنوا أنهم أُخْلِفوا . قال ابن جريج : قال أبن أبي مليكة : وأخبرني عروة عن عائشة ، أنها خالفت ذلك وأبته ، وقالت : ما وعد الله محمدًا صلى الله عليه وسلم من شيء إلا وقد علم أنه سيكون حتى مات ، ولكنه لم يزل البلاء بالرسل حتى ظنوا أنَّ من معهم من المؤمنين قد كذَّبوهم. قال ابن أبي مليكة في حديث عروة : كانت عائشة تقرؤها : " وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِّبُوا " مثقَّله ، للتكذيب. (2)
20031 - .... قال : حدثنا سليمان بن داود الهاشمي ، قال : حدثنا إبراهيم بن سعد ، قال : حدثني صالح بن كيسان ، عن ابن شهاب ، عن عروة ،
__________
(1) الأثر : 20029 - " عثمان بن عمر بن فارس العبدي " ، ثقة ، روى له الجماعة ، مضى مرارًا . وابن جريج ، هو الإمام المشهور .
و " ابن أبي مليكة " ، هو " عبد الله بن عبيد الله بن أبي مليكة " ، روى له الجماعة ، مضى مرارًا كثيرة .
وهذا إسناد صحيح ، رواه البخاري في صحيحه ( الفتح 8 : 140 ) ، من طريق إبراهيم بن موسى ، عن هشام ، عن ابن جريج .
(2) الأثر : 20030 - مكرر الذي قبله ، وهو إسناد صحيح .

(16/307)


عن عائشة قال : قلت لها قوله : ( حتى إذا استيأس الرسل وظنوا أنهم قد كُذِبوا ) ، قال : قالت عائشة : لقد استيقنوا أنهم قد كُذِّبوا . قلت : " كُذِبوا " . قالت : معاذ الله ، لم تكن الرُّسل تظُنُّ بربها ، (1) إنما هم أتباع الرُّسُل ، لما استأخر عنهم الوحيُ ، واشتد عليهم البلاء ، ظنت الرسل أن أتباعهم قد كذَّبوهم ( جاءهم نصرنا ). (2)
20032 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن الزهري ، عن عروة ، عن عائشة ، قالت : حتى إذا استيأس الرجل ممن كذبهم من قومهم أن يصدّقوهم ، وظنَّت الرسل أن من قد آمن من قومهم قد كَذَّبوهم ، جاءهم نصر الله عند ذلك. (3)
* * *
قال أبو جعفر : فهذا ما روي في ذلك عن عائشة ، غير أنها كانت تقرأ : " كُذِّبُوا " ، بالتشديد وضم الكاف ، بمعنى ما ذكرنا عنها : من أن الرسل ظنَّت بأتباعها الذين قد آمنوا بهم ، أنهم قد كذَّبوهم ، فارتدُّوا عن دينهم ، استبطاءً منهم للنصر .
وقد بيّنا أن الذي نختار من القراءة في ذلك والتأويل غيرَه في هذا الحرف خاصّةً.
* * *
وقال آخرون ممن قرأ قوله : " كُذِّبُوا " بضم الكاف وتشديد الذال ، معنى ذلك : حتى إذا استيأس الرسل من قومهم أن يؤمنوا بهم ويصدِّقوهم ، وظنَّت الرسل ، بمعنى : واستيقنت ، أنهم قد كذّبهم أممهم ، جاءَتِ الرُّسل نُصْرَتنا . وقالوا :
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة : " تظن يومًا " ، ورجحت أن هذا تصحيف من الناسخ ، لم يحسن قراءة " بربها " ، فكتب مكانها " يومًا " ، لشبه ما بينها في الرسم ، والذي في حديث البخاري : " تظن ذلك بربها " ، وهو يؤيد ما ذهبت إليه .
(2) الأثر : 20031 - بهذا الإسناد ، عن " عبد العزيز بن عبد الله ، عن إبراهيم بن سعد ، عن صالح بن كيسان " ، رواه البخاري في صحيحه ( الفتح 8 : 277 - 279 ) مطولا .
ولفظ أبي جعفر مختصر أشد الاختصار . وكتب ابن حجر فصلاً جيدًا مستوفى في شرح هذا الحديث .
(3) الأثر : 20032 - وهذا إسناد صحيح إلى عائشة .

(16/308)


" الظن " في هذا بمعنى العلم ، (1) من قول الشاعر : (2)
فَظُنُّوا بِأَلْفَيْ فَارِسٍ مُتَلَبِّبٍ... سَرَاتُهُمْ فِي الفَارِسِيّ المُسَرَّدِ (3)
* * *
* ذكر من قال ذلك :
20033 - حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، عن الحسن وهو قول قتادة : حتى إذا استيأس الرسل من إيمان قومهم ، وظنوا أنهم قد كُذِّبوا " ، أي : استيقنوا أنه لا خير عند قومهم ، ولا إيمان ( جاءهم نصرنا).
* * *
20034 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : ( حتى إذا استيأس الرسل ) ، قال : من قومهم ( وظنوا أنهم قد كذِّبوا ) ، قال : وعلموا أنهم قد كذبوا ( جاءهم نصرنا).
* * *
قال أبو جعفر : وبهذه القراءة كانت تقرأ عامة قرأة المدينة والبصرة والشأم ، أعني بتشديد الذال من " كُذِّبُوا " وضم كافها.
* * *
وهذا التأويل الذي ذهب إليه الحسن وقتادة في ذلك ، إذا قرئ بتشديد الذال وضم الكاف ، خلافٌ لما ذكرنا من أقوال جميع من حكينا قوله من الصحابة ، لأنه لم يوجه " الظن " في هذا الموضع منهم أحدٌ إلى معنى العلم واليقين ، مع أن " الظنّ " إنما استعمله العرب في موضع العلم فيما كان من علم أدرك من جهة الخبر أو من غير وجه المشاهده والمعاينة. فأما ما كان من علم أدرك من وجه المشاهدة والمعاينة ، فإنها لا تستعمل فيه " الظن " ، لا تكاد تقول : " أظنني حيًّا ، وأظنني إنسانًا " ، بمعنى : أعلمني إنسانًا ، وأعلمني حيًا . والرسل الذين كذبتهم أممهم ، لا شك أنها كانت لأممها شاهدة ، ولتكذيبها إياها منها سامعة ، فيقال فيها : ظنّت بأممها أنها كَذَّبتها.
* * *
وروي عن مجاهد في ذلك قولٌ هو خلاف جميع ما ذكرنا من أقوال الماضين الذين سَمَّينا أسماءهم وذكرنا أقوالهم ، وتأويلٌ خلاف تأويلهم ، وقراءةٌ غير قراءة
__________
(1) انظر تفسير " الظن " بهذا المعنى فيما سلف من فهارس اللغة ( ظنن ) .
(2) هو دريد بن الصمة .
(3) مضى البيت بغير هذه الرواية 2 : 18 ، تعليق : 1 ، وبينت ذلك هناك .

(16/309)


جميعهم ، وهو أنه ، فيما ذُكِر عنه ، كان يقرأ : " وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كَذَبُوا " بفتح الكاف والذال وتخفيف الذال.
* ذكر الرواية عنه بذلك :
20035 - حدثني أحمد بن يوسف ، قال : حدثنا أبو عبيد ، قال : حدثنا حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، أنه قرأها : " كَذَبُوا " بفتح الكاف بالتخفيف.
* * *
وكان يتأوّله كما : -
20036 - حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد : استيأس الرجل أن يُعَذَّبَ قومهم ، وظن قومهم أن الرسل قد كَذَبوا ( جاءهم نصرنا ) ، قال : جاء الرسلَ نصرنا . قال مجاهد : قال في " المؤمن " (1) ( فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ ) ، قال : قولهم : " نحن أعلم منهم ولن نعذّب " . وقوله : ( وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ) ، [سورة غافر : 83] ، قال : حاق بهم ما جاءت به رسلهم من الحق.
* * *
قال أبو جعفر : وهذه قراءة لا أستجيز القراءة بها ، (2) لإجماع الحجة من قرأة الأمصار على خلافها. ولو جازت القراءة بذلك ، لاحتمل وجهًا من التأويل ، وهو أحسن مما تأوله مجاهد ، وهو : حتى إذا استيأس الرسل من عذاب الله قومَها المكَذِّبة بها ، وظنَّت الرسل أن قومها قد كَذَبوا وافتروا على الله بكفرهم بها ويكون " الظن " موجِّهًا حينئذ إلى معنى العلم ، على ما تأوَّله الحسن وقتادة.
* * *
وأما قوله : ( فنجي من نشاء ) فإن القرأة اختلفت في قراءته.
فقرأه عامة قرأة أهل المدينة ومكة والعراق : " فَنُنْجِى مَنْ نَشَاء " ، مخفّفة بنونين ، (3)
__________
(1) " المؤمن " هي سورة غافر ، أي : سورة مؤمن آل فرعون .
(2) في المطبوعة وحدها : " وهذه القراءة " ، غير الكلام بلا معنى .
(3) في المطبوعة أسقط " مخففة " ، وكان في المخطوطة : " فننجي مخففة من نشاء بنونين " ، والذي أثبته أولى وأجود .

(16/310)


بمعنى : فننجي نحنُ من نشاء من رسلنا والمؤمنين بنا ، دون الكافرين الذين كَذَّبوا رُسلنا ، إذا جاء الرسلَ نصرُنا.
* * *
واعتلّ الذين قرءوا ذلك كذلك ، أنه إنما كتب في المصحف بنون واحدة ، وحكمه أن يكون بنونين ، لأن إحدى النونين حرف من أصل الكلمة ، من : " أنجى ينجي " ، والأخرى " النون " التي تأتي لمعنى الدلالة على الاستقبال ، من فعل جماعةٍ مخبرةٍ عن أنفسها ، لأنهما حرفان ، أعني النونين ، من جنس واحدٍ يخفى الثاني منهما عن الإظهار في الكلام ، فحذفت من الخط ، واجتزئ بالمثبتة من المحذوفة ، كما يفعل ذلك في الحرفين اللذين يُدْغم أحدهما في صاحبه.
* * *
وقرأ ذلك بعض الكوفيين على هذا المعنى ، غير أنه أدغم النون الثانية وشدّد الجيم.
* * *
وقرأه آخر منهم بتشديد الجيم ونصب الياء ، على معنى فعل ذلك به من : " نجَّيته أنجّيه " .
* * *
وقرأ ذلك بعض المكيين : " فَنَجَا مَنْ نَشَاءُ " بفتح النون والتخفيف ، من : " نجا ينجو " . (1)
* * *
قال أبو جعفر : والصواب من القراءة في ذلك عندنا ، قراءة من قرأه : " فَنُنْجِى مَنْ نَشَاءُ " بنونين ، لأن ذلك هو القراءة التي عليها القرأة في الأمصار ، وما خالفه ممن قرأ ذلك ببعض الوجوه التي ذكرناها ، فمنفرد بقراءته عما عليه الحجة مجمعة من القرأة. وغير جائز خلاف ما كان مستفيضًا بالقراءة في قرأة الأمصار.
* * *
__________
(1) في المخطوطة : " من نجا عذاب الله من نشاء ينجو " وفي المطبوعة : " من نجا من عذاب الله من نشاء ينجو " ، زاد " من " ليستقيم الكلام . بيد أني أقطع بأن الصواب هو ما أثبت ، كما فعل في أخواتها السالفة ، وإنما زاد الناسخ ما زاد سهوًا .

(16/311)


لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (111)

قال أبو جعفر : وتأويل الكلام : فننجي الرسلَ ومن نشاء من عبادنا المؤمنين إذا جاء نصرنا ، كما : -
20037 - حدثني محمد بن سعد ، قال : حدثني أبي ، قال حدثني عمي : قال : حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : " فننجى من نشاء " ، فننجي الرسل ومن نشاء ( ولا يردّ بأسنا عن القوم المجرمين ) ، وذلك أن الله تبارك وتعالى بَعَث الرسل ، فدعوا قومهم ، وأخبروهم أنه من أطاع نجا ، ومن عصاه عُذِّب وغَوَى.
* * *
وقوله( ولا يردّ بأسنا عن القوم المجرمين ) ، يقول : ولا تردُّ عقوبتنا وبطشنا بمن بطشنا به من أهل الكفر بنا وعن القوم الذين أجرموا ، فكفروا بالله ، وخالفوا رسله وما أتوهم به من عنده.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأولِي الألْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (111) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : لقد كان في قصص يوسف وإخوته عبرة لأهل الحجا والعقول يعتبرون بها ، وموعظة يتّعظون بها. (1) وذلك أن الله جل ثناؤه بعد أن ألقي يوسف في الجبّ ليهلك ، ثم بِيع بَيْع العبيد بالخسيس من الثمن ، وبعد الإسار والحبس الطويل ، ملّكه مصر ، ومكّن له في الأرض ، وأعلاه على من بغاه سوءًا من إخوته ، وجمع بينه وبين والديه وإخوته بقدرته ، بعد المدة الطويلة ، وجاء بهم إليه من الشُّقّة النائية البعيدة ، فقال جل ثناؤه للمشركين من قريش من
__________
(1) انظر تفسير " القصص " فيما سلف 15 : 558 ، تعليق : 1 ، والمراجع هناك .
وتفسير " العبرة " فيما سلف 6 : 242 ، 243 .

(16/312)


قوم نبيّه محمدٍ صلى الله عليه وسلم : لقد كان لكم ، أيها القوم ، في قصصهم عبرةٌ لو اعتبرتم به ، أن الذي فعل ذلك بيوسف وإخوته ، لا يتعذَّر عليه فعلُ مثله بمحمد صلى الله عليه وسلم ، (1) فيخرجه من بين أظهُرِكم ، ثم يظهره عليكم ، ويمكن له في البلاد ، ويؤيده بالجند والرجال من الأتباع والأصحاب ، وإن مرَّت به شدائد ، وأتت دونه الأيام والليالي والدهور والأزمان.
* * *
وكان مجاهد يقول : معنى ذلك : لقد كان في قصصهم عبرة ليوسف وإخوته.
* ذكر الرواية بذلك :
20038 - حدثنا محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله : ( لقد كان في قصصهم عبرة ) ، ليوسف وإخوته.
20039 - حدثنا الحسن بن محمد ، قال : حدثنا شبابة ، قال : حدثنا ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : عبرة ليوسف وإخوته.
20040 - حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
20041 - حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، قوله : ( لقد كان في قصصهم عبرة لأولى الألباب ) ، قال : يوسف وإخوته.
* * *
قال أبو جعفر : وهذا القول الذي قاله مجاهد ، وإن كان له وجه يحتمله التأويل ، فإن الذي قلنا في ذلك أولى به ; لأنّ ذلك عَقِيب الخبر عن نبينا صلى الله عليه وسلم وعن قومه من المشركين ، وعَقِيب تهديدهم ووعيدهم على الكفر بالله وبرسوله محمد صلى الله عليه وسلم ، ومنقطع عن خبر يوسف وإخوته ، ومع ذلك
__________
(1) في المطبوعة : " أن يفعل مثله " ، أساء قراءة المخطوطة ، وزاد " أن " من عند نفسه .

(16/313)


أنه خبرٌ عام عن جميع ذوي الألباب ، أنَّ قصصهم لهم عبرة ، وغير مخصوص بعض به دون بعض. فإذا كان الأمر على ما وصفنا في ذلك ، فهو بأن يكون خبرًا عن أنه عبرة لغيرهم أشبه. (1) والرواية التي ذكرناها عن مجاهد [من] رواية ابن جريج (2) أشبه به أن تكون من قوله ; لأن ذلك موافقٌ القولَ الذي قلناه في ذلك.
* * *
وقوله : ( ما كان حديثًا يفترى ) ، يقول تعالى ذكره : ما كان هذا القول حديثًا يختلق ويُتَكذَّب ويُتَخَرَّص ، (3) كما : -
20042 - حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : ( ما كان حديثًا يفترى ) ، و " الفرية " : الكذب.
* * *
( ولكن تصديق الذي بين يديه ) ، يقول : ولكنه تصديق الذي بين يديه من كتب الله التي أنزلها قبله على أنبيائه ، كالتوراة والإنجيل والزبور ، يصدِّق ذلك كله ويشهد عليه أنّ جميعه حق من عند الله ، كما : -
20043 - حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : ( ولكن تصديق الذي بين يديه ) ، والفرقان تصديق الكتب التي قبله ، ويشهد عليها.
* * *
وقوله : ( وتفصيل كل شيء ) ، يقول تعالى ذكره : وهو أيضًا تفصيل كل ما بالعباد إليه حاجة من بيان أمر الله ونهيه ، وحلاله وحرامه ، وطاعته ومعصيته. (4)
* * *
وقوله : ( وهدى ورحمة لقوم يؤمنون ) ، يقول تعالى ذكره : وهو بيان أمره ،
__________
(1) قوله : " أشبه " ليست في المخطوطة ، لأنها مضطربة هنا ، وهي زيادة حكمية .
(2) زدت " من " بين القوسين ليستقيم الكلام ، وليست في المطبوعة ولا المخطوطة .
(3) انظر تفسير " الافتراء " فيما سلف من فهارس اللغة ( فرى ) .
(4) انظر تفسير " التفصيل " فيما سلف من فهرس اللغة ( فصل ) .

(16/314)


ورشاده لمن جهل سبيل الحق فعمي عنه ، (1) إذا اتبعه فاهتدى به من ضلالته " ورحمة " لمن آمن به وعمل بما فيه ، ينقذه من سخط الله وأليم عذابه ، ويورِّثه في الآخرة جنانه ، والخلودَ في النعيم المقيم ( لقوم يؤمنون ) ، يقول : لقوم يصدِّقون بالقرآن وبما فيه من وعد الله ووعيده ، وأمره ونهيه ، فيعملون بما فيه من أمره ، وينتهون عما فيه من نهيه .
* * *
آخر تفسير سورة يوسف
صلَّى الله عليه وسلم (2)
__________
(1) في المطبوعة : " ورشاد من جهل ... " وفي المخطوطة : " ورشاده من جهل " ، فجعلتها " لمن جهل " ، وهو صواب إن شاء الله .
(2) في المخطوطة هنا ، بعد هذا ، ما نصه
" يتلوه : تفسير السورة التي يذكر فيها الرعد
وصلي الله على محمد وآله وسلم كثيرًا " .

(16/315)


* * *

(16/316)


تفسير سورة الرعد

(16/317)


المر تِلْكَ آَيَاتُ الْكِتَابِ وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ (1)

(أول تفسير السورة التي يذكر فيها الرعد)
(بسم الله الرحمن الرحيم)
(ربِّ يسِّر)
القول في تأويل قوله تعالى : { المر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَالَّذِي أُنزلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ (1) }
قال أبو جعفر : قد بينا القول في تأويل قوله(الر)
و(المر) ، ونظائرهما من حروف المعجم التي افتتح بها أوائل بعض سور القرآن ، فيما مضى ، بما فيه الكفاية من إعادتها (1) غير أنا نذكر من الرواية ما جاء خاصًّا به كل سورة افتتح أولها بشيء منها.
فما جاء من الرواية في ذلك في هذه السورة عن ابن عباس من نقل أبي الضحى مسلم بن صبيح وسعيد بن جبير عنه ، التفريقُ بين معنى ما ابتدئ به أولها ، مع زيادة الميم التي فيها على سائر السور ذوات( الر ) (2) ومعنى ما ابتدئ به أخواتها (3) مع نقصان ذلك منها عنها.
ذكر الرواية بذلك عنه :
__________
(1) انظر ما سلف 1 : 205 - 224 / 6 : 149 / 12 : 293 ، 294 / 15 : 9 ، 225 ، 549 .
(2) في المطبوعة والمخطوطة : " على سائر سور ذوات الراء " ، والصواب ما أثبت .
(3) السياق : " ... التفريق بين معنى ما ابتدئ به أولها ... ومعنى ما ابتدئ به أخواتها " .

(16/318)


20044 - حدثنا ابن المثنى قال : حدثنا عبد الرحمن ، عن هشيم ، عن عطاء بن السائب ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : (المر) قال : أنا الله أرى .
20045 - حدثنا أحمد بن إسحاق قال : حدثنا أبو أحمد قال : حدثنا شريك ، عن عطاء بن السائب ، عن أبي الضحى ، عن ابن عباس : قوله : (المر) قال : أنا الله أرى .
20046 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو نعيم الفضل بن دكين قال : حدثنا سفيان ، عن مجاهد : (المر) : فواتح يفتتح بها كلامه .
* * *
وقوله : (تلك آيات الكتاب) يقول تعالى ذكره : تلك التي قصصت عليك خبرَها ، آيات الكتاب الذي أنزلته قبل هذا الكتاب الذي أنزلته إليك إلى من أنزلته إليه من رسلي قبلك .
* * *
وقيل : عنى بذلك : التوراة والإنجيل .
*ذكر من قال ذلك :
20047 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : (المر تلك آيات الكتاب) الكتُب التي كانت قبل القرآن .
20048 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو نعيم قال : حدثنا سفيان ، عن مجاهد : (تلك آيات الكتاب) قال : التوراة والإنجيل .
* * *
وقوله : (والذي أنزل إليك من ربك الحق ) [القرآن] ، (1) فاعمل بما فيه واعتصم به.
__________
(1) الزيادة بين القوسين واجبة ، يدل على وجوبها ما بعدها من الآثار .

(16/320)


وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
*ذكر من قال ذلك :
20049 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو نعيم الفضل بن دكين قال : حدثنا سفيان ، عن مجاهد : (والذي أنزل إليك من ربك الحق) قال : القرآن .
20050 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : (والذي أنزل إليك من ربك الحق) : أي : هذا القرآن .
* * *
وفي قوله : (والذي أنزل إليك) وجهان من الإعراب :
أحدهما : الرفع ، على أنه كلام مبتدأ ، فيكون مرفوعا بـ " الحق " و " الحق به " . وعلى هذا الوجه تأويل مجاهد وقتادة الذي ذكرنا قبل عنهما .
* * *
والآخر : الخفض على العطف به على(الكتاب) ، فيكون معنى الكلام حينئذ : تلك آياتُ التوراة والإنجيل والقرآن. ثم يبتدئ(الحق) بمعنى : ذلك الحق فيكون رفعه بمضمر من الكلام قد استغنى بدلالة الظاهر عليه منه .
* * *
ولو قيل : معنى ذلك : تلك آيات الكتاب الذي أنزل إليك من ربك الحق وإنما أدخلت الواو في " والذي " ، وهو نعت للكتاب ، كما أدخلها الشاعر في قوله :
إلَى المَلِكِ القَرْمِ وَابْنِ الهُمَامِ... وَلَيْثَ الكَتِيبَةِ فِي المُزْدَحَمْ (1)
فعطف بـ " الواو " ، وذلك كله من صفة واحد ، كان مذهبًا من التأويل. (2)
__________
(1) مضى البيت وتخريجه وشرحه فيما سلف 3 : 352 ، 353 ، وقوله : " ليث " ، منصوب على المدح ، كما بينه الطبري هناك .
(2) السياق : " ولو قيل : معنى ذلك ... كان مذهبًا من التأويل " .

(16/321)


اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآَيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ (2)

ولكن ذلك إذا تُؤُوِّل كذلك فالصواب من القراءة في(الحق) الخفض ، على أنه نعت لـ(الذي).
* * *
وقوله : (ولكن أكثر الناس لا يؤمنون) ولكن أكثر الناس من مشركي قومك لا يصدقون بالحقّ الذي أنزل إليك من ربك ، (1) ولا يقرّون بهذا القرآن وما فيه من محكم آيه .
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الأمْرَ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ (2) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : الله ، يا محمد ، هو الذي رفع السموات السبع بغير عَمَد ترونها ، فجعلها للأرض سقْفًا مسموكًا .
* * *
و " العَمَد " جمع " عمود " ، وهي السَّواري ، وما يعمد به البناء ، كما قال النابغة :
وَخَيِّسِ الجِنَّ إنِّي قَدْ أذِنْتُ لَهُمْ... يَبْنُون تَدْمُرَ بِالصُّفَّاحِ وَالعَمَدِ (2)
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة ، أسقط لفظ الآية ، فأثبتها .
(2) ديوانه : 29 ، ومجاز القرآن 1 : 320 ، وشمس العلوم لنشوان الحميري : 37 ، وغيرها كثير ، من قصيدته المشهورة التي اعتذر فيها للنعمان ، لما قذفوه بأمر المتجردة ، يقول قبله : ولاَ أَرَى فَاعلاً فِي النَّاسِ يُشْبِهُهُ ... ولاَ أُحَاشِي مِنَ الأقْوامِ مِنْ أَحَدِ
إلاَّ سُلَيْمَانَ إذْ قَالَ الإلهُ لَهُ ... قُمْ فِي البَرِيَّةِ فَاحْدُدْهَا عن الفَنَدِ
وقوله : " وخيس الجن " ، أي : ذللها ورضها . و " الصفاح " ، حجارة رقاق عراض صلاب .
و " تدمر " مدينة بالشام . قال نشوان الحميري في شمس العلوم : " مدينة الشأم مبنية بعظام الصخر ، فيها بناء عجيب ، سميت بتدمر الملكة العمليقية بنت حسان بن أذينة ، لأنها أول من بناها . ثم سكنها سليمان بن داود عليه السلام بعد ذلك . فبنت له فيها الجن بناء عظيمًا ، فنسبت اليهود والعرب بناءها إلى الجن ، لما استعظموه " .
وهذا نص جيد من أخبارهم وقصصهم في الجاهلية .

(16/322)


وجمع " العمود : " " عَمَد ، " كما جمع الأديم : " أدَم " ، ولو جمع بالضم فقيل : " عُمُد " جاز ، كما يجمع " الرسول " " رسل " ، و " الشَّكور " " شكر " .
* * *
واختلف أهل التأويل في تأويل قوله : (رفع السموات بغير عمد ترونها) .
فقال بعضهم : تأويل ذلك : الله الذي رفع السموات بعَمَدٍ لا ترونها .
*ذكر من قال ذلك :
20051 - حدثنا أحمد بن هشام قال : حدثنا معاذ بن معاذ قال : حدثنا عمران بن حدير ، عن عكرمة قال : قلت لابن عباس : إن فلانًا يقول : إنها على عمد يعنى السماء ؟ قال : فقال : اقرأها(بغير عمَدٍ ترونها) : أي لا ترونها .
20052 - حدثنا الحسن بن محمد بن الصباح قال : حدثنا معاذ بن معاذ ، عن عمران بن حدير ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، مثله .
20053 - حدثنا الحسن بن محمد قال : ثنا عفان قال : حدثنا حماد قال : حدثنا حميد ، عن الحسن بن مسلم ، عن مجاهد في قوله : (بغير عمد ترونها) ، قال : بعمد لا ترونها .
20054 - حدثني المثنى قال : حدثنا الحجاج قال : حدثنا حماد ، عن حميد ، عن الحسن بن مسلم ، عن مجاهد ، في قول الله : (بغير عمد ترونها) قال : هي لا ترونها (1) .
__________
(1) الأثران : 20053 ، 20054 - " الحسن بن مسلم بن يناق المكي " ، ثقة ، وله أحاديث مترجم في التهذيب ، والكبير 1 / 2 / 304 ، وابن أبي حاتم 1 / 2 / 36 .

(16/323)


20055 - حدثنا الحسن بن محمد قال : حدثنا شبابة قال : حدثنا ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد(بغير عمد) يقول : عمد [لا ترونها] . (1)
20056 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو حذيفة قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
20057 - ...... قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا عبد الرزاق ، عن معمر ، عن الحسن وقتادة قوله : (الله الذي رفع السموات بغير عمد ترونها) قال قتادة : قال ابن عباس : بعَمَدٍ ولكن لا ترونها .
20058 - حدثنا أحمد بن إسحاق قال : حدثنا أبو أحمد قال : حدثنا شريك ، عن سماك ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، قوله : (رفع السموات بغير عمد ترونها) قال : ما يدريك ؟ لعلها بعمد لا ترونها.
* * *
ومن تأوَّل ذلك كذلك ، قصد مذهب تقديم العرب الجحدَ من آخر الكلام إلى أوله ، كقول الشاعر (2)
وَلا أرَاهَا تَزَالُ ظَالِمَةً... تُحْدِثُ لِي نَكْبَةً وتَنْكَؤُهَا (3)
يريد : أراها لا تزال ظالمة ، فقدم الجحد عن موضعه من " تزال " ، وكما قال الآخر : (4)
__________
(1) ما بين القوسين زيادة لا بد منها ، وليست في المخطوطة .
(2) هو ابن هرمة .
(3) شرح شواهد المغني 277 ، 279 من تسعة أبيات ، ومعاني القرآن للفراء في تفسير الآية ، والأضداد لابن الأنباري : 234 .
وقد زعموا أنه قيل لابن هرمة : إن قريشًا لا تهمز ، فقال : لأقولن قصيدة أهمزها كلها بلسان قريش ، وأولها : إنَّ سُلَيْمي والله يكْلَؤهَا ... ضَنَّتْ بِشَيء مَا كَان يَرْزَؤُها
وعَوَّدَتْنِي فِيما تُعَوِّدُني ... أَظْمَاءُ وِرْدٍ ما كُنْتُ أجزَؤُهَا
ولا أرَاهَا تَزَال ظَالِمةً ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
(4) لم أعرف قائله .

(16/324)


إذَا أَعْجَبَتْكَ الدَّهْرَ حَالٌ مِنَ امْرِئٍ... فَدَعْهُ وَوَاكِلْ حَالَهُ وَاللَّيَاليَا (1) يَجِئْنَ عَلَى مَا كَانَ مِنْ صَالحٍ بِهِ... وَإنْ كَانَ فِيما لا يَرَى النَّاسُ آلِيَا
يعني : وإن كان فيما يرى الناس لا يألو .
* * *
وقال آخرون ، بل هي مرفوعة بغير عمد .
*ذكر من قال ذلك :
20059 - حدثنا محمد بن خلف العسقلاني قال : أخبرنا آدم قال : حدثنا حماد بن سلمة ، عن إياس بن معاوية ، في قوله : (رفع السموات بغير عمد ترونها) قال : السماء مقبّبة على الأرض مثل القبة . (2)
20060 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : (بغير عمد ترونها) قال : رفعها بغير عمد .
* * *
قال أبو جعفر : وأولى الأقوال في ذلك بالصحة أن يقال كما قال الله تعالى : (الله الذي رفع السموات بغير عمد ترونها) فهي مرفوعة بغير عمد نَراها ، كما قال ربنا جل ثناؤه . ولا خبر بغير ذلك ، ولا حجة يجب التسليم لها بقول سواه . (3)
* * *
وأما قوله : (ثم استوى على العرش) فإنه يعني : علا عليه .
* * *
وقد بينا معنى الاستواء واختلاف المختلفين فيه ، والصحيح من القول فيما قالوا فيه ، بشواهده فيما مضى ، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع . (4)
* * *
__________
(1) معاني القرآن للفراء في تفسير الآية ، والأضداد لابن الأنباري : 234 ، وقوله : " واكل حاله " ، أي : دع أمره لليالي . من " وكل إليه الأمر " ، أي : صرف أمره إليه . وقوله : " يجئن على ما كان من صالح به " ، أي يقضين على صالح أمره ويذهبنه . و " الآلي " ، المقصر .
(2) الأثر : 20059 - " إياس بن معاوية بن قرة المزني " ، " أبو واثلة " قاضي البصرة ، ثقة ، وكان فقيهًا عفيفًا ، وكان عاقلا فطنًا من الرجال ، يضرب به المثل في الحلم والدهاء . مترجم في التهذيب ، والكبير 1 / 1 / 442 ، وابن أبي حاتم 1 / 1 / 282 ، وابن سعد 7 / 2 / 4 ، 5 .
(3) أي احتياط وفقه وعقل وورع ، كان أبو جعفر يستعمل في تفسيره ! .
(4) انظر تفسير " الاستواء " فيما سلف 1 : 428 - 431 / 12 : 482 ، 483 / 15 : 18 .
وتفسير " العرش " فيما سلف 15 : 245 ، تعليق : 1 ، والمراجع هناك .

(16/325)


وقوله : (وسخر الشمس والقمر) يقول : وأجرى الشمس والقمر في السماء ، فسخرهما فيها لمصالح خلقه ، وذلَّلَهما لمنافعهم ، ليعلموا بجريهما فيها عدد السنين والحساب ، ويفصلوا به بين الليل والنهار .
* * *
وقوله : (كل يجري لأجل مسمَّى) يقول جل ثناؤه : كل ذلك يجري في السماء(لأجل مسمى) : أي : لوقت معلوم ، (1) وذلك إلى فناء الدنيا وقيام القيامة التي عندها تكوَّر الشمس ، ويُخْسف القمر ، وتنكدر النجوم.
وحذف ذلك من الكلام ، لفهم السامعين من أهل لسان من نزل بلسانه القرآن معناه ، وأن(كلّ) " لا بدَّ لها من إضافة إلى ما تحيط به . (2)
* * *
وبنحو الذي قلنا في قوله : (لأجل مسمى) قال أهل التأويل .
*ذكر من قال ذلك :
20061 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو حذيفة قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : (وسخر الشمس والقمر كل يجري لأجل مسمّى) قال : الدنيا . (3)
* * *
وقوله : (يدبِّر الأمر) يقول تعالى ذكره : يقضي الله الذي رفع السموات بغير عمد ترونها أمورَ الدنيا والآخرة كلها ، ويدبِّر ذلك كله وحده ، بغير شريك ولا ظهير ولا معين سُبْحانه . (4)
* * *
__________
(1) انظر تفسير " الأجل المسمى " فيما سلف 6 : 43 / 11 : 256 - 259 ، 407 .
(2) انظر تفسير " كل " وأحكامها فيما سلف 15 : 540 ، تعليق : 1 ، والمراجع هناك . وانظر ما قاله أبو عبيدة في مجاز القرآن 1 : 321 .
(3) قوله " الدنيا " ، كأنه يعني : فناء الدنيا ، فاقتصر على ذكر " الدنيا " ، لأنه معلوم بضرورة الدين أنها فانية ، وإنما الخلود في الآخرة .
(4) انظر تفسير " التدبير " فيما سلف 15 : 18 ، 19 ، 84 .

(16/326)


وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
*ذكر من قال ذلك :
20062 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو حذيفة قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد(يدبر الأمر) يقضيه وحده .
20063 - ......... قال حدثنا إسحاق قال : حدثنا عبد الله ، عن ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، بنحوه .
20064 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، بنحوه .
* * *
وقوله : (يفصل الآيات) يقول : يفصل لكم ربُّكم آيات كتابه ، فيبينها لكم (1) احتجاجًا بها عليكم ، أيها الناس (لعلكم بلقاء ربكم توقنون) يقول : لتوقنوا بلقاء الله ، والمعاد إليه ، فتصدقوا بوعده ووعيده ، (2) وتنزجروا عن عبادة الآلهة والأوثان ، وتخلصوا له العبادة إذا أيقنتم ذلك . (3)
* * *
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
*ذكر من قال ذلك :
20065 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : (لعلكم بلقاء ربكم توقنون) ، وإن الله تبارك وتعالى إنما أنزل كتابه وأرسل رسله ، لنؤمن بوعده ، ونستيقن بلقائه .
* * *
__________
(1) انظر تفسير " تفصيل الآيات " فيما سلف 15 : 227 ، تعليق : 2 ، والمراجع هناك .
(2) انظر تفسير " الإيقان " فيما سلف 10 : 394 / 11 : 475 .
(3) في المطبوعة : " تيقنتم " ، وأثبت ما في المخطوطة ، وهو لب الصواب .

(16/327)


وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (3)

القول في تأويل قوله تعالى : { وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الأرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (3) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : والله الذي مَدَّ الأرض ، فبسطها طولا وعرضًا .
* * *
وقوله : (وجعل فيها رواسي) يقول جل ثناؤه : وجعل في الأرض جبالا ثابتة.
* * *
و " الرواسي : " جمع " راسية " ، وهي الثابتة ، يقال منه : " أرسيت الوتد في الأرض " : إذا أثبته ، (1) كما قال الشاعر : (2)
بهِ خَالِدَاتٌ مَا يَرِمْنَ وهَامِدٌ... وَأشْعَثُ أرْسَتْهُ الوَلِيدَةُ بِالفِهْرِ (3)
يعني : أثبتته .
* * *
وقوله : (وأنهارًا) يقول : وجعل في الأرض أنهارًا من ماء .
* * *
وقوله : (ومن كل الثمرات جعل فيها زوجين اثنين فـ(من) في
__________
(1) انظر تفسير " الإرساء " فيما سلف 13 : 293 .
(2) هو الأحوص .
(3) مجاز القرآن لأبي عبيدة 1 : 321 ، واللسان ( رسا ) ، وروايته " سوى خالدات " و " ترسيه الوليدة " . و " الخالدات " ، و " الخوالد " صخور الأثافي ، سميت بذلك لطول بقائها بعد دروس أطلال الديار . : ما يرمن " ، ما يبرحن مكانهن ، من " رام المكان يريمه " ، إذا فارقه . و " الهامد " الرماد المتلبد بعضه على بعض . و " الأشعث " ، الوتد ، لأنه يدق رأسه فيتشعث ويتفرق ، و " الوليدة " : الجارية ، و " الفهر " حجر ملء الكف ، يدق به .

(16/328)


قوله(ومن كل الثمرات جعل فيها زوجين اثنين) من صلة(جعل) الثاني لا الأول .
* * *
ومعنى الكلام : وجعل فيها زوجين اثنين من كل الثمرات . وعنى بـ(زوجين اثنين) : من كل ذكر اثنان ، ومن كل أنثى اثنان ، فذلك أربعة ، من الذكور اثنان ، ومن الإناث اثنتان في قول بعضهم .
* * *
وقد بينا فيما مضى أن العرب تسمي الاثنين : (زوجين) ، والواحد من الذكور " زوجًا " لأنثاه ، وكذلك الأنثى الواحدة " زوجًا " و " زوجة " لذكرها ، بما أغمى عن إعادته في هذا الموضع . (1)
ويزيد ذلك إيضاحًا قول الله عز وجل : ( وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأنْثَى ) [سورة النجم : 45] فسمى الاثنين الذكر والأنثى(زوجين) .
وإنما عنى بقوله : (زوجين اثنين) ، (2) نوعين وضربين .
* * *
وقوله : (يغشى الليل النهار) ، يقول : يجلِّل الليلُ النهارَ فيلبسه ظلمته ، والنهارُ الليلَ بضيائه ، (3) كما : -
20066 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : (يغشي الليل النهار) أي : يلبس الليل النهار .
* * *
وقوله : (إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون) ، يقول تعالى ذكره :
__________
(1) انظر تفسير " الزوج " فيما سلف 1 : 397 ، 514 / 7 : 515 / 12 : 184 / 15 : 322 - 324 .
(2) في المخطوطة والمطبوعة : " من كل زوجين اثنين " ، وهم الناسخ ، فزاد في الكلام ما ليس منه هنا ، وإنما ذلك من قوله تعالى في آية أخرى . فحذفت " من كل " ، ليبقى نص الآية التي يفسرها هنا .
(3) انظر تفسير " الإغشاء " فيما سلف 12 : 483 / 15 : 75 .

(16/329)


وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (4)

إن فيما وصفت وذكرت من عجائب خلق الله وعظيم قدرته التي خلق بها هذه الأشياء ، لَدلالات وحججًا وعظات ، لقوم يتفكرون فيها ، فيستدلون ويعتبرون بها ، فيعلمون أن العبادة لا تصلح ولا تجوز إلا لمن خلقها ودبَّرها دون غيره من الآلهة والأصنام التي لا تقدر على ضر ولا نفع ولا لشيء غيرها ، إلا لمن أنشأ ذلك فأحدثه من غير شيء تبارك وتعالى وأن القدرة التي أبدع بها ذلك ، هي القدرة التي لا يتعذَّر عليه إحياء من هلك من خلقه ، وإعادة ما فني منه وابتداع ما شاء ابتداعَه بها . (1)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { وَفِي الأرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الأكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (4) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره(وفي الأرض قطع متجاورات) ، وفي الأرض قطع منها متقاربات متدانيات ، يقرب بعضها من بعض بالجوار ، وتختلف بالتفاضل مع تجاورها وقرب بعضها من بعض ، فمنها قِطْعة سَبَخَةٌ لا تنبت شيئًا في جوار قطعة طيبة تنبت وتنفع .
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
*ذكر من قال ذلك :
__________
(1) السياق : " وهي القدرة التي لا يتعذر عليه ... بها " .

(16/330)


20067 - حدثنا أبو كريب قال : حدثنا وكيع ، عن سفيان ، عن ليث ، عن مجاهد : (وفي الأرض قطع متجاورات) قال : السَّبَخة والعَذِيَة ، (1) والمالح والطيب .
20068 - حدثنا أحمد بن إسحاق قال : حدثنا أبو أحمد قال : حدثنا سفيان ، عن ليث ، عن مجاهد ، قوله : (وفي الأرض قطع متجاورات) قال : سِبَاخٌ وعَذَويّة .
20069 - حدثني المثنى قال : ثنا أبو نعيم قال : حدثنا سفيان ، عن ليث ، عن مجاهد ، مثله .
20070 - حدثنا الحسن بن محمد قال : حدثنا سعيد بن سليمان قال : حدثنا إسحاق بن سليمان ، عن أبي سنان ، عن ابن عباس في قوله : (وفي الأرض قطع متجاورات) قال : العَذِيَة والسَّبخة .
20071 - حدثني محمد بن سعد قال : حدثني أبي قال : حدثني عمي قال : حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : (وفي الأرض قطع متجاورات) يعني : الأرض السبخة ، والأرض العذية ، يكونان جميعًا متجاورات ، يُفضِّل بعضها على بعض في الأكُل . (2)
20072 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج قال : قال ابن عباس : (قطع متجاورات) العذية والسبخة ،
__________
(1) " السبخة " ( بفتح السين والباء ، وبفتح السين وكسر الباء ) : هي الأرض المالحة ، ذات الملح والنز ، ولا تكاد تنبت إلا بعض الشجر . و " العذية " ( بفتح العين وسكون الذال ، وفتح الياء بغير تشديد ) ، و " العذاة " أيضًا : وهي الأرض التربة ، الكريمة المنبت ، التي ليست بسبخة ، ولا تكون ذات وخامة ولا وباء .
(2) في المخطوطة والمطبوعة ، ذكر بعد هذا الخبر التالي رقم : 20072 ، مبتور الآخر ، ثم عاد فروى هذا الخبر ( رقم : 20071 ) بنصه وإسناده ، ثم اتبعه الخبر رقم : 20072 ، فحذفت ما بين ذلك ، لأنه تكرار لا شك فيه ، وسهو من ناسخ الكتاب .

(16/331)


متجاورات جميعًا ، تنبت هذه ، وهذه إلى جنبها لا تُنْبِت .
20073 - حدثنا الحسن بن محمد قال : حدثنا شبابة قال : حدثنا ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : (قطع متجاورات) طيِّبها : عذبُها ، وخبيثها : السَّباخ .
20074 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو حذيفة قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، بنحوه .
20075 - ...... قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا عبد الله ، عن ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
20076 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : (وفي الأرض قطع متجاورات) قُرًى قَرُبت متجاورات بعضها من بعض .
20077 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : (وفي الأرض قطع متجاورات) قال : قُرًى متجاورات .
20078 - حدثني المثنى قال : حدثنا عمرو قال : حدثنا هشيم ، عن أبي إسحاق الكوفي ، عن الضحاك ، في قوله : (قطع متجاورات) قال : الأرض السبخة ، (1) تليها الأرض العَذِية . (2)
20079 - حدثت عن الحسين بن الفرج قال : سمعت أبا معاذ يقول ، حدثنا عبيد بن سليمان قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : (وفي الأرض قطع
__________
(1) في المطبوعة : " الأرض السبخة بينها الأرض العذية " ، لم يحسن قراءة المخطوطة ، لأنها غير منقوطة .
(2) الأثر : 20078 - " أبو إسحاق الكوفي " ، " عبد الله بن ميسرة الحارثي " ، كنيته " أبو ليلى " ، وكناه هشيم : " أبا إسحاق " تارة و " أبا عبد الجليل " تارة أخرى ، كأنه يدلس بكنيته وهو ضعيف ، مضى برقم : 6920 ، 9250 ، 13489 .

(16/332)


متجاورات) يعني الأرض السَّبِخة والأرض العَذِيَة ، متجاورات بعضها عند بعض .
20080 - حدثنا الحارث قال : حدثنا عبد العزيز قال : حدثنا إسرائيل ، عن عطاء بن السائب ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، في قوله : (وفي الأرض قطع متجاورات) قال : الأرض تنبت حُلوًا ، والأرض تنبت حامضًا ، وهي متجاورة تسقى بماءٍ واحد.
20081 - حدثنا أحمد بن إسحاق قال : حدثنا أبو أحمد قال : حدثنا إسرائيل ، عن عطاء بن السائب ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : (وفي الأرض قطع متجاورات) قال : يكون هذا حلوًا وهذا حامضًا ، وهو يسقى بماء واحد ، وهن متجاورات .
20082 - حدثني عبد الجبار بن يحيى الرملي قال : حدثنا ضمرة بن ربيعة ، عن ابن شوذب في قوله : (وفي الأرض قطع متجاورات) قال : عَذِيَة ومالحة . (1)
* * *
وقوله : (وجنات من أعناب وزرع ونخيل صِنْوان وغير صنوان يسقى بماء واحدٍ ونفضّل بعضها على بعض في الأكُل) يقول تعالى ذكره : وفي الأرض مع القطع المختلفات المعاني منها ، بالملوحة والعذوبة ، والخبث والطيب ، (2) مع تجاورها وتقارب بعضها من بعض ، بساتين من أعناب وزرع ونخيلٍ أيضًا ، متقاربةٌ في الخلقة مختلفة في الطعوم والألوان ، مع اجتماع جميعها على شرب واحد. فمن طيّبٍ طعمُه منها حسنٍ منظره طيبةٍ رائحته ، ومن حامضٍ طعمه ولا رائحة له .
* * *
__________
(1) الأثر : 20082 - " عبد الجبار بن يحيى الرملي " ، شيخ الطبري ، لم نجد له بعد ترجمة . ومضى برقم : 7425 ، 7446 .
(2) في المطبوعة : " والخبيث " ، والصواب ما في المخطوطة .

(16/333)


وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
*ذكر من قال ذلك :
20083 - حدثنا ابن حميد قال : ثنا جرير ، عن عطاء بن السائب ، عن سعيد بن جبير ، في قوله : (وجنات من أعناب وزرع ونخيل صنوان وغير صنوان) قال : مجتمع وغير مجتمع " تسقى بماء واحد ونفضل بعضها على بعض في الأكل " ، قال : الأرض الواحدة يكون فيها الخوخ والكمثرى والعنب الأبيض والأسود ، وبعضها أكثر حملا من بعض ، وبعضه حلو ، وبعضه حامض ، وبعضه أفضل من بعض .
20084 - حدثنا الحسن بن محمد قال : حدثنا شبابة ، عن ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : (وجنات) قال : وما معها .
20085 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو حذيفة قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد
20086 - قال المثنى ، وحدثنا إسحاق قال : حدثنا عبد الله ، عن ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
* * *
واختلفت القرأة في قراءة قوله : (وزرع ونخيل) فقرأ ذلك عامة قراء أهل المدينة والكوفة : (وَزَرْعٍ وَنَخِيلٍ) بالخفض عطفًا بذلك على " الأعناب " ، بمعنى : وفي الأرض قطعٌ متجاوراتٌ ، وجناتٌ من أعناب ومن زرع ونخيل .
وقرأ ذلك بعض قرأة أهل البصرة : (وَزَرْعٌ ونَخِيلٌ) بالرفع عطفًا بذلك على " الجنات " ، بمعنى : وفي الأرض قطعٌ متجاوراتٌ وجناتٌ من أعناب ، وفيها أيضًا زرعٌ ونخيلٌ .
* * *

(16/334)


قال أبو جعفر : والصواب من القول في ذلك أن يقال : إنهما قراءتان متقاربتا المعنى ، وقرأ بكل واحدةٍ منهما قرأة مشهورون ، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب.
وذلك أن " الزرع والنخيل " إذا كانا في البساتين فهما في الأرض ، وإذا كانا في الأرض فالأرض التي هما فيها جنة ، فسواءٌ وُصِفَا بأنهما في بستانٍ أو في أرضٍ .
* * *
وأما قوله : (ونخيل صنوان وغير صنوان) .
فإن " الصنوان : " جمع " صنو " ، وهي النخلات يجمعهن أصل واحد ، لا يفرَّق فيه بين جميعه واثنيه إلا بالإعراب في النون ، وذلك أن تكون نونه في اثنيه مكسورةً بكل حال ، وفي جميعه متصرِّفة في وجوه الإعراب ، ونظيره " القِنْوان " : واحدها " قِنْوٌ " .
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
*ذكر من قال ذلك :
20087 - حدثنا أبو كريب قال : حدثنا وكيع ، عن سفيان ، عن أبي إسحاق ، عن البراء : (صنوان) قال : المجتمع(وغير صنوان) : المتفرِّق .
20088 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا يحيى بن واضح قال : حدثنا الحسين ، عن أبي إسحاق ، عن البراء قال : (صنوان) : هي النخلة التي إلى جنبها نخلاتٌ إلى أصلها ، (وغير صنوان) : النخلة وحدَها .
20089 - حدثنا محمد بن بشار قال : حدثنا أبو عاصم قال : حدثنا سفيان ، عن أبي إسحاق ، عن البراء بن عازب : (صنوان وغير صنوان) قال : " الصنوان " : النخلتان أصلهما واحد ، (وغير صنوان) النخلة والنخلتان المتفرّقتان .
20090 - حدثنا محمد بن المثنى قال : حدثنا محمد بن جعفر قال : حدثنا

(16/335)


شعبة ، عن أبي إسحاق قال : سمعت البراء يقول في هذه الآية قال : النخلة تكون لها النخلات(وغير صنوان) النخل المتفرّق .
20091 - حدثنا الحسن بن محمد قال : حدثنا عمرو بن الهيثم أبو قطن ، ويحيى بن عباد وعفان ، واللفظ لفظ أبي قطن قال ، حدثنا شعبة ، عن أبي إسحاق ، عن البراء ، في قوله : (صنوان وغير صنوان) قال : " الصنوان " : النخلة إلى جنبها النخلات(وغير صنوان) : المتفرق . (1)
20092 - حدثنا الحسن قال : حدثنا شبابة قال : حدثنا إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن البراء في قوله : (صنوان وغير صنوان) قال : " الصنوان " ، النخلات الثلاث والأربع والثنتان أصلهن واحد(وغير صنوان) ، المتفرّق .
20093 - حدثنا أحمد بن إسحاق قال : حدثنا أبو أحمد قال : حدثنا سفيان وشريك ، عن أبي إسحاق ، عن البراء في قوله : (صنوان وغير صنوان) قال : النخلتان يكون أصلهما واحد(وغير صنوان) : المتفرّق .
20094 - حدثني المثنى قال : حدثنا عبد الله بن صالح قال : حدثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس ، قوله : (صنوان) يقول : مجتمع .
20095 - حدثني محمد بن سعد قال : حدثني أبي قال : حدثني عمي قال : حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : (ونخيل صنوان وغير صنوان) يعني بالصنوان : النخلة يخرج من أصلها النخلات ، فيحمل بعضه ولا يحمل بعضه ، فيكون أصله واحدا ورءوسه متفرقة .
20096 - حدثني الحارث قال : حدثنا عبد العزيز قال : حدثنا إسرائيل ،
__________
(1) الأثر : 20091 - " عمرو بن الهيثم بن قطن الزبيدي " ، " أبو قطن " ، ثقة ، من أصحاب شعبة ، مضى برقم : 18674 .
و " يحيى بن عباد الضبعي " ، مضى برقم : 20010 .
و " عفان " هو " عفان بن مسلم الصفار " ، ثقة روى له الجماعة ، مضى برقم : 5392 ، 16369 .

(16/336)


عن عطاء بن السائب ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، في قوله : (صنوان وغير صنوان) النخيل في أصل واحد وغير صنوان : النخيل المتفرّق .
20097 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا جرير ، عن عطاء ، عن سعيد بن جبير : (ونخيل صنوان وغير صنوان) قال : مجتمع ، وغير مجتمع .
20098 - حدثني المثنى قال : حدثنا النفيلي قال : حدثنا زهير قال : حدثنا أبو إسحاق ، عن البراء قال : " الصنوان " : ما كان أصله واحدًا وهو متفرق(وغير صنوان) : الذي نبت وحدَه . (1)
20099 - حدثنا الحسن بن محمد قال : حدثنا شبابة قال : حدثنا ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله : (صنوان) النخلتان وأكثر في أصل واحد (وغير صنوان) وحدَها .
20100 - حدثنا المثنى قال : حدثنا أبو حذيفة قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : (صنوان) : النخلتان أو أكثر في أصل واحد ، (وغير صنوان) واحدة .
20101 - ...... قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا عبد الله ، عن ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
20102 - حدثنا أبو كريب قال : حدثنا وكيع ، عن سلمة بن نبيط ، عن الضحاك : (صنوان وغير صنوان) قال : الصنوان : المجتمع أصله واحد ، وغير صنوان : المتفرق أصله .
20103 - حدثني المثنى قال : حدثنا عمرو بن عون قال : أخبرنا هشيم
__________
(1) الأثر : 20098 - " النفيلي " ، هو " عبد الله بن محمد بن علي بن نفيل " ، " أبو جعفر " ثقة حافظ ، مضى برقم : 9253 ، 9254 .
و " زهير " ، هو " زهير بن معاوية الجعفي " ، ثقة روى له الجماعة ، مضى مرارًا آخرها رقم 17513 .

(16/337)


، عن جويبر ، عن الضحاك ، في قوله : (صنوان وغير صنوان) قال : " الصنوان " : المجتمع الذي أصله واحد(وغير صنوان) : المتفرّق .
20104 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : (ونخيل صنوان وغير صنوان) أما " الصنوان " : فالنخلتان والثلاث أصولُهن واحدة وفروعهن شتى ، (وغير صنوان) ، النخلة الواحدة .
20105 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : (صنوان وغير صنوان) قال : صنوان : النخلة التي يكون في أصلها نخلتان وثلاث أصلهنّ واحدٌ .
20106 - حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد في قوله : (ونخيل صنوان وغير صنوان) قال : " الصنوان " : النخلتان أو الثلاث يكنَّ في أصل واحد ، فذلك يعدُّه الناس صنوانًا . (1)
20107 - حدثنا ابن عبد الأعلى قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر قال : حدثني رجل : أنه كان بين عمر بن الخطاب وبين العباس قول ، فأسرع إليه العباس ، (2) فجاء عمر إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال : يا رسول الله ، ألم تر عباسًا فعل بي وفعل! فأردت أن أجيبه ، فذكرتُ مكانه منك فكففت : فقال : يرحمك الله ، إنّ عمّ الرجل صِنْوُ أبيه . (3)
__________
(1) الأثر : 20106 - في المخطوطة : " حدثنا يوسف " ، مكان : يونس " ، وصححه في المطبوعة . وهو إسناد دائر في التفسير .
(2) " أسرع إليه " ، عجل إليه بالشر وبادره ، مثله " تسرع إليه " ، ومن هذا المجاز قال المرار الفقعسي : إذا شِئتَ يوْمًا أنْ تسودَ عَشِيرَةً ... فَبِالحِلْمِ سُدْ ، لاَ بِالتَّسَرُّعِ والشَّتْمِ
(3) الأثر : 20107 - هذا خبر ضعيف ، لجهالة الرجل الذي روى عن عمر ، وسيأتي الخبر من طرق بعد كلها مرسل .
وقوله : " عم الرجل صنو أبيه " ، هذا الحديث رواه مسلم في صحيحه ( 7 : 56 ، 57 ) ، من حديث أبي الزناد ، عن الأعرج ، عن أبي هريرة ، ومن هذه الطريق نفسها رواه أحمد في مسنده 2 : 322 ، 323 ، ورواه الترمذي في باب مناقب العباس مختصرًا وقال : " هذا حديث حسن غريب لا نعرفه من حديث أبي الزناد إلا من هذا الوجه " .
وروى أحمد في مسند علي رضي الله عنه من حديث الأعمش ، عن عمرو بن مرة ، عن أبي البختري ، عن علي ، وهو حديث طويل ، وإسناده ضعيف انقطاعه ، فأحاديث أبي البحتري عن علي مرسلة .
وانظر التعليق على الأخبار التالية .

(16/338)


20108 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة : ((صنوان)) : النخلة التي يكون في أصلها نخلتان وثلاث أصلهن واحد ; قال : فكان بين عمر بن الخطاب وبين العباس رضي الله عنهما قولٌ ، فأسرع إليه العباس ، فجاء عمر إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا نبي الله ألم تر عباسًا فعل بي وفعل! فأردت أن أجيبه. فذكرتُ مكانه منك فكففت عند ذلك ، فقال : يرحمك الله إن عم الرجل صِنْو أبيه (1) .
20109 - ............... قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا ابن عيينة ، عن داود بن شابور ، عن مجاهد : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : لا تؤذوني في العباس فإنه بقية آبائي ، وإنّ عمّ الرجل صنو أبيه .
20110 - حدثني يعقوب قال : حدثنا هشيم قال : أخبرنا حجاج ، عن عطاء ، وابن أبي مليكة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعمر : يا عمر أما علمت أن عم الرجل صِنْوُ أبيه ؟. (2)
20111 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج قال : أخبرني القاسم بن أبي بزة ، عن مجاهد : (صنوان) قال : في أصل واحد ثلاث نخلات ، كمثل ثلاثةٍ بني أم وأب يتفاضلون في العمل ، كما
__________
(1) الأثر : 20108 - هذا خبر مرسل ، رواه ابن سعد في الطبقات 4 / 1 / 17 ، من طريق محمد بن حميد ، عن معمر .
ورواه ابن سعد من طرق أخرى ( 4 / 1 / 17 ) وانظر التعليق على الخبر السالف .
(2) الأثران 20109 ، 20110 - خبران مرسلان ، وانظر التعليق السالف .

(16/339)


يتفاضل ثمر هذه النخلات الثلاث في أصل واحد قال ابن جريج : قال مجاهد : كمثل صالح بنى آدم وخبيثهم ، أبوهم واحد .
20112 - حدثنا الحسن بن محمد قال : حدثنا حجاج بن محمد ، عن ابن جريج قال : أخبرني إبراهيم بن أبي بكر بن عبد الله ، عن مجاهد ، نحوه . (1)
20113 - حدثني القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج ، عن أبي بكر بن عبد الله ، عن الحسن قال : هذا مثل ضربه الله لقلوب بني آدم.
كانت الأرض في يد الرحمن طينةً واحدة ، فسطحها وبَطَحها ، فصارت الأرض قطعًا متجاورة ، فينزل عليها الماء من السماء ، فتخرج هذه زهرتها وثمرها وشجرها. وتخرج نباتها وتحيي مواتها ، وتخرج هذه سبَخَها وملحها وخَبَثَها ، وكلتاهما تسقى بماء واحد.
فلو كان الماء مالحا ، قيل : إنما استسبخت هذه من قبل الماء! كذلك الناس خلقوا من آدم ، فتنزل عليهم من السماء تذكرة ، فترقّ قلوب فتخشع وتخضع ، وتقسو قلوب فتلهو وتسهو وتجفو .
قال الحسن : والله من جالس القرآن أحدٌ إلا قام من عنده بزيادة أو نقصان قال الله : ( وَنُنزلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلا خَسَارًا ) [سورة الإسراء : 82]. (2)
* * *
وقوله : (تسقى بماء واحد) اختلفت القرأء في قوله(تسقى).
فقرأ ذلك عامة قراء أهل المدينة والعراق من أهل الكوفة والبصرة : (تُسْقَى) " بالتاء ، بمعنى : تسقى الجناتُ والزرع والنخيل . وقد كان بعضهم يقول : إنما قيل : (تسقى) ،
__________
(1) الأثر : 20112 - " إبراهيم بن أبي بكر بن عبد الله الأخنسي " ، لم أجد ذكر جده إلا في هذا الخبر ، وقد سلف لي كلام في تحقيق اسمه ، في الخبرين 10758 ، 10759 ، والمراجع هناك .
(2) الأثر : 20113 - : حجاج " فيما أرجح ، " حجاج بن أرطأة " .
و " أبو بكر بن عبد الله " ، هو فيما أرجح " أبو بكر بن عبد الله بن أبي الجهم العدوي " ، ولم يذكروا روايته عن " الحسن " ، وهو خليق أن يروى عنه ، مضى برقم : 10334 ، 10335 .
وقوله : " استسبخت " ، مما ينبغي أن يزاد على مشتقات " السبخة " في كتب اللغة .

(16/340)


بالتاء لتأنيث " الأعناب " .
* * *
وقرأ ذلك بعض المكيين والكوفيين : (يُسْقَى) بالياء .
* * *
وقد اختلف أهل العربية في وجه تذكيره إذا قرئ كذلك ، وإنما ذلك خبرٌ عن الجنات والأعناب والنخيل والزرع أنها تسقى بماء واحد.
فقال بعض نحويي البصرة : إذا قرئ ذلك بالتاء ، فذلك على " الأعناب " كما ذكّر الأنعام (1) في قوله : (مِمَّا فِي بُطُونِهِ) [سورة النحل : 66] وأنث بعدُ فقال : ( وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ ) ، [سورة المؤمنون : 22/ سورة غافر : 80].
فمن قال : (يسقى) بالياء جعل " الأعناب " مما تذكّر وتؤنث ، مثل " الأنعام " .
* * *
وقال بعض نحويي الكوفة : من قال و(تسقى) ذهب إلى تأنيث " الزرع والجنات والنخيل " ، ومن ذكَّر ذهب إلى أن ذلك كله يُسْقَى بماء واحد ، وأكلُه مختلفٌ حامض وحلو ، ففي هذا آية . (2)
* * *
قال أبو جعفر : وأعجب القراءتين إليّ أن أقرأ بها ، قراءة من قرأ ذلك بالتاء : ( تُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ) على أن معناه : تسقى الجنات والنخل والزرع بماء واحد ، لمجيء(تسقى) بعد ما قد جرى ذكرها ، وهي جِمَاعٌ من غير بني آدم ، وليس الوجه الآخر بممتنع على معنى يسقى ذلك بماء واحد : أي جميع ذلك يسقى بماءٍ واحدٍ عذب دون المالح .
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
*ذكر من قال ذلك :
__________
(1) في المخطوطة والمطبوعة : " كما ذكروا " ، والصواب ما أثبت .
(2) هذه مقالة الفراء في معاني القرآن ، في تفسير الآية .

(16/341)


20114 - حدثنا الحسن بن محمد قال : حدثنا شبابة قال : حدثنا ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله : (تسقى بماء واحد) ماء السماء ، كمثل صالح بني آدم وخبيثهم أبوهم واحدٌ .
20115 - حدثنا أبو كريب قال : حدثنا وكيع ، عن سفيان ، عن ليث ، عن مجاهد : (تسقى بماء واحد) قال : ماء السماء .
20116 - حدثنا أحمد بن إسحاق قال : حدثنا أبو أحمد قال : حدثنا سفيان ، عن ليث ، عن مجاهد ، مثله .
20117 - حدثني المثنى قال : حدثنا عمرو قال : أخبرنا هشيم ، عن أبي إسحاق الكوفي ، عن الضحاك : (تسقى بماء واحد) قال : ماء المطر . (1)
20118 - حدثني المثنى قال : حدثنا سويد قال : أخبرنا ابن المبارك ، قرأه ابن جريج ، عن مجاهد : (تسقى بماء واحد) قال : ماء السماء ، كمثل صالح بني آدم وخبيثهم أبوهم واحدٌ .
20119...... قال : حدثنا أبو حذيفة قال : حدثنا شبل وحدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا عبد الله ، عن ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، بنحوه .
20120 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، نحوه .
20121 - حدثنا عبد الجبار بن يحيى الرملي قال : حدثنا ضمرة بن ربيعة ، عن ابن شوذب : (تسقى بماء واحد) قال : بماء السماء . (2)
* * *
__________
(1) الأثر : 20117 - " أبو إسحاق الكوفي " ، ضعيف واهي الحديث ، سلف برقم : 20078 ، وكان في المطبوعة والمخطوطة هنا " أبو إسحاق الصوفي " ، وهو خطأ محض .
(2) الأثر : 20121 - " عبد الجبار بن يحيى الرملي " ، انظر ما سلف قريبًا رقم : 20082 .

(16/342)


وقوله : (ونفضّل بعضها على بعض في الأكل) (1) اختلفت القرأة في قراءة ذلك.
فقرأه عامة قرأة المكيين والمدنيين والبصريين وبعض الكوفيين : (وَنُفَضِّلُ) ، بالنون بمعنى : ونفضّل نحن بعضها على بعض في الأكل .
* * *
وقرأته عامة قرأة الكوفيين : (وَيُفَضِّلُ) بالياء ، ردا على قوله : (يغشي الليل النهار) ويفضل بعضها على بعض .
* * *
قال أبو جعفر : وهما قراءتان مستفيضتان بمعنى واحد ، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب. غير أن " الياء " أعجبهما إليّ في القراءة ؛ لأنه في سياق كلام ابتداؤه(الله الذي رفع السموات) ، فقراءته بالياء ، إذ كان كذلك أولى .
* * *
ومعنى الكلام : إن الجنات من الأعناب والزرع والنخيل الصنوان وغير الصنوان ، تسقى بماء واحد عذب لا ملح ، ويخالف الله بين طعوم ذلك ، فيفضّل بعضها على بعض في الطعم ، فهذا حلو وهذا حامضٌ .
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
*ذكر من قال ذلك :
20122 - حدثنا أبو كريب قال : حدثنا وكيع ، عن سفيان ، عن عطاء ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : (ونفضل بعضها على بعض في الأكل) قال : الفارسيّ والدَّقَل ، (2) والحلو والحامض .
__________
(1) انظر تفسير " الأكل " فيما سلف 5 : 538 / 12 : 157 .
(2) " الفارسي " ، من التمر ، لم أجد من ذكره ، وأنا أرجح أن يكون عنى به { البرني } وهو ضرب من التمر أصفر مدور ، عذب الحلاوة ، وهو أجوده . وقالوا إن لفظ " البرني " فارسي معرب ويرجع ذلك عندي أن الرواية ستأتي عن سعيد بن جبير أيضًا أنه قال : " برني " ، رقم : 20124 .
و " الدقل " أردأ أنواع التمر .
وسيأتي ذكر " الفارسي " في الخبرين التاليين : 20126 ، 20127 .

(16/343)


20123 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا جرير ، عن عطاء بن السائب ، عن سعيد بن جبير : (ونفضل بعضها على بعض في الأكل) قال : الأرض الواحدة يكون فيها الخوخ والكمثرى والعنب الأبيض والأسود ، وبعضها أكثر حملا من بعض ، وبعضه حلو وبعضه حامض ، وبعضه أفضل من بعض .
20124 - حدثني المثنى قال : حدثنا عارم أبو النعمان قال : حدثنا حماد بن زيد ، عن عطاء بن السائب ، عن سعيد بن جبير : (ونفضل بعضها على بعض في الأكل) قال : بَرْنيّ وكذا وكذا ، وهذا بعضه أفضل من بعض .
20125 - حدثنا محمد بن بشار قال : حدثنا مؤمل قال : حدثنا سفيان ، عن عطاء بن السائب ، عن سعيد بن جبير ، في قوله : (ونفضل بعضها على بعض في الأكل) قال : هذا حامض ، وهذا حلو ، وهذا مُزٌّ .
20126 - حدثني محمود بن خداش قال : حدثنا سيف بن محمد بن أخت سفيان الثوري قال : حدثنا الأعمش عن أبي صالح ، عن أبي هريرة قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم في قوله : (ونفضل بعضها على بعض في الأكل) قال : الدَّقَل والفارسيّ والحلو والحامض. (1)
__________
(1) الأثر : 20126 - " محمود بن خداش الطالقاني " ، شيخ الطبري ، ثقة صدوق ، مضى برقم : 178 ، 18487 .
و " سيف بن محمد الثوري " ، " ابن أخت سفيان الثوري " ، لم يرو له من أصحاب الكتب الستة غير الترمذي ، قال البخاري في تاريخه : " ضعفه أحمد " ، وروى عبد الله بن أحمد بن حنبل عن أبيه ، أنه قال : " كذاب " ، وقال يحيى بن معين : " كان شيخًا ههنا كذابًا خبيثًا " ، وقال أحمد أيضًا : " لا يكتب حديثه ، ليس بشيء ، كان يضع الحديث " . وقال النسائي : " ضعيف متروك وليس بثقة " ، مترجم في التهذيب والكبير 2 / 2 / 173 ، وابن أبي حاتم 2 / 1 / 277 ، وميزان الاعتدال 1 : 438 .
وهذا الخبر رواه الترمذي ، عن محمود بن خداش أيضًا ، بهذا الإسناد واللفظ في تفسير الآية ، ثم قال : " هذا حديث حسن غريب ، وقد رواه زيد بن أبي أنيسه ( وهو الإسناد التالي ) عن الأعمش ، نحو هذا . وسيف بن محمد هو أخو عمار بن محمد ، وعمار أثبت منه ، وهو ابن أخت سفيان الثوري " .
فالعجب للترمذي كيف يحسن إسنادًا فيه هذا الكذاب " سيف بن محمد " . وانظر تخريج الأثر التالي .
وكان في المطبوعة : " حدثنا سيف بن محمد بن أحمد ، عن سفيان الثوري " ، أساء ناشرها لأنه لم يدرس الإسناد ، وغير ما في المخطوطة ، وكان فيها : " حدثنا سيف بن محمد بن أحمد سفيان الثوري " ، وفي الهامش علامة الشك والتوقف ، وصوابه ما أثبت .
انظر تفسير " الفارسي " فيما سلف ص : 343 ، تعليق : 2 .

(16/344)


20127 - حدثنا أحمد بن الحسن الترمذي قال : حدثنا سليمان بن عبد الله الرقي قال : حدثنا عبيد الله بن عمر الرقي ، عن زيد بن أبي أنيسة ، عن الأعمش ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، في قوله : (ونفضل بعضها على بعض في الأكل) قال : الدَّقل والفارسيّ والحلو والحامض. (1)
* * *
وقوله : (إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون) يقول تعالى ذكره : إن في مخالفة الله عز وجل بين هذا القطع [من] الأرض المتجاورات وثمار جناتها وزروعها على ما وصفنا وبينَّا ، (2) لدليلا واضحًا وعبرة لقوم يعقلون اختلاف ذلك ، أن الذي خالف بينه على هذا النحو الذي خالف بينه ، هو المخالف بين خلقه فيما قسم لهم من هداية وضلال وتوفيق وخذلان ، فوفّق هذا وخذل هذا ، وهدى ذا وأضل ذا ،
__________
(1) الأثر : 20127 - " أحمد بن الحسن الترمذي " ، شيخ الطبري ، كان أحد أوعية الحديث ، ثقة ، مضى مرارًا ، آخرها رقم : 19876 .
و " سليمان بن عبيد الله الأنصاري الرقي " ، " أبو أيوب الحطاب " ، قال ابن أبي حاتم : صدوق ، وذكره ابن حبان في الثقات ، وقال النسائي : " ليس بالقوى ، وقال ابن معين : " ليس بشيء " ، ولم يذكر فيه البخاري جرحا ، مترجم في التهذيب والكبير 2 / 2 / 26 ، وابن أبي حاتم 2 / 1 / 127 ، وميزان الاعتدال 1 : 418 .
و " عبيد الله بن عمرو الرقي " ، ثقة ، روى له الجماعة ، مضى مرارًا ، آخرها رقم : 16945 .
و " زيد بن أبي أنيسة الجزري " ، ثقة ، روى له الجماعة ، مضى مرارًا آخرها رقم : 16945 .
وهذا الخبر أشار إليه الترمذي ، كما أسلفت في التعليق السابق ، وذكره الذهبي في ميزان الاعتدال 1 : 418 ، في ترجمة " سليمان بن عبيد الله " ، بهذا الإسناد تامًا ، ثم قال : " قال العقيلي ، لم يأت به غير سليمان ، وإنما يعرف بسيف بن محمد عن الأعمش . قلت : وسيف هالك " .
فهذا إسناد كما ترى ، فيه من الهلاك ، وانفراد الضعيف به ما فيه ، فكيف جاز للترمذي أن يحسنه مع هذه القوادح التي تقدح فيه من نواحيه . ( وانظر علل الحديث لابن أبي حاتم 2 : 80 ، رقم : 1723 ( .
انظر تفسير " الفارسي فيما سلف ص : 343 ، تعليق : 2 .
(2) في المخطوطة والمطبوعة : " هذه القطع الأرض " ، فالزيادة واجبة .

(16/345)


وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَئِذَا كُنَّا تُرَابًا أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (5)

ولو شاء لسوَّى بين جميعهم ، كما لو شاء سوَّى بين جميع أكل ثمار الجنة التي تشرب شربًا واحدًا ، وتسقى سقيًا [واحدًا] ، (1) وهي متفاضلة في الأكل .
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَئِذَا كُنَّا تُرَابًا أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ الأغْلالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (5) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : (وإن تعجب) يا محمد ، من هؤلاء المشركين المتَّخذين ما لا يضرُّ ولا ينفع آلهةً يعبدونها من دوني فعجب قولهم(أئذا كنا ترابا) وبَلِينا فعُدِمنا(أئنا لفي خلق جديد) إنا لمجدَّدٌ إنشاؤنا وإعادتنا خلقًا جديدًا كما كنا قبل وفاتنا!! تكذيبًا منهم بقدرة الله ، وجحودًا للثواب والعقاب والبعث بعد الممات ، كما : -
20128 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : (وإن تعجب فعجب) إن عجبت يا محمد ، (فعجب قولهم أئذا كنا ترابا أئنا لفي خلق جديد) ، عجب الرحمن تبارك وتعالى من تكذيبهم بالبعث بعد الموت .
20129 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد في قوله : (وإن تعجب فعجب قولهم) قال : إن تعجب من تكذيبهم ، وهم قد رأوا من قدرة الله وأمره وما ضرب لهم من الأمثال ، فأراهم من حياة الموتى في الأرض الميتة ، إن تعجب من هذه فتعجَّب من قولهم : (أئذا كنا ترابًا أئنا لفي خلق جديد) ،
__________
(1) ما بين القوسين زيادة واجبة هنا أيضًا .

(16/346)


أو لا يرون أنا خلقناهم من نطفة ؟ فالخلق من نطفة أشدُّ أم الخلق من ترابٍ وعظام ؟ (1) .
* * *
واختَلَف في وَجْه تكرير الاستفهام في قوله : (أئنا لفي خلق جديد) ، بعد الاستفهام الأول في قوله : (أئذا كنا ترابا) ، أهلُ العربية. (2)
فقال بعض نحويي البصرة : الأوّل ظرف ، والآخر هو الذي وقع عليه الاستفهام ، كما تقول : أيوم الجمعة زيدٌ منطلق ؟ قال : ومن أوقع استفهامًا آخر على قوله : (أَئِذَا كُنَّا تُرَابًا) ، (3) جعله ظرفًا لشيء مذكور قبله ، كأنهم قيل لهم : " تبعثون " ، فقالوا : (أَئِذَا كُنَّا تُرَابًا) ؟ ثم جعل هذا استفهامًا آخر . قال : وهذا بعيدٌ . قال : وإن شئت لم تجعل في قولك : (أئذا) استفهامًا ، وجعلت الاستفهام في اللفظ على(أئنا) ، كأنك قلت : أيوم الجمعة أعبد الله منطلق ؟ وأضمرت نفيه. (4) فهذا موضعُ ما ابتدأت فيه بـ(أئذا) ، (5) وليس بكثير في الكلام لو قلت : " اليوم إنّ عبد الله منطلق " ، (6) لم يحسن ، وهو جائز ، وقد قالت العرب : " ما علمت إنَّه لصالح ، تريد : إنه لصالح ما علمت . (7)
* * *
__________
(1) الأثر : 20129 - في المطبوعة وحدها مكان " ابن وهب " : " إبراهيم " ، لا أدري من أين جاء بهذا ؟ وهو إسناد دائر في التفسير .
(2) " أهل العربية " ، فاعل قوله آنفًا : " واختلف ... " .
(3) في المطبوعة والمخطوطة : " أئذا متنا وكنا ترابًا " ، وأثبت نص الآية التي في هذه السورة .
(4) في المطبوعة والمخطوطة : " وأضمر نفيه " ، والأجود ما أثبت . ويعني بقوله : " نفيه " أي إلغاءه وإسقاطه .
(5) في المطبوعة : " قد ابتدأت فيه أئذا " ، وفي المخطوطة : " قد ابتدأت فيه بأئذا " ، ولكنه خلط كتابة " بأئذا " ، ورأيت أن الصواب أن تكون مكان " قد " " ما " . وفي المخطوطة والمطبوعة بعد هذا " بكبير في الكلام " ، وهذا أجود .
(6) في المطبوعة وحدها : " اليوم أإن " بهمزة الاستفهام ، زاد ما ليس في المخطوطة وأساء غاية الإساءة .
(7) أشار أبو جعفر فيما سلف 7 : 260 ، إلى أنه سيأتي على الصواب من القول في ترك إعادة الاستفهام ثانية ، وأن الاستفهام في أول الكلام دال على موضعه ومكانه . وهذا هو الموضع الذي أشار إليه ، فيما أرجح ، فراجع ما سلف 7 : 259 ، 260 . * * *
حاشية مهمة : كلام أبي جعفر في هذا الموضع يحتاج إلى بيان ، فإنه قد أغمض القول فيه إغماضًا مخلًا ، حتى ألجأ ناشر النسخة الأولى أن يصحح ما صحح ، ويغير ما غير ، لغموض ما كتب أبو جعفر ههنا ، ولذلك فارقت ما لزمته قبل ، من ترك التعليق على ما في التفسير من أبواب النحو . وأنا أخشى أن يكون سقط من الكلام شيء .
وكلام أبي جعفر في هذه الفقرة ، أراد به بيان تكرير الاستفهام ، كما ذكر في ترجمة اختلاف أهل العربية ، ولكنه أضمر الكلام إضمارًا هذا بيانه وشرحه .
1 - قوله : " فقال بعض نحويي البصرة : الأولى ظرف . والآخر هو الذي وقع عليه الاستفهام ، كما تقول : أيوم الجمعة زيد منطلق " .
يريد أن " إذا " ظرف ، يتعلق بمحذوف بعده يدل عليه قوله : " أننا لفي خلق جديد " ، وهو " البعث " ، كأنه قال " أئذا كنا ترابًا ، نبعث " ؟ فالظرف " إذا " متعلق بمحذوف هو " نبعث " ، والمعنى : أنبعث إذا كنا ترابًا . فهذا كما تقول : أيوم الجمعة زيد منطلق ؟ ومعناه : أزيد منطلق يوم الجمعة ؟ فالاستفهام واقع في الأول على " نبعث " ، وفي المثال الآخر على : " زيد منطلق " ، وهذا تأويل نحويي البصرة ، كما جاء في كتب التفسير .
2 - ثم قال بعده : " ومن أوقع استفهامًا آخر على قوله : " أئذا كنا ترابًا " ، جعله ظرفًا لمذكور قبله ، كأنهم قيل لهم : تبعثون ؟ فقالوا : " أئذا كنا ترابًا " ، ثم جعل هذا استفهامًا آخر . قال : وهذا بعيد " .
يريد أن " إذا " ، الظرف ، متعلق بمحذوف قبله ، وهو الذي قيل لهم : " تبعثون " ، فقالوا : أئذا كنا ترابًا ؟ فالاستفهام واقع هنا على " إذا " ، أي على الظرف . وهذا مستبعد ، لأنه أتى بمحذوف قبل الظرف لا دليل عليه في الكلام .
3 - ثم قال : " قال : وإن شئت لم تجعل في " أئذا " استفهامًا ، وجعلت الاستفهام في اللفظ على " أئنا " ، كأنك قلت : أيوم الجمعة أعبد الله منطلق ؟ وأضمرت نفيه . فهذا موضع ما ابتدأت فيه ب " أئذا " ، وليس بكثير في الكلام " .
يريد أن الاستفهام الأول فضلة وزيادة في " أئذا " ، وأنت تضمر نفيها ، فكررت الاستفهام ، كما كررته في قولك : أيوم الجمعة أعبد الله منطلق ؟ وهذا التكرار ليس بكثير في الكلام .
4 - ثم قال : " لو قلت : اليوم إن عبد الله منطلق ، لم يحسن ، وهو جائز . وقد قالت العرب : ما علمت إنه لصالح ، تريد : إنه لصالح ما علمت " .
يعني أن هذا الوجه الرابع غير حسن ، وإن كان جائزًا ، وذلك أنه يقتضي أن تكون " إذا " عندئذ ، ظرفاً متعلقاً بقوله : " لفي خلق جديد " ، أي بخبر " إن " ، وخبر " إن " لا يتقدم عليها ، فأولى أن يتقدم عليها معمول خبرها . ولذلك لم يحسن قولك : " اليوم إن عبد الله منطلق " ، لأن " اليوم " معمول " منطلق " وهو خبر " إن " ، فتقديمه على " إن " ، غير حسن ، وإن جاز . لأن " إن " لا يعمل ما بعدها فيما قبلها . واستدل على جوازه بقول العرب : ما علمت إنه لصالح ، و " ما " هنا ظرفية ، أي : " في علمي ، أو زمن علمي " ، فقدمت العرب " ما علمت " على " إن " وهي تعني " إنه صالح ما علمت " وهذا البيان الذي توسعت فيه ، لشرح مقالة أبي جعفر ، لم أجد أحدًا من أصحاب كتب التفسير ، أو أصحاب كتب إعراب القرآن ، تعرض له تعرض أبي جعفر في بيانه . وكلهم قد تخطى هذا وأوجزه ، ولم يشرحه شرح أبي جعفر . وأبو حيان ، وهو من هو في تتبع أقوال النحاة ، وفي تقصي مقالة الطبري في تفسيره ، أغفل هو أيضًا بيانه وتجاوزه . وذلك لغموض عبارة أبي جعفر في هذا الموضع . فأرجو أن أكون قد بلغت في بيانها مبلغًا مرضيًا إن شاء الله .

(16/347)


وقال غيره : (أئذا) جزاء وليست بوقت ، (1) وما بعدها جواب لها ، إذا لم يكن في الثاني استفهام ، والمعنى له ، لأنه هو المطلوب ، وقال : ألا ترى أنك تقول : " أإن تقم يقوم زيد ، ويقم ؟ " ، (2) من جزم فلأنه وقع موقع جواب الجزاء ، ومن رفع فلأن الاستفهام له ، واستشهد بقول الشاعر : (3)
حَلَفْتُ لَهُ إنْ تُدْلِجِ الليلَ لا يَزَلْ... أَمَامَكَ بَيْتٌ مِنْ بُيُوتِيَ سَائِرُ (4)
فجزم جواب اليمين لأنه وقع موقع جواب الجزاء ، والوجه الرفع . (5) قال : فهكذا هذه الآية . قال : ومن أدخل الاستفهام ثانية ، فلأنه المعتمد عليه ، وترك الجزء الأوّل .
* * *
وقوله : (أولئك الذين كفروا بربهم) يقول تعالى ذكره : هؤلاء الذين أنكروا البعث وجَحدُوا الثواب والعقاب ، وقالوا : ( أَئِذَا كُنَّا تُرَابًا أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ
__________
(1) " الجزاء " ، هو " الشرط " و " الوقت " ، هو " ظرف الزمان " .
(2) في المطبوعة والمخطوطة : " إن تقم يقوم ... " ، والصواب إثبات همزة الاستفهام ، كما يدل عليه الكلام .
(3) البيت للراعي .
(4) مضى البيت وتخريجه وشرحه فيما سلف 7 : 259 ، تعليق : 2 .
(5) يعني أن الاستفهام إذا دخل على شرط ، كان الاستفهام للجواب دون الشرط . وقد قال فيما سلف آنفًا 7 : 259 : " كل استفهام دخل على جزاء ، فمعناه أن يكون في جوابه ، لأن الجواب خبر يقوم بنفسه ، والجزاء شرط لذلك الخبر " . وكذلك اليمين إذا تقدم الشرط ، كان الجواب له دون الشرط . فهو يقول إن الاستفهام في " أئذا " ، و " إذا شرط ، واقع على جوابها ، هو " إنا لفي خلق جديد " ، هذا إذا خلت الآية من الاستفهام ، ولكنها لم تخل منه . فقال بعد ذلك : إنه إنما أدخل الاستفهام ثانية على الجواب ، بعد إدخاله على الشرط ، لأن الاستفهام للجواب ، فإدخاله على الجواب هو الأصل . فلما أدخله عليه ، فكأنه ألغى الاستفهام الأول الداخل على الشرط .

(16/348)


جَدِيدٍ ) هم الذين جحدوا قدرة ربِّهم وكذبوا رسوله ، وهم الذين في أعناقهم الأغلال يوم القيامة في نار جهنم ، (1) فأولئك(أصحاب النار) ، يقول : هم سكان النار يوم القيامة(هم فيها خالدون) يقول : هم فيها ماكثون أبدًا ، لا يموتون فيها ، ولا يخرجون منها .
* * *
__________
(1) انظر تفسير " الأغلال ، فيما سلف 13 : 168 ، ولم يبينها هنا ولا هناك بيانًا كافيًا كعادته .

(16/350)


وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلَاتُ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ (6)

القول في تأويل قوله تعالى : { وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلاتُ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ (6) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : (ويستعجلونك) يا محمد ، (1) مشركو قومك بالبلاء والعقوبة قبل الرخاء والعافية ، فيقولون : ( اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ) [سورة الأنفال : 32] وهم يعلمون ما حَلَّ بمن خلا قبلهم من الأمم التي عصت ربها وكذبت رسلها من عقوبات الله وعظيم بلائه ، (2) فمن بين أمة مسخت قردة وأخرى خنازير ، ومن بين أمّة أهلكت بالرَّجْفة ، وأخرى بالخسف ، وذلك هو(المثلات) التي قال الله جل ثناؤه .(وقد خلت من قبلهم المثلات) .
و(المثلات) ، العقوبات المنكِّلات ، والواحدة منها : " مَثُلة " بفتح الميم وضم الثاء ، ثم تجمع " مَثُلات " ، كما واحدة " الصَّدُقَات " " صَدُقَة " ، ثم تجمع " صَدُقَات " . (3) وذكر أن تميمًا من بين العرب تضم الميم والثاء جميعًا من " المُثُلات " ،
__________
(1) انظر تفسير " الاستعجال " فيما سلف 15 ، 33 ، 101 .
(2) انظر تفسير " خلا " فيما سلف 12 : 415 ، تعليق : 4 ، والمراجع هناك .
(3) الصدقة " ، مهر المرأة ، وقد مضى آنفًا في سورة النساء ، آية : 4 في 7 : 552 ، ولم يشرحها كل الشرح هناك .

(16/350)


فالواحدة على لغتهم منها : " مُثْلة " ، ثم تجمع " مُثُلات " ، مثل " غُرْفة " وغُرُفات ، والفعل منه : " مَثَلْت به أمْثُلُ مَثْلا " بفتح الميم وتسكين الثاء ، فإذا أردت أنك أقصصته من غيره ، قلت : " أمثلته من صاحبه أُمْثِلُه إمْثالا وذلك إذا أقصصته منه .
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
*ذكر من قال ذلك :
20130 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : (وقد خلت من قبلهم المثلات) ، وقائع الله في الأمم فيمن خلا قبلكم وقوله : (ويستعجلونك بالسيئة قبل الحسنة) ، وهم مشركو العرب استعجلوا بالشرّ قبل الخير ، وقالوا : ( اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ) ، [سورة الأنفال : 32].
20131 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : (ويستعجلونك بالسيئة قبل الحسنة) قال : بالعقوبة قبل العافية(وقد خلت من قبلهم المثلات) قال : العقوبات .
20132 - حدثنا الحسن بن محمد قال : حدثنا شبابة قال : حدثنا ورقاء ، عن ابن أبى نجيح ، عن مجاهد ، قوله : (المثلات) قال : الأمْثَال .
20133 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو حذيفة قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد
20134 - وحدثني المثنى : قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا عبد الله ، عن ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
20135 - حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد ، في

(16/351)


قوله : (وقد خلت من قبلهم المثلات) قال : (المثلات) ، الذي مَثَل الله به الأممَ من العذاب الذي عذَّبهم ، (1) تولَّت المثلات من العذاب ، قد خلت من قبلهم ، وعرفوا ذلك ، وانتهى إليهم ما مَثَلَ الله بهم حين عصَوه وعَصوا رُسُله .
20136 - حدثني الحارث قال : حدثنا عبد العزيز قال : حدثنا سليم قال : سمعت الشعبي يقول في قوله : (وقد خلت من قبلهم المثلاث) ، قال : القردة والخنازير هي المثلات .
* * *
وقوله : (وإن ربك لذو مغفرة للناس على ظلمهم) ، يقول تعالى ذكره : وإن ربك يا محمد لذو سترٍ على ذنوب من تاب من ذنوبه من الناس ، فتاركٌ فضيحته بها في موقف القيامة ، وصافحٌ له عن عقابه عليها عاجلا وآجلا(على ظلمهم) ، يقول : على فعلهم ما فعلوا من ذلك بغير إذني لهم بفعله (2) (وإن ربك لشديد العقاب) ، لمن هلك مُصِرًّا على معاصيه في القيامة ، إن لم يعجِّل له ذلك في الدنيا ، أو يجمعهما له في الدنيا والآخرة .
* * *
قال أبو جعفر : وهذا الكلام ، وإن كان ظاهره ظاهرَ خبرٍ ، فإنه وعيدٌ من الله وتهديدٌ للمشركين من قوم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، إن هم لم ينيبوا ويتوبوا من كفرهم قبل حُلول نقمة الله بهم .
* * *
20137 - حدثني علي بن داود قال : حدثنا عبد الله بن صالح قال : حدثني معاوية ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : (وإن ربك لذو مغفرة للناس) ، يقول : ولكنّ ربَّك .
* * *
__________
(1) في المطبوعة : " مثل الله في الأمم " ، وأثبت ما في المخطوطة ، وهو صواب .
(2) في المطبوعة : " بغير إذن " ، وأثبت ما في المخطوطة .

(16/352)


وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آَيَةٌ مِنْ رَبِّهِ إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ (7)

القول في تأويل قوله تعالى : { وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا أُنزلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ (7) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : (ويقول الذين كفروا) يا محمد ، من قومك(لولا أنزل عليه آية من ربه) هلا أنزل على محمد آية من ربه ؟ (1) يعنون علامةً وحجةً له على نبوّته (2) وذلك قولهم : ( لَوْلا أُنزلَ عَلَيْهِ كَنز أَوْ جَاءَ مَعَهُ مَلَكٌ ) [سورة هود : 12] يقول الله له : يا محمد(إنما أنت منذر) لهم ، تنذرهم بأسَ الله أن يحلّ بهم على شركهم (3) .(ولكل قوم هاد) . يقول ولكل قوم إمام يأتمُّون به وهادٍ يتقدمهم ، فيهديهم إما إلى خيرٍ وإما إلى شرٍّ .
* * *
وأصله من " هادي الفرس " ، وهو عنقه الذي يهدي سائر جسده . (4)
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل على اختلاف منهم في المعنيِّ بالهادي في هذا الموضع.
فقال بعضهم : هو رسول الله صلى الله عليه وسلم .
*ذكر من قال ذلك :
20138 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : (ويقول الذين كفروا لولا أنزل عليه آية من ربه) هذا قول مشركي العرب قال الله : (إنما أنت منذر ولكلّ قوم هاد) لكل قوم داعٍ يدعوهم إلى الله .
20139 - حدثنا أبو كريب قال : حدثنا وكيع. عن سفيان. عن السدي.
__________
(1) انظر تفسير " لولا " فيما سلف 15 : 205 ، تعليق (1) : والمراجع هناك ثم 15 : 210 .
(2) انظر تفسير الآية " فيما سلف من فهارس اللغة ( أبى ) .
(3) انظر تفسير " الإنذار " فيما سلف من فهارس اللغة نذر .
(4) انظر تفسير " الهادي " فيما سلف 2 : 293 .

(16/353)


عن عكرمة ومنصور ، عن أبي الضحى : (إنما أنت منذر ولكل قوم هاد) قالا محمد هو " المنذر " وهو " الهاد " .
20140 - حدثنا محمد بن بشار قال : حدثنا عبد الرحمن قال : حدثنا سفيان ، عن السدي ، عن عكرمة ، مثله .
20141 - حدثني الحارث قال : حدثنا عبد العزيز قال : حدثنا سفيان ، عن أبيه ، عن عكرمة ، مثله .
* * *
وقال آخرون : عنى بـ " الهادي " في هذا الموضع : الله .
*ذكر من قال ذلك :
20142 - حدثنا أبو كريب قال : حدثنا وكيع ، عن سفيان ، عن عطاء بن السائب ، عن سعيد بن جبير : (إنما أنت منذر ولكل قوم هاد) قال : محمد " المنذر " ، والله " الهادي " . (1)
20143 - حدثنا ابن بشار قال : حدثنا أبو عاصم قال : حدثنا سفيان ، عن عطاء بن السائب ، عن سعيد بن جبير : (وإنما أنت منذر ولكل قوم هاد) قال محمد " المنذر " ، والله " الهادي " .
20144 - حدثنا أبو كريب قال : حدثنا الأشجعي ، عن سفيان ، عن عطاء بن السائب ، عن سعيد بن جبير : (إنما أنت منذر) قال : أنت يا محمد منذر ، والله " الهادي " .
20145 - حدثني المثنى قال : حدثنا عمرو بن عون قال : أخبرنا هشيم ، عن عبد الملك ، عن قيس ، عن مجاهد في قوله : (إنما أنت منذر ولكل قوم هاد) ، قال : " المنذر " ، النبي صلى الله عليه وسلم(ولكل قوم هاد) قال : الله هادي كل قوم .
__________
(1) الأثر : 20142 - سقط آخر الخبر من المخطوطة ، وقف عند قوله : " هاد " ، وكأنه أتمه من الذي يليه .

(16/354)


20146 - حدثني محمد بن سعد قال : حدثني أبي قال : حدثني عمي قال : حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : (إنما أنت منذر ولكل قوم هاد) يقول : أنت يا محمد منذر ، وأنا هادي كل قوم .
20147 - حدثت عن الحسين قال : سمعت أبا معاذ يقول : حدثنا عبيد بن سليمان قال : سمعت الضحاك يقول : (إنما أنت منذر ولكل قوم هاد) ، " المنذر " : محمد صلى الله عليه وسلم ، و " الهادي " : الله عز وجل .
* * *
وقال آخرون : " الهادي " في هذا الموضع معناه نبيٌّ .
*ذكر من قال ذلك :
20148 - حدثنا محمد بن بشار قال : حدثنا أبو عاصم قال : حدثنا سفيان ، عن ليث ، عن مجاهد قال : " المنذر " محمد صلى الله عليه وسلم .(ولكل قوم هاد) قال : نبيٌّ .
20149 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا حكام ، عن عنبسة ، عن محمد بن عبد الرحمن ، عن القاسم بن أبي بزة ، عن مجاهدٍ في قوله : (إنما أنت منذر ولكل قوم هاد) قال : نبيٌّ .
20150 - ............ قال : حدثنا جرير ، عن ليث ، عن مجاهد ، عن عبد الملك ، عن قيس ، عن مجاهد ، مثله .
20151 - حدثنا الحسن بن محمد قال : حدثنا أسباط بن محمد ، عن عبد الملك ، عن قيس ، عن مجاهد ، في قوله : (إنما أنت منذر ولكل قوم هاد) ، قال : لكل قوم نبي ، والمنذر : محمد صلى الله عليه وسلم .
20152 - ......... قال : حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال : حدثني عبد الملك ، عن قيس ، عن مجاهد ، في قول الله : (ولعل قوم هاد) قال : نبيّ .
20153 - ......... قال : حدثنا شبابة قال : حدثنا ورقاء ، عن ابن

(16/355)


أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : (ولكل قوم هاد) يعني : لكل قوم نبيّ .
20154 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو حذيفة قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : (ولعل قوم هاد) قال : نبيّ .
20155 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : (ولكل قوم هاد) قال : نبيّ يدعوهم إلى الله .
20156 - حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد ، في قوله : (ولكل قوم هاد) قال : لكل قوم نبيّ. " الهادي " ، النبي صلى الله عليه وسلم ، و " المنذر " أيضًا النبي صلى الله عليه وسلم . وقرأ : ( وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلا خَلا فِيهَا نَذِيرٌ ) . ، [سورة فاطر : 24] ، وقال : ( نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الأولَى ) [سورة النجم : 56] قال : نبي من الأنبياء .
* * *
وقال آخرون ، بل عني به : ولكل قوم قائد .
*ذكر من قال ذلك :
20157 - حدثنا أبو كريب قال : حدثنا جابر بن نوح ، عن إسماعيل بن أبي خالد ، عن أبي صالح : (إنما أنت منذر ولكل قوم هاد) ، قال : إنما أنت ، يا محمد ، منذر ، ولكل قوم قادة .
20158 - ......... قال : حدثنا الأشجعي قال : حدثني إسماعيل أو : سفيان ، عن إسماعيل بن أبي خالد ، عن أبي صالح : (ولكل قوم هاد) قال : لكل قوم قادة .
20159 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا عبد الله بن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع ، عن أبي العالية : (إنما أنت منذر ولكل قوم هاد) قال : " الهادي " : القائد ، والقائد : الإمام ، والإمام : العمل .
20160 - حدثني الحسن قال : حدثنا محمد ، وهو ابن يزيد عن إسماعيل ،

(16/356)


عن يحيى بن رافع ، في قوله : (إنما أنت منذر ولكل قوم هاد) قال : قائد .
* * *
وقال آخرون : هو عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه .
*ذكر من قال ذلك :
20161 - حدثنا أحمد بن يحيى الصوفي قال : حدثنا الحسن بن الحسين الأنصاري قال : حدثنا معاذ بن مسلم ، بيّاع الهرويّ ، عن عطاء بن السائب ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : لما نزلت(إنما أنت منذر ولكل قوم هاد) ، وضع صلى الله عليه وسلم يده على صدره فقال : أنا المنذر(ولكل قوم هاد) ، وأومأ بيده إلى منكب عليّ ، فقال : أنت الهادي يا عليّ ، بك يهتدي المهتدون بَعْدي (1) .
* * *
وقال آخرون : معناه : لكل قوم داع .
*ذكر من قال ذلك :
20162 - حدثني المثنى قال : حدثنا عبد الله قال : حدثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس قوله : (ولكل قوم هاد) ، قال : داع .
* * *
__________
(1) الأثر : 20161 - " أحمد بن يحيى الصوفي " ، شيخ الطبري ، ثقة ، مضى برقم : 779 و " الحسن بن الحسين الأنصاري ، العرني " ، كأنه قيل له " العرني " ، لأنه كان يكون في مسجد " حبة العرني " . كان من رؤساء الشيعة ، ليس بصدوق ، ولا تقوم به حجة . وقال ابن حبان : " يأتي عن الأثبات بالملزقات ، ويروي المقلوبات والمناكير " . مترجم في ابن أبي حاتم 1 / 2 / 6 ، وميزان الاعتدال 1 : 225 ، ولسان الميزان 2 : 198 .
و " معاذ بن مسلم بياع الهروي " ، لم يذكر بهذه الصفة " بياع الهروي " في غير التفسير ، و " الهروي " ثياب إلى هراة . وجعلها في المطبوعة : " حدثنا الهروي " ، فأفسد الإسناد إفسادًا
و " معاذ بن مسلم " مجهول ، هكذا قال ابن أبي حاتم ، وهو مترجم في ابن أبي حاتم 4 / 1 / 248 ، وميزان الاعتدال 3 : 178 ، ولسان الميزان 6 : 55 .
وهذا خبر هالك من نواحيه ، وقد ذكره الذهبي وابن حجر في ترجمة " الحسن بن الحسين الأنصاري " قالا بعد أن ساقا الخبر بإسناده ولفظه ، ونسبته لابن جرير أيضًا : " معاذ نكرة ، فلعل الآفة منه " ، وأقول : بل الآفة من كليهما : الحسن بن الحسين ، ومعاذ بن مسلم .

(16/357)


اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ (8)

وقد بينت معنى " الهداية " ، وأنه الإمام المتبع الذي يقدُم القوم . (1) فإذ كان ذلك كذلك ، فجائز أن يكون ذلك هو الله الذي يهدي خلَقه ويتَّبع خلقُه هداه ويأتمون بأمره ونهيه.
وجائز أن يكون نَبِيَّ الله الذي تأتمُّ به أمته.
وجائز أن يكون إمامًا من الأئمة يُؤْتَمْ به ، ويتّبع منهاجَه وطريقته أصحابُه.
وجائزٌ أن يكون داعيًا من الدعاة إلى خيرٍ أو شرٍّ .
وإذ كان ذلك كذلك ، فلا قول أولى في ذلك بالصواب من أن يقال كما قال جل ثناؤه : إن محمدًا هو المنذر من أرسل إليه بالإنذار ، وإن لكل قوم هاديًا يهديهم فيتّبعونه ويأتمُّون به .
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الأرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ (8) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : (وإن تعجب فعجبٌ قولهم أئذا كنا ترابًا أئنا لفي خلق جديد) منكرين قدرة الله على إعادتهم خلقًا جديدًا بعد فنائهم وبلائهم ، ولا ينكرون قدرته على ابتدائهم وتصويرهم في الأرحام ، وتدبيرهم وتصريفهم فيها حالا بعد حال فابتدأ الخبر عن ذلك ابتداءً ، والمعنى فيه ما وصفت ، (2) فقال جل ثناؤه : (الله يعلم ما تحمل كل أنثى وما تغيض الأرحام وما تزداد) ، يقول : وما تنقص الأرحام من حملها في الأشهر التسعة بإرسالها دم الحيض
__________
(1) انظر ما سلف ص : 353 .
(2) في المطبوعة والمخطوطة : " ما وصف " ، والصواب ما أثبت .

(16/358)


(1) (وما تزداد) في حملها على الأشهر التسعة لتمام ما نقص من الحمل في الأشهر التسعة بإرسالها دم الحيض( وكل شي عنده بمقدار) لا يجاوز شيء من قَدَره عن تقديره ، ولا يقصر أمر أراده فَدَبَره عن تدبيره ، كما لا يزداد حمل أنثى على ما قُدِّرَ له من الحمل ، ولا يُقصِّر عما حُدّ له من القدر.
* * *
و " المقدار " ، مِفْعال من " القدر " .
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك :
20163 - حدثني يعقوب بن ماهان قال : حدثنا القاسم بن مالك ، عن داود بن أبي هند ، عن عكرمة ، عن ابن عباس في قوله : (يعلم ما تحمل كل أنثى وما تغيض الأرحام) ، قال : ما رأت المرأة من يوم دمًا على حملها زاد في الحمل يومًا . (2)
20164 - حدثني محمد بن سعد قال : حدثني أبي قال : حدثني عمي قال : حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : (الله يعلم ما تحمل كل أنثى وما تغيض الأرحام) ، يعني السِّقْط(وما تزداد) ، يقول : ما زادت الرحم في الحمل على ما غاضت حتى ولدته تمامًا. وذلك أن من النساء من تحمل عشرة أشهر ، ومنهن من تحمل تسعة أشهر ، ومنهن من تزيد في الحمل ، ومنهن من تنقص. فذلك الغيض والزيادة التي ذكر الله ، وكل ذلك بعلمه .
20165 - حدثنا سعيد بن يحيى الأموي قال : حدثنا عبد السلام قال : حدثنا خصيف ، عن مجاهد أو سعيد بن جبير في قول الله : (وما تغيض الأرحام) قال : غَيْضُها ، دون التسعة والزيادة فوق التسعة .
__________
(1) انظر تفسير " الغيض " فيما سلف 15 : 334 ، وما بعدها .
(2) الأثر : 20163 - " يعقوب بن ماهان البغدادي " ، ثقة ، مضى برقم : 4901 ، 10339 ، 19908 .
و " القاسم بن مالك المزني " ، ثقة من شيوخ أحمد ، مضى برقم : 10339 .

(16/359)


20166 - حدثني يعقوب قال : حدثنا هشيم قال : أخبرنا أبو بشر ، عن مجاهد ، أنه قال : " الغيض " ، ما رأت الحامل من الدم في حملها فهو نقصان من الولد ، و " الزيادة " ما زاد على التسعة أشهر ، فهو تمام للنقصان وهو زيادة .
20167 - حدثنا محمد بن المثنى قال : حدثنا عبد الصمد قال : حدثنا شعبة ، عن أبي بشر ، عن مجاهد ، في قوله : (وما تغيض الأرحام وما تزداد) قال : ما ترى من الدم ، وما تزداد على تسعة أشهر .
20168 - حدثنا محمد بن بشار قال : حدثنا محمد بن جعفر قال : حدثنا شعبة ، عن أبي بشر ، عن مجاهد ، أنه قال : (يعلم ما تغيض الأرحام وما تزداد) ، قال : ما زاد على التسعة الأشهر(وما تغيض الأرحام) ، قال : الدم تراه المرأة في حملها .
20169 - حدثني المثنى حدثنا عمرو بن عون ، والحجاج بن المنهال قالا حدثنا هشيم ، عن أبي بشر ، عن مجاهد ، في قوله : (وما تغيض الأرحام وما تزداد) قال : الغيض : الحامل ترى الدم في حملها فهو " الغيض " ، وهو نقصانٌ من الولد. وما زاد على تسعة أشهر فهو تمام لذلك النقصان ، وهي الزيادة .
20170 - حدثنا أحمد بن إسحاق قال : حدثنا أبو أحمد قال : حدثنا عبد السلام ، عن خصيف ، عن مجاهد : (وما تغيض الأرحام وما تزداد) قال : إذا رأت دون التسعة ، زاد على التسعة مثل أيام الحيض .
20171 - حدثنا أحمد قال : حدثنا أبو أحمد قال : حدثنا سفيان ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : (وما تغيض الأرحام) قال : خروج الدم(وما تزداد) قال : استمساك الدم .
20172 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو حذيفة قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : (وما تغيض الأرحام) إراقة المرأة حتى يخِسّ الولد(وما تزداد) قال : إن لم تُهْرِق المرأةُ تَمَّ الولد وعَظُم .

(16/360)


20173 - حدثنا الحسن بن محمد قال : حدثنا شبابة قال : حدثنا شعبة ، عن جعفر ، عن مجاهد ، في قوله : (وما تغيض الأرحام وما تزداد) قال : المرأة ترى الدم ، وتحمل أكثر من تسعة أشهر .
20174 - حدثنا الحسن قال : حدثنا محمد بن الصباح قال : حدثنا هشيم قال : أخبرنا أبو بشر ، عن سعيد بن جبير ، في قوله : (وما تغيض الأرحام) ، قال : هي المرأة ترى الدم في حملها .
20175 - ...... قال : حدثنا شبابة ، قال : حدثنا ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : (وما تغيض الأرحام وما تزداد) إهراقُ الدم حتى يخسّ الولد و " تزداد " إن لم تهرق المرأة تَمَّ الولد وعَظُم .
20176 - ...... قال : حدثنا الحكم بن موسى قال : حدثنا هقل ، عن عثمان بن الأسود قال : قلت لمجاهد : امرأتي رأت دمًا ، وأرجو أن تكون حاملا! قال أبو جعفر : هكذا هو في الكتاب (1) فقال مجاهد : ذاك غيضُ الأرحام : (يعلم ما تغيض الأرحام وما تزداد وكل شيء عنده بمقدار) ، الولد لا يزال يقع في النقصان ما رأت الدَّم ، فإذا انقطعَ الدم وقع في الزيادة ، فلا يزال حتى يتمّ ، فذلك قوله : (وما تغيض الأرحام وما تزداد وكل شيء عنده بمقدار) . (2)
__________
(1) موضع الإشكال الذي شكك فيه أبو جعفر أن عثمان بن الأسود قال : " امرأتي رأت الدم " ، وذلك يعني الطمث ، وهي إذا رأت الدم لم تكن حاملا . ثم قال : " وأرجو أن تكون حاملا " ، يوهم أنه من جل رؤية الدم ، رجا أن تكون حاملا . ولكني أخالف أبا جعفر ، وأجعل " أرجو " بمعنى التحقيق لا بمعنى الرجاء ، كأنه قال : " امرأتي رأت الدم وهي حامل " ، وهم يضعون " أرجو " بهذا المكان من التحقيق في كثير من كلامهم . هذا ، وبعض النساء ترى الدم وهي حامل في ميقات طمثها ، هكذا أخبرني النساء .
(2) الأثر : 20176 - " الحكم بن موسى بن أبي زهير البغدادي " ، ثقة ، روى عنه البخاري تعليقًا ومسلم . مترجم في التهذيب ، والكبير 1 / 2 / 342 ، وابن أبي حاتم 1 / 2 / 128
و " هقل " هو : " الهقل بن زياد بن عبد الله الدمشقي " ، كاتب الأوزاعي ، و " هقل " لقب ، قيل اسمه : " محمد " ، وقيل : " عبد الله " ، ثقة الثقات ، من أعلى أصحاب الأوزاعي . مترجم في التهذيب ، والكبير 4 / 2 / 248 ، وابن أبي حاتم 4 / 2 / 122 .
و " عثمان بن الأسود بن موسى المكي " ، ثقة ، روى له الجماعة ، مضى مرارًا .

(16/361)


20177 - ...... قال : حدثنا محمد بن الصباح قال : حدثنا هشيم قال : أخبرنا أبو بشر ، عن مجاهد ، في قوله : (وما تغيض الأرحام وما تزداد) ، قال : " الغيض " : الحامل ترى الدم في حملها ، وهو " الغيض " وهو نقصان من الولد. فما زادت على التسعة الأشهر فهي الزيادة ، وهو تمامٌ للولادة .
20178 - حدثنا ابن المثنى قال : حدثنا عبد الوهاب قال : حدثنا داود ، عن عكرمة في هذه الآية : (الله يعلم ما تحمل كل أنثى وما تغيض الأرحام) ، قال : كلما غاضت بالدم ، زاد ذلك في الحمل .
20179 - ...... قال : حدثنا عبد الأعلى قال : حدثنا داود ، عن عكرمة نحوه.
20180 - حدثنا أحمد بن إسحاق قال : حدثنا أبو أحمد قال : حدثنا عباد بن العوّام ، عن عاصم ، عن عكرمة : (وما تغيض الأرحام) قال : غيض الرحم : الدم على الحمل كلما غاض الرحم من الدم يومًا زاد في الحمل يومًا حتى تستكمل وهي طاهرةٌ .
20181 - ...... قال : حدثنا عباد ، عن سعيد ، عن يعلى بن مسلم ، عن سعيد بن جبير ، مثله .
20182 - حدثنا الحسن بن محمد قال : حدثنا الوليد بن صالح قال : حدثنا أبو يزيد ، عن عاصم ، عن عكرمة في هذه الآية : (وما تغيض الأرحام) ، قال : هو الحيض على الحمل(وما تزداد) قال : فلها بكل يوم حاضت على حملها يوم تزداده في طهرها حتى تستكمل تسعة أشهر طاهرًا .
20183 - ...... قال : حدثنا يزيد بن هارون قال : أخبرنا عمران بن حدير ، عن عكرمة في قوله : (وما تغيض الأرحام وما تزداد) قال : ما رأت الدم في حملها زاد في حملها .
20184 - حدثنا عبد الحميد بن بيان قال : أخبرنا إسحاق ، عن جويبر ،

(16/362)


عن الضحاك ، في قوله : (وما تغيض الأرحام وما تزداد) ما " تغيض " : أقل من تسعة وما تزداد : أكثر من تسعة .
20185 - حدثنا أحمد بن إسحاق قال : حدثنا أبو أحمد قال : حدثنا ابن المبارك ، عن الحسن بن يحيى قال : سمعت الضحاك يقول : قد يولد المولود لسنتين. قد كان الضحاك وُلد لسنتين ، و " الغيض " : ما دون التسعة(وما تزداد) فوق تسعة أشهر .
20186 - ...... قال : حدثنا أبو أحمد قال : حدثنا سفيان ، عن جويبر ، عن الضحاك : (وما تغيض الأرحام وما تزداد) قال : دون التسعة ، وما تزداد : قال : فوق التسعة .
20187 - ...... قال : حدثنا أبو أحمد قال : حدثنا سفيان ، عن جويبر ، عن الضَّحاك قال : ولدت لسنتين .
20188 - حدثني المثنى قال : حدثنا سويد بن نصر قال : أخبرنا ابن المبارك ، عن الحسن بن يحيى قال : حدثنا الضحاك : أن أمه حملته سنتين. قال : (وما تغيض الأرحام) قال : ما تنقص من التسعة(وما تزداد) قال : ما فوق التسعة . (1)
20189 - ... قال : حدثنا عمرو بن عون ; قال : أخبرنا هشيم ، عن جويبر ، عن الضحاك في قوله : (الله يعلم ما تحمل كل أنثى وما تغيض الأرحام) ، قال : كل أنثى من خلق الله .
20190 - ... قال : حدثنا هشيم ، عن جويبر ، عن الضحاك ومنصور ، عن الحسن قالا " الغيض " ما دون التسعة الأشهر .
__________
(1) الآثار : 20185 ، 20187 ، 20188 - " الضحاك بن مزاحم " ، صاحب التفسير ، مضى مرارًا لا تحصى ، ولكن يزاد هنا هذا الخبر في ترجمته أنه قال عن نفسه أنه ولد لسنتين . ثم انظر رقم : 20199 ، أنه ولد وقد نبتت ثناياه .

(16/363)


20191 - ... قال : حدثنا سويد قال : أخبرنا ابن المبارك ، عن داود بن عبد الرحمن ، عن ابن جريج ، عن جميلة بنت سعد ، عن عائشة قالت : لا يكون الحمل أكثر من سنتين ، قدر ما يتحوَّل ظِلُّ مِغْزَل .
20192 - حدثنا أحمد بن إسحاق قال : حدثنا أبو أحمد قال : حدثنا فضيل بن مرزوق ، عن عطية العوفي : (وما تغيض الأرحام) قال : هو الحمل لتسعة أشهر وما دون التسعة(وما تزداد) قال : على التسعة .
20193 - ... قال : حدثنا أبو أحمد قال : حدثنا عمرو بن ثابت ، عن أبيه ، عن سعيد بن جبير : (وما تغيض الأرحام) قال : حيضُ المرأة على ولدها .
20194 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : (وما تغيض الأرحام وما تزداد) . قال : " الغيض " ، السَّقْط(وما تزداد) ، فوق التسعة الأشهر .
20195 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن سعيد بن جبير : إذا رأت المرأة الدمَ على الحمل ، فهو " الغيض " للولد . يقول : نقصانٌ في غذاء الولد ، وهو زيادة في الحمل .
20196 - حدثنا بشر بن معاذ قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : (الله يعلم ما تحمل كل أنثى وما تغيض الأرحام وما تزداد) قال : كان الحسن يقول : " الغيضوضة " ، (1) أن تضع المرأة لستة أشهر أو لسبعة أشهر ، أو لما دون الحدّ قال قتادة : وأما الزيادة ، فما زاد على تسعة أشهر .
20197 - حدثني الحارث قال : حدثنا عبد العزيز قال : حدثنا قيس ، عن سالم الأفطس ، عن سعيد بن جبير قال : غيض الرحم : أن ترى الدم على
__________
(1) " الغيضوضة " ، مصدر " غاض " ، لم تذكره كتب اللغة ، وهو حقيق أن يثبت فيها ، لأنه من كلام الحسن البصري ، وناهيك به فصيحًا وحجة في العربية .

(16/364)


حملها. فكل شيء رأت فيه الدم على حملها ، ازدادت على حملها مثل ذلك .
20198 - ....قال حدثنا عبد العزيز قال : حدثنا حماد بن سلمة ، عن قيس بن سعد ، عن مجاهد قال : إذا رأت الحاملُ الدمَ كان أعظمَ للولد .
20199 - حدثت عن الحسين قال : سمعت أبا معاذ يقول : حدثنا عبيد بن سليمان قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : (وما تغيض الأرحام وما تزداد) ، " الغيض " : النقصان من الأجل ، " والزيادة " : ما زاد على الأجل. وذلك أن النساء لا يلدن لعدّةٍ واحدة ، يولد المولود لستة أشهر فيعيش ، ويولد لسنتين فيعيش ، وفيما بين ذلك . قال : وسمعت الضحاك يقول : ولدت لسنتين ، وقد نبتت ثناياي .
20200 - حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد ، في قوله : (وما تغيض الأرحام) قال : غيض الأرحام : الإهراقة التي تأخذ النساء على الحمل ، وإذا جاءت تلك الإهراقة لم يعتدَّ بها من الحمل ، ونقص ذلك حملها حتى يرتفع ذلك. وإذا ارتفع استقبلت عِدّةً مستقبلةً تسعة أشهر. وأما ما دامت ترى الدم ، فإن الأرحام تغيض وتنقص ، والولد يرقّ. فإذا ارتفع ذلك الدم رَبَا الولد واعتدّت حين يرتفع عنها ذلك الدم عدّة الحمل تسعة أشهر ، وما كان قبله فلا تعتدُّ به ، هو هِرَاقةٌ ، يبطل ذلك أجمع أكتع .
* * *
وقوله : (وكل شيء عنده بمقدار) .
20201 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : (وكل شيء عنده بمقدار) إي والله ، لقد حفظ عليهم رزقهم وآجالهم ، وجعل لهم أجلا معلومًا .
* * *

(16/365)


عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ (9) سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ (10)

القول في تأويل قوله تعالى : { عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ (9) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : والله عالم ما غاب عنكم وعن أبصاركم فلم تروه ، وما شاهدتموه ، فعاينتم بأبصاركم ، لا يخفى عليه شيء ، لأنهم خلقه (1) وتدبيره " الكبير الذي كل شيء دونه " ، (2) " المتعال " المستعلي على كل شيء بقدرته.
وهو " المتفاعل " من " العلو " مثل " المتقارب " من القرب و " المتداني " من الدنوّ . (3)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ (10) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : معتدلٌ عند الله منكم ، (4) أيها الناس ، الذي أسر القول ، (5) والذي جهر به ، (6) والذي هو مستخفٍ بالليل في ظلمته بمعصية الله " وسارب بالنهار " ، يقول : وظاهر بالنهار في ضوئه ، لا يخفى عليه شيء من ذلك. سواء عنده سِرُّ خلقه وعلانيتهم ، لأنه لا يستسرّ عنده شيء ولا يخفى.
* * *
__________
(1) انظر تفسير " الغيب والشهادة " فيما سلف 11 : 464 ، 465 .
(2) انظر تفسير " الكبير " فيما سلف 8 : 318 .
(3) وانظر تفسير " التعالي " فيما سلف 15 : 47 ، تعليق : 1 ، والمراجع هناك .
(4) انظر تفسير " سواء " فيما سلف من فهارس اللغة ( سوى ) .
(5) انظر تفسير " الإسرار " فيما سلف ص : 198 ، تعليق : 1 ، والمراجع هناك .
(6) انظر تفسير " الجهر " فيما سلف 9 : 343 - 349 ، 358 /11 : 368 / 13 : 353 ، تعليق : 4 ، والمراجع هناك .

(16/366)


يقال منه : " سَرَبَ يَسْرَبُ سُرُوبًا " إذا ظهر ، كما قال قيس بن الخطيم :
أَنَّى سَرَيْتِ وَكُنْتِ غَيْرَ سَرُوبِ... وَتُقَرِّبُ الأحْلامُ غَيْر قَرِيب (1)
يقول : كيف سريت بالليل [على] بُعْد هذا الطريق ، (2) ولم تكوني تبرُزين وتظهرين ؟
وكان بعضهم يقول : هو السَّالك في سَرْبه : أي في مذهبه ومكانه . (3)
واختلف أهل العلم بكلام العرب في " السّرب " .
فقال بعضهم : " هو آمن في سَرْبه " ، بفتح السين.
وقال بعضهم : " هو آمن في سِرْبه " بكسر السين .
* * *
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
*ذكر من قال ذلك :
20202 - حدثني محمد بن سعد قال : حدثني أبي قال : حدثني عمي قال : حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : (سواء منكم من أسرّ القول ومن جهر به ومن هو مستخفٍ بالليل وسارب بالنهار) ، يقول : هو صاحبُ ريبة مستخف بالليل. وإذا خرج بالنهار أرَى الناس أنه بريء من الإثم .
20203 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج قال : قال ابن عباس : (وسارب بالنهار) ، ظاهر .
20204 - حدثنا ابن بشار قال : حدثنا ابن أبي عدي ، عن عوف ، عن أبي رجاء ، في قوله : (سواء منكم من أسرّ القول ومن جهر به ومن هو مستخفٍ
__________
(1) ديوانه : 5 ، واللسان ( سرب ) وغيرها كثير . ويروى " سربت " بالباء الموحدة أيضًا وقوله : " غير سروب " ، أي : غير مبعدة في مذهبك ، أو كما قال أبو جعفر في تفسيره بعد .
(2) الزيادة بين القوسين لا بد منها لتصحيح معنى الكلام .
(3) أرجح أنه يعني أبا عبيدة في مجاز القرآن 1 : 323 ، ولكن لفظه : " سالك في سربه ، أي مذاهبه ووجوهه " ، وهو أجود مما في التفسير ، وأخشى أن يكون من تحريف الناسخ أو سهوه .

(16/367)


بالليل وساربٌ بالنهار) قال : إن الله أعلم بهم ، سواء من اسر القول ومن جهر به ، ومن هو مستخف بالليل وسارب بالنهار .
20205 - حدثنا الحسن بن محمد قال : حدثنا علي بن عاصم ، عن عوف ، عن أبي رجاء : (سواء منكم من أسرّ القول ومن جهر به ومن هو مستخف بالليل وسارب بالنهار) قال : من هو مستخف في بيته(وسارب بالنهار) ، ذاهب على وجهه. علمه فيهم واحدٌ .
20206 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو حذيفة قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : (سواء منكم من أسرّ القول ومن جهر به) ، يقول : السر والجهر عنده سواء(ومن هو مستخف بالليل وسارب بالنهار) أما " المستخفي " ففي بيته ، وأما " السارب " : الخارج بالنهار حيثما كان. المستخفي غَيْبَه الذي يغيب فيه والخارجُ ، عنده سواء .
20207 - ... قال : حدثنا الحماني قال : حدثنا شريك ، عن خصيف ، في قوله : (مستخف بالليل) قال : راكب رأسه في المعاصي(وسارب بالنهار) قال : ظاهر بالنهار .
20208 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : (سواء منكم من أسر القول ومن جهر به) كل ذلك عنده تبارك وتعالى سواء ، السر عنده علانية قوله : (ومن هو مستخف بالليل وسارب بالنهار) ، أي : في ظلمه الليل ، و " سارب " : أي : ظاهر بالنهار .
20209 - حدثنا أحمد بن إسحاق قال : حدثنا أبو أحمد قال : حدثنا شريك ، عن خصيف ، عن مجاهد وعكرمة : (وسارب بالنهار) قال : ظاهر بالنهار.
* * *
و " مَنْ " في قوله : (من أسرّ القول ومَنْ جهر به ومَنْ هو مستخف بالليل) رفع الأولى منهن بقوله : " سواء " . والثانية معطوفة على الأولى ، والثالثة على الثانية .
* * *

(16/368)


لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ (11)

القول في تأويل قوله تعالى : { لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ (11) }
قال أبو جعفر : اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك.
فقال بعضهم : معناه : لله تعالى ذكرهُ معقِّباتٌ قالوا : " الهاء " في قوله : " له " من ذكر اسم الله.
و " المعقبات " التي تعتقب على العبد. (1) وذلك أن ملائكة الليل إذا صعدت بالنهار أعقبتها ملائكة النهار ، فإذا انقضى النهار صعدت ملائكة النهار ثم أعقبتها ملائكة الليل. وقالوا : قيل " معقبات " ، و " الملائكة " : جمع " ملك " مذكر غير مؤنث ، وواحد " الملائكة " " معقِّب " ، وجماعتها " مُعَقبة " ، ثم جمع جمعه أعني جمع " معقّب " بعد ما جمع " مُعَقّبة " وقيل " معقِّبات " ، كما قيل : " سادات سعد " ، (2) " ورجالات بني فلان " ، جمع " رجال " .
* * *
وقوله : (من بين يديه ومن خلفه) ، يعني بقوله : (من بين يديه) ، من قدام هذا المستخفي بالليل والسارب بالنهار (3) (ومن خلفه) ، من وراء ظهره .
*ذكر من قال ذلك :
20210 - حدثنا محمد بن المثنى قال : حدثنا محمد بن جعفر قال : حدثنا
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة : تتعقب " ، والصواب ما أثبت .
(2) في المطبوعة " ابناوات سعد " ، وهي في المخطوطة غير منقوطة والصواب ما أثبت يقال " سيد " و " سادة و " سادات " .
(3) انظر تفسير بين يديه " فيما سلف 10 : 438 ، 12 : 492.

(16/369)


شعبة ، عن منصور ، يعني ابن زاذان ، عن الحسن في هذه الآية : (له معقبات من بين يديه ومن خلفه) قال : الملائكة .
20211 - حدثني المثنى قال : حدثنا إبراهيم بن عبد السلام بن صالح القشيري قال : حدثنا علي بن جرير ، عن حماد بن سلمة ، عن عبد الحميد بن جعفر ، عن كنانة العدوي قال : دخل عثمان بن عفان على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله أخبرني عن العبد كم معه من ملك ؟ قال : ملك على يمينك على حسناتك ، وهو أمينٌ على الذي على الشمال ، (1) فإذا عملتَ حسنة كُتِبت عشرًا ، وإذا عملت سيئة قال الذي على الشمال للذي على اليمين : اكتب! قال : لا لعله يستغفر الله ويتوب! فإذا قال ثلاثًا قال : نعم اكتب أراحنا الله منه ، فبئس القرين ، ما أقل مراقبته لله ، وأقل استحياءَه منّا! يقول الله : ( مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ ) ، [سورة ق : 18] ، وملكان من بين يديك ومن خلفك ، يقول الله : (له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله) ، وملك قابض على ناصيتك ، فإذا تواضعت لله رفعك ، وإذا تجبَّرت على الله قصمك . وملكان على شفتيك ليس يحفظان عليك إلا الصَّلاة على محمد. وملك قائم على فيك لا يدع الحيّة تدخل في فيك ، (2) وملكان على عينيك. فهؤلاء عشرة أملاك على كلّ آدميّ ، ينزلون ملائكة الليل على ملائكة النهار ، [لأن ملائكة الليل سوى ملائكة النهار] (3) فهؤلاء عشرون ملكًا على كل آدمي ، وإبليس بالنهار وولده بالليل. (4)
__________
(1) في المطبوعة وابن كثير : " وهو أمير " ، وأثبت ما في المخطوطة والدر المنثور .
(2) في المخطوطة : " تدخل فيك " ، والصواب ما في المطبوعة والدر المنثور .
(3) زيادة من ابن كثير والدر المنثور ، ولا غنى عنها .
(4) الأثر : 20211 - هذا إسناد قد سلف مثله برقم : 1386 ، 1395 . وهو إسناد مشكل منكر .
" إبراهيم بن عبد السلام بن صالح القشيري " ، وسلف " التستري " وكان في ذلك الموضع في ابن كثير " القشيري " ، لا ندري أيهما الصواب ، ولم نجد له ذكرًا في شيء من كتب الرجال .
و " علي بن جرير " ، لا يدري منه هو أيضًا ، كما قلنا فيما سلف ، إلا أني أزيد أن ابن أبي حاتم ترجم في الجرح والتعديل : " علي بن جرير البارودي روى عنه ... سئل أبي عن علي بن جرير البارودي ، فقال : صدوق " ، ولا أظنه هذا الذي في إسنادنا ، كأن هذا متأخر ، ابن أبي حاتم 3 / 1 / 178 وأما " عبد الحميد بن جعفر ، فثقة ، سلف برقم : 1386 .
وأما " كنانة العدوي " ، فهو " كنانة بن نعيم العدوي " ، تابعي ثقة ، لم يذكر أنه أدرك عثمان بن عفان أو روى عنه .
فهذا حديث فيه نكارة وضعف شديد ، وانفرد بروايته أبو جعفر الطبري عن المثنى . انظر تفسير ابن كثير 4 : 503 ، والدر المنثور 4 : 48 . وقال ابن كثير : إنه حديث غريب جدًا .

(16/370)


20212 - حدثنا الحسن بن محمد قال : حدثنا شبابة قال : حدثنا ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : (له معقبات من بين يديه ومن خلفه) الملائكة(يحفظونه من أمر الله) .
20213 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو حذيفة قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
20214 - ... قال : حدثنا عمرو بن عون قال : أخبرنا هشيم ، عن عبد الملك ، عن قيس ، عن مجاهد ، في قوله : (له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه) ، قال : مع كل إنسان حَفَظَةٌ يحفظونه من أمر الله .
20215 - ... قال : حدثنا عبد الله بن صالح قال : حدثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس ، قوله : (له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله) ، فالمعقبات هن من أمر الله ، وهي الملائكة .
20216 - حدثنا ابن وكيع قال : حدثنا أبي ، عن إسرائيل ، عن سماك ، عن عكرمة ، عن ابن عباس : (يحفظونه من أمر الله) قال : ملائكة يحفظونه من بين يديه ومن خلفه ، فإذا جاء قدره خَلَّوا عنه .
20217 - حدثني الحارث قال : حدثنا عبد العزيز قال : حدثنا إسرائيل ، عن سماك ، عن عكرمة ، عن ابن عباس : (له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله) فإذا جاء القدر خَلَّوا عنه .
20218 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا جرير ، عن منصور ، عن إبراهيم

(16/371)


في هذه الآية قال : الحَفَظَة .
20219 - حدثنا ابن وكيع قال : حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن منصور ، عن إبراهيم : (له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله) ، قال : ملائكة .
20220 - حدثنا أحمد بن حازم قال ، حدثنا يعلى قال : حدثنا إسماعيل بن أبي خالد ، عن أبي صالح في قوله : (له معقبات) قال : ملائكة الليل ، يعقُبُون ملائكة النهار .
20221 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : (له معقبات من بين يديه ومن خلفه) هذه ملائكة الليل يتعاقبون فيكم بالليل والنهار. وذكر لنا أنهم يجتمعون عند صلاة العصر وصلاة الصبح وفي قراءة أبيّ بن كعب : ( لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَرَقِيبٌ مِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِن أَمْرِ اللهِ).
20222 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، قوله : (له معقبات من بين يديه) ، قال : ملائكة يتعاقبونه .
20223 - حدثنا القاسم قال حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج قال ، قال ابن عباس : (له معقبات من بين يديه ومن خلفه) قال : الملائكة قال ابن جريج : " معقبات " ، قال : الملائكة تَعَاقَبُ الليلَ والنهار.
وبلغنا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : يجتمعون فيكم عند صلاة العصر وصلاة الصبح وقوله : (يحفظونه من بين يديه ومن خلفه ) ، قال ابن جريج : مثل قوله : ( عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ ) ، [سورة ق : 17]. قال : الحسنات من بين يديه ، والسيئات من خلفه. الذي عن يمينه يكتب الحسنات والذي عن شماله يكتب السيئات .
20224 - حدثنا سوّار بن عبد الله قال : حدثنا المعتمر بن سليمان قال ،

(16/372)


سمعت ليثًا يحدث ، عن مجاهد أنه قال : ما من عبدٍ إلا له ملك موكَّل يحفظه في نومه ويقظته من الجنّ والإنس والهوامّ ، فما منها شيء يأتيه يريده إلا قال : وراءَك! إلا شيئًا يأذن الله فيه فيصيبه .
20225 - حدثني محمد بن سعد قال : حدثني أبي : قال : حدثني عمي قال : حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : (له معقبات من بين يديه ومن خلفه) ، قال : يعني الملائكة .
* * *
وقال آخرون : بل عني بـ " المعقبات " في هذا الموضع ، الحرَس ، الذي يتعاقب على الأمير .
*ذكر من قال ذلك :
20226 - حدثنا أبو هشام الرفاعي قال : حدثنا ابن يمان قال : حدثنا سفيان عن حبيب بن أبي ثابت ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : (له معقبات من بين يديه ومن خلفه) قال : ذلك ملك من مُلوك الدنيا له حَرسٌ من دونه حرَس .
20227 - حدثني محمد بن سعد قال : حدثني أبي قال : حدثني عمي قال : حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : (له معقبات من بين يديه ومن خلفه) ، يعني : ولىَّ الشيطان ، يكون عليه الحرس . (1)
20228 - حدثنا محمد بن المثنى قال : حدثنا محمد بن جعفر قال : حدثنا شعبة ، عن شَرْقيّ : أنه سمع عكرمة يقول في هذه الآية : (له معقبات من بين يديه ومن خلفه ) قال : هؤلاء الأمراء . (2)
20229 - حدثني الحارث قال : حدثنا عبد العزيز قال : حدثنا عمرو بن
__________
(1) في المطبوعة : " ولي السلطان " ، غير ما في المخطوطة ، وهو الصواب ، يعني البغاة العصاة الأمراء ، يحرسون أنفسهم . وانظر ما يأتي ص : 377 ، تعليق : 1 . روى عنه شعبة ، ذكره ابن حبان في الثقات. وقال ابن أبي حاتم : ليس بحديثه بأس. مترجم في التهذيب. .
(2) الأثر : 20228 - " شرقي البصرى " ، روى عن عكرمة عن ابن عباس في تفسير هذه الآية ن والكبير 2 / 2 / 255 ، وابن أبي حاتم 2 / 1 / 376 .

(16/373)


نافع قال : سمعت عكرمة يقول : (له معقبات من بين يديه ومن خلفه) قال : المواكب من بين يديه ومن خلفه . (1)
20230 - حدثت عن الحسين بن الفرج قال : سمعت أبا معاذ يقول : حدثنا عبيد بن سليمان قال ، سمعت الضحاك يقول في قوله : (له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله) ، قال : هو السلطان المحترس من الله ، وهم أهل الشرك . (2)
* * *
قال أبو جعفر : وأولى التأويلين في ذلك بالصواب ، قولُ من قال : " الهاء " ، في قوله : (له معقبات) من ذكر " مَنْ " التي في قوله : (ومَنْ هو مستخف بالليل) " وأن المعقبات من بين يديه ومن خلفه " ، هي حرسه وجلاوزته ، (3) كما قال ذلك من ذكرنا قوله .
وإنما قلنا : " ذلك أولى التأويلين بالصواب " ، لأن قوله : (له معقبات) أقرب إلى قوله : (ومن هو مستخف بالليل) منه إلى عالم الغيب ، فهي لقربها منه أولى بأن تكون من ذكره ، وأن يكون المعنيَّ بذلك هذا ، مع دلالة قول الله : (وإذا أراد الله بقوم سوءا فلا مرد له) على أنهم المعنيُّون بذلك.
وذلك أنه جل ثناؤه ذكر قومًا أهل معصيةٍ له وأهلَ ريبة ، يستخفون بالليل ويظهرون بالنهار ، ويمتنعون عند أنفسهم بحرس يحرسهم ، ومَنْعَة تمنعهم من أهل طاعته أن يحولوا بينهم وبين ما يأتون من معصية الله. ثم أخبر أنّ الله تعالى ذكره إذا أراد بهم سوءًا لم ينفعهم حَرَسهم ، ولا يدفع عنهم حفظهم .
* * *
__________
(1) الأثر : 20229 - " عمر بن نافع الثقفي " ، روى عن أنس وعكرمة . قال ابن معين : ليس بشيء . وذكره ابن حبان في الثقات . وذكره الساجي وابن الجارود في الضعفاء . مترجم في التهذيب ، وابن أبي حاتم 3 / 1 / 138 ، وميزان الاعتدال 2 : 272 .
(2) في المطبوعة : " المحروس من أمر الله " ، وأثبت ما في المخطوطة .
(3) الجلاوزة جمع جلواز ( بكسر الجيم وسكون اللام ) . وهو الشرطي الذي يخف بين يدي الأمير ويأتمر بأمره .

(16/374)


وقوله : (يحفظونه من أمر الله) اختلف أهل التأويل في تأويل هذا الحرف على نحو اختلافهم في تأويل قوله : (له معقبات) .
فمن قال : " المعقبات " هي الملائكة قال : الذين يحفظونه من أمر الله هم أيضًا الملائكة.
ومن قال : " المعقبات " هي الحرس والجلاوزة من بني آدم قال : الذين يحفظونه من أمر الله هم أولئك الحرس .
* * *
واختلفوا أيضًا في معنى قوله : (من أمر الله) .
فقال بعضهم : حفظهم إيّاه من أمره .
وقال بعضهم : (يحفظونه من أمر الله) بأمر الله .
*ذكر من قال : الذين يحفظونه هم الملائكة ، ووجَّه قوله : (بأمر الله) إلى معنى أن حفظها إيّاه من أمر الله :
20231 - حدثني المثنى قال : حدثنا عبد الله بن صالح قال : حدثني معاوية ، عن علي عن ابن عباس قوله : (يحفظونه من أمر الله) ، يقول : بإذن الله ، فالمعقبات : هي من أمر الله ، وهي الملائكة.
20232 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا جرير ، عن عطاء بن السائب ، عن سعيد بن جبير : (يحفظونه من أمر الله) ، قال : الملائكة : الحفظة ، وحفظهم إياه من أمر الله .
20233 - حدثنا الحسن بن محمد قال : حدثنا محمد بن عبيد قال : حدثني عبد الملك ، عن ابن عبيد الله ، عن مجاهد في قوله : (له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله) ، قال : الحفظة هم من أمر الله .
20234 - ... قال : حدثنا علي يعني ابن عبد الله بن جعفر قال : حدثنا سفيان ، عن عمرو ، عن ابن عباس : (له معقبات من بين يديه) ، رقباء

(16/375)


(ومن خلفه) من أمر الله(يحفظونه). (1)
20235 - ... قال : حدثنا عبد الوهاب ، عن سعيد ، عن قتادة ، عن الجارود ، عن ابن عباس : (له معقبات من بين يديه) ، رقيب(ومن خلفه) .
20236 - حدثني الحارث قال : حدثنا عبد العزيز قال : حدثنا إسرائيل ، عن خصيف ، عن مجاهد : (له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله) ، قال : الملائكة من أمر الله .
20237 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج قال : قال ابن عباس : (يحفظونه من أمر الله) ، قال : الملائكة من أمر الله .
20238 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا جرير ، عن منصور ، عن إبراهيم : (له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله) قال : الحفظة .
* * *
*ذكر من قال : عنى بذلك : يحفظونه بأمر الله :
20239 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : (يحفظونه من أمر الله) : أي بأمر الله .
20240 - حدثنا بشر بن معاذ قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : (يحفظونه من أمر الله) ، وفي بعض القراءات(بِأَمْرِ اللهِ).
20241 - حدثني المثنى قال : حدثنا عمرو بن عون قال ، أخبرنا هشيم ، عن عبد الملك ، عن قيس ، عن مجاهد في قوله : (له معقبات من بين يديه ومن
__________
(1) الأثر : 20234 - " علي بن عبد الله بن جعفر بن نجيح السعدي " وهو " ابن المديني " ، صاحب التصانيف ، ثقة ، روى عنه البخاري في التاريخ ، وأبو داود . مترجم في التهذيب ، وابن أبي حاتم 3 / 1/ 193 .
و " سفيان " ، هو " سفيان بن عيينة " ، الثقة المشهور .
و " عمرو " ، هو " عمر بن دينار المكي " ، الثقة المشهور .

(16/376)


خلفه) قال : مع كل إنسان حَفَظَة يحفظونه من أمر الله .
* * *
*ذكر من قال : تحفظه الحرس من بني آدم من أمر الله :
20242 - حدثني محمد بن سعد قال : حدثني أبي قال : حدثني عمي قال : حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : (يحفظونه من أمر الله) يعني : ولّى الشيطان ، (1) يكون عليه الحرس يحفظونه من بين يديه ومن خلفه ، يقول الله عز وجل : يحفظونه من أمري ، فإني إذا أردت بقوم سوءًا فلا مرد له وما لهم من دونه من والٍ .
20243 - حدثني أبو هريرة الضبعي قال : حدثنا أبو قتيبة قال ، حدثنا شعبة ، عن شَرْقيّ ، عن عكرمة : (يحفظونه من أمر الله) قال : الجلاوزة . (2)
* * *
وقال آخرون : معنى ذلك : يحفظونه من أمر الله ، و " أمر الله " الجن ، ومن يبغي أذاه ومكروهه قبل مجيء قضاء الله ، فإذا جاء قضاؤه خَلَّوْا بينه وبينه .
*ذكر من قال ذلك :
20244 - حدثني أبو هريرة الضبعي قال : حدثنا أبو داود قال : حدثنا ورقاء ، عن منصور ، عن طلحة ، عن إبراهيم : (يحفظونه من أمر الله) قال : من الجن . (3)
20245 - حدثنا سوّار بن عبد الله قال : حدثنا المعتمر قال : سمعت ليثًا
__________
(1) في المطبوعة " ولي السلطان " ، والصواب ما في المخطوطة ، ولكنه غيرها كما سلف آنفًا ص : 373 ، تعليق : 1 .
(2) الأثر : 20243 - " أبو هريرة الضبعي " ، هو " محمد بن فراس الضبعي الصيرفي " ، شيخ أبي جعفر ، ثقة صدوق ، مترجم في التهذيب ، وابن أبي حاتم 4 / 1 / 60 .
و " أبو قتيبة " ، هو " سلم بن قتيبة الشعيري " ، ثقة ، مضى مرارًا ، آخرها رقم : 12904 .
و " شعبة " هو " شعبة بن الحجاج " ، الإمام المشهور ، مضى مرارًا . وكان هنا في المطبوعة والمخطوطة : " سعيد " ، وهو خطأ محض ، فإن الذي يروي عن " شرقي البصري " ، هو شعبة ، كما مضى آنفًا رقم : 20228 .
" وشرقي البصري " ، مضى برقم : 20228 .
(3) الأثر : 20244 - " أبو هريرة الضبعي " ، مضى في الأثر السالف .
و " أبو داود " ، هو الطيالسي .

(16/377)


يحدث ، عن مجاهد أنه قال : ما من عبد إلا له ملك موكّل يحفظه في نومه ويقظته من الجنّ والإنس والهوامّ ، فما منهم شيء يأتيه يريده إلا قال : وراءَك إلا شيئًا يأذن الله فيصيبه .
20246 - حدثنا الحسن بن عرفة قال : حدثنا إسماعيل بن عياش ، عن محمد بن زياد الألهاني ، عن يزيد بن شريح ، عن كعب الأحبار قال : لو تجلَّى لابن آدم كلّ سهلٍ وحزنٍ لرأى على كل شيء من ذلك شياطين. لولا أن الله وكَّل بكم ملائكة يذبُّون عنكم في مطعمكم ومشربكم وعوراتكم إذًا لتُخُطِّفتم .
20247 - حدثني يعقوب قال : حدثنا ابن علية قال : حدثنا عمارة بن أبي حفصة ، عن أبي مجلز قال : جاء رجل من مُرادٍ إلى عليّ رضي الله عنه وهو يصلي ، فقال : احترس ، فإنّ ناسًا من مراد يريدون قتلك! فقال : إنّ مع كل رجل ملكين يحفظانه مما لم يقدَّر ، فإذا جاء القدَرُ خلَّيا بينه وبينه ، وإن الأجل جُنَّةٌ حصينة .
20248 - حدثنا الحسن بن محمد قال : حدثنا عبد الوهاب ، عن الحسن بن ذكوان ، عن أبي غالب ، عن أبي أمامة قال : ما من آدمي إلا ومعه ملك موكَّل يذود عنه حتى يسلمه للذي قُدِّر له .
* * *
وقال آخرون : معنى ذلك : يحفظون عليه من الله .
*ذكر من قال ذلك :
20249 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج : (يحفظونه من أمر الله) ، قال : يحفظون عليه من الله .
* * *
قال أبو جعفر : يعني ابن جريج بقوله : " يحفظون عليه " ، الملائكة الموكلة بابن آدم ، بحفظ حسناته وسيئاته ، وهي " المعقبات " عندنا ، تحفظ على ابن آدم حسناته وسيئاته من أمر الله.
* * *

(16/378)


قال أبو جعفر : وعلى هذا القول يجب أن يكون معنى قوله : (من أمر الله) ، أنّ الحفظة من أمر الله ، أو تحفظ بأمر الله ويجب أن تكون " الهاء " التي في قوله : (يحفظونه) وُحِّدت وذُكِّرت وهي مراد بها الحسنات والسيئات ، لأنها كناية عن ذكر " مَنْ " الذي هو مستخف بالليل وسارب بالنهار وأن يكون " المستخفي بالليل " أقيم ذكره مقام الخبر عن سيئاته وحسناته ، كما قيل : ( وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا ) ، [سورة يوسف : 82].
وكان عبد الرحمن بن زيد يقول في ذلك خلاف هذه الأقوال كلها : -
20250 - حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد ، في قوله : (ومن هو مستخف بالليل وساربٌ بالنهار) قال : أتى عامر بن الطفيل ، وأربد بن ربيعة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، (1) فقال عامر : ما تجعل لي إن أنا اتبعتك ؟ قال : أنت فارس ، أعطيك أعنة الخيل. قال : لا . قال : " فما تبغي ؟ قال : لي الشرق ولك الغرب . قال : لا . قال : فلي الوَبَر ولك المَدَر . قال : لا. قال : لأملأنها عليك إذًا خيلا ورجالا. قال : يمنعك الله ذاك وابنا قيلة (2) يريد الأوس والخزرج . قال : فخرجا ، فقال عامر لأربد : إن كان الرجل لنا لممكنًا لو قتلناه ما انتطحت فيه عنزان ، ولرضوا بأن نعقله لهم وأحبوا السلم وكرهوا الحرب إذا رأوا أمرًا قد وقع . فقال الآخر : إن شئت فتشاورا ،
__________
(1) " أربد بن ربيعة " ، هكذا جاء هنا عن ابن زيد ، وكذلك جاء عن محمد بن علي القرشي فيما رواه عنه ابن سعد في طبقاته 1 / 2 / 51 .
و " أربد " هو : " أربد بن قيس بن جزء بن خالد بن جعفر بن كلاب " ، وهو أخو لبيد لأمه ، و " لبيد " هو " لبيد بن ربيعة بن مالك بن جعفر بن كلاب " ، فكأن ابن زيد ومحمد بن علي القرشي إنما قالا : " أربد بن ربيعة " ، من قبل أخوته للبيد بن ربيعة ، ولا أدري كيف قالا هذا ؟ ولم قالاه ؟ ولم أجده في غير هذين الموضعين . وانظر كتاب " جوامع السيرة " ، لابن حزم ص : 12 ، تعليق : 1 .
(2) في المطبوعة : " وأبناء قيلة " ، والصواب ما في المخطوطة على التثنية . و " قيلة " أم الأوس والخزرج .

(16/379)


وقال : ارجع وأنا أشغله عنك بالمجادلة ، وكن وراءه فاضربه بالسيف ضربةً واحدة. فكانا كذلك : واحدٌ وراء النبي صلى الله عليه وسلم ، والآخر قال : اقصص علينا قصصك. قال : ما تقول ؟ قال : قرآنك! (1) فجعل يجادله ويستبطئه ، (2) حتى قال : مالك حُشِمت ؟ (3) قال : وضعت يدي على قائم سيفي [فيبست] ، (4) فما قدرتُ على أن أُحْلِي ولا أُمِرُّ ولا أحرّكها . قال : فخرجا ، فلما كانا بالحَرة ، سمع بذلك سعد بن معاذ وأسيد بن حُضير ، فخرجا إليهما ، على كل واحد منهما لأمته ، ورمحه بيده ، وهو متقلد سيفه. فقالا لعامر بن الطفيل : يا أعور [حسا] يا أبلخ ، (5) أنت الذي يشرط على رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ (6) لولا أنك في أمانٍ من رسول الله صلى الله عليه وسلم ما رِمْتَ المنزل حتى نضرب عنقك ، (7) ولكن [لا نستعين]. (8) وكان أشدّ الرجلين عليه أسيد بن الحضير ، [فقال : من هذا ؟ فقالوا : أسيد بن حضير] ؟ (9) فقال : لو كان أبوه حيًا لم يفعل بي هذا! ثم قال لأربد : اخرج أنت يا أربد إلى ناحية عَدَنَة ، (10) وأخرج أنا إلى نجد ، فنجمع الرجال فنلتقي عليه . فخرج أربد حتى إذا كان بالرَّقَم ، (11) بعث الله سحابة من الصيف فيها صاعقة! فأحرقته . قال : وخرج عامر حتى إذا كان بوادٍ يقال له الجرير ، أرسل الله عليه الطاعون ، فجعل يصيح : يا آل عامر ، أغُدَّة كغدَّة البكر تقتلني! يا آل عامر ، أغدةٌ كغدة البكر تقتلني ، وموتٌ أيضًا في بيت سلولية ! وهي امرأة من قيس. فذلك قول الله : (سواء منكم من أسر القول ومن جهر به) فقرأ حتى بلغ : (يحفظونه) تلك المعقبات من أمر الله ، هذا مقدّم ومؤخّر لرسول الله صلى الله عليه وسلم معقبات يحفظونه من بين يديه ومن خلفه ، تلك المعقبات من أمر الله . وقال لهذين : (إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم) فقرأ حتى بلغ : (يرسل الصواعق فيصيب بها من يشاء) الآية ، فقرأ حتى بلغ : (وما دُعاء الكافرين إلا في ضلال) . قال وقال لبيد في أخيه أربد ، وهو يبكيه :
أَخْشَى عَلَى أَرْبَدَ الحُتُوفَ وَلا... أَرْهَبُ نَوْءَ السِّمَاكِ وَالأسَدِ (12)
__________
(1) في المطبوعة : " قال ما يقول قرآنك " ، حذف من الكلام " قال " ، وأثبت ما في المخطوطة ويعني قال : اقرأ علي قرآنك .
(2) قوله : " فجعل يجادله ويستبطئه " وما بعدها ، كلام فيه اضطراب ، وأخشى أن يكون فيه خرم وسقط ، والسياق يدل على أنه جعل يجادل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وينظر إلى أربد يستبطئه . فلما انصرفا قال عامر لأربد : مالك حشمت ؟
(3) في المطبوعة : " مالك أجشمت " بزيادة الهمزة ، وبالجيم ، وليس له معنى ، وفي المخطوطة : " حسمت " غير منقوطة ، وصواب قراءتها ما أثبت . يقال : " حشم " بالبناء المجهول ، إذا أعيي وانقبض .
(4) الزيادة بين القوسين ، زادها الناشر الأول على الدر المنثور .
(5) في المطبوعة : " يا أعور يا خبيث يا أملخ " ، غير ما في المخطوطة ، والذي فيها : " ناعور حسما يا أبلخ " ، ولم أستطع أن أجد الخبر في مكان آخر فأصححه ، وقد أعياني كشف ما فيه من التحريف ، فأثبته كما هو . و " الأبلخ " هو العظيم في نفسه ، الجريء على ما أتى من الفجور .
(6) في المطبوعة : " تشترط " ، وأثبت ما في المخطوطة .
(7) في المطبوعة : " ضربت " ، وأثبت ما في المخطوطة .
(8) وهذه كلمة أخرى أثبتها كما هي في المخطوطة غير منقوطة لم أهتد إلى قراءتها ، ولكن ناشر المطبوعة جعلها : " لا تستبقين " ، فنقطها ، فصارت بلا معنى ، أما السيوطي في الدر المنثور ، فقد حذفها كعادته واستراح من همها .
(9) زيادة لا بد منها ، أثبتها من الدر المنثور .
(10) في المطبوعة : " إلي عذية " ، وليس في بلاد العرب موضع بهذا الاسم ، والذي فيها " عدنة " ( بفتح العين والدال ) ، وهي أرض لبني فزارة ، في جهة الشمال من الشربة ، قال الأصمعي في تحديد نجد : " ووادي الرمة يقطع بين عدنة والشربة ، فإذا جزعت الرمة مشرقًا أخذت في الشربة ، وإذا جزعت الرمة إلى الشمال أخذت في عدنة " ، أرجو أن يكون ما قرأت هو الصواب .
(11) " الرقم " ، ظاهر أنه موضع ، انظر معجم البلدان ، ومعجم ما استعجم ، وصفة جزيرة العرب للهمداني : 176 ، فأنا في شك من هذا كله .
(12) ديوانه قصيدة رقم : 5 ، البيت : 2 ، 3 / وسيأتيان في ص : 394 ، وقبل البيتين ، وهو أولها : ما إنْ تُعرِّي المَنُونُ مِنْ أَحَدٍ ... لا وَالِدٍ مُشْفِقٍ ولا وَلدِ
و " الحتوف " ، هي الآجال . وقوله : " نوء السماك والأسد " ، فإنه يعني السماك الأعزل ، ونوؤة أربع ليال في تشرين الأول ( شهر أكتوبر ) . وهو نوء غزير . وأما " الأسد " ، فإنه يعني " زبرة الأسد " ونوؤها أربع ليال في أواخر آب ( شهر أغسطس ) . ويكون في نوء الزبرة مطر شديد ( انظر كتاب الأنواء لابن قتيبة ص : 58 ، 59 / 64 ، 65 ) . وذلك كله في زمن الصيف .
يقول لبيد : كنت أخشى عليه كل حتف أعرفه ، إلا هذا الحتف المفاجئ من صواعق الصيف .
وقوله : " فجعني الدهر " ، أي أنزل بي الفجيعة الموجعة ، والرزية المؤلمة . و " يوم الكريهة " ، يوم الشدة في الحرب ، حيث تكره النفوس الموت . و " النجد " ( بفتح فضم ) ، هو الشجاع الشديد البأس ، السريع الإجابة إلى ما دعي إليه من خير أو شر ، مع مضاء فيما يعجز عنه غيره .

(16/380)


فَجّعَنِي الرَّعْدُ وَالصَّوَاعِقُ بِال... فَارِسِ يَوْمَ الكَرِيهَةِ النَّجُدِ (1)
* * *
قال أبو جعفر : وهذا القول الذي قاله ابن زيد في تأويل هذه الآية ، قولٌ بعيد من تأويل الآية ، مع خلافِه أقوالَ من ذكرنا قوله من أهل التأويل.
وذلك أنه جعل " الهاء " في قوله : (له معقبات) من ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولم يجر له في الآية التي قبلها ولا في التي قبل الأخرى ذكرٌ ، إلا أن يكون أراد أن يردّها على قوله : (إنما أنت منذر ولكل قوم هاد له معقبات) فإن كان ذلك ، (2) فذلك بعيدٌ ، لما بينهما من الآيات بغير ذكر الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وإذا كان ذلك ، فكونها عائدة على " مَنْ " التي في قوله : (ومَنْ هو مستخف بالليل) أقربُ ، لأنه قبلها والخبر بعدها عنه .
فإذا كان ذلك كذلك ، فتأويل الكلام : سواء منكم ، أيها الناس من أسرّ القول ومن جهر به عند ربكم ، ومن هو مستخف بفسقه وريبته في ظلمة الليل ، وساربٌ يذهب ويجيء في ضوء النهار ممتنعًا بجنده وحرسه الذين يتعقبونه من أهل طاعة الله أن يحولوا بينه وبين ما يأتي من ذلك ، وأن يقيموا حدَّ الله عليه ، وذلك قوله : (يحفظونه من أمر الله) .
* * *
وقوله : (إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم) يقول تعالى ذكره : (إن الله لا يغير ما بقوم) ، من عافية ونعمة ، فيزيل ذلك عنهم ويهلكهم(حتى يغيروا ما بأنفسهم) من ذلك بظلم بعضهم بعضًا ، واعتداء بعضهم على بعض ،
__________
(1) الأثر : 20250 - رواه السيوطي في الدر المنثور 4 : 48 ، 49 ، ونسبه لابن جرير وأبي الشيخ ، ولم أجده في غير هذين المكانين .
(2) في المطبوعة : " فإن كان أراد ذلك " ، زاد من عنده ما لا حاجة إليه .

(16/382)


فَتَحلَّ بهم حينئذ عقوبته وتغييره .
* * *
وقوله : (وإذا أراد الله بقوم سوءًا فلا مردّ له) يقول : وإذا أراد الله بهؤلاء الذين يستخفون بالليل ويسربون بالنهار ، لهم جند ومنعة من بين أيديهم ومن خلفهم ، يحفظونهم من أمر الله هلاكًا وخزيًا في عاجل الدنيا ، (فلا مردّ له) يقول : فلا يقدر على ردّ ذلك عنهم أحدٌ غيرُ الله . يقول تعالى ذكره : (وما لهم من دونه من وال) يقول : وما لهؤلاء القوم و " الهاء والميم " في " لهم " من ذكر القوم الذين في قوله : (وإذا أراد الله بقوم سوءًا) . من دون الله(من والٍ) يعني : من والٍ يليهم ويلي أمرهم وعقوبتهم .
* * *
وكان بعض أهل العلم بكلام العرب يقول : " السوء " : الهلكة ، ويقول : كل جذام وبرص وعَمى وبلاء عظيم فهو " سوء " مضموم الأول ، وإذا فتح أوله فهو مصدر : " سُؤْت " ، ومنه قولهم : " رجلُ سَوْءٍ " . (1)
واختلف أهل العربية في معنى قوله : (ومن هو مستخف بالليل وسارب بالنهار) .
فقال بعض نحويي أهل البصرة : معنى قوله : (ومن هو مستخف بالليل) ومن هو ظاهر بالليل ، من قولهم : " خَفَيْتُ الشيء " : إذا أظهرته ، وكما قال أمرؤ القيس :
فَإِنْ تَكْتُمُوا الدَّاء لا نَخْفِه... وإنْ تَبْعَثُوا الحَرْبَ لا نَقْعُدِ (2)
وقال : وقد قرئ( أَكَادُ أُخْفِيهَا ) [سورة طه : 15] بمعنى : أظهرها .
وقال في قوله : (وسارب بالنهار) ، " السارب " : هو المتواري ، كأنه وجَّهه إلى
__________
(1) هو نص كلام أبي عبيدة في مجاز القرآن 1 : 324 .
(2) ديوانه : 16 ، واللسان ( خفا ) ، وغيرهما ، وسيأتي في التفسير 16 : 114 ( بولاق ) ، مع اختلاف يسير في الرواية .

(16/383)


أنه صار في السَّرَب بالنهار مستخفيًا . (1)
* * *
وقال بعض نحويي البصرة والكوفة : إنما معنى ذلك : (ومن هو مستخف) ، أي مستتر بالليل من الاستخفاء(وسارب بالنهار) : وذاهبٌ بالنهار ، من قولهم : " سَرَبت الإبل إلى الرَّعي ، وذلك ذهابها إلى المراعي وخروجها إليها .
وقيل : إن " السُّرُوب " بالعشيّ ، و " السُّروح " بالغداة .
* * *
واختلفوا أيضًا في تأنيث " معقبات " ، وهي صفة لغير الإناث.
فقال بعض نحويي البصرة : إنما أنثت لكثرة ذلك منها ، نحو : " نسّابة " ، و " علامة " ، ثم ذكَّر لأن المعنيَّ مذكّر ، فقال : " يحفظونه " .
* * *
وقال بعض نحويي الكوفة : إنما هي " ملائكة معقبة " ، ثم جمعت " معقبات " ، فهو جمع جمع ، ثم قيل : " يحفظونه " ، لأنه للملائكة .
* * *
وقد تقدم قولنا في معنى : " المستخفي بالليل والسارب بالنهار " . (2)
وأما الذي ذكرناه عن نحويي البصريين في ذلك ، فقولٌ وإن كان له في كلام العرب وجهٌ ، خلافٌ لقول أهل التأويل. (3) وحسبه من الدلالة على فساده ، خروجه عن قولِ جميعهم .
* * *
وأما " المعقبات " ، فإن " التعقيب " في كلام العرب ، العود بعد البدء ، والرجوع إلى الشيء بعد الانصراف عنه ، (4) من قول الله تعالى : ( وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ ) ، أي : لم يرجع ، وكما قال سلامة بن جندل :
__________
(1) " السرب " ( بفتحتين ) : حفير تحت الأرض .
(2) انظر ما سلف ص : 366 - 368 .
(3) سياق الكلام : " فقول .. خلاف لقول أهل التأويل " .
(4) سلف أيضًا تفسير " المعقبات " ص : 369 ، وما بعدها .

(16/384)


وَكَرُّنا الخَيْلَ فِي آثَارِهِمْ رُجُعًا... كُسَّ السَّنَابِكِ مِنْ بَدْءٍ وَتَعْقِيبِ (1)
يعني : في غزوٍ ثانٍ عقَّبُوا ، وكما قال طرفة :
وَلَقَدْ كُنْت عَلَيْكُمْ عَاتِبًا... فَعَقَبْتُمْ بِذَنُوبٍ غَيْرِ مُرّ (2)
يعني بقوله : " عقبتم " ، رجعتم.
وأتاها التأنيث عندنا ، وهي من صفة الحرس الذي يحرسون المستخفي بالليل والسارب بالنهار ، لأنه عني بها " حرس مُعَقبّة " ، ثم جمعت " المعقبة " فقيل : " معقبات " فذلك جمع جمع " المعقِّب " ، و " المعقِّب " ، واحد " المعَقِّبة " ، كما قال لبيد :
حَتَّى تَهَجَّرَ فِي الرّوَاحِ وَهَاجَهُ... طَلَبَ المُعَقِّبِ حَقَّهُ المَظْلُومُ (3)
و " المعقبات " ، جمعها ، ثم قال : " يحفظونه " ، فردّ الخبر إلى تذكير الحرَس والجند .
* * *
وأما قوله : (يحفظونه من أمر الله) فإن أهل العربية اختلفوا في معناه.
__________
(1) ديوانه : 8 ، شرح المفضليات : 227 ، قصيدة مشهورة ، وروايتها . وَكَرُّنَا خَيْلَنَا أدْرَاجَهَا رُجُعًا
وهي أجود الروايتين ، وكان في المطبوعة : " في آثارها " . وقوله : " أدراجها " ، أي من حيث جاءت ذهبت . و " رجع " جمع " رجيع " ، وهو الدابة الذي هزله السفر . و " كس السنابك " ، جمع " أكس " ، وهو الحافر المتثلم الذي كسره طول السير ، أي تحاتت سنابكها من طول السير . و " البدء " الغزو الأول ، و " التعقيب " ، الرجوع من الغزو ، أو الغزو الثاني بعد الأول .
(2) أشعار الستة الجاهليين : 334 ، و " الذنوب " ، الدلو العظيمة يكون فيها ماء . يقول : " كنت عليكم واجدًا غاضبًا ، فرجعتم بحلو المودة دون مرها ، فخلص قلبي لكم مرة أخرى .
(3) ديوانه قصيدة رقم : 16 ، بيت 26 ، اللسان ( عقب ) ، وهو من أبيات في صفة حمار الوحش ، وشرح البيت يطول ، وخلاصته أن الحمار " تهجر من الرواح " ، أي : عجل في الرواح إلى الماء ، و " هاجه " ، أي : حركه حب الماء ، فعجل إليه عجلة طالب الحق يطلبه مرة بعد مرة ، وهو " المعقب " .
ورفع " المظلوم " ، وهو نعت للمعقب على المعنى والمعقب خفض في اللفظ ، ومعناه أنه فاعل " طلب " .

(16/385)


هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ (12) وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلَائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ (13)

فقال بعض نحويي الكوفة : معناه : له معقبات من أمر الله يحفظونه ، وليس من أمره [يحفظونه] ، (1) إنما هو تقديم وتأخير . قال : ويكون يحفظونه ذلك الحفظ من أمر الله وبإذنه ، كما تقول للرجل : " أجبتك من دعائك إياي ، وبدعائك إياي " .
* * *
وقال بعض نحويي البصريين ، معنى ذلك : يحفظونه عن أمر الله ، كما قالوا : " أطعمني من جوع ، وعن جوع " و " كساني عن عري ، ومن عُرْيٍ " .
وقد دللنا فيما مضى على أن أولى القول بتأويل ذلك أن يكون قوله : (يحفظونه من أمر الله) ، من صفة حرس هذا المستخفي بالليل ، وهي تحرسه ظنًّا منها أنها تدفع عنه أمرَ الله ، فأخبر تعالى ذكره أن حرسه ذلك لا يغني عنه شيئًا إذا جاء أمره ، فقال : (وإذا أراد الله بقوم سوءًا فلا مرد له وما لهم من دونه من والٍ) .
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ (12) وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ (13) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : (هو الذي يريكم البرق) ، يعني أن الرب هو الذي يري عباده البرق وقوله : (هو) كناية اسمه جلّ ثناؤه.
* * *
وقد بينا معنى " البرق " ، فيما مضى ، وذكرنا اختلاف أهل التأويل فيه بما أغنى
__________
(1) ما بين القوسين زيادة يقتضيها السياق .

(16/386)


عن إعادته في هذا الموضع . (1)
* * *
وقوله : (خوفًا) يقول : خوفًا للمسافر من أذاه . وذلك أن " البرق " ، الماء ، في هذا الموضع كما : -
20251 - حدثني المثنى قال : حدثنا حجاج قال : حدثنا حماد قال : أخبرنا موسى بن سالم أبو جهضم ، مولى ابن عباس قال : كتب ابن عباس إلى أبي الجَلْد يسأله عن " البرق " ، فقال : " البرق " ، الماء . (2)
* * *
وقوله(وطمعًا) يقول : وطمعًا للمقيم أن يمطر فينتفع . كما : -
20252 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : (هو الذي يريكم البرق خوفًا وطمعًا) ، يقول : خوفًا للمسافر في أسفاره ، يخاف أذاه ومشقته(وطمعًا ، ) للمقيم ، يرجو بركته ومنفعته ، ويطمع في رزق الله.
20253 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : (خوفا وطمعا) خوفا للمسافر ، وطمعا للمقيم .
* * *
وقوله : (وينشئ السحاب الثقال) : ويثير السحاب الثقال بالمطر ويبدؤه.
* * *
يقال منه : أنشأ الله السحاب : إذا أبدأه ، ونشأ السحاب : إذا بدأ ينشأ نَشْأً .
* * *
و " السحاب " في هذا الموضع ، وإن كان في لفظ واحد ، فإنها جمعٌ ، واحدتها " سحابة " ، ولذلك قال : " الثقال " ، فنعتها بنعت الجمع ، ولو كان جاء : " السحاب " الثقيل كان جائزًا ، وكان توحيدًا للفظ السحاب ، كما قيل : ( الَّذِي جَعلَ لَكُمْ
__________
(1) انظر تفسير " البرق " فيما سلف 1 : 342 - 346 .
(2) الأثر : 20251 - " موسى بن سالم " ، " أبو جهضم " ، ثقة ، روايته عن ابن عباس مرسلة ، سلف برقم : 434 .
و " أبو الجلد " ، هو " جيلان بن فروة الأسدي " ، ثقة ، مضى برقم : 434 ، 723 ، 1913 .

(16/387)


منَ الشَّجَرِ الأخْضَرِ نَارًا ) [سورة يس : 80] .
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
*ذكر من قال ذلك :
20254 - حدثنا الحسن بن محمد قال : حدثنا شبابة قال : حدثنا ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : (وينشئ السحاب الثقال) ، قال : الذي فيه الماء .
20255 - حدثني محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
20256 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو حذيفة قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
20257 - ... قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا عبد الله ، عن ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
20258 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد : (وينشئ السحاب الثقال) قال : الذي فيه الماء .
* * *
وقوله : (ويسبح الرعد بحمده) .
* * *
قال أبو جعفر : وقد بينا معنى الرعد فيما مضى ، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع . (1)
* * *
وذكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا سمع صوت الرعد قال كما :
20259 - حدثنا الحسن بن محمد قال : حدثنا كثير بن هشام قال : حدثنا جعفر قال : بلغنا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا سمع صوت الرعد الشديد
__________
(1) انظر تفسير " الرعد " فيما سلف 1 : 338 - 342 .

(16/388)


قال : " اللهم لا تقتلنا بغضبك ، ولا تهلكنا بعذابك ، وعافنا قبل ذلك " . (1)
20260 - حدثنا أحمد بن إسحاق قال : حدثنا أبو أحمد قال : حدثنا إسرائيل ، عن أبيه ، عن رجل ، عن أبي هريرة رفع الحديث : أنه كان إذا سمع الرعد قال : " سبحان من يسبح الرعد بحمده " .
20261 - حدثنا الحسن بن محمد قال : حدثنا مسعدة بن اليسع الباهلي ، عن جعفر بن محمد ، عن أبيه ، عن علي رضي الله عنه ، كان إذا سمع صوت الرعد قال : " سبحان من سَبَّحتَ له " . (2)
20262 - ... قال : حدثنا إسماعيل بن علية ، عن الحكم بن أبان ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، أنه كان إذا سمع الرعد قال : " سبحان الذي سَبَّحتَ له . (3)
20263 - حدثنا أحمد بن إسحاق قال : حدثنا أبو أحمد قال : حدثنا يعلى بن الحارث قال : سمعت أبا صخرة يحدث عن الأسود بن يزيد ، أنه كان إذا سمع الرعد قال : " سبحان من سبَّحتَ له أو " سبحان الذي يسبح الرعد بحمده ، والملائكة من خيفته " . (4)
__________
(1) الأثر : 20259 - رواه أحمد بهذا اللفظ في المسند رقم : 5763 من حديث ابن عمر ، ورواه البخاري في الأدب المفرد برقم : 721 ، وخرجه أخي السيد أحمد رحمه الله في المسند .
(2) الأثر : 20261 - " مسعدة بن اليسع بن قيس اليشكري الباهلي " قال ابن أبي حاتم : " هو ذاهب الحديث ، منكر الحديث ، لا يشتغل به ، يكذب على جعفر بن محمد عندي ، والله أعلم " .
وقال أحمد : " مسعدة بن اليسع ، ليس بشيء ، خرقنا حديثه ، وتركنا حديثه منذ دهر " . مترجم في الكبير 4 / 2 / 26 ، وابن أبي حاتم 4 / 1 / 370 ، وميزان الاعتدال 3 : 163 ، ولسان الميزان 6 : 23 .
(3) الأثر : 20262 - رواه البخاري في الأدب المفرد رقم : 722 ، مطولا ، و " الحكم بن أبان العدني " تكلم أهل المعرفة بالحديث في الاحتجاج بخيره ، كذلك قال ابن خزيمة في صحيحه ، وهو ثقة إن شاء الله ، قال ابن حبان : ربما أخطأ ، مترجم في التهذيب ، والكبير 1 / 2 / 334 ، وابن أبي حاتم 1 / 2 / 113 .
(4) الأثر : 20263 - " يعلى بن الحارث بن حرب المحاربي " ثقة ، مترجم في التهذيب ، والكبير 4 / 2/ 418 ، وابن أبي حاتم 4 / 2 / 304 .
" أبو صخرة " ، هو " جامع بن شداد المحاربي " ثقة مضى برقم : 17982 ، وظني أنه لم يسمع " الأسود بن يزيد النخعي " ، بل سمع ذلك من أخيه " عبد الرحمن بن يزيد النخعي " ، و " عبد الرحمن " سمع من أخيه .

(16/389)


20264 - ...قال : حدثنا أبو أحمد قال : حدثنا ابن علية ، عن ابن طاوس ، عن أبيه وعبد الكريم ، عن طاوس أنه كان إذا سمع الرعد قال : " سبحان من سبحتَ له .
20265 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثنا حجاج ، عن ميسرة ، عن الأوزاعي قال : كان ابن أبي زكريا يقول : من قال حين يسمع الرعد : " سبحان الله وبحمده ، لم تصبه صاعقةٌ. (1)
* * *
ومعنى قوله : (ويسبح الرعد بحمده) ، ويعظم اللهَ الرعدُ ويمجِّده ، فيثنى عليه بصفاته ، وينزهه مما أضاف إليه أهل الشرك به ومما وصفوه به من اتخاذ الصاحبة والولد ، تعالى ربنا وتقدّس . (2)
* * *
وقوله : (من خيفته) يقول : وتسبح الملائكة من خيفة الله ورَهْبته. (3)
* * *
وأما قوله : (ويرسل الصواعق فيصيب بها من يشاء) .
* * *
فقد بينا معنى الصاعقة ، فيما مضى ، بما أغنى عن إعادته ، بما فيه الكفاية من الشواهد ، وذكرنا ما فيها من الرواية . (4)
* * *
وقد اختلف فيمن أنزلت هذه الآية.
فقال بعضهم : نزلت في كافر من الكفّار ذكر الله تعالى وتقدَّس بغير ما ينبغي ذكره به ، فأرسل عليه صاعقة أهلكته .
__________
(1) الأثر : 20265 - " ابن أبي زكريا " ، هو : " عبد الله بن أبي زكريا الخزاعي الشامي " ، " أبو يحيى " ، كان من فقهاء أهل دمشق ، من أقران مكحول ، تابعي ثقة قليل الحديث ، صاحب غزو . مترجم في التهذيب ، وابن سعد 7/2/163 ، وابن أبي حاتم 2 / 2 / 62 .
(2) انظر تفسير " التسبيح " فيما سلف 1 : 472 - 474 ، وفهارس اللغة ( سبح ) .
(3) انظر تفسير " الخفية " فيما سلف 13 : 353 / 15 : 389 .
(4) انظر تفسير " الصاعقة " فيما سلف 2 : 82 ، 83 / 9 : 359 / 13 : 97 .

(16/390)


*ذكر من قال ذلك :
20266 - حدثنا الحسن بن محمد قال : حدثنا عفان قال : حدثنا أبان بن يزيد قال : حدثنا أبو عمران الجوني ، عن عبد الرحمن بن صُحار العبدي : أنه بلغه أن نبي الله صلى الله عليه وسلم بعث إلى جَبَّار يدعوه ، فقال : " أرأيتم ربكم ، أذهبٌ هو أم فضةٌ هو أم لؤلؤٌ هو ؟ " قال : فبينما هو يجادلهم ، إذ بعث الله سحابة فرعدت ، فأرسل الله عليه صاعقة فذهبت بقِحْف رأسه فأنزل الله هذه الآية : (ويرسل الصواعق فيصيب بها من يشاء وهم يجادلون في الله وهو شديد المحال) . (1)
20267 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق بن سليمان ، عن أبي بكر بن عياش ، عن ليث ، عن مجاهد قال : جاء يهودي إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال : أخبرني عن ربّك من أيّ شيء هو ، من لؤلؤ أو من ياقوت ؟ فجاءت صاعقة فأخذته ، فأنزل الله : (ويرسل الصواعق فيصيب بها من يشاء وهم يجادلون في الله وهو شديد المحال) .
20268 - حدثني المثنى قال : حدثنا الحماني قال : حدثنا أبو بكر بن عياش ، عن ليث ، عن مجاهد ، مثله .
20269 - ... قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا عبد الله بن هاشم قال : حدثنا سيف ، عن أبي روق ، عن أبي أيوب ، عن علي قال : جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا محمد حدثني من هذا الذي تدعو إليه ؟ أياقوت
__________
(1) الأثر : 20266 - عفان هو " عفان بن مسلم الصفار " ، ثقة ، روى له الجماعة ، مضى مرارًا آخرها رقم : 20091 .
و " أبان بن يزيد العطار " ، ثقة إن شاء الله ، مضى مرارًا .
و " أبو عمران الجوني " هو " عبد الملك بن حبيب الأزدي " ، ثقة ، روى له الجماعة ، مضى برقم : 80 ، 13042 ، 17413 .
و " عبد الرحمن بن صحار بن صخر العبدي " ، لأبيه صحبة ، تابعي ثقة ، روى عن أبيه ، مترجم في ابن أبي حاتم 2 / 2 / 244 .
وهذا خبر مرسل صحيح الإسناد .

(16/391)


هو ، أذهب هو ، أم ما هو ؟ قال : فنزلت على السائل الصاعقة فأحرقته ، فأنزل الله : (ويرسل الصواعق)الآية . (1)
20270 - حدثنا محمد بن مرزوق قال : حدثنا عبد الله بن عبد الوهاب قال : حدثني علي بن أبي سارة الشيباني قال : حدثنا ثابت البناني ، عن أنس بن مالك قال : بعث النبي صلى الله عليه وسلم مرةً رجلا إلى رجل من فراعنة العرب ، أن ادْعُه لي ، فقال : يا رسول الله ، إنه أعتى من ذلك! قال : اذهب إليه فادعه. قال : فأتاه فقال : رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعوك! فقال : مَنْ رسول الله ؟ وما الله ؟ أمن ذهب هو ، أم من فضة ، أم من نحاس ؟ قال : فأتى الرجل النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره ، فقال : ارجع إليه فادعه " قال : فأتاه فأعاد عليه وردَّ عليه مثل الجواب الأوّل. فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره ، فقال : ارجع إليه فادعه ! قال : فرجع إليه . فبينما هما يتراجعان الكلام بينهما ، إذ بعث الله سحابة بحيالِ رأسه فرَعَدت ، فوقعت منها صاعقة فذهبت بقِحْفِ رأسه ، فأنزل الله : (ويرسل الصواعق فيصيب بها من يشاء وهم يجادلون في الله وهو شديد المحال) . (2)
* * *
__________
(1) الأثر : 20269 - " إسحاق " ، هو " إسحاق بن سليمان العبدي الرازي " ، نزل الري ، ثقة روى له الجماعة ، سلف مرارًا ، آخرها : 16940 .
وأما " عبد الله بن هاشم " ، فقد سلف في مثل هذا الإسناد برقم : 7329 ، 7938 ، 12128 ، وقلت في آخرها ، " لم أعرف من يكون " ، ولكني أستظهر الآن أنه : " عبد الله بن هاشم الكوفي " ، نزيل الري . مترجم في ابن أبي حاتم 2 / 2 / 196 .
وأما " سيف " ، فهو " سيف بن عمر الضبي " ، الأخباري ، صاحب الفتوح ، وهو ضعيف ساقط الحديث ، ليس بشيء . مضى مرارًا ، آخرها 12203 ، ومضى في مثل هذا الإسناد نفسه برقم 7329 ، 7938 ، 12128 . وسيأتي مثله برقم : 20273 ، 20282 ، 20286 . وهذا إسناد منكر .
(2) الأثر : 20270 - " محمد بن مرزوق " ، هو " محمد بن محمد بن مرزوق الباهلي " ، شيخ الطبري ، ثقة ، مضى برقم : 28 ، 8224 ، 17249 .
و " عبد الله بن عبد الوهاب الحجبي " ، ثقة صدوق ، مضى برقم : 7911 .
و " علي بن أبي سارة الشيباني " ، ويقال له : " علي بن محمد بن سارة " ، شيخ ضعيف الحديث .
قال البخاري : في حديثه نظر . وقال أبو داود : ترك الناس حديثه . وقال ابن حبان : غلب على روايته المناكير فاستحق الترك . وقال العقيلي : " علي بن أبي سارة عن ثابت البناني ، لا يتابع عليه ، ثم روى له عن ثابت عن أنس في قوله تعالى : {ويرسل الصواعق} ، ثم قال : ولا يتابعه عليه إلا من هو مثله أو قريب منه " . مترجم في التهذيب ، وابن أبي حاتم 3 / 1 / 189 ، وميزان الاعتدال 2 : 226 ، وذكر الحديث بإسناده هذا وبتمام لفظه ، وعده من الأحاديث التي أنكرت عليه .
فهذا إسناد ضعيف جدًا .
وقال الهيثمي في مجمع الزوائد 7 : 42 : " رواه أبو يعلى البزار ، ورجال البزار رجال الصحيح ، غير ديلم بن غزوان ، وهو ثقة " .

(16/392)


وقال آخرون : نزلت في رجل من الكفار أنكر القرآن وكذب النبيّ صلى الله عليه وسلم .
*ذكر من قال ذلك :
20271 - حدثنا بشر بن معاذ قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قال : ذكر لنا أن رجلا أنكر القرآن وكذّب النبيَّ صلى الله عليه وسلم ، فأرسل الله عليه صاعقة فأهلكته ، فأنزل الله عز وجل فيه : (وهم يجادلون في الله ، وهو شديد المحال) .
* * *
وقال آخرون : نزلت في أربد أخي لبيد بن ربيعة ، وكان همّ بقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم هو وعامر بن الطفيل .
*ذكر من قال ذلك :
20272 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج قال : نزلت يعني قوله : (ويرسل الصواعق فيصيب بها من يشاء) في أربد أخي لبيد بن ربيعة ، لأنه قدم أربدُ وعامرُ بن الطفيل بن مالك بن جعفر على النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال عامر : يا محمد أأسلم وأكون الخليفة من بعدك ؟ قال : لا! قال : فأكون على أهل الوَبَر وأنتَ على أهل المدَرِ ؟ قال : لا! قال : فما ذاك ؟ قال : " أعطيك أعنة الخيل تقاتل عليها ، فإنك رجل فارس. قال : أو ليست أعِنّة الخيل بيدي ؟ أما والله لأملأنها عليك خيلا ورجالا من بني عامر ! قال لأربد : إمّا أن تكفينيه وأضربه بالسيف ، وإما أن أكفيكه وتضربه بالسيف.

(16/393)


قال أربد : اكفنيه وأضربه. (1) فقال ابن الطفيل : يا محمد إن لي إليك حاجة. قال : ادْنُ! فلم يزل يدنو ويقول النبي صلى الله عليه وسلم : " ادن " حتى وضع يديه على ركبتيه وحَنَى عليه ، واستلّ أربد السيف ، فاستلَّ منه قليلا فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم بَريقه تعوّذ بآية كان يتعوّذ بها ، فيبِسَت يدُ أربد على السيف ، فبعث الله عليه صاعقة فأحرقته ، فذلك قول أخيه :
أَخْشَى عَلَى أَرْبَدَ الحُتُوف وَلا... أَرْهَبُ نَوْءَ السِّمَاك وَالأسَدِ... فَجَّعنِي الْبَرْقُ والصّوَاعِقُ بال... فَارِس يَوْمَ الكَرِيهَةِ النَّجُدِ (2)
* * *
وقد ذكرت قبل خبر عبد الرحمن بن زيد بنحو هذه القصة . (3)
* * *
وقوله : (وهم يجادلون في الله) ، يقول : وهؤلاء الذين أصابهم الله بالصواعق أصابهم في حال خُصومتهم في الله عز وجل لرسوله صلى الله عليه وسلم . (4)
* * *
وقوله : (وهو شديد المحال) يقول تعالى ذكره : والله شديدةٌ مماحلته في عقوبة من طغى عليه وعَتَا وتمادى في كفره .
* * *
و " المحال " : مصدر من قول القائل : ما حلت فلانًا فأنا أماحله مماحلةً ومِحَالا و " فعلت " منه : " مَحَلت أمحَلُ محْلا إذا عرّض رجلٌ رجلا لما يهلكه ; ومنه قوله : " وَمَاحِلٌ مُصَدَّقٌ " ، (5) ومنه قول أعشى بني ثعلبة :
__________
(1) في المخطوطة والمطبوعة : " أكفيكه " ، والصواب ما أثبت .
(2) مضى الشعر وتفسيره وتخريجه فيما سلف ص : 381 ، تعليق : 3 .
(3) هو الأثر رقم : 20250 .
(4) انظر تفسير " المجادلة " فيما سلف 15 : 402 ، تعليق : 1 ، والمراجع هناك .
(5) هذا حديث جابر رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :
" القرآن شافع مشفع ، وما حل مصدق ، من جعله أمامه قاده إلى الجنة ، ومن جعله خلف ظهره ساقه إلى النار "
رواه ابن حبان في صحيحه 1 : 287 رقم : 124 ، وخرجه أخي السيد أحمد هناك . وهو في مجمع الزوائد 1 : 17 / 7 / : 164 ، ورواه أيضًا عن ابن مسعود ، ولكنه ضعف إسناده . وانظر أمالي القالي 2 : 269 ، بغير هذا اللفظ . هذا الخبر مشهور عن ابن مسعود ، وإن كان صحيحه عند جابر .

(16/394)


فَرْعُ نَبْعِ يَهْتَزُّ فِي غُصُنِ المَجْ... دِ غَزِيرُ النّدَى شَديدُ المِحَالِ (1)
هكذا كان ينشده معمر بن المثنى فيما حُدِّثت عن علي بن المغيرة عنه . وأما الرواة بعدُ فإنهم ينشدونه :
فَرْعُ فَرْعٍ يَهْتَزُّ فِي غُصُنِ المَجْ... دِ كِثيرُ النَّدَى عَظِيمُ المِحَال (2)
وفسّر ذلك معمر بن المثنى ، وزعم أنه عنى به العقوبة والمكر والنَّكال ; ومنه قول الآخر : (3)
وَلَبْسٍ بَيْنَ أَقْوَاٍم فَكُلٌ... أَعَدَّ لَهُ الشَّغَازِبَ وَالمِحَالا (4)
* * *
__________
(1) ديوانه : 10 ، ومجاز القرآن لأبي عبيدة 1 : 325 ، واللسان ( محل ) ، وغيرها .
و " النبع " ، شجر ينبت في قلة الجبل ، وهو أصفر العود رزينة ، ثقيله في اليد ، وإذا تقادم أحمر ، وتتخذ منه القسي ، فهي أجودها وأجمعها للأرز واللين معًا ، و " الأرز " الشدة .
(2) قوله " فرع فرع " من قولهم : " هو فرع قومه " ، للشريف منهم الذي فرعهم أي علاهم بالشرف . يقول : هو سيد لسادات . وهذه عندي أجود روايات البيت .
(3) هو ذو الرمة .
(4) ديوانه : 445 ، ومجاز القرآن لأبي عبيدة 1 : 326 ، وأمالي القالي 2 : 268 ، واللسان ( شغزب ) ، ( محل ) ، وغيرها . وهو من قصيدته في مدح بلال بن أبي بردة بن أبي موسى الأشعري ، وهذا البيت من صميم مدحه ، يقول بعده : وكُلُّهُمُ ألدُّ أخُو كِظاَظٍ ... أَعَدَّ لِكُلِّ حالِ القومِ حَالا
أبرَّ على الخُصُوم فليسَ خَصْمٌ ... ولا خَصْمَانِ يغْلبُهُ جِدالا
قَضْيتَ بِمرَّةٍ فأَصَبْتَ منهُ ... فُصُوصَ الحقِّ فانفصلَ انفصاَلا
و " اللبس " اختلاط الأمر ، وهو مشكله ، و " الشغازب " ، جمع " شغزبة " ، وهي الكيد والغرة والحيلة ، وأصله اعتقال المصارع رجل آخر برجله ليلقيه ويصرعه . و " أبر " علا ، وغلب . و " قضى بمرة " ، أي بقوة وإحكام ، و " فصوص الحق " ، لبه ومعقده . وهذا كلام بارع في الخصومة والقضاء .

(16/395)


وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
*ذكر من قال ذلك :
20273 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا عبد الله بن هاشم قال : حدثنا سيف ، عن أبي روق ، عن أبي أيوب ، عن علي رضي الله عنه : (وهو شديد المحال) قال : شديد الأخذ . (1)
20274 - حدثنا أحمد بن إسحاق قال : حدثنا أبو أحمد قال : حدثنا إسرائيل ، عن أبي يحيى ، عن مجاهد : (وهو شديد المحال) قال : شديد القوة .
20275 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : (وهو شديد المحال) أي القوة والحيلة .
20276 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن الحسن : (شديد المحال) يعني : الهلاك قال : إذا محل فهو شديد وقال قتادة : شديد الحيلة.
20277 - حدثني الحارث قال : حدثنا عبد العزيز قال : حدثنا رجل ، عن عكرمة : (وهم يجادلون في الله وهو شديد المحال) ، قال : جدال أربد (2) (وهو شديد المحال) قال : ما أصاب أربد من الصاعقة .
20278 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج : (وهو شديد المحال) قال : قال ابن عباس : شديد الحَوْل .
20279 - حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد ، في قوله : (وهو شديد المحال) قال : شديد القوة ، " المحال " : القوة .
* * *
قال أبو جعفر : والقول الذي ذكرناه عن قتادة في تأويل " المحال " أنه الحيلة ، والقول الذي ذكره ابن جريج عن ابن عباس يدلان على أنهما كانا يقرآن
__________
(1) الأثر : 20273 - انظر التعليق على الأثر السالف رقم : 20269 .
(2) في المطبوعة : " قال : المحال جدال أربد " ، وهو كلام فاسد ، والمخطوطة هي الصواب .

(16/396)


: " ( وهُوَ شَدِيدُ المَحَالِ ) بفتح الميم ، لأن الحيلة لا يأتي مصدرها " مِحَالا " بكسر الميم ، ولكن قد يأتي على تقدير " المفعلة " منها ، فيكون محالة ، ومن ذلك قولهم : " المرء يعجزُ لا مَحالة ، (1) و " المحالة " في هذا الموضع ، " المفعلة " من الحيلة ، فأما بكسر الميم ، فلا تكون إلا مصدرًا ، من " ماحلت فلانًا أماحله محالا " ، و " المماحلة " بعيدة المعنى من " الحيلة " .
* * *
قال أبو جعفر : ولا أعلم أحدًا قرأه بفتح الميم. (2) فإذا كان ذلك كذلك ، فالذي هو أولى بتأويل ذلك ما قلنا من القول .
* * *
__________
(1) هذا مثل ذكره الميداني 2 : 221 ، وأبو هلال في الجمهرة : 193 ، وسمط الآلي : 888 ، وخرجه ، ومنه قول الشاعر : حاولْتُ حين صَرَمْتَنِي ... والمرْءُ يَعجِزُ لا المحَالهْ
والدَّهْرُ يلعبُ بالفتى ... والدّهْرُ أرْوَغُ من ثُعالهْ
والمرءُ يَكْسِبُ مالهُ ... بالشُّحِّ يورِثه كَلالهْ
والعبدُ يُقْرعُ بالعَصَا ... والحرُّ تكفيهِ المَقالهْ
(2) بل قرأها الأعرج والضحاك كذلك ، انظر تفسير أبي حيان 5 : 376 ، وشواذ القراءات لابن خالويه : 66 .

(16/397)


لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلَّا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ (14)

القول في تأويل قوله تعالى : { لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلا فِي ضَلالٍ (14) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : لله من خلقه الدعوة الحق ، و " الدعوة " هي " الحق " كما أضيفت الدار إلى الآخرة في قوله : (ولَدَارُ الآخِرَةِ) [سورة يوسف : 109] ، وقد بينا ذلك فيما مضى. (1)
وإنما عنى بالدعوة الحق ، توحيد الله وشهادةَ أن لا إله إلا الله .
* * *
__________
(1) انظر ما سلف ص : 294 ، 295 .

(16/397)


وبنحو الذي قلنا تأوله أهل التأويل .
*ذكر من قال ذلك :
20280 - حدثنا أحمد بن إسحاق قال حدثنا أبو أحمد قال : حدثنا إسرائيل ، عن سماك ، عن عكرمة ، عن ابن عباس : (دعوة الحق) ، قال : لا إله إلا الله .
20281 - حدثني المثنى قال : حدثنا عبد الله قال : حدثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس ، قوله : (له دعوة الحق) قال : شهادة أن لا إله إلا الله .
20282 - ... قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا عبد الله بن هاشم قال : حدثنا سيف ، عن أبي روق ، عن أبي أيوب ، عن علي رضي الله عنه : (له دعوة الحق) قال : التوحيد . (1)
20283 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : (له دعوة الحق) قال : لا إله إلا الله .
20284 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج قال : قال ابن عباس ، في قوله : (له دعوة الحق) قال : لا إله إلا الله .
20285 - حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد ، في قوله : (له دعوة الحق) : لا إله إلا الله ليست تنبغي لأحد غيره ، لا ينبغي أن يقال : فلان إله بني فلان .
* * *
__________
(1) الأثر : 20282 - مضى هذا الإسناد الهالك مرارًا آخرها رقم : 20273 .

(16/398)


وقوله : (والذين يدعون من دونه) يقول تعالى ذكره : والآلهة التي يَدْعونها المشركون أربابًا وآلهة .
* * *
وقوله(من دونه) يقول : من دون الله.
* * *
وإنما عنى بقوله : (من دونه) الآلهة أنها مقصِّرة عنه ، وأنَّها لا تكون إلهًا ، ولا يجوز أن يكون إلهًا إلا الله الواحد القهار ، (1) ومنه قول الشاعر : (2)
أتُوعِدُنِي وَرَاء بَنِي رِيَاحٍ?... كَذَبْتَ لَتَقْصُرَنّ يَدَاكَ دُونِي (3)
يعني : لتقصرنَّ يداك عني .
* * *
وقوله : (لا يستجيبون لهم بشيء ، ) يقول : لا تجيب هذه الآلهة التي يدعوها هؤلاء المشركون آلهةً بشيء يريدونه من نفع أو دفع ضرٍّ (إلا كباسط كفيه إلى الماء) ، يقول : لا ينفع داعي الآلهة دعاؤه إياها إلا كما ينفع باسط كفيه إلى الماء بسطُه إياهما إليه من غير أن يرفعه إليه في إناء ، ولكن ليرتفع إليه بدعائه إياه وإشارته إليه وقبضه عليه .
* * *
والعرب تضرب لمن سعى فيما لا يدركه مثلا بالقابض على الماء ، (4) قال بعضهم : (5)
فإنِّي وإيَّاكُمْ وَشَوْقًا إلَيْكُمُ... كَقَابِضِ مَاءٍ لَمْ تَسِقْهُ أَنَامِلُه (6)
__________
(1) انظر تفسير " دون " في فهارس اللغة ( دون ) .
(2) هو جرير .
(3) ديوانه 577 ، والنقائض : 31 ، ومجاز القرآن لأبي عبيدة 1 : 326 والأضداد لابن الأنباري : 58 ، وسيأتي التفسير قريبًا 13 : 130 ( بولاق ) وغيرها كثير ، يهجو فضالة من بني عرين .
(4) قالوا في المثل : كالقابض على الماء " ، انظر أمثال الميداني 2 : 80 ، وجمهرة الأمثال : 164 .
(5) هو ضابئ بن الحارث البرجمي .
(6) من قصيدته التي قالها في السجن ، وكان أعد حديدة يريد أن يغتال بها عثمان بن عفان رضي الله عنه وشعره في خزانة الأدب 4 : 80 ، وفي طبقات فحول الشعراء : 145 ، وتاريخ الطبري 5 : 137 / 7 : 213 ، والبيت في الخزانة ، وفي اللسان ( وسق ) ، ومجاز القرآن لأبي عبيدة 1 : 327 ، وغريب القرآن لابن قتيبة : 226 . وقوله : " لم تسقه " ، من " وسقت الشيء أسقه وسقًا " ، إذا حملته .

(16/399)


يعني بذلك : أنه ليس في يده من ذلك إلا كما في يد القابض على الماء ، لأن القابض على الماء لا شيء في يده . وقال آخر : (1)
فَأَصْبَحْتُ مِمَّا كانَ بَيْنِي وبَيْنهَا... مِنَ الوُدِّ مِثْلَ القَابِضِ المَاءَ بِاليَد (2)
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
*ذكر من قال ذلك :
20286 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا سيف ، عن أبي روق ، عن أبي أيوب ، عن علي رضي الله عنه ، في قوله : (إلا كباسط كفيه إلى الماء ليبلغ فاه وما هو ببالغه) قال : كالرجل العطشان يمد يده إلى البئر ليرتفع الماء إليه وما هو ببالغه . (3)
20287 - حدثنا الحسن بن محمد قال : حدثنا شبابة قال : حدثنا ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : (كباسط كفيه إلى الماء) يدعو الماء بلسانه ويشير إليه بيده ، ولا يأتيه أبدًا .
20288 - ... قال : حدثنا حجاج ، عن ابن جريج قال : أخبرني الأعرج ، عن مجاهد : (ليبلغ فاه) يدعوه ليأتيه وما هو بآتيه ، كذلك لا يستجيب من هو دونه .
__________
(1) هو الأحوص بن محمد الأنصاري .
(2) الزهرة : 183 ، ومجاز القرآن لأبي عبيدة 1 : 327 ، وقبله : فوَاندَمِي إذْ لم أَعُجْ ، إذ تقولُ لِي ... تقدَّمْ فَشَيِّعنا إلى ضَحْوةِ الغَدِ
ووراية الزهرة : سِوَى ذِكْرها ، كالقابضَ الماءَ باليدِ
* وهي رواية جيدة جدًا ، خير مما روى أبو عبيدة والطبري .
(3) الأثر : 20286 - هذا أيضًا هو الإسناد الهالك الذي مضى برقم : 20282 .

(16/400)


20289 - حدثني محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : (كباسط كفيه إلى الماء) يدعو الماء بلسانه ويشير إليه بيده ، فلا يأتيه أبدًا .
20290 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو حذيفة قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد
20291 - ... قال : وحدثنا إسحاق قال : حدثنا عبد الله قال : حدثنا ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
20292 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج. عن ابن جريج ، عن مجاهد مثل حديث الحسن عن حجاج قال ابن جريج : وقال الأعرج عن مجاهد : (ليبلغ فاه) قال : يدعوه لأن يأتيه وما هو بآتيه ، فكذلك لا يستجيب مَنْ دونه .
20293 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : (والذين يدعون من دونه لا يستجيبون لهم بشيء إلا كباسط كفيه إلى الماء ليبلغ فاه وما هو ببالغه) وليس ببالغه حتى يتمزَّع عنقه ويهلك عطشًا قال الله تعالى : (وما دعاء الكافرين إلا في ضلال) هذا مثل ضربه الله ; أي هذا الذي يدعو من دون الله هذا الوثنَ وهذا الحجر لا يستجيب له بشيء أبدًا ولا يسُوق إليه خيرًا ولا يدفع عنه سوءًا حتى يأتيه الموت ، كمثل هذا الذي بسط ذارعيه إلى الماء ليبلغ فاه ولا يبلغ فاه ولا يصل إليه ذلك حتى يموت عطشًا .
* * *
وقال آخرون : معنى ذلك : والذين يدعون من دونه لا يستجيبون لهم بشيء إلا كباسط كفيه إلى الماء ليتناول خياله فيه ، وما هو ببالغ ذلك .
*ذكر من قال ذلك :
20294 - حدثني المثنى قال : حدثنا عبد الله بن صالح قال : حدثني

(16/401)


معاوية ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قوله : (كباسط كفيه إلى الماء ليبلغ فاه) ، فقال : هذا مثل المشرك مع الله غيرَهُ ، فمثله كمثل الرَّجل العطشان الذي ينظر إلى خياله في الماء من بعيد ، فهو يريد أن يتناوله ولا يقدر عليه .
* * *
وقال آخرون في ذلك ما :
20295 - حدثني به محمد بن سعد قال : حدثني أبي قال : حدثني عمي قال : حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : (والذين يدعون من دونه لا يستجيبون لهم بشيء) إلى : (وما دعاء الكافرين إلا في ضلال) يقول : مثل الأوثان والذين يعبدون من دون الله ، (1) كمثل رجل قد بلغه العطش حتى كَرَبه الموت وكفاه في الماء قد وضعهما لا يبلغان فاه ، يقول الله : لا تستجيب الآلهة ولا تنفع الذين يعبدونها حتى يبلغ كفّا هذا فاه ، وما هما ببالغتين فاه أبدًا .
20296 - حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد في قوله : (والذين يدعون من دونه لا يستجيبون لهم بشيء إلا كباسط كفيه إلى الماء ليبلغ فاه وما هو ببالغه) قال : لا ينفعونهم بشيء إلا كما ينفع هذا بكفيه ، يعني بَسْطَهما إلى ما لا ينالُ أبدًا .
* * *
وقال آخرون : في ذلك ما :
20297 - حدثنا به محمد بن عبد الأعلى قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : (إلا كباسط كفيه إلى الماء ليبلغ فاه) وليس الماء ببالغ فاه ما قام باسطًا كفيه لا يقبضهما(وما هو ببالغه وما دعاء الكافرين إلا في ضلال) . قال : هذا مثلٌ ضربه الله لمن اتخذ من دون الله إلهًا أنه غير نافعه ، ولا يدفع عنه سوءًا حتى يموت على ذلك .
* * *
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة : " مثل الأثان الذين يعبدون " ، وهو لا يستقيم إلا كما كتبته .

(16/402)


وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلَالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآَصَالِ (15)

وقوله : (وما دعاء الكافرين إلا في ضلال) يقول : وما دعاء من كفر بالله ما يدعو من الأوثان والآلهة(إلا في ضلال) ، يقول : إلا في غير استقامة ولا هدًى ، لأنه يشرك بالله .
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ (15) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : فإن امتنع هؤلاء الذين يدعون من دون الله الأوثان والأصنام لله شركاء من إفراد الطاعة والإخلاص بالعبادة له فلله يسجد من في السموات من الملائكة الكرام ومن في الأرض من المؤمنين به طوعًا ، فأما الكافرون به فإنهم يسجدون له كَرْهًا حين يُكْرَهون على السُّجود . كما : -
20298 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : (ولله يسجد من في السموات والأرض طوعًا وكرهًا) ، فأما المؤمن فيسجد طائعًا ، وأما الكافر فيسجد كارهًا .
20299 - حدثني المثنى قال : حدثنا سويد قال : أخبرنا ابن المبارك ، عن سفيان قال : كان ربيع بن خُثيم إذا تلا هذه الآية : (ولله يسجد من في السموات والأرض طوعًا وكرهًا) قال : بلى يا رَبَّاه .
20300 - حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد ، في قوله : (ولله يسجد من في السموات والأرض طوعًا وكرهًا) قال : من دخل طائعًا ، هذا طوعًا(وكرهًا) من لم يدخل إلا بالسَّيف .
* * *

(16/403)


وقوله : (وظلالهم بالغدوّ والآصال) يقول : ويسجد أيضًا ظلالُ كل من سجد طوعًا وكرهًا بالغُدُوات والعَشَايا. (1) وذلك أن ظلَّ كلٍّ شخص فإنه يفيء بالعشيّ ، كما قال جل ثناؤه( أَوَلَمْ يَرَوْا إلى ما خَلَقَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلالُهُ عَنِ اليَمِينِ والشَّمَائِلِ سُجَّدًا للهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ ) ، [سورة النحل : 48]
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال جماعة من أهل التأويل .
*ذكر من قال ذلك :
20301 - حدثني محمد بن سعد قال : حدثني أبي قال : حدثني عمي قال : حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : (وظلالهم بالغدوّ والآصال) ، يعني : حين يفيء ظلُّ أحدهم عن يمينه أو شماله .
20302 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا عبد الله بن الزبير ، عن سفيان قال في تفسير مجاهد : (ولله يسجد من في السموات والأرض طوعًا وكرهًا وظلالهم بالغدوّ والآصال) قال : ظل المؤمن يسجد طوعًا وهو طائع ، وظلُّ الكافر يسجد طوعًا وهو كاره . (2)
20304 - حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد في قوله : (وظلالهم بالغدوّ والآصال) قال : ذُكر أن ظلال الأشياء كلها تسجد له ، وقرأ : ( سُجَّدًا للهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ ) [سورة النحل : 48]. قال : تلك الظلال تسجد لله .
__________
(1) انظر تفسير " الغدو " فيما سلف 13 : 354 .
(2) قوله : " يسجد طوعًا وهو كاره " ، يعني أن الظل ، وهو من خلق الله المتعبد له ، يسجد طوعًا ، وصاحب الظل كاره للسجود ، وهو الكافر ، أعاذنا الله وإياك .

(16/404)


قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ لَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (16)

* * *
و " الآصال " : جمع أصُلٍ ، و " الأصُل " : جمع " أصيلٍ " ، و " الأصيل " : هو العشيُّ ، وهو ما بين العصر إلى مغرب الشمس ، (1) قال أبو ذؤيب :
لَعَمْرِي لأَنْتَ البَيْتُ أُكْرِمَ أَهْلَهُ... وَأَقْعُدُ فِي أَفْيَائِهِ بِالأصَائِلِ (2)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ قُلِ اللَّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ لا يَمْلِكُونَ لأَنْفُسِهِمْ نَفْعًا وَلا ضَرًّا }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : قل يا محمد لهؤلاء المشركين بالله : مَنْ رَبُّ السموات والأرض ومدبِّرها ، فإنهم سيقولون الله . وأمر الله نبيّه صلى الله عليه وسلم أن يقول : " الله " ، فقال له : قل ، يا محمد : ربُّها ، الذي خلقها وأنشأها ، هو الذي لا تصلح العبادة إلا له ، وهو الله . ثم قال : فإذا أجابوك بذلك فقل لهم : أفاتخذتم من دون رب السموات والأرض أولياء لا تملك لأنفسها نفعًا تجلبه إلى نفسها ، ولا ضرًّا تدفعه عنها ، وهي إذ لم تملك ذلك لأنفسها ، فمِنْ مِلْكه لغيرها أبعدُ فعبدتموها ، وتركتم عبادة من بيده النفع والضر والحياة والموت وتدبير الأشياء كلها . ثم ضرب لهم جل ثناؤه مثلا فقال : (قل هل يستوي الأعمى والبصير) .
* * *
__________
(1) انظر تفسير " الآصال " فيما سلف 13 : 354 ، 355 .
(2) ديوانه : 141 ، ومجاز القرآن لأبي عبيدة 1 : 239 ، 328 ، والإنصاف : 304 ، 305 ، والخزانة 2 : 489 ، 564 ، واللسان ( أصل ) . وللنحاة فيه لجاجة كثيرة .

(16/405)


القول في تأويل قوله تعالى : { قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (16) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : قل يا محمد لهؤلاء المشركين الذين عَبدُوا من دون الله الذي بيده نفعهم وضرهم ما لا ينفع ولا يضرُّ : (هل يستوي الأعمى) الذي لا يُبصر شيئًا ولا يهتدي لمحجة يسلكها إلا بأن يُهدى و " البصير " الذي يهدي الأعمى لمحجة الطريق الذي لا يُبصر ؟ إنهما لا شك لغير مستويين. يقول : فكذلك لا يستوي المؤمن الذي يُبصر الحق فيتبعه ويعرف الهدى فيسلكه ، وأنتم أيها المشركون الذين لا تعرفون حقا ولا تبصرون رَشَدًا .
* * *
وقوله : (أم هل تستوي الظلمات والنور) ، يقول تعالى ذكره : وهل تستوي الظلماتُ التي لا تُرَى فيها المحجة فتُسْلَك ولا يرى فيها السبيل فيُرْكَب والنور الذي تبصر به الأشياء ويجلو ضوءه الظّلام ؟ يقول : إن هذين لا شك لغير مستويين ، فكذلك الكفر بالله ، إنما صاحبه منه في حَيرة يضرب أبدًا في غمرة لا يرجع منه إلى حقيقة ، والإيمان بالله صاحبه منه في ضياء يعمل على علم بربه ، ومعرفةٍ منه بأن له مثيبًا يثيبه على إحسانه ومعاقبًا يعاقبه على إساءته ورازقًا يرزقه ونافعًا ينفعه .
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
*ذكر من قال ذلك :

(16/406)


20305 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو حذيفة قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : (قل هل يستوي الأعمى والبصير أم هل تستوي الظلمات والنور) ، أما(الأعمى والبصير) فالكافر والمؤمن وأما(الظلمات والنور) فالهدى والضلالة .
* * *
وقوله : (أم جعلوا لله شركاء خلقوا كخلقه فتشابه الخلق عليهم) يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : قل يا محمد لهؤلاء المشركين : أخَلَق أوثانُكم التي اتخذتموها أولياء من دون الله خلقًا كخلق الله ، فاشتبه عليكم أمرُها فيما خَلقت وخَلَق الله فجعلتموها له شركاء من أجل ذلك ، أم إنما بكم الجهل والذهابُ عن الصواب ؟ فإنه لا يشكل على ذي عقل أنّ عبادة ما لا يضرّ ولا ينفع من الفعل جهلٌ ، وأن العبادة إنما تصلح للذي يُرْجَى نفعه وُيخْشَى ضَرَّه ، كما أن ذلك غير مشكل خطؤه وجهلُ فاعله ، كذلك لا يشكل جهل من أشرك في عبادة من يرزقه ويكفله ويَمُونه ، من لا يقدِرُ له على ضررّ ولا نفع .
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال بعض أهل التأويل .
*ذكر من قال ذلك :
20306 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو حذيفة قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : (أم جعلوا لله شركاء خلقوا كخلقه) حملهم ذلك على أن شكُّوا في الأوثان .
20307 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا عبد الله ، عن ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد مثله .
20308 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد : (أم جعلوا لله شركاء خلقوا كخلقه فتشابه الخلق عليهم) ، خلقوا كخلقه ، فحملهم ذلك على أن شكُّوا في الأوثان .

(16/407)


أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ (17)

20309 - حدثنا الحسن بن محمد قال : حدثنا شبابة قال : حدثنا ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
20310 - ... قال : حدثنا حجاج ، عن ابن جريج قال : قال ابن كثير : سمعت مجاهدًا يقول : (أم جعلوا لله شركاء خلقوا كخلقه فتشابه الخلق عليهم) ضُرِبت مثلا .
* * *
وقوله : (قل الله خالق كل شيء) ، يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : قل لهؤلاء المشركين إذا أقرُّوا لك أن أوثانهم التي أشركوها في عبادة الله لا تخلق شيئًا ، فاللهُ خالقكم وخالق أوثانكم وخالق كل شيء ، (1) فما وجه إشراككم ما لا يخلق ولا يضرّ ؟
* * *
وقوله : (وهو الواحد القهار) ، يقول : وهو الفرد الذي لا ثاني له (2) (القهار) ، الذي يستحق الألوهة والعبادة ، لا الأصنام والأوثان التي لا تضر ولا تنفع . (3)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { أَنزلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ (17) }
قال أبو جعفر : وهذا مثل ضربه الله للحق والباطل ، والإيمان به والكفر.
يقول تعالى ذكره : مثل الحق في ثباته والباطل في اضمحلاله ، مثل ماء
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة : " وخلق كل شيء " ، والذي أثبت أجود .
(2) انظر تفسير " الواحد " فيما سلف 3 : 265 ، 266 / 16 : 104 .
(3) انظر تفسير " القهار " فيما سلف ص : 104 ، تعليق : 2 ، والمراجع هناك .

(16/408)


أنزله الله من السماء إلى الأرض(فسالت أوديةٌ بقدرها) ، يقول : فاحتملته الأودية بملئها ، الكبير بكبره ، والصغير بصغره(فاحتمل السيل زبدًا رابيًا) ، يقول : فاحتمل السيل الذي حدث عن ذلك الماء الذي أنزله الله من السماء ، زبدًا عاليًا فوق السيل .
فهذا أحدُ مثلي الحقّ والباطل ، فالحق هو الماءُ الباقي الذي أنزله الله من السماء ، والزبد الذي لا ينتفع به هو الباطل .
والمثل الآخر : (ومما يوقدون عليه في النار ابتغاء حلية) يقول جل ثناؤه : ومثلٌ آخر للحقّ والباطل ، مثل فضة أو ذهب يوقد عليها الناس في النار طلب حلية يتخذونها أو متاع ، وذلك من النحاس والرصاص والحديد ، يوقد عليه ليتخذ منه متاع ينتفع به ، (زبد مثله) ، يقول تعالى ذكره : ومما يوقدون عليه من هذه الأشياء زبد مثله ، يعني : مثل زبد السَّيل لا ينتفع به ويذهب باطلا كما لا ينتفع بزبد السَّيل ويذهب باطلا .
* * *
ورفع " الزبد " بقوله : (ومما يوقدون عليه في النار) .
* * *
ومعنى الكلام : ومما يوقدون عليه في النار زبدٌ مثلُ زبد السيل في بطول زبده ، وبقاء خالص الذهب والفضة .
يقول الله تعالى : (كذلك يضرب الله الحق والباطل) ، يقول : كما مثَّل الله مثلَ الإيمان والكفر ، (1) في بُطُول الكفر وخيبة صاحبه عند مجازاة الله ، بالباقي النافع من ماء السيل وخالص الذهب والفضة ، كذلك يمثل الله الحق والباطل (فأما الزبد فيذهب جُفَاء) يقول : فأما الزبد الذي علا السيل والذهب والفضة والنحاس والرصاص عند الوقود عليها ، فيذهب بدفع الرياح وقذف الماء به ، وتعلُّقه بالأشجار وجوانب الوادي(وأما ما ينفع الناس) من الماء والذهب والفضة والرصاص
__________
(1) في المطبوعة : " كما مثل الله الإيمان .. " ، حذف ما أثبته من المخطوطة .

(16/409)


والنحاس ، فالماء يمكثُ في الأرض فتشربه ، والذهب والفضة تمكث للناس(كذلك يضرب الله الأمثال) يقول : كما مثَّل هذا المثل للإيمان والكفر ، كذلك يمثل الأمثال .
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
*ذكر من قال ذلك :
20311 - حدثني المثنى قال : حدثنا عبد الله بن صالح قال : حدثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس قوله : (أنزل من السماء ماء فسالت أوديه بقدرها) فهذا مثل ضربه الله ، احتملت منه القلوب على قدر يقينها وشكّها ، فأما الشك فلا ينفع معه العمل ، وأما اليقين فينفع الله به أهله ، وهو قوله : (فأما الزبد فيذهب جفاء) ، وهو الشك(وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض) ، وهو اليقين ، كما يُجْعل الحَلْيُ في النار فيؤخذ خالصُه ويترك خَبَثُه في النار ، فكذلك يقبل الله اليقين ويترك الشك .
20312 - حدثني محمد بن سعد قال : حدثني أبي قال : حدثني عمي قال : حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : (أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها فاحتمل السيل زبدًا رابيًا) ، يقول : احتمل السيل ما في الوادي من عود ودِمْنة ، (ومما يوقدون عليه في النار) فهو الذهب والفضة والحلية والمتاع والنحاس والحديد ، وللنحاس والحديد خَبَث ، فجعل الله مثل خبثه كزبد الماء . فأما ما ينفع الناس فالذهب والفضة ، وأما ما ينفع الأرض فما شربت من الماء فأنبتت . فجعل ذلك مثل العمل الصالح يبقى لأهله ، والعمل السيءُ يضمحل عن أهله ، كما يذهب هذا الزبد ، فكذلك الهدى والحق جاء من عند الله ، فمن عمل بالحق كان له ، وبقي كما يبقى ما ينفع الناس في الأرض. وكذلك الحديد لا يستطاع أن تجعل منه سكين ولا سيف حتى يدخل في النّار فتأكل خبَثَه ، فيخرج جيّده فينتفع به.

(16/410)


فكذلك يضمحل الباطل إذا كان يوم القيامة ، وأقيم الناس ، وعرضت الأعمال ، فيزيغ الباطل ويهلك ، وينتفع أهل الحق بالحق ، ثم قال : (ومما يوقدون عليه في النار ابتغاء حِلْية أو متاع زبدٌ مثله).
20313 - حدثني يعقوب قال : حدثنا ابن علية ، عن أبي رجاء ، عن الحسن ، في قوله : (أنزل من السماء ماء فسالت أودية) إلى : (أو متاع زبد مثله) ، فقال : ابتغاء حلية الذهب والفضة ، أو متاع الصُّفْر والحديد . قال : كما أوقد على الذهب والفضة والصُّفْر والحديد فخلص خالصه. قال : (كذلك يضرب الله الحق والباطل فأما الزبد فيذهب جفاءً وأمّا ما ينفع الناس فيمكث في الأرض) ، كذلك بقاء الحق لأهله فانتفعوا به .
20314 - حدثنا الحسن بن محمد الزعفراني قال : حدثنا حجاج بن محمد قال : قال ابن جريج : أخبرني عبد الله بن كثير أنه سمع مجاهدًا يقول : (أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها) ، قال : ما أطاقت ملأها(فاحتمل السيل زبدًا رابيًا) قال : انقضى الكلام ، ثم استقبل فقال : (ومما توقدون عليه في النار ابتغاء حليه أو متاع زبد مثله) قال : المتاع : الحديد والنحاس والرصاص وأشباهه(زبد مثله) قال : خَبَثُ ذلك مثل زَبَد السيل . قال : (وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض) ، وأما الزبد فيذهب جفاء ، قال : فذلك مثل الحق والباطل .
20315 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن عبد الله بن كثير ، عن مجاهد : أنه سمعه يقول : فذكر نحوه وزاد فيه ، قال : قال ابن جريج : قال مجاهد قوله : (فأما الزبد فيذهب جفاء) قال : جمودًا في الأرض ، (وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض) ، يعني الماء. وهما مثلان : مثل الحق والباطل .
20316 - حدثنا الحسن قال : حدثنا شبابة قال : حدثنا ورقاء ، عن ابن

(16/411)


أبي نجيح ، عن مجاهد قوله : (زبدًا رابيًا) السيل مثل خَبَث الحديد والحلية(فيذهب جفاء) جمودًا في الأرض (ومما يوقدون عليه في النار ابتغاء حلية أو متاع زبد مثله) ، الحديد والنحاس والرصاص وأشباهه . وقوله : (وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض) ، إنما هما مثلان للحق والباطل .
20317 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو حذيفة قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد
20318 - ... قال ، وحدثنا إسحاق قال : حدثنا عبد الله ، عن ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد يزيد أحدهما على صاحبه في قوله : (فسألت أودية بقدرها) قال : بملئها(فاحتمل السيل زبدًا رابيًا) ، قال : الزبد : السيل(ابتغاء حلية أو متاع زبد مثله) ، قال : خبث الحديد والحلية(فأما الزبد فيذهب جفاء) قال : جمودًا في الأرض(وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض) قال : الماء وهما مثلان للحق والباطل .
20319 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : (أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها) ، الصغير بصغره ، والكبير بكبره(فاحتمل السيل زبدًا رابيًا) أي عاليًا(ومما يوقدون عليه في النار ابتغاء حلية أو متاع زبد مثله كذلك يضرب الله الحق والباطل فأما الزبد فيذهب جفاء) و " الجفاء " : ما يتعلق بالشجر(وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض) . هذه ثلاثة أمثال ضربَها الله في مثلٍ واحد. يقول : كما اضمحلّ هذا الزبد فصار جُفاءً لا ينتفع به ولا تُرْجى بركته ، كذلك يضمحلّ الباطل عن أهله كما اضمحل هذا الزبد ، وكما مكث هذا الماء في الأرض ، فأمرعت هذه الأرض وأخرجت نباتها ، كذلك يبقى الحق لأهله كما بقي هذا الماء في الأرض ، فأخرج الله به ما أخرج من النبات قوله : (ومما توقدون عليه في النار) الآية ، كما يبقى خالص الذهب والفضة حين أدخل النار وذهب خَبَثه ، كذلك يبقى الحق

(16/412)


لأهله قوله : (أو متاع زبد مثله) ، يقول : هذا الحديد والصُّفْر الذي ينتفع به فيه منافع. يقول : كما يبقى خالص هذا الحديد وهذا الصُّفر حين أدخل النار وذهب خَبَثه ، كذلك يبقى الحق لأهله كما بقي خالصهما .
20320 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : (فسالت أودية بقدرها) ، الكبير بقدره ، والصغير بقدره(زبدًا رابيًا) قال : ربا فوق الماء الزبد " ومما توقدون عليه في النار " قال : هو الذهب إذا أدخل النار بقي صَفْوه ونُفِيَ ما كان من كَدَره. وهذا مثل ضربه الله . للحق والباطل(فأما الزبد فيذهب جفاء) ، يتعلق بالشجر فلا يكون شيئًا. هذا مثل الباطل(وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض) ، وهذا يخرج النبات. وهو مثل الحق(أو متاع زبد مثلا) قال : " المتاع " ، الصُّفْر والحديد .
20321 - حدثنا الحسن بن محمد قال : حدثنا هوذة بن خليفة قال : حدثنا عوف قال : بلغني في قوله : (أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها) قال : إنما هو مثل ضربه الله للحق والباطل(فسالت أودية بقدرها) الصغير على قدره ، والكبير على قدره ، وما بينهما على قدره(فاحتمل السيل زبدًا رابيًا) يقول : عظيمًا ، وحيث استقرَّ الماءُ يذهب الزبد جفاءً فتطير به الريح فلا يكون شيئًا ، ويبقى صريح الماء الذي ينفع الناس ، منه شرابهم ونباتهم ومنفعتهم(أو متاع زبد مثله) ، ومثل الزبد كلّ شيء يوقد عليه في النار الذهب والفضة والنحاس والحديد ، فيذهب خَبَثُه ويبقى ما ينفع في أيديهم ، والخبث والزَّبد مثل الباطل ، والذي ينفع الناس مما تحصَّل في أيديهم مما ينفعهم المال الذي في أيديهم .
20322 - حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد في قوله : " ومما توقدون عليه في النار ابتغاء حلية أو متاع زبد مثله " قال : هذا مثل ضربه الله للحق والباطل . فقرأ : (أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها فاحتمل السيل زبدًا رابيًا) هذا الزبد لا ينفع(أو متاع زبد مثله) ، هذا لا ينفع

(16/413)


أيضًا قال : وبقي الماءُ في الأرض فنفع الناس ، وبقي الحَلْيُ الذي صلح من هذا ، فانتفع الناس به(فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض كذلك يضرب الله الأمثال) ، وقال : هذا مثل ضربه الله للحق والباطل .
20323 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج قال : قال ابن عباس : (أودية بقدرها) قال : الصغير بصغره ، والكبير بكبره .
20324 - حدثنا أحمد بن إسحاق قال : حدثنا أبو أحمد قال : حدثنا طلحة بن عمرو ، عن عطاء : ضرب الله مثلا للحق والباطل ، فضرب مثل الحق كمثل السيل الذي يمكث في الأرض ، وضرب مثل الباطل كمثل الزبد الذي لا ينفع الناس .
* * *
وعنى بقوله : (رابيًا) ، عاليًا منتفخًا ، من قولهم : رَبَا الشيء يَرْبُو رُبُوًا فهو رابٍ ، ومنه قيل للنَّشْز من الأرض كهيئة الأكمة : " رابية " ، ومنه قول الله تعالى : ( اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ ) . [سورة الحج5/سورة فصلت39]. (1)
* * *
وقيل للنحاس والرصاص والحديد في هذا الموضع " المتاع " ، لأنه يستمتع به ، وكل ما يتمتع به الناس فهو " متاع " ، (2)
كما قال الشاعر : (3)
تَمَتَّعْ يا مُشَعَّثُ إنَّ شَيْئًا... سَبَقْتَ بِهِ المَمَاتَ هُوَ المَتَاعُ (4)
* * *
__________
(1) انظر تفسير " ربا " فيما سلف 6 : 7 .
(2) انظر تفسير " المتاع " فيما سلف 15 : 146 ، تعليق : 4 ، والمراجع هناك .
(3) هو المشعث العامري ، وبهذا البيت سمي " مشعثًا " .
(4) الأصمعيات رقم : 48 ، ومعجم الشعراء : 475 ، ومجاز القرآن لأبي عبيدة 1 : 328 ، واللسان ( متع ) ، وهي أبيات جياد ، يقول بعد البيت : بإصْر يَتَّرِكْنِي الحيُّ يومًا ... رَهينةَ دَارِهمْ ، وَهُمُ سِرَاعُ
وجاءَتْ جَيْأَلٌ وَأبُو بَنِيهَا ... أَحَمُّ المَأْقِيَيْنِ بِهِ خُمَاعُ
فظَلاَّ ينْبِشانِ التُّرْبَ عنِّي ... وما أنَا وَيْبَ غيْرِك والسِّباعُ
يقول : ليأتيني الأجل ، فيتركني أهلي دفينًا في ديارهم ، ثم يسرعون الرحيل . ثم تأتي " جيأل " ، وهي أنثى الضباع ، ويأتي ذكرها ، أسود مأق العين ، يخمع ويعرج ، فينبشان الترب عني ، ولا دفع عندي لما يفعلان .

(16/414)


وأما الجفاء فإني :
20325 - حدثت عن أبي عبيدة معمر بن المثنى ، قال أبو عمرو بن العلاء : يقال : قد أجفأت القِدْرُ ، وذلك إذا غلت فانصبَّ زَبدها ، أو سَكنَت فلا يبقى منه شيءٌ . (1)
* * *
وقد زعم بعض أهل العربية من أهل البصرة ، أن معنى قوله : (فيذهب جفاء) تنشِفهُ الأرض ، وقال : يقال : جفا الوادي وأجفى في معنى نشف ، " وانجفى الوادي " (2)
، إذا جاء بذلك الغثاء ، " وغَثَى الوادي فهو يَغْثَى غَثْيًا وغَثَيَانًا " (3) وذكر عن العرب أنها تقول : " جفأتُ القدر أجفؤها " ، إذا أخرجتَ جُفَاءها ، وهو الزبد الذي يعلوها و " أجفأتها إجفاء " لغة . قال : وقالوا : " جفأت الرجل جَفْأً " : صرعته .
وقيل : (فيذهب جفاء) بمعنى " جفًأ " ، لأنه مصدر من قول القائل : " جفأ الوادي غُثاءه ، فخرج مخرج الاسم ، وهو مصدر ، كذلك تفعل العرب في مصدر كلّ ما كان من فعل شيء اجتمع بعضُه إلى بعض كـ " القُمَاش والدُّقاق والحُطام والغُثَاء " ، تخرجه على مذهب الاسم ، كما فعلت ذلك في
__________
(1) هذا نص كلام أبي عبيدة في مجاز القرآن 1 : 329 .
(2) هذا نص لا شبيه له في كتب اللغة في مادة ( جفا ) ، ولا في مادة ( جفأ ) ، وبين أنه أراد " جفا وأجفى " المعتل الآخر ، لا المهموز ، ولا أدري من قاله .
(3) هذا أيضًا لا أدري من قاله قبل زمان أبي جعفر ، إلا أن صاحب اللسان ذكر مثله عن ابن جني ، والمعروف عند أهل اللغة : " غثا الوادي يغثو " .

(16/415)


لِلَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنَى وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسَابِ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (18)

قولهم : " أعطيتُه عَطاء " ، بمعنى الإعطاء ، ولو أريد من " القماش " ، المصدر على الصحة لقيل : " قد قمشه قَمْشًا " .
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { لِلَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنَى وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لافْتَدَوْا بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسَابِ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (18) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : أما الذين استجابوا لله فآمنوا به حين دعاهم إلى الإيمان به ، وأطاعوه فاتبعوا رسوله وصدّقوه فيما جاءهم به من عند الله ، (1) فإن لهم الحسنى ، وهي الجنة ، (2) كذلك : -
20326 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : (للذين استجابوا لربهم الحسنى) وهي الجنة .
* * *
وقوله : (والذين لم يستجيبوا له لو أنّ لهم ما في الأرض جميعًا ومثله معه لافتدوا به) ، يقول تعالى ذكره : وأما الذين لم يستجيبوا لله حين دعاهم إلى توحيده والإقرار بربوبيته ، (3) ولم يطيعوه فيما أمرهم به ، ولم يتبعوا رسوله فيصدقوه فيما جاءهم به من عند ربهم ، فلو أن لهم ما في الأرض جميعًا من شيء ومثله معه ملكًا لهم ، ثم قُبِل مثل ذلك منهم ، وقبل منهم بدلا من العذاب الذي أعدّه الله لهم في نار جهنم وعوضًا ، (4) لافتدوا به أنفسهم منه ، يقول الله : (أولئك لهم سوء الحساب) ،
__________
(1) انظر تفسير " الاستجابة " فيما سلف 13 : 465 ، تعليق : 4 ، والمراجع هناك .
(2) انظر تفسير " الحسنى " فيما سلف 9 : 96 / 14 : 291 .
(3) في المطبوعة : " لم يستجيبوا له " ، وأثبت ما في المخطوطة .
(4) كانت هذه العبارة في المطبوعة هكذا : " ثم مثل ذلك ، وقبل ذلك منهم بدلا من العذاب " ، وكان في المخطوطة هكذا : " ثم قبل مثل ذلك ، وقبل ذلك منهم بدلا من العذاب " . وهما عبارتان مختلفتان هالكتان ، والصواب الذي رجحته هو ما أثبت .

(16/416)


يقول : هؤلاء الذين لم يستجيبوا لله لهم سوء الحساب : يقول : لهم عند الله أن يأخذهم بذنوبهم كلها ، فلا يغفر لهم منها شيئا ، ولكن يعذبهم على جميعها . كما : -
20327 - حدثنا الحسن بن عرفة قال : حدثنا يونس بن محمد قال : حدثنا عون ، عن فرقد السبخي قال : قال لنا شهر بن حوشب : (سوء الحساب) أن لا يتجاوز لهم عن شيء . (1)
20328 - حدثني يعقوب قال : حدثنا ابن علية قال : حدثني الحجاج بن أبي عثمان قال : حدثني فرقد السبخي قال : قال إبراهيم النخعي : يا فرقد أتدري ما " سوء الحساب " ؟ قلت : لا ! قال : هو أن يحاسب الرّجل بذنبه كله لا يغفر له منه شيء . (2)
* * *
وقوله : (ومأواهم جهنم) يقول : ومسكنهم الذي يسكنونه يوم القيامة جهنم (3) ((وبئس المهاد)) ، يقول : وبئس الفراش والوطاءُ جهنمُ التي هي مأواهم يوم القيامة . (4)
* * *
__________
(1) الأثر : 20327 - " الحسن بن عرفة العبدي البغدادي " ، شيخ الطبري ، ثقة مضى برقم : 9373 ، 12851 ، 15766 .
و " يونس بن محمد بن مسلم البغدادي " ، ثقة ، روى له الجماعة ، مضى برقم : 5090 ، 12549
و " عون " ، كأنه يعني : " عون بن سلام القرشي الكوفي " ، ثقة مترجم في التهذيب .
وأما " فرقد السبخي " ، فهو " فرقد بن يعقوب السبخي " ، " أبو يعقوب " ، كان ضعيفًا منكر الحديث ، لأنه لم يكن صاحب حديث ، وليس بثقة مترجم في التهذيب ، والكبير 4 / 1 / 131 ، وابن أبي حاتم 3 / 2 / 81 ، وميزان الاعتدال 2 : 327 .
(2) الأثر : 20328 - " فرقد السبخي " ، ليس بثقة ، مضى برقم : 20327 ، وسيأتي هذا الخبر بإسناد آخر رقم : 20334 .
(3) انظر تفسير " المأوى " فيما سلف 15 : 26 ، تعليق : 1 ، والمراجع هناك .
(4) انظر تفسير " المهاد " فيما سلف 12 : 435 ، تعليق : 1 ، والمراجع هناك .

(16/417)


أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ (19)

القول في تأويل قوله تعالى : { أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الأَلْبَابِ (19) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : أهذا الذي يعلم أنّ الذي أنزله الله عليك ، يا محمد ، حق فيؤمن به ويصدق ويعمل بما فيه ، كالذي هو أعمى فلا يعرف موقع حُجَة الله عليه به ولا يعلم ما ألزمه الله من فَرَائصه ؟
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
*ذكر من قال ذلك :
20329 - حدثنا إسحاق قال : حدثنا هشام ، عن عمرو ، عن سعيد ، عن قتادة في قوله : (أفمن يعلم أنما أنزل إليك من ربك الحق) ، قال : هؤلاء قوم انتفعُوا بما سمعوا من كتاب الله وعقلوه ووَعَوْه ، قال الله : (كمن هو أعمى) ، قال : عن الخير فلا يبصره .
* * *
وقوله : (إنما يتذكر أولوا الألباب) يقول : إنما يتعظ بآيات الله ويعتبر بها ذوو العقول ، (1) وهي " الألباب " واحدها " لُبٌّ " . (2)
* * *
__________
(1) انظر تفسير " التذكر " فيما سلف من فهارس اللغة (ذكر)
(2) انظر تفسير " الألباب " فيما سلف 3 : 383 / 4 : 162 / 5 : 580 / 6 : 211 / 11 : 97 .

(16/418)


الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلَا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ (20) وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ (21)

القول في تأويل قوله تعالى : { الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ (20) وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ (21) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : إنما يتعظ ويعتبر بآيات الله أولو الألباب ، الذين يوفون بوصية الله التي أوصاهم بها (1) (ولا ينقضون الميثاق) ، ولا يخالفون العهد الذي عاهدوا الله عليه إلى خلافه ، فيعملوا بغير ما أمرهم به ، ويخالفوا إلى ما نهى عنه .
* * *
وقد بينا معنى " العهد " و " الميثاق " فيما مضى بشواهده ، فأغنى عن إعادته في هذا الموضع . (2)
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
*ذكر من قال ذلك :
20330 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا هشام ، عن عمرو ، عن سعيد ، عن قتادة قال : (إنما يتذكر أولو الألباب) ، فبيَّن من هم ، فقال : (الذين يوفون بعهد الله ولا ينقضون الميثاق) ، فعليكم بوفاء العهد ، ولا تنقضوا هذا الميثاق ، فإن الله تعالى قد نهى وقدَّم فيه أشد التَّقْدمة ، (3) فذكره في بضع وعشرين موضعًا ، نصيحةً لكم وتقدِمَةً إليكم ، وحجة عليكم ، وإنما يعظُمُ الأمر بما عظَّمه الله به عند أهل الفهم والعقل ، فعظِّموا ما عظم الله. قال قتادة :
__________
(1) انظر تفسير " الإيفاء " فيما سلف من فهارس اللغة ( وفى ) .
(2) انظر تفسير " العهد " فيما سلف 14 : 141 ، تعليق : 1 ، والمراجع هناك .
وتفسير " الميثاق " فيما سلف ص : 208 ، تعليق : 1 ، والمراجع هناك .
(3) " قدم فيه أشد التقدمة " ، أي : أمرهم به أمرًا شديدًا ، ونهاهم عن مخالفته ، وقد سلف شرحها في الخبر رقم : 4914 / ج 5 : 9 ، تعليق : 3 .

(16/419)


وذكر لنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول في خطبته : " لا إيمان لمن لا أمانة له ، ولا دين لمن لا عهد له " .
* * *
وقوله : (والذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل) ، يقول تعالى ذكره : والذين يصلون الرَّحم التي أمرهم الله بوصلها فلا يقطعونها (1) (ويخشون ربهم) ، يقول : ويخافون الله في قطْعها أن يقطعوها ، فيعاقبهم على قطعها وعلى خلافهم أمرَه فيها .
* * *
وقوله : (ويخافون سوء الحساب) ، يقول : ويحذرون مناقشة الله إياهم في الحساب ، ثم لا يصفح لهم عن ذنب ، فهم لرهبتهم ذلك جادُّون في طاعته ، محافظون على حدوده . كما : -
20331 - حدثنا الحسن بن محمد قال : حدثنا عفان قال : حدثنا جعفر بن سليمان ، عن عمرو بن مالك ، عن أبي الجوزاء في قوله : (الذين يخشون ربهم ويخافون سوء الحساب) قال : المقايسةُ بالأعمال . (2)
20332 - ... قال : حدثنا عفان قال : حدثنا حماد ، عن فرقد ، عن إبراهيم قال : (سوء الحساب) أن يحاسب من لا يغفر له .
20333 - حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد في
__________
(1) انظر تفسير " الوصل " فيما سلف 1 : 415 .
(2) الأثر : 10331 - " عفان " ، هو " عفان بن مسلم الصفار " ، مضى مرارًا ، آخرها رقم : 20226 .
و " جعفر بن سليمان الضبعي " ، ثقة ، كان يتشيع ، مضى مرارًا ، آخرها رقم : 10453 .
و " عمرو بن مالك النكري " ، روى عن أبي الجوزاء ، ثقة ، وضعفه البخاري ، مضى برقم : 7701 .
و " أبو الجوزاء " ، وهو " أوس بن عبد الله الربعي " ، تابعي ثقة ، مضى برقم : 2977 ، 2978 ، 7701 . وكان في المخطوطة والمطبوعة : " عن أبي الحفنا " ، وإنما وصل الناسخ الأول " الواو " بالزاي . فصارت عند ناسخ المخطوطة إلى ما صارت إليه !!
وفي المطبوعة أيضًا : " المناقشة بالأعمال " ، غير ما في المخطوطة . و " المقايسة " من " القياس " ، " قاس الشيء " ، إذا قدره على مثاله . و " المقايسة بالأعمال " ، كأنه أراد تقديرها . والذي في المطبوعة أجود عندي : " المناقشة " .

(16/420)


وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ (22)

قوله : (ويخافون سوء الحساب) ، قال ، فقال : وما(سوء الحساب) ؟ قال : الذي لا جَوَاز فيه . (1)
20334 - حدثني ابن سمان القزاز قال ، حدثنا أبو عاصم ، عن الحجاج ، عن فرقد قال : قال لي إبراهيم : تدري ما(سوء الحساب) ؟ قلت : لا أدري قال : يحاسب العبد بذنبه كله لا يغفرُ له منه شيء . (2)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ (22) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : والذين صبروا على الوفاء بعهد الله ، وترك نقض الميثاق وصلة الرحم(ابتغاء وجه ربهم) ، ويعني بقوله : (ابتغاء وجه ربهم) ، طلب تعظيم الله ، وتنزيهًا له أن يُخالَفَ في أمره أو يأتي أمرًا كره إتيانه فيعصيه به(وأقاموا الصلاة) ، يقول : وأدُّوا الصلاة المفروضة بحدودها في أوقاتها(وأنفقوا مما رزقناهم سرًّا وعلانية) يقول : وأدَّوا من أموالهم زكاتها المفروضة وأنفقوا منها في السبل التي أمرهم الله بالنفقة فيها(سرًّا) في خفاء " وعلانية " في الظاهر . كما : -
20335 - حدثني المثنى قال : حدثنا عبد الله بن صالح قال : حدثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس ، قوله : (وأقاموا الصلاة) يعني الصلوات الخمس(وأنفقوا مما رزقناهم سرًّا وعلانية) . يقول الزكاة .
__________
(1) " الجواز " ، التساهل والتسامح .
(2) الأثر : 20334 - مضى بإسناد آخر رقم : 20328 .

(16/421)


20336 - حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد " الصبر " ، الإقامة. قال ، وقال " الصبر " في هاتين ، فصبرٌ لله على ما أحبَّ وإن ثقل على الأنفس والأبدان ، وصبرٌ عمَّا يكره وإن نازعت إليه الأهواء. فمن كان هكذا فهو من الصابرين . وقرأ : (سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار) . [سورة الرعد : 24]
* * *
وقوله : (ويدرءون بالحسنة السيئة) ، يقول : ويدفعون إساءة من أساء إليهم من الناس ، بالإحسان إليهم. (1) كما : -
20337 - حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد ، في قوله : (ويدرءون بالحسنة السيئة) ، قال : يدفعون الشر بالخير ، لا يكافئون الشرّ بالشر ، ولكن يدفعونه بالخير .
* * *
وقوله : (أولئك لهم عقبى الدار) يقول تعالى ذكره : هؤلاء الذين وصفنا صفتهم ، هم الذين(لهم عقبى الدار) ، يقول : هم الذين أعقبهم الله دارَ الجنان ، من دارهم التي لو لم يكونوا مؤمنين كانت لهم في النار ، فأعقبهم الله من تلك هذه . (2)
* * *
وقد قيل : معنى ذلك : أولئك الذين لهم عقِيبَ طاعتهم ربَّهم في الدنيا ، دارُ الجنان .
* * *
__________
(1) انظر تفسير " الدرء " فيما سلف 2 : 22 ، 225 / 7 : 382 .
(2) انظر تفسير " العاقبة " فيما سلف 15 : 356 ، تعليق : 1 ، والمراجع هناك .

(16/422)


جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آَبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ (23) سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ (24)

القول في تأويل قوله تعالى : { جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ (23) سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ (24) }
قال أبو جعفر : يقول(جنات عدن) ، ترجمة عن(عقبى الدار) (1) كما يقال : " نعم الرجل عبد الله " ، فعبد الله هو الرجل المقول له : " نعم الرجل " ، وتأويل الكلام : أولئك لهم عَقيِبَ طاعتهم ربِّهم الدارُ التي هي جَنَّات عدْنٍ .
* * *
وقد بينا معنى قوله : (عدن) ، وأنه بمعنى الإقامة التي لا ظَعْنَ معها . (2)
* * *
وقوله : (ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم) ، يقول تعالى ذكره : جنات عدن يدخلها هؤلاء الذين وصف صفتهم وهم الذين يوفون بعهد الله ، والذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل ويخشون ربهم ، والذين صبروا ابتغاء وجه ربهم ، وأقاموا الصلاة ، وفعلوا الأفعال التي ذكرها جل ثناؤه في هذه الآيات الثلاث(ومن صلح من آبائهم وأزواجهم) ، وهي نساؤهم وأهلوهم و " ذرّيّاتهم " . (3) . و " صلاحهم " إيمانهم بالله واتباعهم أمره وأمر رسوله عليه السلام . كما : -
20338 - حدثنا الحسن بن محمد قال : حدثنا شبابة قال : حدثنا ورقاء ،
__________
(1) " الترجمة " ، هي عند الكوفيين ، " عطف البيان " و " البدل " عند البصريين ، انظر ما سلف 2 : 340 ، 374 ، 420 ، 425 ، 426 ، ثم سائر الأجزاء في فهرس المصطلحات .
(2) انظر تفسير " جنات عدن " فيما سلف 14 : 350 - 355 .
(3) انظر تفسير " الأزواج " فيما سلف 12 : 150 ، تعليق : 1 ، والمراجع هناك .
وتفسير " الذرية " فيما سلف 15 : 163 ، تعليق : 1 ، والمراجع هناك .

(16/423)


عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : (ومن صلح من آبائهم) قال : من آمن في الدنيا .
20339 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو حذيفة قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد
20340 - وحدثنا إسحاق قال : حدثنا عبد الله ، عن ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
20341 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد قوله : (ومن صلح من آبائهم) قال : من آمن من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم .
* * *
وقوله : (والملائكة يدخلون عليهم من كل باب سلام عليكم بما صبرتم) ، يقول : تعالى ذكره : وتدخل الملائكة على هؤلاء الذين وصف جل ثناؤه صفتهم في هذه الآيات الثلاث في جنات عدن ، من كل باب منها ، يقولون لهم : (سلام عليكم بما صبرتم) على طاعة ربكم في الدنيا(فنعم عقبى الدار) .
* * *
وذكر أن لجنات عدن خمسة آلاف باب .
20342 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا علي بن جرير قال : حدثنا حماد بن سلمة ، عن يعلى بن عطاء ، عن نافع بن عاصم ، عن عبد الله بن عمرو قال : إن في الجنة قصرًا يقال له " عدن " ، حوله البروج والمروج ، فيه خمسة آلاف باب ، على كل باب خمسة آلاف حِبَرة ، (1) لا يدخله إلا نبيٌ أو صديق أو شهيدٌ . (2)
20343 - ... قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا عبد الرحمن بن مغراء ،
__________
(1) " الحبرة " بكسر الحاء وفتح الباء ، ضرب من برود اليمن منمر .
(2) الأثر : 20342 - " علي بن جرير " ، مضى آنفًا برقم : 20212 ، ولم أجد له ترجمة إلا في ابن أبي حاتم ، وهي مختلفة .
و " حماد بن سلمة " ، ثقة مشهور ، مضى مرارًا .
و " يعلي بن عطاء العامري " ، ثقة مضى مرارًا ، آخرها : 17981 .
و " نافع بن عاصم الثقفي " ، تابعي ثقة ، مضى برقم : 15402 .
وهذا إسناد صحيح إلى عبد الله بن عمرو ، لولا ما فيه من جهالة " علي بن جرير " هذا . وهو موقوف على عبد الله بن عمرو ، لم أجد من رفعه .

(16/424)


عن جويبر ، عن الضحاك ، في قوله : (جنات عدن) قال : مدينة الجنة ، فيها الرسل والأنبياء والشهداء وأئمة الهدى ، والناسُ حولهم بعدد الجنات حوْلها .
* * *
وحذف من قوله : (والملائكة يدخلون عليهم من كل باب سلام عليكم) ، " يقولون " ، (1) اكتفاءً بدلالة الكلام عليه ، كما حذف ذلك من قوله : ( وَلَوْ تَرَى إذِ المُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أبْصَرْنَا ) . [سورة السجدة : 12]
* * *
20344 - حدثني المثنى قال : حدثنا سويد قال : أخبرنا ابن المبارك ، عن بقية بن الوليد قال : حدثني أرطاة بن المنذر قال : سمعت رجلا من مشيخة الجند يقال له " أبو الحجاج " ، يقول : جلست إلى أبي أمامة فقال : إن المؤمن ليكون متّكئًا على أريكته إذا دخل الجنة ، وعنده سِمَاطان من خَدَمٍ ، وعند طرف السِّماطين بابٌ مبوَّبٌ ، (2) فيقبل المَلَك يستأذن ؛ فيقول أقصى الخدم للذي يليه : (3) " ملك يستأذن " ، ويقول الذي يليه للذي يليه : ملك يستأذن حتى يبلغ المؤمن فيقول : ائذنوا. فيقول : أقربهم إلى المؤمن ائذنوا. ويقول الذي يليه للذي يليه : ائذنوا. فكذلك حتى
__________
(1) أي " وحذف ... يقولون " .
(2) في المطبوعة : " وعند طرف السماطين سور " ، مكان " باب مبوب " ، لأنه لم يحسن قراءة المخطوطة . وقوله : " باب مبوب " ، يعني مصنوع معقود . إن شئت قلت : قد اتخذ له بوابًا يحرسه .
(3) كانت العبارة في المطبوعة فاسدة مع زيادة جملة كاملة ، وهي " فيقول الذي يليه ملك يستأذن " مكررة ، وفي المخطوطة كالذي أثبت ، إلا أنه أسقط من الكلام " أقصى الخدم " ، فأثبتها من الدر المنثور .

(16/425)


يبلغ أقصاهم الذي عند الباب ، فيفتح له ، فيدخل فيسلّم ثم ينصرف . (1)
20345 - حدثني المثنى قال ، حدثنا سويد قال : أخبرنا ابن المبارك ، عن إبراهيم بن محمد ، عن سُهَيْل بن أبي صالح ، عن محمد بن إبراهيم قال : كان النبي صلى الله عليه وسلم يأتي قبور الشهداء على رأس كل حول فيقول : " السلام عليكم
__________
(1) الأثر : 20344 - " بقية بن الوليد " ، ثقة ، مضى مرارًا ، ولكن في حديثه مناكير ، أكثرها عن المجاهيل ، وهو كما قال الجوزجاني : " إذا تفرد بالرواية فغير محتج به لكثرة وهمه . ومع أن مسلمًا وجماعة من الأئمة قد أخرجوا عنه اعتبارًا واستشهادًا ، إلا أنهم جعلوا تفرده أصلا " .
و " أرطأة بن المنذر الألهاني " ، ثقة ، كان عابدًا ، مضى برقم : 17987 .
وأما " أبو الحجاج ، رجل من مشيخة الجند " ، فأمره مشكل .
وذلك أن ابن قيم الجوزية ، رواه من طريق بقية بن الوليد عن أرطأة بن المنذر وفيه " أبو الحجاج " ، وكذلك رواه من هذه الطريق نفسها ، ابن كثير في التفسير ، ثم قال : " رواه ابن جرير ، ورواه ابن أبي حاتم من حديث إسماعيل بن عياش ، عن أرطأة بن المنذر ، عن أبي الحجاج يوسف الألهاني قال سمعت أبا أمامة " ، فصرح باسم " أبي الحجاج " وأنه " يوسف الألهاني " ( حادي الأرواح 2 : 38 / تفسير ابن كثير 4 : 52 ) .
ولما طلبت " يوسف الألهاني " ، وجدته في التاريخ الكبير للبخاري 4 / 2 / 376 ، 377 قال : " يوسف الألهاني أبو الضحاك الحمصي ، سمع أبا أمامة الباهلي وابن عمر ، وروى عنه أرطأة . حدثنا إسحق بن يزيد ، قال حدثنا أبو مطيع معاوية ، سمع أرطأة ، سمع أبا الضحاك " .
ووجدته في الجرح والتعديل لابن أبي حاتم 4 / 2 / 35 : " يوسف الألهاني ، أبو الضحاك الحمصي ، روى ابن عمر وأبي أمامة ، عنه أرطأة بن المنذر " .
والذي نقله ابن كثير عن تفسير ابن أبي حاتم نفسه فيه : " أبو الحجاج يوسف الألهاني " ، والذي في الجرح والتعديل : " أبو الضحاك " ، يؤيده ما جاء في التاريخ الكبير . والمشكل أن يتفق نص ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل . ونص البخاري ، ثم يختلف نقل ابن كثير عن تفسير ابن أبي حاتم ، متفقًا مع ما جاء في نسخ الطبري ومن نقل عنه ، وكنيته فيها " أبو الحجاج " ، والذي أرجحه أن الصواب هو ما في التاريخ الكبير وابن أبي حاتم : " أبو الضحاك " .
ومع كل ذلك لم أجد ما يهديني إلى الصواب المحقق ، و " يوسف الألهاني " " أبو الضحاك " ، أو " أبو الحجاج " ، تابعي كما ترى ، ولكن لم أجد له ذكرًا في غير ما ذكرت من كتب ، ولم يبين حاله .
فهذا إسناد فيه نظر ، لما وجدت في التابعي من الاختلاف ، وقد رأيت أيضًا أنه لم يتفرد بروايته بقية بن الوليد ، عن أرطاة بن المنذر فيكون تفرد فيه بقية قادحًا في إسناده . فقد رواه عن أرطاة أيضًا " إسماعيل بن عياش " . ومع ذلك يظل في الإسناد شيء ، وفي النفس منه شيء .
و " إسماعيل بن عياش الحمصي " ، مضى مرارًا ، آخرها رقم : 14212 ، وهو ثقة ، ولكنهم تكلموا فيه ، وضعفوه في بعض حديثه .

(16/426)


بما صبرتم فنعم عقبى الدار " ، وأبو بكر وعمر وعثمان . (1)
* * *
وأما قوله : (سلام عليكم بما صبرتم) فإن أهل التأويل قالوا في ذلك نحو قولنا فيه .
*ذكر من قال ذلك :
20346 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا عبد الرزاق ، عن جعفر بن سليمان ، عن أبي عمران الجوني أنه تلا هذه الآية : (سلام عليكم بما صبرتم) قال : على دينكم .
20347 - حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد ، في قوله : (سلام عليكم بما صبرتم) قال : حين صبروا بما يحبه الله فقدّموه . وقرأ : ( وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحرِيرًا) ، حتى بلغ : (وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُورًا) [سورة الإنسان : 2 - 22] وصبروا عما كره الله وحرم عليهم ، وصبروا على ما ثقل عليهم وأحبه الله ، فسلم عليهم بذلك . وقرأ : (والملائكة يدخلون عليهم من كل باب سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار) .
* * *
وأما قوله : (فنعم عقبى الدار) فإن معناه إن شاء الله كما : -
20348 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال حدثنا عبد الرزاق ، عن جعفر ، عن أبي عمران الجوني في قولهم(فنعم عقبى الدار) قال : الجنة من النار . (2)
* * *
__________
(1) الأثر : 20345 - " إبراهيم بن محمد " ، هو " إبراهيم بن محمد بن الحارث بن أسماء بن خارجة الفزاري " ، ثقة مأمون ، مضى مرارًا ، آخرها رقم : 11358 .
و " سهيل بن أبي صالح ، ذكوان السمان " ، ثقة ، روى له الجماعة ، متكلم في بعض روايته . مضى أخيرًا برقم : 11503 ، وكان في المطبوعة : " سهل " غير مصغر ، وهو خطأ . لم يحسن الناشر قراءة المخطوطة لأنها غير منقوطة .
و " محمد بن إبراهيم " ، لعله : " محمد بن إبراهيم بن الحارث بن خالد التيمي " ، تابعي ثقة ، روى له الجماعة ، مترجم في التهذيب ، والكبير 1 / 1 / 22 ، وابن أبي حاتم 3 / 2 / 184 .
(2) أي الجنة بدلا من النار ، كما سلف في ص : 422 .

(16/427)


وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (25)

القول في تأويل قوله تعالى : { وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (25) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره و أما الذين ينقضون عهد الله ، ونقضهم ذلك ، خلافهم أمر الله ، وعملهم بمعصيته (1) (من بعد ميثاقه) ، يقول : من بعد ما وثّقوا على أنفسهم لله أن يعملوا بما عهد إليهم (2) (ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل) ، (3) يقول : ويقطعون الرحم التي أمرهم الله بوصلها(ويفسدون في الأرض) ، فسادهم فيها : عملهم بمعاصي الله( (4) أولئك لهم اللعنة) ، يقول : فهؤلاء لهم اللعنة ، وهي البعد من رحمته ، والإقصاء من جِنانه (5) (ولهم سوء الدار) يقول : ولهم ما يسوءهم في الدار الآخرة .
* * *
20349 - حدثني المثنى قال : حدثنا عبد الله بن صالح قال : حدثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس قال : أكبر الكبائر الإشراك بالله ، لأن الله يقول : ( وَمَْن يُشْرِكْ بِاللهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ ) [سورة الحج : 31] ، ونقض العهد ، وقطيعة الرحم ، لأن الله تعالى يقول : (أولئك لهم اللعنة ولهم سوء الدار) ، يعني : سوء العاقبة .
20350 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج قال
__________
(1) انظر تفسير " النقض " فيما سلف 9 : 363 / 10 : 125 / 14 : 22 .
(2) انظر تفسير " الميثاق " فيما سلف ص : 419 ، تعليق : 2 ، والمراجع هناك .
(3) انظر تفسير " الوصل " فيما سلف 1 : 415 وهذا ص : 420 ، تعليق : 1 .
(4) انظر تفسير " الفساد في الأرض " فيما سلف من فهارس اللغة ( فسد ) .
(5) انظر تفسير " اللعنة " فيما سلف 15 : 467 ، تعليق : 1 ، والمراجع هناك .

(16/428)


: قال ابن جريج ، في قوله : (ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل) ، قال : بلغنا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إذا لم تمش إلى ذي رحمك برجلك ولم تعطه من مالك فقد قطعته " .
20351 - حدثني محمد بن المثنى قال : حدثنا محمد بن جعفر قال : حدثنا شعبة ، عن عمرو بن مرة ، عن مصعب بن سعد قال : سألت أبي عن هذه الآية : ( قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالا الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا ) [سورة الكهف : 103 ، 104] ، أهم الحرورية ؟ قال : لا ولكن الحرورية(الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض أولئك لهم اللعنة ولهم سوء الدار) ، فكان سعدٌ يسميهم الفاسقين . (1)
20352 - حدثنا ابن المثنى قال : حدثنا أبو داود قال : حدثنا شعبة ، عن عمرو بن مرة قال : سمعت مصعب بن سعد قال : كنت أمسك على سعدٍ المصحف ، فأتى على هذه الآية ، ثم ذكر نحو حديث محمد بن جعفر . (2)
* * *
__________
(1) الأثر : 20351 - " مصعب بن سعد بن أبي وقاص " ، تابعي ثقة ، روى له الجماعة ، مضى مرارًا ، آخرها رقم : 18776 .
رواه البخاري في صحيحه من طريق محمد بن بشار ، عن محمد بن جعفر ، مطولا ( الفتح 8 : 323 ) وسيأتي مطولا في التفسير 17 : 27 ( بولاق ) في تفسير آية سورة الكهف . رواه الحاكم في المستدرك 2 : 370 ، من طريق " إسحاق ، عن جرير ، عن منصور ، عن مصعب بن سعد " ، وقال : " هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ، ولم يخرجاه " . ووافقه الذهبي . ثم انظر تخريجه في غير المطبوع من الكتب ، في الدر المنثور 4 : 253 . وسيأتي بإسناد آخر في الذي يليه .
(2) الأثر : 20352 - هو مكرر الذي قبله من رواية أبي داود الطيالسي ، عن شعبة .

(16/429)


اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الْآَخِرَةِ إِلَّا مَتَاعٌ (26)

القول في تأويل قوله تعالى : { اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلا مَتَاعٌ (26) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : الله يوسّع على من يَشاء من خلقه في رزقه ، فيبسط له منه (1) لأن منهم من لا يُصْلحه إلا ذلك(ويقدر) ، يقول : ويقتِّر على من يشاء منهم في رزقه وعيشه ، فيضيّقه عليه ، لأنه لا يصلحه إلا الإقتار(وفرحوا بالحياة الدنيا) ، يقول تعالى ذكره : وفرح هؤلاء الذين بُسِط لهم في الدنيا من الرزق على كفرهم بالله ومعصيتهم إياه بما بسط لهم فيها ، وجهلوا ما عند الله لأهل طاعته والإيمان به في الآخرة من الكرامة والنعيم .
ثم أخبر جلّ ثناؤه عن قدر ذلك في الدنيا فيما لأهل الإيمان به عنده في الآخرة وأعلم عباده قِلّته ، فقال : (وما الحياة الدنيا في الآخرة إلا متاع) ، يقول : وما جميع ما أعطى هؤلاء في الدنيا من السَّعة وبُسِط لهم فيها من الرزق ورغد العيش ، فيما عند الله لأهل طاعته في الآخرة(إلا متاع) قليل ، وشيء حقير ذاهب . (2) كما : -
20353 - حدثنا الحسن بن محمد ، قال ، حدثنا شبابة قال : حدثنا ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : (إلا متاع) قال : قليلٌ ذاهب .
20354 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد
20355 - ... قال : وحدثنا إسحاق قال : حدثنا عبد الله ، عن ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : (وما الحياة الدنيا في الآخرة إلا متاع) ، قال : قليلٌ ذاهب .
__________
(1) انظر تفسير " البسط " فيما سلف 5 : 288 - 290 / 10 : 452 .
(2) انظر تفسير " المتاع " فيما سلف : 414 ، تعليق : 2 ، والمراجع هناك .

(16/430)


وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آَيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ (27)

20356 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا جرير ، عن الأعمش ، عن بكير بن الأخنس ، عن عبد الرحمن بن سابط في قوله : (وفرحوا بالحياة الدنيا وما الحياة الدنيا في الآخرة إلا متاعٌ) قال : كزاد الرّاعي يُزوِّده أهله : الكفِّ من التمر ، أو الشيء من الدقيق ، أو الشيء يشرَبُ عليه اللبن .
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا أُنزلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ (27) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : ويقول لك يا محمد ، مشركو قومك : هلا أنزل عليك آية من ربك ، إمّا ملك يكون معك نذيرًا ، أو يُلْقَى إليك كنز ؟ فقل : إن الله يضل منكم من يشاء أيها القوم ، فيخذله عن تصديقي والإيمان بما جئته به من عند ربي(ويَهدي إليه من أناب) ، فرجع إلى التوبة من كفره والإيمان به ، فيوفقه لاتباعي وتصديقي على ما جئته به من عند ربه ، وليس ضلالُ من يضلّ منكم بأن لم ينزل علي آية من ربّي ولا هداية من يهتدي منكم بأنَّها أنزلت عليّ ، وإنما ذلك بيَدِ الله ، يوفّق من يشاء منكم للإيمان ويخذل من يشاء منكم فلا يؤمن .
* * *
وقد بينت معنى " الإنابة " ، في غير موضع من كتابنا هذا بشواهده ، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع . (1)
* * *
__________
(1) انظر تفسير " الإنابة " فيما سلف 15 : 406 ، 454 . ولقد نسي أبو جعفر رحمه الله ، فإنه لم يذكر " الإنابة " في غير هذين الموضعين القريبين ، ولم يذكر في تفسيرهما شيئًا من الشواهد ، وكأنه لما أوغل في التفسير ، وكان قد أعد له العدة ، شبه عليه الأمر ، وظن أن الذي سيأتي مرارًا ، مضى قبل ذلك مرارًا ، فقال من ذلك ما قال هنا ، وقد مر مثله وأشرت إليه .

(16/431)


الَّذِينَ آَمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (28)

20357 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : (ويهدي إليه من أناب) : أي من تاب وأقبل .
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (28) }

(16/432)


الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآَبٍ (29)

القول في تأويل قوله تعالى : { الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ (29) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : (ويهدي إليه من أناب) بالتوبة الذين آمنوا .
* * *
و(الذين آمنوا) في موضع نصب ، ردٌّ على " مَنْ " ، لأن " الذين آمنوا " ، هم " من أناب " ، ترجم بها عنها . (1)
* * *
وقوله : (وتطمئن قلوبهم بذكر الله) ، يقول : وتسكن قلوبهم وتستأنس بذكر الله ، (2) كما : -
20358 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : (وتطمئن قلوبهم بذكر الله) يقول : سكنت إلى ذكر الله واستأنست به .
* * *
وقوله : (ألا بذكر الله تطمئن القلوب) ، يقول : ألا بذكر الله تسكن وتستأنس قلوبُ المؤمنين . (3)
__________
(1) " الترجمة " ، البدل أو عطف البيان ، وانظر ما سلف قريبًا ص : 423 ، تعليق : 1 ، والمراجع هناك .
(2) انظر تفسير " الاطمئنان " فيما سلف 15 : 25 ، تعليق 1 ، والمراجع هناك .
(3) انظر تفسير " الاطمئنان " فيما سلف 15 : 25 ، تعليق 1 ، والمراجع هناك .

(16/432)


وقيل : إنه عنى بذلك قلوب المؤمنين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم .
ذكر من قال ذلك :
20359 - حدثنا الحسن بن محمد قال : حدثنا شبابة قال : حدثنا ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد قوله : (ألا بذكر الله تطمئن القلوب) لمحمد وأصحابه .
20360 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو حذيفة قال : حدثنا شبل (1)
20361 - وحدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا عبد الله ، عن ورقاء عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : (ألا بذكر الله تطمئن القلوب) قال : لمحمد وأصحابه .
20362 - ... قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا أحمد بن يونس قال ، حدثنا سفيان بن عيينة في قوله : (وتطمئن قلوبهم بذكر الله) قال : هم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم .
* * *
وقوله : (الذين آمنوا وعملوا الصالحات) ، الصالحات من الأعمال ، وذلك العمل بما أمرهم ربهم(طوبى لهم) .
* * *
و " طوبى " في موضع رفع بـ " لهم " .
وكان بعض أهل البصرة والكوفة يقول : ذلك رفع ، كما يقال في الكلام : " ويلٌ لعمرو " .
* * *
__________
(1) كرر هذا الإسناد في المطبوعة وحدها ، وقال ناشر المطبوعة الأولى ، " كذا في النسخ بهذا التكرار فانظره " ، وليس مكررًا في مخطوطتنا ، كأنه لم يرجع إليها .

(16/433)


قال أبو جعفر : وإنما أوثر الرفع في(طوبى) لحسن الإضافة فيه بغير " لام " ، وذلك أنه يقال فيه " طوباك " ، كما يقال : " ويلك " ، و " ويبك " ، ولولا حسن الإضافة فيه بغير لام ، لكان النصب فيه أحسنَ وأفصح ، كما النصب في قولهم : " تعسًا لزيد ، وبعدًا له وسُحقًا " أحسن ، إذ كانت الإضافة فيها بغير لام لا تحسن .
* * *
وقد اختلف أهل التأويل في تأويل قوله(طوبى لهم) .
فقال بعضهم : معناه : نِعْم ما لهم .
ذكر من قال ذلك :
20363 - حدثني جعفر بن محمد البروري من أهل الكوفة قال : حدثنا أبو زكريا الكلبي ، عن عمر بن نافع قال : سئل عكرمة عن " طوبى لهم " قال : نعم ما لهم . (1)
20364 - حدثنا أحمد بن إسحاق قال : حدثنا أبو أحمد قال : حدثنا عمرو بن نافع ، عن عكرمة في قوله : (طوبى لهم) قال : نعم ما لهم .
20365 - حدثني الحارث قال : حدثنا عبد العزيز قال : حدثني عمرو بن
__________
(1) الأثر : 20363 - " جعفر بن محمد البروري ، من أهل الكوفة " شيخ الطبري ، هكذا جاء في المخطوطة ، وهو ما لا أعرف . وقد مضى برقم : 9800 ، وذكرت هناك أني لم أجده ، وكان فيما سلف : " جعفر بن محمد الكوفي المروزي " ، وذكرت أنه روى عنه في التاريخ 5 : 18 ، وصح عندي أنه هو هو في المواضع الثلاثة ، لأنه روى عنه في التاريخ قال : " حدثني جعفر بن محمد الكوفي وعباس بن أبي طالب قالا ، حدثنا أبو زكريا يحيي بن مصعب الكلبي ، قال حدثنا عمر بن نافع " . فهذا هو بعض إسنادنا هذا .
و " أبو زكريا الكلبي " ، هو " يحيي بن مصعب الكلبي الكوفي " ، وهو " جار الأعمش " . روى عن الأعمش حكايات ، وروى عن عمر بن نافع ، وهو صدوق . مترجم في الكبير 4 / 2 / 306 ، وابن أبي حاتم 4 / 2 / 190 .
و " عمر بن نافع الثقفي " ، متكلم فيه ، مضى قريبًا برقم : 20229 ، وكان في المخطوطة هنا : " عمرو بن نافع " ، وهو فيها على الصواب في الإسناد التالي ، أما المطبوعة فقد تبع خطأ المخطوطة الأول ، وترك صوابها الثاني !! .

(16/434)


نافع قال : سمعت عكرمة ، في قوله : (طوبى لهم) قال : نِعْم مَا لهم .
* * *
وقال آخرون : معناه : غبطة لهم .
*ذكر من قال ذلك :
20366 - حدثنا أبو هشام قال : حدثنا أبو خالد الأحمر ، عن جويبر ، عن الضحاك : (طوبى لهم) قال : غبطةٌ لهم .
20367 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا عبد الرحمن بن مغراء ، عن جويبر ، عن الضحاك ، مثله .
20368 - ... قال : حدثنا عمرو بن عون قال : أخبرنا هشيم ، عن جويبر ، عن الضحاك ، مثله .
* * *
وقال آخرون : معناه : فرحٌ وقُرَّةُ عين .
*ذكر من قال ذلك :
20369 - حدثني علي بن داود والمثنى بن إبراهيم قالا حدثنا عبد الله قال . حدثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس ، قوله : (طوبى لهم) ، يقول : فرحٌ وقُرَّة عين .
* * *
وقال آخرون : معناه : حُسْنَى لهم .
*ذكر من قال ذلك :
20370 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : (طوبى لهم) ، يقول : حسنى لهم ، وهي كلمة من كلام العرب .
20371 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة .(طوبى لهم) ، هذه كلمة عربية ، يقول الرجل : طوبى لك : أي أصبتَ خيرًا .
* * *

(16/435)


وقال آخرون : معناه : خير لهم .
ذكر من قال ذلك :
20372 - حدثنا أبو هشام قال : حدثنا ابن يمان قال : حدثنا سفيان ، عن منصور ، عن إبراهيم قال : خير لهم .
20373 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا جرير ، عن منصور ، عن إبراهيم ، في قوله : (طوبى لهم) ، قال : الخير والكرامة التي أعطاهم الله .
* * *
وقال آخرون : (طوبى لهم) ، اسم من أسماء الجنة ، ومعنى الكلام ، الجنة لهُم .
*ذكر من قال ذلك :
20374 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا ابن يمان ، عن أشعث ، عن جعفر ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : (طوبى لهم) قال : اسم الجنة ، بالحبشية .
20375 - حدثنا أبو هشام قال : حدثنا ابن يمان ، عن أشعث ، عن جعفر ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : (طوبى لهم) ، قال : اسم أرض الجنة ، بالحبشية .
20376 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا يعقوب ، عن جعفر ، عن سعيد بن مشجوج في قوله : (طوبى لهم) قال : (طوبى) : اسم الجنة بالهندية .
20377 - حدثنا الحسن بن محمد قال : حدثنا داود بن مهران قال : حدثنا يعقوب ، عن جعفر بن أبي المغيرة ، عن سعيد بن مشجوج قال : اسم الجنة بالهندية : (طوبى) . (1)
__________
(1) الأثران : 20376 ، 20377 - " سعيد بن مشجوج " أو " بن مسجوح " ، أو و " ابن مسجوع " ، وهكذا جاء مختلفًا في المخطوطة ، ثم في تفسير ابن كثير 4 : 523 ، والدر المنثور 4 : 59 ، ونسبه لابن جرير ، وأبي الشيخ . ولم أجد له ذكرًا في شيء من كتب الرجال ، مع مراجعته على وجوه التصحيف والتحريف .
ولكني وجدت في لسان العرب مادة ( كرم ) و ( كسا ) ، وفيهما قال : " سعيد بن مسحوح الشيباني " ، وفي شرح القاموس " ابن مشجوج " ونسب إليه السيرافي وابن بري شعر أبي خالد القناني الخارجي ، الذي يقول في أوله : لَقَدْ زَادَ الحَيَاة إلّي حبًّا ... بَنَاتِي إنَّهن مِنَ الضعَافِ
وانظر الكامل 2 : 107 ، هذا غاية ما وجدته ، ولا أدري علاقة ما بين هذين الاسمين ، وفوق كل ذي علم عليم .

(16/436)


20378 - حدثنا أبو هشام قال : حدثنا ابن يمان قال : حدثنا سفيان ، عن السدي ، عن عكرمة : (طوبى لهم) قال : الجنة .
20379 - ... قال : حدثنا الحسن بن محمد قال : حدثنا شبابة قال : حدثنا ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد قوله : (طوبى لهم) قال : الجنة .
20380 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله .
20381 - حدثني محمد بن سعد قال : حدثني أبي قال : حدثنى عمي قال : حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : (الذين آمنوا وعملوا الصالحات طوبى لهم وحسن مآب) قال : لما خلق الله الجنة وفرغ منها قال : (الذين آمنوا وعملوا الصالحات طوبى لهم وحسن مآب) ، وذلك حين أعجبته .
20382 - حدثنا أحمد قال : حدثنا أبو أحمد قال ، حدثنا شريك ، عن ليث ، عن مجاهد : (طوبى لهم) ، قال الجنة .
* * *
وقال آخرون : (طوبى لهم) : شجرة في الجنة .
*ذكر من قال ذلك :
20383 - حدثنا محمد بن بشار قال : حدثنا عبد الرحمن قال : حدثنا قرة بن خالد ، عن موسى بن سالم قال : قال ابن عباس : (طوبى لهم) ، شجرة في الجنة . (1)
__________
(1) الأثر : 20383 - " موسى بن سالم " ، مولى آل العباس ، ثقة ، حديثه عن ابن عباس مرسل ، وروى عن عبد الله بن عبيد الله بن عباس . مترجم في التهذيب ، والكبير 4 / 1 / 284 ، وابن أبي حاتم 4 / 1 / 143 .

(16/437)


20384 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن الأشعث بن عبد الله ، عن شهر بن حوشب ، عن أبي هريرة : (طوبى لهم) : شجرة في الجنة يقول لها : " تَفَتَّقي لعبدي عما شاء " ! فتتفتق له عن الخيل بسروجها ولُجُمها ، وعن الإبل بأزمّتها ، وعما شاء من الكسوة . (1)
20385 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا يعقوب ، عن جعفر ، عن شهر بن حوشب قال : (طوبى) : شجرة في الجنة ، كل شجر الجنة منها ، أغصانُها من وراء سور الجنة .
20386 - حدثني المثنى قال : حدثنا سويد بن نصر قال : أخبرنا ابن المبارك ، عن معمر ، عن الأشعث بن عبد الله ، عن شهر بن حوشب ، عن أبي هريرة قال : في الجنة شجرة يقال لها(طوبى) ، يقول اللهُ لها : تفَتَّقِي فذكر نحو حديث ابن عبد الأعلى ، عن ابن ثور . (2)
20387 - حدثنا الحسن بن محمد قال : حدثنا عبد الجبار قال : حدثنا مروان ، قال : أخبرنا العلاء ، عن شمر بن عطية ، في قوله : (طوبى لهم) قال : هي شجرة في الجنة يقال لها(طوبى) .
20388 - حدثني المثنى قال : حدثنا سويد قال : أخبرنا ابن المبارك ، عن سفيان ، عن منصور ، عن حسان أبي الأشرس ، عن مغيث بن سُمَيّ قال : (طوبى) : شجرة في الجنة ، ليس في الجنة دارٌ إلا فيها غصن منها ، فيجيء
__________
(1) الأثر : 20384 - " أشعث بن عبد الله بن جابر الحداني ، الحملي " الأعمى ، وينسب إلى جده فيقال : " أشعث بن جابر " ، وهو ثقة ، يعتبر بحديثه . وقال العقيلي : في حديثه وهم . ووثقه ابن معين والنسائي وابن حبان . مضى برقم : 8358 ، وهو مترجم في التهذيب ، والكبير 1 / 1 / 429 في " أشعث بن جابر " ثم فيه 1 / 1 / 433 في " أشعث أبو عبد الله الحملي " ، وفي ابن أبي حاتم 1 / 1 / 273 .
و " شهر بن حوشب " ، مضى مرارًا ، وثقوه ، وتكلموا فيه .
وهذا خبر موقوف على أبي هريرة . وسيأتي من طريق أخرى برقم : 20386 .
(2) الأثر : 20386 - هو مكرر الأثر السالف رقم : 20384 .

(16/438)


الطائر فيقع ، فيدعوه ، فيأكل من أحد جنبيه قَدِيدًا ومن الآخر شِوَاء ، ثم يقول : " طِرْ " ، فيطير . (1)
20389 - ... قال : حدثنا أبو صالح قال : حدثني معاوية ، عن بعض أهل الشأم قال : إن ربك أخذ لؤلؤة فوضعها على راحتيه ، ثم دملجها بين كفيه ، (2) ثم غرسها وسط أهل الجنة ، ثم قال لها : امتدّي حتى تبلغي مَرْضاتي " . ففعلت ، فلما استوت تفجَّرت من أصولها أنهار الجنة ، وهي " طوبى " .
20390 - حدثنا الفضل بن الصباح قال : حدثنا إسماعيل بن عبد الكريم الصنعاني قال : حدثني عبد الصمد بن معقل ، أنه سمع وهبًا يقول : إن في الجنة شجرة يقال لها : " طوبى " ، يسير الراكب في ظلها مئة عام لا يقطعها ; زهرها رِيَاط ، (3) وورقها بُرود (4) وقضبانها عنبر ، وبطحاؤها ياقوت ، وترابها كافور ، ووَحَلها مسك ، يخرج من أصلها أنهارُ الخمر واللبن والعسل ، وهي مجلسٌ لأهل الجنة . فبينا هم في مجلسهم إذ أتتهم ملائكة من ربِّهم ، يقودون نُجُبًا مزمومة بسلاسل من ذهب ، وجوهها كالمصابيح من حسنها ، وبَرَها كخَزّ المِرْعِزَّى من لينه ، (5) عليها رحالٌ ألواحها من ياقوت ، ودفوفها من ذهب ،
__________
(1) الأثر : 20388 - " منصور " ، هو " منصور بن المعتمر " ، مضى مرارًا .
و " حسان أبو الأشرس " ، هو " حسان بن أبي الأشرس بن عمار الكاهلي " ، وهو " حسان بن المنذر " كنيته وكنية أبيه " أبو الأشرس " ، ثقة ، مترجم في التهذيب ، والكبير 2 / 1 / 32 ، وابن أبي حاتم 1 / 2 / 235 .
و " مغيث بن سمى الأوزاعي " ، تابعي ثقة ، مترجم في التهذيب ، والكبير 4 / 2 / 24 ، وابن أبي حاتم 4 / 1 / 391
وسيأتي هذا الخبر مطولا بإسناد آخر رقم : 20392 .
(2) " دملج الشيء دملجة " ، إذ سواه وأحسن صنعته ، كما يدملج السوار .
(3) " الرياط " جمع " ريطة " ، وهي كل ثوب لين رقيق .
(4) " برود " ، جمع " برد " ، هو من ثياب الوشي .
(5) " المرعزي " ( بكسر الميم وسكون الراء ، وكسر العين وتشديد الزاي المفتوحة ) ، هو الزغب الذي تحت شعر العنز ، وهو ألين الصوف وميم " المرعزي " زائدة ، ومادته ( رعز ) .

(16/439)


وثيابها من سندس وإستبرق ، فينيخونها ويقولون : إن ربنا أرسلنا إليكم لتزوروه وتسلِّموا عليه . قال : فيركبونها ، قال : فهي أسرع من الطائر ، وأوطأ من الفراش نُجُبًا من غير مَهنَة ، (1) يسير الرَّجل إلى جنب أخيه وهو يكلمه ويناجيه ، لا تصيب أذُنُ راحلة منها أذُنَ صاحبتها ، ولا بَرْكُ راحلة بركَ صاحبتها ، (2) حتى إن الشجرة لتتنحَّى عن طرُقهم لئلا تفرُق بين الرجل وأخيه . قال : فيأتون إلى الرحمن الرحيم ، فيُسْفِر لهم عن وجهه الكريم حتى ينظروا إليه ، فإذا رأوه قالوا : اللهم أنت السلام ومنك السلام ، وحُقَّ لك الجلال والإكرام " . قال : فيقول تبارك وتعالى عند ذلك : " أنا السلام ، ومنى السلام ، وعليكم حقّت رحمتي ومحبتي ، مرحبًا بعبادي الذين خَشُوني بغَيْبٍ وأطاعوا أمري " .قال : فيقولون : " ربنا إنا لم نعبدك حق عبادتك ولم نقدرك حق قدرك ، فأذن لنا بالسجود قدَّامك " قال : فيقول الله : إنها ليست بدار نَصَب ولا عبادة ، ولكنها دارُ مُلْك ونعيم ، وإني قد رفعت عنكم نَصَب العبادة ، فسلوني ما شئتم ، فإن لكل رجل منكم أمنيّته " . فيسألونه ، حتى إن أقصرهم أمنيةً ليقول : ربِّ ، تنافس أهل الدنيا في دنياهم فتضايقوا فيها ، رب فآتني كل شيء كانوا فيه من يوم خلقتها إلى أن انتهت الدنيا " فيقول الله : لقد قصّرت بك اليوم أمنيتُك ، ولقد سألت دون منزلتك ، هذا لك مني ، وسأتحفك بمنزلتي ، لأنه ليس في عطائي نكَد ولا تَصْريدٌ " (3) . قال : ثم يقول : " اعرضوا على عبادي ما لم تبلغ أمانيهم ، ولم يخطر لهم على بال " . قال : فيعرضون عليهم حتى يَقْضُوهم أمانيهم التي في أنفسهم ، فيكون فيما يعرضون عليهم بَرِاذين مقرَّنة ، على كل أربعة منها سرير من ياقوتة واحدة ، على كل سرير منها قبة من ذهب مُفْرَغة ، في كل قبة منها فُرُش من فُرُش الجنة مُظَاهَرة ، في كل قبة منها جاريتان من الحور العين ، على كل جارية منهن ثوبان من ثياب الجنة ، ليس في الجنة لونٌ إلا وهو فيهما ، ولا ريح طيبة إلا قد عَبِقتَا به ، ينفذ ضوء وجوههما غِلَظ القبة ، حتى يظن من يراهما أنهما من دُون القُبة ، يرى مخهما من فوق سوقهما كالسِّلك الأبيض من ياقوتة حمراء ، يريان له من الفضل على صاحبته كفضل الشمس على الحجارة ، أو أفضل ، ويرى هولُهما مثل ذلك. ثم يدخل إليهما فيحييانه ويقبّلانه ويعانقانه ، ويقولان له : " والله ما ظننا أن الله يخلق مثلك " ، ثم يأمر الله الملائكة فيسيرون بهم صفًّا في الجنة ، حتى ينتهي كل رجُل منهم إلى منزلته التي أعدّت له . (4)
20391 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال : حدثنا علي بن جرير ، عن حماد قال : شجرة في الجنة في دار كل مؤمن غصن منها .
20392 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا جرير ، عن منصور ، عن حسان بن أبي الأشرس ، عن مغيث بن سمي قال : " طوبى " ، شجرة في الجنة ، لو أن رجلا ركب قلوصًا جَذَعا أو جَذَعَة ، ثم دار بها ، لم يبلغ المكان الذي ارتحل منه حتى يموت هَرمًا . وما من أهل الجنة منزل إلا فيه غصن من أغصان تلك الشجرة متدلٍّ عليهم ، فإذا أرادوا أن يأكلوا من الثمرة تدلّى إليهم
__________
(1) " المهنة " ( بفتحات ) جمع " ماهن " ، ويجمع على " مهان " ، نحو " كاتب ، وكتبة ، وكتاب " ، وهو الخادم .
(2) هكذا في المخطوطة ، وفي تفسير ابن كثير " برك " ، وفي الدر المنثور " لا تزل راحلة بزل صاحبتها " ، وأنا أرجح أن الصواب : " ولا ورك راحلة ورك صاحبتها " ولكن الناسخ الأول وصل الواو بالراء ، فأتى ناسخنا هذا فوصل بغير بيان ولا معرفة .
(3) في المطبوعة : " ولا قصر يد " ، وهو كلام غث بل هو عين الغثاثة . و " التصريد " في العطاء تقليله .
(4) الأثر : 20390 - : الفضل بن الصباح البغدادي " ، شيخ الطبري ثقة ، مضى برقم : 2252 ، 3958 .
و " إسماعيل بن الكريم بن معقل الصنعاني " ، ثقة ، مضى برقم : 995 ، 5598 .
و " عبد الصمد بن معقل بن منبه اليماني " ، ثقة ، روى عن عمه وهب بن منبه ، مضى برقم : 995 .
وقد رواه ابن كثير في التفسير 4 : 524 ، وقال قبله : " روى ابن جرير عن وهب بن منبه هاهنا أثرًا غريبًا عجيبًا " ، ثم أتم الخبر من طريق ابن أبي حاتم ، ثم قال : " وهذا سياق غريب ، وأثر عجيب ، ولبعضه شواهد " .

(16/440)


فيأكلون منه ما شاؤوا ، ويجيء الطير فيأكلون منه قديدًا وشواءً ما شاءوا ، ثم يطير . (1)
* * *
وقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم خبر بنحو ما قال من قال هي شجرة .
*ذكر الرواية بذلك :
20393 - حدثني سليمان بن داود القومسي قال ، حدثنا أبو توبة الربيع بن نافع قال : حدثنا معاوية بن سلام ، عن زيد : أنه سمع أبا سَلام قال : حدثنا عامر بن زيد البكالي : أنه سمع عتبة بن عبد السلمِيّ يقول : جاء أعرابيٌّ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : يا رسول الله ، في الجنة فاكهة ؟ (2) قال : نعم ، فيها شجرة تدعى " طوبى " ، هي تطابق الفردوس . قال : أيّ شجر أرضنا تشبه ؟ قال : ليست تشبه شيئًا من شجر أرضك ، ولكن أتيتَ الشام ؟ فقال : لا يا رسول الله. فقال : فإنها تشبه شجرة تدعى الجَوْزة ، تنبت على ساق واحدة ، ثم ينتشر أعلاها. قال : ما عِظَم أصلها ؟ قال : لو ارتحلتَ جَذَعةً من إبل أهلك ، ما أحاطت بأصلها حتى تنكسر تَرْقُوتَاهَا هَرَمًا (3) .
__________
(1) الأثر : 20392 - " حسان بن أبي الأشرس " ، سلف برقم : 20388 . و " مغيث بن سمى " ، سلف برقم 20388 .
وهو مطول الأثر السالف : 20388 .
(2) في المطبوعة : " إن في الجنة ... " ، وأثبت ما في المخطوطة .
(3) الأثر : 20393 - " سليمان بن داود القومسي " ، شيخ الطبري ، لم أجد له ترجمة فيما بين يدي من الكتب .
و " أبو توبة " ، " الربيع بن نافع " ، ثقة مضى برقم : 3833 . و " معاوية بن سلام بن أبي سلام " ، ثقة ، روى له الجماعة ، روى عن أبيه وجده ، وأخيه زيد ، مضى برقم : 16557 .
وأخوه " زيد بن سلام بن أبي سلام " ثقة ، روى عن جده " أبي سلام " ، مترجم في التهذيب ، والكبير 2 / 1 / 361 ، وابن أبي حاتم 1 / 2 / 564 .
و " أبو سلام " ، هو " ممطور " الأسود الحبشي ، ثقة ، مضى مرارًا ، آخرها رقم : 16557 .
و " عامر بن زيد البكالي " ، تابعي ، ثقة ، مترجم في ابن أبي حاتم 3 / 1 / 320 .
و " عتبة بن عبد السلمى " ، " أبو الوليد " ، له صحبة ، روى عن النبي صلى الله عليه وسلم . مترجم في الإصابة ، وأسد الغابة ، والاستيعاب ، والتهذيب ، وابن أبي حاتم 3 / 371 ، وابن سعد 7 / 2 / 132 .
فهذا إسناد جيد ، ورواه أحمد في مسنده 4 : 183 ، 184 ، مطولا ، من طريق " علي بن بحر ، عن هشام بن يوسف ، عن يحيي بن أبي كثير ، عن عامر بن زيد البكالي " ، وهو إسناد صحيح أيضًا ، ونقله عن المسند ، ابن القيم في حادي الأرواح 1 : 263 ، 264 .

(16/442)


20394 - حدثنا الحسن بن شبيب قال : حدثنا محمد بن زياد الجزريّ ، عن فرات بن أبي الفرات ، عن معاوية بن قرة ، عن أبيه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (طوبى لهم وحسن مآب) : ، شجرة غرسها الله بيده ، ونفخ فيها من روحه ، نبتتْ بالحَلْيِ والحُلل ، (1) وإن أغصانها لترى من وراء سور الجنة . (2)
20395 - حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : أخبرني عمرو بن الحارث ، أن درّاجًا حدّثه أن أبا الهيثم حدثه ، عن أبي سعيد الخدري ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : أن رجلا قال له : يا رسول الله ، ما طوبى ؟ قال : شجرة في الجنة مسيرة مئة سنة ، ثياب أهل الجنة تخرج من أكمامها . (3)
* * *
__________
(1) في المطبوعة ، أسقط قوله " نبتت " وأثبتها من المخطوطة .
(2) الأثر : 20394 - " الحسن بن شبيب بن راشد " ، شيخ الطبري ، سلف برقم : 9642 ، 11383 ، قال ابن عدي ، " حدث عن الثقات بالبواطيل ، ووصل أحاديث هي مرسلة " .
و " محمد بن زياد الجزري " ، لعله هو " الرقي " ، لأن الرقة معددة من الجزيرة . وهو " محمد بن زياد اليشكري الطحان ، الميمون الرقي " ، وهو كذاب خبيث يضع الحديث ، روى عن شيخه الميمون بن مهران وغيره الموضوعات . مترجم في التهذيب ، وتاريخ بغداد 5 : 279 ، وابن أبي حاتم 3 / 2 / 258 ، وميزان الاعتدال 3 : 60 ، وكان في المطبوعة " الجريري " ، غير ما في المخطوطة .
و " فرات بن أبي الفرات " ، قال ابن أبي حاتم : " صدوق ، لا بأس به " ، وذكره ابن حبان في الثقات قال : " هو حسن الاستقامة والروايات " ، ولم يذكر البخاري فيه جرحًا " ولكن قال يحيي بن معين : " ليس بشيء " ، وقال ابن عدي : " الضعف بيّن على رواياته " ، وقال الساجي " ضعيف ، يحدث بأحاديث فيها بعض المناكير " . مترجم في الكبير 4 / 1 / 129 ، وابن أبي حاتم 3 / 2 / 80 ، وميزان الاعتدال 2 : 316 ، ولسان الميزان 4 : 432 .
و " معاوية بن إياس المزني " ، تابعي ثقة ، مضى برقم : 11211 ، 11409 . وأبوه " قرة بن إياس بن هلال بن رئاب المزني " ، له صحبة مترجم في التهذيب ، والكبير 4 / 1 / 180 .
وهذا خبر هالك الإسناد ، وحسبه ما فيه من أمر " محمد بن زياد " ، ولم أجده عند غير الطبري .
(3) الأثر : 20395 - " عمرو بن الحارث بن يعقوب الأنصاري المصري " ، ثقة ، روى له الجماعة ، سلف مرارًا ، آخرها رقم : 17429 .
و " دراج " ، هو " دراج بن سمعان " ، " أبو السمح " ، متكلم فيه ، مضى مرارًا ، آخرها رقم : 17754 .
و " أبو الهيثم " ، هو " سليمان بن عمرو العتواري المصري " ثقة ، مضى برقم : 1387 ، 5518 .
وقد سلف مثل هذا الإسناد برقم 1387 ، وصحح هذا الإسناد أخي السيد أحمد رحمه الله . هذا ، وقد نقل ابن عدي عن أحمد بن حنبل : " أحاديث دراج ، عن أبي الهيثم ، عن أبي سعيد ، فيها ضعف " وقال ابن شاهين : " ما كان بهذا الإسناد فليس به بأس " ، ومقالة أحمد في دراج شديدة فقد نقل عنه عبد الله بن أحمد : " حديثه منكر " . وعندي أن تصحيح مثل هذا الإسناد فيه بعض المجازفة ، وأحسن حاله أن يكون مما لا بأس به ومما يعتبر به .
وهذا الخبر رواه أحمد في مسنده 3 : 71 من طريق ابن لهيعة . عن دراج أبي السمح ورواه الخطيب البغدادي في تاريخه 4 : 91 ، من طريق أسد بن موسى ، عن ابن لهيعة ، مطولا ، وصدره " أن رجلا قال له : يا رسول الله ، طوبي لمن رآك وآمن بك ! قال : طوبى لمن رآني وآمن بي ، ثم طوبى ، ثم طوبى ، ثم طوبى لمن آمن بي ولم يرني ، فقال له رجل : وما طوبى ؟ " ، الحديث .

(16/443)


قال أبو جعفر : فعلى هذا التأويل الذي ذكرنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، الرواية به ، يجب أن يكون القولُ في رفع قوله : (طوبى لهم) خلافُ القول الذي حكيناه عن أهل العربية فيه . وذلك أن الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن " طوبى " اسم شجرة في الجنة ، فإذْ كان كذلك ، فهو اسم لمعرفة كزيد وعمرو . وإذا كان ذلك كذلك ، لم يكن في قوله : (وحسن مآب) إلا الرفع ، عطفًا به على " طوبى " .
* * *
وأما قوله : (وحسن مآب) ، فإنه يقول : وحسن منقلب ; (1) كما : -
20396 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عمرو بن عون قال : أخبرنا هشيم ، عن جويبر ، عن الضحاك : (وحسن مآب) ، قال : حسن منقلب . (2)
__________
(1) انظر تفسير " المآب " فيما سلف 6 : 258 ، 259 .
(2) انظر تفسير " المآب " فيما سلف 6 : 258 ، 259 .

(16/444)


كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهَا أُمَمٌ لِتَتْلُوَ عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ (30)

القول في تأويل قوله تعالى : { كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهَا أُمَمٌ لِتَتْلُوَ عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لا إِلَهَ إِلا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ (30) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : هكذا أرسلناك يا محمد في جماعة من الناس (1) يعني إلى جماعةً قد خلت من قبلها جماعات على مثل الذي هم عليه ، فمضت (2) (لتتلو عليهم الذي أوحينا إليك) ، يقول : لتبلغهم ما أرسَلْتك به إليهم من وحيي الذي أوحيته إليك(وهم يكفرون بالرحمن) ، يقول : وهم يجحدون وحدانيّة الله ، ويكذّبون بها(قل هو ربي) ، يقول : إنْ كفر هؤلاء الذين أرسلتُك إليهم ، يا محمد بالرحمن ، فقل أنت : الله ربّي(لا إله إلا هو عليه توكلت والله متاب) ، يقول : وإليه مرجعي وأوبتي .
* * *
وهو مصدر من قول القائل : " تبت مَتَابًا وتوبةً . (3)
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك :
20397 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : (وهم يكفرون بالرحمن) . ذكر لنا أن نبيَّ الله صلى الله عليه وسلم زَمَنَ الحديبية حين صالح قريشًا كتب : " هذا ما صالح عليه محمدٌ رسول الله . فقال
__________
(1) انظر تفسير " الأمة " فيما سلف من فهارس اللغة ( أمم ) .
(2) انظر تفسير " خلا " فيما سلف ، 350 تعليق : 3 والمراجع هناك .
(3) انظر تفسير " التوبة " فيما سلف من فهارس اللغة ( توب ) .

(16/445)


وَلَوْ أَنَّ قُرْآَنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعًا أَفَلَمْ يَيْئَسِ الَّذِينَ آَمَنُوا أَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِنْ دَارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ (31)

مشركو قريش : لئن كنت رسولَ الله صلى الله عليه وسلم ثم قاتلناك لقد ظلمناك! ولكن اكتب : هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله . فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم : دعنا يا رسول الله نقاتلهم ! فقال : لا ولكن اكتبوا كما يريدون إنّي محمد بن عبد الله. فلما كتب الكاتب : " بسم الله الرحمن الرحيم " ، قالت قريش : أما " الرحمن " فلا نعرفه ; وكان أهل الجاهلية يكتبون : " باسمك اللهم " ، فقال أصحابه : يا رسول الله ، دعنا نقاتلهم ! قال : لا ولكن اكتبوا كما يريدون " .
20398 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثنى حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد قال قوله : (كذلك أرسلناك في أمة قد خلت) الآية ، قال : هذا لمّا كاتب رسول الله صلى الله عليه وسلم قريشًا في الحديبية ، كتب : " بسم الله الرحمن الرحيم " ، قالوا : لا تكتب " الرحمن " ، وما ندري ما " الرحمن " ، ولا تكتب إلا " باسمك اللهم " .قال الله : (وهم يكفرون بالرحمن قل هو ربي لا إله إلا هو) ، الآية .
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الأرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى بَلْ لِلَّهِ الأمْرُ جَمِيعًا }
قال أبو جعفر : اختلف أهل التأويل في معنى ذلك.
فقال بعضهم : معناه : (وهم يكفرون بالرحمن) ، ولو أن قرآنًا سيرت به الجبال) ، أي : يكفرون بالله ولو سَيَّر لهم الجبال بهذا القرآن .وقالوا : هو من المؤخر الذي معناه التقديم . وجعلوا جواب " لو " مقدَّمًا قبلها ، وذلك أن الكلام

(16/446)


على معنى قيلهم : ولو أنّ هذا القرآن سُيَرت به الجبال أو قطعت به الأرض ، لكفروا بالرحمن .
*ذكر من قال ذلك :
20399 - حدثني محمد بن سعد قال : حدثني أبي قال : حدثني عمي قال : حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : (ولو أن قرآنا سُيرت به الجبال أو قطعت به الأرض أو كلم به الموتى) قال : هم المشركون من قريش ، قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم : لو وسعت لنا أودية مكَّة ، وسيَّرت جبَالها ، فاحترثناها ، وأحييت من مات منَّا ، وقُطّع به الأرض ، أو كلم به الموتى ! فقال الله تعالى : (ولو أن قرآنا سُيّرت به الجبال أو قُطّعت به الأرض أو كلم به الموتى بل لله الأمر جميعًا) .
20400 - حدثنا الحسن بن محمد قال : حدثنا شبابة قال : حدثنا ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد قوله : (ولو أن قرآنا سيرت به الجبال أو قطعت به الأرض أو كلم به الموتى) ، قول كفار قريش لمحمد : سيِّر جبالنا تتسع لنا أرضُنا فإنها ضيِّقة ، أو قرب لنا الشأم فإنا نَتَّجر إليها ، أو أخرج لنا آباءنا من القبور نكلمهم ! فقال الله تعالى (1) (ولو أن قرآنا سيرت به الجبال أو قطعت به الأرض أو كلم به الموتى) .
20401 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو حذيفة قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، بنحوه .
20402 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثنا حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، نحوه قال ابن جريج : وقال عبد الله بن كثير قالوا : لو فَسَحت عنّا الجبال ، أو أجريت لنا الأنهار ، أو كلمتَ به الموتى! فنزل ذلك قال ابن جريج : وقال ابن عباس : قالوا : سيِّر بالقرآن الجبالَ ، قطّع بالقرآن الأرض ، أخرج به موتانا .
__________
(1) قوله : " فقال الله تعالى " ، ساقطة من المخطوطة ، وهي واجبة .

(16/447)


20403 - حدثنا الحسن بن محمد قال : حدثنا حجاج ، عن ابن جريج قال : قال ابن كثير : قالوا : لو فسحت عنا الجبال ، أو أجريت لنا الأنهار ، أو كلمت به الموتى ! فنزل : (أفلم ييأس الذين آمنوا) .
* * *
وقال آخرون : بل معناه : (ولو أن قرآنا سيرت به الجبال) كلامٌ مبتدأ منقطع عن قوله : (وهم يكفرون بالرحمن) . قال : وجوابُ " لو " محذوف اسْتغنيَ بمعرفة السامعين المرادَ من الكلام عن ذكر جوابها . قالوا : والعرب تفعل ذلك كثيرًا ، ومنه قول امرئ القيس :
فَلَوْ أَنَّهَا نَفْسٌ تَمُوتُ سَرِيحَةً... وَلكِنَّهَا نَفْسٌ تَقَطَّعُ أَنْفُسَا (1)
وهو آخر بيت في القصيدة ، (2) فترك الجواب اكتفاءً بمعرفة سامعه مرادَه ، وكما قال الآخر : (3)
فَأُقْسِمُ لَوْ شَيْءٌ أَتَانَا رَسُولُهُ... سِوَاكَ وَلكِنْ لَمْ نَجِدْ لَكَ مَدْفَعَا (4)
* * *
*ذكر من قال نحو معنى ذلك :
__________
(1) ديوانه : 107 ، وروايتهم : فَلَوْ أَنَّهَا نَفْسٌ تَمُوتُ جَمِيعَةً ... وَلَكِنَّهَا نَفْسٌ تَسَاقَطُ أَنْفُسَا
وقوله : " سريحة " ، أي معجلة في سهولة ويسر ، من قولهم : " شيء سريح " ، أي سهل أو " أمر سريح " ، أي معجل .
(2) في دواوينه المنشورة ، ليس هو آخر القصيدة ، ولو أحسن ناشرو دواوين الشعر ، لأدوا إلينا الروايات المختلفة على ترتيبها ، فإن ديوان امرئ القيس المطبوع حديثًا قد أغفل ترتيب الروايات إغفالًا تامًا ، مع شدة حاجتنا إلى ذلك في فهم الشعر ، وفي إعادة ترتيبه . وهذا مما ابتلى الله به الشعر الجاهلي ، أن يحمله إلى الناس من لا يحسنه ، حتى ساء ظن الناس فيه ، وأكثروا الطعن في روايته .
(3) هو امرؤ القيس .
(4) سلف البيت وتخريجه وشرحه 15 : 277 ، 278 .

(16/448)


20404 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال. حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : (ولو أن قرآنا سيرت به الجبال أو قطعت به الأرض أو كلم به الموتى) ، ذكر لنا أن قريشًا قالوا : إن سَرَّك يا محمد ، اتباعك أو : أن نتبعك فسيّر لنا جبال تِهَامة ، أو زد لنا في حَرَمنا حتى نتَّخذ قَطَائع نخترف فيها ، (1) أو أحِي لنا فلانًا وفلانًا ! ناسًا ماتوا في الجاهلية . فأنزل الله : (ولو أن قرآنا سيرت به الجبال أو قطعت به الأرض أو كلم به الموتى) ، يقول : لو فعل هذا بقرآنٍ قبل قرآنكم لفُعِل بقرآنكم .
20405 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : أن كفّار قريش قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم : أذهب عنا جبال تِهَامة حتى نتّخذها زرعًا فتكون لنا أرضين ، أو أحي لنا فلانًا وفلانًا يخبروننا : حقٌّ ما تقول ! فقال الله : (ولو أن قرآنا سيرت له الجبال أو قطعت به الأرض أو كلم به الموتى بل لله الأمر جميعًا) ، يقول : لو كان فَعل ذلك بشيء من الكتب فيما مضى كان ذلك .
20406 - حدثت عن الحسين بن الفرج قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد بن سليمان قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : (ولو أن قرآنًا سيرت به الجبال) ، الآية ، قال : قال كفار قريش لمحمد صلى الله عليه وسلم : سيّر لنا الجبالَ كما سُخِّرت لداود ، أو قَطِّع لنا الأرض كما قُطعت لسليمان ، فاغتدى بها شهرًا وراح بها شهرًا ، أو كلم لنا الموتَى كما كان عيسى يكلمهم ، يقول : لم أنزل بهذا كتابًا ، ولكن كان شيئًا أعطيته أنبيائي ورسلي .
20407 - حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد في
__________
(1) " نخترف فيها " ، أي : نقيم فيها زمن الخريف ، وذلك حين ينزل المطر ، وتنبت الأرض . والذي في كتب اللغة " أخرفوا " ، أقاموا بالمكان خريفهم ، وهذا الذي هنا قياس العربية نحو " ارتبع " ، و " اصطاف " .

(16/449)


قوله : (ولو أن قرآنًا سيرت به الجبال) ، الآية ، قال : قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم : إن كنت صادقًا فسيِّر عنا هذه الجبال واجعلها حروثًا كهيئة أرض الشام ومصر والبُلْدان ، أو ابعث موتانَا فأخبرهم فإنهم قد ماتوا على الذي نحن عليه ! فقال الله : (ولو أن قرآنًا سيرت به الجبال أو قطعت به الأرض أو كلم به الموتى) ، لم يصنع ذلك بقرآن قط ولا كتاب ، فيصنع ذلك بهذا القرآن .
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا }
قال أبو جعفر : اختلف أهل المعرفة بكلام العرب في معنى قوله(أفلم ييأس) .
فكان بعض أهل البصرة يزعم أن معناه : ألم يعلمْ ويتبيَّن ويستشهد لقيله ذلك ببيت سُحَيْم بن وَثيلٍ الرِّياحيّ :
أَقُولُ لَهُمْ بالشِّعْبِ إِذْ يَأْسِرُونَنِي... أَلَمْ تَيْأَسُوا أَنِّي ابْنُ فَارِسِ زَهْدَمِ (1)
ويروى : " يَيْسِرُونَني " ، فمن رواه : " ييسرونني " فإنه أراد : يقتسمونني ، من " الميسر " ، كما يقسم الجزور . ومن رواه : " يأسرونني " ، فإنه أراد الأسر ، وقال : عنى بقوله : " ألم تيأسوا " ، ألم تعلموا . وأنشدوا أيضًا في ذلك : (2)
أَلَمْ يَيْأَسِ الأقْوَامُ أَنِّي أَنَا ابْنُهُ... وَإِنْ كُنْتُ عَنْ أَرْضِ العَشِيرَةِ نَائِيَا (3)
__________
(1) مجاز القرآن لأبي عبيدة 1 : 332 ، وأساس البلاغة ( يأس ) ، وخرجه الأستاذ سيد صقر في مشكل القرآن : 148 ، وغريب القرآن : 228 ، واللسان ( يأس ) . وشرحه وبينه هنالك ، وغير هذه المواضع كثير . و " زهدم " فرس سحيم فيما قالوا . ولو صحت نسبة الشعر لسحيم لكان " زهدم " فرس أبيه وثيل . وهذا الشعر ينسب إلى جابر بن سحيم ، فإذا صح ذلك ، صح أن " زهدم " فرس سحيم . وانظر نسب الخيل لابن الكلبي : 17 ، وأسماء الخيل لابن الأعرابي : 63 .
(2) نسب إلى مالك بن عوف ، وإلى رياح بن عدي .
(3) معجم غريب القرآن في مسائل نافع بن الأزرق ، لابن عباس : 291 : والقرطبي : 9 : 320 ، وأبو حيان 5 : 392 ، وأساس البلاغة ( يأس ) ، ولم أعرف الشعر .

(16/450)


وفسروا قوله : " ألم ييأس " : ألم يعلَم ويتبيَّن ؟
* * *
وذكر عن ابن الكلبي أن ذلك لغة لحيّ من النَّخَع يقال لهم : وَهْبيل ، تقول : ألم تيأس ، كذا بمعنى : ألم تعلمه ؟
* * *
وذكر عن القاسم ابن معن أنّها لغة هَوازن ، وأنهم يقولون : " يئستْ كذا " ، علمتُ.
* * *
وأما بعض الكوفيين فكان ينكر ذلك ، (1) ويزعم أنه لم يسمع أحدًا من العرب يقول : " يئست " بمعنى : " علمت " . ويقول هو في المعنى وإن لم يكن مسموعًا : " يئست " بمعنى : علمت يتوجَّهُ إلى ذلك إذ أنه قد أوقع إلى المؤمنين ، أنه لو شاء لهدى الناس جميعا ، (2) فقال : " أفلم ييأسوا علما " ، يقول : يؤيسهم العلم ، فكأن فيه العلم مضمرًا ، (3) كما يقال : قد يئست منك أن لا تفلح علمًا ، كأنه قيل : علمتُه علمًا قال : وقول الشاعر : (4)
حَتَّى إِذَا يَئِسَ الرُّمَاةُ وَأَرْسُلوا... غُضْفًا دَوَاجِنَ قَافِلا أَعْصَامُهَا (5)
معناه : حتى إذا يئسوا من كل شيء مما يمكن ، إلا الذي ظهر لهم ، أرسلوا ،
__________
(1) هو الفراء في معاني القرآن ، في تفسير الآية ، والآتي هو نص كلامه .
(2) في المطبوعة : " إن الله قد أوقع ... " ، وأثبت ما في المخطوطة ، وهو الموافق لما في معاني القرآن .
(3) في معاني القرآن : " فكأن فيهم العلم " ، والصواب ما في الطبري ، وهو موافق لما في اللسان ( يأس ) .
(4) هو لبيد .
(5) معلقته المشهورة ، في صفة صيد البقرة الوحشية . يقول : أرسلوا عليها كلابًا غضف الآذان ، وهي كلاب الصيد تسترخى آذانها . و " دواجن " ضاريات قد عودن الصيد . و " القافل " اليابس . و " الأعصام " ، جمع " عصام " ، وهو قلائد من أدم تجعل في أعناق الكلاب ، وهي السواجير أيضًا .

(16/451)


فهو في معنى : حتى إذا علموا أن ليس وجه إلا الذي رأوا وانتهى علمهم ، فكان ما سواه يأسا . (1)
* * *
وأما أهل التأويل فإنهم تأولوا ذلك بمعنى : أفلم يعلَم ويتبيَّن .
*ذكر من قال ذلك
20408 - حدثني يعقوب قال : حدثنا هشيم ، عن أبي إسحاق الكوفي ، عن [مولى مولى بحير] أن عليًّا رضي الله عنه كان يقرأ : " أَفَلَمْ يَتَبيَّنِ الَّذِينَ آمنُوا " . (2)
20409 - حدثنا الحسن بن محمد قال : حدثنا عبد الوهاب ، عن هارون ، عن حنظلة ، عن شهر بن حوشب ، عن ابن عباس : (أفلم ييأس) يقول : أفلم يتبيّن .
20410 - حدثنا أحمد بن يوسف قال : حدثنا القاسم قال : حدثنا يزيد ، عن جرير بن حازم ، عن الزبير بن الخِرِّيت أو يعلى بن حكيم ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، أنه كان يقرؤها : " أَفَلَمْ يَتَبيَّنِ الَّذِينَ آمنُوا " ؛ قال : كتب الكاتب الأخرى وهو ناعسٌ . (3)
__________
(1) في معاني القرآن : " فكان ما وراءه يأسا " ، وهو جيد .
(2) الأثر : 20408 - " أبو إسحاق الكوفي " ، هو " عبد الله بن ميسرة " ، ضعيف واهي الحديث ، ووثقه ابن حبان ، مضى برقم : 6920 ، 13489 ، 20078 ، وكان هشيم يكنيه بابن له يقال له " إسحاق " ، وكنيته " أبو ليلى " وهشيم يدلس بهذه الكنية . وكان في المخطوطة " ابن إسحاق الكوفي " ، وهو خطأ صرف .
وأما الذي بين القوسين ، فهو هكذا جاء في المخطوطة ، وجعل مكانه في المطبوعة : " عن مولى يخبر " ، تصرف في الإسناد أسوأ التصرف وأشنعه . وهذا الذي بين القوسين ربما قرئ آخره : " مولى بحتر " ، وقد استوعبت ما في تهذيب الكمال للحافظ المزي ، في باب من روى عن " علي بن أبي طالب " ، وباب من روى عنه " أبو إسحاق الكوفي " ، فلم أجد شيئًا قريب التحريف من هذا الذي عندنا .
ومهما يكن من شيء ، فحسب هذا الإسناد وهاء أن يكون فيه " أبو سحاق الكوفي " ، ثم انظر التعليق على الأثر التالي رقم : 20410 .
وكان في المطبوعة : " كان يقول " مكان : " كان يقرأ " ، لم يحسن قراءة المخطوطة ، لأن الناسخ كتب " يقول " ثم جعل الواو " راء " ، وأدخل الألف في اللام ، ووضع عليها الهمزة ، فاختلط الأمر على الناشر .
(3) الأثر : 20410 - " أحمد بن يوسف التغلبي الأحول " ، شيخ أبي جعفر الطبري ، هو صاحب أبي عبيد القاسم بن سلام ، مشهور بصحبته ، ثقة مأمون ، مضى مرارًا آخرها رقم : 12994 وهو الذي أخذ عنه أبو جعفر الطبري كتب أبي عبيد القاسم بن سلام .
و " القاسم " ، هو " القاسم بن سلام " ، " أبو عبيد " ، الفقيه القاضي ، صاحب التصانيف المشهورة ، كان إمام دهره في جميع العلوم ، وهو صاحب سنة ، ثقة مأمون ، وثناء الأئمة عليه ثناء لا يدرك .
و " يزيد " ، هو " يزيد بن هرون السلمي " ، وهو أحد الحفاظ الثقات الأثبات المشاهير ، روى له الجماعة ، مضى مرارًا آخرها رقم : 10484 .
و " جرير " هو " جرير بن حازم الأزدي " ، ثقة حافظ ، روى له الجماعة ، مضى مرارًا آخرها رقم : 14157 .
و " الزبير بن الخريت " . ثقة ، روى له الجماعة سوى النسائي ، مضى برقم : 4985 ، 11693 ، وكان في المطبوعة : " الزبير بن الحارث " ، غير ما في المخطوطة مجازفة .
و " يعلي بن حكيم " ، ثقة ، روى له الجماعة سوى الترمذي ، مضى برقم : 12748 .
فهذا خبر رجاله ثقات ، بل كل رجاله رجال الصحيحين ، سوى أبي عبيد القاسم بن سلام ، وهو أمام ثقة صدوق ، فإسناده صحيح ، لا مطعن فيه - ومع صحة إسناده لم أجد أحدًا من أصحاب الدواوين الكبار ، كأحمد في مسنده ، أو الحاكم في المستدرك ، ولا أحدًا ممن نقل عن الدواوين الكبار ، كالهيثمي في مجمع الزوائد ، أخرج هذا الخبر أو أشار إلى هذه القراءة عن ابن عباس ، أو علي بن أبي طالب ، كما جاء في الخبر الذي قبله رقم : 20408 ، بل أعجب من ذلك أن ابن كثير ، وهو المتعقب أحاديث أبي جعفر في التفسير ، لما بلغ تفسير هذه الآية ، لم يفعل سوى أن أشار إلى قراءة ابن عباس ، وأغفل هذا الخبر إغفالًا على غير عادته ، وأكبر ظني أن ابن كثير عرف صحة إسناده ، ولكنه أنكر ظاهر معناه إنكارًا حمله على السكوت عنه ، وكان خليقًا أن يذكره ويصفه بالغرابة أو النكارة ، ولكنه لم يفعل ، لأنه فيما أظن قد تحير في صحة إسناده ، مع نكارة ما يدل عليه ظاهر لفظه . وزاد هذا الظاهر نكارة عنده ، ما قاله المفسرون قبله في هذا الخبر عن ابن عباس ، حين رووه غير مسند بألفاظ غير هذه الألفاظ .
فلما رأيت ذلك من فعل ابن كثير وغيره ، تتبعت ما نقله الناقلون من ألفاظ الخبر ، فوجدت بين ألفاظ الخبر التي رويت غير مسندة ، وبين لفظ أبي جعفر المسند ، فرقًا يلوح علانية ، وألفاظهم هذه هي التي دعت كثيرًا من الأئمة يقولون في الخبر مقالة سيئة ، بلغت مبلغ الطعن في قائله بأنه زنديق ملحد ! ونعم ، فإنه لحق ما قالوه في الخبر الذي رووه بألفاظهم ، أما لفظ أبي جعفر هذا ، وإن كان ظاهره مشكلا ، فإن دراسته على الوجه الذي ينبغي أن يدرس به ، تزيل عنه قتام المعنى الفاسد الذي يبتدر المرء عند أول تلاوته .
فلما شرعت في دراسته من جميع وجوه الدراسة ، انفتح لي باب عظيم من القول في هذا الخبر وأشباهه ، من مثل قول عائشة أم المؤمنين : " يا ابن أخي ، أخطأ الكاتب " ، أي ما كتب في المصحف الإمام ، ومعاذ الله أن يكون ذلك ظاهر لفظ حديثها . وهذان الخبران وأشباه لهما يتخذهما المستشرقون وبطانتهم ممن ينتسبون إلى أهل الإسلام ، مدرجة للطعن في القرآن . أو تسويلا للتلبيس على من لا علم عنده بتنزيل القرآن العظيم ، فاقتضاني الأمر أن أكتب رسالة جامعة في بيان معنى قوله صلى الله عليه وسلم : " أنزل القرآن على سبعة أحرف " ، وكيف كانت هذه الأحرف السبعة وما الذي بقي عندنا منها ، وانتهيت إلى أنها بحمد الله باقية بجميعها في قراءات القرأة ، وفي شاذ القراءة ، وفي رواية الحروف ، لا كما ذهب إليه أبو جعفر الطبري في مقدمة تفسيره ( 1 : 55 - 59 ) ، ومن ذهب في ذلك مذهبه . ثم بينت ما كان من أمر كتابة المصحف على عهد أبي بكر ، ثم كتابة المصحف الإمام على عهد عثمان رضي الله عنهما ، وجعلت ذلك بيانًا شافيًا كافيًا بإذن الله . وكنت على نية جعل هذه الرسالة مقدمة للجزء السادس عشر من تفسير أبي جعفر ولكنها طالت حتى بلغت أن تكون كتابًا ، فآثرت أن أفردها كتابًا يطبع على حدته إن شاء الله .

(16/452)


20411 - حدثنا الحسن بن محمد قال : حدثنا حجاج بن محمد ، عن ابن جُرَيْج قال في القراءة الأولى . زعم ابن كثير وغيره : " أفلم يتَبيَّن " . (1)
20412 - حدثني محمد بن سعد قال : حدثني أبي قال : حدثني عمي قال : حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : (أفلم ييأس الذين آمنوا) يقول : ألم يتبين .
20413 - حدثني المثنى قال : حدثنا عبد الله بن صالح قال : حدثني معاوية بن صالح ، عن علي ، عن ابن عباس قوله : (أفلم ييأس الذين آمنوا) ، يقول : يعلم .
20414 - حدثنا عمران بن موسى قال : حدثنا عبد الوارث قال : حدثنا ليث ، عن مجاهد ، في قوله : (أفلم ييأس الذين آمنوا) قال : أفلم يتبين . (2)
20415 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، في قوله : (أفلم ييأس الذين آمنوا) قال : ألم يتبين الذين آمنوا .
20416 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : (أفلم ييأس الذين آمنوا) قال : ألم يعلم الذين آمنوا .
__________
(1) الأثر : 20411 - " الحسن بن محمد بن الصباح الزعفراني " ، شيخ الطبري ثقة ، أحد أصحاب الشافعي ، مضى مرارًا آخرها رقم : 18807 .
و " حجاج بن محمد المصيصي الأعور " ، " أبو محمد ، ثقة ، روى له الجماعة ، مضى مرارًا آخرها رقم : 18290 .
(2) الأثر : 20414 - " عمران بن موسى بن حيان القزاز " ، شيخ الطبري ، ثقة ، مضى مرارًا آخرها رقم : 8683 .
و " عبد الوارث " ، هو " عبد الوارث بن سعد بن ذكوان " ، أحد الأعلام ، مضى مرارًا آخرها رقم : 15339 .
و " ليث " ، هو " ليث بن أبي سليم القرشي " ، هو الذي يروي عن مجاهد ، مضى مرارًا ، آخرها : 9632 .

(16/453)


20417 - حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد ، في قوله : (أفلم ييأس الذين آمنوا) قال : ألم يعلم الذين آمنوا .
* * *
قال أبو جعفر : والصواب من القول في ذلك ما قاله أهل التأويل : إن تأويل ذلك : " أفلم يتبين ويعلم " ، لإجماع أهل التأويل على ذلك ، والأبيات التي أنشدناها فيه .
* * *
قال أبو جعفر : فتأويل الكلام إذاً : ولو أنّ قرآنًا سوى هذا القرآن كان سُيّرت به الجبال ، لسُيّر بهذا القرآن ، أو قُطَعت به الأرض لُقطعت بهذا ، أو كُلِّم به الموتى ، لكُلِّم بهذا ، ولكن لم يُفْعل ذلك بقرآن قبل هذا القرآن فيُفْعل بهذا (1) (بل لله الأمر جميعًا) ، يقول ذلك : كله إليه وبيده ، يهدى من يشاءُ إلى الإيمان فيوفِّقَه له ، ويُضِل من يشاء فيخذله ، أفلم يتبيَّن الذين آمنوا بالله ورسوله إذْ طمِعوا في إجابتي من سأل نبيَّهم ما سأله من تسيير الجبال عنهم ، (2) وتقريب أرض الشأم عليهم ، وإحياء موتاهم أن لو يشاء الله لهدى الناس جميعًا إلى الإيمان به من غير إيجاد آية ، ولا إحداث شيء مما سألوا إحداثه ؟ يقول تعالى ذكره : فما معنى محبتهم ذلك ، مع علمهم بأن الهداية والإهلاك إليّ وبيدي ، أنزلت آيةً أو لم أنزلها ; أهدي من أشاءُ بغير إنزال آية ، وأضلّ من أردتُ مع إنزالها .
__________
(1) كانت هذه العبارة في المطبوعة : " ولو يفعل بقرآن قبل هذا القرآن لفعل بهذا " ، وهي عبارة فاسدة كل الفساد ، صوابها ما في المخطوطة ، ولا أدري لم غيره ؟
(2) الزيادة بين القوسين ، يقتضيها السياق أو أن يحذف من الكلام " من " في قوله : " من تسيير الجبال " .

(16/455)


القول في تأويل قوله تعالى : { وَلا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِنْ دَارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ (31) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : (ولا يزال) يا محمد(الذين كفروا) ، من قومك(تصيبهم بما صنعوا) من كفرهم بالله ، وتكذيبهم إياك ، وإخراجهم لك من بين أظهرهم(قارعة) ، وهي ما يقرعهم من البلاء والعذاب والنِّقم ، بالقتل أحيانًا ، وبالحروب أحيانًا ، والقحط أحيانًا(أو تحل) ، أنت يا محمد ، يقول : أو تنزل أنت(قريبًا من دارهم) بجيشك وأصحابك(حتى يأتي وعدُ الله) الذي وعدك فيهم ، وذلك ظهورُك عليهم وفتحُك أرضَهمْ ، وقهرْك إياهم بالسيف(إن الله لا يخلف الميعاد) ، يقول : إن الله منجزك ، يا محمد ما وعدك من الظهور عليهم ، لأنه لا يخلف وعده .
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
*ذكر من قال ذلك :
20418 - [حدثنا محمد بن المثنى قال ، حدثنا] أبو داود قال : حدثنا المسعوديّ ، عن قتادة ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، في قوله : (ولا يزال الذين كفروا تصيبهم بما صنعوا قارعة ، ) قال : سَرِيَّة (أو تحل قريبًا من دارهم) ، قال : محمد(حتى يأتي وعد الله) ، قال : فتح مكة . (1)
__________
(1) الأثر : 20418 - هذا إسناد لا شك أن قد سقط صدره ، وهو الذي زدته بين القوسين ، استظهارًا بإسناد سابق رقم : 2156 : " حدثنا محمد بن المثنى ، عن أبي داود ، عن المسعودي ... " و " أبو داود " هو الطيالسي الإمام الحافظ : " سليمان بن داود بن الجارود " ،
و " المسعودي " ، هو " عبد الرحمن بن عبد الله بن عتبة بن عبد الله بن مسعود " ، مضى مرارًا كثيرة ، آخرها : 17982 .

(16/456)


20419 - حدثنا ابن وكيع قال : حدثنا أبي ، عن المسعودي ، عن قتادة ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، بنحوه غير أنه لم يذكر " سريّة " .
20420 - حدثنا الحسن بن محمد قال : حدثنا أبو قطن قال : حدثنا المسعودي ، عن قتادة ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، تلا هذه الآية : (ولا يزال الذين كفروا تصيبهم بما صنعوا قارعة ) ، قال : " القارعة " : السريّة ، (أو تحلّ قريبًا من دارهم) ، قال : هو محمد صلى الله عليه وسلم(حتى يأتي وعد الله) ، قال : فتح مكة . (1)
20421 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو غسان قال : حدثنا زهير ، أن خصيفًا حدثهم ، عن عكرمة ، في قوله : (ولا يزال الذين كفروا تصيبهم بما صنعوا قارعة أو تحل قريبًا من دارهم) ، قال : نزلت بالمدينة في سرايَا رسول الله صلى الله عليه وسلَّم(أو تحل) ، أنت يا محمد(قريبًا من دارهم) .
20422 - حدثنا ابن وكيع قال : حدثنا أبي ، عن النضر بن عربيّ ، عن عكرمة : (ولا يزال الذين كفروا تصيبهم بما صنعوا قارعة) ، قال : سرية(أو تحلّ قريبًا من دارهم) ، قال : أنت يا محمد .
20423 - حدثني محمد بن سعد قال : حدثني أبي قال : حدثني عمي قال : حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : (ولا يزال الذين كفروا تصيبهم بما صنعوا قارعة) ، يقول : عذابٌ من السماء ينزل عليهم(أو تحلّ قريبًا من دارهم) ، يعني : نزول رسول الله صلى الله عليه وسلم بهم وقتالَه إياهم .
20424 - حدثنا الحسن بن محمد قال : حدثنا شبابة قال : حدثنا ورقاء ،
__________
(1) الأثر : 20420 - " أبو قطن " ، هو " عمرو بن الهيثم البغدادي " ثقة ، سلف برقم : 18674 ، 20091 .
وكان هذا الإسناد مكررًا في المخطوطة ، ثم ختمه بقوله : " عن ابن عباس بنحوه ، غير أنه لم يذكر سرية " ، وهذا يناقض رواية الإسناد بعده . والظاهر أنه لما قلب الورقة ليكتب بقية الخبر ، سبق نظره إلى ختام الخبر السالف ، ثم تابع النقل على الصواب ، فكرر الإسناد ثم أتبعه الخبر .

(16/457)


عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد قوله : (تصيبهم بما صنعوا قارعة) ، تصاب منهم سَرِيَّة ، أو تصاب منهم مصيبة أو يحل محمد قريبًا من دارهم وقوله : (حتى يأتي وعد الله) قال : الفتح .
20425 - حدثني المثنى قال : حدثنا الحجاج قال : حدثنا حماد بن زيد ، عن عبد الله بن أبي نجيح : (أو تحل قريبًا من دارهم) ، يعني النبي صلى الله عليه وسلم .
20426 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد نحو حديث الحسن ، عن شبابة .
20427 - حدثني الحارث قال : حدثنا عبد العزيز قال : حدثنا قيس ، عن خصيف ، عن عكرمة ، عن ابن عباس : قال : (قارعة) ، قال : السرايا .
20428 - ... قال ، حدثنا عبد العزيز قال ، حدثنا عبد الغفار ، عن منصور ، عن مجاهد : (قارعة) قال : مصيبة من محمد(أو تحلّ قريبًا من دارهم) ، قال : أنت يا محمد(حتى يأتي وعد الله) ، قال : الفتح .
20429 - ... قال : حدثنا إسرائيل ، عن خصيف ، عن مجاهد : (قارعة) ، قال : كتيبةً .
20430 - ... قال : حدثنا عبد العزيز قال : حدثنا عمرو بن ثابت ، عن أبيه ، عن سعيد بن جبير : (تصيبهم بما صنعوا قارعة) ، قال : سرية(أو تحل قريبًا من دارهم) ، قال : أنت يا محمد .
20431 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : (ولا يزال الذين كفروا تصيبهم بما صنعوا قارعة) أي بأعمالهم أعمال السوء وقوله : (أو تحل قريبًا من دارهم) ، أنت يا محمد(حتى يأتي وعد الله) ، ووعدُ الله : فتحُ مكة .
20432 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن

(16/458)


معمر ، عن قتادة : (قارعة) ، قال : وَقِيعة(أو تحلّ قريبًا من دارهم) ، قال : يعني النبي صلى الله عليه وسلم ، يقول : أو تحل أنتَ قريبًا من دارهم .
20433 - حدثنا أحمد بن إسحاق قال : حدثنا أبو أحمد قال : حدثنا محمد بن طلحة ، عن طلحة ، عن مجاهد : (تصيبهم بما صنعوا قارعة) ، قال : سريّة . (1)
20434 - حدثنا أحمد بن إسحاق قال : حدثنا أبو أحمد قال : حدثنا سفيان ، عن ليث ، عن مجاهد : (تصيبهم بما صنعوا قارعة) ، قال : السرايا ، كان يبعثهم النبي صلى الله عليه وسلم(أو تحل قريبًا من دارهم) ، أنت يا محمد(حتى يأتي وعد الله) ، قال : فتح مكة .
20435 - ... قال ، حدثنا أبو أحمد قال : حدثنا إسرائيل ، عن بعض أصحابه ، عن مجاهد : (تصيبهم بما صنعوا قارعة) ، قال : كتيبة .
20436 - حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال قال ابن زيد ، في قوله : (ولا يزال الذين كفروا تصيبهم بما صنعوا قارعة) ، قال : قارعة من العذاب .
* * *
وقال آخرون : معنى قوله : (أو تحلّ قريبًا من دارهم) ، تحل القارعةُ قريبًا من دارهم .
*ذكر من قال ذلك :
20437 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة قال : قال الحسن : (أو تحل قريبًا من دارهم) ، قال : (
__________
(1) الأثر : 20433 - " محمد بن طلحة بن مصرف اليامي " ، وثقه أحمد ، وضعفه غيره ، ومضى برقم : 5088 ، 5420 .
و " طلحة " أبوه ، وهو " طلحة بن مصرف اليامي " ، ثقة ، روى له الجماعة ، وهو يروي عن مجاهد . مضى برقم : 5431 ، 11145 ، 11146 . وكان في المخطوطة هنا في الهامش علامة تشكك ، وهذا هو تفسير ما تشكك فيه الناسخ .

(16/459)


وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ (32)

أو تحل القارعة قريبا من دارهم) .
20438 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، عن الحسن قال ، : (أو تحل قريبًا من دارهم) ، قال : أو تحل القارعة .
* * *
وقال آخرون في قوله : (حتى يأتي وعد الله) ، هو : يوم القيامة .
*ذكر من قال ذلك :
20439 - حدثني المثنى قال : حدثنا مُعلَّى بن أسَد قال : حدثنا إسماعيل بن حكيم ، عن رجل قد سماه عن الحسن ، في قوله : (حتى يأتي وعد الله) قال : يوم القيامة .
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ (32) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : يا محمد إن يستهزئ هؤلاء المشركون من قومك ويطلبوا منك الآيات تكذيبًا منهم ما جئتهم به ، فاصبر على أذاهم لك وامض لأمر ربك في إنذارهم ، والإعذار إليهم ، (1) فلقد استهزأت أممٌ من قبلك قد خَلَت فمضتْ بُرسلِي ، (2) فأطلتُ لهم في المَهَل ، ومددت لهم في الأجَل ، ثم أحللتُ بهم عذابي ونقمتي حين تمادَوْا في غيِّهم وضَلالهم ، فانظر كيف كان عقابي إياهم حين عاقبتهم ،
__________
(1) في المطبوعة : " في إعذارهم " ، وهو فاسد ، ونون " إنذارهم " في المخطوطة ، كانت عينًا ثم جعلها الكاتب نونًا ، فعاث في رسمها ، يقال : " أعذرت إليه إعذارًا " ، أي لم تبق موضعًا للاعتذار ، لأنك بلغت أقصى الغاية في التبليغ والبيان .
(2) في المطبوعة : " برسل " ، بغير ياء ، لم يحسن قراءة المخطوطة لخفاء الياء في كتابة الكاتب .

(16/460)


ألم أذقهم أليم العذاب ، وأجعلهم عبرةً لأولي الألباب ؟
* * *
و " الإملاء " في كلام العرب ، (1) الإطالة ، يقال منه : " أمْليَتُ لفلان " ، إذا أطلت له في المَهَل ، ومنه : " المُلاوة من الدهر " ، ومنه قولهم : " تَمَلَّيْتُ حبيبًا ، (2) ولذلك قيل لليل والنهار : " المَلَوَان " لطولهما ، كما قال ابن مُقبل :
أَلا يَا دِيَارَ الْحَيِّ بِالسَّبُعَانِ... أَلَحَّ عَلَيْهَا بِالْبِلَى المَلَوَانِ (3)
وقيل للخَرْقِ الواسع من الأرض : " مَلا " ، (4) كما قال الشاعر : (5)
فَأَخْضَلَ مِنْهَا كُلَّ بَالٍ وَعَيِّنٍ... وَجِيفُ الرَّوَايَا بِالمَلا المُتَباطِنِ (6)
لطول ما بين طرفيه وامتداده .
__________
(1) انظر تفسير " الإملاء " فيما سلف 7 : 421 ، ومجاز القرآن لأبي عبيدة 1 : 108 ، 333 .
(2) في المطبوعة : تمليت حينًا " ، وهو خطأ صرف .
(3) مضى البيت وتخريجه ونسبته وشرحه فيما سلف 7 : 420 تعليق رقم : 3 ، 4 ، وانظر قصيدة ابن مقبل في ديوانه الذي طبع حديثًا : 335 .
(4) انظر مجاز القرآن 1 : 333 .
(5) هو الطرماح ، وهو طائي .
(6) ديوانه : 168 ، واضداد الأصمعي وابن السكيت : 44 ، 197 ، وأضداد ابن الأنباري : 256 ، واللسان ( عين ) ، وكان في المطبوع : " وجف الروايا " ، وجاء كذلك في بعض المراجع السالفة وفي الديوان ، وهو في المخطوطة " وجيف " ، وإن كان ما بعد ذلك مضطرب الكتابة وقصيدة الطرماح هذه كما جاءت في الديوان مضطربة ، سقط منها كثير ، تجد بعضها في مواضع مختلفة من المعاني الكبير لابن قتيبة ، يدل على سقوط أبيات قبل هذا البيت ، ولم استطع أن أعرف موضع هذا البيت من قصيدته ، ولذلك غمض معناه عليّ ، لتعلق الضمير في " منها " بمذكور قبله لم أقف عليه ، ولذلك أيضًا لا أستطيع أن أرجح أي اللفظين أحق بالمعنى " وجف " أو " وجيف " ، ولكني إلى الثانية أميل . ولغة البيت : " اخضل " ابتل . ويقال " سقاء عين " ، إذا سال منه الماء و " سقاء عين " في لغة طيئ جديد ، والطرماح طائي ، فهو المراد هنا . و " الوجيف " ، وضرب من سير الإبل سريع . و " الروايا " جمع " رواية " ، وهو البعير الذي يستقي عليه ، يحمل مزاد الماء . و " المتباطن " ، في شرح ديوانه ، المتطامن ، وكذلك في أمالي أبي علي القالي 2 : 7 في شرح حديث امرأة قالت : " ارم بعينك في هذا الملا المتباطن " . وعندي أن هذا التفسير في الموضعين غير جيد ، وإنما هو من قولهم : " شأو بطين " ، أي بعيد واسع ، ونص الزمخشري في الأساس على ذلك فقال : " تباطن المكان ، تباعد " ، فهذا حق اللفظ هنا ، كما نرى .

(16/461)


أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ أَمْ بِظَاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (33)

* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي الأرْضِ أَمْ بِظَاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (33) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : أفَالرَّبُ الذي هو دائمٌ لا يَبيدُ ولا يَهْلِك ، قائم بحفظ أرزاق جميع الخَلْق ، (1) متضمنٌ لها ، عالمٌ بهم وبما يكسبُونه من الأعمال ، رقيبٌ عليهم ، لا يَعْزُب عنه شيء أينما كانوا ، كَمن هو هالك بائِدٌ لا يَسمَع ولا يُبصر ولا يفهم شيئًا ، ولا يدفع عن نفسه ولا عَمَّن يعبده ضُرًّا ، ولا يَجْلب إليهما نفعًا ؟ كلاهما سَواءٌ ؟
* * *
وحذف الجواب في ذلك فلم يَقُل ، وقد قيل(أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت) : ككذا وكذا ، اكتفاءً بعلم السامع بما ذَكَر عما ترك ذِكْره . وذلك أنه لما قال جل ثناؤه : (وَجعلُوا لله شُرَكاء) ، عُلِمَ أن معنى الكلام : كشركائهم التي اتخذوها آلهةً. كما قال الشاعر : (2)
تَخَيَّرِي خُيِّرْتِ أُمَّ عَالِ... بَيْنَ قَصِيرٍ شِبْرُهُ تِنْبَالِ... أَذَاكَ أَمْ مُنْخَرِقُ السِّرْبَالِ... وَلا يَزَالُ آخِرَ اللَّيالِي...
__________
(1) انظر تفسير " القيام " فيما سلف 6 : 519 - 521 / 7 : 120 - 124 . وانظر مجاز القرآن لأبي عبيدة 1 : 333 .
(2) هو القتال الكلابي .

(16/462)


مُتْلِفَ مَالٍ وَمُفِيدَ مَالِ (1)
ولم يقل وقد قال : " شَبْرُهُ تِنْبَال " ، (2) وبين كذا وكذا ، اكتفاء منه بقوله : " أذاكَ أم منخرق السربال " ، ودلالة الخبر عن المنخرق السربال على مراده في ذلك .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
*ذكر من قال ذلك :
20440 - حدثنا بشر بن معاذ قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد
__________
(1) من رجز رواه صاحب الأغاني 20 : 164 في حديث طويل ، أخرجه إحسان عباس فيما جمعه من شعر القتال الكلابي : 83 ، والتخريج في : 113 ، ويزاد عليه اللسان ( رمل ) ، مع اختلاف في روايته . " أم عال " ، هي " عالية " ، امرأة من بني نصر بن معاوية ، كانت زوجة لرجل من أشراف الحي ، فكان القتال ينسب بها في أشعاره ، ورواية الأغاني : * تَخَيَّرِي خُيِّرْتِ في الرِّجَالِ *
لأن قبله : * لَعَلَّنَا نَطْرُقُ أُمَّ عَالِ *
وفي المطبوع : " قصير شده " ، وهو خطأ .
ويقال : " فلان قصير الشبر " ، إذا كان متقارب الخطو ، وقال الزمخشري : متقارب الخلق .
ورواية الأغاني : " قصير باعه " . و " التنبال " ، القصير . وبعد هذا البيت : وَأُمُّهُ رَاعِيَةُ الجِمَالِ ... تَبِيتُ بَيْنَ القَتِّ والجِعَالِ
" منخرق السربال " ، ممزق السربال ، وهو القميص ، قال البكري في شرح قول ليلى الأخيلة : وَمُخَرَّقٍ عَنْهُ القَمِيصُ تَخَالُهُ ... وَسْطَ البُيُوتِ مِنَ الحَيَاء سَقِيمَا
فيه قولان ، أحدهما : أن ذلك إشارة إلى جذب العفاة له ، والثاني : أنه يؤثر بجيد ثيابه فيكسوها . والأجود عندي أنهم يمدحون الرجل بأنه ملازم للأسفار والغزو ، يعاقب بينهما ، فلا يزال في ثياب تبلى ، لأنه غير مقيم ملازم للحي ، فلا يبالى أن يستجد ثيابًا ، وذلك من خلائق الكرم والبأس . وبعد هذا البيت ، وهو يؤيد ما قلت : كَرِيمُ عَمٍّ وَكَرِيمُ خَالِ ... متْلِفُ مَالٍ ومُفِيدُ مَالِ
وَلا تَزَالُ آخِرَ اللَّيَالِي ... قَلُوصُهُ تَعْثُرُ في النِّقَالِ
و " مفيد مال " ، مستفيد مال . ورواية اللسان : " ناقته ترمل في النقال " . و " ترمل " ، أي تسرع . و " النقال " ، المناقلة ، وهي أن تضع رجليها مواضع يديها وذلك من سرعتها .
(2) في المطبوعة هنا أيضًا : " شره " .

(16/463)


، عن قتادة ، قوله : (أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت) ، ذلكم ربكم تبارك وتعالى ، قائمٌ على بني آدمَ بأرزاقهم وآجالهم ، وحَفظ عليهم والله أعمالهم . (1)
20441 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : (أفمَن هو قائم على كل نفس بما كسبت) ، قال : الله قائم على كل نفس. (2)
20442 - حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال : حدثني عمي قال ، حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : (أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت) ، يعني بذلك نفسه ، يقول : هو معكم أينما كنتم ، فلا يعمل عامل إلا والله حاضِرُه . ويقال : هم الملائكة الذين وُكِلوا ببني آدم . (3)
20443 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج : (أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت) ، وعلى رزقهم وعلى طعامهم ، فأنا على ذلك قائم ، وهم عبيدي ، (4) ثم جعلوا لي شُركاء .
20444 - حدثت عن الحُسَين بن فرج قال ، سمعت أبا معاذ يقول : حدثنا عبيد بن سليمان قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : (أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت) ، فهو الله قائم على كل نفس بَرّ وفاجر ، يرزقهم ويَكلؤُهم ، ثم يشرك به منهم من أشرك . (5)
* * *
__________
(1) الأثر : 20440 - الدر المنثور 4 : 64 ، وأسقط آخر الخبر .
(2) من أول قوله : " قال ... " ، ساقط من المطبوعة .
(3) الأثر : 20442 - في الدر المنثور 4 : 64 ، واقتصر علي " يعني بذلك نفسه " . وفي المطبوعة " إلا وهو حاضر " ، غير ما في المخطوطة . وقوله : " ويقال هم الملائكة ... " ، ليس من قول ابن عباس بلا ريب ، وكأنه من قول : " محمد بن سعد " ، راوي الخبر .
(4) في المخطوطة : " فأنا على ذلك وهم عبيدي " ، أسقط " قائم " .
(5) الأثر : 20444 - في المطبوعة أسقط من الإسناد : " بن الفرج " ، وزاد في نص الخبر فجعله " على كل نفس بر وفاجر " ، والذي أثبته مطابق لما في الدر المنثور : 4 : 64 .

(16/464)


وقوله : (وجَعَلوا لله شركاءَ قُلْ سَموهم أم تنَبِّئونه بما لا يعلم في الأرض أمْ بظاهر من القول) ، يقول تعالى ذكره : أنا القائم بأرزاق هؤلاء المشركين ، والمدبِّرُ أمورهم ، والحافظُ عليهم أعمالَهُمْ ، وجعلوا لي شركاء من خلقي يعبدُونها دوني ، قل لهم يا محمد : سمّوا هؤلاء الذين أشركتموهم في عبادة الله ، فإنهم إن قالوا : آلهة فقد كذبوا ، لأنه لا إله إلا الواحد القهار لا شريك له(أم تُنَبِّؤونُه بما لا يعلم في الأرضُ) ، يقول : أتخبرونه بأن في الأرض إلهًا ، ولا إله غيرُه في الأرض ولا في السماء ؟
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
*ذكر من قال ذلك :
20445 - حدثت عن الحسين قال : سمعت أبا معاذ يقول : حدثنا عبيد قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : (وجعلوا لله شركاء قل سمُّوهم) ، ولو سمَّوْهم آلهةً لكذبَوا وقالوا في ذلك غير الحق ، لأن الله واحدٌ ليس له شريك. قال الله : (أم تُنَبؤونه بما لا يعلم في الأرض أم بظاهر من القول) يقول : لا يعلم الله في الأرض إلها غيره . (1)
20446 - حدثني المثنى قال : حدثنا عبد الله بن صالح قال : حدثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس ، قوله : (وجَعلوا لله شركاء قل سموهم) ، والله خلقهم .
20447 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج : (وجعلوا لله شركاء قل سموهم) ، ولو سَمَّوهم كذبوا وقالوا في ذلك مَا لا يعلم الله ، مَا من إله غير الله ، (2) فذلك قوله : (أم تنبئونه لما لا يعلم في الأرض).
* * *
__________
(1) الأثر : 20445 - هو تتمة الخبر السالف في الدر المنثور 4 : 64 .
(2) في المطبوعة ، أسقط " ما " من قوله : " ما من إله " فأفسد الكلام .

(16/365)


وقوله : (أم بظاهر من القول) ، مسموع ، (1) وهو في الحقيقة باطلٌ لا صحة له .
* * *
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل ، غير أنهم قالوا : (أم بظاهر) ، معناه : أم بباطل ، فأتوا بالمعنى الذي تدل عليه الكلمة دون البيان عن حَقيقة تأويلها .
*ذكر من قال ذلك :
20448 - حدثنا الحسن بن محمد قال : حدثنا شبابة قال ، حدثنا ورقاء ، عن أبي نجيح ، عن مجاهد قوله : (بظاهر من القول) ، بظنٍّ .
20449 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الله ، عن ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد مثله .
20450 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن قتادة قوله : (أم بظاهر من القول) ، والظاهر من القول : هو الباطل .
20451 - حدثت عن الحسين بن الفرج قال ، سمعت أبا معاذ يقول : حدثنا عبيد بن سليمان قال ، سمعت الضحاك يقول في قوله : (أم بظاهر من القول) ، يقول : أم بباطل من القول وكذب ، ولو قالوا قالُوا الباطلَ والكذبَ .
* * *
وقوله : (بل زُيِّن للذين كفروا مكرهم) ، يقول تعالى ذكره : ما لله من شريك في السموات ولا في الأرض ، ولكن زُيِّن للمشركين الذي يدعون من دونه إلهًا ، (2) مَكْرُهم ، وذلك افتراؤهُم وكذبهم على الله . (3)
* * *
__________
(1) أسقط في المطبوعة : " وقوله " ، فجعل الكلام سياقًا واحدًا .
(2) انظر تفسير " التزيين " فيما سلف 15 : 55 ، تعليق رقم : 3 ، والمراجع هناك .
(3) انظر تفسير " المكر " فيما سلف : 68 تعليق رقم : 2 والمراجع هناك .

(16/466)


وكان مجاهد يقول : معنى " المكر " ، ههنا : القول ، كأنه قال : يعني قَوْلُهم بالشرك بالله . (1)
20452 - حدثنا المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الله ، عن ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد قوله : (بل زين للذين كفروا مكرهم) ، قال : قولهم .
20453 - حدثني محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
* * *
وأما قوله : (وصدوا عن السبيل) ، فإن القَرَأة اختلفت في قراءته.
فقرأته عامة قَرَأة الكوفيين : (وَصُدُّوا عن السَّبِيلِ) ، بضم " الصاد " ، بمعنى : وصدَّهم الله عن سبيله لكفرهم به ، ثم جُعلت " الصاد " مضمومة إذ لم يُسَمَّ فاعله .
* * *
وأما عامة قرأة الحجاز والبصرة ، فقرأوه بفتح " الصاد " ، على معنى أن المشركين هم الذين صَدُّوا الناس عن سبيل الله . (2)
قال أبو جعفر : والصواب من القول في ذلك عندي أن يقال : إنهما قراءتان مشهورتان قد قرأ بكل واحدة منهما أئمةٌ من القرأة ، متقاربتا المعنى ، وذلك أن المشركين بالله كانوا مصدودين عن الإيمان به ، وهم مع ذلك كانوا يعبدون غيرهم ، كما وصفهم الله به بقوله : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُون أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ) . [الأنفال : 36]
* * *
__________
(1) في المطبوعة أسقط " يعني " .
(2) انظر تفسير : " الصد " فيما سلف 15 : 285 ، تعليق رقم : 1 ، والمراجع هناك .

(16/467)


لَهُمْ عَذَابٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآَخِرَةِ أَشَقُّ وَمَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ (34)

وقوله(ومن يُضْلل الله فمَا لهُ من هادٍ) ، يقول تعالى ذكره : ومن أضلَّه الله عن إصابة الحق والهدى بخذلانه إياه ، فما له أحدٌ يهديه لإصابتهما ، لأن ذلك لا يُنَال إلا بتوفيق الله ومعونته ، وذلك بيد الله وإليه دُون كل أحد سواه .
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { لَهُمْ عَذَابٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَشَقُّ وَمَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ (34) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره ، لهؤلاء الكفار الذين وَصَف صفَتَهم في هذه السورة ، عذابٌ في الحياة الدنيا بالقتل والإسار والآفاتِ التي يُصيبهم الله بها(ولعذاب الآخرة أشق) ، يقول : ولتعذيبُ الله إياهم في الدار الآخرة أشدُّ من تعذيبه إيَّاهم في الدنيا.
" وأشقّ " إنما هو " أفعلُ " من المشقَّة .
* * *
وقوله : (وما لهم من الله من وَاقٍ) ، يقول تعالى ذكره : وما لهؤلاء الكفار من أحدٍ يقيهم من عذاب الله إذا عذَّبهم ، لا حَمِيمٌ ولا وليٌّ ولا نصيرٌ ، لأنه جل جلاله لا يعادُّه أحدٌ فيقهره ، (1) فيتخَلَّصَه من عذابه بالقهر ، (2) ولا يشفع عنده أحدٌ إلا بإذنه ، وليس يأذن لأحد في الشفاعة لمن كفر به فمات على كفره قبل التَّوبة منه .
* * *
__________
(1) عاده يعاده ، عدادًا ومعادة " ، ناهده وقارنه ، و " العد " ، بكسر العين ، القرن ، بكسر فسكون .
(2) في المطبوعة : " فيخلصه " ، و " تخلصه " ، استنقذه .

(16/468)


مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا وَعُقْبَى الْكَافِرِينَ النَّارُ (35)

القول في تأويل قوله تعالى : { مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا وَعُقْبَى الْكَافِرِينَ النَّارُ (35) }
قال أبو جعفر : اختلف أهلُ العلم بكلام العرب في مُرَافع " المثل " ، (1)
فقال بعض نحويي الكوفيين : الرافع للمثل قوله : (تجري من تحتها الأنهار) ، في المعنى ، وقال : هو كما تقول : " حِلْيَةُ فلان ، أسمرُ كذا وكذا " فليس " الأسمر " بمرفوع بالحلية ، إنما هو ابتداءٌ ، أي هو أسمر هو كذا . قال : ولو دخل " أنّ " في مثل هذا كان صوابًا . قال : ومِثْلُه في الكلام : " مَثَلُك أنَّك كذا وأنك كذا " ، وقوله : (فَلْيَنْظَرِ الإنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ أَنَّا) [سورة عبس : 24 ، 25] مَنْ وجَّه ، (مثلُ الجنة التي وعد المتقون فيها) ، ومن قال : (أَنَّا صَبَبْنَا المَاءَ) ، أظهر الاسم لأنه مردودٌ على " الطعام " بالخفض ، ومستأنف ، أي : طَعامُهُ أنَّا صببنا ثم فعلنا . وقال : معنى قوله : (مثل الجنة) ، صفات الجنّة .
* * *
وقال بعض نحويي البصريين : معنى ذلك : صفةُ الجنة قال : ومنه قول الله تعالى : (ولَهُ الْمَثَلُ الأعْلَى) [سورة الروم : 27] ، معناه : ولله الصِفة العُليَا . قال : فمعنى الكلام في قوله : (مثلُ الجنة التي وعد المتقون تجرى من تحتِها الأنهار) ، أو فيها أنهار ، (2) كأنه قال : وَصْف الجنة صفة تجري من تحتها الأنهار ، أو صفة فيها أنهار ، والله أعلم .
__________
(1) في المطبوعة : " رافع " والذي في المخطوطة خالص الصواب . وانظر ما سيأتي ص : 552 .
(2) العبارة مبهمة ، ويبدو لي أن صوابها بعد الآية : " صفة الجنة التي وعد المتقون ، صفة جنة تجري من تحتها الأنهار ، أو فيها أنهار " .

(16/469)


قال : ووجه آخر كأنه إذا قيل : (مَثَلُ الجنة) ، قيل : الجنَّة التي وُعِدَ المتقون . قال . وكذلك قوله : (وَإِنَّهُ بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) [سورة النمل : 30] ، كأنه قال : بالله الرحمن الرحيم ، والله أعلم .
قال : وقوله : (عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللهِ) [سورة الزمر : 56] ، في ذات الله ، كأنه عندَنا قيل : في الله .
قال : وكذلك قوله : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) [سورة الشورى : 11] ، إنما المعنى : ليس كشيء ، وليس مثله شيء ، لأنه لا مثْلَ له . قال : وليس هذا كقولك للرجل : " ليس كمثلك أحدٌ " ، لأنه يجوز أن يكون له مثلٌ ، والله لا يجوز ذلك عليه . قال : ومثلُه قول لَبيد :
إِلَى الْحَوْلِ ثُمَّ اسْمُ السَّلامِ عَلَيْكُمَا (1)
قال : وفُسِّر لنا أنه أراد : السلام عليكما :
قال أوس بن حجر :
وَقَتْلَى كِرَامٍ كَمِثْلِ الجُذُوعِ... تَغَشَّاهُمُ سَبَلُ مُنْهِمرْ (2)
قال : والمعنى عندنا : كالجذوع ، لأنه لم يرد أن يجعل للجذوع مَثَلا ثمّ يشبه القتلى به . قال : ومثله قول أمية :
زُحَلٌ وَثَوْرٌ تَحْتَ رِجْلِ يَمِينِهِ... وَالنَّسْرُ لِلأخْرَى وَلَيْثٌ مُرْصِدُ (3)
__________
(1) سلف البيت وتخريجه وشرحه 1 : 119 ، تعليق 1 / 14 : 417 ، تعليق : 1 ، وعجزه : * وَمَنْ يَبْكِ حَوْلًا كَامِلًا فَقَدِ اعْتَذَرْ *
(2) سيأتي البيت بعد 25 : 9 ( بولاق ) ، وروايته هناك : " مُسْبِلٌ " ، وكان في المطبوعة : " سيل " ، تصحيف ، و " السبل " ، بالتحريك ، المطر .
(3) سلف البيت : 1 : 345 ، وهناك " رجل وثور " ، ورجحت أنها " رجل " ، لما جاء في الخبر قبله رقم : 448 .

(16/470)


قال فقال : " تحت رجل يمينه " كأنه قال : تَحْتَ رِجله ، أو تحت رِجله اليُمْنَى. قال : وقول لَبيد :
أَضَلَّ صِوَارَهُ وَتَضَيَّفَتْهُ... نَطُوفٌ أَمْرُهَا بِيَدِ الشَّمَالِ (1)
كأنه قال : أمرها بالشمال ، وإلى الشمال ; وقول لَبيد أيضًا :
حَتَّى إِذَا أَلْقَتْ يَدًا فِي كَافِر (2)
فكأنه قال : حتى وَقَعت في كافر .
* * *
وقال آخر منهم : هو من المكفوف عن خبَره. (3) قال : والعرب تفعل ذلك . قال : وله معنى آخر : (للَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنَى) ، مَثَلُ الجنة ، موصولٌ ، صفةٌ لها على الكلام الأوَل . (4)
* * *
__________
(1) ديوانه : 77 ، وتخريجه : 373 ، يزاد عليه ما هنا واللسان ( يدي ) . والبيت في سياق أبيات من القصيدة ، يصف فيها ثور الوحش ، والضمير في " أضل ، إليه . و " الصوار " ، قطيع بقر الوحش ، أضل الثور قطيعة وبقي فردًا وحيدًا ، كئيبًا متحيرًا . " تضيفته " ، نزلت به وطرقته ، والضمير في " تضيفته " لإحدى الليالي التي ذكرها في البيت قبله : كَأَخْنَسَ نَاشِطٍ جَادَتْ عَلَيْهِ ... ببُرْقَةِ وَاحِفٍ إحْدَى اللَّيالي
و " ليلة نطوف " ، قاطرة تمطر حتى الصباح . وقال أبو عمرو : " تطوف " : سحابة تسيل قليلا قليلا " ، والأول عندي أجود هنا ، وفي اللسان ( يدي ) : " نِطَافٌ "
(2) ديوانه : 216 ، تخريجه : 396 ، ويزاد عليه ما هنا ، وتمام البيت : * وأجَنَّ عَوْرَاتِ الثُّغُورِ ظَلامُهَا *
" ألقت " ، يعني الشمس ، ولم يجر لها ذكر قبل . و " الكافر " ، الليل المظلم ، يستر ما يشتمل عليه .
(3) هذه مقالة أبي عبيدة مجاز القرآن 1 : 333 ، 334 .
(4) هو أيضًا قول أبي عبيدة في مجاز القرآن 1 : 334 . وقوله : " للذين استجابوا " ، هي الآية 18 من سورة الرعد ، وهذه الآية : 35 منها ، فلذلك قال : " على الكلام الأول " .

(16/471)


قال أبو جعفر : وأولى الأقوال في ذلك بالصواب : أن يقال ذَكر المَثَل ، فقال(مثل الجنة) ، والمراد الجنة ، ثم وُصِفت الجنة بصفتها ، وذلك أن مَثَلَها إنما هو صِفتَهُا وليست صفتها شيئًا غيرها . وإذْ كان ذلك كذلك ، ثم ذكر " المثل " ، فقيل : (مثل الجنة) ، ومثلها صفَتُها وصفة الجنّة ، فكان وصفها كوصف " المَثَل " ، وكان كأنَّ الكلام جرى بذكر الجنة ، فقيل : الجنةُ تجري من تحتها الأنهار ، كما قال الشاعر : (1)
أَرَى مَرَّ السِّنِينَ أَخَذْنَ مِنِّي... كَمَا أَخَذَ السِّرَارُ مِنَ الْهِلالِ (2)
فذكر " المرّ " ، ورَجَع في الخبر إلى " السنين " .
وقوله : (أكلها دائمٌ وظلها) ، يعني : ما يؤكل فيها ، (3) يقول : هو دائم لأهلها ، لا ينقطع عنهم ، ولا يزول ولا يبيد ، ولكنه ثابتٌ إلى غير نهاية(وظلها) ، يقول : وظلها أيضًا دائم ، لأنه لا شمس فيها. (4)
* * *
(تلك عقبى الذين اتقَوْا) ، يقول : هذه الجنة التي وصف جل ثناؤه ، عاقبة الذين اتَّقَوا الله ، فاجتنبوا مَعَاصيه وأدَّوْا فرائضه . (5)
وقوله : (وعُقْبَى الكافرين النار) ، يقول : وعاقبةُ الكافرين بالله النارُ .
* * *
__________
(1) هو جرير .
(2) سلف البيت 7 : 86 ، تعليق : 1 / 15 : 567 وسيأتي 19 : 39 ( بولاق ) ، ويزاد في المراجع : اللسان ( خضع ) .
(3) انظر تفسير " الأكل " فيما سلف من هذا الجزء : 343 ، تعليق : 1 ، والمراجع هناك .
(4) سلف " الظل " غير مبين 8 : 489 .
(5) انظر تفسير " العاقبة " و " العقبى " فيما سلف 15 : 356 ، تعليق : 2 ، والمراجع هناك .

(16/472)


وَالَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَفْرَحُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمِنَ الْأَحْزَابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلَا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُو وَإِلَيْهِ مَآَبِ (36)

القول في تأويل قوله تعالى : { وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَفْرَحُونَ بِمَا أُنزلَ إِلَيْكَ وَمِنَ الأحْزَابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُو وَإِلَيْهِ مَآبِ (36) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : والذين أنزلنا إليهم الكتاب ممَّن آمن بك واتبعك ، يا محمد ، (يفرحون بما أنزل إليك) منه(ومن الأحْزاب من ينكر بعضه) ، يقول : ومن أهل الملل المتحزِّبين عليك ، وهم أهل أدْيان شَتَّى ، (1) من ينكر بعضَ ما أنزل إليك. فقل لهم : (إنَّما أمرتُ) ، أيها القوم(أن أعبد الله) وحده دون ما سواه(ولا أشرك به) ، فأجعل له شريكًا في عبادتي ، فأعبدَ معه الآلهةَ والأصنامَ ، بل أخلِص له الدين حَنِيفًا مسلمًا (إليه أدعو) ، يقول : إلى طاعته وإخلاص العبادة له أدعو الناسَ(وإليه مآب) ، يقول : وإليه مصيري
* * *
وهو " مَفْعَل " ، من قول القائل : " آبَ يَؤُوب أوْبًا ومَآبًا " . (2)
* * *
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
*ذكر من قال ذلك :
20454 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : (والذين آتيناهم الكتاب يفرحون بما أنزل إليك) ، أولئك أصحابُ محمدٍ صلى الله عليه وسلم ، فرحوا بكتاب الله وبرسوله وصدَّقُوا به
* * *
قوله : (ومن الأحزاب من ينكر بعضه) ، يعني اليهودَ والنصارى .
__________
(1) انظر تفسير " الأحزاب " فيما سلف 15 : 278 ، تعليق : 1 ، والمراجع هناك .
(2) انظر تفسير " المآب " فيما سلف : 444 ، تعليق : 1 ، والمراجع هناك .

(16/473)


20455 - حدثنا الحسن بن محمد قال : حدثنا شبابة قال : حدثنا ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد قوله : (ومن الأحزاب من ينكر بعضه) ، قال : من أهل الكتاب .
20456 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا عبد الله ، عن ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
20457 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد قوله : (والذين آتيناهم الكتاب يفرحون بما أنزل إليك ومن الأحزاب من ينكر بعضه) ، من أهل الكتاب ، و " الأحزاب " أهل الكتب يقرّبهم تحزُّبهم . (1) قوله : (وَإنْ يَأْتِ الأحْزَابُ) [سورة الأحزاب : 20] قال : لتحزبهم على النبي صلى الله عليه وسلم قال ابن جريج ، وقال عن مجاهد : (ينكِرُ بعضه) ، قال : بعض القرآنِ .
20458 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : (وإليه مآب) : ، وإليه مَصِيرُ كلّ عبْدٍ .
20459 - حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد في قوله : (والذين آتيناهم الكتاب يفرحون بما أنزل إليك) ، قال : هذا مَنْ آمنَ برسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل الكتاب فيفرحون بذلك . وقرأ : (وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهِ) [سورة يونس : 40] . وفي قوله : (ومن الأحزاب من ينكر بعضه) ، قال : " الأحزاب " : الأممُ ، اليهودُ والنصارى والمجوس منهم من آمنَ به ، ومنهم من أنكره .
__________
(1) في المطبوعة : " تفريقهم لحربهم ، والذي أثبت هو ما في المخطوطة ، وإن كان قد أساء في كتابة الكلمة الأولى بعض الإساءة .

(16/474)


وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ حُكْمًا عَرَبِيًّا وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَمَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا وَاقٍ (37) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآَيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ (38)

القول في تأويل قوله تعالى : { وَكَذَلِكَ أَنزلْنَاهُ حُكْمًا عَرَبِيًّا وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَمَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا وَاقٍ (37) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : وكما أنزلنا عليك الكتاب ، يا محمد ، فأنكرهُ بعض الأحزاب ، كذلك أيضًا أنزلنا الحكم والدين حُكْمًا عربيًا (1) وجعل ذلك(عربيًا) ، ووصفه به لأنه أنزل على محمدٍ صلى الله عليه وسلم وهو عربيٌّ ، فنسب الدين إليه ، إذ كان عليه أنزل ، فكذَّب به الأحزابُ . ثم نهاه جل ثناؤه عن ترك ما أنزل إليه واتباع الأحزاب ، وتهدَّده على ذلك إنْ فعله فقال : (ولئن اتبعت) يا محمد(أهواءهم) ، أهوَاء هؤُلاء الأحزاب ورضَاهم ومحبتَهم (2) وانتقلت من دينك إلى دينهم ، ما لك من يَقيك من عَذاب الله إنْ عذّبك على اتباعك أهواءَهم ، وما لك من ناصر ينصرك فيستنقذك من الله إن هو عاقبك ، (3) يقول : فاحذر أن تتّبع أهَواءهم .
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ (38) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : (ولقد أرسلنا) ، يا محمد(رسلا من قبلك) إلى أمم قَدْ خَلَتْ من قبلِ أمتك ، فجعلناهم بَشرًا مثلَك ، لهم أزواج ينكحون ،
__________
(1) انظر تفسير " الحكم " فيما سلف من هذا الجزء : 23 ، تعليق : 1 ، والمراجع هناك .
(2) انظر تفسير " الهوى " فيما سلف 9 : 302 / 11 : 397 .
(3) انظر تفسير " الولي " فيما سلف 13 : 152 ، تعليق : 1 ، المراجع هناك .

(16/475)


وذريةٌ أنْسَلوهم ، (1) ولم نجعلهم ملائكةً لا يأكلون ولا يشربون ولا ينكحون ، فنجعلَ الرسولَ إلى قومك من الملائكة مثلهم ، ولكن أرسلنا إليهم بشرًا مثلهم ، كما أرسلنا إلى من قبلهم من سائر الأمم بشرًا مثلهم(وما كان لرسول أن يأتيَ بآية إلا بإذن الله) يقول تعالى ذكره : وما يقدِر رسولٌ أرسله الله إلى خلقه أنْ يأتي أمَّتَه بآية وعلامة ، (2) من تسيير الجبال ، ونقل بَلْدةٍ من مكان إلى مكان آخر ، وإحياء الموتى ونحوها من الآيات(إلا بإذن الله) ، يقول : إلا بأمر الله الجبالَ بالسير ، (3) والأرضَ بالانتقال ، والميتَ بأن يحيَا(لكل أجل كتاب) ، يقول : لكلِّ أجلِ أمرٍ قضاه الله ، كتابٌ قد كتَبَه فهو عنده . (4)
* * *
وقد قيل : معناه : لكل كتابٍ أنزله الله من السماء أجَلٌ . *ذكر من قال ذلك :
20460 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق بن يوسف ، عن جويبر ، عن الضحاك في قوله : (لكلّ أجل كتاب) ، يقول : لكل كتاب ينزل من السماء أجل ، فيمحُو الله من ذلك ما يشاءُ ويُثْبت ، وعنده أمُّ الكتاب . (5)
* * *
قال أبو جعفر : وهذا على هذا القول نظيرُ قول الله : (وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ) [سورة ق : 19] ، وكان أبو بكر رحمه الله يقرؤه (6) (وَجَاءَتْ
__________
(1) انظر تفسير " الذرية " فيما سلف 423 تعليق : 3 ، والمراجع هناك .
(2) انظر تفسير " الآية " فيما سلف من فهارس اللغة ( أيي ) .
(3) انظر تفسير " الإذن " فيما سلف من فهارس اللغة ( أذن ) .
(4) انظر تفسير " الأجل " فيما سلف 15 : 100 ، تعليق : 2 ، والمراجع هناك .
وتفسير " الكتاب " فيما سلف 14 : 90 ، تعليق : 1 ، والمراجع هناك .
(5) الأثر : 20460 - " المثنى " ، هو " المثنى بن إبراهيم الآملي " ، شيخ الطبري ، مضى مرارًا و " إسحاق بن يوسف " ، لعله " إسحاق بن يوسف الواسطي " ، الذي مضى برقم : 3339 ، 4224 ، 12742 .
(6) في المطبوعة : " وكان أبو بكر رضى الله عنه يقول " ، وهو فاسد .

(16/476)


يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ (39)

سَكْرَةُ الْحَقِّ بِالْمَوْتِ) ، وذلك أن سَكْرة الموت تأتي بالحق والحق يأتي بها ، فكذلك الأجل له كتاب وللكتاب أجَلٌ .
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ (39) }
قال أبو جعفر : اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك.
فقال بعضهم : يمحو الله ما يشاء من أمور عبادِه ، فيغيّره ، إلا الشقاء والسعادة ، فإنهما لا يُغَيَّران .
*ذكر من قال ذلك :
20461 - حدثنا أبو كريب قال : حدثنا بحر بن عيسى ، عن ابن أبي ليلى ، عن المنهال ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، في قوله : (يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب) ، قال : يدبّر الله أمرَ العباد فيمحو ما يشاءُ ، إلا الشقاء والسعادة [والحياة] والموت . (1)
__________
(1) الأثر : 20461 - " أبو كريب " ، هو " محمد بن العلاء بن كريب الكوفي الحافظ " شيخ الطبري ، مضى مرارًا لا تحصى كثرة .
و " بحر بن عيسى " ، فهذا شيء لم أعرفه ، ولم أجد له ذكرًا في كتاب على طول البحث ، ولكني أرجح أعظم الترجيح أن صواب هذا الإسناد .
" حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا بكر ، عن عيسى ، عن ابن أبي ليلى ، عن المنهال ... "
وتفسير ذلك :
" ابن أبي ليلى " ، هو محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى الأنصاري " ، مضى مرارًا كثيرا ، و " عيسى " ، هو " عيسى بن المختار بن عبد الله بن عيسى بن عبد الرحمن بن أبي ليلى الأنصاري " ، روى عن عم جده " ابن أبي ليلى محمد بن عبد الرحمن " قال ابن سعد : " كان سمع مصنف ابن أبي ليلى " ، مترجم في التهذيب ، وغيره .
و " بكر " ، هو " بكر بن عبد الرحمن بن عبد الله بن عيسى بن عبد الرحمن بن أبي ليلى الأنصاري " ويقال له : " بكر بن عبيد " ، روى عن ابن عمه " عيسى بن المختار " ، و " أبو كريب " روى عن " بكر بن عبد الرحمن " هذا . مترجم في التهذيب .
فمن أجل هذا السياق الصحيح في الرواية ، رجحت أن الصواب " حدثنا بكر ، عن عيسى ، عن ابن أبي ليلى " ، ولعل ذلك من مصنفه الذي رواه عنه عيسى بن المختار ، والله أعلم .
وهذا الأثر ، ذكره السيوطي في الدر المنثور 4 : 65 ، ونسبه إلى عبد الرزاق ، والفريابي ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والبيهقي في الشعب مطولا ، والزيادة التي بين القوسين منه ، ومن تفسير ابن كثير 4 : 536 ، وذكر الخبر ، عن الثوري ، ووكيع ، وهشيم ، عن ابن أبي ليلى كما سيأتي في الآثار التالية من 20463 - 20466 .

(16/477)


20462 - حدثنا ابن بشار قال : حدثنا... ابن أبي ليلى ، عن المنهال بن عمرو ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، في قوله : (يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب) ، قال : كل شيء غير السعادة والشقاء ، فإنهما قد فُرِغ منهما . (1)
20463 - حدثني علي بن سهل قال : حدثنا يزيد وحدثنا أحمد قال حدثنا أبو أحمد عن سفيان ، عن ابن أبي ليلى ، عن المنهال ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس يقول : (يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب) ، قال : إلا الشقاء والسعادة ، والموت والحياة .
20464 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو نعيم الفضل بن دُكَيْن وقَبِيصة قالا حدثنا سفيان ، عن ابن أبي ليلى ، عن المنهال بن عمرو ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، مثله .
20465 - حدثنا عمرو بن علي قال : حدثنا وكيع قال : حدثنا ابن أبي ليلى ، عن المنهال بن عمرو ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قوله : (يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب) ، قال : قال ابن عباس : إلا الحياة والموت ، والشقاء والسعادة .
__________
(1) الأثر : 20462 - " ابن بشار " ، هو " محمد بن بشار العبدي " ، " بندار " أبو بكر الحافظ ، شيخ أبي جعفر ، مضى ما لا يعد كثرة .
و " ابن أبي ليلى " هو " محمد بن عبد الرحمن " ، سلف في الأثر قبله .
وقد وضعت نقطًا بين الرجلين ، لأنه هكذا إسناد باطل لا يقوم ، لأن ابن أبي ليلى توفي سنة 148 ، و " ابن بشار " ولد سنة 167 ، وتوفي سنة 252 ، فهذا قاطع في سقوط شيء من الإسناد ، وظني أن صوابه :
" حدثنا ابن بشار ، قال حدثنا وكيع ، عن سفيان الثوري ، عن ابن أبي ليلى " ، لأن الخبرين بعده من طريق سفيان ، عن ابن أبي ليلى ، و " محمد بن بشار " ، إنما يروي عن وكيع ، وكيع يروي عن سفيان ، والله أعلم .

(16/478)


20466 - حدثني المثنى قال : حدثنا عمرو بن عون قال : أخبرنا هشيم عن ابن أبي ليلى ، عن المنهال بن عمرو ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، في قوله : (يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده الكتاب) ، قال : يقدِّر الله أمر السَّنَة في ليلة القَدْر ، إلا الشقاوة والسَّعادة والموت والحياة .
20467 - حدثنا عمرو بن علي قال : حدثنا أبو عاصم قال : حدثنا سفيان ، عن منصور ، عن مجاهد في قوله : (يمحو الله ما يشاء ويثبت) ، قال : إلا الحياة والموت والسعادة والشقاوة فإنَّهما لا يتغيَّران .
20468 - حدثنا عمرو قال : حدثنا عبد الرحمن قال : حدثنا معاذ بن عقبة ، عن منصور ، عن مجاهد. مثله . (1)
20469 - حدثنا ابن بشار قال : حدثنا أبو أحمد قال : حدثنا سفيان ، عن منصور ، عن مجاهد ، مثله .
20470 - ... قال : حدثنا أبو أحمد قال : حدثنا سفيان ، عن منصور قال : قلت لمجاهد إن كنت كتبتني سعيدًا فأثبتني ، وإن كنت كتَبتَني شقيًّا فامحني " قال : الشقاء والسعادة قد فُرغ منهما . (2)
20471 - حدثنا أحمد قال : حدثنا أبو أحمد قال : حدثنا سفيان ، عن منصور ، عن مجاهد قال ، حدثنا سعيد بن سليمان قال : حدثنا شريك ، عن منصور ، عن مجاهد : (يمحو الله ما يشاء ويثبت) ، قال : ينزل الله كل شيء في السَّنَة في ليلة القَدر ، فيمحو ما يشاءُ من الآجال والأرزاق والمقادير ، إلا الشقاء والسعادة ، فإنهما ثابتان . (3)
__________
(1) الأثر : 20468 - " معاذ بن عقبة " ، لم أجد له ذكرًا ، وقد أعياني أن أعرف من يكون ، أو ما دخل هذا الإسناد من الاضطراب ، أخشى أن يكون : " معاذ بن هشام الدستوائي " عن " عقبة " ، محرفًا عن شيء آخر نحو " شعبة " .
(2) الأثر : 20470 - " إن كنت كتبتني سعيدًا ... " إشارة إلى حديث عبد الله بن مسعود في الدعاء ، كما سيأتي في الآثار التالية إلى آخر تفسير الآية . والنقط هنا دلالة على أن الحديث عن " ابن بشار " شيخ الطبري ، كالذي قبله .
(3) الأثر : 20471 - " أحمد " هو " أحمد بن إسحاق بن عيسى الأهوازي " ، شيخ أبي جعفر ، سلف مرارًا ، انظر رقم : 159 ، 1841 .
و " أبو أحمد " ، هو " محمد بن عبد الله بن الزبير ، الزبيري " ، مضى أيضًا ، وانظر رقم : 159 ، 1841 .
ثم انظر الإسناد السالف رقم 20463 ، 20470 والإسناد الثاني في هذا الخبر ، تفسيره :
" سعيد بن سليمان الضبي " ، " سعدويه " ، مضى مرارًا كثيرة ، آخرها رقم : 18511 ، والراوي عنه : " أحمد بن إسحاق " ، شيخ الطبري . وكان في المطبوعة " بن سليمان " ، وهو خطأ .

(16/479)


20472 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا جرير ، عن منصور قال : سألت مجاهدًا فقلت : أرأيت دعاءَ أحدنا يقول : " اللهم إن كان اسمي في السعداء فأثبته فيهم ، وإن كان في الأشقياء فامحه واجعله في السعداء " ، فقال : حَسنٌ . ثم أتيته بعد ذلك بحَوْلٍ أو أكثر من ذلك ، فسألته عن ذلك ، فقال : (إِنَّا أَنزلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِين فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ) [سورة الدخان : 3 ، 4] قال : يُقْضى في ليلة القدر ما يكون في السَّنة من رزق أو مصيبة ، ثم يقدِّم ما يشاء ويؤخر ما يشاء . فأما كتاب الشقاء والسعادة فهو ثابتٌ لا يُغَيَّر .
* * *
وقال آخرون : معنى ذلك : أنّ الله يمحو ما يشاء ويثبت من كتابٍ سوى أمّ الكتاب الذي لا يُغَيَّرُ منه شيء .
*ذكر من قال ذلك :
20473 - حدثني المثنى قال ، حدثنا الحجاج قال : حدثنا حماد ، عن سليمان التَّيمي ، عن عكرمة ، عن ابن عباس أنه قال في هذه الآية : (يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب) ، قال : كتابان : كتابٌ يمحو منه ما يشاء ويثبت ، وعنده أمّ الكتاب .
20474 - حدثنا عمرو بن علي قال : حدثنا سهل بن يوسف قال : حدثنا سليمان التيمي ، عن عكرمة ، في قوله : (يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب) ،

(16/480)


قال : الكتابُ كتابان ، كتاب يمحو الله منه ما يشاء ويثبت ، وعنده أم الكتاب .
20475 - ... قال : حدثنا أبو عامر قال : حدثنا حماد بن سلمة ، عن سليمان التيمي ، عن عكرمة ، عن ابن عباس بمثله .
20475م - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا المعتمر بن سليمان ، عن أبيه ، عن عكرمة قال : الكتاب كتابان ، (يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب).
* * *
وقال آخرون : بل معنى ذلك أنه يمحو كل ما يشاء ، ويثبت كل ما أراد .
*ذكر من قال ذلك :
20476 - حدثنا أبو كريب قال : حدثنا عثام ، عن الأعمش ، عن شقيق أنه كان يقول : " اللهم إن كنت كتبتنا أشقياء ، فامحنَا واكتبنا سعداء ، وإن كنت كتبتنا سعداء فأثبتنا ، فإنك تمحو ما تشاءُ وتثبت وعندَك أمّ الكتاب " .
20477 - حدثنا عمرو قال : حدثنا وكيع قال : حدثنا الأعمش ، عن أبي وائل قال : كان مما يكثر أن يدعو بهؤلاء الكلمات : " اللهم إن كنت كتبتنا أشقياء فامحنا واكتبنا سعداء ، وإن كنت كتبتنا سعداء فأثبتنا ، فإنك تمحو ما تشاء وتثبت وعندك أم الكتاب " . (1)
20478 - ... قال ، حدثنا معاذ بن هشام قال : حدثنا أبي ، عن أبي حكيمة ، عن أبي عثمان النَّهْديّ ، أن عمر بن الخطاب قال وهو يطوف بالبيت ويبكي : اللهم إن كنت كتبت علي شِقْوة أو ذنبًا فامحه ، فإنك تمحو ما تشاء وتثبت . وعندك أم الكتاب ، فاجعله سعادةً ومغفرةً . (2)
__________
(1) الأثران : 20476 ، 20477 - " شقيق " ، هو " شقيق بن سلمة الأسدي الكوفي " ، وهو " أبو وائل " ، كما في الإسناد الثاني ، مضى مرارًا كثيرة جدًا ، كان أعلم أهل الكوفة بحديث " عبد الله بن مسعود " ، فقوله : " كان يكثر أن يدعو " ، الضمير في ذلك إلى عبد الله بن مسعود . وساقه ابن كثير في تفسيره 4 : 536 ، مساقًا يوهم أنه شقيق بن سلمة نفسه الذي كان يكثر أن يدعو ، وقد أساء ، لأنه هو الذي غير لفظ الخبر الثاني . وانظر الدر المنثور 4 : 67 .
(2) الأثر : 20478 - " معاذ بن هشام " هو الدستوائي ، روى عنه الجماعة ، مضى مرارًا منها : 4523 ، 5552 ، 6321 .
وأبوه " هشام بن أبي عبد الله ، سنبر " " أبو بكر الربعي " ، من بكر بن وائل ، ثقة مترجم في التهذيب ، والكبير للبخاري 4 / 2 / 198 ، وابن أبي حاتم 4 / 2 / 59 .
و " أبو حكيمة " ، اسمه " عصمة " ، ويقال " الغزال " ، روى عن أبي عثمان النهدي ، وروى عنه " قرة " و " سلام بن مسكين " ، و " الضحاك بن يسار " ، و " حماد بن سلمة "
و " سليمان بن طرخان التيمي " . قال أبو حاتم : " محله الصدق " ، وذكره أحمد في كتاب العلل 1 : 18 وقال : " أبو حكيمة " ، عصمة ، روى عنه قرة ، و " أظن التيمي يحدث عنه " ، وانظر التعليق على الخبر التالي ، وهو مترجم في الكبير للبخاري 4 / 1 / 63 ، والصغير له : 140 ، وابن أبي حاتم 3 / 2 / 30 .
و " أبو عثمان النهدي " ، هو " عبد الرحمن بن مل " ، أدرك الجاهلية ، وأسلم على عهد رسول الله ولم يلقه ، مضى مرارًا كثيرة آخرها : 17151 .
وبهذا الإسناد نقله ابن كثير في تفسيره 4 : 536 ، وزاد في إسناده فقال : " عن أبي حكيمة عصمة " . وخرجه السيوطي في الدر المنثور 4 : 66 ، ونسبه إلى عبد بن حميد ، وابن المنذر .
ثم انظر التعليق على الآثار التالية .

(16/481)


20479 - ... حدثنا معتمر ، عن أبيه ، عن أبي حكيمة ، عن أبي عثمان قال : وأحسِبْني قد سمعتُه من أبي عثمان ، مثله . (1)
20480 - ... قال ، حدثنا أبو عامر قال ، حدثنا قرة بن خالد ، عن عصمة أبي حكيمة ، عن أبي عثمان النهدي ، عن عمر رحمه الله ، مثله . (2)
20481 - حدثني المثنى قال ، حدثنا الحجاج قال ، حدثنا حماد قال ، حدثنا أبو حكيمة قال : سمعت أبَا عُثْمان النَّهدي قال : سمعت عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول ، وهو يطوف بالكعبة : اللهم إن كنت كتبتَني في أهل السعادة فأثبتني فيها ، وإن كنت كتبت عليَّ الذّنب والشِّقوة فامحُني وأثبتني في أهل السّعادة ، فإنك تمحو ما تشاء وتثبت ، وعندك أمّ الكتاب . (3)
__________
(1) الأثر : 20479 - " معتمر " ، هو " معتمر بن سليمان بن طرخان التيمي " ، ثقة ، روى له الجماعة ، مضى مرارًا كثيرة .
وأبوه هو " سليمان بن طرخان التيمي " ، " أبو المعتمر " ، ثقة روى له الجماعة ، مضى مرارًا كثيرة منها رقم : 6820
وهذا الإسناد مصداق ظن أحمد رضي الله عنه حيث قال : " وأظن التيمي يحدث عنه " ، كما سلف في تفسير الإسناد السالف .
(2) الأثر : 20480 - " قرة بن خالد السدوسي " ، ثقة ، روى له الجماعة ، مضى مرارًا كثيرة ، وانظر رقم : 9762 .
وكان في المطبوعة : " عصمة بن أبي حكيمة " ، غير ما في المخطوطة ، وكان فيها : " عصمة بن حكيمة " ، وكلاهما خطأ ، كما دل عليه ما أسلفنا في التعليق على الأثر : 20478 .
ومن طريق " قرة ، عن عصمة " ، رواه البخاري في الكبير 4 / 1 / 63 ، " عن عبد الله ، حدثنا أبو عامر قال حدثنا قرة " ولفظه : " اللهم إن كنت كتبت علي ذنبًا أو إثمًا أو ضغنًا ، فاغفره لي ، فإنك تمحو ما تشاء وتثبت وعندك أم الكتاب " .
ورواه الدولابي في الكني والأسماء 1 : 155 ، قال : حدثنا محمد بن بشار قال ، حدثنا حماد بن مسعدة قال حدثنا قرة " ، ولم يقل : " أو ضغنًا " ، وقال : " فاغفر لي ، وامحه هني ، فإنك ... " .
(3) الأثر : 20481 - " المثنى " هو " المثنى بن إبراهيم الآملي " ، شيخ الطبري ، مضى مرارًا .
و " الحجاج " هو " حجاج بن النهال الأنماطي " ، من شيوخ البخاري ، روى له الجماعة ، مضى مرارًا كثيرة ، انظر رقم : 682 .
و " حماد " هو " حماد بن سلمة بن دينار " ، مضى مرارًا كثيرة ، انظر : 20342 .

(16/482)


20482 - ... قال : حدثنا الحجاج بن المنهال قال : حدثنا حماد ، عن خالد الحذاء ، عن أبي قلابة ، عن ابن مسعود ، أنه كان يقول : اللهم إن كنت كتبتني في [أهل] الشقاء فامحني وأثبتني في أهل السعادة . (1)
20483 - حدثني محمد بن سعد قال : حدثني أبي قال : حدثني عمي قال : حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : (يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب) ، يقول : هو الرجل يعمل الزمانَ بطاعة الله ، ثم يعود لمعصية الله ، فيموت على ضلاله ، فهو الذي يمحو والذي يثبتُ : الرجلُ يعمل بمعصية الله ، وقد كان سبق له خير حتى يموت ، وهو في طاعة الله ، فهو الذي يثبت . (2)
20484 - حدثنا أحمد قال : حدثنا أبو أحمد قال : حدثنا شريك ، عن هلال بن حميد ، عن عبد الله بن عُكَيْم ، عن عبد الله ، أنه كان يقول : اللهم إن كُنْت كتبتني في السعداء فأثبتني في السعداء ، فإنك تمحو ما تشاء وتثبت ، وعندك أم الكتاب . (3)
__________
(1) الأثر : 20482 - ما بين القوسين زيادة في المطبوعة ، وهو في المخطوطة : " في الشقاء " وانظر التعليق على الأثر التالي رقم : 20484 .
(2) الأثر : 20483 - خرجه السيوطي في الدر المنثور 4 : 65 ، وزاد في نسبته إلى ابن أبي حاتم . وفي المخطوطة مكان " فيموت على ضلاله " ، " فيعود على ضلاله " .
(3) الأثر : 20484 - " هلال بن حميد " و " هلال بن أبي حميد " ويقال : " ابن عبد الله " ، و " ابن عبد الرحمن " ، و " ابن مقلاص " ، الجهني ، ويقال له : " هلال الوزان " قال البخاري : " قال وكيع مرة : هلال بن حميد ، ومرة : هلال بن عبد الله ، ولا يصح " .
وانظر العلل لأحمد 1 : 106 ، 211 . وقال ابن أبي حاتم " هلال بن أبي حميد الوزان ، أبو جهم الصيرفي . ويقال أبو أمية ، وهو : هلال بن مقلاص الجهبذ ، مولى جهينة " ، وبنحوه قال ابن سعد .
و " هلال " ثقة مترجم في التهذيب والكبير 4 / 2 / 207 ، وابن أبي حاتم 4 / 2 / 75 ، وابن سعد في الطبقات 6 : 227 .
و " عبد الله بن عكيم الجهني " ، " أبو معبد " ، كان كبيرًا قد أدرك الجاهلية ، وأدرك زمان النبي صلى الله عليه وسلم ولكن لا يعرف له سماع صحيح ، مترجم في التهذيب ، والكبير 3 / 1 / 39 ، وابن أبي حاتم 2 / 2 / 121 ، وابن سعد في الطبقات 6 : 77 .
وكان في المطبوعة " عبد الله بن حكيم " ، وفي تفسير ابن كثير 4 : 536 ، " عبد الله ابن عليم " ، وكلاهما خطأ .
وهذا الأثر ، أشار إليه ابن كثير في تفسير 4 : 536 ، وخرجه السيوطي في الدر المنثور 4 : 67 ، وزاد في نسبته إلى ابن المنذر والطبراني ، وساقه وهو الأثر السالف : 20482 ، سياقًا واحدًا ، مع اختلاف في اللفظ .

(16/483)


20485 - حدثني المثنى قال : حدثنا الحجاج قال : حدثنا حماد ، عن أبي حمزة ، عن إبراهيم ، أن كعبًا قال لعمر رحمة الله عليه : يا أمير المؤمنين ، لولا آية في كتاب الله لأنبأتك ما هو كائنٌ إلى يوم القيامة قال : وما هي ؟ قال : قولُ الله : (يمحو الله ما يشاءُ ويثبت وعندَهُ أم الكتاب) . (1)
20486 - حدثت من الحسين قال : سمعت أبا معاذ يقول : حدثنا عبيد قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : (لكل أجل كتاب) ، الآية يقول : (يمحو الله ما يشاء) ، يقول : أنسخُ ما شئت ، وأصْنعُ من الأفعال ما شئت ، إن شئتُ زدتُ فيها ، وإن شئت نقصت .
20487 - حدثنا الحسن بن محمد قال : حدثنا عفان قال : حدثنا همام قال : حدثنا الكلبي قال : (يمحو الله ما يشاء ويثبت) ، قال : يَمْحي من الرزق ويزيد فيه ، ويمحي من الأجل ويزيد فيه . (2) قلت : من حدّثك! قال : أبو صالح ، عن جابر بن عبد الله بن رئاب الأنصاري ، عن النبي صلى الله عليه
__________
(1) الأثر : 20485 - " الحجاج " هو " الحجاج بن المنهال " ، سلف قريبًا برقم : 20481 .
و " حماد " هو " حماد بن سلمة " ، مضى مرارًا . وفي تفسير ابن كثير 4 : 537 ، روى هذا الخبر ، وفيه هناك " خصاف " ، ولكني أرجح أنه " حماد " ، كما في المخطوطة أيضًا
و " خصاف " ، هو " خصاف بن عبد الرحمن الجزري " ، ليس بذاك ، مترجم في لسان الميزان 2 : 397 ، وابن أبي حاتم 1 / 2 / 404 .
و " أبو حمزة " ، هو " ميمون الأعور التمار الراعي ، الكوفي ، هو صاحب إبراهيم النخعي ، ضعيف جدًا ذاهب الحديث ، قال العقيلي : " وأحاديثه عن إبراهيم خاصة مما لا يتابع عليه " . قد سلف برقم : 6190 ، 11810 ، وانظر الكني للدولابي 1 : 157 .
و " إبراهيم " ، هو " إبراهيم بن يزيد النخعي " ، مضى مرارًا .
وهذا إسناد واه جدًا ، والعجب من السيد رشيد رضا في تعليقه على تفسير ابن كثير ( 4 : 537 ) حيث يقول : " من الغريب أن تبلغ الجرأة بكعب إلى هذا الحد الباطل شرعًا وعقلا . ثم يعتدون بدينه وعلمه ويردون عنه ، والغريب هو تحامله على كعب الأحبار قبل التثبت من إسناد الخبر ، وما ذنب كعب إذا ابتلاه بذلك مثل " أبي حمزة الأعور " ؟ ولكن هكذا ديدن الشيخ ، إذا جاء ذكر كعب الأحبار ، يتهمه بلا بينة .
وخرج هذا الأثر السيوطي في الدر المنثور 4 : 67 ، ولم ينسبه إلى غير ابن جرير .
(2) هكذا جاء في المخطوطة ، " يمحى " أيضًا ، وهو صواب " محا الشيء يمحوه ، ويمحاه محوًا ومحيًا " ، والذي في المراجع الأخرى : " يمحو " . وانظر ما سيأتي : 492 تعليق : 1 .

(16/484)


وسلم . فقدم الكلبيّ بعدُ ، فسئل عن هذه الآية : (يمحو الله ما يشاء ويثبت) ، قال : يكتب القول كُلُّه ، حتى إذا كان يوم الخميسِ طُرح منه كل شيء ليس فيه ثواب ولا عليه عقاب ، مثل قولك : أكلت ، شربت ، دخلت ، خرجت ، ذلك ونحوه من الكلام ، وهو صادق ، ويثبت ما كان فيه الثواب وعليه العقاب . (1)
20488 - حدثنا الحسن قال : حدثنا عبد الوهاب قال : سمعت الكلبي ، عن أبي صالح نحوه ، ولم يجاوز أبا صالح .
* * *
وقال آخرون : بل معنى ذلك : أنّ الله ينسخ ما يشاء من أحكام كِتَابه ، ويثبت ما يشاء منها فلا ينسَخُه .
*ذكر من قال ذلك :
20489 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس : (يمحو الله ما يشاء) ، قال : من القرآن . يقول : يبدل الله ما يشاء فينسخه ، ويثبت ما يشاء فلا يبدله(وعنده أم الكتاب) ، يقول : وجملة ذلك عنده في أمّ الكتاب ، الناسخ والمنسوخ ، وما يبدل وما يثبت ، كلُّ ذلك في كتاب . (2)
20490 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : (يمحو الله ما يشاء ويثبت) ، هي مثل قوله : (مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ
__________
(1) الأثر : 20487 - الكلبي " ، هو " محمد بن السائب الكلبي " ، النسابة المفسر ، متكلم فيه بما لا يحتمل الرواية عنه ، وقد سلف قول الطبري فيه : " إنه ليس من رواية من يجوز الاحتجاج بنقله " ( 1 : 66 ) ، وهذا من المواضع القليلة في تفسير أبي جعفر ، التي جاءت فيها الرواية عن الكلبي ، انظر ما سلف : 72 ، 246 ، 248 ، 12967 .
وهذا الخبر أخرجه ابن سعد في الطبقات الكبير مختصرًا 3 / 2 / 114 ، وخرجه السيوطي في الدر المنثور 4 : 66 ، وزاد نسبته إلى ابن مردويه ، ونقله ابن كثير في تفسيره 4 : 537 . وانظر الإسناد التالي . وكان في المطبوعة وابن كثير : " ونحو ذلك من الكلام " .
(2) الأثر : 20489 - خرجه السيوطي في الدر المنثور 4 : 67 ، وزاد نسبته إلى ابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والبيهقي في المدخل . ونقله ابن كثير في تفسيره 4 : 538 .

(16/485)


نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا) [سورة البقرة : 106] ، وقوله : (وعنده أم الكتاب) : أي جُملة الكتاب وأصله .
20491 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : (يمحو الله ما يشاء ويثبت) ما يشاء ، وهو الحكيم(وعنده أمّ الكتاب) ، وأصله .
20492 - حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد ، في قوله : (يمحو الله ما يشاء) ، بما ينزل على الأنبياء ، (ويثبت) ما يشاء مما ينزل على الأنبياء ، قال : (وعنده أم الكتاب) ، لا يغيَّر ولا يبدَّل .
20493 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج قال : قال ابن جريج : (يمحو الله ما يشاء) ، قال : ينسخ . قال : (وعند أم الكتاب) ، قال : الذِكْرُ .
* * *
وقال آخرون : معنى ذلك أنه يمحو من قد حان أجله ، ويثبت من لم يجئ أجله إلى أجله .
*ذكر من قال ذلك :
20494 - حدثنا محمد بن بشار قال : حدثنا ابن أبي عدي ، عن عوف ، عن الحسن في قوله : (يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب) ، يقول : يمحو من جاء أجله فذهب ، والمثبت الذي هو حيٌّ يجري إلى أجله .
20495 - حدثنا عمرو بن علي قال : حدثنا يحيى قال : حدثنا عوف قال : سمعت الحسن يقول : (يمحو الله ما يشاء) ، قال : من جاء أجله(ويثبت) ، قال : من لم يجئ أجله إلى أجله .
20496 - حدثنا الحسن بن محمد قال : حدثنا هوذة قال : حدثنا عوف ، عن الحسن ، نحو حديث ابن بشار .

(16/486)


20497 - ... قال : حدثنا عبد الوهاب بن عطاء قال : أخبرنا سعيد ، عن قتادة ، عن الحسن في قوله : (لكل أجل كتاب) ، قال : آجال بني آدم في كتاب ، (يمحو الله ما يشاء) من أجله(ويثبت وعنده أم الكتاب) .
20498 - ... قال : حدثنا شبابة قال : حدثنا ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد قول الله : (يمحو الله ما يشاء ويثبت) ، قالت قريش حين أنزل : (وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلا بِإِذْنِ اللهِ) [سورة الرعد : 38] : ما نراك ، يا محمد تملك من شيء ، ولقد فُرِغ من الأمر! فأنزلت هذه الآية تخويفًا ووعيدًا لهم : إنا إن شئنا أحدَثْنا له من أمرنا ما شئنا ، ونُحْدِث في كل رمضان ، فنمحو ونثبتُ ما نشاء من أرزاق الناس وَمصَائبهم ، وما نعطيهم ، وما نقسم لهم . (1)
20499 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا عبد الله ، عن ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد نحوه .
20500 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، نحوه .
* * *
وقال آخرون : معنى ذلك : ويغفر ما يشاء من ذنوب عباده ، ويترك ما يشاء فلا يغفر .
* * *
*ذكر من قال ذلك :
20501 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا حكام ، عن عمرو ، عن عطاء ، عن سعيد في قوله(يمحو الله ما يشاء ويثبت) ، قال : يثبت في البطن الشَّقاء والسعادة وكلَّ شيء ، فيغفر منه ما يشاء ويُؤخّر ما يشاء . (2)
* * *
__________
(1) الأثر : 20498 - خرجه السيوطي في الدر المنثور 4 : 5 ، وزاد نسبته إلى ابن أبي شيبة ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، ونقله ابن كثير في تفسيره 4 : 538 .
(2) الأثر : 20501 - خرجه السيوطي في الدر المنثور 4 : 68 ، ولم ينسبه لغير ابن جرير ، ولفظه عنده : " ... وكل شيء هو كائن ، فيقدم منه ما يشاء ... " ، وهذا أجود مما في مخطوطتنا .

(16/487)


قال أبو جعفر : وأولى الأقوال التي ذكرت في ذلك بتأويل الآية وأشبهُها بالصّواب ، القولُ الذي ذكرناه عن الحسن ومجاهد ، وذلك أن الله تعالى ذكره توعَّد المشركين الذين سألوا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم الآياتِ بالعقوبة ، وتهدَّدهم بها ، وقال لهم : (وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أن يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلا بِإِذْنِ الله لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ) ، يعلمهم بذلك أن لقضائه فيهم أجلا مُثْبَتًا في كتاب ، هم مؤخَّرون إلى وقت مجيء ذلك الأجل. ثم قال لهم : فإذا جاء ذلك الأجل ، يجيء الله بما شَاء ممن قد دَنا أجله وانقطع رزقه ، أو حان هلاكه أو اتضاعه من رفعة أو هلاك مالٍ ، فيقضي ذلك في خلقه ، فذلك مَحْوُه ، ويثبت ما شاء ممن بقي أجله ورزقه وأكله ، (1) فيتركه على ما هو عليه فلا يمحوه .
وبهذا المعنى جاء الأثر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وذلك ما : -
20502 - حدثني محمد بن سهل بن عسكر قال : حدثنا ابن أبي مريم قال : حدثنا الليث بن سعد ، عن زيادة بن محمد ، عن محمد بن كعب القُرَظي ، عن فَضالة بن عُبَيْد ، عن أبي الدرداء قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الله يَفتح الذِّكر في ثلاث ساعات يَبْقَيْن من الليل ، في الساعة أولى منهن ينظر في الكتاب الذي لا ينظُرُ فيه أحد غَيره ، فيمحو ما يشاء ويثبتُ . ثم ذكر ما في الساعتين الأخريين . (2)
__________
(1) " الأكل " ، بضم فسكون ، الحظ من الدنيا ، من البقاء والرزق .
(2) ( الأثر : 20502 - " محمد بن سهل بن عسكر " ، شيخ الطبري ، مضى مرارًا ، انظر 5598 ، 5664 ، 5911 .
و " ابن أبي مريم " ، هو " سعيد بن أبي مريم " ، وهو " سعيد بن الحكم " ، ثقة روى له الجماعة ، مضى مرارًا آخرها رقم : 18404 .
و " زيادة بن محمد الأنصاري " ، منكر الحديث مضى برقم : 16943 ، 16944 .
وسلف هذا الأثر مطولا برقم : 16943 ، وسلف تخريجه وشرح إسناده ، وهو الخبر الذي أشار إليه البخاري في الكبير ، وقال " منكر الحديث " . ويزاد في تخريجه : السيوطي في الدر المنثور 4 : 65 ، وزاد نسبته إلى ابن أبي حاتم ، وابن مردويه ، والطبراني ونقله ابن كثير في تفسيره 4 : 537 . ثم انظر الخبر التالي والتعليق عليه .

(16/488)


20503 - حدثنا موسى بن سهل الرمليّ قال : حدثنا آدم قال ، حدثنا الليث قال : حدثنا زيادة بن محمد ، عن محمد بن كعب القرظي ، عن فضالة بن عبيد ، عن أبي الدرداء قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الله ينزل في ثلاث ساعات يَبْقَين من الليل ، يفتح الذكر في الساعة الأولى الذي لم يره أحد غيره ، يمحو ما يشَاء ويثبت ما يشاء . (1)
20504 - حدثني محمد بن سهل بن عسكر قال : حدثنا عبد الرزاق قال : أخبرنا ابن جريج ، عن عطاء ، عن ابن عباس قال : إن لله لوحًا محفوظًا مسيرةَ خمسمِئة عام ، من دُرَّة بيضاء لَها دَفَّتَان من ياقوت ، والدَّفتان لَوْحان لله ، كل يوم ثلاثمئة وستون لحظةً ، يمحو ما يشَاء ويثبت وعنده أم الكتاب . (2)
20505 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال : حدثنا محمد بن ثور قال : حدثنا المعتمر بن سليمان ، عن أبيه قال : حدثني رجل ، عن أبيه ، عن قيس بن عباد ، أنه قال : العاشر من رجب هو يوم يمحو الله فيه ما يشاء . (3)
* * *
__________
(1) الأثر : 20503 - " موسى بن سهل بن قادم الرملي " ، شيخ الطبري ، ثقة ، مضى برقم : 878 ، 5434 ، 16944 ، انظر أيضًا " موسى بن سهل الرازي " رقم : 180 ، والتعليق عليه ، و " سهل بن موسى الرازي " رقم : 180 ، 4319 ، 9482 ، والتعليق عليها .
و " آدم " ، هو " آدم بن أبي إياس " .
وهذه طريق أخرى للخبر السالف ، فهو منكر كمثله .
(2) الأثر : 20504 - خرجه السيوطي في الدر المنثور 4 : 65 ، ولم ينسبه لغير ابن جرير ، ونقله ابن كثير في تفسيره 4 : 537 .
(3) الأثر : 20505 - خرجه السيوطي في الدر المنثور 4 : 66 ، ولم ينسبه إلى غير ابن جرير ، ثم ذكر بعده خبرًا مطولا عن قيس بن عباد ، ونسبه إلى ابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والبيهقي في الشعب .

(16/489)


القول في تأويل قوله تعالى : { وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ (39) }
قال أبو جعفر : اختلفَ أهل التأويل في تأويل قوله : (وعنده أم الكتاب) ، فقال بعضهم : معناه : وعنده الحلال والحرام .
*ذكر من قال ذلك :
20506 - حدثني المثنى قال : حدثنا مسلم بن إبراهيم قال : حدثنا محمد بن عقبة قال ، حدثنا مالك بن دينار قال : سألت الحسن : قلت : (أمُّ الكتاب) ، قال : الحلال والحرام قال : قلت له : فما(الحمد لله رب العالمين) قال : هذه أمُّ القرآن .
* * *
وقال آخرون : معناه : وعنده جملة الكتاب وأصله .
*ذكر من قال ذلك :
20507 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : (وعنده أم الكتاب) ، قال : جملة الكتاب وأصله .
20508 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، مثله .
20509 - حدثت عن الحسين قال : سمعت أبا معاذ يقول : حدثنا عبيد قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : (وعنده أم الكتاب) ، قال : كتابٌ عند رب العالمين .
20510 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق بن يوسف ، عن جويبر عن الضحاك : (وعنده أم الكتاب) ، قال : جملة الكتاب وعلمه . يعني بذلك ما يَنْسَخ منه وما يُثْبت .

(16/490)


20511 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو صالح قال : حدثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس : (وعنده أم الكتاب) يقول : وجملة ذلك عنده في أمّ الكتاب : الناسخُ والمنسوخ ، وما يبدّل ، وما يثبت ، كلُّ ذلك في كتاب .
* * *
وقال آخرون في ذلك ، ما :
20512 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثنا معتمر بن سليمان ، عن أبيه ، عن سيَّار ، عن ابن عباس ، أنه سأل كعبًا عن " أم الكتاب " قال : علم الله ما هو خَالقٌ وما خَلْقُه عاملون ، فقال لعلمه : كُنْ كتابًا ، فكان كتابًا . (1)
* * *
وقال آخرون : هو الذكر .
*ذكر من قال ذلك :
20513 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج قال أبو جعفر : لا أدري فيه ابن جريج أم لا قال : قال ابن عباس : (وعنده أم الكتاب) قال : الذكر .
* * *
قال أبو جعفر : وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قولُ من قال : " وعنده أصل الكتاب وجملته ، وذلك أنه تعالى ذكره أخبر أنه يمحُو ما يشاء ويثبت
__________
(1) 20512 - " سيار " ، مولى خالد بن يزيد بن معاوية ، روى عن أبي الدرداء ، وابن عباس ، وأبي أمامة . روى عنه سليمان التيمي ، وذكره ابن حبان في الثقات : " سيار بن عبد الله " ، قال ابن حجر : " لم نجد من سمى أباه عبد الله غير ابن حبان " .
وهو مترجم في التهذيب ، والكبير للبخاري 2 / 2 / 161 ، وابن أبي حاتم 2 / 1 / 254 ، ولم يذكرا فيه جرحًا .
وكان في المطبوعة وحدها : " شيبان " .
والخبر خرجه السيوطي في الدر المنثور 4 : 68 ، وزاد نسبته إلى عبد الرزاق ، ونقله ابن كثير في تفسيره 4 : 538 ، وفي جميعها " سيار " ، وهو الصواب .

(16/491)


ما يشاء ، ثم عقَّب ذلك بقوله : (وعنده أم الكتاب) ، فكان بيِّنًا أن معناه. وعنده أصل المثبّت منه والمَمحوّ ، وجملتُه في كتاب لديه .
* * *
قال أبو جعفر : واختلفت القرأة في قراءة قوله : (ويثبت) فقرأ ذلك عامة قرأة المدينة والكوفة : " وَيُثَبِّتُ " بتشديد " الباء " بمعنى : ويتركه ويقرُّه على حاله ، فلا يمحوه.
* * *
وقرأه بعض المكيين وبعض البصريين وبعض الكوفيين : (وَيُثْبِتُ) بالتخفيف ، بمعنى : يكتب.
* * *
وقد بيَّنَّا قبلُ أن معنى ذلك عندنا : إقرارُه مكتوبًا وتركُ محْوه على ما قد بيَّنَّا ، فإذا كان ذلك كذلك فالتثبيتُ به أولى ، والتشديدُ أصْوبُ من التخفيف ، وإن كان التخفيف قد يحتمل توجيهه في المعنى إلى التشديد ، والتشديد إلى التخفيف ، لتقارب معنييهما .
* * *
وأما " المحو " ، فإن للعرب فيه لغتين : فأما مُضَر فإنها تقول : " محوت الكتَابَ أمحُوه مَحْوًا " وبه التنزيل " ومحوته أمْحَاه مَحْوًا " .
وذُكِر عن بعض قبائل ربيعة : أنها تقول : " مَحَيْتُ أمْحَى " . (1)
__________
(1) هذه اللغة منسوبة في اللسان وغيره إلى طيئ أيضًا ، و " أمحى " ، بفتح الحاء . وانظر مجاز القرآن لأبي عبيدة 1 : 334 ، وما سلف : 484 ، تعليق : 2 .

(16/492)


وَإِنْ مَا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ (40) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا وَاللَّهُ يَحْكُمُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (41)

القول في تأويل قوله تعالى : { وَإِنْ مَا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ (40) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : وإما نرينك ، يا محمد في حياتك بعضَ الذي نعدُ هؤلاء المشركين بالله من العقاب على كفرهم أو نتوفيَنَّكَ قبل أن نُريَك ذلك ، فإنما عليك أن تنتهِيَ إلى طاعة ربك فيما أمرك به من تبليغهم رسالتَه ، لا طلبَ صلاحِهم ولا فسادهِم ، وعلينا محاسبتهم ، فمجازاتهم بأعمالهم ، إن خيرًا فخيرٌ وإن شرًّا فشرٌّ . (1)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الأرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا وَاللَّهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (41) }
قال أبو جعفر : اختلف أهلُ التأويل في تأويل ذلك.
فقال بعضهم : معناه : أولم ير هؤلاء المشركون مِنْ أهل مكة الذين يسألون محمدًا الآيات ، أنا نأتي الأرض فنفتَحُها له أرضًا بعد أرض حَوَالَيْ أرضهم ؟ أفلا يخافون أن نفتح لَهُ أرضَهم كما فتحنا له غيرها ؟
*ذكر من قال ذلك :
20514 - حدثنا الحسن بن محمد قال : حدثنا محمد بن الصباح قال : حدثنا هشيم ، عن حصين ، عن عكرمة ، عن ابن عباس في قوله : (أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها) ، قال : أولم يروا أنا نفتح لمحمد الأرض بعد الأرض ؟ (2)
__________
(1) انظر مراجع ألفاظ هذه الآية في فهارس اللغة .
(2) الأثر : 20514 - " الحسن بن محمد بن الصباح الزعفراني " ، شيخ الطبري ، مضى مرارًا ، آخرها قريبًا رقم : 20411 .
و " محمد بن الصباح الدولابي " ، أبو جعفر البزاز البغدادي ، ثقة روى له الجماعة ، مترجم في التهذيب ، والكبير 1 / 1 / 118 ، وابن أبي حاتم 3 / 2 / 289 ، وتاريخ بغداد 5 : 365 .

(16/493)


20515 - حدثني محمد بن سعد قال : حدثني أبي قال : حدثني عمي قال : حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : (أولم يروا أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها) ، يعني بذلك : ما فتح الله على محمد. يقول : فذلك نُقْصَانها .
20516 - حدثنا ابن وكيع قال : حدثنا أبي ، عن سلمة بن نبيط ، عن الضحاك قال : ما تغلَّبتَ عليه من أرضِ العدوّ .
20517 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر قال : كان الحسن يقول في قوله : (أولم يروا أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها) ، هو ظهور المسلمين على المشركين . (1)
20518 - حدثت عن الحسين قال : سمعت أبا معاذ قال : حدثنا عبيد بن سليمان قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : (أولم يروا أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها) ، يعنى أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان يُنْتَقَصُ له ما حوله من الأرَضِين ، ينظرون إلى ذلك فلا يعتبرون قال الله في " سورة الأنبياء " : ( نَأْتِي الأرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ ) [سورة الأنبياء : 44] ، بل نبي الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه هم الغالبون .
* * *
وقال آخرون : بل معناه : أولم يروا أنا نأتي الأرض فنخرِّبها ، أو لا يَخَافون أن نفعل بهم وبأرضهم مثل ذلك فنهلكهم ونخرِّب أرضهم ؟
*ذكر من قال ذلك :
20519 - حدثنا الحسن بن محمد قال : حدثنا علي بن عاصم ، عن حصين بن عبد الرحمن ، عن عكرمة ، عن ابن عباس في قوله : (أنا نأتي الأرض ننقصها
__________
(1) في المطبوعة : " فهو ظهور " .

(16/494)


من أطرافها) ، قال : أولم يروا إلى القرية تخربُ حتى يكون العُمْران في ناحية ؟ (1)
20520 - ... قال : حدثنا حجاج بن محمد ، عن ابن جريج ، عن الأعرج ، أنه سمع مجاهدًا يقول : (نأتي الأرض ننقصها من أطرافها) ، قال : خرابُها .
20521 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن الأعرج ، عن مجاهد مثله قال : وقال ابن جريج : خرابُها وهلاك الناس .
20522 - حدثنا أحمد قال : حدثنا أبو أحمد قال : حدثنا إسرائيل ، عن أبي جعفر الفرَّاء ، عن عكرمة قوله : (أولم يروا أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها) ، قال : نخرِّب من أطرافها . (2)
* * *
وقال آخرون : بل معناه : ننقص من بَرَكتها وثَمرتها وأهلِها بالموت .
*ذكر من قال ذلك :
20523 - حدثني المثنى قال : حدثنا عبد الله قال : حدثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس قوله : (ننقصها من أطرافها) يقول : نقصان أهلِها وبركتها .
20524 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا جرير ، عن ليث ، عن مجاهد ، في قوله : (ننقصها من أطرافها) ، قال : في الأنفس وفي الثمرات ، وفي خراب الأرض .
__________
(1) الأثر : 20519 - " علي بن عاصم بن صهيب الواسطي " ، متكلم فيه لغلطه ثم لجاجه ، مضى برقم : 5427 .
و " حصين بن عبد الرحمن السلمي " ، مضى مرارًا كثيرة ، آخرها رقم : 17237 .
(2) الأثر : 20522 - " أبو جعفر الفراء " ، كوفي ، مختلف في اسمه قيل " كسيان " ، وقيل " سلمان " ، وقيل " زيادة " ، ذكره ابن حبان في الثقات . مترجم في التهذيب ، والكبير للبخاري 4 / 1 / 234 ، وابن أبي حاتم 3 /2 / 166 ، وابن سعد في طبقاته 6 : 230 ، والكنى والأسماء للدولابي 1 : 134 ، 135 ، وفي التاريخ الكبير ، وفي إحدى نسخ ابن أبي حاتم " القراد " بالقاف والدال ، وهذا مشكل ، والأرجح " الفراء " . وانظر العلل لأحمد 1 : 104 ، 360 ، خبر له هناك . ، وفيه " الفراء " أيضًا .

(16/495)


20525 - حدثنا ابن وكيع قال : حدثنا أبي ، عن طلحة القناد ، عمن سمع الشعبي قال : لو كانت الأرض تُنْقَص لضَاق عليك حُشَّك ، (1) ولكن تُنْقَص الأنفُس والثَّمرات .
* * *
وقال آخرون : معناه : أنا نأتي الأرض ننقصها من أهلها ، فنتطرَّفهم بأخذهم بالموت . (2)
*ذكر من قال ذلك :
20526 - حدثنا الحسن بن محمد قال : حدثنا شبابة قال : حدثنا ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : (ننقصها من أطرافها) ، قال : موت أهلها .
20527 - حدثنا ابن بشار قال : حدثنا يحيى ، عن سفيان ، عن منصور ، عن مجاهد : (أولم يروا أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها) ، قال : الموت . (3)
20528 - حدثني المثنى قال : حدثنا مسلم بن إبراهيم قال : حدثنا هارون النحوي قال : حدثنا الزبير بن الخِرِّيت عن عكرمة ، في قوله : (ننقصها من أطرافها) ، قال : هو الموت . ثم قال : لو كانت الأرض تنقص لم نجد مكانًا نجلسُ فيه . (4)
20529 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : (نأتي الأرض ننقصها من أطرافها) ، قال : كان عكرمة يقول : هو قَبْضُ الناس .
__________
(1) " الحش " البستان ، والمتوضأ ، حيث يقضي المرء حاجته . وانظر ما سلف 15 : 518 ، تعليق : 2 . ثم انظر الخبر رقم : 20531 .
(2) يعني بقولهم : " نتطرفهم " ، أي نأخذ من أطرافهم ونواحيهم ، وهو عربي جيد.
(3) الأثر : 20527 - " يحيى ، هو " يحيى بن سعيد القطان " ، مضى مرارًا .
و " سفيان " ، هو الثوري ، مضى مرارًا .
(4) الأثر : 20528 - " هارون النحوي " ، هو " هارون بن موسى النحوي " ، سلف مرارا.
و " الزبير بن الخريت " ، سلف قريبًا رقم : 20410 ، وكان في المطبوعة والمخطوطة هنا وهناك : " الزبير بن الحارث " ، وهو خطأ .

(16/496)


20530 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قال : سئل عكرمة عن نقص الأرض قال : قبضُ الناس .
20531 - حدثني الحارث قال : حدثنا عبد العزيز قال : حدثنا جرير بن حازم ، عن يعلى بن حكيم ، عن عكرمة في قوله : (أو لم يروا أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها) ، قال : لو كان كما يقولون لما وجَد أحدكم جُبًّا يخرَأ فيه .
20532 - حدثنا الفضل بن الصباح قال : حدثنا إسماعيل بن علية ، عن أبي رجاء قال : سئل عكرمة وأنا أسمع عن هذه الآية : (أولم يروا أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها) ، قال : الموت .
* * *
وقال آخرون : (ننقُصها من أطرافها) بذهاب فُقَهائها وخِيارها .
*ذكر من قال ذلك :
20533 - حدثنا أحمد بن إسحاق قال : حدثنا أبو أحمد قال : حدثنا طلحة بن عمرو ، عن عطاء ، عن ابن عباس قال : ذهابُ علمائها وفقهائِها وخيار أهلِها . (1)
20534 - قال : حدثنا أبو أحمد قال : حدثنا عبد الوهاب ، عن مجاهد قال : موتُ العلماء .
* * *
قال أبو جعفر : وأولى الأقوال في تأويل ذلك بالصواب قولُ من قال : (أولم يروا أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها) ، بظهور المسلمين من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم عليها وقَهْرِهم أهلها ، أفلا يعتبرون بذلك فيخافون ظُهورَهم
__________
(1) الأثر : 20532 - رواه الحاكم في المستدرك 2 : 350 ، من طريق الثوري عن طلحة بن عمرو ، وقال : " هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه " ، وتعقبه الذهبي ، فقال : " طلحة بن عمرو " ، قال أحمد : " متروك " .

(16/497)


على أرْضِهم وقَهْرَهم إياهم ؟ وذلك أن الله توعَّد الذين سألوا رسولَه الآيات من مشركي قومه بقوله : ( وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ البَلاغُ وَعَليْنَا الْحِسَابُ ) ، ثم وبَّخهم تعالى ذكره بسوء اعتبارهم ما يعاينون من فعل الله بضُرَبائهم من الكفار ، وهم مع ذلك يسألون الآيات ، فقال : (أولم يرَوْا أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها) بقهر أهلها ، والغلبة عليها من أطرافها وجوانبها ، (1) وهم لا يعتبرون بما يَرَوْن من ذلك .
* * *
وأما قوله : (والله يحكُم لا مُعَقّب لحكمه) ، يقول : والله هو الذي يحكم فيَنْفُذُ حكمُه ، ويَقْضي فيَمْضِي قضاؤه ، وإذا جاء هؤلاء المشركين بالله من أهل مكة حُكْم الله وقضاؤُه لم يستطيعوا رَدَّهَ . ويعني بقوله : (لا معقّب لحكمه) : لا راد لحكمه ،
* * *
" والمعقب " ، في كلام العرب ، هو الذي يكرُّ على الشيء. (2)
* * *
وقوله : (وهو سريع الحساب) ، يقول : والله سريع الحساب يُحْصي أعمال هؤلاء المشركين ، لا يخفى عليه شيء ، وهو من وراءِ جزائهم عليها . (3)
__________
(1) انظر تفسير " الطرف " فيما سلف 7 : 192 .
(2) انظر تفسير مادة ( عقب ) فيما سلف من فهارس اللغة . ومجاز القرآن لأبي عبيدة 1 : 334 .
(3) انظر تفسير " سريع الحساب " فيما سلف من فهارس اللغة .

(16/498)


وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعًا يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ (42)

القول في تأويل قوله تعالى : { وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعًا يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ (42) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : قد مكر الذين من قَبْل هؤلاء المشركين من قُرَيشٍ من الأمم التي سلفت بأنبياء الله ورُسله(فلله المكر جميعًا) ، يقول : فلله أسبابُ المكر جميعًا ، وبيده وإليه ، لا يضرُّ مكرُ من مَكَر منهم أحدًا إلا من أراد ضرَّه به ، يقول : فلم يضرَّ الماكرون بمكرهم إلا من شاء الله أن يضرَّه ذلك ، وإنما ضرُّوا به أنفسهم لأنهم أسخطوا ربَّهم بذلك على أنفسهم حتى أهلكهم ، ونجَّى رُسُلَه : يقول : فكذلك هؤلاء المشركون من قريش يمكرون بك ، يا محمد ، والله منَجّيك من مكرهم ، ومُلْحِقٌ ضُرَّ مكرهم بهم دونك . (1)
وقوله : (يعلم ما تكسب كلّ نفس) ، يقول : يعلم ربك ، يا محمد ما يعمل هؤلاء المشركون من قومك ، وما يسعون فيه من المكر بك ، ويعلم جميعَ أعمال الخلق كلهم ، لا يخفى عليه شيء منها (2) (وسيعلَم الكفار لمن عقبى الدار) ، يقول : وسيعلمون إذا قَدموا على ربهم يوم القيامة لمن عاقبة الدار الآخرة حين يدخلون النار ، ويدخلُ المؤمنون بالله ورسوله الجَنَّة. (3)
* * *
قال أبو جعفر : واختلفت القرأة في قراءة ذلك :
فقرأته قرأة المدينة وبعضُ البَصْرة : " وَسَيَعْلَمُ الكَافِرُ " على التوحيد . (4)
* * *
__________
(1) انظر تفسير " المكر " فيما سلف : 466 ، تعليق : 3 ، والمراجع هناك .
(2) انظر تفسير " الكسب " فيما سلف من فهارس اللغة .
(3) انظر تفسير " العقبى " فيما سلف قريبًا : 472 ، تعليق : 5 ، والمراجع هناك .
(4) في المطبوعة : " بعض أهل البصرة " ، زاد في الكلام ما يستقيم بإسقاطه وبإثباته .

(16/499)


وأما قرأة الكوفة فإنهم قرءوه : (وَسَيَعْلَمُ الكُفَّار) ، على الجمع .
* * *
قال أبو جعفر : والصوابُ من القراءة في ذلك ، القراءةُ على الجميع : ( وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ ) لأن الخبر جرى قبل ذلك عن جماعتهم ، وأتبع بعَده الخبر عنهم ، وذلك قوله : ( وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ ) وبعده قوله : ( وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلا ) . وقد ذُكر أنها في قراءة ابن مسعود : " وَسَيَعْلَمُ الكَافِرُونَ " ، وفى قراءة أبيّ : " ( وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا ) " وذلك كله دليلٌ على صحة ما اخترنا من القراءة في ذلك .
* * *

(16/500)


وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلًا قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ (43)

القول في تأويل قوله تعالى : { وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلا قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ (43) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره ويقول الذين كفروا بالله من قومك يا محمد لست مرسلا! تكذيبا منهم لك ، وجحودًا لنبوّتك ، (1) فقل لهم إذا قالوا ذلك : (كفى بالله) ، يقول : قل حَسْبي الله (2) (شهيدًا) ، يعني شاهدًا (3) (بيني وبينكم) ، عليّ وعليكم ، بصدقي وكذبكم(ومن عنده علمُ الكتاب)
* * *
فـ " مَنْ " إذا قرئ كذلك في موضع خفضٍ عطفًا به على اسم الله ،
__________
(1) انظر تفسير " الرسالة " فيما سلف من فهارس اللغة .
(2) انظر تفسير " كفى " فيما سلف 8 : 429 .
(3) انظر تفسير " الشهيد " فيما سلف من فهارس اللغة .

(16/500)


وكذلك قرأته قرَأَة الأمصار (1) بمعنى : والذين عندهم علم الكتاب أي الكتب التي نزلت قبلَ القرآن كالتوراة والإنجيل . وعلى هذه القراءة فسَّر ذلك المفسِّرون .
*ذكر الرواية بذلك :
20535 - حدثني علي بن سعيد الكنْدي قال : حدثنا أبو مُحيَّاة يحيى بن يعلى ، عن عبد الملك بن عمير ، عن ابن أخي عبد الله بن سلام قال : قال عبد الله بن سَلام : نزلت فيَّ : (كفى بالله شهيدًا بيني وبينكم ومن عنده علم الكتاب) . (2)
20536 - حدثنا الحسين بن علي الصُّدائي قال : حدثنا أبو داود الطيالسي قال ، حدثنا شعيب بن صفوان قال : حدثنا عبد الملك بن عمير ، أن محمد بن يوسف بن عبد الله بن سلام قال : قال عبد الله بن سلام : أنزل فيّ : ( قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ ) . (3)
__________
(1) في المطبوعة : " قرأ به قراء الأمصار " ، أساء القراءة .
(2) الأثر : 20535 - " علي بن سعيد بن مسروق الكندي " ، شيخ الطبري ، ثقة ، مضى برقم : 1184 ، 2784 ، 11233 ، ومواضع أخرى كثيرة .
و " يحيى بن يعلي بن حرملة التيمي " ، " وأبو محياة " ، ثقة ، مضى برقم : 14462 . وفي المطبوعة : " أبو المحياة " .
و " عبد الملك بن عمير بن سويد بن حارثة القرشي " ، أو " اللخمي " ، روى له الجماعة سلف برقم : 4108 ، 12573 ، 18678 . ويزاد في ترجمته : الكبير للبخاري 3 / 1 / 426 .
و " ابن أخي عبد الله بن سلام " ، لا يعرف اسمه ، ترجم له ابن أبي حاتم 4 / 2 / 325 وقال : " روى عن عبد الله بن سلام ، روى عنه عبد الملك بن عمير ، سمعت أبي يقول ذلك " . أشار إلى هذا الخبر فيما أرجح.
و " عبد الله بن سلام " ، هو الصحابي الجليل ، كان أعلم بني إسرائيل ، فأسلم . ثم انظر الخبر التالي .
(3) الأثر : 20536 - " الحسين بن علي بن يزيد الصدائي " ، شيخ الطبري ، ثقة ، مضى مرارًا ، آخرها رقم : 11458 ، وانظر رقم : 5437 .
و " أبو داود الطيالسي " ، الإمام الحافظ ، مضى مرارًا .
و " شعيب بن صفوان بن الربيع بن الركين " ، " أبو يحيي الثقفي " ، متكلم فيه ، مترجم في التهذيب ، والكبير 2 / 2 / 224 ، ولم يذكر فيه جرحًا ، وأشار إلى هذا الخبر ، وابن أبي حاتم 2 / 1 / 348 ، وميزان الاعتدال 1 : 448 ، وتاريخ بغداد 9 : 238 .
و " محمد بن يوسف بن عبد الله بن سلام " ، روى عن أبيه ، عن أبي سعيد الخدري ، وابن الزبير ، ذكره ابن حبان في الثقات ، وروايته عن جده أشار إليها البخاري في ترجمته ، وفي ترجمة " شعيب بن صفوان " . مترجم في التهذيب والكبير 1 / 1 / 262 ، وابن أبي حاتم 4 / 1 / 118 .
وهذا الخبر أخرجه السيوطي في الدر المنثور : 4 : 69 ، وزاد نسبته إلى ابن مردويه .

(16/501)


20537 - حدثني محمد بن سعد قال : ثني أبي قال : ثني عمي قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : (قل كفى بالله شهيدًا بيني وبينكم ومن عنده علم الكتاب) ، فالذين عندهم علم الكتاب : هم أهل الكتاب من اليهود والنَّصارَى .
20538 - حدثنا أبو كريب قال : حدثنا الأشجعي ، عن سفيان ، عن ليث ، عن مجاهد : (ومن عنده علم الكتاب) قال : هو عبد الله بن سلام . (1)
20539 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال : أخبرنا هشيم قال : أخبرنا إسماعيل بن أبي خالد ، عن أبي صالح ، في قوله : (ومن عنده علم الكتاب) قال : رجل من الإنس ، ولم يُسمّه .
20540 - حدثنا الحسن بن محمد قال : حدثنا شبابة قال : حدثنا ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد قوله : (ومن عنده علم الكتاب) ، هو عبد الله بن سلام .
20541 - ... قال : حدثنا يحيى بن عباد قال : حدثنا شعبة ، عن الحكم ، عن مجاهد : (ومن عنده علم الكتاب) . (2)
__________
(1) الأثر : 20538 - " الأشجعي " ، هو " عبيد الله بن عبيد الرحمن الأشجعي " ، مضى برقم : 8622 ، 10258 .
(2) الأثر : 20541 - وضعت النقط لأن الأثر ناقص في المطبوعة والمخطوطة ، وانا أرجح أنه هو الخبر الذي أخرجه السيوطي في الدر المنثور 4 : 69 ، ونسبه إلى ابن جرير ، وابن سعد ، وابن أبي شيبة ، وابن المنذر ، عن مجاهد ، ونصه :
" عن مجاهد أنه كان يقرأ : " ومن عنده علم الكتاب " ، قال : هو عبد الله بن سلام " .

(16/502)


20542 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : ( وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلا ) ، قال : قول مشركي قريش : ( قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ ) ، أناس من أهل الكتاب كانوا يشهدون بالحقّ ويقرُّون به ، ويعلمون أن محمدًا رسول الله ، كما يُحدَّث أن منهم عبد الله بن سَلام .
20543 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن قتادة : (ومن عنده علم الكتاب) قال : كان منهم عبدُ الله بن سَلام ، وسَلْمَان الفارسي ، وتميمٌ الدَّاريّ .
20544 - حدثنا الحسن قال : حدثنا عبد الوهاب ، عن سعيد ، عن قتادة : ( وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ ) قال هو عبد الله بن سَلام .
* * *
وقد ذُكر عن جماعة من المتقدِّمين أنهم كانوا يقرأونَه : " وَمِنْ عِنْدِهِ عُلِمَ الكِتَابُ " ، بمعنى : مِنْ عِند الله عُلِمَ الكتاب . (1)
*ذكر من ذكر ذلك عنه :
20545 - حدثنا الحسن بن محمد قال : حدثنا عبد الوهاب بن عطاء ، عن هارون ، عن جعفر بن أبي وحشية ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس :
__________
(1) ضبطت في المخطوطة : " عُلِمَ " ، بالبناء للمفعول ، في الموضعين ، وهذه القراءة الأولى ، نسبها أبو حيان في تفسيره 5 : 402 ، إلى علي بن أبي طالب ، وابن السميفع ، والحسن ، كما سيأتي في رقم : 20547 ، 20553 . وقراءة ثانية ، ذكرها أبو حيان أيضًا ، قرأت بها جماعة كثيرة من القرأة ، منهم ابن عباس ، بجعل " من " حرف جر أيضا : { وَمِنْ عَنْدِهِ عِلْمُ الكِتَابِ } . والقراءة الثالثة ، ولم ينسبها : { وَمِنْ عِنْدِهِ عُلِّمَ الكِتَابُ } بتشديد اللام ، والبناء للمفعول .
ولكني لم أجد هذه القراءة الأولى منسوبة إلى ابن عباس ، ولكن الخبر التالي رقم : 20545 ، دال على أنه قرأها كذلك ، لأن حديث أبي جعفر ، قاطع بأنه أراد هذه القراءة ببناء " علم " للمفعول ، كما يتبين ذلك من الأثر : 20553 ، وتعقيبه عليه . وانظر التعليق التالي .

(16/503)


" وَمِنْ عِنْدِهِ عُلِمَ الكِتَابُ " ، يقول : مِنْ عند الله عُلِمَ الكتاب . (1)
20546 - حدثني محمد بن المثنى قال : حدثنا محمد بن جعفر ، عن شعبة ، عن الحكم ، عن مجاهد : " وَمِنْ عِنْدِهِ عُلِمَ الكِتَابُ " قال : من عند الله .
20547 - ... قال : حدثنا ابن أبي عدي ، عن شعبة ، عن الحكم ، عن مجاهد : " وَمِنْ عِنْدِهِ عُلِمَ الكِتَابُ " قال : من عند الله عُلِمَ الكتاب وقد حدثنا هذا الحديثَ الحسن بن محمد قال : حدثنا شبابة قال : حدثنا شعبة ، عن الحكم ، عن مجاهد : " وَمِنْ عِنْدِهِ عُلِمَ الكِتَابُ " قال : هو الله هكذا قرأ الحسن : " وَمِنْ عِنْدِهِ عُلِمَ الكِتَابُ " .
20548 - ... قال : حدثنا شعبة ، عن منصور بن زاذان ، عن الحسن ، مثله .
20549 - قال : حدثنا علي يعني ابن الجعد قال : حدثنا شعبة ، عن منصور بن زاذان ، عن الحسن : " وَمِنْ عِنْدِهِ عُلِمَ الكِتَابُ " قال : الله قال شعبة : فذكرت ذلك للحكم ، فقال : قال مجاهد ، مثله . (2)
20550 - حدثنا ابن المثنى قال : حدثنا محمد بن جعفر قال : حدثنا شعبة قال : سمعت منصور بن زاذان يحدث عن الحسن ، أنه قال في هذه الآية : " وَمِنْ عِنْدِهِ عُلِمَ الكِتَابُ " ، قال : من عند الله .
20551 - ... قال : حدثنا الحسن بن محمد قال : حدثنا هوذة قال :
__________
(1) الأثر : 20545 - " جعفر بن أبي وحشية " ، هو " جعفر بن إياس ، وهو أبو وحشية اليشكري " ، روى له الجماعة ، مضى برقم : 5405 ، 5461 ، 6202 . وكان في المخطوطة وحدها " جعفر عن أبي وحشية " ، وهو خطأ .
وضبطت " عُلِمَ " في الموضعين في هذا الخبر أيضًا ، في المخطوطة ، وكذلك في الآثار التالية إلى رقم : 20547 ، و " الكِتابُ " ، بضمه على الباء أيضًا فيها .
(2) الأثر : 20549 - " الحسن بن محمد " ، هو الزعفراني ، سلف قريبًا .
و " علي بن الجعد بن عبيد الجوهري " ، " أبو الحسن البغدادي " ، ثقة ، مترجم في التهذيب ، والكبير 3 / 2 / 266 ، وابن أبي حاتم 3 / 1 / 178 ، وانظر ما سيأتي رقم : 20863 .

(16/504)


حدثنا عوف ، عن الحسن : " وَمِنْ عِنْدِهِ عُلِمَ الكِتَابُ " ، قال : مِنْ عند الله عُلِم الكتاب .
20552 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن الحسن : " وَمِنْ عِنْدِهِ عُلِمَ الكِتَابُ " قال : من عند الله عِلْمُ الكِتَابِ (1) هكذا قال ابن عبد الأعلى .
20553 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قال : كان الحسن يقرؤها : " قُلْ كَفَى بِاللهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمِنْ عِنْدِهِ عُلِمَ الكِتَابُ " ، يقول : مِنْ عِنْد الله عُلِمَ الكتابُ وجملته قال أبو جعفر : هكذا حدثنا به بشر : " عُلِمَ الكتابُ " وأنا أحسِبَه وَهِم فيه ، وأنه : " وَمِنْ عِنْدِهِ عُلِمَ الكِتَابُ " ، (2) لأن قوله " وجملته " ، اسم لا يُعْطف باسم على فعل ماضٍ .
20554 - حدثنا الحسن قال : حدثنا عبد الوهاب ، عن هارون : " وَمِنْ عِنْدِهِ عُلِمَ الكِتَابُ " ، يقول : مِنْ عند الله عُلِم الكتاب .
20555 - حدثني المثنى قال : حدثنا الحجاج بن المنهال قال : حدثنا أبو عوانة ، عن أبي بشر قال : قلت لسعيد بن جبير : " وَمِنْ عِنْدِهِ
__________
(1) ضبطت " علم " بكسر فسكون ، لأني أرجح أن الطبري من أجل ذلك قال : " هكذا قال ابن عبد الأعلى " . وهذا أمر يعتمد في الحقيقة على السماع ، وأين اليوم السماع ؟ أو على الضبط ، والمخطوطة غير مضبوطة ، فأرجو أن أكون قد أصبت وجه الخبر . وانظر الخبر التالي وضبطه .
(2) " علم " بكسر فسكون فضم.

(16/505)


عُلِمَ الكِتَابُ " أهو عبد الله بن سَلام ؟ قال : هذه السورة مكية ، فكيف يكون عبد الله بن سلام! قال : وكان يقرؤها : " وَمِنْ عِنْدِهِ عُلِمَ الكِتَابُ " يقول : مِنْ عند الله . (1)
20556 - حدثنا الحسن قال : حدثنا سعيد بن منصور قال : حدثنا أبو عوانة ، عن أبي بشر قال : سألت سعيد بن جبير ، عن قول الله( وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ ) أهو عبد الله بن سلام ؟ قال : فكيف وهذه السورة مكية ؟ وكان سعيد يقرؤها : " وَمِنْ عِنْدِهِ عُلِمَ الكِتَابُ " .
20557 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : ثني عباد ، عن عوف ، عن الحسن وجُوَيبر ، عن الضحاك بن مزاحم قالا " وَمِنْ عِنْدِهِ عُلِمَ الكِتَابُ " ، (2) قال : من عند الله .
* * *
قال أبو جعفر : وقد رُوي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم خبرٌ بتصحيح هذه القراءة وهذا التأويل ، غير أنّ في إسناده نظرًا ، وذلك ما : -
20558 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : ثني عباد بن العوّام ، عن هارون الأعور ، عن الزهري ، عن سالم بن عبد الله ، عن أبيه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قرأ " وَمِنْ عِنْدِهِ عُلِمَ الكِتَابُ " ، عند الله عُلِم الكتاب . (3)
* * *
قال أبو جعفر : وهذا خبرٌ ليس له أصلٌ عند الثِّقات من أصحاب الزهريّ .
__________
(1) ضبطت " علم " بالبناء للمفعول في المخطوطة .
(2) ضبطت " علم " . بالبناء للمفعول في المخطوطة .
(3) الأثر : 20558 - " عباد بن العوام الواسطي " ، ثقة ، من شيوخ أحمد ، مضى مرارًا آخرها رقم : 15669 .
و " هارون الأعور " ، هو " هارون بن موسى العتكي " ، ثقة ، وهو صاحب القراءات ، وله قراءة معروفة ، وقد سلف مرارًا ، آخرها : 17760 ، وانظر ما سلف 6 : 548 ، تعليق : 3 .
وهذا إسناد منقطع ، لأن هارون الأعور ، لم يسمع من الزهري ، وقد خرجه الهيثمي في مجمع الزوائد 7 : 155 ، وقال : " رواه أبو يعلى ، وفيه سليمان بن أرقم ، وهو متروك " ، وكذلك خرجه السيوطي في الدر المنثور 4 : 69 ، وقال : وأخرج أبو يعلى ، وابن جرير ، وابن مردويه ، وابن عدي ، بسند ضعيف ، عن ابن عمر " .
و " سليمان بن أرقم " ، " أبو معاذ البصري " ، يروي عن الزهري ، وهو متروك الحديث ، قال ابن معين : " ليس بشيء ، ليس يسوى فلسًا " ، وقال ابن حبان : " كان ممن يقلب الأخبار ، ويروي عن الثقات الموضوعات " . وكأن رواية هارون الأعور ، هي عن سليمان بن أرقم ، فأسقطه . وقد سلفت ترجمة " سليمان بن أرقم " رقم : 4923 ، 14446 .

(16/506)


فإذْ كان ذلك كذلك وكانت قرأء الأمصار من أهل الحجاز والشأم والعراق على القراءة الأخرى ، وهي : ( ومن عنده علم الكتاب ) ، كان التأويل الذي على المعنى الذي عليه قرأة الأمصار أولى بالصواب ممّا خالفه ، (1) إذ كانت القراءة بما هم عليه مجمعون أحقَّ بالصواب .
" آخر تفسير سورة الرعد " (2)
__________
(1) في المطبوعة : " ممن خالفه " ، غير ما في المخطوطة بلا تدبر .
(2) بعد هذا في المخطوطة :
" والحمدُ لله حمدًا كثيرًا كما هو أهلُه .
وصلى الله على محمدٍ المصطفى ، وآله
أهل الصدقِ والوفَا ، وسلَّم كثيرًا .
يتلوهُ إن شاءَ الله تعالى : تفسير سُورةِ إبرَاهِيم . " .

(16/507)


الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (1)

تفسير سورة إبراهيم (تَفْسِير السُّورَة التي يُذْكَر فيها إِبْرَاهِيمُ) بسم الله الرحمن الرحيم
القول في تأويل قوله جل ذكره { الر كِتَابٌ أَنزلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (1) }
قال أبو جعفر الطَبَريّ : قد تقدم منا البيان عن معنى قوله : " الر " ، فيما مضى ، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع . (1)
* * *
وأما قوله : (كتاب أنزلناه إليك ) فإن معناه : هذا كتاب أنزلناه إليك ، يا محمد ، يعني القرآن( لتخرج الناس من الظلمات إلى النور) يقول : لتهديهم به من ظلمات الضلالة والكفرِ ، إلى نور الإيمان وضيائه ، وتُبصِّر به أهلَ الجهل والعمَى سُبُل الرَّشاد والهُدَى. (2)
وقوله : ( بإذن ربهم) يعني : بتوفيق ربهم لهم بذلك ولطفه بهم (3) ( إلى صراط العزيز الحميد) يعني : إلى طريق الله المستقيم ، وهو دينه الذي ارتضاه ، وشَرَعُه لخلقه. (4)
* * *
__________
(1) انظر ما سلف 1 : 205 - 224 .
(2) انظر مراجع ألفاظ الآية فيما سلف من فهارس اللغة .
(3) انظر تفسير " الإذن " فيما سلف قريبًا : 476 ، تعليق : 3 والمراجع هناك .
(4) انظر تفسير " الصراط " فيما سلف 12 : 556 ، تعليق : 3 ، والمراجع هناك .
وقد أغفل تفسير " العزيز " ، فانظر ما سلف 15 : 373 ، تعليق : 2 ، والمراجع هناك

(16/509)


اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَوَيْلٌ لِلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ (2)

و(الحميد) ، " فعيل " ، صُرِف من " مفعول " إلى " فَعيل " ، ومعناه : المحمود بآلائه . (1)
* * *
وأضاف تعالى ذكره إخراجَ الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربِّهم لهم بذلك ، إلى نبيه صلى الله عليه وسلم ، وهو الهادي خَلْقَه ، والموفقُ من أحبَّ منهم للإيمان ، إذ كان منه دعاؤهم إليه ، وتعريفهُم ما لهم فيه وعليهم . فبيّنٌ بذلك صِحة قولِ أهل الإثبات الذين أضافوا أفعال العباد إليهم كَسبًا ، وإلى الله جل ثناؤه إنشاءً وتدبيرًا ، وفسادُ قول أهل القَدر الذين أنكرُوا أن يكون لله في ذلك صُنْعٌ. (2)
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
20559 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة ، في قوله : ( لتخرج الناس من الظلمات إلى النور) ، أي من الضلالة إلى الهدى.
* * *
القول في تأويل قوله عز ذكره { اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَوَيْلٌ لِلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ (2) }
قال أبو جعفر : اختلفت القرأة في قراءة ذلك .
فقرأته عامة قَرأة المدينة والشأم : " اللهُ الَّذِي لَهُ مَا فِي السماوات " برفع اسم
__________
(1) انظر تفسير " الحميد " فيما سلف 5 : 570/ 9 : 296/ 15 : 400 .
(2) " أهل الإثبات " ، هم أهل السنة مثبتو الصفات . و " أهل القدر " هم المعتزلة ، ومن أنكر القدر .

(16/512)


" الله " على الابتداء ، وتصيير قوله : ( الذي له ما في السماوات ) ، خبرَه.
* * *
وقرأته عامة قرأة أهل العراق والكوفة والبصرة : ( اللهِ الَّذِي ) بخفض اسم الله على إتباع ذلك( العزيزِ الحميدِ ) ، وهما خفضٌ.
* * *
وقد اختلف أهل العربية في تأويله إذ قرئ كذلك .
فذكر عن أبي عمرو بن العَلاء أنه كان يقرؤه بالخفض. ويقول : معناه : بإذن ربهم إلى صرَاط [ الله ] العزيز الحميدِ الذي له ما في السماوات . (1) ويقول : هو من المؤخَّر الذي معناه التقديم ، ويمثله بقول القائل : " مررتُ بالظَّريف عبد الله " ، والكلام الذي يوضع مكانَ الاسم النَّعْتُ ، ثم يُجْعَلُ الاسمُ مكان النعت ، فيتبع إعرابُه إعرابَ النعت الذي وُضع موضع الاسم ، كما قال بعض الشعراء :
لَوْ كُنْتُ ذَا نَبْلٍ وَذَا شَزِيبِ... مَا خِفْتُ شَدَّاتِ الخَبِيثِ الذِّيبِ (2)
* * *
وأما الكسائي فإنه كان يقول فيما ذكر عنه : مَنْ خفضَ أراد أن يجعلَه كلامًا واحدًا ، وأتبع الخفضَ الخفضَ ، وبالخفض كان يَقْرأ.
* * *
قال أبو جعفر : والصواب من القول في ذلك عندي ، أنهما قراءتان مشهورتان ، قد قرأ بكل واحدة منهما أئمة من القُرّاء ، معناهما واحدٌ ، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب.
__________
(1) زدت ما بين القوسين لأنه حق الكلام ، وإلا لم يكن المعنى على " المؤخر الذي معناه التقديم " كما سيأتي ، بل كان يكون على التطويل والزيادة ، وهو باطل . وهو إغفال من عجلة الناسخ وسبق قلمه .
(2) غاب عني مكان الرجز . و " الشزيب " و " الشزبة " ، ( بفتح فسكون ) ، من أسماء القوس ، وهي التي ليست بجديد ولا خلق ، كأنها شزب قضيبها ، أي ذبل . و " الشدة " ، ( بفتح الشين ) الحملة ، يقال : " شد على العدو " ، أي حمل .

(16/513)


الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآَخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ (3)

وقد يجوز أن يكون الذي قرأه بالرفع أراد مَعْنَى مَنْ خفضَ في إتباع الكلام بعضِه بعضًا ، ولكنه رفع لانفصاله من الآية التي قبله ، كما قال جل ثناؤه : ( إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ ) إلى آخر الآية ثم قال : ( التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ ) [سورة التوبة : 111 ، 112] . (1)
* * *
ومعنى قوله : ( اللهِ الذي له ما في السماوات وما في الأرض ) اللهِ الذي يملك جميع ما في السماوات ومَا في الأرض .
يقول لنييه محمد صلى الله عليه وسلم : أنزلنا إليك هذا الكتاب لتدعُوَ عِبادي إلى عِبَادة مَنْ هذه صفته ، وَيَدعُوا عبادَةَ من لا يملك لهم ولا لنفسه ضَرًّا ولا نفعًا من الآلهة والأوثان. ثم توعّد جل ثناؤه من كفر به ، ولم يستجب لدعاء رسوله إلى ما دعاه إليه من إخلاص التوحيد له فقال : ( وويْلٌ للكافرين من عذاب شديد ) يقول : الوادِي الذي يسيلُ من صديد أهل جهنم ، لمن جحد وحدانيته ، وعبد معه غيره ، مِن عَذَاب الله الشَّدِيد. (2)
* * *
القول في تأويل قوله عز ذكره : { الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا أُولَئِكَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ (3) }
قال أبو جعفر : يعني جل ثناؤه بقوله : ( الذين يستحبون الحياة الدنيا على الآخرة ) ، الذين يختارون الحياة الدنيا ومتاعها ومعاصي الله فيها ، على طاعة الله
__________
(1) انظر ما قاله أبو جعفر في الآية ، فيما سلف 14 : 500 ، التعليق رقم : 2 .
(2) انظر تفسير " الويل " فيما سلف 2 : 267 - 269 ، 237 .

(16/514)


وما يقرِّبهم إلى رضاه من الأعمال النافعة في الآخرة (1) ( وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ) ، يقول : ويمنعون من أراد الإيمان بالله واتّباعَ رسوله على ما جاء به من عند الله ، من الإيمان به واتباعه (2) ( وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا )يقول : ويلتمسون سَبِيل الله وهي دينه الذي ابتعث به رسوله ( عوجًا ) : تحريفًا وتبديلا بالكذب والزّور. (3)
* * *
" والعِوَج " بكسر العين وفتح الواو ، في الدين والأرض وكل ما لم يكن قائمًا ، فأما في كلِّ ما كان قائمًا ، كالحائط والرمح والسنّ ، فإنه يقال بفتح العين والواو جميعًا " عَوَج " . (4)
* * *
يقول الله عز ذكره : ( أولئك في ضلال بعيد ) يعني هؤلاء الكافرين الذين يستحبُّون الحياة الدنيا على الآخرة . يقول : هم في ذهابٍ عن الحق بعيد ، وأخذ على غير هُدًى ، وجَوْر عن قَصْد السبيل. (5)
* * *
وقد اختلف أهل العربية في وجه دخول " على " في قوله : ( على الآخرة ) ، فكان بعض نحويى البَصْرة يقول : أوصل الفعل بـ " على " كما قيل : " ضربوه في السيف " ، يريد بالسيف ، (6) وذلك أن هذه الحروف يُوصل بها كلها وتحذَف ،
__________
(1) انظر تفسير " الاستحباب " فيما سلف 14 : 175 .
(2) انظر تفسير " الصد " فيما سلف : 467 ، تعليق : 2 ، والمراجع هناك .
وتفسير " السبيل " فيما سلف من فهارس اللغة .
(3) انظر تفسير " الابتغاء " فيما سلف 15 : 285 ، تعليق : 2 ، والمراجع هناك .
وتفسير " العوج " فيما سلف 15 : 285 ، تعليق : 3 ، والمراجع هناك .
(4) انظر بيانًا آخر عن " العوج " فيما سلف 12 : 448 ، وانظر مجاز القرآن لأبي عبيدة 1 : 335 ، وفيه خطأ بين هناك .
(5) انظر تفسير " الضلال " فيما سلف من فهارس اللغة .
(6) انظر ما سيأتي : 534 ، تعليق : 1 .

(16/515)


وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (4)

نحو قول العرب : " نزلتُ زيدًا " ، و " مررت زيدًا " ، يريدون : مررت به ، ونزلت عليه.
* * *
وقال بعضهم : إنما أدخل ذلك ، لأن الفعل يؤدِّي عن معناه من الأفعال ، (1) ففي قوله : ( يستحبون الحياة الدنيا ) معناه يؤثرون الحياة الدنيا على الآخرة ، ولذلك أدخلت " على " .
وقد بيَّنت هذا ونظائره في غير موضع من الكتاب ، بما أغنى عن الإعادة. (2)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (4) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : وما أرسلنا إلى أمة من الأمم ، يا محمد ، من قبلك ومن قبلِ قومك ، رسولا إلا بلسان الأمة التي أرسلناه إليها ولغتهم ( ليبين لهم ) يقول : ليفهمهم ما أرسله الله به إليهم من أمره ونَهيه ، ليُثْبت حجة الله عليهم ، ثم التوفيقُ والخذلانُ بيد الله ، فيخذُل عن قبول ما أتاه به رسُوله من عنده من شاء منهم ، ويوفّق لقبوله من شاء ولذلك رفع " فيُضلُّ " ، لأنه أريد به الابتداء لا العطف على ما قبله ، كما قيل : ( لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الأرْحَامِ مَا نَشَاءُ ) [ سورة الحج : 5 ] (وهو العزيز) (3) الذي لا يمتنع مما أراده من ضلال أو
__________
(1) قوله : " يؤدي عن معناه من الأفعال " ، أي يتضمن معنى فعل غيره .
(2) انظر " مباحث النحو والعربية وغيرها " ، فيما سلف من أجزاء هذا الكتاب .
(3) انظر تفسير " العزيز " ، فيما سلف قريبًا : 511 ، تعليق : 4 ، والمراجع هناك .

(16/516)


وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآَيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (5)

هداية من أرادَ ذلك به (الحكيم) ، في توفيقه للإيمان من وفَّقه له ، وهدايته له من هداه إليه ، وفي إضلاله من أضلّ عنه ، وفي غير ذلك من تدبيره. (1)
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
20560 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : ( وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ) ، أي بلغة قومه ما كانت . قال الله عز وجلّ : ( ليبين لهم ) الذي أرسل إليهم ، ليتخذ بذلك الحجة . قال الله عز وجلّ : ( فيضل الله من يشاء ويهدي من يشاء وهو العزيز الحكيم ).
* * *
القول في تأويل قوله عز ذكره { وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (5) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : ولقد أرسلنا موسى بأدلتنا وحُجَجنا من قبلك ، ، ، يا محمد ، ، كما أرسلناك إلى قومك بمثلها من الأدلة والحجج ، (2) كما :
20561 - حدثنا محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ح (3) وحدثني الحارث قال ، حدثنا الحسن الأشيب ، قال ، حدثنا ورقاء ، عن أبي نجيح ، عن مجاهد ح (4) وحدثنا الحسن بن محمد قال ،
__________
(1) انظر تفسير " الحكيم " فيما سلف من فهارس اللغة .
(2) انظر تفسير " الآية " فيما سلف من فهارس اللغة ( أيي ) .
(3) هذه أول مرة يستعمل رمز ( ح ) في هذه المخطوطة . وهو اصطلاح للمحدثين وغيرهم ، يراد به : تحويل الإسناد ، أي رواية الأثر بإسناد آخر قبل تمام الكلام .
(4) هذه أول مرة يستعمل رمز ( ح ) في هذه المخطوطة . وهو اصطلاح للمحدثين وغيرهم ، يراد به : تحويل الإسناد ، أي رواية الأثر بإسناد آخر قبل تمام الكلام .

(16/517)


حدثنا شبابة قال ، حدثنا ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجَاهد ، في قول الله : ( ولقد أرسلنا موسى بأياتنا ) قال : بالبينات.
20562 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : ( ولقد أرسلنا موسى بأياتنا ) قال : التسعُ الآيات ، الطُّوفانُ وما معه.
20563 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد : ( أرسلنا موسى بأياتنا ) قال : التسعُ البَيِّناتُ.
20564 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله.
* * *
وقوله : ( أن أخرج قومك من الظلمات إلى النور ) ، كما أنزلنا إليك ، يا محمد ، هذا الكتاب لتخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم . ويعني بقوله : ( 0000 أن أخرج قومك من الظلمات إلى النور ) ، أن ادعهم ، (1) من الضلالة إلى الهدى ، ومن الكفر إلى الإيمان ، كما : -
20565 - حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : ( ولقد أرسلنا موسى بأياتنا أن أخرج قومك من الظلمات إلى النور ) يقول : من الضلالة إلى الهدى.
20566 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا هشام ، عن عمرو ، عن سعيد ، عن قتادة ، مثله.
* * *
__________
(1) في المطبوعة : " أي ادعهم " ، أساء التصرف ، وأراد : أن ادعهم ، ليخرجوا من الضلالة إلى الهدى ، فحذف واختصر .

(16/518)


وقوله : ( وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ ) يقول عز وجلّ : وعِظْهُم بما سلف من نُعْمَى عليهم في الأيام التي خلت فاجتُزِئ بذكر " الأيام " من ذكر النعم التي عناها ، لأنها أيام كانت معلومة عندهم ، أنعم الله عليهم فيها نعمًا جليلةً ، أنقذهم فيها من آل فرعون بعدَ ما كانوا فيما كانوا [فيه] من العذاب المُهِين ، وغرَّق عدوَّهم فرعونَ وقومَه ، وأوْرَثهم أرضهم وديارَهم وأموالَهم.
* * *
وكان بعض أهل العربية يقول : معناه : خوَّفهم بما نزل بعادٍ وثمودَ وأشباههم من العذاب ، وبالعفو عن الآخرين : قال : وهو في المعنى كقولك : " خُذْهم بالشدة واللين " .
* * *
وقال آخرون منهم : قد وجدنا لتسمية النّعم بالأيام شاهدًا في كلامهم. ثم استشهد لذلك بقول عمرو بن كلثوم :
وَأَيَّامِ لَنَا غُرٍّ طِوَالٍ... عَصَيْنَا الْمَلْكَ فِيهَا أَنْ نَدِينَا (1)
وقال : فقد يكون إنما جَعَلها غُرًّا طِوالا لإنعامهم على الناس فيها. وقال : فهذا شاهدٌ لمن قال : ( وذكرهم بأيام الله ) بنعم الله. ثم قال : وقد يكون تَسْميتُها غُرًّا ، لعلوّهم على المَلِكِ وامتناعهم منه ، فأيامهم غرّ لهم ، وطِوالٌ على أعدائهم. (2)
* * *
__________
(1) من قصيدته البارعة المشهورة ، انظر شرح القصائد السبع لابن الأنباري : 388 .
(2) هذا قول أبي عبيدة بلا شك عندي ، نقله عنه بنصه ابن الأنباري في شرح السبع الطوال : 389 ، من أول الصفحة ، إلى السطر السابع ، مع اختلاف في ترتيب الأقوال . و هو بلا شك أيضًا من كتابه " مجاز القرآن " ، بيد أني لم أجده في المطبوعة 1 : 335 ، في تفسير هذه السورة ، ولا في مكان غير هذا المكان . وأكاد أقطع أن نسخة مجاز القرآن ، قد سقط منها شيء في أول تفسير " سورة إبراهيم " كما تدل عليه تعليقات ناشره الأخ الفاضل الأستاذ محمد فؤاد سزكين . فالذي نقله الطبري غير منسوب ، والذي نقله ابن الأنباري منسوبًا إلى أبي عبيدة ، ينبغي تنزيله في هذا الموضع من الكتاب . والحمد لله رب العالمين . وانظر ما سيأتي : 535 ، تعليق : 4 .

(16/519)


قال أبو جعفر : وليس للذي قال هذا القول ، من أنّ في هذا البيت دليلا على أن " الأيام " معناها النعم ، وجهٌ . لأنَّ عمرو بن كلثوم إنما وصفَ ما وصف من الأيام بأنها " غُرّ " ، لعزّ عشيرته فيها ، وامتناعهم على المَلِك من الإذعان له بالطاعة ، وذلك كقول الناس : " ما كان لفلان قطُّ يومٌ أبيض " ، يعنون بذلك : أنه لم يكن له يومٌ مذكورٌ بخير. وأمّا وصفه إياها بالطولِ ، فإنها لا توصف بالطول إلا في حال شدَّة ، كما قال النابغة :
كِلِينِي لِهَمٍّ يَا أُمَيْمَةَ نَاصِبِ... وَلَيْلٍ أُقَاسِيهِ بَطِيء الكَوَاكِبِ (1)
فإنما وصفها عَمْرٌو بالطول ، لشدة مكروهها على أعداء قومه . ولا وجه لذلك غيرُ ما قلت.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
20567 - حدثني يحيى بن طلحة اليربوعيّ قال ، حدثنا فُضَيْل بن عِيَاض ، عن ليث ، عن مجاهد : ( وذكرهم بأيام الله ) ، قال : بأنْعُم الله.
20568 - حدثني إسحاق بن إبراهيم بن حبيب بن الشهيد قال ، حدثنا يحيى بن يمان ، عن سفيان ، عن عُبَيْدٍ المُكْتِب ، عن مجاهد : ( وذكرهم بأيام الله ) ، قال : بنعم الله. (2)
20569 - حدثنا أحمد بن إسحاق قال ، حدثنا أبو أحمد قال ، حدثنا
__________
(1) ديوانه : 42 ، مطلع قصيدته النابغة ، في تمجيد عمرو بن الحارث الأعرج ، حين هرب إلى الشأم من النعمان بن المنذر ، وسيأتي البيت في التفسير بعد 14 : 15 / 23 : 106 ( بولاق ) .
(2) الأثر : 20568 - " إسحاق بن إبراهيم بن حبيب بن الشهيد " ، شيخ الطبري ، سلفت ترجمته رقم : 2418 ، مثل هذا الإسناد . وانظر رقم : 1962 ، 13899 .
و " عبيد المكتب " ، هو " عبيد بن مهران الكوفي " ، ثقة ، أخرج له مسلم ، سلف برقم : 2417 ، وفيه ضبط " المكتب " .

(16/520)


سفيان ، عن عبيدٍ المُكْتِب ، عن مجاهد ، مثله.
20570 - حدثنا أحمد قال ، حدثنا أبو أحمد قال ، حدثنا عبثر ، عن حصين ، عن مجاهد ، مثله. (1)
20571 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى ح وحدثني الحارث قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثنا ورقاء جميعًا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : ( بأيام الله ) قال : بنعم الله.
20572 - حدثنا الحسن بن محمد قال ، حدثنا شبابة قال ، حدثنا ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله.
20573 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله.
20574 - حدثني المثنى قال ، أخبرنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : ( وذكرهم بأيام الله ) قال : بالنعم التي أنعم بها عليهم ، أنجاهم من آل فرعون ، وفَلَق لهم البحر ، وظلَّل عليهم الغمَام ، وأنزل عليهم المنَّ والسَّلوَى.
20575 - حدثنا أحمد قال ، حدثنا أبو أحمد قال ، حدثنا حبيب بن حسان ، عن سعيد بن جبير : ( وذكرهم بأيام الله ) قال : بنعم الله. (2)
20576 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة : ( وذكرهم بأيام الله ) يقول : ذكرهم بنعم الله عليهم.
20577 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا محمد بن ثور ، عن
__________
(1) الأثر : 20570 - " عبثر " ، هو " عبثر بن القاسم الزبيدي " ، " أبو زبيد الكوفي " ، روى له الجماعة ، سلفت ترجمته برقم : 12336 ، 13255 ، وانظر : 12402 ، 17106 ، 19995 .
(2) الأثر : 20575 - " حبيب بن حسان " ، هو و " حبيب بن أبي الأشرس " . و " حبيب بن أبي هلال " ، منكر الحديث ، متروك ، سلف برقم : 16528 .

(16/521)


معمر ، عن قتادة : ( وذكرهم بأيام الله ) قال : بنعم الله.
20578 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد في قول الله : ( وذكرهم بأيام الله ) قال : أيامُه التي انتقم فيها من أهل مَعاصيه من الأمم خَوَّفهم بها ، وحذَّرهم إياها ، وذكَّرهم أن يصيبهم ما أصابَ الذين من قبلهم.
20579 - حدثني المثنى قال ، حدثنا الحِمَّاني قال ، حدثنا محمد بن أبان ، عن أبي إسحاق ، عن سعد بن جبير ، عن ابن عباس. عن أبيّ ، عن النبي صلى الله عليه وسلم : ( وذكرهم بأيام الله ) ، قال : نعم الله . (1)
__________
(1) الأثر : 20579 - " الحماني " ( بكسر الحاء وتشديد الميم ) ، هو " يحيي بن عبد الحميد بن عبد الرحمن الحماني " ، متكلم فيه ، ووثقه يحيي بن معين . وانظر ما قاله أخي السيد أحمد رحمه الله في توثيقه فيما سلف رقم : 6892 .
و " محمد بن أبان بن صالح بن عمير الجعفي " ، متكلم في حفظه ، سلف برقم : 2720 ، 11515 ، 11516 .
و " أبو إسحق " ، هو السبيعي ، مضى مرارًا .
هذا إسناد أبي جعفر . وقد رواه عبد الله بن أحمد بن حنبل في زوائده على مسند أبيه ( المسند 5 : 122 ) ، وإسناده :
" حدثنا عبد الله ، حدثني أَبي ، حدثنا يحيى بن عبد الله ، مولى بني هاشم ، حدثنا محمد بن أبان الجعفيّ ، عن أَبي إِسحق ، عن سعيد بن جبير ... "
و " يحيى بن عبد الله ، مولى بني هاشم " ، هو " يحيى بن عبدويه ، مولى عبيد الله ابن المهدي " ، متكلم فيه ، سئل عنه يحيى بن معين فقال : هو في الحياة ؟ فقالوا : نعم . فقال : كذاب ، رجل سوء . وروى الخطيب في تاريخ بغداد أن أحمد بن حنبل حث ولده عبد الله على السماع من يحيى بن عبدويه ، وأثنى عليه . مترجم في ابن أبي حاتم 4 / 2 / 173 ، وتاريخ بغداد 14 : 165 ، وتعجيل المنفعة : 443 ، وميزان الاعتدال 3 : 296 .
وهذا الخبر نقله ابن كثير في تفسيره : 5 : 545 ، عن المسند ، وخرجه السيوطي في الدر المنثور 4 : 70 ، وزاد نسبته إلى النسائي ، وابن أبي حاتم ، وابن المنذر ، وابن مردويه ، والبيهقي في شعب الإيمان .
وقد روى عبد الله بن أحمد في المسند 5 : 122 قال : " حدثنا أبو عبد الله العنبري ، حدثنا أبو الوليد الطيالسي ، حدثنا محمد بن أبان ، عن أبي إسحق ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس عن أبي ، نحوه ولم يرفعه " .
قال ابن كثير ، وأشار على هذا الخبر : " ورواه عبد الله بن أحمد أيضًا موقوفًا ، وهو أشبه " .
قلت : ومدار هذه الأسانيد على " محمد بن أبان الجعفي " ، وقد قيل في سوء حفظه وضعفه ما قيل .

(16/522)


20580 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق ، عن الثوري ، عن عبيد الله أو غيره ، عن مجاهد : ( وذكرهم بأيام الله ) قال : بنعم الله.
* * *
( إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ ) ، يقول : إن في الأيام التي سلفت بنِعَمِي عليهم يعني على قوم موسى(لآيات ) ، يعني : لعِبرًا ومواعظ (1) (لكل صبار شكور) ، : يقول : لكل ذي صبر على طاعة الله ، وشكرٍ له على ما أنعم عليه من نِعَمه. (2)
20581 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا هشام ، عن عمرو ، عن سعيد ، عن قتادة ، في قول الله عز وجلّ : ( إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور ) قال : نعمَ العبدُ عَبْدٌ إذا ابتلى صَبَر ، وإذا أعْطِي شَكَر.
* * *
__________
(1) انظر تفسير " الآية " فيما سلف من فهارس اللغة ( أيي ) .
(2) انظر تفسير " الصبر " فيما سلف 13 : 35 ، تعليق : 4 ، والمراجع هناك .
وتفسير " الشكر " فيما سلف 3 : 212 ، 213 .

(16/523)


وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجَاكُمْ مِنْ آَلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (6)

القول في تأويل قوله تعالى : { وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (6) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره لنبيه محمدٍ صلى الله عليه وسلم : واذكر ، يا محمد ، إذ قال موسى بن عمْران لقومه من بني إسرائيل : ( اذكروا نعمة الله عليكم ) ، التي أنعم بها عليكم ( إذ أنجاكم من آل فرعون ) ، يقول : حين أنجاكم من أهل دين فرعون وطاعته (1) ( يسومونكم سوء العذاب ) ، أي يذيقونكم
__________
(1) انظر تفسير " الإنجاء " فيما سلف 15 : 53 ، 194 ، 195 .

(16/523)


شديدَ العذاب (1) ( ويذبحون أبناءكم ) ، مع إذاقتهم إياكم شديد العذاب [ يذبحون ] أبناءكم . (2)
* * *
وأدْخلت الواو في هذا الموضع ، لأنه أريد بقوله : ( ويذبحون أبناءكم ) ، الخبرُ عن أن آل فرعون كانوا يعذبون بني إسرائيل بأنواع من العذاب غير التذبيح وبالتذبيح. وأما في موضعٍ آخر من القرآن ، فإنه جاء بغير الواو : ( يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ ) [سورة البقرة : 49 ] ، في موضع ، وفي موضع( يُقَتِّلُونَ أَبْنَاءَكُمْ ) [سورة الأعراف : 141 ] ، ولم تدخل الواو في المواضع التي لم تدخل فيها لأنه أريد بقوله : ( يذبحون ) ، وبقوله : ( يقتلون ) ، تبيينه صفات العذاب الذي كانوا يسومونهم . وكذلك العملُ في كل جملة أريد تفصيلُها ، فبغير الواو تفصيلها ، وإذا أريد العطف عليها بغيرها وغير تفصيلها فبالواو. (3)
* * *
20582 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الله بن الزبير ، عن ابن عيينة ، في قوله : ( وإذ قال موسى لقومه اذكروا نعمة الله عليكم ) ، أيادي الله عندكم وأيامه. (4)
* * *
وقوله : ( ويستحيون نساءكم ) ، يقول : ويُبقون نساءكم فيتركون قتلهن ،
__________
(1) انظر تفسير " السوم " فيما سلف 2 : 40 / 13 ، 85 ، ثم مجاز القرآن لأبي عبيدة 1 : 335 .
وتفسير " سوء العذاب " فيما سلف 2 : 40 / 13 : 85 .
(2) من أول قوله : " مع إذاقتهم ... " ساقط من المطبوعة . و " يذبحون " التي بين القوسين . ساقطة من المطبوعة .
(3) في المطبوعة : " فالواو " ، لم يحسن قراءة المخطوطة .
(4) الأثر : 20582 - " عبد الله بن الزبير بن عيسى الحميدي " ، سلف برقم : 9914 ، 11622 ، وقد أطلت الكلام في نسبه ، في جمهرة أنساب قريش للزبير بن بكار 1 : 449 ، تعليق : 1 ، ويزاد عليه : الانتقاء لابن عبد البر : 104 ، وأول مسند الحميدي ، الذي طبع في الهند حديثًا .

(16/524)


وذلك استحياؤهم كَان إياهُنَّ وقد بينا ذلك فيما مضى ، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع (1) ومعناه : يتركونهم والحياة ، (2) ومنه الخبر الذي روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال :
" اقْتُلُوا شُيوخَ المشركين وَاسْتَحْيُوا شَرْخَهُمْ " ، (3) بمعنى : استبقُوهم فلا تقتلوهم.
* * *
( وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم ) ، يقول تعالى : وفيما يصنعُ بكم آلُ فرعون من أنواع العذاب ، بلاءٌ لكم من ربكم عظيمٌ ، أي ابتلاء واختبارٌ لكم ، من ربكم عظيم. (4) وقد يكون " البلاء " ، في هذا الموضع نَعْماء ، ويكون : من البلاء الذي يصيب النَّاس من الشدائد . (5)
* * *
__________
(1) انظر تفسير " الاستحياء " فيما سلف 2 : 41 - 48 / 13 : 41 ، 85 .
(2) في المطبوعة : " يتركونهم " والحياة هي الترك " ، زاد " هي الترك " بسوء ظنه .
(3) هذا الخبر رواه أحمد في مسنده في موضعين 5 : 12 ، 20 في مسند سمرة بن جندب ، من طريق أبي معاوية ، عن الحجاج ، عن قتادة ، عن الحسن ، عن سمرة ثم طريق هشيم ، عن حجاج ابن أرطأة ، عن قتادة ، ومن هذه الثانية قال : " واستبقوا شرخهم " .
ورواه أبو داود في سننه 3 : 73 ، من طريق سعيد بن منصور ، عن هشيم ، عن حجاج .
ورواه الترمذي في أبواب السير ، " باب ما جاء في النزول على الحكم " ، من طريق أبي الوليد الدمشقي ، عن الوليد بن مسلم ، عن سعيد بن بشير ، عن قتادة . وقال : " هذا حديث حسن غريب ، ورواه الحجاج بن أرطاة عن قتادة نحوه " . وفيه : " واستحيوا " . ثم قال : " والشرخ : الغلمان الذين لم ينبتوا " .
وقال عبد الله بن أحمد ( المسند 5 : 12 ) : " سألت أبي عن تفسير هذا الحديث : اقتلوا شيوخ المشركين ؟ قال : يقول : الشيخ لا يكاد أن يسلم ، والشاب ، أي يسلم ، كأنه أقرب إلى الإسلام من الشيخ . قال : الشرخ ، الشباب " .
(4) انظر تفسير " البلاء " فيما سلف 15 ، 250 ، تعليق : 4 ، والمراجع هناك .
(5) في المطبوعة : " وقد يكون معناه من البلاء الذي قد يصيب الناس في الشدائد وغيرها " ، زاد في الجملة ما شاء له هواه وغير ، فأساء غفر الله له .

(16/525)


وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ (7)

القول في تأويل قوله تعالى : { وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ (7) }
قال أبو جعفر : يقول جل ثناؤه : واذكروا أيضًا حين آذنكم رَبُّكم.
* * *
و " تأذن " ، " تفعَّل " من " آذن " . والعرب ربما وضعت " تفعَّل " موضع " أفعل " ، كما قالوا : " أوعدتُه " " وتَوعَّدته " ، بمعنى واحد . و " آذن " ، أعلم ، (1) كما قال الحارث بن حِلِّزة :
آذَنَتْنَا بِبَيْنِهَا أَسْمَاءُ... رُبَّ ثَاوٍ يُمَلُّ مِنْهُ الثَّوَاءُ (2)
يعني بقوله : " آذنتنا " ، أعلمتنا.
* * *
وذكر عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه كان يقرأ : ( وإذ تأذن ربكم ) : " وَإِذْ قَالَ رَبُّكُمْ " : -
20583 - حدثني بذلك الحارث قال ، حدثني عبد العزيز قال ، حدثنا سفيان ، عن الأعمش عنه. (3)
20584 - حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد ، في قوله : ( وإذ تأذن ربكم ) ، وإذ قال ربكم ، ذلك " التأذن " .
* * *
وقوله : ( لئن شكرتم لأزيدنكم ) ، يقول : لئن شكرتم ربَّكم ، بطاعتكم إياه
__________
(1) انظر تفسير " أذن " فيما سلف 13 : 204 ، ثم تفسير " الإذن " فيما سلف من فهارس اللغة . ثم انظر مجاز القرآن لأبي عبيدة 1 : 345 .
(2) مطلع طويلته المشهورة ، انظر شرح القصائد السبع لابن الأنباري : 433 .
(3) الأثر : 20583 - " الحارث " ، هو " الحارث بن أبي أسامة " منسوبًا إلى جده ، وهو " الحارث بن محمد بن أبي أسامة التميمي " ، شيخ الطبري ، ثقة ، سلف مرارًا آخرها رقم : 14333.
و " عبد العزيز " ، هو " عبد العزيز بن أبان الأموي " ، كذاب خبيث يضع الأحاديث ، مضى مرارًا كثيرة آخرها رقم 14333 .

(16/526)


فيما أمركم ونهاكم ، لأزيدنكم في أياديه عندكم ونعمهِ عليكم ، على ما قد أعطاكم من النجاة من آل فرعون والخلاص مِنْ عذابهم.
* * *
وقيل في ذلك قولٌ غيره ، وهو ما : -
20585 - حدثنا الحسن بن محمد قال ، حدثنا الحسين بن الحسن قال ، أخبرنا ابن المبارك قال ، سمعت علي بن صالح ، يقول في قول الله عز وجل : ( لئن شكرتم لأزيدنكم ) ، قال : أي من طاعتي.
20586 - حدثنا المثنى قال ، حدثنا يزيد قال ، أخبرنا ابن المبارك قال : سمعت علي بن صالح ، فذكر نحوه.
20587 - حدثنا أحمد بن إسحاق قال ، حدثنا أبو أحمد قال ، حدثنا سفيان : ( لئن شكرتم لأزيدنكم ) ، قال : من طاعتي.
20588 - حدثني الحارث قال ، حدثنا عبد العزيز قال ، حدثنا مالك بن مغول ، عن أبان بن أبي عياش ، عن الحسن ، في قوله : ( لئن شكرتم لأزيدنكم ) ، قال : من طاعتي.
* * *
قال أبو جعفر : ولا وجهَ لهذا القول يُفْهَم ، لأنه لم يجرِ للطاعة في هذا الموضع ذكرٌ فيقال : إن شكرتموني عليها زدتكم منها ، وإنما جَرَى ذكر الخبر عن إنعام الله على قوم موسى بقوله : ( وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ ) ، ثم أخبرهم أن الله أعلمهم إن شكروه على هذه النعمة زادهم . فالواجب في المفهوم أن يكون معنى الكلام : زادهم من نعمه ، لا مما لم يجرِ له ذكر من " الطاعة " ، إلا أن يكون أريد به : لئن شكرتم فأطعتموني بالشكر ، لأزيدنكم من أسباب الشكر ما يعينكم عليه ، فيكون ذلك وجهًا.

(16/527)


وَقَالَ مُوسَى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ (8)

* * *
وقوله : ( ولئن كفرتم إن عذابي لشديد ) ، يقول : ولئن كفرتم ، أيها القوم ، نعمةَ الله ، فجحدتموها بتركِ شكره عليها وخلافِه في أمره ونهيه ، وركوبكم معاصيه ( إن عَذَابي لشديد ) ، أعذبكم كما أعذب من كفر بي من خلقي.
* * *
وكان بعض البصريين يقول في معنى قوله : ( وإذ تأذن ربكم ) ، و تأذّن ربكم : ويقول : " إذ " من حروف الزوائد ، (1) وقد دللنا على فساد ذلك فيما مضى قبل. (2)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { وَقَالَ مُوسَى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الأرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ (8) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : وقال موسى لقومه : إن تكفروا ، أيها القوم ، فتجحدوا نعمةَ الله التي أنعمها عليكم ، أنتم ويفعل في ذلك مثل فعلكم مَنْ في الأرض جميعًا (فإن الله لغني) عنكم وعنهم من جميع خلقه ، لا حاجة به إلى شكركم إياه على نعمه عند جميعكم (3) ( حميد ) ، ذُو حمد إلى خلقه بما أنعم به عليهم ، (4) كما : -
20589 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الله بن هاشم قال ، أخبرنا سيف ، عن أبي روق ، عن أبي أيوب ، عن علي : ( فإن الله لغني ) ، قال : غني عن خلقه ( حميد ) ، قال : مُسْتَحْمِدٌ إليهم. (5)
__________
(1) هو أبو عبيدة في مجاز القرآن 1 : 345 .
(2) انظر ما سلف 1 : 439 - 444 ويزاد في المراجع ص : 439 ، تعليق : 1 أن قول أبي عبيدة هذا في مجاز القرآن 1 : 36 ، 37 .
(3) انظر تفسير " الغني " فيما سلف 15 : 145 ، تعليق : 2 ، والمراجع هناك .
(4) انظر تفسير " الحميد " ، فيما سلف قريبًا : 512 ، تعليق : 1 ، والمراجع هناك .
(5) في أساس البلاغة : " استحمد الله إلى خلقه ، بإحسانه إليهم ، وإنعامه عليهم " ، وقد سلف " استحمد " في خبر آخر رقم : 8349 في الجزء 7 : 470 ، وهو مما ينبغي أن يقيد على كتب اللغة الكبرى ، كاللسان والتاج وأشباههما .

(16/528)


أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ وَقَالُوا إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (9)

القول في تأويل قوله تعالى : { أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لا يَعْلَمُهُمْ إِلا اللَّهُ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ وَقَالُوا إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (9) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره ، مخبرًا عن قيل موسى لقومه : يا قوم( ألم يأتكم نبأ الذين من قبلكم ) ، يقول : خبر الذين من قبلكم من الأمم التي مضت قبلكم (1) ( قومِ نوح وعاد وثمودَ ) ، وقوم نوح مُبيَّنٌ بهم عن " الذين " ، (2) و " عاد " معطوف بها على " قوم نوح " ، ( والذين من بعدهم ) ، يعني من بعد قوم نوح وعاد وثمود ( لا يعلمهم إلا الله ) ، يقول : لا يحصي عَدَدهم ولا يعلَمُ مبلغهم إلا الله ، كما : -
20590 - حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا عبد الرحمن قال ، حدثنا سفيان ، عن أبي إسحاق ، عن عمرو بن ميمون : ( وعاد وثمود والذين من بعدهم لا يعلمهم إلا الله ) ، قال : كذَب النسَّابون. (3)
__________
(1) انظر تفسير " النبأ " فيما سلف 15 : 147 ، تعليق : 2 ، والمراجع هناك .
(2) في المطبوعة والمخطوطة : " وقوم عاد فبين بهم عن الذين " ، وهذا كلام لا معنى له ، وإنما سها الناسخ ، ومراده أن " قوم نوح " ، بدل من " الذين " ، و " التبيين " ، هو البدل ، ذكر ذلك الأخفش ( همع الهوامع 2 : 125 ) . ويقال له أيضًا " التفسير " ، كما أسلفت في الجزء 12 : 7 ، تعليق : 1 ، ويقال له أيضًا : " التكرير " ، ( همع الهوامع 2 : 125 ) .
(3) الآثار : 20590 - 20593 - خرجها السيوطي في الدر المنثور 4 : 71 ، وزاد نسبته إلى عبيد بن حميد ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم .
وإسناد هذا الخبر صحيح .

(16/529)


20591 - حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا عبد الرحمن قال ، حدثنا إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن عمرو بن ميمون ، عن عبد الله بن مسعود ، بمثل ذلك.
20592 - حدثنا الحسن بن محمد قال ، حدثنا شبابة قال ، أخبرنا إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن عمرو بن ميمون قال ، حدثنا ابن مسعود ، أنه كان يقرؤها : " وَعَادًا وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لا يَعْلَمُهُمْ إِلا اللهُ " ، ثم يقول : كذب النسابون.
20593 - حدثني ابن المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا عيسى بن جعفر ، عن سفيان ، عن أبي إسحاق ، عن عمرو بن ميمون ، عن عبد الله ، مثله. (1)
* * *
وقوله : ( جاءتهم رسلهم بالبينات ) ، يقول : جاءت هؤلاء الأمم رسلُهم الذين أرسلهم الله إليهم بدعائهم إلى إخلاص العبادة له " بالبينات " ، يعني بحججٍ ودلالاتٍ على حقيقة ما دعوهم إليه من مُعْجِزاتٍ. (2)
* * *
وقوله : ( فردوا أيديهم في أفواههم ) ، اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك . فقال بعضهم : معنى ذلك : فعضُّوا على أصابعهم ، تغيُّظًا عليهم في دعائهم إياهم إلى ما دَعَوهم إليه.
__________
(1) الأثر : 20593 - " ابن المثنى " ، هو " محمد بن المثنى العنزي " ، الحافظ ، المعروف بالزمن ، شيخ الطبري ، روي عنه ما لا يحصى كثرة ، مضى مرارًا ، انظر : 2734 ، 2740 ، 5440 ، 10314 .
و " عيسى بن جعفر " ، هذا خطأ لا شك فيه ، وإنما الصواب " محمد بن جعفر الهذلي " ، وهو " غندر " ، روي عند " ابن المثنى " في مواضع من التفسير لا تعد كثرة ، انظر ما سلف من الأسانيد مثلا : 35 ، 101 ، 194 ، 208 ، 419 ، في الجزء الأول من التفسير ، وفي الجزء الثامن : 8761 ، 8810 ، 8863 ، 8973 ، وفيه " المثنى " ، وصوابه " ابن المثنى " . وغير هذه كثير .
(2) انظر تفسير " البينات " فيما سلف 13 : 14 ، تعليق : 2 ، والمراجع هناك .
هذا ، وكان في المطبوعة : " يعني بالحجج الواضحات ، والدلالات البينات الظاهرات على حقيقة ما دعوهم إليه معجزات " ، زاد في الكلام غثاء كثيرًا ، كأنه غمض عليه نص أبي جعفر ، فأراد أن يوضحه بما ساء وناء .

(16/530)


* ذكر من قال ذلك :
20594 - حدثنا محمد بن بشار ومحمد بن المثنى ، قالا حدثنا عبد الرحمن ، قال حدثنا سفيان ، عن أبي إسحاق ، عن أبي الأحوص ، عن عبد الله : ( فردوا أيديهم في أفواههم ) ، قال : عضوا عليها تغيُّظًا.
20595 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا الثوري ، عن أبي إسحاق ، عن أبي الأحوص ، عن عبد الله ، في قوله : ( فردوا أيديهم في أفواههم ) ، قال : غيظًا ، هكذا ، وعضَّ يده.
20596 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو نعيم قال ، حدثنا سفيان ، عن أبي إسحاق ، عن أبي الأحوص ، عن عبد الله : ( فردوا أيديهم في أفواههم ) ، قال : عضُّوها. (1)
20597 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله بن رجاء البصريّ قال ، حدثنا إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن أبي الأحوص ، عن عبد الله في قول الله عز وجل : ( فردوا أيديهم في أفواههم ) ، قال : عضوا على أصابعهم. (2)
__________
(1) الآثار : 20594 - 20596 - خبر " سفيان الثوري ، عن أبي إسحق " ، أخرجه الحاكم في المستدرك 2 : 351 ، من طريق عبد الرزاق ، وهو هنا رقم : 20595 ، ولفظه في المستدرك :
" قال عبد الله كذا ، وردَّ يده في فيه ، وعضَّ يده ، وقال : عضُّوا على أصابعهم غيظًا " .
قال الحاكم : " هذا حديث صحيح بالزيادة على شرطهما " ، ووافقه الذهبي .
وخرجه السيوطي في الدر المنثور 4 : 72 ، وزاد نسبته إلى عبد الرزاق ، والفريابي ، وأبي عبيد ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والطبراني . وخرجه الهيثمي في مجمع الزوائد 7 : 43 ، وقال : رواه الطبراني عن شيخه ، عبد الله بن محمد بن سعيد بن أبي مريم ، وهو ضعيف " . ولم يذكر هو ولا السيوطي الحديث بزيادة الحاكم .
وسيأتي الخبر عن " سفيان الثوري " و " إسرائيل " برقم : 20603 .
(2) الأثر : 20597 - " إسرائيل " ، هو " إسرائيل بن يونس بن أبي إسحق السبيعي " ، روى عن جده ، ومضى مرارًا كثيرة لا تعد .
و " عبد الله بن رجاء بن عمرو الغداني البصري " ، ثقة ، كان حسن الحديث عن " إسرائيل " سلفت ترجمته برقم : 2814 ، 2939 ، 16973 .
وهذا الخبر ، رواه الحاكم في المستدرك ، من طريق : " عبيد الله بن موسى ، عن إسرائيل " ،
وقال : " هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ، ولم يخرجاه " ، ووافقه الذهبي ، وسيأتي من طريق أبي أحمد الزبيري ، عن إسرائيل ، وسفيان جميعًا برقم : 20603 . وانظر تخريج الآثار السالفة .

(16/531)


20598 - حدثني المثنى قال ، حدثنا الحماني قال ، حدثنا شريك ، عن أبي إسحاق ، عن أبي الأحوص ، عن عبد الله : ( فردوا أيديهم في أفواههم ) ، قال : عضوا على أطراف أصابعهم. (1)
20599 - حدثنا محمد بن المثنى قال ، حدثنا محمد بن جعفر قال ، حدثنا شعبة ، عن أبي إسحاق ، عن هبيرة ، عن عبد الله أنه قال في هذه الآية : ( فردوا أيديهم في أفواههم ) ، قال : أن يجعل إصْبعه في فيه.
20600 - حدثنا الحسن بن محمد ، قالا حدثنا أبو قطن قال ، حدثنا شعبة ، عن أبي إسحاق ، عن هبيرة ، عن عبد الله في قول الله عز وجلّ : ( فردوا أيديهم في أفواههم ) ، ووضع شُعبة أطرافَ أنامله اليُسرى على فيه.
20601 - حدثنا الحسن قال ، حدثنا يحيى بن عباد قال ، حدثنا شعبة قال ، أخبرنا أبو إسحاق ، عن هبيرة قال ، قال عبد الله( فردوا أيديهم في أفواههم ) ، قال : هكذا ، (2) وأدخل أصابعه في فيه.
20602 - حدثنا الحسن قال ، حدثنا عفان قال ، حدثنا شعبة ، قال أبو إسحاق : أنبأنا عن هبيرة ، عن عبد الله أنه قال في هذه الآية : ( فردوا أيديهم في أفواههم ) ، قال أبو علي : وأرَانا عفان ، وأدخل أطراف أصابع كفّه مبسوطةً في فيه ، وذكر أن شعبة أراه كذلك. (3)
__________
(1) الأثر : 20598 - هذه طريق ثالثة لخبر أبي الأحوص ، عن عبد الله بن مسعود : " شريك ، عن أبي إسحق : عن أبي الأحوص ، عن عبد الله " ، . وانظر الآثار السالفة .
(2) " قال هكذا " ، أي أشار . وقد سلف مرارًا تفسير " قال " بهذا المعنى .
(3) الآثار : 20599 - 20602 - هذه الثلاثة ، طريق أخرى لخبر عبد الله بن مسعود ، من حديث هبيرة عنه .
و " أبو قطن " ، هو " عمرو بن الهثيم بن قطن الزبيري " ، " أبو قطن البصري " ، ثقة ، في الطبقة الرابعة من أصحاب شعبة . مضى برقم : 18674 ، 20091 ، 20420 .
و " يحيى بن عباد الضبعي " ، " أبو عباد " ، من شيوخ أحمد ، والحسن بن محمد بن الصباح الزعفراني ، ثقة ، ولكنه ضعيف . مضى برقم : 20010 ، 20091
و " هبيرة بن مريم الشبامي " ، تابعي ثقة ، لم يرو عنه غير أبي إسحق السبيعي ، مضى برقم : 3001 ، 5468 .

(16/532)


20603 - حدثنا أحمد قال ، حدثنا أبو أحمد قال ، حدثنا سفيان وإسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن أبي الأحوص ، عن عبد الله : ( فردوا أيديهم في أفواههم ) ، قال : عضُّوا على أناملهم. وقال سفيان : عضُّوا غيظًا. (1)
20604 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد ، في قوله : ( فردوا أيديهم في أفواههم ) ، فقرأ : " عَضُّوا عَلَيْكُمُ الأنَامِلَ مِنَ الْغيْظِ " [سورة آل عمران : 119 ] ، قال : هذا ، ( ردُّوا أيديهم في أفواههم ). (2) قال : أدخلوا أصابعهم في أفواههم . وقال : إذا اغتاظ الإنسان عضَّ يده.
* * *
وقال آخرون : بل معنى ذلك : أنهم لما سمعوا كتابَ الله عجبوا منه ، ووضعوا أيديهم على أفواههم.
* ذكر من قال ذلك :
20605 - حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : ( فردوا أيديهم في أفواههم ) ، قال : لما سمعوا كتابَ الله عجِبُوا ورَجَعوا بأيديهم إلى أفواههم.
* * *
وقال آخرون : بل معنى ذلك أنهم كذبوهم بأفواههم.
* ذكر من قال ذلك :
20606 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا
__________
(1) الأثر : 20603 - انظر التعليق على الآثار السالفة.
(2) في المطبوعة : " وقال : معنى : ردوا أيديهم في أفواههم " ، عبث باللفظ وأساء غاية الإساءة .

(16/533)


عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ح وحدثني الحارث قال ، حدثنا الحسن قال ، حدثنا ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قول الله : ( فردوا أيديهم في أفواههم ) ، قال : ردوا عليهم قولهم وكذَّبوهم.
20607 - حدثنا الحسن بن محمد قال ، حدثنا شبابة قال ، حدثنا ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله.
20608 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله.
20609 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : ( جاءتهم رسلهم بالبينات فردوا أيديهم في أفواههم ) ، يقول : قومُهم كذّبوا رسلهم وردُّوا عليهم ما جاءوا به من البينات ، وردُّوا عليهم بأفواههم ، وقالوا : إنا لفي شك مما تَدعوننا إليه مُرِيب.
20610 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، في قوله : ( فردوا أيديهم في أفواههم ) ، قال : ردوا على الرسل ما جاءت به.
* * *
قال أبو جعفر : وكأنّ مجاهدًا وجَّه قوله : ( فردُّوا أيديهم في أفواههم ) ، إلى معنى : ردُّوا أيادى الله التي لو قبلوها كانت أياديَ ونعمًا عندهم ، فلم يقبلوها ووجَّه قوله : ( في أفواههم ) ، إلى معنى : بأفواههم ، يعني : بألسنتهم التي في أفواههم (1) .
* * *
وقد ذكر عن بعض العرب سَماعًا : " أدخلك الله بالجنَّة " ، يعنون : في الجنة ، وينشد هذا البيت (2)
__________
(1) انظر ما سلف : 515 ، تعليق : 6 .
(2) لم أعرف قائله . ومنشده هو الفراء ، كما في اللسان ( فيا ) .

(16/534)


وَأَرْغَبُ فِيهَا عَنْ لَقِيطٍ وَرَهْطِهِ... وَلَكِنَّنِي عَنْ سِنْبِسٍ لَسْتُ أَرْغَبُ (1)
يريد : وأرغب بها ، يعنى بابنة له ، (2) عن لقيط ، ولا أرغبُ بها عن قبيلتي.
* * *
وقال آخرون : بل معنى ذلك أنهم كانوا يَضَعُون أيديهم على أفواه الرّسل ردًّا عليهم قولَهم ، وتكذيبًا لهم.
* * *
وقال آخرون : هذا مَثَلٌ ، وإنما أُرِيد أنهم كفُّوا عَمَّا أُمروا بقَوْله من الحق ، (3) ولم يؤمنوا به ولم يسلموا. وقال : يقال لِلرَّجل إذا أمسَك عن الجواب فلم يجبْ : " ردّ يده في فمه " . وذكر بعضهم أن العرب تقول : " كلمت فلانًا في حاجة فرَدّ يدَه في فيه " ، إذا سكت عنه فلم يجب. (4)
* * *
قال أبو جعفر : وهذا أيضًا قول لا وَجْه له ، لأن الله عزَّ ذكره ، قد أخبر عنهم أنهم قالوا : " إنا كفرنا بما أرسلتم به " ، فقد أجابوا بالتكذيب.
* * *
قال أبو جعفر : -
وأشبه هذه الأقوال عندي بالصواب في تأويل هذه الآية ، القولُ الذي ذكرناه عن عبد الله بن مسعود : أنهم ردُّوا أيديهم في أفواههم ،
__________
(1) اللسان ( فيا ) ، وسيأتي في التفسير 17 : 105 ( بولاق ) وأنشده في اللسان عن الفراء : وأَرغبُ فيها عن عُبَيْدٍ ورَهْطِهِ ... ولكنْ بِهَا عن سِنْبسٍ لستُ أَرغَبُ
(2) كان في المطبوعة : " يريد : وأرغب فيها ، يعني أرغب بها عن لقيط " ، لم يحسن قراءة المخطوطة لأن فيها " وأرغب فيها " مكان " وأرغب بها " ، ولأنه كتبت " بابنت " بتاء مفتوحة ، وغير منقوطة فضل ، فتصرف ، فأضل ، ولا حول ولا قوة إلا بالله .
(3) في مجاز القرآن لأبي عبيدة " بقوله " ، مكان " بقبوله " فأثبته ، ولم أثبت ما في المخطوطة والمطبوعة ، وما وافقهما في فتح الباري ( 8 : 285 ) ، لأن قول أبي جعفر بعد : " لأن الله عز وجل قد أخبر عنهم أنهم قالوا ... " ، دليل على صوابه .
(4) هذا قول أبي عبيدة في مجاز القرآن 1 : 336 ، ولكنه في المطبوع من مجاز القرآن مختصر جدًا ، وكأن هذا الموضع من " مجاز القرآن " مضطرب وفيه خروم ، كما أسلفت بيان ذلك في ص : 519 تعليق رقم : 2 .

(16/535)


قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى قَالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آَبَاؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (10)

فعضُّوا عليها ، غيظاً على الرسل ، كما وصف الله جل وعز به إخوانهم من المنافقين ، فقال : ( وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الأنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ ) [سورة آل عمران : 119 ]. فهذا هو الكلام المعروف والمعنى المفهوم من " ردِّ اليدِ إلى الفم " .
* * *
وقوله : ( وقالوا إنّا كفرنا بمَا أرسلتم به ) ، يقول عز وجل : وقالوا لرسلهم : إنا كفرنا بما أرسلكم به مَنْ أرسلكم ، من الدعاء إلى ترك عبادة الأوثان والأصنام (وإنا لفي شك) من حقيقة ما تدعوننا إليه من توحيد الله ( مُريب ) ، يقول : يريبنا ذلك الشك ، أي يوجب لنا الريبَة والتُّهمَةَ فيه .
* * *
يقال منه : " أرابَ الرجل " ، إذا أتى بريبة ، " يُريبُ إرابةً " . (1)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى قَالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلا بَشَرٌ مِثْلُنَا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (10) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : قالت رُسل الأمم التي أتتها رسُلها : (أفي الله) ، (2) أنه المستحق عليكم ، أيها الناس ، الألوهة والعبادةَ دون جميع
__________
(1) انظر تفسير " الريب " فيما سلف من فهارس اللغة ( ريب) ، وتفسير " الإرابة فيما سلف 15 : 370 ، 493 .
(2) في المخطوطة : " أفي الناس " ، وهو سهو منه .

(16/536)


خلقه (شك) وقوله : ( فاطر السماوات والأرض ) ، يقول : خالق السماوات والأرض (1) ( يدعوكم ليغفر لكم من ذنوبكم ) ، يقول : يدعوكم إلى توحيده وطاعته ( ليغفر لكم من ذنوبكم ) ، يقول : فيستر عليكم بعضَ ذنوبكم بالعفو عنها ، فلا يعاقبكم عليها ، (2) ( ويؤخركم ) ، يقول : وينسئ في آجالكم ، (3) فلا يعاقبكم في العاجل فيهلككم ، ولكن يؤخركم إلى الوقت الذي كتبَ في أمّ الكتاب أنه يقبضكم فيهِ ، وهو الأجل الذي سمَّى لكم. (4) فقالت الأمم لهم : ( إن أنتم ) ، أيها القوم( إلا بشرٌ مثلنا ) ، في الصورة والهيئة ، ولستم ملائكة ، (5) وإنما تريدون بقولكم هذا الذي تقولون لنا ( أن تصدُّونا عما كان يعبدُ آباؤنا ) ، يقول : إنما تريدون أن تصرِفونا بقولكم عن عبادة ما كان يعبدُه من الأوثان آباؤنا (6) ( فأتونا بسلطان مبين ) ، يقول : فأتونا بحجة على ما تقولون تُبين لنا حقيقتَه وصحتَه ، فنعلم أنكم فيما تقولون محقُّون. (7)
* * *
__________
(1) انظر تفسير " فطر " فيما سلف : 287 ، تعليق : 2 ، والمراجع هناك .
(2) انظر تفسير " المغفرة " فيما سلف من فهارس اللغة ( غفر ) ، ثم انظر مجاز القرآن لأبي عبيدة 1 : 336 ، في بيان زيادة " من " في الآية .
(3) انظر تفسير " التأخير " فيما سلف من فهارس اللغة ( أخر ) .
(4) انظر تفسير " الأجل " فيما سلف : 476 ، تعليق : 4 ، والمراجع هناك .
وتفسير " مسمى " فيما سلف : 326 ، تعليق : 1 ، والمراجع هناك.
(5) انظر تفسير " بشر " فيما سلف 15 : 295 ، تعليق : 2 ، والمراجع هناك .
(6) انظر تفسير " الصد " فيما سلف : 515 ، تعليق : 2 ، والمراجع هناك .
(7) انظر تفسير " السلطان " فيما سلف : 106 ، تعليق : 1 ، والمراجع هناك .
وتفسير " مبين " فيما سلف من فهارس اللغة ( بين ) .

(16/537)


قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَمَا كَانَ لَنَا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطَانٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (11)

القول في تأويل قوله عز ذكره : { قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَمَا كَانَ لَنَا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطَانٍ إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (11) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : قالت الأمم التي أتتهم الرّسلُ رُسُلهم : (1) ( إن نحن إلا بشر مثلكم ) ، صدقتم في قولكم ، إن أنتم إلا بشر مثلنا ، فما نحنُ إلا بَشَر من بني آدم ، إنسٌ مثلكم (2) ( ولكنّ الله يمنُّ على من يشاء من عباده ) ، يقُول : ولكن الله يتفضل على من يشاء من خلقه ، (3) فيهديه ويوفقه للحقّ ، ويفضّله على كثير من خلقه ( وما كان لنا أن نأتيكم بسلطان ) ، يقول : وما كان لنا أن نأتيكم بحجة وبرهان على ما ندعوكم إليه (4) ( إلا بإذن الله ) ، يقول : إلا بأمر الله لنا بذلك (5) ( وعلى الله فليتوكل المؤمنون ) ، يقول : وبالله فليثق به من آمن به وأطاعه ، فإنا به نثق ، وعليه نتوكل. (6)
20610م - حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، قوله : ( فأتونا بسلطان مبين ) ، قال : " السلطان المبين " ، البرهان والبينة. وقوله : ( مَا لَمْ يُنزلْ بِهِ سُلْطَانًا ) [سورة آل عمران : 151 / سورة الأعراف : 7 / سورة الحج : 71 ] ، قال : بينَةً وبرهانًا.
* * *
__________
(1) في المطبوعة : " قال الأمم التي أتتهم الرسل لرسلهم " ، وهو لا يفهم ، وفي المخطوطة : " قالت الأمم التي أتتهم الرسل رسلهم " ، وصوابها " للأمم " ، و " رسلهم " فاعل " قالت " .
(2) انظر تفسير " البشر " فيما سلف قريبًا : 537 ، تعليق : 5
(3) انظر تفسير " المن " فيما سلف 7 : 369/9 : 71/11 : 389 .
(4) انظر تفسير " السلطان " فيما سلف قريبًا .
(5) انظر تفسير " الإذن " فيما سلف : 526 ، تعليق : 1 ، والمراجع هناك .
(6) انظر تفسير " التوكل " فيما سلف 166 ، تعليق : 2 ، والمراجع هناك .

(16/538)


وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آَذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (12) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ (13) وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ (14)

القول في تأويل قوله عز ذكره : { وَمَا لَنَا أَلا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (12) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره ، مخبًرا عن قِيل الرسل لأممها : ( وما لنا أن لا نتوكل على الله ) ، فنثق به وبكفايته ودفاعه إياكم عنَّا ( وقد هدانا سُبُلنا ) ، يقول : وقد بَصَّرنا طريقَ النجاة من عذابه ، فبين لنا (1) ( ولنصبرنَّ على ما آذيتمونا ) ، في الله وعلى ما نلقى منكم من المكروه فيه بسبب دُعائنا لكم إلى ما ندعوكم إليه ، (2) من البراءة من الأوثان والأصنام ، وإخلاص العبادة له ( وعلى الله فليتوكل المتوكلون ) ، يقول : وعلى الله فليتوكل من كان به واثقًا من خلقه ، فأما من كان به كافرًا فإنّ وليَّه الشيطان.
* * *
القول في تأويل قوله عز ذكره : { وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ (13) وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الأرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ (14) }
قال أبو جعفر : يقول عزّ ذكره : وقال الذين كفروا بالله لرسلهم الذين أرسلوا إليهم ، حين دعوهم إلى توحيد الله وإخلاص العبادة له ، وفراق عبادة الآلهة والأوثان
__________
(1) انظر تفسير " الهدى " فيما سلف من فهارس اللغة ( هدى ) .
وتفسير " السبيل " فيما سلف من فهارس اللغة ( سبل ) .
(2) انظر تفسير " الأذى " فيما سلف 14 : 324 ، تعليق : 1 ، والمراجع هناك .

(16/539)


( لنخرجنَّكم من أرضنا ) ، يعنون : من بلادنا فنطردكم عنها ( أو لتعودن في مِلّتنا ) ، يعنون : إلا أن تَعُودوا في دِيننا الذي نحن عليه من عبادة الأصنام. (1)
* * *
وأدخلت في قوله : ( لتعودُنَّ ) " لام " ، وهو في معنى شرطٍ ، كأنه جواب لليَمين ، وإنما معنى الكلام : لنخرجَنكم من أرضنا ، أو تعودون في ملتنا . (2)
* * *
ومعنى " أو " ههنا معنى " إلا " أو معنى " حتى " كما يقال في الكلام : " لأضربنك أوْ تُقِرَّ لي " ، فمن العرب من يجعل ما بعد " أو " في مثل هذا الموضع عطفًا على ما قبله ، إن كان ما قبله جزمًا جزموه ، وإن كان نصبًا نصبوه ، وإن كان فيه " لام " جعلوا فيه " لاما " ، (3) إذ كانت " أو " حرف نَسق. ومنهم من ينصب " ما " بعد " أو " بكل حالٍ ، ليُعْلَم بنصبه أنه عن الأول منقطع عما قبله ، كما قال امرؤ القيس :
بَكَى صَاحِبِي لَمَّا رَأَى الدَّرْبَ دُونَهُ... وَأَيْقَنَ أَنَّا لاحِقَانِ بِقَيْصَرَا... فَقُلْتُ لَهُ : لا تَبْكِ عَيْنُكَ إِنَّمَا... نُحَاوِلُ مُلْكًا أَوْ نَمُوتَ فَنُعْذَرَا (4)
فنصب " نموت فنعذرا " وقد رفع " نحاول " ، لأنه أراد معنى : إلا أن نموتَ ، أو حتى نموتَ ، ومنه قول الآخر : (5)
لا أَسْتَطِيعُ نزوعًا عَنْ مَوَدَّتِهَا... أَوْ يَصْنَعَ الْحُبُّ بِي غَيْرَ الَّذِي صَنَعَا (6)
__________
(1) انظر تفسير " الملة " فيما سلف : 101 ، تعليق : 1 ، والمراجع هناك ، وانظر مجاز القرآن لأبي عبيدة 1 : 336 .
(2) في المطبوعة : " أو تعودن " ، والصواب من المخطوطة .
(3) في المطبوعة : " إن كان فيه لامًا " ، ، خطأ ، صوابه في المخطوطة .
(4) ديوانه : 65 من قصيدته الغالية التي قالها في مسيرة إلى قيصر مستنصرًا به بعد قتل أبيه . وصاحبه الذي ذكره ، هو عمرو بن قميئة اليشكري الذي استصحبه إلى قيصر ، و " الدرب " . ما بين طرسوس وبلاد الروم .
(5) هو الأحوص بن محمد الأنصاري ، وينسب أحيانًا للمجنون .
(6) الأغاني 4 : 299 ، وديوان المجنون : 200 ، وخرج أبيات الأحوص ، ولدنا الأستاذ عادل سليمان ، فيما جمعه من شعر لأحوص ، ولم يطبع بعد .

(16/540)


وقوله : ( فأوحَى إليهم ربُّهم لنُهلكنَّ الظالمين ) ، الذين ظلموا أنفسهم ، (1) فأوجبوا لها عقاب الله بكفرهم. وقد يجوز أن يكون قيل لهم : " الظالمون " لعبادتهم من لا تجوز عبادته من الأوثان والآلهة ، (2) فيكون بوضعهم العبادةَ في غير موضعها ، إذ كان ظلمًا ، سُمُّوا بذلك. (3)
* * *
وقوله : ( ولنسكننكم الأرض من بعدهم ) ، هذا وعدٌ من الله مَنْ وَعد من أنبيائه النصرَ على الكَفَرة به من قومه . يقول : لما تمادتْ أمم الرسل في الكفر ، وتوعَّدوا رسُلهم بالوقوع بهم ، أوحى الله إليهم بإهلاك من كَفَر بهم من أممهم ووعدهم النصر. وكلُّ ذلك كان من الله وعيدًا وتهدُّدا لمشركي قوم نبيِّنا محمد صلى الله عليه وسلم على كفرهم به ، (4) وجُرْأتهم على نبيه ، وتثبيتًا لمحمد صلى الله عليه وسلم ، وأمرًا له بالصبر على ما لقي من المكروه فيه من مشركي قومه ، كما صبر من كان قبله من أولي العزم من رسله ومُعرِّفَة أن عاقبة أمرِ من كفر به الهلاكُ ، وعاقبتَه النصرُ عليهم ، سُنَّةُ الله في الذين خَلَوْا من قبل .
* * *
20611 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة : ( ولنسكننكم الأرضَ من بعدهم ) ، قال : وعدهم النصرَ في الدنيا ، والجنَّةَ في الآخرة.
* * *
وقوله : ( ذلك لمن خَافَ مَقامي وخاف وَعِيدِ ) ، يقول جل ثناؤه :
__________
(1) انظر تفسير : " أوحى " فيما سلف 6 : 405/9 : 399 / 11 : 217 ، 290 ، 371 ، 533 .
(2) انظر تفسير " الظلم " فيما سلف 1 : 523 ، 524 / 2 : 369 ، 519 / 4 : 584 / 5 : 384 ، وغيرها في فهارس اللغة .
(3) في المطبوعة كتب : " سموا بذلك ظالمين " ، زاد ما لا محصل له ، إذ لم يألف عبارة أبي جعفر ، فأظلمت عليه .
(4) في المطبوعة : " وعيدًا وتهديدًا " ، أساء إذ غير لفظ أبي جعفر .

(16/541)


وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (15)

هكذا فِعْلي لمن خاف مَقامَه بين يديّ ، وخاف وعيدي فاتَّقاني بطاعته ، وتجنَّب سُخطي ، أنصُرْه على ما أراد به سُوءًا وبَغَاه مكروهًا من أعدائي ، أهلك عدوّه وأخْزيه ، وأورثه أرضَه وديارَه.
* * *
وقال : ( لمن خاف مَقَامي ) ، ومعناه ما قلت من أنه لمن خاف مَقَامه بين يديَّ بحيث أقيمه هُنالك للحساب ، (1) كما قال : ( وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أنّكُمْ تُكَذِّبُونَ ) [سورة الواقعة : 82 ] ، معناه : وتجعلون رِزقي إياكم أنّكُم تكذبون . وذلك أن العرب تُضيف أفعالها إلى أنفسها ، وإلى ما أوقعت عليه ، فتقول : " قد سُرِرتُ برؤيتك ، وبرؤيتي إياك " ، فكذلك ذلك.
* * *
القول في تأويل قوله عز ذكره : { وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (15) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : واستفتحت الرُّسل على قومها : أي استنصرت الله عليها (2) ( وخاب كل جبار عنيد ) ، يقول : هلك كل متكبر جائر حائدٍ عن الإقرار بتوحيد الله وإخلاص العبادة له.
* * *
و " العنيد " و " العاند " و " العَنُود " ، بمعنى واحد . (3)
* * *
__________
(1) انظر مجاز القرآن لأبي عبيدة 1 : 337 .
(2) انظر تفسير " الاستفتاح " فيما سلف 2 : 254 / 10 : 405 ، 406 ، ومجاز القرآن 1 : 337 .
(3) انظر تفسير " عنيد " فيما سلف 15 : 366 ، 367 ، ومجاز القرآن 1 : 337 .

(16/542)


ومن " الجبار " ، تقول : هو جَبَّار بَيِّنُ الجَبَريَّة ، والجَبْرِيَّة ، والجَبْرُوَّة ، والجَبَرُوت. (1)
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
20612 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى وحدثني الحارث قال ، حدثنا الحسن قال : حدثنا ورقاء جميعًا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : ( واستفتحوا ) ، قال : الرسل كلها . يقول : استنصروا ( عنيد ) ، قال معاند للحق مجانبه. (2)
20613 - حدثنا الحسن بن محمد قال ، حدثنا شبابة قال ، حدثنا ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله.
20614 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، ح وحدثني الحارث قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الله ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله : ( واستفتحوا ) ، قال : الرسل كُلها استنصروا ( وخاب كل جبَّار عَنيد ) ، قال : معاند للحق مجانبه.
__________
(1) انظر تفسير " جبار " فيما سلف 10 ، 172/11 : 470 / 15 : 366 .
هذا ، وفي المطبوعة : " هو جبار بين الجبرية ، والجبروتية ، والجبروة ، والجبروت " زاد في اللغة ما لا نص عليه ، وهو " الجبروتية " ، ونقص واحدة من الخمس " الجبروة " . وكان في المخطوطة مكان " الجبرية " الثانية : " الجبر ننبه " ، غير منقوطة ، وأساء كتابتها .
(2) الأثر : 20612 - هذا الذي أثبته هو الذي جاء في المخطوطة ، وطابق ما خرجه السيوطي في الدر المنثور 4 : 73 ، عن مجاهد ، ونسبه لابن جرير ، وابن المنذر وابن أبي حاتم ، وكان في المطبوعة هنا .
" يقول : استنصروا على أَعدائهم ومعانديهم ، أَي على من عاند عن اتباع الحق وتجنَّبه " .

(16/543)


20615 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله وقال ابن جريج : استفتحوا على قومهم.
20616 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى ... (1)
20617 - حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : ( واستفتحوا وخاب كل جبار عنيد ) ، قال : كانت الرسلُ والمؤمنون يستضعفهم قومُهم ، ويقهَرُونهم ويكذبونهم ، ويدعونهم إلى أن يعودوا في مِلّتهم ، فأبَى الله عز وجل لرسله وللمؤمنين أن يعودُوا في مِلّة الكفر ، وأمرَهُم أن يتوكلوا على الله ، وأمرهم أن يستفتحوا على الجبابرة ، ووعدهم أن يُسْكنهم الأرض من بعدهم ، فأنجز الله لهم ما وعدهم ، واستفتحوا كما أمرهم أن يستفتحوا ، ( وخابَ كل جبار عنيد ) .
20618 - حدثني المثنى قال ، حدثنا الحجاج بن المنهال قال ، حدثنا أبو عوانة ، عن المغيرة ، عن إبراهيم ، في قوله : ( وخاب كل جبار عنيد ) ، قال : هو النَّاكب عن الحق . (2)
20619 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا مطرف ، عن بشر ، عن هشيم ، عن مغيرة ، عن سماك ، عن إبراهيم : ( وخاب كل جبار عنيد ) ، قال : الناكب عن الحق. (3)
__________
(1) الأثر : 20616 - هذا إسناد مقحم فيما أرجح ، وإنما هو صدر الإسناد رقم : 20612 اجتلبته يد الناسخ سهوًا إلى هذا المكان . والله أعلم .
(2) الأثر : 20618 - في هذا الخبر أيضًا زيادة لا أدري كيف جاءت ، فاقتصرت على ما في المخطوطة ، وهو مطابق لما خرجه السيوطي في الدر المنثور 4 : 73 ، عن إبراهيم النخعي ، ونسبه لابن جرير وحده ، والزيادة التي كانت المطبوعة هي :
" أي الحائد عن اتباع طريق الحق "
وانظر الخبر التالي ، بلا زيادة أيضًا .
(3) الأثر : 20619 - " مطرف بن بشر " ، لا أدري ما هو ، ولم أجد له ذكرًا في شيء مما بين يدي . وجاء ناشر المطبوعة فجعله " مطرف ، عن بشر " بلا دليل .

(16/544)


20620 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : ( واستفتحوا ) ، يقول : استنصرت الرسل على قومها قوله : ( وخاب كل جبار عنيد ) ، و " الجبار العنيد " : الذي أبى أن يقول : لا إله إلا الله.
20621 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : ( واستفتحوا ) ، قال : استنصرت الرسل على قومها ( وخاب كل جبار عنيد ) ، يقول : عَنِيد عن الحق ، مُعْرِض عنه. (1)
20622 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر ، عن قتادة ، مثله - وزاد فيه : مُعْرِض ، (2) أبى أن يقول : لا إله إلا الله.
20623 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد ، في قوله : ( وخاب كل جبار عنيد ) ، قال : " العنيد عن الحق " ، الذي يعنِدُ عن الطريق ، قال : والعرب تقول : " شرُّ الأهْل العَنِيد " (3) الذي يخرج عن الطريق.
20624 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد ، في قوله : ( واستفتحوا وخاب كل جبار عنيد ) ، قال : " الجبّار " : المتجبّر. (4)
* * *
وكان ابن زيد يقول في معنى قوله : ( واستفتحوا ) ، خلاف قول هؤلاء ، ويقول : إنما استفتحت الأمم ، فأجيبت.
20625 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد ، في قوله : ( واستفتحوا ) ، قال : استفتاحهم بالبلاء ، قالوا : اللهم إن كان هذا الذي
__________
(1) في المطبوعة ، والدر المنثور 4 : 73 : " بعيد عن الحق " ، وأرى الصواب ما في المخطوطة ، انظر ما سلف في تفسير " عنيد " ص : .. 542 ، 543
(2) في المطبوعة : " معرض عنه " ، كأنه زادها من عنده .
(3) في المطبوعة : " شر الإبل " ، ولا أدري أهو صواب ، أم غيرها الناشر ، ولكني أثبت ما في المخطوطة ، فهو عندي أوثق .
(4) في المطبوعة : " هو المتجبر " ، زاد في الكلام .

(16/545)


مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ (16) يَتَجَرَّعُهُ وَلَا يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ (17)

أتى به محمد هو الحقّ من عندك فأمطر علينا حجارةً من السماء ، كما أمطرتها على قوم لوط ، أو ائتنا بعذاب أليم. (1) قال : كان استفتاحهم بالبلاء كما استفتح قوم هود : ( فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ )[سورة الأعراف : 70 ] قال : فالاستفتاح العذاب ، قال : قيل لهم : إنّ لهذا أجلا ! حين سألوا الله أن ينزل عليهم ، فقال : " بلْ نُؤخِّرُهُمْ ليَوْم تَشْخَصُ فِيهِ الأبْصَار " . (2) فقالوا : لا نريد أن نؤخر إلى يوم القيامة : ( رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا ) عَذَابَنَا( قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ ) [سورة ص : 16 ] . وقرأ : ( وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَوْلا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجَاءَهُمُ الْعَذَابُ ) حتى بلغ : ( وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيَقُولُ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ) [سورة العنكبوت : 53 - 55 ] .
* * *
القول في تأويل قوله عز ذكره : { مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ (16) يَتَجَرَّعُهُ وَلا يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ (17) }
قال أبو جعفر : يقول عزّ ذكره : ( من ورائه ) ، من أمام كل جَبار( جهنم ) ، يَرِدُونها.
* * *
و " وراء " في هذا الموضع ، يعني أمام ، كما يقال : " إن الموت مِنْ ورائك " ، أي قُدّامك ، وكما قال الشاعر : (3)
__________
(1) هذا من تأويل آية سورة الأنفال : 32 .
(2) هو انتزاع من آية سورة إبراهيم : 42 .
(3) هو جرير.

(16/546)


أَتُوعِدُنِي وَرَاءَ بَنِي رِيَاحٍ... كَذَبْتَ لَتَقْصُرَنَّ يَدَاكَ دُونِي... (1)
يعني : " وراء بني رياح " ، قدَّام بني رياح وأمَامهم.
* * *
وكان بعض نحويِّي أهل البَصرة يقول : إنما يعني بقوله : ( من ورائه ) ، أي من أمامه ، لأنه وراءَ ما هو فيه ، كما يقول لك : " وكلّ هذا من ورائك " : أي سيأتي عليك ، وهو من وراء ما أنت فيه ، لأن ما أنت فيه قد كان قبل ذلك وهو من ورائه. وقال : ( وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا ) [سورة الكهف : 79 ] ، من هذا المعنى ، أي كان وراء ما هم فيه أمامهم.
* * *
وكان بعض نحويي أهل الكوفة يقول : أكثر ما يجوزُ هذا في الأوقات ، لأن الوقت يمرُّ عليك ، فيصير خلفك إذا جزته ، وكذلك( كَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ ) ، لأنهم يجوزونه فيصير وراءهم.
* * *
وكان بعضهم يقول : هو من حروف الأضداد ، يعني وراء يكون قُدَّامًا وخلفًا.
* * *
وقوله : ( وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ ) ، يقول : ويسقى من ماءٍ ، ثم بيَّن ذلك الماء جل ثناؤه وما هو ، فقال : هو " صديد " ، ولذلك رد " الصَّديد " في إعرابه على " الماء " ، لأنه بيَانٌ عنه . (2)
* * *
__________
(1) البيت وتخريجه وشرحه فيما سلف : 399 ، تعليق : 3 ، ثم انظر مجاز القرآن لأبي عبيدة 1 : 337 .
(2) " البيان " ، هو " عطف البيان " ، ويسميه الكوفيون " الترجمة " كما سلف ، انظر فهارس المصطلحات .

(16/547)


و " الصديد " ، هو القَيْحُ والدم.
* * *
وكذلك تأوَّله أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
20626 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى وحدثني الحارث قال ، حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ح وحدثنا الحسن بن محمد قال ، حدثنا شبابة قال ، حدثنا ورقاء عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله : ( من ماء صديد ) ، قال قيحٌ ودم.
20627 - حدثنا المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله.
20628 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : ( ويسقى من ماء صديد ) ، و " الصديد " ، ما يسيل من لحمه وجلدِه. (1)
20629 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر ، عن قتادة ، في قوله : ( ويسقى من ماء صديد ) ، قال : ما يسيل من بين لحمه وجلده.
20630 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا هشام ، عمن ذكره ، عن الضحاك : ( ويسقى من ماء صديد ) ، قال : يعني بالصديد : ما يخرج من جوف الكافر ، قد خالط القَيْح والدم.
* * *
وقوله : ( يتجرَّعه ) ، يتحسَّاه ( ولا يكاد يسيغه ) ، يقول : ولا يكاد يزدرده من شدة كراهته ، وهو مُسيغه من شدّة العطش.
* * *
__________
(1) الأثر : 20628 - في المطبوعة : " من دمه ولحمه وجلده " ، بزيادة ، وأثبت ما في المخطوطة موافقًا لما في الدر المنثور 4 : 74 .

(16/548)


والعرب تجعل " لا يكاد " فيما قد فُعِل ، وفيما لم يُفْعَل. فأما ما قد فعل ، فمنه هذا ، لأن الله جل ثناؤه جعل لهم ذلك شرابًا . وأمَّا ما لم يفعل وقد دخلت فيه " كاد " فقوله : حتى( إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا ) [سورة النور : 40 ] ، فهو لا يراها. (1)
* * *
وبنحو ما قلنا من أن معنى قوله : ( ولا يكاد يسيغه ) ، وهو يُسيغه ، جاء الخبرُ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. *
ذكر الرواية بذلك :
20631 - حدثني محمد بن المثنى قال ، حدثنا إبراهيم أبو إسحاق الطَّالقَاني قال ، حدثنا ابن المبارك ، عن صفوان بن عمرو ، عن عبيد الله بن بسر ، عن أبي أمامة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله : ( ويُسقى من ماء صديد يتجرّعه ) ، " فإذا شَربه قَطَّع أمعاءَه حتى يخرج من دُبُره " ، يقول الله عز وجل : ( وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ ) [سورة محمد : 15 ] ، ويقول : ( وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ ) [سورة الكهف : 29 ] . (2)
20632 - حدثنا ابن المثنى قال ، حدثنا معمر ، عن ابن المبارك قال ، حدثنا صفوان بن عمرو ، عن عبيد الله بن بسر ، عن أبي أمامة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله : ( ويسقى من ماءٍ صديد ) ، فذكر مثله ، إلا أنه قال : ( سُقُوا مَاءً حَمِيمًا ) . (3)
__________
(1) انظر تفسير " كاد " فيما سلف 2 : 218 ، 219 / 13 : 131 .
(2) الأثران : 20631 ، 20632 - " إبراهيم ، أبو إسحق الطالقاني " ، هو " إبراهيم بن إسحق بن عيسى الطالقاني البناني " ، وربما قيل : " إبراهيم بن عيسى " ، منسوبًا إلى جده ، وهو مولى " بنانة " ، ثقة ، من شيوخ أحمد ، سمع ابن المبارك ، وبقية . و " الطالقان " ، بسكون اللام ، ويقال بفتحها ، بلدة بخراسان . وهو مترجم في التهذيب ، والكبير 1/1/273 ، وابن أبي حاتم في موضعين 1/1/86 ، 119 ، وتاريخ بغداد 6 : 24 .
و " عبد الله بن المبارك " ، أحد الأئمة الكبار ، مضى مرارًا كثيرة .
و " صفوان بن عمرو بن هرم السكسكي " ، ثقة ثبت مأمون ، مضى مرارًا منها : 7009 ، 12194 ، 12807 ، 13108 .
و " عبيد الله بن بسر " ، مصغرًا هكذا هو هنا ، وفي رواية أحمد في مسنده ، وفي سنن الترمذي . و " عبد الله بن بسر " في المستدرك للحاكم ، وحلية الأولياء لأبي نعيم . وفي ابن كثير نقلا عن المسند " عبيد الله بن بشر " ، وهو تصحيف .
وهذا الخبر من طريق ابن المبارك ، عن صفوان بن عمرو ، رواه أحمد في مسنده عن علي بن إسحق ، عن عبد الله بن المبارك ( المسند 5 : 265 ) .
ورواه الترمذي عن سويد بن نصر ، عن عبد الله بن المبارك ( في باب ما جاء في صفة شراب أهل النار )
ورواه أبو نعيم في الحلية 8 : 182 من طرق : نعيم بن حماد ، عن ابن المبارك ، ومعاذ بن أسد ، عن ابن المبارك ، ويحيي الحماني عنه ، ومحمد بن مقاتل عنه ، أربع طرق .
ورواه الحاكم في المستدرك 2 : 31 من طريق عبدان ، وهو عبد الله بن عثمان بن جبلة ، عن ابن المبارك ، وقال : " هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه " ، ووافقه الذهبي .
وفي " عبيد الله بن بسر " مقال . قال الترمذي ، وساق الخبر : " هذا حديث غريب ، هكذا قال محمد بن إسماعيل : " عن عبيد الله بن بسر " ، ولا يعرف " عبيد الله بن بسر " إلا في هذا الحديث. وقد روى صفوان بن عمرو عن " عبد الله بن بسر " صاحب النبي صلى الله عليه وسلم غير هذا الحديث ، وعبد الله بن بسر له أخ قد سمع من النبي صلى الله عليه وسلم ، وأخته قد سمعت من النبي صلى الله عليه وسلم ، وعبيد الله بن بسر الذي روى عنه صفوان بن عمرو حديث أبي أمامة ، أخو عبد الله بن بسر "
قلت : لم أجد ما قاله محمد بن إسماعيل البخاري في تاريخه الكبير .
وأما أبو نعيم في الحلية فقال : " تفرد به صفوان ، عن عبد الله بن بسر ، وقيل : عبد الله بن بشر ، وهو اليحصبي الحمصي ، يكنى أبا سعيد ، ورواه بقية بن الوليد ، عن صفوان مثله . روى صفوان ، عن عبد الله بن بسر المازني ، وله صحبة ، وعن عبد الله بن بشر ، ولذلك اشتبه على بعض الناس ، وهذا هو : عبد الله بن بسر " .
وقال الحافظ ابن حجر في التهذيب ، وساق ما قاله الترمذي : " وقال ابن أبي حاتم : عبيد الله بن بسر ، ويقال : عبد الله ، روى عن أبي أمامة ، وعنه صفوان بن عمرو . وقال الطبراني عبد الله بن بسر اليحصبي ، عن أبي أمامة ، وروى له هذا الحديث ، وحديثًا آخر من رواية بقية ، عن صفوان ، والله أعلم . وذكر أبو موسى المديني في ذيل الصحابة : عبيد الله بن بسر ، أخو عبد الله بسر ، قاله السلماني " . والذي نقله الحافظ عن ابن أبي حاتم موجود في الجرح والتعديل 2/2/308 .
ولكن العجب أن الإمام الحافظ محمد بن إسماعيل البخاري ، لم يترجم لعبيد الله بن بسر في تاريخه الكبير ولا الصغير ، مع ما نقله عنه الترمذي مما يوهم أنه في أحدهما . وإنما الذي فيه : " عبد الله بن بسر السلمي ، ثم المازني ، من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ( الكبير 3/1/14 ) ثم ذكر " عبد الله بن بسر " وليس المازني ، الجبراني " ، وهذا يروي عن عبد الله بن بسر المازني ، الصحابي ، وعن أبي أمامة الباهلي . ( مترجم في التهذيب أيضًا ) .
ولكن الإشارة التي تكاد تكون صريحة إلى هذا الخبر في كتاب البخاري ، فهي في ترجمة " عبيد الله بن بشير بن جرير البجلي " قال : " عن أبي أمامة رضي الله عنه عن ابن المبارك ، عن صفوان بن عمرو ، الشامي " ، ولا أدري كيف هذا ، لأن ابن أبي حاتم ترجم في الجرح والتعديل 2/2/308 " عبيد الله بن بسر " رقم : 1467 ، ثم يليه رقم : 1468 فقال : " عبيد الله بن بشير بن جرير البجلي ( روى عن ... ) ، روى عنه يونس بن أبي إسحق ، سمعت أبي يقول ذلك ويقول : هو مجهول " .
وكذلك فعل الذهبي في ميزان الاعتدال 2 : 164 ، وقال : " عبيد الله بن بسر . حمصي ، عن أبي أمامة ، وعنه صفوان بن عمرو وحده ، لا يعرف " ، فيقال هو " عبد الله الصحابي ، ويقال هو : " عبيد الله بن بسر الحبراني التابع ، وهو أظهر " ، ثم ذكر بعد " عبيد الله بن بشير البجلي " ، وقال : " فيه جهالة ، حدث عنه يونس بن أبي إسحق ليس إلا " .
فيكاد يكون واضحًا ، أن الذي وقع في التاريخ الكبير ( 3 / 1 / 374 ، 375 ) ، إنما هو خلط بين ترجمتين مختلفتين ، وأن ترجمة " عبيد الله بن بسر " قد سقط صدر منها من النسخة المطبوعة من التاريخ الكبير ، وتداخل بعضها في ترجمة أخرى ، ويرجح ذلك أن ابن أبي حاتم ، الذي ذكر الترجمتين جميعًا ، لم يتعرض لهذا في كتابه : " بيان خطأ محمد بن إسماعيل البخاري في تاريخه " ، ولو كان في أصل تاريخ البخاري مثل هذا ، لما فات ابن أبي حاتم ، فيكون ما نقله الترمذي عن البخاري من التاريخ الكبير ، وسقط من المطبوع.
(3) الأثران : 20631 ، 20632 - " إبراهيم ، أبو إسحق الطالقاني " ، هو " إبراهيم بن إسحق بن عيسى الطالقاني البناني " ، وربما قيل : " إبراهيم بن عيسى " ، منسوبًا إلى جده ، وهو مولى " بنانة " ، ثقة ، من شيوخ أحمد ، سمع ابن المبارك ، وبقية . و " الطالقان " ، بسكون اللام ، ويقال بفتحها ، بلدة بخراسان . وهو مترجم في التهذيب ، والكبير 1/1/273 ، وابن أبي حاتم في موضعين 1/1/86 ، 119 ، وتاريخ بغداد 6 : 24 .
و " عبدالله بن المبارك " ، أحد الأئمة الكبار ، مضى مرارًا كثيرة .
و " صفوان بن عمرو بن هرم السكسكي " ، ثقة ثبت مأمون ، مضى مرارًا منها : 7009 ، 12194 ، 12807 ، 13108 .
و " عبيد الله بن بسر " ، مصغرًا هكذا هو هنا ، وفي رواية أحمد في مسنده ، وفي سنن الترمذي . و " عبد الله بن بسر " في المستدرك للحاكم ، وحلية الأولياء لأبي نعيم . وفي ابن كثير نقلا عن المسند " عبيد الله بن بشر " ، وهو تصحيف .
وهذا الخبر من طريق ابن المبارك ، عن صفوان بن عمرو ، رواه أحمد في مسنده عن علي بن إسحق ، عن عبد الله بن المبارك ( المسند 5 : 265 ) .
ورواه الترمذي عن سويد بن نصر ، عن عبد الله بن المبارك ( في باب ما جاء في صفة شراب أهل النار )
ورواه أبو نعيم في الحلية 8 : 182 من طرق : نعيم بن حماد ، عن ابن المبارك ، ومعاذ بن أسد ، عن ابن المبارك ، ويحيي الحماني عنه ، ومحمد بن مقاتل عنه ، أربع طرق .
ورواه الحاكم في المستدرك 2 : 31 من طريق عبدان ، وهو عبد الله بن عثمان بن جبلة ، عن ابن المبارك ، وقال : " هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه " ، ووافقه الذهبي .
وفي " عبيد الله بن بسر " مقال . قال الترمذي ، وساق الخبر : " هذا حديث غريب ، هكذا قال محمد بن إسماعيل : " عن عبيد الله بن بسر " ، ولا يعرف " عبيد الله بن بسر " إلا في هذا الحديث. وقد روى صفوان بن عمرو عن " عبد الله بن بسر " صاحب النبي صلى الله عليه وسلم غير هذا الحديث ، وعبد الله بن بسر له أخ قد سمع من النبي صلى الله عليه وسلم ، وأخته قد سمعت من النبي صلى الله عليه وسلم ، وعبيد الله بن بسر الذي روى عنه صفوان بن عمرو حديث أبي أمامة ، أخو عبد الله بن بسر "
قلت : لم أجد ما قاله محمد بن إسماعيل البخاري في تاريخه الكبير .
وأما أبو نعيم في الحلية فقال : " تفرد به صفوان ، عن عبد الله بن بسر ، وقيل : عبد الله بن بشر ، وهو اليحصبي الحمصي ، يكنى أبا سعيد ، ورواه بقية بن الوليد ، عن صفوان مثله . روى صفوان ، عن عبد الله بن بسر المازني ، وله صحبة ، وعن عبد الله بن بشر ، ولذلك اشتبه على بعض الناس ، وهذا هو : عبد الله بن بسر " .
وقال الحافظ ابن حجر في التهذيب ، وساق ما قاله الترمذي : " وقال ابن أبي حاتم : عبيد الله بن بسر ، ويقال : عبد الله ، روى عن أبي أمامة ، وعنه صفوان بن عمرو . وقال الطبراني عبد الله بن بسر اليحصبي ، عن أبي أمامة ، وروى له هذا الحديث ، وحديثًا آخر من رواية بقية ، عن صفوان ، والله أعلم . وذكر أبو موسى المديني في ذيل الصحابة : عبيد الله بن بسر ، أخو عبد الله بسر ، قاله السلماني " . والذي نقله الحافظ عن ابن أبي حاتم موجود في الجرح والتعديل 2/2/308 .
ولكن العجب أن الإمام الحافظ محمد بن إسماعيل البخاري ، لم يترجم لعبيد الله بن بسر في تاريخه الكبير ولا الصغير ، مع ما نقله عنه الترمذي مما يوهم أنه في أحدهما . وإنما الذي فيه : " عبد الله بن بسر السلمي ، ثم المازني ، من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ( الكبير 3/1/14 ) ثم ذكر " عبد الله بن بسر " وليس المازني ، الجبراني " ، وهذا يروي عن عبد الله بن بسر المازني ، الصحابي ، وعن أبي أمامة الباهلي . ( مترجم في التهذيب أيضًا ) .
ولكن الإشارة التي تكاد تكون صريحة إلى هذا الخبر في كتاب البخاري ، فهي في ترجمة " عبيد الله بن بشير بن جرير البجلي " قال : " عن أبي أمامة رضي الله عنه عن ابن المبارك ، عن صفوان بن عمرو ، الشامي " ، ولا أدري كيف هذا ، لأن ابن أبي حاتم ترجم في الجرح والتعديل 2/2/308 " عبيد الله بن بسر " رقم : 1467 ، ثم يليه رقم : 1468 فقال : " عبيد الله بن بشير بن جرير البجلي ( روى عن ... ) ، روى عنه يونس بن أبي إسحق ، سمعت أبي يقول ذلك ويقول : هو مجهول " .
وكذلك فعل الذهبي في ميزان الاعتدال 2 : 164 ، وقال : " عبيد الله بن بسر . حمصي ، عن أبي أمامة ، وعنه صفوان بن عمرو وحده ، لا يعرف " ، فيقال هو " عبد الله الصحابي ، ويقال هو : " عبيد الله بن بسر الحبراني التابع ، وهو أظهر " ، ثم ذكر بعد " عبيد الله بن بشير البجلي " ، وقال : " فيه جهالة ، حدث عنه يونس بن أبي إسحق ليس إلا " .
فيكاد يكون واضحًا ، أن الذي وقع في التاريخ الكبير ( 3 / 1 / 374 ، 375 ) ، إنما هو خلط بين ترجمتين مختلفتين ، وأن ترجمة " عبيد الله بن بسر " قد سقط صدر منها من النسخة المطبوعة من التاريخ الكبير ، وتداخل بعضها في ترجمة أخرى ، ويرجح ذلك أن ابن أبي حاتم ، الذي ذكر الترجمتين جميعًا ، لم يتعرض لهذا في كتابه : " بيان خطأ محمد بن إسماعيل البخاري في تاريخه " ، ولو كان في أصل تاريخ البخاري مثل هذا ، لما فات ابن أبي حاتم ، فيكون ما نقله الترمذي عن البخاري من التاريخ الكبير ، وسقط من المطبوع.

(16/549)


20633 - حدثني محمد بن خلف العسقلاني قال ، حدثنا حيوة بن شريح الحمصيّ قال ، حدثنا بقية ، عن صفوان بن عمرو قال ، حدثني عبيد الله بن بسر ، عن أبي أمامه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، مثله سواءً. (1)
* * *
وقوله : ( ويأتيه الموت من كل مكان وما هو بميت ) ، فإنه يقول : ويأتيه الموت من بين يديه ومن خلفه ، وعن يمينه وشماله ، ومن كل موضع من أعضاء جسده ( وما هو بميت ) ، لأنه لا تخرج نفسه فيموت فيستريح ، ولا يحيا لتعلُّق نفسه بالحناجر ، فلا ترجع إلى مكانها ، كما : -
20634 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، في قوله : ( يتجرعه ولا يكاد يسبغه ويأتيه الموت من كل مكان وما هو بميت ) ، قال : تعلق نفسه عند حنجرته ، فلا تخرج من فيه فيموت ، ولا ترجع إلى مكانها من جوفه ، فيجد لذلك راحة ، فتنفعه الحياة.
20635 - حدثنا الحسن بن محمد قال ، حدثنا يزيد بن هارون قال ، حدثنا العوّام بن حوشب ، عن إبراهيم التيمي قوله : ( ويأتيه الموت من كل مكان ) ، قال : من تحت كل شَعَرة في جسده.
* * *
__________
(1) الأثر : 20633 - " محمد بن خلف بن عمار العسقلاني " ، شيخ الطبري ، مضى مرارًا كثيرة آخرها رقم : 12523 .
و " حيوة بن شريح بن يزيد الحضرمي الحمصي " ثقة ، مضى مرارًا آخرها رقم : 15378 .
وهذا الخبر قد مرت الإشارة إليه في التعليق السالف ، من طريق بقية بن الوليد عن صفوان بن عمرو .

(16/550)


مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لَا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ (18)

وقوله : ( ومن وَرائه عَذَابٌ غليظ ) ، يقول : ومن وراء ما هو فيه من العذاب يعني أمامه وقدامه (1) (عذاب غليظ) . (2)
القول في تأويل قوله عز ذكره : { مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ (18) }
قال أبو جعفر : اختلف أهلُ العربية في رافعِ " مَثَلُ " .
فقال بعض نحويي البصرة : إنما هو كأنه قال : ومما نقصّ عليكم مَثَلُ الذين كفروا ، ثم أقبل يفسّر ، كما قال : ( مَثَلُ الْجَنَّةِ ) [سورة الرعد : 35 ] ، وهذا كثير. (3)
* * *
وقال بعض نحويي الكوفيين : إنما المثل للأعمال ، ولكن العرب تقدّم الأسماء ، لأنها أعرفُ ، ثم تأتي بالخبر الذي تخبر عنه مع صاحبه. ومعنى الكلام : مَثَلُ أعمال الذين كفروا بربهم كرماد ، كما قيل : ( وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ ) [سورة الزمر : 60 ] ، ومعنى الكلام : (4) ويوم القيامة ترى وجوه الذين كذبوا على الله مسودة. قال : ولو خفض " الأعمال " جاز ، كما قال : ( يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ ) الآية [سورة البقرة : 217 ] ، . وقوله : ( مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ )
__________
(1) انظر تفسير " وراء " فيما سلف : 546 ، 475 ، تعليق : 1 .
(2) انظر تفسير " الغليظ " فيما سلف 7 : 341 / 14 : 360 ، 576 / 15 : 366 .
(3) انظر ما سلف قريبًا : 469 - 472
(4) انظر مجاز القرآن لأبي عبيدة 1 : 338 ، وسيبويه 1 : 77 .

(16/552)


[سورة الرعد : 35 ] . قال : فـ " تجري " ، هو في موضع الخبر ، كأنه قال : أن تجري ، وأن يكون كذا وكذا ، فلو أدخل " أن " جاز. قال : ومنه قول الشاعر : (1)
ذَرِينِي إِنَّ أَمْرَكِ لَنْ يُطَاعَا... وَمَا أَلْفَيْتِنِي حِلْمِي مُضَاعَا... (2)
قال : فالحلمُ منصوبٌ ب " ألفيتُ " على التكرير ، (3) قال : ولو رفعه كان صوابًا. قال : وهذا مثلٌ ضربه الله لأعمال الكفّار فقال : مَثَلُ أعمال الذين كفروا يوم القيامة ، التي كانوا يعملونها في الدنيا يزعمُون أنهم يريدون الله بها ، مَثَلُ رمادٍ عصفت الريح عليه في يومِ ريح عاصفٍ ، فنسفته وذهبت به ، فكذلك
__________
(1) هو عدي بن زيد بن العبادي ، ونسبه سيبويه لرجل من بجيله أو خثعم .
(2) سيبويه 1 : 77 ، 78 / والخزانة 2 : 368 ، 369 / والعيني بهامش الخزانة 4 : 192 / وسيأتي في التفسير 24 : 15 ( بولاق ) ، من أبيات عزيزة هذا أولها ، يقول بعده : ألاَ تِلْكَ الثَّعَالِبُ قَدْ تَعَاوَتْ ... عَلَيَّ وَحَالَفَتْ عُرْجًا ضِبَاعَا
لِتَاكُلَنِي ، فَمَرَّ لَهُنَّ لَحْمِي ... وأَذْرَقَ مِنْ حِذَارِي أَوْ أَتَاعَا
فَإِنْ لَمْ تَنْدَمُوا فَثَكِلْتُ عَمْرًا ... وَهَاجَرْتُ المُرَوَّقَ والسَّماعَا
وَلاَ وَضَعَتْ إِلَيَّ عَلَى فِرَاشٍ ... حَصَانٌ يَوْمَ خَلْوَتِهَا قِنَاعَا
وَلاَ مَلَكَتْ يَدَايَ عِنَانَ طِرْفٍ ... ولا أَبْصَرْتُ من شَمْسٍ شُعَاعَا
وخُطَّةِ مَاجِدٍ كَلَّفْتُ نَفْسِي ... إِذَا ضَاقُوا رَحُبْتُ بِهَا ذِرَاعَا
والبيتان الأول والثاني من هذه الأبيات ، في المعاني الكبير 867 ، واللسان ( مرد ) ( ذرق ) ( فرق ) . ولم أجد لهذه الأبيات خبرًا بعد ، وأتوهمها في أقوام تحالفوا على أذاه ، جعل بعضهم ثعالب لمكرها وخداعها ، وبعضها ضباعًا ، لدناءتها وموقها ، والضباع موصوفة بالحمق ( الحيوان 7 : 38 ) وقول صاحب الخزانة : " أراد بالثعالب ، الذين لاموه على جوده حسدًا ولؤمًا " قول مرغوب عنه . و " الضباع " عرج ، فيها خمع . و " تعاوت " تجمعت ، كما تتعاوى الذئاب فتجتمع . " ومر اللحم " ، و " أمر ، كان مرًا لا يستساغ . و " أذرق ، أي جعلها تذرق ، يقال : " ذرق الطائر ، إذا خذق بسلحه ، أي قذف ، وهو هنا مستعار . إشارة إلى أن ذا بطونهم قد أساله الخوف حتى صار كسلح الطير مائعًا . و " أتاع " حملهم على القيء يعني من الخوف أيضًا " تاع القيء يتيع " خرج . ويرى " فأفرق " وهو مثل " أذرق " في المعنى هنا . و " عمرو " المذكور في شعر عدي ، لا أكاد أشك أنه أخوه " عمرو بن زيد " ، ( الأغاني 2 : 105 ) قال : " كان لعدَي بن زيد أخوان ، أحدهما اسمه عمار ، ولقبه أبي ، والآخر اسمه عمرو ، ولقبه سمي " . و " المروق " ، الخمر ، لأنها تصفى بالراووق . و " السماع " ، الغناء ، يدعو على نفسه أن ينخلع من لذات الدنيا إذا لم يندموا على مغبة كيدهم له .
(3) " التكرير " ، هو البدل عند البصريين ، ويسميه الكوفيون أيضًا " التبيين " ، انظر ما سلف 529 تعليق : 2 .

(16/553)


أعمال أهل الكفر به يوم القيامة ، لا يجدون منها شيئًا ينفعهم عند الله فينجيهم من عذابه ، لأنهم لم يكونوا يعملونها لله خالصًا ، بل كانوا يشركون فيها الأوثان والأصنام .
يقول الله عز وجل : ( ذلك هو الضلال البعيد ) ، يعني أعمالهم التي كانوا يعملونها في الدنيا ، التي يشركون فيها مع الله شركاء ، هي أعمالٌ عُملت على غير هُدًى واستقامة ، بل على جَوْر عن الهُدَى بعيد ، وأخذٍ على غير استقامة شديد.
* * *
وقيل : ( في يوم عاصف ) ، فوصف بالعُصوف اليومَ ، (1) وهو من صفة الريح ، لأن الريح تكون فيه ، كما يقال : " يوم بارد ، ويوم حارّ " ، لأن البردَ والحرارة يكونان فيه ، (2) وكما قال الشاعر : (3)
* يَوْمَيْنِ غَيْمَيْنِ وَيَوْمًا شَمْسًا * (4)
فوصف اليومين بالغيمين ، وإنما يكون الغيم فيهما. وقد يجوز أن يكون أريد به : في يوم عاصف الريح ، فحذفت " الريح " ، لأنها قد ذكرت قبل ذلك ، فيكون ذلك نظير قول الشاعر : (5)
* إِذَا جَاءَ يَوْمٌ مُظْلِمُ الشَّمْسِ كَاسِفُ * (6)
يريد : كاسفُ الشمس. وقيل : هو من نعت " الريح " خاصة ، غير أنه
__________
(1) في المطبوعة حذف " اليوم " ، اجتراء وتحكمًا .
(2) انظر تفسير " عاصف " فيما سلف 15 : 51 .
(3) لم أعرف قائله .
(4) سيأتي في التفسير 24 : 67 ( بولاق ) ، وبعده هناك : * نَجْمَيْنِ بِالسَّعْدِ ونَجْمًا نَحْسَا *
(5) هو مسكين الدارمي .
(6) من أبيات خرجتها فيما سلف 7 : 520 ، تعليق : 3 . وانظر الخزانة 2 : 323 وصدر البيت : * وتَضْحَكُ عِرْفَانَ الدُّرُوعِ جُلُودُنَا *

(16/554)


لما جاء بعد " اليوم " أُتبع إعرابَهُ ، وذلك أن العرب تتبع الخفضَ الخفضَ في النعوت ، كما قال الشاعر : (1)
تُرِيكَ سُنَّةَ وَجْهٍ غَيْرِ مُقْرِفَةٍ... مَلْسَاءَ لَيْسَ بِهَا خَالٌ وَلا نَدَبُ (2)
فخفض " غير " إتباعًا لإعراب " الوجه " ، وإنما هي من نعت " السنَّة " ، والمعنى : سُنَّةَ وَجْه غَيْرَ مُقْرفة ، وكما قالوا : " هذا جُحْرُ ضَبٍّ خَرِبٍ " .
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
20636 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، في قوله : ( كرماد اشتدت به الريح ) ، قال : حملته الريح في يوم عاصف .
20637 - حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : ( مثل الذين كفروا بربهم أعمالهم كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف ) ، يقول : الذين كفروا بربهم وعبدوا غيرَه ، فأعمالهم يوم القيامة كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف ، لا يقدرون على شيء من أعمالهم ينفعهم ، كما لا يُقْدَر على الرماد إذا أُرْسِل في يوم عاصف. (3)
* * *
__________
(1) هو ذو الرمة .
(2) ديوانه : 4 ، من عقيلته المحجبة بالحسن . وهذا البيت من أبيات في صفة صاحبته مي .
و " السنة " ، ما أقبل عليك من الوجه وصفحة الحد مصقولا يلوح . و " غير مقرنة " ، لا يشوب معارفها ولا لونها شيء يهجنها ، وذلك من عتقها . و " الندب " ، أثر الجرح إذا لم يرتفع .
(3) في المطبوعة : " إذا أرسل عليه الريح في يوم عاصف " ، زاد ما لا معنى له .

(16/555)


وقوله : ( ذلك هو الضَّلال البعيد ) ، أي الخطأ البينُ ، البعيدُ عن طريق الحق. (1)
* * *
__________
(1) من أول : " وقوله : ذلك هو ... " ، ليس في المخطوطة ، ولست أدري من أين جاء به ناشر المطبوعة ، فتركته على حالة ، حتى أقطع بأنه ليس من كلام أبي جعفر .
وانظر تفسير " الضلال " ، و " البعيد " ، فيما سلف من فهارس اللغة .

(16/556)


أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (19) وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ (20)

القول في تأويل قوله عز ذكره : { أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ بِالْحَقِّ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (19) وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ (20) }
قال أبو جعفر : يقول عز ذكره لنبيّه محمد صلى الله عليه وسلم : ألم تر ، يا محمد ، بعين قلبك ، (1) فتعلم أن الله أنشأ السماوات والأرض بالحق منفردًا بإنشائها بغير ظهير ولا مُعين ( إن يشأ يذهبكم ويَأت بخلق جديد ) ، يقول : إن الذي تفرد بخلق ذلك وإنشائه من غير معين ولا شريك ، إن هو شاء أن يُذْهبكم فيفنيكم ، أذهبكم وأفناكم ، (2) ويأتِ بخلق آخر سواكم مكانكم ، فيجدِّد خلقهم ( وما ذلك على الله بعزيز ) ، يقول : وما إذهابكم وإفناؤكم وإنشاء خلقٍ آخر سواكم مكانَكُم ، على الله بممتنع ولا متعذّر ، لأنه القادر على ما يشاء. (3)
* * *
واختلفت القرأة في قراءة قوله : ( ألم تر أن الله خلق ) .
فقرأ ذلك عامة قرأة أهل المدينة والبصرة وبعض الكوفيين : (خَلَقَ) على " فعَل " .
* * *
__________
(1) انظر تفسير " الرؤية " فيما سلف 5 : 485 ، تعليق : 1 ، والمراجع هناك .
(2) انظر تفسير " الإذهاب " فيما سلف 14 : 161 ، تعليق : 1 ، والمراجع هناك .
(3) انظر تفسير " عزيز " فيما سلف : 511 ، تعليق : 4 ، والمراجع هناك .

(16/556)


وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعًا فَقَالَ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ قَالُوا لَوْ هَدَانَا اللَّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ (21)

وقرأته عامة قرأة أهل الكوفة : " خَالِقُ " ، على " فاعل " .
* * *
وهما قراءتان مستفيضتان ، قد قرأ بكل واحدة منهما أئمة من القرأة ، متقاربتا المعنى ، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيبٌ.
* * *
القول في تأويل قوله عز ذكره : { وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعًا فَقَالَ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ قَالُوا لَوْ هَدَانَا اللَّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ (21) }
قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بقوله : ( وبرزوا لله جميعًا ) ، وظهر هؤلاء الذين كفروا به يوم القيامة من قبورهم ، فصاروا بالبَراز من الأرض (1) (جميعًا) ، يعني كلهم (2) ( فقال الضعفاء للذين استكبروا ) ، يقول : فقال التُّبَّاع منهم للمتبوعين ، وهم الذين كانوا يستكبرون في الدنيا عن إخلاص العبادة لله واتباع الرسل الذين أرسلوا إليهم (3) ( إنَّا كنا لكم تَبَعًا ) ، في الدنيا .
* * *
و " التبع " جمع " تابع " ، كما الغَيَب جمع " غائب " .
* * *
وإنما عنوا بقولهم : ( إنا كنا لكم تبعًا ) ، أنهم كانوا أتباعهم في الدنيا يأتمرون
__________
(1) انظر تفسير " برز " فيما سلف 5 : 354 / 7 : 324 / 8 : 562 .
(2) انظر تفسير " الجميع " فيما سلف 15 : 212 .
(3) انظر تفسير " الضعفاء " فيما سلف 14 : 419 ، تعليق : 2 ، والمراجع هناك .
وتفسير " الاستكبار " فيما سلف 15 : 155 ، تعليق : 2 ، والمراجع هناك .

(16/557)


لما يأمرونهم به من عبادة الأوثان والكفر بالله ، وينتهون عما نهوهم عنه من اتّباع رسل الله ( فهل أنتم مغنون عنا من عذاب الله من شيء ) ، يعنون : فهل أنتم دافعون عنَّا اليوم من عذاب الله من شيء. (1)
* * *
وكان ابن جريج يقول نحو ذلك :
20638 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، قوله : ( وقال الضعفاء ) ، قال : الأتباع ( للذين استكبروا ) ، قال : للقادة.
* * *
قوله : ( لو هدانا الله لهديناكم ) ، يقول عز ذكره : قالت القادةُ على الكفر بالله لتُبَّاعها : ( لو هدانا الله ) ، يعنون : لو بَيَّن الله لنا شيئًا ندفع به عَذَابَه عنا اليوم ( لهديناكم ) ، لبيَّنا ذلك لكم حتى تدفعوا العذابَ عن أنفسكم ، ولكنا قد جزعنا مِن العذاب ، فلم ينفعنا جزعُنا منه وصَبْرُنا عليه (2) ( سواء علينا أجزعنا أم صبرنا ما لنا من محيص ) ، يعنون : ما لهم من مَراغٍ يرُوغون عنه . (3)
* * *
يقال منه : " حاص عن كذا " ، إذا راغ عنه ، " يَحِيصُ حَيْصًا ، وحُيُوصًا وحَيَصَانًا. (4)
* * *
20639 - وحدثني المثنى قال ، حدثنا سويد بن نصر قال ، أخبرنا ابن المبارك ، عن
__________
(1) انظر تفسير " الإغناء " فيما سلف 166 ، تعليق : 1 ، والمراجع هناك .
(2) انظر تفسير " الهدى " فيما سلف من فهارس اللغة ( هدي ) .
(3) في المطبوعة : " مزاغ " ، و " يزوغون " ، و " زاغ " ، كل ذلك بالزاي ، والذي في المخطوطة صواب محض .
(4) انظر تفسير " الحيص " فيما سلف 9 : 226 .

(16/558)


الحكم ، عن عُمَر بن أبي ليلى ، أحد بني عامر ، قال : سمعت محمد بن كعب القرظي يقول : بلغني ، أو ذُكِر لي أن أهل النار قال بعضهم لبعضٍ : يا هؤلاء ، إنه قد نزل بكم من العذاب والبلاء ما قد ترون ، فهلمَّ فلنصبر ، فلعل الصَّبر ينفعنا ، كما صبر أهل الدنيا على طاعة الله فنفعهم الصبر إذ صبروا . قال : فيُجْمعون رأيهم على الصَّبر . قال ، فصبروا ، فطال صبرهم ، ثم جزعوا فنادوا : ( سواءٌ علينا أجزِعْنَا أم صبرنَا ما لنا من محيص ) ، أي من منجًي. (1)
20640 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد ، في قوله : ( سواء علينا أجزعنا أم صبرنا ما لنا من محيص ) ، قال : إن أهل النار قال بعضهم لبعض : تعالوا ، فإنما أدركَ أهل الجنة الجنَّةَ ببكائهم وتضرُّعهم إلى الله ، فتعالوا نبكي ونتضرع إلى الله ! قال : فبكوا ، فلما رأوا ذلك لا ينفعهم قالوا :
__________
(1) الأثر : 20639 - " الحكم " ، هو " الحكم المكي " ، شيخ لعبد الله بن المبارك توقف الإمام البخاري في أمره . وقال ابن أبي حاتم : هو مجهول . قال البخاري : " الحكم المكي ، عن عمر بن أبي ليلى ، سمع منه ابن المبارك ومحمد بن مقاتل . وروى مروان ، يعني ابن معاوية ، عن الحكم بن أبي خالد ، مولى بني فزارة ، عن عمر بن أبي ليلى . قال الحسن بن علي ، وعن الحكم بن أبي خالد ، عن الحسن ، عن جابر ، في الجنة ، فلا أدري هذا من ذاك " . وكأن هذا إشارة إلى هذا الخبر نفسه .
وذكر في ترجمة " الحكم بن ظهير الفزاري " : " حدثنا محمد بن عبد العزيز ، قال حدثنا مروان ، عن الحكم بن أبي خالد ، مولى بني فزارة ، عن عمر بن أبي ليلى النميري ... " ، وقال مثل ما قال في ترجمة " الحكم المكي " . ثم ترجم " الحكم بن أبي خالد " ، ولم يذكر فيه شيئًا من هذا .
وأما ابن أبي حاتم فاقتصر على ترجمة " الحكم المكي " ، ولم يذكر فيه " الحكم بن أبي خالد " .
وقال ابن حجر في التهذيب : " قال ابن أبي خيثمة : سمعت يحيى بن معين يقول : كان مروان بن معاوية يغير الأسماء ، يعمي على الناس ، يقول : حدثنا الحكم بن أبي خالد ، وإنما هو الحكم بن ظهير " .
وانظر هذا الذي ذكرت في الكبير للبخاري 1/2/336 ، 339 ، 342 ، وابن أبي حاتم 1/2/131 ، وميزان الاعتدال 1 : 273 ، ولسان الميزان 2 : 341 ، وتهذيب التهذيب .
و " عمر بن أبي ليلي " ، قال البخاري في الكبير 3/2/190 : " روى عنه الحكم المكي ، وقال بعضهم : " عمر بن أبي ليلى ، أخو بني عامر ، سمع محمد بن كعب ، قوله " . وزاد البخارى في ترجمة " الحكم بن ظهير " في نسبته " النميري " ، كما سلف قريبًا . وقال مثل ذلك ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل 3/1/131 ، وزاد عن أبيه فقال : " سمعته يقول : هو مجهول " ، وفي ميزان الاعتدال 2 : 268 قال : " قلت حدث عنه ابن أبي فديك والواقدي " ، وزاد ابن حجر في لسان الميزان 4 : 224 قال : " وذكره ابن حبان في الثقات " .
وكان في المطبوعة : " عمرو بن أبي ليلى " ، غير ما هو ثابت في المخطوطة على الصواب .
و " محمد بن كعب القرظي " ، تابعي ثقة ، روى له الجماعة ، مضى مرارًا كثيرة لا تعد .
وهذا الخبر تالف ، لما علمت من أمر " الحكم المكي " وجهالته ، فإن كان هو " الحكم بن ظهير الفزاري " ، فهو متروك كما سلف مرارًا كثيرة .

(16/559)


وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (22)

تعالوا ، فإنَّما أدرك أهل الجنة الجنّةَ بالصبر ، (1) تعالوا نصبر ! فصبروا صبرًا لم يُرَ مثله ، فلم ينفعهم ذلك ، فعند ذلك قالوا : ( سواء علينا أجزعنا أم صبرنا ما لنا من محيص ) .
* * *
القول في تأويل قوله عز ذكره : { وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِي مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (22) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : وقال إبليس ، (2) ( لما قُضِي الأمر ) ، يعني لما أدخل أهلُ الجنة الجنةَ وأهل النار النارَ ، واستقرّ بكل فريق منهم قرارهم ، (3) أن الله وعدكم ، أيها الأتباعُ ، النارَ ، ووعدتكم النُّصْرة ، فأخلفتكم وعدي ، ووفى الله لكم بوعده ( وما كان لي عليكم من سلطان ) ، يقول : وما كان لي عليكم ، فيما وعدتكم من النصرة ، من حجة تثبت لي عليكم بصدق قولي (4) ( إلا أنْ دعوتكم ) . وهذا من الاستثناء المنقطع عن الأول ، كما تقول : " ما ضربْتُه إلا أنه أحمق " ، ومعناه : ولكن(دعوتكم فاستجبتم لي ) . يقول : إلا أن دعوتكم
__________
(1) تلعب الناشر بالكلام فجعله : " فما أدرك أهل الجنة الجنة إلا بالصبر " ، فجعل " فإنما " " فما " ثم زاد " إلا " ! فاعجب لما فعل .
(2) انظر تفسير " الشيطان " فيما سلف 1 : 111 ، 112 ، 296/ 12 : 51 .
(3) انظر تفسير " القضا " فيما سلف : 107 ، ، تعليق : 2 ، والمراجع هناك .
(4) انظر تفسير " السلطان " فيما سلف : 537 ، تعليق : 7 ، والمراجع هناك .

(16/560)


إلى طاعتي ومعصية الله ، فاستجبتم لدعائي (1) ( فلا تلوموني ) ، على إجابتكم إياي( ولوموا أنفسكم ) ، عليها ( ما أنا بمُصْرِخِكم ) ، يقول : ما أنا بمُغِيثكم ( وما أنتم بمصرخِيَّ ) ، ولا أنتم بمُغيثيَّ من عذاب الله فمُنْجِيَّ منه ( إني كفرت بما أشركتمون من قبل ) ، يقول : إني جَحدْت أن أكون شريكًا لله فيما أشركتموني فيه من عبادتكم (من قبل) في الدنيا ( إن الظالمين لهم عذاب أليم ) ، يقول : إن الكافرين بالله لهم عذاب " أليم " ، من الله موجِع . (2)
* * *
يقال : " أصْرَختُ الرجلَ " ، إذا أغثته " إصراخًا " ، و " قد صَرَخ الصَّارخ ، يصرُخ ، ويَصْرَخ ، قليلة ، وهو الصَّرِيخ والصُّراخ " . (3)
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
20641 - حدثني محمد بن المثنى قال ، حدثنا عبد الأعلى قال ، حدثنا داود ، عن عامر في هذه الآية : ( ما أنا بمُصْرخكم وما أنتم بمصرخيّ إني كفرت بما أشركتمون من قبل ) ، قال : خطيبان يقومان يومَ القيامة ، إبليسُ وعيسى ابن مريم . فأما إبليس فيقوم في حزبه فيقول هذا القول . وأما عيسى عليه السلام فيقول : ( مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ) ، [سورة المائدة : 117 ].
__________
(1) انظر تفسير الاستجابة " فيما سلف : 416 . تعليق : 1 ، والمراجع هناك .
(2) انظر تفسير " الإشراك " و " أليم " فيما سلف من فهارس اللغة ( شرك ) ( ألم ) .
(3) " يَصْرَخُ " بفتح الراء ، وكذلك هي مضبوطة في المخطوطة ، ومضارع " صرخ " بفتح الراء لم أجد من نص عليه في المعاجم ، فهذا موضع زيادة .

(16/561)


20642 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال ، حدثنا ابن علية ، عن داود ، عن الشعبي قال : يقوم خطيبان يوم القيامة ، أحدهما عيسى ، والآخر إبليس . فأما إبليس فيقوم في حزبه فيقول : ( إن الله وعدكم وعد الحق ) ، فتلا داود حتى بلغ : ( بما أشركتمون من قبل ) ، فلا أدري أتمَّ الآية أم لا ؟ وأما عيسى عليه السلام فيقال له : ( أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ ) ، فتلا حتى بلغ : ( إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ) [سورة المائدة : 116 - 118 ] .
20643 - حدثنا الحسن بن محمد قال ، حدثنا علي بن عاصم ، عن داود بن أبي هند ، عن عامر قال ، يقوم خطيبان يوم القيامة على رءوس الناس ، يقول الله عز وجل : ( يَاعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ ) إلى قوله( هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ ) ، [سورة المائدة : 116 - 119 ] . قال : ويقوم إبليس فيقول : ( وما كان لِيَ عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي فلا تلوموني ولوموا أنفسكم ما أنا بمصرخكم وما أنتم بمصرخيّ ) ، ما أنا بمغيثكم وما أنتم بمُغيثيَّ.
20644 - حدثنا الحسين قال ، حدثنا سعيد بن منصور قال ، حدثني خالد ، عن داود ، عن الشعبي ، في قوله : ( ما أنا بمصرخكم وما أنتم بمصرخي ) ، قال : خطيبان يقومان يوم القيامة ، فأما إبليس فيقول هذا ، وأما عيسى فيقول : ( مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ ) .
20645 - حدثنا المثنى قال ، حدثنا سويد بن نصر قال ، أخبرنا ابن المبارك ، عن رشدين بن سعد قال ، أخبرني عبد الرحمن بن زياد ، عن دخين الحجري ، عن عقبة بن عامر ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ذكر الحديث ، قال : يقول عيسى : ذلكم النبيُّ الأميّ. فيأتونني ، فيأذن الله لي أن أقوم ، فيثور من مجلسي من أطيب ريح شَمَّها أحدٌ ، حتى آتي ربي فيشفعني ، ويجعل

(16/562)


لي نُورًا إلى نور ، من شَعَر رأسي إلى ظفر قدمي ، ثم يقول الكافرون : قد وجد المؤمنون من يشفع لهم ، فقم أنت فاشفع لنا ، فإنكَ أنت أضللتنا . فيقوم ، فيثورُ من مجلسه أنتنُ ريح شَمَّها أحدٌ ، ثم يعظم لجهنّم ، (1) ويقول عند ذلك : (إن الله وعدكم وعد الحق ووعدكم فأخلفتكم) ، الآية. (2)
20646 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن رجل ، عن الحسن ، في قوله : ( وما كان لي عليكم من سلطانٍ ) ، قال : إذا كان يوم القيامة ، قام إبليس خطيبًا على منبر من نار ، فقال : ( إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم ) ، إلى قوله : ( وما أنتم بمصرخيّ ) ، قال : بناصريَّ ( إني كفرت بما أشركتمون من قبل ) ، قال : بطاعتكم إياي في الدنيا.
20647 - حدثني المثنى قال ، حدثنا سويد قال ، أخبرنا ابن المبارك عمن ذكره قال ، سمعت محمد بن كعب القرظي ، قال في قوله : ( وقال الشيطان لما قُضِى الأمر إن الله وعدكم وعد الحق ) ، قال : قام إبليس يخطبهُم فقال : ( إن الله وعدكم وعد الحق ) ، إلى قوله : ( ما أنا بمصرخكم ) ، يقول : بمغنٍ عنكم شيئًا
__________
(1) في المطبوعة " يعظم نحيبهم " ، غير ما اتفقت عليه المخطوطة ، والدر المنثور ، وابن كثير . وهو ما أثبت ، وأنا في شك من الكلمة ، وظني أنها " يُقَطِّمُ لجهنَّم " ، من قولهم " قَطَّم الشارب " إذا ذاق الشراب فكرهه ، وزوى وجهه ، وقطب .
(2) الأثر : 20645 - " رشدين بن سعد المصري " ، رجل صالح ، أدركته غفلة الصالحين ، فخلط في الحديث ، فليس يبالي عمن روى ، وهو ضعيف متروك ، عنده معاضيل ومناكير ، مضى مرارًا آخرها رقم : 17729 .
و " عبد الرحمن بن زياد بن أنعم الشعباني الإفريقي " ، رجل صالح ، ولكنه منكر الحديث ، وإن وثقه بعضهم ، قال أبو الحسن بن القطان . كان من أهل العلم والزهد بلا خلاف بين الناس ، ومن الناس من يوثقه ، ويربأ به عن حضيض رد الرواية ، والحق فيه أنه ضعيف ، لكثرة روايته المنكرات ، وهو أمر يعتري الصالحين " ، مضى أيضًا مرارًا آخرها رقم : 14337 .
و " دخين الحجري " ، هو " دخين بن عامر الحجري " ، " أبو ليلي المصري " ، روى عن عقبة بن عامر ، وعنه عبد الرحمن بن زياد ، ذكره ابن حبان في الثقات . مترجم في التهذيب ، والكبير 2/1/234 ، وابن أبي حاتم 1/2/442 .
وهذا خبر ضعيف الإسناد ، لا يقوم . وخرجه السيوطي في الدر المنثور 4 : 74 ، وزاد نسبته إلى ابن المبارك في الزهد ، وابن أبي حاتم ، والطبراني ، وابن مردويه ، وابن عساكر وقال : أخرجوه بسند ضعيف ، ونقله عن ابن أبي حاتم ، ابن كثير في تفسيره 4 : 557 .

(16/563)


( وما أنتم بمصرخيّ إني كفرت بما أشركتمون من قبل ) ، قال : فلما سمعوا مقالته مَقَتُوا أنفسهم ، قالا فنودوا : ( لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ ) ، الآية[سورة غافر : 10 ] .
20648 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سَعيد ، عن قتادة ، قوله : ( ما أنا بمصرخكم وما أنتم بمصرخي ) ، ما أنا بمغيثكم ، وما أنتم بمغيثي قوله : ( إني كفرت بما أشركتمون من قبل ) ، يقول : عصيت الله قبلكم.
20649 - حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : ( ما أنا بمصرخكم وما أنتم بمصرخيّ إني كفرت بما أشركتمون من قبل ) ، قال : هذا قولُ إبليس يوم القيامة ، يقول : ما أنتم بنافعيّ وما أنا بنافعكم (إني كفرت بما أشركتمون من قبل ) قال : شركته ، عبادته.
20650 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى وحدثني الحارث قال ، حدثنا الحسين قال : حدثنا ورقاء جميعًا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : ( بمصرخيّ ) ، قال : بمغيثيّ.
20651 - حدثنا الحسن بن محمد قال ، حدثنا شبابة قال ، حدثنا ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله.
20652 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن أبن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله.
20653 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله.
20654 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن أبي جعفر الرازي ، عن الربيع بن أنس قال : ما أنا بمنجيكم وما أنتم بمنجيَّ.

(16/564)


20655 - حدثنا يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد قال : خطيبُ السَّوْء الصادق إبليس ، (1) أفرأيتم صادقًا لم ينفعه صِدقهُ : ( إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم وما كان لي عليكم من سلطان ) ، أقهركم به ( إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي ) ، قال : أطعتموني ( فلا تلوموني ولوموا أنفسكم ) ، حين أطعتموني ( ما أنا بمصرخكم ) ، ما أنا بناصركم ولا مغيثكم ( وما أنتم بمصرخيّ ) ، وما أنتم بناصريّ ولا مغيثيّ لما بي ( إني كفرت بما أشركتمون من قبل إنّ الظالمين لهم عذاب أليم ) .
20656 - حدثني المثنى قال ، حدثنا سويد قال ، حدثنا ابن المبارك ، عن الحكم ، عن عُمَر بن أبي ليلى أحدِ بني عامر قال : سمعت محمد بن كعب القرظيّ يقول : ( وقال الشيطان لما قضي الأمر ) ، قال : قام أبليس عند ذلك ، يعني حين قال أهل جهنم : ( سواءٌ علينا أجزِعنا أم صبرنا مالنا من مَحِيص ) ، فخطبهم ، فقال : ( إن الله وعدكم وعد الحق ، ووعدتكم فأخلفتكم ) ، إلى قوله : ( ما أنا بمصرخكم ) ، يقول : بمُغْنٍ عنكم شيئًا ( وما أنتم بمصرخيَّ إني كفرت بما أشركتمون من قبل ) . قال : فلما سمعوا مقالته مَقَتُوا أنفسهم ، قال : فنودوا : ( لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ ) ، الآية [سورة غافر : 10 ] . (2)
* * *
__________
(1) في المطبوعة : " إبليس الصادق " ، أخر وقدم بلا داع مفهوم.
(2) الأثر : 20656 - " الحكم المكي " ، و " عمر بن أبي ليلى " ، انظر ما سلف تعليقًا على الرقم : 20639 ، وهو تتمة ذاك الخبر . وكان في المطبوعة هنا أيضًا " عمرو بن أبي ليلي " .

(16/565)


وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ (23) أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ (24)

القول في تأويل قوله عز ذكره : { وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلامٌ (23) أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ (24) }
* * *

(16/566)


تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (25)

القول في تأويل قوله تعالى : { تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (25) }
قال أبو جعفر : يقول عز ذكره : وأدخل الذين صدقوا الله ورسوله ، فأقرُّوا بوحدانية الله وبرسالة رُسله. وأنّ ما جاءت به من عند الله حق ( وعملوا الصالحات ) ، يقول : وعملوا بطاعة الله . فانتهوا إلى أمر الله ونهيه ( جنَّات تجري من تحتها الأنهار ) ، بساتين تجري من تحتها الأنهار ( خالدين فيها) ، يقول ماكثين فيها أبدًا (1) (بإذن ربهم ) ، يقول : أُدخلوها بأمر الله لهم بالدخول( تحيتهم فيها سلامٌ ) ، (2) وذلك إن شاء الله كما : -
20657 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال ، قوله : ( تحيتهم فيها سلامٌ ) ، قال : الملائكة يسلِّمون عليهم في الجنة.
* * *
وقوله : ( ألم تر كيف ضربَ الله مَثلا كلمة طيبه كشجرة طيبة ) ، يقول تعالى ذكره لنبيّه محمد صلى الله عليه وسلم : ألم تر ، يا محمد ، بعين قلبك ، (3)
__________
(1) قوله : " يقول : ماكثين فيها أبدًا " ، ساقط من المطبوعة .
(2) انظر تفسير ألفاظ الآية فيما سلف من فهارس اللغة ( أمن ) ، ( صلح ) ، ( جنن ) ، ( نهر ) ، ( خلد ) ، ( أذن ) .
وانظر تفسير " التحية " فيما سلف 8 : 586 .
(3) انظر تفسير " الرؤية " فيما سلف : 556 ، تعليق : 2 ، والمراجع هناك .

(16/566)


فتعلم كيف مثَّل الله مثَلا وشبَّه شبَهًا (1) (كلمة طيبة) ، ويعني بالطيبة : الإيمانَ به جل ثناؤه ، (2) كشجرة طَيّبة الثمرة ، وترك ذكر " الثمرة " استغناء بمعرفة السَّامعين عن ذكرها بذكر " الشَّجرة " . وقوله : ( أصلها ثابت وفرعها في السماء) ، يقول عز ذكره : أصلُ هذه الشجرة ثابتٌ في الأرض " وفرعها " ، وهو أعلاها في " السماء " ، يقول : مرتفع علُوًّا نحوَ السماء. وقوله : ( تؤتي أكُلَهَا كل حين بإذن ربّها ) ، يقول : تطعم ما يؤكل منها من ثمرها كلّ حين بأمرِ ربها (3) (ويضرب الله الأمثال للناس ) ، يقول : ويمثِّل الله الأمثال للناس ، ويشبّه لهم الأشباهَ (4) ( لعلهم يتذكرون ) ، يقول : ليتذكروا حُجَّة الله عليهم ، فيعتبروا بها ويتعظوا ، فينزجروا عما هم عليه من الكفر به إلى الإيمان. (5)
* * *
وقد اختلف أهل التأويل في المعنى بالكلمة الطيبة .
فقال بعضهم : عُني بها إيمانُ المؤمن.
* ذكر من قال ذلك :
20658 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس ، قوله : ( كلمة طيبة ) ، شهادةُ أن لا إله إلا الله ( كشجرة طيبة ) ، وهو المؤمن ( أصلها ثابتٌ ) ، يقول : لا إله إلا الله ، ثابتٌ في قلب المؤمن ( وفرعها في السماء ) ، يقول : يُرْفَع بها عملُ المؤمن إلى السماء.
__________
(1) انظر تفسير " ضرب مثلا " فيما سلف 1 : 403 .
(2) انظر تفسير " الطيب " فيما سلف 13 : 165 ، تعليق : 3 ، والمراجع هناك .
(3) انظر تفسير " الأكل " فيما سلف : 472 ، تعليق 3 ، والمراجع هناك .
وتفسير " الإذن " فيما سلف من فهارس اللغة ( أذن ) .
(4) انظر تفسير " ضرب مثلا " فيما سلف 1 : 403.
(5) انظر تفسير " التذكر " فيما سلف من فهارس اللغة ( ذكر ) .
وانظر القول في " لعل " في مباحث العربية .

(16/567)


20659 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع بن أنس : ( كلمة طيبة ) ، قال : هذا مَثَلُ الإيمان ، فالإيمان الشَّجرة الطيبة ، وأصله الثابت الذي لا يزول الإخلاصُ لله ، وفرعُه في السماء ، فَرْعُه خشْية الله.
20670 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج قال ، قال مجاهد : ( ألم تر كيف ضرب الله مثلا كلمةً طيبة كشجرة طيبة ) ، قال : كنخلة قال ابن جريج ، وقال آخرون : " الكلمة الطيبة " ، أصلها ثابت ، هي ذات أصل في القلب (1) ( وفرعها في السماء ) ، تَعْرُجُ فلا تُحْجَب حتى تنتهي إلى الله.
* * *
وقال آخرون : بل عُنِي بها المؤمن نفسُه.
* ذكر من قال ذلك :
20671 - حدثني محمد بن سعد قال ، ثني أبي قال ، ثني عمي قال ، ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : ( ألم تر كيف ضرب الله مثلا كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها ) ، ، يعني بالشجرة الطيبة المؤمنَ ، ويعني بالأصل الثابت في الأرض ، وبالفرع في السماء ، يكون المؤمن يعمَلُ في الأرض ، ويتكلَّم ، فيبلغ عمله وقولُه السَّماءَ وهو في الأرض.
20672 - حدثنا أحمد قال ، حدثنا أبو أحمد قال ، حدثنا فضيل بن مرزوق ، عن عطية العوفي في قوله : ( ضرب الله مثلا كلمة طيبة كشجرة طيبة ) ، قال : ذلك مثل المؤمن لا يزال يخرُج منه كلام طيبٌ وعمل صالح يَصْعَد إليه.
20673 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين ، حدثني حجاج ، عن
__________
(1) في المطبوعة : " في ذات أصل " ، وهو خطأ بلا ريب .

(16/568)


أبي جعفر ، عن الربيع بن أنس قال : " أَصْلُهَا ثَابِتٌ فِي الأرْضِ " ، وكذلك كان يقرؤها. قال : ذلك المؤمنُ ضُرِبَ مثله . قال : الإخلاصُ لله وحده وعبادته لا شريك له ، قال : ( أصلها ثابت ) ، قال : أصل عمله ثابتٌ في الأرض ( وفرعها في السماء ) ، قال : ذكرُه في السماء.
* * *
واختلفوا في هذه " الشجرة " التي جعلت للكلمة الطيبة مثلا .
فقال بعضهم : هي النخلة.
* ذكر من قال ذلك :
20674 - حدثنا ابن المثنى قال ، حدثنا محمد بن جعفر قال ، حدثنا شعبة ، عن معاوية بن قرة قال : سمعت أنس بن مالك في هذا الحرف : ( كشجرة طيبة ) ، قال : هي النخلة.
20675 - حدثنا الحسن بن محمد قال ، حدثنا أبو قطن قال ، حدثنا شعبة ، عن معاوية بن قرة ، عن أنس ، مثله.
20676 - حدثنا الحسن قال ، حدثنا شبابة قال ، حدثنا شعبة ، عن معاوية بن قرة قال ، سمعت أنس بن مالك يقول : ( كلمة طيبة كشجرة طيبة ) ، قال : النخل. (1)
20677 - حدثني يعقوب والحسن بن محمد قالا حدثنا ابن علية قال ، حدثنا شعيب قال ، قال خرجت مع أبي العاليةِ نريد أنس بن مالك ، قال : فأتيناه ، فدعا لنا بقِنْوٍ عليه رُطَبٌ ، (2) فقال : كلوا من هذه الشجرةِ التي قال الله عز وجل : ( ضربَ الله مثلا كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابث
__________
(1) الآثار : 20674 - 20676 - هذا خبر صحيح الإسناد ، من طرقه الثلاث ، موقوفًا على أنس . وانظر التعليق على الآثار التالية .
(2) " القنو " ، بكسر فسكون ، وجمعه " أقناء " و " قنوان " بكسر فسكون ، وهو العذق عذق النخلة ، بما فيه من الرطب ، وهو " الكباسة " ، بكسر الكاف .

(16/569)


وفرعها في السماء ) ، وقال الحسن في حديثه : " بقِنَاع " . (1)
20678 - حدثنا خلاد بن أسلم قال ، أخبرنا النضر بن شميل قال ، أخبرنا حماد بن سلمة قال ، أخبرنا شعيب بن الحبحاب ، عن أنس : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أُتِي بقِناع بُسْر ، (2) فقال : (مثل كلمة طيبة كشجرة طيبة) قال : هي النخلة.
20679 - حدثنا سوّار بن عبد الله قال ، حدثنا أبي قال ، حدثنا حماد بن سلمة ، عن شعيب بن الحبحاب ، عن أنس : أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أتِى بقِناع فيه بُسْر ، فقال : (مثل كلمة طيبة كشجرة طيبة) قال : " هي النخلة. قال شعيب ، فأخبرت بذلك أبا العالية فقال : كذلك كانُوا يقولون.
20680 - حدثني المثنى قال ، حدثنا حجاج قال ، حدثنا حماد بن سلمة ، عن شُعيب بن الحَبْحاب قال : كنا عند أنس ، فأُتينا بطَبَق ، أو قِنْع ، عليه رُطب ، فقال : كل يا أبا العالية ، فإن هذا من الشَّجرة التي ذكر الله جلّ وعزّ في كتابه : ( ضرب الله مثلا كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلُها ثابت ) .
20681 - حدثني المثنى قال ، حدثنا الحجاج بن المنهال قال ، حدثنا مهدي بن ميمون ، عن شعيب بن الحبحاب قال ، كان أبو العالية يأتيني ، فأتاني يومًا في منزلي بعد ما صلَّيت الفجر ، فانطلقتُ معه إلى أنس بن مالك ، فدخلنا معه إلى أنس بن مالك ، فجيءَ بطبق عليه رُطَب فقال أنس لأبي العالية : كل ، يا أبا العالية ، فإن هذه من الشجرة التي قال الله في كتابه : ( أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللهُ مَثَلا كَلِمَةً طَيِّبَةٍ كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ ثَابِتٍ أَصْلُهَا ) ، قال : هكذا قرأها يومئذ أنس. (3)
__________
(1) " القناع " ، بكسر القاف ، و " القنع " ، بكسر فسكون ، هو الطبق الذي يؤكل عليه الطعام ، أو الذي تؤكل فيه الفاكهة ، ويقال هو للرطب خاصة . و " البسر " . بضم فسكون ، التمر قبل أن يرطب ، وهو ما لم يلون ولم ينضج ، فإذا نضج فقد أرطب ، فهو رطب .
(2) " القناع " ، بكسر القاف ، و " القنع " ، بكسر فسكون ، هو الطبق الذي يؤكل عليه الطعام ، أو الذي تؤكل فيه الفاكهة ، ويقال هو للرطب خاصة . و " البسر " . بضم فسكون ، التمر قبل أن يرطب ، وهو ما لم يلون ولم ينضج ، فإذا نضج فقد أرطب ، فهو رطب .
(3) الآثار : 20677 - 20681 - حديث شعيب بن الحبحاب ، عن أنس ، مروي هنا من خمس طرق : من طريقين مرفوعًا ، من رواية حماد بن سلمة ، عن شعيب ، ( 20678 ، 20679 ) ، ثم من رواية حماد عن شعيب أيضًا موقوفًا ، ( 20680 ) ، ثم من طريقين موقوفًا ، من رواية ابن علية ، عن شعيب ، ومهدي بن ميمون عن شعيب . ( 20677 ، 20681 ) .
فالمرفوع ، أخرجه الحاكم في المستدرك 2 : 352 ، وقال : " هذا حديث صحيح على شرط مسلم ، ولم يخرجاه " ، وأخرجه الترمذي في تفسير هذه السورة . مطولا ، عن طريق أبي الوليد ، عن حماد بن سلمة ، عن شعيب ، ثم قال : " حدثنا قتيبة ، حدثنا أبو بكر بن شعيب بن الحبحاب ، عن أبيه ، عن أنس بن مالك نحوه بمعناه ، ولم يرفعه ، ولم يذكر قول أبي العالية ( 20679) . وهذا أصح من حديث حماد بن سلمة .. وروى غير واحد مثل هذا موقوفًا . ولا نعلم أحدًا رفعه غير حماد بن سلمة . ورواه معمر ، وحماد بن زيد ، وغير واحد ، ولم يرفعوه . حدثنا أحمد بن عبدة الضبي . حدثنا حماد بن زيد ، وعن شعيب بن الحبحاب . عن أنس بن مالك . نحو حديث عبد الله بن أبي بكر بن شعيب بن الحبحاب ، ولم يرفعه " .
وخرج المرفوع السيوطي في الدر المنثور 4 : 76 ، ، وزاد نسبته إلى النسائي ، والبزار ، وأبي يعلى ، وابن أبي حاتم ، وابن حبان ، وابن مردويه ، وذكره . ابن كثير في تفسيره 4 : 561 .

(16/570)


20682 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا طلق قال ، حدثنا شريك ، عن السدي ، عن مرة ، عن عبد الله ، مثله. (1)
20683 - حدثني الحارث قال ، حدثنا عبد العزيز قال ، حدثنا عبد الغفار بن القاسم ، عن جامع بن أبي راشد ، عن مُرَّة بن شراحيل الهمداني ، عن مسروق : ( كشجرة طيبة ) ، قال : النخلة.
20684 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى ح وحدثني الحارث قال ، حدثنا الحسن [قال ، حدثنا ورقاء جميعًا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : ( كشجرة طيبة ) ، قال : كنخلة.
20685 - حدثنا الحسن ] (2) قال ، حدثنا شبابة قال ، حدثنا ورقاء ح وحدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل جميعًا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله.
__________
(1) الأثر : 20682 - " طلق " ، هو " طلق بن غنام بن طلق النخعي " ، سلف برقم : 20000 ، روى عنه أبو كريب .
و " شريك " ، هو " شريك بن عبد الله النخعي " القاضي ، روى عنه طلق ، مضى مرارًا كثيرة .
وأمام هذا الخبر علامة في المخطوطة هكذا " .. " للدلالة على الشك ، وصدق فإنه لم يمض ذكر خبر عبد الله بن مسعود قبل ذلك ، فيقول : " مثله .. وقد نقله ابن كثير في تفسيره 4 : 559 ، فقال : هكذا رواه السدي ، عن مرة ، عن ابن مسعود قال : " هي النخلة " ، وكذلك السيوطي في الدر المنثور 4 : 76 ، فأخشى أن يكون سقط قبل هذا الخبر خبر فيه نص كلام ابن مسعود
(2) ما بين القوسين ، من منتصف الخبر السالف ، إلى هذا الموضع ، ساقط من المطبوعة .

(16/571)


20686 - حدثنا أحمد قال ، حدثنا أبو أحمد قال ، حدثنا إسرائيل ، عن السدي ، عن مرة ، عن عبد الله ، مثله.
20687 - حدثني المثنى قال ، حدثنا مُعَلَّى بن أسد قال ، حدثنا خالد قال ، أخبرنا حصين ، عن عكرمة في قوله : ( كشجرة طيبة ) قال : هي النخلة ، لا تزالُ فيها منفعةٌ.
20688 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الرحمن بن مغراء ، عن جويبر ، عن الضحاك ، في قوله : ( كشجرة طيبة ) ، قال : ضرب الله مثل المؤمن كمثل النخلة (تؤتي أكلها كل حين).
20689 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : ( مثل كلمة طيبة كشجرة طيبة ) ، كنا نُحَدَّث أنها النخلة .
20690 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : ( كشجرة طيبة ) ، قال : يزعمون أنها النخلة.
20691 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد ، في قوله : ( تؤتى أكلها كل حين ) ، قال : هي النخلة.
20692 - حدثنا الحسن بن محمد قال ، حدثنا محمد بن عبيد قال ، حدثنا الأعمش ، عن المنهال بن عمرو ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، في قوله : ( وفرعها في السماء ) ، قال : النخل. (1)
20693 - حدثنا الحسن (2) قال ، حدثنا سعيد بن منصور قال ، حدثنا خالد ، عن الشيباني ، عن عكرمة : ( تؤتي أكلها كل حين ) ، قال : هي النخلة.
20694 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر قال ، قال شعيب بن الحبحاب ، عن أنس بن مالك : " الشجرة الطيبة " ، النخلة.
__________
(1) في المطبوعة : " النخلة " .
(2) في المطبوعة : " قال حدثنا الحسن " ، زاد ما لا مكان له .

(16/572)


وقال آخرون : بل هي شجرة في الجنة.
* ذكر من قال ذلك :
20695 - حدثنا الحسن بن محمد قال ، حدثنا عفان قال ، حدثنا أبو كدينة قال ، حدثنا قابوس بن أبي ظبيان ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، في قول الله جلّ وعَزّ : ( ضرب الله مثلا كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها ) ، قال : هي شجرة في الجنة. (1)
* * *
قال أبو جعفر : وأولى القولين بالصواب في ذلك قولُ من قال : هي " النخلة " ، لصحَّة الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بما : -
20696 - حدثنا به الحسن بن محمد قال ، حدثنا سفيان بن عيينة ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد قال ، صحبتُ ابنَ عمر إلى المدينة ، فلم أسمعه يُحدِّث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا حديثًا واحدًا قال ، كنّا عند النبي صلى الله عليه وسلم ، فأتي بجُمَّار فقال : من الشَّجر شجرةٌ مَثَلُها مثلُ الرَّجُل المسلم. فأردت أن أقول " هي النخلة " ، فإذا أنا أصغرُ القوم ، فسكتُّ ، [فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : هي النخلة] . (2)
__________
(1) الأثر : 20695 - " أبو كدينة " ، " يحيى بن المهلب البجلي " ، ثقة ، ربما أخطأ ، يعتبر به ، سلفت ترجمته : 4193 ، 5994 ، 9745 .
و " قابوس بن أبي ظبيان الجنبي " ، ضعيف ، كان رديء الحفظ ، ينفرد عن أبيه بما لا أصل له ، فربما رفع المراسيل ، وأسند الموقوف ، مضى برقم : 9745 ، 10682 ، 16679 .
وأبوه " أبو ظبيان " ، اسمه " حصين بن جندب الجنبي " ، ثقة ، روى له الجماعة ، مضى برقم : 9745 ، 10683 ، 16679 .
(2) الأثر : 20696 - إسناده صحيح ، رواه من هذه الطريق أحمد في مسنده رقم : 4599 ، ورواه أحمد أيضًا من طريق شريك ، عن سلمة بن كهيل . عن مجاهد ، مطولا ومختصرًا ( 5647 ، 5955 ) ورواه البخاري في صحيحة ( الفتح 1 : 151 ) ، ومسلم في صحيحة ( 17 : 152 ) من ثلاث طر ق : من طريق أيوب ، عن أبي الخليل الضبعي ، عن مجاهد ، ومن طريق سفيان بن عيينة ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، ومن طريق ابن نمير ، عن أبيه ، عن سيف ، عن مجاهد .
وكان أمام الخبر في المخطوطة حرف ( ط ) ، إشارة إلى ما فيه من النقص الذي أثبته عن مسند أحمد ، ووضعته بين قوسين .

(16/573)


20697 - حدثنا الحسن قال ، حدثنا يزيد بن هارون قال أخبرنا سليمان ، عن يوسف بن سَرْج ، عن رجل ، عن ابن عمر ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : هل تدرُون ما الشجرة الطيبة ؟ قال ابن عمر : فأردت أنْ أقول " هي النخلة " ، فمنعني مكان عُمَر ، فقالُوا : الله ورسوله أعلم ! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : هي النَّخْلة. (1)
20698 - حدثنا الحسن ، فال : حدثنا يحيى بن حماد قال ، حدثنا عبد العزيز قال ، حدثنا عبد الله بن دينار ، عن ابن عمر قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يومًا لأصحابه : إن شجرةً من الشجر لا تَطرحُ ورقَها مثل المؤمن ؟ قال : فوقع الناس في شجر البَدْو ، ووقع في قلبي أنها النخلة ، فاستحييت ، حتى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : هي النخلة. (2)
20699 - حدثنا الحسن قال ، حدثنا عاصم بن علي قال ، حدثنا عبد العزيز بن مسلم القسملي قال ، حدثنا عبد الله بن دينار ، عن ابن عمر ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : إنّ من الشجر شجرةً لا يسقط ورَقها ، وهي مثل
__________
(1) الأثر : 20697 - " سليمان " ، هو " سليمان بن طرخان التيمي " ، مضى مرارًا كثيرة . و " يوسف بن سرج " ، بالجيم ، نص على ذلك عبد الغني ، في المؤتلف والمختلف : 69 ، والذهبي في المشتبه : 356 ، روى حديثًا مرسلا ، روى عنه سليمان التيمي ، مترجم في الكبير للبخاري 4/2/373 وابن أبي حاتم 4/2/223 : وكأنهما أشارا إلى هذا الخبر .
وكان في المطبوعة هنا : " سرح " بالحاء ، وكذلك في المخطوطة ، وإن كانت تغفل أحيانًا بعض النقط .
(2) الأثر : 20698 - " عبد العزيز " ، هو " عبد العزيز بن عبد الله بن أبي سلمة الماجشون " ، أحد الأعلام ، روى له الجماعة ، مترجم في التهذيب ، والكبير 3/2/12 ، وابن أبي حاتم 2/2/386 .
وهذا الخبر رواه أحمد في مسنده : 6052 ، من طريق عبد العزيز الماجشون ، عن عبد الله ابن دينار ، مطولا ، ورواه من طريق مالك " عن عبد الله بن دينار ، مطولا : 5274 . ورواه البخاري في صحيحة من هذه الطريق ( الفتح 1 : 203 ) ، ورواه من طريق إسماعيل بن جعفر ، عن عبد الله بن دينار ( الفتح 1 : 133 ، 134 ) ، ومن طريق سليمان بن بلال عن عبد الله ( الفتح 1 : 136 ) . ورواه مسلم في صحيحه ( 17 : 153 ) من طريق إسماعيل بن جعفر ، عن عبد الله .
وانظر التعليق على الخبر التالي .

(16/574)


المؤمن ؛ فتحدثوني ما هي ؟ فذكر نحوه. (1)
20700 - حدثنا الحسن قال ، حدثنا علي قال ، حدثنا يحيى بن سعد قال ، حدثنا عبيد الله قال ، حدثني نافع ، عن عبد الله قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أخبروني بشجرة كمثل الرجل المسلم ، تُؤتي أكلها كل حين ، لا يتحاتُّ ورقها ؟ قال : فوقع في نفسي أنها النَّخلة ، فكرهت أن أتكلم وثّمَّ أبو بكر وعمر ، فلما لم يتكلموا ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : هي النخلة. (2)
20701 - حدثنا الحسن قال ، حدثنا محمد بن الصباح قال ، حدثنا إسماعيل ، عن عبيد الله ، عن نافع ، عن ابن عمر ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، نحوه. (3)
* * *
واختلف أهل التأويل في معنى " الحين " الذي ذكر الله عز وجل في هذا الموضع فقال : ( تؤتي أكلَها كلَّ حِين بإذن ربِّها ) .
فقال بعضهم : معناه : تؤتي أكلَها كلّ غَداةٍ وعَشِيَّة.
* ذكر من قال ذلك :
20702 - حدثنا الحسن بن محمد قال ، حدثنا أبو معاوية قال ، حدثنا
__________
(1) الأثر : 20699 - " عبد العزيز بن مسلم القسملي " ، صالح الحديث ثقة ، مترجم في التهذيب ، والكبير 3/2/28 ، وابن أبي حاتم 2/2/394 ، وهذه طريق أخرى للخبر السالف .
(2) الأثر : 20700 - " يحيى بن سعيد بن فروخ " ، القطان ، الحافظ ، ثقة ، روى له الجماعة ، مضى مرارًا كثيرة .
و " عبيد الله " ، هو " عبيد الله بن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب " ، مضى مرارًا . وهذا حديث صحيح رواه البخاري في صحيحه ( الفتح 1 : 286 ) مطولا ، من طريق عبيد بن إسماعيل عن أبي أسامة ، عن عبيد الله بن عمر ، ورواه مسلم في صحيحة ( 17 : 155 ) عن أبي بكر بن أبي شيبة ، عن أبي أسامة .
وسيأتي من طريق أخرى .
(3) الأثر : 20701 - " محمد بن الصباح الدولابي " ، البزاز ، روى له الجماعة ، مضى برقم : 20514 .
و " إسماعيل " ، هو " إسماعيل بن زكريا الخلقاني الأسدي " ، لقبه " شقوصا " ، روى له الجماعة ، مترجم في التهذيب ، والكبير 1/1/355 ، وابن أبي حاتم 1/1/170 .

(16/575)


الأعمش ، عن أبي ظبيان ، عن ابن عباس قال : " الحين " قد يكون غُدْوَة وَعشيّة.
20703 - حدثنا الحسن بن محمد قال ، حدثنا محمد بن عبيد قال ، حدثنا الأعمش ، عن أبي ظبيان ، عن ابن عباس في قوله : ( تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها ) ، قال : غُدْوةً وعشيّةً.
20704 - حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا يحيى قال ، حدثنا سفيان ، عن الأعمش ، عن أبي ظبيان ، عن ابن عباس ، مثله.
20705 - حدثنا محمد بن المثنى قال ، حدثنا محمد بن أبي عدي ، عن شعبة ، عن سليمان ، عن أبي ظبيان ، عن ابن عباس ، بمثله.
20706 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا طلق ، عن زائدة ، عن الأعمش ، عن أبي ظبيان ، عن ابن عباس ، مثله.
20707 - حدثنا الحسن قال ، حدثنا علي بن الجعد قال ، حدثنا شعبة ، عن الأعمش ، عن أبي ظبيان ، عن ابن عباس في قوله : ( تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها ) ، قال : بُكْرَة وعشيًا.
20708 - حدثنا أحمد قال ، حدثنا أبو أحمد قال ، حدثنا شريك ، عن الأعمش ، عن أبي ظبيان ، عن ابن عباس : ( تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها ) ، قال : بكرة وعشية.
20709 - حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : ( تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها ) ، قال : يذكر الله كلّ ساعة من الليل والنهار.
20710 - حدثنا الحسن قال ، حدثنا عفان قال ، حدثنا أبو كدينة قال ، حدثنا قابوس ، عن أبيه ، عن ابن عباس : ( تؤتي أكها كل حين بإذن رَبها ) ، قال : غدوة وعشية.

(16/576)


20711 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الرحمن بن مغراء ، عن جويبر ، عن الضحاك في قوله : ( تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها ) ، قال : المؤمن يطيع الله بالليل والنهار وفي كل حينٍ.
20712 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع بن أنس : ( تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها ) ، يصعَدُ عمله أولَ النهار وآخره.
20713 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن أبي جعفر ، عن الربيع بن أنس : ( تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها ) ، قال : يصعد عمله غُدوة وعشيَّة.
20714 - حدثت عن الحسين قال ، سمعت أبا معاذ قال ، أخبرنا عبيد بن سليمان قال ، سمعت الضحاك يقول في قوله : ( تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها ) ، قال : تخرج ثمرتها كُلَّ حين. وهذا مثلُ المؤمن يعمل كل حين ، كل ساعة مِن النهار ، وكل ساعة من الليل ، وبالشتاء والصيف ، بطاعة الله.
* * *
وقال آخرون : معنى ذلك : تؤتي أكلها كل ستة أشهر ، من بين صِرَامها إلى حَمْلها. (1)
* ذكر من قال ذلك :
20715 - حدثنا محمد بن بشار قال ، حدثنا يحيى قال ، حدثنا سفيان ، عن طارق بن عبد الرحمن ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : " الحين " ، ستة أشهر.
20716 - حدثني يعقوب ، قال ، حدثنا ابن علية قال ، أخبرنا أيوب قال ، قال عكرمة : سُئلت عن رجل حَلَف أن لا يصنع كذا وكذا إلى حين ؟ فقلت :
__________
(1) " صرام النخل " ، بكسر الصاد ، هو قطع الثمرة واجتناؤها من النخلة .

(16/577)


إن من الحين حينًا يُدْرَك ، ومن الحين حينًا لا يُدْرَك ، فالحين الذي لا يدرك قوله : ( وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ ) [سورة ص : 88 ] ، والحين الذي يدرك ، ( تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها ) ، قال : وذلك من حين تُصْرَم النخلة إلى حين تُطْلِعُ ، (1) وذلك ستَّة أشهر.
20717 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا وكيع ، عن سفيان ، عن ابن الأصبهاني ، عن عكرمة قال : الحين : ستة أشهر. (2)
20718 - حدثنا الحسن قال ، حدثنا سعيد بن منصور قال ، حدثنا خالد ، عن الشيباني ، عن عكرمة ، في قوله : ( تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها ) ، قال : هي النخلة ، و " الحين " ، ستة أشهر.
20719 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا كثير بن هشام قال ، حدثنا جعفر قال ، حدثنا عكرمة : ( تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها ) ، قال : هو ما بين حَمْل النخلة إلى أن تُجِدَّ. (3)
20720 - حدثني المثنى قال ، حدثنا قبيصة بن عقبة قال ، حدثنا سفيان قال ، قال عكرمة : الحين ستة أشهر.
20721 - حدثنا أحمد قال ، حدثنا أبو أحمد قال ، حدثنا قيس ، عن طارق بن عبد الرحمن ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : أنه سئل عن رجل حَلَف أن لا يكلم أخاه حينًا ؟ قال : الحينُ ستة أشهر .ثم ذكر النخلة ، ما بينَ حملها إلى صِرَامها سِتَّة أشهر.
__________
(1) " أطلع النخل يطلع إطلاعًا " ، أخرج طلعه .
(2) الأثر : 20717 - " سفيان " ، هو " الثوري مضى مرارًا .
و " ابن الأصبهاني " ، هو " عبد الرحمن بن عبد الله بن الأصبهاني " ، روى له الجماعة . روى عن أنس وأبي حازم وعكرمة وغيرهم . مترجم في التهذيب ، وانظر رقم 20725 .
(3) الأثر : 20719 - " كثير بن هشام الكلابي " ، ثقة صدوق ، مضى برقم : 12648 . و " جعفر " ، هو " جعفر بن برقان الكلابي " ، ثقة ، مضى برقم : 4577 .
وكان في المطبوعة : " إلى أن تحرز " ، وفي المخطوطة مثلها غير منقوط ، ورجحت أن الصواب " تجد " ، من " جد النخل يجده جدًا ، وجدادًا " ، صرمه . و " أجد النخل " ، حان له أن يجد .

(16/578)


20722 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا وكيع ، عن سفيان ، عن طارق ، عن سعيد بن جبير : ( تؤتي أكلها كل حين ) ، قال : ستة أشهر.
20723 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : ( تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها ) ، والحين : ما بين السبعة والستة ، وهي تُؤْكِلُ شتاءً وصيفًا.
20724 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر قال ، قال الحسن : ما بين الستة الأشهر والسبعة ، يعني الحين.
20725 - حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا عبد الرحمن قال ، حدثنا سفيان ، عن عبد الرحمن بن الأصبهاني ، عن عكرمة قال : الحينُ ستة أشهر.
* * *
وقال آخرون : بل " الحين " ههنا سنة.
* ذكر من قال ذلك :
20726 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا وكيع ، عن أبي مكين ، عن عكرمة : أنه نذر أن يقطعَ يَدَ غُلامه أو يحبسه حينًا. (1) قال : فسألني عمر بن عبد العزيز ، قال فقلت : لا تُقْطع يدُه ، ويحبسه سنة ، والحين سَنَة. ثم قرأ : ( لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ ) ، [سورة يوسف : 35 ] ، وقرأ : ( تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها ) حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا وكيع قال ، وزاد أبو بكر الهذلي ، عن عكرمة قال : قال ابن عباس : " الحين " ، حينان ، حين يعرف وحين لا يعرف ، فأما الحين الذي لا يُعرف : ( وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ ) [سورة ص : 88 ] ، وأما الحين الذي يعرف فقوله : ( تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها ) .
__________
(1) في المطبوعة : " إن نذر " خطأ .

(16/579)


20727 - حدثنا ابن المثنى قال ، حدثنا محمد بن جعفر قال ، حدثنا شعبة قال : سألت حمادًا والحكم عن رجل حلف ألا يكلم رجلا إلى حين ؟ قالا الحينُ : سنة.
20728 - حدثنا محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى ح وحدثني الحارث قال ، حدثنا الحسن قال ، حدثنا ورقاء ح وحدثنا الحسن بن محمد قال ، حدثنا شبابة قال ، حدثني ورقاء ح وحدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : ( كل حين ) ، قال : كل سنة. (1)
20729 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد ، في قوله : ( تؤتي أكلها كل حين ) ، قال : كل سنة.
20730 - حدثنا أحمد قال ، حدثنا أبو أحمد قال ، حدثنا سلام ، عن عطاء بن السائب ، عن رجل منهم (2) أنه سأل ابن عباس ، فقال : حلفت
__________
(1) في المخطوطة هنا ختام ، كأنه كان آخر تجزئة سابقة نقلت عنها مخطوطتنا ، وهذا نص ما فيها :
" يتلوهُ إن شاءَ الله تعالى حدثني يونس قال ،
أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد في قوله :
( تؤْتي أُكُلها كُلَّ حِين ) قال : كُلَّ سنة .
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم " .
وبعده في أول الجزء :
" بسم الله الرحمن الرحيم
رب يسِّر
قال أَبو جعفر ، حدثني يونس ... "
(2) في المطبوعة : " عن رجل مبهم " ، لم يعرف معنى المخطوطة ، وقوله : " رجل منهم " ، أي من ثقيف ، رهط عطاء بن السائب .

(16/580)


ألا أكلم رجلا حِينًا ؟ فقرأ ابن عباس : ( تؤتي أكلها كل حين ) ، فالحين سنة.
20731 - حدثنا أحمد قال ، حدثنا أبو أحمد قال ، حدثنا ابن غَسِيل ، عن عكرمة قال ، أرسل إلىّ عمر بن عبد العزيز فقال : يا مولى ابن عباس ، إني حلفت أن لا أفعل كذا وكذا ، حينًا ، فما الحين الذي تعرف به ؟ قلت : إنّ من الحين حينًا لا يدرك ، ومن الحين حينٌ يُدرك ، فأما الحين الذي لا يُدرك فقول الله : ( هَلْ أَتَى عَلَى الإنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا ) [سورة الإنسان : 1 ] ، والله ما يدري كم أتَى له إلى أن خُلِق ، وأما الذي يُدرك فقوله : ( تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها ) ، فهو ما بين العام إلى العام المُقْبِل. فقال : أصبت يا مولى ابن عباس ، ما أحسن ما قلت . (1)
20732 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا جرير ، عن عطَاء قال : أتى رجل ابن عباس فقال : إني نذرت أن لا أكلم رجلا حينًا ؟ فقال ابن عباس : ( تؤتي أكلها كل حين ) ، فالحين سَنَة.
* * *
وقال آخرون : بل " الحين " في هذا الموضع : شهرَان.
* ذكر من قال ذلك :
20733 - حدثنا أحمد بن إسحاق قال ، حدثنا أبو أحمد قال ، حدثنا محمد بن مسلم الطائفي ، عن إبراهيم بن ميسرة قال : جاء رجل إلى سعيد بن المسيب ، فقال : إني حلفت أن لا أكلم فلانًا حينًا ؟ [فقال : قال الله تعالى : ( تؤتي أكلها كلّ حين بإذن ربها ) ]. (2) قال : هي النخلة ، لا يكون منها أُكُلُها إلا شَهْرين ، فالحين شهران.
__________
(1) الأثر : 20731 - " ابن غسيل " ، والأجود أن يقال " ابن الغسيل " ، وهو " عبد الرحمن ابن سليمان بن عبد الله بن حنظلة الأنصاري " ، يعرف بابن الغسيل ، وهو جده حنظلة بن أبي عامر ، غسيل الملائكة . مضى برقم : 5123 ، 7777 . وكان في المطبوعة والمخطوطة : " ابن عسيل " ، بالعين المهملة .
(2) ما بين القوسين في المطبوعة ، وساقط من المخطوطة ، فلم أحذفها لحسن موقعها .

(16/581)


قال أبو جعفر : وأولى الأقوال في ذلك عندي بالصواب قولُ من قال : عنى بالحين ، في هذا الموضع ، غدوةً وعشيةً ، وكلَّ ساعة ، (1) لأن الله تعالى ذكره ضَرَب ما تؤتي هذه الشجرة كلَّ حين من الأكل لعمل المؤمن وكلامِه مثلا ولا شك أن المؤمن يُرفع لهُ إلى الله في كلّ يوم صالحٌ من العمل والقول ، لا في كل سنة ، أو في كل ستة أشهر ، أو في كل شهرين. فإذا كان ذلك كذلك ، فلا شك أن المَثَل لا يكون خِلافًا للمُمَثَّل به في المعنى. وإذا كان ذلك كذلك ، كان بَيّنًا صحةُ ما قلنا.
فإن قال قائل : فأيُّ نخلة تؤتي في كل وقت أكلا صيفًا وشتاء ؟ قيل : أما في الشتاء ، فإن الطَّلْع من أكُلها ، وأما في الصيف فالبَلَح والبُسْرُ والرُّطَب والتَّمرُ ، وذلك كله من أكلها.
* * *
وقوله : ( تؤتي أكلها ) ، فإنّه كما : -
20734 - حدثنا به محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : ( تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها ) ، قال : يؤكل ثمرها في الشتاء والصيف.
20735 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة : ( تؤتي أكلها كل حين ) ، قال : هي تؤكل شتاءً وصيفًا.
20736 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع بن أنس : ( تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها ) ، يصعد عملُه ، يعني عَمل المؤمن مِن أوّل النهار وآخره.
__________
(1) انظر تفسير " الحين " فيما سلف 1 : 540/12 : 359/16 : 92 : 94 .

(16/582)


وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ (26)

القول في تأويل قوله تعالى : { وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الأرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ (26) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : ومثل الشِّركَ بالله ، وهي " الكلمة الخبيثة " ، (1) كشجرة خبيثة.
* * *
اختلف أهل التأويل فيها أيّ شجرة هي ؟
فقال أكثرهم : هي الحنظل.
* ذكر من قال ذلك :
20737 - حدثنا محمد بن المثنى قال ، حدثنا محمد بن جعفر قال ، حدثنا شعبة ، عن معاوية بن قرة قال : سمعت أنس بن مالك ، قال في هذا الحرف : ( ومثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة ) ، قال : الشَّرْيان ؟ فقلت : ما الشَّرْيان ؟ قال رجل عنده : الحنظلُ ، فأقرَّ به معاوية. (2)
20738 - حدثنا الحسن بن محمد قال ، حدثنا شبابة قال ، أخبرنا شعبة ، عن معاوية بن قرة قال : سمعت أنس بن مالك يقول : ( ومثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة ) ، قال : الحنظل. (3)
20739 - حدثنا الحسن قال ، حدثنا عمرو بن الهيثم قال ، حدثنا شعبة ، عن معاوية بن قرة ، عن أنس بن مالك قال : الشَّرْيَان ، يعني الحنظل.
20740 - حدثنا أحمد بن منصور قال ، حدثنا نعيم بن حماد قال ، حدثنا محمد بن ثور ، عن ابن جريج ، عن الأعمش ، عن حبان بن شعبة ،
__________
(1) انظر تفسير " الخبيث " فيما سلف 13 : 165 ، تعليق : 4 ، والمراجع هناك .
(2) الأثر : 20737 - انظر الأثر السالف : 20674 ، فهو من تمامه .
(3) الأثر : 20738 - انظر الأثر السالف : 20676 فهو من تمامه .

(16/583)


عن أنس بن مالك في قوله : ( كشجرة خبيثة ) ، قال : الشَّرْيان . قلت لأنس : ما الشَّريان ؟ قال : الحنظل. (1)
20741 - حدثني يعقوب قال ، حدثنا ابن علية قال ، حدثنا شعيب قال : خرجت مع أبي العالية نريد أنس بن مالك ، فأتيناه ، فقال : ( ومثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة ) ، تلكم الحنظل. (2)
20742 - حدثنا الحسن قال ، حدثنا إسماعيل بن إبراهيم ، عن شعيب بن الحبحاب ، عن أنس ، مثله.
20743 - حدثنا المثنى قال : حدثنا آدم العسقلاني قال ، حدثنا شعبة قال ، حدثنا أبو إياس ، عن أنس بن مالك قال : " الشجرة الخبيثة " ، الشَّرْيَان . فقلت : ومَا الشَّرْيَان ؟ قال : الحنظل.
20744 - حدثني المثنى قال ، حدثنا الحجاج قال ، حدثنا حماد ، عن شعيب ، عن أنس قال ، تلكم الحنظل. (3)
20745 - حدثني المثنى قال ، حدثنا الحجاج قال ، حدثنا مهدي بن ميمون ، عن شعيب قال ، قال أنس : ( ومثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة ) ، الآية قال ، تلكم الحنظل ، ألم تِرْوا إلى الرّياح كيف تُصَفّقُها يمينًا وشمالا ؟ (4)
20746 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن
__________
(1) الأثر : 20740 - " حبان بن شعبة " بالباء الموحدة ، هكذا جاء في المطبوعة والمخطوطة ، وهي غير منقوطة . وفي الدر المنثور 4 : 77 " حيان " بالياء المثناة ، ولم أجد هذا الاسم في مكان ، بعد طول البحث ، وأقرب ما وجدت أن يكون هو " حيان ، أبو سعيد التيمي " ، روى عنه الأعمش . ولكني لم أجده ذكر أنه روى عن أنس بن مالك . مترجم في الكبير 2/1/55 ، وابن أبي حاتم 1/2/247 . وأزيد أني في شك من رواية " ابن جريج " ، عن " الأعمش " .
(2) الأثر : 20741 - هو من تتمة الأثر السالف : 20677 .
(3) الأثر : 20744 - هو من تتمة الأثر السالف : 20680 .
(4) الأثر : 20745 - هو من تتمة الأثر السالف : 20681 .
ويقال : " صفقت الريح الشيء " ، إذا قلبته يمينًا وشمالا ، فاضطرب وتردد .

(16/584)


ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : ( كشجرة خبيثة ) ، الحنظلة.
* * *
وقال آخرون : هذه الشجرة لم تُخْلَق على الأرض.
* ذكر من قال ذلك :
20747 - حدثنا الحسن بن محمد الزعفراني قال ، حدثنا عفان قال ، حدثنا أبو كدينة قال ، حدثنا قابوس ، عن أبيه ، عن ابن عباس : ( ومثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار ) ، قال : هذا مثل ضربه الله ، ولم تخلق هذه الشجرةُ على وجه الأرض. (1)
* * *
وقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بتصحيح قول من قال : هي الحنظلة ، خبَرٌ . فإن صحَّ ، فلا قولَ يجوز أن يقال غيرُه ، وإلا فإنها شجرة بالصِّفة التي وصفها الله بها.
* * *
* ذكر الخبر الذي ذكرناه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم :
20748 - حدثنا سَوَّار بن عبد الله قال ، حدثنا أبي قال ، حدثنا حماد بن سلمة ، عن شعيب بن الحبحاب ، عن أنس بن مالك : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( ومثل كَلِمة خبيثةٍ كشجرة خبيثة اجْتُثَّت من فوق الأرض ما لها من قَرار ) ، قال : هي الحنظلة قال شعيب : وأخبرت بذلك أبا العالية فقال : كذلك كانوا يقولون. (2)
* * *
__________
(1) الأثر : 20747 - هو من تمام الأثر السالف : 20695 .
(2) الأثر : 20748 - سلف قول الترمذي أن هذا الخبر لم يرفعه غير حماد بن سلمة ، وأن الموقوف أصح . انظر ما سلف في التعليق على الآثار : 20677 - 20681 . وهذا الأثر من تمام الأثر السالف : 20679 .

(16/585)


وقوله : ( اجْتُثَّت من فوق الأرض ) ، يقول : استُؤْصِلت . يقال منه : اجتثَثْتُ الشيء ، أجْتَثُّه اجتثاثًا : إذا استأصلتَه.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
20749 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : ( اجتثت من فوق الأرض ) ، قال : استؤصلت من فوق الأرض.
* * *
( ما لها من قرار ) ، يقول : ما لهذه الشجرة من قَرار ولا أصل في الأرض تثْبُت عليه وتقوم. وإنما ضُرِبت هذه الشجرة التي وصَفها الله بهذه الصفة لكُفر الكافر وشركِه به مثلا . يقول : ليس لكُفر الكافر وعَمَله الذي هو معصيةُ الله في الأرض ثباتٌ ، ولا له في السماء مَصْعَد ، لأنه لا يَصْعَد إلى الله منه شيء.
* * *
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
20750 - حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : ( ومثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار ) ، ضرب الله مثل الشجرة الخبيثة كمثل الكافر . يقول : إن الشجرة الخبيثة اجتُثّت من فوق الأرض ما لها من قرَار. يقول : الكافر لا يُقْبَل عمله ولا يصعَدُ إلى الله ، فليس له أصل ثابتٌ في الأرض ، ولا فرعٌ في السماء . يقول : ليس له عمل صَالحٌ في الدنيا ولا في الآخرة.

(16/586)


20751 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : ( ومثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة اجتُثَّت من فوق الأرض ما لها من قرار ) ، قال قتادة : إن رجلا لقي رجلا من أهل العلم فقال : ما تقول في " الكلمة الخبيثة " ، فقال : ما أعلم لها في الأرض مستقرًّا ، ولا في السماء مَصْعَدًا ، إلا أن تَلْزَم عُنُقَ صاحبها ، حتى يوافي بها القِيامة. (1)
20752 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة ، عن أبي العالية : أن رجلا خالجت الريحُ رداءَه فلعنها ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا تَلْعنها ، فإنها مأمورة ، وإنه من لَعن شيئًا ليس له بأهلٍ رَجعت اللَّعنةُ على صاحبها. (2)
20753 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن أبي جعفر ، عن الربيع بن أنس : ( ومثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة ) ، قال : هذا الكافر ليس له عمل في الأرض ، ولا ذكرٌ في السماء( اجتُثت من فوق الأرض ما لها من قرار ) ، قال : لا يصعد عمله إلى السماء ، ولا يقوم على الأرض. فقيل : فأين تكون أعمالهم ؟ قال : يَحْمِلون أوزارهم على ظُهورهم.
__________
(1) في المطبوعة ، زاد فقال : " يوم القيامة " .
(2) الأثر : 20752 - أخرجه الترمذي في كتاب البر والصلة ، باب ما جاء في اللعنة : رواه عن زيد بن أخزم الطائي البصري ، حدثنا بشر بن عمر ، حدثنا أبان بن يزيد ، عن قتادة ، عن أبي العالية ، عن ابن عباس : أن رجلا لعن الريح عند النبي صلى الله عليه وسلم " . وقال الترمذي : " هذا حديث حسن غريب ، لا نعلم أحدًا أسنده غير بشر بن عمر " .
و " بشر بن عمر بن الحكم الزهراني " ، ثقة ، روى له الجماعة ، سلف برقم : 3375 ، 15054 ، ورواه أبو داود في سننه 4 : 382 ، من طريقين : من طريق مسلم بن إبراهيم ، عن أبان بن يزيد العطار ، عن قتادة ، ومن طريق : زيد بن أخزم الطائي ، عن بشر بن عمر ، عن أبان بن يزيد عن قتادة ، وهذا هو طريق الترمذي . ويتبين من الطريق الأولى أن الذي أسنده هو " أبان بن يزيد العطار " ، وهو ثقة ، وقال الحافظ ابن حجر : " لم يذكره أحد ممن صنف في رجال البخاري من القدماء ، ولم أر له عنده إلا أحاديث معلقة في الصحيح " ، فمن قبل أبان جاءت غرابته .
وقوله : " خالجت الريح رداءه " بمعنى نازعته رداءه . و " مأمورة " ، أي مسخرة بأمر الله غير مريدة لما تفعل . وقوله : " ليس له بأهل " ، أي ليس للعن بمستحق ، يقال : " هو أهل ذاك ، وأهل لذاك " .

(16/587)


20754 - حدثنا أحمد بن إسحاق قال ، حدثنا أبو أحمد قال ، حدثنا فضيل بن مرزوق ، عن عطية العوفي : ( ومثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة اجتثت من فوق الأرض ) ، قال : مثل الكافر ، لا يصعَد له قولٌ طيب ولا عملٌ صالح.
20755 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس قال : ( ومثل كلمة خبيثة ) ، وهي الشرك ( كشجرة خبيثة ) ، يعني الكافر. قال : ( اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار ) ، يقول : الشرك ليس له أصلٌ ، يأخذ به الكافرُ ولا برهانٌ ، ولا يقبل اللهُ مع الشرك عملا.
20756 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : ( ومثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة ) ، قال : مثل الشجرة الخبيثة مثل الكافر ليس لقوله ولا لعمله أصلٌ ولا فرع ، ولا قوله ولا عمله يستقرُّ على الأرض ولا يصعد إلى السماء.
20757 - حدثت عن الحسين قال ، سمعت أبا معاذ ، يقول : أخبرنا عبيد بن سليمان قال ، سمعت الضحاك يقول : ضربَ الله مثلَ الكافر : (كشجرة خبيثة اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار) ، يقول : ليس لها أصلٌ ولا فرع ، وليست لها ثمرة ، وليس فيها منفعة ، كذلك الكافر ليس يعمل خيرًا ولا يقوله ، ولم يجعل الله فيه بركةً ولا منفعة.
* * *

(16/588)


يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآَخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ (27)

القول في تأويل قوله تعالى : { يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ (27) }
قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بقوله : ( يثبت الله الذين آمنوا ) ، يحقق الله أعمالَهم وإيمانهم (1) ( بالقول الثابت ) ، يقول : بالقول الحق ، وهو فيما قيل : شهادة أن لا إله إلا الله ، وأنّ محمدًا رسول الله.
* * *
وأما قوله : ( في الحياة الدنيا ) ، فإن أهل التأويل اختلفُوا فيه ، فقال بعضهم : عنى بذلك أن اللهَ يثَبتهم في قبورهم قبلَ قيام الساعة.
* ذكر من قال ذلك :
20758 - حدثني أبو السائب سَلْم بنُ جُنَادة قال ، حدثنا أبو معاوية ، عن الأعمش ، عن سَعْد بن عُبَيْدَة ، عن البَراء بن عازب ، في قوله : ( يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا ) ، قال : التثبيت في الحياة الدنيا إذا أتاه المَلكان في القبر فقالا له : مَن ربك ؟ فقال : ربّي الله . فقالا له : ما دينك ؟ قال : دينيَ الإسلام . فقالا له : مَن نبيك ؟ قال : نبيِّي محمدٌ صلى الله عليه وسلم. فذلك التثبيت في الحياة الدنيا. (2)
__________
(1) انظر تفسير " التثبيت " فيما سلف 15 : 539 ، تعليق : 4 ، والمراجع هناك .
(2) الأثر : 20758 - حديث البراء بن عازب رضي الله عنه ، رواه أبو جعفر بأربعة عشر إسنادًا في هذا الموضع ، فأحببت أن أجمعها ، وأفصلها ، لتسهل مراجعتها ، ولا يتبعثر القول فيها ، ويسهل تخريجها ويستبين . فالحديث عن البراء مروي من ثلاث طرق :
1 - طريق سعد بن عبيدة ، عن البراء .
2 - طريق زاذان ، عن البراء .
3 - طريق خيثمة ، عن البراء .
فعند بدء كل طريق ، أذكر طرق إسناده مفصلة إن شاء الله ، وهذه أوان بيان الطريق الأولى : (1)
طريق سعد بن عبيدة عن البراء .
رواه أبو جعفر من طريقين :
1 - من طريق الأعمش ، عن سعد بن عبيدة .
2 - من طريق علقمة بن مرثد ، عن سعد بن عبيدة . (1) طريق الأعمش ، عن سعد بن عبيدة .
1 - من طريق أبي معاوية ، عن الأعمش برقم : 20758 .
2 - من طريق جابر نوح ، عن الأعمش برقم : 20759 .
(1) وطريق أبي معاوية ، هو هذا الإسناد الأول ، وهذا بيانه :
" أبو السائب " ، " سلم بن جنادة بن خالد السوائي " ، شيخ أبو جعفر ، روى عنه البخاري خارج الصحيح ، شيخ صدوق ، قال البرقاني : " ثقة حجة لا شك فيه ، يصلح للصحيح " ، مضى مرارًا آخرها رقم : 8395 .
و " أبو معاوية " ، هو " محمد بن خازم التميمي السعدي " ، روى له الجماعة ، ثقة في حديث الأعمش ، مضى مرارًا ، آخرها رقم : 17722 .
و " سعد بن عبيدة " ، كان في المخطوطة في جميع مواضعه " سعيد " ، وهو خطأ .
فهذا حديث صحيح الإسناد ، لم أجده عند غير أبي جعفر ، من هذه الطريق .

(16/589)


20759 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا جابر بن نوح ، عن الأعمش ، عن سعد بن عُبَيْدة ، عن البراء بن عازب ، بنحو منه في المعنى. (1)
20760 - حدثني عبد الله بن إسحاق الناقد الواسطي قال ، حدثنا وهب بن جرير قال ، حدثنا شعبة ، عن علقمة بن مَرْثَد ، عن سعد بن عبيدة ، عن البراء قال ، ذكر النبيّ صلى الله عليه وسلم المؤمنَ والكافرَ ، فقال : إن المؤمن إذا سئل في قبره قال : رَبّي الله ، فذلك قوله : ( يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة). (2)
__________
(1) الأثر : 20759 - الإسناد التالي انظر التعليق السالف .
(2) طريق جابر بن نوح ، عن الأعمش
و " جابر بن نوح الحماني " ، ضعيف الحديث ، قال ابن معين ليس حديثه بشيء .
فالخبر من هذه الطريق ضعيف الإسناد ، ولم أجده عند غير أبي جعفر ، والصحيح هو الإسناد السالف .
(2) الأثر : 20760 - هذه هي الطريق الثانية ، عن سعد بن عبيدة ، عن البراء .
(2) طريق علقمة بن مرثد ، عن سعد بن عبيدة .
1 - طريق شعبة ، عن علقمة بن مرثد .
رواه أبو جعفر ، من ثلاث طرق ، هذا أولها ،
(1) عن وهب بن جرير ، عن شعبة ، 20760 ، (2) وعن هشام بن عبد الملك ، عن شعبة : 20761 . (3) وعن عفان ، عن شعبة : 20773 .
وهاك بيان الطريق الأولى في هذا الخبر .
" عبد الله بن إسحاق الناقد الواسطي " ، شيخ الطبري ، لم أجد له ترجمة ، وقد روى عنه في تاريخ الصحابة ( انظر ذيل المذيل تاريخ الطبري 13 : 61 ) .
و " وهب بن جرير بن حازم الأزدي " ، الحافظ ، روى له الجماعة ، مضى برقم : 2858 ، 4346 ، 5418 ، 14157 . ولم أجد الخبر فيما بين يدي من طريق وهب بن جرير ، عن شعبة . ولكن حديث شعبة ، عن علقمة ، رواه الأئمة :
فرواه أحمد في مسنده 4 : 282 عن طريق عفان ، عن شعبة ، وهو الذي رواه أبو جعفر برقم : 20773 . ثم رواه في مسنده 4 : 91 ، من طريق محمد بن جعفر غندر ، عن شعبة . وسيأتي في رواية أصحاب الكتب .
رواه البخاري في صحيحة ( الفتح 3 : 184 ) من طريق حفص بن عمر ، عن شعبة ، من طريق محمد بن جعفر ، غندر ، عن شعبة . ثم رواه ( الفتح 8 : / 286 ) ، من طريق أبي الوليد الطيالسي ، هشام بن عبد الملك الباهلي ، وهو الذي رواه أبو جعفر برقم : 20761 ، كما سيأتي .
ورواه مسلم في صحيحة ( 17 : 204 ) من طريق محمد بن جعفر ، غندر ، عن شعبة .
ورواه أبو داود في سننه 4 : 329 . من طريق أبي الوليد الطيالسي ، عن شعبة .
ورواه النسائي في سننه 4 : 101 ، من طريق محمد بن جعفر غندر ، عن شعبة .
ورواه الترمذي في سننه في التفسير ، من طريق أبي داود الطيالسي ، عن شعبة .
ورواه ابن ماجه في سننه : 1427 من طريق محمد بن جعفر غندر ، عن شعبة .
وهو حديث صحيح .

(16/590)


20761 - حدثنا محمد بن المثنى قال ، حدثنا هشام بن عبد الملك قال ، حدثنا شعبة قال ، أخبرني علقمة بن مرثد قال : سمعت سعد بن عُبيدة ، عن البراء بن عازب : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : إن المسلم إذا سئل في القبر فيشهد أن لا إله إلا الله ، وأن محمدًا رسول الله . قال : فذلك قوله : ( يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة " . (1)
20762 - حدثني الحسين بن سَلَمة بن أبي كَبْشة ، ومحمد بن معمر البَحْراني واللفظ لحديث ابن أبي كبشة قالا حدثنا أبو عامر عبد الملك بن عمرو قال ، حدثنا عبَّاد بن راشد ، عن داود بن أبي هند ، عن أبي نضرة ، عن أبي سعيد قال : كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في جنازة فقال :
__________
(1) الأثر : 20761 - هو مكرر الأثر السالف .
" هشام بن عبد الملك الباهلي " ، " أبو الوليد الطيالسي " ، روى له الجماعة ، مضى مرارًا كثيرة.
ومن طريق أبو الوليد ، عن شعبة رواه البخاري ، وأبو داود ، كما سلف في تخريج الذي قبله .
وكان في المطبوعة : " إذا سئل في القبر يشهد " ، كما في رواية البخاري ، ورواية أبي داود : " فشهد " ، وأثبت ما في المخطوطة ، وكل صواب .
وكان في المخطوطة هنا " سعيد " ، مكان " شعبة " ، وهو تصحيف فاحش .

(16/591)


يا أيها الناس ، إن هذه الأمة تبتلى في قُبورها ، فإذا الإنسان دُفِن وتفرَّق عنه أصحابه ، جاءه ملك بيده مِطْراقٌ فأقعده فقال : ما تقولُ في هذا الرجل ؟ فإن كان مؤمنًا قال : أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأن محمدًا عبدُه ورسوله . فيقول له : صدقْتَ . فيفتح له بابٌ إلى النار فيقال : هذا منزلك لو كفرتَ بربّك ، فأما إذْ آمنت به ، فإن الله أبدَلك به هذا. ثم يفتح له بابٌ إلى الجنة ، فيريد أن ينْهَضَ له ، فيقال له : اسكُنْ. ثم يُفْسَح له في قبره. وأما الكافِر أو المنافق فيقال له : ما تقول في هذا الرجل ؟ فيقول : ما أدري ! فيقال له : لا دَرَيْتَ ولا تَدَرّيتَ ولا اهتديتَ! ثم يفتح له بابٌ إلى الجنة فيقال له : هذا كان منزلك لو آمنت بربك ، فأما إذْ كفرت ، فإن الله أبدَلك هذا. ثم يفتح له بابٌ إلى النار ، ثم يَقْمَعُه المَلَكُ بالمطراق قَمْعَةً يسمعه خَلْقُ الله كُلهم إلا الثقلين. قال ، بعضُ أصحابه ، يا رسولَ الله ، ما مِنَّا أحدٌ يقوم على رأسه مَلَكٌ بيده مِطْراق إلا هِيلَ عند ذلك! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثَّابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة ويُضِلُّ الله الظالمين ويفعلُ الله ما يشاء ) . (1)
20763 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا أبو بكر بن عياش ، عن الأعمش ، عن المنهال ، عن زاذان ، عن البراء : أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : وذكر قَبْضَ روح المؤمن : فتُعاد روحُه في جسده ، ويأتيه مَلَكان فيجلسانه ، يعني في قبره ، فيقولان : مَنْ ربُّك ؟ فيقول : ربيَ الله . فيقولان : ما دينُك ؟ فيقول ديني الإسلام . فيقولان له : ما هذا الرجلُ الذي بُعِث فيكم ؟ فيقول : هو رسولُ الله . فيقولان : ما يدرِيك ؟ فيقول : قرأت كتابَ الله فآمنت به وصدَّقْتُ. فينادِي مُنادٍ من السماء أنْ صَدَق عبدي.
__________
(1) الأثر : 20762 - " الحسين بن سلمة بن إسماعيل بن يزيد بن أبي كبشة الأزدي ، الطحان " شيخ الطبري ، ثقة ، مضى برقم : 17608 . وكان في المطبوعة والمخطوطة : " الحسن بن سلمة " ، وهو خطأ .
و " محمد بن معمر البحراني " ، شيخ الطبري ، ثقة ، روى له الجماعة . مضى مرارًا كثيرة آخرها رقم : 16885 .
و " عبد الملك بن عمرو القيسي " ، و " أبو عامر العقدي " ، ثقة من شيوخ أحمد ، مضى مرارًا ، آخرها : 17608 .
و " عباد بن راشد التميمي " ، ثقة ، وليس بالقوي ، روى له البخاري مقرونًا بغيره ، مضى مرارًا ، آخرها : 17608
و " داود بن أبي هند " ، ثقة ، مضى مرارًا كثيرة .
و " أبو نضرة " ، " المنذر بن مالك بن قطعة العبدي " ، تابعي ، ثقة ، كثير الحديث ، مضى مرارًا آخرها رقم : 15797 - 15801 .
فهذا حديث صحيح الإسناد ، رواه أحمد في مسنده 3 : 3 ، عن أبي عامر العقدي ، بإسناده. وخرجه الهيثمي في مجمع الزوائد 3 : 47 ، وقال : " رواه أحمد والبزار ، ورجاله رجال الصحيح " ، وخرجه السيوطي في الدر المنثور 4 : 80 ، وزاد نسبته إلى ابن أبي الدنيا في ذكر الموت ، وابن أبي عاصم في السنة ، وابن مردويه ، والبيهقي في عذاب القبر ، وقال : " بسند صحيح عن أبي سعيد الخدري " . وفي لفظ الخبر بعض الخلاف .
" المطراق " ، مما لم تذكره كتب اللغة ، وهو ثابت ، في جميع روايات الخبر ، في المواضع التي ذكرتها ، وهو صحيح في العربية ، ومثله " المطرق " بكسر فسكون ، ومضى في الخبر رقم : 2389 ، و " المطرقة " ، ، وهي مضربة الحداد التي يطرق بها الحديد .
وقوله : " لا دريت ، ولا تدريت " ، هكذا هو في المخطوطة ، فأثبته على ذلك ، وكان في المطبوعة : " لا دريت ولا تليت " ، كما جاء في جميع المراجع الآنفة . والذي في المخطوطة مكتوب بوضوح ، لا أجده سائغا أن يكون الناسخ صحف " تليت " إلى " تدريت " . مع شهرة الخبر . فإن صحت هذه رواية في الخبر رواها أبو جعفر ، فإنه تكون " تَفَعَّلَ " من " دَرَى " أي طلبت الدراية ، كما تقول " علم " ، وهما سواء في المعنى . وهي جيدة المعنى جدًا .
وأما " لا دريت ولا تليت " ، فقد اختلف في معناها . قالوا : هي من " تلوت " أي لا قرأت ولا درست من " تلا يتلو " فقالها بالياء ليعاقب بها " الياء " في " دريت " . وكان يونس يقول : " إنما هو : " ولا أَتليت " في كلام العرب ، معناه : أن لا تتلى إبله ، أي لا يكون لها أولاد " تتلوها " . وقال غيره : " إنما هو : لا دريت ولا اتَّليت ، على افتعلت ، من " ألوت " أي أطقت واستطعت ، فكأنه قال : لا دريت ولا استطعت " . وقال ابن الأثير : " المحدثون يرون هذا الحديث : ولا تليت ، وصوابه : " ولا ائتَليْت " .
وقال الزمخشري في الفائق ( تلا ) ، وذكر الخبر : " أي ، ولا اتبعت الناس بأن تقول شيئا يقولونه . ويجوز أن يكون من قولهم : " تلا فلان تِلْوَ غير عاقِل " ، إذا عمل عمل الجهال ، أي لا علمت ولا جهلت يعني : هلكت فخرجت من القبيلتين .
وأحسب أن الذي في التفسير ، إن صحت روايته ، أبين دلالة على المعنى مما ذهبوا إليه . هذا ، وفي رواية الخبر عند جمعهم زيادة في هذا الموضع : " فيقول : لا أدري ، سمعت الناس يقولون شيئًا " . وهذه رواية أحمد .

(16/592)


قال : فذلك قول الله عز وجل( يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة ) . (1)
20764 - حدثني أبو السائب قال ، حدثنا أبو معاوية قال ، حدثنا الأعمش ، عن المنهال ، عن زاذان ، عن البراء ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم ، بنحوه. (2)
20765 - حدثنا ابن حميد وابن وكيع قالا حدثنا جرير ، عن الأعمش ، عن المنهال ، عن زاذان ، عن البراء ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم ، بنحوه. (3)
__________
(1) الأثر : 20763 - هذه هي الطريق الثانية ، كما ذكرت في التعليق على رقم : 20758 .
(2) طريق زاذان ، عن البراء .
رواه أبو جعفر من طريقين مختصرًا .
1 - طريق الأعمش ، عن المنهال بن عمرو ، عن زاذان .
2 - طريق يونس بن خباب ، عن المنهال ، عن زاذان .
ثم رواه عن الأعمش من خمس طرق : عن أبي بكر بن عياش ، عن الأعمش : 20763 ، وعن أبي معاوية ، عن الأعمش : 20764 ، وعن جرير ، عن الأعمش : 20765 ، وعن ابن نمير ، عن الأعمش : 20766 ، وعن أبي عوانة ، عن الأعمش : 20780 ، 20787 .
و " المنهال بن عمرو الأسدي " . تكلموا فيه ، ووثقه جماعة ، ورجح أخي السيد أحمد رحمه الله توثيقه في المسند 714 ، وفي الطبري : 337 . وقال أبو الحسن بن القطان : " كان أبو محمد بن حزم يضعف المنهال ، ورد من روايته حديث البراء " ، يعني هذا الحديث ، ولم يخرج له البخاري ولا مسلم في الصحيح شيئًا . وروى ابن أبي خيثمة : أن المغيرة ، صاحب إبراهيم ، ( وهو المغيرة بن مقسم الضبي ) ، وقف على يزيد بن أبي زياد فقال : ألا تعجب من هذا الأعمش الأحمق ، إني نهيته أن يروي عن المنهال بن عمرو ، وعن عباية ، ففارقني على أن لا يفعل ، ثم هو يروي عنهما ، نشدتك بالله تعالى ، هل كانت تجوز شهادة المنهال على درهمين ؟ قال : اللهم لا " ، فهذا من أشد ما يقال فيه ، ولكنه محمول إن شاء الله على مقالة المتعاصرين ، يقول بعضهم في بعض .
و " زاذان " ، " أبو عبد الله أو أبو عمر الكندي " الضرير البزار ، تابعي ثقة ، مضى مرارًا .
وقد أفاض أبو عبد الله الحاكم في المستدرك 1 : 37 - 40 في جمع طرق هذا الحديث ، وجاء بالشواهد من الأخبار على شرط الشيخين ، يستدل بها على صحة خبر المنهال ، عن زاذان .
وزاد الحاكم رواية سفيان ، عن الأعمش 1 : 38 ، وهي في المسند 4 : 297 ، ، ورواية شعبة ، عن الأعمش 1 : 38 ، وفي مسند أحمد رواية زائدة عن الأعمش 4 : 288 .
وزاد أبو جعفر الطبري رواية أبي بكر بن عياش ، عن الأعمش في هذا الإسناد ، وفيما سلف مختصرًا رقم : 14614 . وانظر الكلام على الآثار التالية من هذه الطريق ، وما سلف في التعليق على رقم : 14614 . وخرجه الهيثمي في مجمع الزوائد 3 : 49 - 51 ، وقال : " هو في الصحيح وغيره ، باختصار ، رواه أحمد ، ورجاله رجال الصحيح "
(2) الأثر : 20764 - من طريق أبي معاوية ، عن الأعمش ، رواه أحمد في المسند 4 : 287 ، والحاكم في المستدرك 1 : 37 ، وأبو داود في سننه 4 : 330 .
(3) 20765 - من طريق جرير ، عن الأعمش ، رواه أبو داود مختصرًا في سننه 3 : 289 .

(16/594)


20766 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا ابن نمير قال ، حدثنا الأعمش قال ، حدثنا المنهال بن عمرو ، عن زاذان ، عن البراء ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم ، بنحوه. (1)
20767 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا الحكم بن بشير قال ، حدثنا عمرو بن قيس ، عن يونس بن خبّاب ، عن المنهال ، عن زاذان ، عن البراء بن عازب ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، نحوه. (2)
20768 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر وحدثنا الحسن بن محمد قال ، حدثنا سعيد بن منصور قال ، حدثنا مهدي بن ميمون جميعًا ، عن يونس بن خباب ، عن المنهال بن عمرو ، عن زاذان ، عن البراء بن عازب قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وذكر قبضَ رُوح المؤمن! قال : فيأتيه آتٍ في قبره فيقول : من ربك ؟ وما دينك ؟ ومن نبيك ؟ فيقول : ربيَ الله ، وديني الإسلام ، ونبيّي محمد صلى الله عليه وسلم. فينتهره فيقول : مَنْ ربُّك ؟ وما دينك ؟ فهي آخر فتنة تُعْرَض على المؤمن ، فذلك حين يقول الله عز وجل : ( يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة ) ، ، فيقول : ربي الله ، وديني الإسلام ، ونبيي محمد صلى الله
__________
(1) الأثر : 20766 - من طريق عبد الله بن نمير ، عن الأعمش ، رواه أحمد في المسند 4 : 288 ، وأبو داود في سننه 4 : 331 ، والحاكم في المستدرك 1 : 37 .
(2) الأثر : 20768 - هذه طريق يونس بن خباب ، عن المنهال ، كما ذكرت في التعليق على رقم : 20763 ، رواها أبو جعفر من طريق عمرو بن قيس ، عن يونس : 20768 . ومن طريق معمر ، عن يونس : 20769 ، ومهدي بن ميمون ، عن يونس : 20769 أيضًا .
و " يونس بن خباب الأسيدي " ، ضعيف جدًا ، قال يحيى القطان : " ما تعجبنا الرواية عنه " ، وقال ابن معين : " رجل سوء ، وكان يشتم عثمان " . وقال البخاري : " منكر الحديث " ، وقال : ابن حبان : " لا تحل الرواية عنه " . وقال أبو حاتم : " مضطرب الحديث ، ليس بالقوي " ، مترجم في التهذيب ، والكبير 4/2/404 ، وابن أبي حاتم 4/2/238 ، وميزان الاعتدال 3 : 337 .
وهذا حسبك في ضعفه من هذه الطريق . وقد زاد أحمد في مسنده 4 : 296 ، روايته من طريق حماد بن زيد ، عن يونس . وزاد الحاكم في المستدرك روايته من طريق شعيب بن صفوان عن يونس . وعباد بن عباد ، عن يونس 1 : 39 .

(16/595)


عليه وسلم. فيقال له : صدقت - واللفظ لحديث ابن عبد الأعلى. (1)
20769 - حدثنا محمد بن خَلف العسقلاني قال ، حدثنا آدم قال ، حدثنا حماد بن سلمة ، عن محمد بن عمرو ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة قال ، تلا رسُول الله صلى الله عليه وسلم : ( يثبّت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة ) ، قال : ذاك إذا قيل في القبر : مَنْ ربك ؟ وما دينك ؟ فيقول : ربي الله ، وديني الإسلام ، ونبيّي محمدٌ صلى الله عليه وسلم ، جاء بالبينات من عِنْد الله فآمنتُ به وصدَّقت . فيقال له : صَدَقْتَ ، على هذا عشت ، وعليه مِتَّ ، وعليه تُبْعَث. (2)
20770 - حدثنا مجاهد بن موسى ، والحسن بن محمد قالا حدثنا يزيد قال ، أخبرنا محمد بن عمرو ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة قال ، إن الميت ليسمعَ خَفْقَ نِعالهم حين يُوَلُّون عنه مدبرين. فإذا كان مؤمنًا ، كانت الصلاة عند رأسه ، والزكاةُ عن يمينه ، وكان الصيام عن يساره ، وكان فِعْلُ الخيرات من الصّدقة والصِّلة والمعروف والإحسان إلى الناس عند رجليه ، فيؤتَى من عند رأسه فتقول الصلاة : ما قِبَلي مَدخلٌ . فيؤتى عن يمينه فتقول الزكاة : ما قِبَلي مَدخلٌ . فيؤتي عن يساره فيقول الصيام : ما قِبَلي مَدخلٌ . فيؤتى من عند رجليه فيقول فعل الخيرات من الصَّدقة والصِّلة والمعروف والإحسان إلى الناس : ما قِبَلي
__________
(1) الأثر : 20768 - مكرر الأثر السالف .
وحديث معمر ، عن يونس بن خباب ، رواه أحمد في المسند 4 : 295 ، والحاكم في المستدرك 1 : 39 .
وحديث مهدي بن ميمون ، عن يونس ، رواه الحاكم في المستدرك 1 : 39.
(2) الأثر : 20769 - " محمد بن خلف بن عمار العسقلاني " ، شيخ الطبري ، ثقة مضى مرارًا . آخرها رقم : 20633 .
و " آدم " ، هو " آدم بن أبي إياس العسقلاني " ، ثقة ، مضى مرارًا كثيرة ، آخرها رقم : 16944 .
و " حماد بن سلمة " ، ثقة ، مضى مرارًا كثيرة .
و " محمد بن عمرو بن علقمة بن وقاص الليثي " ، ثقة ، روى له الجماعة ، مضى مرارًا كثيرة.
و " أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف الزهري " ، تابعي ثقة ، كثير الحديث ، مضى مرارًا .
فهذا خبر صحيح الإسناد ، ولم أجده عند غير أبي جعفر ، وخرجه السيوطي في الدر المنثور 4 : 81 ، وزاد نسبته إلى ابن مردويه ، وكأنه مختصر الخبر التالي .

(16/596)


مدخلٌ . فيقال له : اجلسْ . فيجلسُ ، قد تمثّلتْ له الشمس قد دنت للغروب ، فيقال له : أخبرنَا عمَّا نسألك . فيقول : دعُوني حتى أصلِّي . فيقال : إنك ستفعل ، فأخبرنا عما نسألك عنه! فيقول : وعمَّ تسألون ؟ فيقال : أرأيت هذا الرجل الذي كان فِيكم ، ماذا تقول فيه ، وماذا تشهد به عليه ؟ فيقول : أمحمد ؟ فيقال له : نعم. فيقول أشهد أنَّه رسول الله ، وأنه جَاء بالبينات من عند الله ، فصدّقناه . فيقال له : على ذلك حَييتَ ، وعلى ذلك ، مِتَّ ، وعلى ذلك تُبْعث إن شاء الله. ثم يُفْسح له في قبره سبعون ذراعًا ويُنوَّر له فيه ، ثم يُفْتح له باب إلى الجنة فيقال له : انظر إلى ما أعدّ الله لك فيها ، فيزداد غِبْطَةً وسرورًا ، ثم يفتح له باب إلى النار فيقال له : انظر ما صَرَف الله عنك لو عصيتَه ! فيزداد غبْطةً وسرورًا. ثمّ يجعل نَسَمُه في النَّسَم الطَّيب ، وهي طيْرٌ خُضْرٌ تُعَلَّق بشجر الجنة ، ويعاد جسده إلى ما بُدئ منه من التراب ، وذلك قول الله تعالى : ( يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة ) . (1)
20771 - حدثنا الحسن بن محمد قال ، حدثنا أبو قطن قال ، حدثنا المسعودي ، عن عبد الله بن مخارق ، عن أبيه ، عن عبد الله قال ، إنّ المؤمن
__________
(1) الأثر : 20770 - لعله مطول الخبر السالف .
" مجاهد بن موسى بن فروخ الخوارزمي " ، شيخ الطبري ، ثقة ، مضى برقم : 510 ، 3396 .
و " الحسن بن محمد بن الصباح الزعفراني " ، شيخ الطبري ، ثقة ، مضى مرارًا آخرها : 20411 .
و " يزيد " هو " يزيد بن هارون السلمي الواسطي " ، أحد الأعلام الحفاظ المشاهير ، مضى مرارًا كثيرة آخرها : 15348 .
فهذا خبر صحيح الإسناد ، أخرجه الحاكم في المستدرك 1 : 379 من طريق سعيد بن عامر ، عن محمد بن عمرو بن علقمة ، ثم من طريق حماد بن سلمة ، عن محمد بن عمرو 1 : 380 ، وقال : " هذا حديث صحيح على شرط مسلم ، ولم يخرجاه " ، وتابعه الذهبي .
وخرجه الهيثمي في مجمع الزوائد 3 : 51 ، 52 ، مطولا وقال : " رواه الطبراني في الأوسط ، وإسناده حسن " ، ثم قال : " روى البزار طرفًا منه " ، ثم انظر حديثًا آخر عنده عن أبي هريرة 3 : 53 ، 54 .
وخرجه السيوطي في الدر المنثور 4 : 80 ، وزاد نسبته إلى ابن أبي شيبه ، وهناد بن السري في الزهد ، وابن المنذر ، وابن حبان ، وابن مردويه ، والبيهقي .
وكان في المطبوعة : " فيجلس قد مثلت له الشمس " ، كما في مجمع الزوائد ، والدر المنثور . وفي المستدرك : " فيقعد ، وتمثل له الشمس " ، وأثبت ما في المخطوطة .

(16/597)


إذا مات أُجْلِس في قبره ، فيقال له : من ربك ؟ وما دينك ؟ ومن نبيك ؟ فيثبّته الله فيقول : ربي الله ، وديني الإسلام ، ونبيّي محمد. قال : فقرأ عبد الله : ( يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفى الآخرة ) . (1)
20772 - حدثنا الحسن قال ، حدثنا أبو خالد القرشي ، عن سفيان ، عن أبيه وحدثنا أحمد قال ، حدثنا أبو أحمد قال ، حدثنا سفيان ، عن أبيه ، عن خيثمة ، عن البراء ، في قوله : ( يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا ) ، قال : عذاب القبر. (2)
20773 - حدثنا الحسن قال ، حدثنا عفان قال ، حدثنا شعبة ، عن علقمة بن مرثد ، عن سعد بن عبيدة ، عن البراء ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم ، في قول الله تعالى : ( يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة ) ، قال شعبةُ شيئًا لم أحفظه ، قال : في القبر. (3)
20774 - حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : ( يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت ) ، إلى قوله : ( ويضل الله الظالمين ) ، قال : إن المؤمن إذا حضَره الموت شهدته الملائكة ، فسلموا عليه وبشروه بالجنة ، فإذا ماتَ مشَوْا في جنازته
__________
(1) الأثر : 20771 - " أبو قطن " " عمرو بن الهيثم الزبيدي القطعي " ، ثقة ، مضى مرارًا آخرها رقم : 20599 .
و " المسعودي " ، هو " عبد الرحمن بن عبد الله بن عتبة المسعودي " ، كان ثقة ، واختلط بأخرة ، رواية المتقدمين عنه صحيحة ، مضى مرارًا ، آخرها رقم : 17982 .
و " عبد الله بن مخارق " ، مشكل أمره جدًا . فقد ترجم له البخاري في الكبير 3/1/208 ، وابن أبي حاتم في الجرح والتعديل 2/2/179 ، وقالا جميعًا واللفظ هنا لابن أبي حاتم : " عبد الله بن مخارق بن سليم السلمي كوفي ، روى عن أبيه مخارق ، روى عنه عبد الرحمن بن عبد الله المسعودي ، وأبو العميس عتبة بن عبد الله ، وعبد الملك بن أبي غنية " ، ثم ذكر ابن أبي حاتم عن يحيى بن معين أنه سئل عن " عبد الله بن مخارق بن سليم فقال : مشهور " .
وقال البخاري في ترجمته : " روى سماك ، عن قابوس بن مخارق الشيباني ، وروى أيضًا سليمان الشيباني ، عن مخارق بن سليم الشيباني ، فلا أدري ما بينهما " . فشك البخاري في نسبة أبيه أهو " سلمي " أو " شيباني " ، كما ترى .
فلما ترجم في فصل " مخارق " ، الكبير 4/1/430 ترجم " مخارق " أبو قابوس ، عن علي ، روى عنه ابنه قابوس ، وهو ابن سليم ، قاله ابن طهمان " . ثم ترجم بعده " مخارق بن سليم الشيباني " وقال : " يعد في الكوفيين " ، وأغفل " مخارق بن سليم السلمي " ، الذي ذكر في ترجمة ابنه " عبد الله بن مخارق بن سليم السلمي " ، أنه روى عن أبيه ، وهو صحابي ، كما هو ظاهر . وكذلك فعل ابن أبي حاتم 4/1/352 ، اقتصر أيضًا على " مخارق بن سليم الشيباني " ، وأغفل " السلمي " الذي ذكره في باب " عبد الله " .
وأما الحافظ ابن حجر في التهذيب ، وفي الإصابة ، فإنه قال : " مخارق بن سليم الشيباني " ، أبو قابوس ، روى عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وعن ابن مسعود ، وعمار بن ياسر ، وعلي بن أبي طالب . روى عنه ابناه قابوس ، وعبد الله . ذكره ابن حبان في الثقات " .
فهذا لفظ جامع ، يدل على أن " عبد الله بن مخارق " هذا إنما هو " الشيباني " ، وأن " السلمي " ، نسبة لا يكاد يعرف صاحبها ، وتزيد أباه في الصحابة جهالة ، وهذا مستبعد .
و " عبد الله بن مخارق بن سليم الشيباني " ، هو نابغة بني شيبان ، الشاعر المشهور ، وهو أخو " قابوس بن مخارق بن سليم الشيباني " ، المترجم في التهذيب ، وفي الكبير 4/1/193 ، غير منسوب إلى " شيبان " أو " سليم " وفي ابن أبي حاتم 3/2/145 ، فيما أرجح . وقد كنت قرأت قديمًا في كتاب غاب عني مكانه اليوم : أن قابوسًا كان شاعرًا ، وأن أخاه عبد الله ، نابغة بني شيبان ، كان محدثًا ، ثم رأى أحدهما رؤيا ، أو كلاهما ، فترك " قابوس " الشعر وطلب الحديث ، وترك " عبد الله " الحديث وأخذ في الشعر ، فصار نابغة بني شيبان . وقد كان عبد الله بن مخارق نابغة بني شيبان ، ينشد الشعر فيكثر ، حتى إذا فرغ قبض على لسانه فقال : والله لأسلطن عليك ما يسوءك : سبحان الله ، والحمد لله ، ولا إله إلا الله ، والله أكبر " ( جاء هذا في كتاب المنتقى من أخبار الأصمعي : 6 ) ، فهذا كأنه مؤيد للرواية التي غاب عني مكانها ، وأسأل من وجدها أن يدلني على مكانها .
فهذا الخبر مضطرب جدًا ، ولكن خرجه الهيثمي في مجمع الزوائد 3 : 54 وقال : " رواه الطبراني في الكبير ، وإسناده حسن " ، وخرجه السيوطي في الدر المنثور ونسبه إلى ابن جرير ، والطبراني ، والبيهقي في عذاب القبر .
(2) الأثر : 20772 - هذه هي الطريق الثالثة ، لحديث البراء مختصرًا .
(3) طريق خيثمة ، عن البراء .
من طريق واحدة ، بإسنادين .
1 - سفيان ، عن أبيه ، عن خيثمة .
أما الأول ، فعن " أبي خالد القرشي " ، وهو " عمرو بن خالد القرشي " ، وهو منكر الحديث . كذاب ، غير ثقة ولا مأمون ، مترجم في التهذيب ، والكبير 3/2/328 ، وابن أبي حاتم 3/1/230 وميزان الاعتدال 2 : 286 ، فهو بإسناد أبي خالد متروك لا يشتغل به .
وأما " أبو أحمد " ، فهو الزبيري " محمد بن عبد الله بن الزبير الأسدي " ، ثقة روى له الجماعة مضى مرارًا ، آخرها : 20470 .
و " سفيان " هو الثوري الإمام .
وأبوه " سعيد بن مسروق الثوري " ، ثقة ، روى له الجماعة ، مضى مرارًا آخرها رقم : 13766 .
و " خيثمة " ، هو " خيثمة بن عبد الرحمن بن أبي سبرة الجعفي " ، تابعي ثقة ، روى له الجماعة مضى مرارًا آخرها : 11145 .
ومن طريق سفيان عن أبيه ، رواه مسلم في صحيحه ( 17 : 204 ) ، والنسائي في سننه 4 : 101 ، كلاهما عن عبد الرحمن بن مهدي ، عن سفيان .
(3) الأثر : 20773 - هو مكرر الأثر السالف : 20760 ، مع زيادة .
و " عفان " ، هو " عفان بن مسلم بن عبد الله الصفار " ، ثقة ، من شيوخ أحمد ، روى له الجماعة ، مضى مرارًا آخرها : 20331 .
ومن طريق عفان رواه أحمد في المسند 4 : 282 ، كما سلف في تخريج الخبر رقم 20760 .

(16/598)


ثم صلوا عليه مع الناس ، فإذا دفن أجلس في قبره فيقال له : من ربك ؟ فيقول : ربّيَ الله . ويقال له : منْ رسولك ؟ فيقول : محمد . فيقال له : ما شهادَتُك ؟ فيقول : أشهد أن لا إله إلا الله ، وأن محمدًا رسول الله. فيوسَّع له في قبره مَدّ بَصَره (1) .
20775 - حدثنا الحسن قال ، حدثنا حجاج قال ، قال ابن جريج ، سمعت ابن طاوس يخبر عن أبيه قال ، لا أعلمه إلا قال : هي في فِتنَةِ القبر ، في قوله : ( يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت ) .
20776 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا جرير عن العلاء بن المسيب ، عن أبيه أنه كان يقول في هذه الآية : ( يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة ) ، هي في صاحب القبر.
20777 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عمرو بن عون قال ، أخبرنا هشيم ، عن العوّام ، عن المسيب بن رافع : ( يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة ) ، قال : نزلت في صاحب القبر.
20778 - حدثنا أحمد قال ، حدثنا أبو أحمد قال ، حدثنا عباد بن العوّام ، عن العلاء بن المسيب ، عن أبيه المسيَّب بن رافع ، نحوه.
20779 - حدثني المثنى قال ، أخبرنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الرحمن بن سعد قال ، أخبرنا أبو جعفر الرازي ، عن الربيع ، في قول الله تعالى : ( يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة ) ، قال : بلغنا أن هذه الأمة تُسْأل في قبورها ، فيثبّت الله المؤمن في قبره حين يُسْأل.
20780 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو ربيعة فَهْدٌ قال ، حدثنا أبو عوانة ، عن الأعمش ، عن المنهال بن عمرو ، عن زاذان ، عن البراء بن عازب
__________
(1) الأثر : 20774 - هذا إسناد ضعيف جدًا ، وإن كثر دورانه في التفسير ، وسلف بيانه وشرحه في أول التفسير رقم : 305 .

(16/600)


قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وذكر قبضَ روح المؤمن ، قال : فترجع روحُه في جسده ، ويبعث الله إلَيه مَلكين شديدي الانتهار ، فيجلسانه وينتهرانه ، يقولان : من رَبك ؟ قال : فيقول : الله . وما دينك ؟ قال : الإسلام. قال : فيقولان له : ما هذا الرجل ، أو النبيّ ، الذي بُعث فيكم ؟ فيقول : محمد رسول الله. قال ، فيقولان له : وما يُدْريك ؟ قال : فيقول : قرأت كتابَ الله فآمنتُ به وصدّقت ! فذلك قول الله : ( يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة ) (1) .
20781 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد ، في قوله : ( يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة ) ، قال : نزلت في الميت الذي يُسْأل في قبره عن النبيّ صلى الله عليه وسلم.
20782 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : في قول الله : ( يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة ) ، قال : بلغنا أن هذه الأمة تُسأل في قبورها ، فيثبت الله المؤمنَ حيث يُسْأَل.
20783 - حدثنا أحمد قال ، حدثنا أبو أحمد قال ، حدثنا شريك ، عن إبراهيم بن مهاجر ، عن مجاهد : ( يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في
__________
(1) الأثر : 20780 - حديث البراء بن عازب ، من طريق زاذان عن البراء ، كما سلف في التعليق علي : 20758 ، ثم من طريق الأعمش ، عن المنهال بن عمرو ، كما سلف في التعليق على : 20763 .
" أبو ربيعة " ، " فهد " ، متكلم فيه ، كما سلف بيانه رقم : 5623 ، وقد مضى مرارًا آخرها : 15905 .
و " أبو عوانة " ، هو " الوضاح بن عبد الله اليشكري " ، ثقة ، روى له الجماعة ، مضى مرارًا آخرها : 17010 .
ومن طريق أبي عوانة ، عن الأعمش رواه أبو داود الطيالسي في مسنده مطولا : 102 ، وقد سلف ما قلناه في هذا الإسناد في شرح الأثر رقم : 20763 ، وانظر ما سيأتي رقم : 20787 ، بهذا الإسناد نفسه .

(16/601)


الحياة الدنيا ) ، قال : هذا في القبر مُخَاطبته ، وفي الآخرة مثل ذلك.
* * *
وقال آخرون : معنى ذلك : يثبت الله الذين آمنوا بالإيمان في الحياة الدنيا ، وهو " القول الثابت " " وفي الآخرة " ، المسألةُ في القبر.
* ذكر من قال ذلك :
20784 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر ، عن ابن طاوس ، عن أبيه : ( يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا ) ، قال : لا إله إلا الله( وفي الآخرة ) ، المسألة في القبر.
20785 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : ( يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا ) ، أما " الحياة الدنيا " فيثبتهم بالخير والعمل الصالح ، وقوله( وفي الآخرة ) ، أي في القبر.
* * *
قال أبو جعفر : والصواب من القول في ذلك ما ثبتَ به الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك ، وهو أنّ معناه : (يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا) ، وذلك تثبيته إياهم في الحياة الدنيا بالإيمان بالله وبرسوله محمد صلى الله عليه وسلم (وفي الآخرة) بمثل الذي ثبَّتهم به في الحياة الدنيا ، وذلك في قبورهم حين يُسْألون عن الذي هم عليه من التوحيد والإيمان برسوله صلى الله عليه وسلم.
* * *
وأما قوله : ( ويضلُّ الله الظالمين ) ، فإنه يعني ، أن الله لا يوفِّق المنافق والكافر في الحياة الدنيا وفي الآخرة عند المُسَاءَلة في القبر ، (1) لما هدي له من الإيمان المؤمن بالله ورسوله صلى الله عليه وسلم (2) .
* * *
__________
(1) في المطبوعة : " المسألة " ، وكتب في رسم المخطوطة : " المسايلة " ، وهي صحيحة.
(2) في المطبوعة قدم وأخر : ، " لما هدي له من الإيمان المؤمن بالله " ، وليست بشيء .

(16/602)


وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
20786 - حدثنا محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قال : أما الكافرُ فتنزل الملائكة إذا حضره الموت ، فيبسُطون أيديهم " والبَسْط " ، هو الضرب يضربون وجوههم وأدبارَهم عند الموت. فإذا أدْخِل قبره أقعد فقيل له : من ربك ؟ فلم يرجِع إليهم شيئًا ، وأنساه الله ذكر ذلك . وإذا قيل له : من الرسول الذي بُعِث إليك ؟ لم يهتد له ، ولم يرجع إليه شيئًا ، يقول الله : ( ويضل الله الظالمين ) (1) .
20787 - حدثني المثنى قال ، حدثنا فهْد بن عوف ، أبو ربيعة قال ، حدثنا أبو عوانة ، عن الأعمش ، عن المنهال بن عمرو ، عن زاذان ، عن البراء قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وذَكَر الكافر حين تُقْبض روحه ، قال : فتعاد روحُه في جسده. قال ، فيأتيه ملكَان شديدَا الانتهار ، فيجلسانه فينتهرانه فيقولان له : من ربك ؟ فيقول : لا أدري ؟ قال فيقولان له : ما دينك ؟ فيقول : لا أدري ، قال : فيقال له : ما هذا النبيّ الذي بُعِث فيكم ؟ قال : فيقول : سمعت الناس يقولون ذلك ، لا أدري. قال ، فيقولان : لا دريتَ . قال : وذلك قول الله : ( ويضل الله الظالمين ، ويفعل الله ما يشاء ) . (2)
* * *
وقوله : ( ويفعل الله ما يشاء ) ، يعني تعالى ذكره بذلك : وبيدِ الله الهداية والإضلال ، فلا تنكروا ، أيها الناس ، قدرتَه ، ولا اهتداءَ من كان منكم ضالا ولا ضلالَ من كان منكم مهتديًا ، فإنّ بيده تصريفَ خلقه وتقليبَ قلوبهم ، يفعل فيهم ما يشاء.
__________
(1) في المطبوعة : " يقول : ويضل الله الظالمين ، والصواب ما في المخطوطة .
(2) الأثر : 20787 - هذا آخر حديث البراء بن عازب . وانظر التعليق السالف على الأثر : 20780 .

(16/603)


أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ (28) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ (29)

القول في تأويل قوله تعالى : { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ (28) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ (29) }
يقول تعالى ذكره : ألم تنظر يا محمد( إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا ) يقول : غيروا ما أنعم الله به عليهم من نعمه ، فجعلوها كُفرا به ، وكان تبديلهم نعمة الله كفرا في نبيّ الله محمد صلى الله عليه وسلم ، أنعم الله به على قريش ، فأخرجه منهم ، وابتعثه فيهم رسولا رحمة لهم ، ونعمة منه عليهم ، فكفروا به ، وكذّبوه ، فبدّلوا نعمة الله عليهم به كفرا. وقوله : ( وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ ) يقول : وأنزلوا قومهم من مُشركي قريش دار البوار ، وهي دار الهلاك ، يقال منه : بار الشيء يبور بورا : إذا هلك وبطل ؛ ومنه قول ابن الزِّبعرى ، وقد قيل إنه لأبي سفيان بن الحارث بن عبد المطلب :
يا رَسُولَ الملِيكِ إِنَّ لِسانِي... رَاتِقٌ ما فَتَقْتُ إذْ أنا بُورُ (1)
ثم ترجم عن دار البوار ، وما هي ؟ فقيل( جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ ) يقول : وبئس المستقرّ هي جهنم لمن صلاها. وقيل : إن الذين بدّلوا نعمة الله كفرا : بنو أمية ، وبنو مخزوم.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن بشار وأحمد بن إسحاق ، قالا ثنا أبو أحمد ، قال : ثنا سفيان ، عن عليّ بن زيد ، عن يوسف بن سعد ، عن عمر بن الخطاب ، في قوله : ( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ جَهَنَّمَ ) قال : هما الأفجران من قريش : بنو المغيرة ، وبنو أمية ، فأما بنو المغيرة فكفيتموهم يوم بدر ؛ وأما بنو أمية فمتِّعوا إلى حين.
__________
(1) البيت ( في اللسان : بور ) منسوب إلى عبد الله بن الزبعري السهمي قال : رجل بور ، وكذلك الاثنان والجمع والمؤنث ، وأنشد البيت شاهدا عليه . وفي سيرة ابن هشام أنشد البيت ونسبه إلى ابن الزبعري ، قاله من أبيات حين قدم على النبي صلى الله عليه وسلم ، وكان هاربا منه في نجران. والراتق الذي يصلح ما بلي أو تمزق من الثوب ، وفتقت يعني ما أحدث في الدين من مقاومة النبي وهجائه بشعره ، وهو إثم يشبه الفتق في الثوب ، والتوبة رتق له ، وبور هالك : يقال رجل بور وبائر ، وهو محل الشاهد عند المؤلف ، وقال أبو عبيدة في مجاز القرآن ، " دار البوار " أي الهلاك والفناء ، ويقال منه بار يبور ، ومنه قول عبد الله ابن الزبعرى البيت .

(16/5)


حدثني المثنى ، قال : ثنا أبو نعيم الفضل بن دكين ، قال : أخبرنا حمزة الزيات ، عن عمرو بن مرّة ، قال : قال ابن عباس لعمر رضي الله عنهما : يا أمير المؤمنين ، هذه الآية( الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ ) ؟ قال : هم الأفجران من قريش أخوالي وأعمامك ، فأما أخوالي فاستأصلهم الله يوم بدر ، وأما أعمامك فأملى اللَّه لهم إلى حين.
حدثنا محمد بن بشار ، قال : ثنا عبد الرحمن ، قال : ثنا سفيان ، عن أبي إسحاق (1) عن عمرو ذي مرّ ، عن عليّ( وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ ) قال : الأفجران من قريش.
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا عبد الرحمن ، قال : ثنا شعبة ، عن أبي إسحاق ، عن عمرو ذي مرّ ، عن عليّ ، مثله.
حدثنا أحمد بن إسحاق ، قال : ثنا أبو أحمد ، قال : ثنا سفيان وشريك ، عن أبي إسحاق ، عن عمرو ذي مرّ ، عن عليّ ، قوله( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ ) قال : بنو المغيرة وبنو أمية ، فأما بنو المغيرة ، فقطع الله دابرهم يوم بدر ، وأما بنو أمية فمُتِّعوا إلى حين.
حدثنا محمد بن المثنى ، قال : ثنا محمد بن جعفر ، قال : ثنا شعبة ، عن أبي إسحاق ، قال : سمعت عمرا ذا مرّ ، قال : سمعت عليا يقول في هذه الآية( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ ) قال : الأفجران من بني أسد وبني مخزوم.
حدثنا ابن المثنى ، قال : ثنا عبد الرحمن ، قال : ثنا شعبة ، عن القاسم بن أبي بزّة ، عن أبي الطفيل ، عن عليّ ، قال : هم كفار قريش. يعني في قوله( وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ جَهَنَّمَ ) .
حدثنا ابن المثنى ، قال : ثنا محمد بن جعفر ، قال : ثنا شعبة ، عن القاسم بن أبي بزّة ، عن أبي الطفيل أنه سمع عليّ بن أبي طالب ، وسأله ابن الكوّاء عن هذه الآية( الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ ) قال : هم كفار قريش يوم بدر.
حدثنا ابن وكيع ، قال : ثنا أبو النضر هاشم بن القاسم ، عن شعبة ،
__________
(1) لعله هو عمرو بن مرة ، كما في ابن كثير في هذا الأثر .

(16/6)


عن القاسم بن أبي بزّة ، قال : سمعت أبا الطفيل ، قال : سمعت عليا ، فذكر نحوه.
حدثنا أبو السائب ، قال : ثنا أبو معاوية ، عن إسماعيل بن سميع ، عن مسلم البطين ، عن أبي أرطأة ، عن عليّ في قوله( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا ) قال : هم كفَّار قريش ، هكذا قال أبو السائب مسلم البطين ، عن أبي أرطأة.
حدثنا الحسن بن محمد الزعفراني ، قال : ثنا أبو معاوية الضرير ، قال : ثنا إسماعيل بن سميع ، عن مسلم بن أرطأة ، عن عليّ ، في قوله تعالى( الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا ) قال : كفار قريش.
حدثنا الحسن بن محمد ، قال : ثنا يعقوب بن إسحاق ، قال : ثنا شعبة ، عن القاسم بن أبي بزّة ، عن أبي الطفيل ، عن عليّ ، قال في قول الله( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ ) قال : هم كفار قريش.
حدثنا الحسن بن محمد ، قال : ثنا شبابة ، قال : ثنا شعبة ، عن القاسم بن أبي بزّة ، قال : سمعت أبا الطفيل يحدّث ، قال : سمعت عليا يقول في هذه الآية( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ ) قال : كفار قريش يوم بدر.
حدثنا الحسن ، قال : ثنا الفضل بن دكين ، قال : ثنا بسام الصَّيرفيّ ، قال : ثنا أبو الطفيل عامر بن واثلة ، ذكر أن عليا قام على المنبر فقال : سلوني قبل أن لا تسألوني ، ولن تسألوا بعدي مثلي ، فقام ابن الكوّاء فقال ، من( الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ ) ؟ قال : منافقو قريش.
حدثنا الحسن ، قال : ثنا محمد بن عبيد ، قال : ثنا بسام ، عن رجل قد سماه الطنافسيّ ، قال : جاء رجل إلى عليّ ، فقال : يا أمير المؤمنين : من( الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ ) ؟ قال : في قريش.
حدثنا أحمد بن إسحاق ، قال : ثنا أبو أحمد ، قال : ثنا بسام الصيرفيّ ، عن أبي الطفيل ، عن عليّ أنه سئل عن هذه الآية( الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا ) قال : منافقو قريش.

(16/7)


حدثنا الحسن بن محمد ، قال : ثنا عفان ، قال : ثنا حماد ، قال : ثنا عمرو بن دينار ، أن ابن عباس قال في قوله( وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ ) قال : هم المشركون من أهل بدر.
حدثنا الحسن بن محمد ، قال : ثنا عبد الجبار ، قال : ثنا سفيان ، عن عمرو ، قال : سمعت عطاء يقول : سمعت ابن عباس يقول : هم والله أهل مكة( الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ ) .
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثنا صالح بن عمر ، عن مطرف بن طريف ، عن أبى إسحاق قال : سمعت عمرا ذا مرّ يقول : سمعت عليا يقول على المنبر ، وتلا هذه الآية( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ ) . قال : هما الأفجران من قريش ، فأما أحدهما فقطع الله دابرهم يوم بدر ، وأما الآخر فمُتِّعوا إلى حين.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، وحدثنا الحسن ، قال : ثنا شبابة ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد قوله( بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا ) قال : كفار قريش.
حدثنا أحمد بن إسحاق ، قال : ثنا أبو أحمد ، قال : ثنا عبد الوهاب ، عن مجاهد ، قال : كفار قريش.
حدثنا المثنى ، قال : ثنا أبو حذيفة ، قال : ثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد( بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا ) كفار قريش.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله.
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا ابن عيينة ، عن عمرو بن دينار ، عن عطاء ، قال : سمعت ابن عباس يقول : هم والله( الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ ) قريش. أو قال : أهل مكة.
حدثنا ابن وكيع وابن بشار ، قالا حدثنا غُنْدر ، عن شعبة ، عن أبي بشر ، عن سعيد بن جبير في هذه الآية( الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ

(16/8)


دَارَ الْبَوَارِ ) قال : قتلى يوم بدر.
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثني عبد الصمد ، قال : ثنا شعبة ، عن أبي بشر ، عن سعيد بن جبير( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ ) قال : هم كفار قريش.
حدثنا محمد بن بشار ومحمد بن المثنى ، قالا ثنا عبد الرحمن ، قال : ثنا هشيم ، عن حُصَين ، عن أبي مالك وسعيد بن جبير ، قالا هم قتلى بدر من المشركين.
حدثنا أبو كريب ، قال : ثنا ابن عيينة ، عن عمرو ، عن عطاء ، عن ابن عباس في( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ ) قال : هم والله أهل مكة. قال : أبو كريب : قال سفيان : يعني كفارهم.
حدثني المثنى ، قال : ثنا الحجاج ، قال : ثنا حماد ، عن عمرو بن دينار ، عن ابن عباس ، في قوله( وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ ) قال : هم المشركون من أهل بدر.
حدثني المثنى ، قال : ثنا عمرو بن عون ، قال : أخبرنا هشيم ، عن إسماعيل بن أبي خالد ، عن أبي إسحاق ، عن بعض أصحاب عليّ ، عن عليّ ، في قوله( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا ) قال : هم الأفجران من قريش من بني مخزوم وبني أمية ، أما بنو مخزوم فإن الله قطع دابرهم يوم بدر ، وأما بنو أمية فمُتِّعوا إلى حين.
حدثني المثنى ، قال : ثنا معلى بن أسد ، قال : أخبرنا خالد ، عن حصين ، عن أبي مالك ، في قول الله( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا ) قال : هم القادة من المشركين يوم بدر.
حدثني المثنى ، قال : ثنا عمرو بن عون ، قال : أخبرنا هشيم ، عن حصين ، عن أبي مالك وسعيد بن جبير ، قالا هم كفار قريش من قُتل ببدر.
حدثني المثنى ، قال : ثنا عمرو بن عون ، قال : أخبرنا هشيم ، عن جويبر ، عن الضحاك ، قال : هم كفار قريش ، من قُتل ببدر.
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد بن سليمان ، قال : سمعت الضحاك ، يقول في قوله( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ

(16/9)


اللَّهِ كُفْرًا ) ... الآية ، قال : هم مشركو أهل مكة.
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة بن الفضل ، قال : أخبرني محمد بن إسحاق ، عن بعض أصحابه ، عن عطاء بن يسار ، قال : نزلت هذه الآية في الذين قُتلوا من قريش( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ ) ... الآية.
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : ثنا يزيد بن زريع ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ ) كنا نحدّث أنهم أهل مكة : أبو جهل وأصحابه الذين قتلهم الله يوم بدر ، قال الله : ( جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ ) .
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : ثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، في قوله( وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ ) قال : هم قادة المشركين يوم بدر ، أحلوا قومهم دار البوار( جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا ) .
حدثنا يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ ) قال : هؤلاء المشركون من أهل بدر. وقال آخرون في ذلك ، بما حدثني به محمد بن سعد ، قال : حدثني أبي ، قال : حدثني عمي ، قال : حدثني أبي عن ابن عباس ، قوله( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا ) فهو جبلة بن الأيهم ، والذين اتبعوه من العرب فلحقوا بالروم.
وبنحو الذي قلنا في معنى قوله( وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ ) قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى ، قال : ثنا عمرو بن عون ، قال : أخبرنا هشيم ، عن جويبر ، عن الضحاك( وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ ) قال : أحلوا من أطاعهم من قومهم.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ،

(16/10)


وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ (30)

عن ابن عباس( دَارَ الْبَوَارِ ) قال : الهلاك. قال ابن جريج ، قال مجاهد( وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ ) قال : أصحاب بدر.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله( دَارَ الْبَوَارِ ) النار. قال : وقد بَيَّن الله ذلك وأخبرك به ، فقال( جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ ) .
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : ثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة( دَارَ الْبَوَارِ جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا ) هي دارهم في الآخرة.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ (30) }
يقول تعالى ذكره : وجعل هؤلاء الذين بدّلوا نعمة اللَّه كفرا لربهم أندادا ، وهي جماع نِدّ ، وقد بيَّنت معنى الندّ ، فيما مضى بشواهده بما أغنى عن إعادته ، وإنما أراد أنهم جعلوا لله شركاء .
كما حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله( وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا ) والأنداد : الشركاء. وقوله( لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ ) اختلفت القرّاء في قراءة ذلك ، فقرأته عامَّة قرّاء الكوفيين( لِيُضِلُّوا ) بمعنى : كي يضلوا الناس عن سبيل الله بما فعلوا من ذلك. وقرأته عامَّة قرّاء أهل البصرة : " ليَضَلُّوا " بمعنى : كي يضلّ جاعلو الأنداد لله عن سبيل الله. وقوله( قُلْ تَمَتَّعُوا ) يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : قل يا محمد لهم : تمتعوا في الحياة الدنيا وعيدا من الله لهم ، لا إباحَة لهم التمتع بها ، ولا أمرا على وجه العبادة ، ولكن توبيخا وتهددا ووعيدا ، وقد بَيَّن ذلك بقوله( فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ ) يقول : استمتعوا في الحياة الدنيا ، فإنها سريعة الزوال عنكم ، وإلى النار تصيرون عن قريب ، فتعلمون هنالك غبّ تمتعكم في الدنيا بمعاصي الله وكفركم فيها به.
القول في تأويل قوله تعالى : { قُلْ لِعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ

(16/11)


قُلْ لِعِبَادِيَ الَّذِينَ آَمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خِلَالٌ (31)

وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خِلالٌ (31) }
يقول تعالى ذكره لنبيه صلى الله عليه وسلم( قُلْ) يا محمد( لِعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا ) بك ، وصدّقوا أن ما جئتهم به من عندي( يُقِيمُوا الصَّلاةَ ) يقول : قل لهم : فليقيموا الصلوات الخمس المفروضة عليهم بحدودها ، ولينفقوا مما رزقناهم ، فخوّلناهم من فضلنا سرّا وعلانية ، فليؤدّوا ما أوجبت عليهم من الحقوق فيها سرّا وإعلانا( مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ ) يقول : لا يقبل فيه فدية وعوض من نفس وجب عليها عقاب الله بما كان منها من معصية ربها في الدنيا ، فيقبل منها الفدية ، وتترك فلا تعاقب. فسمى الله جل ثناؤه الفدية عوضا ، إذ كان أخذ عوض من معتاض منه. وقوله( وَلا خِلالٌ ) يقول : وليس ، هناك مخالة خليل ، فيصفح عمن استوجب العقوبة عن العقاب لمخالته ، بل هنالك العدل والقسط ، فالخلال مصدر من قول القائل : خاللت فلانا فأنا أخاله مخالة وخلالا ومنه قول امرئ القيس :
صرفْتُ الهَوَى عَنْهُنَّ مِنْ خَشْيَهِ الرَّدَى... وَلَسْتُ بِمَقْلِيَ الخِلالِ ولا قالي (1)
وجزم قوله( يُقِيمُوا الصَّلاةَ ) بتأويل الجزاء ، ومعناه : الأمر يراد قل لهم ليقيموا الصلاة.
حدثني المثنى ، قال : ثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس( قُلْ لِعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ ) يعني الصلوات الخمس( وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً ) يقول : زكاة أموالهم.
حدثني المثنى ، قال : ثنا إسحاق ، قال : ثنا هشام ، عن عمرو ، عن سعيد ، عن قتادة ، في قوله( مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خِلالٌ ) قال قتادة : إن الله تبارك وتعالى قد علم أن في الدنيا بيوعا وخلالا يتخالُّون بها في
__________
(1) البيت لامرئ القيس ( مختار الشعر الجاهلي بشرح مصطفى السقا ، طبعة الحلبي ص 40 ) قال : الردى هنا : الفضيحة ، أي لم أنصرف عنهن لأني قليّهن ، ولا لأنهن قلينني ، ولكن خشية الفضيحة والعار. والخلال هنا : مصدر خاله يخاله خلال ومخالة ، بمعنى المصادقة ، وبه استشهد المؤلف على هذا المعنى وفي ( اللسان : خلل ) وقوله تعالى : " لا بيع فيه ولا خلال " : قيل : هو مصدر خالك ، وقيل : هو جمع خلة ( بضم الخاء ) كجلة وجلال ، وفي مجاز القرآن لأبي عبيدة : مجازة : مبايعة فدية ، ولا مخالة خليل ، وله موضع آخر أيضا ، تجعله جمع خلة بمنزلة جلة ، والجمع : جلال ؛ وقلة ، والجمع : قلال .

(16/12)


اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ (32) وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ (33)

الدنيا ، فينظر رجل من يخالل وعلام يصاحب ، فإن كان لله فليداوم ، وإن كان لغير الله فإنها ستنقطع.
القول في تأويل قوله تعالى : { اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ وَأَنزلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الأنْهَارَ (32) }
يقول تعالى ذكره : الله الذي أنشأ السماوات والأرض من غير شيء أيها الناس ، وأنزل من السماء غيثا أحيا به الشجر والزرع ، فأثمرت رزقا لكم تأكلونه( وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ ) وهي السفن( لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ ) لكم تركبونها وتحملون فيها أمتعتكم من بلد إلى بلد( وَسَخَّرَ لَكُمُ الأنْهَارَ ) ماؤُها شراب لكم ، يقول تعالى ذكره : الذي يستحقّ عليكم العبادة وإخلاص الطاعة له ، من هذه صفته ، لا من لا يقدر على ضرّ ولا نفع لنفسه ولا لغيره من أوثانكم أيها المشركون وآلهتكم.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، وحدثنا الحسن بن محمد ، يعني الزعفرانيّ ، قال : ثنا شبابة ، قال : ثنا ورقاء ، وحدثني المثنى ، قال : أخبرنا إسحاق ، قال : ثنا عبد الله ، وحدثني المثنى ، قال : ثنا أبو حذيفة ، قال : ثنا شبل جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله( وَسَخَّرَ لَكُمُ الأنْهَارَ ) قال : بكل بلدة.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ (33) }
يقول تعالى ذكره( اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ ) وفعل الأفعال التي وصف( وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ ) يتعاقبان عليكم أيها الناس بالليل والنهار ، لصلاح أنفسكم ومعاشكم(دَائِبَيْنِ) في اختلافهما عليكم. وقيل : معناه : أنهما دائبان في طاعة الله.

(16/13)


حدثنا خلف بن واصل ، عن رجل ، عن مقاتل بن حيان ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، في قوله( وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ ) قال : دءوبهما في طاعة الله.
وقوله( وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ ) يختلفان عليكم باعتقاب ، إذا ذهب هذا جاء هذا بمنافعكم وصلاح أسبابكم ، فهذا لكم لتصرّفكم فيه لمعاشكم ، وهذا لكم للسكن تسكنون فيه ، ورحمة منه بكم.

(16/14)


وَآَتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ (34) وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آَمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ (35) رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (36)

القول في تأويل قوله تعالى : { وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ الإنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ (34) }
يقول تعالى ذكره : وأعطاكم مع إنعامه عليكم بما أنعم به عليكم من تسخير هذه الأشياء التي سخرها لكم والرزق الذي رزقكم من نبات الأرض وغروسها من كل شيء سألتموه ، ورغبتم إليه شيئا ، وحذف الشيء الثاني اكتفاء بما التي أضيفت إليها كلّ ، وإنما جاز حذفه ، لأن من تُبعِّض ما بعدها ، فكفت بدلالتها على التبعيض من المفعول ، فلذلك جاز حذفه ، ومثله قوله تعالى : ( وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ ) يعني به : وأوتيت من كل شيء في زمانها شيئا ، وقد قيل : إن ذلك إنما قيل على التكثير ، نحو قول القائل : فلان يعلم كل شيء ، وأتاه كل الناس ، وهو يعني بعضهم ، وكذلك قوله( فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ ) . وقيل أيضا : إنه ليس شيء إلا وقد سأله بعض الناس ، فقيل( وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ ) أي قد أتى بعضكم منه شيئا ، وأتى آخر شيئا مما قد سأله. وهذا قول بعض نحويّي أهل البصرة.
وكان بعض نحويِّي أهل الكوفة يقول : معناه : وآتاكم من كلّ ما سألتموه لو سألتموه ، كأنه قيل : وآتاكم من كلّ سؤلكم ، وقال : ألا ترى أنك تقول للرجل ، لم يسألك شيئا : والله لأعطينك سُؤْلك ما بلغت مسألتك ، وإن لم يسأل .
فأما أهل التأويل ، فإنهم اختلفوا في تأويل ذلك ، فقال بعضهم : معناه : وآتاكم من كلّ ما رغبتم إليه فيه.

(17/14)


* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن قال : ثنا ورقاء ، وحدثني الحسن بن محمد ، قال : ثنا شبابة ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح عن مجاهد( مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ ) ورغبتم إليه فيه.
حدثني المثنى ، قال : ثنا أبو حذيفة ، قال : ثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، وحدثني المثنى ، قال : ثنا عبد الله ، عن ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، وحدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : ثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن الحسن( وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ ) قال : من كلّ الذي سألتموه.
وقال آخرون : بل معنى ذلك : وآتاكم من كل الذي سألتموه والذي لم تسألوه.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا الحسن بن محمد ، قال : ثنا خلف ، يعني ابن هشام ، قال : ثنا محبوب ، عن داود بن أبي هند ، عن رُكانة بن هاشم( مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ ) وقال : ما سألتموه وما لم تسألوه.
وقرأ ذلك آخرون " وآتاكُمْ مِنْ كُلٍّ ما سألْتُمُوهُ " بتنوين كلّ وترك إضافتها إلى " ما " بمعنى : وآتاكم من كلّ شيء لم تسألوه ولم تطلبوه منه ، وذلك أن العباد لم يسألوه الشمس والقمر والليل والنهار . وخلق ذلك لهم من غير أن يسألوه.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني أبو حُصَين ، عبد الله بن أحمد بن يونُس ، قال : ثنا بَزِيع ، عن الضحاك بن مُزاحم في هذه الآية : " وآتاكم من كلّ ما سألتموه " قال : ما لم تسألوه.
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا يحيى بن واضح ، قال : ثنا عبيد ، عن الضحاك أنه كان يقرأ : " مِنْ كُلَّ ما سألْتُمُوه " ويفسره : أعطاكم أشياء ما سألتموها ولم تلتمسوها ، ولكن أعطيتكم برحمتي وسعتي. قال الضحاك : فكم من شيء أعطانا الله ما سألناه ولا طلبناه.
حُدثت عن الحسين بن الفرج ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد

(17/15)


بن سليمان ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : " وآتاكم من كلّ ما سألتموه " يقول : أعطاكم أشياء ما طلبتموها ولا سألتموها ، صدق الله كم من شيء أعطاناه الله ما سألناه إياه ولا خطر لنا على بال.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : ثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : " وآتاكم من كلّ ما سألتموه " قال : لم تسألوه من كلّ الذي آتاكم.
والصواب من القول في ذلك عندنا ، القراءة التي عليها قرّاء الأمصار ، وذلك إضافة " كلّ " إلى " ما " بمعنى : وآتاكم من سؤلكم شيئا . على ما قد بيَّنا قبل ، لإجماع الحجة من القرّاء عليها ورفضهم القراءة الأخرى.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ الإنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ (34) }
يقول تعالى ذكره : وإن تعدّوا أيها الناس نعمة الله التي أنعمها عليكم لا تطيقوا إحصاء عددها والقيام بشكرها إلا بعون الله لكم عليها.( إِنَّ الإنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ ) يقول : إن الإنسان الذي بدل نعمة الله كفرا لظلوم : يقول : لشاكر غير من أنعم عليه ، فهو بذلك من فعله واضع الشكر في غير موضعه ، وذلك أن الله هو الذي أنعم عليه بما أنعم واستحق عليه إخلاص العبادة له ، فعبد غيره وجعل له أندادا ليضلّ عن سبيله ، وذلك هو ظلمه ، وقوله( كَفَّارٌ ) يقول : هو جحود نعمة الله التي أنعم بها عليه لصرفه العبادة إلى غير من أنعم عليه ، وتركه طاعة من أنعم عليه.
حدثنا الحسن بن محمد ، قال : ثنا يزيد بن هارون ، قال : ثنا مِسْعَر ، عن سعد بن إبراهيم ، عن طلق بن حبيب ، قال : إن حقّ الله أثقل من أن تقوم به العباد ، وإن نعم الله أكثر من أن تحصيَها العباد ، ولكن أصبِحوا تَوّابين وأمسُوا توّابين.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ (35) رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (36) }

(17/16)


يقول تعالى ذكره : ( و) اذكر يا محمد( وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا ) يعني الحَرَم ، بلدا آمنا أهله وسكانه( وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ ) يقال منه : جَنَبْته الشرّ فأنا أَجْنُبُه جَنْبا وجَنَّبته الشر ، فأنا أجَنِّبُه تجنيبا ، وأجنبته ذلك فأنا أُجْنِبه إجنابا ، ومن جَنَبْتُ قول الشاعر :
وَتَنْفُضُ مَهْدَهُ شَفَقا عَلَيْه... وَتَجْنِبُهُ قَلائِصَنا الصِّعابَا (1)
ومعنى ذلك : أبعدْني وبنيّ من عبادة الأصنام ، والأصنام : جمع صنم ، والصنم : هو التمثال المصوّر ، كما قال رُؤبة بن العجَّاج في صفة امرأة :
وَهْنانَةٌ كالزُّونِ يُجْلَى صَنَمُهْ... تَضْحَكُ عن أشْنَبَ عَذْبٍ مَلْثَمُهْ (2)
وكذلك كان مجاهد يقول : حدثني المثنى ، قال : ثنا أبو حُذيفة ، قال : ثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد( وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ ) قال : فاستجاب الله لإبراهيم دعوته في ولده ، قال : فلم يعبد أحد من ولده صنما بعد دعوته. والصنم : التمثال المصوّر ، ما لم يكن صنما فهو وثَن ، قال : واستجاب الله له ، وجعل هذا البلد آمنا ، ورزق أهله من الثمرات ، وجعله إماما ، وجعل من ذرّيته من يقيم الصلاة ، وتقبَّل دعاءه ، فأراه مناسِكَة ، وتاب عليه.
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا جرير ، عن مغيرة ، قال : كان إبراهيم التيميّ يقصُّ ويقول في قَصَصه : من يأمن من البلاء بعد خليل الله إبراهيم ، حين يقول : ربّ( اجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ ) .
وقوله( رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ ) يقول : يا ربّ إن الأصنام
__________
(1) البيت في ( مجاز القرآن لأبي عبيدة 1 : 342 ) قال : جنبت الرجل الأمر ، وهو يجنب أخاه الشر ، وجنبته ( بتشديد النون ) واحد ، وأنشد البيت ، وشدده ذو الرمة فقال : وشعر قد أرقت له بليل ... أجنبه المساند والمحالا
يريد أن المرأة تشفق على طفلها ، فتنفض فراشه خوفا عليه مما يؤذيه ، ولا تركب به النوق الفتية ، وهي القلائص ، لأن نشاطها في السير يؤذيه ، وقال الفراء في معاني القرآن ، ( الورقة 164 ) أهل الحجاز يقولون : جنبني ، خفيفة ، وأهل نجد يقولون : أجنبني شره ، وجنبني شره .
(2) البيت لرؤبة من . أرجوزة له مطلعها : " قلت لزير لم تصله مريمة " ، وقوله " وهنانة " : صفة لأروى في البيت قبله وهو : " إذا حب أروى همه وسدمه " . والزون : الصنم . وملثمة : مقبلة . وقد شبه أروى بالصنم المجلو في البهاء والحسن . والوهنانة كما في اللسان : الكسل عن العمل تنعما . قال أبو عبيدة : الوهنانة التي فيها فترة .

(17/17)


رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ (37)

أضللن : يقول : أزلن كثيرا من الناس عن طريق الهُدى وسبيل الحق حتى عبدوهنّ ، وكفروا بك.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله( إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ ) يعني الأوثان.
حدثني المثنى ، قال : ثنا إسحاق ، قال : ثنا هشام ، عن عمرو ، عن سعيد ، عن قتادة( إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ ) قال : الأصنام.
وقوله( فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي ) يقول : فمن تبعني على ما أنا عليه من الإيمان بك وإخلاص العبادة لك وفراق عبادة الأوثان ، فإنه مني : يقول : فإنه مستنّ بسنَّتِي ، وعامل بمثل عملي( وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) يقول : ومن خالف أمري فلم يقبل مني ما دعوته إليه ، وأشرك بك ، فإنه غفور لذنوب المذنبين الخَطائين بفضلك ، ورحيم بعبادك تعفو عمن تشاء منهم .
كما حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة قوله( فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) اسمعوا إلى قول خليل الله إبراهيم لا والله ما كانوا طَعَّانين ولا لعَّانين ، وكان يقال : إنّ من أشرّ عباد الله كلّ طعان لعان ، قال نبيّ الله ابن مريم عليه السلام( إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ) .
حدثني المثنى ، قال : ثنا أصبغ بن الفرج ، قال : أخبرني ابن وهب ، قال : ثنا عمرو بن الحارث أن بكر بن سؤادة ، حَدثه عن عبد الرحمن بن جُبير ، عن عبد الله بن عمرو بن العاص ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تلا قول إبراهيم( رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) ، وقال عيسى( إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ) فرفع يديه ثم قال : اللَّهُمَّ أُمَّتِي ، اللَّهُمَّ أُمَّتِي ، وبكى ، فقال اللَّه تعالى : يا جبريل اذهب إلى محمد ، وربك أعلم ، فاسأله ما يُبكيه ؟ فأتاه جبرئيل فسأله ، فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال ، قال : فقال الله : يا جبرئيل اذهب إلى محمد وقل له : إنا سنرضيك في أمتك ولا نسوءُك .
القول في تأويل قوله تعالى : { رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ

(17/18)


غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ (37) }
وقال إبراهيم خليل الرحمن هذا القول حين أسكن إسماعيل وأمه هاجَرَ - فيما ذُكِر - مكة .
كما حدثني يعقوب بن إبراهيم والحسن بن محمد قالا ثنا إسماعيل بن إبراهيم ، عن أيوب ، قال : نبئت عن سعيد بن جبير ، أنه حدث عن ابن عباس ، قال : إنّ أوّل من سَعى بين الصَّفا والمروة لأمُّ إسماعيل ، وإن أوّل ما أحدث نساء العرب جرّ الذيول لمن أمّ إسماعيل ، قال : لما فرّت من سارة ، أرخت من ذيلها لتعفي أثرها ، فجاء بها إبراهيم ومعها إسماعيل حتى انتهى بهما إلى موضع البيت ، فوضعهما ثم رجع ، فاتبعته ، فقالت : إلى أيِّ شيء تكلنا ؟ إلى طعام تكلنا ؟ إلى شراب تكلنا ؟ فجعل لا يردّ عليها شيئا ، فقالت : آلله أمرك بهذا ؟ قال : نعم ، قالت : إذن لا يضيعنا. قال : فرجعت ومضى حتى إذا استوى على ثنية كَدَاء ، أقبل على الوادي فدعا ، فقال( رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ ) قال : ومع الإنسانة شَنَّة فيها ماء ، فنفِد الماء فعطشت وانقطع لبنها ، فعطش الصبيّ ، فنظرت أيّ الجبال أدنى من الأرض ، فصَعِدت بالصفا ، فتسمعت هل تسمع صوتا أو ترى أنيسا ؟ فلم تسمع ، فانحدرت ، فلما أتت على الوادي سعت وما تريد السعي ، كالإنسان المجهود الذي يسعى وما يريد السعي ، فنظرت أيّ الجبال أدنى من الأرض ، فصَعِدت المروة فتسمعت هل تسمع صوتا ، أو ترى أنيسا ، فسمعت صوتا ، فقالت كالإنسان الذي يكذّب سمعه : صه ، حتى استيقنت ، فقالت : قد أسمعتني صوتك فأغثني ، فقد هلكتُ وهلك من معي ، فجاء المَلك فجاء بها حتى انتهى بها إلى موضع زمزم ، فضرب بقدمه ففارت عينا ، فعجلت الإنسانة فجعلت في شَنها ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " رَحِمَ اللهُ أُمَّ إِسْماعيلَ لَوْلا أنَّها

(17/19)


عَجِلَتْ لَكانَتْ زَمْزَمُ عَيْنا مَعِينا (1) " . وقال لها الملك : لا تخافي الظمأ على أهل هذا البلد ، فإنما هي عين لشرب ضِيفان الله ، وقال : إن أبا هذا الغلام سيجيء ، فيبنيان لله بيتا هذا موضعه ، قال : ومرّت رفقة من جرهم تريد الشام ، فرأوا الطير على الجبل ، فقالوا : إن هذا الطير لعائف على ماء ، فهل علمتم بهذا الوادي من ماء ؟ فقالوا : لا فأشرفوا فإذا هم بالإنسانة ، فأتوها فطلبوا إليها أن ينزلوا معها ، فأذنت لهم ، قال : وأتى عليها ما يأتي على هؤلاء الناس من الموت ، فماتت ، وتزوج إسماعيل امرأة منهم ، فجاء إبراهيم فسأل عن منزل إسماعيل حتى دُل عليه ، فلم يجده ، ووجد امرأة له فظة غليظة ، فقال لها : إذا جاء زوجك فقولي له : جاء هنا شيخ من صفته كذا وكذا ، وإنه يقول لك : إني لا أرضى لك عَتَبة بابك فحوِّلها ، وانطلق ، فلما جاء إسماعيل أخبرته ، فقال : ذلك أبي وأنت عتبة بأبي ، فطلقها وتزوّج امرأة أخرى منهم ، وجاء إبراهيم حتى انتهى إلى منزل إسماعيل ، فلم يجده ، ووجد امرأة له سهلة طليقة ، فقال لها : أين انطلق زوجك ؟ فقالت : انطلق إلى الصيد ، قال : فما طعامكم ؟ قالت : اللحم والماء ، قال : اللهمّ بارك لهم في لحمهم ومائهم ، اللهم بارك لهم في لحمهم ومائهم ثلاثا ، وقال لها : إذا جاء زوجك فأخبريه ، قولي : جاء هنا شيخ من صفته كذا وكذا ، وإنه يقول لك : قد رضيت لك عتبة بابك ، فأثبتها ، فلما جاء إسماعيل أخبرته. قال : ثم جاء الثالثة ، فرفعا القواعد من البيت.
حدثنا الحسن بن محمد ، قال : ثنا يحيى بن عباد ، قال : ثنا حماد بن سلمة ، عن عطاء بن السائب ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال : جاء نبيّ الله إبراهيم بإسماعيل وهاجر ، فوضعهما بمكة في موضع زمزم ، فلما مضى نادته هاجر : يا إبراهيم إنما أسألك ثلاث مرات : من أمرك أن تضعني بأرض ليس فيها ضَرْع ولا زرع ، ولا أنيس ، ولا زاد ولا ماء ؟ قال : ربي أمرني ، قالت : فإنه لن يضيِّعنا قال : فلما قفا إبراهيم قال( رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ ) يعني من الحزن( وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الأَرْضِ وَلا
__________
(1) معينا : جارية سائحة على وجه الأرض .

(17/20)


فِي السَّمَاءِ ) . فلما ظمئ إسماعيل جعل يَدْحَض الأرض بعقبه ، فذهبت هاجر حتى علت الصفا ، والوادي يومئذ لاخ ، يعني عميق ، فصعدت الصفا ، فأشرفت لتنظر هل ترى شيئا ؟ فلم تر شيئا ، فانحدرت فبلغت الوادي ، فسعت فيه حتى خرجت منه ، فأتت المروة ، فصعدت فاستشرفت هل ترى شيئا ، فلم تر شيئا. ففعلت ذلك سبع مرّات ، ثم جاءت من المروة إلى إسماعيل ، وهو يَدْحَض الأرض بعقبه ، وقد نبعت العين وهي زمزم. فجعلت تفحص الأرض بيدها عن الماء ، فكلما اجتمع ماء أخذته بقدحها ، وأفرغته في سقائها. قال : فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم : يَرْحَمُها اللهُ لَوْ تَرَكَتْها لَكانَتْ عَيْنا سائِحَةً تَجْرِي إلى يَوْمِ القِيامَةِ " . قال : وكانت جُرهُمُ يومئذ بواد قريب من مكة ، قال : ولزمت الطير الوادي حين رأت الماء ، فلما رأت جرهم الطير لزمت الوادي ، قالوا : ما لزمته إلا وفيه ماء ، فجاءوا إلى هاجرَ ، فقالوا : إن شئت كنا معك وآنسناك والماء ماؤك ، قالت : نعم. فكانوا معها حتى شبّ إسماعيل ، وماتت هاجر فتزوّج إسماعيل امرأة منهم ، قال : فاستأذن إبراهيم سارة أن يأتي ، هاجر ، فأذنت له وشرطت عليه أن لا ينزل ، فقدم إبراهيم وقد ماتت هاجر ، فذهب إلى بيت إسماعيل ، فقال لامرأته : أين صاحبك ؟ قالت : ليس ههنا ذهب يتصيد ، وكان إسماعيل يخرج من الحرم فيتصيد ثم يرجع ، فقال إبراهيم : هل عندك ضيافة ، هل عندك طعام أو شراب ؟ قالت : ليس عندي ، وما عندي أحد. فقال إبراهيم : إذا جاء زوجك فأقرئيه السلام وقولي له : فليغير عتبة بابه ! وذهب إبراهيم ، وجاء إسماعيل ، فوجد ريح أبيه ، فقال لامرأته : هل جاءك أحد ؟ فقالت : جاءني شيخ كذا وكذا ، كالمستخفة بشأنه ، قال : فما قال لك ؟ قالت : قال لي : أقرئي زوجك السلام وقولي له : فليغير عتبة بابه ، فطلقها وتزوج أخرى. فلبث إبراهيم ما شاء الله أن يلبث ، ثم استأذن سارة أن يزور إسماعيل ، فأذنت له ، وشرطت عليه أن لا ينزل ، فجاء إبراهيم حتى انتهى إلى باب إسماعيل ، فقال لامرأته : أين صاحبك ؟ قالت : ذهب يصيد ، وهو يجيء الآن إن شاء الله ، فأنزل يرحمك الله قال لها : هل عندك ضيافة ؟ قالت : نعم ، قال : هل عندك خبز أو بر أو تمر أو شعير ؟ قالت : لا. فجاءت باللبن واللحم ، فدعا لهما بالبركة ، فلو جاءت يومئذ بخبز أو بر أو شعير أو تمر لكانت أكثر أرض الله برا وشعيرا وتمرا ، فقالت له : أنزل حتى أغسل رأسك ، فلم ينزل ، فجاءته بالمقام فوضعته عن شقه الأيمن ، فوضع قدمه عليه ، فبقي أثر قدمه عليه ، فغسلت شق رأسه الأيمن ، ثم حوّلت المقام إلى شقه الأيسر فغسلت شقه الأيسر ، فقال لها : إذا جاء زوجك فأقرئيه السلام ، وقولي له : قد استقامت عتبة بابك ، فلما جاء إسماعيل وجد ريح أبيه ، فقال لامرأته : هل جاءك أحد ؟ فقالت : نعم ، شيخ أحسن الناس وجها وأطيبه ريحا ، فقال لي كذا وكذا ، وقلت له كذا وكذا ، وغسلتُ رأسه ، وهذا موضع قدمه على المقام. قال : وما قال لك ؟ قالت : قال لي : إذا جاء زوجك فأقرئيه السلام وقولي له : قد استقامت عتبة بابك ، قال : ذاك إبراهيم ، فلبث ما شاء الله أن يلبث ، وأمره الله ببناء البيت ، فبناه هو وإسماعيل ، فلما بنياه قيل : أذن في الناس بالحجّ ، فجعل لا يمرّ بقوم إلا قال : أيها الناس إنه قد بني لكم بيت فحجوه ، فجعل لا يسمعه أحد ، صخرة ولا شجرة ولا شيء ، إلا قال : لبيك اللهم لبيك. قال : وكان بين قوله( رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ ) وبين قوله( الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ ) كذا وكذا عاما ، لم يحفظ عطاء.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله( رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ ) وإنه بيت طهَّره الله من السُّوء ، وجعله قبلة ، وجعله حَرَمه ، اختاره نبيّ الله إبراهيم لولده.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : ثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة( غَيْرِ ذِي زَرْعٍ ) قال : مكة لم يكن بها زرع يومئذ.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : أخبرني ابن كثير ، قال القاسم في حديثه : قال : أخبرني عمرو بن كثير " قال أبو جعفر " : فغيرته أنا فجعلته : قال أخبرني ابن كثير ، وأسقطت عمرا ، لأني لا أعرف إنسانًا يقال له عمرو بن كثير حدّث عنه ابن جريج ، وقد حدَّث به معمر عن كثير بن كثير بن المطلب بن أبي وداعة ، وأخشى أن يكون حديث

(17/21)


ابن جريج أيضا عن كثير بن كثير ، قال : كنت أنا وعثمان بن أبي سليمان في أناس مع سعيد بن جبير ليلا فقال سعيد بن جبير للقوم : سلوني قبل ألا تسألوني ، فسأله القوم فأكثروا ، وكان فيما سُئل عنه أن قيل له : أحقّ ما سمعنا في المقام ، فقال سعيد : ماذا سمعتم ؟ قالوا : سمعنا أن إبراهيم رسول الله حين جاء من الشام ، كان حلف لامرأته أن لا ينزل مكة حتى يرجع ، فقرب له المقام ، فنزل عليه ، فقال سعيد : ليس كذاك : حدثنا ابن عباس ، ولكنه حدثنا حين كان بين أم إسماعيل وسارة ما كان أقبل بإسماعيل ، ثم ذكر مثل حديث أيوب غير أنه زاد في حديثه ، قال : قال أبو القاسم صلى الله عليه وسلم : طَلَبُوا النزولَ مَعَهَا وَقَدْ أَحَبَّتْ أُمُّ إِسْمَاعِيلَ الأنْسَ ، فَنزلُوا وبَعَثَوُا إلى أَهْلِهِمْ فَقَدِمُوا ، وَطَعَامُهُمُ الصَّيْدُ ، يَخْرُجُونَ مِنَ الحَرَمِ وَيخْرُجُ إِسْمَاعِيلُ مَعَهُمْ يَتَصَيَّدُ ، فَلَمَّا بَلَغَ أَنْكَحُوهُ ، وَقَدْ تُوُفِّيَتْ أُمُّهُ قَبْلَ ذَلكَ " . قال : وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لَمَّا دَعا لَهُما أنْ يُبَارِكَ لَهُمْ فِي اللَّحْمِ والماء ، قال لَهَا هَلْ منْ حَبٍّ أوْ غيرِهِ منَ الطَّعامِ ؟ قالَتْ : لا وَلَوْ وَجَدَ يَوْمَئذٍ لَهَا حَبًّا لَدَعا لَهَا بالبَركَةِ فيهِ " . قال ابن عباس : ثم لبث ما شاء الله أن يلبث ، ثم جاء فوجد إسماعيل قاعدا تحت دَوْحة إلى ناحية البئر يبرى نبلا له ، فسلم عليه ونزل إليه ، فقعد معه وقال : يا إسماعيل ، إن الله قد أمرني بأمر ، قال إسماعيل : فأطع ربك فيما أمرك ، قال إبراهيم : أمرني أن أبني له بيتا ، قال إسماعيل : ابنِ ، قال ابن عباس : فأشار له إبراهيم إلى أكمة بين يديه مرتفعة على ما حولها يأتيها السيل من نواحيها ، ولا يركبها. قال : فقاما يحفران عن القواعد يرفعانها ويقولان( رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ) ربنا تقبل منا إنك سميع الدعاء ، وإسماعيل يحمل الحجارة على رقبته ، والشيخ إبراهيم يبني. فلما ارتفع البنيان وشق على الشيخ تناوله ، قرب إليه إسماعيل هذا الحجَر ، فجعل يقوم عليه ويبني ، ويحوله في نواحي البيت حتى انتهى ، يقول ابن عباس : فذلك مقام إبراهيم وقيامه عليه.
حدثنا ابن وكيع ، قال : ثنا أبي ، عن شريك ، عن عطاء بن السائب ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس( رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ ) قال : أسكن إسماعيل وأمه مكة.

(17/23)


حدثنا أحمد بن إسحاق ، قال : ثنا أبو أحمد ، قال : ثنا شريك ، عن عطاء بن السائب ، عن سعيد بن جبير( إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ ) قال : حين وضع إسماعيل.
قال أبو جعفر : فتأويل الكلام إذن : ربنا إني أسكنت بعض ولدي بواد غير ذي زرع. وفي قوله صلى الله عليه وسلم دليل على أنه لم يكن هنالك يومئذ ماء ، لأنه لو كان هنالك ماء لم يصفه بأنه غير ذي زرع عند بيتك الذي حرّمته على جميع خلقك أن يستحلوه.
وكان تحريمه إياه فيما ذكر كما حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قال : ذُكر لنا أن عمر بن الخطاب قال في خطبته : إن هذا البيت أوّل من وليه أناس من طسْم ، فعصوا ربهم واستحلوا حرمته ، واستخفوا بحقه ، فأهلكهم الله. ثم وليهم أناس من جُرهم فَعصوا ربهم واستحلوا حرمته واستخفوا بحقه ، فأهلكهم الله. ثم وليتموه معاشر قريش ، فلا تعصوا ربه ، ولا تستحلوا حرمته ، ولا تستخفوا بحقه ، فوالله لصلاة فيه أحبّ إليّ من مئة صلاة بغيره ، واعلموا أن المعاصي فيه على نحو من ذلك. وقال( إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ ) ولم يأت بما وقع عليه الفعل ، وذلك أن حظّ الكلام أن يقال : إني أسكنت من ذريتي جماعة ، أو رجلا أو قوما ، وذلك غير (1) جائز مع " من " لدلالتها على المراد من الكلام ، والعرب تفعل ذلك معها كثيرا ، فتقول : قتلنا من بني فلان ، وطعمنا من الكلأ وشربنا من الماء ، ومنه قول الله تعالى( أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ ) .
فإن قال قائل : وكيف قال إبراهيم حين أسكن ابنه مكة( إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ ) وقد رويت في الأخبار التي ذكرتها أن إبراهيم بنى البيت بعد ذلك بمدة. قيل : قد قيل في ذلك أقوال قد ذكرتها في سورة البقرة ، منها أن معناه : عند بيتك المحرّم الذي كان قبل أن ترفعه من الأرض حين رفعته أيام الطوفان ، ومنها عند بيتك المحرم من استحلال حرمات الله فيه ، والاستخفاف بحقه. وقوله( رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ ) يقول : فعلت ذلك
__________
(1) يريد أن من إذا كان معناها التبعيض . كما في الآية ، لم يجز ذكر المفعول بعدها ، لأنها حينئذ بمعنى المفعول ، أي أسكنت بعض ذريتي بواد غير ذي زرع .

(17/24)


يا ربنا كي تؤدّى فرائضك من الصلاة التي أوجبتها عليهم في بيتك المحرّم. وقوله( فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ ) يخبر بذلك تعالى ذكره عن خليله إبراهيم أنه سأله في دعائه أن يجعل قلوب بعض خلقه تنزع إلى مساكن ذريته الذين أسكنهم بواد غير ذي زرع عند بيته المحرَّم. وذلك منه دعاء لهم بأن يرزقهم حج بيته الحرام .
كما حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا حكام بن سلم ، عن عمرو بن أبي قيس ، عن عطاء ، عن سعيد بن جبير( أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ ) ولو قال أفئدة الناس تهوي إليهم لحجت اليهود والنصارى والمجوس ، ولكنه قال : أفئدة من الناس تهوي إليهم فهم المسلمون.
حدثنا محمد بن بشار ، قال : ثنا عبد الرحمن ، قال : ثنا سفيان ، عن منصور ، عن مجاهد( فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ ) قال : لو كانت أفئدة الناس لازدحمت عليه فارس والروم ، ولكنه أفئدة من الناس.
حدثنا ابن حميد وابن وكيع ، قالا ثنا جرير ، عن منصور ، عن مجاهد( فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ ) قال : لو قال : أفئدة الناس تهوي إليهم ، لازدحمت عليهم فارس والروم.
حدثنا الحسن بن محمد ، قال : ثنا عليّ ، يعني ابن الجعد ، قال : أخبرنا جرير ، عن منصور ، عن مجاهد ، مثله.
حدثنا محمد بن المثنى ، قال : ثنا محمد بن جعفر ، قال : ثنا شعبة ، عن الحكم ، قال : سألت عكرمة عن هذه الآية( فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ ) فقال : قلوبهم تهوي إلى البيت.
حدثنا ابن وكيع ، قال : ثنا أبي ، عن شعبة ،

(17/25)


عن الحكم ، عن عكرمة وعطاء وطاوس( فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ ) البيت تهوي إليه قلوبهم يأتونه.
حدثنا الحسن بن محمد ، قال : ثنا يحيى بن عباد ، قال : ثنا سعيد ، عن الحكم ، قال : سألت عطاء وطاوسا وعكرمة ، عن قوله( فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ ) قالوا : الحج.
حدثنا الحسن ، قال : ثنا شبابة وعليّ بن الجعد ، قالا أخبرنا سعيد ، عن الحكم ، عن عطاء وطاوس وعكرمة في قوله( فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ ) قال : هواهم إلى مكة أن يحجوا.
حدثني المثنى ، قال : ثنا آدم ، قال : ثنا شعبة ، عن الحكم ، قال : سألت طاوسا وعكرمة وعطاء بن أبي رباح ، عن قوله( فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ ) فقالوا : اجعل هواهم الحجّ.
حدثنا الحسن ، قال : ثنا يحيى بن عباد ، قال : ثنا حماد بن سلمة ، عن عطاء بن السائب ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال : لو كان إبراهيم قال : فاجعل أفئدة الناس تهوي إليهم لحجه اليهود والنصارى والناس كلهم ، ولكنه قال( أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ ) .
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله( فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ ) قال : تنزع إليهم.
حدثنا الحسن ، قال : ثنا عبد الوهاب بن عطاء ، عن سعيد ، عن قتادة ، مثله.
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قالا أخبرنا معمر ، عن قتادة ، مثله.
وقال آخرون : إنما دعا لهم أن يهووا السكنى بمكة.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله( فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ ) قال : إن إبراهيم خليل الرحمن سأل الله أن يجعل أناسا من الناس يَهْوون سكنى أو سَكْن مكة.
وقوله( وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ ) يقول تعالى ذكره : وارزقهم من ثمرات النبات والأشجار ما رزقت سكان الأرياف والقرى التي هي ذوات المياه والأنهار ، وإن كنت أسكنتهم واديا غير ذي زرع ولا ماء. فرزقهم جلّ ثناؤه ذلك .
كما حدثنا المثنى ، قال : ثنا إسحاق ، قال : ثنا هشام ، قال : قرأت على محمد بن مسلم الطائفي أن إبراهيم لما دعا للحرم( وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ ) نقل

(17/26)


رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ (38) الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ (39) رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ (40)

الله الطائف من فلسطين.
وقوله( لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ ) يقول : ليشكروك على ما رزقتهم وتنعم به عليهم.
القول في تأويل قوله تعالى : { رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ (38) }
وهذا خبر من الله تعالى ذكره عن استشهاد خليله إبراهيم إياه على ما نوى وقصد بدعائه وقيله( رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ ) ... الآية ، وأنه إنما قصد بذلك رضا الله عنه في محبته أن يكون ولده من أهل الطاعة لله ، وإخلاص العبادة له على مثل الذي هو له ، فقال : ربنا إنك تعلم ما تخفي قلوبنا عند مسألتنا ما نسألك ، وفي غير ذلك من أحوالنا ، وما نعلن من دعائنا ، فنجهر به وغير ذلك من أعمالنا ، وما يخفى عليك يا ربنا من شيء يكون في الأرض ولا في السماء ، لأن ذلك كله ظاهر لك متجل باد ، لأنك مدبره وخالقه ، فكيف يخفى عليك.
القول في تأويل قوله تعالى : { الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ (39) }
يقول : الحمد لله الذي رزقني على كبر من السنّ ولدا إسماعيل وإسحاق( إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ ) يقول : إن ربي لسميع دعائي الذي أدعوه به ، وقولي( اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ ) وغير ذلك من دعائي ودعاء غيري ، وجميع ما نطق به ناطق لا يخفى عليه منه شيء.
حدثنا ابن وكيع ، قال : ثنا ابن فضيل ، عن ضرار بن مرّة ، قال : سمعت شيخا يحدّث سعيد بن جبير ، قال : بُشر إبراهيم بعد سبع عشرة ومئة سنة.
القول في تأويل قوله تعالى : { رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ (40) }

(17/27)


رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ (41) وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ (42)

يقول : ربّ اجعلني مؤدّيا ما ألزمتني من فريضتك التي فرضتها عليّ من الصلاة.( وَمِنْ ذُرِّيَّتِي ) يقول : واجعل أيضا من ذريتي مقيمي الصلاة لك.( رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ ) يقول : ربنا وتقبل عملي الذي أعمله لك وعبادتي إياك. وهذا نظير الخبر الذي رُوي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " إنَّ الدُّعاءَ هُوَ العبادَةُ " ثم قرأ( وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ ) .
القول في تأويل قوله تعالى : { رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ (41) }
وهذا دعاء من إبراهيم صلوات الله عليه لوالديه بالمغفرة ، واستغفار منه لهما. وقد أخبر الله عز ذكره أنه لم يكن( اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ إِلا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأَوَّاهٌ حَلِيمٌ ) .
وقد بيَّنا وقت تبرّئه منه فيما مضى ، بما أغنى عن إعادته.
وقوله( وَلِلْمُؤْمِنِينَ ) يقول : وللمؤمنين بك ممن تبعني على الدين الذي أنا عليه ، فأطاعك في أمرك ونهيك. وقوله( يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ ) يعني : يقوم الناس للحساب ، فاكتفى بذكر الحساب من ذكر الناس ، إذ كان مفهوما معناه.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ (42) }

(17/28)


مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لَا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ (43)

{ مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ (43) }
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : ( وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ ) يا محمد( غَافِلا ) ساهيا( عَمَّا يَعْمَلُ ) هؤلاء المشركون من قومك ، بل هو عالم بهم وبأعمالهم محصيًا عليهم ، ليجزيهم جزاءهم في الحين الذي قد سبق في علمه أن يجزيهم فيه.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثنا عليّ بن ثابت ، عن جعفر بن برقان ، عن ميمون بن مهران في قوله( وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلا عَمَّا يَعْمَلُ

(17/28)


الظَّالِمُونَ ) قال : هي وعيد للظالم وتعزية للمظلوم.
القول في تأويل قوله تعالى : { إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأبْصَارُ * مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ (43) }
يقول تعالى ذكره : إنما يؤخر ربك يا محمد هؤلاء الظالمين الذين يكذّبونك ويجحَدون نبوّتك ، ليوم تشخص فيه الأبصار. يقول : إنما يؤخِّر عقابهم وإنزال العذاب بهم ، إلى يوم تشخص فيه أبصار الخلق ، وذلك يوم القيامة .
كما حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأبْصَارُ ) شخصت فيه والله أبصارهم ، فلا ترتدّ إليهم.
وأما قوله( مُهْطِعِينَ ) فإن أهل التأويل اختلفوا في معناه ، فقال بعضهم : معناه : مسرعين.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن وكيع ، قال : ثنا هاشم بن القاسم ، عن أبي سعيد المؤدّب ، عن سالم ، عن سعيد بن جبير( مُهْطِعِينَ ) قال : النَّسَلان ، وهو الخبب ، أو ما دون الخبب ، شكّ أبو سعيد ، يخبون وهم ينظرون.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : ثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة( مُهْطِعِينَ ) قال : مسرعين.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( مُهْطِعِينَ ) يقول : منطلقين عامدين إلى الداعي.
وقال آخرون : معنى ذلك : مديمي النظر.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثنى أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله( مُهْطِعِينَ ) يعني بالإهطاع : النظر من غير أن يطرف.
حدثنا ابن وكيع ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن سعيد بن مسروق ، عن أبي الضحى( مُهْطِعِينَ ) فقيل : الإهطاع : التحميج الدائم الذي لا يَطْرَف.
حدثني المثنى ، قال : ثنا عمرو بن عون ، قال : أخبرنا هشيم ، عن مغيرة ، عن أبي الخير بن تميم بن حَدْلَم ، عن أبيه ، في قوله( مُهْطِعِينَ ) قال :

(17/29)


الإهطاع : التحميج.
حدثنا ابن وكيع ، قال : ثنا المحاربي ، عن جويبر ، عن الضحاك( مُهْطِعِينَ ) قال : شدة النظر الذي لا يطرف.
حدثني المثنى ، قال : أخبرنا عمرو ، قال : أخبرنا هُشَيم ، عن جويبر ، عن الضحاك ، في قوله( مُهْطِعِينَ ) قال : شدة النظر في غير طَرْف.
حُدثت عن الحسين بن الفرج ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله( مُهْطِعِينَ ) الإهطاع : شدة النظر في غير طَرْف.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثنا الحسن بن محمد ، قال : ثنا شبابة ، قال : ثنا ورقاء ، وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، وحدثني المثنى ، قال : ثنا أبو حُذيفة ، قال : ثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد( مُهْطِعِينَ ) قال : مُديمي النظر.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله.
وقال آخرون : معنى ذلك : لا يرفع رأسه.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله( مُهْطِعِينَ ) قال : المهطع الذي لا يرفع رأسه. والإهطاع في كلام العرب بمعنى الإسراع أشهر منه : بمعنى إدامة النظر ، ومن الإهطاع بمعنى الإسراع ، قول الشاعر :
وبِمُهْطِعٍ سُرُحٍ كأنَّ زِمامَهُ... في رأسِ جذْعٍ مِنْ أوَال مُشَدَّبِ (1)
__________
(1) البيت أنشده ابن بري في ( اللسان : أول . ونسبه لأنيف بن جبلة . وروايته فيه : أمَّا إذا اسْتَقْبَلْتَهُ فَكأنَّهُ ... للْعَيْنِ جِذْعٌ مِنْ أوَالَ مُشَدَّبُ
وفي معجم ما استعجم للبكري : أول قرية بالبحرين ، وقيل جزيرة ، فإن كانت قرية فهي من قرى السيف ( بكسر السين) يشهد لذلك قول ابن مقبل ، وكأنها سفن بسيف أوال . والمهطع : ( كما في اللسان ) الذي يديم النظر مع فتح العينين . وقيل : الذي يقبل على الشيء ببصره ، فلا يرفعه عنه . والمهطع أيضا : المسرع الخائف ، لا يكون إلا مع خوف . وقد فسر بالوجهين جميعا قوله تعالى : ( مهطعين إلى الداع ) أ هـ . وقال في سرح : خيل سرح ، ناقة سرح في سيرها : أي سريعة ، وأورده المؤلف وأبو عبيدة في مجاز القرآن ( 1 - 342 ) شاهدا على أن المهطع : المسرع .

(17/30)


وقول الآخر :
بمُسْتَهطعٍ رَسْلٍ كأنَّ جَدِيلَهُ... بقَيْدُومِ رَعْنٍ مِنْ صَوَامٍ مُمَنَّعُ (1)
وقوله( مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ ) يعني رافعي رءوسهم. وإقناع الرأس : رفعه ، ومنه قول الشماخ :
يُباكِرْنَ العِضَاةَ بمُقْنَعاتٍ... نَوَاجِذُهُنَّ كالحِدَإِ الوَقيعِ (2)
يعني : أنهنّ يباكرن العضاة برؤسهن مرفوعات إليها لتتناول منها ، ومنه أيضا قول الراجز :
أنْغَضَ نحْوِي رأسَهُ وأقْنَعا... كأنمَا أبْصَرَ شيْئا أطْمَعا (3)
وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله( مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ ) قال :
__________
(1) أورده صاحب أساس البلاغة ( هطع ) قال : وهو في صفة ثور ، وممتع : بالتاء : أي طويل ، من الماتع . وفيه " رضام ، في محل : صوام . وفي ( اللسان : قدم ) قال : وقيدوم الجبل : أنف يتقدم منه ، وأنشد البيت وقال : صوام ( كسحاب) اسم جبل . وقيدوم كل شيء : مقدمه وصدره . والمتهطع : كالمهطع ، وهو المسرع ، ورسل : سهل فيه لين . والجديل : حبل مفتول من أدم أو شعر ، يكون في عنق البعير أو الناقة ، والجمع : جدل . والجديل أيضا : الزمام المجدول من أدم . والرعن : أنف الجبل ، وصوام ( كسحاب ) : جبل قاله البكري وصاحب اللسان والممنع بالنون : المرتفع الذي لا يرتقي . وفي مجاز القرآن : الرسل : الذي لا يكلفك شيئا . بقيدوم : قدام . ورعن الجبل : أنفه ، وصؤام ( بضم الصاد وهمز الواو ) لم أجده كذلك ، وإنما هو صوام ، بفتح الصاد وبالواو ، بوزن سحاب .
(2) البيت للشماخ بن ضرار ( ديوانه ص 56 ) والرواية فيه : يبادرن في موضع يباكرن ، وهما بمعنى . قال شارحه : يبادرن من المبادرة ، والعضاه : جمع عضاهة . وهي أعظم الشجر . والمقنعات : جمع مقنع : يريد أفواه الإبل . والنواجذ : أقصى الأضراس . والحدأ : جمع حدأة ، وهي فأس ذات رأسين . وقال أبو عبيدة في مجاز القرآن : ( 1 - 343 ) في تفسير " مقنعي رءوسهم " مجازه : رافعي رءوسهم . وأنشد بيت الشماخ ثم قال : أي برءوس مرفوعة إلى العضاه ، ليتناولن منه . والعضاه : كل شجرة ذات شوك . ونواجذهن : أضراسهن والحدأ : الفأس ، وأراد الذي ليس له خلف ، وجمعها : حدأ . والوقيع المرققة المحددة ، يقال : وقع حديدتك . والمطرقة يقال لها ميقعة . وفي ( اللسان : حدأ ) : الحدأ : شبه فاس تنقر به الحجارة ، وهو محدد الطرف . والحدأة : الفأس ذات الرأسين ، والجمع حدأ ، كقصبة وقصب ، وقال : شبه أسنانها بفئوس قد حددت .
(3) أنغض رأسه : حركة كالمتعب . وأقنعه : رفعه . يقول : هز رأسه نحوي ، ورفعه يتأملني كما يتأمل شيئا فيه مطمع له . وهو كالذي قبله شاهد على أن الإقناع : هو الرفع .

(17/31)


الإقناع : رفع رءوسهم.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحسين بن محمد ، قال : ثنا ورقاء ، وقال الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، وحدثني المثنى ، قال : ثنا أبو حُذيفة ، قال : ثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله( مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ ) قال : رافعيها.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد مثله.
حدثنا أبو كريب ، قال : ثنا أبو بكر ، عن أبي سعد ، قال : قال الحسن : وجوه الناس يوم القيامة إلى السماء لا ينظر أحد إلى أحد.
حدثني المثنى ، قال : ثنا سويد ، قال : أخبرنا ابن المبارك ، عن عثمان بن الأسود ، أنه سمع مجاهدا يقول في قوله( مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ ) قال : رافع رأسه هكذا ، ( لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ ) .
حدثني المثنى ، قال : ثنا عمرو بن عون ، قال : أخبرنا هشيم ، عن جويبر عن الضحاك ، في قوله( مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ ) قال : رافعي رءوسهم.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ ) قال : الإقناع رفع رءوسهم.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : ثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة( مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ ) قال : المقنع الذي يرفع رأسه شاخصا بصره لا يطرف.
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول ، في قوله( مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ ) قال : رافعيها.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله( مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ ) قال : المقنع الذي يرفع رأسه.
حدثنا ابن وكيع ، قال : ثنا المحاربي ، عن جويبر ، عن الضحاك( مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ ) قال : رافعي رءوسهم.
حدثنا ابن وكيع ، قال : ثنا هاشم بن القاسم ، عن أبي سعيد ، عن سالم ، عن سعيد( مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ ) قال : رافعي رءوسهم.
وقوله( لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ ) يقول : لا ترجع إليهم لشدّة النظر أبصارهم .

(17/32)


كما حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله( لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ ) قال : شاخصة أبصارهم.
وقوله( وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ ) اختلف أهل التأويل في تأويله ، فقال بعضهم : معناه : متخرقه لا تعي من الخير شيئا.
حدثنا محمد بن بشار ، قال : ثنا عبد الرحمن ، قال : ثنا سفيان ، عن أبي إسحاق ، عن مرّة ، في قوله( وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ ) قال : متخرقة لا تعي شيئا.
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا عبد الرحمن ، قال : ثنا مالك بن مغول ، عن أبي إسحاق ، عن مرّة بمثل ذلك.
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا عبد الرحمن ، قال : ثنا إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن مرّة ، مثله.
حدثنا محمد بن عمارة ، قال : ثنا سهل بن عامر ، قال : ثنا مالك وإسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن مرّة ، مثله.
حدثنا ابن وكيع ، قال : ثنا أبي ، عن سفيان ، عن أبي إسحاق ، عن مرّة( وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ ) قال : متخرقة لا تعي شيئا من الخير.
حدثنا الحسن بن محمد ، قال : ثنا يحيى بن عباد ، قال : ثنا مالك ، يعني ابن مغول ، قال : سمعت أبا إسحاق ، عن مرّة إلا أنه قال : لا تعي شيئا. ولم يقل من الخير.
حدثنا الحسن بن محمد ، قال : ثنا شبابة ، قال : أخبرنا إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن مرّة ، مثله.
حدثنا أحمد بن إسحاق ، قال : ثنا أبو أحمد ، قال : ثنا مالك بن مغول ، وإسرائيل عن أبي إسحاق ، عن مرّة( وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ ) قال أحدهما : خربه ، وقال الآخر : متخرقة لا تعي شيئا.
حدثني محمد بن سعد ، قال : حدثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس( وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ ) قال : ليس فيها شيء من الخير فهي كالخربة.

(17/33)


حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، قال : ليس من الخير شيء في أفئدتهم ، كقولك للبيت الذي ليس فيه شيء إنما هو هواء.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال ابن زيد في قوله( وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ ) قال : الأفئدة : القلوب هواء كما قال الله ، ليس فيها عقل ولا منفعة.
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا حكام ، عن عنبسة ، عن أبي بكرة ، عن أبي صالح( وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ ) قال : ليس فيها شيء من الخير.
وقال آخرون : إنها لا تستقرّ في مكان تردّد في أجوافهم.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن وكيع وأحمد بن إسحاق ، قالا حدثنا أبو أحمد ، قال : ثنا شريك ، عن سالم ، عن سعيد( وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ ) قال : تمور في أجوافهم ، ليس لها مكان تستقرّ فيه.
حدثنا ابن وكيع ، قال : ثنا هاشم بن القاسم ، عن أبي سعيد ، عن سالم ، عن سعيد بنحوه.
وقال آخرون : معنى ذلك : أنها خرجت من أماكنها فنشبت بالحلوق.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن وكيع وأحمد بن إسحاق ، قالا حدثنا أبو أحمد الزبيري ، عن إسرائيل ، عن سعيد ، عن مسروق عن أبي الضحى( وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ ) قال : قد بلغت حناجرهم.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : ثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، في قوله( وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ ) قال : هواء ليس فيها شيء ، خرجت من صدورهم فنشبت في حلوقهم.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله( وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ ) انتزعت حتى صارت في حناجرهم لا تخرج من أفواههم ، ولا تعود إلى أمكنتها.
وأولى هذه الأقوال عندي بالصواب في تأويل ذلك قول من قال : معناه : أنها خالية ليس فيها شيء من الخير ، ولا تعقل شيئا ، وذلك أن العرب تسمي

(17/34)


وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ (44)

كلّ أجوف خاو : هواء ، ومنه قول حسَّان بن ثابت :
ألا أبْلِغْ أبا سُفْيانَ عَنّي... فأنْتَ مُجَوَّفٌ نَخِبٌ هَوَاءُ (1)
ومنه قول الآخر :
وَلا تَكُ مِنْ أخْدانِ كُلّ بِراعةٍ... هَوَاءٍ كَسَقْبِ البانِ جُوفٍ مَكاسِرُهْ (2)
القول في تأويل قوله تعالى : { وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ (44) }
يقول تعالى ذكره : وأنذر يا محمد الناس الذين أرسلتك إليهم داعيا إلى الإسلام ما هو نازل بهم ، يوم يأتيهم عذاب الله في القيامة.( فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا ) يقول : فيقول الذين كفروا بربهم ، فظلموا بذلك أنفسهم( رَبَّنَا أَخِّرْنَا ) أي أخِّر عنا عذابك ، وأمهلنا( إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ ) الحقّ ، فنؤمن بك ، ولا نشرك بك شيئا ، ( وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ ) يقولون : ونصدّق رسلك فنتبعهم على ما دعوتنا إليه من طاعتك واتباع أمرك.
وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، قوله( وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ )
__________
(1) البيت لحسان ، كما في الديوان ص 7 ، وأبو سفيان : هو المغيرة بن الحارث بن عبد المطلب ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم وكان يهجو النبي قبل أن يسلم ، والمجوف : الخالي الجوف ، يريد به الجبان ، وكذلك النخب والهواء ، وقال في اللسان : النخب : الجبان ، كأنه منتزع الفؤاد ، أي لا فؤاد له . وقال في هوى : والهواء والخواء واحد . وأورد البيت كرواية المؤلف .
(2) البيت في ( اللسان : يرع ) كرواية المؤلف . ونسبه ابن بري لكعب الأمثال ( ؟) وقال قبله : البراعة والبراع : الجبان الذي لا عقل له ولا رأي ، مشتق من القصب أ هـ : أي على التشبيه بالقصب الأجوف ، والهواء : الجبان المنتزع الفؤاد . والبان : شجر يسمو ويطول في استواء وليس لخشبة صلابة ، والسقب : عمود الخباء ، وإذا اتخذ من شجر البان فإنه لا يحتمل لقلة صلابته ، وجوف جمع أجوف ، والمكاسر : مواضع الكسر ، أي إذا كسر بان أنه أجوف ضعيف الاحتمال .

(17/35)


قال : يوم القيامة( فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ ) قال : مدّة يعملون فيها من الدنيا.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ ) يقول : أنذرهم في الدنيا قبل أن يأتيهم العذاب.
وقوله( فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا ) رفع عطفا على قوله( يَأْتِيهِمُ) في قوله( يَأْتِيهِمُ العَذَابُ) وليس بجواب للأمر ، ولو كان جوابا لقوله( وَأَنْذِرِ النَّاسَ ) جاز فيه الرفع والنصب. أما النصب فكما قال الشاعر :
يا نَاقَ سِيرِي عَنقَا فَسِيحا... إلى سُلَيْمَانَ فَنَسْتَرِيحا (1)
والرفع على الاستئناف. وذُكر عن العلاء بن سيابة أنه كان ينكر النصب في جواب الأمر بالفاء ، قال الفراء : وكان العلاء هو الذي علَّم معاذا وأصحابه.
القول في تأويل قوله تعالى : { أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ (44) }
و هذا تقريع من الله تعالى ذكره للمشركين من قريش ، بعد أن دخلوا النار بإنكارهم في الدنيا البعث بعد الموت ، يقول لهم : إذ سألوه رفع العذاب عنهم ، وتأخيرهم لينيبوا ويتوبوا( أَوَلَمْ تَكُونُوا ) في الدنيا( أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ ) يقول : ما لكم من انتقال من الدنيا إلى الآخرة ، وإنكم إنما تموتون ، ثم لا تبعثون.
كما حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، قال( أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ ) كقوله( وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ
__________
(1) هذا البيت من شواهد النحويين وهو لأبي النجم العجلي يخاطب ناقته في سيره إلى سليمان بن عبد الملك . وناق : منادي مرخم ، أي يا ناقة ، وعنقا : منصوب على أنه نائب عن المصدر ، أي صفة مصدر محذوف ، أي سيراد عنقا ، وهو ضرب من سير الدابة والإبل ، وهو سير مسيطر ، قال أبو النجم ... وأنشد البيت ، والفسيح : الواسع . نعت . والشاهد في " فنستريحا " حيث نصب ، لأنه جواب الأمر بالفاء ، وهذا بلا خلاف إلا ما نقل عن العلاء بن سيابة ، أنه كان لا يجيز ذلك ، وهو محجوج به . ( انظر فرائد القلائد للعيني : باب إعراب الفعل ) . وقال الفراء في معاني القرآن : ( الورقة 164 ) ، وقوله " يأتيهم العذاب فيقول " : رفع ، تابع ليأتيهم ، وليس بجواب الأمر ، ولو كان جوابا لجاز نسبه ورفعه ، كما قال الشاعر : يا ناق .... البيت . والرفع عن الاستئناف والأتناف بالفاء في جواب الأمر حسن. وكان شيخ لنا يقال له العلاء بن سيابة ، وهو الذي علم معاذا الهراء وأصحابه ، يقول : لا أنصب بالأمر .

(17/36)


وَسَكَنْتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الْأَمْثَالَ (45)

أَيْمَانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلَى ) . ثم قال( مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ ) قال : الانتقال من الدنيا إلى الآخرة.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن قال : ثنا ورقاء ، وحدثنا الحسن بن محمد ، قال : ثنا شبابة ، قال : ثنا ورقاء ، وحدثني المثنى ، قال : ثنا أبو حذيفة ، قال : ثنا سلمة ، وحدثني المثنى ، قال : أخبرنا إسحاق ، قال : ثنا عبد الله ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله( مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ ) قال : لا تموتون لقريش.
حدثني القاسم ، قال : ثنا سويد ، قال : أخبرنا ابن المبارك ، عن الحكم ، عن عمرو بن أبي ليلى أحد بني عامر ، قال : سمعت محمد بن كعب القرظي يقول : بلغني ، أو ذُكر لي أن أهل النار ينادون( رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ ) فردّ عليهم( أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ وَسَكَنْتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ) ... إلى قوله( لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ ) .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَسَكَنْتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الأمْثَالَ (45) }
يقول تعالى ذكره : وسكنتم في الدنيا في مساكن الذين كفروا بالله ، فظلموا بذلك أنفسهم من الأمم التي كانت قبلكم( وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ ) يقول : وعلمتم كيف أهلكناهم حين عتوا على ربهم وتمادوا في طغيانهم وكفرهم( وَضَرَبْنَا لَكُمُ الأمْثَالَ ) يقول : ومثَّلنا لكم فيما كنتم عليه من الشرك بالله مقيمين الأشباه ، فلم تنيبوا ولم تتوبوا من كفركم ، فالآن تسألون التأخير للتوبة حين نزل بكم ما قد نزل بكم من العذاب ، إن ذلك غير كائن.
وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله( وَسَكَنْتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ) يقول : سكن الناس في مساكن قوم نوح وعاد وثمود ، وقرون بين ذلك كثيرة ممن هلك من الأمم.

(17/37)


وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ (46)

( وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الأمْثَالَ ) قد والله بعث رسله ، وأنزل كتبه ، ضرب لكم الأمثال ، فلا يصم فيها إلا أصمّ ، ولا يخيب فيها إلا الخائب ، فاعقلوا عن الله أمره.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله( وَسَكَنْتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ ) قال : سكنوا في قراهم مدين والحجر والقرى التي عذب الله أهلها ، وتبين لكم كيف فعل الله بهم ، وضرب لهم الأمثال.
حدثنا الحسن بن محمد ، قال : ثنا شبابة ، قال : ثنا ورقاء ، عن ابن أبى نجيح ، عن مجاهد ، قوله( الأمْثَالَ ) قال : الأشباه.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ (46) }
يقول تعالى ذكره : قد مكر هؤلاء الذين ظلموا أنفسهم ، فسكنتم من بعدهم في مساكنهم ، مكرهم. وكان مكرهم الذي مكروا ما :
حدثنا محمد بن بشار ، قال : ثنا يحيى ، قال : ثنا سفيان ، قال : ثنا أبو إسحاق ، عن عبد الرحمن بن أبان (1) قال : سمعت عليا يقرأ : " وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ لَتَزُولُ مِنْهُ الجِبالُ " قال : كان ملك فره (2) أخذ فروخ النسور ، فعلفها اللحم حتى شبَّت واستعلجت واستغلظت . فقعد هو وصاحبه في التابوت وربطوا التابوت بأرجل النسور ، وعلقوا اللحم فوق التابوت ، فكانت كلما نظرت إلى اللحم صعدت وصعدت ، فقال لصاحبه : ما ترى ؟ قال : أرى الجبال
__________
(1) سيأتي ( ص 345 ) أن اسمه عبد الرحمن بن دانيل ، وقد نقل هذا الاسم القرطبي في تفسيره ( 9 : 380 ) ولم أجده في أسماء الرواة ، ولعل لفظتي " أبان ، وواصل " هنا تحريف عن " دانيل " .
(2) الفره : البطر الأشر . المتمادي في غيه .

(17/38)


مثل الدخان ، قالا ما ترى ؟ قال : ما أرى شيئا ، قال : ويحك صوّب صوّب ، قال : فذلك قوله : ( وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ ).
حدثنا محمد بن بشار ، قال : ثنا محمد بن جعفر ، قال : ثنا شعبة ، عن أبي إسحاق ، عن عبد الرحمن بن واصل (1) عن عليّ بن أبي طالب ، مثل حديث يحيى بن سعيد ، وزاد فيه : وكان عبد الله بن مسعود يقرؤها : " وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ لَتَزُولُ مِنْهُ الجِبالُ " .
حدثنا الحسن بن محمد ، قال : ثنا محمد بن أبي عديّ ، عن شعبة ، عن أبي إسحاق ، قال : ثنا عبد الرحمن بن واصل (2) أن عليا قال في هذه الآية : " وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ لَتَزُولُ مِنْهُ الجِبالُ " قال : أخذ ذلك الذي حاجّ إبراهيم في ربه نسرين صغيرين فرباهما ، ثم استغلظا واستعلجا وشبَّا ، قال : فأوثق رجل كلّ واحد منهما بوتد إلى تابوت ، وجوّعهما ، وقعد هو ورجل آخر في التابوت ، قال : ورفع في التابوت عصا على رأسه اللحم ، قال : فطارا ، وجعل يقول لصاحبه : انظر ماذا ترى ؟ قال : أرى كذا وكذا ، حتى قال : أرى الدنيا كأنها ذباب ، فقال : صوّب العصا ، فصوّبها فهبطا ، قال : فهو قول الله تعالى " وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ لَتَزُولُ مِنْهُ الجِبالُ " قال أبو إسحاق : وكذلك في قراءة عبد الله " وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ لَتَزُولُ مِنْهُ الجِبالُ " .
حدثني المثنى ، قال : ثنا أبو حذيفة ، قال : ثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد " وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ لَتَزُولُ مِنْهُ الجِبالُ " مكر فارس. وزعم أن بختنصر خرج بنسور ، وجعل له تابوتا يدخله ، وجعل رماحا في أطرافها واللحم فوقها . أراه قال : فعلت تذهب نحو اللحم حتى انقطع بصره من الأرض وأهلها ، فنودي : أيها الطاغية أين تريد ؟ ففرق : ثم سمع الصوت فوقه ، فصوّب الرماح ، فتصوّبت النسور ، ففزعت الجبال من هدّتها ، وكادت الجبال أن تزول منه من حسّ ذلك ، فذلك قوله " وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ لَتَزُولُ مِنْهُ الجِبالُ " .
حدثا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، قال : قال ابن جريج ، قال مجاهد : " وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَادَ مَكْرُهُمْ "
__________
(1) تقدمت الإشارة إليه في ( ص 244 ) .
(2) تقدمت الإشارة إليه في ( ص 244 ) .

(17/39)


كذا قرأها مجاهد " كَادَ مَكْرُهُمْ لَتَزُولُ مِنْهُ الجِبالُ " وقال : إن بعض من مضى جوّع نسورا ، ثم جعل عليها تابوتا فدخله ، ثم جعل رماحا في أطرافها لحم ، فجعلت ترى اللحم فتذهب ، حتى انتهى بصره ، فنودي : أيها الطاغية أين تريد ؟ فصوّب الرماح ، فتصوّبت النسور ، ففزعت الجبال ، وظنت أن الساعة قد قامت ، فكادت أن تزول ، فذلك قوله تعالى " وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ لَتَزُولُ مِنْهُ الجِبالُ " .
قال ابن جريج : أخبرني عمرو بن دينار ، عن عكرمة ، عن عمر بن الخطاب ، أنه كان يقرأ " وَإِنْ كادَ مَكْرُهُمْ لَتَزُولُ مِنْهُ الجِبالُ " .
حدثني هذا الحديث أحمد بن يوسف ، قال : ثنا القاسم بن سلام ، قال : ثنا حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، أنه كان يقرأ على نحو : " لَتَزُولُ " بفتح اللام الأولى ورفع الثانية.
حدثنا ابن وكيع ، قال : ثنا أبي ، عن إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن عبد الرحمن بن دانيل (1) قال : سمعت عليا يقول : " وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ لَتَزُولُ مِنْهُ الجِبالُ " .
حدثنا ابن وكيع ، قال : ثنا أبي ، عن إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن عبد الرحمن بن دانيل (2) قال : سمعت عليا يقول : " وَإِنْ كادَ مَكْرُهُمْ لَتَزُولُ مِنْهُ الجِبالُ " قال : ثم أنشأ عليّ يحدّث فقال : نزلت في جبَّار من الجبابرة قال : لا أنتهي حتى أعلم ما في السماء ، ثم اتخذ نسورا فجعل يطعمها اللحم حتى غلظت واستعلجت واشتدّت ، وذكر مثل حديث شعبة.
حدثنا ابن وكيع ، قال : ثنا أبو داود الحضرمي ، عن يعقوب ، عن حفص بن حميد أو جعفر ، عن سعيد بن جبير : " وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ لَتَزُولُ مِنْهُ الجِبالُ " قال : نمرود صاحب النسور ، أمر بتابوت فجعل وجعل معه رجلا ثم أمر بالنسور فاحتمل ، فلما صعد قال لصاحبه : أي شيء ترى ؟ قال : أرى الماء وجزيرة - يعني الدنيا - ثم صعد فقال لصاحبه : أي شيء ترى ؟ قال : ما نزداد من السماء إلا بعدا ، قال : اهبط - وقال غيره : نودي - أيها الطاغية أين تريد ؟ قال : فسمعت الجبال حفيف النسور ، فكانت ترى أنها أمر من السماء ، فكادت
__________
(1) تقدمت الإشارة إليه في ( ص 244 ) .
(2) تقدمت الإشارة إليه في ( ص 244 ) .

(17/40)


تزول ، فهو قوله : " وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ لَتَزُولُ مِنْهُ الجِبالُ " .
حدثنا ابن وكيع ، قال : ثنا أبي ، عن أبي جعفر ، عن الربيع بن أنس ، أن أنسا كان يقرأ : " وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ لَتَزُولُ مِنْهُ الجِبالُ " .
وقال آخرون : كان مكرهم : شركهم بالله ، وافتراؤهم عليه.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى ، قال : ثنا أبو صالح ، قال : ثنا معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس " وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ لَتَزُولُ مِنْهُ الجِبالُ " يقول : شركهم ، كقوله( تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ ) .
حدثنا ابن وكيع ، قال : ثنا المحاربي ، عن جويبر ، عن الضحاك : " وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ لَتَزُولُ مِنْهُ الجِبالُ " قال : هو كقوله( وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الأرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا ) .
حدثني المثنى ، قال : ثنا عمرو بن عون ، قال : أخبرنا هشيم ، عن جويبر ، عن الضحاك ، في قوله( وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ ) ثم ذكر مثله.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، أن الحسن كان يقول : كان أهون على الله وأصغر من أن تزول منه الجبال ، يصفهم بذلك. قال قتادة : وفي مصحف عبد الله بن مسعود : " وَإِنْ كادَ مَكْرُهُمْ لَتَزُولُ مِنْهُ الجِبالُ " ، وكان قتادة يقول عند ذلك( تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الأرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا ) أي لكلامهم ذلك.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : ثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، في قوله : " وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ لَتَزُولُ مِنْهُ الجِبالُ " قال ذلك حين دعوا لله ولدا. وقال في آية أخرى( تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الأرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا ) .
حُدِثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد بن سليمان ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله( وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ ) في حرف ابن مسعود : " وَإِنْ كادَ مَكْرُهُمْ لَتَزُولُ مِنْهُ الجِبالُ " هو مثل قوله( تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الأرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا ) .

(17/41)


واختلفت القرّاء في قراءة قوله( لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ ) فقرأ ذلك عامَّة قرّاء الحجاز والمدينة والعراق ما خلا الكسائي( وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ ) بكسر اللام الأولى وفتح الثانية ، بمعنى : وما كان مكرهم لتزول منه الجبال. وقرأه الكسائي : " وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ لَتَزُولُ مِنْهُ الجِبالُ " بفتح اللام الأولى ورفع الثانية على تأويل قراءة من قرا ذلك : " وَإِنْ كادَ مَكْرُهُمْ لَتَزُولُ مِنْهُ الجِبالُ " من المتقدمين الذين ذكرت أقوالهم ، بمعنى : اشتدّ مكرهم حتى زالت منه الجبال ، أو كادت تزول منه ، وكان الكسائي يحدّث عن حمزة ، عن شبل عن مجاهد ، أنه كان يقرأ ذلك على مثل قراءته " وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ لَتَزُولُ مِنْهُ الجِبالُ " برفع تزول.
حدثني بذلك الحارث عن القاسم عنه.
والصواب من القراءة عندنا ، قراءة من قرأه( وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ ) بكسر اللام الأولى وفتح الثانية ، بمعنى : وما كان مكرهم لتزول منه الجبال.
وإنما قلنا : ذلك هو الصواب ، لأن اللام الأولى إذا فُتحت ، فمعنى الكلام : وقد كان مكرهم تزول منه الجبال ، ولو كانت زالت لم تكن ثابتة ، وفي ثبوتها على حالتها ما يبين عن أنها لم تزُل ، وأخرى إجماع الحجة من القرّاء على ذلك ، وفي ذلك كفاية عن الاستشهاد على صحتها وفساد غيرها بغيره.
فإن ظنّ ظانٌّ أن ذلك ليس بإجماع من الحجة إذ كان من الصحابة والتابعين من قرأ ذلك كذلك ، فإن الأمر بخلاف ما ظنّ في ذلك ، وذلك أن الذين قرءوا ذلك بفتح اللام الأولى ورفع الثانية قرءوا : " وَإِنْ كادَ مَكْرُهُمْ " بالدال ، وهي إذا قرئت كذلك ، فالصحيح من القراءة مع " وَإِنْ كادَ " فتح اللام الأولى ورفع الثانية على ما قرءوا ، وغير جائز عندنا القراءة كذلك ، لأن مصاحفنا بخلاف ذلك ، وإنما خطَّ مصاحفنا وإن كان بالنون لا بالدال ، وإذ كانت كذلك ، فغير جائز لأحد تغيير رسم مصاحف المسلمين ، وإذا لم يجز ذلك لم يكن الصحاح من القراءة إلا ما عليه قرّاء الأمصار دون من شذ بقراءته عنهم.
وبنحو ما قلنا في معنى( وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ ) قال جماعة من أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال :

(17/42)


ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله( وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ ) بقول : ما كان مكرهم لتزول منه الجبال.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : ثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، قال : قال الحسن ، في قوله( وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ ) ما كان مكرهم لتزول منه الجبال.
حدثني المثنى ، قال : ثنا عمرو بن عون ، قال : أخبرنا هشيم ، عن عوف ، عن الحسن ، قال : ما كان مكرهم لتزول منه الجبال.
حدثني الحارث ، قال : ثنا القاسم ، قال : ثنا حجاج ، عن هارون ، عن يونس وعمرو ، عن الحسن( وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ ) قالا وكان الحسن يقول : وإن كان مكرهم لأوهن وأضعف من أن تزول منه الجبال.
- قال : قال هارون : وأخبرني يونس ، عن الحسن قال : أربع في القرآن( وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ ) ما كان مكرهم لتزول منه الجبال ، وقوله( لاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ ) ما كنا فاعلين ، وقوله( إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ ) ما كان للرحمن ولد ، وقوله( وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ ) ما مكناكم فيه.
قال هارون : وحدثني بهنّ عمرو بن أسباط ، عن الحسن ، وزاد فيهنّ واحدة( فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ ) ما كنت في شكّ( مِمَّا أَنزلْنَا إِلَيْكَ ) .
فالأولى من القول بالصواب في تأويل الآية ، إذ كانت القراءة التي ذكرت هي الصواب لما بيَّنا من الدلالة في قوله( وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ ) وقد أشرك الذين ظلموا أنفسهم بربهم وافتروا عليه فريتهم عليه ، وعند الله علم شركهم به وافترائهم عليه ، وهو معاقبهم على ذلك عقوبتهم التي هم أهلها ، وما كان شركهم وفريتهم على الله لتزول منه الجبال ، بل ما ضرّوا بذلك إلا أنفسهم ، ولا عادت بغية مكروهه إلا عليهم.
حدثنا الحسن بن محمد ، قال : ثنا وكيع بن الجرّاح ، قال : ثنا الأعمش ، عن شمر ، عن عليّ ، قال : الغدر : مكر ، والمكر كفر.

(17/43)


فَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (47)

القول في تأويل قوله تعالى : { فَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (47) }
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : ( فَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ ) الذي وعدهم من كذّبهم ، وجحد ما أتَوْهم به من عنده ، وإنما قاله تعالى ذكره لنبيه تثبيتا وتشديدا لعزيمته ، ومعرّفه أنه منزل من سخطه بمن كذّبه وجحد نبوّته ، وردّ عليه ما أتاه به من عند الله ، مثال ما أنزل بمن سلكوا سبيلهم من الأمم الذين كانوا قبلهم على مثل منهاجهم من تكذيب رسلهم وجحود نبوّتهم وردّ ما جاءوهم به من عند الله عليهم.
وقوله( إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ ) يعني بقوله( إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ) لا يمانع منه شيء أراد عقوبته ، قادر على كلّ من طلبه ، لا يفوتُه بالهَرَب منه.( ذُو انْتِقَامٍ ) ممن كفر برسله وكذّبهم ، وجحد نبوتهم ، وأشرك به واتخذ معه إلها غيره. وأضيف قوله( مُخْلِفَ ) إلى الوعد ، وهو مصدر ، لأنه وقع موقع الاسم ، ونصب قوله(رُسُلَهَ) بالمعنى ، وذلك أن المعنى : فلا تحسبنّ الله مخلف رسله وعده ، فالوعد وإن كان مخفوضا بإضافة " مخلف " إليه ، ففي معنى النصب ، وذلك أن الإخلاف يقع على منصوبين مختلفين ، كقول القائل : كسوت عبد الله ثوبا ، وأدخلته دارا ؛ وإذا كان الفعل كذلك يقع على منصوبين مختلفين ، جاز تقديم أيِّهما قُدّم ، وخفضُ ما وَلِيَ الفعل الذي هو في صورة الأسماء ، ونصب الثاني ، فيقال : أنا مدخلُ عبد الله الدار ، وأنا مدخلُ الدَّارِ عبدَ الله ، إن قدَّمت الدار إلى المُدْخل وأخرت عبدَ الله خفضت الدار ، إذ أضيف مُدْخل إليها ، ونُصِب عبد الله ؛ وإن قُدّم عبدُ الله إليه ، وأخِّرت الدار ، خفض عبد الله بإضافة مُدْخلٍ إليه ، ونُصِب الدار ؛ وإنما فعل ذلك كذلك ، لأن الفعل ، أعني مدخل ، يعمل في كلّ واحد منهما نصبا نحو عمله في الآخر ؛ ومنه قول الشاعر :
تَرَى الثَّوْرَ فيها مُدْخِلَ الظِّلِّ رأسَهُ... وسائرُهُ بادٍ إلى الشَّمْسِ أجْمَعُ (1)
أضاف مُدْخل إلى الظلّ ، ونصب الرأس ، وإنما معنى الكلام : مدخلٌ
__________
(1) هذا البيت من شواهد الفراء في معاني القرآن ( الورقة 165 ) كما استشهد به المؤلف ، ولم ينسبه ، قال : وقوله " فلا تحسبن الله مخلف وعده رسله " أضفت مخلف إلى الوعد ، ونصبت الرسل على التأويل ، وإذا كان الفعل يقع على شيئين مختلفين مثل : كسوتك الثوب ، وأدخلتك الدار ، فابدأ بإضافة الفعل إلى الرجل ، فتقول : هو كاسي عبد الله ثوبا ، ومدخله الدار ، ويجوز هو كاسي الثوب عبد الله ، ومدخل الدار زيدا .. ومثله قول الشاعر : ترى الثور .. البيت ، فأضاف مدخل إلى الظن ، وكان الوجه أن يضف مدخل إلى الرأس .

(17/44)


يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ (48)

رأسَه الظلَّ. ومنه قول الآخر :
فَرِشْني بِخَيْرٍ لا أكُونَ وَمِدْحَتِي... كناحِتِ يَوْمٍ صَخْرَةٌ بعَسِيلِ (1)
والعسيل : الريشة جُمع بها الطيب ، وإنما معنى الكلام : كناحت صخرة يوما بعسيل ، وكذلك قول الآخر :
رُبَّ ابْنِ عَمٍّ لِسُلَيْمَى مُشْمَعِلْ... طَبَّاخِ ساعاتِ الكَرَى زَادَ الكَسِلْ (2)
وإنما معنى الكلام : طباخ زاد الكَسل ساعات الكَرَى.
فأما من قرأ ذلك( فَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلُهُ ) فقد بيَّنا وجه بُعْدِه من الصحة في كلام العرب في سورة الأنعام ، عند قوله( وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ ) ، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع.
القول في تأويل قوله تعالى : { يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرْضُ غَيْرَ الأرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ (48) }
يقول تعالى ذكره : إن الله ذو انتقام( يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرْضُ غَيْرَ الأرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ ) من مشركي قومك يا محمد من قريش ، وسائر من كفر بالله وجحد نبوّتك ونبوّة رسله من قبلك. فيوم من صلة الانتقام.
واختلف في معنى قوله( يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرْضُ غَيْرَ الأرْضِ ) فقال بعضهم : معنى ذلك : يوم تبدّل الأرض التي عليها الناس اليوم في دار الدنيا غير هذه الأرض ، فتصير أرضا بيضاء كالفضة.
__________
(1) وهذا البيت أيضا من شواهد الفراء ( الورقة 165 ) عطفه على آخر قبله وعطفهما على الأول ، ومحل الشاهد فيه : أن الشاعر أضاف ناحت وهو وصف مشبه الفعل إلى يوم ، ونصب الصخرة ، والأولى إضافة الوصف إلى الصخرة ، ونصب يوما على ما قاله القراء .
(2) البيت من شواهد الفراء في معاني القرآن ( مصورة الجامعة ص 165 ) على أن طباخ كان حقه أن يضاف إلى " زاد الكسل " ، فأضافه الشاعر إلى الساعات . والمشمعل : الخفيف الماضي في الأمر المسرع . والكرى : النوم .

(17/45)


* ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن المثنى ، قال : ثنا محمد بن جعفر ، قال : ثنا شعبة ، عن أبي إسحاق ، قال : سمعت عمرو بن ميمون يحدّث ، عن عبد الله أنه قال في هذه الآية( يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرْضُ غَيْرَ الأرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ ) قال : أرض كالفضة نقية لم يَسِل فيها دم ، ولم يُعْمَل فيها خطيئة ، يسمعهم الداعي ، وينفُذهُم البصر ، حُفاة عُراة قياما ، أحسب قال : كما خُلِقوا ، حتى يلجمهم العرق قياما وَحْدَه.
قال : شعبة : ثم سمعته يقول : سمعت عمرو بن ميمون ، ولم يذكر عبد الله ثم عاودته فيه ، قال : حدثنيه هبيرة ، عن عبد الله.
حدثنا الحسن بن محمد ، قال : ثنا يحيى بن عباد ، قال : أخبرنا شعبة ، قال : أخبرنا أبو إسحاق ، قال : سمعت عمرو بن ميمون وربما قال : قال عبد الله : وربما لم يقل ، فقلت له : عن عبد الله ؟ قال : سمعت عمرو بن ميمون يقول( يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرْضُ غَيْرَ الأرْضِ ) قال : أرض كالفضة بيضاء نقية ، لم يسل فيها دم ، ولم يعمل فيها خطيئة ، فينفُذهُم البصر ، ويسمعهم الداعي ، حفاة عُراة كما خُلِقوا ، قال : أراه قال : قياما حتى يُلجمهم العرق.
حدثنا الحسن ، قال : ثنا شبابة ، قال : ثنا إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن عمرو بن ميمون ، عن ابن مسعود ، في قوله( يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرْضُ غَيْرَ الأرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ ) قال : تبدّل أرضا بيضاء نقية كأنها فضة ، لم يسفك فيها دم حرام ، ولم يُعمَل فيها خطيئة.
حدثني المثنى ، قال : ثنا مسلم بن إبراهيم ، قال : أخبرنا شعبة ، عن أبي إسحاق ، عن عمرو بن ميمون ، عن عبد الله ، في قوله( يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرْضُ غَيْرَ الأرْضِ ) قال : أرض الجنة بيضاء نقية ، لم يعمل فيها خطيئة ، يسمعهم الداعي ، وينفذه البصر ، حفاة عراة قياما يلجمهم العرق.
حدثنا محمد بن بشار ، قال : ثنا عبد الرحمن ، قال : ثنا سفيان ، عن أبي إسحاق ، عن عمرو بن ميمون( يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرْضُ غَيْرَ الأرْضِ ) قال : أرض بيضاء كالفضة لم يسفك فيها دم حرام ، ولم يُعمل فيها خطيئة.
حدثنا الحسن بن محمد ، قال : ثنا يحيى بن عباد ، قال : ثنا حماد بن زيد ،

(17/46)


قال : أخبرنا عاصم بن بَهْدلة ، عن زِرّ بن حُبيش ، عن عبد الله بن مسعود ، أنه تلا هذه الآية( يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرْضُ غَيْرَ الأرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ ) قال : يجاء بأرض بيضاء كأنها سبيكة فضة لم يُسْفك فيها دم ، ولم يُعمل عليها خطيئة ، قال : فأوّل ما يحكم بين الناس فيه في الدماء.
حدثنا أبو كريب ، قال : ثنا معاوية بن هشام ، عن سنان ، عن جابر الجُعفيّ ، عن أبي جبيرة ، عن زيد ، قال : أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليهود ، فقال : هَلْ تَدْرُونَ لِمَ أَرْسَلْتُ إلَيْهِمْ ؟ قالوا : الله ورسوله أعلم ، قال : فإني أرْسَلْتُ إلَيْهِمْ أسألُهُمْ عَنْ قَوْلِ الله( يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرْضُ غَيْرَ الأرْضِ ) إنَّها تَكُونُ يَوْمَئذٍ بَيْضَاءَ مثْلُ الفضَّةِ ، فلما جاءوا سألهم . فقالوا : تكون بيضاء مثل النقيّ (1) .
حدثنا أبو إسماعيل الترمذي ، قال : ثنا أبو صالح ، قال : ثني ابن لهيعة ، عن يزيد بن أبي حبيب ، عن سنان بن سعد ، عن أنس بن مالك ، أنه تلا هذه الآية( يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرْضُ غَيْرَ الأرْضِ ) قال : يبدّلها الله يوم القيامة بأرض من فضة لم يُعمل عليها الخطايا ، ينزلها الجبَّار تبارك تعالى.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، وحدثنا الحسن بن محمد ، قال : ثنا شبابة ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله( يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرْضُ غَيْرَ الأرْضِ ) قال : أرض كأنها الفضة ، زاد الحسن في حديثه عن شبابة : والسموات كذلك أيضا كأنها الفضة.
حدثا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد( يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرْضُ غَيْرَ الأرْضِ ) قال : أرض كأنها الفضة ، والسموات كذلك أيضا.
حدثنا ابن البرقي ، قال : ثنا ابن أبي مريمَ ، قال : أخبرنا محمد بن جعفر ، قال : ثني أبو حازم ، قال : سمعت سهل بن سعد يقول : سمعت رسول الله
__________
(1) في اللسان : وفي الحديث : " يحشر الناس يوم القيامة على أرض بيضاء ، كقرصة النقي " قال أبو عبيد : النقي الخبز الحواري .

(17/47)


صلى الله عليه وسلم يقول : " يُحْشَرُ النَّاسُ يَوْمَ القيامَةِ على أرْضٍ بَيْضَاءَ عَفْرَاءَ كَقُرْصةِ النُّقِيّ " . قال سهل أو غيره : ليس فيها معلم لغيره.
وقال آخرون : تبدّل نارا.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا أبو كريب ، قال : ثنا ابن فضيل ، عن الأعمش ، عن المنهال بن عمرو ، عن قيس بن السَّكن ، قال : قال عبد الله : الأرض كلها نار يوم القيامة ، والجنة من ورائها ترى أكوابها وكواعبها ، والذي نفس عبد الله بيده ، إن الرجل ليفيض عرقا ، حتى يرشح في الأرض قدمه ، ثم يرتفع حتى يبلغ أنفه وما مسه الحساب ، فقالوا : مم ذاك يا أبا عبد الرحمن ؟ قال : مما يرى الناس ويلقون.
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا عبد الرحمن ، قال : ثنا أبو سفيان ، عن الأعمش ، عن خيثمة ، قال : قال عبد الله : الأرض كلها يوم القيامة نار ، والجنة من ورائها ترى كواعبها وأكوابها ، ويلجم الناس العرق ، أو يبلغ منهم العرق ، ولم يبلغوا الحساب.
وقال آخرون : بل تبدّل الأرض أرضا من فضة.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن المثنى ، قال : ثنا محمد بن جعفر ، قال : ثنا شعبة ، قال : سمعت المغيرة بن مالك يحدّث عن المجاشع أو المجاشعي ، شكّ أبو موسى ، عمن سمع عليا يقول في هذه الآية( يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرْضُ غَيْرَ الأرْضِ ) قال : الأرض من فضة ، والجنة من ذهب.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن شعبة ، عن المغيرة بن مالك ، قال : ثني رجل من بني مجاشع ، يقال له عبد الكريم ، أو ابن عبد الكريم ، قال : حدثني هذا الرجل أراه بسمرقند ، أنه سمع عليّ بن أبي طالب قرأ هذه الآية( يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرْضُ غَيْرَ الأرْضِ ) قال : الأرض من فضة ، والجنة من ذهب.
حدثنا ابن وكيع ، قال : ثنا أبي ، عن شعبة ، عن مغيرة بن مالك ، عن رجل من بني مجاشع ، يقال له عبد الكريم ، أو يكنى أبا عبد الكريم ، قال :

(17/48)


أقامني على رجل بخراسان ، فقال : حدثني هذا أنه سمع عليّ بن أبي طالب ، فذكر نحوه.
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله( يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرْضُ غَيْرَ الأرْضِ ) ... الآية ، فزعم أنها تكون فضة.
حدثنا محمد بن إسماعيل ، قال : ثنا أبو صالح ، قال : ثني ابن لهيعة ، عن يزيد بن أبي حبيب ، عن سنان بن سعد ، عن أنس بن مالك قال : يبدّلها الله يوم القيامة بأرض من فضة.
وقال آخرون : يبدّلها خبزة.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى ، قال : ثنا أبو سعد سعيد بن دلّ من صغانيان ، قال : ثنا الجارود بن معاذ الترمِذِيّ ، قال : ثنا وكيع بن الجرّاح ، عن عمر بن بشر الهمداني ، عن سعيد بن جبير ، في قوله( يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرْضُ غَيْرَ الأرْضِ ) قال : تبدّل خبزة بيضاء يأكل المؤمن من تحت قدميه.
حدثني المثنى ، قال : ثنا إسحاق ، قال : ثنا وكيع ، عن أبى معشر ، عن محمد بن كعب القرظي ، أو عن محمد بن قيس( يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرْضُ غَيْرَ الأرْضِ ) قال : خبزة يأكل منها المؤمنون من تحت أقدامهم.
وقال آخرون : تبدّل الأرض غير الأرض.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا عليّ بن سهل ، قال : ثنا حجاج بن محمد ، قال : ثنا أبو جعفر ، عن الربيع بن أنس ، عن كعب في قوله( يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرْضُ غَيْرَ الأرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ ) قال : تصير السماوات جنانا ويصير مكان البحر النار. قال : وتبدل الأرض غيرها.
حدثنا أبو كريب ، قال : ثنا عبد الرحمن بن محمد المحاربيّ ، عن إسماعيل بن رافع المدني ، عن يزيد ، عن رجل من الأنصار ، عن محمد بن كعب القرظي ، عن رجل من الأنصار ، عن أبي هريرة ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرْضُ غَيْرَ الأرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ فَيَبْسُطُهَا وَيُسَطِّحهَا وَيَمُدّهَا مَدّ الأدِيم الْعُكَاظِيّ لا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلا أَمْتًا ، ثُمَّ يَزْجُر اللَّه الْخَلْق زَجْرَةً وَاحِدَةً

(17/49)


فَإِذَا هُمْ فِي هَذِهِ الأرْض الْمُبَدَّلَة فِي مِثْل مَوَاضِعِهِمْ مِنْ الأوْلَى مَا كَانَ فِي بَطْنِهَا كَانَ فِي بَطْنِهَا وَمَا كَانَ عَلَى ظَهْرِهَا كَانَ عَلى ظَهْرِها ، وَذلكَ حينَ يَطْوِي السَّمَاواتِ كَطَيّ السِّجلّ للْكِتابِ ، ثُمَّ يَدْحُو بِهِما ، ثُمَّ تُبَدَّلُ الأرْضُ غيرَ الأرضِ والسَّمَواتُ " .
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا الحكم بن بشير ، قال : ثنا عمرو بن قيس ، عن أبي إسحاق ، عن عمرو بن ميمون الأودي ، قال : يجمع الناس يوم القيامة في أرض بيضاء ، لم يُعمل فيها خطيئة مقدار أربعين سنة يلجمهم العرق.
وقالت عائشة في ذلك ، ما :
حدثنا ابن أبي الشوارب وحميد بن مسعدة وابن بزيع ، قالوا : حدثنا يزيد بن زريع ، عن داود ، عن عامر ، عن عائشة ، قالت : قلت : يا رسول الله ، إذا بدّلَت الأرض غير الأرض ، وبرزوا لله الواحد القهَّار ، أين الناس يومئذ ؟ قال : عَلى الصِّرَاطِ " .
حدثنا حميد بن مسعدة وابن بزيع ، قال : ثنا بشر بن المفضل ، قال : ثنا داود ، عن عامر ، عن عائشة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم نحوه.
حدثني إسحاق بن شاهين ، قال : ثنا خالد ، عن داود ، عن عامر ، عن مسروق ، قال : قلت لعائشة : " يا أم المؤمنين أرأيت قول الله( يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرْضُ غَيْرَ الأرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ ) أين الناس يومئذ ؟ فقالت : سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك ، فقال : عَلَى الصِّرَاطِ " .
حدثنا ابن المثنى ، قال : ثنا الحسن بن عنبسة الورَّاق ، قال : ثنا عبد الرحيم ، يعني ابن سليمان الرازي عن داود بن أبي هند ، عن عامر ، عن مسروق ، عن عائشة ، قالت : " سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، عن قول الله( يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرْضُ غَيْرَ الأرْضِ ) قلت : يا رسول الله ، إذا بُدّلت الأرض غير الأرض ، أين يكون الناس ؟ قال : عَلى الصِّراطِ " .
حدثنا الحسن بن محمد ، قال : ثنا عاصم بن عليّ ، قال : ثنا إسماعيل بن زكريا ، عن داود ، عن عامر ، عن مسروق ، عن عائشة بنحوه.
حدثنا ابن المثنى ، قال : ثنا عبد الأعلى ، قال : ثنا داود ، عن عامر ، عن عائشة أمّ المؤمنين قالت : " أنا أوّل الناس سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية " ثم ذكر نحوه.

(17/50)


حدثنا الحسن بن محمد ، قال : ثنا ربعيّ بن إبراهيم الأسدي أخو إسماعيل بن إبراهيم ، عن داود بن أبي هند ، عن عامر ، قال : قالت عائشة : يا رسول الله ، أرأيت إذا بُدّلت الأرض غير الأرض ، أين الناس يومئذ ؟ قال : عَلى الصراط " .
حدثنا الحسن ، قال : ثنا عليّ بن الجند ، قال : أخبرني القاسم ، قال : سمعت الحسن ، قال : قالت عائشة : يا رسول الله( يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرْضُ غَيْرَ الأرْضِ ) فأين الناس يومئذ ؟ قال : إنَّ هذَا الشَّيْءَ ما سألَنِي عَنْهُ أحَدٌ ، قال : عَلى الصِّراطِ يا عائِشَةُ " .
حدثنا الحسن ، قال : ثنا عبد الرحمن بن إبراهيم ، قال : ثني الوليد ، عن سعيد ، عن قتادة ، عن حسان بن بلال المزنيّ ، عن عائشة : أنها سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، عن قول الله( يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرْضُ غَيْرَ الأرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ ) قال : قالت : يا رسول الله ، فأين الناس يومئذ ؟ قال : لَقَدْ سألْتنِي عَنْ شَيْءٍ ما سألَنِي عنه أَحَدٌ مِنْ أُمَّتِي ، ذَاكَ إذَا النَّاسُ على جِسْر (1) جَهَنَّمَ " .
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرْضُ غَيْرَ الأرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ ) ذُكر لنا أن عائشة قالت : " يا رسول الله ، فأين الناس يومئذ ؟ فقال : لَقَدْ سألْتِ عَنْ شَيْءٍ ما سألَنِي عنه أَحَدٌ مِنْ أُمَّتِي قَبْلَكِ ، قال : هُمْ يَوْمَئِذٍ على جِسْرِ جَهَنَّمَ " .
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : ثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، أن عائشة سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فذكر نحوه ، إلا أنه قال : عَلى الصِّرَاطِ.
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن يحيى بن أبي كثير ، عن أسماء ، عن ثوبان ، قال : " سأل حبر من اليهود رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : أين الناس يوم تبدّل الأرض غير الأرض ؟ قال : هُمْ فِي الظُّلْمَةِ دُون الجسْرِ.
حدثني محمد بن عون ، قال : ثنا أبو المغيرة ، قال : ثنا ابن أبي مريم ،
__________
(1) في تاج العروس : الجسر ، بالفتح : الذي يعبر عليه كالقنطرة ونحوها ، ويكسر لغتان .

(17/51)


وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ (49) سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ (50) لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (51)

قال : ثنا سعيد بن ثوبان الكلاعي ، عن أبي أيوب الأنصاريّ ، قال : أتى النبيّ صلى الله عليه وسلم حبرٌ من اليهود ، وقال : أرأيت إذ يقول الله في كتابه( يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرْضُ غَيْرَ الأرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ ) فأين الخلق عند ذلك ؟ قال : أضْيافُ اللَّهِ فَلَنْ يُعْجِزَهُمْ ما لَدَيْهِ " .
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب ، قول من قال : معناه : يوم تبدّل الأرض التي نحن عليها اليوم يوم القيامة غيرها ، وكذلك السماوات اليوم تبدّل غيرها ، كما قال جلّ ثناؤه ، وجائز أن تكون المبدلة أرضا أخرى من فضة ، وجائز أن تكون نارا وجائز أن تكون خبزا ، وجائز أن تكون غير ذلك ، ولا خبر في ذلك عندنا من الوجه الذي يجب التسليم له أي ذلك يكون ، فلا قول في ذلك يصحّ إلا ما دلّ عليه ظاهر التنزيل.
وبنحو ما قلنا في معنى قوله( وَالسَّمَاوَاتُ) قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد( يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرْضُ غَيْرَ الأرْضِ ) قال : أرضا كأنها الفضة( وَالسَّمَاوَاتُ) كذلك أيضا.
وقوله( وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ ) يقول : وظهروا لله المنفرد بالربوبية ، الذي يقهر كلّ شيء فيغلبه ويصرفه لما يشاء كيف يشاء ، فيحيي خلقه إذا شاء ، ويميتهم إذا شاء ، لا يغلبه شيء ، ولا يقهره من قبورهم أحياء لموقف القيامة.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الأصْفَادِ (49) سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ (50) لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (51) }
يقول تعالى ذكره : وتعاين الذين كفروا بالله ، فاجترموا في الدنيا الشرك يومئذ ، يعني : يوم تُبدّل الأرض غير الأرض والسماوات.( مُقَرَّنِينَ فِي الأصْفَادِ ) يقول : مقرنة أيديهم وأرجلهم إلى رقابهم بالأصفاد ، وهي الوثاق من غلّ وسلسلة ، واحدها : صَفَد ، يقال منه : صفدته في الصَّفَد صَفْدا وصِفادا ،

(17/52)


والصفاد : القيد ، ومنه قول عمرو بن كلثوم :
فَآبُوا بالنِّهابِ وبالسَّبايا... وأُبْنا بالمُلُوكِ مُصَفَّدِينا (1)
ومن جعل الواحد من ذلك صِفادا جمعه : صُفُدا لا أصفادا ، وأما من العطاء ، فإنه يقال منه : أصفدتُهُ إصفادا ، كما قال الأعشى :
تَضَيَّفْتُهُ يَوْما فأكْرَمَ مَجْلِسِي... وأصْفَدَنِي عِنْدَ الزَّمانَةِ قائِدَا (2)
وقد قيل في العطاء أيضا : صَفَدَني صَفْدا ، كما قال النابغة الذبياني :
هَذَا الثَّناءُ فإنْ تَسْمَعْ لِقَائِلِهِ... فَمَا عَرَضْتُ أبَيْتَ اللَّعْنَ بالصَّفَدِ (3)
وبنحو الذي قلنا في معنى قوله( مُقَرَّنِينَ فِي الأصْفَادِ ) قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى ، قال : ثني عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله( مُقَرَّنِينَ فِي الأصْفَادِ ) يقول : في وثاق.
حدثني محمد بن عيسى الدامغاني ، قال : ثنا ابن المبارك ، عن جويبر ، عن الضحاك ، قال : الأصفاد : السلاسل
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : ثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة( مُقَرَّنِينَ فِي الأصْفَادِ ) قال : مقرّنين في القيود والأغلال.
__________
(1) البيت لعمرو بن كلثوم في معلقته . وآبوا : رجعوا . والنهاب : جمع نهب . والمصفدون : المغللون بالأصفاد ، الواحد : صفد ، وهو الغل . يقول : ظفرنا بهم ، فلم نلتفت إلى أسلابهم ، ولا أموالهم ، وعمدنا إلى ملوكهم ، فصفدناهم في الحديد . وفي ( اللسان : صفه ) : الصفاد : حبل يوثق به أو غل . وهو الصفد ، والصفد ( بتسكين الفاء وتحريكها ) . والجمع : الأصفاد . قال ابن سيده : لا نعمله كسر على غير ذلك . وفي التنزيل " مقرنين في الأصفاد " . قيل : هي الأغلال . وقيل : القيود . واحدها صفد . وانظر شرح المعلقات السبع للزوزني ، وشرح القصائد العشر للتبريزي .
(2) البيت للأعشى ( اللسان : صفد ، وديوان الأعشى طبع القاهرة ص 65 ) من قصيدة يمدح بها هوذة بن علي الحنفي ، ويذم الحارث بن وعلة بن مجالد الرقاشي . وتضيفته : نزلت عنده ضيفا ، وأصفدني : أعطاني ، من الصفد بمعنى العطية هنا . يقول : لما زرت هوذة في " جو " أكرم وفادتي عليه ، وقربني من مجلسه ، وأعطاني قائدا يقودني لما رأى من آثار الضعف والكلال وسوء البصر ، ورواية الديوان : " على " في موضع " عند " .
(3) هذا البيت للنابغة الذيباني ( مختار الشعر الجاهلي بشرح مصطفى السقا طبعة الحلبي ص 155 ) . والصفد هنا : بمعنى العطاء كالذي قبله . وفي الشطر الثاني منه : فلم أعرض ، في مكان : فما عرضت .

(17/53)


حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثنا عليّ بن هاشم بن البريد ، قال : سمعت الأعمش ، يقول : الصفد : القيد.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله( مُقَرَّنِينَ فِي الأصْفَادِ ) قال : صفدت فيها أيديهم وأرجلهم ورقابهم ، والأصفاد : الأغلال.
وقوله( سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ ) يقول : قمصهم التي يلبسونها ، واحدها : سربال ، كما قال امرؤ القيس :
لَعُوبٌ تُنَسِّيني إذَا قُمْتُ سرْبالي (1)
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله( سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ ) قال : السرابيل : القُمُص. وقوله( مِنْ قَطِرَانٍ ) يقول : من القطران الذي يهنأ به الإبل ، وفيه لغات ثلاث : يقال : قِطران وقَطْران بفتح القاف وتسكين الطاء منه. وقيل : إن عيسى بن عمر كان يقرأ " مِنْ قِطْرَانٍ " بكسر القاف وتسكين الطاء ، ومنه قول أبي النجم :
جَوْنٌ كأنَّ العَرَقَ المَنْتُوحا... لَبَّسُه القِطْرَانَ والمُسُوحا (2)
بكسر القاف ، وقال أيضا :
كأنَّ قِطْرَانا إذَا تَلاهَا... تَرْمي بِهِ الرّيحُ إلى مَجْرَاها (3)
__________
(1) هذا عجز بيت لامرئ القيس بن حجر من لاميته المطولة ( 54 بيتا ) ، وصدره " ومثلك بيضاء العوارض طفلة " ( انظر مختار الشعر الجاهلي ، بشرح مصطفى السقا طبعة الحلبي ص 37 ) . وهذا البيت ساقط من نسخة الديوان بشرح الوزير أبي بكر عاصم بن أيوب البطليوسي ، وثابت في نسخة الأعلم الشنتمري ، وفيما نقله البغدادي في خزانة الأدب الكبرى من أبيات القصيدة ( ج 1 : 197 ) أورده بعد قول امرئ القيس : " وأمنع عرسي أن يزن بها الخالي " . والواو في البيت : واو رب . والخطاب لبسباسة . والعارض والعارضة صفحة الخد وصفحة العنق ، وجانب الوجه ، وما يستقبلك من الشيء ، ومن الوجه ما يبدو عن الضحك ، والطفلة ( بالفتح ) : الناعمة البدن . واللعوب : الحسنة الدل . والسربال : القميص ، يريد : تذهب بفؤادي ، حتى أنسى قميصي ، والشاهد فيه عند الطبري ، أن السربال : هو القميص عند العرب .
(2) البيت في ( لسان العرب : نتح ) قال : النتح : خروج العرق من الجلد ، والدسم من النحي ، والندي من الثرى . نتح ينتح نتحا ونتوحا . وقال الجوهري : النتح : الرشح . ومناتح العرق : مخارجه من الجلد ، وأنشد : جون ... الخ . والقطران ( بالفتح وبالكسر وكظربان) : عصارة الأرز ، وهو الصنوبر ، يطبخ ثم تهنأ به الإبل ، وإنما جعلت سرابيلهم منه ، لأنه يبالغ في اشتعال النار في الجلود ( عن تاج العروس ). والمسوح : جمع مسح ، بكسر الميم ، وهو الكساء من الشعر : جمعه أمساح ومسوح .
(3) هذا الشاهد كالذي قبله ، على أن القطران ، بكسر القاف .

(17/54)


بالكسر.
وبنحو ما قلناه في ذلك يقول من قرأ ذلك كذلك.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا الحسن بن محمد ، قال : ثنا عبد الوهاب ، عن سعيد ، عن قتادة ، عن الحسن( مِنْ قَطِرَانٍ ) يعني : الخَصْخَاص هِناء الإبل.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : ثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن الحسن( مِنْ قَطِرَانٍ ) قال : قطران الإبل.
وقال بعضهم : القطران : النحاس.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، قال : قَطران : نحاس ، قال ابن جريج : قال ابن عباس( مِنْ قَطِرَانٍ ) نحاس.
حدّثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثنا أبو سفيان ، عن معمر ، عن قتادة( مِنْ قَطِرَانٍ ) قال : هي نحاس ، وبهذه القراءة : أعني بفتح القاف وكسر الطاء ، وتصيير ذلك كله كلمة واحدة ، قرأ ذلك جميع قرّاء الأمصار ، وبها نقرأ لإجماع الحجة من القرّاء عليه.
وقد رُوي عن بعض المتقدمين أنه كان يقرأ ذلك : " مِنْ قَطْرٍ آنٍ " بفتح القاف وتسكين الطاء وتنوين الراء وتصيير آن من نعتِه ، وتوجيه معنى القَطر إلى أنه النحاس ، ومعنى الآن ، إلى أنه الذي قد انتهى حرّه في الشدّة.
وممن كان يقرأ ذلك كذلك فيما ذكر لنا عكرمة مولى ابن عباس ، حدثني بذلك أحمد بن يوسف ، قال : ثنا القاسم ، قال : ثنا هشيم ، قال : أخبرنا حُصَين عنه.
ذكر من تأوّل ذلك على هذه القراءة التأويل الذي ذكرت فيه حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا يعقوب ، عن جعفر ، عن سعيد ، في قوله " سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطْرٍ آنٍ " قال : قطر ، والآن : الذي قد انتهى حرّه.
حدثنا الحسن بن محمد ، قال : ثنا داود بن مِهران ، عن يعقوب ، عن جعفر ، عن سعيد بن جبير نحوه.

(17/55)


حدثني المثنى ، قال : ثنا إسحاق ، قال : ثنا هشام ، قال : ثنا يعقوب القمي ، عن جعفر ، عن سعيد ، بنحوه.
حدثني المثنى ، قال : ثنا إسحاق ، قال : ثنا عبد الرحمن بن أبي حماد ، قال : ثنا يعقوب القمي ، عن جعفر ، عن سعيد بن جبير أنه كان يقرأ " سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطْرٍ آنٍ " .
حدثنا الحسن بن محمد ، قال : ثنا عفان ، قال : ثنا المبارك بن فضالة ، قال : سمعت الحسن يقول : كانت العرب تقول للشيء إذا انتهى حرّه : قد أنى حرّ هذا ، قد أوقدت عليه جهنم منذ خلقت فأنى حرّها.
حدثني المثنى ، قال : ثنا إسحاق ، قال : ثنا عبد الرحمن بن سعيد ، قال : ثنا أبو جعفر ، عن الربيع بن أنس في قوله " سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطْرٍ آنٍ " قال : القطر : النحاس ، والآن : يقول : قد أنى حرّه ، وذلك أنه يقول : حميمٌ آن.
حدثنا الحسن بن محمد ، قال : ثنا عفان بن مسلم ، قال : ثنا ثابت بن يزيد ، قال : ثنا هلال بن خباب ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، في هذه الآية " سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطْرٍ آنٍ " قال : من نحاس ، قال : آن أنى لهم أن يعذّبوا به.
حدثني المثنى ، قال : ثنا عمرو بن عون ، قال : أخبرنا هشيم ، عن حُصَين ، عن عكرمة ، في قوله " مِنْ قَطْرٍ آنٍ " قال : الآني : الذي قد انتهى حرّه.
حدثني المثنى ، قال : ثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : " مِنْ قَطْرٍ آنٍ " قال : هو النحاس المذاب.
حدثنا الحسن بن محمد ، قال : ثنا عبد الوهاب بن عطاء ، عن سعيد ، عن قتادة " مِنْ قَطْرٍ آنٍ " يعني : الصِّفر المذاب.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : ثنا محمد بن ثور ، عن قتادة " سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطْرٍ آنٍ " قال : من نحاس.
حدثني المثنى ، قال : ثنا إسحاق ، قال : ثنا هشام ، قال : ثنا أبو حفص ، عن هارون ، عن قتادة أنه كان يقرأ " مِنْ قَطْرٍ آنٍ " قال : من صفر قد انتهى حرّه.
وكان الحسن يقرؤها " مِنْ قَطْرٍ آنٍ " .
وقوله( وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ ) يقول : وتلفَحُ وجوههم النار فتحرقها

(17/56)


هَذَا بَلَاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ (52)

( لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ ) يقول : فعل الله ذلك بهم جزاء لهم بما كسبوا من الآثام في الدنيا ، كيما يثيب كلّ نفس بما كسبت من خير وشرّ ، فيَجْزِي المحسن بإحسانه ، والمسيء بإساءته( إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ ) يقول : إن الله عالم بعمل كلّ عامل ، فلا يحتاج في إحصاء أعمالهم إلى عقد كفّ ولا معاناة ، وهو سريع حسابه لأعمالهم ، قد أحاط بها علما ، لا يعزب عنه منها شيء ، وهو مجازيهم على جميع ذلك صغيره وكبيره.
القول في تأويل قوله تعالى : { هَذَا بَلاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الألْبَابِ (52) }
يقول تعالى ذكره : هذا القرآن بلاغ للناس ، أبلغ الله به إليهم في الحجة عليهم ، وأعذر إليهم بما أنزل فيه من مواعظه وعبره( وَلِيُنْذَرُوا بِهِ ) يقول : ولينذروا عقاب الله ، ويحذروا به نقماته ، أنزله إلى نبيه صلى الله عليه وسلم( وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ ) يقول : وليعلموا بما احتجّ به عليهم من الحجج فيه أنما هو إله واحد ، لا آلهة شتى ، كما يقول المشركون بالله ، وأن لا إله إلا هو الذي له ما في السماوات وما في الأرض ، الذي سخر لهم الشمس والقمر والليل والنهار وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لهم ، وسخر لهم الفلك لتجري في البحر بأمره وسخر لهم الأنهار.( وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الألْبَابِ ) يقول : وليتذكر فيتعظ بما احتجّ الله به عليه من حججه التي في هذا القرآن ، فينزجر عن أن يجعل معه إلها غيره ، ويُشْرِك في عبادته شيئا سواه أهلُ الحجى والعقول ، فإنهم أهل الاعتبار والادّكار دون الذين لا عقول لهم ولا أفهام ، فإنهم كالأنعام بل هم أضلّ سبيلا.
وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله( هَذَا بَلاغٌ لِلنَّاسِ ) قال : القرآن( وَلِيُنْذَرُوا بِهِ ) قال : بالقرآن.( وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الألْبَابِ )
آخر تفسير سورة إبراهيم صلى الله عليه وسلم ، والحمد لله ربّ العالمين.

(17/57)


الر تِلْكَ آَيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآَنٍ مُبِينٍ (1) رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ (2)

تفسير سورة الحجر
بسم الله الرحمن الرحيم
القول في تأويل قوله تعالى : { الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ (1) }
أما قوله جلّ ثناؤه : وتقدّست أسماؤه(الر) ، فقد تقدم بيانها فيما مضى قبل . وأما قوله : ( تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ ) فإنه يعني : هذه الآيات ، آيات الكتب التي كانت قبل القرآن كالتوراة والإنجيل(وقُرآنٍ) يقول : وآيات قرآن(مُبِينٍ) يقول : يُبِين من تأمله وتدبَّره رشدَه وهداه.
كما : حدثنا بشر بن معاذ ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( وَقُرْآنٍ مُبِينٍ ) قال : تبين والله هداه ورشده وخيره.
حدثنا المثنى ، قال : ثنا أبو نعيم ، قال : ثنا سفيان ، عن مجاهد(الر) فواتح يفتتح بها كلامه( تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ ) قال : التوراة والإنجيل.
حدثني المثنى ، قال : ثنا إسحاق ، قال : ثنا هشام ، عن عمرو ، عن سعيد ، عن قتادة ، في قوله( الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ ) قال : الكتُب التي كانت قبل القرآن.
القول في تأويل قوله تعالى : { رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ (2) }
اختلفت القراء في قراءة قوله(رُبَمَا) فقرأت ذلك عامة قرّاء أهل المدينة وبعض الكوفيين(رُبَمَا) بتخفيف الباء ، وقرأته عامة قرّاء الكوفة والبصرة بتشديدها.
والصواب من القول في ذلك عندنا أن يقال : إنهما قراءتان مشهورتان ، ولغتان معروفتان بمعنى واحد ، قد قرأ بكلّ واحدة منهما أئمة من القرّاء ، فبأيتهما قرأ القارئ فهو مصيب.

(17/59)


واختلف أهل العربية في معنى " ما " التي مع " ربّ " ، فقال بعض نحويي البصرة : أدخل مع ربّ " ما " ليتكلم بالفعل بعدها ، وإن شئت جعلت " ما " بمنزلة شيء ، فكأنك قلت : ربّ شيء ، يود : أي ربّ ودّ يودّه الذين كفروا. وقد أنكر ذلك من قوله بعض نحويِّي الكوفة ، وقال : المصدر لا يحتاج إلى عائد ، والودّ قد وقع على " لو " ، ربما يودون لو كانوا : أن يكونوا ، قال : وإذا أضمر الهاء في " لو " فليس بمفعول ، وهو موضع المفعول ، ولا ينبغي أن يترجم المصدر بشيء ، وقد ترجمه بشيء ، ثم جعله ودّا ، ثم أعاد عليه عائدا. فكان الكسائي والفرّاء يقولان : لا تكاد العرب توقع " ربّ " على مستقبل ، وإنما يوقعونها على الماضي من الفعل كقولهم : ربما فعلت كذا ، وربما جاءني أخوك ، قالا وجاء في القرآن مع المستقبل : ربما يودّ ، وإنما جاز ذلك لأن ما كان في القرآن من وعد ووعيد وما فيه ، فهو حقّ كأنه عيان ، فجرى الكلام فيما لم يكن بعد مجراه فيما كان ، كما قيل( وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ ) وقوله( وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ ) كأنه ماض وهو منتظر لصدقه في المعنى ، وأنه لا مكذّب له ، وأن القائل لا يقول إذا نَهَى أو أمر فعصاه المأمور يقول : أما والله لربّ ندامة لك تذكر قولي فيها لعلمه بأنه سيندم ، والله ووعده أصدق من قول المخلوقين. وقد يجوز أن يصحب ربما الدائم وإن كان في لفظ يفعل ، يقال : ربما يموت الرجل فلا يوجد له كفن ، وإن أُوليت الأسماء كان معها ضمير كان ، كما قال أبو داود :
رُبَّمَا الجامِلُ المُؤَبَّل فِيهِمُ... وعناجِيجُ بَيْنَهُنَّ المِهَارُ (1)
__________
(1) البيت لأبي داود الإيادي ( خزانة الأدب 4 : 188 ) وهو شاهد على أن رب المكفوفة بما لا تدخل إلا على الفعل عند سيبويه ، وهذا البيت شاذ عنده ، لدخول رب المكفوفة فيه على الجملة الإسمية ، فإن الجامل مبتدأ والمؤبل صفة وفيهم هو الخبر ، وتكون رب كما قال أبو حيان من حروف الابتداء ، تدخل على الجمل فعلية أو اسمية للقصد إلى تقليل النسبة المفهومة من الجملة ، فإذا قلت : ربما قام زيد فكأنك قللت النسبة المفهومة من قيام زيد ، وكذلك إذا قلت ربما زيد شاعر ، قللت نسبة شعر زيد ، وعن بعضهم أن رب المكفوفة نقلت من معنى التقليل إلى معنى التحقيق ، كما نقلت قد الداخلة على المضارع في نحو قوله تعالى " قد يعلم ما أنتم عليه " من معنى التقليل إلى معنى التحقيق . ودخولها على الجملة الاسمية مذهب المبرد والزمخشري وابن مالك . والجامل : الجماعة من الإبل ، لا واحد لها من لفظها ويقال إبل مؤبلة : إذا كان للقنية ، والعناجيج : الخيل الطوال الأعناق ، واحدها : عنجوج ، والمهار : جمع مهر ، وهو ولد الفرس ، والأنثى مهرة .

(17/60)


فتأويل الكلام : ربما يودّ الذين كفروا بالله فجحدوا وحدانيته لو كانوا في دار الدنيا مسلمين.
كما حدثنا عليّ بن سعيد بن مسروق الكندي ، قال : ثنا خالد بن نافع الأشعري ، عن سعيد بن أبي بردة ، عن أبي بردة ، عن أبي موسى ، قال : بلغنا أنه إذا كان يوم القيامة ، واجتمع أهل النار في النار ومعهم من شاء الله من أهل القبلة ، قال الكفار لمن في النار من أهل القبلة : ألستم مسلمين ؟ قالوا : بلى ، قالوا : فما أغنى عنكم إسلامكم وقد صرتم معنا في النار ؟ قالوا : كانت لنا ذنوب فأخذنا بها ، فسمع الله ما قالوا ، فأمر بكل من كان من أهل القبلة في النار فأخرجوا ، فقال من في النار من الكفار : يا ليتنا كنا مسلمين ، ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم( الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ ).
حدثنا الحسن بن محمد ، قال : ثنا عمرو بن الهيثم أبو قَطن القُطْعيّ ، ورَوح القيسيّ ، وعفان بن مسلم واللفظ لأبي قَطن قالوا : ثنا القاسم بن الفضل بن عبد الله بن أبي جروة ، قال : كان ابن عباس وأنس بن مالك يتأولان هذه الآية( رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ ) قالا ذلك يوم يجمع الله أهل الخطايا من المسلمين والمشركين في النار. وقال عفان : حين يحبس أهل الخطايا من المسلمين والمشركين ، فيقول المشركون : ما أغنى عنكم ما كنتم تعبدون ، زاد أبو قطن : قد جُمِعنا وإياكم ، وقال أبو قَطن وعفان : فيغضب الله لهم بفضل رحمته ، ولم يقله روح بن عبادة ، وقالوا جميعا : فيخرجهم الله ، وذلك حين يقول الله( رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ ).
حدثنا الحسن ، قال : ثنا عفان ، قال : ثنا أبو عوانة ، قال : ثنا عطاء بن السائب ، عن مجاهد ، عن ابن عباس ، في قوله( رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ ) قال : يدخل الجنة ويرحم حتى يقول في آخر ذلك : من كان

(17/61)


مسلما فليدخل الجنة ، قال : فذلك قوله( رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ ).
حدثني المثنى ، قال : ثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، في قوله( رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ ) ذلك يوم القيامة يتمنى الذين كفروا لو كانوا موحدين.
حدثنا أحمد بن إسحاق ، قال : ثنا أبو أحمد ، قال : ثنا سفيان عن سلمة بن كهيل ، عن أبي الزعراء ، عن عبد الله ، في قوله( رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ ) قال : هذا في الجهنميين إذا رأوهم يخرجون من النار.
حدثني المثنى ، قال : أخبرنا مسلم بن إبراهيم ، قال : ثنا القاسم ، قال : ثنا ابن أبي فروة العبدي أن ابن عباس وأنس بن مالك كانا يتأوّلان هذه الآية( رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ ) يتأوّلانها يوم يحبس الله أهل الخطايا من المسلمين مع المشركين في النار ، قال : فيقول لهم المشركون : ما أغنى عنكم ما كنتم تعبدون في الدنيا ، قال : فيغضب الله لهم بفضل رحمته ، فيخرجهم ، فذلك حين يقول( رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ )
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا جرير ، عن عطاء بن السائب ، عن مجاهد ، عن ابن عباس ، قال : ما يزال الله يُدخل الجنة ، ويرحم ويشفع حتى يقولَ : من كان من المسلمين فليدخل الجنة ، فذلك قوله( رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ ).
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : ثنا ابن علية ، عن هشام الدَّستوائي ، قال : ثنا حماد ، قال : سألت إبراهيم عن هذه الآية( رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ ) قال : حدثت أن المشركين قالوا لمن دخل النار من المسلمين : ما أغنى عنكم ما كنتم تعبدون ، قال : فيغضب الله لهم ، فيقول للملائكة والنبيين : اشفعوا ، فيشفعون ، فيخرجون من النار ، حتى إن إبليس ليتطاول رجاء أن يخرج معهم ، قال : فعند ذلك يودّ الذين كفروا لو كانوا مسلمين.
حدثني المثنى ، قال : ثنا حجاج ، قال : ثنا حماد ، عن إبراهيم ، أنه قال في قول الله عزّ وجلّ : ( رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ ) قال : يقول

(17/62)


من في النار من المشركين للمسلمين : ما أغنت عنكم " لا إله إلا الله " قال : فيغضب الله لهم ، فيقول : من كان مسلما فليخرج من النار ، قال : فعند ذلك( يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ ).
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن حماد ، عن إبراهيم في قوله( رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ ) قال : إن أهل النار يقولون : كنا أهل شرك وكفر ، فما شأن هؤلاء الموحدين ما أغنى عنهم عبادتهم إياه ، قال : فيخرج من النار من كان فيها من المسلمين. قال : فعند ذلك( يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ ).
حدثنا الحسن بن يحيى ، أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا الثوريّ ، عن حماد ، عن إبراهيم ، عن خصيف ، عن مجاهد ، قال : يقول أهل النار للموحدين : ما أغنى عنكم إيمانكم ؟ قال : فإذا قالوا ذلك ، قال : أخرجوا من كان في قلبه مثقال ذرّة ، فعند ذلك( يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ ).
حدثني المثنى ، قال : ثنا مسلم ، قال : ثنا هشام ، عن حماد ، قال : سألت إبراهيم عن قول الله عزّ وجلّ( رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ ) قال : الكفار يعيرون أهل التوحيد : ما أغنى عنكم لا إله إلا الله ، فيغضب الله لهم ، فيأمر النبيين والملائكة فيشفعون ، فيخرج أهل التوحيد ، حتى إن إبليس ليتطاول رجاء أن يخرج ، فذلك قوله( رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ ).
حدثنا أحمد ، قال : ثنا أبو أحمد ، قال : ثنا عبد السلام ، عن خصيف ، عن مجاهد ، قال : هذا في الجهنميين ، إذا رأوهم يخرجون من النار( يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ ).
حدثني المثنى ، قال : ثنا الحجاج بن المنهال ، قال : ثنا حماد ، عن عطاء بن السائب ، عن مجاهد ، قال : إذا فرغ الله من القضاء بين خلقه ، قال : من كان مسلما فليدخل الجنة ، فعند ذلك( يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ ).
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن قال : ثنا ورقاء ، وحدثني الحسن ، قال : ثنا شبابة ،

(17/63)


قال : ثنا ورقاء ، وحدثني المثنى ، قال : ثنا أبو حذيفة ، قال : ثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله( رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ ) قال : يوم القيامة.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله.
حدثنا الحسن بن محمد ، قال : ثنا عبد الوهاب بن عطاء ، عن جويبر ، عن الضحاك في قوله( رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ ) قال : فيها وجهان اثنان ، يقولون : إذا حضر الكافر الموت ودّ لو كان مسلما. ويقول آخرون : بل يعذّب الله ناسا من أهل التوحيد في النار بذنوبهم ، فيعرفهم المشركون فيقولون : ما أغنت عنكم عبادة ربكم ، وقد ألقاكم في النار ، فيغضب لهم فيخرجهم ، فيقول( رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ ).
حدثنا ابن وكيع ، قال : ثنا أبي ، عن أبي جعفر ، عن الربيع ، عن أبي العالية ، في قوله( رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ ) قال : نزلت في الذين يخرجون من النار.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله( رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ ) وذلك والله يوم القيامة ، ودّوا لو كانوا في الدنيا مسلمين.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : ثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة( رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ ) (1) .
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا جرير ، عن عطاء ، عن مجاهد ، عن ابن عباس ، قال : ما يزال الله يدخل الجنة ويشفع حتى يقول : من كان من المسلمين فليدخل الجنة ، فذلك حين يقول( رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ ).
__________
(1) أي بمثل حديث بشر قبله ، لأن كلا الإسنادين ينتهي إلى قتادة .

(17/64)


ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (3) وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَهَا كِتَابٌ مَعْلُومٌ (4) مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ (5)

القول في تأويل قوله تعالى : { ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الأمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (3) }
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : ذر يا محمد هؤلاء المشركين يأكلوا في هذه الدنيا ما هم آكلوه ، ويتمتعوا من لذاتها وشهواتهم فيها إلى أجلهم الذي أجلت لهم ، ويلههم الأمل عن الأخذ بحظهم من طاعة الله فيها ، وتزوّدهم لمعادهم منها بما يقربهم من ربهم ، فسوف يعلمون غدا إذا وردوا عليه. وقد هلكوا على كفرهم بالله وشركهم حين يُعاينون عذاب الله أنهم كانوا من تمتعهم بما كانوا يتمتعون فيها من اللذّات والشهوات كانوا في خسار وتباب.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلا وَلَهَا كِتَابٌ مَعْلُومٌ (4) }
يقول تعالى ذكره(وَمَا أَهْلَكْنَا) يا محمد(مِنْ) أهل(قَرْيَةٍ) من أهل القرى التي أهلكنا أهلها فيما مضى( إِلا وَلَهَا كِتَابٌ مَعْلُومٌ ) يقول : إلا ولها أجل مؤقَّت ومدة معروفة ، لا نهلكهم حتى يبلغوها ، فإذا بلغوها أهلكناهم عند ذلك ، فيقول لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم ، فكذلك أهل قريتك التي أنت منها وهي مكة ، لا نهلك مشركي أهلها إلا بعد بلوغ كتابهم أجله ، لأن مِنْ قضائي أن لا أهلك أهل قرية إلا بعد بلوغ كتابهم أجله.
القول في تأويل قوله تعالى : { مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ (5) }
يقول تعالى ذكره : ما يتقدّم هلاك أمة قبل أجلها الذي جعله الله أجلا لهلاكها ، ولا يستأخر هلاكها عن الأجل الذي جعل لها أجلا.

(17/65)


وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ (6) لَوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلَائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (7)

كما حدثني المثنى ، قال : أخبرنا إسحاق ، قال : ثنا عبد الرزاق ، عن معمر ، عن الزهري ، في قوله( مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ ) قال : نرى أنه إذا حضر أجله ، فإنه لا يؤخر ساعة ولا يقدّم. وأما ما لم يحضر أجله ، فإن الله يؤخر ما شاء ويقدّم ما شاء.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نزلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ (6) لَوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (7) }
يقول تعالى ذكره : وقال هؤلاء المشركون لك من قومك يا محمد( يَا أَيُّهَا الَّذِي نزلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ ) وهو القرآن الذي ذكر الله فيه مواعظ خلقه( إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ ) في دعائك إيانا إلى أن نتَّبعك ، ونذر آلهتنا( لَوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلائِكَةِ ) قالوا : هلا تأتينا بالملائكة شاهدة لك على صدق ما تقول ؟( إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ) يعني : إن كنت صادقا في أن الله تعالى بعثك إلينا رسولا وأنزل عليك كتابا ، فإن الربّ الذي فعل ما تقول بك ، لا يتعذّر عليه إرسال ملك من ملائكته معك حجة لك علينا ، وآية لك على نبوّتك ، وصدق مقالتك : والعرب تضع موضع لوما : لولا وموضع لولا لوما ، من ذلك قول ابن مقبل :
لَوْما الحَياءُ وَلَوْمَا الدّينُ عِبْتُكما... ببَعْضِ ما فيكُما إذْ عِبْتُمَا عَوَرِي (1)
يريد : لو لا الحياء.
وبنحو الذي قلنا في معنى الذكر قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى ، قال : ثنا إسحاق ، قال : ثنا أبو زهير ، عن جويبر ، عن الضحاك : ( نزلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ ) قال : القرآن.
__________
(1) البيت لابن مقبل من كلمة له ، من أولها أبيات في الحماسة ( د : 113 ) وهو شاهد على أن (لوما) تستعمل بمعنى لولا : في امتناع الشيء لوجود غيره ، وهي في الآية : بمعنى التحضيض ، قال أبو عبيدة في معاني القرآن : " لوما " مجازها ومجاز " لولا " واحد . واستشهد ببيت ابن مقبل ، وعنه أخذه المؤلف .

(17/66)


مَا نُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَا كَانُوا إِذًا مُنْظَرِينَ (8)

القول في تأويل قوله تعالى : { مَا نُنزلُ الْمَلائِكَةَ إِلا بِالْحَقِّ وَمَا كَانُوا إِذًا مُنْظَرِينَ (8) }
اختلفت القرّاء في قراءة قوله( مَا نُنزلُ الْمَلائِكَةَ ) فقرأ ذلك عامَّة قرّاء المدينة والبصرة( مَا تُنزلُ المَلائِكَةُ ) بالتاء تُنزلُ وفتحها ورفع الملائكة ، بمعنى : ما تنزل الملائكة ، على أن الفعل للملائكة. وقرأ ذلك عامَّة قرّاء أهل الكوفة( مَا نُنزلُ الْمَلائِكَةَ ) بالنون في ننزل وتشديد الزاي ونصب الملائكة ، بمعنى : ما ننزلها نحن ، و الملائكة حينئذ منصوب بوقوع ننزل عليها. وقرأه بعض قراء أهل الكوفة( مَا تُنزلُ المَلائِكَةُ ) برفع الملائكة والتاء في تنزل وضمها ، على وجه ما لم يسمّ فاعله.
قال أبو جعفر : وكلّ هذه القراءات الثلاث متقاربات المعاني ، وذلك أن الملائكة إذا نزلها الله على رسول من رسله تنزلت إليه ، وإذا تنزلت إليه ، فإنما تنزل بإنزال الله إياها إليه ، فبأي هذه القراءات الثلاث قرأ ذلك القارئ فمصيب الصواب في ذلك ، وإن كنت أحبّ لقارئه أن لا يعدو في قراءته إحدى القراءتين اللتين ذكرت من قراءة أهل المدينة ، والأخرى التي عليها جمهور قراء الكوفيين ، لأن ذلك هو القراءة المعروفة في العامَّة ، والأخرى : أعني قراءة من قرأ ذلك : (مَا تُنزلُ) بضم التاء في تنزل ورفع الملائكة شاذّة قليل من قرأ بها.
فتأويل الكلام : ما ننزل ملائكتنا إلا بالحقّ ، يعني بالرسالة إلى رسلنا ، أو بالعذاب لمن أردنا تعذيبه. ولو أرسلنا إلى هؤلاء المشركين على ما يسألون إرسالهم معك آية فكفروا لم يُنظروا فيؤخروا بالعذاب ، بل عوجلوا به كما فعلنا ذلك بمن قبلهم من الأمم حين سألوا الآيات فكفروا حين آتتهم الآيات ، فعاجلناهم بالعقوبة.
وبنحو الذي قلنا في قوله( مَا نُنزلُ الْمَلائِكَةَ إِلا بِالْحَقِّ ) قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، وحدثنا الحسن بن محمد ، قال : ثنا شبابة ، قال : ثنا ورقاء ، وحدثني المثنى ، قال :

(17/67)


إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9)

ثنا أبو حذيفة ، قال : ثنا شبل جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله( مَا نُنزلُ الْمَلائِكَةَ إِلا بِالْحَقِّ ) قال : بالرسالة والعذاب.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله.
القول في تأويل قوله تعالى : { إِنَّا نَحْنُ نزلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9) }
يقول تعالى ذكره : ( إِنَّا نَحْنُ نزلْنَا الذِّكْرَ ) وهو القرآن( وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ) قال : وإنا للقرآن لحافظون من أن يزاد فيه باطل مَّا ليس منه ، أو ينقص منه ما هو منه من أحكامه وحدوده وفرائضه ، والهاء في قوله : (لَهُ) من ذكر الذكر.
وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، وحدثني الحسن ، قال : ثنا شبابة ، قال : ثنا ورقاء ، وحدثني المثنى ، قال : ثنا أبو حذيفة قال : ثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله( وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ) قال : عندنا.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله( إِنَّا نَحْنُ نزلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ) ، قال في آية أخرى( لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ ) والباطل : إبليس( مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ ) فأنزله الله ثم حفظه ، فلا يستطيع إبليس أن يزيد فيه باطلا ولا ينتقص منه حقا ، حفظه الله من ذلك.
حدثني محمد بن عبد الأعلى ، قال : ثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة( وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ) قال : حفظه الله من أن يزيد فيه الشيطان باطلا أو

(17/68)


وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ (10) وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (11) كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (12) لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ (13)

ينقص منه حقا ، وقيل : الهاء في قوله( وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ) من ذكر محمد صلى الله عليه وسلم بمعنى : وإنا لمحمد حافظون ممن أراده بسوء من أعدائه.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الأوَّلِينَ (10) وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (11) }
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : ولقد أرسلنا يا محمد من قبلك في الأمم الأوّلين رسلا وترك ذكر الرسل اكتفاء بدلالة قوله( وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ ) عليه ، وعنى بشيع الأوّلين : أمم الأوّلين : واحدتها شيعة ، ويقال أيضا لأولياء الرجل : شيعته.
وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى ، قال : ثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس : ( وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الأوَّلِينَ ) يقول : أمم الأولين.
حدثني المثنى ، قال : أخبرنا إسحاق ، قال : ثنا هشام ، عن عمرو ، عن سعيد ، عن قتادة ، في قوله( وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الأوَّلِينَ ) قال : في الأمم.
وقوله( وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ) يقول : وما يأتي شيع الأوّلين من رسول من الله يرسله إليهم بالدعاء إلى توحيده ، والإذعان بطاعته ، إلا كانوا به يستهزءون : يقول : إلا كانوا يسخرون بالرسول الذي يرسله الله إليهم عتُوّا منهم وتمرّدا على ربهم.
القول في تأويل قوله تعالى : { كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (12) لا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الأوَّلِينَ (13) }

(17/69)


يقول تعالى ذكره : كما سلكنا الكفر في قلوب شيع الأولين بالاستهزاء بالرسل ، كذلك نفعل ذلك في قلوب مشركي قومك الذين أجرموا بالكفر بالله( لا يُؤْمِنُونَ بِهِ ) يقول : لا يصدّقون بالذكر الذي أنزل إليك ، والهاء في قوله(نَسْلُكُهُ) من ذكر الاستهزاء بالرسل والتكذيب بهم.
كما حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج( كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ ) قال : التكذيب.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : ثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة( كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ ) لا يؤمنون به ، قال : إذا كذبوا سلك الله في قلوبهم أن لا يؤمنوا به.
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا الثوري ، عن حميد ، عن الحسن ، في قوله( كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ ) قال : الشرك.
حدثني المثنى ، قال : ثنا الحجاج بن المنهال ، قال : ثنا حماد بن سلمة ، عن حميد ، قال : قرأت القرآن كله على الحسن في بيت أبي خليفة ، ففسره أجمع على الإثبات ، فسألته عن قوله( كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ ) قال : أعمال سيعملونها لم يعملوها.
حدثني المثنى ، قال : ثنا سويد ، قال : أخبرنا ابن المبارك عن حماد بن سلمة ، عن حميد الطويل ، قال : قرأت القرآن كله على الحسن ، فما كان يفسره إلا على الإثبات ، قال : وقفته على نسلكه ، قال : الشرك ، قال : ابن المبارك : سمعت سفيان في قوله(نَسْلُكُهُ) قال : نجعله.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله( كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِهِ ) قال : هم كما قال الله ، هو أضلهم ومنعهم الإيمان ، يقال منه : سلكه يسلكه سلكا وسلوكا ، وأسلكه يسلكه إسلاكا ، ومن السلوك قول عديّ بن زيد :

(17/70)


وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ (14) لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ (15)

وكنْت لِزَازَ خَصْمِكَ لَمْ أعرّدْ... وَقَدْ سَلَكوكَ فِي يَوْم عَصِيبٍ (1)
ومن الإسلاك قول الآخر :
حتى إذَا أسْلَكُوهُمْ في قُتَائِدَةٍ... شَلا كَما تَطْرد الجَمالَة الشردَا (2)
وقوله( وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الأوَّلِينَ ) يقول تعالى ذكره : لا يؤمن بهذا القرآن قومك الذين سلكت في قلوبهم التكذيب( حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الألِيمَ ) أخذا منهم سنة أسلافهم من المشركين قبلهم من قوم عاد وثمود وضربائهم من الأمم التي كذّبت رسلها ، فلم تؤمن بما جاءها من عند الله حتى حلّ بها سخط الله فهلكت.
وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله( كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الأوَّلِينَ ) وقائع الله فيمن خلا قبلكم من الأمم.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ (14) لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ (15) }
__________
(1) البيت لعدي بن زيد العبادي ، وقد تقدم واستشهد المؤلف به عند قوله تعالى في سورة هود " وقال هذا يوم عصيب " فراجعه في الجزء الثاني عشر صفحة 82 . والشاهد فيه هنا : أنه اشتق سلكوك من المصدر الثلاثي ( السلك ) .
(2) البيت لعبد مناف بن ربعي الهذلي ( اللسان : جمل) استشهد به المؤلف على أن " أسلكوهم " بالهمزة في أوله لغة مثل سلوكهم التي وردت في البيت السابق من شعر عدي بن زيد ، والبيت أيضا في ( خزانة الأدب للبغدادي 3 : 170 ) شاهد على أن جواب إذا عند الرضى شارح كافية ابن الحاجب محذوف لتفخيم الأمر ، والتقدير : بلغوا أملهم ؛ أو أدركوا ما أحبوا ونحو ذلك ، وقيل فيه وجهان آخران ، قال البغدادي وأسلك : لغة في سلك ، يقال أسلكت الشيء في الشيء ، مثل سلكته فيه ، بمعنى أدخلته فيه ، وقتائدة : ثنية ، وقال البكري : جبل بين المنصرف والروحاء ، والشل : الطرد ، والجمالة : فاعلي تطرد ، وهم أصحاب الجمال ، كما يقال الحمارة لأصحاب الحمير ، والشرد : جمع شرود ، أي من الجمال .

(17/71)


اختلف أهل التأويل في المعنيين بقوله( فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ ) فقال بعضهم : معنى الكلام : ولو فتحنا على هؤلاء القائلين لك يا محمد( لَوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ) بابا من السماء فظلت الملائكة تعرج فيه وهم يرونهم عيانا( لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ ).
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله( وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ ) يقول : لو فتحنا عليهم بابا من السماء ، فظلت الملائكة تعرج فيه ، لقال أهل الشرك : إنما أخذ أبصارنا ، وشبِّه علينا ، وإنما سحرنا ، فذلك قولهم : ( لَوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ).
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، عن ابن عباس( فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ ) فظلت الملائكة يعرجون فيه يراهم بنو آدم عيانا( لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ ).
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قوله( يَا أَيُّهَا الَّذِي نزلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ لَوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ) قال : ما بين ذلك إلى قوله( وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ ) قال : رجع إلى قوله( لَوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلائِكَةِ ) ما بين ذلك. قال ابن جريج ، قال ابن عباس : فظلت الملائكة تعرج فنظروا إليهم( لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا ) قال : قريش تقوله.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : ثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة( وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ ) قال : قال ابن عباس : لو فتح الله عليهم من السماء بابا فظلت الملائكة تعرج فيه ، يقول : يختلفون فيه جائين وذاهبين( لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا ).
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد بن سليمان ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله( وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ

(17/72)


فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ ) يعني : الملائكة : يقول : لو فتحتُ على المشركين بابا من السماء ، فنظروا إلى الملائكة تعرج بين السماء والأرض ، لقال المشركون( نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ ) سحرنا وليس هذا بالحقّ. ألا ترى أنهم قالوا قبل هذه الآية( لَوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ).
حدثني المثنى ، قال : ثنا إسحاق ، قال : ثنا هشام ، عن عمر ، عن نصر ، عن الضحاك ، في قوله( وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ ) قال : لو أني فتحت بابا من السماء تعرج فيه الملائكة بين السماء والأرض ، لقال المشركون( بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ ) إلا ترى أنهم قالوا( لَوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ).
وقال آخرون : إنما عُني بذلك : بنو آدم.
ومعنى الكلام عندهم : ولو فتحنا على هؤلاء المشركون من قومك يا محمد بابا من السماء فظلوا هم فيه يعرجون( لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا ).
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله( وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ ) قال قتادة ، كان الحسن يقول : لو فعل هذا ببني آدم فظلوا فيه يعرجون أي يختلفون( لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ ).
وأما قوله(يَعْرُجُونَ) فإن معناه : يرقَوْن فيه ويَصْعَدون ، يقال منه : عرج يعرُج عُروجا إذا رَقَى وصَعَد ، وواحدة المعارج : معرج ومعراج ، ومنه قول كثير :
إلى حَسَبٍ عَوْدٍ بَنا الْمرءَ قبْلَهُ... أبُوهُ لَهُ فِيه مَعارِجَ سُلَّمِ (1)
وقد حُكي عرِج يعرج بكسر الراء في الاستقبال. وقوله( لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا ) يقول : لقال هؤلاء المشركون الذين وصف جلّ ثناؤه صفتهم :
__________
(1) لم أجد البيت في ديوان كثير طبع الجزائر ، والحسب : الشرف الثابت في الآباء ، والعود : القديم ، وبنا ( بالألف) ، بينو لأنه من بناء الشرف والمجد ، والمعارج : جمع معرج ( بكسر الميم وفتحها ) وهو ما يعرج فيه ، أي يصعد.

(17/73)


ما هذا بحقّ إنما سكِّرت أبصارنا.
واختلفت القرّاء في قراءة قوله(سُكِّرَتْ) فقرأ أهل المدينة والعراق : (سُكِّرَتْ) بتشديد الكاف ، بمعنى : غُشيت وغطيت ، هكذا كان يقول أبو عمرو بن العلاء فيما ذُكر لي عنه. وذُكر عن مجاهد أنه كان يقرأ(لَقالُوا إنَّمَا سُكِرَتْ).
حدثني بذلك الحرث ، قال : ثنا القاسم ، قال : سمعت الكسائي يحدّث عن حمزة ، عن شبل ، عن مجاهد أنه قرأها(سُكِرَتْ أَبْصارُنا) خفيفة ، وذهب مجاهد في قراءته ذلك كذلك إلى : حُبست أبصارنا عن الرؤية والنظر من سكور الريح ، وذلك سكونها وركودها ، يقال منه : سكرت الريح : إذا سكنت وركدت. وقد حُكي عن أبي عمرو بن العلاء أنه كان يقول : هو مأخوذ من سكر الشراب ، وأن معناه : قد غشَّى أبصارنا السكر.
وأما أهل التأويل ، فإنهم اختلفوا في تأويله ، فقال بعضهم : معنى(سُكِّرَتْ) : سدّت.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا ورقاء ، وحدثنا الحسن بن محمد ، قال : ثنا شبابة ، قال : ثنا ورقاء ، وحدثني المثنى ، قال : ثنا أبو حذيفة ، قال : ثنا شبل ، وحدثني المثنى ، قال : أخبرنا إسحاق ، قال : ثنا عبد الله ، عن ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله( سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا ) قال : سدّت.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله.
حدثنا الحسن بن محمد ، قال : ثنا حجاج ، يعني ابن محمد ، عن ابن جريج ، قال : أخبرني ابن كثير قال : سدّت.
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول ، في قوله( سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا ) يعني : سدّت ، فكأن مجاهدا ذهب في قوله ، وتأويله ذلك بمعنى : سدّت ، إلى أنه بمعنى : منعت النظر ، كما يُسكر الماء فيمنع من الجري بحبسه في مكان بالسكر الذي يسَّكر به.
وقال آخرون : معنى سكرت : أخذت.

(17/74)


* ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : ثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، عن ابن عباس( لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا ) يقول : أخذت أبصارنا.
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، إنما أخذ أبصارنا ، وشبَّه علينا ، وإنما سحرنا.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثنا أبو سفيان ، عن معمر ، عن قتادة( لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا ) يقول : سُحرت أبصارنا ، يقول : أخذت أبصارنا.
حدثني المثنى ، قال : ثنا إسحاق ، قال : ثنا عبد الرحمن بن أبي حماد ، قال : ثنا شيبان ، عن قتادة ، قال : من قرأ(سُكِّرَتْ) مشددة : يعني سدّت ، ومن قرأ(سُكرَتْ) مخففة ، فإنه يعني سحرت ، وكأن هؤلاء وجَّهوا معنى قوله(سُكِّرَتْ) إلى أن أبصارهم سُحرت ، فشبه عليهم ما يبصرون ، فلا يميزون بين الصحيح مما يرون وغيره من قول العرب : سُكِّر على فلان رأيه : إذا اختلط عليه رأيه فيما يريد ، فلم يدر الصواب فيه من غيره ، فإذا عزم على الرأي قالوا : ذهب عنه التسكير.
وقال آخرون : هو مأخوذ من السكر ، ومعناه : غشي على أبصارنا فلا نبصر ، كما يفعل السكر بصاحبه ، فذلك إذا دير به وغشي بصره كالسمادير فلم يبصر.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله( إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا ) قال : سكرت ، السكران الذي لا يعقل.
وقال آخرون : معنى ذلك : عميت.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا الحسن بن محمد ، قال : ثنا عبد الوهاب بن عطاء ، عن الكلبي(سُكِّرَتْ) قال : عميت.
وأولى هذه الأقوال بالصواب عندي قول من قال : معنى ذلك : أخذت أبصارنا وسحرت ، فلا تبصر الشيء على ما هو به ، وذهب حدّ إبصارها ،

(17/75)


وانطفأ نوره ، كما يقال للشيء الحارّ إذا ذهبت فورته ، وسكن حدّ حرّه ، قد سكر يسكر ، قال المثنى بن جندل الطُّهوي :
جاءَ الشِّتاءُ واجْثَألَّ القُبَّرُ... واستَخْفَتِ الأفْعَى وكانت تَظْهَرُ
وجَعَلَتْ عينُ الحَرُور تَسْكُرُ (1)
أي تسكن وتذهب وتنطفئ ، وقال ذو الرّمَّة :
قَبْلَ انْصِداعِ الفَجْرِ والتَّهَجْرِ... وخَوْضُهُنَّ اللَّيلَ حينَ يَسْكُرُ (2)
يعني : حين تسكن فورته. وذُكر عن قيس أنها تقول : سكرت الريح تسكر سكورا ، بمعنى : سكنت ، وإن كان ذلك عنها صحيحا ، فإن معنى سُكِرَت وسُكِّرَتْ بالتخفيف والتشديد متقاربان ، غير أن القراءة التي لا أستجيز غيرها في القرآن(سُكِّرَتْ ) بالتشديد لإجماع الحجة من القراء عليها ، وغير جائز خلافها فيما جاءت به مجمعة عليه.
__________
(1) هذه ثلاثة أبيات لجندل بن المثنى الطهوي ، واجثأل : اجتمع وتقبض ، والقبر كالقنبر : ضرب من الطير كالعصافير ، واحده قبرة وقنبرة ، والحرور : الحر . ويقال سكرت عينه تسكر : إذا تحيرت وسكنت عن النظر وسكر الحر يسكر : سكن وخبأ ، وقد استشهد بها أبو عبيدة في مجاز القرآن ( 1 : 337 ، 338 ) عند قوله تعالى " سكرت أبصارنا " قال : أي غشيت سمادير ، فذهبت وخبا نظرها ، قال : جاء الشتاء ، الخ وزاد فيها بيتا قبل الآخر ، وهو : " وطلعت شمس عليها مغفر " . وفسر البيت الأخير وهو الشاهد بقوله : أي يذهب حرها ويخبو . وقال أبو عمرو بن العلاء : " سكرت أبصارنا " : مأخوذ عن سكر الشراب ، كأن العين لحقها ما يلحق شارب المسكر إذا سكر ، وقال الفراء ، معناه : حبست ومنعت عن النظر .
(2) البيت في ديوان ذي الرمة ( طبعة كيمبردج سنة 1919 ) ص 202 وقبله : أتَتْكَ بالقَوْمِ مَهارٍ ضُمَّرُ ... خُوصٌ بَرَى أشْرافَها التَّبَكُّرُ
خوص : غائرات العيون ، وأشرافها : أسنمَها ، والتبكر : سير البكرة ، والتهجو : سير الهاجرة ، ويسكر : يتسكر الأبصار بظلامه ، قوله : والتهجر ، بالرفع : معطوف على قوله التبكر ، في البيت السابق عليه .

(17/76)


وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ (16)

القول في تأويل قوله تعالى : { وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ (16) }
يقول تعالى ذكره : ولقد جعلنا في السماء الدنيا منازل للشمس والقمر ،

(17/76)


وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ (17) إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُبِينٌ (18)

وهي كواكب ينزلها الشمس والقمر( وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ ) يقول : وزينا السماء بالكواكب لمن نظر إليها وأبصرها.
وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، وحدثنا الحسن بن محمد ، قال : ثنا شبابة ، قال : ثنا ورقاء ، وحدثني المثنى ، قال : أخبرنا أبو حذيفة ، قال : ثنا شبل ، وحدثني المثنى ، قال : ثنا إسحاق ، قال : ثنا عبد الله ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله( وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا ) قال : كواكب.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله( وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا ) وبروجها : نجومها.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : ثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة(بُرُوجا) قال : الكواكب.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ (17) إِلا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُبِينٌ (18) }
يقول تعالى ذكره : وحفظنا السماء الدنيا من كلّ شيطان لعين قد رجمه الله ولعنه( إِلا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ ) يقول لكن قد يسترق من الشياطين السمع مما يحدث في السماء بعضها ، فيتبعه شهاب من النار مبين ، يبين أثره فيه ، إما بإخباله وإفساده ، أو بإحراقه.
وكان بعض نحويي أهل البصرة يقول في قوله( إِلا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ ) هو استثناء خارج ، كما قال : ما أشتكي إلا خيرا ، يريد : لكن أذكر خيرا. وكان ينكر ذلك من قيله بعضهم ، ويقول : إذا كانت إلا بمعنى لكن عملت عمل

(17/77)


لكن ، ولا يحتاج إلى إضمار أذكر ، ويقول : لو احتاج الأمر كذلك إلى إضمار أذكر احتاج قول القائل : قام زيد لا عمرو إلى إضمار أذكر.
وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا الحسن بن محمد ، قال : ثنا عفان بن مسلم ، قال : ثنا عبد الواحد بن زياد ، قال : ثنا الأعمش عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال : تصعد الشياطين أفواجا تسترق السمع ، قال : فينفرد المارد منها فيعلو ، فيرمى بالشهاب ، فيصيب جبهته أو جنبه ، أو حيث شاء الله منه ، فيلتهب فيأتي أصحابه وهو يلتهب ، فيقول : إنه كان من الأمر كذا وكذا ، قال : فيذهب أولئك إلى إخوانهم من الكهنة ، فيزيدون عليه أضعافه من الكذب ، فيخبرونهم به ، فإذا رأوا شيئا مما قالوا قد كان صدّقوهم بما جاءوهم به من الكذب.
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، في قوله( وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ إِلا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ ) قال : أراد أن يخطف السمع ، وهو كقوله( إِلا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ ).
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة قوله( إِلا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ ) وهو نحو قوله( إِلا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ ).
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قوله( إِلا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ ) قال : خطف الخطفة.
حدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول ، في قوله( إِلا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ ) هو كقوله( إِلا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ ) كان ابن عباس يقول : إن الشهب لا تقتل ولكن تحرق وتخبل (1) وتجرح من غير أن تقتل.
حدثني الحارث ، قال : ثنا القاسم ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج
__________
(1) الخبل والتخبيل : إفساد الأعضاء ، حتى لا يدري كيف يمشي ، فهو متخبل خبل . ( اللسان ) .

(17/78)


وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ (19)

( مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ ) قال : الرجيم : الملعون ، قال : وقال القاسم عن الكسائي : إنه قال : الرجم في جميع القرآن : الشتم.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَالأرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ (19) }
يعني تعالى ذكره بقوله( وَالأرْضَ مَدَدْنَاهَا ) والأرض دحوناها فبسطناها( وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ ) يقول : وألقينا في ظهورها رَوَاسِي ، يعني جبالا ثابتة.
كما حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله( وَالأرْضَ مَدَدْنَاهَا ). وقال في آية أخرى( وَالأرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا ) وذُكر لنا أن أمّ القرى مكة ، منها دُحيت الأرض ، قوله( وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ ) رواسيها : جبالها. يقول : وألقينا في ظهورها رواسي ، يعني جبالا ثابتة ، وقد بيَّنا معنى الرسوّ فيما مضى بشواهده المغنية عن إعادته. وقوله( وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ ) يقول : وأنبتنا في الأرض من كلّ شيء : يقول : من كلّ شيء مقدّر ، وبحدّ معلوم.
وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا المثنى ، قال : ثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله( وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ ) يقول : معلوم.
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثنا أبي ، قال : تني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله( وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ ) يقول : معلوم.
حدثني يعقوب ، قال : ثنا هشيم ، قال : أخبرنا إسماعيل بن أبي خالد ، عن أبي صالح ، أو عن أبي مالك ، في قوله( مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ ) قال : بقدر.
حدثنا المثنى ، قال : ثنا عمرو بن عون ، قال : أخبرنا هشيم ، عن إسماعيل بن أبي خالد ، عن أبي صالح أو عن أبي مالك ، مثله.
حدثني المثنى ، قال : ثنا الحماني ، قال : ثنا شريك ، عن خصيف ، عن عكرمة( مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ ) قال : بقدْر.

(17/79)


حدثنا الحسن بن محمد ، قال : ثنا عليّ ، يعني ابن الجعد ، قال : أخبرنا شريك ، عن خصيف ، عن عكرمة( مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ ) قال : بقدْر.
حدثنا أحمد بن إسحاق ، قال : قال : ثنا أبو أحمد ، قال : ثنا سفيان ، عن خصيف ، عن عكرمة ، قال : بقدْر.
حدثنا أحمد ، قال : ثنا سفيان ، عن حصين ، عن سعيد بن جبير( مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ ) قال : معلوم.
حدثنا مجاهد بن موسى ، قال : ثنا يزيد ، قال : أخبرنا عبد الله بن يونس ، قال : سمعت الحكم بن عتيبة وسأله أبو مخزوم عن قوله( مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ ) قال : من كلّ شيء مقدور.
حدثنا الحسن بن محمد ، قال : ثنا يزيد بن هارون ، قال : أخبرنا عبد الله بن يونس ، قال : سمعت الحكم ، وسأله أبو عروة عن قول الله عزّ وجلّ( مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ ) قال : من كلّ شيء مقدور ، هكذا قال الحسن ، وسأله أبو عروة.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن قال : ثنا ورقاء ، وحدثنا الحسن بن محمد ، قال : ثنا شبابة ، قال : ثنا ورقاء وحدثني المثنى ، قال : أبو حذيفة ، قال : ثنا شبل ، وحدثني المثنى ، قال : أخبرنا إسحاق ، قال : ثنا عبد الله ، عن ورقاء جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قول الله( مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ ) قال : مقدور بقدْر.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد( مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ ) قال : مقدور بقدْر.
حدثني المثنى ، قال : ثنا عليّ بن الهيثم ، قال : ثنا يحيى بن زكريا ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، قال : مقدور بقدْر.
حدثنا المثنى ، قال : ثنا عليّ بن الهيثم ، قال : ثنا يحيى بن زكريا ، عن إسماعيل بن أبي خالد ، عن أبي صالح( مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ ) قال : بقدْر.

(17/80)


وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ (20)

حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله( وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ ) يقول : معلوم.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : ثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، مثله.
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : ثنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله( مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ ) يقول : معلوم.
وكان بعضهم يقول : معنى ذلك وأنبتنا في الجبال من كلّ شيء موزون : يعني من الذهب والفضة والنحاس والرصاص ونحو ذلك من الأشياء التي توزن.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله( وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ ) قال : الأشياء التي توزن.
وأولى القولين عندنا بالصواب القول الأوّل لإجماع الحجة من أهل التأويل عليه.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ (20) }
يقول تعالى ذكره : ( وَجَعَلْنَا لَكُمْ ) أيها الناس في الأرض(مَعَايِشَ) ، وهي جمع معيشة( وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ ).
اختلف أهل التأويل في المعني في قوله( وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ ) فقال بعضهم : عني به الدوابّ والأنعام.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسين قال : ثنا ورقاء ، وحدثنا

(17/81)


الحسن بن محمد ، قال : ثنا شبابة ، قال : ثنا ورقاء ، وحدثني المثنى ، قال : ثنا أبو حذيفة ، قال : ثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، وحدثني المثنى ، قال : ثنا إسحاق ، قال : ثنا عبد الله جمعيا ، عن ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد( وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ ) الدوابّ والأنعام.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله.
وقال آخرون : عني بذلك : الوحش خاصة.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن المثنى ، قال : ثنا محمد بن جعفر ، قال : ثنا شعبة ، عن منصور (1) في هذه الآية( وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ ) قال : الوحش ، فتأويل " مَنْ " في : ( وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ ) على هذا التأويل بمعنى ما ، وذلك قليل في كلام العرب.
وأولى ذلك بالصواب ، وأحسن أن يقال : عني بقوله( وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ ) من العبيد والإماء والدوابّ والأنعام. فمعنى ذلك : وجعلنا لكم فيها معايش. والعبيدَ والإماء والدوابَّ والأنعام ، وإذا كان ذلك كذلك ، حسن أن توضع حينئذ مكان العبيد والإماء والدوابّ " من " ، وذلك أن العرب تفعل ذلك إذا أرادت الخبر عن البهائم معها بنو آدم. وهذا التأويل على ما قلناه وصرفنا إليه معنى الكلام إذا كانت " من " في موضع نصب عطفا به على معايش بمعنى : جعلنا لكم فيها معايش ، وجعلنا لكم فيها من لستم له برازقين. وقيل : إنّ " من " في موضع خفض عطفا به على الكاف والميم في قوله( وَجَعَلْنَا لَكُمْ ) بمعنى : وجعلنا لكم فيها معايش( وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ ) وأحسب أن منصورا (2) في قوله : هو الوحش قصد هذا المعنى وإياه أراد ، وذلك وإن كان له وجه في كلام العرب ،
__________
(1) منصور الذي يروي عنه شعبة بن الحجاج : هو منصور بن عبد الرحمن التميمي الغداني ( بضم الغين ) عن الشعبي ، وعنه وشعبة وابن علية ، وثقه ابن معين وأحمد وأبو داود ، وقال أبو حاتم : ليس بالقوي ، يكتب حديثه ولا يحتج به ، وقال النسائي : ليس بقوي ، وفي كلام الفراء الذي نقلناه تحت الشاهد " هلا سألت " إشارة إلى روايته هناك ، بقوله " وقد جاء أنهم الوحوش ... الخ " . ( وانظر خلاصة الخزرجي ) .
(2) انظر الكلام عليه في هامش ص 17 .

(17/82)


وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ (21)

فبعيد قليل ، لأنها لا تكاد تظاهر على معنى في حال الخفض ، وربما جاء في شعر بعضهم في حال الضرورة ، كما قال بعضهم :
هَلا سألْتَ بذِي الجَماجِمِ عنهُمُ... وأبي نَعِيمٍ ذي اللِّوَاءِ المُخْرَقِ (1)
فردّ أبا نعيم على الهاء والميم في عنهم ، وقد بيَّنت قبح ذلك في كلامهم.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنزلُهُ إِلا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ (21) }
يقول تعالى ذكره : وما من شيء من الأمطار إلا عندنا خزائنه ، وما ننزله إلا بقدر لكل أرض معلوم عندنا حدّه ومبلغه.
وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا أبو كريب ، قال : ثنا ابن إدريس ، قال : أخبرنا يزيد بن أبي زياد ، عن رجل ، عن عبد الله ، قال : ما من أرض أمطر من أرض ، ولكن الله يقدره في الأرض ، ثم قرأ( وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنزلُهُ إِلا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ ).
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا جرير ، عن يزيد بن أبي زياد ، عن أبي جحيفة ، عن عبد الله ، قال : ما من عام بأمطر من عام ، ولكن الله يصرفه
__________
(1) البيت من شواهد الفراء في معاني القرآن ( ص 167 من مصورة الجامعة ) . قال : وقوله " وجعلنا لكم فيها معايش " : أراد الأرض " ومن لستم له برازقين " فمن في موضع نصب ، يقول : جعلنا لكم فيها معايش والعبيد والإماء ، وقد جاء أنهم الوحوش والبهائم ، ومن : لا يفرد بها البهائم ، ولا ما سوى الناس ، فإن يكن ذلك على ما روى فنرى أن أدخل فيهم المماليك ، على أنا ملكناكم العبيد والإبل والغنم وما أشبه ذلك ، مجاز ذلك ، وقد يقال إن " من " في موضع خفض ، يراد جعلنا لكم فيها معايش ولمن . وما أقل ما ترد العرب لمخفوض قد كني عنه ، وقد قال الشاعر : نعلق في مثل الواري سيوفنا ... وما بينها والكعب غوط نفانف
فرد الكعب على بينها . وقال الآخر : هلا سألت ... البيت ، فرد " أبي نعيم " على الهاء في عنهم .
قلت : وهذا الموضع الذي أشار إليه الفراء ، وهو عطف اسم مخفوض على ضمير هو قوله تعالى " واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام " من سورة النساء .

(17/83)


وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ (22)

عمن يشاء ، ثم قال( وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنزلُهُ إِلا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ ).
حدثنا الحسن بن محمد ، قال : ثنا إبراهيم بن مهدي المصيصي ، قال : ثنا علي بن مسهر ، عن يزيد بن أبي زياد ، عن أبي جحيفة ، عن عبد الله بن مسعود : ما من عام بأمطر من عام ، ولكن الله يقسمه حيث شاء ، عاما هاهنا وعاما هاهنا ، ثم قرأ( وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنزلُهُ إِلا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ ).
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، قال : قال ابن جريج( وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ ) قال : المطر خاصة.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثنا هشيم ، قال : أخبرنا إسماعيل بن سالم ، عن الحكم بن عتيبة ، في قوله( وَمَا نُنزلُهُ إِلا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ ) قال : ما من عام بأكثر مطرا من عام ولا أقل ، ولكنه يمطر قوم ، ويُحرم آخرون ، وربما كان في البحر ، قال : وبلغنا أنه ينزل مع المطر من الملائكة أكثر من عدد ولد إبليس وولد آدم يحصون كلّ قطرة حيث تقع وما تُنبت.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنزلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ (22) }
اختلفت القرّاء في قراءة ذلك ، فقرأته عامَّة القرّاء( وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ ) وقرأه بعض قرّاء أهل الكوفة(وأرْسَلْنا الرّيحَ لَوَاقِحَ " فوحَّد الريح وهي موصوفة بالجمع : أعني بقوله : لواقح. وينبغي أن يكون معنى ذلك : أن الريح وإن كان لفظها واحدا ، فمعناها الجمع ، لأنه يقال : جاءت الريح من كلّ وجه ، وهبَّت من كل مكان ، فقيل : لواقح لذلك ، فيكون معنى جمعهم نعتها ، وهي في اللفظ واحدة معنى قولهم : أرض سباسب ، وأرض أغفال ، وثوب أخلاق ، كما قال الشاعر :

(17/84)


جاءَ الشِّتاءُ وقَميصِي أخْلاقْ... شَرَاذِمٌ يضْحَكُ مِنْهُ التَّوَّاقْ (1)
وكذلك تفعل العرب في كلّ شيء اتسع.
واختلف أهل العربية في وجه وصف الرياح باللقح ، وإنما هي ملقحة لا لاقحة ، وذلك أنها تلقح السحاب والشجر ، وإنما توصف باللقح الملقوحة لا الملقح ، كما يقال : ناقة لاقح. وكان بعض نحويي البصرة يقول : قيل : الرياح لواقح ، فجعلها على لاقح ، كأن الرياح لقحت ، لأن فيها خيرا فقد لقحت بخير. قال : وقال بعضهم : الرياح تلقح السحاب ، فهذا يدلّ على ذلك المعنى ، لأنها إذا أنشأته وفيها خير وصل ذلك إليه وكان بعض نحويي الكوفة يقول : في ذلك معنيان : أحدهما أن يجعل الريح هي التي تلقح بمرورها على التراب والماء فيكون فيها اللقاح ، فيقال : ريح لاقح ، كما يقال : ناقة لاقح ، قال : ويشهد على ذلك أنه وصف ريح العذاب فقال( عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ ) فجعلها عقيما إذا لم تلقح. قال : والوجه الآخر أن يكون وصفها باللقح ، وإن كانت تلقح ، كما قيل : ليل نائم والنوم فيه ، وسرّ كاتم ، وكما قيل : المبروز والمختوم ، فجعل مبروزا ، ولم يقل مبرزا بناه على غير فعله ، أي أن ذلك من صفاته ، فجاز مفعول
__________
(1) هذا الرجز ، أورده الفراء في معاني القرآن ( ص 167 ) قال : وقوله " وأرسلنا الرياح لواقح " وقرئ الريح ، قرأ حمزة ، فمن قال : " الريح لواقح " فجمع اللواقح والريح واحدة ، لأن الريح في معنى جمع ، ألا ترى أنك تقول : جاءت الريح من كل مكان ، فقيل لواقح لذلك كما قيل : تركته في أرض أغفال وسباسب ، ومهارق وثوب أخلاق ، ومنه قول الشاعر : جاء الشتاء ... الخ البيت . وأما من قال : الرياح لواقح ، فهو بين ، ولكن يقال : إنما الريح ملقحة ، تلقح الشجر ، فكيف قيل : لواقح ؟ في ذلك معنيان : أحدهما أن تجعل الريح هي التي بمرورها على التراب والماء ، فيكون فيها اللقاح ، فيقال ريح لاقح ، كما يقال : ناقة لاقح ، ويشهد على ذلك أنه وصف ريح العذاب فقال : " عليهم الريح العقيم " ، فجعلها عقيما إذ لم تلقح . والوجه الآخر : أن يكون وصفها باللقح ، وإن كانت تلقح ( بضم التاء ) كما قيل : ليل نائم ، والنوم فيه ، وسر كاتم . ولسان العرب : ( خلق ) : وقد يقال : ثوب أخلاق ، يصفون به الواحد ، إذا كانت الخلوقة فيه كله ، كما قال برمة أعشار ، وثوب أكباش ( ضرب من نسج اليمن ) وحبل أرمام وأرض سباسب ، وهذا النحو كثير ، وكذلك : ملاءة أخلاق وبرمة أخلاق ( عن اللحياني ) أي نواحيها أخلاق . قال : وهو من الواحد الذي فرق ثم جمع . قال : وكذلك : حبل أخلاق : وقربة أخلاف عن ابن الأعرابي ، التهذيب : يقال ثوب أخلاق يجمع بما حوله ، وقال الراجز : جاء الشتاء ... الخ والتواق ابنه ، قلت : والرواية عند الفراء وفي اللسان " يضحك منه " ، وعند المؤلف " يضحك مني " ، والمعنى قريب بعضه من بعض .

(17/85)


لمفعل ، كما جاز فاعل لمفعول ، إذا لم يرد البناء على الفعل ، كما قيل : ماء دافق.
والصواب من القول في ذلك عندي : أن الرياح لواقح كما وصفها به جلّ ثناؤه من صفتها ، وإن كانت قد تلقح السحاب والأشجار ، فهي لاقحة ملقحة ، ولقحها : حملها الماء وإلقاحها السحاب والشجر : عملها فيه ، وذلك كما قال عبد الله بن مسعود.
حدثنا أبو كريب ، قال : ثنا المحاربي ، عن الأعمش ، عن المنهال بن عمرو ، عن قيس بن سكن ، عن عبد الله بن مسعود ، في قوله( وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ ) قال : يرسل الله الرياح فتحمل الماء ، فتجري السحاب ، فتدر كما تدر اللقحة ثم تمطر.
حدثني أبو السائب ، قال : ثنا أبو معاوية ، عن الأعمش ، عن المنهال ، عن قيس بن سكن ، عن عبد الله( وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ ) قال : يبعث الله الريح فتلقح السحاب ، ثم تمريه فتدر كما تدر اللقحة ، ثم تمطر.
حدثنا الحسن بن محمد ، قال : ثنا أسباط بن محمد ، عن الأعمش ، عن المنهال بن عمرو ، عن قيس بن السكن ، عن عبد الله بن مسعود ، في قوله( وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ ) قال : يرسل الرياح ، فتحمل الماء من السحاب ، ثم تمري السحاب ، فتدر كما تدر اللقحة ، فقد بين عبد الله بقوله : يرسل الرياح فتحمل الماء ، أنها هي اللاقحة بحملها الماء وإن كانت ملقحة بإلقاحها السحاب والشجر.
وأما جماعة أُخَر من أهل التأويل ، فإنهم وجَّهوا وصف الله تعالى ذكره إياها بأنها لواقح ، إلى أنه بمعنى ملقحة ، وأن اللواقح وضعت موضع ملاقح ، كما قال نهشل بن حري :
لِيُبْكَ يَزِيدُ بائِسٌ لِضَرَاعَةٍ... وأشْعَثُ ممَّنْ طَوَّحَتْهُ الطَّوَائِحُ (1)
__________
(1) البيت لنشهل بن حرى على الأصح ، شاعر مخضرم ، وقد ينسب إلى غيره ، وصوب البغدادي نسبته إلى نشهل ، وقد استشهد به أبو عبيدة بهذه الرواية نفسها عند تفسير قوله تعالى : " وأرسلنا الرياح لواقح " قال : مجازها مجاز ملاقح ، لأن الريح ملقحة السحاب للعرب . قد تفعل هذا ، فتلقي الميم ، لأنها تعيده إلى أصل الكلام ، كقول نهشل بن حري يرثي أخاه " لبيك يزيد " ... الخ البيت . فحذف الميم ، لأنها المطاوع ، وأورد البيت صاحب ( اللسان : طيح ) باختلاف في بعض الألفاظ قال : وأنشد سيبويه : لِيُبْكَ يَزيدٌ ضَاِرعٌ لِخُصُومَةٍ ... ومُخْتَبطٌ مِمَّا تُطيحُ الطَّوَائِحُ
وقال ( سيبويه ) : الطوائح : على حذف الزائد ، أو على النسب قال ابن جني : أول البيت مبني على أطراح ذلك الفاعل ، فإن آخره ( كذا في اللسان ) قد عوود فيه الحديث على الفاعل ، لأن تقديره فيما بعد : ليبك مختبط مما تطيح الطوائح ، فدل قوله : ليبك ( بالبناء للمفعول ) على ما أراد من قوله " ليبك " ( أي بالبناء للفاعل ) أ هـ . والمختبط : الذي يسلك من يسلك من غير معرفة ولا وسيلة بيكمنا . وانظر خزانة الأدب البغدادي ( 1 : 147 - 152 ) ففيها كلام كثير في معنى البيت وروايته وقائله .

(17/86)


يريد المطاوح ، وكما قال النابغة :
كليني لِهَمٍّ يا أُمَيْمَةَ ناصِبِ... ولَيْلٍ أُقاسيهِ بَطيءِ الكوَاكبِ (1)
بمعنى : مُنْصِب.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن بشار ، قال : ثنا عبد الرحمن بن مهديّ ، قال : ثنا سفيان ، عن الأعمش ، عن إبراهيم في قوله( وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ ) قال : تلقح السحاب.
حدثني المثنى ، قال : ثنا أبو نعيم ، قال : ثنا سفيان ، عن الأعمش ، عن إبراهيم ، مثله.
حدثنا أحمد بن إسحاق ، قال : ثنا أبو أحمد ، قال : ثنا سفيان ، عن الأعمش ، عن إبراهيم ، مثله.
حدثني يعقوب ، قال : ثنا ابن علية ، عن أبي رجاء ، عن الحسن ، قوله( وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ ) قال : لواقح للشجر ، قلت : أو للسحاب ، قال : وللسحاب ، تمريه حتى يمطر.
__________
(1) البيت للنابغة الذبيالي ، وهو مطلع قصيدة له يمدح بها عمرو بن الحارث الأعرج ، بن الحارث الأكبر ، بن أبي شمر ، حين هرب من النعمان بن المنذر . وقد مر شرحنا له في غير هذا الموضع من التفسير ، والشاهد هنا في قوله " ناصب " أنه بمعنى المنصب ، قال في ( اللسان : نصبت ) : النصب : الإعياء من العناء . والفعل : نصب الرجل بالكسر : أعيا وتعب . وأنصبه هو ، وأنصبني هذا الأمر ، وهم ناصب : منصب ، ذو نصب ، مثل تامر ولابن ، وهو فاعل بمعنى مفعول ، لأنه ينصب فيه ويتعب ، قال النابغة : " كليني لهم يا أميمة ناصب " قال : ناصب : بمعنى منصوب ، وقال الأصمعي : ناصب : ذي نصب ، مثل : ليل نائم ذو نوم ينام فيه ، ورجل دارع : ذو درع . وقال سيبويه : هم ناصب : هو على النسب ، وحكى أبو علي الفارسي نصبه لهم ، فناصب إذن على الفعل . أ هـ . قلت : أيريد أبو علي الفارسي : أنه اسم فاعل قياسي جار على فعله ، فليس على النسب إذن ولا على التجوز في الإسناد مثل ليل نائم.

(17/87)


حدثني المثنى ، قال : ثنا إسحاق ، قال : ثنا إسحاق بن سليمان ، عن أبي سنان ، عن حبيب بن أبي ثابت ، عن عبيد بن عمير ، قال : يبعث الله المبشرة فتقمّ الأرض قما ، ثم يبعث الله المثيرة فتثير السحاب ، ثم يبعث الله المؤلِّفة فتؤلف السحاب ، ثم يبعث الله اللواقح فتلقح الشجر ، ثم تلا عبيد( وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ ).
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله( وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ ) يقول : لواقح السحاب ، وإن من الريح عذابا ، وإن منها رحمة.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : ثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة(لَوَاقِحَ) قال : تلقح الماء في السحاب.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن ابن عباس(لَوَاقِحَ) قال : تُلقح الشجر وتُمري السحاب.
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول ، في قوله( وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ ) الرياح يبعثها الله على السحاب فتلقحه ، فيمتلئ ماء.
حدثنا أبو كريب ، قال : ثنا أحمد بن يونس ، قال : ثنا عيسى بن ميمون ، قال : ثنا أبو المهزم ، عن أبي هريرة ، قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " الرّيحُ الجَنُوبُ مِنَ الجَنِّةِ ، وَهِيَ الرّيحُ اللَّوَاقِحُ ، وَهِيَ التي ذَكَرَ اللهُ تَعالى فِي كِتابِهِ وَفِيها مَنافِعُ للنَّاسِ " .
حدثني أبو الجماهر الحمصي أو الحضرمي محمد بن عبد الرحمن ، قال : ثنا عبد العزيز بن موسى ، قال : ثنا عيسى بن ميمون أبو عبيدة ، عن أبي المهزم ، عن أبي هريرة ، قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فذكر مثله سواء.
وقوله( فَأَنزلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ ) يقول تعالى ذكره : فأنزلنا من السماء مطرا فأسقيناكم ذلك المطر لشرب أرضكم ومواشيكم. ولو كان معناه : أنزلناه لتشربوه ، لقيل : فسقيناكموه. وذلك أن العرب تقول إذا سقت الرجل ماء شربه أو لبنا أو غيره : سقيته بغير ألف إذا كان لسقيه ، وإذا جعلوا له ماء لشرب أرضه أو ماشيته ، قالوا : أسقيته وأسقيت أرضه وماشيته ، وكذلك إذا استسقت له ، قالوا أسقيته واستسقيته ، كما قال ذو الرُّمَّة :

(17/88)


وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوَارِثُونَ (23) وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ (24) وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (25)

وَقَفْتُ على رَسْمٍ لِمَيَّةَ ناقَتِي... فَمَا زِلْتُ أبْكي عِنْدَهُ وأُخاطِبُهْ... وأُسْقِيهِ حتى كادَ مِمَّا أبُثُّهُ... تُكَلِّمُني أحْجارُهُ ومَلاعِبُهْ (1)
وكذلك إذا وهبت لرجل إهابا ليجعله سقاء ، قلت : أسقيته إياه.
وقوله( وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ ) يقول : ولستم بخازني الماء الذي أنزلنا من السماء فأسقيناكموه. فتمنعوه من أسقيه ، لأن ذلك بيدي وإليّ ، أسقيه من أشاء وأمنعه من أشاء.
كما حدثنا أحمد ، قال : ثنا أبو أحمد ، قال سفيان : ( وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ ) قال : بمانعين.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوَارِثُونَ (23) وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ (24) وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (25) }
يقول تعالى ذكره : ( وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي ) من كان ميتا إذا أردنا(ونُمِيتُ) من كان حيا إذا شئنا( وَنَحْنُ الْوَارِثُونَ ) يقول : ونحن نرث الأرض ومن عليها بأن نميت جميعهم ، فلا يبقى حيّ سوانا إذا جاء ذلك الأجل. وقوله( وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ ) اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك ، فقال بعضهم : معنى ذلك : ولقد علمنا من مضى من الأمم ، فتقدّم هلاكهم ، ومن قد خلق وهو حيّ ، ومن لم يخلق بعدُ ممن سيخلق.
__________
(1) البيتان في ديوان ذي الرمة ( طبعة كيمبردج سنة 1919 ص 38 ) وأسقيه : أدعو له بالسقيا ، أقول : سقاك الله ، وأبثه : أشكو إليه . وقد استشهد بهذين البيتين أبو عبيدة في مجاز القرآن ( 1 : 350 ) على أن يقال : سقيت الرجل ماء وشرابا من لبن وغير ذلك ، وليس فيه إلا لغة واحدة بغير ألف ، إذا كان في الشفة ، وإذا جعلت له شربا ( بكسر الشين ، أي ماء لشرب دوابه ) فهو أسقيته وأسقيت أرضه وإبله ، لا يكون غير هذا ، وكذلك إذا استسقيت له كقول ذي الرمة ... البيتين وهو قريب من كلام المؤلف هنا .

(17/89)


* ذكر من قال ذلك :
حدثنا أحمد بن إسحاق ، قال : ثنا أبو أحمد ، قال : ثنا سفيان ، عن أبيه ، عن عكرمة( وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ ) قال : المستقدمون : من قد خلق ومن خلا من الأمم ، والمستأخرون : من لم يخلق.
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا الحكم ، قال : ثنا عمرو بن قيس ، عن سعيد بن مسروق ، عن عكرمة ، في قوله( وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ ) قال : هم خلق الله كلهم ، قد علم من خلق منهم إلى اليوم ، وقد علم من هو خالقه بعد اليوم.
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق. قال : أخبرنا ابن التيمي ، عن أبيه ، عن عكرمة ، قال : إن الله خلق الخلق ففرغ منهم ، فالمستقدمون : من خرج من الخلق ، والمستأخرون : من بقي في أصلاب الرجال لم يخرج.
حدثني محمد بن أبي معشر ، قال : أخبرني أبو معشر ، قال : سمعت عون بن عبد الله بن عتبة بن مسعود يذاكر محمد بن كعب في قول الله( وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ ) فقال عون بن عبد الله بن عتبة بن مسعود : خير صفوف الرجال المقدّم ، وشرّ صفوف الرجال المؤخَّر ، وخير صفوف النساء المؤخَّر ، وشرّ صفوف النساء المقدّم ، فقال محمد بن كعب : ليس هكذا ، ولقد علمنا المستقدمين منكم : الميت والمقتول ، والمستأخرين : من يلحق بهم مِن بعدُ ، وإن ربك هو يحشرهم ، إنه حكيم عليم ، فقال عون بن عبد الله : وفقك الله وجزاك خيرا.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : ثنا المعتمر ، عن أبيه ، قال : قال قتادة : المستقدمين : من مضى ، والمستأخرين : من بقي في أصلاب الرجال.
حدثنا الحسن بن محمد ، قال : ثنا سعيد بن منصور ، قال : ثنا أبو الأحوص ، قال : ثنا سعيد بن مسروق ، عن عكرمة وخصيف ، عن مجاهد ، في قوله( وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ ) قالا من مات ومن بقي.

(17/90)


حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله( وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ ) قال : كان ابن عباس يقول : آدم صلى الله عليه وسلم ومن مضى من ذرّيته( وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ ) : من بقي في أصلاب الرجال.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : ثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة( وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ ) قال : المستقدمون آدم ومن بعده ، حتى نزلت هذه الآية : والمستأخرون : قال : كلّ من كان من ذرّيته.
قال أبو جعفر : أظنه أنا قال : ما لم يُخلق وما هو مخلوق.
حدثنا أحمد ، قال : ثنا أبو أحمد ، قال : ثنا سفيان ، عن أبيه ، عن عكرمة ، قال : المستقدمون : ما خرج من أصلاب الرجال ، والمستأخرون : ما لم يخرج. ثم قرأ( وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ ).
وقال آخرون : عنى بالمستقدمين : الذين قد هلكوا ، والمستأخرين : الأحياء الذين لم يهلكوا.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله( وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ ) يعني بالمستقدمين : من مات ، ويعني بالمستأخرين : من هو حيّ لم يمت.
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله( وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ ) يعني الأموات منكم( وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ ) بقيتهم ، وهم الأحياء ، يقول : علمنا من مات ومن بقي.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله( وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ ) قال : المستقدمون منكم : الذين مضوا في أوّل الأمم ، والمستأخرون : الباقون.
وقال آخرون : بل معناه : ولقد علمنا المستقدمين في أوّل الخلق والمستأخرين في آخرهم.

(17/91)


* ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن المثنى : قال : ثنا عبد الوهاب ، قال : ثنا داود ، عن عامر في هذه الآية( وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ ) قال أول الخلق وآخره.
حدثنا ابن المثنى ، قال : ثنا ابن أبي عدّي ، عن داود ، عن الشعبيّ ، في قوله( وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ ) : ما استقدم في أول الخلق ، وما استأخر في آخر الخلق.
حدثنا الحسن بن محمد ، قال : ثنا عليّ بن عاصم ، عن داود بن أبي هند ، عن عامر ، في قوله( وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ ) قال : في العُصُر ، والمستأخرين منكم في أصلاب الرجال ، وأرحام النساء.
وقال آخرون : بل معنى ذلك : ولقد علمنا المستقدمين من الأمم ، والمستأخرين من أمة محمد صلى الله عليه وسلم .
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، وحدثنا الحسن بن محمد ، قال : ثنا شبابة ، قال : أخبرنا ورقاء ، وحدثني المثنى ، قال : أخبرنا أبو حذيفة ، قال : ثنا شبل جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد المستقدمين منكم ، قال : القرون الأوَل ، والمستأخرين : أمة محمد صلى الله عليه وسلم.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله.
حدثنا الحسن بن محمد ، قال : ثنا محمد بن عبيد ، قال : ثني عبد الملك ، عن قيس ، عن مجاهد ، في قوله( وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ ) قال : المستقدمون : ما مضى من الأمم ، والمستأخرون : أمة محمد صلى الله عليه وسلم.
حدثني المثنى ، قال : ثنا عمرو بن عون ، قال : أخبرنا هشيم ، عن عبد الملك ، عن قيس ، عن مجاهد ، بنحوه.

(17/92)


حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا الثوري ، عن عبد الملك ، عن مجاهد بنحوه ، ولم يذكر قيسا.
وقال آخرون : بل معناه : ولقد علمنا المستقدمين منكم في الخير ، والمستأخرين عنه.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ ) قال : كان الحسن يقول : المستقدمون في طاعة الله ، والمستأخرون في معصية الله.
حدثني المثنى ، قال : ثنا عمرو بن عون ، قال : أخبرنا هشيم ، عن عباد بن راشد ، عن الحسن ، قال : المستقدمين في الخير ، والمستأخرين : يقول : المبطئين عنه.
وقال آخرون : بل معنى ذلك : ولقد علمنا المستقدمين منكم في الصفوف في الصلاة ، والمستأخرين فيها بسبب النساء.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : ثنا المعتمر بن سليمان ، عن أبيه ، عن رجل أخبرنا عن مروان بن الحكم أنه قال : كان أناس يستأخرون في الصفوف من أجل النساء ، قال : فأنزل الله( وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ ).
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا جعفر بن سليمان ، قال : أخبرني عمرو بن مالك ، قال سمعت أبا الجوزاء يقول في قول الله( وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ ) قال : المستقدمين منكم في الصفوف في الصلاة والمستأخرين.
حدثني محمد بن موسى الحرسي ، قال : ثنا نوح بن قيس ، قال : ثنا عمرو بن مالك ، عن أبي الجوزاء ، عن ابن عباس ، قال : كانت تصلي خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأة ، قال ابن عباس : لا والله ما إن رأيت مثلها قط ، فكان بعض المسلمين إذا صلوا استقدموا ، وبعض يستأخرون ، فإذا سجدوا ، نظروا إليها من تحت أيديهم ، فأنزل الله( وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ ).

(17/93)


حدثنا أبو كريب ، قال : ثنا عبيد الله بن موسى ، قال : أخبرنا نوح بن قيس ، وحدثنا أبو كريب ، قال : ثنا مالك بن إسماعيل ، قال : ثنا نوح بن قيس ، عن عمرو بن مالك ، عن أبي الجوزاء ، عن ابن عباس قال : كانت تصلي خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأة حسناء من أحسن الناس ، فكان بعض الناس يستقدم في الصفّ الأوّل لئلا يراها ، ويستأخر بعضهم حتى يكون في الصفّ المؤخر ، فإذا ركع نظر من تحت إبطيه في الصفّ ، فأنزل الله في شأنها( وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ ).
قال أبو جعفر : وأولى الأقوال عندي في ذلك بالصحة قول من قال : معنى ذلك : ولقد علمنا الأموات منكم يا بني آدم فتقدّم موته ، ولقد علمنا المستأخرين الذين استأخر موتهم ممن هو حيّ ومن هو حادث منكم ممن لم يحدث بعدُ ، لدلالة ما قبله من الكلام ، وهو قوله( وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوَارِثُونَ ) وما بعده وهو قوله( وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ ) على أن ذلك كذلك ، إذ كان بين هذين الخبرين ، ولم يجر قبل ذلك من الكلام ما يدلّ على خلافه ، ولا جاء بعد. وجائز أن تكون نزلت في شأن المستقدمين في الصفّ لشأن النساء والمستأخرين فيه لذلك ، ثم يكون الله عزّ وجلّ عمّ بالمعنى المراد منه جميع الخلق ، فقال جلّ ثناؤه لهم : قد علمنا ما مضى من الخلق وأحصيناهم ، وما كانوا يعملون ، ومن هو حيّ منكم ، ومن هو حادث بعدكم أيها الناس ، وأعمال جميعكم خيرها وشرّها ، وأحصينا جميع ذلك ونحن نحشر جميعهم ، فنجازي كلا بأعماله ، إن خيرًا فخيًرا وإن شرًا فشرًا. فيكون ذلك تهديدًا ووعيدًا للمستأخرين في الصفوف لشأن النساء ولكلّ من تعدّى حدّ الله وعمل بغير ما أذن له به ، ووعدا لمن تقدّم في الصفوف لسبب النساء ، وسارع إلى محبة الله ورضوانه في أفعاله كلها.
وقوله( وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ ) يعني بذلك جلّ ثناؤه : وإن ربك يا محمد هو يجمع جميع الأوّلين والآخرين عنده يوم القيامة ، أهل الطاعة منهم والمعصية ، وكلّ أحد من خلقه ، المستقدمين منهم والمستأخرين.
وبنحو ما قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل.

(17/94)


وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (26)

* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ ) قال : أي الأوّل والآخر.
حدثنا الحسن بن محمد ، قال : ثنا أبو خالد القرشيّ ، قال : ثنا سفيان ، عن أبيه ، عن عكرمة ، في قوله( وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ ) قال : هذا من هاهنا ، وهذا من هاهنا.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن عطاء الخُرَاسانيّ ، عن ابن عباس( وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ ) قال : وكلهم ميت ، ثم يحشرهم ربهم.
حدثنا الحسن بن محمد ، قال : ثنا عليّ بن عاصم ، عن داود بن أبي هند ، عن عامر( وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ ) قال : يجمعهم الله يوم القيامة جميعا ، قال الحسن : قال عليّ : قال داود : سمعت عامرا يفسر قوله( إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ ) يقول : إن ربك حكيم في تدبيره خلقه في إحيائهم إذا أحياهم ، وفي إماتتهم إذا أماتهم ، عليم بعددهم وأعمالهم ، وبالحيّ منهم والميت ، والمستقدم منهم والمستأخر.
كما حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : ثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، قال : كلّ أولئك قد علمهم الله ، يعني المستقدمين والمستأخرين.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (26) }
يقول تعالى ذكره : ولقد خلقنا آدم وهو الإنسان من صلصال. واختلف أهل التأويل في معنى الصلصال ، فقال بعضهم : هو الطين اليابس لم تصبه نار ، فإذا نقرتَه صَلَّ فسمعت له صلصلة.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا يحيى بن سعيد ، وعبد الرحمن بن مهديّ ، قالا ثنا سفيان ، عن الأعمش ، عن مسلم البطين ، عن

(17/95)


سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال : خلق آدم من صلصال من حمأ ومن طين لازب ، وأما اللازب : فالجيد ، وأما الحَمَأ : فالحمأة ، وأما الصَّلصال : فالتراب المرقَّق ، وإنما سمي إنسانا لأنه عهد إليه فنسي.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله( وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ ) قال : والصلصال : التراب اليابس الذي يسمع له صلصلة.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : ثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة( مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ ) قال : الصلصال : الطين اليابس يسمع له صلصلة.
حدثنا ابن وكيع ، قال : ثنا حميد بن عبد الرحمن ، عن الحسن بن صالح ، عن مسلم ، عن مجاهد ، عن ابن عباس( مِنْ صَلْصَالٍ ) قال : الصلصال : الماء يقع على الأرض الطيبة ثم يحسَرُ عنها ، فتشقق ، ثم تصير مثل الخَزَف الرقاق.
حدثنا ابن وكيع ، قال : ثنا يحيى بن سعيد ، عن سفيان ، عن الأعمش ، عن مسلم ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال : خُلق الإنسان من ثلاثة : من طين لازب ، وصلصال ، وحمأ مسنون. والطين اللازب : اللازق الجيد ، والصلصال : المرقق الذي يصنع منه الفخار ، والمسنون : الطين فيه الحَمْأة.
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثنا أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله( وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ ) قال : هو التراب اليابس الذي يُبَل بعد يُبسه.
حدثني المثنى ، قال : ثنا إسحاق ، قال : ثنا عبد الله ، عن ورقاء ، عن مسلم ، عن مجاهد ، قال : الصلصال : الذي يصلصل ، مثل الخَزَف من الطين الطيب.
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : ثنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك ، يقول : الصلصال : طين صُلْب يخالطه الكثيب.
حدثني المثنى ، قال : ثنا أبو حذيفة ، قال : ثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد( مِنْ صَلْصَالٍ ) قال : التراب اليابس.

(17/96)


وقال آخرون : الصلصال : المُنْتِن. وكأنهم وجَّهوا ذلك إلى أنه من قولهم : صلّ اللحم وأصلّ ، إذا أنتن ، يقال ذلك باللغتين كلتيهما : يَفْعَل وأَفْعَل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، وحدثني الحارث قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، وحدثنا الحسن ، قال : ثنا شبابة ، قال : ثنا ورقاء ، وحدثني المثنى قال : ثنا إسحاق ، قال : ثنا عبد الله ، عن ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد( مِنْ صَلْصَالٍ ) الصلصال : المنتن.
والذي هو أولى بتأويل الآية أن يكون الصلصال في هذا الموضع الذي له صوت من الصلصلة ، وذلك أن الله تعالى وصفه في موضع آخر فقال( خَلَقَ الإنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ ) فشبهه تعالى ذكره بأنه كان كالفخَّار في يُبسه. ولو كان معناه في ذلك المُنتِن لم يشبهه بالفخارِّ ، لأن الفخار ليس بمنتن فيشبَّه به في النتن غيره.
وأما قوله( مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ ) فإن الحمأ : جمع حَمْأة ، وهو الطين المتَغيِّر إلى السواد. وقوله(مَسْنُونٍ) يعني : المتغير.
واختلف أهل العلم بكلام العرب في معنى قوله(مَسْنُونٍ) فكان بعض نحويِّي البصريين يقول : عني به : حمأ مصورّ تامّ. وذُكر عن العرب أنهم قالوا : سُنّ على مثال سُنَّة الوجه : أي صورته. قال : وكأن سُنة الشيء من ذلك : أي مثالَه الذي وُضع عليه. قال : وليس من الآسن المتغير ، لأنه من سَنَن مضاعف.
وقال آخر منهم : هو الحَمَأ المصبوب. قال : والمصبوب : المسنون ، وهو من قولهم : سَنَنْت الماء على الوجه وغيره إذا صببته.
وكان بعض أهل الكوفة يقول : هو المتغير ، قال : كأنه أخذ من سَنَنْت الحَجَر على الحجر ، وذلك أن يحكّ أحدهما بالآخر ، يقال منه : سننته أسنُه سَنًّا فهو مسنون. قال : ويقال للذي يخرج من بينهما : سَنِين ، ويكون ذلك مُنْتنا. وقال : منه سُمِّيَ المِسَنّ لأن الحديد يُسَنُّ عليه. وأما أهل التأويل ، فإنهم قالوا في ذلك نحو ما قلنا.

(17/97)


* ذكر من قال ذلك :
حدثنا عبيد الله بن يوسف الجبيري ، قال : ثنا محمد بن كثير ، قال : ثنا مسلم ، عن مجاهد ، عن ابن عباس ، في قوله( مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ ) قال : الحمأ : المنتنة.
حدثني يحيى بن إبراهيم المسعودي ، قال : ثنا أبي ، عن أبيه ، عن جده ، عن الأعمش ، عن مسلم ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس( مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ ) قال : الذي قد أنتن.
حدثنا أبو كريب ، قال : ثنا عثمان بن سعيد ، قال : ثنا بشر بن عمارة ، عن أبي روق ، عن الضحاك ، عن ابن عباس( مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ ) قال : منتن.
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله( مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ ) قال : هو التراب المبتلّ المنتنُ ، فجعل صَلصالا كالفَخار.
حدثني محمد بن عمرو ، قال ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن قال : ثنا ورقاء ، وحدثنا الحسن ، قال : ثنا شبابة ، قال : ثنا ورقاء ، وحدثنا ابن وكيع ، قال : ثنا شبل جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد( مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ ) قال : منتن.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ ) والحمأ المسنون : الذي قد تغير وأنتن.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : ثنا محمد بن ثور ، عن معمر( مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ ) قال : قد أنتن ، قال : منتنة.
حدثني المثنى ، قال : ثنا عمرو بن عون ، قال : ثنا هشيم ، عن جويبر ، عن الضحاك ، في قوله( مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ ) قال : من طين لازب ، وهو اللازق من الكثيب ، وهو الرمل.
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : ثنا عبيد بن سليمان ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله( مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ ) قال : الحمأ المنتن.
وقال آخرون منهم في ذلك : هو الطين الرَّطْب.

(17/98)


وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ (27)

* ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى ، قال : ثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله( مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ ) يقول : من طين رَطب.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ (27) }
يقول تعالى ذكره : (والجانَّ) وقد بيَّنا فيما مضى معنى الجانّ ولم قيل له جان. وعني بالجانّ هاهنا : إبليس أبا الجنّ. يقول تعالى ذكره : وإبليس خلقناه من قبل الإنسان من نار السموم.
كما حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ ) وهو إبليس خُلق قبل آدم ، وإنما خلق آدم آخر الخلق ، فحسده عدوّ الله إبليس على ما أعطاه الله من الكرامة ، فقال : أنا ناريّ ، وهذا طينيّ ، فكانت السجدة لآدم ، والطاعة لله تعالى ذكره ، فقال( اخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ ) .
واختلف أهل التأويل في معنى( نَارِ السَّمُومِ ) فقال بعضهم : هي السموم الحارّة التي تقتل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن وكيع ، قال : ثنا يحيى بن آدم ، عن شريك ، عن أبي إسحاق ، عن التميمي ، عن ابن عباس في قوله( وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ ) قال : هي السموم التي تقتل ، فأصابها إعصار فيه نار فاحترقت قال : هي السموم التي تقتل.
حدثني المثنى ، قال : ثنا الحِمَّانِيّ ، قال : ثنا شريك ، عن أبي إسحاق التميمي ، عن ابن عباس( وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ ) قال : هي السموم التي تقتل ، فأصابها إعصار فيه نار فاحترقت قال : هي السموم التي تقتل.
وقال آخرون : يعني بذلك من لهب النار.

(17/99)


وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (28) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (29)

* ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى ، قال : ثنا إسحاق ، قال : ثنا عبد الرحمن بن مغراء ، عن جويبر ، عن الضحاك ، في قوله( وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ ) قال : من لهب من نار السموم.
حدثنا أبو كريب ، قال : ثنا عثمان ، عن سعيد ، قال : ثنا بشر بن عمارة ، عن أبي روق ، عن الضحاك ، عن ابن عباس ، قال : كان إبليس من حي من أحياء الملائكة يقال لهم الجنّ ، خُلقوا من نار السموم من بين الملائكة. قال : وخُلقت الجنّ الذين ذُكروا في القرآن من مارج من نار.
حدثنا محمد بن المثنى ، قال : ثنا أبو داود ، قال : ثنا شعبة ، عن أبي إسحاق ، قال : دخلت على عمرو بن الأصم أعوده ، فقال : ألا أحدّثك حديثًا سمعته من عبد الله ؟ سمعت عبد الله يقول : هذه السموم جزء من سبعين جزءا من السموم التي خرج منها الجانّ. قال : وتلا( وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ ) . وكان بعض أهل العربية يقول : السموم بالليل والنهار. وقال بعضهم : الحَرُور بالنهار ، والسموم بالليل ، يقال : سَمَّ يومُنا يَسَمُّ سَمُومًا.
حدثني المثنى ، قال : ثنا محمد بن سهل بن عسكر ، قال : ثنا إسماعيل بن عبد الكريم ، قال : ثني عبد الصمد بن معقل ، قال : سمعت وهب بن منبه ، وسئل عن الجنّ ما هم ، وهل يأكلون أو يشربون ، أو يموتون ، أو يتناكحون ؟ قال : هم أجناس ، فأما خالص الجنّ فهم ريح لا يأكلون ولا يشربون ولا يموتون ولا يتوالدون. ومنهم أجناس يأكلون ويشربون ويتناكحون ويموتون ، وهي هذه التي منها السعالِي والغُول وأشباه ذلك.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (28) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (29) }
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : (و) اذكر يا محمد( إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُون فَإِذَا سَوَّيْتُهُ ).
يقول :

(17/100)


فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (30) إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (31)

فإذا صوّرته فعدَّلت صورته( وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي ) فصار بشرا حيا( فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ ) سجود تحية وتكرمة لا سجود عبادة.
وقد حدثني جعفر بن مكرم ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا شبيب بن بشر ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : لما خلق الله الملائكة قال : إني خالق بشرا من طين ، فإذا أنا خلقته فاسجدوا له ، فقالوا : لا نفعل. فأرسل عليهم نارا فأحرقتهم ، وخلق ملائكة أخرى ، فقال : إني خالق بشرا من طين ، فإذا أنا خلقته فاسجدوا له ، فأبَوا ، قال : فأرسل عليهم نارا فأحرقتهم ، ثم خلق ملائكة أخرى ، فقال : إني خالق بشرا من طين ، فإذا أنا خلقته فاسجدوا له ، فأبوا ، فأرسل عليهم نارا فأحرقتهم ، ثم خلق ملائكة ، فقال : إني خالق بشرا من طين ، فإذا أنا خلقته فاسجدوا له ، فقالوا : سمعنا وأطعنا ، إلا إبليس كان من الكافرين الأوّلين.
القول في تأويل قوله تعالى : { فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (30) إِلا إِبْلِيسَ أَبَى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (31) }

(17/101)


قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا لَكَ أَلَّا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (32) قَالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (33) قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (34)

القول في تأويل قوله تعالى : { قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا لَكَ أَلا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (32) }
يقول تعالى ذكره : فلما خلق الله ذلك البشر ، ونفخ فيه الروح بعد أن سوّاه ، سجد الملائكة كلهم جميعا ، إلا إبليس ، فإنه أبى أن يكون مع الساجدين في سجودهم لآدم حين سجدوا ، فلم يسجد له معهم تكبرا وحسدا وبغيا ، فقال الله تعالى ذكره( يَا إِبْلِيسُ مَا لَكَ أَلا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ ) يقول : ما منعك من أن تكون مع الساجدين ، فأن في قول بعض نحويي الكوفة خفض ، وفي قول بعض أهل البصرة نصب بفقد الخافض.
القول في تأويل قوله تعالى : { قَالَ لَمْ أَكُنْ لأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (33) قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (34) وَإِنَّ عَلَيْكَ

(17/101)


وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ (35) قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (36) قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (37) إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (38) قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (39) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (40)

اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ (35) }
يقول تعالى ذكره( قالَ) إبليس : ( لَمْ أَكُنْ لأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُون ) وهو من طين وأنا من نار ، والنار تأكل الطين. وقوله( فَاخْرُجْ مِنْهَا ) يقول الله تعالى ذكره لإبليس : ( فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ ) .
والرجيم المرجوم ، صرف من مفعول إلى فعيل وهو المشتوم ، كذلك قال جماعة من أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( فَإِنَّكَ رَجِيمٌ ) والرجيم : الملعون.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قوله( فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ ) قال : ملعون. والرجم في القرآن : الشتم.
وقوله( وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ ) يقول : وإن غضب الله عليك بإخراجه إياك من السموات وطردك عنها إلى يوم المجازاة ، وذلك يوم القيامة ، وقد بيَّنا معنى اللعنة في غير موضع بما أغنى عن إعادته هاهنا.
القول في تأويل قوله تعالى : { قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (36) قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (37) إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (38) }
يقول تعالى ذكره : قال إبليس : ربّ فإذ أخرجتني من السموات ولعنتني ، فأخِّرني إلى يوم تبعث خلقك من قبورهم فتحشرهم لموقف القيامة ، قال الله له : فإنك ممن أُخِّر هلاكه إلى يوم الوقت المعلوم لهلاك جميع خلقي ، وذلك حين لا يبقى على الأرض من بني آدم دَيَّار.
القول في تأويل قوله تعالى : { قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (39) إِلا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (40) }
يقول تعالى ذكره : قال إبليس : ( رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي ) بإغوائك( لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ

(17/102)


قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ (41) إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ (42)

فِي الأَرْضِ ) وكأن قوله( بِمَا أَغْوَيْتَنِي ) خرّج مخرج القسم ، كما يقال : بالله ، أو بعزّة الله لأغوينهم. وعنى بقوله( لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأَرْضِ ) لأحسننّ لهم معاصيك ، ولأحببنها إليهم في الأرض( وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ ) يقول : ولأضلَّنهم عن سبيل الرشاد( إِلا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ ) يقول : إلا من أخلصته بتوفيقك فهديته ، فإن ذلك ممن لا سلطان لي عليه ولا طاقة لي به. وقد قرئ : (إلا عِبادَكَ مِنْهُمُ المُخْلِصِينَ) فمن قرأ ذلك كذلك ، فإنه يعني به : إلا من أخلص طاعتك ، فإنه لا سبيل لي عليه.
وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى ، قال : ثنا إسحاق ، قال : ثنا أبو زهير ، عن جويبر ، عن الضحاك( إِلا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ ) يعني : المؤمنين.
حدثني المثنى ، قال : ثنا إسحاق ، قال : ثنا هشام ، قال : ثنا عمرو ، عن سعيد ، عن قتادة( إِلا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ ) قال قتادة : هذه ثَنِيَّة الله تعالى ذكره.
القول في تأويل قوله تعالى : { قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ (41) إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ (42) }
اختلفت القرّاء في قراءة قوله( قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ ) فقرأه عامَّة قراء الحجاز والمدينة والكوفة والبصرة( هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ ) بمعنى : هذا طريق إليّ مستقيم.
فكان معنى الكلام : هذا طريق مرجعه إليّ فأجازي كلا بأعمالهم ، كما قال الله تعالى ذكره( إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ ) ، وذلك نظير قول القائل لمن يتوعده ويتهدده : طريقك عليّ ، وأنا على طريقك ، فكذلك قوله : ( هَذَا صِرَاطٌ ) معناه : هذا طريق عليّ وهذا طريق إليّ. وكذلك تأول من قرأ ذلك كذلك.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ،

(17/103)


وحدثني الحسن بن محمد ، قال : ثنا شبابة ، قال : ثنا ورقاء ، وحدثني المثنى ، قال : ثنا أبو حُذيفة ، قال : ثنا شبل ، وحدثني المثنى ، قال : ثنا إسحاق ، قال : ثنا عبد الله ، عن ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله( هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ ) قال : الحقّ يرجع إلى الله ، وعليه طريقه ، لا يعرِّج على شيء.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، بنحوه.
حدثنا أحمد بن يوسف ، قال : ثنا القاسم ، قال : ثنا مَرْوان بن شجاع ، عن خَصِيف ، عن زياد بن أبي مريم ، وعبد الله بن كثير أنهما قرآها( هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ ) وقالا عليّ هي إليّ وبمنزلتها.
حدثنا الحسن بن محمد ، قال : ثنا عبد الوهاب بن عطاء ، عن إسماعيل بن مسلم ، عن الحسن وسعيد عن قتادة ، عن الحسن( هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ ) يقول : إليّ مستقيم. وقرأ ذلك قيس بن عباد وابن سيرين وقتادة فيما ذُكر عنهم( هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ ) برفع عليّ على أنه نعت للصراط ، بمعنى : رفيع.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى ، قال : ثنا إسحاق ، قال : ثنا ابن أبي حماد ، قال : ثني جعفر البصري ، عن ابن سيرين أنه كان يقرأ( هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ ) يعني : رفيع.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله(هَذَا صِرَاطٌ عَلِيٌّ مُسْتَقِيمٌ) أي رفيع مستقيم ، قال بشر ، قال يزيد ، قال سعيد : هكذا نقرؤها نحن وقتادة.
حدثنا الحسن بن محمد ، قال : ثنا عبد الوهاب ، عن هارون ، عن أبي العوّام ، عن قتادة ، عن قيس بن عباد(هَذَا صِرَاطٌ عَلِيٌّ مُسْتَقِيمٌ) يقول : رفيع.
والصواب من القراءة في ذلك عندنا قراءة من قرأ( هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ ) على التأويل الذي ذكرناه عن مجاهد والحسن البصري ، ومن وافقهما عليه ، لإجماع الحجة من القرّاء عليها ، وشذوذ ما خالفها.

(17/104)


وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ (43) لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ (44)

وقوله( إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ ) يقول تعالى ذكره : إن عبادي ليس لك عليهم حجة ، إلا من اتبعك على ما دعوته إليه من الضلالة ممن غوى وهلك.
حدثني المثنى ، قال : ثنا سويد ، قال : أخبرنا ابن المبارك ، عن عبيد الله بن موهب ، قال ثنا يزيد بن قسيط ، قال : كانت الأنبياء لهم مساجد خارجة من قُراهم ، فإذا أراد النبيّ أن يستنبئ ربه عن شيء ، خرج إلى مسجده ، فصلى ما كتب الله له ، ثم سأل ما بدا له ، فبينما نبيّ في مسجده ، إذا جاء عدوّ الله حتى جلس بينه وبين القبلة ، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم : أعُوذُ بالله مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ ، فقال عدوّ الله : أرأيت الذي تعوَّذ منه فهو هو ، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم : أعُوذُ باللَّهِ مِن الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ فردّد ذلك ثلاث مرّات ، فقال عدوّ اللَّه : أخبرني بأيّ شيء تنجو مني ، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم : بَلْ أَخْبِرْني بأيّ شيْءٍ تَغْلِبُ ابْنَ آدَمَ ، مرّتين ، فأخذ كلّ واحد منهما على صاحبه ، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم : إنَّ اللَّهَ تعالى ذِكْرُهُ يقُولُ : ( إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ ) قال عدوّ اللَّه : قد سمعت هذا قبل أن تولد ، قال النبيّ صلى الله عليه وسلم : ويقول اللَّهُ تَعالى ذِكْرُهُ : ( وَإِمَّا يَنزغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نزغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ) وإنّي والله ما أحْسَسْتُ بِكَ قَطُّ إلا اسْتَعذْتُ بالله مِنْكَ ، فقال عدوّ الله : صدقت بهذا تنجو مني ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : فأخْبِرْنِي بأيّ شَيْءٍ تَغْلِبُ ابْنَ آدَمَ ؟ قال : آخذه عند الغضب ، وعند الهوى.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ (43) لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ (44) }
يقول تعالى ذكره لإبليس : وإن جهنم لموعد من تبعك أجمعين( لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ ) يقول : لجهنم سبعة أطباق ، لكلِّ طَبَق منهم : يعني من أتباع إبليس جزء ، يعني : قسما ونصيبا مقسوما.

(17/105)


وذُكر أن أبواب جهنم طبقات بعضها فوق بعض.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن المثنى ، قال : ثنا محمد بن جعفر ، قال : ثنا شعبة ، قال : سمعت أبا هارون الغنوي ، قال : سمعت حِطان ، قال : سمعت عليا وهو يخطب ، قال : إن أبواب جهنم هكذا ، ووضع شُعبة إحدى يديه على الأخرى.
حدثني يعقوب ، قال : ثنا ابن علية ، عن أبي هارون الغنوي ، عن حطان بن عبد الله ، قال : قال عليّ : تدرون كيف أبواب النار ؟ قلنا : نعم كنحو هذه الأبواب ، فقال : لا ولكنها هكذا ، فوصف أبو هارون أطباقا بعضها فوق بعض ، وفعل ذلك أبو بشر.
حدثنا الحسن بن محمد ، قال : ثنا إسماعيل بن إبراهيم ، عن أبي هارون الغنوي ، عن حطان بن عبد الله عن عليّ ، قال : هل تدرون كيف أبواب النار ؟ قالوا : كنحو هذه الأبواب ، قال : لا ولكن هكذا ، فوصف بعضها فوق بعض.
حدثنا هارون بن إسحاق ، قال : ثنا مصعب بن المقدام ، قال : أخبرنا إسرائيل ، قال : ثنا أبو إسحاق ، عن هبيرة ، عن عليّ ، قال : أبواب جهنم سبعة بعضها فوق بعض ، فيمتلئ الأوّل ، ثم الثاني ، ثم الثالث ، ثم تمتلئ كلها.
حدثنا الحسن بن محمد ، قال : ثنا شبابة ، قال : ثنا إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن هبيرة ، عن علي قال : أبواب جهنم سبعة بعضها فوق بعض ، وأشار بأصابعه على الأوّل ، ثم الثاني ، ثم الثالث حتى تملأ كلها.
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا يحيى بن واضح ، قال : ثنا يونس بن أبي إسحاق ، عن أبيه ، عن هبيرة بن مريم ، قال : سمعت عليا يقول : إن أبواب جهنم بعضها فوق بعض ، فيملأ الأوّل ثم الذي يليه ، إلى آخرها.
حدثنا الحسن بن محمد ، قال : ثنا عليّ ، قال : أخبرنا محمد بن يزيد الواسطيّ ، عن جَهْضَم ، قال : سمعت عكرمة يقول في قوله( لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ ) قال : لها سبعة أطباق.

(17/106)


إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (45) ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ آَمِنِينَ (46) وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ (47)

حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قوله( لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ ) قال : أولها جهنم ، ثم لظى ، ثم الحطمة ، ثم السعير ، ثم سقر ، ثم الجحيم ، ثم الهاوية ، والجحيم فيها أبو جهل.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله( لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ ) وهي والله منازل بأعمالهم.
القول في تأويل قوله تعالى : { إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (45) ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ آمِنِينَ (46) وَنزعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ (47) }
يقول تعالى ذكره : إن الذين اتقوا الله بطاعته وخافوه ، فتجنبوا معاصيه في جنات وعيون ، يقال لهم : ( ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ آمِنِينَ ) من عقاب الله ، أو أن تُسلبوا نعمة أنعمها الله عليكم ، وكرامة أكرمكم بها. قوله( وَنزعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ ) يقول : وأخرجنا ما في صدور هؤلاء المتقين الذين وصف صفتهم من حقد وضغينة بعضهم لبعض.
واختلف أهل التأويل في الحال التي ينزع الله ذلك من صدورهم ، فقال بعضهم : ينزل ذلك بعد دخولهم الجنة.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى ، قال : ثنا أبو غسان ، قال : ثنا إسرائيل ، عن بشر البصري ، عن القاسم بن عبد الرحمن ، عن أبي أُمامة ، قال : يدخل أهل الجنة الجنة على ما في صدورهم في الدنيا من الشحناء والضغائن ، حتى إذا توافوا وتقابلوا نزع الله ما في صدورهم في الدنيا من غلّ ، ثم قرأ( وَنزعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ )
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثنا أبو فضالة ، عن لقمان ، عن أبي أمامة ، قال : لا يدخل مؤمن الجنة حتى ينزع الله ما في صدورهم من غلّ ، ثم ينزع منه السبع الضاري.

(17/107)


حدثني المثنى ، قال : ثنا الحجاج بن المنهال ، قال : ثنا سفيان بن عيينة ، عن إسرائيل ، عن أبي موسى سمع الحسن البصري يقول : قال عليّ : فينا والله أهل بدر نزلت الآية( وَنزعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ )
حدثني المثنى ، قال : ثنا إسحاق ، قال : عبد الله بن الزبير ، عن ابن عيينة : ( وَنزعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ ) قال : من عداوة.
حدثنا ابن وكيع ، قال : ثنا محمد بن يزيد الواسطي ، عن جويبر ، عن الضحاك( وَنزعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ ) قال : العداوة.
حدثنا ابن وكيع ، قال : ثنا ابن فضيل ، عن عطاء بن السائب ، عن رجل ، عن عليّ( وَنزعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ ) قال : العداوة.
حدثنا ابن وكيع ، قال : ثنا أبي ، عن سفيان ، عن منصور ، عن إبراهيم ، قال : جاء ابن جرموز قاتل الزبير يستأذن على عليّ ، فحجبه طويلا ثم أذن له فقال له : أما أهل البلاء فتجفوهم ، قال عليّ : بفيك التراب ، إني لأرجو أن أكون أنا وطلحة والزبير ممن قال الله( وَنزعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ )
حدثنا ابن وكيع ، قال : ثنا أبي ، عن سفيان ، عن جعفر ، عن عليّ نحوه.
حدثنا ابن وكيع ، قال : ثنا أبي ، عن أبان بن عبد الله البجلي ، عن نعيم بن أبي هند ، عن رَبْعِيَ بن حِرَاش ، بنحوه ، وزاد فيه : قال : فقام إلى علي رجل من هَمَدان ، فقال : الله أعدل من ذلك يا أمير المؤمنين ، قال : فصاح عليٌّ صيحة ظننت أن القصر تدهده لها ، ثم قال : إذا لم نكن نحن ، فمن هم ؟
حدثنا الحسن بن محمد ، قال : ثنا أبو معاوية الضرير ، قال : ثنا أبو مالك الأشجعي ، عن أبي حبيبة مولى لطلحة ، قال : دخل عمران بن طلحة على عليّ بعد ما فرغ من أصحاب الجمل ، فرحَّب به وقال : إني لأرجو أن يجعلني الله وأباك من الذين قال الله( إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ ) ، ورجلان جالسان على ناحية البساط ، فقالا الله أعدل من ذلك ، تقتلهم بالأمس وتكونون إخوانا ؟ فقال

(17/108)


عليّ : قوما أبعد أرض وأسحقها . فمن هم إذن إن لم أكن أنا وطلحة ؟ وذكر لنا أبو معاوية الحديث بطوله.
حدثنا الحسن بن محمد ، قال : ثنا عفان ، قال : ثنا عبد الواحد ، قال : ثنا أبو مالك ، قال : ثنا أبو حبيبة ، قال : قال علي لابن طلحة : إني لأرجو أن يجعلني الله وأباك من الذين نزعَ الله ما في صدورهم من غلٍّ ويجعلنا إخوانا على سرر متقابلين.
حدثنا الحسن بن محمد ، قال : ثنا حماد بن خالد الخياط ، عن أبي الجويرية ، قال : ثنا معاوية بن إسحاق ، عن عمران بن طلحة ، قال : لما نظرني عليّ قال : مرحبا بابن أخي ، فذكر نحوه.
حدثنا الحسن ، قال : ثنا يزيد بن هارون ، قال : أخبرنا هشام ، عن محمد ، قال : استأذن الأشتر على عليّ وعنده ابن لطلحة ، فحبسه ، ثم أذن له ، فلما دخل قال : إني لأراك إنما حبستني لهذا ، قال : أجل ، قال : إني لأراه لو كان عندك ابن لعثمان لحبستني ، قال : أجل إني لأرجو أن أكون أنا وعثمان ممن قال الله( وَنزعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ ).
حدثنا الحسن ، قال : ثنا إسحاق الأزرق ، قال : أخبرنا عوف ، عن سيرين ، بنحوه.
حدثنا الحسن ، قال : ثنا يعقوب بن إسحاق الحضرمي ، قال : ثنا السكن بن المغيرة ، قال : ثنا معاوية بن راشد ، قال : قال علي إني لأرجو أن أكون أنا وعثمان ممن قال الله( وَنزعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ ).
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قال : ثنا ابن المتوكل الناجي ، أن أبا سعيد الخدري حدثهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (يَخْلُصُ الْمُؤْمِنُونَ مِنْ النَّارِ فَيُحْبَسُونَ عَلَى قَنْطَرَةٍ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ فَيُقْتَصُّ لِبَعْضِهِمْ مِنْ بَعْضٍ مَظَالِمُ كَانَتْ بَيْنَهُمْ فِي الدُّنْيَا حَتَّى إِذَا هُذِّبُوا وَنُقُّوا أُذِنَ لَهُمْ فِي دُخُولِ الْجَنَّةِ قَالَ فَوَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لأَحَدُهُمْ أَهْدَى بِمَنزلِهِ فِي الْجَنَّةِ مِنْهُ

(17/109)


بِمَنزلِهِ الَّذِي كَانَ فِي الدُّنْيَا " . وقال بعضهم : ما يشبَّه بهم إلا أهل جمعة انصرفوا من جمعتهم.
حدثنا الحسن بن محمد ، قال : ثنا عفان بن مسلم ، قال : ثنا يزيد بن زريع ، قال : ثنا سعيد بن أبي عروبة في هذه الآية( وَنزعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ ) قال : ثنا قتادة أن أبا المتوكل الناجي حدثهم أن أبا سعيد الخدريّ حدثهم ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر نحوه ، إلى قوله " وأُذِنَ لَهُمْ فِي دُخُولِ الْجَنَّةِ " ثم جعل سائر الكلام عن قتادة ، قال : وقال قتادة : فوالذي نفسي بيده لأحدهم أهدى بمنزله ، ثم ذكر باقي الحديث نحو حديث بشر ، غير أن الكلام إلى آخره عن قتادة ، سوى أنه قال في حديثه : قال قتادة وقال بعضهم : ما يشبَّه بهم إلا أهل الجمعة إذا انصرفوا من الجمعة.
حدثني نصر بن عبد الرحمن الأودي ، قال : ثنا عمر بن زرعة ، عن محمد بن إسماعيل الزبيدي ، عن كثير النواء ، قال سمعته يقول : دخلت على أبي جعفر محمد بن عليّ ، فقلت : وليي وليكم ، وسلمي سِلْمكم ، وعدوّي عدوّكم ، وحربي حربكم ، إني أسألك بالله ، أتبرأ من أبي بكر وعمر ، فقال : قد ضَلَلْتُ إذا وما أنا من المهتدين ، تولَّهما يا كثير ، فما أدركك فهو في رقبتي ، ثم تلا هذه الآية( إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ ) يقول : إخوانا يقابل بعضهم وجه بعض ، لا يستدبره فينظر في قفاه ، وكذلك تأوله أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن بشار ، قال : ثنا مؤمل ، قال : ثنا سفيان ، قال : ثنا حصين ، عن مجاهد ، في قوله( عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ ) قال : لا ينظر أحدهم في قفا صاحبه.
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا يحيى وعبد الرحمن ومؤمل ، قالوا : ثنا سفيان ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله. والسرر : جمع سرير ، كما الجدد : جمع جديد ، وجمع سررا ، وأظهر التضعيف فيها ، والراءان متحرّكتان لخفة الأسماء ، ولا تفعل ذلك في الأفعال لثقل الأفعال ، ولكنهم يُدْغمون في الفعل ليسكن أحد الحرفين فيخفف ، فإذا دخل على الفعل ما يسكن الثاني أظهروا حينئذ التضعيف.

(17/110)


لَا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ (48) نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (49) وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ (50)

القول في تأويل قوله تعالى : { لا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ (48) نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (49) وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الألِيمُ (50) }
يقول تعالى ذكره : لا يَمسّ هؤلاء المتقين الذين وصف صِفتهم في الجنات نَصَب ، يعني تَعَب( وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ ) يقول : وما هم من الجنة ونعيمها وما أعطاهم الله فيها بمخرجين ، بل ذلك دائم أبدا. وقوله( نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ) يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : أخبر عبادي يا محمد ، أني أنا الذي أستر على ذنوبهم إذا تابوا منها وأنابوا ، بترك فضيحتهم بها وعقوبتهم عليها ، الرحيم بهم أن أعذّبهم بعد توبتهم منها عليها( وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الألِيمُ ) يقول : وأخبرهم أيضا أن عذابي لمن أصرّ على معاصيّ وأقام عليها ولم يتب منها ، هو العذاب الموجع الذي لا يشبهه عذاب. هذا من الله تحذير لخلقه التقدم على معاصيه ، وأمر منه لهم بالإنابة والتوبة.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله( نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الألِيمُ ) قال : بلغنا أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم قال : " لَوْ يَعلمُ العبدُ قَدْر عَفْوِ اللَّهِ لما تورّعَ من حرام ، وَلَو يَعلم قَدْر عَذَابهِ لَبخَع نفسَه " .
حدثني المثنى ، قال : أخبرنا إسحاق ، قال : أخبرنا ابن المكيّ ، قال : أخبرنا ابن المبارك ، قال : أخبرنا مصعب بن ثابت ، قال : ثنا عاصم بن عبد الله ، عن ابن أبي رباح ، عن رجل من أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم قال : " طَلَع عَلَيْنَا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم من الباب الذي يدخل منه بنو شيبة ، فقال : ألا أرَاكُمْ تَضْحَكُونَ ؟ ثم أدبر حتى إذا كان عند الحجر رجع إلينا القهقرى ، فقال : إنّي لمَّا خَرَجْتُ جاءَ جَبْرَئِيل صلى الله عليه وسلم فَقَالَ : يا مُحَمَّد إنَّ الله يَقُولُ : لِمَ تُقَنِّطُ عبادِي ؟ نبِّئ عبادِي أنّي أنا الغَفُورُ الرَّحيمُ وأنَّ عَذَابِي هُوَ العَذَابُ الألِيمُ " .

(17/111)


وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ (51)

القول في تأويل قوله تعالى : { وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ (51) }

(17/112)


إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ (52) قَالُوا لَا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ (53) قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ (54)

القول في تأويل قوله تعالى : { إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلامًا قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ (52) قَالُوا لا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ (53) }
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : وأخبر عبادي يا محمد عن ضيف إبراهيم : يعني الملائكة الذين دخلوا على إبراهيم خليل الرحمن حين أرسلهم ربهم إلى قوم لوط ليهلكوهم( فَقَالُوا سَلامًا ) يقول : فقال الضيف لإبراهيم : سلاما( قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ ) يقول : قال إبراهيم : إنا منكم خائفون. وقد بيَّنا وجه النصب في قوله(سَلاما) وسبب وجل إبراهيم من ضيفه ، واختلاف المختلفين ودللنا على الصحيح من القول فيه فيما مضى قبل بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. وأما قوله( قَالُوا سَلامًا ) وهو يعني به الضيف ، فجمع الخبر عنهم ، وهم في لفظ واحد ، فإن الضيف اسم للواحد والاثنين والجمع مثل الوزن والقطر والعدل ، فلذلك جمع خبره ، وهو لفظ واحد. وقوله( قَالُوا لا تَوْجَلْ ) يقول : قال الضيف لإبراهيم : ( لا توجل ) لا تخف( إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ ).
القول في تأويل قوله تعالى : { قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونِ (54) }
يقول تعالى ذكره : قال إبراهيم للملائكة الذين بشَّروه بغلام عليم( أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونِ ) يقول : فبأي شيء تبشرون.
وكان مجاهد يقول في ذلك ما حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، وحدثنا الحسن بن محمد ، قال : ثنا شبابة ، قال : ثنا ورقاء ، وحدثني المثنى ، قال : ثنا عبد الله ، عن ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ،

(17/112)


قَالُوا بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْقَانِطِينَ (55) قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ (56)

في قوله( قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونِ ) قال : عجب من كبره ، وكبر امرأته.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله ، وقال( عَلَى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ ) ومعناه : لأن مسني الكبر وبأن مسني الكبر ، وهو نحو قوله( حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلا الْحَقَّ ) بمعنى : بأن لا أقول ، ويمثله في الكلام : أتيتك أنك تعطي ، فلم أجدك تعطي.
القول في تأويل قوله تعالى : { قَالُوا بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُنْ مِنَ الْقَانِطِينَ (55) قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلا الضَّالُّونَ (56) }
يقول تعالى ذكره : قال ضيف إبراهيم له : بشرناك بحقّ يقين ، وعلم منَّا بأن الله قد وهب لك غلاما عليما ، فلا تكن من الذين يقنطون من فضل الله فييأسون منه ، ولكن أبشر بما بشرناك به واقبل البُشرى.
واختلفت القرّاء في قراءة قوله( مِنَ الْقَانِطِينَ ) فقرأه عامَّة قراء الأمصار( مِنَ الْقَانِطِينَ ) بالألف. وذكر عن يحيى بن وثاب أنه كان يقرأ ذلك(القَنِطِينَ).
والصواب من القراءة في ذلك ما عليه قرّاء الأمصار ، لإجماع الحجة على ذلك ، وشذوذ ما خالفه.
وقوله( قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلا الضَّالُّونَ ) يقول تعالى ذكره : قال إبراهيم للضيف : ومن ييأس من رحمة الله إلا القوم الذين قد أخطئوا سبيل الصواب ، وتركوا قصد السبيل في تركهم رجاء الله ، ولا يخيب من رجاه ، فضلوا بذلك عن دين الله.
واختلفت القرّاء في قراءة قوله( وَمَنْ يَقْنَطُ ) فقرأ ذلك عامَّة قرّاء المدينة والكوفة( وَمَنْ يَقْنَطُ ) بفتح النون ، إلا الأعمش والكسائي فإنهما كسرا النون من(يَقْنِط). فأما الذين فتحوا النون منه ممن ذكرنا فإنهم قرءوا( مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا ) بفتح القاف والنون. وأما الأعمش فكان يقرأ ذلك : من بعد ما قَنِطُوا ، بكسر

(17/113)


قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (57) قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (58) إِلَّا آَلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ (59) إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَا إِنَّهَا لَمِنَ الْغَابِرِينَ (60) فَلَمَّا جَاءَ آَلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ (61) قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (62) قَالُوا بَلْ جِئْنَاكَ بِمَا كَانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ (63)

النون. وكان الكسائي يقرؤه بفتح النون ، وكان أبو عمرو بن العلاء يقرأ الحرفين جميعا على النحو الذي ذكرنا من قراءة الكسائي.
وأولى القراءات في ذلك بالصواب قراءة من قرأ( مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا ) بفتح النون(وَمَنْ يَقْنِطُ) بكسر النون ، لإجماع الحجة من القرّاء على فتحها في قوله( مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا ) فكسرها في(وَمَنْ يَقْنِطُ) أولى إذا كان مجمعا على فتحها في قَنَط ، لأن فَعَل إذا كانت عين الفعل منها مفتوحة ، ولم تكن من الحروف الستة التي هي حروف الحلق ، فإنها تكون في يفْعِل مكسورة أو مضمومة. فأما الفتح فلا يُعرف ذلك في كلام العرب.
القول في تأويل قوله تعالى : { قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (57) قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (58) إِلا آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ (59) إِلا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَا إِنَّهَا لَمِنَ الْغَابِرِينَ (60) }
يقول تعالى ذكره : قال إبراهيم للملائكة : فما شأنكم : ما أمرُكم أيُّها المرسلون ؟ قالت الملائكة له : إنا أرسلنا إلى قوم مجرمين : يقول : إلى قوم قد اكتسبوا الكفر بالله ، إلا آل لوط : يقول : إلا اتباع لوط على ما هو عليه من الدِّين ، فإنا لن نهلكهم بل ننجيهم من العذاب الذي أمرنا أن نعذّب به قوم لوط ، سوى امرأة لوط قدّرنا إنها من الغابرين : يقول : قضى الله فيها إنها لمن الباقين ، ثم هي مهلكة بعد. وقد بيَّنا الغابر فِيما مضى بشواهده.
القول في تأويل قوله تعالى : { فَلَمَّا جَاءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ (61) قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (62) قَالُوا بَلْ جِئْنَاكَ بِمَا كَانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ (63) }
يقول تعالى ذكره : فلما أتى رسلُ الله آل لوط ، أنكرهم لوط فلم يعرفهم ، وقال لهم : ( إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ ) : أي نُنْكركم لا نعرفكم ، فقالت له

(17/114)


وَأَتَيْنَاكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (64) فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ (65)

الرسل : بل نحن رسل الله جئناك بما كان فيه قومك يشكون أنه نازل بهم من عذاب الله على كفرهم به.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، وحدثني الحسن بن محمد ، قال : ثنا شبابة ، قال : ثنا ورقاء ، وحدثني المثنى ، قال : ثنا أبو حذيفة ، قال : ثنا شبل ، وحدثني المثنى ، قال : ثنا إسحاق ، قال : ثنا عبد الله ، عن ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله( قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ ) قال : أنكرهم لوط ، وقوله( بِمَا كَانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ ) قال. بعذاب قوم لوط.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَأَتَيْنَاكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (64) فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ (65) }
يقول تعالى ذكره : قالت الرسل للوط : وجئناك بالحق اليقين من عند الله ، وذلك الحقّ هو العذاب الذي عذب الله به قوم لوط. وقد ذكرت خبرهم وقصصهم في سورة هود وغيرها حين بعث الله رسله ليعذّبهم به. وقولهم : ( وَإِنَّا لَصَادِقُونَ ) يقولون : إنا لصادقون فيما أخبرناك به يا لوط من أن الله مهلك قومك( فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ ) يقول تعالى ذكره مخبرا عن رسله أنهم قالوا للوط ، فأسر بأهلك ببقية من الليل ، واتبع يا لوط أدبار أهلك الذين تسري بهم وكن من ورائهم ، وسر خلفهم وهم أمامك ، ولا يلتفت منكم وراءه أحد ، وامضوا حيث يأمركم الله.
وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، عن ورقاء جميعا ، عن

(17/115)


وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَؤُلَاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ (66) وَجَاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ (67)

ابن أبي نجيح ، عن مجاهد( وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ ) لا يلتفت وراءه أحد ، ولا يُعَرِّج.
حدثنا الحسن بن محمد ، قال : ثنا شبابة ، قال : ثنا ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله( وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ ) : لا ينظر وراءه أحد.
حدثني المثنى ، قال : ثنا أبو حذيفة ، قال : ثنا شبل ؛ وحدثني المثنى ، قال : ثنا إسحاق ، قال : ثنا عبد الله ، عن ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله.
حدثنا القاسم ، قال. ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : ثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة( وَاتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ ) قال : أُمِر أن يكون خلف أهله ، يتبع أدبارهم في آخرهم إذا مشوا.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله( فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ ) قال : بعض الليل( وَاتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ ) : أدبار أهله.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الأمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَؤُلاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ (66) وَجَاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ (67) }
يقول تعالى ذكره : وفرغنا إلى لوط من ذلك الأمر ، وأوحينا أن دابر هؤلاء مقطوع مصبحين : يقول : إن آخر قومك وأوّلهم مجذوذ مستأصل صباح ليلتهم ، وأنّ من قوله( أَنَّ دَابِرَ ) في موضع نصب ردّا على الأمر بوقوع القضاء عليها. وقد يجوز أن تكون في موضع نصب بفقد الخافض ، ويكون معناه : وقضينا إليه ذلك الأمر بأن دابر هؤلاء مقطوع مُصبحين. وذكر أن ذلك في قراءة عبد الله : وقلنا إن دابر هؤلاء مقطوع مُصبحين . وعُنِي بقوله(مُصْبِحِينَ) : إذا أصبحوا ، أو حين يصبحون.
وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني

(17/116)


قَالَ إِنَّ هَؤُلَاءِ ضَيْفِي فَلَا تَفْضَحُونِ (68) وَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ (69) قَالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعَالَمِينَ (70)

حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قال ابن عباس ، قوله( أَنَّ دَابِرَ هَؤُلاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ ) يعني : استئصال هلاكهم مصبحين.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله( وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الأمْر ) قال : وأوحينا إليه.
وقوله( وَجَاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ ) يقول : وجاء أهل مدينة سَدُوم وهم قوم لوط لما سمعوا أن ضيفا قد ضاف لوطا مستبشرين بنزولهم مدينتهم طمعا منهم في ركوب الفاحشة.
كما حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله( وَجَاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ ) استبشروا بأضياف نبيّ الله صلى الله عليه وسلم لوط ، حين نزلوا لما أرادوا أن يأتوا إليهم من المنكر.
القول في تأويل قوله تعالى : { قَالَ إِنَّ هَؤُلاءِ ضَيْفِي فَلا تَفْضَحُونِ (68) وَاتَّقُوا اللَّهَ وَلا تُخْزُونِ (69) قَالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعَالَمِينَ (70) }
يقول تعالى ذكره : قال لوط لقومه : إن هؤلاء الذين جئتموهم تريدون منهم الفاحشة ضيفي ، وحقّ على الرجل إكرام ضيفه ، فلا تفضحون أيها القوم في ضيفي ، وأكرموني في ترككم التعرّض لهم بالمكروه ، وقوله( وَاتَّقُوا اللَّهَ ) يقول : وخافوا الله فيّ وفي أنفسكم أن يحلّ بكم عقابه( وَلا تُخْزُونِ ) يقول : ولا تذلوني ولا تهينوني فيهم ، بالتعرّض لهم بالمكروه( قَالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعَالَمِينَ ) يقول تعالى ذكره : قال للوط قومه : أو لم ننهك أن تضيف أحدا من العالمين.
كما حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله( أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعَالَمِينَ ) قال : ألم ننهك أن تضيف أحدا ؟

(17/117)


قَالَ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (71)

القول في تأويل قوله تعالى : { قَالَ هَؤُلاءِ بَنَاتِي إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (71)

(17/117)


لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ (72) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ (73)

لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ (72) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ (73) }
يقول تعالى ذكره : قال لوط لقومه : تزوّجوا النساء فأتوهنّ ، ولا تفعلوا ما قد حرّم الله عليكم من إتيان الرجال ، إن كنتم فاعلين ما آمركم به ، ومنتهين إلى أمري.
كما حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( قَالَ هَؤُلاءِ بَنَاتِي إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ ) : أمرهم نبيّ الله لوط أن يتزوّجوا النساء ، وأراد أن يَقِيَ أضيافه ببناته.
وقوله( لَعَمْرُكَ ) يقول تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : وحياتك يا محمد ، إن قومك من قريش( لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ ) يقول : لفي ضلالتهم وجهلهم يتردّدون.
وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى ، قال : ثنا مسلم بن إبراهيم ، قال : ثنا سعيد بن زيد ، قال : ثنا عمرو بن مالك ، عن أبي الجوْزاء ، عن ابن عباس ، قال : ما خلق الله وما ذرأ وما برأ نفسا أكرم على الله من محمد صلى الله عليه وسلم ، وما سمعت الله أقسم بحياة أحد غيره ، قال الله تعالى ذكره( لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ ).
حدثنا الحسن بن محمد ، قال : ثنا يعقوب بن إسحاق الحضْرميّ ، قال : ثنا الحسن بن أبي جعفر ، قال : ثنا عمرو بن مالك ، عن أبي الجوزاء ، عن ابن عباس ، في قول الله( لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ ) قال : ما حلف الله تعالى بحياة أحد إلا بحياة محمد صلى الله عليه وسلم ، قال : وحياتك يا محمد وعمرك وبقائك في الدنيا( إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ ).
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله( لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ ) وهي كلمة من كلام العرب ، لفي سكرتهم : أي في ضلالتهم يعمهون : أي يلعبون.
حدثنا ابن وكيع ، قال : ثنا أبي ، عن سفيان ، قال : سألت الأعمش ، عن قوله( لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ ) قال : لفي غفلتهم يتردّدون.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : ثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن

(17/118)


فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ (74) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ (75)

قتادة : ( فِي سَكْرَتِهِم ) قال : في ضلالتهم يعمهون قال : يلعبون.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : ثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، قال : قال مجاهد( يَعْمَهُونَ ) قال : يتردّدون.
حدثني المثنى ، قال : ثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله( لَعَمْرُكَ) يقول : لَعَيْشُكَ( إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ ) قال : يتمادَوْن.
حدثني أبو السائب ، قال : ثنا معاوية ، عن الأعمش ، عن إبراهيم ، قال : كانوا يكرهون أن يقول الرجل : لعمري ، يرونه كقوله : وَحَيَاتِي.
وقوله( فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ ) يقول تعالى ذكره : فأخذتهم صاعقة العذاب ، وهي الصيحة مشرقين : يقول : إذ أشرقوا ، ومعناه : إذ أشرقت الشمس ، ونصب مشرقين و مصبحين على الحال بمعنى : إذا أصبحوا ، وإذ أشرقوا ، يقال منه : صيح بهم ، إذا أهلكوا.
وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج( فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ ) قال : حين أشرقت الشمس ذلك مشرقين.
القول في تأويل قوله تعالى : { فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ (74) إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ (75) }
يقول تعالى ذكره : فجعلنا عالي أرضهم سافلها ، وأمطرنا عليهم حِجارة من سجيل (1) .
كما حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، عن عكرمة( وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ ) أي من طين.
__________
(1) لعل الأصل ( من سجيل) : أي من طين ، كما يظهر بتأمل .

(17/119)


وقوله( إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ ) يقول : إن في الذي فعلنا بقوم لوط من إهلاكهم ، وأحللنا بهم من العذاب لَعَلامات ودلالات للمتفرّسين المعتبرين بعلامات الله ، وعبره على عواقب أمور أهل معاصيه والكفر به. وإنما يعني تعالى ذكره بذلك قوم نبيّ الله صلى الله عليه وسلم من قريش ، يقول : فلقومك يا محمد في قوم لوط ، وما حلّ بهم من عذاب الله حين كذّبوا رسولهم ، وتمادوا في غيهم ، وضلالهم ، مَعْتَبَر.
وبنحو الذي قلنا في معنى قوله( لِلْمُتَوَسِّمِينَ ) قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني عبد الأعلى بن واصل قال : ثنا يعلى بن عبيد ، قال : ثنا عبد الملك بن أبي سليمان ، عن قيس ، عن مجاهد ، في قوله( إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ ) قال : للمتفرّسين.
حدثنا ابن وكيع ، قال : ثنا ابن فضيل ، عن عبد الملك ، وحدثنا الحسن الزعفراني ، قال : ثني محمد بن عبيد ، قال : ثني عبد الملك ، عن قيس ، عن مجاهد( إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ ) قال للمتفرّسين.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، وحدثنا الحسن بن محمد ، قال : ثنا شبابة ، قال : ثنا ورقاء ، وحدثني المثنى ، قال : ثنا أبو حُذيفة ، قال : ثنا شبل ، وحدثنا ابن وكيع ، قال : ثنا أبو أسامة ، قال : ثنا شبل جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، قال : المتوسمين ، المتفرّسين ، قال : توسَّمت فيك الخير نافلة.
حدثنا ابن وكيع ، قال : ثنا أبي ، عن سفيان ، عن عبد الملك بن أبي سليمان ، عن قيس ، عن مجاهد( إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ ) قال : المتفرّسين.

(17/120)


حدثني المثنى ، قال : ثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس : ( إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ ) يقول : للناظرين.
حدثنا ابن وكيع ، قال : ثنا محمد بن يزيد ، عن جويبر ، عن الضحاك( لِلْمُتَوَسِّمِينَ ) قال للناظرين.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ ) : أي للمعتبرين.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال : ثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، قوله( لِلْمُتَوَسِّمِينَ ) أي : للمعتبرين.
حدثني محمد بن عُمارة ، قال : ثني حسن بن مالك ، قال : ثنا محمد بن كثير ، عن عمرو بن قيس ، عن عطية ، عن أبي سعيد ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " اتَّقُوا فِرَاسَةَ الْمُؤْمِنِ فَإِنَّهُ يَنْظُرُ بِنُورِ اللَّهِ. ثم قال النبيّ صلى الله عليه وسلم : ( إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ ) " .
حدثنا أحمد بن محمد الطُّوسي ، قال : ثنا محمد بن كثير مولى بني هاشم ، قال : ثنا عمرو بن قيس المُلائِي ، عن عطية ، عن أبي سعيد ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، بمثله.
حدثني أحمد بن محمد الطوسي ، قال : ثنا الحسن بن محمد ، قال : ثنا الفُرات بن السائب ، قال : ثنا ميمون بن مهران ، عن ابن عمر ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " اتَّقُوا فِرَاسَةَ الْمُؤْمِنِ فَإِنَّ المُؤْمِنِ يَنْظُرُ بِنُورِ اللَّهِ " .
حدثنا عبد الأعلى بن واصل ، قال : ثني سعيد بن محمد الجَرْميّ ، قال : ثنا عبد الواحد بن واصل ، قال : ثنا أبو بشر المزلق ، عن ثابت البُنَانِيّ ، عن أنس ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إِنَّ لِلَّهِ عِبَادًا يَعْرِفُونَ النَّاسَ بِالتَّوَسُّمِ " .
حدثني يونس بن عبد الأعلى ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله( إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ ) قال : المتفكرون والمعتبرون الذين يتوسمون الأشياء ، ويتفكرون فيها ويعتبرون.

(17/121)


وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ (76) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (77)

حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : ثنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله( لِلْمُتَوَسِّمِينَ ) يقول : للناظرين.
حدثني أبو شرحبيل الحمْصِي ، قال : ثنا سليمان بن سلمة ، قال : ثنا المؤمل بن سعيد بن يوسف الرحبيّ ، قال : ثنا أبو المعلَّى أسد بن وداعة الطائيّ ، قال : ثنا وهب بن منبه ، عن طاوس بن كيسان ، عن ثَوْبان ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " احْذَرُوا فِرَاسَةَ الْمُؤْمِنِ فَإِنَّهُ يَنْظُرُ بِنُورِ اللَّهِ ، وَيَنْطِقُ بِتَوْفِيقِ اللَّهِ " .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ (76) إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (77) }
يقول تعالى ذكره : وإن هذه المدينة ، مدينة سَدُوم ، لبطريق واضح مقيم يراها المجتاز بها لا خفاء بها ، ولا يبرح مكانها ، فيجهل ذو لبّ أمرها ، وغبّ معصية الله ، والكفر به.
وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن وكيع ، قال : ثنا ابن نمير ، عن ورقاء ، وحدثنا الحسن بن محمد ، قال : ثنا شبابة ، قال : ثنا ورقاء ، وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، وحدثني المثنى ، قال : ثنا إسحاق ، قال : ثنا عبد الله ، عن ورقاء ، وحدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله( وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ ) قال : لبطريق معلم.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ ) يقول : بطريق واضح.

(17/122)


وَإِنْ كَانَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ لَظَالِمِينَ (78) فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُبِينٍ (79)

67 حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله( وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ ) قال : طريق ، السبيل : الطريق.
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : ثنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله( لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ ) يقول : بطريق معلم.
وقوله( إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ ) يقول تعالى ذكره : إن في صنيعنا بقوم لوط ما صنعنا بهم ، لعلامة ودلالة بينة لمن آمن بالله على انتقامه من أهل الكفر به ، وإنقاذه من عذابه ، إذا نزل بقوم أهل الإيمان به منهم.
كما حدثنا محمد بن بشار ، قال : ثنا أبو أحمد ، قال : ثنا سفيان ، عن سماك ، عن سعيد بن جبير ، في قوله( إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً ) قال : هو كالرجل يقول لأهله : علامة ما بيني وبينكم أن أرسل إليكم خاتمي ، أو آية كذا وكذا.
حدثنا ابن وكيع ، قال : ثنا أبو أسامة ، عن سفيان ، عن سماك ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس( إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً ) قال : أما ترى الرجل يرسل بخاتمه إلى أهله فيقول : هاتوا خذي ، هاتوا خذي ، فإذا رأوه علموا أنه حقّ.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَإِنْ كَانَ أَصْحَابُ الأَيْكَةِ لَظَالِمِينَ (78) فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُبِينٍ (79) }
يقول تعالى ذكره : وقد كان أصحاب الغَيْضة ظالمين ، يقول : كانوا بالله كافرين ، والأيكة : الشجر الملتف المجتمع ، كما قال أمية :

(17/123)


كَبُكا الحَمامِ عَلى فُرُو... عِ الأَيْكِ في الغُصُنِ الجَوَانِحْ (1)
وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا إسحاق بن إبراهيم بن حبيب بن الشهيد ، قال : ثنا عتاب بن بشير ، عن خصيف ، قال ، قوله( أَصْحَابُ الأَيْكَةِ ) قال : الشجر ، وكانوا يأكلون في الصيف الفاكهة الرطبة ، وفي الشتاء اليابسة.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله( وَإِنْ كَانَ أَصْحَابُ الأَيْكَةِ لَظَالِمِينَ ) ذكر لنا أنهم كانوا أهل غيضة. وكان عامَّة شجرهم هذا الدَّوْم. وكان رسولهم فيما بلغنا شُعَيب صلى الله عليه وسلم ، أرسل إليهم وإلى أهل مدين ، أرسل إلى أمتين من الناس ، وعذّبتا بعذابين شتى. أما أهل مدين ، فأخذتهم الصيحة ، وأما أصحاب الأيكة ، فكانوا أهل شجر متكاوس ، ذُكر لنا أنه سلَّط عليهم الحرّ سبعة أيام ، لا يظللهم منه ظلّ ، ولا يمنعهم منه شيء ، فبعث الله عليهم سحابة ، فحَلُّوا تحتها يلتمسون الرَّوْح فيها ، فجعلها الله عليهم عذابا ، بعث عليهم نارا فاضطرمت عليهم فأكلتهم ، فذلك عذاب يوم الظلَّة ، إنه كان عذاب يوم عظيم.
حدثني المثنى ، قال : ثنا إسحاق ، قال : ثنا عبد الرحمن بن أبي حماد ، قال : ثنا عمرو بن ثابت ، عن أبيه ، عن سعيد بن جبير ، قال : أصحاب الأيكة : أصحاب غَيْضَة.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، قال : قال ابن جريج ، قوله( وَإِنْ كَانَ أَصْحَابُ الأَيْكَةِ لَظَالِمِينَ ) قال : قوم شعيب ، قال ابن عباس : الأيكة ذات آجام وشجر كانوا فيها.
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : ثنا عبيد ، قال : سمعت
__________
(1) البيت لأمية بن أبي الصلت الثقفي ، ولم أجده في ديوانه ، ووجدته في سيرة ابن هشام ( 3 : 31 طبعة الحلبي ) من قصيدة له يرثي بها قتلى بدر وأولها أَلاَّ بَكَيْتِ عَلى الكِرَا ... مِ بَنِي الكِرَامِ أُولي المَمادِحْ
كبكا الحمام ... البيت . والأيك : الشجر الملتف ، واحدته أيكة ، والجوانح : الموائل . يقول : جنح : إذا مال . وفي ( اللسان أيك ) : الأيكة : الشجر الكثير الملتف . وقيل : هي الغيضة تنبت السد والأراك ونحوهما من ناعم الشجر ، وخص بعضهم به منت الأثل ومجتمعه .

(17/124)


الضحاك يقول : في قوله( أصحَابُ الأَيْكَةِ) قال : هم قوم شعيب ، والأيكة : الغيضة.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرنا عمرو بن الحارث ، عن سعيد بن أبي هلال ، عن عمرو بن عبد الله ، عن قتادة ، أنه قال : إن أصحاب الأيكة ، والأيكة : الشجر الملتفّ.
وقوله( فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُبِينٍ ) يقول تعالى ذكره : فانتقمنا من ظلمة أصحاب الأيكة. وقوله( وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُبِينٍ ) يقول : وإن مدينة أصحاب الأيكة ، ومدينة قوم لوط ، والهاء والميم في قوله( وإنَّهُما) من ذكر المدينتين.( لَبِإمامٍ ) يقول : لبطريق يأتمون به في سفرهم ، ويهتدون به(مُبِينٍ) يقول : يبين لمن ائتمّ به استقامته ، وإنما جعل الطريق إماما لأنه يُؤم ويُتَّبع.
وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى ، قال : ثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس ، قوله( وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُبِينٍ ) يقول : على الطريق.
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله( فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُبِينٍ ) يقول : طريق ظاهر.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، وحدثنا الحسن بن محمد ، قال : ثنا شبابة ، قال : ثنا ورقاء ، وحدثني المثنى. قال : ثنا إسحاق ، قال : ثنا عبد الله ، عن ورقاء ، وحدثني المثنى قال : ثنا أبو حذيفة ، قال : ثنا شبل جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله( وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُبِينٍ ) قال : بطريق معلم.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : ثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة( وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُبِينٍ ) قال : طريق واضح.
حُدثت عن الحسين قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله( لَبِإِمَامٍ مُبِينٍ ) بطريق مستبين.

(17/125)


وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحَابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ (80) وَآَتَيْنَاهُمْ آَيَاتِنَا فَكَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ (81) وَكَانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا آَمِنِينَ (82)

القول في تأويل قوله تعالى : { وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحَابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ (80) وَآتَيْنَاهُمْ آيَاتِنَا فَكَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ (81) }
يقول تعالى ذكره : ولقد كذب سكان الحجر ، وجعلوا لسكناهم فيها ومقامهم بها أصحابها ، كما قال تعالى ذكره : ( وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا ) فجعلهم أصحابها لسُكناهم فيها ومقامهم بها. والحجر : مدينة ثمود.
وكان قتادة يقول في معنى الحجر ، ما حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : ثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : أصحاب الحجر : قال : أصحاب الوادي.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرني يونس ، عن ابن شهاب ، وهو يذكر الحِجْر مساكن ثمود قال : قال سالم بن عبد الله : إن عبد الله بن عمر قال : " مررنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على الحجر ، فقال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا تَدْخُلُوا مَسَاكِنَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ إِلا أَنْ تَكُونُوا بَاكِينَ حَذَرًا أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَهُمْ ، ثم زجر فأسرع حتى خلفها).
حدثنا زكريا بن يحيى بن أبان المصريّ ، قال : ثنا أبو يوسف يعقوب بن إسحاق بن أبي عباد المكي ، قال : ثنا داود بن عبد الرحمن ، عن عبد الله بن عثمان بن خثيم ، عن ابن سابط ، عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وهو بالحجر : " هَؤُلاءِ قَوْمُ صَالِحٍ أهْلَكَهُمُ اللَّهُ إلا رَجُلا كانَ فِي حَرَمِ الله مَنَعَهُ حَرَمُ اللَّهِ مَنْ عَذَابِ اللَّهِ ، قيل : يا رسول الله من هو ؟ قال : أبُو رِغالٍ " .
وقوله( وَآتَيْنَاهُمْ آيَاتِنَا فَكَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ ) يقول : وأريناهم أدلتنا وحججنا على حقيقة ما بعثنا به إليهم رسولنا صالحا ، فكانوا عن آياتنا التي آتيناهموها معرضين لا يعتبرون بها ولا يتعظون.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَكَانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا آمِنِينَ (82)

(17/126)


فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ (83) فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (84) وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآَتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ (85) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ (86)

فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ (83) فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (84) }
يقول تعالى ذكره : وكان أصحاب الحجر ، وهم ثمود قوم صالح ، ( يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا آمِنِينَ ) من عذاب الله ، وقيل : آمنين من الخراب أن تخرب بيوتهم التي نحتوها من الجبال. وقيل : آمنين من الموت. وقوله( فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ ) يقول : فأخذتهم صيحة الهلاك حين أصبحوا من اليوم الرابع من اليوم الذي وُعدوا العذاب ، وقيل لهم : تَمتَّعوا في داركم ثلاثة أيام. وقوله( فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ) يقول : فما دفع عنهم عذاب الله ما كانوا يجترحون من الأعمال الخبيثة قبل ذلك.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلا بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ (85) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلاقُ الْعَلِيمُ (86) }
يقول تعالى ذكره : وما خلقنا الخلائق كلها ، سماءها وأرضَها ، ما فيهما وما بينهما ، يعني بقوله( وَمَا بَيْنَهُمَا ) مما في أطباق ذلك( إِلا بِالْحَقِّ ) يقول : إلا بالعدل والإنصاف ، لا بالظلم والجور ، وإنما يعني تعالى ذكره بذلك : أنه لم يظلم أحدا من الأمم التي اقتصّ قَصَصَهَا في هذه السورة ، وقصص إهلاكه إياها بما فعل به من تعجيل النقمة له على كفره به ، فيعذّبه ويهلكه بغير استحقاق ، لأنه لم يخلق السموات والأرض وما بينهما بالظلم والجور ، ولكنه خلق ذلك بالحقّ والعدل. وقوله( وَإِنَّ السَّاعَةَ لآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ ) يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : وإن الساعة ، وهي الساعة التي تقوم فيها القيامة لجائية ، فارض بها لمشركي قومك الذين كذّبوك ، وردّوا عليك ما جئتهم به من الحقّ ، ( فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ ) يقول : فأعرض عنهم إعراضا جميلا واعف عنهم

(17/127)


وَلَقَدْ آَتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآَنَ الْعَظِيمَ (87)

عفوًا حسنا وقوله( إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلاقُ الْعَلِيمُ ) يقول تعالى ذكره : إن ربك هو الذي خلقهم وخلق كلّ شيء ، وهو عالم بهم وبتدبيرهم ، وما يأتون من الأفعال ، وكان جماعة من أهل التأويل تقول : هذه الآية منسوخة.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله( فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ ) ثم نسخ ذلك بعد ، فأمره الله تعالى ذكره بقتالهم حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله ، لا يقبل منهم غيره.
حدثني المثنى ، قال : ثنا سويد بن نصر ، قال : أخبرنا ابن المبارك ، عن جويبر ، عن الضحاك ، في قوله( فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ ) ، ( فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ )( وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ ) و( قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ ) وهذا النحوُ كله في القرآن أمر الله به نبيه صلى الله عليه وسلم أن يكون ذلك منه ، حتى أمره بالقتال ، فنسخ ذلك كله. فقال( وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ ) .
حدثنا ابن وكيع ، قال : ثنا أبي ، عن إسرائيل ، عن جابر ، عن مجاهد( فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ ) قال : هذا قبل القتال.
حدثني المثنى ، قال : أخبرنا إسحاق ، قال : ثنا عبد الله بن الزبير ، عن سفيان بن عيينة ، في قوله : ( فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ ) وقوله( وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ ) قال : كان هذا قبل أن ينزل الجهاد. فلما أمر بالجهاد قاتلهم فقال : " أَنَا نَبِيُّ الرِّحْمَةِ ونَبِيُّ المَلْحَمَةِ ، وبُعِثْتُ بالحصادِ وَلمْ أبْعَثْ بالزِّرَاعَةِ " .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ (87) }
اختلف أهل التأويل في معنى السبع الذي أتى الله نبيه صلى الله عليه وسلم من المثاني ، فقال بعضهم عني بالسبع : السبع السور من أوّل القرآن اللواتي يُعْرفن بالطول ،

(17/128)


وقائلو هذه المقالة مختلفون في المثاني ، فكان بعضهم يقول : المثاني هذه السبع ، وإنما سمين بذلك لأنهن ثُنْي فيهنّ الأمثالُ والخبرُ والعِبَر.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا أبو كريب ، قال : ثنا ابن يمان ، عن سفيان ، عن يونس ، عن ابن سيرين ، عن ابن مسعود في قوله( وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي ) قال : السبع الطُّوَل.
حدثنا أبو كريب ، قال : ثنا ابن يمان ، عن سفيان ، عن سعيد الجريريّ ، عن رجل ، عن ابن عمر قال : السبع الطُّوَل.
حدثنا أبو كريب ، قال : ثنا ابن يَمان ، عن سفيان ، عن منصور ، عن مجاهد ، عن ابن عباس ، في قوله( وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي ) قال : السبع الطُّوَل.
حدثنا ابن وكيع ، قال : ثنا أبي ، عن سفيان ، عن منصور ، عن مجاهد ، عن ابن عباس ، مثله.
حدثني المثنى ، قال : ثنا عمرو بن عون ، قال : أخبرنا هشيم ، عن الحجاج ، عن الوليد بن العيزار ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال : هنّ السبع الطُّوَل ، ولم يُعطَهن أحد إلا النبيَّ صلى الله عليه وسلم ، وأُعطيَ موسى منهنّ اثنتين.
حدثنا ابن وكيع ، وابن حميد ، قالا ثنا جرير ، عن الأعمش ، عن مسلم البَطين ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال : أوتي النبيّ صلى الله عليه وسلم سبعا من المثاني الطُّوَل ، وأوتي موسى ستا ، فلما ألقي الألواح رفعت اثنتان وبقيت أربع.
حدثنا الحسن بن محمد ، قال : ثنا عليّ بن عبد الله بن جعفر ، قال : ثنا جرير ، عن الأعمش ، عن مسلم البطين ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، مثله.
حدثنا ابن وكيع ، قال : ثنا يحيى بن ادم ، عن إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن مسلم البطين ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، في قوله( سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي ) قال : البقرة ، وآل عمران ، والنساء ، والمائدة ، والأنعام ، والأعراف. قال إسرائيل : وذكر السابعة فنسيتها.

(17/129)


حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : ثنا هشيم ، عن أبي بشر ، عن سعيد بن جبير ، في قوله( وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي ) قال : هي الطُّوَل : البقرة ، وآل عمران ، والنساء ، والمائدة ، والأنعام ، والأعراف ، ويونس.
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا محمد بن جعفر ، قال : ثنا شعبة ، عن أبي بشر ، عن سعيد بن جبير في هذه الآية( وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ ) قال : البقرة ، وآل عمران ، والنساء والمائدة والأنعام ، والأعراف ، ويونس ، فيهنّ الفرائض والحدود.
حدثنا ابن وكيع ، قال : ثنا أبي ، عن شعبة ، عن أبي بشر ، عن سعيد بن جبير ، بنحوه.
حدثنا ابن وكيع ، قال : ثنا أبي ، عن ابن أبي خالد ، عن خوّات ، عن سعيد بن جبير ، قال : السبع ، الطُّوَل.
حدثني يعقوب ، قال : ثنا هشيم ، قال أبو بشر : أخبرنا عن سعيد بن جبير ، قال : هنّ السبع الطُّوَل. قال : وقال مجاهد هن السبع الطُّوَل. قال : ويقال : هنّ القرآن العظيم.
حدثنا الحسن بن محمد ، قال : ثنا شبابة ، قال : ثنا سعيد ، عن جعفر ، عن سعيد ، في قوله( سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ ) قال : البقرة ، وآل عمران ، والنساء ، والمائدة ، والأنعام ، والأعراف ، ويونس ، تُثْنى فيها الأحكام والفرائض.
حدثنا الحسن بن محمد بن الصباح ، قال : ثنا هشيم ، عن أبي بشر ، عن سعيد بن جبير ، قال : هن السبع الطُّوَل.
حدثنا الحسن بن محمد ، قال : ثنا سعيد بن منصور ، قال : ثنا هشيم ، قال : أخبرنا أبو بشر ، عن سعيد بن جبير ، في قوله( سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي ) قال : البقرة ، وآل عمران ، والنساء ، والمائدة ، والأنعام ، والأعراف ، ويونس. قال : قلت : ما المثاني ؟ قال : يثني فيهنّ القضاء والقَصَص.
حدثنا أحمد بن إسحاق ، قال : ثنا أبو أحمد ، قال : ثنا إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن مسلم البطين ، عن سعيد بن جبير( وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي ) قال : البقرة ، وآل عمران ، والنساء ، والمائدة ، والأنعام ، والأعراف ، ويونس.

(17/130)


حدثنا أحمد ، قال : ثنا أبو أحمد ، قال : ثنا سفيان عن عبد الله بن عثمان بن خثيم ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال : السبع الطُّوَل.
حدثنا الحسن بن محمد ، قال : ثنا أبو خالد القرشي ، قال : ثنا سفيان ، عن عبد الله بن عثمان بن خثيم عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، مثله.
حدثنا الحسن بن محمد ، قال : ثنا أبو خالد ، عن سفيان ، عن أبي إسحاق ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، مثله.
حدثنا الحسن بن محمد ، قال : ثنا سفيان ، عن الأعمش ، عن مسلم البطين ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، مثله.
حدثنا أبو كريب ، قال : ثنا ابن إدريس ، قال : سمعت ليثا ، عن مجاهد ، قال : هي السبع الطُّوَل.
حدثنا الحسن بن محمد بن عبيد الله ، قال : ثنا عبد الملك ، عن قيس ، عن مجاهد ، في قوله( وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي ) قال : هي السبع الطُّوَل.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قول الله تعالى : ( وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ ) قال : من القرآن السبع الطُّوَل السبع الأول
حدثنا الحسن بن محمد ، قال : ثنا شبابة ، قال : ثنا ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله.
حدثنا ابن وكيع ، قال : ثنا ابن فضيل وابن نمير ، عن عبد الملك ، عن قيس ، عن مجاهد ، قال : هنّ السبع الطُّوَل.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : ثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قال : السبع الطُّوَل.
حدثنا أبو كريب ، قال : ثنا ابن نمير ، عن سفيان ، عن عبد الله بن عثمان بن خُثَيم ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال : هي الأمثال والخَبَر والعِبَر.

(17/131)


حدثنا ابن وكيع ، قال : ثنا ابن نمير ، عن إسماعيل ، عن خوّات ، عن سعيد بن جبير ، قال : هي السبع الطُّوَل ، أعطِيَ موسى ستا ، وأُعطِيَ محمد صلى الله عليه وسلم سبعا.
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ ، يقول : ثنا عبيد ، قال. سمعت الضحاك يقول ، في قوله( سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي ) يعني السبع الطُّوَل.
وقال آخرون : عني بذلك : سبع آيات ، وقالوا : هن آيات فاتحة الكتاب ، لأنهنّ سبع آيات ، وهم أيضا مختلفون في معنى المثاني ، فقال بعضهم : إنما سمين مثاني لأنهن يثنين في كلّ ركعة من الصلاة.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : أخبرنا ابن علية ، عن سعيد الجريري ، عن أبي نضرة ، قال : قال رجل منا يقال له : جابر أو جويبر طلبت إلى عمر حاجة في خلافته ، فقدمت المدينة ليلا فمثلت بين أن أتخذ منزلا وبين المسجد ، فاخترت المسجد منزلا فأرقت نشوا من آخر الليل ، فإذا إلى جنبي رجل يصلي يقرأ بأم الكتاب ، ثم يسبح قدر السورة ، ثم يركع ولا يقرأ ، فلم أعرفه حتى جَهَر ، فإذا هو عُمر ، فكانت في نفسي ، فغدوت عليه فقلت : يا أمير المؤمنين حاجة مع حاجة ، قال : هات حاجتك ، قلت : إني قدمت ليلا فمثلت بين أن أتخذ منزلا وبين المسجد ، فاخترت المسجد ، فأرقت نَشْوا من آخر الليل ، فإذا إلى جنبي رجل يقرأ بأم الكتاب ، ثم يسبح قدر السورة ثم يركع ولا يقرأ ، فلم أعرفه حتى جَهَر ، فإذا هو أنت ، وليس كذلك نفعل قِبلَنَا. قال : وكيف تفعلون ؟ قال : يقرأ أحدنا أمّ الكتاب ، ثم يفتتح السورة فيقرؤها ، قال : ما لهم يعلَمُون ولا يعمَلُون ، ما لهم يعلَمون ولا يعمَلُون ، ما لهم يعلَمُون ولا يعمَلُون ؟ وما تبغي عن السبع المثاني ، وعن التسبيح صلاة الخلق.
حدثني طُلَيق بن محمد الواسطيّ ، قال : أخبرنا يزيد ، عن الجريريّ ، عن أبي نضرة ، عن جابر أو جويبر ، عن عُمر بنحوه ، إلا أنه قال : فقال يقرأ القرآن ما تيسر أحيانا ، ويسبح أحيانا ، ما لهم رغبة عن فاتحة الكتاب ، وما يبتغي بعد المثاني ، وصلاة الخلق التسبيح.

(17/132)


حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا يحيى ، قال : ثنا سفيان ، عن السديّ ، عن عبد خير ، عن عليّ ، قال : السبع المثاني : فاتحة الكتاب.
حدثنا نصر بن عبد الرحمن ، قال : ثنا حفص بن عمر ، عن الحسن بن صالح وسفيان ، عن السديّ ، عن عبد خير ، عن عليّ مثله.
حدثنا أبو كريب ، قال : ثنا ابن يمان ، عن سفيان ، عن السدي ، عن عبد خير ، عن عليّ مثله.
حدثنا ابن وكيع ، قال : ثنا أبي ، وحدثنا أحمد بن إسحاق ، قال : ثنا أبو أحمد جميعا ، عن سفيان ، عن السديّ ، عن عبد خير ، عن عليّ ، مثله.
حدثنا أبو كريب " وابن وكيع " ، قالا ثنا ابن إدريس ، قال : ثنا هشام ، عن ابن سيرين ، قال : سئل ابن مسعود عن سبع من المثاني ، قال : فاتحة الكتاب.
حدثني يعقوب ، قال : ثنا ابن عُلَية ، قال : أخبرنا يونس ، عن الحسن ، في قوله( وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي ) قال : فاتحة الكتاب ، قال : وقال ابن سيرين عن ابن مسعود : هي فاتحة الكتاب.
حدثني المثنى ، قال : ثنا عمرو بن عون ، قال : أخيرنا هشيم ، عن يونس ، عن ابن سيرين ، عن ابن مسعود( سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي ) قال : فاتحة الكتاب.
حدثني سعيد بن يحيى الأمَويُّ ، قال : ثني أبي ، قال : ثنا ابن جريج ، قال : أخبرنا أبي ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، أنه قال في قول الله تعالى( وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي ) قال : هي فاتحة الكتاب ، فقرأها عليّ ستا ، ثم قال : بسم الله الرحمن الرحيم الآية السابعة ، قال سعيد : وقرأها ابن عياش عليّ كما قرأها عليك ، ثم قال الآية السابعة : بسم الله الرحمن الرحيم ، فقال ابن عباس : قد أخرجها الله لكم وما أخرجها لأحد قبلكم.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخيرني ابن جريج ، أن أباه حدّثه ، عن سعيد بن جبير ، قال : قال لي ابن عباس : فاستفتح ببسم الله الرحمن الرحيم ، ثم قرأ فاتحة الكتاب ، ثم قال : تدري ما هذا( وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي ).

(17/133)


حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله( وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي ) يقول : السبع : الحمد لله ربّ العالمين ، والقرآن العظيم. ويقال : هنّ السبع الطول ، وهن المئون.
حدثنا أحمد ، قال : ثنا أبو أحمد ، قال : ثنا سفيان ، عن ابن جريج ، عن أبيه ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال : فاتحة الكتاب.
حدثني عمران بن موسى القزاز ، قال : ثنا عبد الوارث ، قال : ثنا إسحاق بن سويد ، عن يحيى بن يعمر وعن أبي فاختة في هذه الآية( وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ ) قالا هي أمّ الكتاب.
حدثني المثنى ، قال : ثنا وهب بن جرير ، قال : ثنا شعبة ، عن السديّ عمن سمع عليا يقول : الحمد لله ربّ العالمين ، هي السبع المثاني.
حدثنا أبو المثنى ، قالا ثنا محمد بن جعفر ، قال : ثنا شعبة ، قال : سمعت العلاء بن عبد الرحمن ، يحدّث عن أبيه ، عن أبيّ بن كعب ، أنه قال : السبع المثاني : الحمد لله ربّ العالمين.
حدثنا أبو كريب ، قال : ثنا ابن يمان ، عن أبي جعفر الرازي ، عن الربيع ، عن أبي العالية ، في قول الله تعالى( وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي ) قال : فاتحة الكتاب سبع آيات ، قلت للربيع : إنهم يقولون : السبع الطول ، فقال : لقد أنزلت هذه ، وما أنزل من الطول شيء.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن أبي جعفر الرازيّ ، عن الربيع بن أنس ، عن أبي العالية ، قال : فاتحة الكتاب. قال : وإنما سميت المثاني لأنه يثني بها كلما قرأ القرآن قرأها ، فقيل لأبي العالية : إن الضحاك بن مزاحم يقول : هي السبع الطُول. فقال : لقد نزلت هذه السورة سبعا من المثاني وما أنزل شيء من الطُول.

(17/134)


حدثنا أبو كريب ، قال : ثنا ابن يمان ، قال : ثنا سفيان ، عن أبيه ، عن سعيد بن جبير ، قال : فاتحة الكتاب.
حدثنا أبو كريب ، قال : ثنا ابن يمان ، وحدثنا ابن وكيع ، قال : ثنا أبي جميعا ، عن سفيان ، عن الحسن بن عبيد الله ، عن إبراهيم ، قال : فاتحة الكتاب.
حدثنا أحمد بن إسحاق ، قال : ثنا أبو أحمد ، قال : ثنا سفيان ، عن الحسن بن عبيد الله ، عن إبراهيم مثله.
حدثنا أبو كريب ، قال : ثنا ابن يمان ، وحدثنا ابن وكيع ، قال : ثنا أبي ، وحدثنا أحمد بن إسحاق ، قال : ثنا أبو أحمد جميعا ، عن هارون بن أبي إبراهيم البربري ، عن عبد الله بن عبيد بن عمير ، قال : السبع من المثاني : فاتحة الكتاب.
حدثنا أبو كريب ، قال : ثنا ابن يمان ، عن ابن جريج ، عن أبي مليكة( وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي ) قال : فاتحة الكتاب. قال : وذكر فاتحة الكتاب لنبيكم صلى الله عليه وسلم لم تذكر لنبيّ قبله.
حدثنا أبو كريب ، قال : ثنا ابن إدريس ، عن ليث ، عن شهر بن حوشب ، في قوله( وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي ) قال : فاتحة الكتاب.
حدثني محمد بن أبي خداش ، قال : ثنا محمد بن عبيد ، قال : ثنا هارون البربري ، عن عبد الله بن عبيد بن عمير الليثي في قول الله تعالى( وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي ) قال : هي الحمد لله ربّ العالمين.
حدثني يعقوب ، قال : ثنا ابن علية ، عن أبي رجاء ، قال : سألت الحسن ، عن قوله تعالى( وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ ) قال : هي فاتحة الكتاب ، ثم سئل عنها وأنا أسمع ، فقرأها : الحمد لله ربّ العالمين ، حتى أتى على آخرها ، فقال : تثنى في كلّ قراءة.
حدثنا أحمد ، قال : ثنا أبو أحمد ، قال : ثنا إسرائيل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قال : فاتحة الكتاب.
حدثنا أحمد ، قال : ثنا أبو أحمد ، قال : ثنا شريك ، عن ليث ، عن مجاهد ، قال : فاتحة الكتاب.

(17/135)


حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ ) ذكر لنا أنهنّ فاتحة الكتاب ، وأنهن يثنين في كلّ قراءة.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : ثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة( سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي ) قال : فاتحة الكتاب تُثْنى في كل ركعة مكتوبة وتطوّع.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثنا حماد بن زيد وحجاج ، عن ابن جريج ، قال : أخبرني أبي عن سعيد بن جبير ، أنه أخبره أنه سأل ابن عباس عن السبع المثاني ، فقال : أمّ القرآن ، قال سعيد : ثم قرأها ، وقرأ منها( بسم الله الرحمن الرحيم) قال أبي : قرأها سعيد كما قرأها ابن عباس ، وقرأ فيها بسم الله الرحمن الرحيم ، قال سعيد : قلت لابن عباس : فما المثاني ؟ قال : هي أمّ القران ، استثناها الله لمحمد صلى الله عليه وسلم ، فرفعها في أمّ الكتاب ، فذخرها لهم حتى أخرجها لهم ، ولم يُعطها لأحد قبله ، قال : قلت لأبي : أخبرك سعيد أن ابن عباس قال له : بسم الله الرحمن الرحيم ، آية من القرآن ؟ قال : نعم. قال ابن جريج : قال عطاء : فاتحة الكتاب ، وهي سبع ببسم الله الرحمن الرحيم ، والمثاني : القرآن.
حدثني المثنى ، قال : ثنا أبو حذيفة ، قال : ثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن عطاء ، أنه قال : السبع المثاني : أمّ القرآن.
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا يحيى بن واضح ، قال : ثنا عبد الله العتكي ، عن خالد الحنفي قاضي مرو في قوله( وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي ) قال : فاتحة الكتاب.
وقال آخرون : عني بالسبع المثاني : معاني القرآن.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني إسحاق بن إبراهيم بن حبيب الشهيد الشهيديّ ، قال : ثنا عتاب بن بشير ، عن خَصِيف ، عن زياد بن أبي مريم ، في قوله( سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي ) قال : أعطيتك سبعة أجزاء : مُرْ ، وأنْهَ ، وبَشرْ ، وأنذِرْ ، واضرب الأمثال ، واعدُد النعم ، وآتيتك نبأ القرآن.

(17/136)


وقال آخرون : من الذين قالوا عُنِي بالسبع المثاني فاتحة الكتاب المثاني هو القرآن العظيم.
* ذكر من قال ذلك
حدثنا ابن وكيع ، قال : ثنا عمران بن عيينه ، عن حصين ، عن أبي مالك ، قال : القرآن كله مثاني.
حدثنا ابن وكيع ، قال : ثنا أبي ، عن سفيان ، عن حصين ، عن أبي مالك ، قال : القرآن كُلُّه مثاني.
حدثنا أحمد بن إسحاق ، قال : ثنا أبو أحمد ، قال : ثنا عبيد أبو زيد ، عن حصين ، عن أبي مالك ، قال : القرآن مثاني. وعدّ البقرة ، وآل عمران ، والنساء ، والمائدة ، والأنعام ، والأعراف ، وبراءة.
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، وعن ابن طاوس ، عن أبيه ، قال : القرآن كله يُثْنَى.
حدثنا محمد بن سعد ، قال : قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قال : المثاني : ما ثنى من القرآن ، ألم تسمع لقول الله تعالى ذكره : ( اللَّهُ نزلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ ).
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : ثنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول : المثاني : القرآن ، يذكر الله القصة الواحدة مرارا ، وهو قوله( نزلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ ).
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب ، قول من قال : عني بالسبع المثاني : السبع اللواتي هنّ آيات أم الكتاب ، لصحة الخبر بذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي حدّثنيه يزيد بن مخلد بن خِدَاش ، الواسطي ، قال : ثنا خالد بن عبد الله ، عن عبد الرحمن بن إسحاق ، عن العلاء ، عن أبيه ، عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أمّ القُرآنِ السَّبْعُ المَثانِي الَّتِي أعْطِيتُها " .
حدثني أحمد بن المقدام العجلي ، قال : ثنا يزيد بن زريع ، قال : ثنا روح بن القاسم ، عن أبيه ، عن أبي هريرة ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأبيّ : " إنّي أُحِبُّ أَنْ أُعَلِّمَكَ سُورَةً لَمْ يَنزلْ فِي التَّوْرَاةِ وَلا فِي الإنْجِيلِ وَلا فِي الزَّبُورِ وَلا

(17/137)


فِي الفُرْقانِ مِثْلُها قال نعم يا رسول الله ، قال : إنّي لأَرْجُو أنْ لا تَخْرُجَ مِنْ هَذَا البابِ حتى تَعْلَمَها ، ثم أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي يحدثني ، فجعلت أتباطأ مخافة أن يبلغ البابَ قبل أن ينقضي الحديث ، فلما دنوت قلت : يا رسول الله ما السورة التي وعدتني ؟ قال : ما تَقرأُ فِي الصَّلاةِ ؟ فقرأت عليه أمّ القرآن ، فقال : وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا أُنزلَ فِي التَّوْراةِ ولا في الإنْجِيلِ ولا في الزَّبُورِ ولا في الفُرْقان مِثْلُها ، إِنَّها السَّبْعُ مِن المَثاني والقُرآنُ العَظِيمُ الَّذِي أُعْطِيتُهُ " .
حدثنا أبو كريب ، قال : ثنا زيد بن حباب العكلي ، قال : ثنا مالك بن أنس ، قال : أخبرني العلاء بن عبد الرحمن بن يعقوب مولى لعروة ، عن أبي سعيد مولى عامر بن فلان ، أو ابن فلان ، عن أبيّ بن كعب ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له : " إذا افْتَتَحْت الصَّلاةَ بِم تَفْتَتِحُ ؟ قال : الحمد لله ربّ العالمين ، حتى ختمها ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " هِي السَّبْعُ المَثاني والقُرآنُ العَظِيمُ الَّذِي أُعْطيتُ " .
حدثنا أبو كريب ، قال : ثنا أبو أسامة ، عن عبد الحميد بن جعفر ، عن العلاء بن عبد الرحمن بن يعقوب ، عن أبيه ، عن أبي هريرة ، عن أبيّ ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ألا أُعَلِّمُك سُورَةً ما أُنزل فِي التَّوْراةِ ولا في الإنْجِيلِ وَلا فِي الزَّبُورِ ، ولا فِي الفُرْقانِ مِثْلُها ؟ قلت : بلى ، قال : إنّي لأَرْجُو أنْ لا تَخْرُج مِنْ ذَلِكَ البابِ حتى تَعْلَمَها ، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم وقمت معه ، فجعل يحدثني ويده في يدي ، فجعلت أتباطأ كراهية أن يخرج قبل أن يخبرني بها ، فلما قرب من الباب قلت : يا رسول الله السورة التي وعدتني ، قال : " كَيْفَ تَقْرأ إذَا افْتَتَحْتَ الصَّلاةَ ؟ قال : فقرأت فاتحة الكتاب ، قال : هِيَ هِيَ ، وَهِيَ السَّبْعُ المَثانِي الَّتِي قال اللَّهُ تَعالى( وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ ) - الّذِي أُوتِيتُ).
حدثنا أبو كريب ، قال : ثنا المحاربيّ ، عن إبراهيم بن الفضل المدنيّ ، عن سعيد المقبري ، عن أبي هريرة : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " الرِّكْعَتانِ اللَّتانِ لا يُقْرأُ فِيهِما كالخِدَاجِ لَمْ يُتِمَّا ، قال رجل : أرأيت إن لم يكن معي إلا أمّ القرآن ؟ قال : " هي حسبك هِيَ أمُّ القُرآنِ ، هِيَ السَّبْعُ المَثانِي " .

(17/138)


حدثنا أبو كريب ، قال : ثنا ابن نمير ، عن إبراهيم بن الفضل ، عن المقبري ، عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " الرِّكْعةُ الَّتي لا يُقْرأُ فِيها كالخِدَاجِ " قلت لأبي هريرة : فإن لم يكن معي إلا أمّ القرآن ؟ قال : هي حسبك ، هي أمّ الكتاب ، وأمّ القرآن ، والسبع المثاني.
حدثني أبو كريب ، قال : ثنا خالد بن مخلد ، عن محمد بن جعفر ، عن العلاء بن عبد الرحمن ، عن أبيه ، عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " وَالَّذِي نَفْسِي بِيدِهِ ، ما أنزلَ اللَّهُ فِي التَّوْراة وَلا فِي الإنْجِيلِ وَلا فِي الزَّبُورِ وَلا فِي الفُرْقانِ مِثْلَها ، يعني أمّ القرآن ، وإنَّها لَهِيَ السَّبْعُ المَثانِي الَّتِي آتانِي اللَّهُ تَعالى " .
حدثنا يونس بن عبد الأعلى ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرني ابن أبي ذئب ، عن سعيد المقبري ، عن أبي هريرة ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " هِيَ أُمُّ القُرآنِ ، وهِي فاتِحةُ الكِتابِ ، وهِي السَّبْعُ المَثانِي " .
حدثنا الحسن بن محمد ، قال : ثنا يزيد بن هارون وشبابة ، قالا أخبرنا ابن أبي ذئب ، عن المقبريّ ، عن أبي هريرة ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم في فاتحة الكتاب قال : " هِي فاتِحةُ الكِتابِ وهِي السَّبْعُ المَثانِي والقُرآنُ العَظِيمُ " .
حدثنا الحسن بن محمد ، قال : ثنا عفان ، قال : ثنا عبد الرحمن بن إبراهيم ، قال : ثنا العلاء ، عن أبيه ، عن أبي هريرة ، قال : مرّ رسول الله صلى الله عليه وسلم على أبيّ بن كعب فقال : " أَتُحِبُّ أَنْ أُعَلِّمَكَ سُورةً لَمْ يَنزلْ فِي التَّوْراةِ ولا في الإنْجِيلِ ولا في الزَّبُورِ ولا في الفُرْقان مِثْلُها ؟ قلت : نعم يا رسول الله ، قال : فَكَيْف تَقْرأُ فِي الصَّلاةِ ؟ فقرأت عليه أمّ الكتاب ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : والَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا أُنزلَتْ سُورةٌ فِي التَّوْراةِ وَلا فِي الإنْجِيلِ وَلا فِي الزَّبُورِ وَلا فِي الفُرْقان مِثْلُها ، وإنَّها السَّبْعُ المَثاني والقُرآنُ العَظِيمُ " .
حدثنا ابن المثنى ، قال : ثنا وهب بن جرير ، قال : ثنا سعيد بن حبيب ، عن حفص بن عاصم ، عن أبي سعيد بن المعلى ، أن النبيّ صلى الله عليه وسلم دعاه وهو يصلي ، فصلى ، ثم أتاه فقال : " ما مَنَعَكَ أنْ تُجِيبَنِي ؟ قال : إني كنت أصلي ، قال : ألَمْ يَقُلِ اللَّهُ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ )

(17/139)


قال : ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لأُعَلِّمَنَّكَ أَعْظَمَ سُورَةٍ فِي الْقُرْآن ، فكأنه بينها أو نسي ، فقلت : يا رسول الله الذي قلت : قال : الحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ هِيَ السَّبْعُ المَثانِي والقرآنُ الْعَظِيمُ الَّذِي أُوتِيتُهُ " .
فإذا كان الصحيح من التأويل في ذلك ما قلنا للذي به استشهدنا ، فالواجب أن تكون المثاني مرادا بها القرآن كله ، فيكون معنى الكلام : ولقد آتيناك سبع آيات مما يَثْنِي بعض آيه بعضا. وإذا كان ذلك كذلك كانت المثاني : جمع مَثْناة ، وتكون آي القرآن موصوفة بذلك ، لأن بعضها يَثْنِي بعضا ، وبعضها يتلو بعضا بفصول تفصل بينها. فيعرف انقضاء الآية وابتداء التي تليها ، كما وصفها به تعالى ذكره فقال( اللَّهُ نزلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ) وقد يجوز أن يكون معناها كما قال ابن عباس والضحاك : ومن قال ذلك أن القرآن إنما قيل له مَثَانِي لأن القصص والأخبار كرّرت فيه مرّة بعد أخرى. وقد ذكرنا قول الحسن البصريّ أنها إنما سميت مَثاني لأنها تُثْنَي في كلّ قراءة ، وقول ابن عباس : إنها إنما سميت مثاني ، لأن الله تعالى ذكره استثناها لمحمد صلى الله عليه وسلم دون سائر الأنبياء غيره ، فادّخرها له.
وكان بعض أهل العربية ، يزعم أنها سميت مَثَانِيَ لأن فيها الرحمن الرحيم مرّتين ، وأنها تُثْنَى في كلّ سورة ، يعني : بسم الله الرحمن الرحيم.
وأما القول الذي اخترناه في تأويل ذلك ، فهو أحد أقوال ابن عباس ، وهو قول طاوس ومجاهد وأبي مالك ، وقد ذكرنا ذلك قبل.
وأما قوله( وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ ) فإن القرآن معطوف على السبع ، بمعنى : ولقد آتيناك سبع آيات من القرآن ، وغير ذلك من سائر القرآن.
كما حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله( وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ ) قال : سائره : يعني سائر القرآن مع السبع من المثاني.
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : ثنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله( وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ ) يعني : الكتاب كله.

(17/140)


لَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ (88)

القول في تأويل قوله تعالى : { لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ (88) }
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : لا تتمنينّ يا محمد ما جعلنا من زينة هذه الدنيا متاعا للأغنياء من قومك ، الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر ، يتمتعون فيها ، فإن مِنْ ورائهم عذابًا غليظًا( وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ ) يقول : ولا تحزن على ما مُتعوا به فعجّل لهم. فإن لك في الآخرة ما هو خير منه ، مع الذي قد عَجَّلنا لك في الدنيا من الكرامة بإعطائنا السبع المثاني والقرآن العظيم ، يقال منه : مَدَّ فلانٌ عينه إلى مال فلان : إذا اشتهاه وتمناه وأراده.
وذُكر عن ابن عيينة أنه كان يتأوّل هذه الآية قولَ النبيّ صلى الله عليه وسلم : " لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يَتَغَنَّ بالقُرآن " : أي من لم يستغن به ، ويقول : ألا تراه يقول( وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ ) فأمره بالاستغناء بالقرآن عن المال ، قال : ومنه قول الآخر : من أوتي القرآن ، فرأى أن أحدا أعطي أفضل مما أعطي فقد عظَّم صغيرا وصغَّر عظيما.
وبنحو الذي قلنا في قوله(أزْوَاجًا )قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال ثنا ورقاء ، وحدثني المثنى ، قال : ثنا أبو حذيفة ، قال : ثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد( لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ ) : الأغنياء الأمثال الأشباه.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله.
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله( لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ ) قال : نُهِيَ الرجل أن يتمنى مال صاحبه.

(17/141)


وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ (89) كَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ (90)

وقوله( وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ ) يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : وألِن لمن آمن بك ، واتبعك واتبع كلامك ، وقرِّبهم منك ، ولا تجف بهم ، ولا تَغْلُظ عليهم ، يأمره تعالى ذكره بالرفق بالمؤمنين ، والجناحان من بني آدم : جنباه ، والجناحان : الناحيتان ، ومنه قول الله تعالى ذكره( وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ ) قيل : معناه : إلى ناحيتك وجنبك.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ (89) كَمَا أَنزلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ (90) }

(17/142)


الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآَنَ عِضِينَ (91)

القول في تأويل قوله تعالى : { الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ (91) }
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : وقل يا محمد للمشركين : إني أنا النذير الذي قد أبان إنذاره لكم من البلاء والعقاب أن ينزل بكم من الله على تماديكم في غيكم ، كما أنزلنا على المقتسمين : يقول : مثل الذي أنزل الله تعالى من البلاء والعقاب على الذين اقتسموا القرآن ، فجعلوه عِضين.
ثم اختلف أهل التأويل في الذين عُنُوا بقوله( المُقْتَسِمِينَ) ، فقال بعضهم : عني به : اليهود والنصارى ، وقال : كان اقتسامهم أنهم اقتسموا القرآن وعضوه ، فآمنوا ببعضه وكفروا ببعضه.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني عيسى بن عثمان الرملي ، قال : ثنا يحيى بن عيسى ، عن الأعمش ، عن أبي ظَبْيان ، عن ابن عباس ، في قوله الله : ( كَمَا أَنزلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ ) قال : هم اليهود والنصارى ، آمنوا ببعض ، وكفروا ببعض.
حدثنا أبو كريب ويعقوب بن إبراهيم ، قالا ثنا هشيم ، قال : أخبرنا أبو بشر ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، في قوله( كَمَا أَنزلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ ) قال : هم أهل الكتاب ، جزّءوه فجعلوه أعضاء أعضاء ، فآمنوا ببعضه ، وكفروا ببعضه.

(17/142)


حدثنا محمد بن بشار ، قال : ثنا مؤمل ، قال : ثنا سفيان ، عن الأعمش ، عن أبي ظبيان ، عن ابن عباس ، في قوله( كَمَا أَنزلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ ) قال : الذين آمنوا ببعض ، وكفروا ببعض.
حدثنا ابن المثنى ، قال : ثنا ابن أبي عديّ ، عن شعبة ، عن سليمان ، عن أبي ظبيان ، عن ابن عباس ، قال : ( المُقْتَسِمِينَ) أهل الكتاب.( الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ ) قال : يؤمنون ببعض ، ويكفرون ببعض.
حدثني مطر بن محمد الضَّبِّيُّ ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا شعبة ، قال : ثنا أبو بشر ، عن سعيد بن جبير ، أنه قال في قوله( كَمَا أَنزلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ ) قال : هم أهل الكتاب.
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا محمد بن جعفر ، قال : ثنا شعبة ، عن أبي بشر ، عن سعيد بن جبير أنه قال في هذه الآية( كَمَا أَنزلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ ) قال : هم أهل الكتاب ، آمنوا ببعضه ، وكفروا ببعضه.
حدثني المثنى ، قال : ثنا عمرو بن عون ، قال : ثنا هشيم ، قال : أخبرنا أبو بشر ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، في قوله( الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ ) قال : هم أهل الكتاب جزّءوه فجعلوه أعضاء ، فآمنوا ببعضه ، وكفروا ببعضه.
حدثني المثنى ، قال : ثنا عمرو بن عون ، قال : أخبرنا هشيم ، عن جويبر ، عن الضحاك ، عن ابن عباس ، قال : جزّءوه فجعلوه أعضاء كأعضاء الجزور.
حدثني المثنى ، قال : ثنا عمرو بن عون ، قال : أخبرنا هشيم ، عن منصور ، عن الحسن ، قال : هم أهل الكتاب.
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله( كَمَا أَنزلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ ) قال : هم اليهود والنصارى من أهل الكتاب قسموا الكتاب ، فجعلوه أعضاء ، يقول : أحزابا ، فآمنوا ببعض ، وكفروا ببعض.

(17/143)


حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قال ابن عباس : ( المُقْتَسِمِينَ) أهل الكتاب ، ولكنهم سموا المقتسمين ، لأن بعضهم قال استهزاء بالقرآن : هذه السورة لي ، وقال بعضهم : هذه لي.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن المثنى ، قال : ثنا محمد بن جعفر ، قال : ثنا شعبة ، عن سماك ، عن عكرمة أنه قال في هذه الآية( الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ ) قال : كانوا يستهزءون ، يقول هذا : لي سورة البقرة ، ويقول هذا : لي سورة آل عمران.
وقال آخرون : هم أهل الكتاب ، ولكنهم قيل لهم : المقتسمون : لاقتسامهم كتبهم ، وتفريقهم ذلك بإيمان بعضهم ببعضها ، وكفره ببعض ، وكفر آخرين بما آمن به غيرهم ، وإيمانهم بما كفر به الآخرون.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا جرير ، عن عبد الملك ، عن قيس ، عن مجاهد( كَمَا أَنزلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ ) قال : هم اليهود والنصارى ، قسموا كتابهم ففرّقوه. وجعلوه أعضاء.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال : ثني الحسن قال : ثنا ورقاء ، وحدثني المثنى ، قال : ثنا أبو حذيفة ، قال : ثنا شبل جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد( كَمَا أَنزلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ ) قال : أهل الكتاب فرقوه وبدّلوه.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد( كَمَا أَنزلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ ) قال : أهل الكتاب.
وقال آخرون : عُنِي بذلك رهط من كفار قريش بأعيانهم.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله( كَمَا أَنزلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ ) رهط خمسة من قريش ، عضَّهُوا كتاب الله.
وقال آخرون : عُنِي بذلك رهط من قوم صالح الذين تقاسموا على تبييت صالح وأهله.

(17/144)


* ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله( كَمَا أَنزلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ ) قال : الذين تقاسموا بصالح ، وقرأ قول الله تعالى( وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ ) قال : تقاسموا بالله حتى بلغ الآية.
وقال بعضهم : هم قوم اقتسموا طرق مكة أيام قدوم الحاجّ عليهم ، كان أهلها بعثوهم في عقابها ، وتقدموا إلى بعضهم أن يشيع في الناحية التي توجه إليها لمن سأله عن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم من القادمين عليهم ، أن يقول : هو مجنون ، وإلى آخر : إنه شاعر ، وإلى بعضهم : إنه ساحر.
والصواب من القول في ذلك عندي أن يقال : إن الله تعالى أمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يُعلم قومه الذين عضَّوا القرآن ففرقوه ، أنه نذير لهم من سخط الله تعالى وعقوبته ، أن يَحُلّ بهم على كفرهم ربهم ، وتكذيبهم نبيهم ، ما حلّ بالمقتسمين من قبلهم ومنهم ، وجائز أن يكون عني بالمقتسمين : أهل الكتابين : التوراة والإنجيل ، لأنهم اقتسموا كتاب الله ، فأقرّت اليهود ببعض التوراة وكذبت ببعضها ، وكذبت بالإنجيل والفرقان ، وأقرت النصارى ببعض الإنجيل وكذبت ببعضه وبالفرقان. وجائز أن يكون عُنِي بذلك : المشركون من قريش ، لأنهم اقتسموا القرآن ، فسماه بعضهم شعرا ، وبعض كهانة ، وبعض أساطير الأوّلين . وجائز أن يكون عُنِيَ به الفريقان ، وممكن أن يكون عني به المقتسمون على صالح من قومه ، فإذ لم يكن في التنزيل دلالة على أنه عُني به أحد الفرق الثلاثة دون الآخرين ، ولا في خبر عن الرسول صلى الله عليه وسلم ، ولا في فطرة عقل ، وكان ظاهر الآية محتملا ما وصفت ، وجب أن يكون مقتضيا بأن كلّ من اقتسم كتابا لله بتكذيب بعض وتصديق بعض ، واقتسم على معصية الله ممن حلّ به عاجل نقمة الله في الدار الدنيا قبل نزول هذه الآية ، فداخل في ذلك لأنهم لأشكالهم من أهل الكفر بالله ، كانوا عبرة ، وللمتعظين بهم منهم عِظَة.
واختلف أهل التأويل في معنى قوله( الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ ) فقال بعضهم : معناه : الذين جعلوا القرآن فِرَقا مفترقة.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى ، قال : ثنا عبد الله ، قال : ثني

(17/145)


معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله( الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ ) قال : فرقا.
حدثنا أبو كريب ويعقوب بن إبراهيم ، قالا ثنا هشيم ، قال : أخبرنا أبو بشر ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال : جزّءوه فجعلوه أعضاء ، فآمنوا ببعضه وكفروا ببعضه.
حدثني المثنى ، قال : ثنا عمرو بن عون ، قال : أخبرنا هشيم ، عن جويبر ، عن الضحاك ، عن ابن عباس ، قال : جزّءوه فجعلوه أعضاء كأعضاء الجزور.
حدثنا أحمد بن إسحاق ، قال : ثنا أبو أحمد ، قال : ثنا طلحة ، عن عطاء( الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ ) قال : المشركون من قريش ، عضُّوا القرآن فجعلوه أجزاء ، فقال بعضهم : ساحر ، وقال بعضهم : شاعر ، وقال بعضهم : مجنون ، فذلك العِضُون.
حدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول : في قوله( جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ ) : جعلوا كتابهم أعضاء كأعضاء الجزور ، وذلك أنهم تقطعوه زبرا ، كل حزب بما لديهم فرحون ، وهو قوله( فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا ).
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ ) عضهوا كتاب الله ، زعم بعضهم أنه سِحْر ، وزعم بعضهم أنه شِعْر ، وزعم بعضهم أنه كاهن .
قال أبو جعفر : هكذا قال كاهن ، وإنما هو كهانة ، وزعم بعضهم أنه أساطير الأولين.
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا جرير ، عن الأعمش ، عن أبي ظبيان ، عن ابن عباس( الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ ) قال : آمنوا ببعض ، وكفروا ببعض.
حدثني يونس ، قال : أخبرني ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله( الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ ) قال : جعلوه أعضاء كما تُعَضَّى الشاة. قال بعضهم : كَهانة ، وقال بعضهم : هو سحر ، وقال بعضهم : شعر ، وقال

(17/146)


بعضهم( أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا ) .. الآية ، جعلوه أعضاء كما تُعَضَّى الشاة فوجه قائلو هذه المقالة قوله( عِضِينَ) إلى أن واحدها : عُضْو ، وأن عِضِينَ جمعه ، وأنه مأخوذ من قولهم عَضَّيت الشيء تعضية : إذا فرقته ، كما قال رؤبة :
وليس دينُ اللَّهِ بالمُعَضَّى (1)
يعني بالمفرّق ، وكما قال الآخر :
وعَضَّى بَنِي عَوْف فأمَّا عَدُوَّهُمْ... فأرْضَى وأمَّا الْعِزُّ منهُمُ فغيَّرا (2)
يعني بقوله : وعَضَّى : سَبَّاهُمْ ، وقَطَّعاهُمْ بألسنتهما (3) . وقال آخرون : بل هي جمع عِضَة ، جمعت عِضين ، كما جمعت البُرّة بُرِين ، والعِزة عِزِين ، فإذا وُجَّه ذلك إلى هذا التأويل كان أصل الكلام عِضَهَة ، ذهبت هاؤها الأصلية ، كما نقصوا الهاء من الشَّفَة وأصلها شَفَهَة ، ومن الشاة ، وأصلها شاهة ، يدل على أن ذلك الأصل تصغيرهم الشفة : شُفَيْهة ، والشاة : شُوَيْهة ، فيردّون الهاءَ التي تسقط في غير حال التصغير ، إليها في حال التصغير ، يقال منه : عَضَهْتُ الرجل أعضَهُه عَضْهًا. إذا بَهَتَّه ، وقذفته ببُهتان ، وكأن تأويل من تأوّل
__________
(1) البيت لرؤبة في ديوانه ( طبع ليسبج سنة 1903 ص 81 ) من أرجوزة له يمدح بها تميما وسعدا ونفسه ، مطلعها : " داينت أروى والديون تقضي " والبيت هو ال 51 فيها واستشهد به أبو عبيد في ( مجاز القرآن 1 : 355 ) عند قوله تعالى " الذين جعلوا القرآن عضين " ، أي عضوه أعضاء ، أي فرقوه فرقا . قال رؤبة : وليس ... الخ و ( في اللسان : عضا ) عضيت الشاة والجزور تعضية : إذا جعلتها أعضاء وقسمتها . وعضى الشيء : وزعه وفرقه ، قال : وليس .. البيت . ثم قال : وفي التنزيل : " جعلوا القرآن عضين " أي جزءوه أجزاء ، وآمنوا ببعضه ، وكفروا ببعض ، وقال ابن الأعرابي : فرقوا فيه القول ، فقالوا : شعر ، وسحر ، وكهانة فقسموه هذه الأقسام ، وعضوه أعضاء .
(2) البيت لم أقف على قائله . ولعله للمخيل السعدي وعضى بني عوف أي سباهم وقسمهم فأرضى عدوهم بذلك ، ومن بني عوف ، فغير حالهم ، من السيادة إلى المذلة ، ولعل رواية الشطر الثاني : " فأرضى وأما العز منهم فغبرا " وغبر بالباء الموحدة ، كما في بيت المخبل السعدي ، الذي أنشده صاحب اللسان في غبر ، وهو فَأَنْزَلَهُمْ دارَ الضَّياعِ فاصْبَحُوا ... على مَقعَدٍ مِنْ مَوْطِنِ العزِّ أَغْبرَا
يقال : عز أغبر : أي ذاهب دارس يريد أنه سبى فريقا من بني عوف ، وأذل فريقا منهم .
(3) قوله : " سباهم وقطعاهم بألسنتهما " : كذا في الأصل المخطوط ( الورقة 65 وجزء 14 ) ، ولعله سهو من المؤلف ، لأن الفعلى " عضى " إذا كان من التعضية ، فهو مسند إلى واحد ، ولا يظهر لي أي معنى لجعل المسند إليه مثنى في كلام المؤلف .

(17/147)


ذلك كذلك : الذين عَضَهوا القرآن ، فقالوا : هو سِحْر ، أو هو شعر ، نحو القول الذي ذكرناه عن قتادة.
وقد قال جماعة من أهل التأويل : إنه إنما عَنَى بالعَضْه في هذا الموضع ، نسبتهم إياه إلى أنه سِحْر خاصة دون غيره من معاني الذمّ ، كما قال الشاعر :
للماءِ مِنْ عِضَاتهنَّ زَمْزَمهْ (1)
يعني : من سِحْرهنْ.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا أحمد بن إسحاق ، قال : ثنا أبو أحمد ، قال : ثنا ابن عيينة ، عن عمرو ، عن عكرمة( الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ ) قال : سحرا.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : ثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة(عِضِينَ) قال : عَضَهوه وبَهَتُوه.
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، قال : كان عكرمة يقول : العَضْه : السحر بلسان قريش ، تقول للساحرة : إنها العاضهة.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، وحدثني المثنى ، قال : ثنا أبو حذيفة ، قال : ثنا شبل ، وحدثني المثنى ، قال : ثنا إسحاق ، قال : ثنا عبد الله ، عن ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله( جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ ) قال : سِحْرا أعضاء الكتب كلها وقريش فرقوا القرآن ، قالوا : هو سحر.
__________
(1) البيت من مشطور الرجز ؛ ولم أقف على قائله . استشهد به المؤلف على أن " عضين " في الآية جمع " عضة " ، ومعناها عند قدوم من أهل التأويل : السحر . وقال الفراء ( في معاني القرآن : 169 ) والذين جعلوا القرآن " عضين " : فرقوه ، إذ جعلوه سحرا وكذبا ، وأساطير الأولين . والعضون في كلام العرب : السحر بعينه ، ويقال : عضوه : أي فرقوه ، كما تعضى الشاة والجزور ، وواحد العضين عضة ، رفعها عضون ، ونصبها وخفضها عضين . وفي ( اللسان : عضة ) وقال الفراء : العضون في كلام العرب : السحر وذلك أنه من العضة . أ هـ . والزمزمة : الكلام غير المبين .

(17/148)


فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92) عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (93) فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (94)

والصواب من القول في ذلك أن يقال : إن الله تعالى ذكره أمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يُعْلِم قوما عَضَهُوا القرآن أنه لهم نذير من عقوبة تنزل بهم بِعضْهِهِمْ إياه مثل ما أنزل بالمقتسمين ، وكان عَضْهُهُم إياه : قذفهموه بالباطل ، وقيلهم إنه شعر وسحر ، وما أشبه ذلك.
وإنما قلنا إن ذلك أولى التأويلات به لدلالة ما قبله من ابتداء السورة وما بعده ، وذلك قوله( إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ ) على صحة ما قلنا ، وإنه إنما عُنِيَ بقوله( الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ ) مشركي قومه ، وإذا كان ذلك كذلك ، فمعلوم أنه لم يكن في مشركي قومه من يؤمن ببعض القرآن ويكفر ببعض ، بل إنما كان قومه في أمره على أحد معنيين : إما مؤمن بجميعه ، وإما كافر بجميعه. وإذ كان ذلك كذلك ، فالصحيح من القول في معنى قوله( الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ ) الذين زعموا أنهم عَضَهوه ، فقال بعضهم : هو سحر ، وقال بعضهم : هو شعر ، وقال بعضهم : هو كهانة ، وما أشبه ذلك من القول ، أو عَضَّهُوه ففرقوه ، بنحو ذلك من القول ، وإذا كان ذلك معناه احتمل قوله عِضِين ، أن يكون جمع : عِضة ، واحتمل أن يكون جمع عُضْو ، لأن معنى التعضية : التفريق ، كما تُعَضى الجَزُور والشاة ، فتفرق أعضاء. والعَضْه : البَهْت ، ورميه بالباطل من القول ، فهما متقاربان في المعنى.
القول في تأويل قوله تعالى : { فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92) عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (93) فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (94) }
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : فوربك يا محمد لنسألنّ هؤلاء الذين جعلوا القرآن في الدنيا عِضين في الآخرة عما كانوا يعملون في الدنيا ، فيما أمرناهم به ، وفيما بعثناك به إليهم من آي كتابي الذي أنزلته إليهم ، وفيما دعوناهم إليه من الإقرار به ومن توحيدي والبراءة من الأنداد والأوثان.
.
وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل.

(17/149)


* ذكر من قال ذلك :
حدثنا أبو كريب وأبو السائب ، قالا ثنا ابن إدريس ، قال : سمعت ليثا ، عن بشير ، عن أنس ، في قوله( فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ ) قال : عن شهادة أن لا اله إلا الله.
حدثنا أحمد بن إسحاق ، قال : ثنا أبو أحمد ، قال : ثنا شريك ، عن ليث ، عن بشير بن نهيك ، عن أنس ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم : ( فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ ) قال : " عن لا إله إلا الله " .
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا جرير ، عن ليث ، عن بشير ، عن أنس ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم نحوه.
حدثنا الحسن بن يحيى. قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا الثوري ، عن ليث ، عن مجاهد ، في قوله( فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) قال : عن لا اله إله إلا الله.
حدثنا أحمد ، قال : ثنا أبو أحمد ، قال : ثنا شريك ، عن هلال ، عن عبد الله بن عُكَيْم ، قال : قال عبد الله : والذي لا إله غيره ، ما منكم أحد إلا سيخلو الله به يوم القيامة كما يخلو أحدكم بالقمر ليلة البدر ، فيقول : ابن آدم ، ماذا غرّك مني بي ابن آدم ؟ ماذا عملت فيما علمت ابن آدم ؟ ماذا أجبت المرسلين ؟
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن أبي جعفر ، عن الربيع ، عن أبي العالية : ( فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) قال : يُسأل العباد كلهم عن خلتين يوم القيامة : عما كانوا يعبدون ، وعما أجابوا المرسلين.
حدثنا المثنى ، قال : ثنا إسحاق ، قال : ثنا الحسين الجعفي ، عن فضيل بن مرزوق ، عن عطية العوفي ، عن ابن عمر : ( لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) قال : عن لا إله إله الله.
حدثني المثنى ، قال : ثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس قوله( فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) . ثم قال : ( فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ ) قال : لا يسألهم هل عملتم كذا وكذا ؟ لأنه أعلم بذلك منهم ، ولكن يقول لهم : لِمَ عملتم كذا وكذا ؟

(17/150)


حدثنا ابن وكيع ، قال : ثنا يونس بن بكير ، عن محمد بن إسحاق ، عن محمد بن أبي محمد ، مولى زيد بن ثابت ، عن سعيد بن جبير أو عكرمة ، عن ابن عباس ، قال : أنزل الله تعالى ذكره : ( فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ ) فإنه أمر من الله تعالى ذكره نبيه صلى الله عليه وسلم بتبليغ رسالته قومه ، وجميع من أرسل إليه ، ويعني بقوله( فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ ) : فامض وافرُق ، كما قال أبو ذؤَيب :
وكأنَّهُنَّ رَبابَةٌ وكأنَّهُ... يُسرٌ يُفيضُ على القِداح ويَصْدَعُ (1)
يعني بقوله : يَصْدَع : يُفَرِّق بالقداح.
وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى ، قال : ثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله( فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ ) يقول : فأمضه.
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله( فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ ) يقول : افعل ما تؤمر.
حدثني الحسين بن يزيد الطحان ، قال : ثنا ابن إدريس ، عن ليث ، عن مجاهد ، في قوله( فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ ) قال : بالقرآن.
حدثني نصر بن عبد الرحمن الأَوْديّ ، قال : ثنا يحيى بن إبراهيم ، عن سفيان ، عن ليث ، عن مجاهد( فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ ) قال : هو القرآن.
حدثني أبو السائب ، قال : ثنا ابن فضيل ، عن ليث ، عن مجاهد ، في قوله( فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ ) قال : بالقرآن.
حدثني أبو السائب ، قال : ثنا ابن فضيل ، عن ليث ، عن مجاهد ، في قوله( فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ ) قال : الجهر بالقرآن في الصلاة.
__________
(1) البيت في شعر أبي ذؤيب من ديوان الهذليين ، القسم الأول ( طبعة دار الكتب المصرية سنة 1945) . والربابة بكسر الراء : خرقة تغطى بها القداح ، ويقال الربابة هنا هي القداح ، واليسر : الذي يضرب بالقداح ، وهو المفيض ، يصدع : يفرق ويصيح ، ويفيض على القداح ، أي يدفعها ، ويضرب بها ، ونابت " على " منأب " الباء " والضمير في كأنهن راجع إلى الأتن المذكورة قبل البيت . وفي كأنه راجع إلى حمار الوحش الذي يطردها ويسوقها أمامه .

(17/151)


حدثنا أحمد ، قال : ثنا أحمد ، قال : ثنا شريك ، عن ليث ، عن مجاهد( فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ ) قال : بالقرآن في الصلاة.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، وحدثني المثنى ، قال : ثنا أبو حذيفة ، قال : ثنا شبل جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد( فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ ) قال : أجهر بالقرآن في الصلاة.
حدثني المثنى ، قال : ثنا إسحاق ، قال : ثنا أبو أسامة ، قال : ثنا موسى بن عبيدة ، عن أخيه عبد الله بن عبيدة قال : مازال النبيّ مستخفيا حتى نزلت( فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ ) فخرج هو وأصحابه.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله( فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ ) قال : بالقرآن الذي يوحى إليه أن يبلغهم إياه ، وقال تعالى ذكره : ( فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ ) ولم يقل : بما تؤمر به ، والأمر يقتضي الباء ، لأن معنى الكلام : فاصدع بأمرنا ، فقد أمرناك أن تدعو إلى ما بعثناك به من الدين خلقي وأذنَّا لك في إظهاره.
ومعنى " ما " التي في قوله( بِمَا تُؤْمَرُ ) معنى المصدر ، كما قال تعالى ذكره( يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ ) معناه : افعل الأمر الذي تؤمر به ، وكان بعض نحويِّي أهل الكوفة يقول في ذلك : حذفت الباء التي يوصل بها تؤمر من قوله( فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ ) على لغة الذين يقولون : أمرتك أمرا ، وكان يقول : للعرب في ذلك لغتان : إحداهما أمرتك أمرا ، والأخرى أمرتك بأمر ، فكان يقول : إدخال الباء في ذلك وإسقاطها سواء. واستشهد لقوله ذلك بقول حصين بن المنذر الرقاشي ليزيد بن المهلَّب :
أمَرْتُكَ أمْرًا جازِما فَعَصَيْتَني... فأصْبَحْتَ مَسلُوبَ الإمارَةِ نادِما (1)
فقال أمرتك أمرا ، ولم يقل : أمرتك بأمر ، وذلك كما قال تعالى : ذكره : ( أَلا إِنَّ عَادًا كَفَرُوا رَبَّهُمْ ) ولم يقل : بربهم ، وكما قالوا : مددت الزمام ، ومددت بالزمام ، وما أشبه ذلك من الكلام .
__________
(1) البيت شاهد على أنه يقال أمرتك أمرا ، وأمرتك بأمر ، فيجوز أن يتعدى الفعل بنفسه وبالباء .

(17/152)


إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ (95) الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (96)

وأما قوله( وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ ) ويقول تعالى ذكره لنبييه صلى الله عليه وسلم : بلغ قومك ما أرسلتَ به ، واكفف عن حرب المشركين بالله وقتالهم. وذلك قيل أن يفرض عليه جهادهم ، ثم نَسَخَ ذلك بقوله( فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ ) .
كما حدثنا محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله( وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ ) وهو من المنسوخ.
حدثني المثنى ، قال : ثنا سويد ، قال : أخبرنا ابن المبارك ، عن جويبر ، عن الضحاك ، في قوله( وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ ) و( قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ ) وهذا النحو كله في القرآن أمر الله تعالى ذكره نبيه صلى الله عليه وسلم أن يكون ذلك منه ، ثم أمره بالقتال ، فنَسَخَ ذلك كله ، فقال : ( خُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ ) ...الآية.
القول في تأويل قوله تعالى : { إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ (95) الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (96) }
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : إنا كفيناك المستهزئين يا محمد ، الذين يستهزئون بك ويسخرون منك ، فاصدع بأمر الله ، ولا تخف شيئا سوى الله ، فإن الله كافيك من ناصبك وآذاك كما كفاك المستهزئين. وكان رؤساء المستهزئين قوما من قريش معروفين.
* ذكر أسمائهم حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، قال : ثني محمد ، قال : كان عظماء المستهزئين كما حدثني يزيد بن رومان عن عُروة بن الزُّبير خمسة نَفَر من قومِه ، وكانوا ذوي أسنان وشرف في قومهم ، من بني أسد بن عبد العُزَّى بن قصيّ : الأسود بن المطلب أبو زَمْعة ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما بلغني قد دعا عليه لما كان يبلغه من أذاه واستهزائه ، فقال : اللهمّ أعم بصره ، وأثكله ولده ، ومن بني زهرة : الأسود بن عبد يغوث بن وهب بن

(17/153)


عبد مناف بن زُهرة ، ومن بني مخزوم : الوليدُ بن المغيرة بن عبد الله بن مخزوم ، ومن بني سهم بن عمرو بن هُصَيص بن كعب بن لؤيّ : العاص بن وائل بن هشام بن سعيد بن سعد بن سَهْم ، ومن خُزاعة : الحارث بن الطُّلاطلة بن عمرو بن الحارث بن عمرو بن مَلْكان ، فلما تمادوْا في الشرّ وأكثروا برسول الله صلى الله عليه وسلم الاستهزاء ، أنزل اللَّه تعالى ذكره( فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ ) ... إلى قوله( فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ ) قال محمد بن إسحاق : فحدثني يزيد بن رومان ، عن عُروة بن الزبير أو غيره من العلماء ، أن جبرئيل أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم يطوفون بالبيت فقام ، وقام رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جنبه ، فمرّ به الأسود بن المطلب ، فرَمى في وجهه بورقة خضراء ، فعَمِي ، ومرّ به الأسود بن عبد يغوث ، فأشار إلى بطنه فاسْتَسْقَى بطنه ، فمات منه حبنا ، ومرّ به الوليد بن المُغيرة ، فأشار إلى أثر جرح بأسفل كعب رجله كان أصابه قبل ذلك بسنتين ، وهو يجرّ سِبله ، يعني إزاره ، وذلك أنه مرّ برجل من خزاعة يَريش نبلا له ، فتعلق سهم من نبله بإزاره فخدش رجله ذلك الخدش وليس بشيء ، فانتقَض به فقتله ، ومرّ به العاص بن وائل السَّهميّ ، فأشار إلى أخمص رجله ، فخرج على حمار له يريد الطائف ، فوقِصَ على شِبْرِقة ، فدخل في أخمص رجله منها شوكة ، فقتلته .
قال أبو جعفر : الشِّبرقة : المعروف بالحَسَك ، منه حَبَنا (1) والحَبَن : الماء الأصفر ، ومرّ به الحارث بن الطُّلاطلة ، فأشار إلى رأسه ، فامتخط قيحا فقتله.
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن محمد بن أبي محمد القرشيّ ، عن رجل ، عن ابن عباس ، قال : كان رأسهم الوليد بن المُغيرة ، وهو الذي جمعهم.
__________
(1) كذا في الأصل المخطوط رقم 100 تفسير بدار الكتب ( الورقة 69و) ولعله قد سقط من العبارة بعضها .وأصلها : الشبرقة : واحدة الشبرق ، المعروف بالحسك . ويقال : مات منه حبنا . والحين .. الخ . وانظر خبر كفاية الله نبيه المستهزئين في سيرة ابن هشام ( طبعة الحلبي 2 : 50 - 52 من الطبعة الأولى ) فقد نقله المؤلف هنا ، مع اختلاف يسير في بعض الألفاظ .

(17/154)


حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا جرير ، عن مغيرة ، عن زياد ، عن سعيد بن جبير ، في قوله( إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ ) قال : كان المستهزئين : الوليدُ بن المغيرة ، والعاص بن وائل ، وأبو زمعة والأسود بن عبد يغوث ، والحارث بن عيطلة. فأتاه جبرئيل ، فأومأ بأصبعه إلى رأس الوليد ، فقال : ما صنعت شيئا ، قال : كُفِيت ، وأومأ بيده إلى أخمص العاص ، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم : ما صَنَعْتَ شَيْئا ، فقال : كُفيت ، وأومأ بيده إلى عين أبي زمعة ، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم : ما صَنَعْتَ شَيْئا ، قال : كُفيت. وأومأ بأصبعه إلى رأس الأسود ، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم : دَعْ لي خالي . فقال : كُفِيت ، وأومأ بأصبعه إلى بطن الحارث ، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم : ما صَنَعْتَ شَيْئا ، فقال كُفِيت. قال : فمرّ الوليد على قين لخزاعة وهو يجر ثيابه ، فتعلقت بثوبه بروة أو شررة (1) وبين يديه نساء ، فجعل يستحي أن يطأ من ينتزعها ، وجعلت تضرب ساقه فخدشته ، فلم يزل مريضا حتى مات ، وركب العاص بن وائل بغلة له بيضاء إلى حاجة له بأسفل مكة ، فذهب ينزل ، فوضع أخمص قدمه على شبرقة ، فحكت رجله ، فلم يزل يحكها حتى مات ، وعمي أبو زمعة ، وأخذت الأكلة في رأس الأسود ، وأخذ الحارث الماء في بطنه.
حدثني يعقوب ، قال : ثنا هشيم ، عن أبي بشر ، عن سعيد بن جبير ، في قوله( إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ ) قال : هم خمسة رهط من قريش : الوليدُ بن المغيرة ، والعاصُ بن وائل ، وأبو زمعة ، والحارث بن عيطلة ، والأسود بن قيس.
حدثني المثنى ، قال : ثنا عمرو بن عون ، قال : أخبرنا هشيم ، عن أبي بشر ، عن سعيد بن جبير ، في قوله( إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ ) قال : الوليد بن المغيرة ، والعاصُ بن وائل السَّهْمِيّ ، والأسود بن عبد يغوث ، والأسود بن المطلب ، والحارث بن عيطلة.
__________
(1) البروة : لغة في البرة ، وهي الحلقة من صفر ونحوه ، يريد بها ما يتطاير من الحديد عند الطرق بالمطارق ، والشررة : واحدة الشرر ، وفي الأصل : شرة ، ولا معنى له هنا .

(17/155)


حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا ابن عيينة ، عن عمرو بن دينار ، عن عكرمة ، في قوله( إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ ) قال : هم خمسة كلهم هلك قبل بَدْر : العاص بن وائل ، والوليد بن المغيرة ، وأبو زمعة بن عبد الأسود ، والحارث بن قيس ، والأسود بن عبد يغوث.
حدثنا ابن وكيع ، قال : ثنا ابن عيينة عن عمرو ، عن عكرمة : ( إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ ) قال : الوليد بن المغيرة ، والعاص بن وائل ، والأسود بن عبد يغوث ، والحارث بن عيطلة.
حدثنا المثنى ، قال : ثنا عمرو بن عون ، قال : أخبرنا هشيم ، عن أبي بكر الهذلي ، قال : قلت للزُّهريّ : إن سعيد بن جبير وعكرمة اختلفا في رجل من المستهزئين ، فقال سعيد : هو الحارث بن عيطلة ، وقال عكرمة : هو الحارث بن قيس ؟ فقال : صدقا ، كانت أمه تسمى عيطلة وأبوه قيس.
حدثني المثنى ، قال : ثنا عمرو بن عون ، قال : أخبرنا هشيم ، عن حصين ، عن الشعبيّ ، قال : المستهزئين سبعة ، وسَمَّى منهم أربعة.
حدثنا ابن وكيع ، قال : ثنا أبي ، عن إسرائيل ، عن جابر ، عن عامر : ( إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ ) قال : كانوا من قريش خمسة نفر : العاصُ بن وائل السهمي ، كُفِي بصداع أخذه في رأسه ، فسال دماغه حتى كان يتكلم من أنفه ، والوليد بن المغيرة المخزومي ، كفي برجل من خزاعة أصلح سهما له ، فندرت منه شظية ، فوطئ عليها فمات ، وهبار بن الأسود ، وعبد يغوث بن وهب ، والحارث بن عيطلة.
حدثنا أحمد بن إسحاق ، قال : ثنا أبو أحمد ، قال : ثنا إسرائيل ، عن جابر ، عن عامر : ( إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ ) قال : كلهم من قريش : العاص بن وائل ، فكفي بأنه أصابه صداع في رأسه ، فسال دماغه حتى لا يتكلم إلا من تحت أنفه ، والحارث بن عيطلة بصفر في بطنه ، وابن الأسود فكفي بالجدري ، والوليد بأن رجلا ذهب ليصلح سهما له ، فوقعت شظية فوطئ عليها ، وعبد يغوث فكفي بالعمي ، ذهب بصره.

(17/156)


حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : ثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، وعن مِقْسم( إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ ) قال : هم الوليد بن المغيرة ، والعاص بن وائل ، وعديّ بن قيس ، والأسود بن عبد يغوث ، والأسود بن المطلب ، مرّوا رجلا رجلا على النبيّ صلى الله عليه وسلم ومعه جبرئيل ، فإذا مرّ به رجل منهم قال جبرئيل : كيف تجد هذا ؟ فيقول : بئس عدوّ الله ، فيقول جبرئيل : كفاكه ، فأما الوليد بن المغيرة ، فتردّى ، فتعلق سهم بردائه ، فذهب يجلس فقطع أكحله فنزف فمات ، وأما الأسود بن عبد يغوث ، فأُتِي بغصن فيه شوك ، فضرب به وجهه ، فسالت حدقتاه على وجهه ، فكان يقول : دعوت على محمد دعوة ، ودعا عليّ دعوة ، فاستجيب لي ، واستجيب له ، دعا عليّ أن أَعمَى فعميت : ودعوت عليه أن يكون وحيدا فريدا في أهل يثرب فكان كذلك ، وأما العاص بن وائل ، فوطئ على شوكة فتساقط لحمه عن عظامه حتى هلك ، وأما الأسود بن المطلب وعديّ بن قيس ، فإن أحدهما قام من الليل وهو ظمآن ، فشرب ماء من جَرّة ، فلم يزل يشرب حتى انفتق بطنه فمات ، وأما الآخر فلدغته حية فمات.
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرّزاق ، قال : أخبرنا معمر. عن قتادة وعثمان ، عن مِقْسم مولى ابن عباس ، في قوله( إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ ) ثم ذكر نحو حديث ابن عبد الأعلى ، عن ابن ثور.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة : ( كَمَا أَنزلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ ) هم رهط خمسة من قريش عضهوا القرآن ، زعم بعضهم أنه سحر وزعم بعضهم أنه شعر وزعم بعضهم أنه أساطير الأوّلين : أما أحدهم : فالأسود بن عبد يغوث ، أتى على نبيّ الله صلى الله عليه وسلم وهو عند البيت ، فقال له الملَك : كيف تجد هذا ؟ قال : بِئْسَ عَبْدُ اّللَّهِ على أنَّهُ خالي ، قال : كفيناك ، ثم أتى عليه الوليد بن المغيرة ، فقال له الملَك : كيف تجد هذا ؟ قال : بِئْسَ عَبْدُ اّللَّهِ ، قال : كَفيناك ، ثم أتى عليه عدي بن قيس أخو بني سهم ، فقال الملك : كيف تجد هذا ؟ قال : بِئْسَ عَبْدُ اّللَّهِ ، قال : كفيناك ، ثم أتى عليه الأسود بن المطلب ، فقال له الملك : كيف تجد هذا ؟ قال : بِئْسَ عَبْدُ اّللَّهِ ، قال : كفيناك ، ثم أتى عليه العاص بن وائل ، فقال له الملك : كيف تجد هذا ؟ قال : بِئْسَ عَبْدُ

(17/157)


اّللَّهِ ، قال : كفيناك ، فأما الأسود بن عبد يغوث ، فأُتي بغصن من شوك فضرب به وجهه حتى سالت حدقتاه على وجهه ، فكان بعد ذلك يقول : دعا عليّ محمد بدعوة ودعوت عليه بأخرى ، فاستجاب الله له في واستجاب الله لي فيه ، دعا عليّ أن أثكل وأن أعمى ، فكان كذلك ، ودعوت عليه أن يصير شريدا طريدا ، فطردناه مع يهود يثرب وسرّاق الحجيج ، وكان كذلك ، وأما الوليد بن المغيرة ، فذهب يرتدي ، فتعلق بردائه سهم غرب (1) فأصاب أكحله أو أبجله ، فأتي في كلّ ذلك ، فمات ، وأما العاص بن وائل ، فوطئ على شوكة ، فأتي في ذلك ، جعل يتساقط لحمه عضوا عضوا فمات وهو كذلك ، وأما الأسود بن المطلب وعديّ بن قيس ، فلا أدري ما أصابهما.
ذُكر لنا أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر ، نهى أصحابه عن قتل أبي البختري ، وقال : خذوه أخذا ، فإنه قد كان له بلاء ، فقال له أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم : يا أبا البختري إنا قد نهينا عن قتلك فهلمّ إلى الأمنة والأمان ، فقال أبو البختري : وابن أخي معي ؟ فقالوا : لم نؤمر إلا بك ، فراودوه ثلاث مرّات ، فأبى إلا وابن أخيه معه ، قال : فأغلظ للنبيّ صلى الله عليه وسلم الكلام ، فحمل عليه رجل من القوم فطعنه فقتله ، فجاء قاتله وكأنما على ظهره جبل أوثقه مخافة أن يلومه النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فلما أخبر بقوله : قال النبيّ صلى الله عليه وسلم : أبْعَدَهُ اللَّهُ وأسْحَقَهُ ، وهم المستهزِئُونَ الذين قال الله( إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ ) وهم الخمسة الذين قيل فيهم( إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ ) استهزءوا بكتاب الله ، ونبيه صلى الله عليه وسلم.
حدثني المثنى ، قال : ثنا أبو حُذيفة ، قال : ثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد( إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ ) هم من قريش.
حدثني المثنى ، قال : ثنا أبو حذيفة ، قال : ثنا شبل ، وزعم ابن أبي بَزَّة أنهم العاص بن وائل السهمي والوليد بن المغيرة الوحيد ، والحارث بن عديّ بن سهم بن العيطلة ، والأسود بن المطلب بن أسد بن عبد العُزَّى بن قُصيّ ، وهو أبو زمعة ، والأسود بن عبد يغوث وهو ابن خال رسول الله صلى الله عليه وسلم.
__________
(1) سهم غرب ، بسكون الراء وفتحها : لا يدري من أين أتاه ( اللسان ) .

(17/158)


وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ (97) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (98) وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (99)

حدثني القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : أخبرني عمرو بن دينار ، عن ابن عباس ، نحو حديث محمد بن عبد الأعلى ، عن محمد بن ثور ، غير أنه قال : كانوا ثمانية ، ثم عدّهم وقال : كلهم مات قبل بدر.
وقوله( الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُون ) وعيد من الله تعالى ذكره ، وتهديد للمستهزئين الذين أخبر نبيه صلى الله عليه وسلم أنه قد كفاه أمرهم بقوله تعالى ذكره : إنا كفيناك يا محمد الساخرين منك ، الجاعلين مع الله شريكا في عبادته ، فسوف يعلمون ما يلقون من عذاب الله عند مصيرهم إليه في القيامة ، وما يَحُلّ بهم من البلاء.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ (97) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (98) }
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : ولقد نعلم يا محمد أنك يضيق صدرك بما يقول هؤلاء المشركون من قومك من تكذيبهم إياك واستهزائهم بك وبما جئتهم به ، وأن ذلك يُحْرِجك( فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ ) يقول : فافزع فيما نابك من أمر تكرهه منهم إلى الشكر لله والثناء عليه والصلاة ، يكفك الله من ذلك ما أهمّك ، وهذا نحو الخبر الذي رُوي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أنه كان إذا حَزَبَه أمر فَزِع إلى الصلاة.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (99) }
يقول تعالى ذكره لنبيه صلى الله عليه وسلم : واعبد ربك حتى يأتيك الموت ، الذي هو مُوقَن به. وقيل : يقين ، وهو موقَن به ، كما قيل : خمر عتيق ، وهي معتَّقَة.
وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل .

(17/159)


* ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن بشار ، قال : ثنا يحيى بن سعيد ، عن سفيان ، قال : ثنى طارق بن عبد الرحمن ، عن سالم بن عبد الله وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ قال : الموت .
حدثنا محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث بن ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
حدثني المثنى ، قال : ثنا أبو حُذيفة ، قال : ثنا شبل ، وحدثني المثنى ، قال : ثنا إسحاق ، قال : ثنا عبد الله ، عن ورقاء جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
حدثني عباس بن محمد ، قال : ثنا حجاج ، قال : قال ابن جريج : أخبرني ابن كثير أنه سمع مجاهدا يقول : حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ قال : الموت .
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ قال : يعني الموت .
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : ثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ قال : اليقين : الموت .
حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرّزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، مثله .
حدثني المثنى ، قال : ثنا سويد بن نصر ، قال : أخبرنا ابن المبارك ، عن مبارك بن فضالة ، عن الحسن ، في قوله حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ قال : الموت .
حدثنا ابن وكيع ، قال ثنا أبي ، عن سفيان عن طارق ، عن سالم ، مثله .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ قال : الموت ، إذا جاءه الموت ، جاءه تصديق ما قال الله له ، وحدّثه من أمر الآخرة .

(17/160)


حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرني يونس بن يزيد ، عن ابن شهاب " أن خارجة بن زيد بن ثابت أخبره عن أمّ العلاء امرأة من الأنصار قد بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبرته أنهم اقتسموا المهاجرين قُرْعة قالت : وطار لنا عثمان بن مظعون ، فأنزلناه في أبياتنا ، فوَجع وجعه الذي مات فيه ، فلما تُوُفِّي وغسِّل وكُفِّن في أثوابه ، دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقلت : يا عثمان بن مظعون رحمة الله عليك أبا السائب ، فشهادتي عليك ، لقد أكرمك الله ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أمَّا هُوَ فَقَدْ جاءَهُ اليَقِينُ ، وَوَاللَّهِ إنّي لأَرْجُو لَهُ الخَيْرَ " .
حدثنا أبو كريب ، قال : ثنا مالك بن إسماعيل ، قال : ثنا إسماعيل ، قال : ثنا إبراهيم بن سعد ، قال / ثنا ابن شهاب ، عن خارجة بن زيد ، عن أمّ العلاء امرأة من نسائهم ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم بنحوه .
حدثني موسى بن عبد الرحمن المسروقي ، قال : ثنا جعفر بن عون ، قال : أخبرنا إبراهيم بن إسماعيل ، عن محمد بن شهاب ، أن خارجة بن زيد ، حدثه عن أمّ العلاء امرأة منهم ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم ، بنحوه ، إلا أنه قال في حديثه : فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم : " أمَّا هُوَ فَقَدْ عايَنَ اليَقِينَ " .

(17/161)


أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (1)

سورة النحل
القول في تأويل قوله تعالى : { أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (1) }
يقول تعالى ذكره : أتى أمر الله فقرُب منكم أيها الناس ودنا ، فلا تستعجلوا وقوعه.
ثم اختلف أهل التأويل في الأمر الذي أعلم الله عباده مجيئه وقُربه منهم ما هو ، وأيّ شيء هو ؟ فقال بعضهم : هو فرائضه وأحكامه.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا ابن المبارك ، عن جويبر ، عن الضحاك ، في قوله( أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ ) قال : الأحكام والحدود والفرائض.
وقال آخرون : بل ذلك وعيد من الله لأهل الشرك به ، أخبرهم أن الساعة قد قَرُبت وأن عذابهم قد حضر أجله فدنا.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : لما نزلت هذه الآية ، يعني( أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ ) قال رجال من المنافقين بعضهم لبعض : إن هذا يزعم أن أمر الله أتى ، فأمسِكوا عن بعض ما كنتم تعملون حتى تنظروا ما هو كائن ، فلما رأوا أنه لا ينزل شيء ، قالوا : ما نراه نزل شيء فنزلت( اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ ) فقالوا : إن هذا يزعم مثلها أيضا ، فلما رأوا أنه لا ينزل شيء ، قالوا : ما نراه نزل شيء فنزلت( وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ أَلا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفًا عَنْهُمْ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ) .
حدثنا أبو هشام الرفاعي ، قال : ثنا يحيى بن يمان ، قال : ثنا سفيان ، عن إسماعيل ، عن أبى بكر بن حفص ، قال : لما نزلت( أَتَى أَمْرُ اللَّهِ ) رفعوا رءوسهم ، فنزلت( فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ ) .
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا يحيى بن واضح ، قال : ثنا أبو بكر بن

(17/162)


يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ (2)

شعيب ، قال : سمعت أبا صادق يقرأ(يا عِبادِي أتّى أمْرُ اللَّهِ فلا تستعجلوه " .
وأولى القولين في ذلك عندي بالصواب ، قول من قال : هو تهديد من الله أهل الكفر به وبرسوله ، وإعلام منه لهم قرب العذاب منهم والهلاك وذلك أنه عقَّب ذلك بقوله سبحانه وتعالى( عَمَّا يُشْرِكُونَ ) فدلّ بذلك على تقريعه المشركين ووعيده لهم. وبعد ، فإنه لم يبلغنا أن أحدا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم استعجل فرائض قبل أن تُفرض عليهم فيقال لهم من أجل ذلك : قد جاءتكم فرائض الله فلا تستعجلوها. وأما مستعجلو العذاب من المشركين ، فقد كانوا كثيرا.
وقوله سبحانه وتعالى( عَمَّا يُشْرِكُونَ ) يقول تعالى تنزيها لله وعلوّا له عن الشرك الذي كانت قريش ومن كان من العرب على مثل ما هم عليه يَدِين به.
واختلفت القراء في قراءة قوله تعالى( عَمَّا يُشْرِكُونَ ) فقرأ ذلك أهل المدينة وبعض البصريين والكوفيين( عَمَّا يُشْرِكُونَ ) بالياء على الخبر عن أهل الكفر بالله وتوجيه للخطاب بالاستعجال إلى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكذلك قرءوا الثانية بالياء . وقرأ ذلك عامَّة قرّاء الكوفة بالتاء على توجيه الخطاب بقوله( فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ ) إلى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وبقوله تعالى " عما يشركون " إلى المشركين ، والقراءة بالتاء في الحرفين جميعا على وجه الخطاب للمشركين أولى بالصواب لما بيَّنت من التأويل ، أن ذلك إنما هو وعيد من الله للمشركين ، ابتدأ أوّل الآية بتهديدهم ، وختم آخرها بنكير فعلهم واستعظام كفرهم على وجه الخطاب لهم.
القول في تأويل قوله تعالى : { يُنزلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاتَّقُونِ (2) }
اختلفت القرّاء في قراءة قوله( يُنزلُ الْمَلائِكَةَ ) فقرأ ذلك عامَّة قرّاء المدينة والكوفة( يُنزلُ الْمَلائِكَةَ ) بالياء وتشديد الزاي ونصب الملائكة ، بمعنى ينزل الله الملائكة بالروح. وقرأ ذلك بعض البصريين وبعض المكيين : " يُنزلُ المَلائِكَةَ "

(17/164)


بالياء وتخفيف الزاي ونصب الملائكة. وحُكي عن بعض الكوفيين أنه كان يقرؤه : " تَنزلُ المَلائكَةُ " بالتاء وتشديد الزاي والملائكة بالرفع ، على اختلاف عنه في ذلك ، وقد رُوي عنه موافقة سائر قرّاء بلده.
وأولى القراءات بالصواب في ذلك عندي قراءة من قرأ( يُنزلُ الْمَلائِكَةَ ) بمعنى : ينزل الله ملائكة. وإنما اخترت ذلك ، لأن الله هو المنزل ملائكته بوحيه إلى رسله ، فإضافة فعل ذلك إليه أولى وأحقّ واخترت ينزل بالتشديد على التخفيف ، لأنه تعالى ذكره كان ينزل من الوحي على من نزله شيئا بعد شيء ، والتشديد به إذ كان ذلك معناه ، أولى من التخفيف.
فتأويل الكلام : ينزل الله ملائكته بما يحيا به الحقّ ويضمحلّ به الباطل من أمره( عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ ) يعني على من يشاء من رسله( أَنْ أَنْذِرُوا ) فإن الأولى في موضع خفض ، ردًا على الروح ، والثانية في موضع نصب بأنذروا. ومعنى الكلام : ينزل الملائكة بالروح من أمره على من يشاء من عباده ، بأن أنذروا عبادي سطوتي على كُفرهم بي وإشراكهم في اتخاذهم معي الآلهة والأوثان ، فإنه لا إله إلا أنا ، يقول : لا تنبغي الألوهة إلا لي ، ولا يصلح أن يُعبد شيء سواي ، فاتقون : يقول : فاحذروني بأداء فرائضي وإفراد العبادة وإخلاص الربوبية لي ، فإن ذلك نجاتكم من الهلكة.
وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا المثنى ، قال : ثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله( يُنزلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ ) يقول : بالوحي.
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله( يُنزلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ ) يقول : ينزل الملائكة (1) .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء وحدثني المثنى ، قال : ثنا أبو
__________
(1) أي بنحو ما قبله ، من حديث المثنى عن ابن عباس ، كما جرت به عادة المؤلف في مواضع كثيرة .

(17/165)


خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (3)

حُذيفة ، قال : ثنا شبل وحدثني المثنى ، قال : ثنا إسحاق ، قال : ثنا عبد الله ، عن ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قول الله( بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ ) إنه لا ينزل ملك إلا ومعه روح.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، قال : قال ابن جريج ، قال مجاهد : قوله( يُنزلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ ) قال : لا ينزل ملك إلا معه روح( يُنزلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ ) قال : بالنبوّة. قال ابن جريج : وسمعت أن الروح خلق من الملائكة نزل به الروح( وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي ) .
حدثني المثنى ، قال : ثنا إسحاق ، قال : ثنا عبد الله ، عن أبيه ، عن الربيع بن أنس ، في قوله( يُنزلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاتَّقُونِ ) قال : كل كلِم تكلم به ربنا فهو روح منه( وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا ) ... إلى قوله( أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الأُمُورُ ).
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله( يُنزلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ ) يقول : ينزل بالرحمة والوحي من أمره ، ( عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ ) فيصطفي منهم رسلا.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : ثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة( يُنزلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ ) قال : بالوحي والرحمة.
وأما قوله( أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاتَّقُونِ ) فقد بيَّنا معناه.
وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله( أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاتَّقُونِ ) إنما بعث الله المرسلين أن يوحد الله وحده ، ويطاع أمره ، ويجتنب سخطه.
القول في تأويل قوله تعالى : { خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (3) }

(17/166)


خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (4) وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (5)

يقول تعالى ذكره معرّفا خلقه حجته عليهم في توحيده ، وأنه لا تصلح الألوهة إلا له : خلق ربكم أيها الناس السموات والأرض بالعدل وهو الحقّ منفردا بخلقها لم يشركه في إنشائها وإحداثها شريك ولم يعنه عليه معين ، فأنى يكون له شريك( تَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ) يقول جلّ ثناؤه : علا ربكم أيها القوم عن شرككم ودعواكم إلها دونه ، فارتفع عن أن يكون له مثل أو شريك أو ظهير ، لأنه لا يكون إلها إلا من يخلق وينشئ بقدرته مثل السموات والأرض ويبتدع الأجسام فيحدثها من غير شيء ، وليس ذلك في قُدرة أحد سوى الله الواحد القَّهار الذي لا تنبغي العبادة إلا له ولا تصلح الألوهة لشيء سواه.
القول في تأويل قوله تعالى : { خَلَقَ الإنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (4) }
يقول تعالى ذكره : ومن حججه عليكم أيضا أيها الناس ، أنه خلق الإنسان من نطفة ، فأحدث من ماء مهين خلقا عجيبا ، قلبه تارات خلقا بعد خلق في ظلمات ثلاث ، ثم أخرجه إلى ضياء الدنيا بعد ما تمّ خلقه ونفخ فيه الروح ، فغذاه ورزقه القوت ونماه ، حتى إذا استوى على سوقه كفر بنعمة ربه وجحد مدبره وعبد من لا يضرّ ولا ينفع ، وخاصم إلهه ، فقال( مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ ) ونسِي الذي خلقه فسوّاه خلقا سويا من ماء مهين ، ويعني بالمبين : أنه يبين عن خصومته بمنطقه ، ويجادل بلسانه ، فذلك إبانته ، وعنى بالإنسان : جميع الناس ، أخرج بلفظ الواحد ، وهو في معنى الجميع.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (5) }
يقول تعالى ذكره : ومن حججه عليكم أيها الناس ما خلق لكم من الأنعام ، فسخَّرها لكم ، وجعل لكم من أصوافها وأوبارها وأشعارها ملابس تدفئون بها ، ومنافع من ألبانها ، وظهورها تركبونها( وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ ) يقول : ومن الأنعام ما تأكلون لحمه كالإبل والبقر والغنم ، وسائر ما يؤكل لحمه ، وحذفت

(17/167)


ما من الكلام لدلالة من عليها.
وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى ، وعليّ بن داود ، قال : المثنى أخبرنا ، وقال ابن داود : ثنا عبد الله بن صالح ، قاله : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله( وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ ) يقول : الثياب.
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله.( وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ ) يعني بالدفء : الثياب ، والمنافع : ما ينفعون به من الأطعمة والأشربة.
حدثنا محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء وحدثني المثنى ، قال : أخبرنا إسحاق ، قال : ثنا عبد الله ، عن ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قول الله تعالى( لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ ) قال : لباس ينسج ، ومنها مركب ولبن ولحم.
حدثني المثنى ، قال : ثنا أبو حُذيفة ، قال : ثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد( لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ ) لباس ينسج ومنافع ، مركب ولحم ولبن.
حدثنا القاسم ، قاله : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله.
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا إسرائيل ، عن سماك ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، قوله( لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ ) قال : نسل كلّ دابة.
حدثنا أحمد ، قال : ثنا أبو أحمد ، قال : ثنا إسرائيل بإسناده ، عن ابن عباس ، مثله.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله( وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ ) يقول : لكم فيها لباس ومنفعة وبلغة.
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا جرير ، عن منصور ، قال : قال ابن عباس( وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ ) قال : هو منافع ومآكل.

(17/168)


وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ (6)

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله( وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ ) قال : دفء اللحف (1) التي جعلها الله منها.
حدثنا ابن وكيع ، قال : ثنا محمد بن بكر ، عن ابن جريج ، قال : بلغني ، عن مجاهد( وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ ) قال : نتاجها وركوبها وألبانها ولحومها.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ (6) }
__________
(1) اللحف : جمع لحاف ، وهو كل ما يلتحف به الإنسان للدفء ، من عباءة ، وكساء ، ونحوهما.

(17/169)


وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (7)

القول في تأويل قوله تعالى : { وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلا بِشِقِّ الأنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (7) }
يقول تعالى ذكره : ولكم في هذه الأنعام والمواشي التي خلقها لكم( جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ ) يعني : تردّونها بالعشيّ من مسارحها إلى مراحها ومنازلها التي تأوي إليها ولذلك سمي المكان المراح ، لأنها تراح إليه عشيا فتأوي إليه ، يقال منه : أراح فلان ماشيته فهو يريحها إراحة ، وقوله( وَحِينَ تَسْرَحُونَ ) يقول : وفي وقت إخراجكموها غدوة من مُراحها إلى مسارحها ، يقال منه : سرح فلان ماشيته يسرحها تسريحا ، إذا أخرجها للرعي غدوة ، وسَرحت الماشية : إذا خرجت للمرعى تسرح سرحا وسروحا ، فالسرح بالغداة ، والإراحة بالعشيّ ، ومنه قول الشاعر :
كأنَّ بَقايا الأتْنِ فَوْقَ مُتُونِهِ... مدَّبُّ الدَّبىّ فَوْقَ النَّقا وَهْوَ سارِحُ (1)
وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله( وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ ) وذلك
__________
(1) لعل الشاعر يصف حمارًا وحشيًا . يقول : إن الأتن قد عضضنه ، فتركن فوق متونة آثارًا ، كانت كأنها طريق للدبى ، وهو صغار الجراد . فوق النقا ، وهو الكثيب الأبيض من الرمل . ولم أعثر على البيت ولا قائله .

(17/169)


أعجب ما يكون إذا راحت عظاما ضروعها ، طوالا أسنمتها ، وحين تسرحون إذا سرحت لرعيها.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : ثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة( وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ ) قال : إذا راحت كأعظم ما تكون أسنمة ، وأحسن ما تكون ضروعا.
وقوله( وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلا بِشِقِّ الأنْفُسِ ) يقول : وتحمل هذه الأنعام أثقالكم إلى بلد آخر لم تكونوا بالغيه إلا بجهد من أنفسكم شديد ، ومشقة عظيمة. كما حدثنا أحمد بن إسحاق ، قال : ثنا أبو أحمد ، قال : ثنا شريك ، عن جابر ، عن عكرمة( وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلا بِشِقِّ الأنْفُسِ ) قال : لو تكلفونه لم تبلغوه إلا بجهد شديد.
حدثنا ابن وكيع ، قال : ثنا يحيى بن آدم ، عن شريك ، عن سماك ، عن عكرمة( إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلا بِشِقِّ الأنْفُسِ ) قال : لو كلفتموه لم تبلغوه إلا بشقّ الأنفس.
حدثني المثنى ، قال : ثنا الحماني ، قال : ثنا شريك ، عن سماك ، عن عكرمة( إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلا بِشِقِّ الأنْفُسِ ) قال : البلد : مكة.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء وحدثني المثنى ، قال : أخبرنا أبو حُذيفة ، قال : ثنا شبل وحدثني المثنى ، قال : أخبرنا إسحاق ، قال : ثنا عبد الله ، عن ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قول الله( إِلا بِشِقِّ الأنْفُسِ ) قال : مشقة عليكم.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله( وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلا بِشِقِّ الأنْفُسِ ) يقول : بجهد الأنفس.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : ثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، بنحوه.

(17/170)


واختلفت القرّاء في قراءة ذلك ، فقرأته عامَّة قرّاء الأمصار بكسر الشين( إِلا بِشِقِّ الأنْفُسِ ) سوى أبي جعفر القارئ ، فإن المثنى حدثني ، قال : ثنا إسحاق ، قال : ثنا عبد الرحمن بن أبي حماد ، قال : ثني أبو سعيد الرازي ، عن أبي جعفر قارئ المدينة ، أنه كان يقرأ " لم تكونوا بالغيه إلا بشق الأنفس " بفتح الشين ، وكان يقول : إنما الشقّ : شقّ النفس. وقال ابن أبي حماد : وكان معاذ الهرّاء يقول : هي لغة ، تقول العرب بشَقّ وبشِقّ ، وبرَق وبرِق.
والصواب من القراءة في ذلك عندنا ما عليه قرّاء الأمصار وهي كسر الشين ، لإجماع الحجة من القرّاء عليه وشذوذ ما خالفه ، وقد يُنشد هذا البيت بكسر الشين وفتحها ، وذلك قول الشاعر :
وذِي إبِلٍ يَسْعَى وَيحْسِبُها لَهُ... أخِي نَصَبٍ مِنْ شَقِّها ودُءُوبِ (1)
و " من شَقِها " أيضا بالكسر والفتح ، وكذلك قول العجاج :
أصبحَ مَسْحُولٌ يُوَازِي شَقًّا (2)
و " شقا " بالفتح والكسر. ويعني بقوله " يوازي شَقا " : يقاسي مشقة. وكان بعض أهل العربية يذهب بالفتح إلى المصدر من شققت عليه أشقّ شقا ، وبالكسر إلى الاسم. وقد يجوز أن يكون الذين قرءوا بالكسر أرادوا إلا بنقص من القوّة وذهاب شيء منها حتى لا يبلغه إلا بعد نقصها ، فيكون معناه عند ذلك : لم تكونوا بالغيه إلا بشقّ قوى أنفسكم ، وذهاب شقها الآخر ، ويحكى عن العرب : خذ هذا الشَّقَّ : لشقة الشاة بالكسر ، فأما في شقت عليك شقا فلم يحك فيه إلا النصب.
وقوله( إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ ) يقول تعالى ذكره : إن ربكم أيها الناس ذو رأفة بكم ، ورحمة ، من رحمته بكم ، خلق لكم الأنعام لمنافعكم ومصالحكم ، وخلق السموات والأرض أدلة لكم على وحدانية ربكم ومعرفة إلهكم ،
__________
(1) البيت للنمر بن تولب العكلي ( اللسان : شقق ) وقال أبو عبيدة في معاني القرآن ( 1 : 356 ) " إلا بشق الأنفس " بكسر أوله وبفتح ، ومعناه : بمشقة الأنفس . وفي اللسان : الشق المشقة . قال ابن بري شاهد الكسر قول النمر بن تولب : وذي إبل ... البيت .
(2) البيت في ديوان العجاج ( طبع ليبسج سنة 1903 ص 440 ) وهو شاهد على أن الشق بالكسر بمعنى المشقة . ومسحول : يعني بعيره ، ويوازي : يقاسي .

(17/171)


وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (8)

لتشكروه على نعمه عليكم ، فيزيدكم من فضله.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ (8) }
يقول تعالى ذكره : وخلق الخيل والبغال والحمير لكم أيضا لتركبوها وزينة : يقول : وجعلها لكم زينة تتزينون بها مع المنافع التي فيها لكم ، للركوب وغير ذلك ، ونصب الخيل والبغال عطفا على الهاء والألف في قوله(خَلَقَها) ، ونصب الزينة بفعل مضمر على ما بيَّنت ، ولو لم يكن معها واو وكان الكلام : لتركبوها زينة ، كانت منصوبة بالفعل الذي قبلها الذي هي به متصلة ، ولكن دخول الواو آذنت بأن معها ضمير فعل ، وبانقطاعها عن الفعل الذي قبلها.
وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : ثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة( لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً ) قال : جعلها لتركبوها ، وجعلها زينة لكم ، وكان بعض أهل العلم يرى أن في هذه الآية دلالة على تحريم أكل لحوم الخيل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا يحيي بن واضح ، قال : ثنا أبو ضمرة ، عن أبي إسحاق ، عن رجل ، عن ابن عباس ، قوله( وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا ) قال : هذه للركوب.( وَالأنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ ) قال : هذه للأكل.
حدثني يعقوب ، قال : ثنا ابن علية ، قال : ثنا هشام الدستوائي ، قال : ثنا يحيى بن أبي كثير ، عن مولى نافع بن علقمة : أن ابن عباس كان يكره لحوم الخيل والبغال والحمير ، وكان يقول : قال الله( وَالأنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ ) فهذه للأكل ، ( وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا ) فهذه للركوب.
حدثنا ابن وكيع ، قال : ثنا أبي ، عن ابن أبي ليلى ، عن المنهال ، عن سعيد ، عن ابن عباس : أنه سئل عن لحوم الخيل ، فكرهها وتلا هذه الآية

(17/172)


( وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا ) ... الآية.
حدثنا أحمد ، قال : ثنا أبو أحمد ، قال : ثنا قيس بن الربيع ، عن ابن أبي ليلى عن المنهال بن عمرو ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : أنه سئل عن لحوم الخيل ، فقال : اقرأ التي قبلها( وَالأنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً ) فجعل هذه للأكل ، وهذه للركوب.
حدثنا ابن وكيع ، قال : ثنا يحيى بن عبد الملك بن أبي غنية ، عن أبيه ، عن الحكم( وَالأنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ ) فجعل منه الأكل. ثم قرأ حتى بلغ( وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا ) قال : لم يجعل لكم فيها أكلا. قال : وكان الحكم يقول : والخيل والبغال والحمير حرام في كتاب الله.
حدثنا أحمد ، قال : ثنا أبو أحمد ، قال : ثنا ابن أبي غنية ، عن الحكم ، قال : لحوم الخيل حرام في كتاب الله ، ثم قرأ( وَالأنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ ) ... إلى قوله( لِتَرْكَبُوهَا ) . وكان جماعة غيرهم من أهل العلم يخالفونهم في هذا التأويل ، ويرون أن ذلك غير دالّ على تحريم شيء ، وأن الله جلّ ثناؤه إنما عرف عباده بهذه الآية وسائر ما في أوائل هذه السورة نعمه عليهم ونبههم به على حججه عليهم ، وأدلته على وحدانيته ، وخطأ فعل من يشرك به من أهل الشرك.
* ذكر بعض من كان لا يرى بأسا بأكل لحم الفرس.
حدثنا ابن وكيع ، قال : ثنا أبي ، عن شعبة ، عن مغيرة ، عن إبراهيم ، عن الأسود : أنه أكل لحم الفرس.
حدثنا ابن وكيع ، قال : ثنا أبي ، عن شعبة ، عن الحكم ، عن إبراهيم ، عن الأسود بنحوه.
حدثنا أحمد ، قال : ثنا أبو أحمد ، قال : ثنا سفيان ، عن منصور ، عن إبراهيم قال : نحر أصحابنا فرسا في النجع وأكلوا منه ، ولم يروا به بأسا.
والصواب من القول في ذلك عندنا ما قاله أهل القول الثاني ، وذلك أنه لو كان في قوله تعالى ذكره( لِتَرْكَبُوهَا ) دلالة على أنها لا تصلح ، إذ كانت

(17/173)


وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَائِرٌ وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ (9)

للركوب للأكل - لكان في قوله( فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ ) دلالة على أنها لا تصلح إذ كانت للأكل والدفء للركوب. وفي إجماع الجميع على أن ركوب ما قال تعالى ذكره( وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ ) جائز حلال غير حرام ، دليل واضح على أن أكل ما قال( لِتَرْكَبُوهَا ) جائز حلال غير حرام ، إلا بما نص على تحريمه أو وضع على تحريمه دلالة من كتاب أو وحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم . فأما بهذه الآية فلا يحرم أكل شيء. وقد وضع الدلالة على تحريم لحوم الحمر الأهلية بوحيه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وعلى البغال بما قد بيَّنا في كتابنا ، كتاب الأطعمة بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع ، إذ لم يكن هذا الموضع من مواضع البيان عن تحريم ذلك ، وإنما ذكرنا ما ذكرنا ليدلّ على أنه لا وجه لقول من استدلّ بهذه الآية على تحريم لحم الفرس.
حدثنا أحمد ، ثنا أبو أحمد ، قال : ثنا إسرائيل ، عن عبد الكريم ، عن عطاء ، عن جابر ، قال : كنا نأكل لحم الخيل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم. قلت : فالبغال ؟ قال : أما البغال فلا.
وقوله( وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ ) يقول تعالى ذكره : ويخلق ربكم مع خلقه هذه الأشياء التي ذكرها لكم ما لا تعلمون مما أعدّ في الجنة لأهلها وفي النار لأهلها مما لم تره عين ولا سمعته أذن ولا خطر على قلب بشر.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَائِرٌ وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ (9) }
يقول تعالى ذكره : وعلى الله أيها الناس بيان طريق الحقّ لكم ، فمن اهتدى فلنفسه ، ومن ضلّ فإنما يضلّ عليها ، والسبيل : هي الطريق ، والقصد من الطريق المستقيم الذي لا اعوجاج فيه ، كما قال الراجز :
فَصَدَّ عَنْ نَهْجِ الطَّرِيقِ القاصِدِ (1)
__________
(1) البيت شاهد على أن الطريق القاصد معناه : المستقيم . قال في اللسان : القصد : استقامة الطريق ، قصد يقصد قصدا فهو قاصد ، وقوله تعالى : ( وعلى الله قصد السبيل ومنها جائر ) أي على الله تبيين الطريق المستقيم ، والدعاء بالحجج والبراهين الواضحة . " ومنها جائر " أي ومنها طريق غير قاصد .
وطريق قاصد : سهل مستقيم .

(17/174)


وقوله( وَمِنْهَا جَائِرٌ ) يعني تعالى ذكره : ومن السبيل جائر عن الاستقامة معوجّ ، فالقاصد من السبيل : الإسلام ، والجائر منها : اليهودية والنصرانية ، وغير ذلك من ملل الكفر كلها جائر عن سواء السبيل وقصدها ، سوى الحنيفية المسلمة ، وقيل : ومنها جائر ، لأن السبيل يؤنث ويذكر ، فأنثت في هذا الموضع ، وقد كان بعضهم يقول : وإنما قيل : ومنها ، لأن السبيل وإن كان لفظها لفظ واحد فمعناها الجمع.
وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى ، قال : أخبرنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله( وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ ) يقول : البيان.
حدثنا محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله( وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ ) يقول : على الله البيان ، أن يبين الهدى والضلالة.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن. قال : ثنا ورقاء وحدثني المثنى ، قال : أخبرنا أبو حذيفة ، قال : ثنا شبل وحدثني المثنى ، قال : أخبرنا إسحاق ، قال : ثنا عبد الله ، عن ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد( وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ ) قال : طريق الحقّ على الله.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، في قوله( وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ ) يقول : على الله البيان ، بيان حلاله وحرامه وطاعته ومعصيته.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله( وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ ) قال : السبيل : طريق الهدى.

(17/175)


حدثنا ابن وكيع ، قال : ثنا أبو معاوية ، عن جويبر ، عن الضحاك( وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ ) قال : إنارتها.
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : ثنا عبيد بن سليمان ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله( وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ ) يقول : على الله البيان ، يبين الهدى من الضلالة ، ويبين السبيل التي تفرّقت عن سبله ، ومنها جائر.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( وَمِنْهَا جَائِرٌ ) : أي من السبل ، سبل الشيطان ، وفي قراءة عبد الله بن مسعود : " وَمِنْكُمْ جَائِرٌ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَهَدَاكُمْ أجمَعِينَ " .
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : ثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة( وَمِنْهَا جَائِرٌ ) قال : في حرف ابن مسعود : " وَمِنْكُمْ جَائِرٌ " .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، في قوله( وَمِنْهَا جَائِرٌ ) يعني : السبل المتفرّقة.
حدثني عليّ بن داود ، قال : ثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، في قوله( وَمِنْهَا جَائِرٌ ) يقول : الأهواء المختلفة.
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقاله : ثنا عبيد بن سليمان ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله( وَمِنْهَا جَائِرٌ ) يعني السبل التي تفرّقت عن سبيله.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج( وَمِنْهَا جَائِرٌ ) السبل المتفرقة عن سبيله.
حدثنا يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله( وَمِنْهَا جَائِرٌ ) قال : من السبل جائر عن الحقّ قال : قال الله( وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ )
وقوله( وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ ) يقول : ولو شاء الله للطف بجميعكم أيها الناس بتوفيقه ، فكنتم تهتدون وتلزمون قصد السبيل ، ولا تجورون عنه ، فتتفرّقون في سبل عن الحقّ جائرة.

(17/176)


هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ (10)

كما حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله( وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ ) قال : لو شاء لهداكم أجمعين لقصد السبيل ، الذي هو الحقّ ، وقرأ( وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَنْ فِي الأرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا ) الآية ، وقرأ( وَلَوْ شِئْنَا لآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا ) ... الآية.
القول في تأويل قوله تعالى : { هُوَ الَّذِي أَنزلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ (10) }
يقول تعالى ذكره : والذي أنعم عليكم هذه النعم ، وخلق لكم الأنعام والخيل وسائر البهائم لمنافعكم ومصالحكم ، هو الربّ الذي أنزل من السماء ماء ، يعني : مطرا لكم من ذلك الماء ، شراب تشربونه ، ومنه شراب أشجاركم ، وحياة غروسكم ونباتها( فِيهِ تُسِيمُونَ ) يقول : في الشجر الذي ينبت من الماء الذي أنزل من السماء تسيمون ، ترعون ، يقال منه : أسام فلان إبله يسيمها إسامة ، إذا أرعاها ، وسومها أيضا يسومها ، وسامت هي : إذ رعت ، فهي تسوم ، وهي إبل سائمة ومن ذلك قيل للمواشي المطلقة في الفلاة وغيرها للرعي ، سائمة. وقد وجَّه بعضهم معنى السوم في البيع إلى أنه من هذا ، وأنه ذهاب كلّ واحد من المتبايعين فيما ينبغي له من زيادة ثمن ونقصانه ، كما تذهب سوائم المواشي حيث شاءت من مراعيها ، ومنه قول الأعشى :
وَمَشَى القَوْمُ بالعمادِ إلى المَرْ... عَى وأعْيا المُسِيمَ أيْنَ المَساقُ (1)
وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن وكيع ، قال : ثنا أبي ، عن النضْر بن عربي ، عن عكرمة( وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ ) قال : ترعون.
__________
(1) البيت للأعشى بن ثعلبة : ميمون بن قيس ( ديوانه طبع القاهرة بشرح الدكتور محمد حسين ص 213 ) من قصيدة له قالها بنجران يتشوق إلى قومه مفتخرًا بهم . والرواية فيه " إلى الرزحى " بدل " إلى المرعى " يقول : هزل الإبل الجوع ، فسقطت على الأرض من الإعياء ، ومشى الناس إليها ، يضعون الأعمدة تحت بطونها ، ليعينوها على الوقوف . وأعيا الراعي أن يجد المراعي لاستحكام الجدب . والرزحى : الإبل ، تهزل ، فلا تستطيع المشي ، فتسقط ، وهي جمع رازح يضعون العماد تحت بطونها ، ثم يرفعونها والميم : اسم فاعل من آسام الماشية : أرعاها في المرعى . وقال أبو عبيدة ، في مجاز القرآن : ( 1 : 357 ) يقال : أسمت إبلي ، وسامت هي : أي رعيتها .

(17/177)


حدثنا أحمد بن سهيل الواسطي ، قال : ثنا قرة بن عيسى ، عن النضر بن عربي ، عن عكرمة ، في قوله( فِيهِ تُسِيمُونَ ) قال : ترعون.
حدثنا ابن وكيع ، قال : ثنا أبي ، عن سفيان ، عن خصيف ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، قال : ترعون.
حدثني بن داود ، قال : ثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، مثله.
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله( وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ ) يقول : شجر يرعون فيه أنعامهم وشاءهم.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قال ابن عباس( فِيهِ تُسِيمُونَ ) قال : ترعون.
حدثنا ابن وكيع ، قال : ثنا أبو معاوية وأبو خالد ، عن جويبر ، عن الضحاك : فيه ترعون.
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : ثنا عبيد ، عن الضحاك ، في قوله( تُسِيمُونَ ) يقول : ترعون أنعامكم.
حدثنا ابن وكيع ، قال : ثنا أبي ، عن طلحة بن أبي طلحة القناد ، قال : سمعت عبد الله بن عبد الرحمن بن أبزى ، قال : فيه ترعون.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله( شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ ) يقول : ترعون.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : ثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، قال : ترعون.
حدثنا محمد بن سنان ، قال : ثنا سليمان ، قال : ثنا أبو هلال ، عن قتادة في قول الله( شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ ) قال : تَرْعون.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله( وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ ) قال : تَرْعون. قال : الإسامة : الرّعية.
وقال

(17/178)


يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (11) وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (12)

الشاعر :
مثلَ ابنِ بَزْعَةَ أو كآخَرَ مِثْلِهِ... أوْلى لَكَ ابنَ مُسِيمةِ الأجْمالِ (1)
قال : يا ابن راعية الأجمال.
القول في تأويل قوله تعالى : { يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالأعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (11) }
يقول تعالى ذكره : يُنبت لكم ربكم بالماء الذي أنزل لكم من السماء زرعَكم وزيتونَكم ونخيلكم وأعنابكم ، ( وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ ) يعني من كلّ الفواكه غير ذلك أرزاقا لكم وأقواتا وإداما وفاكهة ، نعمة منه عليكم بذلك وتفضّلا وحُجة على من كفر به منكم( إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً ) يقول جلّ ثناؤه : إن في إخراج الله بما ينزل من السماء من ماء ما وصف لكم( لآيَةً ) يقول : لدلالة واضحة ، وعلامة بينة( لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ) يقول : لقوم يعتبرون مواعظ الله ، ويتفكَّرون في حججه ، فيتذكرون وينيبون.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (12) }
يقول تعالى ذكره : ومن نِعَمه عليكم أيها الناس مع التي ذكرها قبل أن سخر لكم الليل والنهار يتعاقبان عليكم ، هذا لتصرّفكم في معاشكم ، وهذا لسكنكم فيه ، ( وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ ) لمعرفة أوقات أزمنتكم وشهوركم وسنينكم ، وصلاح معايشكم( وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ ) لكم بأمر الله تجري في فلكها لتهتدوا بها في ظلمات البرّ والبحر( إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ) يقول تعالى ذكره : إن في تسخير الله ذلك على ما سخره لدلالات واضحات لقوم يعقلون حجج
__________
(1) البيت تقدم الاستشهاد به في الجزء الثالث من هذا التفسير ( ص 204 ) فارجع إلى شرحنا له في ذلك الموضع وهو هنا شاهد على أن معنى " تسيمون " : ترعون : أي تخرجونها إلى المرعى.

(17/179)


وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (13) وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (14)

الله ويفهمون عنه تنبيهه إياهم.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الأرْضِ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (13) }
يعني جلّ ثناؤه بقوله( وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ ) وسخر لكم ما ذرأ : أي ما خلق لكم في الأرض مختلفا ألوانه من الدوابّ والثمار.
كما حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله( وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الأرْضِ ) يقول : وما خلق لكم مختلفا ألوانه من الدوابّ ، ومن الشجر والثمار ، نعم من الله متظاهرة فاشكروها لله.
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، قال : من الدوابّ والأشجار والثمار ، ونصب قوله مختلفا ، لأن قوله(وما) في موضع نصب بالمعنى الذي وصفت. وإذا كان ذلك كذلك ، وجب أن يكون مختلفا ألوانه حالا من " ما " ، والخبر دونه تامّ ، ولو لم تكن " ما " في موضع نصب ، وكان الكلام مبتدأ من قوله( وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ ) لم يكن في مختلف إلا الرفع ، لأنه كان يصير مرافع " ما " حينئذ.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (14) }
يقول تعالى ذكره : والذي فعل هذه الأفعال بكم ، وأنعم عليكم ، أيها الناس هذه النعم ، الذي سخر لكم البحر ، وهو كلّ نهر ، ملحا ماؤه أو عذبا( لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا ) وهو السمك الذي يصطاد منه.( وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا ) وهو اللؤلؤ والمرجان.
كما حدثني المثنى ، قال : أخبرنا إسحاق ، قال : أخبرنا هشام ، عن

(17/180)


عمرو ، عن سعيد ، عن قتادة ، في قوله( وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا ) قال : منهما جميعا.( وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا ) قال : هذا اللؤلؤ.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا ) يعني حيتان البحر.
حدثني المثنى ، قال : أخبرنا إسحاق ، قال : ثنا حماد ، عن يحيى ، قال : ثنا إسماعيل بن عبد الملك ، قال : جاء رجل إلى أبي جعفر ، فقال : هل في حليّ النساء صدقة ؟ قال : لا هي كما قال الله تعالى( حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ ) يعني السفن ، ( مَوَاخِرَ فِيهِ ) وهي جمع ماخرة.
وقد اختلف أهل التأويل في تأويل قوله( مَوَاخِرَ ) فقال بعضهم : المواخر : المواقر.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا عمرو بن موسى القزاز ، قال : ثنا عبد الوارث ، قال : ثنا يونس ، عن الحسن ، في قوله( وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ ) قال : المواقر.
وقال آخرون في ذلك ما حدثنا به عبد الرحمن بن الأسود ، قال : ثنا محمد بن ربيعة ، عن أبي بكر الأصمّ ، عن عكرمة ، في قوله( وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ ) قال : ما أخذ عن يمين السفينة وعن يسارها من الماء ، فهو المواخر.
حدثنا ابن وكيع ، قال : ثنا أبي ، عن أبي مكين ، عن عكرمة ، في قوله( وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ ) قال : هي السفينة تقول بالماء هكذا ، يعني تشقه.
وقال آخرون فيه ما حدثنا ابن وكيع ، قال : ثنا أبو أسامة ، عن إسماعيل ، عن أبي صالح( وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ ) قال : تجري فيه متعرّضة.
وقال آخرون فيه ، بما حدثني به محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد( وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ ) قال : تمخر السفينة الرياح ، ولا تمخر الريح من السفن إلا الفلك العظام.
حدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء وحدثني المثنى ، قال : أخبرنا أبو حُذيفة ، قال : ثنا شبل وحدثني المثنى ، قال : ثنا إسحاق ،

(17/181)


قال : ثنا عبد الله عن ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد نحوه ، غير أن الحارث قال في حديثه : ولا تمخر الرياح من السفن.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، نحوه.
حدثنا يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله(مَوَاخرَ) قال : تمخر الريح.
وقال آخرون فيه ، ماحدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ ) تجري بريح واحدة ، مُقبلة ومُدبرة.
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، قال : تجري مقبلة ومدبرة بريح واحدة.
حدثنا المثنى ، قال : أخبرنا إسحاق ، قال : ثنا يحيى بن سعيد ، عن يزيد بن إبراهيم ، قال : سمعت الحسن( وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ ) قال : مقبلة ومدبرة بريح واحدة ، والمخْر في كلام العرب : صوت هبوب الريح ، إذا اشتدّ هبوبها ، وهو في هذا الموضع : صوت جري السفينة بالريح إذا عصفت وشقها الماء حينئذ بصدرها ، يقال منه : مخرت السفينة تمخر مخرا ومخورا ، وهي ماخرة ، ويقال : امتخرت الريح وتمخرتها : إذا نظرتَ من أين هبوبها وتسمَّعت صوت هبوبها ، ومنه قول واصل مولى ابن عيينة. كان يقال : إذا أراد أحدكم البول فليتمخر الريح ، يريد بذلك : لينظر من أين مجراها وهبوبها ليستدبرها فلا ترجع عليه البول وتردّه عليه.
وقوله( وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ ) يقول تعالى ذكره : ولتتصرّفوا في طلب معايشكم بالتجارة سخر لكم.
كما حدثني المثنى ، قال : ثنا أبو حذيفة ، قال : ثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد( وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ ) قال : تجارة البرّ والبحر.
وقوله( وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ) يقول : ولتشكروا ربكم على ما أنعم به عليكم من ذلك سخر لكم ما سخر من هذه الأشياء التي عدّدها في هذه الآيات.

(17/182)


وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَارًا وَسُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (15)

القول في تأويل قوله تعالى : { وَأَلْقَى فِي الأرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَارًا وَسُبُلا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (15) }
يقول تعالى ذكره : ومن نعمه عليكم أيها الناس أيضا ، أن ألقى في الأرض رواسي ، وهي جمع راسية ، وهي الثوابت في الأرض من الحبال. وقوله( أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ ) يعني : أن لا تميد بكم ، وذلك كقوله( يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا ) والمعنى : أن لا تضلوا. وذلك أنه جلّ ثناؤه أرسى الأرض بالجبال لئلا يميد خلقه الذي على ظهرها ، بل وقد كانت مائدة قبل أن تُرْسَى بها.
كما حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، عن الحسن ، عن قيس بن عباد : أن الله تبارك وتعالى لما خلق الأرض جعلت تمور ، قالت الملائكة. ما هذه بمقرّة على ظهرها أحدا ، فأصبحت صبحا وفيها رواسيها.
حدثني المثنى ، قال : ثنا الحجاج بن المنهال ، قال : ثنا حماد ، عن عطاء بن السائب ، عن عبد الله بن حبيب ، عن عليّ بن أبي طالب ، قال : لما خلق الله الأرض قمصت ، وقالت : أي ربّ أتجعل عليّ بني آدم يعملون عليّ الخطايا ويجعلون عليّ الخبث ، قال : فأرسى الله عليها من الجبال ما ترون وما لا ترون ، فكان قرارها كاللحم يترجرج ، والميد : هو الاضطراب والتكفؤ ، يقال : مادت السفينة تميد ميدا : إذا تكفأت بأهلها ومالت ، ومنه الميد الذي يعتري راكب البحر ، وهو الدوار.
وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى ، قال : ثنا أبو حذيفة ، قال : ثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد( أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ ) : أن تكفأ بكم.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين. قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله.
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، عن الحسن ، في قوله( وَأَلْقَى فِي الأرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ ) قال : الجبال أن تميد بكم. قال قتادة : سمعت الحسن يقول : لما خلقت الأرض كادت

(17/183)


تميد ، فقالوا : ما هذه بمقرّة على ظهرها أحدا ، فأصبحوا وقد خُلقت الجبال ، فلم تدر الملائكة مم خُلقت الجبال.
وقوله( وأنهَارًا) يقول : وجعل فيها أنهارا ، فعطف بالأنهار على الرواسي ، وأعمل فيها ما أعمل في الرواسي ، إذ كان مفهوما معنى الكلام والمراد منه ، وذلك نظير قول الراجز :
تَسْمَعُ في أجْوَافِهِنَّ صَوْرَا... وفي اليَدَيْنِ حَشَّةً وبَوْرا (1)
والحشة : اليُبس ، فعطف بالحشة على الصوت ، والحشة لا تسمع ، إذ كان مفهوما المراد منه وأن معناه وترى في اليدين حَشَّةً.
وقوله( وَسُبُلا) وهي جمع سبيل ، كما الطرق : جمع طريق ، ومعنى الكلام : وجعل لكم أيها الناس في الأرض سُبلا وفجاجا تسلكونها ، وتسيرون فيها في حوائجكم ، وطلب معايشكم رحمة بكم ، ونعمة منه بذلك عليكم ولو عماها عليكم لهلكتم ضلالا وحيرة.
وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله( سُبُلا) أي طرقا.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : ثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة( سُبُلا) قال : طرقا.
وقوله( لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ) يقول : لكي تهتدوا بهذه السبل التي جعلها لكم في الأرض إلى الأماكن التي تقصدون والمواضع التي تريدون ، فلا تضلوا وتتحيروا.
__________
(1) هذا من الرجز ، ولم أقف على قائله . والصور الصوت ( اللسان ) ، أو لعله محرف عن الضور بالضاد ، والمراد به : الصوت يشبه الأنين في الجوف من شدة الجوع ، قال في اللسان : الضور : شدة الجوع . والتضور ، التلوي والصياح ، من وجع الضرب أو الجوع . وتضور الذئب والكلب والأسد والثعلب : صاح عند الجوع . والحشة ، بتشديد الشين " اليبس ، يقال حشت اليد وأحشت وهو محش : يبست . وأكثر ذلك في الشلل . والبور بالفتح : مصدر بار ، بمعنى هلك وفسد . والبور أيضًا : الهالك الفاسد ، ولعله يريد وصف ناقته بأنه أضر بها الجوع فصاحت ، وأن في يديها يبسا أي شللا وفسادا . وقد بين الإمام الطبري موضع الشاهد في التفسير.

(17/184)


وَعَلَامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ (16)

القول في تأويل قوله تعالى : { وَعَلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ (16) }
اختلف أهل التأويل في المعنى بالعلامات ، فقال بعضهم : عني بها معالم الطرق بالنهار.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس( وَعَلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ ) يعني بالعلامات : معالم الطرق بالنهار ، وبالنجم هم يهتدون بالليل.
وقال آخرون : عني بها النجوم.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن بشار ، قال : ثنا يحيى ، عن سفيان ، عن منصور ، عن إبراهيم( وَعَلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ ) قال : منها ما يكون علامات ، ومنها ما يهتدون به .
حدثنا ابن وكيع ، قال : ثنا أبي ، عن سفيان ، عن منصور ، عن مجاهد( وَعَلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ ) قال : منها ما يكون علامة ، ومنها ما يهتدى به.
حدثني المثنى ، قال : أخبرنا إسحاق ، قال : ثنا وكيع ، عن سفيان ، عن منصور ، عن مجاهد ، مثله.
حدثني المثنى ، قال : أخبرنا إسحاق ، قال : ثنا قبيصة ، عن سفيان ، عن منصور ، عن إبراهيم ، مثله.
قال المثنى : قال : ثنا إسحاق خالف قبيصة وكيعا في الإسناد.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله( وَعَلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ ) والعلامات : النجوم ، وإن الله تبارك وتعالى إنما خلق هذه النجوم لثلاث خصلات : جعلها زينة للسماء ، وجعلها يهتدي بها ، وجعلها رجوما للشياطين. فمن تعاطى فيها غير ذلك ، فقد رأيه وأخطأ حظه وأضاع نصيبه وتكلَّف ما لا علم له به.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : ثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة( وَعَلامَاتٍ ) قال النجوم.

(17/185)


أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (17) وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (18)

وقال آخرون : عني بها الجبال.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد ، قال : ثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن الكلبي( وَعَلامَاتٍ ) قال : الجبال.
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال : إن الله تعالى ذكره عدّد على عباده من نعمه ، إنعامه عليهم بما جعل لهم من العلامات التي يهتدون بها في مسالكهم وطرقهم التي يسيرونها ، ولم يخصص بذلك بعض العلامات دون بعض ، فكلّ علامة استدلّ بها الناس على طرقهم ، وفجاج سبُلهم ، فداخل في قوله( وَعَلامَاتٍ ) والطرق المسبولة : الموطوءة ، علامة للناحية المقصودة ، والجبال علامات يهتدي بهن إلى قصد السبيل ، وكذلك النجوم بالليل. غير أن الذي هو أولى بتأويل الآية أن تكون العلامات من أدلة النهار ، إذ كان الله قد فصل منها أدلة الليل بقوله( وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ ) وإذا كان ذلك أشبه وأولى بتأويل الآية ، فالواجب أن يكون القول في ذلك ما قاله ابن عباس في الخبر الذي رويناه عن عطية عنه ، وهو أن العلامات معالم الطرق وأماراتها التي يهتدى بها إلى المستقيم منها نهارا ، وأن يكون النجم الذي يهتدى به ليلا هو الجدي والفرقدان ، لأن بها اهتداء السفر دون غيرها من النجوم.
فتأويل الكلام إذن : وجعل لكم أيها الناس علامات تستدلون بها نهارا على طرقكم في أسفاركم. ونجوما تهتدون بها ليلا في سُبلكم.
القول في تأويل قوله تعالى : { أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (17) وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (18) }
يقول تعالى ذكره لعبدة الأوثان والأصنام : أفمن يخلق هذه الخلائق العجيبة التي عددناها عليكم وينعم عليكم هذه النعم العظيمة ، كمن لا يخلق شيئا ولا ينعم عليكم نعمة صغيرة ولا كبيرة ؟ يقول : أتشركون هذا في عبادة هذا ؟ يعرّفهم بذلك عظم جهلهم ، وسوء نظرهم لأنفسهم ، وقلَّة شكرهم لمن أنعم عليهم بالنعم التي عدّدها عليهم ، التي لا يحصيها أحد غيره ، قال لهم جلّ ثناؤه

(17/186)


وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ (19) وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ (20)

موبخهم( أَفَلا تَذَكَّرُونَ ) أيها الناس يقول : أفلا تذكرون نعم الله عليكم ، وعظيم سُلطانه وقُدرته على ما شاء ، وعجز أوثانكم وضعفها ومهانتها ، وأنها لا تجلب إلى نفسها نفعا ولا تدفع عنها ضرّا ، فتعرفوا بذلك خطأ ما أنتم عليه مقيمون من عبادتكموها وإقراركم لها بالألوهة ؟
كما حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله( أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ ) والله هو الخالق الرازق ، وهذه الأوثان التي تعبد من دون الله تخلق ولا تخلق شيئا ، ولا تملك لأهلها ضرّا ولا نفعا ، قال الله( أَفَلا تَذَكَّرُونَ ) . وقيل( كَمَنْ لا يَخْلُقُ ) هو الوثن والصنم ، و " من " لذوي التمييز خاصة ، فجعل في هذا الموضع لغيرهم للتمييز ، إذ وقع تفصيلا بين من يخلق ومن لا يخلق ، ومحكيّ عن العرب : اشتبه عليّ الراكب وجمله ، فما أدرى من ذا ومن ذا ، حيث جمعا ، وأحدهما إنسان حسنت من فيهما جميعا. ومنه قول الله عزّ وجلّ( فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ ) وقوله( وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا ) لا تطيقوا أداء شكرها ، ( إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ ) يقول جلّ ثناؤه : إن الله لغفور لما كان منكم من تقصير في شكر بعض ذلك إذا تبتم وأنبتم إلى طاعته واتباع مرضاته ، رحيم بكم أن يعذبكم عليه بعد الإنابة إليه والتوبة.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ (19) وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ (20) }
يقول تعالى ذكره : والله الذي هو إلهكم أيها الناس ، يعلم ما تسرّون في أنفسكم من ضمائركم فتخفونه عن غيركم ، فما تبدونه بألسنتكم وجوارحكم وما تعلنونه بألسنتكم وجوارحكم وأفعالكم ، وهو محص ذلك كله عليكم ، حتى يجازيكم به يوم القيامة ، المحسن منكم بإحسانه ، والمسيء منكم بإساءته ، ومُسائلكم عما كان منكم من الشكر في الدنيا على نعمه التي أنعمها عليكم فيها التي أحصيتم ، والتي لم تحصوا ، وقوله( وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَخْلُقُونَ

(17/187)


أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (21) إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (22)

شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ ) يقول تعالى ذكره : وأوثانكم الذين تدعون من دون الله أيها الناس آلهة لا تخلق شيئا وهي تخلق ، فكيف يكون إلها ما كان مصنوعا مدبرا ، لا تملك لأنفسها نفعا ولا ضرّا.
القول في تأويل قوله تعالى : { أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (21) }
يقول تعالى ذكره لهؤلاء المشركين من قريش : والذين تدعون من دون الله أيها الناس( أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ ) وجعلها جلّ ثناؤه أمواتا غير أحياء ، إذ كانت لا أرواح فيها.
كما حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله( أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ ) وهي هذه الأوثان التي تُعبد من دون الله أموات لا أرواح فيها ، ولا تملك لأهلها ضرّا ولا نفعا ، وفي رفع الأموات وجهان : أحدهما أن يكون خبرا للذين ، والآخر على الاستئناف وقوله( وَمَا يَشْعُرُونَ ) يقول : وما تدري أصنامكم التي تدعون من دون الله متى تبعث ، وقيل : إنما عنى بذلك الكفار ، إنهم لا يدرون متى يبعثون.
القول في تأويل قوله تعالى : { إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (22) }
يقول تعالى ذكره : معبودكم الذي يستحقّ عليكم العبادة ، وإفراد الطاعة له دون سائر الأشياء : معبود واحد ، لأنه لا تصلح العبادة إلا له ، فأفردوا له الطاعة وأخلصوا له العبادة ، ولا تجعلوا معه شريكا سواه( فَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ ) يقول تعالى ذكره : فالذين لا يصدّقون بوعد الله ووعيده ، ولا يقرّون بالمعاد إليه بعد الممات قلوبهم منكرة ، يقول تعالى ذكره : مستنكرة لما نقص عليهم من قدرة الله وعظمته ، وجميل نعمه عليهم ، وأن العبادة لا تصلح إلا له ، والألوهة ليست لشيء غيره يقول : وهم مستكبرون عن إفراد

(17/188)


لَا جَرَمَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ (23) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (24)

الله بالألوهة ، والإقرار له بالوحدانية ، اتباعا منهم لما مضى عليه من الشرك بالله أسلافهم.
كما حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله( فَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ ) لهذا الحديث الذي مضى ، وهم مستكبرون عنه.
القول في تأويل قوله تعالى : { لا جَرَمَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ (23) }
يعني تعالى ذكره بقوله : لا جرم حقا أن الله يعلم ما يسرّ هؤلاء المشركون من إنكارهم ما ذكرنا من الأنباء في هذه السورة ، واعتقادهم نكير قولنا لهم : إلهكم إله واحد ، واستكبارهم على الله ، وما يعلنون من كفرهم بالله وفريتهم عليه( إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ ) يقول : إن الله لا يحب المستكبرين عليه أن يوحدوه ويخلعوا ما دونه من الآلهة والأنداد.
كما حدثنا محمد بن عمرو ، قال : ثنا جعفر بن عون ، قال : ثنا مسعر ، عن رجل : أن الحسن بن عليّ كان يجلس إلى المساكين ، ثم يقول( إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِين ) .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَاذَا أَنزلَ رَبُّكُمْ قَالُوا أَسَاطِيرُ الأوَّلِينَ (24) }
يقول تعالى ذكره : وإذا قيل لهؤلاء الذين لا يؤمنون بالآخرة من المشركين ، ماذا أنزل ربكم ، أيّ شيء أنزل ربكم ، قالوا : الذي أنزل ما سطَّره الأوّلون من قبلنا من الأباطيل.
وكان ذلك كما حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله( مَاذَا أَنزلَ رَبُّكُمْ قَالُوا أَسَاطِيرُ الأوَّلِينَ ) يقول : أحاديث الأوّلين وباطلهم ، قال ذلك قوم من مشركي العرب كانوا يقعدون بطريق من أتى نبيّ الله صلى الله عليه وسلم ،

(17/189)


لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ (25)

فإذا مرّ بهم أحد من المؤمنين ، يريد نبيّ الله صلى الله عليه وسلم ، قالوا لهم : أساطير الأوّلين ، يريد : أحاديث الأوّلين وباطلهم.
حدثني المثنى ، قال : ثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله( أَسَاطِيرُ الأوَّلِينَ ) يقول : أحاديث الأوّلين.
القول في تأويل قوله تعالى : { لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلا سَاءَ مَا يَزِرُونَ (25) }
يقول تعالى ذكره : يقول هؤلاء المشركون لمن سألهم ، ماذا أنزل ربكم الذي أنزل ربنا فيما يزعم محمد عليه : أساطير الأوّلين ، لتكون لهم ذنوبهم التي هم عليها مقيمون من تكذيبهم الله ، وكفرهم بما أنزل على رسوله صلى الله عليه وسلم ، ومن ذنوب الذين يصدّونهم عن الإيمان بالله يضلون يفتنون منهم بغير علم ، وقوله( أَلا سَاءَ مَا يَزِرُونَ ) يقول : ألا ساء الإثم الذي يأثمون ، والثقل الذي يتحملون.
وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، عن ابن نجيح ، عن مجاهد ، قوله( لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ ) ومن أوزار من أضلوا احتمالهم ذنوب أنفسهم ، وذنوب من أطاعهم ، ولا يخفف ذلك عمن أطاعهم من العذاب شيئا.
حدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد. نحوه ، إلا أنه قال : ومن أوزار الذين يضلونهم حملهم ذنوب أنفسهم ، وسائر الحديث مثله.
حدثني المثنى ، قال : ثنا أبو حُذيفة ، قال : ثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، وحدثني المثنى ، قال : أخبرنا إسحاق ، قال : ثنا عبد الله ، عن ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد( لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ ) قال : حملهم ذنوب أنفسهم وذنوب من أطاعهم ، ولا يخفف ذلك عمن أطاعهم من العذاب شيئا.

(17/190)


حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، نحوه.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ ) أي ذنوبهم وذنوب الذين يضلونهم بغير علم ، ( أَلا سَاءَ مَا يَزِرُونَ )
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله( لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ ) يقول : يحملون ذنوبهم ، وذلك مثل قوله( وَأَثْقَالا مَعَ أَثْقَالِهِمْ ) يقول : يحملون مع ذنوبهم الذين يُضِلُّونهم بغير علم.
حدثني المثنى ، قال : أخبرنا إسحاق ، قال : ثنا عبد الله بن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع ، ( لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلا سَاءَ مَا يَزِرُونَ ) قال : قال : النبيّ صلى الله عليه وسلم " أَيُّمَا دَاعٍ دَعَا إِلَى ضَلالَةٍ فَاتُّبِعَ ، فَإِنَّ لَهُ مِثْلَ أَوْزَارِ مَنْ اتَّبَعَهُ من غَيْرِ أنْ يُنْقَصَ مِنْ أَوْزَارِهِمْ شَيْءٌ ، وَأَيُّمَا دَاعٍ دَعَا إِلَى هُدًى فَاتُّبِعَ فَلَهُ مِثْلَ أُجُورِهِمْ من غَيْرِ أنْ يُنْقَصَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْءٌ " .
حدثني المثنى ، قال : أخبرنا سويد ، قال : أخبرنا ابن المبارك ، عن رجل ، قال : قال زيد بن أسلم : " أنه بلغه أنه يتمثل للكافر عمله في صورة أقبح ما خلق الله وجها وأنتنه ريحًا ، فيجلس إلى جنبه ، كلما أفزعه شيء زاده فزعا وكلما تخوّف شيئا زاده خوفا ، فيقول : بئس الصاحب أنت ، ومن أنت ؟ فيقول : وما تعرفني ؟ فيقول : لا فيقول : أنا عملك كان قبيحا ، فلذلك تراني قبيحا ، وكان منتنا فلذلك تراني منتنا ، طأطئ إلىّ أركبك فطالما ركبتني في الدنيا ، فيركبه ، وهو قوله( لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ )
القول في تأويل قوله تعالى :

(17/191)


قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (26)

{ قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ (26) }
يقول تعالى ذكره : قد مكر الذين من قبل هؤلاء المشركين الذين يصدّون عن سبيل الله ، من أراد اتباع دين الله ، فراموا مغالبة الله ببناء بَنَوه ، يريدون بزعمهم الارتفاع إلى السماء لحرب من فيها ، وكان الذي رام ذلك فيما ذُكر لنا جبار من جبابرة النَّبَط ، فقال بعضهم : هو نمرود بن كنعان ، وقال بعضهم : هو بختنصر ، وقد ذكرت بعض أخبارهما في سورة إبراهيم. وقيل : إن الذي ذُكر في هذا الموضع هو الذي ذكره الله في سورة إبراهيم.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني موسى بن هارون ، قال : ثنا عمرو ، قال : ثنا أسباط ، عن السديّ ، قال : أمر الذي حاجّ إبراهيم في ربه بإبراهيم فأُخْرِج ، يعني من مدينته ، قال : فلقي لوطا على باب المدينة وهو ابن أخيه ، فدعاه فآمن به ، وقال : إني مهاجر إلى ربي ، وحلف نمرود أن يطلب إله إبراهيم ، فأخذ أربعة أفراخ من فِراخ النسور ، فرباهنّ باللحم والخبز حتى كبرن وغلظن واستعلجن ، فربطهنّ في تابوت ، وقعد في ذلك التابوت ثم رفع لهنّ رجلا من لحم ، فطرن ، حتى إذا ذهبن في السماء أشرف ينظر إلى الأرض ، فرأى الجبال تدبّ كدبيب النمل ، ثم رفع لهنّ اللحم ، ثم نظر فرأى الأرض محيطا بها بحر كأنها فلكة في ماء ، ثم رفع طويلا فوقع في ظلمة ، فلم ير ما فوقه وما تحته ، ففزع ، فألقى اللحم ، فاتبعته منقضَّات ، فلما نظرت الجبال إليهنّ ، وقد أقبلن منقضات وسمعت حفيفهنّ ، فزعت الجبال ، وكادت أن تزول من أمكنتها ولم يفعلن وذلك قول الله تعالى( وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ ) وهي في قراءة ابن مسعود : " وَإنْ كَادَ مَكْرُهُمْ " . فكان طَيْرُورتهن به من بيت المقدس ووقوعهن به في جبل الدخان ، فلما رأى أنه لا يطيق شيئا أخذ في بنيان الصرح ، فبنى حتى إذا شيده إلى السماء ارتقى فوقه ينظر ، يزعم إلى إله إبراهيم ، فأحدث ، ولم يكن يُحدث وأخذ الله بنيانه من القواعد( فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ ) يقول : من مأمنهم ، وأخذهم من أساس الصرح ، فتنقَّض بهم ، فسقط ، فتبلبلت ألسن

(17/192)


الناس يومئذ من الفزع ، فتكلموا بثلاثة وسبعين لسانا ، فلذلك سميت بابل ، وإنما كان لسان الناس من قبل ذلك بالسريانية.
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي. عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله( قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ ) قال : هو نمرود حين بنى الصرح.
حدثني المثنى ، قال : أخبرنا إسحاق ، قال : ثنا عبد الرزاق ، عن معمر ، عن زيد بن أسلم : إن أوّل جبار كان في الأرض نمرود ، فبعث الله عليه بعوضة فدخلت في منخره ، فمكث أربع مئة سنة يُضرب رأسه بالمطارق ، أرحم الناس به من جمع يديه ، فضرب رأسه بهما ، وكان جبارا أربع مئة سنة ، فعذّبه الله أربع مئة سنة كمُلكه ، ثم أماته الله ، وهو الذي كان بنى صَرْحا إلى السماء ، وهو الذي قال الله : ( فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ ) . وأما قوله( فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ ) فإن معناه : هدم الله بنيانهم من أصله ، والقواعد : جمع قاعدة ، وهي الأساس ، وكان بعضهم يقول : هذا مثَل للاستئصال ، وإنما معناه : إن الله استأصلهم ، وقال : العرب تقول ذلك إذا استؤصل الشيء.
وقوله( فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ ) اختلف أهل التأويل في معنى ذلك ، فقال بعضهم : معناه : فخرّ عليهم السقف من فوقهم : أعالي بيوتهم من فوقهم.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله( قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ ) إي والله ، لأتاها أمر الله من أصلها( فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ ) والسقف : أعالي البيوت ، فائتفكت بهم بيوتهم فأهلكهم الله ودمرهم( وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ )
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : ثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة( فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ ) قال : أتى الله بنيانهم من أصوله ، فخرّ عليهم السقف.

(17/193)


حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء وحدثني المثنى ، قال : أخبرنا أبو حُذيفة ، قال : ثنا شبل وحدثني المثنى ، قال : أخبرنا إسحاق ، قال : ثنا عبد الله ، عن ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد( فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ ) قال : مكر نمرود بن كنعان الذي حاجّ إبراهيم في ربه.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله.
وقال آخرون : عنى بقوله( فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ ) أن العذاب أتاهم من السماء.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله( فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ ) يقول : عذاب من السماء لمَّا رأوه استسلموا وذلوا.
وأولى القولين بتأويل الآية ، قول من قال : معنى ذلك : تساقطت عليهم سقوف بيوتهم ، إذ أتى أصولها وقواعدها أمر الله ، فائتفكت بهم منازلهم لأن ذلك هو الكلام المعروف من قواعد البنيان ، وخرّ السقف ، وتوجيه معاني كلام الله إلى الأشهر الأعرف منها ، أولى من توجيهها إلى غير ذلك ما وُجِد إليه سبيل( وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ ) يقول تعالى ذكره : وأتى هؤلاء الذين مكروا من قَبْل مشركي قريش ، عذاب الله من حيث لا يدرون أنه أتاهم منه.

(17/194)


ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُخْزِيهِمْ وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ قَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكَافِرِينَ (27)

القول في تأويل قوله تعالى : { ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُخْزِيهِمْ وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ قَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكَافِرِينَ (27) }
يقول تعالى ذكره : فعل الله بهؤلاء الذين مكروا الذين وصف الله جلّ ثناؤه أمرهم ما فعل بهم في الدنيا ، من تعجيل العذاب لهم ، والانتقام بكفرهم ، وجحودهم وحدانيته ، ثم هو مع ذلك يوم القيامة مخزيهم ، فمذلهم بعذاب أليم ،

(17/194)


الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ بَلَى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (28)

وقائل لهم عند ورودهم عليه( أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ ) أصله : من شاققت فلانا فهو يشاقُّني ، وذلك إذا فعل كلّ واحد منهما بصاحبه ما يشقّ عليه . يقول تعالى ذكره يوم القيامة تقريعا للمشركين بعبادتهم الأصنام : أين شركائي ؟ يقول : أين الذين كنتم تزعمون في الدنيا أنهم شركائي اليوم ، ما لهم لا يحضرونكم ، فيدفعوا عنكم ما أنا مُحلّ بكم من العذاب ، فقد كنتم تعبدونهم في الدنيا ، وتتولونهم ، والوليّ ينصر وليه ، وكانت مشاقتهم الله في أوثانهم مخالفتهم إياه في عبادتهم.
كما حدثني المثنى ، قال : ثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله( أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ ) يقول : تخالفوني.
وقوله( إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكَافِرِينَ ) يعني : الذلة والهوان والسوء ، يعني : عذاب الله على الكافرين.
القول في تأويل قوله تعالى : { الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ بَلَى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (28) }
يقول تعالى ذكره : قال الذين أوتوا العلم : إن الخزي اليوم والسوء على من كفر بالله فجحد وحدانيته( الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ) يقول : الذين تقبض أرواحهم الملائكة ، ( ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ ) يعني : وهم على كفرهم وشركهم بالله ، وقيل : إنه عنى بذلك من قتل من قريش ببدر ، وقد أخرج إليها كرها.
حدثني المثنى ، قال : أخبرنا إسحاق ، قال : ثنا يعقوب بن محمد الزهري ، قال : ثني سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار عن عكرمة ، قال : كان ناس بمكة أقرّوا بالإسلام ولم يهاجروا ، فأخرج بهم كرها إلى بدر ، فقتل بعضهم ، فأنزل الله فيهم( الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ )
وقوله( فَأَلْقَوُا السَّلَمَ ) يقول : فاستسلموا لأمره ، وانقادوا له حين عاينوا

(17/195)


فَادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (29) وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا خَيْرًا لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الْآَخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ (30)

الموت قد نزل بهم ، ( مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ ) وفي الكلام محذوف استغني بفهم سامعيه ما دلّ عليه الكلام عن ذكره وهو : قالوا ما كنا نعمل من سوء ، يخبر عنهم بذلك أنهم كذّبوا وقالوا : ما كنا نعصي الله اعتصاما منهم بالباطل رجاء أن ينجوا بذلك ، فكذّبهم الله فقال : بل كنتم تعملون السوء وتصدّون عن سبيل الله( إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ) يقول : إن الله ذو علم بما كنتم تعملون في الدنيا من معاصيه ، وتأتون فيها ما يسخطه.
القول في تأويل قوله تعالى : { فَادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (29) }
يقول تعالى ذكره ، يقول لهؤلاء الظلمة أنفسهم حين يقولون لربهم : ما كنا نعمل من سوء : ادخلوا أبواب جهنم ، يعني : طبقات جهنم( خَالِدِينَ فِيهَا ) يعني : ماكثين فيها( فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ ) يقول : فلبئس منزل من تكبر على الله ولم يقرّ بربوبيته ، ويصدّق بوحدانيته جهنم.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا مَاذَا أَنزلَ رَبُّكُمْ قَالُوا خَيْرًا لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ (30) }
يقول تعالى ذكره : وقيل للفريق الآخر ، الذين هم أهل إيمان وتقوى لله( مَاذَا أَنزلَ رَبُّكُمْ قَالُوا خَيْرًا ) يقول : قالوا : أنزل خيرا. وكان بعض أهل العربية من الكوفيين يقول : إنما اختلف الأعراب في قوله( قَالُوا أَسَاطِيرُ الأوَّلِينَ ) وقوله(خَيْرًا) والمسألة قبل الجوابين كليهما واحدة ، وهي قوله( مَاذَا أَنزلَ رَبُّكُمْ ) لأن الكفار جحدوا التنزيل ، فقالوا حين سمعوه : أساطير الأوّلين : أي هذا الذي جئت به أساطير الأوّلين ، ولم ينزل الله منه شيئا ، وأما المؤمنون فصدَّقوا التنزيل ، فقالوا خيرا ، بمعنى أنه أنزل خيرا ، فانتصب بوقوع الفعل من الله على

(17/196)


جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ كَذَلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ (31)

الخير ، فلهذا افترقا ثم ابتدأ الخبر فقال( لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ ) وقد بيَّنا القول في ذلك فيما مضى قبل بما أغنى عن إعادته.
وقوله( لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ ) يقول تعالى ذكره : للذين آمنوا بالله في هذه الدنيا ورسوله ، وأطاعوه فيها ، ودعوا عباد الله إلى الإيمان والعمل بما أمر الله به ، حسنة ، يقول : كرامة من الله( وَلَدَارُ الآخِرَةِ خَيْرٌ ) يقول : ولدار الآخرة خير لَهُمْ مِنْ دَارِ الدُّنْيا ، وكرامة الله التي أعدّها لهم فيها أعظم من كرامته التي عجلها لهم في الدنيا( وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ ) يقول : ولنعم دار الذين خافوا الله في الدنيا فاتقوا عقابه بأداء فرائضه وتجنب معاصيه دار الآخرة.
وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله( وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا مَاذَا أَنزلَ رَبُّكُمْ قَالُوا خَيْرًا لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ ) وهؤلاء مؤمنون ، فيقال لهم( مَاذَا أَنزلَ رَبُّكُمْ ) فيقولون( خَيْرًا لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ ) : أي آمنوا بالله وأمروا بطاعة الله ، وحثوا أهل طاعة الله على الخير ودعوهم إليه.
القول في تأويل قوله تعالى : { جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ كَذَلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ (31) }
يعني تعالى ذكره بقوله(جَنَّاتُ عَدْنٍ) بساتين للمقام ، وقد بيَّنا اختلاف أهل التأويل في معنى عدن فيما مضى بما أغنى عن إعادته( يَدْخُلُونَها) يقول : يدخلون جنات عدن ، وفي رفع جنات أوجه ثلاث : أحدها : أن يكون مرفوعا على الابتداء ، والآخر : بالعائد من الذكر في قوله( يَدْخُلُونَها) والثالث : على أن يكون خبر النعم ، فيكون المعنى إذا جعلت خبر النعم : ولنعم دار المتقين جنات عدن ، ويكون( يَدْخُلُونَها) في موضع حال ، كما يقال : نعم الدار دار تسكنها أنت ، وقد يجوز أن يكون إذا كان الكلام بهذا التأويل يدخلونها ، من صلة جنات عدن ، وقوله( تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ ) يقول : تجري من تحت

(17/197)


الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (32)

أشجارها الأنهار( لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ ) يقول : للذين أحسنوا في هذه الدنيا في جنات عدن ما يشاءون مما تشتهي أنفسهم ، وتلذّ أعينهم( كَذَلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ ) يقول : كما يجزي الله هؤلاء الذين أحسنوا في هذه الدنيا بما وصف لكم أيها الناس أنه جزاهم به في الدنيا والآخرة ، كذلك يجزي الذين اتقوه بأداء فرائضه واجتناب معاصيه.
القول في تأويل قوله تعالى : { الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (32) }
يقول تعالى ذكره : كذلك يجزي الله المتقين الذين تَقْبِض أرواحَهم ملائكةُ الله ، وهم طيبون بتطييب الله إياهم بنظافة الإيمان ، وطهر الإسلام في حال حياتهم وحال مماتهم.
كما حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثني عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء وحدثني المثنى ، قال : أخبرنا أبو حُذيفة ، قال : ثنا شبل وحدثني المثنى ، قال : أخبرنا إسحاق ، قال : ثنا عبد الله ، عن ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله( الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ ) قال : أحياء وأمواتا ، قدر الله ذلك لهم.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله.
وقوله( يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمُ ) يعني جلّ ثناؤه أن الملائكة تقبض أرواح هؤلاء المتقين ، وهي تقول لهم : سلام عليكم صيروا إلى الجنة بشارة من الله تبشرهم بها الملائكة.
كما حدثني يونس بن عبد الأعلى ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرني أبو صخر ، أنه سمع محمد بن كعب القُرَظيّ يقول : إذا استنقعت نفس العبد المؤمن جاءه ملك فقال : السلام عليك وليّ الله ، الله يقرأ عليك السلام ، ثم

(17/198)


هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (33)

نزع بهذه الآية( الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ ) ... إلى آخر الآية.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن عطاء الخراسانيّ ، عن ابن عباس ، قوله( فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ ) قال : الملائكة يأتونه بالسلام من قِبَل الله ، وتخبره أنه من أصحاب اليمين.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثنا الأشبُّ أبو عليّ ، عن أبي رجاء ، عن محمد بن مالك ، عن البراء ، قال : قوله( سَلامٌ قَوْلا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ ) قال : يسلم عليه عند الموت.
وقوله( بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ) يقول : بما كنتم تصيبون في الدنيا أيام حياتكم فيها طاعة الله ، طلب مرضاته.
القول في تأويل قوله تعالى : { هَلْ يَنْظُرُونَ إِلا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (33) }
يقول تعالى ذكره : هل ينتظر هؤلاء المشركون إلا أن تأتيهم الملائكة لقبض أرواحهم ، أو يأتي أمر ربك بحشرهم لموقف القيامة( كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ) يقول جلّ ثناؤه : كما يفعل هؤلاء من انتظارهم ملائكة الله لقبض أرواحهم ، أو إتيان أمر الله فعل أسلافهم من الكفرة بالله ، لأن ذلك في كلّ مشرك بالله( وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ ) يقول جلّ ثناؤه : وما ظلمهم الله بإحلال سُخْطه ، ( وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ) بمعصيتهم ربهم وكفرهم به ، حتى استحقوا عقابه ، فعجَّل لهم.
وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله( هَلْ يَنْظُرُونَ إِلا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ ) قال : بالموت ، وقال في آية أخرى( وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ ) وهو ملك الموت ،

(17/199)


فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (34)

وله رسل ، قال الله تعالى( أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ ) ذاكم يوم القيامة.
حدثني المثنى ، قال : أخبرنا أبو حُذيفة ، قال : ثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد( هَلْ يَنْظُرُونَ إِلا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ ) يقول : عند الموت حين تتوفاهم ، أو يأتي أمر ربك ذلك يوم القيامة.
القول في تأويل قوله تعالى : { فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (34) }
يقول تعالى ذكره : فأصاب هؤلاء الذين فعلوا من الأمم الماضية فعل هؤلاء المشركين من قريش سيئات ما عملوا ، يعني عقوبات ذنوبهم ، ونقم معاصيه التي اكتسبوها( وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ) يقول : وحلّ بهم من عذاب الله ما كانوا يستهزئون منه ، ويسخرون عند إنذارهم ذلك رسلُ الله ، ونزل ذلك بهم دون غيرهم من أهل الإيمان بالله.

(17/200)


وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلَا آَبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (35)

القول في تأويل قوله تعالى : { وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلا الْبَلاغُ الْمُبِينُ (35) }
قول تعالى ذكره : وقال الذين أشركوا بالله فعبدوا الأوثان والأصنام من دون الله : ما نعبد هذه الأصنام إلا لأن الله قد رضي عبادتنا هؤلاء ، ولا نحرم ما حرمنا من البحائر والسوائب ، إلا أن الله شاء منا ومن آبائنا تحريمناها ورضيه ، لولا ذلك لقد غير ذلك ببعض عقوباته أو بهدايته إيانا إلى غيره من الأفعال. يقول تعالى ذكره : كذلك فعل الذين من قبلهم من الأمم المشركة الذين استَن هؤلاء سنتهم ، فقالوا مثل قولهم ، سلكوا سبيلهم في تكذيب رسل الله ، واتباع أفعال آبائهم الضلال ، وقوله( فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلا الْبَلاغُ الْمُبِينُ ) يقول جلّ ثناؤه : فهل أيها القائلون : لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ، على رسلنا الذين نرسلهم بإنذاركم عقوبتنا على كفركم ، إلا البلاغ المبين : يقول : إلا أن تبلغكم

(17/200)


وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (36) إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (37)

ما أرسلنا إليكم من الرسالة. ويعني بقوله( المُبِينُ) : الذي يبين عن معناه لمن أبلغه ، ويفهمه من أرسل إليه.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (36) }
يقول تعالى ذكره : ولقد بعثنا أيها الناس في كلّ أمة سلفت قبلكم رسولا كما بعثنا فيكم بأن اعبدوا الله وحده لا شريك له ، وأفردوا له الطاعة ، وأخلصوا له العبادة( وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ ) يقول : وابعدوا من الشيطان ، واحذروا أن يغويكم ، ويصدْكم عن سبيل الله ، فتضلوا ، ( فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ ) يقول : فممن بعثنا فيهم رسلنا من هدى الله ، فوفَّقه لتصديق رسله ، والقبول منها ، والإيمان بالله ، والعمل بطاعته ، ففاز وأفلح ، ونجا من عذاب الله( وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ ) يقول : وممن يعثنا رسلنا إليه من الأمم آخرون حقَّت عليهم الضلالة ، فجاروا عن قصد السبيل ، فكفروا بالله وكذّبوا رسله ، واتبعوا الطاغوت ، فأهلكهم الله بعقابه ، وأنزل عليهم بأسه الذي لا يردّ عن القوم المجرمين ، ( فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ ) يقول تعالى ذكره لمشركي قريش : إن كنتم أيها الناس غير مصدّقي رسولنا فيما يخبركم به عن هؤلاء الأمم الذين حلّ بهم ما حلّ من بأسنا بكفرهم بالله ، وتكذيبهم رسوله ، فسيروا في الأرض التي كانوا يسكنونها ، والبلاد التي كانوا يعمرونها ، فانظروا إلى آثار الله فيهم ، وآثار سخطه النازل بهم ، كيف أعقبهم تكذيبهم رسل الله ما أعقبهم ، فإنكم ترون حقيقة ذلك ، وتعلمون به صحة الخبر الذي يخبركم به محمد صلى الله عليه وسلم.
القول في تأويل قوله تعالى : { إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (37) }

(17/201)


وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلَى وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (38)

يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : إن تحرص يا محمد على هدى هؤلاء المشركين إلى الإيمان بالله واتباع الحق( فَإِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ )
واختلفت القرّاء في قراءة ذلك ، فقرأته عامَّة قرّاء الكوفيين(فإنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ يَضِلُّ ) بفتح الياء من يهدي ، وضمها من يضلّ ، وقد اختلف في معنى ذلك قارِئوه كذلك ، فكان بعض نحويي الكوفة يزعم أن معناه : فإن الله من أضله لا يهتدي ، وقال : العرب تقول : قد هدى الرجل : يريدون قد اهتدى ، وهدى واهتدى بمعنى واحد ، وكان آخرون منهم يزعمون أن معناه : فإن الله لا يهدي من أضله ، بمعنى : أن من أضله الله فإن الله لا يهديه. وقرأ ذلك عامَّة قرّاء المدينة والشام والبصرة(فإنَّ اللَّهَ لا يُهْدَى) بضم الياء من يُهدى ومن يضل ، وفتح الدال من يُهدَى بمعنى : من أضله الله فلا هادي له.
وهذه القراءة أولى القراءتين عندي بالصواب ، لأن يهدي بمعنى يهتدي قليل في كلام العرب غير مستفيض ، وأنه لا فائدة في قول قائل : من أضله الله فلا يهديه ، لأن ذلك مما لا يجهله أحد ، وإذ كان ذلك كذلك ، فالقراءة بما كان مستفيضا في كلام العرب من اللغة بما فيه الفائدة العظيمة أولى وأحرى.
فتأويل الكلام لو كان الأمر على ما وصفنا : إن تحرص يا محمد على هداهم ، فإن من أضله الله فلا هادي له ، فلا تجهد نفسك في أمره ، وبلغه ما أرسلت به لتتم عليه الحجة( وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ ) يقول : وما لهم من ناصر ينصرهم من الله إذا أراد عقوبتهم ، فيحول بين الله وبين ما أراد من عقوبتهم.
وفي قوله( إِنْ تَحْرِصْ ) لغتان : فمن العرب من يقول : حرَص ، يحرَص بفتح الراء في فعَل وكسرها في يفعل ، وحرِص يحرَص بكسر الراء في فعِل وفتحها في يفعَل ، والقراءة على الفتح في الماضي ، والكسر في المستقبل ، وهي لغة أهل الحجاز.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلَى وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (38) }

(17/202)


يقول تعالى ذكره : وحلف هؤلاء المشركون من قريش بالله جَهْد أيمانِهِمْ حلفهم ، لا يبعث الله من يموت بعد مماته ، وكذبوا وأبطلوا في أيمانهم التي حلفوا بها كذلك ، بل سيبعثه الله بعد مماته ، وعدا عليه أن يبعثهم وعد عباده ، والله لا يخلف الميعاد( وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ ) يقول : ولكن أكثر قريش لا يعلمون وعد الله عباده ، أنه باعثهم يوم القيامة بعد مماتهم أحياء.
وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله( وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ ) تكذيبا بأمر الله أو بأمرنا ، فإن الناس صاروا في البعث فريقين : مكذّب ومصدّق ، ذُكر لنا أن رجلا قال لابن عباس : إن ناسا بهذا العراق يزعمون أن عليا مبعوث قبل يوم القيامة ، ويتأوّلون هذه الآية ، فقال ابن عباس : كذب أولئك ، إنما هذه الآية للناس عامَّة ، ولعمري لو كان عليّ مبعوثا قبل يوم القيامة ما أنكحنا نساءه ، ولا قسمنا ميراثه.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : ثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، قال : قال ابن عباس : إن رجالا يقولون : إن عليا مبعوث قبل يوم القيامة ، ويتأوّلون( وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلَى وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ ) قال : لو كنا نعلم أن عليا مبعوث ، ما تزوّجنا نساءه ولا قسمنا ميراثه ، ولكن هذه للناس عامة.
حدثني المثنى ، قال : ثنا إسحاق ، قال : ثنا عبد الله ، عن أبيه ، عن الربيع ، في قوله( وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ ) قال : حلف رجل من أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم عند رجل من المكذّبين ، فقال : والذي يرسل الروح من بعد الموت ، فقال : وإنك لتزعم أنك مبعوث من بعد الموت ، وأقسم بالله جهد يمينه : لا يبعث الله من يموت.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن أبي جعفر ، عن الربيع ، عن أبي العالية ، قال : كان لرجل من المسلمين على رجل من المشركين دين ، فأتاه يتقاضاه ، فكان فيما تكلم به : والذي أرجوه بعد الموت إنه لكذا ،

(17/203)


لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ (39) إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (40) وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآَخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (41)

فقال المشرك : إنك تزعم أنك تُبعث بعد الموت ، فأقسم بالله جهد يمينه : لا يبعث الله من يموت ، فأنزل الله( وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلَى وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ ).
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن عطاء بن أبي رباح أنه أخبره أنه سمع أبا هريرة يقول : " قال الله : سبني ابن آدم ، ولم يكن ينبغي له أن يسبني ، وكذّبني ولم يكن ينبغي له أن يكذّبني فأما تكذيبه إياي ، فقال( وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ ) قال : قلت( بَلَى وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا ) وأما سبه إياي ، فقال : ( إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ ) وقلت( قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ ) .
القول في تأويل قوله تعالى : { لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ (39) }
يقول تعالى ذكره : بل ليبعثن الله من يموت وعدا عليه حقا ، ليبين لهؤلاء الذين يزعمون أن الله لا يبعث من يموت ، ولغيرهم الذين يختلفون فيه من إحياء الله خلقه بعد فنائهم ، وليعلم الذين جحدوا صحة ذلك ، وأنكروا حقيقته أنهم كانوا كاذبين في قيلهم : لا يبعث الله من يموت.
كما حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله( لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ ) قال : للناس عامَّة.
القول في تأويل قوله تعالى : { إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (40) وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلأَجْرُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (41) }
يقول تعالى ذكره : إنا إذا أردنا أن نبعث من يموت فلا تعب علينا ولا نصب في إحيائناهم ، ولا في غير ذلك ما نخلق ونكوّن ونحدث ، لأنا إذا أردنا

(17/204)


خلقه وإنشاءه ، فإنما نقول له كن فيكون ، لا معاناة فيه ، ولا كُلفة علينا.
واختلفت القرّاء في قراءة قوله : يكون ، فقرأه أكثر قرّاء الحجاز والعراق على الابتداء ، وعلى أن قوله( إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ ) كلام تامّ مكتف بنفسه عما بعده ، ثم يبتدأ فيقال : فيكون ، كما قال الشاعر :
يُريدُ أنْ يُعْرِبَهُ فيعجِمُهْ (1)
وقرأ ذلك بعض قرّاء أهل الشام وبعض المتأخرين من قرّاء الكوفيين(فَيَكُونَ) نصبا ، عطفا على قوله( أَنْ نَقُولَ لَهُ ) وكأن معنى الكلام على مذهبهم : ما قولنا لشيء إذا أردناه إلا أن نقول له : كن ، فيكون. وقد حُكي عن العرب سماعا : أريد أن آتيك فيمنعني المطر ، عطفا بيمنعني على آتيك .
وقوله( وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً ) يقول تعالى ذكره : والذين فارقوا قومهم ودورهم وأوطانهم عداوة لهم في الله على كفرهم إلى آخرين غيرهم( مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا ) يقول : من بعد ما نيل منهم في أنفسهم بالمكاره في ذات الله( لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً ) يقول : لنسكننهم في الدنيا مسكنا يرضونه صالحا.
وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله( وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ ) قال : هؤلاء أصحاب محمد ظلمهم أهل مكة ، فأخرجوهم من ديارهم حتى لحق طوائف
__________
(1) هذا بيت من مشطور الرجز من شواهد الفراء في معاني القرآن (ص 161) والشاهد في البيت : أن قوله فيعجمه بالرفع ليس معطوفاً على أن يعربه وإنما هو كلام مستأنف ، أي فهو يعجمه ولا يعربه. ومثله قوله تعالى : (أن نقول له كن فيكون) بالرفع وليس معطوفاً على " أن نقول " . ومثله أيضاً قوله تعالى : (ما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم فيضل) بالرفع ، وليس بالنصب على الجواب للنفي ومثله قوله تعالى : (لنبين لكم ، ونقر في الأرحام) برفع نقر على الاستئناف وقوله تعالى في براءة : (قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم) ثم قال : (ويتوب الله على من يشاء) . قال الفراء : فإذا رأيت الفعل منصوبًا ، وبعده فعل قد نسق عليه بواو أو فاء أو ثم ، فإن كان يشاكل معنى الفعل الذي قبله ، نسقته عليه ، وإن رأيته غير مشاكل لمعناه ، استأنفته فرفعته. ومنه قوله : والشِّعْرُ لا يَسْتَطِيعُهُ مَنْ يَظْلِمُهْ ... يُرِيدُ أنْ يُعْربَهُ فَيُعْجِمُهْ

(17/205)


منهم بالحبشة ، ثم بوأهم الله المدينة بعد ذلك فجعلها لهم دار هجرة ، وجعل لهم أنصارا من المؤمنين.
حُدثت عن القاسم بن سلام ، قال : ثنا هشيم ، عن داود بن أبي هند ، عن الشعبي( لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً ) قال : المدينة.
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله( وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً ) قال : هم قوم هاجروا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل مكة بعد ظلمهم ، وظلمهم المشركون.
وقال آخرون : عنى بقوله( لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً ) لنرزقهم في الدنيا رزقا حسنا.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، وحدثني المثنى ، قال : أخبرنا أبو حذيفة ، قال : ثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد( لَنُبَوِّئَنَّهُمْ ) لنرزقنهم في الدنيا رزقا حسنا.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله.
حدثني الحارث ، قال : ثنا القاسم ، قال : ثنا هشيم ، عن العوّام ، عمن حدثه أن عمر بن الخطاب كان إذا أعطى الرجل من المهاجرين عطاءه يقول : خذ بارك الله لك فيه ، هذا ما وعدك الله في الدنيا ، وما ذخره لك في الآخرة أفضل. ثم تلا هذه الآية( لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلأَجْرُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ )
وأولى القولين في ذلك بالصواب قول من قال : معنى( لَنُبَوِّئَنَّهُم ) : لنحلنهم ولنسكننهم ، لأن التبوء في كلام العرب الحلول بالمكان والنزول به ، ومنه قول الله تعالى( وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ ) وقيل : إن هذه الآية نزلت في أبي جندل بن سهيل.

(17/206)


الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (42)

* ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى ، قال : أخبرنا إسحاق ، قال : ثنا عبد الرزاق ، قال : ثنا جعفر بن سليمان ، عن داود بن أبي هند ، قال : نزلت( وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا ) ... إلى قوله( وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ) في أبي جندل بن سهيل.
وقوله( وَلأَجْرُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ) يقول : ولثواب الله إياهم على هجرتهم فيه في الآخرة أكبر ، لأن ثوابه إياهم هنالك الجنة التي يدوم نعيمها ولا يبيد.
وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قال : قال الله( وَلأَجْرُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ ) أي والله لما يثيبهم الله عليه من جنته أكبر( لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ) .
القول في تأويل قوله تعالى : { الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (42) }
يقول تعالى ذكره : هؤلاء الذين وصفنا صفتهم ، وآتيناهم الثواب الذي ذكرناه ، الذين صيروا في الله على ما نابهم في الدنيا( وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ) يقول : وبالله يثقون في أمورهم ، و إليه يستندون في نوائب الأمور التي تنوبهم.

(17/207)


وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (43)

القول في تأويل قوله تعالى : { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلا رِجَالا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (43) }
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : وما أرسلنا من قبلك يا محمد إلى أمة من الأمم ، للدعاء إلى توحيدنا ، والانتهاء إلى أمرنا ونهينا ، إلا رجالا من بني آدم نوحي إليهم وحينا لا ملائكة ، يقول : فلم نرسل إلى قومك إلا مثل الذي كنا نرسل إلى من قَبلهم من الأمم من جنسهم وعلى منهاجهم( فَاسْأَلُوا أَهْلَ

(17/207)


الذِّكْرِ ) يقول لمشركي قريش : وإن كنتم لا تعلمون أن الذين كنا نرسل إلى من قبلكم من الأمم رجال من بني آدم مثل محمد صلى الله عليه وسلم وقلتم : هم ملائكة : أي ظننتم أن الله كلمهم قبلافاسألوا أهل الذكر ، وهم الذين قد قرءوا الكتب من قبلهم : التوراة والإنجيل ، وغير ذلك من كتب الله التي أنزلها على عباده.
وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن وكيع ، قال : ثنا المحاربي ، عن ليث ، عن مجاهد( فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ ) قال : أهل التوراة.
حدثنا ابن وكيع ، قال : ثنا المحاربي ، عن سفيان ، قال : سألت الأعمش ، عن قوله( فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ ) قال : سمعنا أنه من أسلم من أهل التوراة والإنجيل.حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، قوله( وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلا رِجَالا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ) قال : هم أهل الكتاب.
حدثنا أبو كريب ، قال : ثنا عبيد الله ، عن إسرائيل ، عن أبي يحيى ، عن مجاهد ، عن ابن عباس( فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ) قال : قال لمشركي قريش : إن محمدا في التوراة والإنجيل.
حدثنا أبو كريب ، قال : ثنا عثمان بن سعيد ، قال : ثنا بشر بن عمارة ، عن أبي روق ، عن الضحاك ، عن ابن عباس ، قال : لما بعث الله محمدا رسولا أنكرت العرب ذلك ، أو من أنكر منهم ، وقالوا : الله أعظم من أن يكون رسوله بشرا مثل محمد ، قال : فأنزل الله( أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ ) وقال : ( وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلا رِجَالا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ ) فاسألوا أهل الذكر : يعني أهل الكتب الماضية ، أبشرا كانت الرسل التي أتتكم أم ملائكة ؟ فإن كانوا ملائكة أنكرتم ، وإن كانوا بشرا فلا تنكروا أن يكون محمد رسولا قال : ثم قال( وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلا رِجَالا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى ) أي ليسوا من أهل السماء كما قلتم.
وقال آخرون في ذلك ما حدثنا به ابن وكيع ، قال : ثنا ابن يمان ، عن

(17/208)


بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (44)

إسرائيل ، عن جابر ، عن أبي جعفر( فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ) قال : نحن أهل الذكر.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله( فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ) قال : الذكر : القرآن ، وقرأ( إِنَّا نَحْنُ نزلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ) وقرأ( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ ) ... الآية.
القول في تأويل قوله تعالى : { بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنزلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نزلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (44) }
يقول تعالى ذكره : أرسلنا بالبينات والزُّبُر رجالا نوحي إليهم.
فإن قال قائل : وكيف قيل بالبينات والزُّبُر ، وما الجالب لهذه الباء في قوله( بِالْبَيِّنَاتِ ) فإن قلت : جالبها قوله(( أرْسَلْنَا ) وهي من صلته ، فهل يجوز أن تكون صلة " ما " قبل " إلا " بعدها ؟ وإن قلت : جالبها غير ذلك ، فما هو ؟ وأين الفعل الذي جلبها ، قيل : قد اختلف أهل العربية في ذلك ، فقال بعضهم : الباء التي في قوله(بالبَيِّنَاتِ) من صلة أرسلنا ، وقال : إلا في هذا الموضع ، ومع الجحد والاستفهام في كلّ موضع بمعنى غير ، وقال : معنى الكلام : وما أرسلنا من قبلكم بالبينات والزبر غير رجال نوحي إليهم ، ويقول على ذلك : ما ضرب إلا أخوك زيدا ، وهل كلم إلا أخوك عمرا ، بمعنى : ما ضرب زيدا غير أخيك ، وهل كلم عمرا إلا أخوك ؟ ويحتجّ في ذلك بقول أوْس بن حَجَر :
أبَنِي لُبَيْنَي لَسْتُمَ بِيَدٍ... إلا يَدٍ لَيْسَتْ لَهَا عَضُدُ (1)
ويقول : لو كانت " إلا " بغير معنى لفسد الكلام ، لأن الذي خفض الباء قبل
__________
(1) رواية هذا البيت في الكتاب لسيبويه ( 1 : 362 ) : يا بُنَيْ لُبَيْنَى لَسْتُمَا بِيَدٍ ... إلاَّ يَداً لَيسَتْ لَهَا عَضُدُ
بنصب يد التي بعد إلا على محل بيد التي قبلها. قال الشنتمري في الكلام على الشاهد : الشاهد فيه نصب ما بعد إلا ، على البدل من موضع الباء وما عملت فيه. والتقدير : لستما يدا إلا يدا لا عضد لها. ولا يجوز الجر على البدل من المجرور ، لأن ما بعد " إلا " مجرور ، والباء : مؤكدة للنفي. ويروي : مخبولة
العضد. والخبل : الفساد ، أي أنتما في الضعف وقلة النفع كيد بطل عضدها. أ ه.
وقال الفراء في معاني القرآن ( 1 : 172) : ورأيت الكسائي يجعل إلا مع الجحد والاستفهام بمنزلة غير ... وقال في قوله تعالى : ( لو كان فيها آلهة إلا الله لفسدتا) لا أجد المعنى إلا : لو كان فيهما آلهة غير الله لفسدتا. واحتج بقول الشاعر : أبني لبيني لستم بيد ... إلا يد ليست لها عضد
فقال : لو كان المعنى إلا لكان الكلام فاسدا في هذا المعنى ؛ لأني لا أقدر في هذا البيت على إعادة خافض بضمير ، وقد ذهب ههنا مذهبا. قلت : وقد جوز الشيخ خالد في يد التي بعد إلا النصب على الاستثناء ، وعلى البدلية ، كما مر في كلام الأعلم الشنتمري. وجوز وجهاً ثالثاً تبعا للكسائي وأنشد بيته الشاهد ، وهذا الوجه : هو جره على الصفة ليد الأولى. التصريح بمضمون التوضيح 1 : 424 ( طبعة الأميرية ، باب الاستثناء) .
وقال الشيخ يس العليمي الحمصي في حاشيته على التصريح في هذا الموضع : " أبني لبيني " بصيغة المثنى ، بدليل قوله " لستما " أي في رواية صاحب التصريح. وهو منادي حذف منه حرف النداء ، وليس في قوله : " إلا يد " وصف الشيء بنفسه ، لأن المعتمد بالصفة ليد الأولى صفة يد الثانية و " يد " الثانية صفة موطئة.

(17/209)


إلا لا يقدر على إعادته بعد إلا لخفض اليد الثانية ، ولكن معنى إلا معنى غير ، ويستشهد أيضا بقول الله عزّ وجلّ( لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلا اللَّهُ ) ويقول : إلا بمعنى غير في هذا الموضع ، وكان غيره يقول : إنما هذا على كلامين ، يريد : وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا أرسلنا بالبينات والزبر ، قال : وكذلك قول القائل : ما ضرب إلا أخوك زيدا معناه : ما ضرب إلا أخوك ، ثم يبتدئ ضرب زيدا ، وكذلك ما مَرَّ إلا أخوك بزيد ما مرّ إلا أخوك ، ثم يقول : مرّ بزيد ، ويستشهد على ذلك ببيت الأعشى :
ولَيْسَ مُجِيرًا إنْ أتَى الحَيَّ خائِفٌ... وَلا قائِلا إلا هُوَ المُتَعَيَّبا (1)
ويقول : لو كان ذلك على كلمة لكان خطأ ، لأن المُتَعَيَّبا من صلة القائل ، ولكن جاز ذلك على كلامين وكذلك قول الآخر
__________
(1) البيت للأعشى بني ثعلبة ميمون بن قيس ( ديوانه طبعة القاهرة ص 113 ) يقول : إنه لا يملك أن يؤمن رجلا ، فيجعله في جواره ، لأن الناس لا يحترمون هذا الجوار ، وإنما يحترمون جوار الأقوياء ، فلا يجرءون أن ينالوا جارهم بأذى ، والمتعيب اسم مفعول من تعيبه إذا نسبه إلى العيب : أي ولا قائلا القول المعيب إلا هو. وقد بين المؤلف وجه استشهاد بعض النحويين (وهو الكسائي) بالبيت. وأن المتعيبا منصوب بقائلا المحذوف. والتقدير : ولا قائلا إلا هو " قائلا " المعيبا. وهو معنى قوله ، ولكن جاز ذلك على كلامين. أ ه.

(17/210)


:
نُبِّئْتُهُمْ عَذَّبُوا بالنَّارِ جارَهُمُ... وَهَلْ يُعَذِّبُ إلا اللَّهُ بالنَّارِ (1)
فتأويل الكلام إذن : وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم أرسلناهم بالبينات والزبر ، وأنزلنا إليك الذكر. والبينات : هي الأدلة والحجج التي أعطاها الله رسله أدلة على نبوّتهم شاهدة لهم على حقيقة ما أتوا به إليهم من عند الله. والزُّبُر : هي الكتب ، وهي جمع زَبُور ، من زَبَرْت الكتاب وذَبَرته : إذا كتبته.
وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس( بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ ) قال : الزبر : الكتب.
حدثنا محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد( بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ ) قال : الآيات. والزبر : الكتب.
حدثني المثنى ، قال : ثنا أبو حُذيفة ، قال : ثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قال : الزُّبُر : الكتب.
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : ثنا عبيد بن سليمان ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله(بالزُّبُر) يعني : بالكتب.
وقوله( وَأَنزلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ ) يقول : وأنزلنا إليك يا محمد هذا القرآن تذكيرا للناس وعظة لهم ، ( لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ) يقول : لتعرفهم ما أنزل إليهم من ذلك( وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ) يقول : وليتذكروا فيه ويعتبروا به أي بما أنزلنا إليك ، وقد حدثني المثنى ، قال : ثنا إسحاق ، قال : ثنا عبد الرزاق ، قال : ثنا الثوري ، قال : قال مجاهد( وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ) قال : يطيعون.
__________
(1) هذا البيت كسابقه : شاهد على أن قوله " بالنار " من صلة الفعل " يعذب " وما قبل إلا لا يعمل فيما بعدها ، فأخره ونوى كلامين ، فيكون " بالنار " من صلة " يعذب " المحذوف. والتقدير : وهل يعذب إلا الله ، يعذب بالنار. والبيت من شواهد الفراء في معاني القرآن ( 172 ).

(17/211)


أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (45)

القول في تأويل قوله تعالى : { أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الأرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ (45) }
يقول تعالى ذكره : أفأمن الذين ظلموا المؤمنين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فراموا أن يفتنوهم عن دينهم من مشركي قريش الذين قالوا : إذ قيل لهم : ماذا أنزل ربكم : أساطير الأوّلين ، صدّا منهم لمن أراد الإيمان بالله عن قصد السبيل ، أن يخسف الله بهم الأرض على كفرهم وشركهم ، أو يأتيهم عذاب الله من مكان لا يشعر به ، ولا يدري من أين يأتيه ، وكان مجاهد يقول : عنى بذلك نمرود بن كنعان.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء وحدثني المثنى ، قال : ثنا إسحاق ، قال : ثنا عبد الله ، عن ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد( أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الأرْضَ ) ... إلى قوله( أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ ) قال : هو نمرود بن كنعان وقومه.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله.
وإنما اخترنا القول الذي قلناه في تأويل ذلك ، لأن ذلك تهديد من الله أهل الشرك به ، وهو عقيب قوله( وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلا رِجَالا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ) فكان تهديد من لم يقرّ بحجة الله الذي جرى الكلام بخطابه قبل ذلك أحرى من الخبر عمن انقطع ذكره عنه.
وكان قتادة يقول في معنى السيئات في هذا الموضع ، ما حدثنا به بشر بن معاذ ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله( أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ ) : أي الشرك.
القول في تأويل قوله تعالى :

(17/212)


أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ (46) أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (47)

{ أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ (46) أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (47) }
يعني تعالى ذكره بقوله( أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ ) أو يهلكهم في تصرّفهم في البلاد ، وتردّدهم في أسفارهم( فَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ ) يقول جلّ ثناؤه : فإنهم لا يعجزون الله من ذلك إن أراد أخذهم كذلك.
وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى وعليّ بن داود ، قالا ثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله( أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ ) قال : إن شئت أخذته في سفر.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : ثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة( أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ ) في أسفارهم.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، مثله.
وقال ابن جريج في ذلك ما حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج( أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ ) قال : التقلب : أن يأخذهم بالليل والنهار.
وأما قوله( أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ ) فإنه يعني : أو يهلكهم بتخوّف ، وذلك بنقص من أطرافهم ونواحيهم الشيء بعد الشيء حتى يهلك جميعهم ، يقال منه : تخوّف مال فلان الإنفاق : إذا انتقصه ، ونحو تخوّفه من التخوّف بمعنى التنقص ، قول الشاعر :
تَخَوَّفَ السَّيْرَ مِنْها تامِكا قَرِدًا... كما تَخَوَّفَ عُودَ النَّبْعَةِ السَّفَنُ (1)
يعني بقوله تخوّف السير : تنقص سَنامها. وقد ذكرنا عن الهيثم بن عدّي أنه كان يقول : هي لغة لأزد شَنوءة معروفة لهم ، ومنه قول الآخر
__________
(1) البيت لابن مقبل (لسان العرب : خوف) قال : التخوف : التنقص. وفي التنزيل : " أو يأخذهم على تخوف " . قال الفراء في التفسير بأنه التنقيص قال : والعرب تقول : تحوقته أي تنقصته من حافاته. قال : فهذا الذي سمعته. قال : وقد أتى التفسير بالحاء قال الزجاج : ويجوز أن يكون معناه : أو يأخذهم بعد أن يخيفهم بأن يهلك قرية ، فتخاف التي تليها. وقال ابن مقبل : تخوف ... إلخ والسفن : الحديدة التي تبرد بها القسي ، أي تنقص ، كما تأكل هذه الحديدة خشب القسي. وكذلك التخويف ، يقال : خوفه وخوف منه. قال ابن السكيت : يقال : هو يتحوف المال (بالمهملة) ويتخوفه ، أي يتنقصه ، ويأخذ من أطرافه. وقال ابن الأعرابي : تحوفته وتحيفته ، وتخوفته وتخيفته إذا تنقصته. والتامك السنام أو السنام المرتفع. والقرد : الذي تجمع شعره ، أو الذي تراكم لحمه من السمن. وفي " فتح القدير " للشوكاني : التخوف بالفاء : التنقص : لغة لأزد شنوءة. والنبع من شجر الجبال نتخذه من القس ، الواحدة نبعة.

(17/213)


:
تَخَوَّفَ عَدْوُهُمْ مالي وأهْدَى... سَلاسِل في الحُلُوقِ لَهَا صَلِيلُ (1)
وكان الفرّاء يقول : العرب تقول : تحوّفته : أي تنقصته ، تحوّفا : أي أخذته من حافاته وأطرافه ، قال : فهذا الذي سمعته ، وقد أتى التفسير بالحاء وهما بمعنى. قال : ومثله ما قرئ بوجهين قوله : إن لك في النهار سَبْحًا وسَبْخًا.
وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن وكيع ، قال : ثنا أبي ، عن المسعودي ، عن إبراهيم بن عامر بن مسعود ، عن رجل ، عن عُمَر أنه سألهم عن هذه الآية( أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ ) فقالوا : ما نرى إلا أنه عند تنقص ما يردّده من الآيات ، فقال عمر : ما أرى إلا أنه على ما تنتقصون من معاصي الله ، قال : فخرج رجل من كان عند عمر ، فلقي أعرابيا ، فقال : يا فلان ما فعل ربك ؟ قال : قد تَخَيفته ، يعني تنقصته ، قال : فرجع إلى عمر فأخبره ، فقال : قدّر الله ذلك.
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس( أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ ) يقول : إن شئت أخذته على أثر موت صاحبه وتخوّف بذلك.
__________
(1) البيت من شواهد أبي عبيدة في مجاز القرآن (1 : 360) قال : " على تخوف " مجازه : على التنقص ، وأنشد بيتين ثانيهما بيت الشاهد ، وأولهما : أُلاُم عَلى الهِجاءِ وكُلَّ يَوْمٍ ... يُلاقِينِي مِنَ الجِيرَانِ غُولُ
أي تنقص غدرهم مالي. سلاسل : يريد القوافي تنشد ، فهو صليلها. وهو قلائد في أعناقهم. وفي رواية أبي عبيدة والقرطبي غدرهم ، في مكان عدوهم. أي اعتداؤهم. قلت : وفي اللسان أيضاً (خوف) تخونه ، وخونه ، وخون منه : نقصه. يقال : تخونني فلان حقي إذا تنقصك .

(17/214)


أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلَالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّدًا لِلَّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ (48)

حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن عطاء الخراسانيّ ، عن ابن عباس( عَلَى تَخَوُّفٍ ) قال : التنقص ، والتفزيع.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد( أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ ) على تنقص.
حدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء وحدثني المثنى ، قال : أخبرنا إسحاق ، قال : ثنا عبد الله ، عن ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد( عَلَى تَخَوُّفٍ ) قال : تنقص.
حدثني المثنى ، قال : ثنا أبو حُذيفة ، قال : ثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ ) فيعاقب أو يتجاوز.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله( أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ ) قال : كان يقال : التخوّف : التنقُّص ، ينتقصهم من البلدان من الأطراف.
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : ثنا عبيد بن سليمان ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله( أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ ) يعني : يأخذ العذاب طائفة ويترك أخرى ، ويعذّب القرية ويهلكها ، ويترك أخرى إلى جنبها.
وقوله( فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ ) يقول : فإن ربكم أن لم يأخذ هؤلاء الذين مكروا السيئات بعذاب معجَّل لهم ، وأخذهم بموت وتنقص بعضهم في أثر بعض ، لرءوف بخلقه ، رحيم بهم ، ومن رأفته ورحمته بهم لم يخسف بهم الأرض ، ولم يعجِّل لهم العذاب ، ولكن يخوّفهم وينقّصهم بموت.
القول في تأويل قوله تعالى : { أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّدًا لِلَّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ (48) }
اختلفت القرّاء في قراءة ذلك ، فقرأته عامَّة قرّاء الحجاز والمدينة والبصرة

(17/215)


( أَوَلَمْ يَرَوْا ) بالياء على الخبر عن الذين مكروا السيئات ، وقرأ ذلك بعض قراء الكوفيين " أوَلم تَرَوا " بالتاء على الخطاب.
وأولى القراءتين عندي بالصواب قراءة من قرأ بالياء على وجه الخبر عن الذين مكروا السيئات ، لأن ذلك في سياق قَصَصِهم ، والخبر عنهم ، ثم عقب ذلك الخبر عن ذهابهم عن حجة الله عليهم ، وتركهم النظر في أدلته والاعتبار بها ، فتأويل الكلام إذن : أو لم ير هؤلاء الذين مكروا السيئات ، إلى ما خلق الله من جسم قائم ، شجر أو جبل أو غير ذلك ، يتفيأ ظلاله عن اليمين والشمائل ، يقول : يرجع من موضع إلى موضع ، فهو في أوّل النهار على حال ، ثم يتقلَّص ، ثم يعود إلى حال أخرى في آخر النهار.
وكان جماعة من أهل التأويل يقولون في اليمين والشمائل ما حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد عن قتادة ، قوله( أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّدًا لِلَّهِ ) أما اليمين : فأوّل النهار ، وأما الشمال : فآخر النهار.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : ثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، بنحوه.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج( يَتَفَيَّأُ ظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ ) قال : الغدوّ والآصال ، إذا فاءت الظِّلال ، ظلال كلّ شيء بالغدوّ سجدت لله ، وإذا فاءت بالعشيّ سجدت لله.
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : ثنا عبيد بن سليمان ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله( يَتَفَيَّأُ ظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ ) يعني : بالغدو والآصال ، تسجد الظلال لله غدوة إلى أن يفئ الظلّ ، ثم تسجد لله إلى الليل ، يعني : ظلّ كلّ شَيء.
وكان ابن عباس يقوله في قوله( يَتَفَيَّأُ ظِلالُهُ ) ما حدثنا المثنى ، قال : أخبرنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله( يَتَفَيَّأُ ظِلالُهُ ) يقول : تتميل.
واختلف في معنى قوله( سُجَّدًا لِلَّهِ ) فقال بعضهم : ظلّ كلّ شيء سجوده.

(17/216)


* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عبد الأعلى ، قال : ثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة( يَتَفَيَّأُ ظِلالُهُ ) قال : ظلّ كلّ شيء سجوده.
حدثنا ابن وكيع ، قال : ثنا إسحاق الرازيّ ، عن أبي سنان ، عن ثابت ، عن الضحاك( يَتَفَيَّأُ ظِلالُهُ ) قال : سجد ظلّ المؤمن طوعا ، وظلّ الكافر كَرْها.
وقال آخرون : بل عنى بقوله( يَتَفَيَّأُ ظِلالُهُ ) كلا عن اليمين والشمائل في حال سجودها ، قالوا : وسجود الأشياء غير ظلالها.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد وحدثني نصر بن عبد الرحمن الأوّديّ ، قالا ثنا حَكَّام ، عن أبي سنان ، عن ثابت عن الضحاك ، في قول الله( أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلالُهُ ) قال : إذا فاء الفيء توجه كلّ شيء ساجدا قبل القبلة ، من نبت أو شجر ، قال : فكانوا يستحبون الصلاة عند ذلك.
حدثني المثنى ، قال : أخبرنا الحمَّانيّ ، قال : ثنا يحيى بن يمان ، قال : ثنا شريك ، عن منصور ، عن مجاهد ، في قول الله( يَتَفَيَّأُ ظِلالُهُ ) قال : إذا زالت الشمس سجد كلّ شيء لله عزّ وجلّ.
وقال آخرون : بل الذي وصف الله بالسجود في هذه الآية ظلال الأشياء ، فإنما يسجد ظلالها دون التي لها الظلال.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، قوله( أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلالُهُ ) قال : هو سجود الظلال ، ظلال كلّ شيء ما في السموات وما في الأرض من دابة ، قال : سجود ظلال الدواب ، وظلال كلّ شيء.
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله( أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلالُهُ ) ما خلق من كلّ شيء عن يمينه وشمائله ، فلفظ ما لفظ عن اليمين والشمائل ، قال : ألم تر أنك إذا صليت الفجر ، كان ما بين مطلع الشمس إلى مغربها ظلا ثم بعث الله عليه الشمس دليلا وقبض الله الظلّ.
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال : إن الله أخبر في هذه الآية أن

(17/217)


ظلال الأشياء هي التي تسجد ، وسجودها : مَيَلانها ودورانها من جانب إلى جانب ، وناحية إلى ناحية ، كما قال ابن عباس يقال من ذلك : سجدت النخلة إذا مالت ، وسجد البعير وأسجد : إذا أميل للركوب. وقد بيَّنا معنى السجود في غير هذا الموضع بما أغنى عن إعادته.
وقوله( وَهُمْ دَاخِرُونَ ) يعني : وهم صاغرون ، يقال منه : دخر فلان لله يدخر دخرا ودخورا : إذا ذلّ له وخضع ومنه قول ذي الرُّمَّة :
فَلَمْ يَبْقَ إلا داخِرٌ فِي مُخَيَّسٍ... ومُنْجَحِرٌ فِي غيرِ أرْضِكَ في جُحْرِ (1)
وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى ، قال : ثنا أبو حُذيفة ، قال : ثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد( وَهُمْ دَاخِرُونَ ) صاغرون.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( وَهُمْ دَاخِرُونَ ) : أي صاغرون.
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة مثله.
وأما توحيد اليمين في قوله( عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ ) فجمعها ، فإن ذلك إنما جاء كذلك ، لأن معنى الكلام : أو لم يروا إلى ما خلق الله من شيء يتفيأ ظلال ما خلق من شيء عن يمينه : أي ما خلق ، وشمائله ، فلفظ " ما " لفظ واحد ، ومعناه معنى الجمع ، فقال : عن اليمين بمعنى : عن يمين ما خلق ، ثم رجع إلى
__________
(1) البيت شاهد على أن معنى الداخر : الصاغر. قال أبو عبيدة في مجاز القرآن : وهم داخرون : أي صاغرون يقال : فلان دخر لله : أي ذل وخضع. و ( في اللسان : دخر) : دخر الرجل بالفتح يدخر دخورا ، فهو داخر ، ودخر دخرا : ( كفرح ) ذل وصغر يصغر صغارًا ، وهو الذي يفعل ما يؤمر به ، شاء أو أبى ، صاغرا قميئا. وفي (اللسان : خيس) : وكل سجن : مخيس ومخيس (بتشديد الياء مفتوحة ومكسورة ). وأنشد البيت ونسبه إلى الفرزدق. والمنجحر : الداخل في الجحر ، يقال : أجحره فانجحر : أدخله الجحر ، فدخله. والجحر : كل شيء تحتقره الهوام والسباع لأنفسها. والجمع : أجحار وجحرة .

(17/218)


وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلَائِكَةُ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (49)

معناه في الشمائل ، وكان بعض أهل العربية يقول : إنما تفعل العرب ذلك ، لأن أكثر الكلام مواجهة الواحد الواحد ، فيقال للرجل : خذ عن يمينك ، قال : فكأنه إذا وحد ذهب إلى واحد من القوم ، وإذا جمع فهو الذي لا مساءلة فيه ، واستشهد لفعل العرب ذلك بقول الشاعر :
بِفي الشَّامِتِينَ الصَّخْرُ إنْ كان هَدَّني... رَزِيَّةُ شِبْلَيْ مُخْدِرٍ في الضَّراغمِ (1)
فقال : بِفي الشامتين ، ولم يقل : بأفواه ، وقول الآخر :
الوَارِدُونَ وتَيْمٌ في ذَرَا سَبإ... قد عَضَّ أعْناقَهُمْ جِلْدُ الجَوَامِيسِ (2)
ولم يقل : جلود.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلائِكَةُ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ (49) }
يقول تعالى ذكره : ولله يخضع ويستسلم لأمره ما في السموات وما في الأرض من دابَّة يدبّ عليها ، والملائكة التي في السموات ، وهم لا يستكبرون عن التذلل له بالطاعة( فَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ ) وظلالهم تتفيأ عن اليمين والشمائل سجدا لله وهم داخرون.
وكان بعض نحويِّي البصرة يقول : اجتزئ بذكر الواحد من الدوابّ عن ذكر الجميع. وإنما معنى الكلام : ولله يسجد ما في السموات وما في الأرض من الدوابّ والملائكة ، كما يقال : ما أتاني من رجل ، بمعنى : ما أتاني من الرجال.
__________
(1) هذا البيت من شواهد الفراء في (معاني القرآن 1 : 172) استشهد به عند قوله تعالى : (يتفيأ ظلاله عن اليمين والشمائل) قال : الظن يرجع على كل شيء من جوانبه ، فذلك تفيؤه ، ثم فسر فقال : عن اليمين والشمائل ، وكل ذلك جائز في العربية ، قال الشاعر : " بفي الشامتين ...الخ البيت " . قال ولم يقل : بأفواه الشامتين. قلت : يريد أن جمع الشمائل وإفراد اليمين ، جائز في العربية ، واستشهد عليه بالبيت. وقد وجه المؤلف في التفسير توجيهاً حسناً.
(2) وهذا البيت أيضاً كالشاهد قبله من شواهد الفراء ، في ( معاني القرآن ، بعد سابقه 1 : 172) على أن الشاعر قال : جلد الجواميس بالإفراد ، ولم يقل : جلود الجواميس ، في مقابلة أعناقهم ولم نقف على البيت في المراجع ، ولا على قائله.

(17/219)


يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (50) وَقَالَ اللَّهُ لَا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (51) وَلَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ (52)

وكان بعض نحويِّي الكوفة يقول : إنما قيل : من دابة ، لأن " ما " وإن كانت قد تكون على مذهب الذي ، فإنها غير مؤقتة ، فإذا أبهمت غير مؤقتة أشبهت الجزاء ، والجزاء يدخل من فيما جاء من اسم بعده من النكرة ، فيقال : من ضربه من رجل فاضربوه ، ولا تسقط " من " من هذا الموضع كراهية أن تشبه أن تكون حالا لمن و ما ، فجعلوه بمن ليدلّ على أنه تفسير لما ومن لأنهما غير مؤقتتين ، فكان دخول من فيما بعدهما تفسيرا لمعناهما ، وكان دخول من أدلّ على ما لم يوقت من من وما ، فلذلك لم تلغيا.
القول في تأويل قوله تعالى : { يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (50) }
يقول تعالى ذكره : يخاف هؤلاء الملائكة التي في السموات ، وما في الأرض من دابة ، ربهم من فوقهم ، أن يعذّبهم إن عَصَوا أمره ، ويفعلون ما يؤمرون ، يقول : ويفعلون ما أمرهم الله به ، فيؤدّون حقوقه ، ويجتنبون سُخْطه.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَقَالَ اللَّهُ لا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (51) }
يقول تعالى ذكره : وقال الله لعباده : لا تتخذوا لي شريكا أيها الناس ، ولا تعبدوا معبودين ، فإنكم إذا عبدتم معي غيري جعلتم لي شريكا ، ولا شريك لي ، إنما هو إله واحد ومعبود واحد ، وأنا ذلك ، ( فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ ) يقول : فإياي فاتقوا وخافوا عقابي بمعصيتكم إياي إن عصيتموني وعبدتم غيري ، أو أشركتم في عبادتكم لي شريكا.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ (52) }

(17/220)


يقول تعالى ذكره : ولله ملك ما في السموات والأرض من شيء ، لا شريك له في شيء من ذلك ، هو الذي خلقهم ، وهو الذي يرزقهم ، وبيده حياتهم وموتهم. وقوله( وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا ) يقول جلّ ثناؤه : وله الطاعة والإخلاص دائما ثابتا واجبا ، يقال منه : وَصَبَ الدِّينُ يَصِبُ وُصُوبا ووَصْبا كما قال الدِّيلِيّ :
لا أبْتَغِي الحَمْدَ القَلِيلَ بَقاؤُهُ... يَوْما بِذَمّ الدَّهْرِ أجمَعَ وَاصِبا (1)
ومنه قول الله( وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ ) ، وقول حسان :
غَيَّرَتْهُ الرِّيحُ تَسْفِي بِهِ... وهَزِيمٌ رَعْدُهُ وَاصِبٌ (2)
فأما من الألم ، فإنما يقال : وصب الرجل يوصب وصبا ، وذلك إذا أعيا وملّ ، ومنه قول الشاعر :
لا يغْمِزُ السَّاقَ مِنْ أيْنِ ولا وَصَبٍ... ولا يعَضُّ على شُرْسُوفِهِ الصَّفَرُ (3)
__________
(1) البيت لأبي الأسود الدؤلي ، ويقال فيه الديلي أيضا ، استشهد به أبو عبيدة في مجاز القرآن (1 : 361) على أن معنى " واصبا " : دائما. وروايته فيه كرواية المؤلف (الطبري). واستشهد به كذلك القرطبي في الجامع لأحكام القرآن (10 : 114) ورواه بروايتين : الأولى كرواية المؤلف ، وقال قبلها ، أنشد الغزنوي والثعلبي وغيرهما... البيت. والأخرى باختلاف في الشطر الثاني. وهو : " بدم يكون الدهر أجمع واصبا " وظاهر أن هذه الرواية محرفة عن الأولى. وقال صاحب لسان العرب في " وصب " . وفي التنزيل العزيز ، " وله الدين واصبا " قال أبو إسحاق ، قيل في معناه : دائبا : أي طاعته دائمة واجبة أبدا. قال : ويجوز ، والله أعلم أن يكون " وله الدين واصبا " : أي له الدين والطاعة ، رضي العبد بما يؤمر به ، أو لم يرض به ، سهل عليه ، أو لم يسهل ، فله الدين وإن كان فيه الوصب ، والوصب : شدة التعب ، وفيه : " بعذاب واصب " أي دائم ثابت. وقيل : موجع.
(2) البيت لحسان بن ثابت (ديوانه طبع ليدن سنة 1910 ص 61) وقبله بيت وهو المطلع : قَدْ تَعَفَّى بَعْدَنا عاذِبُ ... ما بِهِ بادٍ وَلا قارِبُ
وتسفى به : تحمل إليه التراب. والهزيم : السحاب المتشقق بالمطر. يقول : غير هذا المكان ما تسفيه الريح عليه من التراب ، وما يأتي به السحاب من مطر رعده دائم.
(3) هذا البيت لأعشى باهلة ، واسمه عامر بن الحارث جمهرة أشعار العرب لمحمد بن أبي الخطاب القرشي ( 135 - 137 ) من قصيدة يقولها في أخ له اسمه المنتشر ، قتله بنو الحارث بن كعب وقطعوه إربا إربا (عضوا عضوا) برجل منهم كان فعل معه مثل ذلك. ورواية البيت فيه وفي اللسان (صفر) : لا يَتَأَسَّى لِمَا فِي الْقِدْرِ يَرْقبُهُ ... ولا يَعَضُّ عَلى شُرْسُوفِهِ الصَّفْرُ
قال : والصفر دويية تكون في البطن ، تدعيها الأعراب ، ويكون منها الجوع. وخطأ رواية البيت الصاغاني ، وأورده كرواية المؤلف . (انظر هامش اللسان : أرى). والغمز : العصر باليد. والشرسوف : جمعه شراسيف ، وهي أطراف أضلاع الصدر التي تشرف على البطن.

(17/221)


وقد اختلف أهل التأويل في تأويل الواصب ، فقال بعضهم : معناه ، ما قلنا.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن وكيع ، قال : ثنا يحيى بن آدم ، عن قيس ، عن الأغرّ بن الصباح ، عن خليفة بن حصين ، عن أبي نضرة ، عن ابن عباس( وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا ) قال : دائما.
حدثني إسماعيل بن موسى ، قال : أخبرنا شريك ، عن أبي حصين ، عن عكرمة ، في قوله( وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا ) قال : دائما.
حدثنا ابن وكيع ، قال : ثنا يحيى بن آدم ، عن قيس ، عن يعلى بن النعمان ، عن عكرمة ، قال : دائما.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء وحدثني المثنى ، قال : أخبرنا إسحاق ، قال : ثنا عبد الله ، عن ورقاء وحدثني المثنى ، قال : أخبرنا أبو حُذيفة ، قال : ثنا شبل جميعا ، عن ابن أبي نجيح عن مجاهد( وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا ) قال : دائما.
حدثنا القاسم قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد( وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا ) قال : دائما.
حدثنا ابن وكيع ، قال : ثنا عبدة وأبو معاوية ، عن جويبر ، عن الضحاك( وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا ) قال : دائما.
حدثني المثنى ، قال : أخبرنا عمرو بن عون ، قال : أخبرنا هشيم ، عن جويبر ، عن الضحاك ، مثله.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا ) : أي دائما ، فإن الله تبارك وتعالى لم يدع شيئا من خلقه إلا عبده طائعا أو كارها.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : ثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة( وَاصِبًا ) قال : دائما ، ألا ترى أنه يقول( عَذَابٌ وَاصِبٌ ) أي دائم.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله

(17/222)


وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ (53)

( وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا ) قال : دائما ، والواصب : الدائم.
وقال آخرون : الواصب في هذا الموضع : الواجب.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا أبو كريب ، قال : ثنا ابن عطية ، عن قيس ، عن يَعَلَى بن النعمان ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، في قوله( وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا ) قال : واجبا.
وكان مجاهد يقول : معنى الدين في هذا الموضع : الإخلاص. وقد ذكرنا معنى الدين في غير هذا الموضع بما أغنى عن إعادته.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء وحدثني المثنى قال : أخبرنا أبو حُذيفة ، قال : ثنا شبل وحدثني المثنى ، قال : أخبرنا إسحاق ، قال : ثنا عبد الله ، عن ورقاء جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد( وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا ) قال : الإخلاص.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، قال : الدين : الإخلاص.
وقوله( أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ ) يقول تعالى ذكره : أفغير الله أيها الناس تتقون ، أي ترهبون وتحذرون أن يسلبكم نعمة الله عليكم بإخلاصكم العبادة لربكم ، وإفرادكم الطاعة له ، وما لكم نافع سواه.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ (53) }
اختلف أهل العربية في وجه دخول الفاء في قوله( فَمِنَ اللَّهِ ) فقال بعض البصريين : دخلت الفاء ، لأن " ما " بمنزلة " من " فجعل الخبر بالفاء. وقال بعض الكوفيين : " ما " في معنى جزاء ، ولها فعل مضمر ، كأنك قلت : ما يكن بكم من نعمة فمن الله ، لأن الجزاء لا بدّ له من فعل مجزوم ، إن ظهر فهو جزم ، وإن لم يظهر فهو مضمر ، كما قال الشاعر :

(17/223)


إنِ العَقْلُ في أموَالِنا لا نَضِقْ بِهِ... ذِرَاعًا وَإنْ صَبْرًا فنَعْرِفُ للصَّبْرِ (1)
وقال : أراد : إن يكن العقل فأضمره. قال : وإن جعلت " ما بكم " في معنى الذي جاز ، وجعلت صلته بكم و " ما " في موضع رفع بقوله( فَمِنَ اللَّهِ ) وأدخل الفاء ، كما قال( إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ ) وكل اسم وصل مثل من و ما و الذي ، فقد يجوز دخول الفاء في خبره لأنه مضارع للجزاء والجزاء قد يجاب بالفاء ، ولا يجوز أخوك فهو قائم ، لأنه اسم غير موصول ، وكذلك تقول : مالك لي ، فإن قلت : مالك ، جاز أن تقول : مالك فهو لي ، وإن ألقيت الفاء فصواب.
وتأويل الكلام : ما يكن بكم في أبدانكم أيها الناس من عافية وصحة وسلامة ، وفي أموالكم من نماء ، فالله المنعم عليكم بذلك لا غيره ، لأن ذلك إليه وبيده( ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ ) يقول : إذا أصابكم في أبدانكم سَقَم ومرض ، وعلة عارضة ، وشدّة من عيش( فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ ) يقول : فإلى الله تصرخون بالدعاء وتستغيثون به ، ليكشف ذلك عنكم ، وأصله : من جؤار الثور ، يقال منه : جأر الثور يجأر جؤارا ، وذلك إذا رفع صوتا شديدا من جوع أو غيره ، ومنه قول الأعشى :
وَما أيْبُلِيٌّ عَلى هَيْكَلِ... بَناهُ وَصَلَّبَ فِيهِ وصَارَا... يُرَاوِحُ مِنْ صَلَوَاتٍ المَلِيـ... كِ طَوْرًا سُجُودًا وَطَوْرًا جُؤْارًا (2)
__________
(1) البيت من شواهد الفراء في معاني القرآن (1 : 173) عند قوله تعالى : (وما بكم من نعمة فمن الله. قال : ما : في معنى جزاء ، ولها فعل مضمر ، كأنك قلت : ما يكن بكم من نعمة فمن الله ؛ لأن الجزاء لا بد له من فعل مجزوم ، إن ظهر فهو جزم ، وإن لم يظهر فهو مضمر ، كما قال الشاعر : " إن العقل .. " البيت. أراد : إن يكن ، فأضمرها. ولو جعلت " ما بكم " في معنى " الذي " : جاز ، وجعلت صلته " بكم " ، والذي حينئذ : في موضع رفع ، بقوله " فمن الله " . وأدخل الفاء ، كما قال تعالى : (قل إن الموت الذي تفرون منه فإنه ملاقيكم). وكل اسم وصل ، مثل من وما ، والذي ، فقد يجوز دخول الفاء في خبره ؛ لأنه مضارع للجزاء ، والعقل في البيت معناه : الدية.
(2) البيتان من شعر الأعشى ميمون بن قيس (ديوانه طبع القاهرة ص 53) من قصيدة له سبعون بيتا ، يمدح بها قيس ابن معد يكرب. والأييلي : الراهب صاحب الأيبل ، وهو العصا التي يدق بها الناقوس. والهيكل : موضع في صدر الكنيسة ، يقرب في القربان. صلب صور فيه الصليب. وفي اللسان صار :
صور عن أبي علي الفارسي. ويلوح لي أن المراد بصور في البيت : هو ما قاله الأعشى في بيت آخر وهو قوله وفي وصف الخمر " وصلى على دنها وارتسم " . ومعنى ارتسم : أشار بيده على جبهته وقلبه وصدره يمنة ويسرة ، كما يفعل المسيحيون. وراوح بين العملين : تداول هذا مرة ، وهذا مرة. وجأر إلى الله جؤارا : تضرع إليه بالدعاء والاستغاثة. يقول : ليس الراهب المعتكف في هيكله أمام صليبه ، دائبا على صلواته سجوداً وتضرعاً إلى الله ، بأعظم منه تقي في الحساب (خبر مِا : في البيت الذي بعد البيتين).

(17/224)


ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (54)

يعني بالجؤار : الصياح ، إما بالدعاء ، وإما بالقراءة.
وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن قال : ثنا ورقاء وحدثني المثنى ، قال : أخبرنا أبو حُذيفة ، قال : ثنا شبل وحدثني المثنى ، قال : أخبرنا إسحاق ، قال : ثنا عبد الله ، عن ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله( فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ ) قال : تضرعون دعاء.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله.
حدثني المثنى ، قال : أخبرنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، رضي الله عنهما ، قال : الضُّرُّ : السُّقْم.
القول في تأويل قوله تعالى : { ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (54) }

(17/225)


لِيَكْفُرُوا بِمَا آَتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (55)

القول في تأويل قوله تعالى : { لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (55) }
يقول تعالى ذكره : ثم إذا وهب لكم ربكم العافية ، ورفع عنكم ما أصابكم من المرض في أبدانكم ، ومن الشدة في معاشكم ، وفرّج البلاء عنكم( إِذَا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ ) يقول : إذا جماعة منكم يجعلون لله شريكا في عبادتهم ، فيعبدون الأوثان ، ويذبحون لها الذبائح شكرا لغير من أنعم عليهم بالفرج مما كانوا فيه من الضرِّ( لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ ) يقول : ليجحدوا الله نعمته فيما

(17/225)


وَيَجْعَلُونَ لِمَا لَا يَعْلَمُونَ نَصِيبًا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ تَاللَّهِ لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ (56)

آتاهم من كشف الضرّ عنهم( فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ ) ، وهذا من الله وعيد لهؤلاء الذين وصف صفتهم في هذه الآيات ، وتهديد لهم ، يقول لهم جلّ ثناؤه : تمتعوا في هذه الحياة الدنيا إلى أن توافيكم آجالكم ، وتبلغوا الميقات الذي وقته لحياتكم وتمتعكم فيها ، فإنكم من ذلك ستصيرون إلى ربكم ، فتعلمون بلقائه وبال ما كسبت أيديكم ، وتعرفون سوء مغبة أمركم ، وتندمون حين لا ينفعكم الندم.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَيَجْعَلُونَ لِمَا لا يَعْلَمُونَ نَصِيبًا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ تَاللَّهِ لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ (56) }
يقول تعالى ذكره : ويجعل هؤلاء المشركون من عَبَدة الأوثان ، لما لا يعلمون منه ضرا ولا نفعا نصيبا. يقول : حظا وجزاء مما رزقناهم من الأموال ، إشراكا منهم له الذي يعلمون أنه خلقهم ، وهو الذي ينفعهم ويضرّهم دون غيره.
كالذي حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، قوله( وَيَجْعَلُونَ لِمَا لا يَعْلَمُونَ نَصِيبًا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ ) قال : يعلمون أن الله خلقهم ويضرهم وينفعهم ، ثم يجعلون لما لا يعلمون أنه يضرّهم ولا ينفعهم نصيبا مما رزقناهم.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله( وَيَجْعَلُونَ لِمَا لا يَعْلَمُونَ نَصِيبًا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ ) وهم مشركو العرب ، جعلوا لأوثانهم نصيبا مما رزقناهم ، وجزءا من أموالهم يجعلونه لأوثانهم.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله( وَيَجْعَلُونَ لِمَا لا يَعْلَمُونَ نَصِيبًا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ ) قال : جعلوا لآلهتهم التي ليس لها نصيب ولا شيء ، جعلوا لها نصيبا مما قال الله من الحرث والأنعام ، يسمون عليها أسماءها ويذبحون لها.
وقوله( تَاللَّهِ لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُون ) يقول تعالى ذكره : والله أيها المشركون الجاعلون الآلهة والأنداد نصيبا فيما رزقناكم شركا بالله وكفرا ،

(17/226)


وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ (57) وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (58)

ليسألنكم الله يوم القيامة عما كنتم في الدنيا تفترون ، يعني : تختلقون من الباطل والإفك على الله بدعواكم له شريكا ، وتصييركم لأوثانكم فيما رزقكم نصيبا ، ثم ليعاقبنكم عقوبة تكون جزاء لكفرانكم نعمه وافترائكم عليه.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ (57) وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (58) }
يقول تعالى ذكره : ومن جهل هؤلاء المشركين وخبث فعلهم ، وقبح فِرْيتهم على ربهم ، أنهم يجعلون لمن خلقهم ودبَّرهم وأنعم عليهم ، فاستوجب بنعمه عليهم الشكر ، واستحق عليهم الحمد : البنات ، ولا ينبغي أن يكون لله ولد ذكر ولا أنثى سبحانه ، نزه جلّ جلاله بذلك نفسه عما أضافوا إليه ونسبوه من البنات ، فلم يرضوا بجهلهم إذ أضافوا إليه ما لا ينبغي إضافته إليه ، ولا ينبغي أن يكون له من الولد أن يضيفوا إليه ما يشتهونه لأنفسهم ويحبونه لها ، ولكنهم أضافوا إليه ما يكرهونه لأنفسهم ولا يرضونه لها من البنات ما يقتلونها إذا كانت لهم ، وفي " ما " التي في قوله( وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ ) وجهان من العربية : النصب عطفا لها على البنات ، فيكون معنى الكلام إذا أريد ذلك : ويجعلون لله البنات ولهم البنين الذين يشتهون ، فتكون " ما " للبنين ، والرفع على أن الكلام مبتدأ من قوله( وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ ) فيكون معنى الكلام : ويجعلون لله البنات ولهم البنون.
وقوله( وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا ) يقول : وإذا بشر أحد هؤلاء الذين جعلوا لله البنات بولادة ما يضيفه إليه من ذلك له ، ظلّ وجهه مسودًا من كراهته له( وَهُوَ كَظِيمٌ ) يقول قد كَظَم الحزنَ ، وامتلأ غما بولادته له ، فهو لا يظهر ذلك.
وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس( وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ ) ، ثم قال( وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ

(17/227)


يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (59)

كَظِيمٌ ) ... إلى آخر الآية ، يقول : يجعلون لله البنات ترضونهنّ لي ، ولا ترضونهن لأنفسكم ، وذلك أنهم كانوا في الجاهلية إذا وُلد للرجل منهم جارية أمسكها على هون ، أو دسها في التراب وهي حية.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله( وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ ) وهذا صنيع مشركي العرب ، أخبرهم الله تعالى ذكره بخبث صنيعهم فأما المؤمن فهو حقيق أن يرضى بما قسم الله له ، وقضاء الله خير من قضاء المرء لنفسه ، ولعمري ما يدري أنه خير ، لرُبّ جارية خير لأهلها من غلام. وإنما أخبركم الله بصنيعهم لتجتنبوه وتنتهوا عنه ، وكان أحدهم يغذو كلبه ويئد ابنته.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قال ابن عباس( وَهُوَ كَظِيمٌ ) قال : حزين.
حدثني المثنى ، قال : ثنا عمرو بن عون ، قال : أخبرنا هشيم ، عن جويبر ، عن الضحاك ، في قوله( وَهُوَ كَظِيمٌ ) قال : الكظيم : الكميد. وقد بيَّنا ذلك بشواهده في غير هذا الموضع.
القول في تأويل قوله تعالى : { يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (59) }
يقول تعالى ذكره : يتوارى هذا المبشر بولادة الأنثى من الولد له من القوم ، فيغيب عن أبصارهم( مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ ) يعني : من مساءته إياه مميلا بين أن يمسكه على هون : أي على هوان ، وكذلك ذلك في لغة قريش فيما ذكر لي ، يقولون للهوان : الهون ؛ ومنه قول الحطيئة :
فلمَّا خَشِيتُ الهُونَ والعَيْرُ مُمْسِكٌ... على رَغْمِهِ ما أثبتَ الحبلَ حافِرُه (1)
__________
(1) البيت في ديوان الحطيئة طبع التقدم بالقاهرة ص 10 قال شارحه : يقول : ما دام الحمار مقيدا فهو ذليل ، معترف بالهوان. وهذا مقلوب ، أراد : ما أثبت الحبل حافره (الحبل فاعل أثبت ، والحافر مفعول له) فقلب ، فجعل الفاعل مفعولا ، والمفعول فاعلا ، ومثله : أسلموها في دمشق كما ... أسلمت وحشية وهقا
أراد : كما أسلم وحشية وهق (والوهق : الحبل الغار فيه أنشوطة ، فتؤخذ فيه الدابة والإنسان ، جمعه أوهاق ..) وقال عروة ابن الورد : فلو أني شهدت أبا سعاد ... غداة غدا بمهجته يفوق
فديت بنفسه نفسي ومالي ... وما آلوه إلا ما أطيق
أي لا أترك جهدا ، أراد : فديت نفسه بنفسي ، فقلب.

(17/228)


لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (60)

وبعض بني تميم جعل الهون مصدرا للشيء الهين ، ذكر الكسائي أنه سمعهم يقولون : إن كنت لقليل هون المؤنة منذ اليوم قال : وسمعت : الهوان في مثل هذا المعنى ، سمعت منهم قائلا يقول لبعير له : ما به بأس غير هوانه ، يعني خفيف الثمن ، فإذا قالوا : هو يمشي على هونه ، لم يقولوه إلا بفتح الهاء ، كما قال تعالى( وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأرْضِ هَوْنًا ) .( أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ ) يقول : يدفنه حيا في التراب فيئده.
كما حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج( أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ ) يئد ابنته.
وقوله( أَلا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ ) يقول : ألا ساء الحكم الذي يحكم هؤلاء المشركون ، وذلك أن جعلوا لله ما لا يرضون لأنفسهم ، وجعلوا لما لا ينفعهم ولا يضرهم شركا فيما رزقهم الله ، وعبدوا غير من خلقهم وأنعم عليهم.
القول في تأويل قوله تعالى : { لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الأعْلَى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (60) }
وهذا خبر من الله جلّ ثناؤه أن قوله( وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ ) ، والآية التي بعدها مثل ضربه الله لهؤلاء المشركين الذين جعلوا لله البنات ، فبين بقوله( لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ ) أنه مثل ، وعنى بقوله جلّ ثناؤه( لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ ) للذين لا يصدّقون بالمعاد والثواب والعقاب من المشركين( مَثَلُ السَّوْءِ) وهو القبيح من المثل ، وما يسوء من ضرب له ذلك المثل( وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الأعْلَى ) يقول : ولله المثل الأعلى ، وهو الأفضل والأطيب ، والأحسن ، والأجمل ، وذلك التوحيد والإذعان له بأنه لا إله غيره.

(17/229)


وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ (61)

وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : ثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة( وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الأعْلَى ) قال : شهادة أن لا إله إلا الله.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله( لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الأعْلَى ) الإخلاص والتوحيد.
وقوله( وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ) يقول تعالى ذكره : والله ذو العزّة التي لا يمتنع عليه معها عقوبة هؤلاء المشركين الذين وصف صفتهم في هذه الآيات ، ولا عقوبة من أراد عقوبته على معصيته إياه ، ولا يتعذّر عليه شيء أراده وشاءه ، لأن الخلق خلقه ، والأمر أمره ، الحكيم في تدبيره ، فلا يدخل تدبيره خَلَل ، ولا خطأ.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ (61) }
يقول تعالى ذكره( وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ ) عصاة بني آدم بمعاصيهم( مَا تَرَكَ عَلَيْهَا ) يعني على الأرض( مِنْ دَابَّةٍ ) تدب عليها( وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ ) يقول : ولكن بحلمه يؤخر هؤلاء الظلمة فلا يعاجلهم بالعقوبة( إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ) يقول : إلى وقتهم الذي وُقِّت لهم ، ( فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ ) يقول : فإذا جاء الوقت الذي وُقِّت لهلاكهم( لا يَسْتَأْخِرُونَ ) عن الهلاك ساعة فيمهلون( وَلا يَسْتَقْدِمُونَ ) له حتى يستوفُوا آجالهم.
وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن بشار ، قال : ثنا عبد الرحمن ، قال : ثنا سفيان ، عن أبي إسحاق ، عن أبي الأحوص ، قال : كاد الجُعْل أن يعذّب بذنب بني آدم ، وقرأ( َلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ ) .

(17/230)


وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنَى لَا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ (62)

حدثنا محمد بن المثنى ، قال : ثنا إسماعيل بن حكيم الخزاعي ، قال : ثنا محمد بن جابر الجعفي ، عن يحيى بن أبي كثير ، عن أبي سلمة ، قال : سمع أبو هريرة رجلا وهو يقول : إن الظالم لا يضر إلا نفسه ، قال : فالتفت إليه فقال : بلى ، والله إن الحبارى لتموت في وكرها هزالا بظلم الظالم.
حدثني يعقوب ، قال : ثنا أبو عبيدة الحداد ، قال : ثنا قرة بن خالد السدوسي ، عن الزبير بن عديّ ، قال : قال ابن مسعود : خطيئة ابن آدم قتلت الجُعْل.
حدثنا أبو السائب ، قال : ثنا أبو معاوية ، عن الأعمش ، عن أبي إسحاق ، عن أبي عبيدة ، قال : قال عبد الله : كاد الجعل أن يهلك في جُحْره بخطيئة ابن آدم.
حدثني المثنى ، قال : أخبرنا إسحاق ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، عن معمر ، عن الزهري ، قال الله : ( فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ ) قال : نرى أنه إذا حضر أجله فلا يؤخر ساعة ، ولا يقدّم ، ما لم يحضر أجله ، فإن الله يؤخر ما شاء ، ويُقدّم ما شاء.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنَى لا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرِطُونَ (62) }
يقول تعالى ذكره : ويجعل هؤلاء المشركون لله ما يكرهونه لأنفسهم.( وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ ) يقول : وتقول ألسنتهم الكذب وتفتريه ، أن لهم الحسنى ، فأن في موضع نصب ، لأنها ترجمة عن الكذب. وتأويل الكلام : ويجعلون لله ما يكرهونه لأنفسهم ، ويزعمون أن لهم الحسنى ، الذي يكرهونه لأنفسهم. البنات يجعلونهن لله تعالى ، وزعموا أن الملائكة بنات الله. وأما الحُسنى التي جعلوها لأنفسهم : فالذكور من الأولاد ، وذلك أنهم كانوا يئدون الإناث من أولادهم ، ويستبقون الذكور منهم ، ويقولون : لنا الذكور ولله البنات ، وهو نحو قوله( وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ )
وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل.

(17/231)


* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء وحدثني المثنى ، قال : أخبرنا أبو حُذيفة ، قال : ثنا شبل وحدثني المثنى ، قال : أخبرنا إسحاق ، قال : ثنا عبد الله ، عن ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد( وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنَى ) قال : قول قريش : لنا البنون ولله البنات.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله ، إلا أنه قال : قول كفَّار قريش.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله( وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ ) : أي يتكلمون بأن لهم الحُسنى أي الغلمان.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : ثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة( أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنَى ) قال : الغلمان.
وقوله( لا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ ) يقول تعالى ذكره : حقا واجبا أن لهؤلاء القائلين لله البنات ، الجاعلين له ما يكرهونه لأنفسهم ، ولأنفسهم الحسنى عند الله يوم القيامة النار.
وقد بيَّنا تأويل قول الله( لا جَرَمَ ) في غير موضع من كتابنا هذا بشواهده بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع.
ورُوي عن ابن عباس في ذلك ، ما حدثني المثنى ، قال : ثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله( لا جَرَمَ ) يقول : بلى.
وقوله( لا جَرَمَ ) كان بعض أهل العربية يقول : لم تُنْصَبْ جَرَمَ بلا كما نصبت الميم من قول : لا غلام لك ؛ قال : ولكنها نُصِبَت لأنها فعل ماض ، مثل قول القائل : قَعَدَ فلان وجلس ، والكلام : لا ردّ لكلامهم أي ليس الأمر هكذا ، جَرَمَ : كَسَبَ ، مثل قوله لا أقسم ، ونحو ذلك. وكان بعضهم يقول : نصب جَرَمَ بلا وإنما بمعنى : لا بدّ ، ولا محالة ؛ ولكنها كثرت في الكلام حتى صارت بمنزلة حقا.
وقوله( وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ ) يقول تعالى ذكره : وأنهم مُخَلَّفون متروكون في النار ، منسيون فيها.
واختلف أهل التأويل في تأويل ذلك ، فقال أكثرهم بنحو ما قلنا في ذلك.

(17/232)


* ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن بشار وابن وكيع ، قالا ثنا محمد بن جعفر ، قال : ثنا شعبة ، عن أبي بشر ، عن سعيد بن جبير في هذه الآية( لا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ ) قال : منسيون مُضَيَّعون.
حدثني موسى بن عبد الرحمن المسروقي ، قال : ثنا زيد بن حباب ، قال : أخبرنا سعيد ، عن أبي بشر ، عن سعيد بن جبير ، مثله.
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا بهز بن أسد ، عن شعبة ، قال : أخبرني أبو بشر ، عن سعيد بن جبير ، مثله.
حدثني يعقوب ، قال : ثنا هشيم ، قال : أخبرنا أبو بشر ، عن سعيد بن جبير ، في قوله( لا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ ) قال : متروكون في النار ، منسيون فيها.
حدثني يعقوب ، قال : ثنا هشيم ، قال : حصين ، أخبرنا ، عن سعيد بن جبير ، بمثله.
حدثني المثنى ، قال : أخبرنا الحجاج بن المنهال ، قال : ثنا هشيم ، عن حصين ، عن سعيد بن جبير بمثله.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد( وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ ) قال : منسيون.
حدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء وحدثني المثنى ، قال : أخبرنا أبو حُذيفة ، قال : ثنا شبل وحدثني المثنى ، قال : أخبرنا إسحاق ، قال : ثنا عبد الله ، عن ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله.
حدثنا ابن وكيع ، قال : ثنا عبدة وأبو معاوية وأبو خالد ، عن جويبر ، عن الضحاك( وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ ) قال : متروكون في النار.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن القاسم ، عن مجاهد( مُفْرَطُونَ ) قال : مَنْسيون.
حدثني عبد الوارث بن عبد الصمد ، قال : ثني أبي ، عن الحسين ، عن قتادة( وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ ) يقول : مُضَاعُون.
حدثنا ابن المثنى ، قال : ثنا بدل ، قال : ثنا عباد بن راشد ، قال : سمعت داود بن أبي هند ، في قول الله( وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ ) قال : منسيون في النار.

(17/233)


وقال آخرون : معنى ذلك : أنهم مُعْجَلُونَ إلى النار مقدّمون إليها ، وذهبوا في ذلك إلى قول العرب : أفرطنا فلانا في طلب الماء ، إذا قدّموه لإصلاح الدلاء والأرشية ، وتسوية ما يحتاجون إليه عند ورودهم عليه فهو مُفْرَط. فأما المتقدّم نفسه فهو فارط ، يقال : قد فَرَط فلان أصحابَه يَفْرُطهم فُرْطا وفُروطا : إذا تقدمهم وجمع فارط : فُرَّاط ومنه قول القُطامِيّ :
واسْتَعْجَلُونا وكانُوا مِنْ صَحَابَتِنا... كمَا تَعَجَّل فُرَّاطٌ لِوُرَّادِ (1)
ومنه قول النبيّ صلى الله عليه وسلم : " أنا فَرَطُكُمْ على الحَوْضِ " : أي متقدمكم إليه وسابقكم " حتى تَرِدُوهُ " .
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ ) يقول : مُعْجَلُون إلى النار.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : ثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة( وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ ) قال : قد أفرطوا في النار أي مُعْجَلُون.
وقال آخرون. معنى ذلك : مُبْعَدون في النار.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن وكيع ، قال : ثنا أبي ، عن أشعث السمَّان ، عن الربيع ، عن أبي بشر ، عن سعيد( وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ ) قال : مُخْسَئون مُبْعَدون.
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب القول الذي اخترناه ، وذلك أن الإفراط الذي هو بمعنى التقديم ، إنما يقال فيمن قدَم مقدَما لإصلاح ما يقدم إليه إلى وقت ورود من قدمه عليه ، وليس بمقدم من قدم إلى النار من أهلها لإصلاح شيء فيها لوارد يرد عليها فيها فيوافقه مصلحا ، وإنما تَقَدّم مَن قُدِّم إليها لعذاب يُعجَّل له . فإذا كان معنى ذلك الإفراط الذي هو تأويل التعجيل ففسد أن يكون له
__________
(1) البيت في ديوان القطامي (طبعة ليدن سنة 1902) وفيه " فاستعجلونا " بالفاء. يقول : استعجلونا : أي أعجلونا ، يريد تقدمونا ، والفراط : الذين يتقدمون الواردة ، فيصلحون الأرشية ، حتى يأتي القوم بعدهم. وفي اللسان : فرط : وفرط القوم يفرطهم فرطا (من باب قتل) وفراطة : تقدمهم إلى الورد ، لإصلاح الأرشية والدلاء ، ومدر الحياض والسقي فيها ، فأنا فارط ، وهم الفراط ؛ قال القطامي : فاستعجلونا ... الخ البيت. وفي الصحاح : كما تعجل في موضع : كما تقدم.

(17/234)


تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (63)

وجه في الصحة ، صحّ المعنى الآخر ، وهو الإفراط الذي بمعنى التخليف والترك. وذلك أنه يُحكى عن العرب : ما أَفْرطت ورائي أحدًا : أي ما خَلَّفته ؛ وما فرطته : أي لم أخلفه.
واختلفت القراء في قراءة ذلك ، فقرأته عامة قرّاء المِصرَينِ الكوفة والبصرة( وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ ) بتخفيف الراء وفتحها ، على معنى ما لم يُسَمّ فاعله من أُفرِط فهو مُفْرَط . وقد بيَّنت اختلاف قراءة ذلك كذلك في التأويل. وقرأه أبو جعفر القارئ. " وأنَّهُم مُفَرِّطُونَ " بكسر الراء وتشديدها ، بتأويل : أنهم مفرِّطون في أداء الواجب الذي كان لله عليهم في الدنيا ، من طاعته وحقوقه ، مضيعو ذلك ، من قول الله تعالى( يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ ) وقرأ نافع بن أبي نعيم : " وأنَّهُم مُفْرِطُونَ " بكسر الراء وتخفيفها.
حدثني بذلك يونس ، عن وَرْش عنه ، بتأويل : أنهم مُفْرِطُونَ في الذنوب والمعاصي ، مُسْرِفون على أنفسهم مكثرون منها ، من قولهم : أَفْرط فلان في القول : إذا تجاوز حَدَّه ، وأسرف فيه.
والذي هو أولى القراءات في ذلك بالصواب قراءة الذين ذكرنا قراءتهم من أهل العراق لموافقتها تأويل أهل التأويل الذي ذكرنا قبل ، وخروج القراءات الأخرى عن تأويلهم.
القول في تأويل قوله تعالى : { تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذَابٌ (63) }
يقول تعالى ذكره مقسِما بنفسه عزّ وجلّ لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : والله يا محمد لقد أرسلنا رسلا من قبلك إلى أممها بمثل ما أرسلناك إلى أمتك من الدعاء إلى التوحيد لله ، وإخلاص العبادة له ، والإذعان له بالطاعة ، وخلع الأنداد والآلهة( فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ ) يقول : فحسَّن لهم الشيطان ما كانوا عليه من الكفر بالله وعبادة الأوثان مقيمين ، حتى كذّبوا رسلهم ، وردّوا عليهم ما جاءوهم به من عند ربهم( فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ ) يقول : فالشيطان ناصرهم اليوم في الدنيا ، وبئس الناصر( وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ) في الآخرة عند ورودهم على ربهم ، فلا ينفعهم حينئذ ولاية الشيطان ، ولا هي نفعتهم في الدنيا ، بل ضرّتهم فيها

(17/235)


وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (64)

وهي لهم في الآخرة أضرّ.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَمَا أَنزلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونُ (64) }
يقول تعالى ذكره لنبيه صلى الله عليه وسلم : وما أنزلنا يا محمد عليك كتابنا وبعثناك رسولا إلى خلقنا إلا لتبين لهم ما اختلفوا فيه من دين الله ، فتعرّفهم الصواب منه ، والحقّ من الباطل ، وتقيم عليهم بالصواب منه حجة الله الذي بعثك بها.
وقوله( وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ) يقول : وهدى بيانا من الضلالة ، يعني بذلك الكتاب ، ورحمة لقوم يؤمنون به ، فيصدّقون بما فيه ، ويقرّون بما تضمن من أمر الله ونهيه ، ويعملون به ، وعطف بالهدى على موضع ليبين ، لأن موضعها نصب. وإنما معنى الكلام : وما أنزلنا عليك الكتاب إلا بيانًا للناس فيما اختلفوا فيه هدى ورحمة.

(17/236)


وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (65)

القول في تأويل قوله تعالى : { وَاللَّهُ أَنزلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (65) }
يقول تعالى ذكره منبهَ خلقِه على حججه عليهم في توحيده ، وأنه لا تنبغي الألوهية إلا له ، ولا تصلح العبادة لشيء سواه : أيها الناس معبودكم الذي له العبادة دون كلّ شيء ، ( أَنزلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً ) يعني : مطرا ، يقول : فأنبت بما أنزل من ذلك الماء من السماء الأرض الميتة التي لا زرع بها ولا عُشْبَ ولا نبت( بَعْدَ مَوْتِهَا ) بعد ما هي ميتة لا شيء فيها( إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً ) يقول تعالى ذكره : إن في إحيائنا الأرض بعد موتها بما أنزلنا من السماء من ماء لدليلا واضحًا ، وحجة قاطعة ، عذر من فكر فيه( لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ ) يقول : لقوم يسمعون هذا القول فيتدبرونه ويعقلونه ، ويطيعون الله بما دلهم عليه.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ

(17/236)


وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ (66)

مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ (66) }
يقول تعالى ذكره : وإن لكم أيها الناس لعظة في الأنعام التي نُسقيكم مما في بطونه.
واختلفت القرّاء في قراءة قوله( نُسْقِيكُمْ) فقرأته عامة أهل مكة والعراق والكوفة والبصرة ، سوى عاصم ؛ ومن أهل المدينة أبو جعفر( نُسْقِيكُمْ) بضمّ النون. بمعنى : أنه أسقاهم شرابًا دائمًا. وكان الكسائيّ يقول : العرب تقول : أسقيناهم نَهْرا ، وأسقيناهم لبنا : إذا جعلته شِرْبا دائما ، فإذا أرادوا أنهم أعطوه شربة قالوا : سقيناهم فنحن نَسْقِيهم بغير ألف ؛ وقرأ ذلك عامة قرّاء أهل المدينة سوى أبي جعفر ، ومن أهل العراق عاصم(نَسْقِيكم) بفتح النون من سَقاه الله ، فهو يَسْقيه ، والعرب قد تدخل الألف فيما كان من السَّقي غير دائم ، وتنزعها فيما كان دائمًا ، وإن كان أشهر الكلامين عندها ما قال الكسائيّ ، يدلّ على ما قلنا من ذلك ، قول لَبيد في صفة سحاب :
سَقَى قَوْمي بَنِي مَجْدٍ وأسْقَى... نُمَيْرًا والقَبَائِلَ مِنْ هِلالِ (1)
فجمع اللغتين كلتيهما في معنى واحد ، فإذا كان ذلك كذلك ، فبأية القراءتين قرأ القارئ فمصيب ، غير أن أعجب القراءتين إليّ قراءة ضمّ النون لما ذكرت من أن أكثر الكلامين عند العرب فيما كان دائما من السقي أسقى بالألف فهو يُسْقِي ، وما أسقى الله عباده من بطون الأنعام فدائم لهم غير منقطع عنهم. وأما قوله( مِمَّا فِي بُطُونِهِ ) وقد ذكر الأنعام قبل ذلك ، وهي جمع والهاء في البطون موحدة ، فإن لأهل العربية في ذلك أقوالا فكان بعض نحويِّي الكوفة يقول : النَّعم والأنعام شيء واحد ، لأنهما جميعًا جمعان ، فردّ الكلام في
__________
(1) البيت للبيد (لسان العرب : سقى) قال : السقي : معروف ، والاسم : السقيا بالضم. وسقاه الله الغيث وأسقاه ، وقد جمعهما لبيد في قوله : " سقى قومي " . وقال الفراء في معاني القرآن : (174) العرب تقول لكل ما كان من بطون الأنعام ومن السماء أو نهر يجري لقوم : أسقيت. فإذا سقاك الرجل ماء لشفتك ، قالوا : سقاه ، ولم يقولوا : أسقاه ، كما قال الله عز وجل : (وسقاهم ربهم شراباً طهورًا). وقال : (الذي يطعمني ويسقين). وربما قالوا لما في بطون الأنعام ولماء السماء سقى السماء وأسقى ، كما قال لبيد : " سقي قومي ... " البيت. وقد اختلف القراء ، وقرأ بعضهم نسقيكم ، وبعضهم : يسقيكم.

(17/237)


قوله( مِمَّا فِي بُطُونِهِ ) إلى التذكير مرادًا به معنى النَّعم ، إذ كان يؤدي عن الأنعام ، ويستشهد لقوله ذلك برجز بعض الأعراب :
إذا رأيْتَ أنْجُما منَ الأسَدْ... جَبْهَتهُ أوِ الخَرَاة والكَتَدْ... بال سُهَيْلٌ فِي الفَضِيخِ فَفَسَدْ... وطابَ ألْبانُ اللِّقاحِ فَبَرَدْ (1)
ويقول : رجع بقوله " فبرد " إلى معنى اللبن ، لأن اللبن والألبان تكون في معنى واحد ، وفي تذكير النعم قول الآخر :
أكُلَّ عامٍ نَعَمٌ تَحْوُونَهُ... يُلْقحُهُ قَومٌ وتَنْتِجُونَهُ (2)
__________
(1) الأبيات الثلاثة الأولى في (اللسان : جبه) قال الأزهري : الجبهة النجم الذي يقال له : جبهة الأسد ، وهي أربعة أنجم ينزلها القمر ، قال الشاعر : " إذا رأيت ... " وفي (اللسان : خرت). والخراتان نجمان من كواكب الأسد ، وهما كوكبان بينهما قدر سوط ، وهما كتفا الأسد ، واحدتهما خراة وأنشد الأبيات الأربعة. وفي (اللسان : كتد) : والكتد : نجم ، أنشد ثعلب : " إذا رأيت ... الخ " الأبيات وفي (اللسان : سهل) الأزهري : سهيل كوكب لا يرى بخراسان ، ويرى بالعراق. وقال ابن كناسة ، سهيل يرى بالحجاز ، في جميع أرض العرب ، ولا يرى بأرض أرمينية. وقال الأزهري : سهيل كوكب يمان. وفي (اللسان فضخ) الفضيخ : عصير العنب ، وهو أيضا شراب يتخذ من البسر المفضوخ وحده ، من غير أن تمسه النار ، وهو المشدوخ.
وفضحت البسر وافتضخته ، قال الراجز : " بال سهيل في الفضيخ ففسد " يقول : لما طلع سهيل ذهب زمن البسر وأرطب ، فكأنه بال فيه. وأصل هذه الشواهد من شواهد الفراء في معاني القرآن ، قال : ( ص 174 ) : وأما قوله " مما في بطونه " ، ولم يقل " بطونها " فإنه قيل - والله أعلم - إن النعم والأنعام شيء واحد ، وهما جمعان ، فرجع التذكير إلى معنى " النعم " ، إذ كان يؤدي عن الأنعام. أنشدني بعضهم : إذا رأيت أنجما .. الخ الأبيات الأربعة ، وهي من مشطور الرجز. فرجع (ضمير قوله فيرد) إلى اللبن ، والألبان يكون في معنى واحد ، قال : وقال الكسائي " نسقيكم مما في بطونه " : بطون ما ذكرنا. وهو صواب. أنشدني بعضهم " مثل الفراخ نتفت حواصله " .
(2) هذا الرجز لقيس بن الحصين بن يزيد الحارثي ، أنشده أبو عبيدة في (مجاز القرآن 1 : 362) وأنشد بعد بيتي الشاهد بيتا ثالثا وهو : " أربابه نوكى ولا يحمونه). والشاهد فيه أن الأنعام يذكر ويؤنث. قال : وقال آخرون : المعنى على النعم ، لأن النعم ، يذكر ويؤنث. وأنشده في اللسان (نعم) قال : وقال آخر في تذكير النعم : في كُلَ عامٍ نَعَمٌ يَحْوُونَهُ ... يُلْقِحُهُ قَوْمٌ وتَنْتِجُونَهُ
وذكر الرجز البغدادي في الخزانة ( 1 : 196 - 197 ) وزاد فيه أبياتا ، قال : وتنتجونه بتاء الخطاب : يقال نتج الناقة أهلها : إذا استولدوها. وأنتجت الفرس بالهمزة : حان نتاجها. والنتاج بالكسر : اسم يشمل وضع البهائم من الغنم وغيرها. وإذا ولى الإنسان ناقة أو شاة ما خضا حتى تضع قيل نتجها نتجا
من باب ضرب ، فالإنسان كالقابلة ، لأنه يتلقى الولد ويصلح من شأنه ، فهو ناتج ، والبهيمة منتوجة ، والولد : نتيجة.
يقول : يحملون الفحولة على النوق ، فإذا حملت أغرتم أنتم عليها. ورواية البيت في الخزانة كرواية المؤلف. والأبيات : قبلت في يوم الكلاب الثاني ، وهو ماء لبني تميم بين الكوفة والبصرة .

(17/238)


فذكر النعم ؛ وكان غيره منهم يقول : إنما قال( مِمَّا فِي بُطُونِهِ ) لأنه أراد : مما في بطون ما ذكرنا وينشد في ذلك رَجزا لبعضهم :
مِثْلُ الفِراخِ نُتِفَتْ حَوَاصِلُهُ (1)
وقول الأسود بن يَعْفُر :
إنَّ المَنِيَّةَ والحُتُوفَ كلاهُما... يُوفي المَخارمَ يَرْقُبانِ سَوَادِي (2)
فقال : كلاهما ، ولم يقل : كلتاهما ؛ وقول الصَّلَتان العَبْدِيّ :
إنَّ السَّماحَةَ والمُرُوءَة ضُمِّنا... قَبْرًا بمَرْوَ على الطَّرِيقِ الوَاضِحِ (3)
وقول الآخر :
وعَفْرَاءُ أدْنَى النَّاس مِنِّي مَوَدَّةً... وعَفْرَاءُ عَنّي المُعْرِضُ المُتَوَانِي (4)
ولم يقل : المعرضة المتوانية ؛ وقول الآخر :
إذا النَّاسُ ناسٌ والبِلادُ بغِبْطَةٍ... وَإذْ أُمُّ عَمَّارٍ صَديقٌ مُساعِفُ (5)
__________
(1) هو مثل الشاهد السابق على سابقه ، أنشده الفراء في معاني القرآن (ص 174) شاهدا على أن قوله نتفت حواصله ، أي حواصل ما ذكرنا ، كما فسره الكسائي. ونقله صاحب اللسان في (نعم) مع أشباه له.
(2) البيت للأسود بن يعفر النهشلي التميمي (المفضيليات : 101) والمنية : الموت. والحتوف : جمع حتف ، يريد أنواع الأخطار التي تؤدي إلى الموت. والمخارم : جمع مخرم : الطريق في الغلظ ، عن السكري ، وقيل : الطرق في الجبال ، وأفواه الفجاج ، وسواد الإنسان : شخصه. والشاهد في البيت قوله كلاهما بالتذكير ، مع أن المنية والحتوف مؤنثان ، وكان حقه أن يقول : كلتاهما ، لأن الشاعر لم يحفل بهذا التأنيث ، واعتبر المذكور أو لا مذكرا ، بمعنى الشيئين.
(3) الشاهد في البيت أن السماحة والمروءة لفظتان مؤنثتان ولم يؤنث الفعل المتحمل ضميرهما ، فقال الشاعر : ضمنا ، ولم يقل ضمنتا ، لأنه اعتبر ما رجع إليه الضمير قبل الفعل شيئين مذكرين ، أو خلقين ، فلذلك لم يؤنث الفعل المسند إلى ضميرهما.
(4) استشهد المؤلف بهذا البيت على أن المعرض وهو خبر لعفراء ، لم يطابق المبتدأ في التأنيث وهو عفراء ، لأن الشاعر ذهب إلى معنى الحبيب أو الشخص ، مما هو مذكر في المعنى.
(5) وهذا الشاهد كسابقه ، لأن الشاعر ذهب إلى أن أم عمار شخص ، فلذلك قال صديق على التأويل ولم يقل صديقه على المطابقة. والصديق المساعف : أي المواصل : الذي يدنو من صديقه ويسعفه بحاجته.

(17/239)


وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (67)

ويقول : كل ذلك على معنى هذا الشيء وهذا الشخص والسواد ، وما أشبه ذلك ، ويقول : من ذلك قول الله تعالى ذكره( فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي ) بمعنى : هذا الشيء الطالع. وقوله( كَلا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ ) ولم يقل ذكرها ، لأن معناه : فمن شاء ذكر هذا الشيء. وقوله( وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ فَلَمَّا جَاءَ سُلَيْمَانَ ) ولم يقل جاءت . وكان بعض البصريين يقول : قيل( مِمَّا فِي بُطُونِهِ ) لأن المعنى : نسقيكم من أيّ الأنعام كان في بطونه ، ويقول : فيه اللبن مضمر ، يعني أنه يسقي من أيها كان ذا لبن ، وذلك أنه ليس لكلها لبن ، وإنما يُسقى من ذوات اللبن. والقولان الأوّلان أصحّ مخرجا على كلام العرب من هذا القول الثالث.
وقوله( مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا ) يقول : نسقيكم لبنا ، نخرجه لكم من بين فرث ودم خالصا : يقول : خلص من مخالطة الدم والفرث ، فلم يختلطا به( سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ ) يقول : يسوغ لمن شربه فلا يَغَصّ به كما يَغَصّ الغاصّ ببعض ما يأكله من الأطعمة. وقيل : إنه لم يَغصّ أحد باللبن قَطُّ.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالأعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (67) }
يقول تعالى ذكره : ولكم أيضًا أيها الناس عِبرةٌ فيما نسقيكم من ثمرات النخيل والأعناب ما تتخذون منه سكرا ورزقا حسنا ، مع ما نسقيكم من بطون الأنعام من اللبن الخارج من بين الفرث والدم. وحذف من قوله( وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالأعْنَابِ ) الاسم ، والمعنى ما وصفت ، وهو : ومن ثمرات النخيل والأعناب ما تتخذون منه لدلالة " مِن " عليه ، لأن " من " تدخل في الكلام مُبَعِّضة ، فاستغني بدلالتها ومعرفة السامعين بما يقتضي من ذكر الاسم معها. وكان بعض نحويِّي البصرة يقول في معنى الكلام : ومن ثمرات النخيل والأعناب شيء تتخذون منه سكرا ، ويقول : إنما ذكرت الهاء في قوله( تَتَّخِذُونَ مِنْهُ ) لأنه أريد بها الشيء ، وهو عندنا عائد على المتروك ، وهو " ما " . وقوله( تَتَّخِذُونَ ) من صفة " ما " المتروكة.

(17/240)


واختلف أهل التأويل في معنى قوله( تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا ) فقال بعضهم : عني بالسَّكَر : الخمر ، وبالرزق الحسن : التمر والزبيب ، وقال : إنما نزلت هذه الآية قبل تحريم الخمر ، ثم حُرّمت بعد.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عبيد المحاربيّ ، قال : ثنا أيوب بن جابر السُّحَيْمي ، عن الأسود ، عن عمرو بن سفيان ، عن ابن عباس ، قوله( تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا ) قال : السَّكَر : ما حُرِّم من شرابه ، والرزق الحسن : ما أحلّ من ثمرته.
حدثنا ابن وكيع وسعيد بن الربيع الرازي ، قالا ثنا ابن عيينة ، عن الأسود بن قيس ، عن عمرو بن سفيان ، عن ابن عباس( تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا ) قال : الرزق الحسن : ما أحلّ من ثمرتها ، والسكر : ما حرّم من ثمرتها.
حدثنا ابن وكيع ، قال : ثنا أبي ، عن سفيان ، عن الأسود ، عن عمرو بن سفيان ، عن ابن عباس مثله.
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا الثوري ، عن الأسود بن قيس ، عن عمرو بن سفيان ، عن ابن عباس ، بنحوه.
حدثني المثنى ، قال : ثنا أبو نعيم الفضل بن دكين ، قال : ثنا سفيان ، عن الأسود بن قيس ، عن عمرو بن سفيان ، عن ابن عباس بنحوه.
حدثنا ابن المثنى ، قال : ثنا محمد بن جعفر ، قال : ثنا شعبة ، عن الأسود بن قيس ، قال : سمعت رجلا يحدّث عن ابن عباس في هذه الآية( تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا ) قال : السكر : ما حُرِّم من ثمرتيهما ، والرزق الحسن : ما أحلّ من ثمرتيهما.
حدثنا أحمد بن إسحاق ، قال : ثنا أبو أحمد ، قال : ثنا الحسن بن صالح ، عن الأسود بن قيس ، عن عمرو بن سفيان ، عن ابن عباس ، بنحوه.
حدثني المثنى ، قال : ثنا أبو غسان ، قال : ثنا زهير بن معاوية ، قال : ثنا الأسود بن قيس ، قال : ثني عمرو بن سفيان ، قال : سمعت ابن عباس يقول ، وذكرت عنده هذه الآية( وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالأعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ

(17/241)


سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا ) قال : السكر : ما حرّم منهما ، والرزق الحسن : ما أحلّ منهما.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا سفيان ، عن الأسود بن قيس ، عن عمرو بن سفيان البصري ، قال : قال ابن عباس ، في قوله( تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا ) قال : فأما الرزق الحسن : فما أحلّ من ثمرتهما ، وأما السكر : فما حرّم من ثمرتهما.
حدثني المثنى ، قال : أخبرنا الحمَّاني ، قال : ثنا شريك ، عن الأسود ، عن عمرو بن سفيان البصريّ ، عن ابن عباس( تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا ) قال : السَّكَر : حرامه ، والرزق الحسن : حلاله.
حدثني المثنى ، قال : أخبرنا العباس بن أبي طالب ، قال : ثنا أبو عوانة ، عن الأسود ، عن عمرو بن سفيان ، عن ابن عباس قال : السَّكَر : ما حرّم من ثمرتهما ، والرزق الحسن : ما حلّ من ثمرتهما.
حدثنا أحمد بن إسحاق ، قال : ثنا أبو أحمد ، قال : ثنا إسرائيل ، عن أبي حصين ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال : الرزق الحسن : الحلال ، والسَّكَر : الحرام.
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا عبد الرحمن ، قال : ثنا سفيان ، عن أبي حصين ، عن سعيد بن جبير( تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا ) قال : ما حرم من ثمرتهما ، وما أحلّ من ثمرتهما.
حدثنا أحمد ، قال : ثنا أبو أحمد ، قال : ثنا سفيان ، عن أبي حصين ، عن سعيد بن جبير ، قال : السَّكَر خمر ، والرزق الحسن الحلال.
حدثنا ابن وكيع ، قال : ثنا أبي ، عن مسعر وسفيان ، عن أبي حصين ، عن سعيد بن جبير ، قال : الرزق الحسن : الحلال ، والسَّكَر : الحرام.
حدثني المثنى ، قال : ثنا أبو نعيم ، قال : ثنا سفيان ، عن أبي حصين ، عن سعيد بن جبير ، بنحوه.
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا محمد بن جعفر ، قال : ثنا شعبة ، عن أبي بشر ، عن سعيد بن جبير ، في هذه الآية( تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا ) قال : السَّكَر : الحرام ، والرزق الحسن : الحلال.

(17/242)


حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا جرير ، عن مغيرة ، عن أبي رزين( تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا ) قال : نزل هذا وهم يشربون الخمر ، فكان هذا قبل أن ينزل تحريم الخمر.
حدثنا محمد بن المثنى ، قال : ثنا عبد الرحمن بن مهدي ، قال : ثنا شعبة ، عن المُغيرة ، عن إبراهيم والشعبيّ وأبي رزين ، قالوا : هي منسوخة في هذه الآية( تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا )
حدثنا الحسن بن عرفة ، قال : ثنا أبو قطن ، عن سعيد ، عن المغيرة ، عن إبراهيم والشعبي ، وأبي رزين بمثله.
حدثني المثنى ، قال : ثنا عمرو بن عون ، قال : أخبرنا هشيم ، عن مغيرة ، عن إبراهيم ، في قوله( تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا ) قال : هي منسوخة نسخها تحريم الخمر.
حدثنا محمد بن بشار ، قال : ثنا هوذة ، قال : ثنا عوف ، عن الحسن ، في قوله( تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا ) قال : ذكر الله نعمته في السكر قبل تحريم الخمر
حدثني المثنى ، قال : ثنا عمرو بن عون ، قال : أخبرنا هشيم ، عن منصور وعوف ، عن الحسن ، قال السكر : ما حرم الله منه ، والرزق : ما أحلّ الله منه.
حدثنا ابن وكيع ، قال : ثنا أبي ، عن أبي جعفر ، عن الربيع ، عن الحسن ، قال : الرزق الحسن : الحلال ، والسَّكَر : الحرام.
حدثنا ابن وكيع ، قال : ثنا أبي ، عن سلمة ، عن الضحاك ، قال : الرزق الحسن : الحلال ، والسَّكَر : الحرام.
حدثنا ابن وكيع ، قال : ثنا أبو أسامة ، عن أبي كدينة يحيى بن المهلب ، عن ليث ، عن مجاهد قال : السَّكر : الخمر ، والرزق الحسن ، الرُّطب والأعناب.
حدثنا أحمد بن إسحاق ، قال : ثنا أبو أحمد ، قال : ثنا شريك ، عن ليث ، عن مجاهد( تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا ) قال : هي الخمر قبل أن تحرّم.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى وحدثني

(17/243)


الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء وحدثني المثنى ، قال : ثنا أبو حُذيفة ، قال : ثنا شبل جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد( تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا ) قال : الخمر قبل تحريمها ، ( وَرِزْقًا حَسَنًا ) قال : طعاما.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد بنحوه.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله( وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالأعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا ) أما السَّكَر : فخمور هذه الأعاجم ، وأما الرزق الحسن : فما تنتبذون ، وما تُخَلِّلون ، وما تأكلون ، ونزلت هذه الآية ولم تحرّم الخمر يومئذ ، وإنما جاء تحريمها بعد ذلك في سورة المائدة.
حدثنا ابن وكيع ، قال : ثنا عبدة بن سليمان ، قال : قرأت على ابن أبي عُذرة ، قال : هكذا سمعت قتادة( تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا ) ثم ذكر نحو حديث بشر.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : ثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة( سَكَرًا ) قال : هي خمور الأعاجم ، ونُسِخت في سورة المائدة ، والرزق الحسن قال : ما تنتبذون وتُخَلِّلون وتأكلون.
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس( وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالأعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا ) وذلك أن الناس كانوا يسمُّون الخمر سكرا ، وكانوا يشربونها ، قال ابن عباس (1) مرّ رجال بوادي السكران الذي كانت قريش تجتمع فيه ، إذا تَلَقَّوا مسافريهم إذا جاءوا من الشام ، وانطلقوا معهم يشيعونهم حتى يبلغوا وادي السكران ثم يرجعوا منه ، ثم سماها الله بعد ذلك الخمر حين حرمت ، وقد كان ابن عباس يزعم أنها الخمر ، وكان يزعم أن الحبشة يسمون الخلّ السَّكَر. قوله( وَرِزْقًا حَسَنًا ) يعني بذلك : الحلال التمر والزبيب ، وما كان حلالا لا يسكر.
وقال آخرون : السَّكَر بمنزلة الخمر في التحريم ، وليس بخمر ، وقالوا :
__________
(1) قوله : قال ابن عباس إلى يرجعوا منه. كذا في النسخ. وهو كالمقحم وسط الكلام ، وقد أسقطه السيوطي من الدر المنثور حين روى هذا الحديث.

(17/244)


هو نقيع التمر والزبيب إذا اشتدّ وصار يُسْكِر شاربه.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا الحكم بن بشير ، قال : ثنا عمرو ، في قوله( وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالأعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا ) قال ابن عباس : كان هذا قبل أن ينزل تحريم الخمر والسكر حرام مثل الخمر ؛ وأما الحلال منه ، فالزبيب والتمر والخل ونحوه.
حدثني المثنى ، وعلي بن داود ، قالا ثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله( تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا ) فحرّم الله بعد ذلك ، يعني بعد ما أنزل في سورة البقرة من ذكر الخمر ، والميسر والأنصاب والأزلام ، السَّكَر مع تحريم الخمر لأنه منه ، قال( وَرِزْقًا حَسَنًا ) فهو الحلال من الخلّ والنبيذ ، وأشباه ذلك ، فأقرّه الله وجعله حلالا للمسلمين.
حدثنا أحمد ، قال : ثنا أبو أحمد ، قال : ثنا إسرائيل ، عن موسى ، قال : سألت مرّة عن السَّكَر ، فقال : قال عبد الله : هو خمر.
حدثنا أحمد ، قال : ثنا أبو أحمد ، قال : ثنا إسرائيل ، عن أبي فروة ، عن أبي عبد الرحمن بن أبي ليلى ، قال : السَّكَر : خمر.
حدثنا أحمد ، قال : ثنا أبو أحمد ، قال : ثنا سفيان ، عن أبي الهيثم ، عن إبراهيم ، قال : السَّكَر : خمر.
حدثنا أحمد ، قال : ثنا أبو أحمد ، قال : ثنا حسن بن صالح ، عن مغيرة ، عن إبراهيم وأبي رزين ، قالا السَّكَر : خمر.
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : ثنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله( تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا ) يعني : ما أسكر من العنب والتمر( وَرِزْقًا حَسَنًا ) يعني : ثمرتها.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله( تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا ) قال : الحلال ما كان على وجه الحلال حتى غيروها فجعلوا منها سَكَرا.
وقال آخرون : السَّكَر : هو كلّ ما كان حلالا شربه ، كالنبيذ الحلال والخلّ والرطَب. والرزق الحسن : التمر والزبيب.

(17/245)


* ذكر من قال ذلك :
حدثني داود الواسطيّ ، قال : ثنا أبو أسامة ، قال أبو رَوْق : ثني قال : قلت للشعبيّ : أرأيت قوله تعالى( تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا ) أهو هذا السكر الذي تصنعه النَّبَط ؟ قال : لا هذا خمر ، إنما السَّكَر الذي قال الله تعالى ذكره : النبيذ والخلّ والرزق الحسن : التمر والزبيب.
حدثني يحيى بن داود ، قال : ثنا أبو أسامة ، قال : وذكر مجالد ، عن عامر ، نحوه.
حدثني أحمد بن إسحاق ، قال : ثنا أبو أحمد ، قال : ثنا مندل ، عن ليث ، عن مجاهد( تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا ) قال : ما كانوا يتخذون من النخل النَّبيذ ، والرزق الحسن : ما كانوا يصنعون من الزبيب والتمر.
حدثنا أحمد ، قال : ثنا أبو أحمد ، قال : ثنا مندل ، عن أبي رَوْق ، عن الشعبيّ ، قال : قلت له : ما تتخذون منه سَكَرا ؟ قال : كانوا يصنعون من النبيذ والخلّ قلت : والرزق الحسن ؟ قال : كانوا يصنعون من التمر والزبيب.
حدثنا ابن وكيع ، قال : ثنا أبو أسامة وأحمد بن بشير ، عن مجالد ، عن الشعبيّ ، قال : السَّكَر : النبيذ والرزق الحسن : التمر الذي كان يؤكل ، وعلى هذا التأويل ، الآية غير منسوخة ، بل حكمها ثابت.
وهذا التأويل عندي هو أولى الأقوال بتأويل هذه الآية ، وذلك أن السَّكَر في كلام العرب على أحد أوجه أربعة : أحدها : ما أسكر من الشراب. والثاني : ما طُعِم من الطعام ، كما قال الشاعر :
جَعَلْتُ عَيْبَ الأكْرَمِينَ سَكَرَا (1)
أي طعما. والثالث : السُّكُون ، من قول الشاعر :
جَعَلْتُ عَيْنَ الحَرُورِ تَسْكُرُ (2)
__________
(1) تقدم الكلام على هذا الشاهد في صفحة 13 من هذا الجزء. وقال أبو عبيدة في مجاز القرآن (1 : 363 ) عند قوله تعالى : " تتخذون منه سكرا " : أي طعما ، وهذا له سكر : أي طعم. وقال جندل " جعلت عيب الأكرمين من سكرا " . قال : وله موضع آخر ، مجازه سكنا. وروايته البيت في اللسان : جَعَلْتَ أعْرَاضَ الكَرامِ سَكَرَا
أي جعلت ذمهم طعما لك.
(2) تقدم الكلام على هذا الشاهد في صفحة ؟ من هذا الجزء واستشهد به أبو عبيدة في مجاز القرآن (1 : 363) بعد الشاهد السابق ، وعطفه عليه بقوله : وقال : جاء الشتاء واجتأل القنبر ... وجعلت عين الحرور تسكر
أي يكسن حرها ويخبو. ويقال : ليلة ساكرة : أي ساكنة. وقال : تريد الليالي في طولها ... وليست بطلق ولا ساكرة
ويروي : تزيد ليالي في طولها. أ هـ . وفي (اللسان : سكر) : تزاد.

(17/246)


وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ (68)

وقد بيَّنا ذلك فيما مضى. والرابع : المصدر من قولهم : سَكَر فلان يَسْكَر سُكْرا وسَكْرا وسَكَرا ، فإذا كان ذلك كذلك ، وكان ما يُسْكِر من الشراب حراما بما قد دللنا عليه في كتابنا المسمى : " لطيف القول في أحكام شرائع الإسلام " وكان غير جائز لنا أن نقول : هو منسوخ ، إذ كان المنسوخ هو ما نفى حكمه الناسخ ، وما لا يجوز اجتماع الحكم به وناسخه ، ولم يكن في حكم الله تعالى ذكره بتحريم الخمر دليل على أن السَّكَر الذي هو غير الخمر ، وغير ما يسكر من الشراب ، حرام ، إذ كان السكر أحد معانيه عند العرب ، ومن نزل بلسانه القرآن هو كلّ ما طعم ، ولم يكن مع ذلك ، إذ لم يكن في نفس التنزيل دليل على أنه منسوخ ، أو ورد بأنه منسوخ خبر من الرسول ، ولا أجمعت عليه الأمة ، فوجب القول بما قلنا من أن معنى السَّكَر في هذا الموضع : هو كلّ ما حلّ شربه ، مما يتخذ من ثمر النخل والكرم ، وفسد أن يكون معناه الخمر أو ما يسكر من الشراب ، وخرج من أن يكون معناه السَّكَر نفسه ، إذ كان السَّكَر ليس مما يتخذ من النَّخْل والكَرْم ، ومن أن يكون بمعنى السكون.
وقوله( إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ) يقول : فيما إن وصفنا لكم من نعمنا التي آتيناكم أيها الناس من الأنعام والنخل والكرم ، لدلالة واضحة وآية بينة لقوم يعقلون عن الله حججه ، ويفهمون عنه مواعظه ، فيتعظون بها.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ (68) }
يقول تعالى ذكره : وألهم ربك يا محمد النحل إيحاء إليها( أَنِ اتَّخِذِي مِنَ

(17/247)


ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (69)

الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ ) يعني : مما يبنون من السقوف ، فرفعوها بالبناء.
وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : ثنا مروان ، عن إسحاق التميمي ، وهو ابن أبي الصباح ، عن رجل ، عن مجاهد( وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ ) قال : ألهمها إلهاما.
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، قال : بلغني ، في قوله( وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ ) قال : قذف في أنفسها.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني أبو سفيان ، عن معمر ، عن أصحابه ، قوله( وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ ) قال : قذف في أنفسها أن اتخذي من الجبال بيوتًا.
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله( وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ ) ... الآية ، قال : أمرها أن تأكل من الثمرات ، وأمرها أن تتبع سبل ربها ذللا.
وقد بيَّنا معنى الإيحاء واختلاف المختلفين فيه فيما مضى بشواهده ، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع ، وكذلك معنى قوله( يَعْرِشُونَ )
وكان ابن زيد يقول في معنى يعرشون ، ما حدثني به يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله( يَعْرِشُونَ ) قال : الكَرْم.
القول في تأويل قوله تعالى : { ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلا يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (69) }
يقول تعالى ذكره : ثم كلي أيتها النحل من الثمرات ، ( فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ) يقول : فاسلكي طرق ربك( ذُلُلا ) يقول : مُذَلَّلة لك ، والذُّلُل : جمع ذَلُول.
وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال :

(17/248)


ثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء وحدثني المثنى ، قال : ثنا أبو حُذيفة ، عن ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قول الله تعالى( فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلا ) قال : لا يتوعَّر عليها مكان سلكته.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد( فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلا ) قال : طُرُقا ذُلُلا قال : لا يتوعَّر عليها مكان سلكته. وعلى هذا التأويل الذي تأوّله مجاهد ، الذلل من نعت السبل.
والتأويل على قوله( فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلا ) الذُّلُل لكِ : لا يتوعر عليكِ سبيل سلكتيه ، ثم أسقطت الألف واللام فنصب على الحال.
وقال آخرون في ذلك بما حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله( فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلا ) : أي مطيعة.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : ثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة( ذُلُلا ) قال : مطيعة.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله( فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلا ) قال : الذلول : الذي يُقاد ويُذهب به حيث أراد صاحبه ، قال : فهم يخرجون بالنحل ينتجعون بها ويذهبون ، وهي تتبعهم. وقرأ( أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ ) ... الآية ، فعلى هذا القول ، الذّلُل من نعت النحل ، وكلا القولين غير بعيد من الصواب في الصحة وجهان مخرجان ، غير أنا اخترنا أن يكون نعتا للسُّبل لأنها إليها أقرب.
وقوله( يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ ) يقول تعالى ذكره : يخرج من بطون النحل شراب ، وهو العسل ، مختلف ألوانه ، لأن فيها أبيض وأحمر وأسحر ، وغير ذلك من الألوان.
قال أبو جعفر : أسحر : ألوان مختلفة مثل أبيض يضرب إلى الحمرة.
وقوله( فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ ) اختلف أهل التأويل فيما عادت عليه الهاء التي في قوله( فِيهِ) ، فقال بعضهم : عادت على القرآن ، وهو المراد بها.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا نصر بن عبد الرحمن ، قال : ثنا المحاربيّ ،

(17/249)


عن ليث ، عن مجاهد( فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ ) قال : في القرآن شفاء.
وقال آخرون : بل أريد بها العسل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله( يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ ) ففيه شفاء كما قال الله تعالى من الأدواء ، وقد كان ينهى عن تفريق النحل ، وعن قتلها.
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، قال : جاء رجل إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فذكر أن أخاه اشتكى بطنه ، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم : اذْهَبْ فاسْقِ أخاكَ عَسَلا ثم جاءه فقال : ما زاده إلا شدة ، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم : اذْهَبْ فاسْقِ أخاكَ عَسَلا فَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ وكَذَبَ بَطْنُ أخِيكَ ، فسقاه ، فكأنما نُشِط من عِقال " .
حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة( يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ ) قال : جاء رجل إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فذكر نحوه.
حدثنا ابن وكيع ، قال : ثنا أبي ، عن سفيان ، عن أبي إسحاق ، عن أبي الأحوص ، عن عبد الله ، قال : شفاءان : العسل شفاء من كلّ داء ، والقرآن شفاء لما في الصدور.
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس( فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ ) العسل.
وهذا القول ، أعني قول قتادة ، أولى بتأويل الآية ، لأن قوله )فِيهِ) في سياق الخبر عن العسل فأن تكون الهاء من ذكر العسل ، إذ كانت في سياق الخبر عنه أولى من غيره.
وقوله( إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ) يقول تعالى ذكره : إن في إخراج الله من بطون هذه النحل : الشراب المختلف ، الذي هو شفاء للناس ، لدلالة وحجة واضحة على من سخَّر النحل وهداها لأكل الثمرات التي تأكل ، واتخاذها البيوت التي تنحت من الجبال والشجر والعروش ، وأخرج من بطونها ما أخرج من الشفاء للناس ، أنه الواحد الذي ليس كمثله شيء ، وأنه لا ينبغي

(17/250)


وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لَا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (70) وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (71)

أن يكون له شريك ولا تصحّ الألوهة إلا له.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (70) }
يقول تعالى ذكره : والله خلقكم أيها الناس وأوجدكم ولم تكونوا شيئا ، لا الآلهة التي تعبدون من دونه ، فاعبدوا الذي خلقكم دون غيره( ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ ) يقول : ثم يقبضكم( وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ ) يقول : ومنكم من يهرم فيصير إلى أرذل العمر ، وهو أردؤه ، يقال منه : رذل الرجل وفسل ، يرذل رذالة ورذولة ورذلته أنا. وقيل : إنه يصير كذلك في خمس وسبعين سنة.
حدثني محمد بن إسماعيل الفزاريّ ، قال : أخبرنا محمد بن سَوار ، قال : ثنا أسد بن عمران ، عن سعد بن طريف ، عن الأصبغ بن نَباتة ، عن عليّ ، في قوله( وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ ) قال : خمسٌ وسبعون سنة.
وقوله( لِكَيْ لا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا ) يقول : إنما نردّه إلى أرذل العمر ليعود جاهلا كما كان في حال طفولته وصباه ، بعد علم شيئا : يقول : لئلا يعلم شيئا بعد علم كان يعلمه في شبابه ، فذهب ذلك بالكبر ونسى ، فلا يعلم منه شيئا ، وانسلخ من عقله ، فصار من بعد عقل كان له لا يعقل شيئا( إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ ) يقول : إن الله لا ينسى ، ولا يتغير علمه ، عليم بكلّ ما كان ويكون ، قدير على ما شاء لا يجهل شيئا ، ولا يُعجزه شيء أراده.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (71) }
يقول تعالى ذكره : والله أيها الناس فضّل بعضكم على بعض في الرزق الذي رزقكم في الدنيا ، فما الذين فضَّلهم الله على غيرهم بما رزقهم( بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ ) يقول : بمشركي مماليكِهم فيما رزقهم من الأموال

(17/251)


والأزواج.( فَهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ ) يقول : حتى يستووا هم في ذلك وعبيدهم ، يقول تعالى ذكره : فهم لا يرضَون بأن يكونوا هم ومماليكهم فيما رزقتهم سواء ، وقد جعلوا عبيدي شركائي في ملكي وسلطاني ، وهذا مَثَل ضربه الله تعالى ذكره للمشركين بالله. وقيل : إنما عنى بذلك الذين قالوا : إن المسيح ابن الله من النصارى. وقوله( أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ ) يقول تعالى ذكره : أفبنعمة الله التي أنعمها على هؤلاء المشركين من الرزق الذي رزقهم في الدنيا يجحدون بإشراكهم غير الله من خلقه في ، سلطانه ومُلكه ؟
وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل.
* حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله( وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ ) يقول : لم يكونوا يشركون عبيدهم في أموالهم ونسائهم ، فكيف يشركون عبيدي معي في سلطاني ؟ فذلك قوله( أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ ).
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قال ابن عباس : هذه الآية في شأن عيسى ابن مريم ، يعني بذلك نفسه ، إنما عيسى عبد ، فيقول الله : والله ما تشركون عبيدكم في الذي لكم فتكونوا أنتم وهم سواء ، فكيف ترضَون لي بما لا ترضون لأنفسكم .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء وحدثني المثنى ، قال : ثنا إسحاق ، قال : ثنا عبد الله ، عن ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله( بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ ) قال : مثل آلهة الباطل مع الله تعالى ذكره.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله( وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ ) وهذا مثل ضربه الله ، فهل منكم من أحد شارك مملوكه في زوجته وفي فراشه فتعدلون بالله خلقه وعباده ،

(17/252)


وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ (72)

فإن لم ترض لنفسك هذا ، فالله أحقّ أن ينزه منه من نفسك ، ولا تعدل بالله أحدا من عباده وخلقه.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : ثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة( فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ ) قال : هذا الذي فضل في المال والولد ، لا يشرك عبده في ماله وزوجته ، يقول : قد رضيت بذلك لله ولم ترض به لنفسك ، فجعلت لله شريكا في ملكه وخلقه.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ (72) }
يقول تعالى ذكره( وَاللَّهُ ) الذي(جَعَلَ لَكُمْ) أيها الناس( مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا ) يعني أنه خلق من آدم زوجته حوّاء ، ( وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً ).
كما حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا ) : أي والله خلق آدم ، ثم خلق زوجته منه ثم جعل لكم بنين وحفدة.
واختلف أهل التأويل في المعنيين بالحفدة ، فقال بعضهم : هم الأختان ، أختان الرجل على بناته.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا أبو كريب وابن وكيع ، قالا ثنا أبو معاوية ، قال : ثنا أبان بن تغلب ، عن المنهال بن عمرو ، عن ابن حبيش ، عن عبد الله( بَنِينَ وَحَفَدَةً ) قال : الأختان.
حدثنا أبو كريب ، قال : ثنا أبو بكر ، عن عاصم ، عن ورقاء سألت عبد الله : ما تقول في الحَفَدَة ؟ هم حَشَم الرجل يا أبا عبد الرحمن ؟ قال : لا ولكنهم الأختان.

(17/253)


حدثنا محمد بن بشار ، قال : ثنا عبد الرحمن ؛ وحدثنا أحمد بن إسحاق ، قال : ثنا أبو أحمد ، قالا جميعا : ثنا سفيان ، عن عاصم بن بَهْدَلة ، عن زِرّ بن حُبَيْش ، عن عبد الله ، قال : الحَفَدَة : الأختان.
حدثنا ابن وكيع ، قال : ثنا أبي. عن سفيان بإسناده عن عبد الله ، مثله.
حدثنا ابن بشار وأحمد بن الوليد القرشي وابن وكيع وسوار بن عبد الله العنبريّ ومحمد بن خلف بن خراش والحسن بن خلف الواسطيّ ، قالوا : ثنا يحيى بن سعيد القطان ، عن الأعمش ، عن أبي الضحى ، قال : الحَفَدَة : الأختان.
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا عبد الرحمن ، قال : ثنا هشيم ، عن المغيرة ، عن إبراهيم ، قال : الحَفَدَة : الأختان.
حدثنا أحمد بن إسحاق ، قال : ثنا أبو أحمد ، قال : ثنا إسرائيل ، عن عطاء بن السائب ، عن سعيد بن جبير( بَنِينَ وَحَفَدَةً ) قال : الحَفَدَة : الأختان.
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا جرير ، عن مغيرة ، عن إبراهيم ، قال : الحَفَدَة : الخَتْن.
حدثنا ابن وكيع ، قال : ثنا ابن عيينة ، عن عاصم ، عن زِرّ ، عن عبد الله ، قال : الأختان.
حدثنا ابن وكيع ، قال : ثنا حفص ، عن أشعث ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، قال : الأختان.
وحدثني المثنى ، قال : ثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ عن ابن عباس ، قوله( وَحَفَدَةً ) قال : الأصهار.
حدثني المثنى ، قال : ثنا الحجاج ، قال : ثنا حماد ، عن عاصم ، عن زِرّ ، عن ابن مسعود ، قال : الحَفَدَة : الأختان.
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا ابن عيينة ، عن عاصم بن أبي النجود ، عن زرّ بن حبيش ، قال : قال لي عبد الله بن مسعود : ما الحَفَدَة يا زِرّ ؟ قال : قلت : هم أحفاد الرجل من ولده وولد

(17/254)


ولده. قال : لا هم الأصهار.
وقال آخرون : هم أعوان الرجل وخدمه.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن خالد بن خداش ، قال : ثني سليم بن قتيبة ، عن وهب بن حبيب الأسَدي ، عن أبي حمزة ، عن ابن عباس سئل عن قوله( بَنِينَ وَحَفَدَةً ) قال : من أعانك فقد حَفَدك ، أما سمعت قوله الشاعر :
حَفَدَ الوَلائِدُ حَوْلَهُنَّ وأُسْلِمَتْ... بأكُفِّهِنَّ أزِمَّةُ الأجْمال (1)
حدثنا هناد ، قال : ثنا أبو الأحوص ، عن سماك ، عن عكرمة ، في قوله( بَنِينَ وَحَفَدَةً ) قال : الحفدة : الخُدّام.
حدثني محمد بن خالد بن خداش ، قال : ثني سَلْم بن قتيبة ، عن حازم بن إبراهيم البَجَلي ، عن سماك ، عن عكرمة ، قال : قال : الحَفَدَة : الخُدّام.
حدثنا ابن وكيع ، قال : ثنا عمران بن عيينة ، عن حصين ، عن عكرمة ، قال : هم الذين يعينون الرجل من ولده وخدمه.
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن الحكم بن أبان ، عن عكرمة( وَحَفَدَةً ) قال : الحَفَدَة : من خدمك مِنْ ولدك.
حدثنا ابن وكيع ، قال : ثنا يحيى بن آدم ، عن سلام بن سليم ، وقيس عن سِماك ، عن عكرمة ، قال : هم الخدم.
حدثنا أحمد ، قال : ثنا أبو أحمد ، قال : ثنا سلام أبو الأحوص ، عن سِماك ، عن عكرمة ، مثله.
حدثني محمد بن خالد ، قال : ثني سلمة ، عن أبي هلال ، عن الحسن ، في قوله( بَنِينَ وَحَفَدَةً ) قال : البنين وبني البنين ، مَنْ أعانك من أهل وخادم فقد حفدك.
__________
(1) استشهد بالبيت أبو عبيدة في مجاز القرآن : (1 : 364) ونسبه لجميل بن عبد الله بن معمر العذري. قال عند قوله تعالى : (بنين وحفدة) : أعواناً وخداما ، قال جميل : " حفد الولائد ... الخ " واحدهم حافد مخرج كامل. والجميع : كملة وقال في (اللسان : حفد) يحفد بالكسر حفدا ، وحفدانا. واحتفد : خف في العمل وأسرع. وحفد يحفد حفدا : خدم. الأزهري : الحفد في الخدمة والعمل : الخفة ، وأنشد (حفد الولائد ...) البيت.

(17/255)


حدثني المثنى ، قال : ثنا عمرو بن عون ، قال : أخبرنا هشيم ، عن منصور ، عن الحسن ، قال : هم الخَدَم.
حدثني محمد بن خالد وابن وكيع ، ويعقوب بن إبراهيم ، قالوا : ثنا إسماعيل بن علية ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قال : الحَفَدة : الخَدَم.
حدثنا أحمد بن إسحاق ، قال : ثنا أبو أحمد وحدثنا ابن وكيع ، قال : ثنا أبي وحدثنا ابن بشار ، قال : ثنا عبد الرحمن ، جميعا عن سفيان ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد( بَنِينَ وَحَفَدَةً ) قال : ابنه وخادمه.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء وحدثني المثنى ، قال : ثنا أبو حُذيفة ، قال : ثنا شبل جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قول الله تعالى( بَنِينَ وَحَفَدَةً ) قال : أنصارًا وأعوانًا وخدامًا.
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا عبد الرحمن ، قال : ثنا زمعة ، عن ابن طاوس ، عن أبيه ، قال : الحفدة : الخدم.
حدثنا ابن بشار مرّة أخرى ، قال : ابنه وخادمه.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة قال( وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً ) مهنة يمهنونك ويخدمونك من ولدك ، كرامة أكرمكم الله بها.
حدثنا ابن وكيع ، قال : ثنا عبد الله ، عن إسرائيل ، عن السُّديّ ، عن أبي مالك : الحَفَدَة ، قال : الأعوان.
حدثنا ابن وكيع ، قال : ثنا أبي ، عن سفيان ، عن حصين ، عن عكرمة ، قال : الذين يعينونه.
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا مَعْمر ، عن الحكَم بن أبان ، عن عكرمة ، في قوله( بَنِينَ وَحَفَدَةً ) قال : الحفدة : من خدمك من ولدك وولد ولدك.
حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا ابن التيميّ ، عن أبيه ، عن الحسن ، قال : الحَفَدَة : الخَدَم.

(17/256)


حدثني المثنى ، قال : ثنا أبو نعيم ، قال : ثنا سفيان ، عن حصين ، عن عكرمة( بَنِينَ وَحَفَدَةً ) قال : ولده الذين يعينونه.
وقال آخرون : هم ولد الرجل وولد ولده.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن المثنى ، قال : ثنا عبد الصمد ، قال : ثنا شعبة ، عن أبي بشر ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس( وَحَفَدَةً ) قال : هم الولد وولد الولد.
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا محمد بن جعفر ، قال : ثنا شعبة ، عن أبي بشر ، عن مجاهد وسعيد بن جبير ، عن ابن عباس في هذه الآية( بَنِينَ وَحَفَدَةً ) قال : الحَفَدَة : البنون.
حدثنا ابن وكيع ، قال : ثنا غُنْدَر ، عن شعبة ، عن أبي بشر ، عن مجاهد ، عن ابن عباس ، مثله.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن أبي بكر ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، قال : بنوك حين يحفدونك ويرفدونك ويعينونك ويخدمونك ، قال حميد :
حَفَدَ الوَلائِدُ حَوْلَهُنَّ وأُسْلِمَتْ... بأكُفِّهِنَّ أزِمَّةُ الأجْمال (1)
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله( وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً ) قال : الحَفَدَة : الخدم من ولد الرجل هم ولده ، وهم يخدمونه ؛ قال : وليس تكون العبيد من الأزواج ، كيف يكون من زوجي عبد ، إنما الحَفَدَة : ولد الرجل وخدمه.
حُدثت عن الحسين بن الفَرَج ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : ثنا عبيد بن سليمان ، قال : سمعت الضحاك يقول ، في قوله( بَنِينَ وَحَفَدَةً ) يعني : ولد الرجل يحفِدونه ويخدُمونه ، وكانت العرب إنما تخدمهم أوّلادهم الذكور.
وقال آخرون : هم بنو امرأة الرجل من غيره.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال :
__________
(1) سبق الاستشهاد بالبيت قريبا في صفحة 144 فراجعه ثمة.

(17/257)


ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله( وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً ) يقول : بنو امرأة الرجل ليسوا منه ، ويقال : الحَفَدَة : الرجل يعمل بين يدي الرجل ، يقول : فلان يحفد لنا ، ويزعم رجال أن الحَفَدَة أخْتان (1) الرجل.
والصواب من القول في ذلك عندي أن يقال : إن الله تعالى أخبر عباده معرفهم نعمه عليهم ، فيما جعل لهم من الأزواج والبنين ، فقال تعالى( وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً ) فأعلمهم أنه جعل لهم من أزواجهم بنين وحفَدة ، والحفَدة في كلام العرب : جمع حافد ، كما الكذبة : جمع كاذب ، والفسَقة : جمع فاسق. والحافد في كلامهم ؛ هو المتخفِّف في الخدمة والعمل. والحَفْد : خفة العمل يقال : مرّ البعير يَحفِد حفَدَانا : إذا مرّ يُسرع في سيره. ومنه قولهم : " إليك نسعى ونحفِد " : أي نسرع إلى العمل بطاعتك. يقال منه : حَفد له يحفد حفدا وحفودا وحفدانا ومنه قول الراعي :
كَلَّفْتُ مَجْهُولَهَا نُوقا يَمَانيَّةً... إذا الحُدَاةُ على أكْسائها حَفَدُوا (2)
وإذ كان معنى الحفدة ما ذكرنا من أنهم المسرعون في خدمة الرجل ، المتخففون فيها ، وكان الله تعالى ذكره أخبرنا أن مما أنعم به علينا أن جعل لنا حفدة تحفد لنا ، وكان أولادنا وأزواجنا الذين يصلحون للخدمة منا ومن غيرنا وأختاننا الذين هم أزواج بناتنا من أزواجنا وخدمنا من مماليكنا إذا كانوا يحفدوننا ، فيستحقون اسم حفدة ، ولم يكن الله تعالى دلّ بظاهر تنزيله ، ولا على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم ؛ ولا بحجة عقل ، على أنه عنى بذلك نوعا من
__________
(1) الأختان : جمع ختن ، بسكون التاء ، وهو زوج بنت الرجل.
(2) الأكساء : واحدها كسى ، بوزن قفل ، وهو مؤخر العجز ، أو مؤخر كل شيء ، والجمع أكساء (اللسان : كسا). وقال في (كسأ) : كسء كل شيء وكسوءه : مؤخره. وكسء الشهر وكسوءه : آخره ، قدر عشر بقين منه... وأنشد أبو عبيدة : كلفت مجهولها ................ ... إذا الحداد .......... حفدوا
ولعل الحداد في رواية الأزهري محرفة عن الحداة.

(17/258)


الحفدة ، دون نوع منهم ، وكان قد أنعم بكلّ ذلك علينا ، لم يكن لنا أن نوجه ذلك إلى خاص من الحفدة دون عام ، إلا ما اجتمعت الأمة عليه أنه غير داخل فيهم. وإذا كان ذلك كذلك فلكلّ الأقوال التي ذكرنا عمن ذكرنا وجه في الصحة ، ومَخْرج في التأويل. وإن كان أولى بالصواب من القول ما اخترنا ، لما بيَّنا من الدليل.
وقوله( وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ ) يقول : ورزقكم من حلال المعاش والأرزاق والأقوات ، ( أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ ) يقول تعالى ذكره : يحرّم عليهم أولياء الشيطان من البحائر والسوائب والوصائل ، فيصدّق هؤلاء المشركون بالله( وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ ) يقول : وبما أحلّ الله لهم من ذلك ، وأنعم عليهم بإحلاله ، يكفرون ، يقول : ينكرون تحليله ، ويجحدون أن يكون الله أحله.

(17/259)


وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ شَيْئًا وَلَا يَسْتَطِيعُونَ (73) فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (74)

القول في تأويل قوله تعالى : { وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ شَيْئًا وَلا يَسْتَطِيعُونَ (73) فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الأمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (74) }
يقول تعالى ذكره : ويعبد هؤلاء المشركون بالله من دونه أوثانًا لا تملك لهم رزقا من السموات ، لأنها لا تقدر على إنزال قطر منها لإحياء موتان الأرضين ، والأرض : يقول : ولا تملك لهم أيضًا رزقًا من الأرض لأنها لا تقدر على إخراج شيء من نباتها وثمارها لهم ، ولا شيئًا مما عدّد تعالى في هذه الآية أنه أنعم بها عليهم( وَلا يَسْتَطِيعُونَ ) يقول : ولا تملك أوثانهم شيئًا من السموات والأرض ، بل هي وجميع ما في السموات والأرض لله ملك ، ولا يستطيعون يقول : ولا تقدر على شيء.
وقوله( فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الأمْثَالَ ) يقول : فلا تمثلوا لِلهِ الأمثال ، ولا تشبِّهوا له الأشباه ، فإنه لا مِثْل له ولا شِبْه.
وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل.

(17/259)


ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (75)

* ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى ، قال : ثنا أبو حُذيفة ، قال : ثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : الأمثال الأشباه.
وحدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله( فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الأمْثَالَ ) يعني اتخاذهم الأصنام ، يقول : لا تجعلوا معي إلهًا غيري ، فإنه لا إله غيري.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله( وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ شَيْئًا وَلا يَسْتَطِيعُونَ ) قال : هذه الأوثان التي تُعْبد من دون الله لا تملك لمن يعبدها رزقا ولا ضرّا ولا نفعا ، ولا حياة ولا نشورا. وقوله( فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الأمْثَالَ ) فإنه أحَد صَمَد لم يَلِد ولم يُولَد ولم يكن له كُفُوًا أحد( إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ) يقول : والله أيها الناس يعلم خطأ ما تمثلون وتضربون من الأمثال وصوابه ، وغير ذلك من سائر الأشياء ، وأنتم لا تعلمون صواب ذلك من خطئه.
واختلف أهل العربية في الناصب قوله(شَيْئًا) فقال بعض البصريين : هو منصوب على البدل من الرزق ، وهو في معنى : لا يملكون رزقا قليلا ولا كثيرا. وقال بعض الكوفيين : نصب(شَيْئًا) بوقوع الرزق عليه ، كما قال تعالى ذكره( أَلَمْ نَجْعَلِ الأرْضَ كِفَاتًا أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا ) أي تكفت الأحياء والأموات ، ومثله قوله تعالى ذكره( أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ ) قال : ولو كان الرزق مع الشيء لجاز خفضه ، لا يملك لكم رزق شيء من السموات ، ومثله( فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ )
القول في تأويل قوله تعالى : { ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا عَبْدًا مَمْلُوكًا لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (75) }
يقول تعالى ذكره : وشَبَّه لكم شَبها أيها الناس للكافر من عبيده ، والمؤمن به منهم. فأما مثَل الكافر : فإنه لا يعمل بطاعة الله ، ولا يأتي خيرا ، ولا

(17/260)


ينفق في شيء من سبيل الله ماله لغلبة خذلان الله عليه ، كالعبد المملوك ، الذي لا يقدر على شيء فينفقه. وأما المؤمن بالله فإنه يعمل بطاعة الله ، وينفق في سبيله ماله كالحر الذي آتاه الله مالا فهو ينفق منه سرّا وجهرا ، يقول : بعلم من الناس وغير علم( هَلْ يَسْتَوُونَ ) يقول هل يستوي العبد الذي لا يملك شيئا ولا يقدر عليه ، وهذا الحرّ الذي قد رزقه الله رزقًا حسنًا فهو ينفق كما وَصَف ، فكذلك لا يستوي الكافر العامل بمعاصي الله المخالف أمره ، والمؤمن العامل بطاعته.
وبنحو ما قلنا في ذلك كان بعض أهل العلم يقول.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله( ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا عَبْدًا مَمْلُوكًا لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ ) هذا مثل ضربه الله للكافر ، رزقه مالا فلم يقدم فيه خيرا ولم يعمل فيه بطاعة الله ، قال الله تعالى ذكره( وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا ) فهذا المؤمن أعطاه الله مالا فعمل فيه بطاعة الله وأخذ بالشكر ومعرفة حق الله ، فأثابه الله على ما رزقه الرزق المقيم الدائم لأهله في الجنة ، قال الله تعالى ذكره( هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلا ) والله ما يستويان( الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ ).
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة( عَبْدًا مَمْلُوكًا لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ ) قال : هو الكافر لا يعمل بطاعة الله ولا ينفق خيرا( وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا ) قال : المؤمن يطيع الله في نفسه وماله.
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله( ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا عَبْدًا مَمْلُوكًا لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ ) يعني : الكافر أنه لا يستطيع أن ينفق نفقة في سبيل الله( وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا ) يعني المؤمن ، وهذا المثل في النفقة.
وقوله( الْحَمْدُ لِلَّهِ ) يقول : الحمد الكامل لله خالصًا دون ما تَدْعُون أيها القوم من دونه من الأوثان فإياه فاحمدوا دونها.
وقوله( بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ ) يقول : ما الأمر كما تفعلون ، ولا القول كما تقولون ، ما للأوثان عندهم من يد ولا معروف فتُحْمد عليه ، إنما الحمد لله ، ولكن أكثر هؤلاء

(17/261)


وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَم لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (76)

الكفرة الذين يعبدونها لا يعلمون أن ذلك كذلك ، فهم بجهلهم بما يأتون ويَذَرون يجعلونها لله شركاء في العبادة والحمد.
وكان مجاهد يقول : ضرب الله هذا المثل ، والمثل الآخر بعده لنفسه ، والآلهة التي تعبد من دونه.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (76) }
وهذا مثل ضربه الله تعالى لنفسه والآلهة التي تُعبد من دونه ، فقال تعالى ذكره( وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ ) يعني بذلك الصنم أنه لا يسمع شيئا ، ولا ينطق ، لأنه إما خشب منحوت ، وإما نحاس مصنوع لا يقدر على نفع لمن خدمه ، ولا دفع ضرّ عنه وهو كَلٌّ على مولاه ، يقول : وهو عيال على ابن عمه وحلفائه وأهل ولايته ، فكذلك الصنم كَلّ على من يعبده ، يحتاج أن يحمله ، ويضعه ويخدمه ، كالأبكم من الناس الذي لا يقدر على شيء ، فهو كَلّ على أوليائه من بني أعمامه وغيرهم( أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لا يَأْتِ بِخَيْرٍ ) يقول : حيثما يوجهه لا يأت بخير ، لأنه لا يفهم ما يُقال له ، ولا يقدر أن يعبر عن نفسه ما يريد ، فهو لا يفهم ، ولا يُفْهَم عنه ، فكذلك الصنم ، لا يعقل ما يقال له ، فيأتمر لأمر من أمره ، ولا ينطق فيأمر وينهي ، يقول الله تعالى( هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ ) يعني : هل يستوي هذا الأبكم الكلّ على مولاه الذي لا يأتي بخير حيث توجه ومن هو ناطق متكلم يأمر بالحقّ ويدعو إليه وهو الله الواحد القهار ، الذي يدعو عباده إلى توحيده وطاعته ، يقول : لا يستوي هو تعالى ذكره ، والصنم الذي صفته ما وصف. وقوله( وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ) يقول : وهو مع أمره بالعدل ، على طريق من الحقّ في دعائه إلى العدل ، وأمره به مستقيم ، لا يَعْوَجّ عن الحقّ ولا يزول عنه.

(17/262)


وقد اختلف أهل التأويل في المضروب له هذا المثل ، فقال بعضهم في ذلك بنحو الذي قلنا فيه.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة( لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ ) قال : هو الوثن( هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ ) قال : الله يأمر بالعدل( وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ) وكذلك كان مجاهد يقول إلا أنه كان يقول : المثل الأوّل أيضا ضربه الله لنفسه وللوثَن.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ؛ وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، وحدثني المثنى ، قال : ثنا أبو حُذيفة ، قال : ثنا شبل ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قول الله تعالى ذكره( عَبْدًا مَمْلُوكًا لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا ) و( رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ )( وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ ) قال : كلّ هذا مثل إله الحقّ ، وما يُدعى من دونه من الباطل.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله.
حدثنا ابن وكيع ، قال : ثنا أبو معاوية ، عن جويبر ، عن الضحاك( وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ ) قال : إنما هذا مثل ضربه الله.
وقال آخرون : بل كلا المثلين للمؤمن والكافر. وذلك قول يُروَى عن ابن عباس ، وقد ذكرنا الرواية عنه في المثل الأوّل في موضعه.
وأما في المثل الآخر :
فحدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس( وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلاهُ ) ... إلى آخر الآية ، يعني بالأبكم : الذي هو كَلٌّ على مولاه الكافر ، وبقوله( وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ ) المؤمن ، وهذا المثل في الأعمال.
حدثنا الحسن بن الصباح البزار ، قال : ثنا يحيى بن إسحاق السيلحيني ، قال : ثنا حماد ، عن عبد الله بن عثمان بن خثيم ، عن إبراهيم ، عن عكرمة ، عن يَعْلى بن أمية ، عن ابن عباس ، في قوله( ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا عَبْدًا مَمْلُوكًا )

(17/263)


وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (77)

قال : نزلت في رجل من قريش وعبده. وفي قوله( مَثَلا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ ) ... إلى قوله( وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ) قال : هو عثمان بن عفان . قال : والأبكم الذي أينما يُوَجَّهُ لا يأت بخير ، ذاك مولى عثمان بن عفَّان ، كان عثمان ينفق عليه ويكفله ويكفيه المئونة ، وكان الآخر يكره الإسلام ويأباه وينهاه عن الصدقة والمعروف ، فنزلت فيهما.
وإنما اخترنا القول الذي اخترناه في المثل الأوّل لأنه تعالى ذكره مثَّل مثَل الكافر بالعبد الذي وصف صفته ، ومثَّل مثل المؤمن بالذي رزقه رزقًاحسنًا ، فهو ينفق مما رزقه سرّا وجهرا ، فلم يجز أن يكون ذلك لله مثلا إذ كان الله إنما مثل الكافر الذي لا يقدر على شيء بأنه لم يرزقه رزقا ينفق منه سرّا ؛ ومثَّل المؤمن الذي وفَّقه الله لطاعته فهداه لرشده ، فهو يعمل بما يرضاه الله ، كالحرّ الذي بسط له في الرزق فهو ينفق منه سرًّا وجهرًا ، والله تعالى ذكره هو الرازق غير المرزوق ، فغير جائز أن يمثل إفضاله وجوده بإنفاق المرزوق الرزق الحسن ، وأما المثل الثاني ، فإنه تمثيل منه تعالى ذكره مَنْ مثله الأبكم الذي لا يقدر على شيء والكفار لا شكّ أن منهم من له الأموال الكثيرة ، ومن يضرّ أحيانا الضرّ العظيم بفساده ، فغير كائن ما لا يقدر على شيء ، كما قال تعالى ذكره مثلا لمن يقدر على أشياء كثيرة. فإذا كان ذلك كذلك كان أولى المعاني به تمثيل ما لا يقدر على شيء كما قال تعالى ذكره بمثله ما لا يقدر على شيء ، وذلك الوثن الذي لا يقدر على شيء ، بالأبكم الكَلّ على مولاه الذي لا يقدر على شيء كما قال ووصف.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (77) }
يقول تعالى ذكره : ولله أيها الناس مِلك ما غاب عن أبصاركم في السموات والأرض دون آلهتكم التي تدعون من دونه ، ودون كلّ ما سواه ، لا يملك ذلك أحد سواه.( وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلا كَلَمْحِ الْبَصَرِ ) يقول : وما أمر قيام القيامة والساعة التي تنشر فيها الخلق للوقوف في موقف القيامة ، إلا كنظرة من البصر ،

(17/264)


وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (78)

لأن ذلك إنما هو أن يقال له كن فيكون.
كما حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : ثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة( إِلا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ ) والساعة : كلمح البصر ، أو أقرب.
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا مَعْمر ، عن قتادة( وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلا كَلَمْحِ الْبَصَرِ ) قال : هو أن يقول : كن ، فهو كلمح البصر فأمر الساعة كلمح البصر أو أقرب ، يعني يقول : أو هو أقرب من لمح البصر.
وقوله( إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) يقول : إن الله على إقامة الساعة في أقرب من لمح البصر قادر ، وعلى ما يشاء من الأشياء كلها ، لا يمتنع عليه شيء أراده.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأبْصَارَ وَالأفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (78) }
يقول تعالى ذكره : والله تعالى أعلمكم ما لم تكونوا تعلمون من بعد ما أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعقلون شيئا ولا تعلمون ، فرزقكم عقولا تفقهون بها ، وتميزون بها الخير من الشرّ وبصَّركم بها ما لم تكونوا تبصرون ، وجعل لكم السمع الذي تسمعون به الأصوات ، فيفقه بعضكم عن بعض ما تتحاورون به بينكم والأبصار التي تبصرون بها الأشخاص فتتعارفون بها وتميزون بها بعضا من بعض.( وَالأفْئِدَةَ ) يقول : والقلوب التي تعرفون بها الأشياء فتحفظونها وتفكرون فتفقهون بها.( لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ) يقول : فعلنا ذلك بكم ، فاشكروا الله على ما أنعم به عليكم من ذلك ، دون الآلهة والأنداد ، فجعلتم له شركاء في الشكر ، ولم يكن له فيما أنعم به عليكم من نعمه شريك.
وقوله( وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئًا ) كلام متناه ، ثم ابتدئ الخبر ، فقيل : وجعل الله لكم السمع والأبصار والأفئدة. وإنما قلنا ذلك كذلك ، لأن الله تعالى ذكره جعل العبادة والسمع والأبصار

(17/265)


أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السَّمَاءِ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (79)

والأفئدة قبل أن يخرجهم من بطون أمهاتهم ، وإنما أعطاهم العلم والعقل بعد ما أخرجهم من بطون أمهاتهم.
القول في تأويل قوله تعالى : { أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السَّمَاءِ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلا اللَّهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (79) }
يقول تعالى ذكره لهؤلاء المشركين : ألم تَرَوا أيُّها المشركون بالله إلى الطير مسخرات في جوّ السماء ، يعني : في هواء السماء بينها وبين الأرض ، كما قال إبراهيم بن عمران الأنصاريّ :
وَيْلُ امِّها مِنْ هَوَاءِ الجَوّ طَالِبَةً... وَلا كَهذا الَّذِي في الأرْضِ مَطْلُوبُ (1)
يعني : في هواء السماء.( مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلا اللَّهُ ) يقول : ما طيرانها في الجوّ إلا بالله ، وبتسخيره إياها بذلك ، ولو سلبها ما أعطاها من الطيران لم تقدر على النهوض ارتفاعا. وقوله( إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ) يقول : إن في تسخير الله الطير ، وتمكينه لها الطيران في جوّ السماء ، لعلامات ودلالات على أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأنه لاحظ للأصنام والأوثان في الألوهة( لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ) يعني : لقوم يقرّون بوجدان ما تعاينه أبصارهم ، وتحسه
__________
(1) البيت نسبه المؤلف إلى إبراهيم بن عمران الأنصاري. ونسبه البغدادي في الخزانة (2 : 112) لامرئ القيس بن حجر الكندي. وعزى في الكتاب لسيبويه مرة إلى امرئ القيس (1 : 353) ومرة (2 : 272) إلى النعمان بن بشير الأنصاري. وذكر البغدادي المقطوعة التي منها البيت ، وهي عشرة أبيات ، ونسبها لامرئ القيس ، ومطلعها : الخير ما طلعت شمس وما غربت ... مطلب بنواحي الخيل معصوب
وبيت الشاهد هو الثامن في المقطوعة ، وأوله : " لا كالتي في هواء " ... الخ. وقال ابن رشيق في العمدة : هذا البيت عند دعبل ، أشعر بيت قالته العرب ، وبه قدمه على الشعراء. وقوله : ويلمها : هذا في صورة الدعاء على الشيء والمراد به التعجب. والضمير المؤنث يراد به العقاب. والجو : ما بين السماء والأرض ، وأراد بالمطلوب الذئب ، لأنه وصف عقابا تبعت ذئبا لتصيده ، فتعجب منها في شدة طلبها ، وتعجب من الذئب أيضاً في سرعته وشدة هربه منها.
واستشهد المؤلف بالبيت عند تفسير قوله تعالى : (ألم يروا إلى الطير مسخرات في جو السماء) أي في هواء السماء ، بينها وبين الأرض كما استشهد أبو عبيدة من قبله في مجاز القرآن (1 : 365) على أن جو السماء : أي الهواء.

(17/266)


حواسهم.
وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله( مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السَّمَاءِ ) : أي في كبد السماء.

(17/267)


وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ (80)

القول في تأويل قوله تعالى : { وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الأنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ (80)}
يقول تعالى ذكره( وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ ) أيها الناس ، ( مِنْ بُيُوتِكُمْ ) التي هي من الحجر والمدر ، ( سَكَنًا ) تسكنون أيام مقامكم في دوركم وبلادكم( وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الأنْعَامِ بُيُوتًا ) وهي البيوت من الأنطاع والفساطيط من الشعر والصوف والوبر.( تَسْتَخِفُّونَهَا ) يقول : تستخفون حملها ونقلها ، ( يَوْمَ ظَعْنِكُمْ ) من بلادكم وأمصاركم لأسفاركم ، ( وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ ) في بلادكم وأمصاركم.( وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا ).
وبنحو الذي قلنا في معنى السكن قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء وحدثني المثنى ، قال : ثنا إسحاق ، قال : ثنا عبد الله ، عن ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قول الله تعالى( مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا ) قال : تسكنون فيه.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله.
وأما الأشعار فجمع شَعْر تثقل عينه وتخفف ، وواحد الشَّعْر شَعْرة. وأما الأثاث فإنه متاع البيت لم يسمع له بواحد ، وهو في أنه لا واحد له مثل المتاع. وقد حكي عن بعض النحويين أنه كان يقول : واحد الأثاث أثاثة

(17/267)


ولم أر أهل العلم بكلام العرب يعرفون ذلك.
ومن الدليل على أن الأثاث هو المتاع ، قول الشاعر :
أهاجَتْكَ الظَّعائِنُ يَوْمَ بانُوا... بِذِي الرّئْيِ الجَمِيلِ مِنَ الأثاث (1)
ويروى : بذي الزيّ ، وأنا أرى أصل الأثاث اجتماع بعض المتاع إلى بعض حتى يكثر كالشعر الأثيث وهو الكثير الملتف ، يقال منه ، أثّ شعر فلان يئِثّ أثًّا : إذا كثر والتفّ واجتمع.
وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله(أثاثا) يعني بالأثاث : المال.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء وحدثني المثنى ، قال : أخبرنا إسحاق ، قال : ثنا عبد الله ، عن ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قول الله تعالى(أثاثا) قال : متاعا.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله.
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة(أثاثا) قال : هو المال.
حدثني المثنى ، قال : ثنا عبد الله بن حرب الرازي ، قال : أخبرنا سلمة ،
__________
(1) البيت لمحمد بن نمير الثقفي ، وكان يشبب بزينب أخت الحجاج بن يوسف الثقفي فتوعده ، فهرب منه (خبره في الكامل للمبرد 289) والبيت من كلمة له (الكامل 376) ، وفي (اللسان : رأي) قال. قال : الفراء الرئي : المنظر وأهل المدينة يقرءون الآية (وريا) بغير همز. قال : وهو وجه جيد من رأيت ، لأنه من آيات لسن مهموزات الأواخر. وقال الجوهري : من همزه جعله من المنظر من رأيت ، وهو : ما رأته العين من حال حسنة ، وكسوة ظاهرة. وأنشد أبو عبيد لمحمد بن نمير الثقفي : أشاقتك الظعائن يوم بانوا ... بذي الرئى الجميل من الأثاث
ومن لم يهمزه : إما أن يكون على تخفيف الهمزة ، أو يكون من رويت ألوانهم وجلودهم ، أي امتلأت وحسنت. وأثاثا : أي متاعا. قاله أبو عبيدة في مجاز القرآن (1 : 365).

(17/268)


وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلَالًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ (81)

عن محمد بن إسحاق ، عن حميد بن عبد الرحمن ، في قوله(أثاثا) قال : الثياب.
وقوله( وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ ) فإنه يعني : أنه جعل ذلك لهم بلاغا ، يتبلَّغون ويكتفون به إلى حين آجالهم للموت. كما حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس( وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ ) فإنه يعني : زينة ، يقول : ينتفعون به إلى حين.
حدثني المثنى ، قال : ثنا أبو حُذيفة ، قال : ثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد( وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ ) قال : إلى الموت.
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن مَعْمر ، عن قتادة( وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ ) إلى أجل وبلغة.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلالا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ (81) }
يقول تعالى ذكره : ومن نعمة الله عليكم أيها الناس أن جعل لكم مما خلق من الأشجار وغيرها ظلالا تستظلون بها من شدة الحرّ ، وهي جمع ظلّ.
وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا الحكم بن بشير ، قال : ثنا عمرو ، عن قتادة ، في قوله( مِمَّا خَلَقَ ظِلالا ) قال : الشجر.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلالا ) إي والله ، من الشجر ومن غيرها.
وقوله( وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا ) يقول : وجعل لكم من الجبال مواضع تسكنون فيها ، وهي جمع كنّ.
كما حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله(

(17/269)


وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا ) يقول : غيرانا من الجبال يسكن فيها.
( وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ ) يعني ثياب القطن والكتان والصوف وقمصها. كما حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ ) من القطن والكتان والصوف.
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن مَعْمر ، عن قتادة( سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ ) قال : القطن والكتان.
وقوله( وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ ) يقول : ودروعا تقيكم بأسكم ، والبأس : هو الحرب ، والمعنى : تقيكم في بأسكم السلاح أن يصل إليكم.
كما حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ ) من هذا الحديد.
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن مَعْمر ، عن قتادة( وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ ) قال : هي سرابيل من حديد.
وقوله( كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ ) يقول تعالى ذكره : كما أعطاكم ربكم هذه الأشياء التي وصفها في هذه الآيات نعمة منه بذلك عليكم ، فكذا يُتِمّ نعمته عليكم لعلكم تسلمون. يقول : لتخضعوا لله بالطاعة ، وتذِلّ منكم بتوحيده النفوس ، وتخلصوا له العبادة. وقد روي عن ابن عباس أنه كان يقرأ(لَعَلَّكُمْ تَسْلَمُونَ) بفتح التاء.
حدثني المثنى ، قال : ثنا إسحاق ، قال : ثنا عبد الرحمن بن أبي حماد ، قال : ثنا ابن المبارك ، عن حنظلة ، عن شهر بن حَوْشب ، قال : كان ابن عباس يقول : (لَعَلَّكُمْ تَسْلَمُونَ) قال : يعني من الجراح.
حدثنا أحمد بن يوسف ، قال : ثنا القاسم بن سلام ، قال : ثنا عباد بن العوّام ، عن حنظلة السَّدوسيّ ، عن شهر بن حَوْشب ، عن ابن عباس ، أنه قرأها : (لَعَلَّكُمْ تَسْلَمُونَ) من الجراحات ، قال أحمد بن يوسف : قال أبو عبيد : يعني بفتح التاء واللام.
فتأويل الكلام على قراءة ابن عباس هذه : كذلك يتمّ نعمته عليكم بما جعل لكم من السرابيل التي تقيكم بأسكم ، لتسلموا من السلاح في حروبكم ،

(17/270)


والقراءة التي لا أستجيز القراءة بخلافها بضم التاء من قوله( لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ ) وكسر اللام من أسلمت تُسْلِم يا هذا ، لإجماع الحجة من قرّاء الأمصار عليها.
فإن قال لنا قائل : وكيف جعل لكم سرابيل تقيكم الحر ، فخص بالذكر الحر دون البرد ، وهي تقي الحر والبرد ، أم كيف قيل( وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا ) وترك ذكر ما جعل لهم من السهل ؟ قيل له : قد اختُلِف في السبب الذي من أجله جاء التنزيل كذلك ، وسنذكر ما قيل في ذلك ثم ندلّ على أولى الأقوال في ذلك بالصواب.
فرُوِي عن عطاء الخراساني في ذلك ما حدثني الحارث ، قال : ثنا القاسم ، قال : ثنا محمد بن كثير ، عن عثمان بن عطاء ، عن أبيه ، قال : إنما نزل القرآن على قدر معرفتهم ، ألا ترى إلى قول الله تعالى ذكره : ( وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلالا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا ) وما جعل لهم من السهول أعظم وأكثر ، ولكنهم كانوا أصحاب جبال ، ألا ترى إلى قوله( وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ ) ؟ و ما جعل لهم من غير ذلك أعظم منه وأكثر ، ولكنهم كانوا أصحاب وَبَر وَشَعر ألا ترى إلى قوله( وَيُنزلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ ) يعجِّبهم من ذلك ؟ وما أنزل من الثلج أعظم وأكثر ، ولكنهم كانوا لا يعرفون به ، ألا ترى إلى قوله( سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ ) وما تقي من البرد ، أكثر وأعظم ؟ ولكنهم كانوا أصحاب حرّ ، فالسبب الذي من أجله خصّ الله تعالى ذِكرُه السرابيل بأنها تقي الحرّ دون البرد على هذا القول ، هو أن المخاطبين بذلك كانوا أصحاب حرّ ، فذكر الله تعالى ذكره نعمته عليهم بما يقيهم مكروه ما به عرفوا مكروهه دون ما لم يعرفوا مبلغ مكروهه ، وكذلك ذلك في سائر الأحرف الأخَر.
وقال آخرون : ذكر ذلك خاصة اكتفاء بذكر أحدهما من ذكر الآخر ، إذ كان معلومًا عند المخاطبين به معناه ، وأن السرابيل التي تقي الحرّ تقي أيضًا البرد وقالوا : ذلك موجود في كلام العرب مستعمل ، واستشهدوا لقولهم بقول الشاعر :
وَما أدْرِي إذا يَمَّمْتُ وَجْهًا... أُرِيدُ الخَيْرَ أيُّهُما يَلِينِي (1)
__________
(1) البيت من شواهد الفراء في معاني القرآن (ص 176) قال : وقوله (سرابيل تقيكم الحر) ولم يقل " والبرد " فترك ، لأن معناه معلوم ، والله أعلم ، كقول الشاعر : " وما أدري ... الخ البيت " . يريد أن الخير والشر يليني ، لأنه إذا أراد الخير ، فهو يتقي الشر أ ه. وقد أفصح الشاعر في البيت الذي بعده عن مراده ، وهو موافق لما قالوا : أَأَلْخَيْرُ الَّذِي أنا أبْتَغِيهِ ... أمِ الشَّرُّ الَّذِي هُوَ يَبْتَغِيني?
والبيتان : لسحيم بن وثيل الرياحي ، من قصيدة مطلعها : أفاطِمَ قَبْلَ بَيْنِكِ مَتَّعِيني ... ومَنْعُكِ ما سألْتِ كأنْ تَبِيني

(17/271)


فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (82) يَعْرِفُونَ نِعْمَةَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ (83)

فقال : أيهما يليني : يريد الخير أو الشرّ ، وإنما ذكر الخير لأنه إذا أراد الخير فهو يتقي الشرّ.
وأولى القولين في ذلك بالصواب ، قول من قال : إن القوم خوطبوا على قدر معرفتهم ، وإن كان في ذكر بعض ذلك دلالة على ما ترك ذكره لمن عرف المذكور والمتروك وذلك أن الله تعالى ذكره إنما عدّد نعمه التي أنعمها على الذين قُصدوا بالذكر في هذه السورة دون غيرهم ، فذكر أياديه عندهم.
القول في تأويل قوله تعالى : { فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (82) يَعْرِفُونَ نِعْمَةَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ (83) }
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : فإن أدبر هؤلاء المشركون يا محمد عما أرسلتك به إليهم من الحقّ ، فلم يستجيبوا لك وأعرضوا عنه ، فما عليك من لوم ولا عذل لأنك قد أديت ما عليك في ذلك ، إنه ليس عليك إلا بلاغهم ما أرسلت به. ويعني بقوله( الْمُبِينُ ) الذي يبين لمن سمعه حتى يفهمه.
وأما قوله( يَعْرِفُونَ نِعْمَةَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا ) فإن أهل التأويل اختلفوا في المعنى بالنعمة التي أخبر الله تعالى ذكره عن هؤلاء المشركين أنهم ينكرونها مع معرفتهم بها ، فقال بعضهم : هو النبيّ صلى الله عليه وسلم عرفوا نبوته ثم جحدوها وكذبوه.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن بشار ، قال : ثنا عبد الرحمن ، قال : ثنا سفيان ، عن السديّ( يَعْرِفُونَ نِعْمَةَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا ) قال : محمد صلى الله

(17/272)


عليه وسلم.
حدثنا ابن وكيع ، قال : ثنا أبي ، عن سفيان ، عن السديّ ، مثله.
وقال آخرون : بل معنى ذلك أنهم يعرفون أن ما عدد الله تعالى ذكره في هذه السورة من النعم من عند الله ، وأن الله هو المنعم بذلك عليهم ، ولكنهم يُنْكرون ذلك ، فيزعمون أنهم ورثوه عن آبائهم.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى وحدثنا المثنى ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء وحدثني المثنى ، قال : ثنا أبو حُذيفة ، قال : ثنا شبل وحدثني المثنى ، قال : ثنا إسحاق ، قال : ثنا عبد الله ، عن ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد( يَعْرِفُونَ نِعْمَةَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا ) قال : هي المساكن والأنعام وما يرزقون منها ، والسرابيل من الحديد والثياب ، تعرف هذا كفار قريش ، ثم تنكره بأن تقول : هذا كان لآبائنا ، فروّحونا (1) إياه.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، بنحوه ، إلا أنه قال : فورّثونا إياها. وزاد في الحديث عن ابن جريج ، قال ابن جريج : قال عبد الله بن كثير : يعلمون أن الله خلقهم وأعطاهم ما أعطاهم ، فهو معرفتهم نعمته ثم إنكارهم إياها كفرهم بعد.
وقال آخرون في ذلك ، ما حدثنا ابن وكيع ، قال : ثنا معاوية ، عن عمرو ، عن أبي إسحاق الفزاري ، عن ليث ، عن عون بن عبد الله بن عتبة( يَعْرِفُونَ نِعْمَةَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا ) قال : إنكارهم إياها ، أن يقول الرجل : لولا فلان ما كان كذا وكذا ، ولولا فلان ما أصبت كذا وكذا.
وقال آخرون : معنى ذلك أن الكفار إذا قيل لهم : من رزقكم ؟ أقرّوا بأن الله هو الذي رزقهم ، ثم يُنْكرون ذلك بقولهم : رزقنا ذلك بشفاعة آلهتنا.
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب وأشبهها بتأويل الآية ، قول من قال : عني بالنعمة التي ذكرها الله في قوله( يَعْرِفُونَ نِعْمَةَ اللَّهِ ) النعمة عليهم بإرسال محمد صلى الله عليه وسلم إليهم داعيًا إلى ما بعثه بدعائهم إليه ، وذلك أن هذه الآية
__________
(1) قال في اللسان : في حديث أم زرع : وأراح على نعما ثريا : أي أعطاني. قال : والترويح : كالإراحة.

(17/273)


وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا ثُمَّ لَا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (84) وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا الْعَذَابَ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (85)

بين آيتين كلتاهما خبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعما بعث به ، فأولى ما بينهما أن يكون في معنى ما قبله وما بعده ، إذ لم يكن معنى يدلّ على انصرافه عما قبله وعما بعده فالذي قبل هذه الآية قوله( فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ الْمُبِينُ يَعْرِفُونَ نِعْمَةَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا ) وما بعده( وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا ) وهو رسولها. فإذا كان ذلك كذلك ، فمعنى الآية : يعرف هؤلاء المشركون بالله نعمة الله عليهم يا محمد بك ، ثم ينكرونك ويجحدون نبوّتك( وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ ) يقول : وأكثر قومك الجاحدون نبوّتك ، لا المقرّون بها.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا ثُمَّ لا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (84) }
يقول تعالى ذكره : يعرفون نعمة الله ثم يُنْكرونها اليوم ويستنكرون( يَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا ) وهو الشاهد عليها بما أجابت داعي الله ، وهو رسولهم الذي أرسل إليهم( ثُمَّ لا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ) يقول : ثم لا يؤذن للذين كفروا في الاعتذار ، فيعتذروا مما كانوا بالله وبرسوله يكفرون( وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ ) فيتركوا الرجوع إلى الدنيا فينيبوا ويتوبوا وذلك كما قال تعالى( هَذَا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ ).
وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله( وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا ) وشاهدها نبيها ، على أنه قد بلغ رسالات ربه ، قال الله تعالى( وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلاءِ ).
القول في تأويل قوله تعالى : { وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا الْعَذَابَ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (85) }
يقول تعالى ذكره : وإذا عاين الذين كذّبوك يا محمد ، وجَحَدُوا نُبوّتك والأمم الذين كانوا على منهاج مشركي قومك عذاب الله ، فلا ينجيهم من عذاب

(17/274)


وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكَاءَهُمْ قَالُوا رَبَّنَا هَؤُلَاءِ شُرَكَاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوا مِنْ دُونِكَ فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ (86) وَأَلْقَوْا إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (87)

الله شيء ، لأنهم لا يؤذن لهم ، فيعتذرون ، فيخفَّف عنهم العذاب بالعذر الذي يدعونه ، ( وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ ) يقول : ولا يُرْجَئُون بالعقاب ، لأن وقت التوبة والإنابة قد فات ، فليس ذلك وقتا لهما ، وإنما هو وقت للجزاء على الأعمال ، فلا ينظر بالعتاب ليعتب بالتوبة.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكَاءَهُمْ قَالُوا رَبَّنَا هَؤُلاءِ شُرَكَاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوا مِنْ دُونِكَ فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ (86) }
يقول تعالى ذكره : وإذا رأى المشركون بالله يوم القيامة ما كانوا يعبدون من دون الله من الآلهة والأوثان وغير ذلك ، قالوا : ربنا هؤلاء شركاؤنا في الكفر بك ، والشركاء الذين كنا ندعوهم آلهة من دونك ، قال الله تعالى ذكره( فألْقَوْا ) يعني : شركاءهم الذين كانوا يعبدونهم من دون الله ، القول ، يقول : قالوا لهم : إنكم لكاذبون أيها المشركين ، ما كنا ندعوكم إلى عبادتنا.
وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ؛ وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ؛ وحدثني المثنى ، قال : ثنا أبو حُذيفة ، قال : ثنا شبل جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد( فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ ) قال : حدّثوهم.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَأَلْقَوْا إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (87) }
يقول تعالى ذكره : وألقى المشركون إلى الله يومئذ السلم يقول :

(17/275)


استسلموا يومئذ وذَلُّوا لحكمه فيهم ، ولم تغن عنهم آلهتهم التي كانوا يدعون في الدنيا من دون الله ، وتبرأت منهم ، ولا قومهم ، ولا عشائرهُم الذين كانوا في الدنيا يدافعون عنهم ، والعرب تقول : ألقيت إليه كذا تعني بذلك قلت له . وقوله( وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ ) يقول : وأخطأهم من آلهتهم ما كانوا يأملون من الشفاعة عند الله بالنجاة.
وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله( وَأَلْقَوْا إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ ) يقول : ذلوا واستسلموا يومئذ( وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ ) .

(17/276)


الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ (88)

القول في تأويل قوله تعالى : { الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ (88) }
يقول تعالى ذكره : الذين جحدوا يا محمد نبوّتك وكذّبوك فيما جئتهم به من عند ربك ، وصَدُّوا عن الإيمان بالله وبرسوله ، ومن أراده زدناهم عذابًا يوم القيامة في جهنم فوق العذاب الذي هم فيه قبل أن يزادوه. وقيل : تلك الزيادة التي وعدهم الله أن يزيدهموها عقارب وحيات.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن بشار ، قال : ثنا عبد الرحمن ، قال : ثنا سفيان ، عن الأعمش ، عن عبد الله بن مرّة ، عن مسروق ، عن عبد الله( زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ ) قال : عقارب لها أنياب كالنخل.
حدثنا ابن وكيع ، قال : ثنا أبي ، عن سفيان ، عن الأعمش ، عن عبد الله بن مرّة ، عن مسروق ، عن عبد الله مثله.
حدثنا ابن وكيع ، قال : ثنا أبو معاوية وابن عيينة ، عن الأعمش ، عن عبد الله بن مرّة ، عن مسروق ، عن عبد الله( زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ ) قال : زيدوا عقارب لها أنياب كالنخل الطوال.
حدثنا إبراهيم بن يعقوب الجوزجاني ، قال : ثنا جعفر بن عون ، قال :

(17/276)


أخبرنا الأعمش ، عن عبد الله بن مرّة ، عن مسروق ، عن عبد الله ، مثله.
حدثنا ابن المثنى ، قال : ثنا ابن أبي عديّ ، عن سعيد ، عن سليمان ، عن عبد الله بن مرّة ، عن مسروق ، عن عبد الله ، نحوه.
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا عبد الرحمن ، قال : ثنا إسرائيل ، عن السدّي ، عن مرّة ، عن عبد الله ، قال( زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ ) قال : أفاعِيَ.
حدثنا ابن وكيع ، قال : ثنا عبد الله ، عن إسرائيل ، عن السديّ ، عن مرّة ، عن عبد الله ، قال : أفاعيَ في النار.
حدثنا ابن وكيع ، قال : ثنا أبي ، عن سفيان ، عن رجل ، عن مرّة ، عن عبد الله ، مثله.
حدثنا مجاهد بن موسى والفضل بن الصباح ، قالا ثنا جعفر بن عون ، قال : أخبرنا الأعمش ، عن مجاهد ، عن عبيد بن عمير ، قال : إن لجهنم جبابا فيها حيات أمثال البخت (1) وعقارب أمثال البغال الدهم ، يستغيث أهل النار إلى تلك الجِباب أو الساحل ، فتثب إليهم فتأخذ بشِفاههم وشفارهم إلى أقدامهم ، فيستغيثون منها إلى النار ، فيقولون : النارَ النارَ ، فتتبعهم حتى تجد حرّها فترجع ، قال : وهي في أسراب.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرني حيي بن عبد الله ، عن أبي عبد الرحمن الحبلي ، عن عبد الله بن عمرو ، قال : إن لجهنم سواحل فيها حيات وعقارب أعناقها كأعناق البخت.
وقوله( بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ ) يقول : زدناهم ذلك العذاب على ما بهم من العذاب بما كانوا يفسدون ، بما كانوا في الدنيا يعصُون الله ، ويأمرون عباده بمعصيته ، فذلك كان إفسادهم ، اللهم إنا نسألك العافية يا مالك الدنيا والآخرة الباقية.
القول في تأويل قوله تعالى
__________
(1) البخت : هي الإبل الخراسانية ، وهي جمال طوال الأعناق ، الواحد حتى (اللسان).

(17/277)


وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلَاءِ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (89)

{ وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلاءِ وَنزلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (89)}
يقول تعالى ذكره( وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ ) يقول : نسأل نبيهم الذي بعثناه إليهم للدعاء إلى طاعتنا ، وقال( مِنْ أَنْفُسِهِمْ ) لأنه تعالى ذكره كان يبعث إلى أمم أنبياءها منها : ماذا أجابوكم ، وما ردّوا عليكم( وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلاءِ ) يقول لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : وجئنا بك يا محمد شاهدا على قومك وأمتك الذين أرسلتك إليهم بما أجابوك ، وماذا عملوا فيما أرسلتك به إليهم. وقوله( وَنزلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ ) يقول : نزل عليك يا محمد هذا القرآن بيانا لكلّ ما بالناس إليه الحاجة من معرفة الحلال والحرام والثواب والعقاب(وَهُدًى) من الضلال(وَرَحْمَةً) لمن صدّق به ، وعمل بما فيه من حدود الله ، وأمره ونهيه ، فأحل حلاله ، وحرّم حرامه( وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ ) يقول : وبشارة لمن أطاع الله وخضع له بالتوحيد ، وأذعن له بالطاعة ، يبشره بجزيل ثوابه في الآخرة ، وعظيم كرامته.
وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى ، قال : ثنا إسحاق ، قال : ثنا عبد الله بن الزبير ، عن ابن عيينة ، قال : ثنا أبان بن تغلب ، عن الحكم ، عن مجاهد( تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ ) قال : مما أحلّ وحرّم.
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، عن ابن عيينة ، عن أبان بن تغلب ، عن مجاهد ، في قوله( تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ ) مما أحلّ لهم وحرّم عليهم.
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا أبو أحمد ، قال : ثنا سفيان ، عن الأعمش ، عن مجاهد ، قوله( تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ ) قال : ما أمر به ، وما نَهَى عنه.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، في قوله( وَنزلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ ) قال : ما أُمِروا به ، ونهوا عنه.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثنا محمد بن فضيل ، عن

(17/278)


إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (90)

أشعث ، عن رجل ، قال : قال ابن مسعود : أنزل في هذا القرآن كل علم وكلّ شيء قد بين لنا في القرآن. ثم تلا هذه الآية.
القول في تأويل قوله تعالى : { إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (90) }
يقول تعالى ذكره : إن الله يأمر في هذا الكتاب الذي أنزله إليك يا محمد بالعدل ، وهو الإنصاف ، ومن الإنصاف : الإقرار بمن أنعم علينا بنعمته ، والشكر له على إفضاله ، وتولي الحمد أهله. وإذا كان ذلك هو العدل ، ولم يكن للأوثان والأصنام عندنا يد تستحقّ الحمد عليها ، كان جهلا بنا حمدها وعبادتها ، وهي لا تنعِم فتشكر ، ولا تنفع فتعبد ، فلزمنا أن نشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، ولذلك قال من قال : العدل في هذا الموضع شهادة أن لا إله إلا الله.
ذكر من قال ذلك : حدثني المثنى ، وعلي بن داود ، قالا ثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله( إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإحْسَانِ ) قال : شهادة أن لا إله إلا الله وقوله والإحسان ، فإن الإحسان الذي أمر به تعالى ذكره مع العدل الذي وصفنا صفته : الصبر لله على طاعته فيما أمر ونهى ، في الشدّة والرخاء ، والمَكْرَه والمَنْشَط ، وذلك هو أداء فرائضه.
كما حدثني المثنى ، وعليّ بن داود ، قالا ثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس( وَالإحْسَانِ ) يقول : أداء الفرائض .
وقوله( وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى ) يقول : وإعطاء ذي القربى الحقّ الذي أوجبه الله عليك بسبب القرابة والرحم.
كما حدثني المثنى وعلي ، قالا ثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس( وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى ) يقول : الأرحام.
وقوله( وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ ) قال : الفحشاء في هذا الموضع : الزنا.

(17/279)


* ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى ، وعليّ بن داود ، قالا ثنا عبد الله بن صالح ، عن عليّ ، عن ابن عباس( وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ ) يقول : الزنا. وقد بيَّنا معنى الفحشاء بشواهده فيما مضى قبل.
وقوله( والبَغْيِ) قيل : عُنِيَ بالبغي في هذا الموضع : الكبر والظلم.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى ، وعليّ بن داود ، قالا ثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس( والبَغْيِ) يقول : الكبر والظلم.وأصل البغي : التعدّي ومجاوزة القدر والحدّ من كلّ شيء. وقد بيَّنا ذلك فيما مضى قبل.
وقوله( يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ) يقول : يذكركم أيها الناس ربكم لتذكروا فتنيبوا إلى أمره ونهيه ، وتعرفوا الحقّ لأهله.
كما حدثني المثنى وعليّ بن داود ، قالا ثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس( يَعِظُكُمْ) يقول : يوصيكم( لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ).
وقد ذُكر عن ابن عيينة أنه كان يقول في تأويل ذلك : إن معنى العدل في هذا الموضع استواء السريرة والعلانية من كلّ عامل لله عملا وإن معنى الإحسان : أن تكون سريرته أحسن من علانيته ، وإن الفحشاء والمنكر أن تكون علانيته أحسن من سريرته.
وذُكر عن عبد الله بن مسعود أنه كان يقول في هذه الآية ، ما حدثني المثنى ، قال : ثنا الحجاج ، قال : ثنا معتمر بن سليمان ، قال : سمعت منصور بن النعمان ، عن عامر ، عن شتَير بن شَكَل ، قال : سمعت عبد الله يقول : إن أجمع آية في القرآن في سورة النحل( إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى ) ... إلى آخر الآية.
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا جرير ، عن منصور ، عن الشعبيّ ، عن سُتَيْر بن شَكَل ، قال : سمعت عبد الله يقول : إن أجمع آية في القرآن لخير أو لشر ، آية في سورة النحل( إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإحْسَانِ ) .... الآية.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله( إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى ) ... الآية ، إنه ليس من خلق

(17/280)


وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ (91)

حسن كان أهل الجاهلية يعملون به ويستحسنونه إلا أمر الله به ، وليس من خُلق سيِّئ كانوا يتعايرونه بينهم إلا نهى الله عنه وقدّم فيه. وإنما نهى عن سفاسف الأخلاق ومَذامِّها.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الأيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ (91) }
يقول تعالى ذكره : وأوفوا بميثاق الله إذا واثقتموه ، وعقده إذا عاقدتموه ، فأوجبتم به على أنفسكم حقا لمن عاقدتموه به وواثقتموه عليه( وَلا تَنْقُضُوا الأيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا ) يقول : ولا تخالفوا الأمر الذي تعاقدتم فيه الأيمان ، يعني بعد ما شددتم الأيمان على أنفسكم ، فتحنثوا في أيمانكم وتكذبوا فيها وتنقضوها بعد إبرامها ، يقال منه : وكَّد فلان يمينه يوكدها توكيدًا : إذا شددها وهي لغة أهل الحجاز ، وأما أهل نجد ، فإنهم يقولون : أكدتها أؤكدها تأكيدا. وقوله( وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلا ) يقول : وقد جعلتم الله بالوفاء بما تعاقدتم عليه على أنفسكم راعيًا يرعى الموفى منكم بعهد الله الذي عاهد على الوفاء به والناقض.
وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل على اختلاف بينهم فيمن عني بهذه الآية وفيما أنزلت ، فقال بعضهم : عُنِيَ بها الذين بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على الإسلام ، وفيهم أنزلت.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمارة الأسدي ، قال : ثنا عبد الله بن موسى ، قال : أخبرنا أبو ليلى ، عن بريدة ، قوله( وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ ) قال : أنزلت هذه الآية في بيعة النبيّ صلى الله عليه وسلم ، كان من أسلم بايع على الإسلام ، فقالوا( وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ ) هذه البَيعة التي بايعتم على الإسلام( وَلا تَنْقُضُوا الأيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا ) البيعة ، فلا يحملكم قلة محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه وكثرة المشركين أن تنقضوا البيعة التي بايعتم على الإسلام ، وإن كان فيهم قلة والمشركين فيهم كثرة.
وقال آخرون : نزلت في الحِلْف الذي كان أهل الشرك تحالفوا في

(17/281)


الجاهلية ، فأمرهم الله عزّ وجلّ في الإسلام أن يوفّوا به ولا ينقضوه.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قول الله تعالى( وَلا تَنْقُضُوا الأيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا ) قال : تغليظها في الحلف.
حدثني المثنى ، قال : ثنا أبو حُذيفة ، قال : ثنا شبل وحدثني المثنى ، قال : ثنا إسحاق ، قال : ثنا عبد الله عن ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله( وَلا تَنْقُضُوا الأيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا ) يقول : بعد تشديدها وتغليظها.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد : هؤلاء قوم كانوا حلفاء لقوم تحالفوا وأعطى بعضهم العهد ، فجاءهم قوم ، فقالوا : نحن أكثر وأعزّ وأمنع ، فانقضوا عهد هؤلاء وارجعوا إلينا ففعلوا ، فذلك قول الله تعالى( وَلا تَنْقُضُوا الأيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلا ) أن تكون أمة هي أربى من أمة ، هي أربَى أكثر من أجل أن كان هؤلاء أكثر من أولئك ، نقضتم العهد فيما بينكم وبين هؤلاء ، فكان هذا في هذا.
حدثني ابن البَرقيّ ، قال : ثنا ابن أبي مَريم ، قال : أخبرنا نافع بن يزيد ، قال : سألت يحيى بن سعيد ، عن قول الله( وَلا تَنْقُضُوا الأيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا ) قال : العهود.
والصواب من القول في ذلك أن يقال : إن الله تعالى أمر في هذه الآية عباده بالوفاء بعهوده التي يجعلونها على أنفسهم ، ونهاهم عن نقض الأيمان بعد توكيدها على أنفسهم لآخرين بعقود تكون بينهم بحقّ مما لا يكرهه الله. وجائز أن تكون نزلت في الذين بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بنهيهم عن نقض بيعتهم حذرا من قلة عدد المسلمين وكثرة عدد المشركين ، وأن تكون نزلت في الذين أرادوا الانتقال بحلفهم عن حلفائهم لقلة عددهم في آخرين لكثرة عددهم ، وجائز أن تكون في غير ذلك. ولا خبر تَثْبُت به الحجة أنها

(17/282)


وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (92)

نزلت في شيء من ذلك دون شيء ؛ ولا دلالة في كتاب ولا حجة عقل أيّ ذلك عُنِيَ بها ، ولا قول في ذلك أولى بالحق مما قلنا لدلالة ظاهره عليه ، وأن الآية كانت قد نزلت لسبب من الأسباب ، ويكون الحكم بها عامًّا في كلّ ما كان بمعنى السبب الذي نزلت فيه.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد( وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلا ) قال : وكيلا.
وقوله( إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ ) يقول تعالى ذكره : إن الله أيها الناس يعلم ما تفعلون في العهود التي تعاهدون الله من الوفاء بها والأحلاف والأيمان التي تؤكدونها على أنفسكم ، أتبرّون فيها أم تنقضونها وغير ذلك من أفعالكم ، محص ذلك كله عليكم ، وهو مسائلكم عنها وعما عملتم فيها ، يقول : فاحذروا الله أن تلقوه وقد خالفتم فيها أمره ونهيه ، فتستوجبوا بذلك منه ما لا قِبَل لكم به من أليم عقابه.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلا بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (92) }
يقول تعالى ذكره ناهيا عباده عن نقض الأيمان بعد توكيدها ، وآمرًا بوفاء العهود ، وممثلا ناقض ذلك بناقضة غزلها من بعد إبرامه وناكثته من بعد إحكامه : ولا تكونوا أيها الناس في نقضكم أيمانكم بعد توكيدها وإعطائكم الله بالوفاء بذلك العهود والمواثيق( كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ) يعني : من بعد إبرام. وكان بعض أهل العربية يقول : القوّة : ما غُزِل على طاقة واحدة ولم يثن. وقيل : إن التي كانت تفعل ذلك امرأة حمقاء معروفة بمكة.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثنا حجاج ، عن ابن

(17/283)


جريج ، قال : أخبرني عبد الله بن كثير( كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ) قال : خرقاء كانت بمكة تنقضه بعد ما تُبْرِمه.
حدثنا المثنى ، قال : ثنا إسحاق ، قال : ثنا عبد الله بن الزبير ، عن ابن عيينة ، عن صدقة ، عن السديّ( وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلا بَيْنَكُمْ ) قال : هي خَرْقَاءُ بمكة كانت إذا أبرمت غزلها نقضته.
وقال آخرون : إنما هذا مثل ضربه الله لمن نقض العهد ، فشبهه بامرأة تفعل هذا الفعل. وقالوا في معنى نقضت غزلها من بعد قوة ، نحوا مما قلنا.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله( وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا ) فلو سمعتم بامرأة نقضت غزلها من بعد إبرامه لقلتم : ما أحمق هذه! وهذا مثل ضربه الله لمن نكث عهده.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد( وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ) قال : غزلها : حبلها تنقضه بعد إبرامها إياه ولا تنتفع به بعد.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى وحدثني

(17/284)


الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء وحدثني المثنى ، قال : ثنا أبو حُذيفة ، قال : ثنا شبل ، جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد( كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ) قال : نقضت حبلها من بعد إبرام قوّة.
حدثني المثنى ، قال : ثنا إسحاق ، قال : ثنا عبد الله ، عن ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله( وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا ) قال : هذا مثل ضربه الله لمن نقض العهد الذي يعطيه ، ضرب الله هذا له مثلا بمثل التي غزلت ثم نقضت غزلها ، فقد أعطاهم ثم رجع ، فنكث العهد الذي أعطاهم.
وقوله( أَنْكَاثًا ) يعني : أنقاضا ، وكلّ شيء نُقِض بعد الفتل فهو أنكاث ، واحدها :

(17/285)


نكْث حبلا كان ذلك أو غزلا يقال منه : نَكَث فلان هذا الحبل فهو ينكُثُه نكثا ، والحبل منتكِث : إذا انتقضت قُواه. وإنما عني به في هذا الموضع نكث العهد والعقد. وقوله( تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلا بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ ) يقول تعالى ذكره : تجعلون أيمانكم التي تحلفون بها على أنكم موفون بالعهد لمن عاقدتموه( دَخَلا بَيْنَكُمْ ) يقول : خديعة وغرورا ليطمئنوا إليكم وأنتم مضمرون لهم الغدر وترك الوفاء بالعهد والنُّقلة عنهم إلى غيرهم من أجل أن غيرهم أكثر عددًا منهم. والدَّخَل في كلام العرب : كلّ أمر لم يكن صحيحًا ، يقال منه : أنا أعلم دَخَل فلان ودُخْلُلَه وداخلة أمره ودخلته ودخيلته.
وأما قوله( أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ ) فإن قوله أربى : أفعل من الربا ، يقال : هذا أربى من هذا وأربأ منه ، إذا كان أكثر منه ؛ ومنه قول الشاعر :
وأسْمَرَ خَطِّيّ كأنَّ كُعُوبَهُ... نَوى القسْبِ قد أرْبَى ذرَاعا على العَشْرِ (1)
وإنما يقال : أربى فلان من هذا وذلك للزيادة التي يزيدها على غريمه على رأس ماله.
وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى ، وعليّ بن داود ، قالا ثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله( أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ ) يقول : أكثر.
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله( أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ ) يقول : ناس أكثر من ناس.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ؛ وحدثني المثنى ، قال : ثنا أبو حذيفة ، قال : ثنا شبل ، جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله( أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ ) قال : كانوا يحالفون الحلفاء ، فيجدون أكثر منهم وأعزّ ، فينقضون حِلْف هؤلاء ، ويحالفون هؤلاء الذين هم أعزّ منهم ، فنهوا عن ذلك.
حدثنا ابن المثنى ، قال : أخبرنا إسحاق ، قال : ثنا عبد الله ، عن ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد (2) وحدثني القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله( تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلا بَيْنَكُمْ ) يقول : خيانة وغدرا بينكم( أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ ) أن يكون قوم أعزّ وأكثر من قوم.
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا أبو ثور ، عن مَعْمر ، عن قتادة( دَخَلا بَيْنَكُمْ ) قال : خيانة بينكم.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله( تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلا بَيْنَكُمْ ) يغرّ بها ، يعطيه العهد يؤمنه وينزله من مأمنه ، فتزلّ قدمه وهو في مأمن ، ثم يعود يريد الغدر ، قال : فأوّل بدو هذا (3) قوم كانوا حلفاء لقوم تحالفوا ، وأعطى بعضهم بعضا العهد ، فجاءهم قوم قالوا : نحن أكثر وأعزّ وأمنع ، فانقضوا عهد هؤلاء وارجعوا إلينا ، ففعلوا ، وذلك قول الله تعالى( وَلا تَنْقُضُوا الأيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلا )( أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ ) هي أربى : أكثر من أجل أن كانوا هؤلاء أكثر من أولئك نقضتم العهد فيما بينكم وبين هؤلاء ، فكان هذا في هذا ، وكان الأمر الآخر في الذي يعاهده فينزله من حِصْنه ثم
__________
(1) (البيت في اللسان : قسب) قال : القسب : التمر اليابس. يتفتت في الفم ، صلب النواة قال الشاعر يصف رمحا : " وأسمر خطيا ... إلى آخر البيت " ... قال ابن بري : هذا البيت يذكر أنه لحاتم الطائي ، ولم أجده في شعره. وأربى وأرمى : لغتان. ونوى القسب أصلب النوى. والخطى نسبة إلى الخط : بلد عند البحرين ، مشهور بصنع الرماح. واستشهد المؤلف هنا بالبيت على أن معنى أربى : أكثر. وكذلك قال أبو عبيدة في مجاز القرآن (1 : 367).
(2) أي مثله ، وكثيراً ما يأتي بالسند ويترك المتن إذا تقدم ، ولا يأتي بلفظ نحوه أو مثله ، وتقدمت الإشارة إلى بعض ذلك في مواضعه.
(3) في الأصل : هو ، ولعله تحريف من الناسخ.

(17/286)


وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (93)

ينكث عليه ، الآية الأولى في هؤلاء القوم وهي مبدؤه ، والأخرى في هذا.
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : ثنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول ، في قوله( أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ ) يقول : أكثر ، يقول : فعليكم بوفاء العهد.
وقوله( إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ ) يقول تعالى ذكره : إنما يختبركم الله بأمره إياكم بالوفاء بعهد الله إذا عاهدتم ، ليتبين المطيع منكم المنتهي إلى أمره ونهيه من العاصي المخالف أمره ونهيه( وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ) يقول تعالى ذكره : وليبينن لكم أيها الناس ربكم يوم القيامة إذا وردتم عليه بمجازاة كلّ فريق منكم على عمله في الدنيا ، المحسن منكم بإحسانه والمسيء بإساءته ، ( مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ) والذي كانوا فيه يختلفون في الدنيا أن المؤمن بالله كان يقرّ بوحدانية الله ونبوّة نبيه ، ويصدق بما ابتعث به أنبياءه ، وكان يكذّب بذلك كله الكافر فذلك كان اختلافهم في الدنيا الذي وعد الله تعالى ذكره عباده أن يبينه لهم عند ورودهم عليه بما وصفنا من البيان.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (93) }
يقول تعالى ذكره : ولو شاء ربكم أيها الناس للطف بكم بتوفية من عنده ، فصرتم جميعًا جماعة واحدة ، وأهل ملة واحدة لا تختلفون ولا تفترقون ، ولكنه تعالى ذكره خالف بينكم ، فجعلكم أهل ملل شتى ، بأن وفَّق هؤلاء للإيمان به ، والعمل بطاعته ، فكانوا مؤمنين ، وخذل هؤلاء فحَرَمهم توفيقه فكانوا كافرين ، وليسألنكم الله جميعا يوم القيامة عما كنتم تعملون في الدنيا فيما أمركم ونهاكم ، ثم ليجازينكم جزاء المطيع منكم بطاعته ، والعاصي له بمعصيته.

(17/287)


وَلَا تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِمَا صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (94)

القول في تأويل قوله تعالى : { وَلا تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلا بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِمَا صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (94) }

(17/287)


وَلَا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا إِنَّمَا عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (95) مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (96)

يقول تعالى ذكره : ولا تتخذوا أيمانكم بينكم دَخَلا وخديعة بينكم ، تغزون بها الناس( فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا ) يقول : فتهلكوا بعد أن كنتم من الهلاك آمنين. وإنما هذا مثل لكل مبتلى بعد عافية ، أو ساقطٍ في ورطة بعد سلامة ، وما أشبه ذلك : (زلَّت قدمه) ، كما قال الشاعر :
سيَمْنَعُ مِنْكَ السَّبْقُ إنْ كُنْتَ سابِقا... وتُلْطَعُ إنْ زَلَّتْ بكَ النَّعْلانِ (1)
وقوله( وَتَذُوقُوا السُّوءَ ) يقول : وتذوقوا أنتم السوء وذلك السوء : هو عذاب الله الذي يعذّب به أهل معاصيه في الدنيا ، وذلك بعض ما عذّب به أهل الكفر( بِمَا صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ) يقول : بما فَتنتم من أراد الإيمان بالله ورسوله عن الإيمان( وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ) في الآخرة ، وذلك نار جهنم ، وهذه الآية تدلّ على أن تأويل بُرَيْدة الذي ذكرنا عنه ، في قوله( وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ ) والآيات التي بعدها ، أنه عُنِيَ بذلك : الذين بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على الإسلام ، عن (2) مفارقة الإسلام لقلة أهله ، وكثرة أهل الشرك هو الصواب ، دون الذي قال مجاهد أنهم عنوا به ، لأنه ليس في انتقال قوم تحالفوا عن حلفائهم إلى آخرين غيرهم ، صدّ عن سبيل الله ولا ضلال عن الهدى ، وقد وصف تعالى ذكره في هذه الآية فاعِلِي ذلك ، أنهم باتخاذهم الأيمان دَخَلا بينهم ، ونقضهم الأيمان بعد توكيدها ، صادّون عن سبيل الله ، وأنهم أهل ضلال في التي قبلها ، وهذه صفة أهل الكفر بالله لا صفة أهل النُّقْلة بالحلف عن قوم إلى قوم.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلا إِنَّمَا عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (95) مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (96) }
__________
(1) في (اللسان : لطع) : اللطع أن تضرب مؤخر الإنسان برجلك. تقول : لطعته (بالكسر) ألطعه لطعا. وقوله تعالى : (فتزل قدم بعد ثبوتها) قال أبو عبيدة في مجاز القرآن (1 : 367) : مثل يقال لكل مبتلى بعد عافية ، أو ساقط في ورطة بعد سلامة ونحو ذلك : زلت قدمه.
(2) " عن " هنا : للتعليل ، أي بسبب مفارقة الإسلام ، مثلها في قوله تعالى : (وما نحن بتاركي آلهتنا عن قولك) : أي لأجلك.

(17/288)


مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (97)

يقول تعالى ذكره : ولا تنقضوا عهودكم أيها الناس ، وعقودكم التي عاقدتموها من عاقدتم مؤكِّديها بأيمانكم ، تطلبون بنقضكم ذلك عرضًا من الدنيا قليلا ولكن أوفوا بعهد الله الذي أمركم بالوفاء به ، يثبكم الله على الوفاء به ، فإن ما عند الله من الثواب لكم على الوفاء بذلك ، هو خير لكم إن كنتم تعلمون ، فضل ما بين العِوَضين اللذين أحدهما الثمن القليل ، الذي تشترون بنقض عهد الله في الدنيا ، والآخر الثواب الجزيل في الآخرة على الوفاء به ، ثم بين تعالى ذكره فرْق ما بين العِوَضين وفضل ما بين الثوابين ، فقال : ما عندكم أيها الناس مما تتملكونه في الدنيا ، وإن كَثُر فنافدٌ فان ، وما عند الله لمن أوفى بعهده وأطاعه من الخيرات باق غير فانٍ ، فلما عنده فاعملوا وعلى الباقي الذي لا يفنى فاحرصوا. وقوله( وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) يقول تعالى ذكره : وليثيبنّ الله الذين صبروا على طاعتهم إياه في السّراء والضرّاء ، ثوابهم يوم القيامة على صبرهم عليها ، ومسارعتهم في رضاه ، بأحسن ما كانوا يعملُون من الأعمال دون أسوئها ، وليغفرنّ الله لهم سيئها بفضله.
القول في تأويل قوله تعالى : { مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (97) }
يقول تعالى ذكره : من عمل بطاعة الله ، وأوفى بعهود الله إذا عاهد من ذكر أو أنثى من بني آدم وهو مؤمن : يقول : وهو مصدّق بثواب الله الذي وعد أهل طاعته على الطاعة ، وبوعيد أهل معصيته على المعصية( فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً ) .
واختلف أهل التأويل في الذي عَنى الله بالحياة الطيبة التي وعد هؤلاء القوم أن يُحْيِيَهموها ، فقال بعضهم : عنى أنه يحييهم في الدنيا ما عاشوا فيها بالرزق الحلال.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني أبو السائب ، قال : ثنا أبو معاوية ، عن

(17/289)


إسماعيل بن سَمِيع (1) عن أبي مالك وأبي الربيع ، عن ابن عباس ، بنحوه.
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا عبد الرحمن ، قال : ثنا سفيان ، عن إسماعيل بن سَمِيع ، عن أبي الربيع ، عن ابن عباس ، في قوله( مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً ) قال : الرزق الحسن في الدنيا.
حدثنا ابن وكيع ، قال : ثنا أبي ، عن سفيان ، عن إسماعيل بن سَمِيع ، عن أبي الربيع ، عن ابن عباس( فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً ) قال : الرزق الطيب في الدنيا.
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله( مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً ) يعني في الدنيا.
حدثنا ابن وكيع ، قال : ثنا ابن عيينة ، عن مطرف ، عن الضحاك( فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً ) قال : الرزق الطيب الحلال.
حدثني عبد الأعلى بن واصل ، قال : ثنا عون بن سلام القرشيّ ، قال : أخبرنا بشر بن عُمارة ، عن أبي رَوُق ، عن الضحاك ، في قوله( فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً ) قال : يأكل حلالا ويلبس حلالا.
وقال آخرون( فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً ) بأن نرزقه القناعة.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن وكيع ، قال : ثنا يحيى بن يمان ، عن المنهال بن خليفة ، عن أبي خزيمة سليمان التمَّار ، عمن ذكره عن عليّ( فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً ) قال : القنوع.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثنا أبو عصام ، عن أبي سعيد ، عن الحسن البصريّ ، قال : الحياة الطيبة : القناعة.
وقال آخرون : بل يعني بالحياة الطيبة الحياة مؤمنًا بالله عاملا بطاعته.
* ذكر من قال ذلك : حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : ثنا عبيد بن سليمان ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله( فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً
__________
(1) إسماعيل بن سميع ، بالسين مفتوحة ، الحنفي ، أبو محمد ، وثقه جماعة ، وكان خارجيا.

(17/290)


) يقول : من عمل عملا صالحًا وهو مؤمن في فاقة أو ميسرة ، فحياته طيبة ، ومن أعرض عن ذكر الله فلم يؤمن ولم يعمل صالحًا ، عيشته ضنكة لا خير فيها.
وقال آخرون : الحياة الطيبة السعادة.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى وعليّ بن داود ، قالا ثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله( فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً ) قال : السعادة.
وقال آخرون : بل معنى ذلك : الحياة في الجنة.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا هَوْذة ، عن عوف ، عن الحسن( فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً ) قال : لا تطيب لأحد حياة دون الجنة.
حدثنا ابن وكيع ، قال : ثنا أبو أسامة ، عن عوف ، عن الحسن( فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً ) قال : ما تطيب الحياة لأحد إلا في الجنة.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله( مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً ) فإن الله لا يشاء عملا إلا في إخلاص ، ويوجب عمل ذلك في إيمان ، قال الله تعالى( فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً ) وهي الجنة.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد( فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً ) قال : الآخرة يحييهم حياة طيبة في الآخرة.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله( مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً ) قال : الحياة الطيبة في الآخرة : هي الجنة ، تلك الحياة الطيبة ، قال( وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) وقال : ألا تراه يقول( يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي ) قال : هذه آخرته. وقرأ أيضًا( وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ ) قال : الآخرة دار حياة لأهل النار وأهل الجنة ، ليس فيها موت لأحد من الفريقين.
حدثني المثنى ، قال : ثنا إسحاق ، قال : ثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع ، في قوله( مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ ) قال : الإيمان : الإخلاص لله وحده ، فبين أنه لا يقبل عملا إلا بالإخلاص له.
وأولى الأقوال بالصواب قول من قال : تأويل ذلك : فلنحيينه حياة طيبة بالقناعة ، وذلك أن من قنعه الله بما قسم له من رزق لم يكثر للدنيا تعبه ، ولم

(17/291)


يعظم فيها نَصَبه ولم يتكدّر فيها عيشه باتباعه بغية ما فاته منها وحرصه على ما لعله لا يدركه فيها.
وإنما قلت ذلك أولى التأويلات في ذلك بالآية ، لأن الله تعالى ذكره أوعد قوما قبلها على معصيتهم إياه إن عصوه أذاقهم السوء في الدنيا ، والعذاب في الآخرة ، فقال تعالى( وَلا تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلا بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِمَا صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ) فهذا لهم في الدنيا ، ولهم في الآخرة عذاب عظيم ، فهذا لهم في الآخرة. ثم أتبع ذلك لمَن أوفى بعهد الله وأطاعه فقال تعالى : ما عندكم في الدنيا ينفد ، وما عند الله باق ، فالذي (1) هذه السيئة بحكمته أن (2) يعقب ذلك الوعد لأهل طاعته بالإحسان في الدنيا ، والغفران في الآخرة ، وكذلك فَعَلَ تعالى ذكره.
وأما القول الذي رُوي عن ابن عباس أنه الرزق الحلال ، فهو مُحْتَمَل أن يكون معناه الذي قلنا في ذلك ، من أنه تعالى يقنعه في الدنيا بالذي يرزقه من الحلال ، وإن قلّ فلا تدعوه نفسه إلى الكثير منه من غير حله. لا أنه يرزقه الكثير من الحلال ، وذلك أن أكثر العاملين لله تعالى بما يرضاه من الأعمال لم نرهم رُزِقوا الرزق الكثير من الحلال في الدنيا ، ووجدنا ضيق العيش عليهم أغلب من السعة.
وقوله( وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) فذلك لا شك أنه في الآخرة . وكذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني أبو السائب ، قال : ثنا أبو معاوية ، عن إسماعيل بن سميع ، عن أبي مالك ، عن ابن عباس( وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) قال : إذا صاروا إلى الله جزاهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون.
حدثنا ابن وكيع ، قال : ثنا أبو معاوية ، عن إسماعيل بن سَمِيع ، عن أبي مالك ، وأبي الربيع ، عن ابن عباس ، مثله.
حدثنا ابن وكيع ، قال : ثنا أبي ، عن سفيان ، عن إسماعيل بن سَمِيع ،
__________
(1) هذه العبارة قد سقطت منها كلمات ، ولعل الأصل : فالذي أوعد أهل المعاصي بإذاقتهم هذه السيئة بحكمته ، أراد أن يعقب .. الخ.
(2) هذه العبارة قد سقطت منها كلمات ، ولعل الأصل : فالذي أوعد أهل المعاصي بإذاقتهم هذه السيئة بحكمته ، أراد أن يعقب .. الخ.

(17/292)


فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآَنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (98) إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (99) إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ (100)

عن أبي الربيع ، عن ابن عباس( وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ ) قال : في الآخرة.
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا عبد الرحمن ، قال : ثنا سفيان ، عن إسماعيل بن سَمِيع ، عن أبي الربيع ، عن ابن عباس ، مثله.
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس( وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) يقول : يجزيهم أجرهم في الآخرة بأحسن ما كانوا يعملون.
وقيل : إن هذه الآية نزلت بسبب قوم من أهل مِلَل شتى تفاخروا ، فقال أهل كلّ ملة منها : نحن أفضل ، فبين الله لهم أفضل أهل الملل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن وكيع ، قال : ثنا يعلى بن عبيد ، عن إسماعيل ، عن أبي صالح ، قال : جلس ناس من أهل الأوثان وأهل التوراة وأهل الإنجيل ، فقال هؤلاء : نحن أفضل ، وقال هؤلاء : نحن أفضل ، فأنزل الله تعالى( مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) .
القول في تأويل قوله تعالى : { فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (98) إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (99) إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ (100) }
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : وإذا كنت يا محمد قارئًا القرآن ، فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم. وكان بعض أهل العربية يزعم أنه من المؤخر الذي معناه التقديم. وكان معنى الكلام عنده : وإذا استعذت بالله من الشيطان الرجيم ، فاقرأ القرآن ، ولا وجه لما قال من ذلك ، لأن ذلك لو كان كذلك لكان متى استعاذ مستعيذ من الشيطان الرجيم لزمه أن يقرأ القرآن ، ولكن معناه ما وصفناه ، وليس قوله( فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ ) بالأمر اللازم ، وإنما هو إعلام وندب . وذلك أنه لا خلاف بين الجميع ، أن من قرأ

(17/293)


القرآن ولم يستعذ بالله من الشيطان الرجيم . قبل قرأته أو بعدها أنه لم يضيع فرضا واجبا. وكان ابن زيد يقول في ذلك نحو الذي قلنا.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله( فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ ) قال : فهذا دليل من الله تعالى دلّ عباده عليه.
وأما قوله( إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ) فإنه يعني بذلك : أن الشيطان ليست له حجة على الذين آمنوا بالله ورسوله ، وعملوا بما أمر الله به وانتهوا عما نهاهم الله عنه( وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ) يقول : وعلى ربهم يتوكلون فيما نابهم من مهمات أمورهم( إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ ) يقول : إنما حجته على الذين يعبدونه ، ( وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ ) يقول : والذين هم بالله مشركون.
وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثنا ورقاء وحدثني المثنى ، قال : ثنا أبو حذيفة ، قال : ثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد( إِنَّمَا سُلْطَانُهُ ) قال : حجته.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، قوله( إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ ) قال : يطيعونه.
واختلف أهل التأويل في المعنى الذي من أجله لم يسلط فيه الشيطان على المؤمن.
فقال بعضهم بما حُدّثت عن واقد بن سليمان ، عن سفيان ، في قوله( إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ) قال : ليس له سلطان على أن يحملهم على ذنب لا يغفر.
وقال آخرون : هو الاستعاذة ، فإنه إذا استعاذ بالله منع منه ، ولم يسلط عليه ، واستشهد لصحة قوله ذلك بقول الله تعالى : ( وَإِمَّا يَنزغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نزغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ) وقد ذكرنا الرواية بذلك في سورة الحِجْر.

(17/294)


وقال آخرون في ذلك ، بما حدثني به المثنى ، قال : ثنا إسحاق ، قال : ثنا عبد الله بن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع ، في قوله( إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ) إلى قوله( وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ ) يقال : إن عدوّ الله إبليس قال( لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ ) فهؤلاء الذين لم يجعل للشيطان عليهم سبيل ، وإنما سلطانه على قوم اتخذوه وليا ، وأشركوه في أعمالهم.
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله( إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ) يقول : السلطان على من تولى الشيطان وعمل بمعصية الله.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله( إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ ) يقول : الذين يطيعونه ويعبدونه.
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب ، قول من قال : معناه : إنه ليس له سلطان على الذين آمنوا فاستعاذوا بالله منه ، بما ندب الله تعالى ذكره من الاستعاذة( وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ) على ما عرض لهم من خطراته ووساوسه.
وإنما قلنا ذلك أولى التأويلات بالآية ، لأن الله تعالى ذكره أتبع هذا القول( فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ ) وقال في موضع آخر : ( وَإِمَّا يَنزغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نزغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ) فكان بينا بذلك أنه إنما ندب عباده إلى الاستعاذة منه في هذه الأحوال ليُعيذهم من سلطانه.
وأما قوله( وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ ) فإن أهل التأويل اختلفوا في تأويله ، فقال بعضهم فيه بما قلنا إن معناه : والذين هم بالله مشركون.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ؛ وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء وحدثني المثنى ، قال : ثنا أبو حذيفة ، قال : ثنا شبل وحدثني المثنى ، قال : ثنا إسحاق ، قال : ثنا عبد الله ، عن ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله( وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ ) قال : يعدلون بربّ العالمين.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ،

(17/295)


وَإِذَا بَدَّلْنَا آَيَةً مَكَانَ آَيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (101)

عن مجاهد( وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ ) قال : يعدلون بالله.
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ ، قال : ثنا عبيد بن سليمان ، قال : سمعت الضحاك يقول : في قوله( وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ ) عدلوا إبليس بربهم ، فإنهم بالله مشركون.
وقال آخرون : معنى ذلك : والذين هم به مشركون ، أشركوا الشيطان في أعمالهم.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى ، قال : ثنا إسحاق ، قال : ثنا عبد الله بن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع( وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ ) أشركوه في أعمالهم.
والقول الأوّل ، أعني قول مجاهد ، أولى القولين في ذلك بالصواب ، وذلك أن الذين يتولون الشيطان إنما يشركونه بالله في عبادتهم وذبائحهم ومطاعمهم ومشاربهم ، لا أنهم يشركون بالشيطان. ولو كان معنى الكلام ما قاله الربيع ، لكان التنزيل : الذين هم مشركوه ، ولم يكن في الكلام به ، فكان يكون لو كان التنزيل كذلك ، والذين هم مشركوه في أعمالهم ، إلا أن يوجه موجه معنى الكلام ، إلى أن القوم كانوا يدينون بألوهة الشيطان ، ويشركون الله به في عبادتهم إياه ، فيصحّ حينئذ معنى الكلام ، ويخرج عما جاء التنزيل به في سائر القرآن ، وذلك أن الله تعالى وصف المشركين في سائر سور القرآن أنهم أشركوا بالله ، ما لم ينزل به عليهم سلطانا ، وقال في كلّ موضع تقدّم إليهم بالزجر عن ذلك ، لا تشركوا بالله شيئا ، ولم نجد في شيء من التنزيل : لا تشركوا الله بشيء ، ولا في شيء من القرآن. خبرا من الله عنهم أنهم أشركوا الله بشيء فيجوز لنا توجيه معنى قوله( وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ ) إلى والذين هم بالشيطان مشركو الله. فبين إذًا إذ كان ذلك كذلك ، أن الهاء في قوله( وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ ) عائدة على الربّ في قوله( وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ) .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنزلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (101) }

(17/296)


قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (102)

يقول تعالى ذكره : وإذا نسخنا حكم آية ، فأبدلنا مكانه حكم أخرى ، والله أعلم بما ينزل : يقول : والله أعلم بالذي هو أصلح لخلقه فيما يبدِّل ويغير من أحكامه ، قالوا : إنما أنت مفتر يقول : قال المشركون بالله ، المكذبو رسوله لرسوله : إنما أنت يا محمد مفتر : أي مكذب تخرص بتقوّل الباطل على الله ، يقول الله تعالى بل أكثر هؤلاء القائلين لك يا محمد : إنما أنت مفتر جهال ، بأنّ الذي تأتيهم به من عند الله ناسخه ومنسوخه ، لا يعلمون حقيقة صحته.
وبنحو الذي قلنا في تأويل قوله( وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ ) قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء وحدثني المثنى ، قال : ثنا أبو حُذيفة ، قال : ثنا شبل وحدثني المثنى ، قال : أخبرنا إسحاق ، قال : ثنا عبد الله ، عن ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله( وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ ) رفعناها فأنزلنا غيرها.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد( وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ ) قال : نسخناها ، بدّلناها ، رفعناها ، وأثبتنا غيرها.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله( وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ ) هو كقوله( مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا ) .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله( وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ ) قالوا : إنما أنت مفتر ، تأتي بشيء وتنقضه ، فتأتي بغيره. قال : وهذا التبديل ناسخ ، ولا نبدل آية مكان آية إلا بنسخ.
القول في تأويل قوله تعالى : { قُلْ نزلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (102) }
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : قل يا محمد للقائلين

(17/297)


لك إنما أنت مفتر فيما تتلو عليهم من آي كتابنا ، أنزله روح القُدُس : يقول : قل جاء به جَبرئيل من عند ربي بالحقّ. وقد بيَّنت في غير هذا الموضع معنى : روح القُدس ، بما أغنى عن إعادته.
وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني عبد الأعلى بن واصل ، قال : ثنا جعفر بن عون العمَريّ ، عن موسى بن عبيدة الرَّبَذيّ ، عن محمد بن كعب ، قال : روح القُدُس : جبرئيل.
وقوله( لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا ) يقول تعالى ذكره : قل نزل هذا القرآن ناسخه ومنسوخه ، روح القدس عليّ من ربي ، تثبيتا للمؤمنين ، وتقوية لإيمانهم ، ليزدادوا بتصديقهم لناسخه ومنسوخه إيمانا لإيمانهم ، وهدى لهم من الضلالة ، وبُشرى للمسلمين الذين استسلموا لأمر الله ، وانقادوا لأمره ونهيه ، وما أنزله في آي كتابه ، فأقرّوا بكل ذلك ، وصدقوا به قولا وعملا.

(17/298)


وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ (103)

القول في تأويل قوله تعالى : { وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ (103) }
يقول تعالى ذكره : ولقد نعلم أن هؤلاء المشركين يقولون جهلا منهم : إنما يعلم محمدا هذا الذي يتلوه بشر من بني آدم ، وما هو من عند الله ، يقول الله تعالى ذكره مكذّبهم في قيلهم ذلك : ألا تعلمون كذب ما تقولون ، إن لسان الذي تلحدون إليه : يقول : تميلون إليه بأنه يعلم محمدا أعجميّ ، وذلك أنهم فيما ذُكر كانوا يزعمون أن الذي يعلِّم محمدا هذا القرآن عبد روميّ ، فلذلك قال تعالى( لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ ) يقول : وهذا القرآن لسان عربيّ مبين.
وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل على اختلاف منهم في اسم الذي كان المشركون يزعمون أنه يعلِّم محمدا صلى الله عليه وسلم هذا القرآن من البشر ، فقال بعضهم : كان اسمه بَلْعام ، وكان قَينا بمكة نصرانيا.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني أحمد بن محمد الطُّوسِيّ ، قال : ثنا

(17/298)


أبو عاصم ، قال : ثنا إبراهيم بن طَهْمان ، عن مسلم بن عبد الله المَلائي ، عن مجاهد ، عن ابن عباس ، قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلِّم قينا بمكة ، وكان أعجميّ اللسان ، وكان اسمه بَلْعام ، فكان المشركون يَرَوْن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين يدخل عليه ، وحين يخرج من عنده ، فقالوا : إنما يعلِّمه بلعام ، فأنزل الله تعالى ذكره( وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ ).
وقال آخرون : اسمه يعيش.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن وكيع ، قال : ثنا أبي ، عن سفيان ، عن حبيب ، عن عكرمة ، قال : كان النبيّ صلى الله عليه وسلم ، يقرئ غلامًا لبني المغيرة أعجميا ، قال سفيان : أراه يقال له : يَعِيش ، قال : فذلك قوله( لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ )
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله( وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ ) وقد قالت قريش : إنما يعلمه بشر ، عبد لبني الحَضْرميّ يقال له يعيش ، قال الله تعالى : ( لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ ) وكان يعيش يقرأ الكُتُب.
وقال آخرون : بل كان اسمه جَبْر.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما بلغني كثيرًا ما يجلس عند المَرْوَة إلى غلام نصراني يقال له جَبْر ، عبد لبني بياضة الحَضْرَمِيّ ، فكانوا يقولون : والله ما يعلِّم محمدا كثيرا مما يأتي به إلا جَبْرٌ النصرانيُّ غلام الحضرميّ ، فأنزل الله تعالى في قولهم( وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ ) .
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قال عبد الله بن كثير : كانوا يقولون : إنما يعلمه نصرانيّ على المَرْوة ، ويعلم محمدا رُوميّ يقولون اسمه جَبْر وكان صاحب كُتُب عبد لابن الحضرميّ ، قال الله تعالى( لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ ).

(17/299)


وقال آخرون : بل كانا غلامين اسم أحدهما يسار والآخر جَبْر.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى ، قال : ثنا عمرو بن عون ، قال : أخبرنا هشيم ، عن حُصَيْن ، عن عبد الله بن مسلم الحضرميّ : أنه كان لهم عبدان من أهل عير اليمن ، وكانا طفلين ، وكان يُقال لأحدهما يسار ، والآخر جبر ، فكانا يقرآن التوراة ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم ربما جلس إليهما ، فقال كفار قريش : إنما يجلس إليهما يتعلم منهما ، فأنزل الله تعالى( لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ ).
حدثني المثنى ، قال : ثنا معن بن أسد ، قال : ثنا خالد بن عبد الله ، عن حصين ، عن عبد الله بن مسلم الحضرميّ ، نحوه.
حدثنا ابن وكيع ، قال : ثنا ابن فضيل ، عن حصين ، عن عبد الله بن مسلم ، قال : كان لنا غلامان فكان يقرآن كتابًا لهما بلسانهما ، فكان النبيّ صلى الله عليه وسلم يمرّ عليهما ، فيقوم يستمع منهما ، فقال المشركون : يتعلم منهما ، فأنزل الله تعالى ما كذّبهم به ، فقال : ( لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ )
وقال آخرون : بل كان ذلك سَلْمان الفارسي.
* ذكر من قال ذلك : حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد بن سليمان ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله( لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ ) كانوا يقولون : إنما يعلِّمه سَلْمان الفارسي.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء وحدثني المثنى ، قال : ثنا أبو حُذيفة ، قال : ثنا شبل وحدثني المثنى ، قال : أخبرنا إسحاق ، قال : ثنا عبد الله ، عن ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد( وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ ) قال : قول كفار قريش : إنما يعلِّم محمدا عبدُ ابن الحضرميّ ، وهو صاحب كتاب ، يقول الله : ( لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ ).
وقيل : إن الذي قال ذلك رجل كاتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم

(17/300)


ارتدّ عن الإسلام.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرني يونس ، عن ابن شهاب ، قال : أخبرني سعيد بن المسيب : أن الذي ذكر الله إنما يعلمه بشر ، إنما افتتن إنه كان يكتب الوحي ، فكان يملي عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم : " سميع عليم " أو " عزيز حكيم " وغير ذلك من خواتم الآي ، ثم يشتغل عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على الوحي ، فيستفهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فيقول : أعزيز حكيم ، أو سميع عليم ، أو عزيز عليم ؟ فيقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : أيّ ذلك كتبت فهو كذلك ، ففتنه ذلك ، فقال : إن محمدا يكل ذلك إليّ ، فأكتب ما شئت ، وهو الذي ذكر في سعيد بن المسيب من الحروف السبعة.
واختلف القرّاء في قراءة قوله( يُلْحِدُونَ ) فقرأته عامَّة قرّاء المدينة والبصرة( لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ ) بضم الياء من ألحد يلحد إلحادا ، بمعنى يعترضون ، ويعدلون إليه ، ويعرجون إليه ، من قول الشاعر :
قُدْنِيَ مِنْ نَصْرِ الخبَيْبَيْنِ قَدِي... لَيْسَ أميرِي بالشَّحيحِ المُلْحِدِ (1)
وقرأ ذلك عامَّة قرّاء أهل الكوفة : (لِسَانُ الَّذِي يَلْحِدُونَ إلَيْهِ) بفتح الياء ، يعني : يميلون إليه ، من لحد فلان إلى هذا الأمر يلحد لحدا ولحودا ، وهما عندي لغتان بمعنى واحد ، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب فيهما الصواب. وقيل( وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ ) يعني : القرآن كما تقول العرب لقصيدة من الشعر يعرضها الشاعر : هذا لسان فلان ، تريد قصيدته ؛ كما قال الشاعر :
لِسانُ السُّوءِ تُهْدِيها إلَيْنَا... وحِنْتَ وَما حَسِبْتُكَ أنْ تَحِينا...
__________
(1) قدني : اسم فعل بمعنى كفى. والخبيبين : مثنى مصغر. وهما عبد الله بن الزبير وأخوه مصعب أو هما خبيب بن عبد الله بن الزبير وأحد إخوته من بني عبد الله بن الزبير ، وهم حمزة وثابت وعبادة وقيس وعامر وموسى. وقيل إن لفظ الخبيبين جمع خبيب ، يريد خبيبا ومن معه. أو يريد أنصار عبد الله بن الزبير ، وكان يلقب أبا خبيب. والملحد : قال صاحب المصباح : من ألحد في الحرم بالألف : إذا استحل حرمته وانتهكها. وألحد إلحاداً : جادل ومارى. ولحد ( بلا ألف ) بمعنى : جار وظلم. وقال أبو عبيدة في مجاز القرآن (1 : 368) " لسان الذي يلحدون إليه أعجمي " أي يعدلون إليه. ويقال : ألحد فلان : أي جار. وأعجمي : أضيف إلى أعجم اللسان. والبيتان من مشطور الرجز ، وهما لحميد الأرقط ( انظر خزانة البغدادي 2 : 453 ) .

(17/301)


إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ لَا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (104) إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ (105) مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (106)

يعني باللسان القصيدة والكلمة (1) .
القول في تأويل قوله تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ لا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (104) إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ (105) }
يقول تعالى إن الذين لا يؤمنون بحجج الله وأدلته ، فيصدّقون بما دلَّت عليه( لا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ ) يقول : لا يوفقهم الله لإصابة الحقّ ، ولا يهديهم لسبيل الرشد في الدنيا ، ولهم في الآخرة وعند الله إذا وردوا عليه يوم القيامة عذاب مؤلم موجع. ثم أخبر تعالى ذكره المشركين الذين قالوا للنبيّ صلى الله عليه وسلم : إنما أنت مفتر ، أنهم هم أهل الفرية والكذب ، لا نبيّ الله صلى الله عليه وسلم ، والمؤمنون به ، وبرأ من ذلك نبيه صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، فقال : إنما يتخرّص الكذب ، ويتقوّل الباطل ، الذين لا يصدّقون بحجج الله وإعلامه ، لأنهم لا يرجون على الصدق ثوابا ، ولا يخافون على الكذب عقابا ، فهم أهل الإفك وافتراء الكذب ، لا من كان راجيا من الله على الصدق الثواب الجزيل ، وخائفا على الكذب العقاب الأليم. وقوله( وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ ) يقول : والذين لا يؤمنون بآيات الله هم أهل الكذب لا المؤمنون.
القول في تأويل قوله تعالى : { مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (106) }
__________
(1) في (اللسان : لسن) : اللسان : جارحة الكلام ، وقد يكني بها عن الكلمة فيؤنث حينئذ قال أعشى باهلة : إني " أتتني لسان لا أسر بها " . قال ابن برى : اللسان هنا : الرسالة والمقالة. وقد يذكر على معنى الكلام ، قال الحطيئة : " ندمت على لسان فات مني " . وحان يحين حينا : هلك. وشاهد المؤلف في البيت : أن اللسان قد يحيي ، مؤنثا بمعنى الكلمة والقصيدة.

(17/302)


اختلف أهل العربية في العامل في " مَنْ " من قوله( مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ ) ومن قوله( وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا ) ، فقال بعض نحويي البصرة : صار قوله( فَعَلَيْهِمْ) خبرًا لقوله( وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا ) ، وقوله( مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ ) فأخبر لهم بخبر واحد ، وكان ذلك يدلّ على المعنى. وقال بعض نحويي الكوفة : إنما هذان جزءان اجتمعا ، أحدهما منعقد بالآخر ، فجوابهما واحد كقول القائل : من يأتنا فمن يحسن نكرمه ، بمعنى : من يحسن ممن يأتنا نكرمه. قال : وكذلك كلّ جزاءين اجتمعا الثاني منعقد بالأوّل ، فالجواب لهما واحد . وقال آخر من أهل البصرة : بل قوله( مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ ) مرفوع بالردّ على الذين في قوله( إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ) ومعنى الكلام عنده : إنما يفتري الكذب من كفر بالله من بعد إيمانه ، إلا من أكره من هؤلاء وقلبه مطمئنّ بالإيمان ، وهذا قول لا وجه له . وذلك أن معنى الكلام لو كان كما قال قائل هذا القول ، لكان الله تعالى ذكره قد أخرج ممن افترى الكذب في هذه الآية الذين وُلدوا على الكفر وأقاموا عليه ، ولم يؤمنوا قطّ ، وخصّ به الذين قد كانوا آمنوا في حال ، ثم راجعوا الكفر بعد الإيمان ، والتنزيل يدلّ على أنه لم يخصص بذلك هؤلاء دون سائر المشركين الذين كانوا على الشرك مقيمين ، وذلك أنه تعالى أخبر خبر قوم منهم أضافوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم افتراء الكذب ، فقال : ( وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنزلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ ) وكذّب جميع المشركين بافترائهم على الله وأخبر أنهم أحق بهذه الصفة من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال( إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ ) ، ولو كان الذين عنوا بهذه الآية هم الذين كفروا بالله من بعد إيمانهم ، وجب أن يكون القائلون لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، إنما أنت مفتر حين بدّل الله آية مكان آية ، كانوا هم الذين كفروا بالله بعد الإيمان خاصة دون غيرهم من سائر المشركين ، لأن هذه في سياق الخبر عنهم ، وذلك قول إن قاله قائل ، فبين فساده مع خروجه عن تأويل جميع أهل العلم بالتأويل.
والصواب من القول في ذلك عندي أن الرافع لمن الأولى والثانية ، قوله

(17/303)


( فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ ) والعرب تفعل ذلك في حروف الجزاء إذا استأنفت أحدهما على آخر.
وذكر أن هذه الآية نزلت في عمار بن ياسر وقوم كانوا أسلموا ففتنهم المشركون عن دينهم ، فثبت على الإسلام بعضهم ، وافتتن بعض.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمى ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله( مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإيمَانِ ) ... إلى آخر الآية ، وذلك أن المشركين أصابوا عمار بن ياسر فعذّبوه ، ثم تركوه ، فرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فحدّثه بالذي لقي من قريش ، والذي قال : فأنزل الله تعالى ذكره عذره( مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ ) ... إلى قوله( وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ) .
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإيمَانِ ) قال : ذُكِر لنا أنها نزلت في عمار بن ياسر ، أخذه بنو المغيرة فغطوه في بئر ميمون وقالوا : اكفر بمحمد ، فتابعهم على ذلك وقلبه كاره ، فأنزل لله تعالى ذكره( إِلا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا ) : أي من أتى الكفر على اختيار واستحباب ، ( فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ) .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن عبد الكريم الجزري ، عن أبي عبيدة بن محمد بن عمار بن ياسر ، قال : أخذ المشركون عمار بن ياسر ، فعذّبوه حتى باراهم في بعض ما أرادوا فشكا ذلك إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم : كَيْفَ تَجدُ قَلْبَكَ ؟ قال : مطمئنا بالإيمان. قال النبيّ صلى الله عليه وسلم : فإنْ عادُوا فَعُدْ " .
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : ثنا هشيم ، عن حصين ، عن أبي مالك ، في قوله( إِلا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإيمَانِ ) قال : نزلت في عمار بن ياسر.
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا جرير ، عن مغيرة ، عن الشعبي ، قال : لما

(17/304)


ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآَخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (107) أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ (108) لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآَخِرَةِ هُمُ الْخَاسِرُونَ (109)

عذّب الأعبد أعطوهم ما سألوا إلا خباب بن الأرت ، كانوا يضجعونه على الرضف فلم يستقلوا منه شيئا.
فتأويل الكلام إذن : من كفر بالله من بعد إيمانه ، إلا من أكره على الكفر ، فنطق بكلمة الكفر بلسانه وقلبه مطمئنّ بالإيمان ، موقن بحقيقته ، صحيح عليه عزمه ، غير مفسوح الصدر بالكفر ، لكن من شرح بالكفر صدرا فاختاره وآثره على الإيمان ، وباح به طائعا ، فعليهم غضب من الله ، ولهم عذاب عظيم.
وبنحو الذي قلنا في ذلك ورد الخبر ، عن ابن عباس.
حدثني عليّ بن داود ، قال : ثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس قوله( إِلا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإيمَانِ ) فأخبر الله سبحانه أنه من كفر من بعد إيمانه ، فعليه غضب من الله وله عذاب عظيم ، فأما من أكره فتكلم به لسانه وخالفه قلبه بالإيمان لينجو بذلك من عدوّه ، فلا حرج عليه ، لأن الله سبحانه إنما يأخذ العباد بما عقدت عليه قلوبهم.
القول في تأويل قوله تعالى : { ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (107) }
يقول تعالى ذكره : حلّ بهؤلاء المشركين غضب الله ، ووجب لهم العذاب العظيم ، من أجل أنهم اختاروا زينة الحياة الدنيا على نعيم الآخرة ، ولأن الله لا يوفق القوم الذين يجحدون آياته مع إصرارهم على جحودها.
القول في تأويل قوله تعالى : { أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ (108) لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الآخِرَةِ هُمُ الْخَاسِرُونَ (109) }
يقول تعالى ذكره : هؤلاء المشركون الذين وصفت لكم صفتهم في هذه الآيات أيها الناس ، هم القوم الذين طبع الله على قلوبهم ، فختم عليها بطابعه ،

(17/305)


ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (110)

فلا يؤمنون ولا يهتدون ، وأصمّ أسماعهم فلا يسمعون داعي الله إلى الهدى ، وأعمى أبصارهم فلا يبصرون بها حجج الله إبصار معتبر ومتعظ( وَأُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ ) يقول : وهؤلاء الذين جعل الله فيهم هذه الأفعال هم الساهون ، عما أعدّ الله لأمثالهم من أهل الكفر وعما يراد بهم.
وقوله( لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الآخِرَةِ هُمُ الْخَاسِرُونَ ) الهالكون ، الذين غَبَنوا أنفسهم حظوظها من كرامة الله تعالى.
القول في تأويل قوله تعالى : { ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (110) }
يقول تعالى ذكره : ثم إن ربك يا محمد للذين هاجروا من ديارهم ومساكنهم وعشائرهم من المشركين ، وانتقلوا عنهم إلى ديار أهل الإسلام ومساكنهم وأهل ولايتهم ، من بعد ما فتنهم المشركون الذين كانوا بين أظهرهم قبل هجرتهم عن دينهم ، ثم جاهدوا المشركين بعد ذلك بأيديهم بالسيف وبألسنتهم بالبراءة منهم ، ومما يعبدون من دون الله ، وصبروا على جهادهم( إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ ) يقول : إن ربك من بعد فعلتهم هذه لهم لغفور ، يقول : لذو ستر على ما كان منهم من إعطاء المشركين ما أرادوا منهم من كلمة الكفر بألسنتهم ، وهم لغيرها مضمرون ، وللإيمان معتقدون ، رحيم بهم أن يعاقبهم عليها مع إنابتهم إلى الله وتوبتهم .
وذكر عن بعض أهل التأويل أن هذه الآية نزلت في قوم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا تخلَّفوا بمكة بعد هجرة النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فاشتدّ المشركون عليهم حتى فتنوهم عن دينهم ، فأيسوا من التوبة ، فأنزل الله فيهم هذه الآية : فهاجروا ولحقوا برسول الله صلى الله عليه وسلم.
ذكر من قال ذلك : حدثني محمد بن عمرو ، قال ثنا أبو عاصم ، قال ثنا عيسى ؛ وحدثني الحارث ، قال ثنا الحسن ، قال ثنا ورقاء جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد( مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإيمَانِ ) قال ناس من أهل مكة آمنوا ، فكتب إليهم بعض أصحاب

(17/306)


النبيّ صلى الله عليه وسلم بالمدينة ، أن هاجروا ، فإنا لا نراكم منا حتى تهاجروا إلينا ، فخرجوا يريدون المدينة ، فأدركتهم قريش بالطريق ، ففتنوهم وكفروا مكرهين ، ففيهم نزلت هذه الآية.
حدثني القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، بنحوه.
قال ابن جريج : قال الله تعالى ذكره : ( مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ ) ثم نسخ واستثنى ، فقال : ( ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ ).
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله( ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ ) ذكر لنا أنه لما أنزل الله أن أهل مكة لا يُقبل منهم إسلام حتى يهاجروا ، كتب بها أهل المدينة إلى أصحابهم من أهل مكة ؛ فلما جاءهم ذلك تبايعوا بينهم على أن يخرجوا ، فإن لحق بهم المشركون ، من أهل مكة قاتلوهم حتى ينجوا أو يلحقوا بالله ، فخرجوا فأدركهم المشركون ، فقاتلوهم ، فمنهم من قُتِل ، ومنهم من نجا ، فأنزل الله تعالى( ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ) ... الآية.
حدثنا أحمد بن منصور ، قال ثنا أبو أحمد الزبيري ، قال ثنا محمد بن شريك ، عن عمرو بن دينار ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، قال : كان قوم من أهل مكة أسلموا ، وكانوا يستخفون بالإسلام ، فأخرجهم المشركون يوم بدر معهم ، فأصيب بعضهم ، وقُتِل بعض ، فقال المسلمون : كان أصحابنا هؤلاء مسلمين ، وأكرهوا فاستغفروا لهم ، فنزلت(إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم) ... إلى آخر الآية ؛ قال : وكتب إلى من بقي بمكة من المسلمين هذه الآية لا عذر لهم ، قال : فخرجوا فلحقهم المشركون ، فأعطوهم الفتنة ، فنزلت هذه الآية( وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ ) ... إلى آخر الآية ، فكتب المسلمون إليهم بذلك ، فخرجوا وأيسوا من كلّ خير ، ثم نزلت فيهم( ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ ) فكتبوا إليهم

(17/307)


بذلك : إن الله قد جعل لكم مخرجا ، فخرجوا ، فأدركهم المشركون فقاتلوهم ، ثم نجا من نجا ، وقُتِل من قُتِل.
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، قال : نزلت هذه الآية في عمَّار ابن ياسر وعياش بن أبي ربيعة ، والوليد بن الوليد( ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا ).
وقال آخرون : بل نزلت هذه الآية في شأن ابن أبي سرح.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني ابن حميد ، قال : ثنا يحيى بن واضح ، عن الحسين ، عن يزيد ، عن عكرمة والحسن البصري ، قالا في سورة النحل( مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ) ثم نسخ واستثنى من ذلك ، فقال( ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ ) وهو عبد الله بن أبي سرح الذي كان يكتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأزلَّه الشيطان ، فلحق بالكفار ، فأمر به النبيّ صلى الله عليه وسلم أن يُقتل يوم فتح مكة ، فاستجار له أبو عمرو (1) فأجاره النبيّ صلى الله عليه وسلم.
__________
(1) أبو عمرو : يريد عثمان بن عفان رحمه الله ، وكان أخا عبد الله بن سعد من الرضاعة ، قاله ابن إسحاق في السيرة.

(17/308)


يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (111)

القول في تأويل قوله تعالى : { يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (111) }
يقول تعالى ذكره : إن ربك من بعدها لغفور رحيم( يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ ) تخاصم عن نفسها ، وتحتجّ عنها بما أسلفت في الدنيا من خير أو شرّ أو إيمان أو كفر ، ( وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ ) في الدنيا من طاعة ومعصية( وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ ) : يقول : وهم لا يفعل بهم إلا ما يستحقونه ويستوجبونه بما قدّموه من خير أو شرّ ، فلا يجزى المحسن إلا بالإحسان ولا المسيء إلا بالذي أسلف

(17/308)


وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آَمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (112)

من الإساءة ، لا يعاقب محسن ولا يبخس جزاء إحسانه ، ولا يثاب مسيء إلا ثواب عمله.
واختلف أهل العربية في السبب الذي من أجله قيل تجادل ، فأنَّث الكلّ ، فقال بعض نحويِّي البصرة : قيل ذلك لأن معنى كلّ نفس : كلّ إنسان ، وأنث لأن النفس تذكر وتؤنث ، يقال : ما جاءني نفس واحد وواحدة. وكان بعض أهل العربية يرى هذا القول من قائله غلطا ويقول : كلّ إذا أضيفت إلى نكرة واحدة خرج الفعل على قدر النكرة ، كلّ امرأة قائمة ، وكل رجل قائم ، وكل امرأتين قائمتان ، وكل رجلين قائمان ، وكل نساء قائمات ، وكل رجال قائمون ، فيخرج على عدد النكرة وتأنيثها وتذكيرها ، ولا حاجة به إلى تأنيث النفس وتذكيرها.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (112) }
يقول الله تعالى ذكره : ومثل الله مثلا لمكة التي سكنها أهل الشرك بالله هي القرية التي كانت آمنة مطمئنة ، وكان أمنها أن العرب كانت تتعادى ، ويقتل بعضها بعضا ، ويَسْبي بعضها بعضا ، وأهل مكة لا يغار عليهم ، ولا يحارَبون في بلدهم ، فذلك كان أمنها. وقوله( مُطْمَئِنَّةً) يعني : قارّة بأهلها ، لا يحتاج أهلها إلى النَّجْع ، كما كان سكان البوادي يحتاجون إليها( يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا ) يقول : يأتي أهلها معايشهم واسعة كثيرة. وقوله( مِنْ كُلِّ مَكَانٍ ) يعني : من كلّ فجّ من فِجاج هذه القرية ، ومن كلّ ناحية فيها.
وبنحو الذي قلنا في أن القرية التي ذُكِرت في هذا الموضع أريد بها مكة ، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله( وَضَرَبَ

(17/309)


اللَّهُ مَثَلا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ ) يعني : مكة.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد( قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً ) قال : مكة.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد. مثله.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله( وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً ) قال : ذّكر لنا أنها مكة.
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن مَعْمر ، عن قتادة( قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً ) قال : هي مكة.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله( وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً ) ... إلى آخر الآية. قال : هذه مكة.
وقال آخرون : بل القرية التي ذكر الله في هذا الموضع مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني ابن عبد الرحيم البرقيّ ، قال : ثنا ابن أبي مريم ، قال : أخبرنا نافع بن يزيد ، قال : ثني عبد الرحمن بن شريح ، أن عبد الكريم بن الحارث الحضرميّ ، حدث أنه سمع مِشْرَح بن عاهانَ ، يقول : سمعت سليم بن نمير يقول : صدرنا من الحجّ مع حفصة زوج النبيّ صلى الله عليه وسلم ، وعثمان محصور بالمدينة ، فكانت تسأل عنه ما فعل ، حتى رأت راكبين ، فأرسلت إليهما تسألهما ، فقالا قُتِل فقالت حفصة : والذي نفسي بيده إنها القرية ، تعني المدينة التي قال الله تعالى( وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ ) قرأها ، قال أبو شريح : وأخبرني عبد الله بن المغيرة عمن حدثه ، أنه كان يقول : إنها المدينة ، وقوله : ( فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ ) يقول : فكفر أهل هذه القرية بأنعم الله التي أنعم عليها.

(17/310)


واختلف أهل العربية في واحد الأنعم ، فقال بعض نحويِّي البصرة : جمع النعمة على أنعم ، كما قال الله( حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ ) فزعم أنه جمع الشِّدّة. وقال آخر منهم الواحد نُعْم ، وقال : يقال : أيام طُعْم ونعم : أي نعيم ، قال : فيجوز أن يكون معناها : فكفرت بنعيم الله لها. واستشهد على ذلك بقول الشاعر :
وعندي قُرُوضُ الخَيرِ والشَّرّ كلِّه... فبُؤْسٌ لِذي بُؤْسٍ ونُعْمٍ بأنْعُمِ (1)
وكان بعض أهل الكوفة يقول : أنعم : جمع نعماء ، مثل بأساء وأبؤس ، وضرّاء وأضرّ ؛ فأما الأشدّ فإنه زعم أنه جمع شَدّ.
وقوله( فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ ) يقول تعالى ذكره : فأذاق الله أهل هذه القرية لباس الجوع ، وذلك جوع خالط أذاه أجسامهم ، فجعل الله تعالى ذكره ذلك لمخالطته أجسامهم بمنزلة اللباس لها. وذلك أنهم سلط عليهم الجوع سنين متوالية بدعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ، حتى أكلوا العلهز والجِيَف. قال أبو جعفر : والعلهز : الوبر يعجن بالدم والقُراد يأكلونه ؛ وأما الخوف فإن ذلك كان خوفهم من سرايا رسول الله صلى الله عليه وسلم التي كانت تطيف بهم. وقوله( بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ ) يقول : بما كانوا يصنعون من الكفر بأنعم الله ، ويجحدون آياته ، ويكذّبون رسوله ، وقال : بما كانوا يصنعون ، وقد جرى الكلام من ابتداء الآية إلى هذا الموضع على وجه الخبر عن القرية ، لأن الخبر وإن كان جرى في الكلام عن القرية ، استغناء بذكرها عن ذكر أهلها لمعرفة السامعين بالمراد منها ، فإن المراد أهلها فلذلك قيل( بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ ) فردّ الخبر إلى أهل القرية ، وذلك نظير قوله( فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ ) ولم يقل قائلة ، وقد قال قبله( فَجَاءَهَا بَأْسُنَا ) ، لأنه رجع بالخبر إلى الإخبار عن أهل القرية ، ونظائر ذلك في القرآن كثيرة.
__________
(1) في مجاز القرآن لأبي عبيدة ( 1 : 369 ) عند الآية : واحدها " نعم " بضم النون وسكون العين ، ومعناه : نعمة ، وهما واحد. قالوا : نادى منادي النبي صلى الله عليه وسلم بمنى " إنها أيام طعم ونعم ، فلا تصوموا " . وفي " اللسان : نعم " وجمع النعمة : نعم ، وأنعم. كشدة وأشد حكاه سيبويه. وقال النابغة : فَلَنْ أذْكُر النُّعْمَانَ إلاَّ بِصَالِحٍ ... فإنَّ لَهُ عِنْدِي يُدِيًّا وأنْعُما
والنعم : خلاف البؤس ، ويقال : يوم نعم ، ويوم بؤس. والجمع : أنعم ، وأبؤس.

(17/311)


وَلَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ وَهُمْ ظَالِمُونَ (113) فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاشْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (114)

القول في تأويل قوله تعالى : { وَلَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ وَهُمْ ظَالِمُونَ (113) }
يقول تعالى ذكره : ولقد جاء أهل هذه القرية التي وصف الله صفتها في هذه الآية التي قبل هذه الآية( رَسُولٌ مِنْهُمْ ) يقول : رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم ، يقول : من أنفسهم يعرفونه ، ويعرفون نسبه وصدق لهجته ، يدعوهم إلى الحقّ ، وإلى طريق مستقيم( فَكَذَّبُوهُ ) ولم يقبلوا ما جاءهم به من عند الله( فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ ) وذلك لباس الجوع والخوف مكان الأمن والطمأنينة والرزق الواسع الذي كان قبل ذلك يرزقونه ، وقتل بالسيف( وَهُمْ ظَالِمُونَ ) يقول : وهم مشركون ، وذلك أنه قتل عظماؤهم يوم بدر بالسيف على الشرك.
وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( وَلَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ ) إي والله ، يعرفون نسبه وأمره ، ( فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ وَهُمْ ظَالِمُونَ ) ، فأخذهم الله بالجوع والخوف والقتل.
القول في تأويل قوله تعالى : { فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالا طَيِّبًا وَاشْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (114) }
يقول تعالى ذكره : فكلوا أيها الناس مما رزقكم الله من بهائم الأنعام التي أحلها لكم حلالا طيبا مُذَكَّاة غير محرّمة عليكم( وَاشْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ ) يقول : واشكروا الله على نعمه التي أنعم بها عليكم في تحليله ما أحلّ لكم من ذلك ، وعلى غير ذلك من نعمه( إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ ) يقول : إن كنتم تعبدون الله ، فتطيعونه فيما يأمركم وينهاكم. وكان بعضهم يقول : إنما عنى بقوله( فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالا طَيِّبًا ) طعامًا كان بعث به رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المشركين من قومه في سِنِي الجدب والقحط رقة عليهم ، فقال الله تعالى للمشركين : فكلوا مما رزقكم الله من هذا الذي بعث به إليكم حلالا طيبا ، وذلك تأويل بعيد مما يدلّ عليه ظاهر التنزيل ، وذلك أن الله تعالى قد أتبع ذلك

(17/312)


إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (115)

بقوله : ( إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ ) ... الآية والتي بعدها ، فبين بذلك أن قوله( فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالا طَيِّبًا ) إعلام من الله عباده أن ما كان المشركون يحرّمونه من البحائر والسوائب والوصائل ، وغير ذلك مما قد بيَّنا قبل فيما مضى لا معنى له ، إذ كان ذلك من خطوات الشيطان ، فإن كلّ ذلك حلال لم يحرم الله منه شيئا.
القول في تأويل قوله تعالى : { إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنزيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (115) }
يقول تعالى ذكره مكذّبًا المشركين الذين كانوا يحرّمون ما ذكرنا من البحائر وغير ذلك : ما حرّم الله عليكم أيها الناس إلا الميتة والدم ولحم الخنزير ، وما ذبح للأنصاب ، فسمي عليه غير الله ، لأن ذلك من ذبائح من لا يحلّ أكل ذبيحته ، فمن اضطرّ إلى ذلك أو إلى شيء منه لمجاعة حلَّت فأكله( غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) يقول : ذو ستر عليه أن يؤاخذه بأكله ذلك في حال الضرورة ، رحيم به أن يعاقبه عليه.
وقد بيَّنا اختلاف المختلفين في قوله( غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ ) والصواب عندنا من القول في ذلك بشواهده فيما مضى بما أغنى عن إعادته.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله( إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ ) ... الآية قال : وإن الإسلام دين يطهره الله من كلّ سوء ، وجعل لك فيه يا ابن آدم سعة إذا اضطرت إلى شيء من ذلك. قوله( فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ ) غير باغ في أكله ولا عاد أن يتعدّى حلالا إلى حرام ، وهو يجد عنه مندوحة.
القول في تأويل قوله تعالى

(17/313)


وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ (116) مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (117)

{ وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ (116) مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (117) }
اختلفت القرّاء في قراءة ذلك ، فقرأته عامَّة قرّاء الحجاز والعراق( وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ ) فتكون تصف الكذب ، بمعنى : ولا تقولوا لوصف ألسنتكم الكذب ، فتكون " ما " بمعنى المصدر. وذُكر عن الحسن البصري أنه قرأ(وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبِ) هذا بخفض الكذب ، بمعنى : ولا تقولوا للكذب الذي تصفه ألسنتكم( هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ ) فيجعل الكذب ترجمة عن " ما " التي في لمَا ، فتخفضه بما تخفض به " ما " . وقد حُكي عن بعضهم : (لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكُذُبُ) يرفع الكُذُب ، فيجعل الكُذُب من صفة الألسنة ، ويخرج على فُعُل على أنه جمع كُذُوب وكذب ، مثل شُكُور وشُكُر.
والصواب عندي من القراءة في ذلك نصب الكَذِب لإجماع الحجة من القرّاء عليه ، فتأويل الكلام إذ كان ذلك كذلك لما ذكرنا : ولا تقولوا لوصف ألسنتكم الكذبَ فيما رزق الله عباده من المطاعم : هذا حلال ، وهذا حرام ، كي تفتروا على الله بقيلكم ذلك الكذبَ ، فإن الله لم يحرم من ذلك ما تُحرِّمون ، ولا أحلّ كثيًرا مما تُحِلون ، ثم تقدّم إليهم بالوعيد على كذبهم عليه ، فقال( إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ ) يقول : إن الذين يتخرّصون على الله الكذب ويختلقونه ، لا يخلَّدون في الدنيا ، ولا يبقون فيها ، إنما يتمتعون فيها قليلا. وقال( مَتَاعٌ قَلِيلٌ ) فرفع ، لأن المعنى الذي هم فيه من هذه الدنيا متاع قليل ، أو لهم متاع قليل في الدنيا. وقوله( وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ) يقول : ثم إلينا مرجعهم ومعادهم ، ولهم على كذبهم وافترائهم على الله بما كانوا يفترون عذاب عند مصيرهم إليه أليم.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ؛ وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، جميعا

(17/314)


وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (118)

عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قول الله تعالى( لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ ) في البحيرة والسائبة.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، قال : البحائر والسوائب.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (118) }
يقول تعالى ذكره : وحرّمنا من قبلك يا محمد على اليهود ، ما أنبأناك به من قبل في سورة الأنعام ، وذاك كلّ ذي ظفر ، ومن البقر والغنم ، حرمنا عليهم شحومهما ، إلا ما حملت ظُهورهما أو الحوايا ، أو ما اختلط بعظم( وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ ) بتحريمنا ذلك عليهم( وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ) فجزيناهم ذلك ببغيهم على ربهم ، وظُلمِهم أنفسهم بمعصية الله ، فأورثهم ذلك عقوبة الله.
وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني يعقوب ، قال : ثنا ابن عُلَية ، عن أبى رجاء ، عن الحسن ، في قوله( وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ ) قال : في سورة الأنعام.
حدثني يعقوب ، قال : ثنا ابن عُلَية ، عن أيوب ، عن عكرمة ، في قوله( وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ ) قال في سورة الأنعام.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله( وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ ) قال : ما قصّ الله تعالى في سورة الأنعام حيث يقول( وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ ) ... الآية.

(17/315)


ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (119)

القول في تأويل قوله تعالى : { ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (119) }

(17/315)


إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (120) شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (121)

يقول تعالى ذكره : إن ربك للذين عصوا الله فجهلوا بركوبهم ما ركبوا من معصية الله ، وسَفُهوا بذلك ثم راجعوا طاعة الله والندم عليها ، والاستغفار والتوبة منها ، من بعد ما سلف منهم ما سلف من ركوب المعصية ، وأصلح فعمل بما يحبّ الله ويرضاه( إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا ) يقول : إن ربك يا محمد من بعد توبتهم له( لَغَفُورٌ رَحِيمٌ ) .
القول في تأويل قوله تعالى : { إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (120) شَاكِرًا لأنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (121) }
يقول تعالى ذكره : إن إبراهيم خليل الله كان مُعَلِّم خَيْر ، يأتمّ به أهل الهدى قانتا ، يقول : مطيعًا لله حنيفا : يقول : مستقيما على دين الإسلام( وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ) يقول : ولم يك يُشرك بالله شيئا ، فيكون من أولياء أهل الشرك به ، وهذا إعلام من الله تعالى أهل الشرك به من قريش أن إبراهيم منهم بريء وأنهم منه برآء( شَاكِرًا لأنْعُمِهِ ) يقول : كان يخلص الشكر لله فيما أنعم عليه ، ولا يجعل معه في شكره في نعمه عليه شريكا من الآلهة والأنداد وغير ذلك ، كما يفعل مشركو قريش( اجْتَبَاهُ ) يقول : اصطفاه واختاره لخُلته( وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ) يقول : وأرشده إلى الطريق المستقيم ، وذلك دين الإسلام لا اليهودية ولا النصرانية.
وبنحو الذي قلنا في معنى( أُمَّةً قَانِتًا ) قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني زكريا بن يحيى ، قال : ثنا ابن إدريس ، عن الأعمش ، عن الحكم ، عن يحيى بن الجزار ، عن أبي العُبَيدين ، أنه جاء إلى عبد الله فقال : من نسأل إذا لم نسألك ؟ فكأنّ ابن مسعود رقّ له ، فقال : أخبرني عن الأمَّة ، قال : الذي يُعلَّم الناس الخير.
حدثنا محمد بن بشار ، قال : ثنا أبو أحمد ، قال : ثنا سفيان ، عن سلمة بن كهيل ، عن مسلم البطين ، عن أبي العُبَيدين أنه سأل عبد الله بن مسعود ، عن

(17/316)


الأمَّة القانت ، قال : الأمَّة : معلم الخير ، والقانت : المطيع لله ورسوله.
حدثني يعقوب ، قال : ثنا ابن عُلَية ، عن منصور ، يعني ابن عبد الرحمن ، عن الشعبي ، قال : ثني فروة بن نوفل الأشجعي ، قال : قال ابن مسعود : إن معاذا كان أُمَّة قانتا لله حنيفا ، فقلت في نفسي : غلط أبو عبد الرحمن ، إنما قال الله تعالى( إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ ) فقال : تدري ما الأمَّة ، وما القانت ؟ قلت : الله أعلم ، قال : الأمَّة : الذي يعلم الخير ، والقانت : المطيع لله ولرسوله ، وكذلك كان مُعاذ بن جبل يعلم الخير ، وكان مطيعًا لله ولرسوله.
حدثنا محمد بن المثنى ، قال : ثنا محمد بن جعفر ، قال : ثنا شعبة ، قال : سمعت فراسا يحدّث ، عن الشعبيّ ، عن مسروق ، عن عبد الله بن مسعود ، أنه قال : إن مُعاذا كان أُمَّة قانتًا لله ، قال : فقال رجل من أشجع يُقال له فروة بن نوفل : نسي إنما ذاك إبراهيم ، قال : فقال عبد الله : من نسي إنما كنا نشبهه بإبراهيم ، قال : وسُئِل عبد الله عن الأمَّة ، فقال : معلم الخير ، والقانت : المطيع لله ورسوله.
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا عبد الرحمن ، قال : ثنا سفيان ، عن فراس ، عن الشعبيّ ، عن مسروق قال : قرأت عند عبد الله هذه الآية( إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ ) فقال : كان معاذ أُمَّةً قانتًا ، قال : هل تدري ما الأمَّة ، الأمَّة الذي يعلم الناس الخير ، والقانت : الذي يطيع الله ورسوله.
حدثنا أبو هشام الرفاعيّ ، قال : ثنا ابن فضيل ، قال : ثنا بيان بن بشر البَجَلي ، عن الشعبيّ ، قال : قال عبد الله : إن معاذا كان أُمَّة قانتا لله حنيفا ولم يك من المشركين ، فقال له رجل : نسيت ، قال : لا ولكنه شبيه إبراهيم ، والأمَّة : معلِّم الخير ، والقانت : المطيع.
حدثني عليّ بن سعيد الكندي ، قال : ثنا عبد الله بن المبارك ، عن ابن عون ، عن الشعبيّ ، في قوله : ( إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا ) قال : مطيعا.
حدثنا أبو كريب ، قال : ثنا أبو بكر ، قال : قال عبد الله : إن معاذا

(17/317)


كان أُمَّة قانتا معلِّم الخير.
وذُكر في الأمَّة أشياء مختلف فيها ، قال( وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ ) يعني : بعد حين و( أُمَّةً وَسَطًا ).
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا حكام ، عن سعيد بن سابق ، عن ليث ، عن شَهْر بن حَوْشَب ، قال : لم تبق الأرض إلا وفيها أربعة عشر يدفع الله بهم عن أهل الأرض وتخرج بركتها ، إلا زمن إبراهيم فإنه كان وحده.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : أخبرنا هشيم ، قال : أخبرنا سيار ، عن الشعبيّ ، قال : وأخبرنا زكريا ومجالد ، عن الشعبيّ ، عن مسروق ، عن ابن مسعود ، نحو حديث يعقوب ، عن ابن عُلَية وزاد فيه : الأمَّة : الذي يعلم الخير ويُؤْتمّ به ، ويقتدى به ؛ والقانت : المطيع لله وللرسول ، قال له أبو فروة الكندي : إنك وهمت.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ؛ وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد( إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً ) على حدة( قَانِتًا لِلَّهِ ) قال : مطيعا.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله ، إلا أنه قال : مطيعًا لله في الدنيا.
قال ابن جريج : وأخبرني عويمر ، عن سعيد بن جبير ، أنه قال : قانتًا : مطيعًا.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله( إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ ) قال : كان إمام هُدًى مطيعًا تُتَّبع سُنَّته ومِلَّته.
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا محمد بن ثور ، عن مَعْمر ، عن قتادة ، أن ابن مسعود قال : إن مُعاذ بن جَبَلْ كان أُمَّةً قانتا ، قال غير قتادة : قال ابن مسعود : هل تدرون : ما الأمَّة ؟ الذي يعلم الخير.
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا الثوريّ ، عن فراس ، عن الشعبيّ ، عن مسروق ، قال : قرأت عند عبد الله بن مسعود( إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا ) فقال : إن معاذا كان أُمَّةً قانتا ، قال : فأعادوا ، فأعاد عليهم ، ثم قال : أتدرون ما الأمَّة ؟ الذي يعلم الناس الخير ، والقانت : الذي

(17/318)


وَآَتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآَخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (122) ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (123) إِنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (124)

يطيع الله.
وقد بيَّنا معنى الأمَّة ووجوهها ، ومعنى القانت باختلاف المختلفين فيه في غير هذا الموضع من كتابنا بشواهده ، فأغنى بذلك عن إعادته في هذا الموضع.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (122) }
يقول تعالى ذكره : وآتينا إبراهيم على قنوته لله ، وشكره له على نعمه ، وإخلاصه العبادة له في هذه الدنيا ذكرًا حسنا ، وثناءً جميلا باقيا على الأيام( وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ ) يقول : وإنه في الدار الآخرة يوم القيامة لممن صلح أمره وشأنه عند الله ، وحَسُنت فيها منزلته وكرامته.
وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ؛ وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد( وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً ) قال : لسان صدق.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً ) فليس من أهل دين إلا يتولاه ويرضاه.
القول في تأويل قوله تعالى : { ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (123) إِنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (124) }
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : ثم أوحينا إليك

(17/319)


يا محمد وقلنا لك : اتبع ملة إبراهيم الحنيفية المسلمة( حَنِيفًا ) يقول : مسلما على الدين الذي كان عليه إبراهيم ، بريئًا من الأوثان والأنداد التي يعبدها قومك ، كما كان إبراهيم تبرأ منها.
وقوله( إِنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ ) يقول تعالى ذكره : ما فرض الله أيها الناس تعظيم يوم السبت إلا على الذين اختلفوا فيه ، فقال بعضهم : هو أعظم الأيام ، لأن الله تعالى فرغ من خلق الأشياء يوم الجمعة ، ثم سَبَتَ يوم السبت.
وقال آخرون : بل أعظم الأيام يوم الأحد ، لأنه اليوم الذي ابتدأ فيه خلق الأشياء ، فاختاروه وتركوا تعظيم يوم الجمعة الذي فَرَض الله عليهم تعظيمه واستحلوه.
وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ؛ وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد( إِنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ ) اتبعوه وتركوا الجمعة.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله.
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة( إِنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ ) قال : أرادوا الجمعة فأخطئوا ، فأخذوا السبت مكانه.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله( إِنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ ) استحله بعضهم ، وحرّمه بعضهم.
حدثنا أبو كريب ، قال : ثنا ابن يُمان ، قال : ثنا سفيان ، عن السديّ ، عن أبي مالك وسعيد بن جُبير( إِنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ ) قال : باستحلالهم يوم السبت.
حدثني يونس ، قال : أخبرني ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله( إِنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ ) قال : كانوا يطلبون يوم الجمعة

(17/320)


ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (125)

فأخطئوه ، وأخذوا يوم السبت فجعله عليهم.
وقوله( وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ) يقول تعالى ذكره : إن ربك يا محمد ليحكم بين هؤلاء المختلفين بينهم في استحلال السبت وتحريمه عند مصيرهم إليه يوم القيامة ، فيقضي بينهم في ذلك وفي غيره مما كانوا فيه يختلفون في الدنيا بالحق ، ويفصل بالعدل بمجازاة المصيب فيه جزاءه والمخطئ فيه منهم ما هو أهله.
القول في تأويل قوله تعالى : { ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (125) }
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم( ادْعُ ) يا محمد من أرسلك إليه ربك بالدعاء إلى طاعته( إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ ) يقول : إلى شريعة ربك التي شرعها لخلقه ، وهو الإسلام( بِالْحِكْمَةِ ) يقول بوحي الله الذي يوحيه إليك وكتابه الذي ينزله عليك( وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ) يقول : وبالعبر الجميلة التي جعلها الله حجة عليهم في كتابه ، وذكّرهم بها في تنزيله ، كالتي عدّد عليهم في هذه السورة من حججه ، وذكّرهم فيها ما ذكرهم من آلائه( وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ) يقول : وخاصمهم بالخصومة التي هي أحسن من غيرها أن تصفح عما نالوا به عرضك من الأذى ، ولا تعصه في القيام بالواجب عليك من تبليغهم رسالة ربك.
وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ؛ وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قول الله : ( وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ) أعرض عن أذاهم إياك.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ،

(17/321)


وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ (126)

عن مجاهد ، مثله.
وقوله( إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ ) يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : إن ربك يا محمد هو أعلم بمن جار عن قصد السبيل من المختلفين في السبت وغيره من خلقه ، وحادّ الله ، وهو أعلم بمن كان منهم سالكا قصد السبيل ومَحَجة الحقّ ، وهو مُجازٍ جميعهم جزاءهم عند ورودهم عليه.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ (126) }
يقول تعالى ذكره للمؤمنين : وإن عاقبتم أيها المؤمنون من ظلمكم واعتدى عليكم ، فعاقبوه بمثل الذي نالكم به ظالمكم من العقوبة ، ولئن صبرتم عن عقوبته ، واحتسبتم عند الله ما نالكم به من الظلم ، ووكلتم أمره إليه ، حتى يكون هو المتولى عقوبته( لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ ) يقول : للصبر عن عقوبته بذلك خير لأهل الصبر احتسابا ، وابتغاء ثواب الله ، لأن الله يعوّضه مِنَ الذي أراد أن يناله بانتقامه من ظالمه على ظلمه إياه من لذّة الانتصار ، وهو من قوله( لَهُوَ ) كناية عن الصبر ، وحسن ذلك ، وإن لم يكن ذكر قبل ذلك الصبر لدلالة قوله : ( وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ ) عليه.
وقد اختلف أهل التأويل في السبب الذي من أجله نزلت هذه الآية. وقيل : هي منسوخة أو محكمة ، فقال بعضهم : نزلت من أجل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه أقسموا حين فعل المُشركون يوم أُحد ما فعلوا بقتلى المسلمين من التمثيل بهم أن يجاوزوا فعلهم في المُثْلة بهم إن رزقوا الظفر عليهم يومًا ، فنهاهم الله عن ذلك بهذه الآية وأمرهم أن يقتصروا في التمثيل بهم إن هم ظفروا على مثل الذي كان منهم ، ثم أمرهم بعد ذلك بترك التمثيل ، وإيثار الصبر عنه بقوله( وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلا بِاللَّهِ ) فنسخ بذلك عندهم ما كان أذن لهم فيه من المُثلة.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : ثنا المعتمر ،

(17/322)


قال : سمعت داود ، عن عامر : أن المسلمين قالوا لما فعل المشركون بقتلاهم يوم أُحد : لئن ظهرنا عليهم لنفعلنّ ولنفعلنّ ، فأنزل الله تعالى( وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ ) قالوا : بل نصبر.
حدثنا محمد بن المثنى ، قال : ثنا عبد الوهاب ، قال : ثنا داود ، عن عامر ، قال : لما رأى المسلمون ما فعل المشركون بقتلاهم يوم أُحد ، من تبقير البطون ، وقطع المذاكير ، والمُثلة السيئة ، قالوا : لئن أظفرنا الله بهم ، لنفعلنّ ولنفعلنّ ، فأنزل الله فيهم( وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلا بِاللَّهِ ) .
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، عن محمد بن إسحاق ، عن بعض أصحابه ، عن عطاء بن يسار ، قال : نزلت سورة النحل كلها بمكة ، وهي مكية ، إلا ثلاث آيات في آخرها نزلت في المدينة بعد أُحد ، حيث قُتِل حمزة ومُثِّل بِه ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لَئِنْ ظَهَرْنا عَلَيْهمْ لَنُمَثِّلَنَّ بِثَلاثِينَ رَجُلا مِنْهُمْ " فلما سمع المسلمون بذلك ، قالوا : والله لئن ظهرنا عليهم لنمثلنّ بهم مُثْلة لم يمثِّلْها أحد من العرب بأحد قطُّ فأنزل الله( وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ ) ... إلى آخر السورة.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : ثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة( وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ ) قال المسلمون يوم أُحد (1) فقال( وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ ) ... إلى قوله : ( لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ ) ثم قال بعد( وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلا بِاللَّهِ ).
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : لما أصيب في أهل أُحد المُثَل ، فقال : المسلمون : لئن أصبناهم لنمثلنّ بهم ، فقال الله : ( وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ ) ثم عزم وأخبر فلا يمثل ، فنهي عن المُثَل ، قال : مثَّل الكفار بقتلى أُحد ، إلا حنظلة بن الراهب ، كان الراهب أبو عامر مع أبي سفيان ، فتركوا حنظلة لذلك.
__________
(1) أي مقالهم السابق : لئن ظهرنا ... الخ .

(17/323)


وقال آخرون : نسخ ذلك بقوله في براءة : ( اقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ ) قالوا : وإنما قال : ( وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ ) خبرًا من الله للمؤمنين أن لا يبدءوهم بقتال حتى يبدءوهم به ، فقال : ( وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ ) .
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله( وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ ) قال : هذا خبر من الله نبيه أن يُقاتل من قاتله. قال : ثم نزلت براءة ، وانسلاخ الأشهر الحرم ، قال : فهذا من المنسوخ.
وقال آخرون : بل عنى الله تعالى بقوله : ( وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلا بِاللَّهِ ) نبيّ الله خاصة دون سائر أصحابه ، فكان الأمر بالصبر له عزيمة من الله دونهم.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : ( وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ ) قال : أمرهم الله أن يعفوا عن المشركين ، فأسلم رجال لهم منعة ، فقالوا : يا رسول الله ، لو أذن الله لنا لانتصرنا من هؤلاء الكلاب ، فنزل القرآن( وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ ) واصبر أنت يا محمد ، ولا تكن في ضيق ممن ينتصر ، وما صبرك إلا بالله ، ثم نسخ هذا وأمره بجهادهم ، فهذا كله منسوخ.
وقال آخرون : لم يُعْنَ بهاتين الآيتين شيء مما ذكر هؤلاء ، وإنما عُنِيَ بهما أن من ظُلِم بظُلامة ، فلا يحلّ له أن ينال ممن ظلمه أكثر مما نال الظالم منه ، وقالوا : الآية محكمة غير منسوخة.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا الثوري ، عن خالد ، عن ابن سيرين( وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ ) يقول : إن أخذ منك رجل شيئا ، فخذ منه مثله.
حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا الثوري ، عن منصور ، عن إبراهيم ، قال : إن أخذ منك شيئا فخذ منه مثله. قال الحسن : قال عبد الرزاق : قال سفيان : ويقولون : إن أخذ منك دينارًا فلا تأخذ منه

(17/324)


وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (127)

إلا دينارًا ، وإن أخذ منك شيئا فلا تأخذ منه إلا مثل ذلك الشيء.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ؛ وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد( وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ ) لا تعتدوا.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله.
والصواب من القول في ذلك أن يقال : إن الله تعالى ذكره أمر من عوقب من المؤمنين بعقوبة أن يعاقب من عاقبه بمثل الذي عوقب به ، إن اختار عقوبته ، وأعلمه أن الصبر على ترك عقوبته ، على ما كان منه إليه خير وعزم على نبيه صلى الله عليه وسلم أن يصبر ، وذلك أن ذلك هو ظاهر التنزيل ، والتأويلات التي ذكرناها عمن ذكروها عنه ، محتملها الآية كلها. فإذا كان ذلك كذلك ، ولم يكن في الآية دلالة على أيّ ذلك عنى بها من خبر ولا عقل كان الواجب علينا (1) الحكم بها إلى ناطق لا دلالة عليه ؛ وأن يقال : هي آية محكمة أمر الله تعالى ذكره عباده أن لا يتجاوزوا فيما وجب لهم قِبَل غيرهم من حقّ من مال أو نفس ، الحقّ الذي جعله الله لهم إلى غيره ، وأنها غير منسوخة ، إذ كان لا دلالة على نسخها ، وأن للقول بأنها محكمة وجهًا صحيحًا مفهوما.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلا بِاللَّهِ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (127) }
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : واصبر يا محمد على ما أصابك من أذى في الله.( وَمَا صَبْرُكَ إِلا بِاللَّهِ ) يقول : وما صبرك إن صبرت إلا بمعونة الله ، وتوفيقه إياك لذلك( وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ ) يقول : ولا تحزن على هؤلاء المشركين الذين يكذّبونك وينكرون ما جئتهم به في آن ولوا عنك وأعرضوا عما أتيتهم به من النصيحة( وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ ) يقول : ولا يضق صدرك بما يقولون من الجهل ، ونسبتهم ما جئتهم به إلى أنه سحر أو
__________
(1) لعله كان الواجب علينا تعميم الحكم بها ، لا تأويلها إلى خاص لا دلالة عليه ... الخ .

(17/325)


إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ (128)

شعر أو كهانة ، مما يمكرون : مما يحتالون بالخدع في الصّد عن سبيل الله ، من أراد الإيمان بك ، والتصديق بما أنزل الله إليك.
واختلفت القرّاء في قراءة ذلك ، فقرأته عامَّة قرّاء العراق( وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ ) بفتح الضَّاد في الضيق على المعنى الذي وصفت من تأويله. وقرأه بعض قرّاء أهل المدينة( وَلا تَكُ فِي ضِيقٍ ) بكسر الضاد.
وأولى القراءتين بالصواب في ذلك عندنا قراءة من قرأه في ضَيْقٍ ، بفتح الضاد ، لأن الله تعالى إنما نهى نبيه صلى الله عليه وسلم أن يَضيق صدره مما يلقى من أذى المشركين على تبليغه إياهم وحي الله وتنزيله ، فقال له( فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ ) وقال : ( فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْلا أُنزلَ عَلَيْهِ كَنز أَوْ جَاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ ) ، وإذ كان ذلك هو الذي نهاه تعالى ذكره ، ففتح الضاد هو الكلام المعروف من كلام العرب في ذلك المعنى ، تقول العرب : في صدري من هذا الأمر ضيق ، وإنما تكسر الضاد في الشيء المعاش ، وضيق المسكن ، ونحو ذلك ؛ فإن وقع الضَّيق بفتح الضاد في موضع الضِّيق بالكسر. كان على الذي يتسع أحيانا ، ويضيق من قلة أحد وجهين ، إما على جمع الضيقة ، كما قال أعشى بني ثعلبة :
فَلَئِنْ رَبُّكَ مِنْ رَحْمَتِهِ... كَشَف الضَّيْقَةَ عَنَّا وَفسَحْ (1)
والآخر على تخفيف الشيء الضَّيِّق ، كما يخفف الهيِّن اللَّيِّن ، فيقال : هو هَيْن لَيْن.
القول في تأويل قوله تعالى : { إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ (128) }
__________
(1) البيت في ديوان أعشى بني ثعلبة ميمون بن قيس (طبع القاهرة ص 237 ) من قصيدة يمدح بها إياس بن قبيصة الطائي ، وهو الرابع في القصيدة. وفي (اللسان : ضيق ) : الضيق : الشك يكون في القلب من قوله تعالى : (ولا تك في ضيق مما يمكرون) : وقال الفراء : الضيق ما ضاق عنه صدرك. والضيق (بالكسر) ما يكون في الذي يتسع ويضيق ، مثل الدار والثوب. وإذا رأيت الضيق (بالفتح ) قد وقع في موضع الضيق (بالكسر) كان على أحد أمرين : أحدهما أن يكون جمعا للضيقة كما قال الأعشى : فلئن ربك ... الخ البيت. والوجه الآخر : أن يراد به شيء ضيق ، فيكون ضيق مخففا ، وأصله التشديد ، ومثله : هين ولين.

(17/326)


يقول تعالى ذكره( إِنَّ اللَّهَ ) يا محمد( مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا ) الله في محارمه فاجتنبوها ، وخافوا عقابه عليها ، فأحجموا عن التقدّم عليها( وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ ) يقول : وهو مع الذين يحسنون رعاية فرائضه ، والقيام بحقوقه ، ولزوم طاعته فيما أمرهم به ونهاهم عنه.
وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا حكام ، عن سفيان ، عن رجل ، عن الحسن( إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ ) قال : اتقوا الله فيما حرّم عليهم ، وأحسنوا فيما افترض عليهم.
حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن رجل ، عن الحسن ، مثله.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قال : ذكر لنا أن هَرِم بن حَيان العَبْدِي لما حضره الموت ، قيل له : أوص ، قال : ما أدري ما أُوصي ، ولكن بيعوا درعي ، فاقضوا عني ديني ، فإن لم تف ، فبيعوا فرسي ، فإن لم يف فبيعوا غلامي ، وأوصيكم بخواتيم سورة النحل( ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ ) ذُكر لنا أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم لما نزلت هذه الآية قال بَلْ نَصْبرُ " .
آخر سورة النحل

(17/327)


* * *

(17/328)


تفسير سورة الإسراء
بسم الله الرحمن الرحيم

(17/328)


سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آَيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (1)

القول في تأويل قوله تعالى : { سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (1) }
قال أبو جعفر محمد بن جرير الطبري : يعني تعالى ذكره بقوله تعالى(سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلا) تنزيها للذي أسرى بعبده وتبرئة له مما يقول فيه المشركون من أنَّ له من خلقه شريكا : وأن له صاحبة وولدا ، وعلوّا له وتعظيما عما أضافوه إليه ، ونسبوه من جهالاتهم وخطأ أقوالهم.
وقد بيَّنت فيما مضى قبل ، أن قوله : سبحان : اسم وُضع موضع المصدر ، فنصب لوقوعه موقعه بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. وقد كان بعضهم يقول : نصب لأنه غير موصوف ، وللعرب في التسبيح أماكن تستعمله فيها ، فمنها الصلاة ، كان كثير من أهل التأويل يتأوّلون قول الله(فَلَوْلا أَنَّهُ كانَ مِنَ المُسَبِّحِينَ) : فلولا أنه كان من المصلين. ومنها الاستثناء ، كان بعضهم يتأول قول الله تعالى(ألَمْ أقُلْ لَكُمْ لَوْلا تُسَبِّحُونَ) : لولا تستثنون ، وزعم أن ذلك لغة لبعض أهل اليمن ، ويستشهد لصحة تأويله ذلك بقوله( إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ وَلا يَسْتَثْنُونَ )( قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلا تُسَبِّحُونَ ) فذكرهم تركهم الاستثناء. ومنها النور ، وكان بعضهم يتأوّل في الخبر الذي رُوي عن النبيّ صلى الله عليه وسلم : " لَولا ذلكَ لأحْرَقَتْ سُبُحاتُ وَجْهِهِ ما أدْرَكَتْ مِنْ شَيْء " أنه عنى بقوله سبحات وجهه : نور وجهه.
وبنحو الذي قلنا في تأويل قوله(سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ) ، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ،

(17/329)


قال : أخبرنا الثوريّ ، عن عثمان بن موهب ، عن موسى بن طلحة ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم " أنه سُئل عن التسبيح أن يقول الإنسان : سُبْحان الله ، قال : " إنزاهُ الله عَنِ السُّوءِ " .
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثنا عبدة بن سليمان ، عن الحسن بن صالح ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد قوله : سبحان الله : قال : إنكاف لله. وقد ذكرنا من الآثار في ذلك ما فيه الكفاية فيما مضى من كتابنا هذا قبل. والإسراء والسُّرى : سير الليل. فمن قال : أسَرْى ، قال : يُسري إسراء ؛ ومن قال : سرى ، قال : يَسري سرى ، كما قاله الشاعر :
ولَيْلَةٍ ذَاتِ دُجىً سَرَبْتُ... ولَمْ يَلِتْنِي عَنْ سُواها لَيْتُ (1)
ويروى : ذات ندى سَريْت.
ويعني بقوله(لَيْلا) من الليل. وكذلك كان حُذيفة بن اليمان يقرؤها.
حدثنا أبو كريب ، قال : سمعت أبا بكر بن عياش ورجل يحدّث عنده بحديث حين أسري بالنبيّ صلى الله عليه وسلم فقال له : لا تجيء بمثل عاصم ولا زر ، قال : قرأ حُذيفة : (سُبْحانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ مِنَ اللَّيْلِ مِنَ الْمَسْجِدِ الحَرَام إلى المَسْجِدِ الأقْصَى) وكذا قرأ عبد الله.
وأما قوله(مِنَ المَسْجِدِ الحَرَام) فإنه اختُلف فيه وفي معناه ، فقال بعضهم : يعني من الحرم ، وقال : الحرم كله مسجد. وقد بيَّنا ذلك في غير
__________
(1) البيتان في (اللسان : ليت) شاهدا على أنه لاته عن وجهه يليته ويلوته ليتا : حبسه عن وجهه وصرفه قال الراجز : " وليلة ذات سرى سريت " .... إلخ. وقيل معنى هذا : لم يلتني عن سراها أن أتندم فأقول : ليتني ما سريتها. وقيل معناه : لم يصرفني عن سراها صارف ، أي لم يلتني لائت ، فوضع المصدر موضع الاسم . وفي التهذيب : أن لم يلتني عنها نقص ولا عجز . وكذلك ألاته عن وجهه : فعل وأفعل : بمعنى . أ هـ . و (في اللسان : سرى) السرى : سير الليل : عامته ، وقيل السرى : سير الليل كله ، تذكره العرب وتؤنثه . وسريت سرى ومسرى ، وأسريت : بمعنى : إذا سرت ليلا . بالألف : لغة أهل الحجاز. وجاء القرآن العزيز بهما جميعا. أ هـ . وعلى هذا استشهد المؤلف بالبيت. وقال السهيلي في الروض الأنف (1 : 243) اتفقت الرواة على تسميته إسراء ، ولم يسمه أحد منهم سرى ، وإن كان أهل اللغة قد قالوا : سرى ، وأسرى بمعنى واحد ، فدل على أن أهل اللغة لم يحققوا في العبارة .. إلى أن قال : لا يجوز أن يقال : سرى بعبده ، بوجه من الوجوه ؛ فلذلك لم تأت التلاوة إلا بوجه واحد في هذه القصة. أ ه.

(17/330)


موضع من كتابنا هذا. وقال : وقد ذُكر لنا أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان ليلة أُسري به إلى المسجد الأقصى كان نائما في بيت أمّ هانئ ابنة أبي طالب.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، قال : ثنا محمد بن إسحاق ، قال : ثني محمد بن السائب ، عن أبي صالح بن باذام عن أمّ هانئ بنت أبي طالب ، في مسرى النبيّ صلى الله عليه وسلم ، أنها كانت تقول : ما أُسري برسول الله صلى الله عليه وسلم إلا وهو في بيتي نائم عندي تلك الليلة ، فصلى العشاء الآخرة ، ثم نام ونمنا ، فلما كان قُبيل الفجر ، أهبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما صلى الصبح وصلينا معه قال : " يا أمّ هانِئٍ لَقَدْ صَلَّيْتُ مَعَكُمْ العِشاءَ الآخِرَةَ كَمَا رأيْت بِهَذَا الوَادِي ، ثُمَّ جِئْتُ بَيْتَ المَقْدِسِ فَصَلَّيْتُ فِيهِ ، ثُمَّ صَلَّيْتُ صَلاةَ الغدَاةِ مَعَكُمُ الآنَ كَمَا تَرينَ " .
وقال آخرون : بل أُسري به من المسجد ، وفيه كان حين أسري به.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن بشار ، قال : ثنا محمد بن جعفر بن عدي ، عن سعيد بن أبي عروبة ، عن قتادة ، عن

(17/331)


أنس بن مالك عن مالك بن صعصعة ، وهو رجل من قومه قال : قال نبيّ الله صلى الله عليه وسلم : " بَيْنا أَنا عِنْدَ البَيْتِ بينَ النَّائِم واليَقْظَانِ ، إِذْ سَمعْتُ قائلا يَقُولُ أَحَدُ الثلاثَةِ ، فأتيت بطسْتٍ مِنْ ذَهَبٍ فِيهَا مِنْ ماءِ زَمْزَمَ ، فَشَرَحَ صَدْرِي إلى كَذَا وكَذَا ، قال قتادة : قلت : ما يعني به ؟ قال : إلى أسفل بطنه ؛ قال : فاسْتَخْرَجَ قَلْبِي فَغُسلَ بِمَاءِ زَمْزَمَ ثُمَّ أُعِيدَ مَكَانَهُ ، ثُمَّ حُشِيَ إِيمَانا وَحِكْمَةً ، ثُمَّ أتِيتُ بِدَابَّةٍ أبْيَض " ، وفي رواية أخرى : " بِدَابَّة بَيْضَاءُ يُقال لَهُ البُرَاقُ ، فَوْقَ الحِمارِ وَدُونَ البَغْلِ يَقَعُ خَطْوُهُ مُنْتَهَى طَرْفِهِ ، فحُمِلْتُ عَلَيْه ثُمَّ انْطَلَقْنا حتى أتَيْنَا إلى بَيْتِ المَقْدِسِ فَصَلَّيْتُ فِيهِ بالنَّبِيينَ والمُرْسَلِينَ إماما ، ثُمَّ عُرِجَ بِي إلى السَّماءِ الدُّنْيا " .... فذكر الحديث.
حدثنا ابن المثنى ، قال : ثنا خالد بن الحرث ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، عن أنس بن مالك ، عن مالك ، يعني ابن صعصعة رجل من قومه ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم ، نحوه.
حدثنا ابن المثنى ، قال : ثنا ابن أبي عديّ ، عن سعيد ، عن قتادة ، عن أنس بن مالك ، عن مالك بن صعصعة رجل من قومه ، قال : قال نبيّ الله صلى الله عليه وسلم ، ثم ذكر نحوه.
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، قال : قال محمد بن إسحاق : ثني عمرو بن عبد الرحمن ، عن الحسن بن أبي الحسن ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " بَيْنا أنا نائمٌ في الحِجْر جاءَنِي جِبْرِيلُ فَهَمَزَنِي بِقَدَمِهِ ، فَجَلَسْتُ فَلَمْ أرَ شَيْئا ، فَعُدْتُ لمَضْجَعِي ، فجاءَني الثَّانِيةَ فَهَمَزَنِي بقَدَمِهِ ، فَجَلَسْتُ فَلَمْ أَرَ شَيْئا ، فَعُدْتُ لمَضْجَعِي ، فجاءَني الثَّالِثَةَ فَهَمَزَنِي بقَدَمِهِ ، فَجَلَسْتُ ، فَأخَذَ بعَضُدِي فَقُمْتُ مَعَهُ ، فَخَرَجَ بِي إلى بابِ المَسْجِدِ ، فإذَا دَابَّةٌ بَيْضَاءُ بينَ الحِمارِ والبَغْلِ ، لَهُ فِي فَخِذَيْهِ جنَاحان يَحْفِزُ بِهما رِجْلَيْهِ ، يَضَعُ يَدَهُ فِي مُنْتَهَى طَرْفِه ، فحَمَلَني عَلَيْهِ ثُمَّ خَرَجَ مَعي ، لا يَفُوتُني ولا أفُوتُهُ " .
حدثنا الربيع بن سليمان ، قال : أخبرنا ابن وهب ، عن سليمان بن بلال ، عن شريك بن أبي نمر (1) قال : سمعت أنسا يحدثنا عن ليلة المسرى برسول الله صلى الله عليه وسلم من مسجد الكعبة أنه جاءه ثلاثة نفر قبل أن يوحى إليه وهو نائم في المسجد الحرام ، فقال أوّلهم : أيهم هو ؟ قال : أوسطهم هو خيرهم ، فقال أحدهم : خذوا خيرهم ، فكانت تلك الليلة ، فلم يرهم حتى جاءوا ليلة أخرى فيما يرى قلبه ، والنبيّ صلى الله عليه وسلم تنام عيناه ، ولا ينام قلبه. وكذلك الأنبياء تنام أعينهم ، ولا تنام قلوبهم. فلم يكلموه حتى احتملوه فوضعوه عند بئر زمزم ، فتولاه منهم جبرائيل عليه السلام ، فشقّ ما بين نحره إلى لبَّته ، حتى فرغ من صدره وجوفه ، فغسله من ماء زمزم حتى أنقى جوفه ، ثم أُتِيَ بطست من ذهب فيه تور محشوّ إيمانا وحكمة ، فحشا به جوفه وصدره
__________
(1) قال النووي في شرحه لصحيح مسلم (المطبعة المصرية 2 : 210) ذكر البخاري رحمه الله رواية شريك هذه عن أنس في صحيحه وأتى بالحديث مطولا. قال الحافظ عبد الحق رحمه الله في كتابه (الجمع بين الصحيحين) بعد ذكر هذه الرواية : هذا الحديث بهذا اللفظ من رواية شريك بن أبي نمر عن أنس ، وقد زاد فيه زيادة مجهولة ، وأتى فيه بألفاظ غير معروفة . وقد روى حديث الإسراء جماعة من الحفاظ المتقنين ، والأئمة المشهورين ، كابن شهاب ، وثابت البناني وقتادة (يعني عن أنس) فلم يأت أحد منهم بما أتى به شريك ، وشريك ليس بالحافظ عند أهل الحديث. وانظر أيضا ما قاله الشهاب الخفاجي في (نسيم الرياض في شرح فاء القاضي عياض 2 : 243 - 244 ، في نقده لرواية شريك بن أبي نمر سندا ومتنا).

(17/332)


ولغاديده (1) ثم أطبقه ثم ركب البراق ، فسار حتى أتى به إلى بيت المقدس فصلى فيه بالنَّبيين والمرسلين إماما ، ثم عرج به إلى السماء الدنيا ، فضرب بابا من أبوابها ، فناداه أهل السماء : من هذا ؟ قال : هذا جبرائيل ، قيل : من معك ؟ قال : محمد ، قيل : أوقد بُعث إليه (2) ؟ قال : نعم ، قالوا : فمرحبا به وأهلا فيستبشر به أهل السماء ، لا يعلم أهل السماء بما يريد الله بأهل الأرض حتى يُعلمهم ، فوجد في السماء الدنيا آدم ، فقال له جبرائيل : هذا أبوك ، فسلَّم عليه ، فردّ عليه ، فقال : مرحبا بك وأهلا يا بني ، فنعم الابن أنت ، ثم مضى به إلى السماء الثانية ، فاستفتح جبرائيل بابا من أبوابها ، فقيل : من هذا ؟ فقال : جبرائيل ، قيل : ومن معك ؟ قال : محمد ، قيل : أوقد أرسل إليه ؟ قال : نعم قد أُرسل إليه ، فقيل : مرحبا به وأهلا ففُتح لهما ؛ فلما صعد فيها فإذا هو بنهرين يجريان ، فقال : ما هذان النهران يا جبرائيل ؟ قال : هذا النيل والفرات عنصرهما (3) ؛ ثم عرج به إلى السماء الثالثة ، فاستفتح جبرائيل بابا من أبوابها ، فقيل : من هذا ؟ قال : جبرائيل ، قيل : ومن معك ؟ قال : محمد ، قيل : أوقد بُعث إليه ؟ قال : نعم قد بُعث إليه ، قيل : مرحبا به وأهلا ففُتح له فإذا هو بنهر عليه قباب وقصور من لؤلؤ وزبرجد وياقوت ، وغير ذلك مما لا يعلمه إلا الله ، فذهب يشمّ ترابه ، فإذا هو مسك أذفر ، فقال : يا جبرائيل ما هذا النهر ؟ قال : هذا الكوثر الذي خبأ لك ربك في الآخرة ؛ ثم عرج به إلى الرابعة ، فقالوا له مثل ذلك ؛ ثم عرج به إلى الخامسة ، فقالوا له مثل ذلك ؛ ثم عرج به إلى السادسة ، فقالوا له مثل ذلك ؛ ثم عرج به إلى السابعة ، فقالوا له مثل ذلك ، وكلّ سماء فيها أنبياء قد سماهم أنس ، فوعيت منهم إدريس في الثانية ، وهارون في الرابعة ، وآخر في الخامسة لم أحفظ اسمه ، وإبراهيم في السادسة ، وموسى في السابعة بتفضيل كلامه الله ، فقال موسى : رب لم أظن أن يرفع عليّ أحد ، ثم علا به فوق ذلك بما لا يعلمه إلا الله ، حتى جاء سدرة المنتهى ، ودنا باب الجبَّار ربّ العزّة ، فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى ، فأوحى إلى عبده ما شاء ، وأوحى الله فيما أوحى خمسين صلاة على أمته كل يوم وليلة ، ثم هبط حتى بلغ موسى فاحتبسه ، فقال : يا محمد ماذا عهد إليك ربك ؟ قال : " عهد إليّ خمسين صلاة على أمتي كل يوم وليلة ؛ قال : إن أمتك لا تستطيع ذلك ، فارجع فليخفف عنك وعنهم ، فالتفتّ إلى جبرائيل كأنه يستشيره في ذلك ، فأشار إليه أن نعم ، فعاد به جبرائيل حتى أتى الجبَّار عزّ وجلّ وهو مكانه ، فقال : " ربّ خفف عنا ، فإن أمتي لا تستطيع هذا ، فوضع عنه عشر صلوات ؛ ثم رجع إلى موسى عليه السلام فاحتبسه ، فلم يزل يردّده موسى إلى ربه حتى صارت إلى خمس صلوات ، ثم احتبسه عند الخمس ، فقال : يا محمد قد والله راودتُ بني إسرائيل على أدنى من هذه الخمس ، فضعفوا وتركوه ، فأمتك أضعف أجسادا وقلوبا وأبصارا وأسماعا ، فارجع فليخفف عنك ربك ، كلّ ذلك يلتفت إلى جبرائيل ليشير عليه ، ولا يكره ذلك جبرائيل ، فرفعه عند الخمس ، فقال : يا ربّ إن أمتي ضعاف أجسادهم وقلوبهم وأسماعهم وأبصارهم ، فخفف عنا ، قال الجبَّار جلّ جلاله : يا محمد ، قال : لبَيك وسعديك ، فقال : إني لا يُبدّل القول لديّ كما كتبت عليك في أمّ الكتاب ، ولك بكلّ حسنة عشر أمثالها ، وهي خمسون في أمّ الكتاب ، وهي خمس عليك ؛ فرجع إلى موسى ، فقال : كيف فعلت ؟ فقال : خفَّف عني ، أعطانا بكلّ حسنة عشر أمثالها ، قال : قد والله راودت بني إسرائيل على أدنى من هذا فتركوه فارجع فليخفف عنك أيضا ، قال : " يا موسى قد والله استحييت من ربي مما أختلف إليه ، قال : فاهبط باسم الله ، فاستيقظ وهو في المسجد الحرام.
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب ، أن يقال : إن الله عزّ وجلّ أخبر أنه أسرى بعبده من المسجد الحرام والمسجد الحرام هو الذي يتعارفه الناس بينهم إذا ذكروه ، وقوله(إلى المَسْجِدِ الأقْصَى) يعني : مسجد بيت المقدس ، وقيل له : الأقصى ، لأنه أبعد المساجد التي تزار ، ويُبتغَى في زيارته الفضل بعد المسجد الحرام. فتأويل الكلام تنزيها لله ، وتبرئة له مما نحله المشركون من الإشراك والأنداد والصاحبة ، وما يجلّ عنه جلّ جلاله ، الذي سار بعبده ليلا من بيته الحرام إلى بيته الأقصى.
__________
(1) في البخاري (باب التوحيد) : فحشا به صدوره ولغاديده ، يعني عروق حلقه.
(2) في البخاري (طبعة الحلبي 9 : 183) : " وقد بعث " . وقد أبقينا رواية المؤلف كما هي ، لاختلاف نسخ البخاري في رواية بعض الكلم.
(3) كذا في البخاري أيضا.

(17/333)


ثم اختلف أهل العلم في صفة إسراء الله تبارك وتعالى بنبيه صلى الله عليه وسلم من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى ، فقال بعضهم : أسرى الله بجسده ، فسار به ليلا على البُراق من بيته الحرام إلى بيته الأقصى حتى أتاه ، فأراه ما شاء أن يريه من عجائب أمره وعبره وعظيم سُلطانه ، فجمعت له به الأنبياء ، فصلى بهم هُنالك ، وعَرج به إلى السماء حتى صعد به فوق السماوات السبع ، وأوحى إليه هنالك ما شاء أن يوحي ثم رجع إلى المسجد الحرام من ليلته ، فصلى به صلاة الصبح.
* ذكر من قال ذلك ، وذكر بعض الروايات التي رُويت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بتصحيحه.
حدثنا يونس بن عبد الأعلى ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرني يونس بن يزيد ، عن ابن شهاب ، قال : أخبرني ابن المسيب وأبو سلمة بن عبد الرحمن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أُسري به على البُراق ، وهي دابَّة إبراهيم التي كان يزور عليها البيت الحرام ، يقع حافرها موضع طرفها ، قال : فمرّت بعير من عيرات قريش بواد من تلك الأودية ، فنفرت العير ، وفيها بعير عليه غرارتان : سوداء ، وزرقاء ، حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم إيلياء فأتى بقدحين : قدح خمر ، وقدح لبن ، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم قدح اللبن ، فقال له جبرائيل : هُديت إلى الفطرة ، لو أخذت قدح الخمر غوت أمتك. قال ابن شهاب : فأخبرني ابن المسيب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لقي هناك إبراهيم موسى وعيسى ، فنعتهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : " فَأمَّا مُوسَى فَضَرْبٌ رَجْلُ الرأسِ كأنَّهُ مِنْ رِجالِ شَنُوءَةَ ، وأمَّا عِيسَى فَرَجْلٌ أحْمَرُ كأنَّمَا خَرَجَ مِنْ دِيمَاسٍ ، فأشْبَهُ مَنْ رأيْتُ بِهِ عُرْوَةُ بْنُ مَسْعُودٍ الثَّقَفِيُّ ؛ وأمَّا إبْرَاهِيمُ فأنا أشْبَهُ وَلَدِهِ بِهِ ؛ فلما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، حدث قريشا أنه أُسري به. قال عبد الله : فارتدّ ناس كثير بعد ما أسلموا ، قال أبو سلمة : فأتى أبو بكر الصدّيق ، فقيل له : هل لك في صاحبك ، يزعم أنه أسري به إلى بيت المقدس ثم رجع في ليلة واحدة ، قال أبو بكر : أوقال ذلك ؟ قالوا : نعم ، قال : فأشهد إن كان قال ذلك لقد صدق ، قالوا : أفتشهد أنه جاء الشام في ليلة واحدة ؟ قال : إني أصدّقه بأبعد من ذلك ، أصدّقه بخبر

(17/335)


السماء. قال أبو سلمة : سمعت جابر بن عبد الله يقول : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " لما كَذَّبَتْنِي قُرَيْشٌ قُمْتُ فَمَثَّلَ الله لي بَيْتَ المَقْدِسِ ، فَطَفِقتُ أُخْبرُهُم عَنْ آياتِهِ وأنا أنْظُرُ إلَيْهِ " .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : ثني يعقوب بن عبد الرحمن الزهري ، عن أبيه ، عن عبد الرحمن بن هاشم بن عتبة بن أبي وقاص ، عن أنس بن مالك ، قال : لما جاء جبرائيل عليه السلام بالبراق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فكأنها ضربت بذنبها ، فقال لها جبرائيل : مه يا براق ، فوالله إن ركبك مثله ، فسار رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإذا هو بعجوز ناء عن الطريق : أي على جنب الطريق.
قال أبو جعفر : ينبغي أن يقال : نائية ، ولكن أسقط منها التأنيث.
فقال : " ما هذه يا جبرائيل ؟ قال : سر يا محمد ، فسار ما شاء الله أن يسير ، فإذا شيء يدعوه متنحيا عن الطريق يقول : هلمّ يا محمد ، قال جبرائيل : سر يا محمد ، فسار ما شاء الله أن يسير ؛ قال : ثم لقيه خلق من الخلائق ، فقال أحدهم : السلام عليك يا أوّل ، والسلام عليك يا آخر ، والسلام عليك يا حاشر ، فقال له جبرائيل : اردد السلام يا محمد ، قال : فردّ السلام ، ثم لقيه الثاني ، فقال له مثل مقالة الأوّلين (1) حتى انتهى إلى بيت المقدس ، فعرض عليه الماء واللبن والخمر ، فتناول رسول الله صلى الله عليه وسلم اللبن ، فقال له جبرائيل : أصبت يا محمد الفطرة ، ولو شربت الماء لغرقت وغرقت أمتك ، ولو شربت الخمر لغويت وغوت أمتك ، ثم بعث له آدم فمن دونه من الأنبياء ، فأمَّهم رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك الليلة. ثم قال له جبرائيل : أما العجوز التي رأيت على جانب الطريق ، فلم يبق من الدنيا إلا بقدر ما بقي من عمر تلك العجوز ، وأما الذي أراد أن تميل إليه ، فذاك عدوّ الله إبليس ، أراد أن تميل إليه ؛ وأما الذين سلَّموا عليك ، فذاك إبراهيم وموسى وعيسى " .
حدثني عليّ بن سهل ، قال : ثنا حجاج ، قال : أخبرنا أبو جعفر
__________
(1) نص العبارة في الدر المنثور للسيوطي (4 : 139) ثم بقية الثانية ، فقال له مثل ذلك ، ثم الثالثة كذلك ، ولعل في الكلام سقطا.

(17/336)


الرازي ، عن الربيع بن أنس ، عن أبي العالية الرياحي ، عن أبي هريرة أو غيره " شكّ أبو جعفر " في قول الله عزّ وجلّ( سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ) قال : جاء جبرائيل إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم ومعه ميكائيل ، فقال جبرائيل لميكائيل : ائتني بطست من ماء زمزم كيما أطهر قلبه ، وأشرح له صدره ، قال : فشقّ عن بطنه ، فغسله ثلاث مرّات ، واختلف إليه ميكائيل بثلاث طسات من ماء زمزم ، فشرح صدره ، ونزع ما كان فيه من غلّ ، وملأه حلما وعلما وإيمانا ويقينا وإسلاما ، وختم بين كتفيه بخاتم النبوّة ، ثم أتاه بفرس فحمل عليه كلّ خطوة منه منتهى طرفه وأقصى بصره ، قال : فسار وسار معه جبرائيل عليه السلام ، فأتى على قوم يزرعون في يوم ويحصدون في يوم ، كلما حصدوا عاد كما كان ، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم : يا جبْرَائيلُ ما هَذَا ؟ قال : هؤلاء المجاهدون في سبيل الله ، تُضاعف لهم الحسنة بسبعمائة ضعف ، وما أنفقوا من شيء فهو يخلفه وهو خير الرازقين ؛ ثم أتى على قوم تُرضخ رءوسهم بالصخر ، كلما رضخت عادت كما كانت ، لا يفتر عنهم من ذلك شيء ، فقال : ما هؤلاء يا جبرائِيل ؟ قال : هؤلاء الذين تتثاقل رءوسهم عن الصلاة المكتوبة ؛ ثم أتى على قوم على أقبالهم رقاع ، وعلى أدبارهم رقاع ، يسرحون كما تسرح الإبل والغنم ، ويأكلون الضريع والزقُّوم ورضف جهنم وحجارتها ، قال : ما هَؤُلاء يا جَبْرائِيلُ ؟ قال : هؤلاء الذين لا يؤدّون صدقات أموالهم ، وما ظلمهم الله شيئا ، وما الله بظلام للعبيد ، ثم أتى على قوم بين أيديهم لحم نضيج في قدور ، ولحم آخر نيء قذر خبيث ، فجعلوا يأكلون من النيء ، ويدَعون النضيج الطَّيب ، فقال : ما هَؤُلاء يا جَبْرائِيلُ ؟ قال : هذا الرجل من أمتك ، تكون عنده المرأة الحلال الطَّيب ، فيأتي امرأة خبيثة فيبيت عندها حتى يصبح ، والمرأة تقوم من عند زوجها حلالا طيبا ، فتأتي رجلا خبيثا ، فتبيت معه حتى تصبح ؛ قال : ثم أتى على خشبة في الطريق لا يمرّ بها ثوب إلا شقَّته ، ولا شيء إلا خرقته ، قال : ما هَذَا يا جَبْرائِيلُ ؟ قال : هذا مثَل أقوام من أمتك يقعدون على الطريق فيقطعونه. ثم قرأ(وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ ...) الآية. ثم أتى على رجل قد جمع حزمة حطب عظيمة لا يستطيع ح ملها ، وهو يزيد عليها ، فقال : ما هذا يا جَبْرائِيلُ ؟ قال : هذا الرجل من أمتك تكون عنده أمانات الناس لا يقدر على أدائها ، وهو يزيد عليها ، ويريد أن يحملها ، فلا يستطيع ذلك ؛ ثم أتى على قوم تقرض ألسنتهم وشفاههم بمقاريض من حديد ، كلما قرضت عادت كما كانت لا يفتر عنهم من ذلك شيء ، قال : ما هؤلاء يا جَبْرائِيلُ ؟ فقال : هؤلاء خطباء أمتك خطباء الفتنة يقولون ما لا يفعلون ، ثم أتى على جحر صغير يخرج منه ثور عظيم ، فجعل الثور يريد أن يرجع من حيث خرج فلا يستطيع ، فقال : ما هَذَا يا جَبْرائِيلُ ؟ قال : هذا الرجل يتكلم بالكلمة العظيمة ، ثم يندم عليها ، فلا يستطيع أن يردّها ، ثم أتى على واد ، فوجد ريحا طيبة باردة ، وفيه ريح المسك ، وسمع صوتا ، فقال : يا جَبْرَائِيلُ ما هَذِهِ الرّيحُ الطَّيِّبَةُ البارِدَة وهَذِهِ الرَّائحَةُ الَّتي كَرِيحِ المسْكِ ، ومَا هَذَا الصَّوْتُ ؟ قال : هذا صوت الجنة تقول : يا ربّ آتني ما وعدتني ، فقد كثرت غرفي وإستبرقي وحريري وسندسي وعبقري ، ولؤلؤي ومرجاني ، وفضتي وذهبي ، وأكوابي وصحافي وأباريقي ، وفواكهي ونخلي ورماني ، ولبني وخمري ، فآتني ما وعدتني ، فقال : لك كلّ مسلم ومسلمة ، ومؤمن ومؤمنة ، ومن آمن بي وبرسلي ، وعمل صالحا ولم يُشرك بي ، ولم يتخذ من دوني أندادا ، ومن خشيني فهو آمن ، ومن سألني أعطيته ، ومن أقرضني جزيته ، ومن توكَّل عليّ كفيته ، إني أنا الله لا إله إلا أنا لا أخلف الميعاد ، وقد أفلح المؤمنون ، وتبارك الله أحسن الخالقين ، قالت : قد رضيت ؛ ثم أتى على واد فسمع صوتا منكرا ، ووجد ريحا منتنة ، فقال : وما هَذِهِ الرّيحُ يا جَبْرَائِيلُ ومَا هَذَا الصَّوْتُ ؟ قال : هذا صوت جهنم ، تقول : يا ربّ آتني ما وعدتني ، فقد كثرت سلاسلي وأغلالي ، وسعيري وجحيمي ، وضريعي وغسَّاقي ، وعذابي وعقابي ، وقد بعُد قعري واشتدّ حرّي ، فآتني ما وعدتني ، قال : لك كلّ مشرك ومشركة ، وكافر وكافرة ، وكلّ خبيث وخبيثة ، وكلّ جبَّار لا يؤمن بيوم الحساب ، قالت : قد رضيت ؛ قال : ثم سار حتى أتى بيت المقدس ، فنزل فربط فرسه إلى صخرة ، ثم دخل فصلى مع الملائكة ؛ فلما قُضيت الصلاة. قالوا : يا جبرائيل من هذا معك ؟ قال : محمد ، فقالوا : أوقد أُرسل إليه ؟ قال : نعم ، قالوا : حيَّاه الله من أخ ومن خليفة ، فنعم الأخ ونعم الخليفة ، ونعم المجيء جاء ؛ قال : ثم لقي أرواح الأنبياء فأثنوا على ربهم ، فقال إبراهيم : الحمد لله الذي اتخذني خليلا وأعطاني ملكا عظيما ، وجعلني أمَّة قانتا لله يؤتمّ بي ، وأنقذني من النار ، وجعلها عليّ بردا وسلاما ؛ ثم إن موسى أثنى على ربه فقال : الحمد لله الذي كلَّمني تكليما ، وجعل هلاك آل فرعون ونجاة بني إسرائيل على يدي ، وجعل من أمتي قوما يهدون بالحقّ وبه يعدلون ؛ ثم إن داود عليه السلام أثنى على ربه ، فقال : الحمد لله الذي جعل لي ملكا عظيما وعلَّمني الزّبور ، وألان لي الحديد ، وسخَّر لي الجبال يسبحن والطير ، وأعطاني الحكمة وفصل الخطاب ؛ ثم إن سليمان أثنى على ربه ، فقال : الحمد لله الذي سخَّر لي الرياح ، وسخَّر لي الشياطين ، يعملون لي ما شئت من محاريب وتماثيل وجفان كالجواب ، وقدور راسيات ، وعلَّمني منطق الطير ، وآتاني من كلّ شيء فضلا وسخَّر لي جنود الشياطين والإنس والطير ، وفضَّلني على كثير من عباده المؤمنين ، وآتاني ملكا عظيما لا ينبغي لأحد من بعدي ، وجعل ملكي ملكا طيبا ليس عليّ فيه حساب ؛ ثم إن عيسى عليه السلام أثنى على ربه ، فقال : الحمد لله الذي جعلني كلمته وجعل مثلي مثل آدم خلقه من تراب ، ثم قال له : كن فيكون ، وعلمني الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل ، وجعلني أخلق من الطين هيئة الطير ، فأنفخ فيه ، فيكون طيرا بإذن الله ، وجعلني أبرئ الأكمة والأبرص ، وأحيي الموتى بإذن الله ، ورفعني وطهرني ، وأعاذني وأمي من الشيطان الرجيم ، فلم يكن للشيطان علينا سبيل ؛ قال : ثم إن محمدا صلى الله عليه وسلم أثنى على ربه ، فقال : كُلْكُمْ أَثْنَى عَلَى رَبِّه ، وأنا مُثْنٍ عَلى رَبِّي ، فقال : الحَمْدُ لله الذي أرْسَلَنِي رَحْمَةً للعالَمِينَ ، وكافةً للناس بَشِيراً ونَذَيرًا ، وأَنزلَ عَليَّ الفُرقَانَ فِيه تِبْيانُ كُلّ شَيْءٍ ، وَجَعَلَ أُمَّتِي خَيْرَ أُمةٍ أُخْرِجَتْ للناسِ ، وَجَعَلَ أُمَّتِي وَسَطا ، وَجَعَلَ أُمَّتِي هُمُ الأوَّلوُنَ وَهُمُ الآخِرُونَ ، وَشَرَحَ لي صَدْرِي ، وَوَضَعَ عني وِزْرِي وَرَفَعَ لي ذِكْرِي ، وَجَعَلَني فاتحا خاتِما ، قال إبراهيم : بهذا فضلكم محمد. - قال أبو جعفر : وهو الرازي : خاتم النبوّة ، وفاتح بالشفاعة يوم القيامة - ثم أتي إليه بآنية ثلاثة مغطاة أفواهها ، فاتى بإناء منها فيه ماء ، فقيل : اشرب ، فشرب منه يسيرا ، ثم دفع إليه إناء آخر فيه لبن ، فقيل له : اشرب ، فشرب منه حتى روي ، ثم دفع إليه إناء آخر فيه خمر ، فقيل له : اشرب ، فقال : لا أريده قد رويت ، فقال له جبرائيل صلى الله عليه وسلم : أما إنها سَتُحَرّم على أمتك ، ولو شربت منها لم يتبعك من أمتك إلا القليل ، ثم عَرَج به إلى سماء الدنيا ، فاستفتح جبرائيل بابا من أبوابها ، فقيل : من هذا ؟ قال : جبرائيل ، قيل : ومن معك ؟ فقال : محمد ، قالوا : أوقد أُرسل إليه ، قال : نعم ، قالوا : حيَّاه الله من أخ ومن خليفة ، فنعم الأخ ونعم الخليفة ، ونعم المجيء جاء ، فدخل فإذا هو برجل تامّ الخلق لم ينقص من خلقه شيء ، كما ينقص من خلق الناس ، على يمينه باب ، يخرج منه ريح طيبة ، وعن شماله باب يخرج منه ريح خبيثة ، إذا نظر إلى الباب الذي عن يمينه ضحك واستبشر ، وإذا نظر إلى الباب الذي عن شماله بكى وحزن ، فقلت : يا جَبْرَائيِلُ مَنْ هَذَا الشَّيْخُ التَّامُ الخَلْقِ الَّذِي لَمْ يَنْقُصْ مِنْ خَلْقِهِ شَيْءٌ ، ومَا هَذَانِ البابان ؟ قال : هذا أبوك آدم ، وهذا الباب الذي عن يمينه باب الجنة ، إذا نظر إلى من يدخله من ذرّيته ضحك واستبشر ، والباب الذي عن شماله باب جهنم ، إذا نظر إلى من يدخله من ذرّيته بكى وحزن ؛ ثم صعد به جبرائيل صلى الله عليه وسلم إلى السماء الثانية فاستفتح ، فقيل من هذا ؟ قال : جبرائيل ، قيل : ومن معك ؟ قال : محمد رسول الله ، فقالوا : أوقد أُرسل إليه ؟ قال : نعم ، قالوا : حيَّاه الله من أخ ومن خليفة ، فنعم الأخ ونعم الخليفة ، ونعم المجيء جاء ، قال : فإذا هو بشابين ، فقال : يا جَبْرَائِيلُ مَنْ هَذَانِ الشابَّانِ ؟ قال : هذا عيسى ابن مريم ، ويحيى بن زكريا ابنا الخالة ؛ قال : فصعد به إلى السماء الثالثة ، فاستفتح ، فقالوا : من هذا ؟ قال : جبرائيل ، قالوا : ومن معك ؟ قال : محمد ، قالوا : أوقد أُرسل إليه ؟ قال : نعم ، قالوا : حيَّاه الله من أخ ومن خليفة ، فنعم الأخ ونعم الخليفة ، ونعم المجيء جاء ، قال : فدخل فإذا هو برجل قد فَضَل على الناس كلهم في الحُسن ، كما فُضّل القمرُ ليلة البدر على سائر الكواكب ، قال : مَنْ هَذَا يا جِبْرَئِيلُ الَّذِي فَضَلَ على النَّاسِ في الحُسْنِ ؟ قال : هذا أخوك يوسف ؛ ثم صعد به إلى السماء الرابعة ، فاستفتح ، فقيل : من هذا ؟ قال جبرائيل ، قالوا : ومن معك ؟ قال : محمد ، قالوا : أوقد أُرسل إليه ؟ قال : نعم ، قالوا : حيَّاه الله من أخ ومن خليفة ، فنعم الأخ ونعم الخليفة ، ونعم المجيء جاء ؛ قال : فدخل ، فإذا هو برجل ، قال : مَنْ هَذَا يا جَبْرَائِيلُ ؟ قال : هذا إدريس رفعه الله مكانا عليًّا ؛ ثم صعد به إلى السماء الخامسة ، فاستفتح جبرائيل ، فقالوا : من هذا ؟ فقال : جبرائيل ، قالوا : ومن معك ؟ قال : محمد ، قالوا : أوقد أُرسل إليه ؟ قال : نعم ، قالوا : حيَّاه الله من أخ ومن خليفة ، فنعم الأخ ونعم الخليفة ، ونعم المجيء جاء ؛ ثم دخل فإذا هو برجل جالس وحوله قوم يقصّ عليهم ، قال : مَنْ هَذَا يا جَبْرَائِيلُ وَمَنْ هَؤُلاء الَّذِينَ حَوْلَهُ ؟ قال : هذا هارون المحبب في قومه ، وهؤلاء بنو إسرائيل ؛ ثم صعد به إلى السماء السادسة ، فاستفتح جبرئيل ، فقيل له : من هذا ؟ قال : جبرئيل ، قالوا : ومن معك ؟ قال : محمد ، قالوا : أوقد أُرسل إليه ؟ قال : نعم ، قالوا : حيَّاه الله من أخ ومن خليفة ، فنعم الأخ ونعم الخليفة ، ونعم المجيء جاء ، فإذا هو برجل جالس ، فجاوزه ، فبكى الرجل ، فقال : يا جَبْرَائِيلُ مَنْ هَذَا ؟ قال : موسى ، قال : فَمَا بالُهُ يَبْكي ؟ قال : تزعم بنو إسرائيل أني أكرم بنى آدم على الله ، وهذا رجل من بني آدم قد خلفني في دنيا ، وأنا في أخرى ، فلو أنه بنفسه لم أبال ، ولكن مع كل نبيّ أمته ؛ ثم صَعَد به إلى السماء السابعة ، فاستفتح جبرائيل ، فقيل : من هذا ؟ قال : جبرائيل ، قالوا : ومن معك ؟ قال : محمد ، قالوا : أوقد أُرسل إليه ؟ قال : نعم ، قالوا : حيَّاه الله من أخ ومن خليفة ، فنعم الأخ ونعم الخليفة ، ونعم المجيء جاء ، قال : فدخل فإذا هو برجل أشمط جالس عند باب الجنة على كرسي ، وعنده قوم جلوس بيض الوجوه ، أمثال القراطيس ، وقوم في ألوانهم شيء ، فقام هؤلاء الذين في ألوانهم شيء ، فدخلوا نهرا فاغتسلوا فيه ، فخرجوا وقد خلص من ألوانهم شيء ، ثم دخلوا نهرا آخر ، فاغتسلوا فيه ، فخرجوا وقد خلص من ألوانهم شيء ، ثم دخلوا نهرا آخر فاغتسلوا فيه ، فخرجوا وقد خلص ألوانهم شيء ، فصارت مثل ألوان أصحابهم ، فجاءوا فجلسوا إلى أصحابهم ، فقال : يا جَبْرَائِيلُ مَنْ هَذَا الأشْمَطُ ، ثُمَّ مَنْ هَؤُلاء البيضُ وُجُوهُهُمْ ، وَمَنْ هَؤُلاء الَّذِينَ في ألْوَانِهِمْ شَيْءٌ ، ومَا هَذِهِ الأنهَارُ الَّتي دَخَلُوا ، فَجَاءُوا وَقَدْ صَفَتْ ألْوَانُهُم ؟ قال : هذا أبوك إبراهيم أوّل من شَمِط على الأرض ، وأما هؤلاء البيض الوجوه : فقوم لم يُلْبِسوا إيمانهم بظلم ، وأما هؤلاء الذين في ألوانهم شيء ، فقوم خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا ، فتابوا ، فتاب الله عليهم ، وأما الأنهار : فأولها رحمة الله ، وثانيها : نعمة الله ، والثالث : سقاهم ربهم شرابا طهورا ؛ قال : ثم انتهى إلى السِّدرة ، فقيل له : هذه السدرة ينتهي إليها كلّ أحد خلا من أمتك على سنتك ، فإذا هي شجرة يخرج من أصلها أنهار من ماء غير آسن ، وأنهار من لبن لم يتغير طعمه ، وأنهار من خمر لذّة للشاربين ، وأنهار من عسل مصفَّى ، وهي شجرة يسير الراكب في ظلِّها سبعين عاما لا يقطعها ، والورقة منها مغطية للأمة كلها ، قال : فغشيها نور الخلاق عزّ وجلّ ، وغشيتها الملائكة أمثال الغربان حين يقعن على الشجرة ، قال : فكلمه عند ذلك ، فقال له : سل ، فقال : اتخذت إبراهيم خليلا وأعطيته مُلكا عظيما ، وكلمت موسى تكليما ، وأعطيت داود ملكا عظيما ، وألنت له الحديد ، وسخرت له الجبال ، وأعطيت سليمان ملكا عظيما ، وسخرت له الجنّ والإنس والشياطين ، وسخرت له الرياح ، وأعطيته ملكا لا ينبغي لأحد من بعده ، وعلَّمت عيسى التوراة والإنجيل ، وجعلته يبرئ الأكمه والأبرص ، ويحيي الموتى بإذن الله ، وأعذته وأمه من الشيطان الرجيم ، فلم يكن للشيطان عليهما سبيل. فقال له ربه : قد اتخذتك حبيبا وخليلا وهو مكتوب في التوراة : حبيب الله ؛ وأرسلتك إلى الناس كافَّة بشيرا ونذيرا ، وشرحت لك صدرك ، ووضعت عنك وزرك ، ورفعت لك ذكرك ، فلا أذكر إلا ذكرت معي ، وجعلت أمتك أمة وسطا ، وجعلت أمتك هم الأولون والآخرون ، وجعلت أمتك لا تجوز لهم خطبة ، حتى يشهدوا أنك عبدي ورسولي ؛ وجعلت من أمتك أقواما قلوبهم أناجيلهم ، وجعلتك أوّل النَّبيين خَلْقا ، وآخرهم بَعْثا ، وأوّلَهم يُقْضَى له ، وأعطيتك سبعا من المثاني ، لم يُعطها نبيّ قبلك ، وأعطيتك الكوثر ، وأعطيتك ثمانية أسهم الإسلام والهجرة ، والجهاد ، والصدقة ، والصلاة ، وصوم رمضان ، والأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر ، وجعلتك فاتحا وخاتما ، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم : فضَّلَنِي ربَيّ بسِتّ : أعْطَانِي فَوَاتِحَ الكَلِمِ وَخَوَاتِيمَهُ ، وَجَوَامِعَ الحَدِيثِ ، وأَرْسَلَنِي إلى النَّاسِ كافَّةً بَشِيرًا وَنَذِيرًا ، وَقَذَفَ فِي قُلُوبِ عَدُوّي الرُّعْبَ مِنْ مَسِيرَةِ شَهْرٍ ، وأُحِلِّتْ لي الغَنائمُ ولَمْ تَحِلَّ لأحَدٍ قَبْلِي ، وجُعِلَتْ لي الأرْض كُلُّها طَهُورًا وَمَسْجِدًا ، قال : وَفَرَضَ عَلَيَّ خَمْسِينَ صَلاةً ؛ فلما رجع إلى موسى ، قال : بِم أُمرت يا محمد ، قال : بِخَمْسِينَ صَلاةً ، قال : ارجع إلى ربك فاسأله التَّخفيف ، فإن أمتك أضعف الأمم ، فقد لقيت من بني إسرائيل شدّة ، قال : فرجع النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى ربه فسأله التخفيف ، فوضع عنه عشرا ، ثم رجع إلى موسى ، فقال : بكم أُمرت ؟ قال : بأرْبَعِينَ ، قال : ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف ، فإن أمتك أضعف الأمم ، وقد لقيتُ من بنى إسرائيل شدّة ، قال : فرجع إلى ربه ، فسأله التخفيف ، فوضع عنه عشرا ، فرجع إلى موسى ، فقال : بكم أُمرت ؟ قال : أُمِرْتُ بِثَلاثِينَ ، فقال له موسى : ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف ، فإن أمتك أضعف الأمم ، وقد لقيت من بني إسرائيل شدّة ، قال : فرجع إلى ربه فسأله التخفيف ، فوضع عنه عشرا ، فرجع إلى موسى فقال : بكم أمرت ؟ قال : بعشرين ، قال : ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف ، فإن أمتك أضعف الأمم ، وقد لقيت من بني إسرائيل شدة ، قال : فرجع إلى ربه فسأله التخفيف ، فوضع عنه عشرا ، فرجع إلى موسى ، فقال : بكم أمرت ؟ قال : بعشر ، قال : ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف ، فإن أمتك أضعف الأمم ، وقد لقيت من بني إسرائيل شدّة ، قال : فرجع على حياء إلى ربه فسأله التخفيف ، فوضع عنه خمسا ، فرجع إلى موسى ، فقال : بكم أمرت ؟ قاله : بخمس ، قال : ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف ، فإن أمتك أضعف الأم ، وقد لقيتُ من بني إسرائيل شدّة ، قال : قَدْ رَجَعْتُ إلى رَبّي حتى اسْتَحْيَيْت فَمَا أنا رَاجِعٌ إِلَيْهِ ، فقيل له : أما إنك كما صبرت نفسك على خمس صلوات فإنهنّ يجزين عنك خمسين صلاة ، فإن كلّ حسنة بعشر أمثالها ، قال : فرضي محمد صلى الله عليه وسلم كلّ الرضا " فكان موسى أشدّهم عليه حين مرّ به ، وخيرهم له حين رجع إليه.
حدثني محمد بن عبيد الله ، قال : أخبرنا أبو النضر هاشم بن القاسم ، قال : ثنا أبو جعفر الرازي ، عن الربيع بن أنس ، عن أبي العالية أو غيره " شك أبو جعفر " ، عن أبي هريرة في قوله(سُبْحَانَ الَّذِي أسْرَى بِعَبْدِه).... إلى قوله(إنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ) قال : جاء جبرئيل إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فذكر نحو حديث عليّ بن سهل ، عن حجاج ، إلا أنه قال : جاء جبرائيل ومعه مكائيل ، وقال فيه : وإذا بقوم يسرحون كما تسرح الأنعام يأكلون الضريع والزقوم ، وقال في كل موضع ، قال عليّ ما هؤلاء ، من هؤلاء يا جبرئيل ، وقال في موضع تقرض ألسنتهم تقص ألسنتهم ، وقال أيضا في موضع قال عليّ فيه : ونعم الخليفة. قال في ذكر الخمر ، فقال : لا أريده قد رويت ، قال : جبرائيل : قد أصبت الفطرة يا محمد ، إنها ستحرم على أمتك ، وقال في سدرة المنتهى أيضا :

(17/337)


هذه السدرة المنتهى ، إليها ينتهي كلّ أحد خلا على سبيلك من أمتك ؛ وقال أيضا في الورقة منها تظلّ الخلق كلهم ، تغشاها الملائكة مثل الغربان حين يقعن على الشجرة ، من حُبّ الله عزّ وجلّ وسائر الحديث مثل حديث عليّ.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : ثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن أبي هارون العبدي ، عن أبي سعيد الخدري ؛ وحدثني الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : ثنا معمر ، قال : أخبرنا أبو هارون العبدي ، عن أبي سعيد الخدري ، واللفظ لحديث الحسن بن يحيى ، في قوله( سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأقْصَى ) قال : ثنا النبيّ صلى الله عليه وسلم عن ليلة أُسري به فقال نبيّ الله : " أُتِيتُ بِدَابَّة هي أَشْبَهُ الدَّوَاب بالبَغْلِ ، لَهُ أذُنانِ مُضّطَرِبَتان وَهُوَ البُرَاقُ ، وَهُوَ الَّذِي كانَ تَرْكَبُهُ الأنَبْيِاءُ قَبْلِي ، فَرَكِبْتُهُ ، فانْطَلَقَ بِي يَضَعُ يَدَهُ عِنْدَ مُنْتَهَى بَصَرِه ، فَسَمِعْتُ نِدَاءً عَنْ يَمِينِي : يا مُحَمَّد عَلى رِسْلِك أسألْكَ ، فَمَضَيْتُ ولَمْ أُعَرِّجْ عَلَيْهِ ؛ ثُمَّ سَمِعْتُ نِدَاءً عَنْ شمِالي : يا مُحَمَّد عَلى رِسْلِك أسألْكَ ، فَمَضَيْتُ ولَمْ أُعَرِّجْ عَلَيْهِ ؛ ثُمَّ اسْتَقْبَلْتُ امْرَأةً فِي الطَّرِيقِ ، فَرأيْتُ عَلَيْها مِنْ كُلّ زِينَةٍ مِنْ زِينَةِ الدُّنْيَا رَافعَةً يَدَها ، تَقُولُ : يا مُحَمَّدُ على رِسْلِكَ أسألْكَ ، فَمَضَيْتُ ولَمْ أُعَرِّجْ عَلَيْهَا ، ثُمَّ أتَيْتُ بَيْتَ المَقْدِسِ ، أوْ قالَ المَسْجِدَ الأقْصَى ، فَنزلْتُ عَنِ الدَّابَّةِ فَأوْثقْتُها بالحَلْقَة التي كانَت الأنْبِياءُ تُوثِقُ بِها ، ثُمَّ دَخَلْتُ المَسْجِدَ فَصَلَّيْتُ فِيهِ ، فقالَ لي جَبْرَئِيل : ماذَا رأيْتَ فِي وَجْهِكَ ، فَقُلْتُ : سَمِعْتُ نِدَاءً عَنْ يَمِينِي أنْ يا مُحَمَّدُ عَلى رِسْلِكَ أسألْكَ ، فَمَضَيْتُ ولَمْ أُعَرِّجْ عَلَيْهِ ، قالَ : ذاكَ دَاعِيَ اليَهُود ، أما لَو أنَّك وَقَفْتَ عليه لتهودت أُمَّتُكَ ، قال : ثُمَّ سَمِعْتُ ندَاءً عَنْ يَسارِي أنْ يا مُحَمَّدُ عَلى رِسْلِكَ أسألْكَ ، فَمَضَيْتُ وَلَمْ أُعَرِّجْ عَلَيْهِ ، قالَ : ذَاكَ داعي النَّصَارَى ، أمَا إِنَّكَ لَوْ وَقَفْتَ عَلَيْهِ لَتَنَصَّرَتْ أُمَّتُكَ ، قُلْتُ : ثُمَّ اسْتَقْبَلَتْنِي امْرأةٌ عَلَيْها مِنْ كُلّ زِينَةٍ مِنْ زِينَةِ الدُّنْيَا رَافِعَةً يَدَها تَقُولُ عَلى رِسْلِكَ ، أسألْكَ ، فَمَضَيْتُ ولَمْ أُعَرِّجْ عَلَيْهَا ، قال : تِلْكَ الدُّنْيا تَزَيَّنَتْ لَكَ ، أمَا إنَّكَ لَوْ وَقَفْتَ عَلَيْها لاخْتارَتْ أُمَّتُكَ الدُّنْيا على الآخِرَةِ ، ثُمَّ أُتِيتُ بإناءَيْنِ أحَدُهُما فِيهِ لبَنٌ ، والآخرُ فيه خَمْرٌ ، فَقِيلَ لي : اشْرَبْ أيَّهُما شِئْتَ ، فَأخَذْتُ اللَّبَنَ فَشَرِبْتُهُ ، قال : أصَبْتَ الفِطْرَةَ أوْ قالَ : أخَذْتَ الفِطْرَةَ " .

(17/344)


قال معمر : وأخبرني الزهري ، عن ابن المسيب أنه قيل له : أما إنك لو أخذت الخمر غوت أمتك.
قال أبو هارون في حديث أبي سعيد : " ثُمَّ جِيءَ بالمِعْرَاجِ الَّذِي تَعْرُجُ فِيهِ أرْوَاحُ بَنِي آدَمَ فإِذَا هُوَ أحْسَنُ ما رأيْتُ ألَمْ تَرَ إلى المَيّتِ كَيْفَ يُحِدُّ بَصَرَهُ إلَيْهِ فَعُرِجَ بنا فِيهِ حتى انْتَهَيْنا إلى بابِ السَّماءِ الدُّنْيا ، فاسْتَفْتَحَ جَبْرَائِيلُ ، فَقِيلَ مَنْ هَذَا ؟ قالَ جَبْرَائِيلُ ؟ قِيلَ : وَمَنْ مَعَكَ ؟ قال : مُحَمَّدٌ ، قِيلَ : أوَقَدْ أُرْسِلَ إِلَيْهِ ؟ قال : نَعَمْ ، فَفَتَحُوا وَسَلَّمُوا عَليَّ ، وَإِذَا مَلَكٌ مُوَكَّلٌ يَحْرُسُ السَّماءَ يُقَال لَهُ إسْماعِيلُ ، مَعَهُ سَبْعُونَ ألْفَ مَلَكٍ مَعَ كُلّ مَلَكٍ مِنْهُمْ مِئَةُ ألْفٍ ، ثم قرأ(ومَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إلا هُوَ) وَإِذَا أنا بِرَجُلٍ كَهَيْئَتِهِ يَوْم خَلَقَهُ الله لَمْ يَتَغَيَّرْ مِنْهُ شَيءٌ ، فإِذَا هُوَ تُعْرَض عَلَيْهِ أرْوَاحُ ذُرّيَّتِهِ ، فإذَا كانَتْ رُوح مُؤْمِنٍ ، قالَ : رُوحٌ طَيِّبَةٌ ، وَرِيحٌ طَيِّبَةٌ ، اجْعَلُوا كِتابَهُ فِي عِلِّيِينَ ؛ وَإِذَا كانَ رُوحُ كافِرٍ قالَ : رُوحٌ خَبِيثَةٌ وَرِيحٌ خَبِيثَةٌ ، اجْعَلُوا كِتابَهُ فِي سِجِّيلٍ ، فَقُلْتُ : يا جَبْرَئِيلُ مَنْ هَذَا ؟ قال : أبُوك آدَمُ ، فَسَلَّمَ عَليَّ وَرَحَّبَ بِي وَدَعا لي بِخَيْرٍ وقَال : مَرْحَبا بالنَّبيّ الصَّالِحِ والوَلَدِ الصَّالِحِ ، ثُمَّ نَظَرْتُ فإِذَا أنا بقَوْمٍ لَهُمْ مشَافِرُ كمشَافِرِ الإبِلِ ، وَقَدْ وُكِّلَ بِهِمْ مَنْ يَأْخُذُ بِمَشافِرِهِمْ ، ثُمَّ يُجْعَلُ في أفْوَاهِهِمْ صَخْرًا مِنْ نارٍ يَخْرُجُ مِنْ أسافِلِهِمْ ، قُلْتُ : يَا جَبْرَئِيلُ مَنْ هَؤُلاءِ ؟ قال : هَؤُلاءِ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ اليَتامَى ظُلْما ، ثُمَّ نَظَرْتُ فإِذَا أنا بِقَوْمٍ يُحْذَى مِنْ جُلُودِهِمْ ويُرَدُّ فِي أفْوَاهِهِمْ ، ثُمَّ يُقال : كُلُوا كمَا أكَلْتُمْ ، فإِذَا أكْرَه ما خَلَقَ الله لَهُمْ ذلكَ ، قُلْتُ : مَنْ هَؤُلاءِ يا جَبْرَئِيلُ ؟ قال : هَؤُلاءِ الهَمَّازُونَ اللَّمازُون الذِينَ يأكُلُونَ لُحُومَ النَّاسِ ، ويَقَعُونَ فِي أعْرَاضِهِمْ ، بالسَّبّ ، ثُمَّ نَظَرْتُ فإذَا أنا بِقَوْمٍ عَلى مائِدَة عَلَيْها لَحْمٌ مَشْويّ كأَحْسَنِ ما رأيْتُ مِنَ اللحْمِ ، وَإذَا حَوْلَهُمْ جِيَفٌ ، فَجَعَلُوا يَمِيلُونَ عَلى الجِيَفِ يَأكُلُونَ مِنْها وَيَدَعُونَ ذلكَ اللحْمَ ، قُلْتُ : مَنْ هَؤُلاءِ يا جَبْرَئِيلُ ؟ قالَ : هَؤُلاء الزُّناةُ عَمَدُوا إلى مَا حَرَّمَ الله عَلَيْهِمْ ، وَتَرَكُوا ما أحَلَّ الله لَهُمْ ، ثُمَّ نَظَرْتُ فإِذَا أنا بقَوْمٍ لَهُمْ بُطُونٌ كأَنَّها الُبُيوتُ وَهيَ على سابِلَة آل فِرْعَوْنَ ، فإذَا مَرَّ بِهِمْ آلُ فِرْعَوْنَ ثارُوا ، فَيمِيلُ بأحَدِهِمْ بَطْنُهُ فَيَقَعُ ، فَيَتَوَطئُوهُمْ آلُ فِرْعَوْنَ بأرْجُلِهِمْ ، وَهُمْ يُعْرَضُونَ عَلى النارِ غُدُوًّا وَعَشِيًّا ؛ قُلْتُ : مَنْ هَؤُلاء يا جَبْرَئِيلُ ؟ قال : هَؤُلاء أكَلَةُ الرّبا ، رَبا فِي بُطُونِهِم ، فَمَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ

(17/345)


من المَسّ ؛ ثُمَّ نَظَرْتُ ، فإِذَا أنا بنِساءٍ مُعَلَّقاتٍ بِثُدُيِّهِنَّ ، وَنِساءٌ مُنَكَّساتٌ بأرْجُلِهِنَّ ، قُلْتُ : مَنْ هَؤُلاءِ يا جَبْرَئِيلُ ؟ قال : هنّ اللاتي يَزْنِينَ وَيَقْتُلْنَ أولادَهُنَّ قالَ : ثُمَّ صَعَدْنا إلى السَّماء الثَّانِيَةِ ، فإذَا أنا بِيُوسُف وحَوْلهُ تَبَعٌ مِنْ أُمَّتِهِ ، وَوَجْهُهُ كالقَمَرِ لَيْلَةَ البَدْرِ ، فَسَلَّمَ عَلَيَّ وَرَحَّبَ بِي ، ثُمَّ مَضَيْنَا إلى السَّماءِ الثَّالِثَةِ ، فإذا أنا بابْنَيِ الخَالَةِ يَحيَى وَعِيسَى ، يُشْبِهُ أحَدُهُما صَاحِبَهُ ، ثِيابُهما وَشَعْرُهُما ، فَسَلَّما عَليَّ ، وَرَحَّبا بِي ، ثُمَّ مَضَيْنَا إلى السَّماء الرّابِعَةِ ، فإذا أنا بإدْرِيسَ ، فَسَلَّمَ عَليَّ وَرَحَّب وَقَدْ قالَ الله(وَرَفَعْناه مَكانا عَلِيًّا) ؛ ثُمَّ مَضَيْنا إلى السَّماءِ الخَامِسَةِ ، فإذا أنا بِهارُون المُحَبَّبِ فِي قَوْمِهِ ، حَوْلَهُ تَبَعٌ كَثِيرٌ مِنْ أُمَّتِهِ ، فَوَصَفَهُ النَّبِيُّ صَلى الله عليه وسَلَّمَ : طَوِيلُ اللِّحْيَة تَكادُ لِحْيَتُهُ تَمَسُّ سُرَّتَهُ ، فَسلَّمَ عَليَّ وَرَحَّبَ ؛ ثُمَّ مَضَيْنا إلى السَّماء السَّادسَة فإذَا أنا بِمُوسَى بْنِ عِمْرَانَ فَوَصَفَهُ النَّبِيُّ صَلى الله عليه وسلَّمَ فقال : كَثِيرُ الشَّعْرِ لَوْ كانَ عَلَيْهِ قَمِيصَانِ خَرَجَ شَعْرُهُ مِنْهُما ؛ قالَ مُوسَى : تَزْعَمُ النَّاسُ أنّي أكْرَمُ الخَلْقِ عَلى الله ، فَهَذَا أكْرَمُ على الله مِنِّي ، وَلَوْ كانَ وَحْدَهُ لَمْ أكُنْ أُبالي ، وَلكِنْ كُلُّ نَبِيّ وَمَنْ تَبِعَهُ مِنْ أُمَّتِهِ ؛ ثُمَّ مَضَيْنَا إلى السَّماءِ السَّابِعَةِ ، فإِذَا أنا بإبْرَاهِيمَ وَهُوَ جالِس مُسْنِدٌ ظَهْرَهُ إلى البَيْتِ المَعْمُورِ فَسَلَّمَ عَليَّ وقَال : مَرْحَبا بالنَّبِيّ الصَّالِحِ وَالوَلَدِ الصَّالِحِ ، فَقِيلَ : هَذَا مَكانُكَ وَمَكانُ أُمَّتِك ، ثُمَّ تَلا( إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ ) ثُمَّ دَخَلْتُ البَيْتَ المَعْمُورَ فَصَلَّيْتُ فِيهِ ، وَإِذَا هُوَ يَدْخُلُهُ كُلَّ يَوْمٍ سَبْعُونَ ألْفَ مَلَكٍ لا يَعُودُونَ إلَى يَوْمِ القِيامَة ؛ ثُمَّ نَظَرْتُ فإِذَا أنا بِشَجَرَةٍ إِنْ كانَتْ الوَرَقَةُ مِنْها لمُغطِّيَةٌ هذهِ الأمَّةَ ، فإذَا فِي أصْلِها عَيْنٌ تَجْرِي قَدْ تَشَعَّبَتْ شُعْبَتَيْنِ ، فَقُلْتُ : ما هَذا يا جَبْرَئِيلُ ؟ قال : أمَّا هذَا : فَهُوَ نَهْرُ الرَّحمَةِ ، وأمَّا هذَا : فَهُوَ الكَوْثَرُ الذِي أعْطاكَهُ الله ، فاغْتَسَلْتُ فِي نَهْرِ الرَّحمَةِ فَغُفِرَ لي ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِي ومَا تَأخَّرَ ، ثُمَّ أخذتُ عَلى الكَوْثَرِ حتى دَخَلْتُ الجَنَّة ، فإذَا فِيها ، ما لا عَيْنٌ رأتْ ، ولا أُذُنٌ سَمِعَتْ ، وَلا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ ، وَإِذَا فِيها رُمَّانٌ كأنَّهُ جُلُودُ الإبِلِ المُقَتَّبَةُ ، وإِذَا فِيها طَيْرٌ كأنَّها البُخْتُ ، فقالَ أبُو بَكْرٍ : إنَّ تِلكَ الطَّيْرَ لنَاعِمَةٌ ، قالَ : أكَلَتُها أنْعَمُ مِنْها يا أبا بَكْرٍ ، وإنّي لأرْجو أنْ تَأكُلَ مِنْها ، ورأيْتُ فِيها جارِيَةً ، فَسألْتُها : لِمَنْ أنْتِ ؟ فَقالَتْ : لِزَيْد بْنِ حارِثَة فَبَشَّرَ بها رَسُولُ الله صَلى الله عليه وسلَّمَ زَيْدًا ؛ قالَ : ثُمَّ إِنَّ الله أمَرَنِي بأمْرِهِ ، وفَرَضَ عَليَّ خَمْسِينَ صَلاةً ، فَمَرَرْتُ عَلى مُوسَى ، فقالَ : بِمَ أمَرَكَ رَبُّكَ ؟ قُلْتُ : فَرضَ عَليَّ خَمْسِينَ صَلاةً ، قالَ : ارْجِعْ إلى رَبِّكَ فأسأَلْهُ التَّخْفِيفَ ، فإنَّ أُمَّتَكَ لَنْ يَقُومُوا بِهذَا ، فَرَجَعْتُ إلى رَبّي فَسألْتُهُ فَوَضَعَ عَنِّي عَشْرًا ، ثُمَّ رَجَعْتُ إلى مُوسَى ، فَلَمْ أزَلْ أرْجِعُ إلى رَبّي إذَا مَرَرْتُ بِمُوسَى حتى فَرَضَ عَليَّ خَمْسَ صَلَوَاتٍ ، فَقالَ مُوسَى : ارْجِعْ إلى رَبِّكَ فاسألْهُ التَّخْفِيفَ ، فَقُلْتُ : قَدْ رَجَعْتُ إلى رَبّي حتى اسْتَحْيَيْتُ ؛ أو قالَ : قُلْتُ : ما أنا بِرَاجِعٍ ، فَقِيلَ لي : إِنَّ لَكَ بِهذِه الخَمْسِ صَلَوَاتِ خَمْسِينَ صَلاةً ، الحَسَنَةُ بِعَشْرِ أمْثالِهَا ، وَمَنْ هَمَّ بِحَسَنَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْها كُتِبَتْ لَهُ حَسَنَةٌ ، وَمَنْ عَمِلَها كُتِبَتْ لَهُ عَشْرًا ، وَمَنْ هَمَّ بِسَيِّئةٍ فَلَم يَعْمَلْهَا لَمْ تُكْتَبْ شَيْئا ، فإنْ عَمِلَها كُتِبَتْ وَاحدَةً " .
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، عن محمد بن إسحاق ، قال : ثني روح بن القاسم ، عن أبي هارون عمارة بن جوين العبدي ، عن أبي سعيد الخدري ؛ وحدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، قال : وثني أبو جعفر ، عن أبي هارون ، عن أبي سعيد ، قال : سمعت النبيّ صلى الله عليه وسلم يقول : " لَمَّا فَرَغْتُ مِمَّا كانَ فِي بَيْتِ المَقْدِسِ ، أُتِيَ بالمِعْرَاجِ ، ولَمْ أرَ شَيْئا قَطُّ أحْسَنَ مِنْهُ ، وَهُوَ الَّذِي يَمُدُّ إلَيْهِ مَيِّتُكُمْ عَيْنَيْهِ إذا حَضَرَ ، فَأصْعَدَنِي صَاحِبي فِيهِ حتى انْتَهَى إلى بابٍ مِنَ الأبْوَابِ يُقالُ لَهُ بَابُ الحَفَظَةِ ، عَلَيْهِ مَلَكٌ يُقالُ لَهُ إسْماعِيلُ ، تَحْتَ يَدَيْهِ اثْنا عَشَرَ ألْفَ مَلَكٍ ، تَحْتَ يَدَيْ كُلِّ مَلَكٍ مِنْهُمْ اثْنا عَشَرَ ألْفَ مَلَكٍ ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين حدّث هذا الحديث : (ما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إلا هُوَ) ثم ذكر نحو حديث معمر ، عن أبي هارون إلا أنه قال في حديثه : قال : ثُمَّ دَخَلَ بِيَ الجَنَّةَ فَرأيْتُ فيها جارِيَةً ، فَسألتُها لِمَنْ أنْتِ ؟ وَقَدْ أعْجَبَتْنِي حين رأيْتُها ، فَقالَتْ : لِزَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ ، فبشَّر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم زيد بن حارثة ، ثم انتهى حديث ابن حميد عن سلمة إلى ههنا.
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن الزهري ، عن ابن المسيب ، عن أبي هريرة ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وصف لأصحابه ليلة أُسري به إبراهيمَ وموسى وعيسى فقال : أمَّا إبْرَاهِيمُ فَلَمْ أرَ رَجُلا أشْبَهُ بِصَاحِبِكُمْ مِنْهُ. وأمَّا مُوسَى فَرَجُلٌ آدَمٌ طِوَالٌ جَعْدٌ أقْنَى ، كأنَّه مِنْ رِجالِ شُنُوءَةَ. وأمَّا عِيسَى فَرجُلٌ أحْمَرُ بينَ القَصِير والطَّوِيلِ سَبِطُ الشَّعْرِ

(17/346)


كَثِيرُ خِيلانِ الوَجْهِ ، كأنَّه خَرَجَ مِنْ دِيمَاسٍ كأنَّ رأسَهُ يَقْطُرُ ماءً ، ومَا بِهِ ماءٌ ، أشْبَهُ مَنْ رأيْتُ بِهِ عُرْوَةُ بْنُ مَسْعُودٍ " .
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، عن محمد ، عن الزهري ، عن سعيد بن المسيب ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بنحوه ، ولم يقل عن أبي هريرة.
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، عن أنس ، أن النبي صلى الله عليه وسلم أُتِي بالبراق ليلة أُسري به مسرجا ملجما ليركبه ، فاستصعب عليه ، فقال له جبرائيل : ما يحملك على هذا ، فوالله ما ركبك أحد قطّ أكرم علي الله منه ، قال : فارفض عرقا.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، في قوله( سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ ) أسري بِنَبِيِّ الله عشاء من مكة إلى بيت المقدس ، فصلى نبيّ الله صلى الله عليه وسلم فيه ، فأراه الله من آياته وأمره بما شاء ليلة أسري به ، ثم أصبح بمكة. ذُكر لنا أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم قال : حُمِلْتُ عَلى دابَّة يُقَالُ لَهَا البُرَاقُ ، فَوْقَ الحِمارِ وَدُونَ البَغْلِ يَضَعُ حافِرَهُ عِنْدَ مُنْتَهَى طَرْفِهِ ، فحدث نبيّ الله بذلك أهل مكة ، فكذب به المشركون وأنكروه وقالوا : يا محمد تخبرنا أنك أتيت بيت المقدس ، وأقبلت من ليلتك ، ثم أصبحت عندنا بمكة ، فما كنت تجيئنا به ، وتأتي به قبل هذا اليوم مع هذا ، فصدقه أبو بكر ، فسمِّي أبو بكر الصدّيق من أجل ذلك.
حدثنا ابن أبي الشوارب ، قال : ثنا عبد الواحد بن زياد ، قال : ثنا سليمان الشيباني ، عن عبد الله بن شدّاد ، قال : لما كان ليلة أُسري برسول الله صلى الله عليه وسلم أتي بدابة يقال لها البراق ، دون البغل وفوق الحمار ، تضع حافرها عند منتهى ظفرها ؛ فلما أتى بيت المقدس أُتي بإناءين : إناء من لبن ، وإناء من خمر ، فشرب اللبن. قال : فقال له جبرائيل : هديت وهديت أمتك.
وقال آخرون من قال : أسري بالنبيّ صلى الله عليه وسلم إلى المسجد الأقصى بنفسه وجسمه أسرى به عليه السلام ، غير أنه لم يدخل بيت المقدس ، ولم يصلّ فيه ، ولم ينزل عن البراق حتى رجع إلى مكة.

(17/348)


* ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن بشار ، قال : ثنا يحيى بن سعيد القطان ، قال : ثنا سفيان ، قال : ثني عاصم بن بهدلة عن زرّ بن حبيش ، عن حُذيفة بن اليمان ، أنه قال في هذه الآية( سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأقْصَى ) قال : لم يصلّ فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولو صلى فيه لكتب عليكم الصلاة فيه ، كما كتب عليكم الصلاة عند الكعبة.
حدثنا أبو كريب ، قال : سمعت أبا بكر بن عياش ، ورجل يحدّث عنده بحديث حين أسري بالنبيّ صلى الله عليه وسلم ، فقال له : لا تجِيء بمثل عاصم ولا زر ؛ قال : قال حُذيفة لزرّ بن حبيش ؛ قال : وكان زرّ رجلا شريفا من أشراف العرب ، قال : قرأ حُذيفة( سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ) وكذا قرأ عبد الله ، قال : وهذا كما يقولون : إنه دخل المسجد فصلى فيه ، ثم دخل فربط دابته ، قال : قلت : والله قد دخله ، قال : من أنت فإني أعرف وجهك ولا أدري ما اسمك ، قال : قلت : زرّ بن حبيش ، قال : ما عملك هذا ؟ قال : قلت : من قبَل القرآن ، قال : من أخذ بالقرآن أفلح ، قال : فقلت( سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ ) قال : فنظر إليّ فقال : يا أصلع ، هل ترى دخله ؟ قال : قلت : لا والله ، قال حُذيفة : أجل والله الذي لا إله إلا هو ما دخله ، ولو دخله لوجبت عليكم صلاة فيه ، لا والله ما نزل عن البراق حتى رأى الجنة والنار ، وما أعدّ الله في الآخرة أجمع ؛ وقال : تدري ما البراق ؟ قال : دابة دون البغل وفوق الحمار ، خطوه مدّ البصر.
وقال آخرون : بل أسرى بروحه ، ولم يسر بجسده.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، عن محمد بن إسحاق ، قال : ثني يعقوب بن عتبة بن المغيرة بن الأخنس أن معاوية بن أبي سفيان ، كان إذا سئل عن مسرى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : كانت رؤيا من الله صادقة.

(17/349)


حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، عن محمد ، قال : ثني بعض آل أبي بكر ، أن عائشة كانت تقول : ما فقد جسد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولكن الله أسرى بروحه.
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، قال ابن إسحاق : فلم ينكر ذلك من قولها الحسن أن هذه الآية نزلت( وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلا فِتْنَةً لِلنَّاسِ ) ولقول الله في الخبر عن إبراهيم ، إذ قال لابنه( يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى ) ثم مضى على ذلك ، فعرفت أن الوحي يأتي بالأنبياء من الله أيقاظا ونياما ، وكان رسول صلى الله عليه وسلم يقول : " تَنَامُ عَيْني وَقَلْبي يَقْظانُ " فالله أعلم أيّ ذلك كان قد جاءه وعاين فيه من أمر الله ما عاين على أيّ حالاته كان نائما أو يقظانا كلّ ذلك حقّ وصدق.
والصواب من القول في ذلك عندنا أن يقال : إن الله أسرى بعبده محمد صلى الله عليه وسلم من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى ، كما أخبر الله عباده ، وكما تظاهرت به الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أن الله حمله على البراق حين أتاه به ، وصلى هنالك بمن صلى من الأنبياء والرسل ، فأراه ما أراه من الآيات ؛ ولا معنى لقول من قال : أسرى بروحه دون جسده ، لأن ذلك لو كان كذلك لم يكن في ذلك ما يوجب أن يكون ذلك دليلا على نبوّته ، ولا حجة له على رسالته ، ولا كان الذين أنكروا حقيقة ذلك من أهل الشرك ، وكانوا يدفعون به عن صدقه فيه ، إذ لم يكن منكرا عندهم ، ولا عند أحد من ذوي الفطرة الصحيحة من بني آدم أن يرى الرائي منهم في المنام ما على مسيرة سنة ، فكيف ما هو على مسيرة شهر أو أقل ؟ وبعد ، فإن الله إنما أخبر في كتابه أنه أسرى بعبده ، ولم يخبرنا أنه أسرى بروح عبده ، وليس جائزا لأحد أن يتعدّى ما قال الله إلى غيره. فإن ظنّ ظانّ أن ذلك جائز ، إذ كانت العرب تفعل ذلك في كلامها ، كما قال قائلهم :

(17/350)


حَسِبْتُ بُغامَ رَاحِلَتِي عنَاقا... ومَا هِيَ وَيْبَ غيرِكِ بالعْنَاقِ (1)
يعني : حسبت بغام راحلتي صوت عناق ، فحذف الصوت واكتفى منه بالعناق ، فإن العرب تفعل ذلك فيما كان مفهوما مراد المتكلم منهم به من الكلام. فأما فيما لا دلالة عليه إلا بظهوره ، ولا يوصل إلى معرفة مراد المتكلِّم إلا ببيانه ، فإنها لا تحذف ذلك ؛ ولا دلالة تدلّ على أن مراد الله من قوله(أسْرَى بِعَبْدِهِ) أسرى بروح عبده ، بل الأدلة الواضحة ، والأخبار المتتابعة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الله أسرى به على دابة يُقال لها البراق ؛ ولو كان الإسراء بروحه لم تكن الروح محمولة على البراق ، إذ كانت الدوابّ لا تحمل إلا الأجسام. إلا أن يقول قائل : إن معنى قولنا : أسرى روحه : رأى في المنام أنه أسرى بجسده على البراق ، فيكذب حينئذ بمعنى الأخبار التي رُويت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أن جبرائيل حمله على البراق ، لأن ذلك إذا كان مناما على قول قائل هذا القول ، ولم تكن الروح عنده مما تركب الدوابّ ، ولم يحمل على البراق جسم النبيّ صلى الله عليه وسلم ، لم يكن النبيّ صلى الله عليه وسلم على قوله حُمل على البراق لا جسمه ، ولا شيء منه ، وصار الأمر عنده كبعض أحلام النائمين ، وذلك دفع لظاهر التنزيل ، وما تتابعت به الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وجاءت به الآثار عن الأئمة من الصحابة والتابعين.
وقوله(الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ) يقول تعالى ذكره : الذي جعلنا حوله البركة لسكانه في معايشهم وأقواتهم وحروثهم وغروسهم. وقوله(لِنُرَيَهُ مِنْ آياتِنا) يقول تعالى ذكره : كي نري عبدنا محمدا من آياتنا ، يقول : من عبرنا وأدلتنا وحججنا ، وذلك هو ما قد ذكرت في الأخبار التي رويتها آنفا ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أريه في طريقه إلى بيت المقدس ، وبعد مصيره إليه من عجائب العبر والمواعظ.
__________
(1) البيت تقدم الاستشهاد به في (4 : 92) من هذا التفسير ، واستشهد به الفراء (في معاني القرآن 179) ولكنه لم يبين موضع الشاهد فيه كما بينه المؤلف هنا ، وهو أن العرب قد تحذف المضاف وتقيم المضاف إليه مقامه ، كما في البيت ، إذ إنه يريد : حسبت بغام راحلتي صوت عناق.

(17/351)


وَآَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا (2)

كما حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله(لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا) ما أراه الله من الآيات والعبر في طريق بيت المقدس.
وقوله( إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ) يقول تعالى ذكره : إن الذي أسرى بعبده هو السميع لما يقول هؤلاء المشركون من أهل مكة في مسرى محمد صلى الله عليه وسلم من مكة إلى بيت المقدس ، ولغير ذلك من قولهم وقول غيرهم ، البصير بما يعملون من الأعمال ، لا يخفى عليه شيء من ذلك ، ولا يعزب عنه علم شيء منه ، بل هو محيط بجميعه علما ، ومحصيه عددا ، وهو لهم بالمرصاد ، ليجزي جميعهم بما هم أهله.
وكان بعض البصريين يقول : كسرت " إن " من قوله( إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ) لأن معنى الكلام : قل يا محمد : سبحان الذي أسرى بعبده ، وقل : إنه هو السميع البصير.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ أَلا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلا (2) }
يقول تعالى ذكره : سبحان الذي أسرى بعبده ليلا وآتى موسى الكتاب ، وردّ الكلام إلى(وآتَيْنا) وقد ابتدأ بقوله أسرى لما قد ذكرنا قبل فيما مضى من فعل العرب في نظائر ذلك من ابتداء الخبر بالخبر عن الغائب ، ثم الرجوع إلى الخطاب وأشباهه. وعنى بالكتاب الذي أوتي موسى : التوراة(وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إسْرائِيلَ) يقول : وجعلنا الكتاب الذي هو التوراة بيانا للحقّ ، ودليلا لهم على محجة الصواب فيما افترض عليهم ، وأمرهم به ، ونهاهم عنه.
وقوله(ألا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلا)
اختلفت القرّاء في قراءة ذلك ، فقرأته عامة قرّاء المدينة والكوفة(ألا تَتَّخِذُوا) بالتاء بمعنى : وآتينا موسى الكتاب بأن لا تتخذوا يا بني إسرائيل(مِنْ دُونِي وَكِيلا). وقرأ ذلك بعض قرّاء البصرة(ألا يَتَّخِذُوا) بالياء على الخبر عن بني إسرائيل ، بمعنى : وجعلناه هدى لبني إسرائيل ، ألا يتَّخذ بنو إسرائيل من دوني وكيلا وهما قراءتان صحيحتا المعنى ، متفقتان غير مختلفتين ، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب الصواب ، غير أني أوثر القراءة بالتاء ، لأنها أشهر في القراءة وأشد استفاضة فيهم من القراءة بالياء. ومعنى

(17/352)


ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا (3)

الكلام : وآتينا موسى الكتاب وجعلناه هدى لبني إسرائيل ألا تتخذوا حفيظا لكم سواي. وقد بينا معنى الوكيل فيما مضى. وكان مجاهد يقول : معناه في هذا الموضع : الشريك.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله(ألا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلا) قال : شريكا.
وكأن مجاهدا جعل إقامة من أقام شيئا سوى الله مقامه شريكا منه له ، ووكيلا للذي أقامه مقام الله.
وبنحو الذي قلنا في تأويل هذه الآية ، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله(وآتَيْنَا مُوسَى الكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إسْرَائِيل) جعله الله لهم هدى ، يخرجهم من الظلمات إلى النور ، وجعله رحمة لهم.
القول في تأويل قوله تعالى : { ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا (3) }
يقول تعالى ذكره : سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى ، وآتينا موسى الكتاب وجعلناه هدى لبني إسرائيل ذرية من حملنا مع نوح. وعنى بالذرية : جميع من احتجّ عليه جلّ ثناؤه بهذا القرآن من أجناس الأمم ، عربهم وعجمهم من بني إسرائيل وغيرهم ، وذلك أنّ كلّ من على الأرض من بني آدم ، فهم من ذرية من حمله الله مع نوح في السفينة.
وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ ) والناس كلهم ذرّية من أنجى الله في تلك السفينة ، وذُكر لنا أنه ما نجا فيها يومئذ غير نوح وثلاثة بنين له ، وامرأته وثلاث نسوة ، وهم : سام ، وحام ، ويافث ؛ فأما سام : فأبو العرب ؛ وأما حام : فأبو الحبش (1) ؛ وأما يافث : فأبو الروم.
__________
(1) الحبش : ليسوا حاميين ، وإنما هم فرع من الساميين ولغة. وأولاد حام هم الزنوج.

(17/353)


حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة( ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ ) قال : بنوه ثلاثة ونساؤهم ، ونوح وامرأته.
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قالا ثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، قال : قال مجاهد : بنوه ونساؤهم ونوح ، ولم تكن امرأته.
وقد بيَّنا في غير هذا الموضع فيما مضى بما أغنى عن إعادته.
وقوله( إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا ) يعني بقوله تعالى ذكره : " إنه " إن نوحا ، والهاء من ذكر نوح كان عبدا شكورا لله على نعمه.
وقد اختلف أهل التأويل في السبب الذي سماه الله من أجله شكورا ، فقال بعضهم : سماه الله بذلك لأنه كان يحمد الله على طعامه إذا طعمه.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن بشار ، قال : ثنا يحيى وعبد الرحمن بن مهدي ، قالا ثنا سفيان ، عن التيمي ، عن أبي عثمان ، عن سلمان ، قال : كان نوح إذا لبس ثوبا أو أكل طعاما حمد الله ، فسمِّي عبدا شكورا.
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا يحيى وعبد الرحمن ، قالا ثنا سفيان عن أبي حصين ، عن عبد الله بن سنان ، عن سعيد بن مسعود بمثله.
حدثنا أبو كريب ، قال : ثنا أبو بكر ، عن أبي حصين ، عن عبد الله بن سنان ، عن سعيد بن مسعود قال : ما لبس نوح جديدا قطّ ، ولا أكل طعاما قطّ إلا حمد الله فلذلك قال الله(عَبْدًا شَكُورًا).
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : ثنا المعتمر بن سليمان ، قال : ثني سفيان الثوري ، قال : ثني أيوب ، عن أبي عثمان النهدي ، عن سلمان ، قال : إنما سمي نوح عبدا شكورا أنه كان إذا لبس ثوبا حمد الله ، وإذا أكل طعاما حمد الله.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد( ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ ) من بني إسرائيل وغيرهم(إِنَّهُ كانَ عَبْدًا شَكُورًا) قال : إنه لم يجدّد ثوبا قطّ إلا حمد الله ، ولم يبل ثوبا قطّ إلا حمد الله ، وإذا شرب شربة حمد الله ، قال : الحمد لله الذي سقانيها على شهوة ولذّة وصحة ، وليس في تفسيرها ، وإذا شرب شربة قال هذا ، ولكن بلغني ذا.

(17/354)


وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا (4) فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا (5)

حدثني القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثنا أبو فضالة ، عن النضر بن شفي ، عن عمران بن سليم ، قال : إنما سمي نوح عبدا شكورا أنه كان إذا أكل الطعام قال : الحمد لله الذي أطعمني ، ولو شاء أجاعني وإذا شرب قال : الحمد لله الذي سقاني ، ولو شاء أظمأني ، وإذا لبس ثوبا قال : الحمد لله الذي كساني ، ولو شاء أعراني ، وإذا لبس نعلا قال : الحمد لله الذي حذاني ، ولو شاء أحفاني ، وإذا قضى حاجة قال : الحمد لله الذي أخرج عني أذاه ، ولو شاء حبسه.
وقال آخرون في ذلك بما حدثني به يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : ثني عبد الجبار بن عمر أن ابن أبي مريم حدّثه ، قال : إنما سمى الله نوحا عبدا شكورا ، أنه كان إذا خرج البراز منه قال : الحمد لله الذي سوّغنيك طيبا ، وأخرج عنى أذاك ، وأبقى منفعتك.
وقال آخرون في ذلك بما حدثنا به بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قال الله لنوح(إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا) ذكر لنا أنه لم يستجد ثوبا قطّ إلا حمد الله ، وكان يأمر إذا استجدّ الرجل ثوبا أن يقول : الحمد لله الذي كساني ما أتجمَّل به ، وأواري به عورتي.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : ثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة(إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا) قال : كان إذا لبس ثوبا قال : الحمد لله ، وإذا أخلقه قال : الحمد لله.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إسْرائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا (4) فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولا (5) }
وقد بيَّنا فيما مضى قبل أن معنى القضاء : الفراغ من الشيء ، ثم يستعمل في كلّ مفروغ منه ، فتأويل الكلام في هذا الموضع : وفرغ ربك إلى بني إسرائيل فيما أنزل من كتابه على موسى صلوات الله وسلامه عليه بإعلامه إياهم ، وإخباره

(17/355)


لهم( لَتُفْسِدُنَّ فِي الأرْضِ مَرَّتَيْنِ ) يقول : لتعصنّ الله يا معشر بني إسرائيل ولتخالفنّ أمره في بلاده مرّتين( وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا ) يقول : ولتستكبرنّ على الله باجترائكم عليه استكبارا شديدا.
وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قول الله(وَقَضَيْنَا إلى بَنِي إسْرَائِيلَ) قال : أعلمناهم.
حدثني عليّ بن داود ، قال : ثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، في قوله(وَقَضَيْنَا إلى بَنِي إسْرَائِيلَ) يقول : أعلمناهم.
وقال آخرون : معنى ذلك : وقضينا على بني إسرائيل في أمّ الكتاب ، وسابق علمه.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، (وَقَضَيْنَا إلى بَنِي إسْرَائِيلَ) قال : هو قضاء مضى عليهم.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سيعد ، عن قتادة ، قوله(وَقَضَيْنَا إلى بَنِي إسْرَائِيلَ) قضاء قضاه على القوم كما تسمعون.
وقال آخرون : معنى ذلك : أخبرنا.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ؛ وحدثني الحرث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله(وَقَضَيْنَا إلى بَنِي إسْرَائِيلَ فِي الكِتَابِ) قال : أخبرنا بني إسرائيل.
وكلّ هذه الأقوال تعود معانيها إلى ما قلت في معنى قوله(وَقَضَيْنا) وإن كان الذي اخترنا من التأويل فيه أشبه بالصواب لإجماع القرّاء على قراءة قوله(لَتُفِسُدَّن) بالتاء دون الياء ، ولو كان معنى الكلام : وقضينا عليهم في الكتاب ، لكانت القراءة بالياء أولى منها بالتاء ، ولكن معناه لما كان أعلمناهم وأخبرناهم ، وقلنا لهم : كانت التاء أشبه وأولى للمخاطبة.
وكان فساد بني إسرائيل في الأرض المرةّ الأولى ما حدثني به هارون ، قال : ثنا عمرو بن حماد ، قال : ثنا أسباط ، عن السديّ في خبر ذكره عن

(17/356)


أبي صالح ، وعن أبي مالك ، عن ابن عباس ، وعن مرّة ، عن عبد الله أن الله عهد إلى بني إسرائيل في التوراة(لَتُفْسِدُنَّ فِي الأرْضِ مَرَّتَيْنِ) فكان أوّل الفسادين : قتل زكريا ، فبعث الله عليهم ملك النبط ، وكان يُدعى صحابين (1) فبعث الجنود ، وكان أساورته من أهل فارس ، فهم أولو بأس شديد ، فتحصنت بنو إسرائيل ، وخرج فيهم بختنصر يتيما مسكينا ، إنما خرج يستطعم ، وتلطف حتى دخل المدينة فأتى مجالسهم ، فسمعهم يقولون : لو يعلم عدونا ما قُذف في قلوبنا من الرعب بذنوبنا ما أرادوا قتالنا ، فخرج بختنصر حين سمع ذلك منهم ، واشتد القيام على الجيش ، فرجعوا ، وذلك قول الله( فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولا ) ثم إن بني إسرائيل تجهَّزوا ، فغزوا النبط ، فأصابوا مهم واستنقذوا ما في أيديهم ، فذلك قول الله( ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا ) يقول : عددا.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد : كان إفسادهم الذي يفسدون في الأرض مرتين : قتل زكريا ويحيى بن زكريا ، سلط الله عليهم سابور ذا الأكتاف ملكا من ملوك فارس ، من قتل زكريا ، وسلَّط عليهم بختنصر من قتل يحيى.
حدثنا عصام بن رواد بن الجراح ، قال : ثنا أبي ، قال : ثنا سفيان بن سعيد الثوري ، قال : ثنا منصور بن المعتمر ، عن ربعي بن حراش ، قال : سمعت حُذيفة بن اليمان يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إِنَّ بنِي إسْرَائِيلَ لَمَّا اعْتَدَوْا وَعَلَوْا ، وقَتَلُوا الأنْبِيَاءَ ، بَعَثَ الله عَلَيْهِمْ مَلِكَ فَارِسَ بُخْتَنَصَّر ، وكانَ الله مَلَّكَهُ سَبْعَ مِئَة سَنةٍ ، فسارِ إِلَيْهمْ حتى دَخَلَ بَيْتَ المَقْدِسِ فَحاصَرَهَا وَفَتَحَها ، وَقَتَلَ عَلى دَمِ زَكَرِيَّا سَبْعينَ ألْفا ، ثُمَّ سَبَى أهْلَها وبَنِي الأنْبِياء ، وَسَلَبَ حُليَّ بَيْتِ المَقْدِسِ ، وَاسْتَخْرَجَ مِنْها سَبْعِينَ ألْفا وَمِئَةَ ألْفِ عَجَلَةٍ مِنْ حُلَيٍّ حتى أوْرَدَهُ بابِلَ ، قال حُذيفة : فقلت : يا رسول الله لقد كان بيت المقدس
__________
(1) في تاريخ الطبري (ج 2 قسم أول ص 657 طبعة أوربة) : صيحانين ، وفي بعض النسخ في هامشه ، صحائين ، وصيحابين ، وسنحاريب ، وفي 656 منه : صيحون ، وفي رواية بهامشه عدة صور للتكملة.

(17/357)


عظيما عند الله ؟ قال : أجَلْ بَناهُ سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ مِنْ ذَهَبٍ وَدُرّ وَياقُوتٍ وَزَبَرْجَدٍ ، وكانَ بَلاطُه بَلاطَةً مِنْ ذَهَب وَبَلاطَةً منْ فِضَّةٍ ، وعُمُدُهُ ذَهَبا ، أعْطاهُ الله ذلك ، وسَخَّرَ لَهُ الشَّياطينَ يأْتُونَهُ بِهذِهِ الأشْياءِ فِي طَرْفَةِ عَيْنٍ ، فَسارَ بُخْتَنَصَّر بهذِه الأشْياءِ حتى نزلَ بِها بابِلَ ، فَأقامَ بَنُوا إسْرَائِيلَ في يَدَيهِ مِئَةَ سَنَةٍ تُعَذّبُهُمُ المَجُوسُ وأبْناءُ المَجُوسِ ، فيهمُ الأنْبِياءُ وأبْناءُ الأنْبِياء ، ثُمَّ إِنَّ الله رَحمَهُمْ ، فأوْحَى إلى مَلِك مِنْ مُلُوكِ فارِس يُقالُ لَهُ كُورَسُ ، وكانَ مُؤْمِنا ، أَنْ سِرْ إلى بَقايا بَنِي إِسْرَائِيلَ حتى تَسْتَنْقذَهُمْ ، فَسارَ كُورَسُ بِبَنِي إسْرَائِيلَ وحُليِّ بَيْتِ المَقْدِسِ حتى رَدَّهُ إِلَيْهِ ، فَأقامَ بَنُو إسْرَائِيلَ مُطِيعينَ لله مِئَةَ سَنَةٍ ، ثُمَّ إِنَّهُمْ عادُوا في المعَاصِي ، فَسَلَّطَ الله عَلَيْهِمْ ابْطيانْحُوسَ (1) فَغَزَا بأبْناءِ مَنْ غَزَا مَعَ بُخْتَنَصَّر ، فَغَزَا بَنِي إسْرَائِيلَ حتى أتاهُمْ بَيْتَ المَقْدِسِ ، فَسَبى أهْلَها ، وأحْرَقَ بَيْتَ المَقْدِسِ ، وَقَالَ لَهُمْ : يا بَنِي إسْرَائِيلَ إنْ عُدْتُمْ فِي المعَاصِي عُدْنا عَلَيْكُمْ بالسِّباءِ ، فَعادُوا فِي المعَاصِي ، فَسَيَّر الله عَلَيْهِمُ السِّباء الثَّالِثَ مَلِكَ رُوميَّةَ ، يُقالُ لَهُ قاقِسُ بْنُ إسْبايُوس ، فَغَزَاهُم فِي البَرّ والبَحْرِ ، فَسَباهُمْ وَسَبى حُلِيّ بَيْتِ المَقْدِسِ ، وأحْرَقَ بَيْتَ المَقْدِسِ بالنِّيرَانِ ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : هذَا مِنْ صَنْعَةِ حُلِيّ بَيْتِ المَقْدِسِ ، ويَرُدُّهُ المَهْدِيُّ إِلَى بَيْتِ المَقْدِسِ ، وَهُوَ ألْفُ سَفِينَةٍ وسَبْعُ مِئَةِ سَفِينَةٍ ، يُرْسَى بِها عَلى يافا حتى تُنْقَلَ إلى بَيْتَ المَقْدِسِ ، وبِها يَجْمَعُ الله الأوَّلِينَ والآخِرِينَ " .
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، قال : ثني ابن إسحاق ، قال : كان مما أنزل الله على موسى في خبره عن بني إسرائيل ، وفي أحداثهم ما هم فاعلون بعده ، فقال( وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إسْرائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا ).... إلى قوله( وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا ) فكانت بنو إسرائيل ، وفيهم الأحداث والذنوب ، وكان الله في ذلك متجاوزا عنهم ، متعطفا عليهم محسنا إليهم ، فكان مما أُنزل بهم في ذنوبهم ما كان قدَّم إليهم في الخبر على لسان موسى مما أنزل بهم في ذنوبهم ، فكان أول ما أنزل بهم من تلك الوقائع ، أن ملكا منهم كان يُدعى صديقة ، وكان الله إذا ملَّك الملِك عليهم ، بعث نبيا
__________
(1) في الدر المنثور للسيوطي (4 : 165) : أبطانحوس.

(17/358)


يسدّده ويرشده ، ويكون فيما بينه وبين الله ، ويحدث إليه في أمرهم ، لا ينزل عليهم الكتب ، إنما يؤمرون باتباع التوراة والأحكام التي فيها ، وينهونهم عن المعصية ، ويدعونهم إلى ما تركوا من الطاعة ؛ فلما ملك ذلك الملك ، بعث الله معه شعياء بن أمُصيا (1) وذلك قبل مبعث زكريا ويحيى وعيسى وشعياء الذي بشَّر بعيسى ومحمد ، فملك ذلك الملك بني إسرائيل وبيت المقدس زمانا ؛ فلما انقضى ملكه عظمت فيهم الأحداث ، وشعياء معه ، بعث الله عليهم سنحاريب ملك بابل ، ومعه ستّ مئة ألف راية ، فأقبل سائرا حتى نزل نحو بيت المقدس ، والملك مريض في ساقه قرحة ، فجاء النبي شعياء ، فقال له : يا ملك بني إسرائيل إن سنحاريب ملك بابل ، قد نزل بك هو وجنوده ستّ مئة ألف راية ، وقد هابهم الناس وفرّقوا منهم ، فكبر ذلك على الملك ، فقال : يا نبيّ الله هل أتاك وحي من الله فيما حدث ، فتخبرنا به كيف يفعل الله بنا وبسنحاريب وجنوده ، فقال له النبيّ عليه السلام : لم يأتني وحي أحدث إليّ في شأنك ، فبيناهم على ذلك ، أوحى الله إلى شعياء النبيّ : أن ائت ملك بني إسرائيل ، فمره أن يوصي وصيته ، ويستخلف على ملكه من شاء من أهل بيته. فأتى النبيّ شيعاء ملك بني إسرائيل صديقة ، فقال له : إن ربك قد أوحى إليّ أن آمرك أن توصي وصيتك ، وتستخلف من شئت على مُلكك من أهل بيتك ، فإنك ميت ؛ فلما قال ذلك شعياء لصديقة ، أقبل على القبلة ، فصلى وسبح ودعا وبكى ، فقال وهو يبكي ويتضرّع إلى الله بقلب مخلص وتوكل وصبر وصدق وظنّ صادق ، اللهمّ ربّ الأرباب ، وإله الآلهة ، قدُّوس المتقدسين ، يا رحمن يا رحيم ، المترحم الرءوف الذي لا تأخذه سنة ولا نوم ، اذكرني بعملي وفعلي وحُسن قضائي على بني إسرائيل وذلك كله كان منك ، فأنت أعلم به من نفسي ؛ سرّي وعلانيتي لك ، وإن الرحمن استجاب له وكان عبدا صالحا ، فأوحى الله إلى شعياء أن يخبر صديقة الملك أن ربه قد استجاب له وقبل منه ورحمه ، وقد رأى بكاءه ، وقد أخَّر أجله خمس عشرة سنة ، وأنجاه من عدوّه سنحاريب ملك بابل وجنوده ، فأتى شعياء النبيّ إلى ذلك الملك فأخبره بذلك ، فلما قال له ذلك ذهب عنه الوجع ، وانقطع عنه الشرّ والحزن وخرّ ساجدا وقال : يا إلهي وإله آبائي ، لك سجدت وسبَّحت وكرمت وعظمت ، أنت الذي تعطي المُلك من تشاء ، وتنزعه ممن تشاء ، وتعزّ من تشاء ، وتذلّ من تشاء ، عالم الغيب والشهادة ، أنت الأوّل والآخر ، والظاهر والباطن ، وأنت ترحم وتستجيب دعوة المضطرّين ، أنت الذي أحببت دعوتي ورحمت تضرّعي ؛ فلما رفع رأسه ، أوحى الله إلى شعياء أن قل للملك صديقة فيأمر عبدا من عبيده بالتينة ، فيأتيه بماء التين فيجعله على قرحته فيشفى ، ويصبح وقد برأ ، ففعل ذلك فشفي ، وقال الملك لشعياء النبيّ : سل ربك أن يجعل لنا علما بما هو صانع بعدوّنا هذا ، قال : فقال الله لشعياء النبيّ : قل له : إني قد كفيتك عدوّك ، وأنجيتك منه ، وإنهم سيصبحون موتى كلهم إلا سنحاريب وخمسة من كتابه ؛ فلما أصبحوا جاءهم صارخ ينبئهم ، فصرخ على باب المدينة : يا ملك بني إسرائيل ، إن الله قد كفاك عدوّك فاخرج ، فإن سنحاريب ومن معه قد هلكوا ؛ فلما خرج الملك التمس سنحاريب ، فلم يُوجد في الموتى ، فبعث الملك في طلبه ، فأدركه الطلب في مغارة وخمسة من كتابه ، أحدهم بختنصر ، فجعلوهم في الجوامع ، ثم أتوا بهم ملك بني إسرائيل ؛ فلما رآهم خرّ ساجدا من حين طلعت الشمس حتى كانت العصر ، ثم قال لسنحاريب : كيف ترى فعل ربنا بكم ؟ ألم يقتلكم بحوله وقوّته ، ونحن وأنتم غافلون ؟ فقال سنحاريب له : قد أتاني خبر ربكم ، ونصره إياكم ، ورحمته التي رحمكم بها قبل أن أخرج من بلادي ، فلم أطع مرشدا ، ولم يلقني في الشقوة إلا قلة عقلي ، ولو سمعت أو عقلت ما غزوتكم ، ولكن الشقوة غلبت عليّ وعلى من معي ، فقال ملك بني إسرائيل : الحمد لله رب العزّة الذي كفاناكم بما شاء ، إن ربنا لم يُبقك ومن معك لكرامة بك عليه ، ولكنه إنما أبقاك ومن معك لما هو شرّ لك ، لتزدادوا شقوة في الدنيا ، وعذابا في الآخرة ، ولتخبروا من وراءكم بما لقيتم من فعل ربنا ، ولتنذروا من بعدكم ، ولولا ذلك ما أبقاكم ، فلدمُك ودم من معك أهون على الله من دم قراد لو قتلته ، ثم إن ملك بني إسرائيل أمر أمير حرسه ، فقذف في رقابهم الجوامع ، وطاف بهم سبعين يوما حول بيت المقدس إيليا ، وكان يرزقهم في كلّ يوم خبزتين من شعير لكل رجل منهم ، فقال سنحاريب لملك بني إسرائيل : القتل خير مما يفعل بنا ، فافعل ما أمرت ، فنقل بهم الملك إلى سجن القتل ، فأوحى الله إلى شعياء النبيّ أن قل لملك بني إسرائيل يرسل سنحاريب ومن معه لينذروا من وراءهم ، وليكرمهم ويحملهم حتى يبلغوا بلادهم ؛ فبلَّغ النبيّ شعياء الملك ذلك ، ففعل ، فخرج سنحاريب ومن معه حتى قدموا بابل ؛ فلما قدموا جمع الناس فأخبرهم كيف فعل الله بجنوده ، فقال له كهَّانه وسحرته : يا ملك بابل قد كنا نقصّ عليك خبر ربهم وخبر نبيهم ، ووحي الله إلى نبيهم ، فلم تطعنا ، وهي أمَّة لا يستطيعها أحد مع ربهم ، فكان أمر سنحاريب مما خوّفوا ، ثم كفاهم الله تذكرة وعبرة ، ثم لبث سنحاريب بعد ذلك سبع سنين ، ثم مات.
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، قال : لما مات سنحاريب استخلف بختنصر ابن ابنه على ما كان عليه جدّه يعمل بعمله ، ويقضي بقضائه ، فلبث سبع عشرة سنة. ثم قبض الله ملك بني إسرائيل صديقة ؛ فمرج أمر بني إسرائيل وتنافسوا المُلك ، حتى قتل بعضهم بعضا عليه ، ونبيهم شعياء معهم لا يذعنون إليه ، ولا يقبلون منه ؛ فلما فعلوا ذلك ، قال الله فيما بلغنا لشعياء : قم في قومك أوح على لسانك ؛ فلما قام النبيّ أنطق الله لسانه بالوحي فقال : يا سماء استمعي ، ويا أرض أنصتي ، فإن الله يريد أن يقصّ شأن بني إسرائيل الذين رباهم بنعمته ، واصطفاهم لنفسه ، وخصَّهم بكرامته ، وفضلهم على عباده ، وفضَّلهم بالكرامة ، وهم كالغنم الضائعة التي لا راعي لها ، فآوى شاردتها ، وجمع ضالتها ، وجبر كسيرها ، وداوى مريضها ، وأسمن مهزولها ، وحفظ سمينها ؛ فلما فعل ذلك بطرت ، فتناطحت كباشها فقتل بعضها بعضا ، حتى لم يبق منها عظم صحيح يجبر إليه آخر كسير ، فويل لهذه الأمة الخاطئة ، وويل لهؤلاء القوم الخاطئين الذين لا يدرون أين جاءهم الحين. إن البعير ربما يذكر وطنه فينتابه ، وإن الحمار ربما يذكر الآريّ الذي شبع عليه فيراجعه ، وإن الثور ربما يذكر المرج الذي سمن فيه فينتابه ، وإن هؤلاء القوم لا يدرون من حيث جاءهم الحين ، وهم أولو الألباب والعقول ، ليسوا ببقر ولا حمير ، وإني ضارب لهم مثلا فليسمعوه : قل لهم : كيف ترون في أرض كانت خواء زمانا ، خربة مواتا لا عمران فيها ، وكان لها ربّ حكيم قويّ ، فأقبل عليها بالعمارة ، وكره أن تخرب أرضه وهو قويّ ، أو يقال ضيع وهو حكيم ، فأحاط عليها جدارا ،
__________
(1) اسمه في الكتاب المقدس : إشعياء بن آموص. وانظر خبر النبي شعياء في تاريخ الطبري (2 قسم أول 639) طبعة أوربة.

(17/359)


وشيَّد فيها قصرا ، وأنبط فيها نهرا ، وصفّ فيها غراسا من الزيتون والرمان والنخيل والأعناب ، وألوان الثمار كلها ، وولى ذلك واستحفظه فيما ذا رأي وهمّة ، حفيظا قويا أمينا ، وتأنى طلعها وانتظرها ؛ فلما أطلعت جاء طلعها خروبا ، قالوا : بئست الأرض هذه ، نرى أن يهدم جدرانها وقصرها ، ويدفن نهرها ، ويقبض قيمها ، ويحرق غراسها حتى تصير كما كانت أوّل مرّة ، خربة مواتا لا عمران فيها ، قال الله لهم : فإن الجدار ذمتي ، وإن القصر شريعتي ، وإن النهر كتابي ، وإن القِّيم نبيي ، وإن الغراس هم ، وإن الخروب الذي أطلع الغراس أعمالهم الخبيثة ، وإني قد قضيت عليهم قضاءهم على أنفسهم ، وإنه مثَلٌ ضربه الله لهم يتقرّبون إليّ بذبح البقر والغنم ، وليس ينالني اللحم ولا آكله ، ويدّعون أن يتقرّبوا بالتقوى والكفّ عن ذبح الأنفس التي حرمتها ، فأيديهم مخضوبة منها ، وثيابهم متزملة بدمائها ، يشيدون لي البيوت مساجد ، ويطهرون أجوافها ، وينجسون قلوبهم وأجسامهم ويدنسونها ، ويزوّقون لي البيوت والمساجد ويزينونها ، ويخرّبون عقولهم وأحلامهم ويفسدونها ، فأيّ حاجة لي إلى تشييد البيوت ولست أسكنها ، وأيّ حاجة إلى تزويق المساجد ولست أدخلها ، إنما أمرت برفعها لأذكر فيها وأسبح فيها ، ولتكون معلما لمن أراد أن يصلي فيها ، يقولون : لو كان الله يقدر على أن يجمع ألفتنا لجمعها ، ولو كان الله يقدر على أن يفقِّه قلوبنا لأفقهها ، فاعمد إلى عودين يابسين ، ثم ائت بهما ناديهما في أجمع ما يكونون ، فقل للعودين : إن الله يأمركما أن تكونا عودا واحدا ، فلما قال لهما ذلك ، اختلطا فصارا واحدا ، فقال الله : قل لهم : إني قدرت على ألفة العيدان اليابسة وعلى أن أولِّف بينها ، فكيف لا أقدر على أن أجمع ألفتهم إن شئت ، أم كيف لا أقدر على أن أفقِّه قلوبهم ، وأنا الذي صوّرتها ؛ يقولون : صمنا فلم يرفع صيامنا ، وصلَّينا فلم تنوّر صلاتنا ، وتصدّقنا فلم تزكّ صدقاتنا ، ودعونا بمثل حنين الحمام ، وبكينا بمثل عواء الذئب ، في كلّ ذلك لا نسمع ، ولا يُستجاب لنا ؛ قال الله : فسلهم ما الذي يمنعني أن أستجيب لهم ، ألست أسمع السامعين ، وأبصر الناظرين ، وأقرب المجيبين ، وأرحم الراحمين ؟ ألأنّ ذات يدي قلت ، كيف ويداي مبسوطتان بالخير ، أنفق كيف أشاء ، ومفاتيح الخزائن عندي لا يفتحها ولا يغلقها غيري ، ألا وإن رحمتي وسعت كلّ شيء ، إنما يتراحم المتراحمون بفضلها ؛ أو لأن البخل يعتريني ، أو لست أكرم الأكرمين والفتاح بالخيرات ، أجود من أعطى ، وأكرم من سُئل ؛ لو أنّ هؤلاء القوم نظروا لأنفسهم بالحكمة التي نوّرت في قلوبهم فنبذوها ، واشتروا بها الدنيا ، إذن لأبصروا من حيث أتوا ، وإذن لأيقنوا أن أنفسهم هي أعدى العداة لهم ، فكيف أرفع صيامهم وهم يلبسونه بقول الزور ، ويتقوّون عليه بطعمة الحرام ، وكيف أنوّر صلاتهم ، وقلوبهم صاغية إلى من يحاربني ويحادّني ، وينتهك محارمي ، أم كيف تزكو عندي صدقاتهم وهم يتصدّقون بأموال غيرهم ، أو جر عليها أهلها المغصوبين ، أم كيف أستجيب لهم دعاءهم وإنما هو قول بألسنتهم والفعل من ذلك بعيد ، وإنما أستجيب للداعي اللين ، وإنما أسمع من قول المستضعف المسكين ، وإن من علامة رضاي رضا المساكين ، فلو رحموا المساكين ، وقرّبوا الضعفاء ، وأنصفوا المظلوم ، ونصروا المغصوب ، وعدلوا للغائب ، وأدّوا إلى الأرملة واليتيم والمسكين ، وكلّ ذي حقّ حقه ، ثم لو كان ينبغي أن أكلم البشر إذن لكلمتهم ، وإذن لكنت نور أبصارهم ، وسمع آذانهم ، ومعقول قلوبهم ، وإذن لدعمت أركانهم ، فكنت قوّة أيديهم وأرجلهم ، وإذن لثبَّت ألسنتهم وعقولهم ، يقولون لمَّا سمعوا كلامي ، وبلغتهم رسالاتي بأنها أقاويل منقولة ، وأحاديث متوارثة ، وتآليف مما تؤلف السحرة والكهنة ، وزعموا أنهم لو شاءوا أن يأتوا بحديث مثله فعلوا ، وأن يطلعوا على الغيب بما توحي إليهم الشياطين طلعوا ، وكلهم يستخفي بالذي يقول ويسرّ ، وهم يعلمون أني أعلم غيب السماوات والأرض ، وأعلم ما يبدون وما يكتمون ، وإني قد قضيت يوم خلقت السماوات والأرض قضاء أثبته على نفسي ، وجعلت دونه أجلا مؤجلا لا بدّ أنه واقع ، فإن صدقوا بما ينتحلون من علم الغيب ، فليخبروك متى أنفذه ، أو في أيّ زمان يكون ، وإن كانوا يقدرون على أن يأتوا بما يشاءون ، فليأتوا بمثل القُدرة التي بها أمضيت ، فإني مظهره على الدين كله ولو كره المشركون ، وإن كانوا يقدرون على أن يقولوا ما يشاءون فليؤلِّفوا مثل الحكمة التي أدبر بها أمر ذلك القضاء إن كانوا صادقين ، فإني قد قضيت يوم خلقت السماوات والأرض أن أجعل النبوّة في الأجراء ، وأن أحوّل الملك في الرعاء ، والعزّ في الأذلاء ، والقوّة في الضعفاء ، والغنى في الفقراء ، والثروة في الأقلاء ، والمدائن في الفلوات ، والآجام في المفاوز ، والبردى في الغيطان ، والعلم ف ي الجهلة ، والحكم في الأميين ، فسلهم متى هذا ، ومن القائم بهذا ، وعلى يد من أسنه ، ومن أعوان هذه الأمر وأنصاره إن كانوا يعلمون ، فإني باعث لذلك نبيا أمِّيا ، ليس أعمى من عميان ، ولا ضالا من ضالِّين ، وليس بفظّ ولا غليظ ، ولا صخاب في الأسواق ، ولا متزين بالفُحش ، ولا قوّال للخنا ، أسدده لكل جميل ، أهب له كلّ خلق كريم ، أجعل السكينة لباسه ، والبرّ شعاره ، والتقوى ضميره ، والحكمة معقوله ، والصدق والوفاء طبيعته ، والعفو والعرف خلقه ؛ والعدل والمعروف سيرته ، والحقّ شريعته ، والهدى إمامه ، والإسلام ملَّته ، وأحمد اسمه ، أهدي به بعد الضلالة ، وأعلم به بعد الجهالة ، وأرفع به بعد الخمالة ، وأشهر به بعد النكرة ، وأكثر به بعد القلَّة ، وأغني به بعد العيلة ، وأجمع به بعد الفُرقة ، وأؤلِّف به قلوبا مختلفة ، وأهواء مشتتة ، وأممًا متفرّقة ، وأجعل أمته خير أمَّة أُخرجت للناس ، تأمر بالمعروف ، وتنهى عن المنكر ، توحيدا لي ، وإيمانا وإخلاصا بي ، يصلون لي قياما وقعودا ، وركوعا وسجودا ، يُقاتلون في سبيلي صفوفا وزحوفا ، ويخرجون من ديارهم وأموالهم ابتغاء رضواني ، ألهمهم التكبير والتوحيد ، والتسبيح والحمد والمدحة ، والتمجيد لي في مساجدهم ومجالسهم ومضاجعهم ومتقلبهم ومثواهم ، يكبرون ويهلِّلون ، ويقدّسون على رءوس الأسواق ، ويطهرون لي الوجوه والأطراف ، ويعقدون الثياب في الأنصاف ، قربانهم دماؤهم ، وأناجيلهم صدورهم ، رهبان بالليل ، ليوث بالنهار ، ذلك فضلي أوتيه من أشاء ، وأنا ذو الفضل العظيم. فلما فرغ نبيهم شعياء إليهم من مقالته ، عدوا عليه فيما بلغني ليقتلوه ، فهرب منهم ، فلقيته شجرة ، فانفلقت فدخل فيها ، وأدركه الشيطان فأخذ بهدبة من ثوبه فأراهم إياها ، فوضعوا المنشار في وسطها فنشروها حتى قطعوها ، وقطعوه في وسطها.
قال أبو جعفر : فعلى القول الذي ذكرنا عن ابن عباس من رواية السديّ ، وقول ابن زيد ، كان إفساد بني إسرائيل في الأرض المرّة الأولى قتلهم زكريا نبيّ الله صلى الله عليه وسلم ، مع ما كان سلف منهم قبل ذلك وبعده ، إلى أن بعث الله عليهم من أحلّ على يده بهم نقمته من معاصي الله ، وعتوّهم على ربهم ، وأما على قول ابن إسحاق الذي روينا عنه ، فكان إفسادهم المرّة الأولى ما وصف من قتلهم

(17/362)


شعياء بن أمصيا نبيّ الله. وذكر ابن إسحاق أن بعض أهل العلم أخبره أن زكريا مات موتا ولم يُقتل ، وأن المقتول إنما هو شعياء ، وأن بختنصر هو الذي سُلِّط على بني إسرائيل في المرّة الأولى بعد قتلهم شعياء. حدثنا بذلك ابن حميد ، عن سلمة عنه.
وأما إفسادهم في الأرض المرّة الآخرة ، فلا اختلاف بين أهل العلم أنه كان قتلهم يحيى بن زكريا. وقد اختلفوا في الذي سلَّطه الله عليهم منتقما به منهم عند ذلك ، وأنا ذاكر اختلافهم في ذلك إن شاء الله.
وأما قوله( وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا ) فقد ذكرنا قول من قال : يعني به : استكبارهم على الله بالجراءة عليه ، وخلافهم أمره.
وكان مجاهد يقول في ذلك ما حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد( وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا ) قال : ولتعلنّ الناس علوّا كبيرا.
حدثنا الحارث ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثنا ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله.
وأما قوله( فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولاهُمَا ) يعني : فإذا جاء وعد أولى المرّتين اللتين يفسدون بهما في الأرض. كما حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله( فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولاهُمَا ) قال : إذا جاء وعد أولى تينك المرّتين اللتين قضينا إلى بني إسرائيل( لَتُفْسِدُنَّ فِي الأرْضِ مَرَّتَيْنِ ).
وقوله( بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولا ) يعني تعالى ذكره بقوله(بعَثْنا عَلَيْكُمْ) وجَّهنا إليكم ، وأرسلنا عليكم( عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ ) يقول : ذوي بطش في الحروب شديد. وقوله( فَجَاسُوا خِلالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولا )
يقول : فتردّدوا بين الدور والمساكن ، وذهبوا وجاءوا ، يقال فيه : جاس القوم بين الديار وحاسوا بمعنى واحد ، وجست أنا أجوس جوسا وجوسانا.
وبنحو الذي قلنا في ذلك ، رُوي الخبر عن ابن عباس.
حدثني عليّ بن داود ، قال : ثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ،

(17/365)


عن ابن عباس( فَجَاسُوا خِلالَ الدِّيَارِ ) قال : مشوا. وكان بعض أهل المعرفة بكلام العرب من أهل البصرة يقول : معنى جاسوا : قتلوا ، ويستشهد لقوله ذلك ببيت حسان :
وَمِنَّا الَّذِي لاقى بسَيْفِ مُحَمَّدٍ... فَجاسَ بِهِ الأعْدَاءَ عُرْضَ العَساكِرِ (1)
وجائز أن يكون معناه : فجاسوا خلال الديار ، فقتلوهم ذاهبين وجائين ، فيصح التأويلان جميعا ، ويعني بقوله( وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولا ) وكان جوس القوم الذين نبعث عليهم خلال ديارهم وعدا من الله لهم مفعولا ذلك ، لا محالة ، لأنه لا يخلف الميعاد.
ثم اختلف أهل التأويل في الذين عنى الله بقوله(أُولي بَأْسٍ شَدِيدٍ) فيما كان من فعلهم في المرّة الأولى في بني إسرائيل حين بعثوا عليهم ، ومن الذين بعث عليهم في المرّة الآخرة ، وما كان من صنعهم بهم ، فقال بعضهم : كان الذي بعث الله عليهم في المرّة الأولى جالوت ، وهو من أهل الجزيرة.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثنا أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله( فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولا ) قال : بعث الله عليهم جالوت ، فجاس خلال ديارهم ، وضرب عليهم الخراج والذلّ ، فسألوا الله أن يبعث لهم ملكا يُقاتلون في سبيل الله ، فبعث الله طالوت ، فقاتلوا جالوت ، فنصر الله بني إسرائيل ، وقُتل جالوت بيدي داود ، ورجع الله إلى بني إسرائيل ملكهم.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله( فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلالَ الدِّيَارِ
__________
(1) البيت شاهد على أن جاس ، معناه : قتل. وقال في (اللسان : جوس) الجوس : مصدر جاس جوسا وجوسانا : تردد. وفي التنزيل العزيز : " فجاسوا خلال الديار " : أي ترددوا بينها للغارة. وقال الفراء : قتلوكم بين بيوتكم ، قال : وجاسوا وحاسوا بمعنى واحد : يذهبون ويجيئون. وقال الزجاج : " فجاسوا خلال الديار " : فطافوا في خلال الديار ، ينظرون : هل بقي أحد لم يقتلوه ؛ وفي الصحاح : " فجاسوا خلال الديار " : أي تخللوها ، فطلبوا ما فيها ، كما يجوس الرجل الأخبار : أي يطلبها.

(17/366)


وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولا ) قضاء قضى الله على القوم كما تسمعون ، فبعث عليهم في الأولى جالوت الجزري ، فسبى وقتل ، وجاسوا خلال الديار كما قال الله ، ثم رجع القوم على دخن فيهم.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : ثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، قال : أما المرّة الأولى فسلَّط الله عليهم جالوت ، حتى بعث طالوت ومعه داود ، فقتله داود.
وقال آخرون : بل بعث عليهم في المرّة الأولى سنحاريب ، وقد ذكرنا بعض قائلي ذلك فيما مضى ونذكر ما حضرنا ذكره ممن لم نذكره قبل.
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : ثنا ابن علية ، عن أبي المعلى ، قال : سمعت سعيد بن جبير ، يقول في قوله( بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ ) قال : بعث الله تبارك وتعالى عليهم في المرّة الأولى سنحاريب من أهل أثور ونينوى ، فسألت سعيدا عنها ، فزعم أنها الموصل.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج عن ابن جريج ، قال : ثنى يعلى بن مسلم بن سعيد بن جبير ، أنه سمعه يقول : كان رجل من بني إسرائيل يقرأ حتى إذا بلغ( بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ ) بكى وفاضت عيناه ، وطبق المصحف ، فقال ذلك ما شاء الله من الزمان ، ثم قال : أي ربّ أرني هذا الرجل الذي جعلت هلاك بني إسرائيل على يديه ، فأري في المنام مسكينا ببابل ، يقال له بختنصر ، فانطلق بمال وأعبد له ، وكان رجلا موسرا ، فقيل له أين تريد ؟ قال : أريد التجارة حتى نزل دارا ببابل ، فاستكراها ليس فيها أحد غيره ، فحمل يدعو المساكين ويلطف (1) بهم حتى لم يبق أحد ، فقال : هل بقي مسكين غيركم ؟ قالوا : نعم ، مسكين بفجّ آل فلان مريض يقال له بختنصر ، فقال لغلمته : انطلقوا ، حتى أتاه ، فقال : ما اسمك ؟ قال : بختنصر ، فقال لغلمته : احتملوه ، فنقله إليه ومرّضه حتى برأ ، فكساه وأعطاه نفقة ، ثم آذن الإسرائيلي بالرحيل ، فبكى بختنصر ، فقال الإسرائيلي : ما يبكيك ؟ قال : أبكي أنك فعلت بي ما فعلت ، ولا أجد شيئا أجزيك ، قال : بلى شيئا يسيرا ،
__________
(1) في عرائس المجالس للثعلبي : ويتلطف بهم ، حتى لا يأتيه أحد مسكين إلا أعطاه.

(17/367)


ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا (6)

إن ملكت أطعتني ، فجعل الآخر يتبعه ويقول : تستهزئ بي ، ولا يمنعه أن يعطيه ما سأله ، إلا أنه يرى أنه يستهزئ به ، فبكى الإسرائيلي وقال : ولقد علمت ما يمنعك أن تعطيني ما سألتك ، إلا أن الله يريد أن ينفذ ما قد قضاه وكتب في كتابه وضرب الدهر من ضربه ؛ فقال يوما صيحون ، وهو ملك فارس ببابل : لو أنا بعثنا طليعة إلى الشام ؟ قالوا : وما ضرّك لو فعلت ؟ قال : فمن ترون ؟ قالوا : فلان ، فبعث رجلا وأعطاه مئة ألف ، وخرج بختنصر في مطبخه ، لم يخرج إلا ليأكل في مطبخه ؛ فلما قدم الشام ورأى صاحب الطليعة أكثر أرض الله فرسا ورجلا جلدا ، فكسر ذلك في ذرعه ، فلم يسأل (1) قال : فجعل بختنصر يجلس مجالس أهل الشام فيقول : ما يمنعكم أن تغزوا بابل ، فلو غزوتموها ما دون بيت مالها شيء ، قالوا : لا نُحسن القتال ، قال : فلو أنكم غزوتم ، قالوا : إنا لا نحسن القتال ولا نقاتل حتى أنفذ مجالس أهل الشام ، ثم رجعوا فأخبر الطليعة ملكهم بما رأى ، وجعل بختنصر يقول لفوارس الملك : لو دعاني الملك لأخبرته غير ما أخبره فلان ؛ فرُفع ذلك إليه ، فدعاه فأخبره الخبر وقال : إن فلانا لما رأى أكثر أرض الله فرسا ورجلا جلدا ، كبر ذلك في روعه ولم يسألهم عن شيء ، وإني لم أدع مجلسا بالشام إلا جالست أهله ، فقلت لهم كذا وكذا ، وقالوا لي كذا وكذا ، الذي ذكر سعيد بن جبير أنه قال لهم ، قال الطليعة لبختنصر : إنك فضحتني (2) لك مئة ألف وتنزع عما قلت ، قال : لو أعطيتني بيت مال بابل ما نزعت ، ضرب الدهر من ضربه ؛ فقال الملك : لو بعثنا جريدة خيل إلى الشام ، فإن وجدوا مساغا ساغوا ، وإلا انثنوا ما قدروا عليه ، قالوا : ما ضرّك لو فعلت ؟ قال : فمن ترون ؟ قالوا : فلان ، قال : بل الرجل الذي أخبرني ما أخبرني ، فدعا بختنصر وأرسله ، وانتخب معه أربعة آلاف من فرسانهم ، فانطلقوا فجاسوا خلال الديار ، فسبوا ما شاء الله ولم يخربوا ولم يقتلوا ، ومات صيحون الملك (3) قالوا : استخلفوا رجلا قالوا : على رسلكم حتى تأتي أصحابكم فإنهم فرسانكم ، لن ينقضوا عليكم شيئا ، أمهلوا ؛ فأمهلوا حتى جاء بختنصر بالسبي وما معه ، فقسمه في الناس ، فقالوا : ما رأينا أحدا أحق بالملك من هذا ، فملَّكوه.
حدثني يونس بن عبد الأعلى ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرني سليمان بن بلال ، عن يحيى بن سعيد قال : سمعت سعيد بن المسيب يقول : ظهر بختنصر على الشام ، فخرّب بيت المقدس وقتلهم ، ثم أتى دمشق ، فوجد بها دما يغلي على كبا : أي كناسة ، فسألهم ما هذا الدم ؟ قالوا : أدركنا آباءنا على هذا وكلما ظهر عليه الكبا ظهر ، قال : فقتل على ذلك الدم سبعين ألفا من المسلمين وغيرهم ، فسكن.
وقال آخرون : يعني بذلك قوما من أهل فارس ، قالوا : ولم يكن في المرّة الأولى قتال.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد( فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلالَ الدِّيَارِ ) قال : من جاءهم من فارس يتجسسون أخبارهم ، ويسمعون حديثهم ، معهم بختنصر ، فوعى أحاديثهم من بين أصحابه ، ثم رجعت فارس ولم يكن قتال ، ونصرت عليهم بنو إسرائيل ، فهذا وعد الأولى.
حدثني الحرث ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثنا ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد( بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ ) جند جاءهم من فارس يتجسسون أخبارهم ، ثم ذكر نحوه.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد( فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ ) قال : ذلك أي من جاءهم من فارس ، ثم ذكر نحوه.
القول في تأويل قوله تعالى : { ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا (6) }
__________
(1) في عرائس المجالس للثعلبي : فلم يسألهم عن شيء.
(2) كذا في تاريخ الطبري طبع أوربة. وفي الأصل : إن صحبتني. تحريف.
(3) كذا في عرائس المجالس للثعلبي ص 336 طبعة الحلبي ، وفي الأصل : ورمى في جنازة صحورا .

(17/368)


إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآَخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا (7)

يقول تعالى ذكره : ثم أدلناكم يا بني إسرائيل على هؤلاء القوم الذين وصفهم جلّ ثناؤه أنه يبعثهم عليهم ، وكانت تلك الإدالة والكرّة لهم عليهم ، فيما ذكر السديّ في خبره أن بني إسرائيل غزوهم ، وأصابوا منهم ، واستنقذوا ما في أيديهم منهم. وفي قول آخرين : إطلاق الملك الذي غزاهم ما في يديه من أسراهم ، ورد ما كان أصاب من أموالهم عليهم من غير قتال ، وفي قول ابن عباس الذي رواه عطية عنه هي إدالة الله إياهم من عدوّهم جالوت حتى قتلوه ، وقد ذكرنا كلّ ذلك بأسانيده فيما مضى
( وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ ) يقول : وزدنا فيما أعطيناكم من الأموال والبنين.
وقوله( وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا ) يقول : وصيرناكم أكثر عدَدَ نافرٍ منهم. وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله( وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا ) : أي عددا ، وذلك في زمن داود.
حدثني موسى ، قال : ثنا عمرو ، قال : ثنا أسباط ، عن السديّ( وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا ) يقول : عددا.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قالا قال ابن زيد ، في قوله( ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ ) لبني إسرائيل ، بعد أن كانت الهزيمة ، وانصرف الآخرون عنهم( وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا ) قال : جعلناكم بعد هذا أكثر عددا.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : ثنا محمد بن ثور عن معمر ، عن قتادة( ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ ) ثم رددت الكرة لبني إسرائيل.
حدثني محمد بن سنان القزّاز ، قال : ثنا أبو عاصم ، عن سفيان ، في قوله( وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ ) قال : أربعة آلاف.
القول في تأويل قوله تعالى : { إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لأنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا (7) }

(17/370)


يقول تعالى ذكره لبني إسرائيل فيما قضى إليهم في التوراة(إِنْ أَحْسَنْتُمْ) يا بني إسرائيل ، فأطعتم الله وأصلحتم أمركم ، ولزمتم أمره ونهيه(أَحْسَنْتُمْ) وفعلتم ما فعلتم من ذلك(لأنْفُسِكُمْ) لأنَّكم إنما تنفعون بفعلتكم ما تفعلون من ذلك أنفسكم في الدنيا والآخرة. أما في الدنيا فإن الله يدفع عنكم من بغاكم سوءا ، وينمي لكم أموالكم ، ويزيدكم إلى قوّتكم قوّة. وأما في الآخرة فإن الله تعالى يثيبكم به جنانه(وإِنْ أَسَأْتُمْ) يقول : وإن عصيتم الله وركبتم ما نهاكم عنه حينئذ ، فإلى أنفسكم تسيئون ، لأنكم تسخطون بذلك على أنفسكم ربكم ، فيسلط عليكم في الدنيا عدوّكم ، ويمكِّن منكم من بغاكم سوءا ، ويخلدكم في الآخرة في العذاب المهين. وقال جلّ ثناؤه(وَإِنْ أَسَأْتُمْ فلها) والمعنى : فإليها كما قال(بأنَّ رَبَّكَ أوْحى لَها) والمعنى : أوحى إليها.
وقوله( فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ ) يقول : فإذا جاء وعد المرّة الآخرة من مرّتي إفسادكم يا بني إسرائيل في الأرض(لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ) يقول : ليسوء مجيء ذلك الوعد للمرّة الآخرة وجوهكم فيقبِّحها.
وقد اختلف القراء في قراءة قوله(لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ) فقرأ ذلك عامَّة قرّاء أهل المدينة والبصرة(لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ) بمعنى : ليسوء العباد أولو البأس الشديد الذين يبعثهم الله عليكم وجوهكم ، واستشهد قارئو ذلك لصحة قراءتهم كذلك بقوله(وَلِيَدْخُلُوا المَسْجِدَ) وقالوا : ذلك خبر عن الجميع فكذلك الواجب أن يكون قوله(لِيَسُوءُوا) ، وقرأ ذلك عامَّة قرّاء الكوفة : (لِيَسُوءَ وُجُوهَكُمْ) على التوحيد وبالياء ، وقد يحتمل ذلك وجهين من التأويل ، أحدهما ما قد ذكرت ، والآخر منهما : ليسوء الله وجوهكم ، فمن وجَّه تأويل ذلك إلى ليسوء مجيء الوعد وجوهَكم ، جعل جواب قوله فإذا محذوفا ، وقد استغني بما ظهر عنه ، وذلك المحذوف " جاء " ، فيكون الكلام تأويله : فإذا جاء وعد الآخرة ليسوء وجوهكم جاء. ومن وجَه تأويله إلى : ليسوء الله وجوهكم ، كان أيضا في الكلام محذوف ، قد استغني هنا عنه بما قد ظهر منه ، غير أن ذلك المحذوف سوى " جاء " ، فيكون معنى الكلام حينئذ : فإذا جاء وعد الآخرة بعثناهم ليسوء الله وجوهكم ، فيكون المضمر بعثناهم ، وذلك جواب إذا حينئذ.

(17/371)


وقرأ ذلك بعض أهل العربية من الكوفيين : (لِنَسُوءَ وُجُوهَكُمْ) على وجه الخبر من الله تبارك وتعالى اسمه عن نفسه.
وكان مجيء وعد المرّة الآخرة عند قتلهم يحيى.
ذكر الرواية بذلك ، والخبر عما جاءهم من عند الله حينئذ.
كما حدثنا موسى ، قال : ثنا عمرو ، قال : ثنا أسباط ، عن السديّ في الحديث الذي ذكرنا إسناده قبل أن رجلا من بني إسرائيل رأى في النوم أن خراب بيت المقدس وهلاك بني إسرائيل على يدي غلام يتيم ابن أرملة من أهل بابل ، يدعى بختنصر ، وكانوا يصدقون فتصدق رؤياهم ، فأقبل فسأل عنه حتى نزل على أمه وهو يحتطب ، فلما جاء وعلى رأسه حزمة من حطب ألقاها ، ثم قعد في جانب البيت فضمه ، ثم أعطاه ثلاثة دراهم ، فقال : اشتر لنا بها طعاما وشرابا ، فاشترى بدرهم لحما وبدرهم خبزا وبدرهم خمرا ، فأكلوا وشربوا حتى إذا كان اليوم الثاني فعل به ذلك ، حتى إذا كان اليوم الثالث فعل ذلك ، ثم قال له : إني أُحبّ أن تكتب لي أمانا إن أنت ملكت يوما من الدهر ، فقال : أتسخر بي ؟ فقال : إني لا أسخر بك ، ولكن ما عليك أن تتخذ بها عندي يدا ، فكلمته أمه ، فقالت : وما عليك إن كان ذلك وإلا لم ينقصك شيئا ، فكتب له أمانا ، فقال له : أرأيت إن جئت والناس حولك قد حالوا بيني وبينك ، فاجعل لي آية تعرفني بها قال : نرفع صحيفتك على قصبة أعرفك بها ، فكساه وأعطاه. ثم إن ملك بني إسرائيل كان يكرم يحيى بن زكريا ، ويدني مجلسه ، ويستشيره في أمره ، ولا يقطع أمرا دونه ، وأنه هوى أن يتزوّج ابنة امرأة له ، فسأل يحيى عن ذلك ، فنهاه عن نكاحها وقال : لست أرضاها لك ، فبلغ ذلك أمها فحقدت على يحيى حين نهاه أن يتزوّجَ ابنتها ، فعمدت أمّ الجارية حين جلس الملك على شرابه ، فألبستها ثيابا رقاقا حمرا ، وطيَّبتها وألبستها من الحُليّ ، وقيل : إنها ألبستها فوق ذلك كساء أسود ، وأرسلتها إلى الملك ، وأمرتها أن تسقيه ، وأن تعرض له نفسها ، فإن أرادها على نفسها أبت عليه حتى يعطيها ما سألته ، فإذا أعطاها ذلك سألته أن يأتي برأس يحيى بن زكريا في طست ، ففعلت ، فجعلت تسقيه وتعرض له نفسها ؛ فلما أخذ فيه الشراب أرادها على نفسها ، فقالت : لا أفعل

(17/372)


حتى تعطيني ما أسألك ، فقال : ما الذي تسأليني ؟ قالت : أسألك أن تبعث إلى يحيى بن زكريا ، فأوتي برأسه في هذا الطست ، فقال : ويحك سليني غير هذا ، فقالت له : ما أريد أن أسألك إلا هذا . قال : فلما ألحَّت عليه بعث إليه ، فأتى برأسه ، والرأس يتكلم حتى وضع بين يديه وهو يقول : لا يحلّ لك ذلك ؛ فلما أصبح إذا دمه يغلي ، فأمر بتراب فألقى عليه ، فرقى الدم فوق التراب يغلي ، فألقى عليه التراب أيضا ، فارتفع الدم فوقه ، فلم يزل يلقي عليه التراب حتى بلغ سور المدينة وهو يغلى وبلغ صحابين ، فثار في الناس ، وأراد أن يبعث عليهم جيشا ، ويؤمِّر عليهم رجلا فأتاه بختنصر وكلَّمه وقال : إن الذي كنت أرسلته تلك المرّة ضعيف ، وإني قد دخلت المدينة وسمعت كلام أهلها ، فابعثني ، فبعثه ، فسار بختنصر حتى إذا بلغوا ذلك المكان تحصنوا منه في مدائنهم ، فلم يطقهم ، فلما اشتدّ عليهم المقام وجاع أصحابه ، أرادوا الرجوع ، فخرجت إليهم عجوز من عجائز بني إسرائيل فقالت : أين أمير الجند ؟ فأتي بها إليه ، فقالت له : إنه بلغني أنك تريد أن ترجع بجندك قبل أن تفتح هذه المدينة ، قال : نعم ، قد طال مقامي ، وجاع أصحابي ، فلست أستطيع المقام فوق الذي كان مني ، فقالت : أرأيتك إن فتحت لك المدينة أتعطيني ما سألتك ، وتقتل من أمرتك بقتله ، وتكفّ إذا أمرتك أن تكفّ ؟ قال : نعم ، قالت : إذا أصبحت فاقسم جندك أربعة أرباع ، ثم أقم على كلّ زاوية ربعا ، ثم ارفعوا بأيديكم إلى السماء فنادوا : إنا نستفتحك يا الله بدم يحيى بن زكريا ، فإنها سوف تسَّاقط ، ففعلوا ، فتساقطت المدينة ، ودخلوا من جوانبها ، فقالت له : اقتل على هذا الدم حتى يسكن ، وانطلقت به إلى دم يحيى وهو على تراب كثير ، فقتل عليه حتى سكن سبعين ألفا وامرأة ؛ فلما سكن الدم قالت له : كفّ يدك ، فإن الله تبارك وتعالى إذا قتل نبيّ لم يرض ، حتى يقتل من قتله ، ومن رضي قتله ، وأتاه صاحب الصحيفة بصحيفته ، فكفّ عنه وعن أهل بيته ، وخرّب بيت المقدس ، وأمر به أن تطرح فيه الجيف ، وقال : من طرح فيه جيفة فله جزيته تلك السنة ، وأعانه على خرابه الروم من أجل أن بني إسرائيل قتلوا يحيى ، فلما خرّبه بختنصر ذهب معه بوجوه بني إسرائيل وأشرافهم ، وذهب بدانيال وعليا وعزاريا وميشائيل ، هؤلاء كلهم من أولاد الأنبياء وذهب معه برأس جالوت ؛ فلما قدم أرض بابل وجد صحابين قد مات ، فملك مكانه ، وكان أكرم الناس عليه دانيال وأصحابه ، فحسدهم المجوس على ذلك ، فوشوا بهم إليه وقالوا : إن دانيال وأصحابه لا يعبدون إلهك ، ولا يأكلون من ذبيحتك ، فدعاهم فسألهم ، فقالوا : أجل إن لنا ربا نعبده ، ولسنا نأكل من ذبيحتكم ، فأمر بخدّ فخدّ لهم ، فألقوا فيه وهم ستة ، وألقي معهم سبعا ضاريا ليأكلهم ، فقال : انطلقوا فلنأكل ولنشرب ، فذهبوا فأكلوا وشربوا ، ثم راحوا فوجدوهم جلوسا والسبع مفترش ذراعيه بينهم ، ولم يخدش منهم أحدا ، ولم ينكأه شيئا ، ووجدوا معهم رجلا فعدوهم فوجدوهم سبعة ، فقالوا : ما بال هذا السابع إنما كانوا ستة ، فخرج إليهم السابع ، وكان ملَكا من الملائكة ، فلطمه لطمة فصار في الوحش ، فكان فيهم سبع سنين ، لا يراه وحشيّ إلا أتاه حتى ينكحه ، يقتصّ منه ما كان يصنع بالرجال ، ثم إنه رجع ورد الله عليه مُلكه ، فكانوا أكرم خلق الله عليه. ثم إن المجوس وَشَوا به ثانية ، فألقوا أسدا في بئر قد ضَرِي ، فكانوا يلقون إليه الصخرة فيأخذها ، فألقوا إليه دانيال ، فقام الأسد في جانب ، وقام دانيال في جانب لا يمسه ، فأخرجوه ، وقد كان قبل ذلك خدّ لهم خدّا ، فأوقد فيه نارا ، حتى إذا أججها قذفهم فيها ، فأطفأها الله عليهم ولم ينلهم منها شيء. ثم إن بختنصر رأى بعد ذلك في منامه صنما رأسه من ذهب ، وعنقه من شبه ، وصدره من حديد ، وبطنه أخلاط ذهب وفضة وقوارير ، ورجلاه من فخار ؛ فبينا هو قائم ينظر ، إذ جاءت صخرة من السماء من قِبَل القبلة ، فكسرت الصنم فجعلته هشيما ، فاستيقظ فزعا وأُنسيها ، فدعا السحرة والكهنة ، فسألهم ، فقال : أخبروني عما رأيت ، فقالوا له : لا بل أنت أخبرنا ، ما رأيت فنعبره لك ، قال : لا أدري ، قالوا له : فهؤلاء الفتية الذين تكرمهم ، فادعهم فاسألهم ، فإن هم لم يخبروك بما رأيت فما تصنع بهم ؟ قال : أقتلهم ، فأرسل إلى دانيال وأصحابه ، فدعاهم ، فقال لهم : أخبروني ماذا رأيت ؟ فقال له دانيال : بل أنت أخبرنا ما رأيت فنعبره لك ، قال : لا أدري قد نسيتها ، فقال له دانيال : كيف نعلم رؤيا لم تخبرنا بها ؟ فأمر البوّاب أن يقتلهم ، فقال دانيال للبوّاب : إن الملك إنما أمر بقتلنا من أجل رؤياه ، فأخِّرنا ثلاثة أيام ، فإن نحن أخبرنا الملك برؤياه وإلا فاضرب أعناقنا ، فأجَّلهم فدعوا الله ، فلما كان اليوم الثالث أبصر كل رجل منهم رؤيا بختنصر على حدة ، فأتوا البوّاب فأخبروه ، فدخل على الملك فأخبره ، فقال : أدخلهم عليّ ؛ وكان بختنصر لا يعرف من رؤياه شيئا ، إلا شيئا يذكرونه ، فقالوا له : أنت رأيت كذا وكذا ، فقصوها عليه ، فقال : صدقتم ، قالوا : نحن نعبرها لك. أما الصنم الذي رأيت رأسه من ذهب ، فإنه ملك حسن مثل الذهب ، وكان قد ملك الأرض كلها ؛ وأما العنق من الشبه ، فهو ملك ابنك بعد ، يملك فيكون ملكه حسنا ، ولا يكون مثل الذهب ؛ وأما صدره الذي من حديد فهو ملك أهل فارس ، يملكون بعدك ابنك ، فيكون ملكهم شديدا مثل الحديد ؛ وأما بطنه الأخلاط ، فإنه يذهب ملك أهل فارس ، ويتنازع الناس الملك في كلّ قرية ، حتى يكون الملك يملك اليوم واليومين ، والشهر والشهرين ، ثم يُقتل ، فلا يكون للناس قوام على ذلك ، كما لم يكن للصنم قوام على رجلين من فخار ؛ فبينما هم كذلك ، إذ بعث الله تعالى نبيا من أرض العرب ؛ فأظهره على بقية مُلك أهل فارس ، وبقية ملك ابنك وملكك ، فدمره وأهلكه حتى لا يبقى منه شيء ، كما جاءت الصخرة فهدمت الصنم ، فعطف عليهم بختنصر فأحبهم ، ثم إن المجوس وشوا بدانيال ، فقالوا : إن دانيال إذا شرب الخمر لم يملك نفسه أن يبول ، وكان ذلك فيهم عارا ، فجعل لهم بختنصر طعاما ، فأكلوا وشربوا ، وقال للبوّاب : انظر أوّل من يخرج عليك يبول ، فاضربه بالطبرزين ، وإن قال : أنا بختنصر ، فقل : كذبت ، بختنصر أمرني ، فحبس الله عن دانيال البول ، وكان أوّل من قام من القوم يريد البول بختنصر ، فقام مدلا وكان ذلك ليلا يسحب ثيابه ؛ فلما رآه البواب شدّ عليه ، فقال : أنا بختنصر ، فقال : كذبت ، بختنصر أمرني أن أقتل أوّل من يخرج ، فضربه فقتله.
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : ثنا ابن علية ، عن أبي المعلى ، قال : سمعت سعيد بن جبير ، قال : بعث الله عليهم في المرّة الأولى سنحاريب ، قال : فردّ الله لهم الكرّة عليهم ، كما قال ؛ قال : ثم عصوا ربهم وعادوا لما نهوا عنه ، فبعث عليهم في المرّة الآخرة بختنصر ، فقتل المقاتلة ، وسبى الذرّية ، وأخذ ما وجد من الأموال ، ودخلوا بيت المقدس ، كما قال الله عزّ وجلّ( وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا ) دخلوه فتبروه وخرّبوه وألقوا فيه ما استطاعوا من العذرة والحيض والجيف والقذر ، فقال الله( عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا ) فرحمهم فردّ إليهم ملكهم وخلص من كان

(17/373)


في أيديهم من ذرّية بني إسرائيل ، وقال لهم : إن عدتم عدنا ، فقال أبو المعلى ، ولا أعلم ذلك ؛ إلا من هذا الحديث ، ولم يَعِدهم الرجعة إلى ملكهم.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ؛ وحدثني الحرث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد( فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ ) قال : بعث الله ملك فارس ببابل جيشا ، وأمر عليهم بختنصر ، فأتوا بني إسرائيل ، فدمروهم ، فكانت هذه الآخرة ووعدها.
حدثنا القاسم. قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، نحوه.
حدثا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : ثني يعلى بن مسلم ، عن سعيد بن جبير ، قال : لما ضرب لبختنصر الملك بجرانه ، قال : ثلاثة فمن استأخر منكم بعدها فليمش إلى خشبته ، فغزا الشام ، فذلك حين قتل وأخرج بيت المقدس ، ونزع حليته ، فجعلها آنية ليشرب فيها الخمور ، وخوانا يأكل عليه الخنازير ، وحمل التوراة معه ، ثم ألقاها في النار ، وقدم فيما قدم به مئة وصيف منهم دانيال وعزريا وحنانيا ومشائيل ، فقال لإنسان : أصلح لي أجسام هؤلاء لعلي أختار منهم أربعة يخدمونني ، فقال دانيال لأصحابه : إنما نصروا عليكم بما غيرتم من دين آبائكم ، لا تأكلوا لحم الخنزير ، ولا تشربوا الخمر ، فقالوا للذي يصلح أجسامهم : هل لك أن تطعمنا طعاما ، هو أهون عليك في المئونة مما تطعم أصحابنا ، فإن لم نسمن قبلهم رأيت رأيك ، قال : ماذا ؟ قال : خبز الشعير والكرّاث ، ففعل فسمنوا قبل أصحابهم ، فأخذهم بختنصر يخدمونه ، فبينما هم كذلك ، إذ رأى بختنصر رؤيا ، فجلس فنسيها ؛ فعاد فرقد فرآها ، فقام فنسيها ، ثم عاد فرقد فرآها ، فخرج إلى الحجرة ؛ فنسيها ؛ فلما أصبح دعا العلماء والكهَّان ، فقال : أخبروني بما رأيت البارحة ، وأوّلوا لي رؤياي ، وإلا فليمش كل رجل منكم إلى خشبته ، موعدكم ثالثة. فقالوا : هذا لو أخبرنا برؤياه ، وذكر كلاما لم أحفظه ، قال : وجعل دانيال كلما مرّ به أحد من قرابته يقول : لو دعاني الملك لأخبرته برؤياه ، ولأوّلتها له ، قال : فجعلوا يقولون : ما أحمق هذا الغلام الإسرائيلي إلى أن مرّ به كهل ، فقال له ذلك ، فرجع إليه فأخبره ،

(17/376)


قال : إيه ، قال : وعنقه من فضة ، قال : إيه ، قال : وصدره من حديد ، قال : إيه ، قال : وبطنه من صفر ، قال : إيه ، قال : ورجلاه من آنك ، قال : إيه ، قال : وقدماه من فخار ، قال : هذا الذي رأيت ؟ قال : إيه ، قال : فجاءت حصاة فوقعت في رأسه ، ثم في عنقه ، ثم في صدره ، ثم في بطنه ، ثم في رجليه ، ثم في قدميه ، قال : فأهلكته. قال : فما هذا ؟ قال : أما الذهب فإنه ملكك ، وأما الفضة فملك ابنك من بعدك ، ثم ملك ابن ابنك ، قال : وأما الفخار فملك النساء ، فكساه جبة ترثون (1) وسوره وطاف به في القرية ، وأجاز خاتمه ، فلما رأت ذلك فارس ، قالوا : ما الأمر إلا أمر هذا الإسرائيلي ، فقالوا : ائتوه من نحو الفتية الثلاثة ، ولا تذكروا له دانيال ، فإنه لا يصدقكم عليه ، فأتوه ، فقالوا : إن هؤلاء الفتية الثلاثة ليسوا على دينك ، وآية ذلك أنك إن قربت إليهم لحم الخنزير والخمر لم يأكلوا ولم يشربوا ، فأمر بحطب كثير فوضع ، ثم أرقاهم عليه ، ثم أوقد فيه نارا ، ثم خرج من آخر الليل يبول ، فإذا هم يتحدّثون ، وإذا معهم رابع يروح عليهم يصلي ، قال : من هذا يا دانيال ؟ قال : هذا جبريل ، إنك ظلمتهم ، قال : ظلمتهم ، مر بهم ينزلوا ؛ فأمر بهم فنزلوا ، قال : ومسخ الله تعالى بختنصر من الدوابّ كلها ، فجعل من كل صنف من الدوابّ رأسه رأس سبع من السباع الأسد ، ومن الطير النسر ، وملك ابنه فرأى كفا خرجت بين لوحين ، ثم كتبت سطرين ، فدعا الكهان والعلماء فلم يجدوا لهم في ذلك علما ، فقالت له أمه : إنك لو أعدت إلى دانيال منزلته التي كانت له من أبيك أخبرك ، وكان قد جفاه ، فدعاه ، فقال : إني معيد إليك منزلتك من أبي ، فأخبرني ما هذان السطران ؟ قال : أما أن تعيد إليّ منزلتي من أبيك ، فلا حاجة لي بها ؛ وأما هذان السطران فإنك تقتل الليلة ، فأخرج من في القصر أجمعين ، وأمر بقفله ، فأقفلت الأبواب عليه ، وأدخل معه آمن أهل القرية في نفسه معه سيف ، فقال : من جاءك من خلق الله فاقتله ، وإن قال أنا فلان ؛ وبعث الله عليه البطن ، فجعل يمشي حتى كان شطر الليل ، فرقد ورقد صاحبه ، ثم نبهه البطن ، فذهب يمشي والآخر نائم ، فرجع فاستيقظ به ، فقال له : أنا فلان ، فضربه بالسيف فقتله.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله( إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لأنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ ) آخر العقوبتين( لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ ) كما دخله عدوهم قبل ذلك( وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا ) فبعث الله عليهم في الآخرة بختنصر المجوسي البابلي ، أبغض خلق الله إليه ، فسبا وقتل وخرّب بيت المقدس ، وسامهم سوء العذاب.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : ثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، قال( فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ ) من المرتين(لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ) قال : ليقبحوا وجوهكم(وَلِيُتَبِّرُوا ما عَلَوْا تَتْبِيرًا) قال : يدمِّروا ما علوا تدميرا ، قال : هو بختنصر ، بعثه الله عليهم في المرة الآخرة.
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قال : فلما أفسدوا بعث الله عليهم في المرّة الآخرة بختنصر ، فخرّب المساجد وتبر ما علوا تتبيرا.
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، قال : ثني ابن إسحاق ، قال : فيما بلغني ، استخلف الله على بني إسرائيل بعد ذلك ، يعني بعد قتلهم شعياء رجلا منهم يقال له : ناشة بن آموص ، فبعث الله الخضر نبيا ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما قد بلغني يقول : " إِنَّمَا سُمّيَ الخَضِرُ خَضِرًا ، لأنَهُ جَلَسَ عَلى فَرْوَةٍ بَيْضَاءَ ، فَقامَ عَنْها وَهيَ تَهْتَزُّ خَضْرَاءَ " قال : واسم الخضر فيما كان وهب بن منبه يزعم عن بني إسرائيل : أرميا بن حلفيا ، وكان من سبط هارون بن عمران.
حدثني محمد بن سهل بن عسكر ، ومحمد بن عبد الملك بن زنجويه ، قالا ثنا إسماعيل بن عبد الكريم ، قال : ثنا عبد الصمد بن معقل ، عن وهب بن منبه ، وحدثنا ابن حميد قال : ثنا سلمة ، عن ابن إسحاق عمن لا يتهم ، عن وهب بن منبه اليماني ، واللفظ لحديث ابن حميد أنه كان يقول : قال الله تبارك
__________
(1) كذا في الأصل . واللفظة محرفة . وفي الكتاب المقدس : سفر دانيال ، الإصحاح الخامس : " حينئذ أمر بلشاصر أن يلبسوا دانيال الأرجوان وقلادة من ذهب في عنقه " .

(17/377)


وتعالى لإرميا حين بعثه نبيا إلى بني إسرائيل : يا إرميا من قبل أن أخلقك اخترتك ، ومن قبل أن أصوّرك في بطن أمك قدّستك ، ومن قبل أن أخرجك من بطن أمك طهَّرتك ، ومن قبل أن تبلغ السعي نبأتك ، ومن قبل أن تبلغ الأشدّ اخترتك ، ولأمر عظيم اختبأتك ؛ فبعث الله إرميا إلى ذلك الملك من بني إسرائيل يسدّده ويرشده ، ويأتيه بالخبر من الله فيما بينه وبين الله ؛ قال : ثم عظمت الأحداث في بني إسرائيل ، وركبوا المعاصي ، واستحلُّوا المحارم ، ونَسوا ما كان الله تعالى صنع بهم ، وما نجاهم من عدوّهم سنحاريب وجنوده. فأوحى الله تعالى إلى إرمياء : أن ائت قومك من بني إسرائيل ، واقصص عليهم ما آمرك به ، وذكِّرهم نعمتي عليهم ، وعرّفهم أحداثهم ، فقال إرمياء : إني ضعيف إن لم تقوّني ، وعاجز إن لم تبلِّغني ، ومخطئ إن لم تسدّدني ، ومخذول إن لم تنصرني ، وذليل إن لم تعزَّني ، قال الله تبارك وتعالى : أوَلم تعلم أن الأمور كلها تصدر عن مشيئتي ، وأن القلوب كلها والألسنة بيدي ، أقلبها كيف شئت ، فتطيعني ، وإني أنا الله الذي لا شيء مثلي ، قامت السماوات والأرض وما فيهنّ بكلمتي ، وأنا كلَّمت البحار ، ففهمت قولي ، وأمرتها فعقلت أمري ، وحدَدت عليها بالبطحاء فلا تَدَّى حدّي ، تأتي بأمواج كالجبال ، حتى إذا بلغت حدّي ألبستها مذَّلة طاعتي خوفًا واعترافًا لأمري إني معك ، ولن يصل إليك شيء معي ، وإني بعثتك إلى خلق عظيم من خلقي ، لتبلغهم رسالاتي ، ولتستحقّ بذلك مثل أجر من تبعك منهم لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا ، وإن تقصِّر عنها فلك مثل وزر من تركب في عماه لا ينقص ذلك من أوزارهم شيئا ، انطلق إلى قومك فقل : إن الله ذكر لكم صلاح آبائكم ، فحمله ذلك على أن يستتيبكم يا معشر الأبناء ، وسلهم كيف وجد آباؤهم مغبَّة طاعتي ، وكيف وجدوا هم مغبَّة معصيتي ، وهل علموا أن أحدا قبلهم أطاعني فشقي بطاعتي ، أو عصاني فسعد بمعصيتي ، فإن الدّوابّ مما تذكر أوطانها الصالحة ، فتنتابها ، وإن هؤلاء القوم قد رتعوا في مروج الهَلَكة. أما أحبارهم ورهبانهم فاتخذوا عبادي خوَلا ليعبدوهم دوني وتحكَّموا فيهم بغير كتابي حتى أجهلوهم أمري ، وأنسوهم ذكري ، وغروهم مني. أما أمراؤهم وقاداتهم فبطروا نعمتي ، وأمنوا مكري ، ونبذوا كتابي ، ونسوا عهدي ، وغيروا سنتي ، فادّان لهم عبادي بالطاعة التي لا تنبغي إلا لي ، فهم يطيعوهم في معصيتي ، ويتابعونهم على البدع التي يبتدعون في ديني جراءة عليّ وغرّة وفرية عليّ وعلى رسلي ، فسبحان جلالي وعلوّ مكاني ، وعظم شأني ، فهل ينبغي لبشر أن يُطاع في معصيتي ، وهل ينبغي في أن أخلق عبادا أجعلهم أربابًا من دوني. وأما قراؤهم وفقهاؤهم فيتعبدون في المساجد ، ويتزيَّنون بعمارتها لغيري ، لطلب الدنيا بالدين ، ويتفقَّهون فيها لغير العلم ، ويتعلَّمون فيها لغير العمل. وأما أولاد الأنبياء ، فمكثرون مقهورون مغيرون ، يخوضون مع الخائضين ، ويتمنَّون عليّ مثل نُصرة آبائهم والكرامة التي أكرمتهم بها ، ويزعمون أن لا أحدَ أولى بذلك منهم مني بغير صدق ولا تفكر ولا تدبُّر ، ولا يذكرون كيف كان صبر آبائهم لي ، وكيف كان جِدّهم في أمري حين غير المغيرون ، وكيف بذلوا أنفسهم ودماءهم ، فصبروا وصَدَقوا حتى عزّ أمري ، وظهر ديني ، فتأنَّيت بهؤلاء القوم لعلهم يستجيبون ، فأطْوَلت لهم ، وصفحت عنهم ، لعلهم يرجعون ، فأكثرت ومددت لهم في العمر لعلهم يتذكرون ، فأعذرت في كل ذلك ، أمطر عليهم السماء ، وأنبت لهم الأرض ، وألبسهم العافية وأظهرهم على العدوّ فلا يزدادون إلا طغيانا وبُعدا مني ، فحتى متى هذا ؟ أبي يتمرّسون أم إياي يخادعون ؟ وإني أحلف بعزّتي لأقيضن لهم فتنة يتحير فيها الحليم ، ويضلّ فيها رأي ذي الرأي ، وحكمة الحكيم ، ثم لأسلطنّ عليهم جبارا قاسيا عاتيا ، ألبسه الهيبة ، وأنتزع من صدره الرأفة والرحمة والبيان ، يتبعه عدد وسواد مثل سواد الليل المظلم ، له عساكر مثل قطع السحاب ، ومراكب أمثال العجاج ، كأن خفيق راياته طيران النسور ، وأن حملة فُرسانه كوبر العقبان ، ثم أوحى الله إلى إرميا : إني مهلك بنى إسرائيل بيافث ، ويافث أهل بابل ، وهم من ولد يافث بن نوح ، ثم لما سمع إرميا وحي ربه صاح وبكى وشقّ ثيابه ، ونبذَ الرماد على رأسه وقال : ملعون يوم ولدت فيه ، ويوم لقيت التوراة ، ومن شرّ أيامي يوم ولدت فيه ، فما أبقيت آخر الأنبياء إلا لما هو أشرّ عليّ ، لو أراد بي خيرا ما جعلني آخر الأنبياء من بني إسرائيل ، فمن أجلي تصيبهم الشِّقوة والهلاك ؛ فلما سمع الله تضرّع الخضر وبكاءه ، وكيف يقول ، ناداه : يا إرميا أشقّ ذلك عليك فيما أوحيت لك ؟ قال : نعم يا ربّ أهلكْني قبل أن أرى في بني إسرائيل ما لا أسرّ به ، فقال الله : وعزّتي العزيزة لا أهلك بيت المقدس وبني إسرائيل حتى يكون الأمر من قِبَلك في ذلك ، ففرح عند ذلك إرميا لما قال له ربه ، وطابت نفسه ، وقال : لا والذي بعث موسى وأنبياءه بالحقّ لا آمر ربي بهلاك بني إسرائيل أبدا ، ثم أتى ملك بني إسرائيل فأخبره ما أوحى الله إليه فاستبشر وفرح وقال : إن يعذّبنا ربنا فبذنوب كثيرة قدّمناها لأنفسنا ، وإن عفا عنا فبقدرته ، ثم إنهم لبثوا بعد هذا الوحي ثلاث سنين لم يزدادوا إلا معصية وتماديا في الشرّ ، وذلك حين اقترب هلاكهم ، فقلّ الوحي حين لم يكونوا يتذكرون الآخرة ، وأمسك عنهم حين ألهتهم الدنيا وشأنُها ، فقال لهم ملكهم : يا بني إسرائيل ، انتهوا عما أنتم عليه قبل أن يمسكم بأس الله ، وقبل أن يُبْعث عليكم قوم لا رحمة لهم بكم ، وإن ربكم قريب التوبة ، مبسوط اليدين بالخير ، رحيم بمن تاب إليه. فأبَوا عليه أن ينزعوا عن شيء ما هم عليه ، وإن الله قد ألقى في قلب بختنصر بن نجور زاذان بن سنحاريب ابن دارياس بن نمرود ابن فالخ بن عابر بن نمرود صاحب إبراهيم الذي حاجَّه في ربه ، أن يسير إلى بيت المقدس ، ثم يفعل فيه ما كان جدّه سنحاريب أراد أن يفعل ، فخرج في ستّ مئة ألف راية يريد أهل بيت المقدس ؛ فلما فصل سائرا أتى ملك بني إسرائيل الخبر أن بختنصر قد أقبل هو وجنوده يريدكم ، فأرسل الملك إلى إرميا ، فجاءه فقال : يا إرميا أين ما زعمت لنا أن ربك أوحى إليك أن لا يهلك أهل بيت المقدس ، حتى يكون منك الأمر في ذلك ؟ فقال إرميا للملك : إن ربي لا يخلف الميعاد ، وأنا به واثق ؛ فلما اقترب الأجل ودنا انقطاع ملكهم وعزم الله على هلاكهم ، بعث الله مَلَكا من عنده ، فقال له : اذهب إلى إرميا فاستفته ، وأمَرَه بالذي يستفتي فيه ، فأقبل المَلك إلى إرمياء ، وكان قد تمثَّل له رجلا من بني إسرائيل ، فقال له إرميا : من أنت ؟ قال : رجل من بني إسرائيل أستفتيك في بعض أمري ، فأذن له ، فقال له المَلَك : يا نبيّ الله أتيتك أستفتيك في أهل رحمي ، وصلت أرحامهم بما أمرني الله به ، لم آت إليهم إلا حسنا ، ولم آلُهم كرامة ، فلا تزيدهم كرامتي إياهم إلا إسخاطا لي ، فأفتني فيهم يا نبيّ الله ، فقال له : أحسن فيما بينك وبين الله ، وصل ما أمرك الله أن تصل ، وأبشر بخير وانصرف عنه ، فمكث أياما ، ثم أقبل إليه في صورة ذلك الذي جاءه ، فقعد بين يديه ، فقال له إرميا : من أنت ؟ قال : أنا الرجل الذي آتيتك أستفتيك في شأن أهلي ، فقال له نبيّ الله : أو ما ظهرت لك أخلاقهم بعد ، ولم تر منهم الذي تحبّ ؟ فقال : يا نبيّ الله ، والذي بعثك بالحقّ ما أعلم كرامة يأتيها أحد من الناس لأهل رحمه إلا قد أتيتها إليهم وأفضل من ذلك ، فقال النبيّ : ارجع إلى أهلك فأحسن إليهم ، أسأل الله الذي يصلح عباده الصالحين أن يصلح ذات بينكم ، وأن يجمعكم على مرضاته ، ويجنبكم سخطه ، فقال المَلك من عنده ، فلبث أياما وقد نزل بختنصر وجنوده حول بيت المقدس ، ومعه خلائق من قومه كأمثال الجراد ، ففزع منهم بنو إسرائيل فزعا شديدا ، وشق ذلك على ملك بني إسرائيل ، فدعا إرميا ، فقال : يا نبيّ الله أين ما وعدك الله ؟ فقال : إني بربي واثق. ثم إن الملك أقبل إلى إرميا وهو قاعد على جدار بيت المقدس يضحك ويستبشر بنصر ربه الذي وعده ، فقعد بين يديه ، فقال له إرميا : من أنت ؟ قال : أنا الذي كنت أتيتك في شأن أهلي مرّتين ، فقال له النبيّ : أولم يأن لهم أن يمتنعوا من الذي هم فيه مقيمون عليه ؟ فقال له الملك : يا نبيّ الله ، كل شيء كان يصيبني منهم قبل اليوم كنت أصبر عليه ، وأعلم أن مأربهم في ذلك سخطي ؛ فلما أتيتهم اليوم رأيتهم في عمل لا يرضي الله ولا يحبه الله عزّ وجلّ ، فقال له نبيّ الله : على أيّ عمل رأيتهم ؟ قال : يا نبيّ الله رأيتهم على عمل عظيم من سخط الله ، فلو كانوا على مثل ما كانوا عليه قبل اليوم لم يشتدّ عليهم غضبي ، وصبرت لهم ورجوتهم ، ولكن غضبت اليوم لله ولك ، فأتيتك لأخبرك خبرهم ، وإني أسألك بالله الذي بعثك بالحقّ إلا ما دعوت عليهم ربك أن يهلكهم ، فقال إرميا : يا مالك السماوات والأرض ، إن كانوا على حق وصواب فأبقهم ، وإن كانوا على سخطك وعمل لا ترضاه فأهلكهم ، فما خرجت الكلمة من في إرميا حتى أرسل الله صاعقة من السماء في بيت المقدس ، فالتهب مكان القربان ، وخسف بسبعة أبواب من أبوابها ؛ فلما رأى ذلك إرميا صاح وشقّ ثيابه ، ونبذ الرماد على رأسه وقال : يا ملك السماوات والأرض بيدك ملكوت كلّ شيء وأنت أرحم الراحمين ، أين ميعادك الذي وعدتني ، فنودي إرميا : إنهم لم يصبهم الذي أصابهم إلا بفتياك التي أفتيت بها رسولنا ، فاستيقن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنها فتياه التي أفتى بها ثلاث مرّات ، وأنه رسول ربه ، ثم إن إرميا طار حتى خالط الوحش ، ودخل بختنصر وجنوده بيت المقدس ، فوطئ الشام ، وقتل بني إسرائيل حتى أفناهم ، وخرّب بيت المقدس ، أمر جنوده أن يملأ كلّ رجل منهم ترسه ترابا ثم يقذفه في بيت المقدس ، فقذفوا فيه التراب حتى ملأوه ، ثم انصرف راجعا إلى أرض بابل ، واحتمل معه سبايا بني إسرائيل ، وأمرهم أن يجمعوا من كان في بيت المقدس كلهم ، فاجتمع عنده كلّ صغير وكبير من بني إسرائيل ، فاختار منهم سبعين ألف صبيّ ؛ فلما خرجت غنائم جنده ، وأراد أن يقسمها فيهم ، قالت له الملوك الذين كانوا معه : أيها الملك لك غنائمنا كلها ، واقسم بيننا هؤلاء الصبيان الذين اخترتهم من بني إسرائيل ، ففعل وأصاب كلّ رجل منهم أربعة أغلمة ، وكان من أولئك الغلمان دانيال وحنانيا وعزاريا وميشائيل وسبعة آلاف من أهل بيت داود ، وأحد عشر ألفا من سبط يوسف بن يعقوب ، وأخيه بنيامين ، وثمانية آلاف من سبط أشر بن يعقوب ، وأربعة عشر ألفًا من سبط زبالون بن يعقوب ونفثالي بن يعقوب ، وأربعة آلاف من سبط يهوذا بن يعقوب ، وأربعة آلاف من سبط روبيل ولاوي ابني يعقوب ، ومن بقي من بني إسرائيل ، وجعلهم بختنصر ثلاث فرق ، فثلثا أقَرّ بالشام ، وثلثا سبى ، وثلثا قتل ، وذهب بآنية بيت المقدس حتى أقدمها بابل ، وذهب بالصبيان السبعين الألف حتى أقدمهم بابل ، فكانت هذه الوقعة الأولى التي أنزل الله ببني إسرائيل بإحداثهم وظلمهم ، فلما ولى بختنصر عنهم راجعا إلى بابل بمن معه من سبايا بني إسرائيل ، أقبل أرميا على حمار له معه عصير ثم ذكر قصته حين أماته الله مئة عام ، ثم بعثه ، ثم خبر رؤيا بختنصر وأمر دانيال ، وهلاك بختنصر ، ورجوع من بقي من بني إسرائيل في أيدي أصحاب بختنصر بعد هلاكه إلى الشام ، وعمارة بيت المقدس ، وأمر عُزَير وكيف ردّ الله عليه التوراة.
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة عن ابن إسحاق ، قال : ثم عمدت بنو إسرائيل بعد ذلك يحدثون الأحداث ، يعني بعد مهلك عُزَير ، ويعود الله عليهم ، ويبعث فيهم الرسل ، ففريقا يكذّبون ، وفريقا يقتلون ، حتى كان آخر من بعث الله فيهم من أنبيائهم زكريا ويحيى بن زكريا وعيسى ابن مريم ، وكانوا من بيت آل داود.
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، قال : ثني محمد ابن إسحاق ، عن

(17/379)


عمر بن عبد الله بن عروة ، عن عبد الله بن الزبير أنه قال ، وهو يحدّث عن قتل يحيى بن زكريا قال : ما قُتل يحيى بن زكريا إلا بسبب امرأة بغيّ من بغايا بني إسرائيل ، كان فيهم ملك ، وكان يحيى بن زكريا تحت يدي ذلك الملك ، فهمَّت ابنة ذلك الملك بأبيها ، فقالت : لو أني تزوّجت بأبي فاجتمع لي سلطانه دون النساء ، فقالت له : يا أبت تزوّجني ودعته إلى نفسها ، فقال لها : يا بنية إن يحيى بن زكريا لا يحل لنا هذا ، فقالت : من لي بيحيى بن زكريا ضيَّق عليّ ، وحال بيني وبين أن أتزوّج بأبي ، فأغلب على مُلكه ودنياه دون النساء ؛ قال : فأمرت اللعابين ومحلت بذلك لأجل قتل يحيى بن زكريا ، فقالت : ادخلوا عليه فالعبوا ، حتى إذا فرغتم فإنه سيُحَكمكم ، فقولوا : دم يحيى بن زكريا ولا تقبلوا غيره. وكان اسم الملك رواد ، واسم ابنته البغيّ ، وكان الملك فيهم إذا حدّث فكذب ، أو وعد فأخلف خلع فاستُبدل به غيرُه ؛ فلما ألعبوه وكثر عجبه منهم ، قال : سلوني أعطكم ، فقالوا له : نسألك دم يحيى بن زكريا أعطنا إياه ، قال : ويحكم سلوني غير هذا ، فقالوا : لا نسألك شيئا غيره ، فخاف على ملكه إن هو أخلفهم أن يُسْتحَلّ بذلك خَلْعه ، فبعث إلى يحيى بن زكريا وهو جالس في محرابه يصلي ، فذبحوه في طست ثم حزّوا رأسه ، فاحتمله رجل في يده والدم يحمل في الطّسْت معه. قال : فطلع برأسه يحمله حتى وقف به على الملك ، ورأسه يقول في يدي الذي يحمله لا يحلّ لك ذلك ، فقال رجل من بني إسرائيل : أيها الملك لو أنك وهبت لي هذا الدم ؟ فقال : وما تصنع به ؟ قال : أطهر منه الأرض ، فإنه كان قد ضيقها علينا ، فقال : أعطوه هذا الدم ، فأخذه فجعله في قلة ، ثم عمد به إلى بيت في المذبح ، فوضع القلة فيه ، ثم أغلق عليه ، ففار في القُلَّة حتى خرج منها من تحت الباب من البيت الذي هو فيه ؛ فلما رأى الرجل ذلك ، فظع به ، فأخرجه فجعله في فلاة من الأرض ، فجعل يفور ، وعظمت فيهم الأحداث ، ومنهم من يقول : أقرّ مكانه في القربان ولم يحوّل.
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، قال : قال ابن إسحاق : فلما رفع الله عيسى من بين أظهرهم وقتلوا يحيى بن زكريا(وبعض الناس يقول : وقتلوا زكريا) ، ابتعث الله عليهم ملكا من ملوك بابل يقال له خردوس ، فسار إليه بأهل بابل حتى دخل عليهم الشام ، فلما ظهر عليهم أمر رأسا من رءوس جنده

(17/384)


يدعى نبور زاذان صاحب القتل ، فقال له : إني قد كنت حلفت بإلهي لئن أظهرنا على أهل بيت المقدس لأقتلنهم حتى تسيل دماؤهم في وسط عسكري ، إلا أن لا أجد أحدا أقتله ، فأمر أن يقتلهم حتى يبلغ ذلك منهم نبور زادان ، فدخل بيت المقدس ، فقال في البقعة التي كانوا يقربون فيها قربانهم ، فوجد فيها دما يغلي ، فسألهم فقال : يا بني إسرائيل ، ما شأن هذا الدم الذي يغلي ، أخبروني خبره ولا تكتموني شيئا من أمره ؟ فقالوا : هذا دم قربان كان لنا كنا قرّبناه فلم يُتَقبل منا ، فلذلك هو يغلي كما تراه ، ولقد قرّبنا منذ ثمان مئة سنة القربان فتقبِّل منا إلا هذا القربان ، قال : ما صَدَقْتموني الخبر قالوا له : لو كان كأوّل زماننا لقُبل منا ، ولكنه قد انقطع منا المُلك والنبوّة والوحي ، فلذلك لم يُتقبل منا ، فذبح منهم نبور زادان على ذلك الدم سبع مئة وسبعين روحا من رءوسهم ، فلم يهدأ ، فأمر بسبع مئة غلام من غلمانهم فذبحوا على الدم فلم يهدأ ، فأمر بسبعة آلاف من شيعهم وأزواجهم ، فذبحهم على الدم فلم يبرد ولم يهدأ ؛ فلما رأى نبور زاذان أن الدم لا يهدأ قال لهم : ويْلكم يا بني إسرائيل أصدقوني واصبروا على أمر ربكم ، فقد طال ما ملكتم في الأرض ، تفعلون فيها ما شئتم قبل أن لا أترك منكم نافخ نار ، لا أنثى ولا ذكرا إلا قتلته ، فلما رأوا الجهد وشدّة القتل صدقوه الخبر ، فقالوا له : إن هذا دم نبيّ منا كان ينهانا عن أمور كثيرة من سخط الله ، فلو أطعناه فيها لكان أرشد لنا ، وكان يخبرنا بأمركم فلم نصدّقه ، فقتلناه ، فهذا دمه ، فقال لهم نبور زاذان : ما كان اسمه ؟ قالوا : يحيى بن زكريا ، قال : الآن صَدَقْتموني ، بمثل هذا ينتقم ربكم منكم ؛ فلما رأى نبور زاذان أنهم صدقوه خرّ ساجدا وقال لمن حوله : غلقوا الأبواب ، أبواب المدينة ، وأخرجوا من كان ههنا من جيش خردوس وخلا في بني إسرائيل ثم قال : يا يحيى بن زكريا ، قد علم ربي وربك ما قد أصاب قومك من أجلك ، وما قُتل منهم من أجلك ، فاهدأ بإذن الله قبل أن لا أبقي من قومك أحدا ، فهدأ دم يحيى بن زكريا بإذن الله ، ورفع نبور زاذان عنهم القتل وقال : آمنت بما آمنت به بنو إسرائيل ، وصدّقت وأيقنت أنه لا ربّ غيره ، ولو كان معه آخر لم يصلح ، ولو كان له شريك لم تستمسك السماوات والأرض ، ولو كان له ولد لم يصلح فتبارك وتقدّس ، وتسبح وتكبر وتعظم ، ملك الملوك الذي له ملك السماوات السبع والأرض وما فيهن ، وما بينهما ، وهو على كل شيء قدير ، فله الحلم والعلم والعزّة والجبروت ، وهو الذي بسط الأرض وألقى فيها رواسي لئلا تزول ، فكذلك ينبغي لربي أن يكون ويكون مُلكه. فأوحى الله إلى رأس من رءوس بقية الأنبياء أن نبور زاذان حَبُور صدوق ، والحبور بالعبرانية : حديث الإيمان ، وإن نبور زاذان قال لبني إسرائيل : يا بني إسرائيل ، إن عدوّ الله خردوس أمرني أن أقتل منكم حتى تسيل دماؤكم وسط عسكره ، وإني لست أستطيع أن أعصيه ، قالوا له : افعل ما أمرت به. فأمرهم فحفروا خندقا وأمر بأموالهم من الخيل والبغال والحمير والبقر والغنم والإبل ، فذبحها حتى سال الدم في العسكر ، وأمر بالقتلى الذين كانوا قبل ذلك ، فطُرحوا على ما قُتل من مواشيهم حتى كانوا فوقهم ، فلم يظنّ خردوس إلا أن ما كان في الخندق من بني إسرائيل ، فلما بلغ الدم عسكره ، أرسل إلى نبور زاذان أن ارفع عنهم ، فقد بلغتني دماؤهم ، وقد انتقمت منهم بما فعلوا ، ثم انصرف عنهم إلى أرض بابل ، وقد أفنى بني إسرائيل أو كاد ، وهي الوقعة الآخرة التي أنزل الله ببني إسرائيل ، يقول الله عزّ ذكره لنبيّه محمد صلى الله عليه وسلم( وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إسْرائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولا ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لأنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا ) وعسى من الله حقّ ، فكانت الوقعة الأولى : بختنصَر وجنوده ، ثم ردّ الله لكم الكرّة عليهم ، وكانت الوقعة الآخرة خردوس وجنوده ، وهي كانت أعظم الوقعتين ، فيها كان خراب بلادهم ، وقتل رجالهم ، وسبي ذراريهم ونسائهم ، يقول الله تبارك وتعالى( وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا ) ثم عاد الله عليهم فأكثر عددهم ، ونشرهم في بلادهم ، ثم بَدّلوا وأحدثوا الأحداث ، واستبدلوا بكتابهم غيره ، وركبوا المعاصي ، واستحلوا المحارم وضيَّعوا الحدود.
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن أبي عَتَّاب رجل من تغلب كان نصرانيا عمرا من دهره ، ثم أسلم بعد ، فقرأ القرآن ، وفقه في

(17/385)


الدين ، وكان فيما ذكر أنه كان نصرانيا أربعين سنة ، ثم عُمِّر في الإسلام أربعين سنة ، قال : كان آخر أنبياء بني إسرائيل نبيّا بعثه الله إليهم ، فقال لهم : يا بني إسرائيل إن الله يقول لكم : إني قد سلبت أصواتكم ، وأبغضتكم بكثرة أحداثكم ، فهَمُّوا به ليقتلوه ، فقال الله تبارك وتعالى له : ائتهم واضرب لى ولهم مثلا فقل لهم : إن الله تبارك وتعالى يقول لكم : اقضوا بيني وبين كرمي ، ألم أختر له البلاد ، وطيبت له المدرة ، وحظرته بالسياج ، وعرشته السويق والشوك والسياج والعَوْسَج ، وأحطته بردائي ، ومنعته من العالم وفضَّلته ، فلقيني بالشوك والجذوع ، وكل شجرة لا تؤكل ما لهذا اخترت البلدة ، ولا طيَّبت المَدَرة ، ولا حَظَرته بالسياج ، ولا عَرَشْته السويق ، ولا حُطْته بردائي ، ولا منعته من العالم ، فضلتكم وأتممت عليكم نعمتي ، ثم استقبلتموني بكلّ ما أكره من معصيتي وخلاف أمري لمه إن الحمار ليعرف مذوده ، لمه إن البقرة لتعرف سيدها ، وقد حلفت بعزّتي العزيزة ، وبذراعي الشديد لآخذنّ ردائي ، ولأمرجنّ الحائط ، ولأجعلنكم تحت أرجل العالم ، قال : فوثبوا على نبيهم فقتلوه ، فضرب الله عليهم الذّل ، ونزع منهم الملك ، فليسوا في أمة من الأمم إلا وعليهم ذلّ وصغار وجزية يؤدّونها ، والملك في غيرهم من الناس ، فإن يزالوا كذلك أبدا ، ما كانوا على ما هم عليه.
قال : قال : فهذا ما انتهى إلينا من جماع أحاديث بني إسرائيل.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله( فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا ) قال : كانت الآخرة أشدّ من الأولى بكثير ، قال : لأن الأولى كانت هزيمة فقط ، والآخرة كان التدمير ، وأحرق بختنصر التوراة حتى لم يبق منها حرف واحد ، وخرب المسجد.
حدثنا أبو السائب ، قال : ثنا أبو معاوية ، عن الأعمش ، عن المنهال ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال : بعث عيسى ابن مريم يحيى بن زكريا ، في اثني عشر من الحواريين يعلِّمون الناس ، قال : فكان فيما نهاهم عنه ، نكاح ابنة الأخ ، قال : وكانت لملكهم ابنة أخ تعجبه يريد أن يتزوّجها ، وكانت لها كل يوم حاجة يقضيها ؛ فلما بلغ ذلك أمها قالت لها : إذا دخلت على الملك

(17/387)


فسألك حاجتك ، فقولي : حاجتي أن تذبح لي يحيى بن زكريا ؛ فلما دخلت عليه سألها حاجتها ، فقالت : حاجتي أن تذبح يحيى بن زكريا ، فقال : سلي غير هذا! فقالت : ما أسألك إلا هذا ، قال : فلما أبت عليه دعا يحيى ودعا بطست فذبحه ، فبدرت قطرة من دمه على الأرض ، فلم تزل تغلي حتى بعث الله بختنصر عليهم ، فجاءته عجوز من بني إسرائيل ، فدلَّته على ذلك الدم ، قال : فألقى الله في نفسه أن يقتل على ذلك الدم منهم حتى يسكن ، فقتل سبعين ألفا منهم من سنّ واحد فسكن.
وقوله( وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ ) يقول : وليدخل عدوّكم الذي أبعثه عليكم مسجد بيت المقدس قهرا منهم لكم وغلبة ، كما دخلوه أوّل مرَّةٍ حين أفسدتم الفساد الأوّل في الأرض.
وأما قوله( وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا ) فإنه يقول : وليدمِّروا ما غلبوا عليه من بلادكم تدميرا ، يقال منه : دمَّرت البلد : إذا خرّبته وأهلكت أهله ، وتَبَر تَبْرا وتَبارا ، وتَبَّرته أتبرُه تتبيرًا ، ومنه قول الله تعالى ذكره( وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلا تَبَارًا ) يعني : هلاكا.
وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قال ابن عباس( وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا ) قال : تدميرا.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : ثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة( وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا ) قال : يدمروا ما علوا تدميرا.

(17/388)


عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا (8)

القول في تأويل قوله تعالى : { عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا (8) }
يقول تعالى ذكره : لعلّ ربكم يا بني إسرائيل أن يرحمكم بعد انتقامه منكم بالقوم الذين يبعثهم الله عليكم ليسوء مبعثه عليكم وجوهكم ، وليدخلوا المسجد

(17/388)


كما دخلوه أوّل مرّة ، فيستنقذكم من أيديهم ، وينتشلكم من الذلّ الذي يحله بكم ، ويرفعكم من الخمولة التي تصيرون إليها ، فيعزّكم بعد ذلك ، وعسى من الله : واجب ، وفعل الله ذلك بهم ، فكثر عددهم بعد ذلك ، ورفع خَساستهم ، وجعل منهم الملوك والأنبياء ، فقال جلّ ثناؤه لهم : وإن عدتم يا معشر بني إسرائيل لمعصيتي وخلاف أمري ، وقتل رسلي ، عدنا عليكم بالقتل والسِّباء ، وإحلال الذلّ والصِّغار بكم ، فعادوا ، فعاد الله عليهم بعقابه وإحلال سخطه بهم.
وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا أبو كريب ، قال : ثنا ابن عطية ، عن عمر بن ثابت ، عن أبيه ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، في قوله( عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا ) قال : عادوا فعاد ، ثم عادوا فعاد ، ثم عادوا فعاد. قال : فسلَّط الله عليهم ثلاثة ملوك من ملوك فارس : سندبادان وشهربادان وآخر.
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قال : قال الله تبارك وتعالى بعد الأولى والآخرة( عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا ) قال : فعادوا فسلَّط الله عليهم المؤمنين.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قال( عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ ) فعاد الله عليهم بعائدته ورحمته(وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنا) قال : عاد القوم بشرّ ما يحضرهم ، فبعث الله عليهم ما شاء أن يبعث من نقمته وعقوبته ، ثم كان ختام ذلك أن بعث الله عليهم هذا الحيّ من العرب ، فهم في عذاب منهم إلى يوم القيامة ؛ قال الله عزّ وجلّ في آية أخرى( وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ).... الآية ، فبعث الله عليهم هذا الحيّ من العرب.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : ثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، قال( عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا ) فعادوا ، فبعث الله عليهم محمدا صلى الله عليه وسلم ، فهم يعطون الجزية عن يد وهم صاغرون.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قول الله

(17/389)


تعالى( عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ ) قال بعد هذا(وَإِنْ عُدْتُمْ) لما صنعتم لمثل هذا من قتل يحيى وغيره من الأنبياء(عُدْنا) إليكم بمثل هذا.
وقوله( وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا ) اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك ، فقال بعضهم : وجعلنا جهنم للكافرين سجنا يسجنون فيها.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن مسعدة ، قال : ثنا جعفر بن سليمان ، عن أبي عمران( وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا ) قال : سجنا.
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله( وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا ) يقول : جعل الله مأواهم فيها.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : ثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة( وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا ) قال : مَحْبِسا حَصُورا.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا ) يقول : سجنا.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ؛ وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله تعالى(حَصِيرًا) قال : يحصرون فيها.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد( وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا ) قال : يُحصرون فيها.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله( وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا ) سجنا يسجنون فيها حصروا فيها.
حدثنا عليّ بن داود ، قال : ثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس ، قوله( وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا ) يقول : سجنا.
وقال آخرون : معناه : وجعلنا جهنم للكافرين فراشا ومهادا.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : ثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، قال : قال الحسن : الحصير : فِراش ومِهاد ، وذهب الحسن

(17/390)


بقوله هذا إلى أن الحصير في هذا الموضع عني به الحصير الذي يُبْسط ويفترش ، وذلك أن العرب تسمي البساط الصغير حصيرا ، فوجَّه الحسن معنى الكلام إلى أن الله تعالى جعل جهنم للكافرين به بساطا ومهادا ، كما قال( لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ ) وهو وجه حسن وتأويل صحيح ، وأما الآخرون ، فوجهوه إلى أنه فعيل من الحصر الذي هو الحبس. وقد بيَّنت ذلك بشواهده في سورة البقرة ، وقد تسمي العرب الملك حصيرا
بمعنى أنه محصور : أي محجوب عن الناس ، كما قال لبيد :
وَمَقاَمةٍ غُلْبِ الرّقابِ كأنَّهُمْ... جِنٌّ لَدَى بابِ الحَصِيرِ قِيامُ (1)
يعني بالحصير : الملك ، ويقال للبخيل : حصور وحصر : لمنعه ما لديه من المال عن أهل الحاجة ، وحبسه إياه عن النفقة ، كما قال الأخطل :
وشَارِبٍ مُرْبِحٍ بالكأْسِ نادَمَنِي... لا بالحَصُورِ وَلا فِيها بِسَوَّارِ (2)
ويروى : بسآر. ومنه الحصر في المنطق لامتناع ذلك عليه ، واحتباسه إذا أراده. ومنه أيضا الحصور عن النساء لتعذّر ذلك عليه ، وامتناعه من الجماع ، وكذلك الحصر في الغائط : احتباسه عن الخروج ، وأصل ذلك كله واحد وإن اختلفت ألفاظه. فأما الحصيران : فالجنبان ، كما قال الطرمّاح :
قَلِيلا تَتَلَّى حاجَةً ثُمَّ عُولِيَتْ... عَلى كُلّ مَفْرُوشِ الحَصِيرَيْنِ بادِنِ (3)
يعني بالحصيرين : الجنبيّن.
__________
(1) البيت في (ديوان لبيد ، طبع ليدن سنة 1891 ص 39) . والرواية فيه : " لدى طرف الحصير " . وروايته في (مجاز القرآن لأبي عبيدة ص 371) وفي (لسان العرب : قوم) : كرواية المؤلف هنا. قالا : ويقال للملك حصير ، لأنه محجوب. والمقامة والمقام المجلس ، ومقامات الناس : مجالسهم والمقامة : السادة ، والغلب : جمع أغلب ، وصف من غلب غلبا (كفرح فرحا) : إذا غلظت رقبته. وفي (اللسان : حصر) ذكر هذا الشاهد كرواية المؤلف مع وضع لفظة " وقماقم " في مكان : " ومقامة " وأشار إلى الرواية الأخرى. ثم قال : والحصير المحبس ، وفي التنزيل : " وجعلنا جهنم للكافرين حصيرا " ، قال القتيبي : هو من حصرته ، أي حبسته. فهو محصور ، وهذا حصيره ، أي محبسه .
(2) تقدم شرح هذا الشاهد في الجزء الثالث من هذا التفسير (ص 255).
(3) البيت في ديوان الطرماح بن حكيم (طبع ليدن سنة 1927 ص 164) وقتلى الشيء : تتبعه وتتلى أيضا : بقي بقية من دينه. وعوليت : ذهب بها إلى العالية ، وهي نجد والحصير سفيفة تصنع من بردي وأسل ثم تفرش.

(17/391)


إِنَّ هَذَا الْقُرْآَنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا (9) وَأَنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (10)

والصواب من القول في ذلك عندي أن يقال : معنى ذلك( وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا ) فراشا ومهادا لا يزايله من الحصير الذي بمعنى البساط ، لأن ذلك إذا كان كذلك كان جامعا معنى الحبس والامتهاد ، مع أن الحصير بمعنى البساط في كلام العرب أشهر منه بمعنى الحبس ، وأنها إذا أرادت أن تصف شيئا بمعنى حبس شيء ، فإنما تقول : هو له حاصر أو محصر ، فأما الحصير فغير موجود في كلامهم ، إلا إذا وصفته بأنه مفعول به ، فيكون في لفظ فعيل ، ومعناه مفعول به ، ألا ترى بيت لبيد : لدى باب الحصير ؟ فقال : لدى باب الحصير ، لأنه أراد : لدى باب المحصور ، فصرف مفعولا إلى فعيل. فأما فعيل في الحصر بمعنى وصفه بأنه الحاصر . فذلك ما لا نجده في كلام العرب ، فلذلك قلت : قول الحسن أولى بالصواب في ذلك ، وقد زعم بعض أهل العربية من أهل البصرة أن ذلك جائز ، ولا أعلم لما قال وجها يصحّ إلا بعيدا وهو أن يقال : جاء حصير بمعنى حاصر ، كما قيل : عليم بمعنى عالم ، وشهيد بمعنى شاهد ، ولم يسمع ذلك مستعملا في الحاصر كما سمعنا في عالم وشاهد.
القول في تأويل قوله تعالى : { إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا (9) وَأَنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (10) }
يقول تعالى ذكره : إن هذا القرآن الذي أنزلناه على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم يرشد ويسدّد من اهتدى به(لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ) يقول : للسبيل التي هي أقوم من غيرها من السبل ، وذلك دين الله الذي بعث به أنبياءه وهو الإسلام ، يقول جلّ ثناؤه : فهذا القرآن يهدي عباد الله المهتدين به إلى قصد السبيل التي ضل عنها سائر أهل الملل المكذبين به.
كما حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله( إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ ) قال : التي هي أصوب : هو الصواب وهو الحقّ ؛ قال : والمخالف هو الباطل. وقرأ قول الله تعالى(فَيها كُتُبٌ

(17/392)


وَيَدْعُ الْإِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا (11)

قّيِّمة) قال : فيها الحقّ ليس فيها عوج. وقرأ( وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا قَيِّمًا ) يقول : قيما مستقيما.
وقوله(وَيُبَشِّرُ المُؤْمِنِينَ) يقول : ويبشر أيضا مع هدايته من اهتدى به للسبيل الأقصد الذين يؤمنون بالله ورسوله ، ويعملون في دنياهم بما أمرهم الله به ، وينتهون عما نهاهم عنه بأن(لَهُمْ أجْرًا) من الله على إيمانهم وعملهم الصالحات(كَبِيرً) يعني ثوابا عظيما ، وجزاء جزيلا وذلك هو الجنة التي أعدّها الله تعالى لمن رضي عمله.
كما حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج( أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا ) قال : الجنة ، وكلّ شيء في القرآن أجر كبير ، أجر كريم ، ورزق كريم فهو الجنة ،
وأن في قوله( أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا ) نصب بوقوع البشارة عليها ، وأن الثانية معطوفة عليها.
وقوله( وَأَنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ ) يقول تعالى ذكره :
وأن الذين لا يصدّقون بالمعاد إلى الله ، ولا يقرّون بالثواب والعقاب في الدنيا ، فهم لذلك لا يتحاشون من ركوب معاصي الله(أَعْتَدْنَا لَهُمْ) يقول : أعددنا لهم ، لقدومهم على ربهم يوم القيامة(عَذَابًا أَلِيما) يعني موجعا ، وذلك عذاب جهنم.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَيَدْعُ الإنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الإنْسَانُ عَجُولا (11) }
يقول تعالى ذكره مذكرا عباده أياديه عندهم ، ويدعو الإنسان على نفسه وولده وماله بالشرّ ، فيقول : اللهمّ أهلكه والعنه عند ضجره وغضبه ، كدعائه بالخير : يقول : كدعائه ربه بأن يهب له العافية ، ويرزقه السلامة في نفسه وماله وولده ، يقول : فلو استجيب له في دعائه على نفسه وماله وولده بالشرّ كما يستجاب له في الخير هلك ، ولكن الله بفضله لا يستجيب له في ذلك.
وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله( وَيَدْعُ الإنْسَانُ

(17/393)


بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الإنْسَانُ عَجُولا ) يعني قول الإنسان : اللهمَّ العنه واغضب عليه ، فلو يُعَجل له ذلك كما يُعجل له الخير ، لهلك ، قال : ويقال : هو( وَإِذَا مَسَّ الإنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا ) أن يكشف ما به من ضرّ ، يقول تبارك وتعالى : لو أنه ذكرني وأطاعني ، واتبع أمري عند الخير ، كما يدعوني عند البلاء ، كان خيرا له.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله( وَيَدْعُ الإنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الإنْسَانُ عَجُولا ) يدعو على ماله ، فيلعن ماله وولده ، ولو استجاب الله له لأهلكه.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : ثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة( وَيَدْعُ الإنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ ) قال : يدعو على نفسه بما لو استجيب له هلك ، وعلى خادمه ، أو على ماله.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد( وَيَدْعُ الإنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الإنْسَانُ عَجُولا ) قال : ذلك دعاء الإنسان بالشرّ على ولده وعلى امرأته ، فيعجل : فيدعو عليه ، ولا يحب أن يصيبه.
واختلف في تأويل قوله( وَكَانَ الإنْسَانُ عَجُولا ) فقال مجاهد ومن ذكرت قوله : معناه : وكان الإنسان عَجولا بالدعاء على ما يكره ، أن يُستجاب له فيه.
وقال آخرون : عنى بذلك آدم أنه عجل حين نفخ فيه الروح قبل أن تجري في جميع جسده ، فرام النهوض ، فوصف ولده بالاستعجال ، لما كان من استعجال أبيهم آدم القيام ، قبل أن يتمّ خلقه.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن المثنى ، قال : ثنا محمد بن جعفر ، قال : ثنا شُعبة ، عن الحكم ، عن إبراهيم ، أن سلمان الفارسيّ ، قال : أوّل ما خلق الله من آدم رأسه ، فجعل ينظر وهو يُخلق ، قال : وبقيت رجلاه ؛ فلما كان بعد العصر قال : يا ربّ عَجِّل قبل الليل ، فذلك قوله( وَكَانَ الإنْسَانُ عَجُولا ).
حدثنا أبو كريب ، قال : ثنا عثمان بن سعيد ، قال : ثنا بشر بن عمارة ، عن أبي

(17/394)


وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آَيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آَيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آَيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا (12)

رَوْق ، عن الضحاك عن ابن عباس ، قال : لما نفخ الله في آدم من روحه أتت النفخة من قبَل رأسه ، فجعل لا يجرى شيء منها في جسده ، إلا صار لحما ودما ؛ فلما انتهت النفخة إلى سرّته ، نظر إلى جسده ، فأعجبه ما رأى من جسده فذهب لينهض فلم يقدر ، فهو قول الله تبارك وتعالى( وَكَانَ الإنْسَانُ عَجُولا ) قال : ضَجِرا لا صبر له على سرّاء ، ولا ضرّاء.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلا (12) }
يقول تعالى ذكره : ومن نعمته عليكم أيها الناس ، مخالفته بين علامة الليل وعلامة النهار ، بإظلامه علامة الليل ، وإضاءته علامة النهار ، لتسكنوا في هذا ، وتتصرّفوا في ابتغاء رزق الله الذي قدره لكم بفضله في هذا ، ولتعلموا باختلافهما عدد السنين وانقضاءها ، وابتداء دخولها ، وحساب ساعات النهار والليل وأوقاتها( وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلا ) يقول : وكلّ شيء بيناه بيانا شافيا لكم أيها الناس لتشكروا الله على ما أنعم به عليكم من نعمه ، وتخلصوا له العبادة ، دون الآلهة والأوثان.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا جرير ، عن عبد العزيز بن رُفيع ، عن أبي الطُفيل ، قال : قال ابن الكَوّاء (1) لعليّ : يا أمير المؤمنين ، ما هذه اللَّطْخة التي في القمر ؟ فقال : ويْحَك أما تقرأ القرآن(فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ) ، فهذه محوه.
حدثنا أبو كريب ، قال : ثنا طلق ، عن زائدة ، عن عاصم ، عن عليّ بن ربيعة ، قال : سأل ابن الكوّاء عليا فقال : ما هذا السواد في القمر ؟ فقال عليّ( فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً ) هُوَ المَحْو.
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا عبد الرحمن ، قال : ثنا إسرائيل ، عن أبي
__________
(1) ابن الكواء : هو عبد الله بن الكواء الخارجي ، أحد الذين كانوا مع علي في صفين ، ثم فارقوه بعد التحكيم. فكان من زعماء الخوارج.

(17/395)


إسحاق ، عن عبد الله بن عمر ، قال : كنت عند عليّ ، فسأله ابن الكَوّاء عن السواد الذي في القمر ؟ فقال : ذاك آية الليل مُحِيت.
حدثنا ابن أبي الشوارب ، قال : ثنا يزيد بن زُريع ، قال : ثنا عمران بن حُدير ، عن رفيع بن أبي كثير قال : قال عليّ بن أبي طالب رضوان الله عليه : سَلُوا عما شئتم ، فقام ابن الكوّاء فقال : ما السواد الذي في القمر ، فقال : قاتلك الله ، هلا سألت عن أمر دينك وآخرتك ؟ قال : ذلك مَحْو الليل.
حدثني زكريا بن يحيى بن أبان المصريّ ، قال : ثنا ابن عُفَير ، قال : ثنا ابن لَهيعة ، عن حُيَيّ بن عبد الله ، عن أبي عبد الرحمن الحُبُلي ، عن عبد الله بن عمرو بن العاص ، أن رجلا قال لعليّ : ما السواد الذي في القمر ؟ قال : إن الله يقول( وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً ).
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله( وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ ) قال : هو السواد بالليل.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قال ابن عباس : كان القمر يضيء كما تضيء الشمس ، والقمر آية الليل ، والشمس آية النهار ، فمحونا آية الليل : السواد الذي في القمر.
حدثنا أبو كريب ، قال : ثنا ابن أبي زائدة ، قال : ذكر ابن جريج ، عن مجاهد ، في قوله( وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ ) قال : الشمس آية النهار ، والقمر آية الليل(فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ) قال : السواد الذي في القمر ، وكذلك خلقه الله.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد( وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ ) قال : ليلا ونهارا ، كذلك خلقهما الله ، قال ابن جريج : وأخبرنا عبد الله بن كثير ، قال( فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً ) قال : ظلمة الليل وسدفة النهار.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله( وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً ) : أي منيرة ، وخلق الشمس أنور من القمر وأعظم.

(17/396)


وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا (13)

حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، ثنا عيسى ، وحدثني الحرث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد( وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ ) قال : ليلا ونهارا ، كذلك جعلهما الله.
واختلف أهل العربية في معنى قوله( وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً ) فقال بعض نحويي الكوفة معناها : مضيئة ، وكذلك قوله(والنَّهار مُبْصِرًا) معناه : مضيئا ، كأنه ذهب إلى أنه قيل مبصرا ، لإضاءته للناس البصر. وقال آخرون : بل هو من أبصر النهار : إذا صار الناس يبصرون فيه فهو مبصر ، كقولهم : رجل مجبن : إذا كان أهله وأصحابه جبناء ، ورجل مضعف : إذا كانت رواته ضعفاء ، فكذلك النهار مبصرا : إذا كان أهله بصراء.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( لِتَبْتَغُوا فَضْلا مِنْ رَبِّكُمْ ) قال : جعل لكم سبحا طويلا.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلا ) : أي بيناه تبيينا.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا (13) }
يقول تعالى ذكره : وكلّ إنسان ألزمناه ما قضى له أنه عامله ، وهو صائر إليه من شقاء أو سعادة بعمله في عنقه لا يفارقه ، وإنما قوله(ألْزَمْناهُ طائِرَهُ) مثل لما كانت العرب تتفاءل به أو تتشاءم من سوانح الطير وبوارحها ، فأعلمهم جلّ ثناؤه أن كلّ إنسان منهم قد ألزمه ربه طائره في عنقه نحسا كان ذلك الذي ألزمه من الطائر ، وشقاء يورده سعيرا ، أو كان سعدا يورده جنات عدن.
وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن بشار ، قال : ثنا معاذ بن هشام ، قال : ثني أبي ، عن قتادة ، عن جابر بن عبد الله أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم قال : " لا عَدْوَى وَلا طِيَرةَ وكُلَّ إنْسانٍ ألْزَمْناهُ طائِرَه فِي عُنُقِهِ " .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثنى

(17/397)


أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس( وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ ) قال : الطائر : عمله ، قال : والطائر في أشياء كثيرة ، فمنه التشاؤم الذي يتشاءم به الناس بعضهم من بعض.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : أخبرني عطاء الخراساني عن ابن عباس ، قوله( وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ ) قال : عمله وما قدر عليه ، فهو ملازمه أينما كان ، فزائل معه أينما زال. قال ابن جريج : وقال : طائره : عمله ، قال : ابن جريج : وأخبرني عبد الله بن كثير ، عن مجاهد ، قال : عمله وما كتب الله له.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ؛ وحدثني الحرث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : طائره : عمله.
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا عبد الرحمن ، قال : ثنا سفيان ؛ وحدثنا ابن حميد ، قال : ثنا حكام ، عن عمرو جميعا عن منصور ، عن مجاهد( وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ ) قال : عمله.
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا جرير ، عن منصور ، عن مجاهد ، مثله.
حدثني واصل بن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن فضيل ، عن الحسن بن عمرو الفقيمي ، عن الحكم ، عن مجاهد ، في قوله( وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ ) قال : ما من مولود يولد إلا وفي عنقه ورقة مكتوب فيها شقيّ أو سعيد. قال : وسمعته يقول : أولئك ينالهم نصيبهم من الكتاب ، قال : هو ما سبق.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله( وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ ) : إي والله بسعادته وشقائه بعمله.
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : طائره : عمله.
فإن قال قائل : وكيف قال : ألزمناه طائره في عنقه إن كان الأمر على ما وصفت ، ولم يقل : ألزمناه في يديه ورجليه أو غير ذلك من أعضاء الجسد ؟ قيل : لأن العنق هو موضع السمات ، وموضع القلائد والأطوقة ، وغير ذلك مما يزين أو يشين ، فجرى كلام العرب بنسبة الأشياء اللازمة بني آدم وغيرهم

(17/398)


من ذلك إلى أعناقهم وكثر استعمالهم ذلك حتى أضافوا الأشياء اللازمة سائر الأبدان إلى الأعناق ، كما أضافوا جنايات أعضاء الأبدان إلى اليد ، فقالوا : ذلك بما كسبت يداه ، وإن كان الذي جرّ عليه لسانه أو فرجه ، فكذلك قوله( أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ ).
واختلفت القرّاء في قراءة قوله( وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا ) فقرأه بعض أهل المدينة ومكة ، وهو نافع وابن كثير وعامة قرّاء العراق(ونُخْرِجُ) بالنون( لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا ) بفتح الياء من يَلْقاه وتخفيف القاف منه ، بمعنى : ونخرج له نحن يوم القيامة ردّا على قوله(ألْزَمْناهُ) ، ونحن نخرج له يوم القيامة كتاب عمله منشورا ، وكان بعض قرّاء أهل الشام يوافق هؤلاء على قراءة قوله(ونُخْرِجُ) ويخالفهم في قوله(يَلْقاهُ) فيقرؤه(ويُلَقَّاهُ) بضم الياء وتشديد القاف ، بمعنى : ونخرج له نحن يوم القيامة كتابا يلقاه ، ثم يردّه إلى ما لم يسمّ فاعله ، فيقول : يلقى الإنسان ذلك الكتاب منشورا.
وذُكر عن مجاهد ما حدثنا أحمد بن يوسف ، قال : ثنا القاسم ، قال : ثنا يزيد ، عن جرير بن حازم عن حميد ، عن مجاهد أنه قرأها(وَيخْرَجُ لَهُ يَوْمَ القِيامَةِ كِتابا) قال : يزيد : يعني يخرج الطائر كتابا ، هكذا أحسبه قرأها بفتح الياء ، وهي قراءة الحسن البصري وابن محيصن ؛ وكأن من قرأ هذه القراءة وجَّه تأويل الكلام إلى : ويخرج له الطائر الذي ألزمناه عنق الإنسان يوم القيامة ، فيصير كتابا يقرؤه منشورا. وقرأ ذلك بعض أهل المدينة : (ويُخرَجُ لَهُ) بضم الياء على مذهب ما لم يسمّ فاعله ، وكأنه وجَّه معنى الكلام إلى ويخرج له الطائر يوم القيامة كتابا ، يريد : ويخرج الله ذلك الطائر قد صيره كتابا ، إلا أنه نحاه نحو ما لم يسمّ فاعله.
وأولى القراءات في ذلك بالصواب ، قراءة من قرأه(ونُخْرِجُ) بالنون وضمها( لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا ) بفتح الياء وتخفيف القاف ، لأن الخبر جرى قبل ذلك عن الله تعالى أنه الذي ألزم خلقه ما ألزم من ذلك ؛ فالصواب أن يكون الذي يليه خبرا عنه ، أنه هو الذي يخرجه لهم يوم القيامة ،

(17/399)


أن يكون بالنون كما كان الخبر الذي قبله بالنون ، وأما قوله(يَلقاهُ) فإنّ في إجماع الحجة من القرّاء على تصويب ما اخترنا من القراءة في ذلك ، وشذوذ ما خالفه الحجة الكافية لنا على تقارب معنى القراءتين : أعني ضمّ الياء وفتحها في ذلك ، وتشديد القاف وتخفيفها فيه ؛ فإذا كان الصواب في القراءة هو ما اخترنا بالذي عليه دللنا ، فتأويل الكلام : وكلّ إنسان منكم يا معشر بني آدم ، ألزمناه نحسه وسعد ، وشقاءه وسعادته ، بما سبق له في علمنا أنه صائر إليه ، وعامل من الخير والشرّ في عنقه ، فلا يجاوز في شيء من أعماله ما قضينا عليه أنه عامله ، وما كتبنا له أنه صائر إليه ، ونحن نخرج له إذا وافانا كتابا يصادفه منشورا بأعماله التي عملها في الدنيا ، وبطائره الذي كتبنا له ، وألزمناه إياه في عنقه ، قد أحصى عليه ربه فيه كلّ ما سلف في الدنيا.
وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، ( وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا ) قال : هو عمله الذي عمل أحصي عليه ، فأخرج له يوم القيامة ما كتب عليه من العمل يلقاه منشورا.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا ) : أي عمله.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثنا أبو سفيان ، عن معمر ، عن قتادة( أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ ) قال : عمله(ونُخْرِجُ لَهُ) قال : نخرج ذلك العمل(كِتابا يَلقاهُ مَنْشُورًا) قال معمر : وتلا الحسن( عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ ) يا ابن آدم بسطت لك صحيفتك ، ووكل بك ملَكان كريمان ، أحدهما عن يمينك ، والآخر عن يسارك. فأما الذي عن يمينك فيحفظ حسناتك ، وأما الذي عن شمالك فيحفظ سيئاتك ، فاعمل ما شئت ، أقلل أو أكثر ، حتى إذا متّ طُويت صحيفتك ، فجعلت في عنقك معك في قبرك ، حتى تخرج يوم القيامة كتابا يلقاه منشورا( اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا ) قد عدل والله عليك من جعلك حسيب نفسك.

(17/400)


اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا (14) مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا (15)

حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : طائره : عمله ، ونخرج له بذلك العمل كتابا يلقاه منشورا.
وقد كان بعض أهل العربية يتأوّل قوله( وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ ) : أي حظه من قولهم : طار سهم فلان بكذا : إذا خرج سهمه على نصيب من الأنصباء ، وذلك وإن كان قولا له وجه ، فإن تأويل أهل التأويل على ما قد بينت ، وغير جائز أن يتجاوز في تأويل القرآن ما قالوه إلى غيره ، على أن ما قاله هذا القائل ، إن كان عنى بقوله حظه من العمل والشقاء والسعادة ، فلم يبعد معنى قوله من معنى قولهم.
القول في تأويل قوله تعالى : { اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا (14) }
يقول تعالى ذكره : (ونُخرِجُ لَهُ يَوْمَ القِيامَةِ كِتابا يَلقاهُ مَنْشُورًا) فيقال له( اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا ) فترك ذكر قوله : فنقول له ، اكتفاء بدلالة الكلام عليه. وعنى بقوله(اقرأْ كِتابَكَ) : اقرأ كتاب عملك الذي عملته في الدنيا ، الذي كان كاتبانا يكتبانه ، ونحصيه عليك( كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا ) يقول : حسبك اليوم نفسك عليك حاسبا يحسب عليك أعمالك ، فيحصيها عليك ، لا نبتغي عليك شاهدا غيرها ، ولا نطلب عليك محصيا سواها.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا ) سيقرأ يومئذ من لم يكن قارئا في الدنيا.
القول في تأويل قوله تعالى : { مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولا (15) }

(17/401)


يقول تعالى ذكره : من استقام على طريق الحقّ فاتبعه ، وذلك دين الله الذي ابتعث به نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم عليه وسلم(فإِنَّمَا يهتَدِي لِنَفسِهِ) يقول : فليس ينفع بلزومه الاستقامة ، وإيمانه بالله ورسوله غير نفسه(وَمَنْ ضَلَّ) يقول : ومن جار عن قصد السبيل ، فأخذ على غير هدى ، وكفر بالله وبمحمد صلى الله عليه وسلم وبما جاء به من عند الله من الحقّ ، فليس يضرّ بضلاله وجوره عن الهدى غير نفسه ، لأنه يوجب لها بذلك غضب الله وأليم عذابه.. وإنما عنى بقوله( فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا ) فإنما يكسب إثم ضلاله عليها لا على غيرها ، وقوله( وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ) يعني تعالى ذكره : ولا تحمل حاملة حمل أخرى غيرها من الآثام. وقال( وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ) لأن معناها : ولا تزر نفس وازرة وزر نفس أخرى يقال منه : وزرت كذا أزره وزرا ، والوزر : هو الإثم ، يجمع أوزارا ، كما قال تعالى( وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَارًا مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ ) وكأن معنى الكلام : ولا تأثم آثمة إثم أخرى ، ولكن على كل نفس إثمها دون إثم غيرها من الأنفس.
كما حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ) والله ما يحمل الله على عبد ذنب غيره ، ولا يؤاخذ إلا بعمله.
وقوله( وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولا ) يقول تعالى ذكره : وما كنا مهلكي قوم إلا بعد الإعذار إليهم بالرسل ، وإقامة الحجة عليهم بالآيات التي تقطع عذرهم.
كما حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله( وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولا ) : إن الله تبارك وتعالى ليس يعذب أحدا حتى يسبق إليه من الله خبرا ، أو يأتيه من الله بيِّنة ، وليس معذّبا أحدا إلا بذنبه.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : ثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، عن أبي هريرة ، قال : إذا كان يوم القيامة ، جمع الله تبارك وتعالى نسم الذين ماتوا في الفترة والمعتوه والأصمّ والأبكم ، والشيوخ الذين جاء الإسلام وقد خرفوا ، ثم أرسل رسولا أن ادخلوا النار ، فيقولون : كيف ولم يأتنا رسول ، وايم الله لو دخلوها لكانت عليهم بردا وسلاما ، ثم يرسل إليهم ، فيطيعه

(17/402)


وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا (16)

من كان يريد أن يطيعه قبل ؛ قال أبو هريرة : اقرءوا إن شئتم( وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولا ).
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثنا أبو سفيان ، عن معمر ، عن همام ، عن أبي هريرة نحوه.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا (16) }
اختلف القرّاء في قراءة قوله(أمَرْنَا مُتْرَفِيها) فقرأت ذلك عامة قرّاء الحجاز والعراق(أمَرْنا) بقصر الألف وغير مدها وتخفيف الميم وفتحها. وإذا قرئ ذلك كذلك ، فإن الأغلب من تأويله : أمرنا مترفيها بالطاعة ، ففسقوا فيها بمعصيتهم الله ، وخلافهم أمره ، كذلك تأوّله كثير ممن قرأه كذلك.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قال ابن عباس(أمَرْنا مُتْرَفِيها) قال : بطاعة الله ، فعصوا.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثنا شريك ، عن سلمة أو غيره ، عن سعيد بن جبير ، قال : أمرنا بالطاعة فعصوا ، وقد يحتمل أيضا إذا قرئ كذلك أن يكون معناه : جعلناهم أمراء ففسقوا فيها ، لأن العرب تقول : هو أمير غير مأمور. وقد كان بعض أهل العلم بكلام العرب من أهل البصرة يقول : قد يتوجَّه معناه إذا قرئ كذلك إلى معنى أكثرنا مترفيها ، ويحتجّ لتصحيحه ذلك بالخبر الذي رُوي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " خَيْرُ المَالِ مُهْرَةٌ مَأْمُورَةٌ أوْ سِكّةٌ مَأْبُورَةٌ " ويقول : إن معنى قوله : مأمورة : كثيرة النسل. وكان بعض أهل العلم بكلام العرب من الكوفيين ينكر ذلك من قيله ، ولا يجيزنا أمرنا ، بمعنى أكثرنا إلا بمد الألف من أمرنا. ويقول في قوله " مهرة مأمورة " : إنما قيل ذلك على الاتباع لمجيء مأبورة بعدها ، كما قيل : " ارْجِعْنَ مَأْزُورَاتٍ غَيرَ مَأْجُورَاتٍ " فهمز مأزورات لهمز مأجورات ، وهي من وزرت إتباعا لبعض الكلام بعضا. وقرأ ذلك أبو عثمان(أمَّرْنا) بتشديد الميم ، بمعنى الإمارة.

(17/403)


حدثنا أحمد بن يوسف ، قال : ثنا القاسم ، قال : ثنا هشيم عن عوف ، عن أبي عثمان النهدي أنه قرأ(أمَّرْنا) مشدّدة من الإمارة. وقد تأوّل هذا الكلام على هذا التأويل ، جماعة من أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا عليّ بن داود ، قال : ثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : (أمَّرْنا مُترَفِيها) يقول : سلطنا أشرارها فعصوا فيها ، فإذا فعلوا ذلك أهلكتهم بالعذاب ، وهو قوله( وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا ).
حدثني الحرث ، قال : ثنا القاسم ، قال : سمعت الكسائي يحدّث عن أبي جعفر الرازي ، عن الربيع بن أنس ، أنه قرأها(أمَّرْنا) وقال : سلَّطنا.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثنى حجاج ، عن أبي حفص ، عن الربيع ، عن أبي العالية ، قال : (أمَّرْنا) مثقلة : جعلنا عليها مترفيها : مستكبريها.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ؛ وحدثني الحرث قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله تبارك وتعالى : (أمَّرْنا مُتْرَفِيها) قال : بعثنا.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله.
وذكر عن الحسن البصري أنه قرأ ذلك(آمَرْنا) بمدّ الألف من أمرنا ، بمعنى : أكثرنا فسقتها. وقد وجَّه تأويل هذا الحرف إلى هذا التأويل جماعة من أهل التأويل ، إلا أن الذين حدّثونا لم يميزوا لنا اختلاف القراءات في ذلك ، وكيف قرأ ذلك المتأوّلون ، إلا القليل منهم.
ذكر من تأوّل ذلك كذلك : حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله(وَإِذَا أرَدْنا أنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً آمَرْنا مُترَفِيها فَفَسَقُوا فِيها) يقول : أكثرنا عددهم.
حدثنا هناد ، قال : ثنا أبو الأحوص ، عن سماك ، عن عكرمة قوله(آمَرْنا مُتْرَفِيها) قال : أكثرناهم.

(17/404)


حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : ثنا ابن علية ، عن أبي رجاء ، عن الحسن ، في قوله(أمَرْنا مُتْرَفِيها) قال : أكثرناهم.
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ ، يقول : أخبرنا عبد بن سليمان ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله(أَمَرْنَا مُتْرَفِيها) يقول : أكثرنا مترفيها : أى كبراءها.
حدثنا بشر ، قالا ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : (وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلكَ قَرْيَةً آمَرْنَا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فيها فَحَقَّ عَلَيْها القَوْلُ) يقول : أكثرنا مترفيها : أى جبابرتها ، ففسقوا فيها وعملوا بمعصية الله(فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا) وكان يقال : إذا أراد الله بقوم صلاحا ، بعث عليهم مصلحا ، وإذا أراد بهم فسادا بعث عليهم مفسدا ، وإذا أراد أن يهلكها أكثر مترفيها.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : ثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة(آمَرْنَا مُتْرَفِيها) قال : أكثرناهم.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : ثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن الزهري ، قال : دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما على زينب وهو يقول : " لا إِلَهَ إِلا الله وَيْلٌ لِلْعَرَبِ منْ شَرٍّ قَدِ اقْتَرَبَ فُتِحَ اليَوْمُ منْ رَدْمِ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مِثْلُ هذَا ، وحلق بين إبهامه والتي تليها ، قالت : يا رسول الله أنهلك وفينا الصالحون ؟ قال : نَعَمْ إِذَا كَثُرَ الخَبَثُ " .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله( وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا ) قال : ذكر بعض أهل العلم أن أمرنا : أكثرنا. قال : والعرب تقول للشيء الكثير أمِرَ لكثرته. فأما إذا وصف القوم بأنهم كثروا ، فإنه يقال : أمر بنو فلان ، وأمر القوم يأمرون أمرا ، وذلك إذا كثروا وعظم أمرهم ، كما قال لبيد.
إنْ يُغْبَطُوا يُهْبَطُوا وَإِنْ أَمِرُوا... يَوْما يَصِيرُوا للقُلّ والنَّقَدِ (1)
__________
(1) البيت في ديوان لبيد طبع فينا سنة 1880 رواية الطوسي ص 19 وفي روايته آخر البيت : " للهلك والنكد " في موضع : للقل والنقد في رواية المؤلف : وقال شارحه : يقول : إن غبطوا يوما فإنهم يموتون ، ويهبطوا هاهنا يموتون. قال أبو الحسن : وهو قول أبي عمرو. ويروى : " إن يغبطوا : يموتون غبطة ، كأنهم يموتون من غير مرض. ويقال للناقة إذا ذبحت من غير علة : اعتبطت ، أخذه من العبيط ، والعبيط : الطري من كل شيء " أ ه. قلت : والقد النفد بمعنى القلة والغناء.

(17/405)


وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا (17)

والأمر المصدر ، والاسم الإمر ، كما قال الله جلّ ثناؤه( لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا ) قال : عظيما ، وحكي في مثل شرّ إِمْر : أي كثير.
وأولى القراءات في ذلك عندي بالصواب قراءة من قرأ(أَمَرْنا مُتْرَفِيها) بقصر الألف من أمرنا وتخفيف الميم منها ، لإجماع الحجة من القرّاء على تصويبها دون غيرها. وإذا كان ذلك هو الأولى بالصواب بالقراءة ، فأولى التأويلات به تأويل من تأوّله : أمرنا أهلها بالطاعة فعصوا وفسقوا فيها ، فحقّ عليهم القول ، لأن الأغلب من معنى أمرنا : الأمر ، الذي هو خلاف النهي دون غيره ، وتوجيه معاني كلام الله جلّ ثناؤه إلى الأشهر الأعرف من معانيه ، أولى ما وجد إليه سبيل من غيره.
ومعنى قوله(فَفَسَقُوا فِيهَا) : فخالفوا أمر الله فيها ، وخرجوا عن طاعته(فَحَقَّ عَلَيْها القَوْلُ) يقول : فوجب عليهم بمعصيتهم الله وفسوقهم فيها ، وعيد لله الذي أوعد من كفر به ، وخالف رسله ، من الهلاك بعد الإعذار والإنذار بالرسل والحجج(فَدَمَّرْناها تَدْميرًا) يقول : فخرّبناها عند ذلك تخريبا ، وأهلكنا من كان فيها من أهلها إهلاكا ، كما قال الفرزدق :
وكانَ لَهُمْ كَبكْرِ ثَمُودَ لَمَّا... رَغا ظُهْرًا فَدَمَّرَهُمْ دَمارًا (1)
والبيت من قصيدة ناقض بها الفرزدق قصيدة جرير التي مطلعها :
ألا حَيَّ الدّيارَ بِسُعْدِ إنّي... أُحِبّ لِحُبّ فاطمةَ الّذيارا
والضمير في قوله " وكان لهم كبكر ثمود " راجع إلى جرير المذكور في البيت قبله وهو :
جَرٍّ الْمُخْزِياتِ عَلى كُلَيْبٍ... جَرِيرٌ ثمَّ ما مَنَعَ الدَّمَارَا
وبكر ثمود : ولد ناقة صالح . ورغا : صوت . والرغاء : صوت ذوات الخف.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا (17) }
__________
(1) البيت للفرزدق (ديوانه 443) استشهد به المؤلف على أن قوله تعالى : " فدمرناها تدميرا " معناه : خربناها تخريبا.

(17/406)


وهذا وعيد من الله تعالى ذكره مكذّبي رسوله محمد صلى الله عليه وسلم من مشركي قريش ، وتهديدهم لهم بالعقاب ، وإعلام منه لهم ، أنهم إن لم ينتهوا عما هم عليه مقيمون من تكذيبهم رسوله صلى الله عليه وسلم أنه محلّ بهم سخطه ، ومنزل بهم من عقابه ما أنزل بمن قبلهم من الأمم الذين سلكوا في الكفر بالله ، وتكذيب رسله سبيلهم ، يقول الله تعالى ذكره : وقد أهلكنا أيها القوم من قبلكم من بعد نوح إلى زمانكم قرونا كثيرة كانوا من جحود آيات الله والكفر به ، وتكذيب رسله ، على مثل الذي أنتم عليه ، ولستم بأكرم على الله تعالى منهم ، لأنه لا مناسبة بين أحد وبين الله جلّ ثناؤه ، فيعذّب قوما بما لا يعذّب به آخرين ، أو يعفو عن ذنوب ناس فيعاقب عليها آخرين ؛ يقول جلّ ثناؤه : فأنيبوا إلى طاعة الله ربكم ، فقد بعثنا إليكم رسولا ينبهكم على حججنا عليكم ، ويوقظكم من غفلتكم ، ولم نكن لنعذّب قوما حتى نبعث إليهم رسولا منبها لهم على حجج الله ، وأنتم على فسوقكم مقيمون ، وكفى بربك يا محمد بذنوب عباده خبيرا : يقول : وحسبك يا محمد بالله خابرا بذنوب خلقه عالما ، فإنه لا يخفى عليه شيء من أفعال مشركي قومك هؤلاء ، ولا أفعال غيرهم من خلقه ، وهو بجميع ذلك عالم خابر بصير ، يقول : يبصر ذلك كله فلا يغيب عنه منه شيء ، ولا يعزب عنه مثقال ذرّة في الأرض ولا في السماء ، ولا أصغر من ذلك ولا أكبر.
وقد اختلف في مبلغ مدة القرن ،
فحدثنا مجاهد بن موسى ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا حماد بن سلمة ، عن أبي محمد بن عبد الله بن أبي أوفى ، قال : القرن : عشرون ومئة سنة ، فبُعث رسول الله صلى الله عليه وسلم في أوّل قرن كان ، وآخرهم يزيد بن معاوية.
وقال آخرون : بل هو مئة سنة.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا حسان بن محمد بن عبد الرحمن الحمصي أبو الصلت الطائي ، قال : ثنا سلامة بن حواس ، عن محمد بن القاسم ، عن عبد الله بن بسر المازني ، قال : وضع النبيّ صلى الله عليه وسلم يده على رأسه وقال : " سَيَعيِشُ هذَا الغُلام قَرْنا " قلت : كم القرن ؟ قال : " مِئَةُ سَنَةٍ " .
حدثنا حسان بن محمد ، قال : ثنا سلامة بن حواس ، عن محمد بن

(17/407)


القاسم ، قال : ما زلنا نعدّ له حتى تمَّت مئة سنة ثم مات ، قال أبو الصلت : أخبرني سلامة أن محمد بن القاسم هذا كان ختن عبد الله بن بسر.
وقال آخرون في ذلك بما حدثنا إسماعيل بن موسى الفزاري ، قال : أخبرنا عمر بن شاكر ، عن ابن سيرين ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " القَرْنُ أرْبَعُونَ سَنَةً " .
وقوله(وكَفَى بِرَبِّكَ) أدخلت الباء في قوله(بِرَبِّكَ) وهو في محلّ رفع ، لأن معنى الكلام : وكفاك ربك ، وحسبك ربك بذنوب عباده خبيرا ، دلالة على المدح ، وكذلك تفعل العرب في كلّ كلام كان بمعنى المدح أو الذمّ ، تدخل في الاسم الباء والاسم المدخلة عليه الباء في موضع رفع لتدلّ بدخولها على المدح أو الذمّ كقولهم : أكرم به رجلا وناهيك به رجلا وجاد بثوبك ثوبا ، وطاب بطعامكم طعاما ، وما أشبه ذلك من الكلام ، ولو أسقطت الباء مما دخلت فيه من هذه الأسماء رفعت ، لأنها في محلّ رفع ، كما قال الشاعر :
ويُخْبرُنِي عَنْ غائبِ المَرْءِ هَدْيُهُ... كَفَى الهَدْيُ عَمَّا غَيَّبَ المَرْءُ مُخْبرًا (1)
فأما إذا لم يكن في الكلام مدح أو ذمّ فلا يدخلون في الاسم الباء ؛ لا يجوز أن يقال : قام بأخيك ، وأنت تريد : قام أخوك ، إلا أن تريد : قام رجل آخر به ، وذلك معنى غير المعنى الأوّل.
__________
(1) البيت من شواهد الفراء في معاني القرآن ( مصورة الجامعة رقم 24059 ص 178) قال : " وكل ما في القرآن من قوله : " وكفى بربك) ، وفي (كفى بالله) و (كفى بنفسك اليوم) : فلو ألقيت الباء ، كان الخوف مرفوعا ، كما قال الشاعر : " ويخبرني ... البيت " . وإنما يجوز دخول الباء في المرفوع إذا كان يمدح به صاحبه ؛ ألا ترى أنك تقول : كفاك به ، ونهاك به ، وأكرم به رجلا ، وبئس به رجلا ، ونعم به رجلا ، وطاب بطعامك طعاما ، وجاد بثوبك ثوبا . ولو لم يكن مدحا أو ذما لم يجز دخولها ؛ ألا ترى أن الذي يقول : قام أخوك . أو قعد أخوك ، لا يجوز له أن يقول : قام بأخيك ، ولا قعد بأخيك ؛ إلا أن تريد قام به غيره وقعد به . أ هـ . وقد اغترف ا لمؤلف من كلام الفراء ما شاء ، غير أنه لم يعزه إلى قائله في هذا الموضع .

(17/408)


مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا (18)

القول في تأويل قوله تعالى : { مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا (18) }

(17/408)


وَمَنْ أَرَادَ الْآَخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا (19)

يقول تعالى ذكره : من كان طلبه الدنيا العاجلة ولها يعمل ويسعى ، وإياها يبتغي ، لا يوقن بمعاد ، ولا يرجو ثوابا ولا عقابا من ربه على عمله(عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ) يقول : يعجل الله له في الدنيا ما يشاء من بسط الدنيا عليه ، أو تقتيرها لمن أراد الله أن يفعل ذلك به ، أو إهلاكه بما يشاء من عقوباته.(ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاها) يقول : ثم أصليناه عند مقدمه علينا في الآخرة جهنم ، (مَذْمُوما) على قلة شكره إيانا ، وسوء صنيعه فيما سلف من أيادينا عنده في الدنيا(مَدْحُورًا) يقول : مبعدا : مقصى في النار.
وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله( مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ) يقول : من كانت الدنيا همّه وسدمه وطلبته ونيته ، عجَّل الله له فيها ما يشاء ، ثم اضطرّه إلى جهنم ، قال( ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا ) مذموما في نعمة الله مدحورا في نقمة الله.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني أبو طيبة شيخ من أهل المصيصة ، أنه سمع أبا إسحاق الفزاري يقول( عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ) قال : لمن نريد هلكته.
حدثني عليّ بن داود ، قال : ثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله(مَذْمُوما) يقول : ملوما.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله( مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ) قال : العاجلة : الدنيا.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا (19) }
يقول تعالى ذكره : من أراد الآخرة وإياها طلب ، ولها عمل عملها ،

(17/409)


كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا (20)

الذي هو طاعة الله وما يرضيه عنه ، وأضاف السعي إلى الهاء والألف ، وهي كناية عن الآخرة ، فقال : وسعى للآخرة سعي الآخرة ، ومعناه :
وعمل لها عملها لمعرفة السامعين بمعنى ذلك ، وأن معناه : وسعى لها سعيه لها وهو مؤمن ، يقول : هو مؤمن مصدّق بثواب الله ، وعظم جزائه على سعيه لها ، غير مكذّب به تكذيب من أراد العاجلة ، يقول الله جلّ ثناؤه(فَأُولَئِكَ) يعني : فمن فعل ذلك(كانَ سَعْيُهُمْ) يعني عملهم بطاعة الله(مَشْكُورًا) وشكر الله إياهم على سعيهم ذلك حسن جزائه لهم على أعمالهم الصالحة ، وتجاوزه لهم عن سيئها برحمته.
كما حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله( وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا ) شكر الله لهم حسناتهم ، وتجاوز عن سيئاتهم.
القول في تأويل قوله تعالى : { كُلا نُمِدُّ هَؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا (20) }
يقول تعالى ذكره : يمدّ ربك يا محمد كلا الفريقين من مريدي العاجلة ، ومريدي الآخرة ، الساعي لها سعيها وهو مؤمن في هذه الدنيا من عطائه ، فيرزقهما جميعا من رزقه إلى بلوغهما الأمد ، واستيفائهما الأجل ما كتب لهما ، ثم تختلف بهما الأحوال بعد الممات ، وتفترق بهما بعد الورود المصادر ، ففريق مريدي العاجلة إلى جهنم مصدَرهم ، وفريق مريدي الآخرة إلى الجنة مآبهم( وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا ) يقول : وما كان عطاء ربك الذي يؤتيه من يشاء من خلقه في الدنيا ممنوعا عمن بسطه عليه لا يقدر أحد من خلقه منعه من ذلك ، وقد آتاه الله إياه.
وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله( كُلا نُمِدُّ هَؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا

(17/410)


انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآَخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا (21)

كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا ) : أي منقوصا ، وإن الله عزّ وجلَّ قسم الدنيا بين البرّ والفّاجِر ، والآخرة خصوصا عند ربك للمتقين.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : ثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة( وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا ) قال : منقوصا.
حدثنا محمد بن عبد الله المخرمي ، قال : ثنا عبد الرحمن بن مهدي ، قال : ثنا سهل بن أبي الصلت السراج ، قال : سمعت الحسن يقول( كُلا نُمِدُّ هَؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ ) قال : كلا نعطي من الدنيا البرّ والفاجر.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قال ابن عباس( مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ ).... الآية( وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ ).... ثم قال( كُلا نُمِدُّ هَؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ ) قال ابن عباس : فيرزق من أراد الدنيا ، ويرزق من أراد الآخرة. قال ابن جريج( وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا ) قال : ممنوعا.
حدثنا بشر ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله( كُلا نُمِدُّ هَؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ ) أهل الدنيا وأهل الآخرة( مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا ) قال : ممنوعا.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله( كُلا نُمِدُّ هَؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ ) أهل الدنيا وأهل الآخرة( مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا ) من برّ ولا فاجر ، قال : والمحظور : الممنوع ، وقرأ( انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلا ).
القول في تأويل قوله تعالى : { انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلا (21) }
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : انظر يا محمد بعين قلبك إلى هذين الفريقين اللذين هم أحدهما الدار العاجلة ، وإياها يطلب ، ولها يعمل ؛ والآخر الذي يريد الدار الآخرة ، ولها يسعى موقنا بثواب الله على سعيه ،

(17/411)


لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا (22)

كيف فضَّلنا أحد الفريقين على الآخر ، بأن بصّرنا هذا رشده ، وهديناه للسبيل التي هي أقوم ، ويسرناه للذي هو أهدى وأرشد ، وخذلنا هذا الآخر ، فأضللناه عن طريق الحقّ ، وأغشينا بصره عن سبيل الرشد( وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ ) يقول : وفريق مريد الآخرة أكبر في الدار الآخرة درجات بعضهم على بعض لتفاوت منازلهم بأعمالهم في الجنة وأكبر تفضيلا بتفضيل الله بعضهم على بعض من هؤلاء الفريق الآخرين في الدنيا فيما بسطنا لهم فيها.
وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله( انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ ) : أي في الدنيا( وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلا ) وإن للمؤمنين في الجنة منازل ، وإن لهم فضائل بأعمالهم ، وذكر لنا أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم قال : " إِنَّ بينَ أَعْلَى أَهْلِ الجَنَّةِ وأسْفَلِهِمْ دَرَجَةً كالنَّجْمِ يُرَى فِي مَشارِقِ الأرْضِ ومَغَارِبها " .
القول في تأويل قوله تعالى : { لا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولا (22) }
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : لا تجعل يا محمد مع الله شريكا في ألوهته وعبادته ، ولكن أخلص له العبادة ، وأفرد له الألوهة ، فإنه لا إله غيره ، فإنك إن تجعل معه إلها غيره ، وتعبد معه سواه ، تقعد مذموما : يقول : تصير ملوما على ما ضيعت من شكر الله على ما أنعم به عليك من نعمه ، وتصييرك الشكر لغير من أولاك المعروف ، وفي إشراكك في الحمد من لم يشركه في النعمة عليك غيره ، مخذولا قد أسلمك ربك لمن بغاك سوءا ، وإذا أسلمك ربك الذي هو ناصر أوليائه لم يكن لك من دونه وليّ ينصرك ويدفع عنك.
كما حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله( لا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولا ) يقول : مذموما في نعمة الله ، وهذا الكلام وإن كان خرج على وجه الخطاب لنبيّ لله صلى الله عليه وسلم ، فهو معنيّ به جميع من لزمه التكليف من عباد الله جلّ وعزّ.

(17/412)


وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا (23)

القول في تأويل قوله تعالى : { وَقَضَى رَبُّكَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلا كَرِيمًا (23) }
يعني بذلك تعالى ذكره حكم ربك يا محمد بأمره إياكم ألا تعبدوا إلا الله ، فإنه لا ينبغي أن يعبد غيره ، وقد اختلفت ألفاظ أهل التأويل في تأويل قوله(وَقَضَى رَبُّكَ ) وإن كان معنى جميعهم في ذلك واحدا.
* ذكر ما قالوا في ذلك : حدثني عليّ بن داود ، قال : ثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس( وَقَضَى رَبُّكَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ ) يقول : أمر.
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا الحكم بن بشير ، قال : ثنا زكريا بن سلام ، قال : جاء رجل إلى الحسن ، فقال : إنه طلق امرأته ثلاثا ، فقال : إنك عصيتَ ربك ، وبانت منك امرأتك ، فقال الرجل : قضى الله ذلك عليّ ، قال الحسن ، وكان فصيحا : ما قضى الله : أي ما أمر الله ، وقرأ هذه الآية( وَقَضَى رَبُّكَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ ) فقال الناس : تكلم الحسن في القدر.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله( وَقَضَى رَبُّكَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ ) : أي أمر ربك في ألا تعبدوا إلا إياه ، فهذا قضاء الله العاجل ، وكان يُقال في بعض الحكمة : من أرضى والديه : أرض خالقه ، ومن أسخط والديه ، فقد أسخط ربه.
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة( وَقَضَى رَبُّكَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ ) قال : أمر ألا تعبدوا إلا إياه ، وفي حرف ابن مسعود : (وَصَّى رَبُّكَ ألا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ).
حدثنا أبو كريب ، قال : ثنا يحيى بن عيسى ، قال : ثنا نصير بن أبي الأشعث ، قال : ثني ابن حبيب بن أبي ثابت ، عن أبيه ، قال : أعطاني ابن عباس مصحفا ، فقال : هذا على قراءة أبيّ بن كعب ، قال أبو كريب : قال

(17/413)


يحيى : رأيت المصحف عند نصير فيه : (وَوَصَّى رَبُّكَ) يعني : وقضى ربك.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد( وَقَضَى رَبُّكَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ ) قال : وأوصى ربك.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله( وَقَضَى رَبُّكَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ ) قال : أمر ألا تعبدوا إلا إياه.
حدثني الحرث ، قال : ثنا القاسم ، قال : ثنا هشيم ، عن أبي إسحاق الكوفي ، عن الضحاك بن مزاحم ، أنه قرأها(وَوَصَّى رَبُّكَ) وقال : إنهم ألصقوا الواو بالصاد فصارت قافا.
وقوله( وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ) يقول : وأمركم بالوالدين إحسانا أن تحسنوا إليهما وتبرّوهما. ومعنى الكلام : وأمركم أن تحسنوا إلى الوالدين ، فلما حذفت " أن " تعلق القضاء بالإحسان ، كما يقال في الكلام : آمرك به خيرا ، وأوصيك به خيرا ، بمعنى : آمرك أن تفعل به خيرا ، ثم تحذف " أن " فيتعلق الأمر والوصية بالخبر ، كما قال الشاعر :
عَجِبْتُ مِنْ دَهْماءَ إِذْ تَشْكُونا... ومِنْ أبي دَهْماءَ إِذْ يُوصِينا
خَيْرًا بها كأننا جافُونا (1)
وعمل يوصينا في الخير.
واختلفت القرّاء في قراءة قوله( إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا ) فقرأ ذلك عامة قرّاء أهل المدينة والبصرة ، وبعض قرّاء الكوفيين(إِمَّا يَبْلُغَنَّ) على التوحيد على توجيه ذلك إلى أحدهما لأن أحدهما واحد ، فوحدوا(يَبْلُغَنَّ) لتوحيده ، وجعلوا قوله(أوْ كِلاهُما) معطوفا على الأحد. وقرأ ذلك عامة قرّاء الكوفيين(إِما يَبْلُغانَ) على التثنية وكسر النون وتشديدها ، وقالوا : قد ذكر الوالدان قبل ، وقوله(يَبْلُغانّ) خبر عنهما بعد ما قدّم أسماءهما ، قالوا : والفعل إذا جاء بعد الاسم كان الكلام أن يكون فيه دليل على أنه خبر عن اثنين
__________
(1) الأبيات الثلاثة من مشطور الرجز . وهي من شواهد الفراء في ( معاني القرآن ص 178) قال : والعرب تقول : أوصيك به خيرا ، وآمرك به خيرا ، وكأن معناه : آمرك أن تفعل به خيرا ، ثم تحذف أن ، فتوصل الخير بالوصية وبالأمر ، قال الشاعر : " عجبت ... الأبيات " .

(17/414)


أو جماعة. قالوا : والدليل على أنه خبر عن اثنين في الفعل المستقبل الألف والنون. قالوا : وقوله(أحَدُهُما أوْ كِلاهُما) كلام مستأنف ، كما قيل( فَعَمُوا وَصَمُّوا ثُمَّ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ ) وكقوله(وأسَرُّوا النَّجْوَى) ثم ابتدأ فقال(الَّذِينَ ظَلَمُوا).
وأولى القراءتين بالصواب عندي في ذلك ، قراءة من قرأه(إما يَبْلُغَنَّ) على التوحيد على أنه خبر عن أحدهما ، لأن الخبر عن الأمر بالإحسان في الوالدين ، قد تناهى عند قوله(وَبالوَالِدَيْنِ إحْسانا) ثم ابتدأ قوله( إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا ).
وقوله( فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ ) يقول : فلا تؤفف من شيء تراه من أحدهما أو منهما مما يتأذّى به الناس ، ولكن اصبر على ذلك منهما ، واحتسب في الأجر صبرك عليه منهما ، كما صبرا عليك في صغرك.
وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن بشار ، قال : ثنا محمد بن محبب ، قال : ثنا سفيان ، عن ليث ، عن مجاهد ، في قوله( فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا ) قال : إن بلغا عندك من الكبر ما يبولان ويخرآن ، فلا تقل لهما أف تقذّرهما.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد إما يَبْلُغانَّ عِندك الكبر فلا تَقُل لهما أف حين ترى الأذى ، وتميط عنهما الخلاء والبول ، كما كانا يميطانه عنك صغيرا ، ولا تؤذهما.
وقد اختلف أهل المعرفة بكلام العرب في معنى " أفّ " ، فقال بعضهم : معناه :
كلّ ما غلظ من الكلام وقبُح. وقال آخرون : الأفّ : وسخ الأظفار والتف كلّ ما رفعت بيدك من الأرض من شيء حقير ، وللعرب في " أُفّ " لغات ستّ رفعها بالتنوين وغير التنوين وخفضها كذلك ونصبها ، فمن خفض ذلك بالتنوين ، وهي قراءة عامة أهل المدينة ، شبهها بالأصوات التي لا معنى لها ، كقولهم في حكاية الصوت غاق غاق ، فخفضوا القاف ونوّنوها ، وكان حكمها السكون ، فإنه لا شيء يعربها من أجل مجيئها بعد حرف ساكن وهو الألف ، فكرهوا أن يجمعوا بين ساكنين ، فحرّكوا إلى أقرب الحركات من السكون ،

(17/415)


وذلك الكسر ، لأن المجزوم إذا حرّك ، فإنما يحرّك إلى الكسر ، وأما الذين خفضوا بغير تنوين ، وهي قراءة عامة قرّاء الكوفيين والبصريين ، فإنهم قالوا : إنما يدخلون التنوين فيما جاء من الأصوات ناقصا ، كالذي يأتي على حرفين مثل : مه وصه وبخ ، فيتمم بالتنوين لنقصانه عن أبنيه الأسماء. قالوا : وأفّ تامّ لا حاجة بما إلى تتمته بغيره ، لأنه قد جاء على ثلاثة أحرف.
قالوا : وإنما كسرنا الفاء الثانية لئلا نجمع بين ساكنين. وأما من ضمّ ونوّن ، فإنه قال : هو اسم كسائر الأسماء التي تُعرف وليس بصوت ، وعدل به عن الأصوات ، وأما من ضمّ ذلك بغير تنوين ، فإنه قال : ليس هو بأسم متمكن فيُعرب بإعراب الأسماء المتمكنة ، وقالوا : نضمه كما نضمّ قوله( لِلَّهِ الأمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ ) ، وكما نضمّ الاسم في النداء المفرد ، فنقول : يا زيد. ومن نصبه بغير تنوين ، وهو قراءة بعض المكيين وأهل الشام فإنه شبهه بقولهم : مدّ يا هذا وردّ. ومن نصب بالتنوين ، فإنه أعمل الفعل فيه ، وجعله اسما صحيحا ، فيقول : ما قلت له : أفا ولا تفا. وكان بعض نحويي البصرة يقول : قُرِئت : أفّ ، وأفا لغة جعلوها مثل نعتها. وقرأ بعضهم " أُفّ " ، وذلك أن بعض العرب يقول : " أفّ لك " على الحكاية : أي لا تقل لهما هذا القول. قال : والرفع قبيح ، لأنه لم يجيء بعده بلام ، والذين قالوا : " أُفّ " فكسروا كثير ، وهو أجود. وكسر بعضهم ونوّن. وقال بعضهم : " أفي " ، كأنه أضاف هذا القول إلى نفسه ، فقال : أفي هذا لكما ، والمكسور من هذا منوّن وغير منوّن على أنه اسم غير متمكن ، نحو أمس وما أشبهه ، والمفتوح بغير تنوين كذلك. وقال بعض أهل العربية : كل هذه الحركات الستّ تدخل في " أفّ " حكاية تشبه بالاسم مرّة وبالصوت أخرى. قال : وأكثر ما تُكسر الأصوات بالتنوين إذا كانت على حرفين مثل صه ومه وبخ. وإذا كانت على ثلاثة أحرف شبهت بالأدوات " أفَّ " مثل : ليت ومَدَّ ، وأُفَّ مثل مُدَّ يُشبه بالأدوات (1) . وإذا قال أَفَّ مثل صَهَّ. وقالوا سمعت مِضَّ
__________
(1) ليس كلام المؤلف في تخريج اللغات الست في كلمة " أف " واضحا ، وقد بينته المعاجم (اللسان : أفف) ، انظر معاني القرآن للفراء (مصورة الجامعة رقم 24059 ص 179) ففيه ما يوضح هذا الموضع من كلام المؤلف ، وهو كثير لم نرد أن نطول به ذيول الكتاب.

(17/416)


يا هذا ومِضُّ. وحُكي عن الكسائي أنه قال : سمعت " ما علمك أهلك إلا مِضٍّ ومِضُّ " ، وهذا كإِفٍّ وأفُّ. ومن قال : " أُفًّا " جعله مثل سُحْقا وبُعدا.
والذي هو أولى بالصحة عندي في قراءة ذلك ، قراءة من قرأه(فلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ) بكسر الفاء بغير تنوين لعلَّتين : إحداهما : أنها أشهر اللغات فيها وأفصحها عند العرب ؛ والثانية : أن حظّ كلّ ما لم يكن له معرّب من الكلام السكون ؛ فلما كان ذلك كذلك. وكانت الفاء في أفّ حظها الوقوف ، ثم لم يكن إلى ذلك سبيل لاجتماع الساكنين فيه ، وكان حكم الساكن إذا حُرّك أن يحرّك إلى الكسر حرّكت إلى الكسر ، كما قيل : مُدِّ وشُدِّ ورُدِّ الباب.
وقوله(وَلا تَنْهَرْهُما) يقول جلّ ثناؤه : ولا تزجُرهما.
كما حدثنا محمد بن إسماعيل الأحمَسي ، قال : ثنا محمد بن عبيد ، قال : ثنا واصل الرَّقاشيّ ، عن عطاء بن أبي رَباح ، في قوله( فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا ) قال : لا تنفض يدك على والديك ، يقال منه : نَهَرَه يَنهره نَهْرا ، وانتهره ينتهره انتهارا.
وأما قوله( وَقُلْ لَهُمَا قَوْلا كَرِيمًا ) فإنه يقول جلّ ثناؤه : وقل لهما قولا جميلا حسنا.
كما حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج( وَقُلْ لَهُمَا قَوْلا كَرِيمًا ) قال : أحسن ما تجد من القول.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثنا المعتمر بن سليمان ، عن عبد الله بن المختار ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عمر بن الخطاب( قَوْلا كَرِيما) قالا لا تمتنع من شيء يريدانه.
قال أبو جعفر : وهذا الحديث خطأ ، أعني حديث هشام بن عُروة ، إنما هو عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، ليس فيه عمر ، حدّث عن ابن عُلية وغيره ، عن عبد الله بن المختار.
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( وَقُلْ لَهُمَا قَوْلا كَرِيمًا ) : أي قولا ليِّنا سهلا.

(17/417)


وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا (24)

حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : ثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، مثله.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : ثني حَرْملة بن عمران ، عن أبي الهَدَّاج التُّجِيبي ، قال : قلت لسعيد بن المسيب : كل ما ذكر الله عزّ وجلّ في القرآن من برّ الوالدين ، فقد عرفته ، إلا قوله( وَقُلْ لَهُمَا قَوْلا كَرِيمًا ) ما هذا القول الكريم ؟ فقال ابن المسيب : قول العبد المذنب للسيد الفظّ.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّي ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا (24) }
يقول تعالى ذكره : وكن لهما ذليلا رحمة منك بهما تطيعهما فيما أمراك به مما لم يكن لله معصية ، ولا تخالفهما فيما أحبَّا.
وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا عبد الرحمن ، قال : ثنا سفيان ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، في قوله : ( وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ ) قال : لا تمتنع من شيء يُحبانه.
حدثنا أبو كريب ، قال : ثنا الأشجعي ، قال : سمعت هشام بن عروة ، عن أبيه ، في قوله( وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ ) قال : هو أن تلين لهما حتى لا تمتنع من شيء أحبَّاه.
حدثني محمد بن عبد الله بن عبد الحكم ، قال : ثنا أيوب بن سويد ، قال : ثنا الثوري ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، في قوله( وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ ) قال : لا تمتنع من شيء أحباه.
حدثني يعقوب ، قال : ثنا ابن عُليَة ، عن عبد الله بن المختار ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، في قوله( وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ ) قال : هو أن لا تمتنع من شيء يريدانه.

(17/418)


حدثنا أبو كريب ، قال : ثنا المقرئ أبو عبد الرحمن ، عن حرملة بن عمران ، عن أبي الهداج ، قال : قلت لسعيد بن المسيب : ما قوله( وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ ) قال : ألم تر إلى قول العبد المذنب للسيد الفظّ الغليظ. والذُّلّ بضم الذال والذّلَّة مصدران من الذليل ، وذلك أن يتذلل ، وليس بذليل في الخلقة من قول القائل : قد ذَلَلت لك أذلّ ذلة وذلا وذلك نظير القلّ والقلة ، إذا أسقطت الهاء ضمت الذال من الذُّلّ ، والقاف من القُلّ ، وإذا أثبتت الهاء كُسِرت الذال من الذِّلة ، والقاف من القِلَّة ، لما قال الأعشى :
وَمَا كُنْتُ قُلا قبلَ ذلكَ أزْيَبَا (1)
يريد : القلة ، وأما الذِّل بكسر الذال وإسقاط الهاء فإنه مصدر من الذَّلول من قولهم : دابة ذَلول : بينة الذلّ ، وذلك إذا كانت لينة غير صعبة.
ومنه قول الله جلّ ثناؤه( هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأرْضَ ذَلُولا ) يُجمع ذلك ذُلُلا كما قال جلّ ثناؤه( فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلا ). وكان مجاهد يتأوّل ذلك أنه لا يتوعَّر عليها مكان سلكته.
واختلفت القرّاء في قراءة ذلك ، فقرأته عامَّة قرّاء الحجاز والعراق والشام( وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ ) بضمّ الذال على أنه مصدر من الذليل. وقرأ ذلك سعيد بن جبير وعاصم الجَحْدَرِيّ : (جَناحَ الذِّلّ) بكسر الذال.
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا بهز بن أسد ، قال : ثنا أبو عَوانة ، عن أبي
__________
(1) هذا عجز بيت للأعشى ميمون بن قيس ( ديوان طبع القاهرة ، بشرح الدكتور محمد حسين ص 115) من قصيدة يهجو بها عمرو بن المنذر بن عبدان ، ويعاتب بني سعد بن قيس : وصدره : " فأرضوه أن أعطوه مني ظلامة " . وقال في (لسان العرب : زيب) الأزيب : الدعي ؛ قال الأعشى يذكر رجلا من قيس عيلان ، كان جارا لعمرو بن المنذر ، وكان اتهم هداجا قائد الأعشى بأنه سرق راحلة له ، لأنه وجد بعض لحمها في بيته ، فأخذ هداج وضرب والأعشى جالس ؛ فقام ناس منهم فأخذوا من الأعشى قيمة الراحلة ، فقال الأعشى : دَعا رَهْطَهُ حَوْلِي فَجَاءُوا لِنَصْرِهِ ... وَنَادَيْتُ حَيًّ بالمُسَانَّاهِ غُيَّبًا
فَأَعْطَوْهُ مِنِّيَ النِّصْفَ أَوْ ضَعْفُوا لَهُ ... وَما كُنْتُ قُلاّ قَبْلَ ذَلِكَ أَزْيَبَا
أي كنت غريبا في ذلك الموضع ، لا ناصر لي . والنصف : النصفة . يقول : أرضوه وأعطوه النصف أو فوقه . والقل من الرجال الخسيس ، ومنه قول الأعشى . أ هـ .

(17/419)


بشر ، عن سعيد بن جبير أنه قرأ(وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذِّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ) قال : كن لهما ذليلا ولا تكن لهما ذلولا.
حدثنا نصر بن عليّ ، قال : أخبرني عمر بن شقيق ، قال : سمعت عاصما الجحدري يقرأ(وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذِّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ) قال : كن لهما ذليلا ولا تكن لهما ذَلولا.
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا عمر بن شقيق ، عن عاصم ، مثله.
قال أبو جعفر : وعلى هذا التأويل الذي تأوّله عاصم كان ينبغي أن تكون قراءته بضم الذال لا بكسرها وبكسرها.
حدثنا نصر وابن بشار ؛ وحُدثت عن الفراء ، قال : ثني هشيم ، عن أبي بشر جعفر بن إياس. عن سعيد بن جبير ، أنه قرأ(وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذِّلِّ) قال الفرّاء : وأخبرني الحكم بن ظهير ، عن عاصم بن أبى النَّجود ، أنه قرأها الذِّلّ أيضا ، فسألت أبا بكر فقال : الذِّل قرأها عاصم.
وأما قوله( وَقُلْ رَبِّي ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا ) فإنه يقول : ادع الله لوالديك بالرحمة ، وقل ربّ ارحمهما ، وتعطف عليهما بمغفرتك ورحمتك ، كما تعطفا عليّ في صغري ، فرحماني وربياني صغيرا ، حتى استقللت بنفسي ، واستغنيت عنهما.
كما حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّي ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا ) هكذا عُلِّمتم ، وبهذا أمرتم ، خذوا تعليم الله وأدبه ، ذُكر لنا " أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم خرج ذات يوم وهو مادّ يديه رافع صوته يقول : مَنْ أَدْرَكَ وَالِدَيهِ أوْ أحَدَهُما ثُمَّ دَخَلَ النَّارَ بَعْدَ ذلكَ فأبْعَدَهُ الله وأسْحَقَهُ " . ولكن كانوا يرون أنه من بَرّ والديه ، وكان فيه أدنى تُقى ، فإن ذلك مُبْلِغه جسيم الخير ، وقال جماعة من أهل العلم : إن قول الله جلّ ثناؤه( وَقُلْ رَبِّي ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا ) منسوخ بقوله( مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ ).
* ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ بن داود ، قال : ثنا أبو صالح ، قال :

(17/420)


رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا (25)

ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله( وَقُلْ رَبِّي ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا ) ثم أنزل الله عزّ وجلّ بعد هذا( مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى ).
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا يحيى بن واضح ، قال : ثنا الحسين ، عن يزيد ، عن عكرمة ، قال في سورة بني إسرائيل(إمَّا يَبْلُغانّ عِنْدَكَ الكِبَرَ أحَدهُمُا أو كِلاهُما).... إلى قوله( وَقُلْ رَبِّي ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا ) فنسختها الآية التي في براءة( مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى ) ... الآية.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، قال : قال ابن جريج ، قال ابن عباس( وَقُلْ رَبِّي ارْحَمْهُمَا ).... الآية ، قال : نسختها الآية التي في براءة( مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ ). .. الآية.
وقد تحتمل هذه الآية أن تكون وإن كان ظاهرها عامًّا في كلّ الآباء بغير معنى النسخ ، بأن يكون تأويلها على الخصوص ، فيكون معنى الكلام : وقل ربّ ارحمهما إذا كانا مؤمنين ، كما رَبياني صغيرا ، فتكون مرادا بها الخصوص على ما قلنا غير منسوخ منها شيء. وعَنَى بقوله ربياني : نَميَّاني.
القول في تأويل قوله تعالى : { رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلأوَّابِينَ غَفُورًا (25) }
يقول تعالى ذكره(رَبُّكُمْ) أيها الناس(أعْلَمُ) منكم(بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ) من تعظيمكم أمر آبائكم وأمهاتكم وتكرمتهم ، والبرّ بهم ، وما فيها من اعتقاد الاستخفاف بحقوقهم ، والعقوق لهم ، وغير ذلك من ضمائر صدوركم ، لا يخفى عليه شيء من ذلك ، وهو مجازيكم على حَسَن ذلك وسيِّئه ، فاحذروا أن تُضمروا لهم سوءا ، وتعقِدوا لهم عقوقا. وقوله(إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ) يقول : إن أنتم أصلحتم نياتكم فيهم ، وأطعتم الله فيما أمركم به من البرّ بهم ، والقيام بحقوقهم عليكم ، بعد هفوة كانت منكم ، أو زلة في واجب

(17/421)


لهم عليكم مع القيام بما ألزمكم في غير ذلك من فرائضه ، فإنه كان للأوّابين بعد الزَّلة ، والتائبين بعد الهَفْوة غفورا لهم.
وبنحو الذي قلنا في تأويل ذلك ، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا أبو كريب ، قال : ثنا ابن إدريس ، قال : سمعت أبي وعمي عن حبيب بن أبي ثابت ، عن سعيد بن جبير( رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ ) قال : البادرة تكون من الرجل إلى أبويه لا يريد بذلك إلا الخير ، فقال( رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ ).
حدثنا أبو السائب ، قال : ثنا ابن إدريس ، قال : أخبرني أبي ، عن حبيب بن أبي ثابت ، عن سعيد بن جبير ، بمثله.
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا الحكم بن بشير ، قال : ثنا عمرو ، عن حبيب بن أبي ثابت ، في قوله( فَإِنَّهُ كَانَ لِلأوَّابِينَ غَفُورًا ) قال : هو الرجل تكون منه البادرة إلى أبويه وفي نيته وقلبه أنه لا يؤاخَذ به.
واختلف أهل التأويل ، في تأويل قوله( فَإِنَّهُ كَانَ لِلأوَّابِينَ غَفُورًا )
فقال بعضهم : هم المسبِّحون.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني سليمان بن عبد الجبار ، قال : ثنا محمد بن الصلت ، قال : ثنا أبو كدينة ؛ وحدثني ابن سنان القزاز ، قال : ثنا الحسين بن الحسن الأشقر ، قال : ثنا أبو كدينة ، عن عطاء ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس( فَإِنَّهُ كَانَ لِلأوَّابِينَ غَفُورًا ) قال : المسبحين.
حدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا أبو خيثمة زهير ، قال : ثنا أبو إسحاق ، عن أبي ميسرة ، عن عمرو بن شرحبيل ، قال : الأوّاب : المسبح.
وقال آخرون : هم المطيعون المحسنون.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ بن داود ، قال : ثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله( فَإِنَّهُ كَانَ لِلأوَّابِينَ غَفُورًا ) يقول : للمطيعين المحسنين.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله( فَإِنَّهُ كَانَ لِلأوَّابِينَ غَفُورًا ) قال : هم المطيعون ، وأهل الصلاة.

(17/422)


حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة( فَإِنَّهُ كَانَ لِلأوَّابِينَ غَفُورًا ) قال : للمطيعين المصلين.
وقال آخرون : بل هم الذين يصلون بين المغرب والعشاء.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، عن أبي صخر حميد بن زياد ، عن ابن المنكدر يرفعه( فَإِنَّهُ كَانَ لِلأوَّابِينَ غَفُورًا ) قال : الصلاة بين المغرب والعشاء.
وقال آخرون : هم الذين يصلُّون الضُّحَى.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا عمرو بن عليّ ، قال : ثنا رباح أبو سليمان الرقاء ، قال : سمعت عونا العُقيليّ يقول في هذه الآية( فَإِنَّهُ كَانَ لِلأوَّابِينَ غَفُورًا ) قال : الذين يصلون صلاة الضحى.
وقال آخرون : بل هو الراجع من ذنبه ، التائب منه.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا أحمد بن الوليد القرشيّ ، قال : ثنا محمد بن جعفر ، قال : ثنا شعبة ، عن يحيى بن سعيد ، عن سعيد بن المسيب أنه قال في هذه الآية( فَإِنَّهُ كَانَ لِلأوَّابِينَ غَفُورًا ) قال : الذي يصيب الذنب ثم يتوب ثم يصيب الذنب ثم يتوب.
حدثنا ابن المثنى ، قال : ثنا سليمان بن داود ، عن شعبة ، عن يحيى بن سعيد ، عن سعيد بن المسيب ، قال : هو الذي يذنب ثم يتوب ، ثم يذنب ثم يتوب في هذا الآية( فَإِنَّهُ كَانَ لِلأوَّابِينَ غَفُورًا ).
حدثنا مجاهد بن موسى ، قال : ثنا يزيد ، قال : أخبرنا يحيى بن سعيد ، أنه سمع سعيد بن المسيب يُسْأَل عن هذه الآية( فَإِنَّهُ كَانَ لِلأوَّابِينَ غَفُورًا ) قال : هو الذي يذنب ثم يتوب ، ثم يذنب ثم يتوب.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : ثني جرير بن حازم ، عن يحيى بن سعيد ، عن سعيد بن المسيب ، بنحوه.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : ثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن سعيد بن المسيب ، بنحوه.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : ثني مالك ، عن يحيى بن

(17/423)


سعيد ، عن سعيد بن المسيب( فَإِنَّهُ كَانَ لِلأوَّابِينَ غَفُورًا ) قال : هو العبد يذنب ثم يتوب ، ثم يذنب ثم يتوب.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرني الليث بن سعد ، عن يحيى بن سعيد ، قال : سمعت سعيد بن المسيب يقول : فذكر مثله.
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزّاق ، قال : أخبرنا الثَّوريّ ومعمر ، عن يحيى بن سعيد ، عن ابن المسيب ، قال : الأوّاب : الذي يذنب ثم يتوب ، ثم يذنب ثم يتوب ، ثم يذنب ثم يتوب.
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا محمد بن جعفر ، قال : ثنا شعبة ، عن أبي بشر ، عن سعيد بن جبير في هذه الآية( فَإِنَّهُ كَانَ لِلأوَّابِينَ غَفُورًا ) قال : الراجعين إلى الخير.
حدثنا ابن المثنى ، قال : ثنا عبد الصمد وأبو داود وهشام ، عن شعبة ، عن أبي بشر ، عن سعيد بن جبير ، بنحوه.
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا عبد الرحمن ، قال : ثنا سفيان ؛ وحدثنا ابن حميد ، قال : ثنا حكام ، عن عمرو ، جميعا عن منصور ، عن مجاهد عن عبيد بن عمير( فَإِنَّهُ كَانَ لِلأوَّابِينَ غَفُورًا ) قال : الذي يذكر ذنوبه في الخلاء ، فيستغفر الله منها.
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا الثوريّ ، عن منصور ، عن مجاهد ، قال : الأوّاب : الذي يذكر ذنوبه في الخلاء فيستغفر الله منها.
حدثنا محمد بن المثنى ، قال : ثنا محمد بن جعفر ، قال : ثنا شعبة ، عن منصور ، عن مجاهد ، عن عبيد بن عمير ، أنه قال في هذه الآية( فَإِنَّهُ كَانَ لِلأوَّابِينَ غَفُورًا ) قال : الذي يذكر ذنبه ثم يتوب.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قالا ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله جلّ ثناؤه(للأوَّابِين غَفُورًا) قال : الأوّابون : الراجعون التائبون.

(17/424)


حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله.
قال ابن جريج ، عن يحيى بن سعيد ، عن سعيد بن المسيب : الرجل يذنب ثم يتوب ثلاثا.
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا جرير ، عن منصور ، عن مجاهد ، عن عبيد بن عمير ، قوله( فَإِنَّهُ كَانَ لِلأوَّابِينَ غَفُورًا ) قال : الذي يتذكر ذنوبه ، فيستغفر الله لها.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرني ابن شريح ، عن عقبة بن مسلم ، عن عطاء بن يسار ، أنه قال في قوله( فَإِنَّهُ كَانَ لِلأوَّابِينَ غَفُورًا ) يذنب العبد ثم يتوب ، فيتوب الله عليه ؛ ثم يذنب فيتوب ، فيتوب الله عليه ؛ ثم يذنب الثالثة ، فإن تاب ، تاب الله عليه توبة لا تُمْحَى.
وقد رُوي عن عبيد بن عمير ، غير القول الذي ذكرنا عن مجاهد ، وهو ما حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا محمد بن مسلم ، عن عمرو بن دينار ، عن عبيد بن عمير ، في قوله( فَإِنَّهُ كَانَ لِلأوَّابِينَ غَفُورًا ) قال : كنا نَعُدّ الأوّاب : الحفيظ ، أن يقول : اللهمّ اغفر لي ما أصبت في مجلسي هذا.
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب ، قول من قال : الأوّاب : هو التائب ما الذنب ، الراجع من معصية الله إلى طاعته ، ومما يكرهه إلى ما يرضاه ، لأن الأوّاب إنما هو فعَّال ، من قول القائل : آب فلان من كذا إما من سفره إلى منزله ، أو من حال إلى حال ، كما قال عَبيد بن الأبرص :
وكُلُّ ذِي غَيْبَةٍ يَئُوبُ... وغائِبُ المَوْتِ لا يَئُوبُ (1)
__________
(1) البيت لعبيد بن الأبرص الشاعر الجاهلي (ديوانه ص 7 طبعة ليدن سنة 1913) من قصيدته التي مطلعها : " أقفر من أهله ملحوب " . يقول : كل غائب تنتظر أوبته ، إلا من مات فلا أوبة له إلى الدنيا. والبيت شاهد على أن الأواب الرجاع ، الذي يرجع إلى التوبة والطاعة ، من آب يئوب إذا رجع (انظر اللسان : أوب). وفيه أيضا : قال أبو بكر في قولهم : رجل أواب ، سبعة أقوال : الراحم ، والتائب ، والمسبح ، والذي يرجع إلى التوبة ثم يذنب ثم يتوب ، والمطيع ، والذي يذكر ذنبه في الخلاء ، فيستغفر الله منه. أ هـ . وكل هذه المعاني راجعة إلى المعنى اللغوي ، وهو الرجوع عن الشيء إلى غيره.

(17/425)


وَآَتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا (26) إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا (27)

فهو يئوب أوبا ، وهو رجل آئب من سفره ، وأوّاب من ذنوبه.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا (26) إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا (27) }
اختلف أهل التأويل في المعنيّ بقوله(وآتِ ذَا القُرْبى) فقال بعضهم : عَنى به : قرابة الميت من قِبَل أبيه وأمه. أمر الله جلّ ثناؤه عباده بصلتها.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا عمرانُ بن موسى ، قال : ثنا عبد الوارث بن سعيد ، قال : ثنا حبيب المعلم ، قال : سأل رجل الحسن ، قال : أُعْطِي قرابتي زكاة مالي فقال : إن لهم في ذلك لحقا سوى الزكاة ، ثم تلا هذه الآية(وآتِ ذا القُرْبى حَقَّهُ).
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن عكرمة ، قوله(وآتِ ذَا القُرْبى حَقَّهُ) قال : صلته التي تريد أن تصله بها ما كنت تريد أن تفعله إليه.
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله( وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ) قال : هو أن تصل ذا القرابة والمسكين وتُحسن إلى ابن السبيل.
وقال آخرون : بل عنى به قرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمارة الأسدي ، قال : ثنا إسماعيل بن أبان ، قال : ثنا الصباح بن يحيى المزَنيّ ، عن السُّديّ ، عن أبي الديلم ، قال : قال عليّ بن الحسين عليهما السلام لرجل من أهل الشام : أقرأت القرآن ؟ قال : نعم ، قال : أفما قرأت في بني إسرائيل(وآتِ ذَا القُرْبى حَقَّهُ) قال : وإنكم لَلْقرابة التي أمر الله جلّ ثناؤه أن يُؤتى حقه ، قال : نعم.

(17/426)


وأولى التأويلين عندي بالصواب ، تأويل من تأوّل ذلك أنها بمعنى وصية الله عباده بصلة قرابات أنفسهم وأرحامهم من قِبَل آبائهم وأمهاتهم ، وذلك أن الله عزّ وجلّ عَقَّب ذلك عقيب حَضّه عباده على برّ الآباء والأمَّهات ، فالواجب أن يكون ذلك حَضًّا على صلة أنسابهم دون أنساب غيرهم التي لم يجر لها ذكر ، وإذا كان ذلك كذلك ، فتأويل الكلام : وأعط يا محمد ذا قرابتك حقه من صلتك إياه ، وبرّك به ، والعطف عليه ، وخرج ذلك مَخْرج الخطاب لنبيّ الله صلى الله عليه وسلم ، والمراد بحكمه جميع من لزمته فرائض الله ، يدلّ على ذلك ابتداؤه الوصية بقوله جلّ ثناؤه( وَقَضَى رَبُّكَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا ) فوجَّه الخطاب بقوله(وَقَضَى رَبُّكَ) إلى نبيّ الله صلى الله عليه وسلم ، ثم قال(ألا تَعْبُدوا إِلا إِيَّاهُ) فرجع بالخطاب به إلى الجميع ، ثم صرف الخطاب بقوله(إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ) إلى إفراده به. والمعنيّ بكل ذلك جميع من لزمته فرائض الله عزّ وجلّ ، أفرد بالخطاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وحده ، أو عمّ به هو وجميع أمته.
وقوله(والمِسْكِينَ) وهو الذلَّة من أهل الحاجة. وقد دللنا فيما مضى على معنى المسكين بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. وقوله(وَابْنِ السَّبِيلِ) يعني : المسافر المنقطع به ، يقول تعالى : وصِل قرابتك ، فأعطه حقه من صلتك إياه ، والمسكين ذا الحاجة ، والمجتاز بك المنقطع به ، فأعنه ، وقوّه على قطع سفره. وقد قيل : إنما عنى بالأمر بإتيان ابن السبيل حقه أن يضاف ثلاثة أيام.
والقول الأوّل عندي أولى بالصواب ، لأن الله تعالى لم يُخصصْ من حقوقه شيئا دون شيء في كتابه ، ولا على لسان رسوله ، فذلك عامّ في كلّ حق له أن يُعطاه من ضيافة أو حمولة أو مَعُونة على سفره.
وقوله(وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا) يقول : ولا تفرّق يا محمد ما أعطاك الله من مال في معصيته تفريقا. وأصل التبذير : التفريق في السّرَف ؛ ومنه قول الشاعر :
أُناسٌ أجارُونا فَكانَ جِوَارُهُمْ... أعاصِيرَ مِنْ فِسْقِ العِرَاقِ المُبَذَّرِ (1)
__________
(1) هو معاوية بن سبرة السوائي ، أبو العبيدين : مصغر عبدين ، الأعمى الكوفى. مات سنة 98 ه. (عن خلاصة الخزرجي).

(17/427)


وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عبيد المحاربي ، قال : ثنا أبو الأحوص ، عن أبي إسحاق ، عن أبي العبيدين ، قال : قال عبد الله في قوله(وَلا تُبَذّرْ تَبْذيرًا) قال : التبذير في غير الحقّ ، وهو الإسراف.
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا عبد الرحمن ، قال : ثنا سفيان ، عن سلمة ، عن مسلم البطين ، عن أبي العبيدين ، قال : سُئل عبد الله عن المبذّر فقال : الإنفاق في غير حقّ.
حدثنا محمد بن المثنى ، قال : ثنا محمد بن جعفر ، قال : ثنا شعبة ، عن الحكم ، قال : سمعت يحيى بن الجزار يحدّث عن أبي العُبيدين (1) ضرير البصر ، أنه سأل عبد الله بن مسعود عن هذه الآية(ولا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا ) قال : إنفاق المال في غير حقه.
حدثني زكريا بن يحيى بن أبي زائدة ، قال : ثنا ابن إدريس ، عن الأعمش ، عن الحكم ، عن يحيى بن الجزار ، عن أبي العُبيدين ، عن عبد الله ، مثله.
حدثني يعقوب ، قال : ثنا ابن علية ، قال : أخبرنا شعبة ، عن الحكم بن عتيبة ، عن يحيى بن الجزار أن أبا العبيدين كان ضرير البصر ، سأل ابن مسعود فقال : ما التبذير ؟ فقال : إنفاق المال في غير حقه.
حدثنا خلاد بن أسلم ، قال : أخبرنا النضر بن شميل ، قال : أخبرنا المسعودي ، قال : أخبرنا سلمة بن كُهيل ، عن أبي العُبيدين ، وكانت به زَمانة ، وكان عبد الله يعرف له ذلك ، فقال : يا أبا عبد الرحمن ، ما التبذير ؟ فذكر مثله.
__________
(1) لم أقف على قائله ، ويقال. أجار فلان فلانا : إذا خفره ومنعه أن يظلمه ظالم . وجوارهم عنا بمعنى إجارتهم . والأعاصير : جمع إعصار ، وهو الريح التي تستدير وتحمل ما على الأرض من تراب وغيره . والفسق : الخروج عن الطاعة أو عن جميل الأخلاق .
والمبذر : اسم مفعول من التبذير ، وهو تفريق المال ونحوه وإفساده بالإسراف . قال في ( اللسان : بذر ) : والتبذير : إفساد المال وإنفاقه في السرف . وقيل : التبذير : أن ينفق المال في المعاصي . أ هـ . وعلى هذا المعنى استشهد المؤلف بالبيت .

(17/428)


حدثنا أحمد بن منصور الرمادي ، قال : ثنا أبو الحوءب ، عن عمار بن زُريق ، عن أبي إسحاق ، عن حارثة بن مُضرِب ، عن أبي العُبيدين ، عن عبد الله بن مسعود ، قال : كنا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم نتحدّث أن التبذير : النفقة في غير حقه.
حدثنا ابن المثنى ، قال : ثنا يحيى بن كثير العنبري ، قال : ثنا شعبة ، قال : كنت أمشي مع أبي إسحاق في طريق الكوفة ، فأتى على دار تُبنى بجصّ وآجر ، فقال : هذا التبذير في قول عبد الله : إنفاق المال في غير حقه.
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله(وَلا تُبَذّرْ تَبْذِيرًا) قال : المبذّر : المنفق في غير حقه.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثنا عباد ، عن حصين ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، قال : المبذّر : المنفق في غير حقه.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن عطاء الخراسانيّ ، عن ابن عباس ، قال : لا تنفق في الباطل ، فإن المبذّر : هو المسرف في غير حقّ.
قال ابن جريج وقال مجاهد : لو أنفق إنسان ماله كله في الحقّ ما كان تبذيرا ، ولو انفق مدّا في باطل كان تبذيرا.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله(وَلا تُبَذّرْ تَبْذِيرًا) قال : التبذير : النفقة في معصية الله ، وفي غير الحقّ وفي الفساد.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله( وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ) قال : بدأ بالوالدين قبل هذا ، فلما فرغ من الوالدين وحقهما ، ذكر هؤلاء وقال(لا تُبَذّرْ تَبْذِيرًا) : لا تعطِ في معاصي الله.

(17/429)


وأما قوله( إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ ) فإنه يعني : إنّ المفرّقين أموالهم في معاصي الله المنفقيها في غير طاعته أولياء الشياطين ، وكذلك تقول العرب لكلّ ملازم سنة قوم وتابع أثرهم : هو أخوهم( وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا ) يقول : وكان الشيطان لنعمة ربه التي أنعمها عليه جحودا لا يشكره عليه ، ولكنه يكفرها بترك طاعة الله ، وركوبه معصيته ، فكذلك إخوانه من بني آدم المبذّرون أموالهم في معاصي الله ، لا يشكرون الله على نعمه عليهم ، ولكنهم يخالفون أمره ويعصُونه ، ويستنون فيما أنعم الله عليهم به من الأموال التي خوّلهموها عزّ وجل سنته من ترك الشكر عليها ، وتلقِّيها بالكُفران.
كالذي حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله(إِنَّ المُبَذّرِينَ) : إن المنفقين في معاصي الله( كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا ).

(17/430)


وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُورًا (28)

القول في تأويل قوله تعالى : { وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُلْ لَهُمْ قَوْلا مَيْسُورًا (28) }
يقول تعالى ذكره : وإن تعرض يا محمد عن هؤلاء الذين أمرتك أن تؤتيهم حقوقهم إذا وجدت إليها السبيل بوجهك عند مسألتهم إياك ، ما لا تجد إليه سبيلا حياء منهم ورحمة لهم( ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ ) يقول : انتظار رزق تنتظره من عند ربك ، وترجو تيسير الله إياه لك ، فلا تؤيسهم ، ولكن قل لهم قولا ميسورا : يقول : ولكن عدهم وعدا جميلا بأن تقول : سيرزق الله فأعطيكم ، وما أشبه ذلك من القول اللين غير الغليظ ، كما قال جلّ ثناؤه( وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ ).
وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن بشار ، قال : ثنا عبد الرحمن ،

(17/430)


عن سفيان ، عن منصور ، عن إبراهيم( وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا ) قال : انتظار الرزق( فَقُلْ لَهُمْ قَوْلا مَيْسُورًا ) قال : لينا تَعِدُهم.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن عطاء الخراساني ، عن ابن عباس( ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ ) قال : رزق( أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ ).
حدثنا عمران بن موسى ، قال : ثنا عبد الوارث ، قال : ثنا عمارة ، عن عكرمة ، في قوله( وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا ) قال : انتظار رزق من الله يأتيك.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن عكرمة ، قوله( وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا ) قال : إن سألوك فلم يجدوا عندك ما تعطيهم ابتغاء رحمة ، قال : رزق تنتظره ترجوه( فَقُلْ لَهُمْ قَوْلا مَيْسُورًا ) قال : عدهم عدة حسنة ، إذا كان ذلك ، إذا جاءنا ذلك فعلنا ، أعطيناكم ، فهو القول الميسور.
قال ابن جريج ، قال مجاهد : إن سألوك فلم يكن عندك ما تعطيهم ، فأعرضت عنهم ابتغاء رحمة ، قال : رزق تنتظره( فَقُلْ لَهُمْ قَوْلا مَيْسُورًا ).
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن قال : ثنا ورقاء ، جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قول الله عزّ وجلّ( ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ ) قال : انتظار رزق الله.
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا يحيى ، قال : ثنا سفيان ، عن الأعمش ، عن أبي الضُّحَى ، عن عبيدة في قوله( ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا ) قال : ابتغاء الرزق.
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا حكام ، عن عمرو ، عن عطاء ، عن سعيد( وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا ) قال : أي رزق تنتظره( فَقُلْ لَهُمْ قَوْلا مَيْسُورًا ) أي معروفا.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : ثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن

(17/431)


قتادة( فَقُلْ لَهُمْ قَوْلا مَيْسُورًا ) قال : عدهم خيرا. وقال الحسن : قل لهم قولا لينا وسهلا.
حُدثت عن الحسين بن الفرج ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : ثنا عبيد بن سليمان ، قال : سمعت الضحاك يقول ، في قوله( وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ) يقول : لا نجد شيئا تعطيهم( ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ ) يقول : انتظار الرزق من ربك ، نزلت فيمن كان يسأل النبيّ صلى الله عليه وسلم من المساكين.
حدثنا محمد بن المثنى ، قال : ثني حرمي بن عمارة ، قال : ثنا شعبة ، قال : ثني عمارة ، عن عكرمة في قول الله( فَقُلْ لَهُمْ قَوْلا مَيْسُورًا ) قال : الرفق.
وكان ابن زيد يقول في ذلك ما حدثني به يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله( وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ) عن هؤلاء الذين أوصيناك بهم( ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا ) إذا خشيت إن أعطيتهم. أن يتقووا بها على معاصي الله عزّ وجلّ ، ويستعينوا بها عليها ، فرأيت أن تمنعهم خيرا ، فإذا سألوك( فَقُلْ لَهُمْ قَوْلا مَيْسُورًا ) قولا جميلا رزقك الله ، بارك الله فيك.
وهذا القول الذي ذكرناه عن ابن زيد مع خلافه أقوال أهل التأويل في تأويل هذه الآية ، بعيد المعنى ، مما يدل عليه ظاهرها ، وذلك أن الله تعالى قال لنبيه صلى الله عليه وسلم( وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا ) فأمره أن يقول إذا كان إعراضه عن القوم الذين ذكرهم انتظار رحمة منه يرجوها من ربه(قَوْلا مَيْسُورًا) وذلك الإعراض ابتغاء الرحمة ، لن يخلو من أحد أمرين : إما أن يكون إعراضا منه ابتغاء رحمة من الله يرجوها لنفسه ، فيكون معنى الكلام كما قلناه ، وقال أهل التأويل الذين ذكرنا قولهم ، وخلاف قوله ؛ أو يكون إعراضا منه ابتغاء رحمة من الله يرجوها للسائلين الذين أُمِر نبيّ الله صلى الله عليه وسلم بزعمه أن يمنعهم ما سألوه خشية عليهم من أن ينفقوه في معاصي الله ، فمعلوم أن سخط الله على من كان غير مأمون منه صَرْف ما أُعْطي من نفقة ليتقوّى بها على طاعة الله في معاصيه ، أخوف من رجاء رحمته له ، وذلك

(17/432)


وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا (29)

أن رحمة الله إنما ترجى لأهل طاعته ، لا لأهل معاصيه ، إلا أن يكون أراد توجيه ذلك إلى أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم أمر بمنعهم ما سألوه ، لينيبوا من معاصي الله ، ويتوبوا بمنعه إياهم ما سألوه ، فيكون ذلك وجها يحتمله تأويل الآية ، وإن كان لقول أهل التأويل مخالفا.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا (29) }
وهذا مثل ضربه الله تبارك وتعالى للممتنع من الإنفاق في الحقوق التي أوجبها في أموال ذوي الأموال ، فجعله كالمشدودة يده إلى عنقه ، الذي لا يقدر على الأخذ بها والإعطاء.
وإنما معنى الكلام : ولا تمسك يا محمد يدك بخلا عن النفقة في حقوق الله ، فلا تنفق فيها شيئا إمساك المغلولة يده إلى عنقه ، الذي لا يستطيع بسطها( وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ ) يقول : ولا تبسطها بالعطية كلّ البسط ، فتَبقى لا شيء عندك ، ولا تجد إذا سئلت شيئا تعطيه سائلك( فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا ) يقول : فتقعد يلومك سائلوك إذا لم تعطهم حين سألوك ، وتلومك نفسك على الإسراع في مالك وذهابه ، محسورا : يقول : مَعِيبا ، قد انقُطِع بك ، لا شيء عندك تنفقه ، وأصله من قولهم للدابة التي قد سير عليها حتى انقَطَع سيرها ، وكلَّت ورَزحت من السير ، بأنه حَسِير. يقال منه : حَسَرْت الدابة فأنا أحسِرُها ، وأحسُرها حَسْرا ، وذلك إذا أنضيته بالسير ، وحَسَرته بالمسألة إذا سألته فألحفت ، وحَسَرَ البصرُ فهو يَحْسِر ، وذلك إذا بلغ أقصى المنظر فكَلّ. ومنه قوله عزَ وجلَ( يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ ) وكذلك ذلك في كلّ شيء كَلَّ وأزحف حتى يَضْنَى.
وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن بشار ، قال : ثنا هودة ، قال

(17/433)


: ثنا عوف ، عن الحسن ، في قوله( وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ ) قال : لا تجعلها مغلولة عن النفقة(وَلا تَبْسُطْها) : تبذر بسرف.
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا يوسف بن بهز ، قال : ثنا حوشب ، قال : كان الحسن إذا تلا هذه الآية( وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا ) يقول : لا تطفِّف برزقي عن غير رضاي ، ولا تضعْه في سُخْطي فأسلُبَك ما في يديك ، فتكون حسيرا ليس في يديك منه شيء.
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله( وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا ) يقول هذا في النفقة ، يقول( لا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ ) يقول : لا تبسطها بالخير( وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ ) يعني التبذير(فَتَقْعُدَ مَلُوما) يقول : يلوم نفسه على ما فات من ماله(مَحْسُورًا) يعني : ذهب ماله كله فهو محسور.
حدثني علي ، قال : ثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس ، قوله( وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ ) يعني بذلك البخل.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله( وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ ) أي لا تمسكها عن طاعة الله ، ولا عن حقه( وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ ) يقول : لا تنفقها في معصية الله ، ولا فيما يصلح لك ، ولا ينبغي لك ، وهو الإسراف ، قوله( فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا ) قال : ملوما في عباد الله ، محسورا على ما سلف من دهره وفرّط.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : ثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة( وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ ) قال : في النفقة ، يقول : لا تمسك عن النفقة( وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ ) يقول : لا تبذر تبذيرا(فَتَقْعُدَ مَلُوما) في عباد الله(مَحْسُورًا) يقول : نادما على ما فرط منك.

(17/434)


إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا (30)

حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : لا تمسك عن النفقة فيما أمرتك به من الحق( وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ ) فيما نهيتك(فَتَقْعُدَ مَلُوما) قال : مذنبا(مَحْسُورًا) قال : منقطعا بك.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله( وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ ) قال : مغلولة لا تبسطها بخير ولا بعطية( وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ ) في الحق والباطل ، فينفَذ ما معك ، وما في يديك ، فيأتيك من يريد أن تعطيه فيحسر بك ، فيلومك حين أعطيت هؤلاء ، ولم تعطهم.
القول في تأويل قوله تعالى : { إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا (30) }
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : إن ربك يا محمد يبسط رزقه لمن يشاء من عباده ، فيوسع عليه ، ويقدر على من يشاء ، يقول : ويُقَتِّر على من يشاء منهم ، فيضيِّق عليه( إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا ) : يقول : إن ربك ذو خبرة بعباده ، ومن الذي تصلحه السعة في الرزق وتفسده ؛ ومن الذي يصلحه الإقتار والضيق ويهلكه(بصيرا) : يقول : هو ذو بصر بتدبيرهم وسياستهم ، يقول : فانته يا محمد إلى أمرنا فيما أمرناك ونهيناك من بسط يدك فيما تبسطها فيه ، وفيمن تبسطها له ، ومن كفها عمن تكفها عنه ، وتكفها فيه ، فنحن أعلم بمصالح العباد منك ، ومن جميع الخلق وأبصر بتدبيرهم.
كالذي حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، ثم أخبرنا تبارك وتعالى كيف يصنع ، فقال( إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ ) قال : يقدر : يقلّ ، وكل شيء في القرآن يَقْدِر كذلك ؛ ثم أخبر عباده أنه لا يرزَؤُه ولا يئُوده أن لو بسط عليهم ، ولكن نظرا لهم منه ، فقال( وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الأرْضِ وَلَكِنْ يُنزلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ

(17/435)


وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا (31)

خَبِيرٌ بَصِيرٌ ) قال : والعرب إذا كان الخصب وبُسِط عليهم أُشِروا ، وقتل بعضهم بعضا ، وجاء الفساد ، فإذا كان السنة شُغِلوا عن ذلك.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا (31) }
يقول تعالى ذكره : (وَقَضَى رَبُّكَ) يا محمد( أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ) ، ( وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ ) فموضع تقتلوا نصب عطفا على ألا تعبدوا.
ويعني بقوله(خَشْيَةَ إمْلاقٍ) خوف إقتار وفقر ، وقد بيَّنا ذلك بشواهده فيما مضى ، وذكرنا الرواية فيه ، وإنما قال جلّ ثناؤه ذلك للعرب ، لأنهم كانوا يقتلون الإناث من أولادهم خوف العيلة على أنفسهم بالإنفاق عليهن.
كما حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعد ، عن قتادة ، قوله( وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ ) : أي خشية الفاقة ، وقد كان أهل الجاهلية يقتلون أولادهم خشية الفاقة ، فوعظهم الله في ذلك ، وأخبرهم أن رزقهم ورزق أولادهم على الله ، فقال( نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا ).
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : ثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة(خَشْيَةَ إمْلاقٍ) قال : كانوا يقتلون البنات.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قال مجاهد( وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ ) قال : الفاقة والفقر.
حدثني عليّ ، قال : ثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله(خَشْيَة إِمْلاقٍ) يقول : الفقر.
وأما قوله( إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا ) فإن القراء اختلفت في قراءته ؛ فقرأته عامَّة قراء أهل المدينة والعراق( إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا ) بكسر الخاء من الخطإ وسكون الطاء ، وإذا قرئ ذلك كذلك ، كان له وجهان من التأويل : أحدهما أن يكون اسما من قول القائل : خَطِئت فأنا أَخْطَأ ، بمعنى : أذنبت وأثمت. ويُحكى عن العرب : خَطِئتُ : إذا أذنبتَ عمدا ، وأخطأت : إذا وقع

(17/436)


منك الذنب خَطَأ على غير عمد منك له. والثاني : أن يكون بمعنى خَطَأ بفتح الخاء والطاء ، ثم كسرت الخاء وسكنت الطاء ، كما قيل : قِتْب وقتب وحِذَر ، ونجِس ونَجَس. والخطء بالكسر اسم ، والخطأ بفتح الخاء والطاء مصدر من قولهم : خَطِئ الرجل ؛ وقد يكون اسما من قولهم : أخطأ. فأما المصدر منه فالإخطاء. وقد قيل : خطئ ، بمعنى أخطأ ، كما قال : الشاعر :
يا لَهْفَ هِنْدٍ إِذْ خَطِئْنَ كاهِلا (1)
بمعنى : أخطأن. وقرأ ذلك بعض قرّاء أهل المدينة : (إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خَطَأً) بفتح الخاء والطاء مقصورا على توجيهه إلى أنه اسم من قولهم : أخطأ فلان خطأ. وقرأه بعض قراء أهل مكة : (إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خَطَاءً) بفتح الخَاء والطاء ، ومد الخَطَاء بنحو معنى من قرأه خطأ بفتح الخاء والطاء ، غير أنه يخالفه في مدّ الحرف.
وكان عامة أهل العلم بكلام العرب من أهل الكوفة وبعض البصريين منهم يرون أن الخطْء والخطأ بمعنى واحد ، إلا أن بعضهم زعم أن الخطْء بكسر الخاء وسكون الطاء في القراءة أكثر ، وأن الخِطْء بفتح الخاء والطاء في كلام الناس أفشى ، وأنه لم يسمع الخطء بكسر الخاء وسكون الطاء ، في شيء من كلامهم وأشعارهم ، إلا في بيت أنشده لبعض الشعراء :
الخِطْءُ فاحِشَةٌ والبِرُّ نافِلَةٌ... كعَجْوَةٍ غُرِسَتْ فِي الأرْضِ تُؤْتَبرُ (2)
__________
(1) هذا بيت من مشطور الرجز ينسب إلى امرئ القيس بن حجر الكندي ، من مقطوعة تسعة أبيات ، (مختار الشعر الجاهلي بشرح مصطفى السقا ، طبعة الحلبي ص 105) قالها حين بلغه أن بني أسد قتلت أباه. ومعنى يا لهف : يا أسف أو يا حسرة. وهند أخته. وخطئن : يعني الخيل ، أي أخطأن . وكان قد طلب بني كاهل من بني أسد ليلا ، فأوقع بين كنانة خطأ ، وهرب منه بنو كاهل . وهذا البيت هو أول الأبيات في الأغاني والعقد الثمين لوليم ألورد. ومحل الشاهد في البيت أن خطئ خطأ ، وأخطأ إخطاء : لغتان بمعنى واحد إذا عمل شيئا وأخطأ فيه عن غير تعمد كما في البيت والخطء ، بكسر الخاء وسكون الطاء اسم مصدر بمعنى المصدر وبعض اللغويين يقول : إن خطئ خطأ معناه وقع في الإثم عن تعمد ، بخلاف أخطأ ، فإنه عن غير تعمد .
(2) استشهد المؤلف بهذا البيت على أن بعضهم زعم أن الخطء ( بكسر الخاء وسكون الطاء ) في القراءة أكثر ، وأن الخطأ ( بفتح الخاء وسكون الطاء في كلام الناس أفشى ، وأنه لم يسمع بكسر الخاء وسكون الطاء في شيء من كلامهم وأشعارهم إلا في بيت أنشده لبعض الشعراء : الخطء فاحشة ... إلخ البيت) ولم أقف على البيت ولا قائله في معاني القرآن للفراء ، ولا في مجاز القرآن لأبي عبيدة غير أن الفراء قال : قرأ الحسن : خطاء كبيرا بالمد ، وقرأ أبو جعفر المدني : خطأ كبيراً ، قصر وهمز ، وكل صواب . وكأن الخطأ الإثم ، وقد يكون في معنى خطأ بالقصر ، كما قالوا : قتب وقتب وحذر وحذر ونجس ونجس . ومثله قراءة من قرأ : (هم أولاء على أثري ) وإثري . والنافلة : ما يكون زيادة على الفرض . والعجوة : أجود تمر المدينة ، كما في اللسان وتؤتبر : تصلح بالإبار ، ليجود ثمرها .

(17/437)


وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا (32)

وقد ذكرت الفرق بين الخِطْء بكسر الخاء وسكون الطاء وفتحهما.
وأولى القراءات في ذلك عندنا بالصواب ، القراءة التي عليها قراء أهل العراق ، وعامة أهل الحجاز ، لإجماع الحجة من القراء عليها ، وشذوذ ما عداها. وإن معنى ذلك كان إثما وخطيئة ، لا خَطَأ من الفعل ، لأنهم إنما كانوا يقتلونهم عمدا لا خطأ ، وعلى عمدهم ذلك عاتبهم ربهم ، وتقدم إليهم بالنهي عنه.
وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ؛ وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد(خِطْأً كَبِيرًا) قال : أي خطيئة.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد( إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا ) قال : خطيئة. قال ابن جريج ، وقال ابن عباس : خِطأ : أي خطيئة.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلا (32) }
يقول تعالى ذكره : وقضى أيضا أن(لا تَقْرَبُوا) أيها الناس( الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً ) يقول : إِن الزّنا كان فاحشة(وَساءَ سَبِيلا) يقول : وساء طريق الزنا طريقا ، لأن طريق أهل معصية الله ، والمخالفين أمره ، فأسوئ به طريقا يورد صاحبه نار جهنم.

(17/438)


وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا (33)

القول في تأويل قوله تعالى : { وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا (33) }
يقول جلّ ثناؤه : وقضى أيضا أن(لا تَقْتُلُوا) أيها الناس(النَّفْسَ التي حَرَّمَ الله) قتلها(إلا بالحَقّ) وحقها أن لا تقتل إلا بكفر بعد إسلام ، أو زنا بعد إحصان ، أو قود نفس ، وإن كانت كافرة لم يتقدّم كفرها إسلام ، فأن لا يكون تقدم قتلها لها عهد وأمان.
كما حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله( وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ ) وإنا والله ما نعلم بحلّ دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث ، إلا رجلا قتل متعمدا ، فعليه القَوَد ، أو زَنى بعد إحصانه فعليه الرجم ؛ أو كفر بعد إسلامه فعليه القتل.
حدثنا ابن وكيع ، قال : ثنا ابن عيينة ، عن الزهريّ ، عن عُروة أو غيره ، قال : قيل لأبي بكر : أتقتل من يرى أن لا يؤدي الزكاة ، قال : لو منعوني شيئا مما أقروا به لرسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم فقيل لأبي بكر : أليس قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أُمِرْتُ أنْ أُقاتِلَ النَّاسَ حَتى يَقُولُوا : لا إِلَه إِلا الله ، فإذَا قالُوها عَصَمُوا مِنّي دِماءهُمْ وأمْوالهُم إِلا بِحَقِّها ، وحِسابُهُمْ عَلى الله " فقال أبو بكر : هذا من حقها.
حدثني موسى بن سهل ، قال : ثنا عمرو بن هاشم ، قال : ثنا سليمان بن حيان ، عن حميد الطويل ، عن أنس بن مالك ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أُمِرْتُ أنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتى يقُولُوا لا إِلَه إِلا الله ، فإذَا قالُوها عَصَمُوا مِنِّى دِماءهُمْ وأمْوالهُمْ إِلا بِحَقِّها وحِسابهُمْ عَلى الله ؛ قيل : وما حقها ؟ قال : زِنًا بَعْد إحْصانٍ ، و كُفْرٌ بَعْد إيمَانٍ ، وقَتْلُ نَفْسٍ فَيُقْتَلُ بِها " .
وقوله( وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا ) يقول : ومن قتل بغير المعاني التي ذكرنا أنه إذا قتل بها كان قتلا بحقّ( فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا ) يقول : فقد جعلنا لوليّ

(17/439)


المقتول ظلما سلطانا على قاتل وليه ، فإن شاء استقاد منه فقتله بوليه ، وإن شاء عفا عنه ، وإن شاء أخذ الدية.
وقد اختلف أهل التأويل في معنى السلطان الذي جُعل لوليّ المقتول ، فقال بعضهم في ذلك ، نحو الذي قُلنا.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله( وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا ) قال : بيِّنة من الله عزّ وجلّ أنزلها يطلبها وليّ المقتول ، العَقْل ، أو القَوَد ، وذلك السلطان.
حدثنا محمد بن بشار ، قال : ثنا عبد الرحمن ، قال : ثنا سفيان ، عن جُويبر ، عن الضحاك بن مزاحم ، في قوله( فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا ) قال : إن شاء عفا ، وإن شاء أخذ الدية.
وقال آخرون : بل ذلك السلطان : هو القتل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله( وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا ) وهو القَوَد الذي جعله الله تعالى.
وأولى التأويلين بالصواب في ذلك تأويل من تأول ذلك : أن السلطان الذي ذكر الله تعالى في هذا الموضع ما قاله ابن عباس ، من أن لوليّ القتيل القتل إن شاء وإن شاء أخذ الدية ، وإن شاء العفو ، لصحة الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال يوم فتح مكة : " ألا ومَنْ قُتِل لَهُ قَتِيلٌ فَهُو بِخَيْرِ النَّظَريْنِ بين أنْ يَقْتُل أوْ يأْخُذ الدّيَة " . قد بيَّنت الحكم في ذلك في كتابنا : كتاب الجِراح.
وقوله( فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ ) اختلفت القرّاء في قراءة ذلك ، فقرأته عامَّة قرّاء الكوفة(فَلا تُسْرِفْ) بمعنى الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، والمراد به هو والأئمة من بعده ، يقول : فلا تقتل بالمقتول ظُلْما غير قاتله ، وذلك أن أهل الجاهلية كانوا يفعلون ذلك إذا قتل رجل رجلا عمد وليّ القتيل إلى الشريف من قبيلة القاتل ، فقتله بوليه ، وترك القاتل ، فنهى الله عزّ وجلّ عن

(17/440)


ذلك عباده ، وقال لرسوله عليه الصلاة والسلام : قتل غير القاتل بالمقتول معصية وسرف ، فلا تقتل به غير قاتله ، وإن قتلت القاتل بالمقتول فلا تمثِّل به. وقرأ ذلك عامة قرّاء أهل المدينة والبصرة(فَلا يُسْرفْ) بالياء ، بمعنى فلا يسرف وليّ المقتول ، فيقتل غير قاتل وليه. وقد قيل : عنى به : فلا يسرف القاتل الأول لا ولي المقتول.
والصواب من القول في ذلك عندي ، أن يقال : إنهما قراءتان متقاربتا المعنى ، وذلك أن خطاب الله تبارك وتعالى نبيه صلى الله عليه وسلم بأمر أو نهي في أحكام الدين ، قضاء منه بذلك على جميع عباده ، وكذلك أمره ونهيه بعضهم ، أمر منه ونهى جميعهم ، إلا فيما دلّ فيه على أنه مخصوص به بعض دون بعض ، فإن كان ذلك كذلك بما قد بيَّنا في كتابنا [كتاب البيان ، عن أصول الأحكام] فمعلوم أن خطابه تعالى بقوله(فَلا تُسْرِف في القَتْلِ) نبيه صلى الله عليه وسلم ، وإن كان موجَها إليه أنه معنيّ به جميع عباده ، فكذلك نهيه وليّ المقتول أو القاتل عن الإسراف في القتل ، والتعدّي فيه نهي لجميعهم ، فبأيّ ذلك قرأ القارئ فمصيب صواب القراءة في ذلك.
وقد اختلف أهل التأويل في تأويلهم ذلك نحو اختلاف القرّاء في قراءتهم إياه.
* ذكر من تأوّل ذلك : بمعنى الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم :
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا عبد الرحمن ، قالا ثنا سفيان ، عن منصور ، عن طلق بن حبيب ، في قوله(فَلا تُسْرِفْ في القَتْلِ) قال لا تقتل غير قاتله ، ولا تمثِّل به.
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا جرير. عن منصور ، عن طلق بن حبيب ، بنحوه.
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا الثوري ، عن خصيف ، عن سعيد بن جبير ، في قوله(فَلا تُسْرِفْ في القَتْلِ) قال : لا تقتل اثنين بواحد.

(17/441)


حُدثت عن الحسين بن الفرج ، قال : سمعت أبا معاذ ، يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله( فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا ) كان هذا بمكة ، ونبيّ الله صلى الله عليه وسلم بها ، وهو أوّل شيء نزل من القرآن في شأن القتل ، كان المشركون يغتالون أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فقال الله تبارك وتعالى : من قتلكم من المشركين ، فلا يحملنَّكم قتله إياكم على أن تقتلوا له أبا أو أخا أو أحدا من عشيرته ، وإن كانوا مشركين ، فلا تقتلوا إلا قاتلكم ؛ وهذا قبل أن تنزل براءة ، وقبل أن يؤمروا بقتال المشركين ، فذلك قوله(فَلا تُسْرِفْ فِي القَتْلِ) يقول : لا تقتل غير قاتلك ، وهي اليوم على ذلك الموضع من المسلمين ، لا يحلّ لهم أن يقتلوا إلا قاتلهم.
* ذكر من قال : عُنِي به وليّ المقتول حدثني يعقوب ، قال : ثنا ابن علية ، قال : ثنا أبو رجاء ، عن الحسن ، في قوله( وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا ) قال : كان الرجل يُقتل فيقول وليه : لا أرضى حتى أقتل به فلانا وفلانا من أشراف قبيلته.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : ثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة(فَلا تُسْرِفْ في القَتْلِ) قال : لا تقتل غير قاتلك ، ولا تمثِّل به.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة(فَلا يُسْرِفْ في القَتْلِ) قال : لا يقتل غير قاتله ؛ من قَتَل بحديدة قُتل بحديدة ؛ ومن قَتَل بخشبة قُتِل بخشبة ؛ ومن قَتل بحجر قُتل بحجر. ذُكر لنا أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم كان يقول : " إِنَّ مِنْ أعْتَى النَّاسِ على الله جَلَّ ثَناؤُهُ ثَلاثَةً رَجُلٌ قَتَلَ غَيْرَ قاتِلِهِ ، أوْ قَتَلَ بدَخَنٍ في الجاهِلِيَّة ، أو قَتَل فِي حَرَمِ الله " .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب قال : سمعته ، يعني ابن زيد ، يقول في قول الله جلّ ثناؤه( وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا ) قال : إن العرب كانت إذا قُتل منهم قتيل ، لم يرضوا أن يقتلوا قاتل صاحبهم ، حتى يقتلوا أشرف من الذي قتله ، فقال الله جلّ ثناؤه( فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا ) ينصره وينتصف من حقه( فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ ) يقتل بريئا.

(17/442)


* ذكر من قال عُنِي به القاتل حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن عبد الله بن كثير عن مجاهد( فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ ) قال : لا يسرف القاتل في القتل.
وقد ذكرنا الصواب من القراءة في ذلك عندنا ، وإذا كان كلا وجهي القراءة عندنا صوابا ، فكذلك جميع أوجه تأويله التي ذكرناها غير خارج وجه منها من الصواب ، لاحتمال الكلام ذلك ، وإن في نهي الله جلّ ثناؤه بعض خلقه عن الإسراف في القتل ، نهى منه جميعَهم عنه.
وأما قوله(إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا) فإن أهل التأويل اختلفوا فيمن عُنِي بالهاء التي في قوله(إِنَّهُ) وعلى ما هي عائدة ، فقال بعضهم : هي عائدة على وليّ المقتول ، وهو المعنيّ بها ، وهو المنصور على القاتل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة(إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا) قال : هو دفع الإمام إليه ، يعني إلى الوليّ ، فإن شاء قتل ، وإن شاء عفا.
وقال آخرون : بل عُنِي بها المقتول ، فعلى هذا القول هي عائدة على " مَن " في قوله( وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوما).
* ذكر مَن قال ذلك : حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن عبد الله بن كثير ، عن مجاهد(إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا) إن المقتول كان منصورا.
وقال آخرون : عُنِي بها دم المقتول ، وقالوا : معنى الكلام : إن دم القتيل كان منصورا على القاتل.
وأشبه ذلك بالصواب عندي ، قول من قال : عُنِي بها الوليّ ، وعليه عادت ، لأنه هو المظلوم ، ووليه المقتول ، وهي إلى ذكره أقرب من ذكر المقتول ، وهو المنصور أيضا ، لأن الله جلّ ثناؤه قضى في كتابه المنزل ، أنه سلَّطه على قاتل وليه ، وحكَّمه فيه ، بأن جعل إليه قتله إن شاء ، واستبقاءه على الدية إن أحبّ ، والعفو عنه إن رأى ، وكفى بذلك نُصرة له من الله جلّ ثناؤه ، فلذلك قلنا : هو المعنيّ بالهاء التي في قوله(إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا).

(17/443)


وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا (34)

القول في تأويل قوله تعالى : { وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولا (34) }
يقول تعالى ذكره : وقضى أيضا أن لا تقربوا مال اليتيم بأكل ، إسرافا وبدارا أن يَكْبَروا ، ولكن اقرَبوه بالفَعْلة التي هي أحسن ، والخَلَّة التي هي أجمل ، وذلك أن تتصرّفوا فيه له بالتثمير والإصلاح والحيطة.
وكان قتادة يقول في ذلك ما حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله( وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ) لما نزلت هذه الآية ، اشتدّ ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فكانوا لا يخالطونهم في طعام أو أكل ولا غيره ، فأنزل الله تبارك وتعالى( وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ ) فكانت هذه لهم فيها رُخْصة.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : ثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة( وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ) قال : كانوا لا يخالطونهم في مال ولا مأكل ولا مركب ، حتى نزلت(وإِنْ تُخالِطُوهُم فإخْوَانُكُمْ).
وقال ابن زيد في ذلك ما حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله( وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ) قال : الأكل بالمعروف ، أن تأكل معه إذا احتجت إليه ، كان أُبيّ يقول ذلك.
وقوله(حتى يَبْلُغَ أشُدَّهُ) يقول : حتى يبلغ وقت اشتداده في العقل ، وتدبير ماله ، وصلاح حاله في دينه(وأوْفُوا بالعَهْدِ) يقول : وأوفوا بالعقد الذي تعاقدون الناس في الصلح بين أهل الحرب والإسلام ، وفيما بينكم أيضا ، والبيوع والأشربة والإجارات ، وغير ذلك من العقود( إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولا ) يقول : إن الله جلّ ثناؤه سائل ناقض العهد عن نقضه إياه ، يقول : فلا تنقضوا العهود الجائزة بينكم ، وبين من عاهدتموه أيها الناس فتخفروه ، وتغدروا بمن أعطيتموه ذلك. وإنما عنى بذلك أن العهد كان مطلوبا ، يقال في الكلام : ليسئلنّ فلان عهد فلان.

(17/444)


وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (35)

القول في تأويل قوله تعالى : { وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلا (35) }
يقول تعالى ذكره : (وَ) قضى أن(أوْفُوا الكَيْلَ) للناس(إِذَا كِلْتُمْ) لهم حقوقهم قِبَلَكم ، ولا تبخَسُوهم(وَزِنُوا بالقِسْطاس المُسْتَقِيمِ) يقول :
وقَضَى أن زنوا أيضا إذا وزنتم لهم بالميزان المستقيم ، وهو العدل الذي لا اعوجاج فيه ، ولا دَغَل ، ولا خديعة.
وقد اختلف أهل التأويل في معنى القسطاس ، فقال بعضهم : هو القبان.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن بشار ، قال : ثنا صفوان بن عيسى ، قال : ثنا الحسن بن ذكوان ، عن الحسن(وَزِنُوا بالقِسْطاسِ المُسْتَقِيمِ) قال : القَبَّان.
وقال آخرون : هو العدل بالرومية.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا عليّ بن سهل ، قال : ثنا حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد : القِسطاس : العدل بالرومية.
وقال آخرون : هو الميزان صغر أو كبر ؛ وفيه لغتان : القِسطاس بكسر القاف ، والقُسطاس بضمها ، مثل القِرطاس والقُرطاس ؛ وبالكسر يقرأ عامَّة قرّاء أهل الكوفة ، وبالضمّ يقرأ عامه قرّاء أهل المدينة والبصرة ، وقد قرأ به أيضا بعض قرّاء الكوفيين ، وبأيتهما قرأ القارئ فمصيب ، لأنهما لغتان مشهورتان ، وقراءتان مستفيضتان في قرّاء الأمصار.
وقوله(ذلكَ خَيْرٌ) يقول : إيفاؤكم أيها الناس من تكيلون له الكيل ، ووزنكم بالعدل لمن توفون له(خَيْرٌ لَكُمْ) من بخسكم إياهم ذلك ، وظلمكموهم فيه. وقوله(وأحْسَنُ تَأْوِيلا) يقول : وأحسن مردودا عليكم وأولى إليه فيه فعلكم ذلك ، لأن الله تبارك وتعالى يرضى بذلك عليكم ، فيُحسن لكم عليه الجزاء.
وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل.

(17/445)


وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا (36)

* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله( وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلا ) أي خير ثوابا وعاقبة.
وأخبرنا أن ابن عباس كان يقول : يا معشر الموالي ، إنكم وَلِيتم أمرين بهما هلك الناس قبلكم : هذا المِكيال ، وهذا الميزان. قال : وذُكر لنا أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم كان يقول : " لا يَقْدِرُ رَجُلٌ على حَرَام ثُمَّ يَدَعُهُ ، لَيْسَ بِهِ إِلا مَخافَةُ الله ، إِلا أَبْدَلَهُ الله فِي عاجِلِ الدُّنْيَا قَبْلَ الآخِرَةِ ما هُوَ خَيْرٌ لَهُ مِنْ ذلكَ " .
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : ثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة(وأحْسَنُ تَأْوِيلا) قال : عاقبة وثوابا.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولا (36) }
اختلف أهل التأويل في تأويل قوله( وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ) فقال بعضهم : معناه : ولا تقل ما ليس لك به علم.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ بن داود ، قال : ثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله( وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ) يقول : لا تقل.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولا ) لا تقل رأيت ولم تر وسمعت ولم تسمع ، فإن الله تبارك وتعالى سائلك عن ذلك كله.

(17/446)


حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : ثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة( وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ) قال : لا تقل رأيت ولم تر ، وسمعت ولم تسمع ، وعلمت ولم تعلم.
حُدثت عن محمد بن ربيعة ، عن إسماعيل الأزرق ، عن أبى عمر البزار ، عن ابن الحنفية قال : شهادة الزور.
وقال آخرون : بل معناه : ولا ترم.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله( وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ) يقول : لا ترم أحدا بما ليس لك به علم.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ؛ وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد(وَلا تَقْفُ) ولا ترمِ.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله.
وهذان التأويلان متقاربا المعنى ، لأن القول بما لا يعلمه القائل يدخل فيه شهادة الزور ، ورمي الناس بالباطل ، وادّعاء سماع ما لم يسمعه ، ورؤية ما لم يره. وأصل القفو : العضه والبهت ، ومنه قول النبيّ صلى الله عليه وسلم : " نَحْنُ بَنُو النَّضْرِ بن كِنانَة لا نَقْفُو أمِّنا ولا نَنْتَفِي مِنْ أبِينا " ، وكان بعض البصريين ينشد في ذلك بيتا :
وَمِثْلُ الدُّمَى شُمُّ العَرَانِينِ ساكِنٌ... بِهِنَّ الحَياءُ لا يُشِعْنَ التَّقافِيا (1)
__________
(1) البيت للنابغة الجعدي : وهو من شواهد أبي عبيدة في مجاز القرآن (1 : 379) شاهد على أن معنى التقافي : التقاذف. وفي (اللسان : قفو) قال أبو عبيد الأصل في القفو واتقافي : البهتان يرمى به الرجل صاحبه . أ هـ . قال أبو بكر : قولهم قد قفا فلان فلانا قال أبو عبيد : معناه أتبعه أمرا كلاما قبيحا . وقال الليث : القفو : مصدر قولك قفا يقفو وقفوا ( الثاني بتشديد الواو ) ، وهو أن يتبع الشيء : قال تعالى : " ولا تقف ما ليس لك به علم " قال الفراء : أكثر القراء يجعلونها من قفوت ، كما تقول : لا تدع من دعوت . قال : وقرأ بعضهم : ولا تقف مثل ولا تقل . وقال الأخفش في قوله تعالى : " ولا تقف ما ليس لك به علم " : أي لا تتبع ما لا تعلم . وقيل : ولا تقل سمعت ولم تسمع ، ولا رأيت ولم تر ، ولا علمت ولم تعلم ؛ إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا . أ . هـ . والدمى جمع دمية ، وهي التمثال من المرمر أو العاج أو نحوهما . وشم العرانين : جمع شماء العرنين ، أي مرتفعات قصبات الأنوف ، وهو من أمارات جمالهن.

(17/447)


يعني بالتقافي : التقاذف. ويزعم أن معنى قوله(لا تَقْفُ) لا تتبع ما لا تعلم ، ولا يعنيك. وكان بعض أهل العربية من أهل الكوفة ، يزعم أن أصله القيافة ، وهي اتباع الأثر ، وإذ كان كما ذكروا وجب أن تكون القراءة(وَلا تَقُفْ) بضم القاف وسكون الفاء ، مثل : ولا تقل. قال : والعرب تقول : قفوت أثره ، وقُفت أثره ، فتقدِّم أحيانا الواو على الفاء وتؤخرها أحيانا بعدها ، كما قيل : قاع الجمل الناقة : إذا ركبها وقَعَا وعاثَ وَعَثَى ؛ وأنشد سماعا من العرب :
ولَوْ أنّي رَمَيْتُكَ مِنْ قَرِيبٍ... لَعاقَكَ مِنْ دُعاءٍ الذّئْبِ عاقِ (1)
يعني عائق ، ونظائر هذا كثيرة في كلام العرب.
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال : معنى ذلك : لا تقل للناس وفيهم ما لا علم لك به ، فترميهم بالباطل ، وتشهد عليهم بغير الحقّ ، فذلك هو القفو.
وإنما قلنا ذلك أولى الأقوال فيه بالصواب ، لأن ذلك هو الغالب من استعمال العرب القفو فيه.
وأما قوله( إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولا ) فإن
__________
(1) البيت من شواهد الفراء في معاني القرآن ( الورقة 179 ) على أن العرب تقول قفا الشيء : إذا تتبعه كما تقول قافه . وكما قال الشاعر : عاقى ، يريد عائق . قال الفراء : أكثر القراء يجعلونها من قفوت ... وبعضهم قال : ولا تقف . والعرب تقول : قفت أثره ، وقفوته ؛ ومثله : يعتام ويعتمي ، وعاث وعثى ، من الفساد ، وهو كثير ، منه شاك السلاح ، وشاكي السلاح . وسمعت بعض قضاعة يقول : اجتحى ماله ، واللغة الفاشية : اجتاح ماله . وقد قال الشاعر : " ولو أني رأيتك " ... إلخ البيت . هذا وقد نقلنا في الشاهد الذي قبل هذا عبارة الفراء ، كما جاءت في اللسان ، وفيها اختلال عن عبارته هنا في معاني القرآن ، ولعله من اختلاف النسخ . وأورد الفراء بعد بيت الشاهد بيتا آخر من وزنه وقافيته ، وهو لذي الخرق الطهوي كما في ( اللسان : بغم ) : حَسِبْتُ بُغامَ رَاحِلَتِي عَنَاقَا ... وَما هِيَ وَيْبَ غَيرِك بالعَناقِ
وقد سبق الاستشهاد به في أكثر من موضع من هذا التفسير .

(17/448)


وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا (37) كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا (38)

معناه : إن الله سائل هذه الأعضاء عما قال صاحبها ، من أنه سمع أو أبصر أو علم ، تشهد عليه جوارحه عند ذلك بالحقّ ، وقال أولئك ، ولم يقل تلك ، كما قال الشاعر :
ذُمَّ المَنازِلَ بَعْدَ مَنزلَةِ اللَّوَى... والعَيْشَ بَعْدَ أُولَئِكَ الأيَّامِ (1)
وإنما قيل : أولئك ، لأن أولئك وهؤلاء للجمع القليل الذي يقع للتذكير والتأنيث ، وهذه وتلك للجمع الكثير ، فالتذكير للقليل من باب أَنْ كان التذكير في الأسماء قبل التأنيث لك التذكير للجمع الأوّل ، والتأنيث للجمع الثاني ، وهو الجمع الكثير ، لأن العرب تجعل الجمع على مثال الأسماء.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلا تَمْشِ فِي الأرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الأرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولا (37) كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا (38) }
يقول تعالى ذكره : ولا تمش في الأرض مختالا مستكبرا( إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الأرْضَ ) يقول : إنك لن تقطع الأرض باختيالك ، كما قال رُؤْبة :
وقاتِمِ الأعماقِ خاوِي المُخْتَرَق (2)
__________
(1) البيت لجرير بن الخطفي ( ديوانه طبعة الصاوى ص 551 ) وهو البيت الثاني من قصيدة يجيب بها الفرزدق ، مطلعها : سَرتِ الهُمومُ فَبِتْنَ غَيرَ نِيامِ ... وأخُو الهُمومِ يَرُومُ كلَّ مَرَامِ
الشاهد في هذا البيت أنه أشار إلى الأيام بأولئك ، ولم يقل تلك ، لأن أولئك يشار بها إلى الجمع الكثير ، وهؤلاء إلى الجمع القليل ، للمذكر والمؤنث والعاقل وغيره .
(2) البيت مطلع أرجوزة مطولة (171 بيتا في ديوان رؤبة طبع ليبج سنة 1903م ، ص 104) وهو شاهد على أن قوله المخترق بمعنى القطع كما في قوله تعالى : " إنك لن تخرق الأرض " أي لن تقطع الأرض. ويريد بقائم الأعماق : واديا مظلم النواحي لما كثر فيه من الغبار الثائر . والخاوي : الخالي . والمخترق : الممر والمقطع . وقال أبو عبيدة في مجاز القرآن ( 1 : 380 ) " إنك لن تخرق الأرض " : مجاز " لن تقطع الأرض . وقال رؤبة : ... البيت أي المقطع . وقال آخرون : إنك لن تنقب الأرض وليس بشيء.

(17/449)


يعني بالمخترق : المقطع( وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولا ) بفخرك وكبرك ، وإنما هذا نهي من الله عباده عن الكبر والفخر والخُيَلاء ، وتقدم منه إليهم فيه معرِّفهم بذلك أنهم لا ينالون بكبرهم وفخارهم شيئا يقصر عنه غيرهم.
وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله( وَلا تَمْشِ فِي الأرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الأرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولا ) يعني بكبرك ومرحك.
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة( وَلا تَمْشِ فِي الأرْضِ مَرَحًا ) قال : لا تمش في الأرض فخرا وكبرا ، فإن ذلك لا يبلغ بك الجبال ، ولا تخرق الأرض بكبرك وفخرك.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج( وَلا تَمْشِ فِي الأرْضِ ) قال : لا تفخر.
وقيل : لا تمش مرَحا ، ولم يقل مرِحا ، لأنه لم يرد بالكلام : لا تكن مرِحا ، فيجعله من نعت الماشي ، وإنما أريد لا تمرح في الأرض مرَحا ، ففسر المعنى المراد من قوله : ولا تمش ، كما قال الراجز :
يُعْجَبُهُ السَّخُونُ والعَصِيدُ... والتَّمْرُ حبًّا مَا لَهُ مَزِيدُ (1)
فقال : حبا ، لأن في قوله : يعجبه ، معنى يحبّ ، فأخرج قوله : حبا ، من معناه دون لفظه.
وقوله( كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا ) فإن القرّاء اختلفت
__________
(1) البيتان في الملحق بشعر رؤبة بن العجاج ، بآخر ديوانه ( طبع ليبسج سنة 1903 ص 172 ) وروايتهما فيه : يُعْجِبُهُ السِّخُونُ والبَرُودُ ... والقَزُّ حُبًّا مالَهُ مَزِيدُ
ورواية البيت في ( اللسان : سخن ) كرواية المؤلف . قال : ويروى : " حتى ماله مزيد " . وقال : السخون من المرق : ما يسخن . وقال في ( برد ) : كل ما برد به شيء : برود . أ هـ . ولعله يريد الماء البارد ، تنقع به الغلة ، وقال في (عصد) : العصيدة : دقيق يلت بالسمن ويطبخ . والشاهد في البيت : أن قوله حبا مفعول مطلق ، لأنه بمعنى إعجابا ، لأن في قوله يعجبه ، معنى يحبه ، فكأنه مرادف له . وهو نظير قوله تعالى : " ولا تمش في الأرض مرحا ، أي المرح . وقد سبق الاستشهاد بالبيت في بعض أجزاء التفسير.

(17/450)


فيه ، فقرأه بعض قرّاء المدينة وعامة قرّاء الكوفة( كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا ) على الإضافة بمعنى : كل هذا الذي ذكرنا من هذه الأمور التي عددنا من مبتدأ قولنا( وَقَضَى رَبُّكَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ ).... إلى قولنا( وَلا تَمْشِ فِي الأرْضِ مَرَحًا )(كانَ سَيِّئُهُ) يقول :
سيء ما عددنا عليك عند ربك مكروها.
وقال قارئو هذه القراءة : إنما قيل( كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ ) بالإضافة ، لأن فيما عددنا من قوله( وَقَضَى رَبُّكَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ ) أمورا ، هي أمر بالجميل ، كقوله(وَبالوَالِدَيْنِ إِحْسانا) وقوله( وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ ) وما أشبه ذلك ، قالوا : فليس كلّ ما فيه نهيا عن سيئة ، بل فيه نهى عن سيئة ، وأمر بحسنات ، فلذلك قرأنا(سَيِّئُهُ) ، وقرأ عامة قرّاء أهل المدينة والبصرة وبعض قرّاء الكوفة(كُلُّ ذلكَ كانَ سَيِّئَةً) وقالوا : إنما عنى بذلك : كلّ ما عددنا من قولنا( وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ ) ولم يدخل فيه ما قبل ذلك. قالوا : وكل ما عددنا من ذلك الموضع إلى هذا الموضع سيئة لا حسنة فيه ، فالصواب قراءته بالتنوين. ومن قرأ هذه القراءة ، فإنه ينبغي أن يكون من نيته أن يكون المكروه مقدما على السيئة ، وأن يكون معنى الكلام عنده : كلّ ذلك كان مكروها سيئه ؛ لأنه إن جعل قوله : مكروها نعدّ السيئة من نعت السيئة ، لزمه أن تكون القراءة : كلّ ذلك كان سيئة عند ربك مكروهة ، وذلك خلاف ما في مصاحف المسلمين.
وأولى القراءتين عندي في ذلك بالصواب قراءة من قرأ( كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ ) على إضافة السيئ إلى الهاء ، بمعنى : كلّ ذلك الذي عددنا من(وَقَضَى رَبُّكَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ.... كانَ سَيِّئُهُ) لأن في ذلك أمورا منهيا عنها ، وأمورا مأمورا بها ، وابتداء الوصية والعهد من ذلك الموضع دون قوله(وَلا تَقْتُلُوا أوْلادَكُمْ) إنما هو عطف على ما تقدّم من قوله( وَقَضَى رَبُّكَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ ) فإذا كان ذلك كذلك ، فقراءته بإضافة السيء إلى الهاء أولى وأحقّ من قراءته سيئةً بالتنوين ، بمعنى السيئة الواحدة.
فتأويل الكلام إذن : كلّ هذا الذي ذكرنا لك من الأمور التي عددناها عليك كان سيئة مكروها عند ربك يا محمد ، يكرهه وينهى عنه ولا يرضاه ، فاتق مواقعته والعمل به.

(17/451)


ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَدْحُورًا (39) أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ إِنَاثًا إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلًا عَظِيمًا (40)

القول في تأويل قوله تعالى : { ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَدْحُورًا (39) }
يقول تعالى ذكره : هذا الذي بيَّنا لك يا محمد من الأخلاق الجميلة التي أمرناك بجميلها ، ونهيناك عن قبيحها( مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ ) يقول : من الحكمة التي أوحيناها إليك في كتابنا هذا.
كما حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله( ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ ) قال : القرآن.
وقد بيَّنا معنى الحكمة فيما مضى من كتابنا هذا ، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع.
( وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَدْحُورًا ) يقول : ولا تجعل مع الله شريكا في عبادتك ، فتُلقى في جهنم ملوما تلومك نفسك وعارفوك من الناس( مَدْحُورًا) يقول :
مُبْعَدا مقصيا في النار ، ولكن أخلص العبادة لله الواحد القهَّار ، فتنجو من عذابه.
وبنحو الذي قلنا في قوله(مَلُومًا مًدْحُورًا) قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني علي بن داود ، قال : ثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، في قوله(مَلُومًا مَدْحُورًا) يقول : مطرودا.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : ثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة(مَلُومًا مَدْحُورًا) قال : ملوما في عبادة الله ، مدحورا في النار.
القول في تأويل قوله تعالى : { أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلائِكَةِ إِنَاثًا إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلا عَظِيمًا (40) }
يقول تعالى ذكره للذين قالوا من مشركي العرب : الملائكة بنات الله(أفأصْفاكُمْ) أيها الناس(رَبُّكُمْ بالبَنينَ) يقول : أفخصكم ربكم بالذكور من

(17/452)


وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآَنِ لِيَذَّكَّرُوا وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا نُفُورًا (41) قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آَلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا (42)

الأولاد( وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلائِكَةِ إِنَاثًا ) وأنتم لا ترضونهن لأنفسكم ، بل تئدونهن ، وتقتلونهن ، فجعلتم لله ما لا ترضونه لأنفسكم( إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلا عَظِيمًا ) يقول تعالى ذكره لهؤلاء المشركين الذين قالوا من الفرية على الله ما ذكرنا : إنكم أيها الناس لتقولون بقيلكم : الملائكة بنات الله ، قولا عظيما ، وتفترون على الله فرية منكم.
وكان قتادة يقول في ذلك ما حدثنا محمد ، قال : ثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة( وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلائِكَةِ إِنَاثًا ) قال : قالت اليهود : الملائكة بنات الله.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلا نُفُورًا (41) }
يقول تعالى ذكره(وَلَقَدْ صَرَّفْنا) لهؤلاء المشركين المفترين على الله(فِي هَذَا القُرآن) العِبَر والآيات والحجج ، وضربنا لهم فيه الأمثال ، وحذّرناهم فيه وأنذرناهم(لِيَذَّكَّرُوا) يقول : ليتذكروا تلك الحجج عليهم ، فيعقلوا خطأ ما هم عليه مقيمون ، ويعتبروا بالعبر ، فيتعظوا بها ، وينيبوا من جهالتهم ، فما يعتبرون بها ، ولا يتذكرون بما يرد عليهم من الآيات والنُّذُر ، وما يزيدهم تذكيرنا إياهم(إِلا نُفُورًا) يقول : إلا ذهابا عن الحقّ ، وبُعدا منه وهربا. والنفور في هذا الموضع مصدر من قولهم : نفر فلان من هذا الأمر ينفِر منه نَفْرا ونفورا.
القول في تأويل قوله تعالى : { قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلا (42) }
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : قل يا محمد لهؤلاء المشركين الذين جعلوا مع الله إلها آخر : لو كان الأمر كما تقولون : من أن معه

(17/453)


سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا (43) تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا (44)

آلهة ، وليس ذلك كما تقولون ، إذن لابتغت تلك الآلهة القُربة من الله ذي العرش العظيم ، والتمست الزُّلْفة إليه ، والمرتبة منه.
كما حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله( قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلا ) يقول : لو كان معه آلهة إذن لعرفوا فضله ومرتبته ومنزلته عليهم ، فابتغوا ما يقرّبهم إليه.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : ثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة( إِذًا لابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلا ) قال : لابتغَوا القُرب إليه ، مع أنه ليس كما يقولون.
القول في تأويل قوله تعالى : { سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا (43) تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا (44) }
وهذا تنزيه من الله تعالى ذكره نفسه عما وصفه به المشركون ، الجاعلون معه آلهة غيره ، المضيفون إليه البنات ، فقال : تنزيها لله وعلوّا له عما تقولون أيها القوم ، من الفرية والكذب ، فإن ما تضيفون إليه من هذه الأمور ليس من صفته ، ولا ينبغي أن يكون له صفة.
كما حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا ) يسبح نفسه إذ قيل عليه البهتان. وقال تعالى(عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا) ولم يقل : تعاليا ، كما قال( وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلا ) كما قال الشاعر :
أَنْتَ الفِدَاءُ لكَعْبَةٍ هَدَّمْتَها... وَنَقَرْتَها بِيَدَيْكَ كُلَّ مَنَقَّر... مُنِعَ الحَمامُ مَقِيلَهُ مِنْ سَقْفِها... ومِنَ الحَطِيم فَطَارَ كُلَّ مُطَيَّرِ (1)
__________
(1) البيتان شاهدان على أن المصدرين منقر ومطير المضافين إلى كل المعرب مفعولا مطلقا ليس من لفظ الفعل السابق عليهما ، لأن المنقر من نقر بتشديد القاف ، والمطير من طير بتشديد الياء ، مع أن الفعلين السابقين ثلاثيان . ولكن العرب تجيز وضع المصادر المختلفة عن الأفعال السابقة عليها ، ومنه في القرآن : " وتبتل إليه تبتيلا " ومصدر تبتل : هو التبتل لا التبتيل ، ولكن ذلك جائز لأن الحروف الأصول مشتركة في الأفعال والمصادر التي تليها .

(17/454)


وقوله( تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ ) يقول :
تنزه الله أيها المشركون عما وصفتموه به إعظاما له وإجلالا السماوات السبع والأرض ، ومن فيهنّ من المؤمنين به من الملائكة والإنس والجنّ ، وأنتم مع إنعامه عليكم ، وجميل أياديه عندكم ، تفترون عليه بما تَفْتَرون.
وقوله( وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ ) يقول جلّ ثناؤه :
وما من شيء من خلقه إلا يسبح بحمده.
كما حدثني به نصر بن عبد الرحمن الأوْدِيّ ، قال : ثنا محمد بن يعلَى ، عن موسى بن عبيدة ، عن زيد بن أسلم ، عن جابر بن عبد الله ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ألا أُخْبِرُكُمْ بِشَيْءٍ أَمَرَ بِهِ نُوحٌ ابْنَهُ ؟ إِنَّ نُوحا قالَ لابْنِهِ يا بُنَيَّ آمُرُكَ أنْ تَقُولَ سُبْحانَ الله وبِحَمْدِهِ فإنَّها صَلاةُ الخَلْق ، وَتَسْبِيحُ الخَلْقِ ، وبِها تُرْزَقُ الخَلْقُ ، قالَ الله( وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ ).
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا يحيى بن واضح ، قال : ثنا عيسى بن عبيد ، قال : سمعت عكرمة يقول : لا يَعِيبنّ أحدكم دابته ولا ثوبه ، فإن كل شيء يسبح بحمده.
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا يحيى بن واضح ، قال : ثنا الحسين ، عن يزيد ، عن عكرمة( وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ ) قال : الشجرة تسبح ، والأسْطوانة تسبح.
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا يحيى بن واضح وزيد بن حباب ، قالا ثنا

(17/455)


جرير أبو الخطاب ، قال : كنا مع يزيد الرقاشي ومعه الحسن في طعام ، فقدّموا الخوان ، فقال يزيد الرقاشي : يا أبا سعيد يسبح هذا الخوان : فقال : كان يسبح مرّة.
حدثني يعقوب ، قال : ثنا هشيم ، قال : أخبرنا جويبر ، عن الضحاك ، ويونس ، عن الحسن أنهما قالا في قوله( وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ ) قالا كلّ شيء فيه الروح.
حدثنا محمد بن بشار ، قال : ثنا عبد الكبير بن عبد المجيد ، قال : ثنا سفيان ، عن منصور ، عن إبراهيم ، قال : الطعام يسبح.
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا محمد بن ثور ، عن معمر عن قتادة( وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ ) قال : كلّ شيء فيه الروح يسبح ، من شجر أو شيء فيه الروح.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، عن عبد الله بن أبي ، عن عبد الله بن عمرو ، أن الرجل إذا قال : لا إله إلا الله فهي كلمة الإخلاص التي لا يقبل الله من أحد عملا حتى يقولها ، فإذا قال الحمد لله ، فهي كلمة الشكر التي لم يشكر الله عبد قطّ حتى يقولها ، فإذا قال الله أكبر ، فهي تملأ ما بين السماء والأرض ، فإذا قال سبحان الله ، فهي صلاة الخلائق التي لم يَدْعُ الله أحد من خلقه إلا نوّره بالصلاة والتسبيح ، فإذا قال لا حول ولا قوّة إلا بالله ، قال : أسلم عبدي واستسلم.
وقوله( وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ ) يقول تعالى ذكره : ولكن لا تفقهون تسبيح ما عدا تسبيح من كان يسبح بمثل ألسنتكم(إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا) يقول : إن الله كان حليما لا يعجل على خلقه ، الذين يخالفون أمره ، ويكفرون به ، ولولا ذلك لعاجل هؤلاء المشركين الذين يدعون معه الآلهة والأنداد بالعقوبة(غَفُورًا) يقول : ساترا عليهم ذنوبهم ، إذا هم تابوا منها بالعفو منه لهم.
كما حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة(إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا) عن خلقه ، فلا يعجل كعجلة بعضهم على بعض(غَفُورًا) لهم إذا تابوا.

(17/456)


وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآَنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا (45)

القول في تأويل قوله تعالى : { وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا (45) }
يقول تعالى ذكره : وإذا قرأت يا محمد القرآن على هؤلاء المشركين الذين لا يصدقون بالبعث ، ولا يقرّون بالثواب والعقاب ، جعلنا بينك وبينهم حجابا ، يحجب قلوبهم عن أن يفهموا ما تقرؤه عليهم ، فينتفعوا به ، عقوبة منا لهم على كفرهم. والحجاب ههنا : هو الساتر.
كما حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله( وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا ) الحجاب المستور أكنة على قلوبهم أن يفقهوه وأن ينتفعوا به ، أطاعوا الشيطان فاستحوذ عليهم.
حدثنا محمد ، قال : ثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة(حِجَابًا مَسْتُورًا) قال : هي الأكنة.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله( وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا ) قال : قال أُبيّ : لا يفقهونه ، وقرأ( قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ ) لا يخلص ذلك إليهم.
وكان بعض نحويي أهل البصرة يقول : معنى قوله(حِجابًا مَسْتُورًا) حِجابا ساترا ، ولكنه أخرج وهو فاعل في لفظ المفعول ، كما يقال : إنك مشئوم علينا وميمون ، وإنما هو شائم ويامن ، لأنه من شأمهم ويمنهم. قال : والحجاب ههنا : هو الساتر ، وقال : مستورا. وكان غيره من أهل العربية يقول : معنى ذلك : حجابا مستورا عن العباد فلا يرونه.
وهذا القول الثاني أظهر بمعنى الكلام أن يكون المستور هو الحجاب ، فيكون معناه : أن لله سترا عن أبصار الناس فلا تدركه أبصارهم ، وإن كان للقول الأوّل وجه مفهوم.

(17/457)


وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آَذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآَنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا (46)

القول في تأويل قوله تعالى : { وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا (46) }
يقول تعالى ذكره : وجعلنا على قلوب هؤلاء الذين لا يؤمنون بالآخرة عند قراءتك عليهم القرآن أكنة ، وهي جمع كِنان ، وذلك ما يتغشَّاها من خِذلان الله إياهم عن فهم ما يُتلى عليهم(وفِي آذانهِمْ وَقْرًا) يقول : وجعلنا في آذانهم وقرا عن سماعه ، وصمما ، والوَقر بالفتح في الأذن : الثقل. والوِقر بالكسر : الحِمْل. وقوله( وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ ) يقول : وإذا قلت : لا إله إلا الله في القرآن وأنت تتلوه( وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا ) يقول : انفضوا ، فذهبوا عنك نفورا من قولك استكبارا له واستعظاما من أن يوحِّد الله تعالى.
وبما قلنا في ذلك ، قال بعض أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله( وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا ) وإن المسلمين لما قالوا : لا إله إلا الله ، أنكر ذلك المشركون وكبرت عليهم ، فصافها (1) إبليس وجنوده ، فأبى الله إلا أن يمضيها وينصرها ويفلجها ويظهرها على من ناوأها ، إنها كلمة من خاصم بها فلج ، ومن قاتل بها نُصِر ، إنما يعرفها أهل هذه الجزيرة من المسلمين ، التي يقطعها الراكب في ليال قلائل ويسير الدهر في فِئام من الناس لا يعرفونها ولا يقرّون بها.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله( وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا ) قال : بغضا لما تكلم به لئلا يسمعوه ، كما كان قوم نوح يجعلون أصابعهم في آذانهم لئلا يسمعوا
__________
(1) يقال : صافه ، بتشديد الفاء ، فهو مضاف : إذا رتب صفوفه في مقابله صفوف العدو ، وتصافوا عليه : اجتمعوا صفا .

(17/458)


ما يأمرهم به من الاستغفار والتوبة ، ويَستغشُون ثيابهم ، قال : يلتفون بثيابهم ، ويجعلون أصابعهم في آذانهم لئلا يسمعوا ولا يُنظر إليهم.
وقال آخرون : إنما عُنِي بقوله( وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا ) الشياطين ، وإنها تهرب من قراءة القرآن ، وذكر الله.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني الحسين بن محمد الذارع ، قال : ثنا روح بن المسيب أبو رجاء الكلبي ، قال : ثنا عمرو بن مالك ، عن أبي الجوزاء ، عن ابن عباس ، في قوله( وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا ) هم الشياطين.
والقول الذي قلنا في ذلك أشبه بما دلّ عليه ظاهر التنزيل ، وذلك أن الله تعالى أتبع ذلك قوله( وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا ) فأن يكون ذلك خبرا عنهم أولى إذا كان بخبرهم متصلا من أن يكون خبرا عمن لم يجز له ذكر. وأما النفور ، فإنها جمع نافر ، كما القعود جمع قاعد ، والجلوس جمع جالس ؛ وجائز أن يكون مصدرا أخرج من غير لفظه ، إذ كان قوله(وَلَّوْا) بمعنى : نفروا ، فيكون معنى الكلام : نفروا نفورا ، كما قال امرؤ القيس :
وَرُضْتُ فَذَلَّتْ صَعْبَةٌ أَيَّ إِذْلالِ (1)
إذا كان رُضْت بمعنى : أذللت ، فأخرج الإذلال من معناه ، لا من لفظه.
__________
(1) هذا عجز بيت لامرئ القيس بن حجر الكندي ، صدره * وصرنا إلى الحسنى ورق كلامنا *
وهو من قصيدة عدة أبياتها 54 بيتا ، وهو الخامس والعشرون فيها ، ( انظر مختار الشعر الجاهلي ، بشرح مصطفى السقا ، طبعة الحلبي ص 38 ) . وقد استشهد المؤلف على أن قول القرآن ، " ولوا على أدبارهم نفورا " يجوز أن يكون لفظ ( نفورا) جمع نافر ، كجلوس جمع جالس ، وقعود جمع قاعد ، ويجوز أن يكون مصدر نفر ، وهو مفعول مطلق للفعل " ولوا " لأنه يئول بمعنى نفورا كما يئول قول امرئ القيس (أي إذلال) بمعنى أي ذل مع ما بينهما من فرق في المعنى . ولكن العرب تتسمح في وضع بعض المصادر موضع بعض على التأويل .

(17/459)


نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوَى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا (47)

القول في تأويل قوله تعالى : { نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوَى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلا رَجُلا مَسْحُورًا (47) }
يقول تعالى ذكره : نحن أعلم يا محمد بما يستمع به هؤلاء الذين لا يؤمنون بالآخرة من مشركي قومك ، إذ يستمعون إليك وأنت تقرأ كتاب الله( وَإِذْ هُمْ نَجْوَى ). وكان بعض أهل العربية من أهل البصرة يقول : النجوى : فعلهم ، فجعلهم هم النجوى ، كما يقول : هم قوم رضا ، وإنما رضا : فعلهم. وقوله( إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلا رَجُلا مَسْحُورًا ) يقول : حين يقول المشركون بالله ما تتبعون إلا رجلا مسحورا. وعنى فيما ذُكِر بالنجوى : الذين تشاوروا في أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم في دار النَّدوة.
وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ؛ وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد(إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ) قال : هي مثل قيل الوليد بن المُغيرة ومن معه في دار الندوة.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، نحوه.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله( إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوَى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ ).... الآية ، ونجواهم أن زعموا أنه مجنون ، وأنه ساحر ، وقالوا(أساطيرُ الأوَّلِينَ).
وكان بعض أهل العربية من أهل البصرة يذهب بقوله( إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلا رَجُلا مَسْحُورًا ) إلى معنى : ما تتبعون إلا رجلا له سَحْر : أي له رئة ، والعرب تسمي الرئة سَحْرا ، والمسحَّر من قولهم للرجل إذا جبن : قد انتفخ سَحْره ، وكذلك يقال لكل ما أكَلَ أو شرب من آدميّ وغيره : مَسحور ومُسَحَّر ، كما قال لبيد :

(17/460)


انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا (48)

فإنْ تَسْأَلِينَا فِيم نَحْنُ فإنَّنَا... عَصَافِيرُ مِنْ هَذَا الأنامِ المُسَحَّر (1)
وقال آخرون :
ونُسحَر بالطعام وبالشراب (2)
أي نغذّى بهما ، فكأن معناه عنده كان : إن تتبعون إلا رجلا له رئة ، يأكل الطعام ، ويشرب الشراب ، لا مَلَكا لا حاجة به إلى الطعام والشراب ، والذي قال من ذلك غير بعيد من الصواب.
القول في تأويل قوله تعالى : { انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الأمْثَالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلا (48) }
__________
(1) البيت في ( ديوان لبيد ، رواية الطوسي ، طبع فينا سنة 1880 ص 81 ) وفي شرحه : عصافير : صغار ضعاف . أي نحن أولاد قوم قد ذهبوا ومسحر معلل بالطعام والشراب . وقوله : " إنما أنت من المسحرين " : من هذا . واستشهد به المؤلف على هذا قال : والمسحر : من قولهم للرجل إذا جبن : قد انتفخ سحره . وكذلك يقال لكل ما أكل وشرب من آدمي وغيره : مسحور ومسحر كما قال لبيد : " فإن تسألينا ... " البيت . و (في اللسان : سحر ) : وقول لبيد : " فإن تسألينا ... إلخ البيت ، يكون على الوجهين ، وقوله تعالى : " إنما أنت من المسحرين " يكون من التغذية والخديعة .
(2) هذا عجز بيت من قول امرئ القيس بن حجر الكندي : أرَانا مُوضِعِينَ لأَمْرِ غَيْبٍ ... ونُسْحَرُ بالطَّعامِ وبالشَّرَابِ
عَصَافِيرٌ وذِبَّانٌ ودُودٌ ... وأجْرأ مِنْ مُجَلِّحَةِ الّذئابِ
قال صاحب اللسان بعد أن أورد البيتين : ( سحر ) أي نغذى أو نخدع . قال ابن امرئ بري : وقوله : " موضعين " معناه : مسرعين . وقوله " لأمر غيب " : يريد الموت ، وأنه قد غيب عنا وقته ، ونحن نلهى عنه بالطعام والشراب. والسحر : الخديعة. وفي " مختار الشعر الجاهلي بشرح مصطفى السقا طبعة الحلبي ص 79 في شرح البيت الأول من البيتين : موضعين : مسرعين . لأمر غيب : يريد الموت أو المستقبل المجهول . ويروى : لحتم غيب . ونسحر : نلهى ، أو نغذى . يقول : أرانا في هذه الدنيا مسرعين للموت الذي غيب عنا وقته ، أو لمستقبل مجهول ، لا ندري من أمره شيئا ، ونحن نعلل عنه بالطعام وبالشراب . يريد : كيف يستلذ الطعام والشراب من هو جاد إلى شرب كأس المنية . وفي شرح البيت الثاني : العصافير : ضعاف الطير ؛ والمجلح : الجريء ، والأنثى مجلحة . يقول : نحن أشبه بالعصافير والذباب والدود في ضعفنا ، ولكننا أجرأ على الشر ، وارتكاب الآثام من الذئاب الضارية .

(17/461)


وَقَالُوا أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا (49)

يقول تعالى ذكره : انظر يا محمد بعين قلبك فاعتبر كيف مثَّلوا لك الأمثال ، وشبهوا لك الأشباه ، بقولهم : هو مسحور ، وهو شاعر ، وهو مجنون(فضلوا) يقول : فجاروا عن قصد السبيل بقيلهم ما قالوا( فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلا ) يقول : فلا يهتدون لطريق الحقّ لضلالهم عنه وبُعدهم منه ، وأن الله قد خذلهم عن إصابته ، فهم لا يقدرون على المَخْرَج مما هم فيه من كفرهم بتوفُّقهم إلى الإيمان به.
كما حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ؛ وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد( فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلا ) قال : مخرجا ، الوليد بن المغيرة وأصحابه أيضا.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد( انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الأمْثَالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلا ) مخرجا ، الوليد بن المغيرة وأصحابه.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَقَالُوا أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا (49) }
يقول تعالى ذكره مخبرا عن قيل هؤلاء الذين لا يؤمنون بالآخرة من مشركي قريش ، وقالوا بعنتهم : (أئِذَا كُنَّا عِظاما) لم نتحطم ولم نتكسَّر بعد مماتنا وبلانا(وَرُفاتا) يعني ترابا في قبورنا.
كما حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ؛ وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، يقول الله(رُفاتا) قال : ترابا.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله.
حدثني المثنى ، قال : ثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، في قوله( وَقَالُوا أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا ) يقول : غُبارا ، ولا واحد

(17/462)


للرُّفات ، وهو بمنزلة الدُّقاق والحُطَام ، يقال منه : رُفت يُرْفت رَفْتا فهو مرفوت : إذا صُير كالحُطام والرُّضاض.
وقوله( أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا ) قالوا ، إنكارا منهم للبعث بعد الموت : إنا لمبعوثون بعد مصيرنا في القبور عظاما غير منحطمة ، ورفاتا منحطمة ، وقد بَلِينا فصرنا فيها ترابا ، خلقا مُنْشَأ كما كنا قبل الممات جديدا ، نعاد كما بدئنا ، فأجابهم جلّ جلاله يعرّفهم قُدرته على بعثه إياهم بعد مماتهم ، وإنشائه لهم كما كانوا قبل بِلاهم خلقا جديدا ، على أيّ حال كانوا من الأحوال ، عظاما أو رُفاتا ، أو حجارة أو حديدا ، أو غير ذلك مما يعظُم عندهم أن يحدث مثله خَلْقا أمثالَهم أحياء ، قل يا محمد كونوا حجارة أو حديدا ، أو خلقا مما يكبر في صدوركم.

(17/463)


قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا (50) أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُءُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا (51)

القول في تأويل قوله تعالى : { قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا (50) أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُءُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا (51) }
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : قل يا محمد للمكذّبين بالبعث بعد الممات من قومك القائلين( أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا ) كونوا إن عجبتم من إنشاء الله إياكم ، وإعادته أجسامكم ، خلقا جديدا بعد بِلاكم في التراب ، ومصيركم رُفاتا ، وأنكرتم ذلك من قُدرته حجارة أو حديدا ، أو خلقا مما يكبر في صدوركم إن قدرتم على ذلك ، فإني أحييكم وأبعثكم خلقا جديدا بعد مصيركم كذلك كما بدأتكم أوّل مرّة.
واختلف أهل التأويل في المعنيّ بقوله( أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ ) فقال بعضهم : عُنِي به الموت ، وأريد به : أو كونوا الموت ، فإنكم إن كنتموه أمتُّكم ثم بعثتكم بعد ذلك يوم البعث.

(17/463)


* ذكر من قال ذلك :
حدثنا زكريا بن يحيى بن أبي زائدة ، قال : ثنا ابن إدريس ، عن أبيه ، عن عطية ، عن ابن عمر( أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ ) قال : الموت ، قال : لو كنتم موتى لأحييتكم.
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله( أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ ) يعني الموت ، يقول : إن كنتم الموت أحييتكم.
حدثني محمد بن عبيد المحاربي ، قال : ثنا أبو مالك الجنبي ، قال : ثنا ابن أبي خالد ، عن أبي صالح في قوله( أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ ) قال : الموت.
حدثنا محمد بن المثنى ، قال : ثنا سليمان أبو داود ، قال : ثنا شعبة ، عن أبي رجاء ، عن الحسن ، في قوله( أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ ) قال : الموت.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قال سعيد بن جبير ، في قوله( أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ ) كونوا الموت إن استطعتم ، فإن الموت سيموت ؛ قال : وليس شيء أكبر في نفس ابن آدم من الموت.
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، قال : بلغني ، عن سعيد بن جبير ، قال : هو الموت.
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن عبد الله بن عمر ، أنه كان يقول : " يجاء بالموت يوم القيامة كأنه كبش أملح حتى يُجعل بين الجنة والنار ، فينادي مناد يُسمع أهلَ الجنة وأهل النار ، فيقول : هذا الموت قد جئنا به ونحن مهلكوه ، فايقنوا يا أهل الجنة وأهل النار أن الموت قد هلك " .
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ ، قال : ثنا عبيد بن سليمان ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله( أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ ) يعني الموت ، يقول : لو كنتم الموت لأمتكم.

(17/464)


وكان عبد الله بن عمرو بن العاص يقول : إن الله يجيء بالموت يوم القيامة ، وقد صار أهل الجنة وأهل النار إلى منازلهم ، كأنه كبش أملح ، فيقف بين الجنة والنار ، فينادي أهل الجنة وأهل النار هذا الموت ، ونحن ذابحوه ، فأيقنوا بالخلود.
وقال آخرون : عنى بذلك السماء والأرض والجبال.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة( أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ ) قال : السماء والأرض والجبال.
وقال آخرون : بل أريد بذلك : كونوا ما شئتم.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ؛ وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد( كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ ) قال : ما شئتم فكونوا ، فسيعيدكم الله كما كنتم.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ ) قال : من خلق الله ، فإن الله يميتكم ثم يبعثكم يوم القيامة خلقا جديدا.
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال : إن الله تعالى ذكره قال( أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ ) ، وجائز أن يكون عنى به الموت ، لأنه عظيم في صدور بني آدم ؛ وجائز أن يكون أراد به السماء والأرض ؛ وجائز أن يكون أراد به غير ذلك ، ولا بيان في ذلك أبين مما بين جلّ ثناؤه ، وهو كلّ ما كبر في صدور بني آدم من خلقه ، لأنه لم يخصص منه شيئا دون شيء.
وأما قوله( فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا ) فإنه يقول : فسيقول لك يا محمد هؤلاء الذين لا يؤمنون بالآخرة(مَنْ يُعِيدُنا) خلقا جديدا ، إن كنا حجارة أو حديدا أو خلقا مما يكبر في صدورنا ، فقل لهم : يعيدكم( الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ ) يقول :

(17/465)


يعيدكم كما كنتم قبل أن تصيروا حجارة أو حديدا إنسا أحياء ، الذي خلقكم إنسا من غير شيء أوّل مرّة.
كما حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ ) أي خلقكم( فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُءُوسَهُمْ ) يقول : فإنك إذا قلت لهم ذلك ، فسيهزُّون إليك رءوسهم برفع وخفض ، وكذلك النَّغْض في كلام العرب ، إنما هو حركة بارتفاع ثم انخفاض ، أو انخفاض ثم ارتفاع ، ولذلك سمي الظليم نَغْضا ، لأنه إذا عجل المشي ارتفع وانخفض ، وحرّك رأسه ، كما قال الشاعر.
أسكّ نغْضًا لا يَنِي مُسْتَهْدِجا (1)
ويقال : نَغَضَت سنه : إذا تحرّكت وارتفعت من أصلها ؛ ومنه قول الراجز :
ونَغَضَتْ مِنْ هَرِمٍ أسْنانُها (2)
وقول الآخر :
لمَّا رأتْنِي أنْغَضَتْ ليَ الرأسا (3)
__________
(1) هذا بيت من مشطور الرجز للعجاج ( ديوانه طبع ليبسج سنة 1903 ص 7 ) وهو السابع من أرجوزة مطولة . وفيه : " أصك " بالصاد ، في موضع " أسك " بالسين . والأسك : صفة من السكك ، وهو الصمم . وقيل : صغر الأذن ولزوقها بالرأس ، وقلة إشرافها . وقيل : قصرها ولصوقها بالحششاء ، يكون ذلك في الآدميين وغيرهم . قال : والنعام كلها سك وكذلك القطا . وأصل السكك الصمم . ا هـ . اللسان . وفي ( اللسان : صكك) : الأصك والمصك : القوي الجسيم الشديد الخلق من الناس والإبل والحمير . وفي ( نغض) : نغض الشيء نغضا : تحرك واضطرب ، وأنغض هو : حركة ا هـ . ولا يني : أي لا يفتر . وفيه أيضا ( هدج ) أورد البيت كرواية الديوان . قال : وهدج الظليم يهدج هدجانا واستهدج ، وهو مشى وسعى وعدو ، كل ذلك إذا كان في ارتعاش . قال العجاج يصف الظليم : " أصك .. إلخ " . ويروى مستهدجا ( بكسر الدال) أي عجلان . وقال ابن الأعرابي : أي مستعجلا ، أي أفزع فر . والبيت شاهد على أن " النغض " في كلام العرب حركة بارتفاع ثم انخفاض أو بالعكس .
(2) البيت من مشطور الرجز ، وهو من شواهد أبي عبيدة في ( مجاز القرآن 1 : 382 ) وعنه أخذه المؤلف . قال أبو عبيدة : " فسينغضون إليك رءوسهم " : مجازه : فسيرفعون ويحركون استهزاء منهم . ويقال : قد نغضت سن فلان : إذا تحركت وارتفعت من أصلها . قال : ونغضت من هرم أسنانها
(3) وهذا البيت أيضا شاهد بمعنى الذي قبله ، وهو من شواهد أبي عبيدة في مجاز القرآن (1 : 382) جاء بعد الأول على أن أنغض الرأس بمعنى حركه ورفعه استهزاء بمن هو أمامه .

(17/466)


يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا (52) وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا (53)

وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله( فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُءُوسَهُمْ ) أي يحرّكون رءوسهم تكذيبا واستهزاء.
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة( فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُءُوسَهُمْ ) قال : يحرّكون رءوسهم.
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله( فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُءُوسَهُمْ ) يقول : سيحركونَها إليك استهزاء.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن عطاء الخراسانيّ ، عن ابن عباس( فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُءُوسَهُمْ ) قال : يحرّكون رءوسهم يستهزءون ويقولون متى هو.
حدثني عليّ ، قال : ثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله( فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُءُوسَهُمْ ) يقول : يهزءون.
وقوله(وَيَقُولُونَ مَتى هُوَ) يقول جلّ ثناؤه : ويقولون متى البعث ، وفي أيّ حال ووقت يعيدنا خلقا جديدا ، كما كنا أوّل مرّة ، قال الله عزّ وجلّ لنبيه : قل لهم يا محمد إذ قالوا لك : متى هو ، متى هذا البعث الذي تعدنا ، عسى أن يكون قريبا ؟ وإنما معناه : هو قريب ، لأن عسى من الله واجب ، ولذلك
قال النبيّ صلى الله عليه وسلم : " بُعِثْتُ أنا والسَّاعَةُ كَهاتَيْن ، وأشار بالسَّبابة والوُسطَى " ، لأن الله تعالى كان قد أعلمه أنه قريب مجيب.
القول في تأويل قوله تعالى : { يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلا قَلِيلا (52) وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا (53) }

(17/467)


يقول تعالى ذكره : قل عسى أن يكون بعثكم أيها المشركون قريبا ، ذلك يوم يدعوكم ربكم بالخروج من قبوركم إلى موقف القيامة ، فتستجيبون بحمده.
اختلف أهل التأويل في معنى قوله(فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِه) فقال بعضهم : فتستجيبون بأمره.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : ثني عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله( يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ ) يقول : بأمره.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج(فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ) قال : بأمره.
وقال آخرون : معنى ذلك : فتستجيبون بمعرفته وطاعته.

(17/468)


رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا (54)

* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله( يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ ) : أي بمعرفته وطاعته.
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال : معناه : فتستجيبون لله من قبوركم بقدرته ، ودعائه إياكم ، ولله الحمد في كلّ حال ، كما يقول القائل : فعلت ذلك الفعل بحمد الله ، يعني : لله الحمد على كلّ ما فعلته ، وكما قال الشاعر :
فإنّي بِحَمْد الله لا ثَوْبَ فاجِرٍ... لَبِسْتُ وَلا مِنْ غَدْرَةٍ أتَقَنَّعُ (1)
بمعنى : فإني والحمد لله لا ثوب فاجر لبست.
وقوله( وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلا قَلِيلا ) يقول : وتحسبون عند موافاتكم القيامة من هول ما تعاينون فيها ما لبثتم في الأرض إلا قليلا كما قال جلّ ثناؤه( قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الأرْضِ عَدَدَ سِنِينَ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ ).
وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلا قَلِيلا ) : أي في الدنيا ، تحاقرت الدنيا في أنفسهم وقلَّت ، حين عاينوا يوم القيامة.
وقوله( وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ) يقول تعالى ذكره لنبيّه محمد صلى الله عليه وسلم :
وقل يا محمد لعبادي يقل بعضهم لبعض التي هي أحسن من المحاورة والمخاطبة.
كما حدثنا خلاد بن أسلم ، قال : ثنا النضر ، قال : أخبرنا المبارك ، عن الحسن في هذه الآية( وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ) قال : التي هي أحسن ، لا يقول له مثل قوله يقول له : يرحمك الله يغفر الله لك.
وقوله( إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزغُ بَيْنَهُمْ ) يقول : إن الشيطان يسوء محاورة بعضهم بعضا ينزغ بينهم ، يقول : يفسد بينهم ، يهيج بينهم الشر( إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا ) يقول : إن الشيطان كان لآدم وذرّيته عدوّا ، قد أبان لهم عداوته بما أظهر لآدم من الحسد ، وغروره إياه حتى أخرجه من الجنة.
القول في تأويل قوله تعالى : { رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلا (54) }
يقول تعالى ذكره لهؤلاء المشركين من قريش الذين قالوا( أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا ) - (رَبُّكُمْ) أيها القوم( أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ ) فيتوب عليكم برحمته ، حتى تنيبوا عما أنتم عليه من الكفر به وباليوم الآخر( إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ ) بأن يخذلكم عن الإيمان ، فتموتوا على شرككم ، فيعذّبكم يوم القيامة بكفركم به.
وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن عبد الملك بن جريج قوله( رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ ) قال :
__________
(1) البيت شاهد على أن قوله " بحمد الله " في معنى " والحمد لله " . واستشهد به القرطبي في (10 : 276) ولم ينسبه إلى قائل معروف.

(17/469)


وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ وَآَتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا (55)

فتؤمنوا(أو إنْ يَشَأْ يُعَذّبْكُمْ) فتموتوا على الشرك كما أنتم.
وقوله( وَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلا ) يقول لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : وما أرسلناك يا محمد على من أرسلناك إليه لتدعوه إلى طاعتنا ربا ولا رقيبا ، إنما أرسلناك إليهم لتبلغهم رسالاتنا ، وبأيدينا صرفهم وتدبيرهم ، فإن شئنا رحمناهم ، وإن شئنا عذّبناهم.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُورًا (55) }
يقول تعالى ذكره لنبيه صلى الله عليه وسلم : وربك يا محمد أعلم بمن في السماوات والأرض وما يصلحهم فإنه هو خالقهم ورازقهم ومدبرهم ، وهو أعلم بمن هو أهل للتوبة والرحمة ، ومن هو أهل للعذاب ، أهدى للحقّ من سبق له مني الرحمة والسعادة ، وأُضلّ من سبق له مني الشقاء والخذلان ، يقول : فلا يكبرنّ ذلك عليك ، فإن ذلك من فعلي بهم لتفضيلي بعض النبيين على بعض ، بإرسال بعضهم إلى بعض الخلق ، وبعضهم إلى الجميع ، ورفعي بعضهم على بعض درجات.
كما حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله( وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ ) اتخذ الله إبراهيم خليلا وكلَّم موسى تكليما ، وجعل الله عيسى كمثل آدم خلقه من تراب ، ثم قال له كن فيكون ، وهو عبد الله ورسوله ، من كلمة الله وروحه ، وآتى سليمان مُلكا لا ينبغي لأحد من بعده ، وآتى داود زبورا ، كنا نحدّث دعاء عُلِّمه داود ، تحميد وتمجيد ، ليس فيه حلال ولا حرام ، ولا فرائض ولا حدود ، وغفر لمحمد ما تقدّم من ذنبه وما تأخَّر.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج( وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ ) قال : كلم الله موسى ، وأرسل محمدا إلى الناس كافَّة.

(17/470)


قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا (56) أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا (57)

القول في تأويل قوله تعالى : { قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلا (56) }
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : قل يا محمد لمشركي قومك الذين يعبدون من دون الله من خلقه ، ادعوا أيها القوم الذين زعمتم أنهم أرباب وآلهة من دونه عند ضرّ ينزل بكم ، فانظروا هل يقدرون على دفع ذلك عنكم ، أو تحويله عنكم إلى غيركم ، فتدعوهم آلهة ، فإنهم لا يقدرون على ذلك ، ولا يملكونه ، وإنما يملكه ويقدر عليه خالقكم وخالقهم. وقيل : إن الذين أمر النبيّ صلى الله عليه وسلم أن يقول لهم هذا القول ، كانوا يعبدون الملائكة وعزيرا والمسيح ، وبعضهم كانوا يعبدون نفرا من الجنّ.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله( قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلا ) قال : كان أهل الشرك يقولون : نعبد الملائكة وعُزَيرا ، وهم الذين يدعون ، يعني الملائكة والمسيح وعُزيرا..
القول في تأويل قوله تعالى : { أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا (57) }
يقول تعالى ذكره : هؤلاء الذين يدعوهم هؤلاء المشركون أربابا( يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ ) يقول :
يبتغي المدعوّون أربابا إلى ربهم القُربة والزُّلفة ، لأنهم أهل إيمان به ، والمشركون بالله يعبدونهم من دون الله(أَيُّهُمْ أَقْرَبُ) أيهم بصالح عمله واجتهاده في عبادته أقرب عنده زلفة(وَيَرْجُونَ) بأفعالهم تلك(رَحْمَتَه)ُ ويَخافُونَ أمره(عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ) يا محمد(كانَ مَحْذورًا) متقي.

(17/471)


وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل ، غير أنهم اختلفوا في المدعوّين ، فقال بعضهم : هم نفر من الجنّ.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني أبو السائب ، قال : ثنا أبو معاوية ، عن الأعمش ، عن إبراهيم ، عن عبد الله ، في قوله : ( أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ ) قال : كان ناس من الإنس يعبدون قوما من الجنّ ، فأسلم الجنّ وبقي الإنس على كفرهم ، فأنزل الله تعالى( أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ ) يعني الجنّ.
حدثنا ابن المثنى ، قال : ثنا أبو النعمان الحكم بن عبد الله العجلي ، قال : ثنا شعبة ، عن سليمان ، عن إبراهيم ، عن أبي معمر ، قال : قال عبد الله في هذه الآية( أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ ) قال : قَبيل من الجنّ كانوا يعبدون فأسلموا.
حدثني عبد الوارث بن عبد الصمد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني الحسين ، عن قتادة ، عن معبد بن عبد الله الزِّمَّاني ، عن عبد الله بن عتبة بن مسعود ، عن ابن مسعود ، في قوله( أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ ) قال : نزلت في نفر من العرب كانو يعبدون نفرا من الجنّ ، فأسلم الجنيون ، والإنس الذين كانوا يعبدونهم لا يشعرون بإسلامهم ، فأنزلت( الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ ).
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، عن عبد الله بن عتبة بن مسعود ، عن حديث عمه عبد الله بن مسعود ، قال : نزلت هذه الآية في نفر من العرب كانوا يعبدون نفرا من الجنّ ، فأسلم الجنيون والنفر من العرب لا يشعرون بذلك.
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة( الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ ) قوم عبدوا الجنّ ، فأسلم أولئك الجنّ ، فقال الله تعالى ذكره( أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ ).
حدثنا محمد بن بشار ، قال : ثنا عبد الرحمن ، قال : ثنا سفيان ، عن الأعمش ، عن إبراهيم ، عن أبي معمر ، عن عبد الله( أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ

(17/472)


إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ ) قال : كان نفر من الإنس يعبدون نفرا من الجنّ ، فأسلم النفر من الجنّ ، واستمسك الإنس بعبادتهم ، فقال( أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ ).
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا ابن عيينة ، عن الأعمش ، عن إبراهيم عن أبي معمر ، قال : قال عبد الله : كان ناس يعبدون نفرا من الجنّ ، فأسلم أولئك الجنيون ، وثبتت الإنس على عبادتهم ، فقال الله تبارك وتعالى( أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ ).
حدثنا الحسن ، قال : ثنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، في قوله( أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ ) قال كان أناس من أهل الجاهلية يعبدون نفرا من الجنّ ؛ فلما بعث النبيّ صلى الله عليه وسلم أسلموا جميعا ، فكانوا يبتغون أيهم أقرب.
وقال آخرون : بل هم الملائكة.
حدثني الحسين بن عليّ الصدائي ، قال : ثنا يحيى بن السكن ، قال : أخبرنا أبو العوّام ، قال : أخبرنا قتادة ، عن عبد الله بن معبد الزِّمَّاني ، عن عبد الله بن مسعود ، قال : كان قبائل من العرب يعبدون صنفا من الملائكة يقال لهم الجنّ ، ويقولون : هم بنات الله ، فأنزل الله عزّ وجلّ(أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ) معشر العرب(يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الوَسِيلَةَ).
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد( أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ ) قال : الذين يدعون الملائكة تبتغي إلى ربها الوسيلة( أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ ) حتى بلغ( إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا ) قال : وهؤلاء الذين عبدوا الملائكة من المشركين.
وقال آخرون : بل عزير وعيسى ، وأمه.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني يحيى بن جعفر ، قال : أخبرنا يحيى بن السكن ، قال : أخبرنا شعبة ، عن إسماعيل السديّ ، عن أبي صالح ، عن ابن عباس ، في قوله( أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ ) قال : عيسى وأمه وعُزير.

(17/473)


حدثنا محمد بن المثنى ، قال : ثنا أبو النعمان الحكم بن عبد الله العجلي ، قال : ثنا شعبة ، عن إسماعيل السدي ، عن أبي صالح ، عن ابن عباس ، قال : عيسى ابن مريم وأمه وعُزير في هذه الآية( أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ ).
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ؛ وحدثني الحرث ، قال : ثنا الحسن قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد( يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ ) قال : عيسى ابن مريم وعُزير والملائكة.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله.
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا جرير ، عن مغيرة ، عن إبراهيم ، قال : كان ابن عباس يقول في قوله( أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ ) قال : هو عُزير والمسيح والشمس والقمر.
وأولى الأقوال بتأويل هذه الآية قول عبد الله بن مسعود الذي رويناه. عن أبي معمر عنه ، وذلك أن الله تعالى ذكره أخبر عن الذين يدعوهم المشركون آلهة أنهم يبتغون إلى ربهم الوسيلة في عهد النبيّ صلى الله عليه وسلم ؛ ومعلوم أن عُزيرا لم يكن موجودا على عهد نبينا عليه الصلاة والسلام ، فيبتغي إلى ربه الوسيلة وأن عيسى قد كان رُفع ، وإنما يبتغي إلى ربه الوسيلة من كان موجودا حيا يعمل بطاعة الله ، ويتقرّب إليه بالصالح من الأعمال. فأما من كان لا سبيل له إلى العمل ، فبم يبتغي إلى ربه الوسيلة. فإذ كان لا معنى لهذا القول ، فلا قول في ذلك إلا قول من قال ما اخترنا فيه من التأويل ، أو قول من قال : هم الملائكة ، وهما قولان يحتملهما ظاهر التنزيل ، وأما الوسيلة ، فقد بينا أنها القربة والزلفة.
وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قال ابن عباس : الوسيلة : القربة.

(17/474)


وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَابًا شَدِيدًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا (58)

حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : الوسيلة ، قال : القربة والزلفى.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلا نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَابًا شَدِيدًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا (58) }
يقول تعالى ذكره : وما من قرية من القرى إلا نحن مهلكو أهلها بالفناء ، فمبيدوهم استئصالا قبل يوم القيامة ، أو معذّبوها ، إما ببلاء من قتل بالسيف ، أو غير ذلك من صنوف العذاب عذابا شديدا.
كما حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ؛ وحدثني الحرث ، قال : ثنا الحسن قال : ثنا ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قول الله عزّ وجلّ( وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلا نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ ) فمبيدوها(أوْ مُعَذِّبُوهَا) بالقتل والبلاء ، قال : كل قرية في الأرض سيصيبها بعض هذا.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، بنحوه ، إلا أنه قال : سيصيبها هذا أو بعضه.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله( وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلا نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهَا ) قضاء من الله كما تسمعون ليس منه بدّ ، إما أن يهلكها بموت وإما أن يهلكها بعذاب مستأصل إذا تركوا أمره ، وكذّبوا رسله.
حدثنا محمد بن بشار ، قال : ثنا عبد الرحمن ، قال : ثنا سفيان ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد( وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلا نَحْنُ مُهْلِكُوهَا ) قال : مبيدوها.
حدثنا القاسم ، قال : ثني الحسين ، قال : ثنا أبو الأحوص ، عن سماك بن حرب ، عن عبد الرحمن بن عبد الله ، قال : إذا ظهر الزنا والربا في أهل قرية أذن الله في هلاكها.

(17/475)


وقوله( كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا ) يعني في الكتاب الذي كتب فيه كلّ ما هو كائن ، وذلك اللوح المحفوظ.
كما حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله( كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا ) قال : في أمّ الكتاب ، وقرأ( لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ ) ويعني بقوله(مَسْطُورًا) مكتوبا مبينا ، ومنه قول العجاج :
واعْلَمْ بأنَّ ذَا الجَلالِ قَدْ قَدَرْ... في الكُتُبِ الأولى التي كان سَطَرْ
أمْرَكَ هذَا فاحْتَفِظْ فِيهِ النَّهَرْ (1)
__________
(1) هذه أبيات ثلاثة من مشطور الرجز للعجاج بن رؤبة من أرجوزة مطولة عدة أبياتها 229 بيتا يمدح بها عمر بن عبيد الله ابن معمر ، (انظر ديوان العجاج صبع ليبسج سنة 1903 ص 15 - 21). وفيه " الصحف " في موضع : " الكتب " . و (فاعلم) في موضع واعلم. وانظر مجاز القرآن لأبي عبيدة (1 : 383) وقال : مسطورا أي مبينا مكتوبا وفي روايته النتر بفتح النون والتاء. وقال : النتر : الخديعة. وفي (اللسان : نتر) : والنتر بالتحريك : الفساد والضياع ، قال العجاج : " واعلم... إلخ " الأبيات.

(17/476)


وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآَيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآَتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالْآَيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا (59)

القول في تأويل قوله تعالى : { وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالآيَاتِ إِلا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الأَوَّلُونَ }
يقول تعالى ذكره : وما منعنا يا محمد أن نرسل بالآيات التي سألها قومك ، إلا أن كان من قبلهم من الأمم المكذّبة ، سألوا ذلك مثل سؤالهم ؛ فلما آتاهم مأ سألوا منه كذّبوا رسلهم ، فلم يصدّقوا مع مجيء الآيات ، فعوجلوا فلم نرسل إلى قومك بالآيات ، لأنَّا لو أرسلنا بها إليها ، فكذّبوا بها ، سلكنا في تعجيل العذاب لهم مسلك الأمم قبلها.
وبالذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد وابن وكيع ، قالا ثنا جرير ، عن الأعمش ، عن جعفر بن إياس ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال : سأل أهل مكة النبيّ صلى الله عليه وسلم أن يجعل لهم الصفا ذهبا ، وأن ينحي عنهم الجبال ، فيزرعوا ، فقيل له : إن شئت أن نستأني بهم لعلنا نجتني منهم ، وإن شئت أن نؤتيهم الذي سألوا ، فإن كفروا أهلكوا كما أهلك من قبلهم ،

(17/476)


قال : بل تستأني بهم ، فأنزل الله( وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالآيَاتِ إِلا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الأَوَّلُونَ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً ).
حدثني إسحاق بن وهب ، قال : ثنا أبو عامر ، قال : ثنا مسعود بن عباد ، عن مالك بن دينار ، عن الحسن في قول الله تعالى( وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالآيَاتِ إِلا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الأَوَّلُونَ ) قال : رحمة لكم أيتها الأمة ، إنا لو أرسلنا بالآيات فكذّبتم بها ، أصابكم ما أصاب من قبلكم.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حماد بن زيد ، عن أيوب ، عن سعيد بن جبير ، قال : قال المشركون لمحمد صلى الله عليه وسلم : يا محمد إنك تزعم أنه كان قبلك أنبياء ، فمنهم من سخرت له الريح. ومنهم من كان يحيي الموتى ، فإن سرّك أن نؤمن بك ونصدّقك ، فادع ربك أن يكون لنا الصفا ذهبا. فأوحى الله إليه : إني قد سمعت الذي قالوا ، فإن شئت أن نفعل الذي قالوا ، فإن لم يؤمنوا نزل العذاب ، فإنه ليس بعد نزول الآية مناظرة ، وإن شئت أن تستأني قومك استأنيت بها ، قال : يا ربّ أستأني.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله( وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالآيَاتِ إِلا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الأَوَّلُونَ ) قال : قال أهل مكة لنبيّ الله صلى الله عليه وسلم : إن كان ما تقول حقا. ويسرّك أن نؤمن ، فحوّل لنا الصفا ذهبا ، فأتاه جبرائيل عليه السلام فقال : إن شئت كان الذي سألك قومك ، ولكنه إن كان ثم لم يؤمنوا لم يناظروا ، وإن شئت استأنيت بقومك ، قال : بَلِ أسْتَأْنِي بقَوْمي. فأنزل الله( وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا ) وأنزل الله عزّ وجلّ( مَا آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ ).
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، أنهم سألوا أن يحوّل الصفا ذهبا ، قال الله( وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالآيَاتِ إِلا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الأَوَّلُونَ ) قال ابن جريج : لم يأت قرية بآية فيكذّبوا بها إلا عذّبوا ، فلو جعلت لهم الصفا ذهبا ثم لم يؤمنوا عذّبوا ، و " أن " الأولى التي مع مَنَعَنا ، في موضع نصب بوقوع منعنا عليها ، وأن الثانية رفع ، لأن معنى الكلام : وما منعنا إرسال الآيات إلا تكذيب الأوّلين من الأمم ، فالفعل لأن الثانية.

(17/477)


القول في تأويل قوله تعالى : { وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلا تَخْوِيفًا (59) }
يقول تعالى ذكره : وقد سأل الآيات يا محمد مِن قَبْل قومك ثمود ، فآتيناها ما سألت ، وحملنا تلك الآية ناقة مبصرة ، جعل الإبصار للناقة. كما تقول للشجة : موضحة ، وهذه حجه مبينة. وإنما عنى بالمبصرة : المضيئة البينة التي من يراها كانوا أهل بصر بها ، أنها لله حجة ، كما قيل : (والنَهارَ مُبْصِرًا).
كما حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة(وآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً) : أي بيِّنة.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ؛ وحدثني الحرث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قول الله عزّ ذكره(النَّاقَةَ مُبْصِرَةً) قال : آية.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله.
وقوله(فَظَلَمُوا بِها) يقول عزّ وجلّ : فكان بها ظلمهم ، وذلك أنهم قتلوها وعقروها ، فكان ظلمهم بعقرها وقتلها ، وقد قيل : معنى ذلك : فكفروا بها ، ولا وجه لذلك إلا أن يقول قائله أراد : فكفروا بالله بقتلها ، فيكون ذلك وجها.
وأما قوله( وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلا تَخْوِيفًا ) فإنه يقول : وما نرسل بالعبر والذكر إلا تخويفا للعباد.
كما حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله( وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلا تَخْوِيفًا ) وإن الله يخوّف الناس بما شاء من آية لعلهم يعتبرون ، أو يذكَّرون ، أو يرجعون ، ذُكر لنا أن الكوفة رجفت على عهد ابن مسعود ، فقال : يأيها الناس إن ربكم يستعتبكم فأعتبوه.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثنا نوح بن قيس ، عن أبي رجاء ، عن الحسن( وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلا تَخْوِيفًا ) قال : الموت الذريع.

(17/478)


وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآَنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْيَانًا كَبِيرًا (60)

القول في تأويل قوله تعالى : { وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلا طُغْيَانًا كَبِيرًا (60) }
وهذا حضّ من الله تعالى ذكره نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم ، على تبليغ رسالته ، وإعلام منه أنه قد تقدّم منه إليه القول بأنه سيمنعه ، من كلّ من بغاه سوءا وهلاكا ، يقول جلّ ثناؤه : واذكر يا محمد إذ قلنا لك إن ربك أحاط بالناس قدرة ، فهم في قبضته لا يقدرون على الخروج من مشيئته ، ونحن مانعوك منهم ، فلا تتهيَّب منهم أحدا ، وامض لما أمرناك به من تبليغ رسالتنا.
وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن المثنى ، قال : ثنا عبد الصمد ، قال : ثنا شعبة ، عن أبي رجاء ، قال : سمعت الحسن يقول : أحاط بالناس ، عصمك من الناس.
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا يحيى بن واضح ، قال : ثنا أبو بكر الهذلي ، عن الحسن( وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ ) قال : يقول : أحطت لك بالعرب أن لا يقتلوك ، فعرف أنه لا يُقتل.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ؛ وحدثني الحرث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد(أحاطَ بالنَّاسِ) قال : فهم في قبضته.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثنا أبو سفيان ، عن معمر ، عن الزهري ، عن عروة بن الزبير قوله(أحاطَ بالنَّاسِ) قال : منعك من الناس. قال معمر ، قال قتادة ، مثله.

(17/479)


حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، قوله( وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ ) قال : منعك من الناس.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ ) أي منعك من الناس حتى تبلِّغ رسالة ربك.
وقوله( وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلا فِتْنَةً لِلنَّاسِ ) اختلف أهل التأويل في ذلك ، فقال بعضهم :
هو رؤيا عين ، وهي ما رأى النبيّ صلى الله عليه وسلم لما أُسري به من مكة إلى بيت المقدس.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا أبو كريب ، قال : ثنا مالك بن إسماعيل ، قال : ثنا ابن عيينة ، عن عمرو ، عن عكرمة ، عن ابن عباس في قوله( وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلا فِتْنَةً لِلنَّاسِ ) قال : هي رؤيا عين أريها رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة أُسري به ، وليست برؤيا منام.
حدثنا ابن وكيع ، قال : ثنا سفيان بن عيينة ، عن عمرو بن دينار ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، سُئِل عن قوله( وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلا فِتْنَةً لِلنَّاسِ ) قال : هي رؤيا عين رآها النبيّ صلى الله عليه وسلم ليلة أُسري به.
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا ابن عيينة ، عن عمرو ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، بنحوه.
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا حكام ، قال : ثنا عمرو ، عن فرات القزاز ، عن سعيد بن جبير( وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلا فِتْنَةً لِلنَّاسِ ) قال : كان ذلك ليلة أُسري به إلى بيت المقدس ، فرأى ما رأى فكذّبه المشركون حين أخبرهم.
حدثني يعقوب ، قال : ثنا ابن علية ، عن أبي رجاء ، عن الحسن ، في قوله( وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلا فِتْنَةً لِلنَّاسِ ) قال : أُسري به عشاء إلى بيت المقدس ، فصلى فيه ، وأراه الله ما أراه من الآيات ، ثم أصبح بمكة ، فأخبرهم أنه أُسري به إلى بيت المقدس ، فقالوا له : يا محمد ما شأنك ، أمسيت فيه ، ثم أصبحت فينا تخبرنا أنك أتيت بيت المقدس ، فعجبوا من ذلك حتى ارتدّ بعضهم عن الإسلام.

(17/480)


حدثنا محمد بن بشار ، قال : ثنا هوذة ، قال : ثنا عوف ، عن الحسن ، في قوله( وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلا فِتْنَةً لِلنَّاسِ ) قال : قال كفار أهل مكة : أليس من كذب ابن أبي كبشة أنه يزعم أنه سار مسيرة شهرين في ليلة.
حدثني أبو حصين ، قال : ثنا عبثر ، قال : ثنا حصين ، عن أبي مالك في هذه الآية( وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلا فِتْنَةً لِلنَّاسِ ) قال : مسيره إلى بيت المقدس.
حدثني أبو السائب ويعقوب ، قالا ثنا ابن إدريس ، عن الحسن بن عبد الله ، عن أبي الضحى ، عن مسروق في قوله( وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلا فِتْنَةً لِلنَّاسِ ) قال : حين أُسري به.
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا أبو أحمد ، قال : ثنا سفيان ، عن منصور ، عن إبراهيم( وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلا فِتْنَةً لِلنَّاسِ ) قال : ليلة أُسري به.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : ثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة( وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلا فِتْنَةً لِلنَّاسِ ) قال : الرؤيا التي أريناك في بيت المقدس حين أُسري به ، فكانت تلك فتنة الكافر.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلا فِتْنَةً لِلنَّاسِ ) يقول : الله أراه من الآيات والعبر في مسيره إلى بيت المقدس. ذُكر لنا أن ناسا ارتدّوا بعد إسلامهم حين حدثهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بمسيره ، أنكروا ذلك وكذّبوا له ، وعجبوا منه ، وقالوا : تحدّثنا أنك سرت مسيرة شهرين في ليلة واحدة.
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله( وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلا فِتْنَةً لِلنَّاسِ ) قال : هو ما أُري في بيت المقدس ليلة أُسري به.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج( وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ ) قال : أراه الله من الآيات في طريق بيت المقدس حين أُسري به ، نزلت فريضة الصلاة ليلة أُسري به قبل أن يهاجر بسنة وتسع

(17/481)


سنين (1) من العشر التي مكثها بمكة ، ثم رجع من ليلته ، فقالت قريش : تعشى فينا وأصبح فينا ، ثم زعم أنه جاء الشام في ليلة ثم رجع ، وايم الله إن الحدأة لتجيئها شهرين : شهرا مقبلة ، وشهرا مُدبرة.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله( وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلا فِتْنَةً لِلنَّاسِ ) قال : هذا حين أُسري به إلى بيت المقدس ، افتتن فيها ناس ، فقالوا : يذهب إلى بيت المقدس ويرجع في ليلة : وقال : " لَمَّا أتانِي جَبْرَائِيلُ عَلَيْهِ السَّلامُ بالبُرَاقِ لِيَحْمِلَنِي عَلَيْها صَرَّتْ بأذُنَيْها ، وَانْقَبَض بَعْضُها إلى بَعْضٍ ، فَنَظَرَ إِلَيْها جَبْرَائِيلُ ، فقالَ : وَالَّذِي بَعَثَنِي بالحَقّ مِنْ عِنْدِهِ ما رَكبَكَ أحَدٌ مِنْ وَلَدِ آدَمَ خَيْرٌ مِنْهُ ، قالَ : فَصرَّتْ بأُذُنَيْها وَارْفَضَّتْ عَرَقا حتى سالَ ما تَحْتَها ، وكانَ مُنْتَهَى خَطْوُها عِنْدَ مُنْتَهَى طَرْفها " فلما أتاهم بذلك ، قالوا : ما كان محمد لينتهي حتى يأتي بكذبة تخرج من أقطارها ، فأتوا أبا بكر رضي الله عنه فقالوا : هذا صاحبك يقول كذا وكذا ، فقال : وقد قال ذلك ؟ قالوا : نعم ، فقال : إن كان قد قال ذلك فقد صدق ، فقالوا : تصدّقه إن قال ذهب إلى بيت المقدس ورجع في ليلة ؟ فقال أبو بكر : إي ، نزع الله عقولكم ، أصدّقه بخبر السماء ، والسماء أبعد من بيت المقدس ، ولا أصدّقه بخبر بيت المقدس ؟ قالوا للنبيّ صلى الله عليه وسلم : إنا قد جئنا بيت المقدس فصفه لنا ، فلما قالوا ذلك ، رفعه الله تبارك وتعالى ومثله بين عينيه ، فجعل يقول : هو كذا ، وفيه كذا ، فقال بعضهم : وأبيكم إن أخطأ منه حرفا ، فقالوا : هذا رجل ساحر.
حُدثت عن الحسين بن الفرج ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : ثنا عبيد بن سليمان ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله( وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلا فِتْنَةً لِلنَّاسِ ) يعني ليلة أُسري به إلى بيت المقدس ، ثم رجع من ليلته ، فكانت فتنة لهم.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال. ثنا عيسى ؛ وحدثني الحرث ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن
__________
(1) لعله : ولتسع سنين : أي ولمضي تسع...إلخ.

(17/482)


مجاهد في قوله(الرُّؤْيَا التي أرَيْنَاكَ) قال : حين أُسري بمحمد صلى الله عليه وسلم.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، بنحوه.
وقال آخرون : هي رؤياه التي رأى أنه يدخل مكة.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله( وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلا فِتْنَةً لِلنَّاسِ ) قال : يقال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أُري أنه دخل مكة هو وأصحابه ، وهو يومئذ بالمدينة ، فعجَّل رسول الله صلى الله عليه وسلم السير إلى مكة قبل الأجل ، فردّه المشركون ، فقالت أناس : قد ردّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقد كان حدثنا أنه سيدخلها ، فكانت رجعته فتنتهم.
وقال آخرون ممن قال : هي رؤيا منام : إنما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى في منامه قوما يعلون منبره.
* ذكر من قال ذلك : حدثت عن محمد بن الحسن بن زبالة ، قال : ثنا عبد المهيمن بن عباس بن سهل بن سعد ، قال : ثني أبي ، عن جدّي ، قال : رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم بني فلان ينزون على منبره نزو القردة ، فساءه ذلك ، فما استجمع ضاحكا (1) حتى مات ، قال : وأنزل الله عزّ وجلّ في ذلك( وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلا فِتْنَةً لِلنَّاسِ ).... الآية.
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب ، قول من قال : عنى به رؤيا رسول الله صلى الله عليه وسلم ما رأى من الآيات والعبر في طريقه إلى بيت المقدس ، وبيت المقدس ليلة أُسري به ، وقد ذكرنا بعض ذلك في أوّل هذه السورة.
وإنما قُلنا ذلك أولى بالصواب ، لإجماع الحجة من أهل التأويل على أن
__________
(1) معناه : لم يره الناس بعدها ضاحكا ضحكا تاما حتى مات.

(17/483)


هذه الآية إنما نزلت في ذلك ، وإياه عنى الله عّز وجلّ بها ، فإذا كان ذلك كذلك ، فتأويل الكلام : وما جعلنا رؤياك التي أريناك ليلة أسرينا بك من مكة إلى بيت المقدس ، إلا فتنة للناس : يقول : إلا بلاء للناس الذين ارتدّوا عن الإسلام ، لمَّا أُخبروا بالرؤيا التي رآها ، عليه الصلاة والسلام وللمشركين من أهل مكة الذين ازدادوا بسماعهم ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم تماديا في غيهم ، وكفرا إلى كفرهم.
كما حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله(إِلا فِتْنَةً للنَّاسِ) (1) .
وأما قوله( وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ ) فإن أهل التأويل اختلفوا فيها ، فقال بعضهم : هي شجرة الزَّقُّوم.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا أبو كريب ، قال : ثنا مالك بن إسماعيل ، قال : ثنا أبو عبيدة ، عن عمرو ، عن عكرمة ، عن ابن عباس( وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ ) قال : شجرة الزَّقُّوم.
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله( وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ ) قال : هي شجرة الزقوم ، قال أبو جهل : أيخوّفني ابن أبي كبشة بشجرة الزَّقوم ، ثم دعا بتمر وزُبد ، فجعل يقول : زقمني ، فأنزل الله تعالى( طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ ) وأنزل( وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلا طُغْيَانًا كَبِيرًا ).
حدثني أبو السائب ويعقوب ، قالا ثنا ابن إدريس ، عن الحسن بن عبيد الله ، عن أبي الضحى ، عن مسروق( وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ ) قال : شجرة الزقوم.
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا عبد الرحمن ، قال : ثنا سفيان ، عن الحسن بن عبيد الله ، عن أبي الضحى ، عن مسروق ، مثله.
حدثني يعقوب ، قال : ثنا ابن عُلَية ، عن أبي رجاء ، عن الحسن ، في قوله( وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ ) فإن قريشا كانوا يأكلون التمر والزبد ،
__________
(1) اختصر المتن اكتفاء بما سبق قريبا.

(17/484)


ويقولون : تزقموا هذا الزقوم. قال أبو رجاء : فحدثني عبد القدّوس ، عن الحسن ، قال : فوصفها الله لهم في الصافات.
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا هوذة ، قال : ثنا عوف ، عن الحسن ، قال : قال أبو جهل وكفار أهل مكة : أليس من كذب ابن أبي كَبشة أنه يوعدكم بنار تحترق فيها الحجارة ، ويزعم أنه ينبت فيها شجرة( وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ ) قال : هي شجرة الزَّقوم.
حدثني عبد الله بن أحمد بن يونس ، قال : ثنا عبثر ، قال : ثنا حصين ، عن أبي مالك في هذه الآية( وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ ) قال : شجرة الزقوم.
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا عبد الرحمن ، قال : ثنا هشيم ، عن حصين ، عن أبي مالك ، قال في قوله( وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ ) قال : هي شجرة الزقوم.
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا عبد الرحمن ، قال : ثنا عبد الله بن المبارك ، عن رجل يقال له بدر ، عن عكرمة ، قال : شجرة الزقوم.
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا عبد الرحمن ، قال : ثنا إسرائيل ، عن فرات القزّار ، قال : سُئل سعيد بن جبير عن الشجرة الملعونة ، قال : شجرة الزقوم.
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا عبد الرحمن ، قال : ثنا هشيم ، عن عبد الملك العَزْرميّ ، عن سعيد بن جبير(وَالشَّجَرَةَ المَلْعُونَةَ) قال : شجرة الزقوم.
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا عبد الرحمن ، قال : ثنا سفيان ، عن منصور ، عن إبراهيم ، بمثله.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ؛ وحدثني الحارث ، قال : ثني الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد( وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ ) قال : الزقوم.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله.
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا جرير ، عن أبي المَحجل ، عن أبي معشر ، عن إبراهيم ، أنه كان يحلف ما يستثني ، أن الشجرة الملعونة : شجرة الزقوم.

(17/485)


حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا إسرائيل ، عن فُرات القزاز ، قال : سألت سعيد بن جبير ، عن الشجرة الملعونة في القرآن ، قال : شجرة الزَّقوم.
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا ابن عيينة ، عن عمرو ، عن عكرمة عن ابن عباس ، قال : هي الزقوم.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله( وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلا طُغْيَانًا كَبِيرًا ) وهي شجرة الزقوم ، خوّف الله بها عباده ، فافتتنوا بذلك ، حتى قال قائلهم أبو جهل بن هشام : زعم صاحبكم هذا أن في النار شجرة ، والنار تأكل الشجر ، وإنا والله ما نعلم الزقوم إلا التمر والزبد ، فتزقموا ، فأنزل الله تبارك وتعالى حين عجبوا أن يكون في النار شجرة( إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ ) ، إني خلقتها من النار ، وعذّبت بها من شئت من عبادي.
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة( وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ ) قال : الزقوم ؛ وذلك أن المشركين قالوا : يخبرنا هذا أن في النار شجرة ، والنار تأكل الشجر حتى لا تدع منه شيئا ، وذلك فتنة.
حُدثت عن الحسين بن الفرج ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : ثنا عبيد بن سليمان ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله( وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ ) قال : شجرة الزقوم.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله( وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ ) الزقوم التي سألوا الله أن يملأ بيوتهم منها ، وقال : هي الصَّرفَان بالزبد تتزقمه ، والصرفان : صنف من التمر ، قال : وقال أبو جهل : هي الصرفان بالزبد ، وافتتنوا بها.
وقال آخرون : هي الكشوث (1) .
__________
(1) الكشوث ، والكشوثا : نبت يتعلق بالأغصان ، ولا عرق له في الأرض. وهي لفظة سوادية (انظر اللسان والتاج).

(17/486)


وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآَدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا (61)

* ذكر من قال ذلك :
حدثنا أبو كريب ، قال : ثنا محمد بن إسماعيل بن أبي فديك ، عن ابن أبي ذئب ، عن مولى بني هاشم حدثه ، أن عبد الله بن الحارث بن نوفل ، أرسله إلى ابن عباس ، يسأله عن الشجرة الملعونة في القرآن ؟ قال : هي هذه الشجرة التي تلوي على الشجرة ، وتجعل في الماء ، يعني الكشوثي.
وأولى القولين في ذلك بالصواب عندنا قول من قال : عنى بها شجرة الزقوم ، لإجماع الحجة من أهل التأويل على ذلك ، ونصبت الشجرة الملعونة عطفا بها على الرؤيا. فتأويل الكلام إذن : وما جعلنا الرؤيا التي أريناك ، والشجرة الملعونة في القرآن إلا فتنة للناس ، فكانت فتنتهم في الرؤيا ما ذكرت من ارتداد من ارتدّ ، وتمادِي أهل الشرك في شركهم ، حين أخبرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بما أراه الله في مسيره إلى بيت المقدس ليلة أُسري به ، وكانت فتنهم في الشجرة الملعونة ما ذكرنا من قول أبي جهل والمشركين معه : يخبرنا محمد أن في النار شجرة نابتة ، والنار تأكل الشجر فكيف تنبت فيها ؟
وقوله( وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلا طُغْيَانًا كَبِيرًا ) يقول : ونخوّف هؤلاء المشركين بما نتوعدهم من العقوبات والنكال ، فما يزيدهم تخويفنا إلا طغيانا كبيرا ، يقول : إلا تماديا وغيا كبيرا في كفرهم وذلك أنهم لما خُوّفوا بالنار التي طعامهم فيها الزقوم دعوا بالتمر والزبد ، وقالوا : تزقموا من هذا.
وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك ؛ وقد تقدّم ذكر بعض من قال ذلك ، ونذكر بعض من بقي.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، قال قال ابن جريج(وَالشَّجَرَةَ المَلْعُونَةَ) قال : طلعها كأنه رءوس الشياطين ، والشياطين ملعونون. قال( وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ ) لما ذكرها زادهم افتتانا وطغيانا ، قال الله تبارك وتعالى ، ( وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلا طُغْيَانًا كَبِيرًا ).
القول في تأويل قوله تعالى : { وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلا إِبْلِيسَ قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا (61) قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا

(17/487)


قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا (62)

الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِي إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلا قَلِيلا (62) }
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : واذكر يا محمد تمادي هؤلاء المشركين في غيهم وارتدادهم عتوّا على ربهم بتخويفه إياهم تحقيقهم قول عدوّهم وعدوّ والدهم ، حين أمره ربه بالسجود له فعصاه وأبى السجود له ، حسدا واستكبارا( لَئِنْ أَخَّرْتَنِي إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلا قَلِيلا ) وكيف صدّقوا ظنه فيهم ، وخالفوا أمر ربهم وطاعته ، واتبعوا أمر عدوّهم وعدوّ والدهم.
ويعني بقوله(وَإِذْ قُلْنَا للْمَلائِكَةِ) :
واذكر إذ قلنا للملائكة( اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلا إِبْلِيسَ ) فإنه استكبر وقال( أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا ) يقول : لمن خلقته من طين ؛ فلما حذفت " من " تعلَّق به قوله(خَلَقْتَ) فنصب ، يفتخر عليه الجاهل بأنه خُلِقَ من نار ، وخلق آدم من طين.
كما حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا يعقوب ، عن جعفر ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال : بعث ربّ العزّة تبارك وتعالى إبليس ، فأخذ من أديم الأرض ، من عذبها وملحها ، فخلق منه آدم ، فكل شيء خُلق من عذبها فهو صائر إلى السعادة وإن كان ابن كافرين ، وكلّ شيء خَلقه من مِلحها فهو صائر إلى الشقاوة وإن كان ابن نبيين ؛ ومن ثم قال إبليس( أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا ) : أي هذه الطينة أنا جئت بها ، ومن ثم سُمّي آدم. لأنه خُلق من أديم الأرض.
وقوله( أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ ) يقول تعالى ذكره : أرأيت هذا الذي كرّمته عليّ ، فأمرتني بالسجود له ، ويعني بذلك آدم( لَئِنْ أَخَّرْتَنِي ) أقسم عدوّ الله ، فقال لربه : لئن أخرت إهلاكي إلى يوم القيامة( لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلا قَلِيلا ) يقول : لأستولين عليهم ، ولأستأصلنهم ، ولأستميلنهم يقال منه : احتنك فلان ما عند فلان من مال أو علم أو غير ذلك ؛ ومنه قول الشاعر :

(17/488)


قَالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُورًا (63)

نَشْكُو إِلَيْكَ سَنَةً قَدْ أجْحَفَتْ... جَهْدًا إلى جَهْدٍ بنا فأضْعَفَتْ... واحْتَنَكَتْ أمْوَالَنا وجَلَّفَتْ (1)
وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ؛ وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قول الله تبارك وتعالى( لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلا قَلِيلا ) قال : لأحتوينهم.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله.
حدثني عليّ ، قال : ثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله( لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلا قَلِيلا ) يقول : لأستولينّ.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله( لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلا قَلِيلا ) قال : لأضلنهم ، وهذه الألفاظ وإن اختلفت فإنها متقاربات المعنى ، لأن الاستيلاء والاحتواء بمعنى واحد ، وإذا استولى عليهم فقد أضلهم.
القول في تأويل قوله تعالى : { قَالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُورًا (63) }
__________
(1) هذه أبيات ثلاثة من مشطور الرجز ، من الأرجوزة السادسة في بقية ديوان الزفيان السعدي (عطاء بن أسيد الراجز) وهي ملحقة بديوان العجاج المطبوع في ليبزج سنة 1903 ص 65 ، مع اختلاف في رواية بعضها. والبيتان الأولان هما : نشكو إليك سنة قد جلفت ... أموالنا من أصلها وجرفت
أما البيت الثالث فليس في الأرجوزة. ومعنى أجحفت : أضرت بنا ، وذهبت أموالنا ، فلقينا من شهدتها جهدا إلى جهد. واحتنكت : قال أبو عبيدة في مجاز القرآن ( : 384) يقال : احتنك فلان ما عند فلان أجمع من مال أو علم أو حديث أو غيره : أخذه كله واستقصاه. قال : نشكو إليك...إلخ الأبيات. ومعنى جلفت : قشرت أو قشر الجلد مع شيء من اللحم. والأبيات شاهد على أن الاحتناك معناه الاستئصال.

(17/489)


وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا (64)

يقول تعالى ذكره قال الله لإبليس إذ قال له( لَئِنْ أَخَّرْتَنِي إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلا قَلِيلا ) اذهب فقد أخرتك ، فمن تبعك منهم ، يعني من ذرّية آدم عليه السلام فأطاعك ، فإن جهنم جزاؤك وجزاؤهم ، يقول : ثوابك على دعائك إياهم على معصيتي ، وثوابهم على اتباعهم إياك وخلافهم أمري(جزاءً موْفُورًا) : يقول : ثوابا مكثورا مكملا.
كما حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله( قَالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُورًا ) عذاب جهنم جزاؤهم ، ونقمة من الله من أعدائه فلا يعدل عنهم من عذابها شيء.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد( فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُورًا ) قال : وافرا.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ؛ وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد(مَوْفُورا) ، قال : وافرا.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الأَمْوَالِ وَالأَولادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلا غُرُورًا (64) }
يعني تعالى ذكره بقوله(وَاسْتَفْزِزْ) واستخفف واستجهل ، من قولهم : استفزّ فلانا كذا وكذا فهو يستفزّه( مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ ).
اختلف أهل التأويل في الصوت الذي عناه جلّ ثناؤه بقوله( وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ ) فقال بعضهم : عنى به : صوت الغناء واللعب.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا أبو كريب ، قال : ثنا ابن إدريس ، عن ليث ، عن مجاهد ، في قوله( وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ ) قال : باللهو والغناء.

(17/490)


حدثني أبو السائب ، قال : ثنا ابن إدريس ، قال : سمعت ليثا يذكر ، عن مجاهد ، في قوله : ( وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ ) قال : اللعب واللهو.
وقال آخرون : عنى به( وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ ) بدعائك إياه إلى طاعتك ومعصية الله.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : ثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس( وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ ) قال : صوته كلّ داع دعا إلى معصية الله.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : ثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة( وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ ) قال : بدعائك.
وأولى الأقوال في ذلك بالصحة أن يقال : إن الله تبارك وتعالى قال لإبليس : واستفزز من ذرّية آدم من استطعت أن تستفزّه بصوتك ، ولم يخصص من ذلك صوتا دون صوت ، فكل صوت كان دعاء إليه وإلى عمله وطاعته ، وخلافا للدعاء إلى طاعة الله ، فهو داخل في معنى صوته الذي قال الله تبارك وتعالى اسمه له( وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ ).
وقوله( وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ ) يقول : وأجمع عليهم من ركبان جندك ومشاتهم من يجلب عليها بالدعاء إلى طاعتك ، والصرف عن طاعتي ، يقال منه : أجلب فلان على فلان إجلابا : إذا صاح عليه. والجَلَبة : الصوت ، وربما قيل : ما هذا الجَلَب ، كما يقال : الغَلَب ، والشَّفَقَة والشَّفَق.
وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني سلم بن جنادة ، قال : ثنا ابن إدريس ، قال : سمعت ليثا يذكر عن مجاهد ، في قوله( وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ ) قال : كلّ راكب وماش في معاصي الله تعالى.
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة( وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ ) قال : إن له خيلا ورجلا من الجن والإنس ، وهم الذين يطيعونه.

(17/491)


حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ ) قال الرجال : المشاة.
حدثني عليّ ، قال : ثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله( وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ ) قال : خيله : كل راكب في معصية الله ؛ ورجله : كل راجل في معصية الله.
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا جرير ، عن منصور ، عن مجاهد ، في قوله( وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ ) قال : ما كان من راكب يقاتل في معصية الله فهو من خيل إبليس ، وما كان من راجل في معصية الله فهو من رجال إبليس ، والرجْل : جمع راجل ، كما التجْر : جمع تاجر ، والصَّحْب : جمع صاحب.
وأما قوله( وَشَارِكْهُمْ فِي الأَمْوَالِ ) في الأموال والأولادفإن أهل التأويل اختلفوا في المشاركة التي عنيت بقوله( وَشَارِكْهُمْ فِي الأَمْوَالِ وَالأَولادِ ) فقال بعضهم : هو أمره إياهم بإنفاق أموالهم في غير طاعة الله واكتسابهموها من غير حلها.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني أبو السائب ، قال : ثنا ابن إدريس ، قال : سمعت ليثا يذكر عن مجاهد( وَشَارِكْهُمْ فِي الأَمْوَالِ ) التي أصابوها من غير حلها.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ؛ وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد( وَشَارِكْهُمْ فِي الأَمْوَالِ ) قال : ما أكل من مال بغير طاعة الله.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثنا عيسى بن يونس ، عن طلحة بن عمرو ، عن عطاء بن أبي رَباح ، قال : الشرك في أموال الربا.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، عن الحسن ، في قوله( وَشَارِكْهُمْ فِي الأَمْوَالِ وَالأَولادِ ) قال : قد والله شاركهم في أموالهم ، وأعطاهم الله أموالا فأنفقوها في طاعة الشيطان في غير حقّ الله تبارك اسمه ، وهو قول قتادة.

(17/492)


حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا محمد ، عن معمر ، قال : قال الحسن( وَشَارِكْهُمْ فِي الأَمْوَالِ ) مرهم أن يكسبوها من خبيث ، وينفقوها في حرام.
حدثني عليّ ، قال : ثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس( وَشَارِكْهُمْ فِي الأَمْوَالِ وَالأَولادِ ) قال : كل مال في معصيه الله.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله( وَشَارِكْهُمْ فِي الأَمْوَالِ وَالأولادِ ) قال : مشاركته إياهم في الأموال والأولاد ، ما زَيَّن لهم فيها من معاصي الله حتى ركبوها.
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا جرير ، عن منصور ، عن مجاهد( وَشَارِكْهُمْ فِي الأَمْوَالِ ) كلّ ما أنفقوا في غير حقه.
وقال آخرون : بل عُنِي بذلك كلّ ما كان من تحريم المشركين ما كانوا يحرّمون من الأنعام كالبحائر والسوائب ونحو ذلك.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمى ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، في قوله( وَشَارِكْهُمْ فِي الأمْوَالِ وَالأولادِ ) قال : الأموال : ما كانوا يحرِّمون من أنعامهم.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثنا عيسى ، عن عمران بن سليمان. عن أبي صالح ، عن ابن عباس ، قال : مشاركته في الأموال أن جعلوا البحيرة والسائبة والوصيلة لغير الله.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : ثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة( وَشَارِكْهُمْ فِي الأمْوَالِ ) فإنه قد فعل ذلك ، أما في الأموال ، فأمرهم أن يجعلوا بحيرة وسائبة ووصيلة وحاما.
قال أبو جعفر : الصواب : حاميا.
وقال آخرون : بل عُنِي به ما كان المشركون يذبحونه لآلهتهم.
* ذكر من قال ذلك : حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ ، قال : ثنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول : ( وَشَارِكْهُمْ فِي الأمْوَالِ وَالأولادِ ) يعني ما كانوا يذبحون لآلهتهم.

(17/493)


وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال : عُنِي بذلك كلّ مال عصى الله فيه بإنفاق في حرام أو اكتساب من حرام ، أو ذبح للآلهة ، أو تسييب ، أو بحر للشيطان ، وغير ذلك مما كان معصيا به أو فيه ، وذلك أن الله قال( وَشَارِكْهُمْ فِي الأمْوَالِ ) فكلّ ما أطيع الشيطان فيه من مال وعصى الله فيه ، فقد شارك فاعل ذلك فيه إبليس ، فلا وجه لخصوص بعض ذلك دون بعض.
وقوله(والأوْلاد) اختلف أهل التأويل في صفة شركته بني آدم في أولادهم ، فقال بعضهم : شركته إياهم فيهم بزناهم بأمهاتهم.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثنى أبي ، قال : ثني عمى ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله( وَشَارِكْهُمْ فِي الأمْوَالِ وَالأولادِ ) قال : أولاد الزنا.
حدثني أبو السائب ، قال : ثنا ابن إدريس ، قال : سمعت ليثا يذكر عن مجاهد( وَشَارِكْهُمْ فِي الأمْوَالِ وَالأولادِ ) قال : أولاد الزنا.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ؛ وحدثني الحرث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد( وَشَارِكْهُمْ فِي الأمْوَالِ وَالأولادِ ) قال : أولاد الزنا.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد قال : أولاد الزنا.
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ قال : ثنا عبيد بن سليمان ، قال : سمعت الضحاك يقول( وَشَارِكْهُمْ فِي الأمْوَالِ وَالأولادِ ) قال : أولاد الزنا ، يعني بذلك أهل الشرك.
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا جرير ، عن منصور ، عن مجاهد ، في قوله( وَشَارِكْهُمْ فِي الأمْوَالِ وَالأولادِ ) قال : الأولاد : أولاد الزنا.
وقال آخرون : عنى بذلك : وأْدُهم أولادَهم وقتلهموهم.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني علي ، قال : ثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس( وَشَارِكْهُمْ فِي الأمْوَالِ وَالأولادِ ) قال : ما قتلوا من أولادهم ، وأتوا فيهم الحرام.

(17/494)


وقال آخرون : بل عنى بذلك : صبغهم إياهم في الكفر.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، عن الحسن( وَشَارِكْهُمْ فِي الأمْوَالِ وَالأولادِ ) قال : قد والله شاركهم في أموالهم وأولادهم ، فمجسوا وهوّدوا ونصروا وصبغوا غير صبغة الإسلام وجزءوا من أموالهم جزءا للشيطان.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : ثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة( وَشَارِكْهُمْ فِي الأمْوَالِ وَالأولادِ ) قال : قد فعل ذلك ، أما في الأولاد فانهم هوّدوهم ونصَّروهم ومجّسوهم.
وقال آخرون : بل عنى بذلك تسميتهم أولادهم عبد الحرث وعبد شمس.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني عيسى بن يونس ، عن عمران بن سليمان ، عن أبي صالح عن ابن عباس( وَشَارِكْهُمْ فِي الأمْوَالِ وَالأولادِ ) قال : مشاركته إياهم في الأولاد ، سموا عبد الحرث وعبد شمس وعبد فلان.
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال : كل ولد ولدته أنثى عصى الله بتسميته ما يكرهه الله ، أو بإدخاله في غير الدين الذي ارتضاه الله ، أو بالزنا بأمه ، أو قتله ووأده ، أو غير ذلك من الأمور التي يخصص بقوله( وَشَارِكْهُمْ فِي الأمْوَالِ وَالأولادِ ) معنى الشركة فيه بمعنى دون معنى ، فكلّ ما عصى الله فيه أو به ، وأطيع به الشيطان أو فيه ، فهو مشاركة من عصى الله فيه أو به إبليس فيه.
وقوله( وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلا غُرُورًا ) يقول تعالى ذكره لإبليس : وعد أتباعك من ذرّية آدم ، النصرة على من أرادهم بسوء ، يقول الله( وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلا غُرُورًا ) لأنه لا يغني عنهم من عقاب الله إذا نزل بهم شيئا ، فهم من عداته في باطل وخديعة ، كما قال لهم عدو الله حين حصحص الحق( إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِي مِنْ قَبْلُ ).

(17/495)


إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلًا (65) رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا (66)

القول في تأويل قوله تعالى : { إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلا (65) }
يقول تعالى ذكره لإبليس : إن عبادي الذين أطاعوني ، فاتبعوا أمري وعصوك يا إبليس ، ليس لك عليهم حجة.
وقوله( وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلا ) يقول جلّ ثناؤه لنبيّه محمد صلى الله عليه وسلم : وكفاك يا محمد ربك حفيظا ، وقيما بأمرك ، فانقد لأمره ، وبلغ رسالاته هؤلاء المشركين ، ولا تخف أحدا ، فإنه قد توكل بحفظك ونصرتك.
كما حدثنا بشر ، قال ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله( إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلا ) وعباده المؤمنون ، وقال الله في آية أخرى( إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ ).
القول في تأويل قوله تعالى : { رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا (66) }
يقول تعالى ذكره للمشركين به : ربكم أيها القوم هو الذي يسير لكم السفن في البحر ، فيحملكم فيها( لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ ) لتوصلوا بالركوب فيها إلى أماكن تجاراتكم ومطالبكم ومعايشكم ، وتلتمسون من رزقه( إِنَّهُ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا ) يقول : إن الله كان بكم رحيما حين أجرى لكم الفلك في البحر ، تسهيلا منه بذلك عليكم التصرّف في طلب فضله في البلاد النائية التي لولا تسهيله ذلك لكم لصعب عليكم الوصول إليها.
وبنحو ما قلنا في قوله(يُزْجِى لَكُمْ ) قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني علي بن داود ، قال : ثنا عبد الله ، قال : ثني

(17/496)


معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله( رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ ) يقول : يجري الفلك.
حدثني محمد بن عبد الأعلى ، قال : ثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة( رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ ) قال : يسيرها في البحر.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قال ابن عباس( رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ ) قال : يجري.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله( رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ ) قال : يجريها.

(17/497)


وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الْإِنْسَانُ كَفُورًا (67) أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلًا (68)

القول في تأويل قوله تعالى : { وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الإنْسَانُ كَفُورًا (67) }
يقول تعالى ذكره : وإذا نالتكم الشدّة والجهد في البحر ضلّ من تدعون : يقول : فقدتّم من تدعون من دون الله من الأنداد والآلهة ، وجار عن طريقكم فلم يغثكم ، ولم تجدوا غير الله مغيثا يغيثكم دعوتموه ، فلما دعوتموه وأغاثكم ، وأجاب دعاءكم ونجاكم من هول ما كنتم فيه في البحر ، أعرضتم عما دعاكم إليه ربكم من خلع الأنداد ، والبراءة من الآلهة ، وإفراده بالألوهة كفرا منكم بنعمته( وَكَانَ الإنْسَانُ كَفُورًا ) يقول : وكان الإنسان ذا جحد لنعم ربه.
القول في تأويل قوله تعالى : { أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلا (68) }

(17/497)


يقول تعالى ذكره(أَفَأَمِنْتُمْ) أيها الناس من ربكم ، وقد كفرتم نعمته بتنجيته إياكم من هول ما كنتم فيه في البحر ، وعظيم ما كنتم قد أشرفتم عليه من الهلاك ، فلما نجاكم وصرتم إلى البرّ كفرتم ، وأشركتم في عبادته غيره( أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ ) يعني ناحية البر( أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا ) يقول : أو يمطركم حجارة من السماء تقتلكم ، كما فعل بقوم لوط( ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلا ) يقول : ثم لا تجدوا لكم ما يقوم بالمدافعة عنكم من عذابه وما يمنعكم منه.
وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله( أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا ) يقول : حجارة من السماء( ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلا ) أي منعة ولا ناصرا.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، في قوله( أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا ) قال : مطر الحجارة إذا خرجتم من البحر.
وكان بعض أهل العربية يوجه تأويل قوله( أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا ) إلى : أو يرسل عليكم ريحا عاصفا تحصب ، ويستشهد لقوله ذلك بقول الشاعر :
مُسْتَقْبِلِينَ شَمالَ الشَّامِ تَضْرِبُنَا... بِحاصِبٍ كنَدِيفِ القُطْنِ مَنْثُورِ (1)
وأصل الحاصب : الريح تحصب بالحصباء ؛ الأرض فيها الرمل والحصى الصغار. يقال في الكلام : حصب فلان فلانا : إذا رماه بالحصباء ، وإنما
__________
(1) البيت للفرزدق من قصيدة يمدح بها يزيد بن عبد الملك ، ويهجو يزيد بن المهلب ، (ديوانه طبعة الصاوي 262 - 267). استشهد به المؤلف على أن الحاصب : الريح التي تحمل الحصباء وهي صغار الحصى ، والبيت شاهد على أن الحاصب مطر الحجارة ، وأن أصل الحاصب الريح تحصب بالحصباء ، والحصباء الأرض فيها الرمل والحصى الصغار ، كما أوضحه المؤلف.

(17/498)


أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفًا مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِمَا كَفَرْتُمْ ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعًا (69)

وُصفت الريح بأنها تحصب لرميها الناس بذلك ، كما قال الأخطل :
ولَقَدْ عَلمْتُ إذَا العِشارُ تَرَوَّحَتْ... هدْجَ الرّئالِ تَكبُّهُنَّ شَمالا... تَرْمي العضَاهُ بِحاصِبٍ مِنْ ثَلْجها... حتى يَبِيتُ عَلى العِضَاهِ جِفالا (1)
القول في تأويل قوله تعالى : { أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفًا مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِمَا كَفَرْتُمْ ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعًا (69) }
يقول تعالى ذكره : أم أمنتم أيها القوم من ربكم ، وقد كفرتم به بعد إنعامه عليكم ، النعمة التي قد علمتم أن يعيدكم في البحر تارة أخرى : يقول : مرّة أخرى ، والهاء التي في قوله " فيه " من ذكر البحر.
كما حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَى ) : أي في البحر مرّة أخرى( فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفًا مِنَ الرِّيحِ ) وهي التي تقصف ما مرّت به فتحطمه وتدقه ، من قولهم : قصف فلان ظهر فلان : إذا كسره( فَيُغْرِقَكُمْ بِمَا كَفَرْتُمْ ) يقول : فيغرقكم الله بهذه الريح القاصف بما كفرتم ، يقول : بكفركم به( ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعًا ) يقول : ثم لا تجدوا لكم علينا تابعا يتبعنا بما فعلنا بكم ، ولا ثائرا يثأرنا بإهلاكنا إياكم ، وقيل : تبيعا في موضع التابع ، كما قيل : عليم في موضع عالم. والعرب تقول لكل طالب بدم أو دين
__________
(1) البيتان للأخطل (ديوانه طبع بيروت سنة 1891) من قصيدة يهجوا بها جريرا ، ويفتخر على قيس.والعشار : جمع عشراء من الإبل ، وهي التي قد أتى عليها عشرة أشهر وهي حامل. وتروحت : أي ذهبت في الرواح وهو المشي إلى حظائرها. والرئال : جمع رأل ، وهو ولد النعامة. والهدج : عدو متقارب. وتكبهن : تسقطهن ، يريد تكبهن الريح وهي هابة شمالا. والحاصب : ما تناثر من دقاق الثلج. والضمير في ترمي : راجع إلى ريح الشمال. والعضاه : كل شجر له شوك ، أو كل شجرة واسعة الظل ، كثيرة الأفنان ، واحدته : عضة. والجفال : ما تراكم من الثلج وتراكب. وهذا الشاهد في معنى الذي قبله.

(17/499)


أو غيره : تبيع. ومنه قول الشاعر :
عَدَوْا وَعَدَتْ غزلانهم فَكأنَّهَا... ضَوَامنُ غُرمٍ لَزّهُنَّ تَبِيعُ (1)
وبنحو الذي قلنا في القاصف والتبيع ، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ بن داود ، قال : ثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله( فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفًا مِنَ الرِّيحِ ) يقول : عاصفا.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قال ابن عباس : قاصفا التي تُغْرق.
حدثني عليّ ، قال : ثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله( ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعًا ) يقول نصيرا.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ؛ وحدثني الحرث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قال محمد : ثائرا ، وقال الحرث : نصيرا ثائرا.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد( ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعًا ) قال : ثائرا.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعًا ) أي لا نخاف أن نتبع بشيء من ذلك.
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة( ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعًا ) يقول : لا يتبعنا أحد بشيء من ذلك ، والتارة : جمعه تارات وتير ، وأفعلت منه : أترت.
__________
(1) البيت : شاهد على أن معنى التبيع في الآية : كل طالب بدم أو دين أو غيره. قال أبو عبيدة في مجاز القرآن (1 : 385) أي من يتبعنا لكم تبيعة ، ولا طالبا لنا بها. وفي (اللسان : تبع) : والتبيع التابع ، وقول القرآن " ثم لا تجدوا لكم علينا به تبيعا " : قال الفراء : أي ثائرا ولا طالبا بالثأر ، لإغراقنا إياكم. وقال الزجاج : معناه : لا تجدوا من يتبعنا بإنكار ما نزل بكم ، ولا من يتبعنا بأن يصرفه عنكم. وقيل : تبيعا : مطالبا. ومنه قوله تعالى : " فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان " يقول : على صاحب الدم اتباع بالمعروف ، أي المطالبة بالدية ، وعلى المطالب أداء إليه بإحسان.

(17/500)


وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آَدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا (70) يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولَئِكَ يَقْرَءُونَ كِتَابَهُمْ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا (71)

القول في تأويل قوله تعالى : { وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلا (70) }
يقول تعالى ذكره( وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ ) بتسليطنا إياهم على غيرهم من الخلق ، وتسخيرنا سائر الخلق لهم( وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ ) على ظهور الدوابّ والمراكب( و) في( البَحْرِ) في الفلك التي سخرناها لهم( وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ ) يقول : من طيبات المطاعم والمشارب ، وهي حلالها ولذيذاتها( وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلا ) ذكر لنا أن ذلك تمكنهم من العمل بأيديهم ، وأخذ الأطعمة والأشربة بها ورفعها بها إلى أفواههم ، وذلك غير متيسر لغيرهم من الخلق.
كما حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قوله( وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ ).... الآية ، قال( وَفَضَّلْنَاهُمْ ) في اليدين يأكل بهما ، ويعمل بهما ، وما سوى الإنس يأكل بغير ذلك.
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر عن زيد بن أسلم ، في قوله( وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ ) قال : قالت الملائكة : يا ربنا إنك أعطيت بني آدم الدنيا يأكلون منها ، ويتنعَّمون ، ولم تعطنا ذلك ، فأعطناه في الآخرة ، فقال : وعزّتي لا أجعل ذرّية من خلقت بيدي ، كمن قلت له كن فكان.
القول في تأويل قوله تعالى : { يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولَئِكَ يَقْرَءُونَ كِتَابَهُمْ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلا (71) }

(17/501)


اختلفت أهل التأويل في معنى الإمام الذي ذكر الله جلّ ثناؤه أنه يدعو كلّ أناس به ، فقال بعضهم : هو نبيّه ، ومن كان يقتدى به في الدنيا ويأتمّ به.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني يحيى بن طلحة اليربوعي ، قال : ثنا فضيل ، عن ليث ، عن مجاهد( يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ ) قال : نبيهم.
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا حكام ، عن عنبسة ، عن محمد بن عبد الرحمن ، عن القاسم بن أبي بزّة ، عن مجاهد( يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ ) قال : نبيهم.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد( بِإِمَامِهِمْ ) قال : نبيهم.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد مثله.
حدثنا محمد ، قال : ثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة( كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ ) قال : نبيهم.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قالا ثنا سعيد ، عن قتادة ، مثله.
وقال آخرون : بل معنى ذلك أنه يدعوهم بكتب أعمالهم التي عملوها في الدنيا.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، في قوله( يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ ) قال : الإمام : ما عمل وأملى ، فكتب عليه ، فمن بعث متقيا لله جَعَل كتابه بيمينه ، فقرأه واستبشر ، ولم يظلم فتيلا وهو مثل قوله( وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُبِينٍ ) والإمام : ما أملى وعمل.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، عن الحسن( يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ ) قال : بأعمالهم.
حدثنا محمد ، قال : ثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، قال : قال الحسن : بكتابهم الذي فيه أعمالهم.

(17/502)


حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : ثنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله( يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ ) يقول : بكتابهم.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن أبي جعفر ، عن الربيع ، عن أبي العالية ، قال : بأعمالهم.
وقال آخرون : بل معناه : يوم ندعو كلّ أناس بكتابهم الذي أنزلت عليهم فيه أمري ونهيي.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : سمعت يحيى بن زيد في قول الله عزّ وجلّ( يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ ) قال : بكتابهم الذي أنزل عليهم فيه أمر الله ونهيه وفرائضه ، والذي عليه يحاسبون ، وقرأ( لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا ) قال : الشرعة : الدين ، والمنهاج : السنة ، وقرأ( شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا ) قال : فنوح أوّلهم ، وأنت آخرهم.
حدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد( يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ ) بكتابهم.
وأولى هذه الأقوال عندنا بالصواب ، قول من قال : معنى ذلك : يوم ندعو كلّ أناس بإمامهم الذي كانوا يقتدون به ، ويأتمُّون به في الدنيا ، لأن الأغلب من استعمال العرب الإمام فيما ائتمّ واقتدي به ، وتوجيه معاني كلام الله إلى الأشهر أولى ما لم تثبت حجة بخلافه يجب التسليم لها.
وقوله( فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ ) يقول : فمن أعطي كتاب عمله بيمينه( فَأُولَئِكَ يَقْرَءُونَ كِتَابَهُمْ ) ذلك حتى يعرفوا جميع ما فيه( وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلا ) يقول تعالى ذكره : ولا يظلمهم الله من جزاء أعمالهم فتيلا وهو المنفتل الذي في شقّ بطن النواة. وقد مضى البيان عن الفَتيل بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع.
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، قوله( وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلا ) قال : الذي في شقّ النواة.

(17/503)


وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآَخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلًا (72)

القول في تأويل قوله تعالى : { وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلا (72) }
اختلف أهل التأويل في المعنى الذي أشير إليه بقوله هذه ، فقال بعضهم : أشير بذلك إلى النعم التي عدّدها تعالى ذكره بقوله( وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلا ) فقال( وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلا ).
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن المثنى ، قال : ثنا عبد الأعلى ، قال : ثنا داود ، عن محمد بن أبي موسى ، قال : سئل عن هذه الآية( وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلا ) فقال : قال( وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلا ) قال : من عمي عن شكر هذه النعم في الدنيا ، فهو في الآخرة أعمى وأضلّ سبيلا.
وقال آخرون : بل معنى ذلك : ومن كان في هذه الدنيا أعمى عن قُدرة الله فيها وحججه ، فهو في الآخرة أعمى.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ بن داود ، قال : ثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله( وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى ) يقول : من عمي عن قُدرة الله في الدنيا( فَهُوَ فِي الآخِرَةِ أَعْمَى ) .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد( فِي هَذِهِ أَعْمَى ) قال : الدنيا.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله( وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الآخِرَةِ أَعْمَى ) يقول : من كان في هذه الدنيا أعمى عما عاين فيها من نعم الله وخلقه وعجائبه( فَهُوَ فِي الآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلا ) فيما يغيب عنه من أمر الآخرة وأعمى.

(17/504)


حدثنا محمد ، قال : ثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة( وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى ) في الدنيا فيما أراه الله من آياته من خلق السماوات والأرض والجبال والنجوم( فَهُوَ فِي الآخِرَةِ ) الغائبة التي لم يرها( أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلا ) .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، وسئل عن قول الله تعالى( وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلا ) فقرأ( إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ )( وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ ) وقرأ( وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ ) وقرأ حتى بلغ( وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ ) قال : كلّ له مطيعون ، إلا ابن آدم. قال : فمن كانت في هذه الآيات التي يعرف أنها منا ، ويشهد عليها وهو يرى قدرتنا ونعمتنا أعمى ، فهو في الآخرة التي لم يرها أعمى وأضلّ سبيلا.
وأولى الأقوال في ذلك عندي بالصواب ، قول من قال : معنى ذلك : ومن كان في هذه الدنيا أعمى عن حجج الله على أنه المنفرد بخلقها وتدبيرها ، وتصريف ما فيها ، فهو في أمر الآخرة التي لم يرها ولم يعاينها ، وفيما هو كائن فيها أعمى وأضلّ سبيلا يقول : وأضلّ طريقا منه في أمر الدنيا التي قد عاينها ورآها.
وإنما قلنا : ذلك أولى تأويلاته بالصواب ، لأن الله تعالى ذكره لم يخصص في قوله( وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ ) الدنيا( أَعْمَى ) عمى الكافر به عن بعض حججه عليه فيها دون بعض ، فيوجه ذلك إلى عماه عن نعمه بما أنعم به عليه من تكريمه بني آدم ، وحمله إياهم في البرّ والبحر ، وما عدد في الآية التي ذكر فيها نعمه عليهم ، بل عمّ بالخبر عن عماه في الدنيا ، فهم كما عمّ تعالى ذكره.
واختلف القرّاء في قراءة قوله( فَهُوَ فِي الآخِرَةِ أَعْمَى ) فكسرت القَرأة جميعا أعني الحرف الأوّل قوله( وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى ) . وأما قوله( فَهُوَ فِي الآخِرَةِ أَعْمَى ) فإن عامة قرّاء الكوفيين أمالت أيضا قوله( فَهُوَ فِي الآخِرَةِ أَعْمَى ) وأما بعض قرّاء البصرة فإنه فتحه ، وتأوّله بمعنى : فهو في الآخرة أشدّ عمى. واستشهد لصحة قراءته بقوله( وَأَضَلُّ سَبِيلا ) .

(17/505)


وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا (73)

وهذه القراءة هي أوْلى القراءتين في ذلك بالصواب للشاهد الذي ذكرنا عن قارئه كذلك ، وإنما كره من كره قراءته كذلك ظنا منه أن ذلك مقصود به قصد عمى العينين الذي لا يوصف أحد بأنه أعمى من آخر أعمى ، إذ كان عمى البصر لا يتفاوت ، فيكون أحدهما أزيد عمى من الآخر ، إلا بإدخال أشدّ أو أبين ، فليس الأمر في ذلك كذلك.
وإنما قلنا : ذلك من عمى القلب الذي يقع فيه التفاوت ، فإنما عُنِي به عمى ، قلوب الكفار ، عن حجج الله التي قد عاينتها أبصارهم ، فلذلك جاز ذلك وحسُن.
وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا سفيان ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد( فَهُوَ فِي الآخِرَةِ أَعْمَى ) قال : أعمى عن حجته في الآخرة.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لاتَّخَذُوكَ خَلِيلا (73) }
اختلف أهل التأويل في الفتنة التي كاد المشركون أن يفتنوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بها عن الذي أوحى الله إليه إلى غيره ، فقال بعضهم : ذلك الإلمام بالآلهة ، لأن المشركين دعوه إلى ذلك ، فهم به رسول الله صلى الله عليه وسلم.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا يعقوب القُمِّي ، عن جعفر ، عن سعيد ، قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستلم الحجر الأسود ، فمنعته قريش ، وقالوا : لا ندَعُه حتى يلم بآلهتنا ، فحدّث نفسه ، وقال : ما عَلَيَّ أنْ أُلِمَّ بِها بَعْدَ أنْ يَدَعُونِي أسْتَلِمُ الحَجَرَ ، وَالله يَعْلَمُ أنّي لَهَا كارهٌ ، فَأَبى الله ، فَأَنزلَ الله( وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ ) الآية.

(17/506)


حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلا ) ذكر لنا أن قريشا خلوا برسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة إلى الصبح يكلمونه ويفخمونه ويسوّدونه ويقاربونه ، وكان في قولهم أن قالوا : إنك تأتي بشيء لا يأتي به أحد من الناس ، وأنت سيدنا وابن سيدنا ، فما زالوا يكلِّمونه حتى كاد أن يقارفهم (1) ثم منعه الله وعصمه من ذلك ، فقال( وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلا ) .
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : ثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة( لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ ) قال : أطافوا به ليلة ، فقالوا : أنت سيدنا وابن سيدنا ، فأرادوه على بعض ما يريدون فهم أن يقارفهم (2) في بعض ما يريدون ، ثم عصمه الله ، فذلك قوله( لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلا ) الذي أرادوا فهم أن يقارفهم فيه.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد قال : قالوا له : ائت آلهتنا فامْسَسْها ، فذلك قوله( شَيْئًا قَلِيلا ) .
وقال آخرون : إنما كان ذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم هم أن ينظر قوما بإسلامهم إلى مدة سألوه الإنظار إليها.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله( وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لاتَّخَذُوكَ خَلِيلا ) وذلك أن ثقيفا كانوا قالوا للنبيّ صلى الله عليه وسلم : يا رسول الله أجِّلنا سنة حتى يُهْدَى لآلهتنا ، فإذا قبضنا الذي يُهْدى لآلهتنا أخذناه ، ثم أسلمنا وكسرنا الآلهة ، فهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعطيهم ، وأن يؤجِّلهم ، فقال الله( وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلا ) .
والصواب من القول في ذلك أن يقال : إن الله تعالى ذكره أخبر عن نبيّه صلى الله عليه وسلم ، أن المشركين كادوا أن يفتنوه عما أوحاه الله إليه
__________
(1) يقارفهم : يقاربهم ويدانيهم (اللسان).
(2) يقارفهم : يقاربهم ويدانيهم (اللسان).

(17/507)


وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا (74) إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا (75)

ليعمل بغيره ، وذلك هو الافتراء على الله ، وجائز أن يكون ذلك كان ما ذكر عنهم من ذكر أنهم دعوه أن يمسّ آلهتهم ، ويلمّ بها ، وجائز أن يكون كان ذلك ما ذُكر عن ابن عباس من أمر ثقيف ، ومسألتهم إياه ما سألوه مما ذكرنا ، وجائز أن يكون غير ذلك ، ولا بيان في الكتاب ولا في خبر يقطع العذر أيّ ذلك كان ، والاختلاف فيه موجود على ما ذكرنا ، فلا شيء فيه أصوب من الإيمان بظاهره ، حتى يأتي خبر يجب التسليم له ببيان ما عُني بذلك منه.
وقوله( وَإِذًا لاتَّخَذُوكَ خَلِيلا ) يقول تعالى ذكره : ولو فعلت ما دَعَوْك إليه من الفتنة عن الذي أوحينا إليك لاتخذوك إذا لأنفسهم خليلا وكنت لهم وكانوا لك أولياء.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلا (74) }
يقول تعالى ذكره : ولولا أن ثبَّتناك يا محمد بعصمتنا إياك عما دعاك إليه هؤلاء المشركون من الفتنة( لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلا ) يقول : لقد كدت تميل إليهم وتطمئنّ شيئا قليلا وذلك ما كان صلى الله عليه وسلم همّ به من أن يفعل بعض الذي كانوا سألوه فعله ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما ذكر حين نزلت هذه الآية ، ما حدثنا محمد بن بشار ، قال : ثنا سليمان ، قال : ثنا أبو هلال ، عن قتادة ، في قوله(وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلا) فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا تكلني إلى نَفْسي طَرْفَةَ عَيْنٍ .
القول في تأويل قوله تعالى : { إِذًا لأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا (75) }
يقول تعالى ذكره : لو ركنت إلى هؤلاء المشركين يا محمد شيئا قليلا

(17/508)


فيما سألوك إذن لأذقناك ضعف عذاب الحياة ، وضعف عذاب الممات.
وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله( إِذًا لأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ) يعني : ضعف عذاب الدنيا والآخرة.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله( ضِعْفَ الْحَيَاةِ ) قال : عذابها( وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ) قال : عذاب الآخرة.
حدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( إِذًا لأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ) : أي عذاب الدنيا والآخرة.
حدثنا محمد ، قال : ثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة( ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ) قال : عذاب الدنيا وعذاب الآخرة.
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله( ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ) يعني عذاب الدنيا وعذاب الآخرة.
وكان بعض أهل العربية من أهل البصرة يقول في قوله( إِذًا لأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ ) مختصر ، كقولك : ضعف عذاب الحياة( وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ) فهما عذابان ، عذاب الممات به ضوعف عذاب الحياة. وقوله( ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا ) يقول : ثم لا تجد لك يا محمد إن نحن أذقناك لركونك إلى هؤلاء المشركين لو ركنت إليهم ، عذاب الحياة وعذاب الممات علينا نصيرا ينصرك علينا ، ويمنعك من عذابك ، وينقذك مما نالك منا من عقوبة.

(17/509)


وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا وَإِذًا لَا يَلْبَثُونَ خِلَافَكَ إِلَّا قَلِيلًا (76)

القول في تأويل قوله تعالى : { وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الأرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا وَإِذًا لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلا قَلِيلا (76) }
يقول عزّ وجلّ : وإن كاد هؤلاء القوم ليستفزونك من الأرض : يقول : ليستخفونك من الأرض التي أنت بها ليخرجوك منها( وَإِذًا لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلا قَلِيلا ) يقول : ولو أخرجوك منها لم يلبثوا بعدك فيها إلا قليلا حتى أهلكهم بعذاب عاجل.
واختلف أهل التأويل في الذين كادوا أن يستفزّوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ليخرجوه من الأرض وفي الأرض التي أرادوا أن يخرجوه منها ، فقال بعضهم : الذين كادوا أن يستفزوا رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذلك اليهود ، والأرض التي أرادوا أن يخرجوه منها المدينة.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : ثنا المعتمر بن سليمان ، عن أبيه ، قال : زعم حضرميّ أنه بلغه أن بعض اليهود قال للنبيّ صلى الله عليه وسلم : إن أرض الأنبياء أرض الشام ، وإن هذه ليست بأرض الأنبياء ، فأنزل الله( وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الأرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا ) .
وقال آخرون : بل كان القوم الذين فعلوا ذلك قريشا ، والأرض مكة.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله( وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الأرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا وَإِذًا لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلا قَلِيلا ) وقد همّ أهل مكة بإخراج النبيّ صلى الله عليه وسلم من مكة ، ولو فعلوا ذلك لما توطنوا ، ولكن الله كفهم عن إخراجه حتى أمره ، ولقلما مع ذلك لبثوا بعد خروج نبيّ الله صلى الله عليه وسلم من مكة حتى بعث الله عليهم القتل يوم بدر.
حدثني محمد بن عبد الأعلى ، قال : ثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة( لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الأرْضِ ) قال : قد فعلوا بعد ذلك ، فأهلكهم الله يوم بدر ، ولم يلبثوا بعده إلا قليلا حتى أهلكهم الله يوم بدر. وكذلك كانت سنَّة الله في الرسل إذا فعل بهم قومهم مثل ذلك.

(17/510)


حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ؛ وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد( خِلافَكَ إِلا قَلِيلا ) قال : لو أخرجت قريش محمدا لعذّبوا بذلك.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله.
وأولى القولين في ذلك عندي بالصواب ، قول قتادة ومجاهد ، وذلك أن قوله( وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الأرْضِ ) في سياق خبر الله عزّ وجلّ عن قريش وذكره إياهم ، ولم يجر لليهود قبل ذلك ذكر ، فيوجه قوله( وَإِنْ كَادُوا ) إلى أنه خبر عنهم ، فهو بأن يكون خبرا عمن جرى له ذكر أولى من غيره. وأما القليل الذي استثناه الله جلّ ذكره في قوله( وَإِذًا لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلا قَلِيلا ) فإنه فيما قيل ، ما بين خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة إلى أن قتل الله من قتل من مشركيهم ببدر.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله( وَإِذًا لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلا قَلِيلا ) يعني بالقليل يوم أخذهم ببدر ، فكان ذلك هو القليل الذي لبثوا بعد.
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : ثنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله( وَإِذًا لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلا قَلِيلا ) كان القليل الذي لبثوا بعد خروج النبيّ من بين أظهرهم إلى بدر ، فأخذهم بالعذاب يوم بدر.
وعُني بقوله خلافك بعدك ، كما قال الشاعر :
عَقَبَ الرذاذ خِلافَها فكأنَّمَا... بسَط الشَّواطِبُ بَيْنَهُنَّ حَصِيرًا (1)
__________
(1) البيت للحارث بن خالد المخزومي (اللسان : خلف). شاهد على أن خلافك بمعنى بعدك. وقد سبق استشهاد المؤلف به عند تفسير قوله تعالى " فرح المخلفون بمقعدهم خلاف رسول الله " (الجزاء 10 : 200). ورواية المؤلف هنا تختلف عنها عند الآية من سورة التوبة ففيها عقب الربيع خلافهم فكأنما
. وفي (اللسان : عقب) عقب الرذاذ خلافهم فكأنما
وفي مجاز القرآن لأبي عبيدة (1 : 387) : عفت الديار خلافها فكأنما

(17/511)


سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا وَلَا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلًا (77) أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآَنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآَنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا (78)

يعني بقوله : خلافها : بعدها. وقد حُكي عن بعضهم أنه كان يقرؤها : خلفك. ومعنى ذلك ، ومعنى الخلاف في هذا الموضع واحد.
القول في تأويل قوله تعالى : { سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا وَلا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلا (77) }
يقول تعالى ذكره : لو أخرجوك لم يلبثوا خلافك إلا قليلا ولأهلكناهم بعذاب من عندنا ، سنتنا فيمن قد أرسلنا قبلك من رسلنا ، فإنا كذلك كنا نفعل بالأمم إذا أخرجت رسلها من بين أظهرهم ، ونصبت السنة على الخروج من معنى قوله( لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلا قَلِيلا ) لأن معنى ذلك : لعذّبناهم بعد قليل كسنتنا في أمم من أرسلنا قبلك من رسلنا ، ولا تجد لسنتنا تحويلا عما جرت به.
كما حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله( سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا وَلا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلا ) : أي سنة الأمم والرسل كانت قبلك كذلك إذا كذبوا رسلهم وأخرجوهم ، لم يناظروا أن الله أنزل عليهم عذابه.
القول في تأويل قوله تعالى : { أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا (78) }
يقول تعالى ذكره لنبيّه محمد صلى الله عليه وسلم( أَقِمِ الصَّلاةَ ) يا محمد( لِدُلُوكِ الشَّمْسِ ) .
واختلف أهل التأويل في الوقت الذي عناه الله بدلوك الشمس ، فقال بعضهم : هو وقت غروبها ، والصلاة التي أمر بإقامتها حينئذ : صلاة المغرب .

(17/512)


* ذكر من قال ذلك :
حدثني واصل بن عبد الأعلى الأسدي ، قال : ثنا ابن فضيل ، عن أبي إسحاق ، يعني الشيباني ، عن عبد الرحمن بن الأسود ، عن أبيه ، أنه كان مع عبد الله بن مسعود ، على سطح حين غربت الشمس ، فقرأ( أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ ) . حتى فرغ من الآية ، ثم قال : والذي نفسي بيده إن هذا لَحِينَ دَلَكَتِ الشمس وأفطر الصائم ووقت الصلاة.
حدثنا ابن بشار قال : ثنا ابن أبي عدي ، عن سعيد ، عن قتادة ، عن عقبة بن عبد الغافر ، أن عُبيدة بن عبد الله كتب إليه أن عبد الله بن مسعود كان إذا غربت الشمس صلى المغرب. ويفطر عندها إن كان صائما ، ويقسم عليها يمينا ما يقسمه على شيء من الصلوات بالله الذي لا إله إلا هو ، إن هذه الساعة لميقات هذه الصلاة ، ويقرأ فيها تفسيرها من كتاب الله( أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ ) .
حدثنا محمد بن المثنى ، قال : ثنا ابن أبي عديّ ، عن شعبة ، عن عاصم ، عن أبي وائل ، عن عبد الله قال : هذا دلوك الشمس ، وهذا غسق الليل ، وأشار إلى المشرق والمغرب.
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا عبد الرحمن ، قال : ثنا سفيان ، عن منصور ، عن مجاهد ، قال : قال ابن عباس : دلوك الشمس. غروبها ، يقول : دلكت براح.
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا الثوري ، عن أبي إسحاق. عن الأسود ، عن عبد الله ، أنه قال : حين غربت الشمس دلكت ، يعني براح مكانا.
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا الثوري ، عن منصور ، عن مجاهد ، عن ابن عباس ، قال : دلوكها : غروبها.

(17/513)


حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قال : قد ذكر لنا أن ابن مسعود كان يصليها إذا وجبت وعندها يفطر إذا كان صائما ، ثم يقسم عليها قسما لا يقسمه على شيء من الصلوات بالله الذي لا إله إلا هو ، إن هذه الساعة لميقات هذه الصلاة ، ثم يقرأ ويصليها وتصديقها من كتاب الله( أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ ) .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله( أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ ) قال : كان أبي يقول : دلوكها : حين تريد الشمس تغرب إلى أن يغسق الليل ، قال : هي المغرب حين يغسق الليل ، وتَدلُك الشمس للغروب.
حدثني سعيد بن الربيع ، قال : ثنا سفيان بن عيينة ، سمع عمرو بن دينار أبا عُبيدة بن عبد الله بن مسعود يقول : كان عبد الله بن مسعود يصلي المغرب حين يغرب حاجب الشمس ، ويحلف أنه الوقت الذي قال الله( أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ ) .
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا جرير ، عن مغيرة ، عن إبراهيم ، قال : قال عبد الله حين غربت الشمس : هذا والله الذي لا إله غيره وقت هذه الصلاة. وقال : دلوكها : غروبها.
وقال آخرون : دلوك الشمس : ميلها للزوال ، والصلاة التي أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بإقامتها عند دلوكها : الظهر.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا عبد الرحمن ، قال : ثنا سفيان ، عن الأعمش ، عن عمارة بن عمير ، عن عبد الرحمن بن يزيد ، عن عبد الله ، قال : دلوكها : ميلها ، يعني الشمس.
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : ثنا هشيم ، عن مغيرة ، عن الشعبيّ ، عن ابن عباس ، قال ، في قوله( أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ ) قال : دلوكها : زوالها.

(17/514)


حدثني موسى بن عبد الرحمن ، قال : ثنا أبو أسامة ، عن عبد الحميد بن جعفر ، عن نافع ، عن ابن عمر ، في قوله( أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ ) قال : دلوكها : ميلها.
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا يحيى بن واضح ، قال : ثنا الحسين بن واقد ، عن سيار بن سلامة ، عن أبي برزة الأسلميّ ، قوله( أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ ) قال : إذا زالت.
حدثنا ابن حميد مرة أخرى ، قال : ثنا أبو تميلة ، قال : ثنا الحسين بن واقد ، قال : ثنا سيار بن سلامة الرياحي ، قال : أتيت أبا برزة فسأله والدي عن مواقيت صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي الظهر إذا زالت الشمس ، ثم تلا( أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ ) .
حدثني الحسين بن عليّ الصدائي ، قال : ثنا أبي ، قال : ثنا مبارك ، عن الحسن ، قال : قال الله عزّ وجلّ لنبيّه محمد صلى الله عليه وسلم( أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ ) قال : الظهر دلوكها ، إذا زالت عن بطن السماء ، وكان لها في الأرض فيء.
حدثنا يعقوب ، قال : ثنا هشيم ، قال : أخبرنا يونس ، عن الحسن ، في قوله( أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ ) قال : دلوكها : زوالها.
حدثني يعقوب ، قال : ثنا هشيم ، عن جويبر ، عن الضحاك ، مثل ذلك.
حدثنا أبو كريب ، قال : ثنا ابن يمان ، عن أشعث ، عن جعفر ، عن أبي جعفر في( أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ ) قال : لزوال الشمس.
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن الزهري ، عن ابن عباس ، قال دلوك الشمس : زيغها بعد نصف النهار ، يعني الظلّ.

(17/515)


حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : دلوك الشمس ، قال : حين تزيغ عن بطن السماء.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله( أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ ) أي إذا زالت الشمس عن بطن السماء لصلاة الظهر.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ؛ وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد( لِدُلُوكِ الشَّمْسِ ) قال : حين تزيغ.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد قال : دلوك الشمس : حين تزيغ.
وأولى القولين في ذلك بالصواب قول من قال : عنى بقوله( أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ ) : صلاة الظهر ، وذلك أن الدلوك في كلام العرب : الميل ، يقال منه : دلك فلان إلى كذا : إذا مال إليه. ومنه الخبر الذي رُوي عن الحسن أن رجلا قال له : أيُدالك الرجل امرأته ؟ يعني بذلك : أيميل بها إلى المماطلة بحقها. ومنه قول الراجز :
هَذَا مَقامُ قَدَميْ رَباحِ... غُدْوَةَ حتى دَلَكَتْ بِرَاحِ (1)
__________
(1) الرجز من شواهد الفراء في معاني القرآن (مصورة الجامعة ص 181) وروايته فيه : " ذبب " في موضع " غدوة " وهي كرواية (اللسان : برح). قال الفراء : " أقم الصلاة لدلوك الشمس " : جاء عن ابن عباس قال ، هو زيغوغتها وزوالها للظهر. قال أبو زكريا : ورأيت العرب تذهب بالدلوك إلى غياب الشمس أنشدني بعضهم " هذا مقامي....البيت " يعني الساقي - ذبب - طرد الناس يراح : يقول حتى قال بالراحة على العين ، فينظر هل غابت ؟ قال : هكذا فسروه لنا. وقال أبو عبيدة في مجاز القرآن (1 : 387) : ودلوك الشمس من عند زوالها إلى أن تغيب. وقال : " هذا مقام " ... البيت ألا ترى أنها تدفع بالراح يضع كفه على حاجبيه من شعاعها لينظر ما بقي من غيابها. والدلوك : دنوها من غيبوبتها. وقال أبو زيد الأنصاري في النوادر (ص 88) : ويقال : دلكت براح وبراح (بفتح الباء ، وكسر الحاء أو ضمها) وهو اسم للشمس معروف. قال الراجز : هَذَا مَقَامُ قَدَمْى رَباحِ ... غُدْوَةَ حتى دَلَكَتْ بَرَاحِ
قال أبو حاتم : براح : أي براحة. وفي (اللسان : برح) : وبراح وبراح (بالباء مفتوحة وكسر الحاء وضمها) : اسم للشمس معرفة مثل قطام ، سميت بذلك لانتشارها وبيانها.

(17/516)


ويروى : براح بفتح الباء ، فمن روى ذلك : بِراح ، بكسر الباء ، فإنه يعني : أنه يضع الناظر كفه على حاجبه من شعاعها ، لينظر ما لقي من غيارها ، وهذا تفسير أهل الغريب أبي عُبيدة والأصمعي وأبي عمرو الشيبانيّ وغيرهم. وقد ذكرت في الخبر الذي رويت عن عبد الله بن مسعود ، أنه قال حين غربت الشمس : دلكت براح ، يعني : براح مكانا ، ولست أدري هذا التفسير ، أعني قوله : براح مكانا مِنْ كلام من هو ممن في الإسناد ، أو من كلام عبد الله ، فإن يكن من كلام عبد الله ، فلا شك أنه كان أعلم بذلك من أهل الغريب الذين ذكرت قولهم ، وأن الصواب في ذلك قوله ، دون قولهم ، وإن لم يكن من كلام عبد الله ، فإن أهل العربية كانوا أعلم بذلك منه ، ولما قال أهل الغريب في ذلك شاهد من قول العجاج ، وهو قوله :
والشَّمْسُ قد كادَتْ تَكُونُ دَنَفا... أدْفَعُها بالرَّاح كَيْ تَزَحْلَفا (1)
فأخبر أنه يدفع شعاعها لينظر إلى مغيبها براحه. ومن روى ذلك بفتح الباء ، فإنه جعله اسما للشمس وكسر الحاء لإخراجه إياه على تقدير قَطامِ وحَذامِ ورَقاشِ ، فإذا كان معنى الدلوك في كلام العرب هو الميل ، فلا شكّ أن الشمس إذا زالت عن كبد السماء ، فقد مالت للغروب ، وذلك وقت صلاة الظهر ، وبذلك ورد الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وإن كان في إسناد بعضه بعض النظر.
حدثنا أبو كريب ، قال : ثنا خالد بن مخلد ، قال : ثني محمد بن جعفر ، قال : ثني يحيى بن سعيد ، قال : ثني أبو بكر بن عمرو بن حزم الأنصاري ، عن أبي مسعود عقبة بن عمرو ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أتاني جُبْرَائِيلُ عَلَيْهِ السَّلامُ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ حِينَ زَالَتْ فَصَلَّى بِيَ الظُّهْرَ " .
__________
(1) البيتان من مشطور الرجز للعجاج (ديوانه طبع ليبسج سنة 1903 ص 82 من أرجوزة عدتها 81 بيتا) وهي في زوائد الديوان ، لا في أصله. وهما من شواهد أبي عبيدة في مجاز القرآن (1 : 388) قال : في دلوك الشمس : ألا ترى أنها تدفع بالراح : يضع كفه على حاجبيه من شعاعها لينظر ما بقي من غيابها ، والدلوك دنوها من غيبوبتها. قال العجاج : " والشمس... إلخ " . وفي (اللسان : تزحلف) ويقال للشمس إذا مالت للمغيب ، إذا زالت عن كبد السماء نصف النهار : قد تزحلفت. قال العجاج : " والشمس... إلخ " .

(17/517)


حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا أبو تميلة ، قال : ثنا الحسين بن واقد ، قال : ثني سيار بن سلامة الرياحي ، قال : قال أبو بَرزة : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي الظهر إذا زالت الشمس ، ثم تلا( أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ ) .
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا الحكم بن بشير ، قال : ثنا عمرو بن قيس ، عن ابن أبي ليلى ، عن رجل ، عن جابر بن عبد الله ، قال : دعوت نبيّ الله صلى الله عليه وسلم ومن شاء من أصحابه ، فطعموا عندي ، ثم خرجوا حين زالت الشمس ، فخرج النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال : " اخْرُجْ يا أبا بَكْرٍ قَدْ دَلَكَتِ الشَّمْسُ " .
حدثني محمد بن عثمان الرازي ، قال : ثنا سهل بن بكار ، قال : ثنا أبو عوانة ، عن الأسود بن قيس ، عن نُبَيح العَنزيّ ، عن جابر بن عبد الله ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم ، نحو حديث ابن حميد.
فإذا كان صحيحا ما قلنا بالذي به استشهدنا ، فبين إذن أن معنى قوله جلّ ثناؤه( أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ

(17/518)


الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ ) أن صلاة الظهر والعصر بحدودهما مما أوجب الله عليك فيهما لأنهما الصلاتان اللتان فرضهما الله على نبيّه من وقت دلوك الشمس إلى غسق الليل ، وغسق الليل : هو إقباله ودنوه بظلامه ، كما قال الشاعر :
آبَ هَذَا اللَّيْلُ إذْ غَسَقَا (1)
وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل على اختلاف منهم في الصلاة التي أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بإقامتها عنده ، فقال بعضهم : الصلاة التي أمر بإقامتها عنده صلاة المغرب.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله( أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ ) قال : غسق الليل : بدوّ الليل.
حدثني يعقوب ، قال : ثنا ابن علية ، عن أبي رجاء ، قال : سمعت عكرمة سئل عن هذه الآية( أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ ) قال : بدوّ الليل.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قال : غسق الليل : غروب الشمس.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : ثنا محمد عن ثور ، عن معمر ، عن قتادة( غَسَقِ اللَّيْلِ ) : صلاة المغرب. حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ ) بدو الليل لصلاة المغرب. وقد ذُكر لنا أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم كان يقول : " لا تَزَالُ طائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي عَلَى الْفِطْرَةِ مَا صَلَّوْا الْمَغْرِبَ قَبْلَ أنْ تَبْدُوَ النُّجُومُ " .
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : ثنا عبيد. قال : سمعت الضحاك يقول في قوله( إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ ) يعني ظلام الليل.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد : كان أبي يقول( غَسَقِ اللَّيْلِ ) : ظلمة الليل.
وقال آخرون : هي صلاة العصر.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا أبو كريب ، قال : ثنا ابن يمان ، عن أشعث ، عن جعفر ، عن أبي جعفر( إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ ) قال : صلاة العصر.
وأولى القولين في ذلك بالصواب ، قول من قال : الصلاة التي أمر النبيّ صلى الله عليه وسلم بإقامتها عند غسق الليل ، هي صلاة المغرب دون غيرها ، لأن غسق الليل هو ما وصفنا من إقبال الليل وظلامه ، وذلك لا يكون إلا بعد مغيب الشمس. فأما صلاة العصر ، فإنها مما تقام بين ابتداء دلوك الشمس إلى
__________
(1) هذا صدر بيت ، لعبيد الله بن قيس الرقيات. وعجز * واشتكيت الهم والأرقا *
واستشهد به على أن معنى " غسق الليل " : ظلامه. (مجاز القرآن لأبي عبيدة 1 : 388) ورواية أبي عبيدة * إن هذا الليل قد غسقا *
وتؤيدها رواية اللسان أيضا. قال : غسق الليل يغسق (كيضرب) غسقا وغسقانا ، وأغسق : عن ثعلب : انصت وأظلم ، ومنه قول ابن الرقيات * إن هطا الليل قد غسقا *
.

(17/519)


غسق الليل ، لا عند غسق الليل ، وأما قوله( وَقُرْآنَ الْفَجْرِ ) فإن معناه وأقم قرآن الفجر : أي ما تقرأ به صلاة الفجر من القرآن ، والقرآن معطوف على الصلاة في قوله( أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ ) .
وكان بعض نحويي البصرة يقول : نصب قوله( وَقُرْآنَ الْفَجْرِ ) على الإغراء ، كأنه قال : وعليك قرآن الفجر( إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا ) يقول : آن ما تقرأ به في صلاة الفجر من القرآن كان مشهودا ، يشهده فيما ذكر ملائكة الليل وملائكة النهار.
وبالذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل : وجاءت الآثار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .
* ذكر من قال ذلك :
حدثني عبيد بن أسباط بن محمد القرشي ، قال : ثني أبي ، عن الأعمش ، عن إبراهيم ، عن ابن مسعود عن أبي صالح ، عن أبي هريرة ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم في هذه الآية( وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا ) قال : " تَشْهَدُهُ مِلائِكَةُ اللَّيْلِ وَمَلائِكَةُ النَّهارِ " .
حدثنا محمد بن سهل ، قال : ثنا آدم ، قال : ثنا ليث بن سعد ، وحدثنا محمد بن سهل بن عسكر ، قال ثنا ابن أبي مريم ، قال : ثنا الليث بن سعد ، عن زيادة بن محمد ، عن محمد بن كعب القرظي ، عن فضالة بن عبيد ، عن أبي الدرداء ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إِنَّ الله يَفْتَحُ الذّكْرَ فِي ثَلاثِ ساعات يَبْقِينَ مِنَ اللَّيْلِ : في السَّاعَةِ الأولى مِنْهُنَّ يَنْظُرُ فِي الكِتابِ الَّذِي لا يَنْظُرُ فِيهِ أحدٌ غيرُه فَيَمْحُوا ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ ، ثُمَّ يَنزلُ فِي السَّاعَةِ الثَّانِيَةِ إلى جَنَّةِ عَدْنٍ ، وَهيَ دَارُهُ الَّتي لَمْ تَرَها عَيْنٌ ، وَلا تَخْطُرُ عَلى قَلْبِ بَشَرٍ ، وَهيَ مَسْكَنُهُ ، وَلا يَسْكُنُ مَعَهُ منْ بَنِي آدَمَ غيرُ ثَلاثَةٍ : النَّبِيِّينَ والصّدَيقِينَ والشُّهَدَاءِ ثُمَّ يَقُولُ : طُوبَى لِمَنْ دَخَلَكِ ، ثُمَّ يَنزلُ فِي السَّاعَةِ الثَّالِثَةِ إلى السَّمَاءِ الدُّنْيَا بِرُوحِهِ وَمَلائكَتِهِ فتنتفض ، فَيَقُولُ : قُومي بعَوْنِي ، ثُمَّ يَطَّلعُ إلى عِبادِهِ ، فَيَقُولُ : مَنْ يَسْتَغْفِرُنِي أغْفِرْ لَهُ ، مَنْ يَسْأَلْنِي أُعْطِهِ ، مَنْ يَدْعونِي فَأسْتَجِيبَ لَهُ حتى يَطْلُعَ الفَجْرُ ، فذلك حين يقول( وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا ) قال

(17/520)


موسى في حديثه : شهده الله وملائكة الليل وملائكة النهار. وقال ابن عسكر في حديثه : فيشهده الله وملائكة الليل وملائكة النهار.
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا ابن أبي عديّ ، عن سعيد ، عن قتادة ، عن عقبة بن عبد الغافر ، قال : قال أبو عُبيدة بن عبد الله : كان عبد الله يحدث أن صلاة الفجر عندها يجتمع الحرسان من ملائكة الله ، ويقرأ هذه الآية( وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا ) .
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا ) وقرآن الفجر : صلاة الصبح ، كنا نحدّث أن عندها يجتمع الحَرَسان من ملائكة الله حَرَس الليل وحَرَس النهار.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : ثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة( وَقُرْآنَ الْفَجْرِ ) صلاة الفجر.
وأما قوله( كَانَ مَشْهُودًا ) فإنه يقول : ملائكة الليل وملائكة النهار يشهدون تلك الصلاة.
حدثنا ابن المثنى ، قال : ثنا محمد بن جعفر ، قال : ثنا شعبة ، عن عمرو بن مرّة ، عن أبي عُبيدة ، عن عبد الله أنه قال في هذه الآية( وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا ) قال : تنزل ملائكة النهار وتصعد ملائكة الليل.
حدثني أبو السائب ، قال : ثنا ابن فضيل ، عن ضرار بن عبد الله بن أبي الهُذيل ، عن أبي عبيدة ، في قوله( وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا ) قال : يشهده حرس الليل وحرس النهار من الملائكة في صلاة الفجر.
حدثنا أبو السائب ، قال : ثنا أبو معاوية ، عن الأعمش ، عن إبراهيم ، في قوله( وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا ) قال : كانوا يقولون تجتمع ملائكة الليل وملائكة النهار في صلاة الفجر فتشهد فيها جميعا ، ثم يصعد هؤلاء ويقيم هؤلاء.
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس( وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا ) يعني صلاة الصبح.

(17/521)


حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ؛ وحدثني الحارث قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد( وَقُرْآنَ الْفَجْرِ ) قال : صلاة الصبح.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد( وَقُرْآنَ الْفَجْرِ ) صلاة الصبح( إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا ) قال : تجتمع في صلاة الفجر ملائكة الليل وملائكة النهار.
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : ثنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله( وَقُرْآنَ الْفَجْرِ ) يعني صلاة الغداة.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد( وَقُرْآنَ الْفَجْرِ ) قال : صلاة الفجر( إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا ) قال : مشهودا من الملائكة فيما يذكرون. قال : وكان عليّ بن أبي طالب ، وأُبيّ بن كعب يقولان : الصلاة الوسطى التي حضّ الله عليها : صلاة الصبح. قال : وذلك أن صلاة الظهر وصلاة العصر : صلاتا النهار ، والمغرب والعشاء : صلاتا الليل ، وهي بينها ، وهي صلاة نوم ، ما نعمل صلاة يُغفل عنها مثلها.
حدثني يعقوب ، قال : ثنا ابن علية ، عن الجريري ، عن أبي الورد بن ثمامة ، عن أبي محمد الحضرمي ، قال : ثنا كعب في هذا المسجد ، قال : والذي نفس كعب بيده ، إن هذه الآية( وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا ) إنها لصلاة الفجر إنها لمشهودة.
حدثني الحسن بن عليّ بن عباس ، قال : ثنا بشر بن شعيب ، قال : أخبرني أبي ، عن الزهري ، قال : ثني سعيد بن المسيب ، وأبو سلمة بن عبد الرحمن ، أن أبا هريرة قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " تَجْتَمِعُ مَلائِكَةُ اللَّيْلُ وَمَلائِكَةُ النَّهارِ فِي صَلاةِ الفَجْرِ " ، ثم يقول أبو هريرة : اقرءوا إن شئتم( وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا ) .

(17/522)


وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا (79)

حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا جرير ، عن منصور ، عن مجاهد ، في قوله( وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا ) قال : صلاة الفجر تجتمع فيها ملائكة الليل وملائكة النهار.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا (79) }
يقول تعالى ذكره لنبيّه محمد صلى الله عليه وسلم ومن الليل فاسهر بعد نومة يا محمد بالقرآن ، نافلة لك خالصة دون أمتك. والتهجد : التيقظ والسهر بعد نومة من الليل. وأما الهجود نفسه : فالنوم ، كما قال الشاعر :
ألا طَرَقَتْنا والرّفاقُ هُجُودُ... فَباتَتْ بِعُلاتِ النَّوَالِ تَجُودُ (1)
وقال الحطيئة
ألا طَرَقَتْ هِنْدُ الهُنُودِ وَصُحْبَتِي... بِحَوْرَانَ حَورَانِ الجُنُودِ هُجُودُ (2)
وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عبد الله بن عبد الحكم ، قال : ثنا أبي وشعيب بن الليث ، عن الليث ، عن مجاهد بن يزيد ، عن أبي هلال ، عن الأعرج أنه قال : أخبرني حميد بن عبد الرحمن بن عوف ، عن رجل من الأنصار ، أنه كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر ، فقال : لأنظرنّ كيف يصلي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : فنام رسول الله صلى الله عليه
__________
(1) البيت لم أقف على قائله. وهجود : يجوز أن يكون مصدر هجد يهجد هجودا إذا نام ، ويكون المراد منه : والرفاق ذوو هجود أو والرفاق هاجدون ، فيكون بمعنى المشتق. ويجوز أن يكون هجود جمعا لهاجد بلا تأويل ، كعقود جمع قاعد ، وجلوس جمع جالس وحضور جمع حاضر. والعلات : جمع علة اسم للمرة من العل ، وهو السقي الثاني بعد الأول. والنوال : ما يعطيه الحبيب حبيبه من ثمرة الحب.
(2) البيت للحطيئة (ديوانه طبعة الحميدية ص 103). وقال شارحه : كل كورة من كور الشام : جند. وهجود : جمع هاجد ، وهو النائم ، ومثله قعود : جمع قاعد. ومحل الشاهد أن الهجود في الآية معناه : النوم ، كما في بيت الحطيئة. مصدر هجد يهجد هجودا إذا نام. ويكون المصدر في معنى المشتق ، أو يكون على معنى : والرفاق " ذوو هجود " ثم حذف المضاف ، وأقيم المصدر مقامه.

(17/523)


وسلم ، ثم استيقظ ، فرفع رأسه إلى السماء ، فتلا أربع آيات من آخر سورة آل عمران( إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ ) حتى مرّ بالأربع ، ثم أهوى إلى القربة ، فأخذ سواكا فاستنّ به ، ثم توضأ ، ثم صلى ، ثم نام ، ثم استيقظ فصنع كصنعه أوّل مرّة ، ويزعمون أنه التهجد الذي أمره الله.
حدثني محمد بن المثنى ، قال : ثنا محمد بن جعفر وعبد الرحمن ، قالا ثنا سعيد ، عن أبي إسحاق ، عن محمد بن عبد الرحمن ، عن علقمة والأسود أنهما قالا التهجد بعد نومة.
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا أبو عامر ، قال : ثنا سفيان ، عن أبي إسحاق ، عن عبد الرحمن بن الأسود ، قال : التهجد : بعد نومة.
حدثنا ابن المثنى ، قال : ثنا يحيى بن سعيد ، عن شعبة ، قال : ثني أبو إسحاق ، عن محمد بن عبد الرحمن بن يزيد ، عن علقمة والأسود ، بمثله.
حدثني الحارث ، قال : ثنا القاسم ، قال : ثنا هشيم ، عن الأعمش ، عن إبراهيم ، عن علقمة ، قال : التهجد : بعد النوم.
حدثني الحارث ، قال : ثنا القاسم ، قال : ثنا يزيد ، عن هشام ، عن الحسن ، قال : التهجد : ما كان بعد العشاء الآخرة.
حُدثت عن عبد الله بن صالح ، عن الليث ، عن جعفر بن ربيعة ، عن الأعرج ، عن كثير بن العباس ، عن الحجاج بن عمرو ، قال : إنما التهجد بعد رقدة.
وأما قوله( نَافِلَةً لَكَ ) فإنه يقول : نفلا لك عن فرائضك التي فرضتها عليك.
واختُلف في المعنى الذي من أجله خصّ بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، مع كون صلاة كلّ مصلّ بعد هجوده ، إذا كان قبل هجوده قد كان أدّى فرائضه نافلة نفلا إذ كانت غير واجبة عليه ، فقال بعضهم : معنى خصوصه بذلك : هو أنها كانت فريضة عليه ، وهي لغيره تطوّع ، وقيل له : أقمها نافلة لك : أي فضلا لك من الفرائض التي فرضتها عليك عما فرضت على غيرك.

(17/524)


* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله( وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ ) يعني بالنافلة أنها للنبيّ صلى الله عليه وسلم خاصة ، أُمر بقيام الليل وكُتب عليه.
وقال آخرون : بل قيل ذلك له صلى الله عليه وسلم لأنه لم يكن فعله ذلك يكفِّر عنه شيئا من الذنوب ، لأن الله تعالى كان قد غفر له ما تقدّم من ذنبه وما تأخَّر ، فكان له نافلة فضل ، فأما غيره فهو له كفارة ، وليس هو له نافلة.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن عبد الله بن كثير ، عن مجاهد ، قال : النافلة للنبيّ صلى الله عليه وسلم خاصة من أجل أنه قد غُفر له ما تقدّم من ذنبه وما تأخَّر ، فما عمل من عمل سوى المكتوبة ، فهو نافلة من أجل أنه لا يعمل ذلك في كفارة الذنوب ، فهي نوافل وزيادة ، والناس يعملون ما سوى المكتوبة لذنوبهم في كفارتها ، فليست للناس نوافل.
وأولى القولين بالصواب في ذلك ، القول الذي ذكرنا عن ابن عباس ، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان الله تعالى قد خصه بما فرض عليه من قيام الليل ، دون سائر أمته ، فأما ما ذكر عن مجاهد في ذلك ، فقول لا معنى له ، لأن رسول الله فيما ذُكِر عنه أكثر ما كان استغفارا لذنوبه بعد نزول قول الله عزّ وجلّ عليه( لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ ) وذلك أن هذه السورة أنزلت عليه بعد مُنْصَرَفه من الحديبية ، وأنزل عليه( إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ ) عام قبض. وقيل له فيها( فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا ) فكان يُعدُّ له صلى الله عليه وسلم في المجلس الواحد استغفار مائة مرّة ومعلوم أن الله لم يأمره أن يستغفر إلا لما يغفر له باستغفاره ذلك ، فبين إذن وجه فساد ما قاله مجاهد.
حدثنا ابن وكيع ، قال : ثنا أبي ، عن الأعمش ، عن شمر عن عطية ، عن شهر ، عن أبي أمامة ، قال : إنما كانت النافلة للنبيّ صلى الله عليه وسلم.

(17/525)


حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة( نَافِلَةً لَكَ ) قال : تطوّعا وفضيلة لك.
وقوله( عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا ) وعسى من الله واجبة ، وإنما وجه قول أهل العلم : عسى من الله واجبة ، لعلم المؤمنين أن الله لا يدع أن يفعل بعباده ما أطمعهم فيه من الجزاء على أعمالهم والعوض على طاعتهم إياه ليس من صفته الغرور ، ولا شكّ أنه قد أطمع من قال ذلك له في نفعه ، إذا هو تعاهده ولزمه ، فإن لزم المقول له ذلك وتعاهده ثم لم ينفعه ، ولا سبب يحول بينه وبين نفعه إياه مع الأطماع الذي تقدم منه لصاحبه على تعاهده إياه ولزومه ، فإنه لصاحبه غارّ بما كان من إخلافه إياه فيما كان أطمعه فيه بقوله الذي قال له. وإذ كان ذلك كذلك ، وكان غير جائز أن يكون جلّ ثناؤه من صفته الغرور لعباده صحّ ووجب أن كلّ ما أطمعهم فيه من طمع على طاعته ، أو على فعل من الأفعال ، أو أمر أو نهى أمرهم به ، أو نهاهم عنه ، فإنه موف لهم به ، وإنهم منه كالعدة التي لا يخلف الوفاء بها ، قالوا : عسى ولعلّ من الله واجبة.
وتأويل الكلام : أقم الصلاة المفروضة يا محمد في هذه الأوقات التي أمرتك بإقامتها فيها ، ومن الليل فتهجد فرضا فرضته عليك ، لعل ربك أن يبعثك يوم القيامة مقاما تقوم فيه محمودا تحمده ، وتغبط فيه.
ثم اختلف أهل التأويل في معنى ذلك المقام المحمود ، فقال أكثر أهل العلم : ذلك هو المقام الذي هو يقومه صلى الله عليه وسلم يوم القيامة للشفاعة للناس ليريحهم ربهم من عظيم ما هم فيه من شدّة ذلك اليوم.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن بشار ، قال : ثنا عبد الرحمن ، قال : ثنا سفيان ، عن أبي إسحاق ، عن صلة بن زُفَر ، عن حُذيفة ، قال : يجمع الناس في صعيد واحد ، فيسمعهم الداعي ، وينفذهم البصر ، حفاة عراة كما خُلقوا ، قياما لا تكلَّم نفس إلا بإذنه ، ينادى : يا محمد ، فيقول : لبيك وسعديك والخير في يديك ، والشرّ ليس إليك ، والمهديّ من هَدَيت ، عبدك بين يديك ، وبك وإليك ، لا ملجأ ولا منجا منك إلا إليك ، تبارك وتعاليت ، سبحانك ربّ هذا البيت ؛ فهذا المقام المحمود الذي ذكره الله تعالى.

(17/526)


حدثنا محمد بن المثنى ، قال : ثنا محمد بن جعفر ، قال : ثنا شعبة ، عن أبي إسحاق ، عن صلة بن زُفر ، عن حُذيفة ، قال : يُجْمع الناس في صعيد واحد. فلا تكَلَّم نفس ، فأوّل ما يدعو محمد النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فيقوم محمد النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فيقول : لبيك ، ثم ذكر مثله.
حدثنا سليمان بن عمرو بن خالد الرقي ، قال : ثنا عيسى بن يونس ، عن رشدين بن كريب ، عن أبيه عن ابن عباس ، قوله( عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا ) قال : المقام المحمود : مقام الشفاعة.
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا عبد الرحمن ، قال : ثنا سفيان ، عن سلمة بن كهيل ، قال : ثنا أبو الزعراء ، عن عبد الله في قصة ذكرها ، قال : ثم يؤمر بالصراط فيضرب على جسر جهنم ، فيمرّ الناس بقدر أعمالهم ؛ يمرّ أولهم كالبرق ، وكمرّ الريح ، وكمرّ الطير ، وكأسرع البهائم ، ثم كذلك حتى يمرّ الرجل سعيا ، ثم مشيا ، حتى يجيء آخرهم يتلبَّط على بطنه ، فيقول : ربّ لما أبطأت بي ، فيقول : إني لم أبطأ بك ، إنما أبطأ بك عملك ، قال : ثم يأذن الله في الشفاعة ، فيكون أوّل شافع يوم القيامة جبرائيل عليه السلام ، روح القُدس ، ثم إبراهيم خليل الرحمن ، ثم موسى ، أو عيسى قال أبو الزعراء : لا أدري أيهما قال ، قال : ثم يقوم نبيّكم صلى الله عليه وسلم رابعا ، فلا يشفع أحد بعده فيما يشفع فيه ، وهو المقام المحمود الذي ذكر الله( عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا ) .
حدثنا محمد بن بشار ، قال : ثنا ابن أبي عديّ ، عن عوف ، عن الحسن في قول الله تعالى( وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا ) قال : المقام المحمود : مقام الشفاعة يوم القيامة.
حدثنا محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى : وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قول الله تعالى( مَقَامًا مَحْمُودًا ) قال : شفاعة محمد يوم القيامة.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله.

(17/527)


حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثنا أبو معاوية ، عن عاصم الأحول ، عن أبي عثمان ، عن سلمان ، قال : هو الشفاعة ، يشفعه الله في أمته ، فهو المقام المحمود.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله( عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا ) وقد ذُكر لنا أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم خير بين أن يكون نبيّا عبدا ، أو ملكا نبيّا ، فأومأ إليه جبرائيل عليه السلام : أن تَوَاضَعْ ، فاختار نبيّ الله أن يكون عبدا نبيّا ، فأُعْطِي به نبيّ الله ثنتين : إنه أوّل من تنشقّ عنه الأرض ، وأوّل شافع. وكان أهل العلم يَرَوْن أنه المقام المحمود الذي قال الله تبارك وتعالى( عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا ) شفاعة يوم القيامة.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : ثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة( مَقَامًا مَحْمُودًا ) قال : هي الشفاعة ، يشفِّعه الله في أمته.
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا مَعْمر والثوريّ ، عن أبي إسحاق ، عن صلة بن زُفَر ، قال : سمعت حُذيفة يقول في قوله( عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا ) قال : يجمع الله الناس في صعيد واحد حيث يُسْمعهم الداعي ، فَيَنْفُذُهم البصر حُفاة عُراة ، كما خُلِقوا سكوتا لا تكلَّم نفس إلا بإذنه ، قال : فينادَى محمد ، فيقول : لَبَّيك وسَعْديك ، والخيرُ في يديك ، والشرّ ليس إليك ، والمهديّ من هَدَيت ، وعبدُك بين يديك ، ولك وإليك ، لا ملْجَأَ ولا منجَى منك إلا إليك ، تباركت وتعاليت ، سبحانك ربّ البيت ، قال : فذلك المقامُ المحمودُ الذي ذكر الله( عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا ) .
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : ثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن أبي إسحاق ، عن صلة بن زُفَر ، قال حُذيفة : يجمع الله الناس في صعيد واحد ، حيث يَنْفُذُهم البصر ، ويُسْمعهم الداعي ، حُفاة عُراة كما خُلقوا أوّل مرّة ، ثم يقوم النبيّ صلى الله عليه وسلم فيقول : " لبيك وسعديك " ، ثم ذكر نحوه ، إلا أنه قال : هو المقام المحمود.

(17/528)


وقال آخرون : بل ذلك المقام المحمود الذي وعد الله نبيّه أن يبعثه إياه ، هو أن يقاعده معه على عرشه.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا عباد بن يعقوب الأسدي ، قال : ثنا ابن فضيل ، عن ليث ، عن مجاهد ، في قوله( عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا ) قال : يُجْلسه معه على عرشه.
وأولى القولين في ذلك بالصواب ما صحّ به الخبر عن رسول الله.
وذلك ما حدثنا به أبو كريب ، قال : ثنا وكيع ، عن داود بن يزيد ، عن أبيه ، عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم( عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا ) سئل عنها ، قال : " هِىَ الشَّفاعَةُ " .
حدثنا عليّ بن حرب ، قال : ثنا مَكّيّ بن إبراهيم ، قال : ثنا داود بن يزيد الأوْدِيّ ، عن أبيه ، عن أبي هريرة ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم في قوله( عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا ) قال : " هو المقام الذي أشفع فيه لأمتي " .
حدثنا أبو عُتبة الحِمْصِيّ أحمد بن الفَرَج ، قال : ثنا بقية بن الوليد ، عن الزُّبيديّ ، عن الزهريّ ، عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك ، عن كعب بن مالك ، أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال : " يُحْشَرُ النَّاسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، فَأَكُونُ أَنَا وَأُمَّتِي عَلَى تَلٍّ فَيَكْسُونِي رَبِّي حُلَّةً خَضْرَاءَ ، ثُمَّ يُؤْذَنُ لِي ، فَأَقُولُ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ أَقُولَ ، فَذَاكَ الْمَقَامُ الْمَحْمُودُ " .
حدثني محمد بن عبد الله بن عبد الحكم ، قال : ثنا شعيب بن الليث ، قال : ثني الليث ، عن عبيد الله بن أبي جعفر ، أنه قال : سمعت حمزة بن عبد الله بن عمر يقول : سمعت عبد الله بن عمر يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إِنَّ الشَّمْسَ لتَدْنُو حَتَّى يَبْلُغَ الْعَرَقُ نِصْفَ الأذُنِ ، فَبَيْنَما هُمْ كَذَلِكَ اسْتَغَاثُوا بِآدَمَ عَلَيْهِ السَّلامُ ، فَيَقُولُ لَسْتُ صَاحِبَ ذَلِكَ ثُمَّ بِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلامُ ، فَيَقُولُ كَذلكَ ، ثُمَّ بِمُحَمَّدٍ فَيَشْفَعُ بين الخلق حَتَّى يَأْخُذَ بِحَلْقَةِ الْجنة فَيَوْمَئِذٍ يَبْعَثُهُ اللَّهُ مَقَامًا مَحْمُودًا " .

(17/529)


حدثني أبو زيد عمر بن شَبَّة ، قال : ثنا موسى بن إسماعيل ، قال : ثنا سعيد بن زيد ، عن عليّ بن الحكم ، قال : ثني عثمان ، عن إبراهيم ، عن الأسود وعلقمة ، عن ابن مسعود ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إِنِّي لأقُومُ المَقَامَ المَحْمُودَ " فقال رجل : يا رسول الله ، وما ذلك المقام المحمود ؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ذَاكَ إِذَا جِيءَ بِكُمْ حُفَاةً عُرَاةً غُرْلا فَيَكُونُ أَوَّلَ مَنْ يُكْسَى إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلام ، فَيُؤْتَى بِرَيْطَتَيْنِ بَيْضَاوَيْنِ ، فَيَلْبِسْهُمَا ، ثُمَّ يَقْعُدُ مُسْتَقْبِلَ الْعَرْشِ ، ثُمَّ أُوتَى بِكِسْوَتِي فَأَلْبَسُهَا ، فَأَقُومُ عَنْ يَمِينِهِ مَقَامًا لا يَقُومُهُ غَيْرِي يَغْبِطُنِي فِيهِ الأوَّلُونَ وَالآخِرُونَ ، ثُمَّ يُفْتَحُ نَهَرٌ مِنْ الْكَوْثَرِ إِلَى الْحَوْضِ " .
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : ثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن الزهريّ ، عن عليّ بن الحسين ، أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال : " إذَا كانَ يَوْمُ القِيامَةِ مَدَّ الله الأرضَ مَدَّ الأدِيمِ حتى لا يَكُونَ لِبَشَر مِنَ النَّاسِ إلا مَوْضِعَ قَدَمَيْهِ ، قال النبيّ صلى الله عليه وسلم : فَأَكُونُ أوَّلَ مَنْ يُدْعَى وجَبْرَائِيل عَنْ يَمِينِ الرَّحْمَنِ ، والله ما رآهُ قَبْلَها ، فَأَقُولُ : أيْ ربّ إنَّ هذَا أخْبَرَنِي أنَّك أرْسَلْتَهُ إليَّ ، فَيَقُولُ الله عَزَّ وجَلَّ : صَدَقَ ، ثُمَّ أَشْفَعُ ، قال : فَهُوَ المَقامُ المَحْمُودُ " .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن الزهريّ ، عن عليّ بن الحسين ، قال : قال النبيّ : " إِذَا كَانَ يَوْمُ القِيَامَةِ " ، فذكر نحوه ، وزاد فيه : " ثُمَّ أشْفَعُ فَأَقُولُ : يا ربّ عِبادُكَ عَبَدُوكَ في أطْرافِ الأرْضِ ، وَهُوَ المَقامُ المَحْمُودُ " .
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا أبو عامر ، قال : ثنا إبراهيم بن طهمان ، عن آدم ، عن عليّ ، قال : سمعت ابن عمر يقول : إن الناس يحشرون يوم القيامة ، فيجئ مع كلّ نبيّ أمته ، ثم يجيء رسول الله صلى الله عليه وسلم في آخر الأمم هو وأمته ، فيرقى هو وأمته على كَوم فوق الناس ، فيقول : يا فلان اشفع ، ويا فلان اشفع ، ويا فلان اشفع ، فما زال يردّها بعضهم على بعض (1) يرجع ذلك إليه ، وهو المقام المحمود الذي وعده الله إياه.
__________
(1) لعله حتى يرجع.

(17/530)


حدثنا محمد بن عوف ، قال : ثنا حَيْوة وربيع ، قالا ثنا محمد بن حرب ، عن الزبيديّ ، عن الزهري عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك ، عن كعب بن مالك ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " يُحْشَرُ النَّاسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَكُونُ أَنَا وَأُمَّتِي عَلَى تَلّ ، فَيَكْسُونِي رَبِي عَزَّ وَجَلَّ حُلَّةً خَضْرَاءَ ، ثُمَّ يُؤْذَنُ لِي فَأَقُولُ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ أَقُولَ ، فَذَاكَ الْمَقَامُ الْمَحْمُودُ " .
وهذا وإن كان هو الصحيح من القول في تأويل قوله( عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا ) لما ذكرنا من الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه والتابعين ، فإن ما قاله مجاهد من أن الله يُقعد محمدا صلى الله عليه وسلم على عرشه ، قول غير مدفوع صحته ، لا من جهة خبر ولا نظر ، وذلك لأنه لا خبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولا عن أحد من أصحابه ، ولا عن التابعين بإحالة ذلك. فأما من جهة النظر ، فإن جميع من ينتحل الإسلام إنما اختلفوا في معنى ذلك على أوجه ثلاثة : فقالت فرقة منهم : الله عزّ وجلّ بائن من خلقه كان قبل خلقه الأشياء ، ثم خلق الأشياء فلم يماسَّها ، وهو كما لم يزل ، غير أن الأشياء التي خلقها ، إذ لم يكن هو لها مماسا ، وجب أن يكون لها مباينا ، إذ لا فعال للأشياء إلا وهو مماسّ للأجسام أو مباين لها. قالوا : فإذا كان ذلك كذلك ، وكان الله عزّ وجلّ فاعل الأشياء ، ولم يجز في قولهم : إنه يوصف بأنه مماسّ للأشياء ، وجب بزعمهم أنه لها مباين ، فعلى مذهب هؤلاء سواء أقعد محمدا صلى الله عليه وسلم على عرشه ، أو على الأرض إذ كان من قولهم إن بينونته من عرشه ، وبينونته من أرضه بمعنى واحد في أنه بائن منهما كليهما ، غير مماسّ لواحد منهما.
وقالت فرقة أخرى : كان الله تعالى ذكره قبل خلقه الأشياء ، لا شيء يماسه ، ولا شيء يباينه ، ثم خلق الأشياء فأقامها بقدرته ، وهو كما لم يزل قبل خلقه الأشياء لا شيء يماسه ولا شيء يباينه ، فعلى قول هؤلاء أيضا سواء أقعد محمدا صلى الله عليه وسلم على عرشه ، أو على أرضه ، إذ كان سواء على قولهم عرشه وأرضه في أنه لا مماس ولا مباين لهذا ، كما أنه لا مماس ولا مباين لهذه.
وقالت فرقة أخرى : كان الله عزّ ذكره قبل خلقه الأشياء لا شيء ولا شيء يماسه ،

(17/531)


ولا شيء يباينه ، ثم أحدث الأشياء وخلقها ، فخلق لنفسه عرشا استوى عليه جالسا ، وصار له مماسا ، كما أنه قد كان قبل خلقه الأشياء لا شيء يرزقه رزقا ، ولا شيء يحرمه ذلك ، ثم خلق الأشياء فرزق هذا وحرم هذا ، وأعطى هذا ، ومنع هذا ، قالوا : فكذلك كان قبل خلقه الأشياء يماسه ولا يباينه ، وخلق الأشياء فماس العرش بجلوسه عليه دون سائر خلقه ، فهو مماس ما شاء من خلقه ، ومباين ما شاء منه ، فعلى مذهب هؤلاء أيضا سواء أقعد محمدا على عرشه ، أو أقعده على منبر من نور ، إذ كان من قولهم : إن جلوس الربّ على عرشه ، ليس بجلوس يشغل جميع العرش ، ولا في إقعاد محمد صلى الله عليه وسلم موجبا له صفة الربوبية ، ولا مخرجه من صفة العبودية لربه ، كما أن مباينة محمد صلى الله عليه وسلم ما كان مباينا له من الأشياء غير موجبة له صفة الربوبية ، ولا مخرجته من صفة العبودية لربه من أجل أنه موصوف بأنه له مباين ، كما أن الله عزّ وجلّ موصوف على قول قائل هذه المقالة بأنه مباين لها ، هو مباين له. قالوا : فإذا كان معنى مباين ومباين لا يوجب لمحمد صلى الله عليه وسلم الخروج من صفة العبودة والدخول في معنى الربوبية ، فكذلك لا يوجب له ذلك قعوده على عرش الرحمن ، فقد تبين إذا بما قلنا أنه غير محال في قول أحد ممن ينتحل الإسلام ما قاله مجاهد من أن الله تبارك وتعالى يقعد محمدا على عرشه.
فإن قال قائل : فإنا لا ننكر إقعاد الله محمدا على عرشه ، وإنما ننكر إقعاده (1) .
حدثني عباس بن عبد العظيم ، قال : ثنا يحيى بن كثير ، عن الجريريّ ، عن سيف السَّدُوسيّ ، عن عبد الله بن سلام ، قال : إن محمدا صلى الله عليه وسلم يوم القيامة على كرسيّ الربّ بين يدي الربّ تبارك وتعالى ، وإنما ينكر إقعاده إياه معه ، قيل : أفجائز عندك أن يقعده عليه لا معه. فإن أجاز ذلك صار إلى الإقرار بأنه إما معه ، أو إلى أنه يقعده ، والله للعرش مباين ، أو لا مماسّ ولا مباين ، وبأيّ ذلك قال كان منه دخولا في بعض ما كان ينكره وإن قال ذلك
__________
(1) لعل هذه الجملة قد سقطت بقيتها في هذا الموضع. وستجيء نظيرتها تامة في السطر الثالث بعدها.

(17/532)


وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا (80)

غير جائز كان منه خروجا من قول جميع الفرق التي حكينا قولهم ، وذلك فراق لقول جميع من ينتحل الإسلام ، إذ كان لا قول في ذلك إلا الأقوال الثلاثة التي حكيناها ، وغير محال في قول منها ما قال مجاهد في ذلك.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا (80) }
يقول تعالى ذكره لنبيه : وقل يا محمد يا ربّ أدخلني مدخل صدق.
واختلف أهل التأويل في معنى مُدْخل الصدق الذي أمر الله نبيّه صلى الله عليه وسلم أن يرغب إليه في أن يدخله إياه ، وفي مخرج الصدق الذي أمره أن يرغب إليه في أن يخرجه إياه ، فقال بعضهم : عَنَى بمُدْخل الصِّدق : مُدْخل رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة ، حين هاجر إليها ، ومُخْرَج الصدق : مُخْرجه من مكة ، حين خرج منها مهاجرا إلى المدينة.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن وكيع وابن حميد ، قالا ثنا جرير ، عن قابوس بن أبي ظَبْيان ، عن أبيه ، عن ابن عباس قال : كان النبيّ صلى الله عليه وسلم بمكة ، ثم أمر بالهجرة ، فأنزل الله تبارك وتعالى اسمه ، ( وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا ) .
حدثنا محمد بن عبد الله بن بزيع ، قال : ثنا بشر بن المفضل ، عن عوف عن الحسن ، في قول الله( أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ ) قال : كفار أهل مكة لما ائتمروا برسول الله صلى الله عليه وسلم ليقتلوه ، أو يطردوه ، أو يُوثِقوه ، وأراد الله قتال أهل مكة ، فأمره أن يخرج إلى المدينة ، فهو الذي قال الله( أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ ) .
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : ثنا محمد بن ثور ، عن مَعْمر ، عن قتادة( مُدْخَلَ صِدْقٍ ) قال : المدينة( مُخْرَجَ صِدْقٍ ) قال : مكة.

(17/533)


حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ ) أخرجه الله من مكة إلى الهجرة بالمدينة.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله( وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ ) قال : المدينة حين هاجر إليها ، ومخرج صدق : مكة حين خرج منها مخرج صدق ، قال ذلك حين خرج مهاجرا.
وقال آخرون : بل معنى ذلك : وقل ربّ أمتني إماتة صِدْق ، وأخرجني بعد الممات من قبري يوم القيامة مُخْرج صدق.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس( وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ ).... الآية ، قال : يعني بالإدخال : الموت ، والإخراج : الحياة بعد الممات.
وقال آخرون : بل عَنَى بذلك : أدخلني في أمرك الذي أرسلتني به من النبوة مُدْخل صدق ، وأخرجني منه مُخْرَج صدق.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ؛ وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد( أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ ) قال : فيما أرسلتني به من أمرك( وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ ) قال كذلك أيضا.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، بنحوه.
وقال آخرون : بل معنى ذلك : أدخلني مدخل صدق : الجنة ، وأخرجني مخرج صدق : من مكة إلى المدينة.

(17/534)


* ذكر من قال ذلك :
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، قال : قال الحسن( أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ ) الجنة و( مُخْرَجَ صِدْقٍ ) من مكة إلى المدينة.
وقال آخرون : بل معنى ذلك : أدخلني في الإسلام مُدْخل صدق.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا سهل بن موسى الرازي ، قال : ثنا ابن نمير ، عن إسماعيل بن أبي خالد ، عن أبي صالح في قوله( رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ ) قال : أدخلني في الإسلام مُدْخل صدق( وَأَخْرِجْنِي ) منه( مُخْرَجَ صِدْقٍ ) .
وقال آخرون : بل معنى ذلك : أدخلني مكة آمنا ، وأخرجني منها آمنا.
* ذكر من قال ذلك : حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : ثنا عبيد بن سليمان ، قال : سمعت الضحاك قال في قوله( رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ ) يعني مكة ، دخل فيها آمنا ، وخرج منها آمنا.
وأشبه هذه الأقوال بالصواب في تأويل ذلك ، قول من قال : معنى ذلك : وأدخلني المدينة مُدْخل صدق ، وأخرجني من مكة مُخْرج صدق.
وإنما قلنا ذلك أولى بتأويل الآية ، لأن ذلك عقيب قوله( وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الأرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا وَإِذًا لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلا قَلِيلا ) . وقد دللنا فيما مضى ، على أنه عَنَى بذلك أهل مكة ؛ فإذ كان ذلك عقيب خبر الله عما كان المشركون أرادوا من استفزازهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ليخرجوه عن مكة ، كان بيَّنا ، إذ كان الله قد أخرجه منها ، أن قوله( وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ ) أمر منه له بالرغبة إليه في أن يخرجه من البلدة التي هم المشركون بإخراجه منها مُخْرج صدق ، وأن يدخله البلدة التي نقله الله إليها مُدْخل صدق.
وقوله( وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا ) .
اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك ، فقال بعضهم : معنى ذلك : واجعل لي ملكا ناصرا ينصرني على من ناوأني ، وعِزّا أقيم به دينك ، وأدفع به عنه من أراده بسوء.

(17/535)


* ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن عبد الله بن بزيع ، قال : ثنا بشر بن المفضل ، عن عوف ، عن الحسن ، في قول الله عزّ وجلّ( وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا ) يُوعِده لَيَنزعَنَّ مُلك فارس ، وعزّ فارس ، وليجعلنه له ، وعزّ الرّوم ، ومُلك الروم ، وليجعلنه له.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، في قوله( وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا ) وإن نبيّ الله علم أن لا طاقةَ له بهذا الأمر إلا بسلطان ، فسأل سلطانا نصيرا لكتاب الله عزّ وجلّ ، ولحدود الله ، ولفرائض الله ، ولإقامة دين الله ، وإن السلطان رحمة من الله جعلها بين أظهر عباده ، لولا ذلك لأغار بعضهم على بعض ، فأكل شديدهم ضعيفهم.
وقال آخرون : بل عُنِي بذلك حجة بينة.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ؛ وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله عزّ وجلّ( سُلْطَانًا نَصِيرًا ) قال : حجة بينة.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله.
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال : ذلك أمر من الله تعالى نبيّه بالرغبة إليه في أن يؤتيه سلطانا نصيرا له على من بغاه وكاده ، وحاول منعه من إقامته فرائض الله في نفسه وعباده.
وإنما قلت ذلك أولى بالصواب ، لأن ذلك عقيب خبر الله عما كان المشركون هموا به من إخراجه من مكة ، فأعلمه الله عزّ وجلّ أنهم لو فعلوا ذلك عوجلوا بالعذاب عن قريب ، ثم أمره بالرغبة إليه في إخراجه من بين أظهرهم إخراج صدق يحاوله عليهم ، ويدخله بلدة غيرها ، بمدخل صدق يحاوله عليهم ولأهلها في دخولها إليها ، وأن يجعل له سلطانا نصيرا على أهل البلدة التي أخرجه أهلها منها ، وعلى كلّ من كان لهم شبيها ، وإذا أوتي ذلك ، فقد أوتي لا شكّ حجة بينة.

(17/536)


وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا (81) وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآَنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا (82)

وأما قوله( نَصِيرًا ) فإن ابن زيد كان يقول فيه ، نحو قولنا الذي قلنا فيه.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله( وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا ) قال : ينصرني ، وقد قال الله لموسى( سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآيَاتِنَا ) هذا مقدّم ومؤخَّر ، إنما هو سلطان بآياتنا فلا يصلون إليكما.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا (81) وَنُنزلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلا خَسَارًا (82) }
يقول تعالى ذكره : وقل يا محمد لهؤلاء المشركين الذين كادوا أن يستفزوك من الأرض ليخرجوك منها( جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ ) .
واختلف أهل التأويل في معنى الحقّ الذي أمر الله نبيّه صلى الله عليه وسلم أن يُعْلم المشركين أنه قد جاء ، والباطل الذي أمره أن يعلمهم أنه قد زَهَق ، فقال بعضهم : الحقّ : هو القرآن في هذا الموضع ، والباطل : هو الشيطان.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله( وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ ) قال : الحقّ : القرآن( وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا ) .
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : ثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة( وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ ) قال : القرآن( وَزَهَقَ الْبَاطِلُ ) قال : هلك الباطل وهو الشيطان.
وقال آخرون : بل عُنِي بالحقّ جهاد المشركين وبالباطل الشرك.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قوله( وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ ) قال : دنا القتال( وَزَهَقَ الْبَاطِلُ ) قال : الشرك وما هم فيه.

(17/537)


حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا الثوريّ ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، عن أبي معمر ، عن ابن مسعود ، قال : دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة ، وحول البيت ثلاثُمائة وستون صنما ، فجعل يطعنها ويقول( جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا ) .
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال : أمر الله تبارك وتعالى نبيّه صلى الله عليه وسلم أن يخبر المشركين أن الحقّ قد جاء ، وهو كلّ ما كان لله فيه رضا وطاعة ، وأن الباطل قد زهق : يقول : وذهب كلّ ما كان لا رضا لله فيه ولا طاعة مما هو له معصية وللشيطان طاعة ، وذلك أن الحقّ هو كلّ ما خالف طاعة إبليس ، وأن الباطل : هو كلّ ما وافق طاعته ، ولم يخصص الله عز ذكره بالخبر عن بعض طاعاته ، ولا ذهاب بعض معاصيه ، بل عمّ الخير عن مجيء جميع الحقّ ، وذهاب جميع الباطل ، وبذلك جاء القرآن والتنزيل ، وعلى ذلك قاتل رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل الشرك بالله ، أعني على إقامة جميع الحقّ ، وإبطال جميع الباطل.
وأما قوله عزّ وجلّ( وَزَهَقَ الْبَاطِلُ ) فإن معناه : ذهب الباطل ، من قولهم : زَهَقت نفسه : إذا خرجت وأزهقتها أنا ؛ ومن قولهم : أزهق السهم : إذا جاوز الغرض فاستمرّ على جهته ، يقال منه : زهق الباطل ، يزهَق زُهوقا ، وأزهقه الله : أي أذهبه.
وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل .
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا عليّ ، قال : ثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس( إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا ) يقول : ذاهبا.
وقوله عزّ وجلّ( وَنُنزلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ ) يقول تعالى ذكره : وننزل عليك يا محمد من القرآن ما هو شفاء يستشفى به من الجهل من الضلالة ، ويبصر به من العمى للمؤمنين ورحمة لهم دون الكافرين به ، لأن المؤمنين يعملون بما فيه من فرائض الله ، ويحلون حلاله ، ويحرّمون حرامه فيدخلهم بذلك الجنة ، ويُنجيهم من عذابه ، فهو لهم رحمة ونعمة من الله ، أنعم بها عليهم( وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلا خَسَارًا ) يقول : ولا يزيد هذا الذي ننزل عليك من القرآن

(17/538)


وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَئُوسًا (83)

الكافرين به إلا خسارا : يقول : إهلاكا ، لأنهم كلما نزل فيه أمر من الله بشيء أو نهى عن شيء كفروا به ، فلم يأتمروا لأمره ، ولم ينتهوا عما نهاهم عنه ، فزادهم ذلك خسارا إلى ما كانوا فيه قبل ذلك من الخسار ، ورجسا إلى رجسهم قبلُ.
كما حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله( وَنُنزلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ ) إذا سمعه المؤمن انتفع به وحفظه ووعاه( وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ ) به( إِلا خَسَارًا) أنه لا ينتفع به ولا يحفظه ولا يعيه ، وإن الله جعل هذا القرآن شفاء ورحمة للمؤمنين.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الإنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَئُوسًا (83) }
يقول تبارك وتعالى : وإذا أنعمنا على الإنسان ، فنجَّيناه من كرب ما هو فيه في البحر ، وهو ما قد أشرف فيه عليه من الهلاك بعصوف الريح عليه إلى البرّ ، وغير ذلك من نعمنا ، أعرض عن ذكرنا ، وقد كان بنا مستغيثا دون كلّ أحد سوانا في حال الشدّة التي كان فيها( وَنَأَى بِجَانِبِهِ ) يقول : وبعد منا بجانبه ، يعني بنفسه ، ( كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ ) قبل ذلك.
كما حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ؛ وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن مجاهد ، في قوله( وَنَأَى بِجَانِبِهِ ) قال : تباعد منا.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله.
والقراءة على تصيير الهمزة في نَأَى قبل الألف ، وهي اللغة الفصيحة ، وبها نقرأ. وكان بعض أهل المدينة يقرأ ذلك " ونَاء " فيصير الهمزة بعد الألف ، وذلك وإن كان لغة جائزة قد جاءت عن العرب بتقديمهم في نظائر ذلك الهمز

(17/539)


قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلًا (84)

في موضع هو فيه مؤخرّ ، وتأخيرهموه في موضع ، هو مقدّم ، كما قال الشاعر :
أعلامٌ يُقَلِّلُ رَاءَ رُؤْيا... فَهْوَ يَهْذِي بِما رأى فِي المَنامِ (1)
وكما قال آبار وهي أبآر ، فقدموا الهمزة ، فليس ذلك هو اللغة الجُودَى ، بل الأخرى هي الفصيحة.
وقوله عزّ وجلّ( وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَئُوسًا ) يقول : وإذا مسه الشرّ والشدّة كان قنوطا من الفرج والروْح.
وبنحو الذي قلنا في اليئوس ، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا عليّ بن داود ، قال : ثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله( وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَئُوسًا ) يقول : قَنُوطا.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَئُوسًا ) يقول : إذا مسه الشرّ أَيِس وقَنِط.
القول في تأويل قوله تعالى : { قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلا (84) }
يقول عزّ وجلّ لنبيّه محمد صلى الله عليه وسلم : قل يا محمد للناس : كلكم يعمل على شاكلته : على ناحيته وطريقته( فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ ) هو منكم( أَهْدَى سَبِيلا ) يقول : ربكم أعلم بمن هو منكم أهدى طريقا إلى الحقّ من غيره.
وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل.
__________
(1) هكذا جاء هذا البيت في الأصول ، ولم نهتد إلى قائله بعد بحث ، وهو من بحر الخفيف ، وفيه تحريف في شطره الأول. ولعل الصواب في روايته هكذا : أم غلامٌ مُضلل راء رُؤْيا ... فَهْوَ يَهْذِي بِما رأى فِي المنَامِ
أما محل الشاهد في البيت فسليم ، في قوله " راء " فإنه مقلوب رأى ، قدمت اللام على العين ، وهو في تقدير " فلع " والدليل على ذلك أن مصدر الفعلين واحد هو الرؤيا ، ومثله في القلب : " ناء " ومصدرهما النأي.

(17/540)


وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا (85)

* ذكر من قال ذلك :
حدثنا عليّ ، قال : ثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله( كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ ) يقول : على ناحيته.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ؛ وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله( عَلَى شَاكِلَتِهِ ) قال : على ناحيته.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد( قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ ) قال : على طبيعته على حِدَته.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ ) يقول : على ناحيته وعلى ما ينوي.
وقال آخرون : الشاكلة : الدِّين.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله( كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ ) قال : على دينه ، الشاكلة : الدين.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلا قَلِيلا (85) }
يقول تعالى ذكره لنبيّه محمد صلى الله عليه وسلم : ويسألك الكفار بالله من أهل الكتاب عن الروح ما هي ؟ قل لهم : الروح من أمر ربي ، وما أوتيتم أنتم وجميع الناس من العلم إلا قليلا وذُكِر أن الذين سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الروح ، فنزلت هذه الآية بمسألتهم إياه عنها ، كانوا قوما من اليهود.
ذكر الرواية بذلك حدثنا أبو هشام ، قال : ثنا وكيع ، قال : ثنا الأعمش ، عن إبراهيم ، عن علقمة ، عن عبد الله ، قال : كنت مع النبيّ صلى الله عليه وسلم في حرث بالمدينة ، ومعه عَسِيب يتوكأ عليه ، فمر بقوم من اليهود ،

(17/541)


فقال بعضهم : اسألوه عن الروح ، وقال بعضهم : لا تسألوه ، فقام متوكئا على عسيبه ، فقمت خلفه ، فظننت أنه يوحَى إليه ، فقال( وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلا قَلِيلا ) فقال بعضهم لبعض : ألم نقل لكم لا تسألوه " .
حدثنا يحيي بن إبراهيم المسعوديّ ، قال : ثنا أبي ، عن أبيه ، عن جدّه ، عن الأعمش ، عن إبراهيم ، عن علقمة ، عن عبد الله ، قال : " بينا أنا أمشي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حَرَّة بالمدينة ، إذ مررنا على يهود ، فقال بعضهم : سَلُوه عن الروح ، فقالوا : ما أربكم إلى أن تسمعوا ما تكرهون ، فقاموا إليه ، فسألوه ، فقام فعرفت أنه يوحى إليه ، فقمت مكاني ، ثم قرأ( وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلا قَلِيلا ) فقالوا : ألم ننهكم أن تسألوه " .
حدثنا محمد بن المثنى ، قال : ثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا داود ، عن عكرمة ، قال : " سأل أهل الكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الروح ، فأنزل الله تعالى( وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلا قَلِيلا ) فقالوا : أتزعم إنا لم نؤت من العلم إلا قليلا وقد أوتينا التوراة ، وهي الحكمة ، ( وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا ) قال : فنزلت( وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ ) قال : ما أوتيتم من علم ، فنجاكم الله به من النار ، فهو كثير طيب ، وهو في علم الله قليل " .
حدثني إسماعيل بن أبي المتوكل ، قال : ثنا الأشجعيّ أبو عاصم الحِمْصيّ ، قال : ثنا إسحاق بن عيسى أبو يعقوب ، قال : ثنا القاسم بن معن ، عن الأعمش ، عن إبراهيم ، عن علقمة ، عن عبد الله ، قال : إني لمع النبيّ صلى الله عليه وسلم في حرث بالمدينة ، إذ أتاه يهوديّ ، قال : يا أبا القاسم ، ما الروح ؟ فسكت النبيّ صلى الله عليه وسلم ، وأنزل الله عزّ وجلّ( وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي ) .

(17/542)


حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله( وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ ) لقيت اليهود نبيّ الله صلى الله عليه وسلم ، فتغَشَّوه وسألوه وقالوا : إن كان نبيّا علم ، فسيعلم ذلك ، فسألوه عن الروح ، وعن أصحاب الكهف ، وعن ذي القرنين ، فأنزل الله في كتابه ذلك كله( وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلا قَلِيلا ) يعني اليهود " .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ؛ وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله( وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ ) قال : يهود تسأل عنه.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد( وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ ) قال : يهود تسأله.
حدثنا محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله( وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ ).... الآية : " وذلك أن اليهود قالوا للنبيّ صلى الله عليه وسلم : أخبرنا ما الروح ، وكيف تعذّب الروح التي في الجسد ، وإنما الروح من الله عزّ وجلّ ، ولم يكن نزل عليه فيه شيء ، فلم يُحِر إليهم شيئا ، فأتاه جَبرائيل عليه السلام ، فقال له( قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلا قَلِيلا ) فأخبرهم النبيّ صلى الله عليه وسلم بذلك ، قالوا له : من جاءك بهذا ؟ فقال لهم النبيّ صلى الله عليه وسلم : " جاءنِي بِهِ جِبْرِيلُ مِنْ عِنْدِ الله ، فقالوا : والله ما قاله لك إلا عدوّ لنا ، فأنزل الله تبارك اسمه( قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نزلَهُ عَلَى قَلْبِكَ ) ... الآية.
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا جرير ، عن مغيرة ، عن إبراهيم ، عن عبد الله ، قال : كنت أمشي مع النبيّ صلى الله عليه وسلم ذات يوم ، فمررنا بأناس من اليهود ، فقالوا : يا أبا القاسم ما الرُّوح ؟ فأُسْكِت. فرأيت أنه يوحَى إليه ، قال : فتنحيت عنه إلى سُباطة ، فنزلت عليه( وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ ).... الآية ، فقالت اليهود : هكذا نجده عندنا " .

(17/543)


واختلف أهل التأويل في الروح الذي ذُكِر في هذا الموضع ما هي ؟ فقال بعضهم : هي جبرئيل عليه السلام.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : ثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة( وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ ) قال : هو جبرائيل ، قال قتادة : وكان ابن عباس يكتمه.
وقال آخرون : هي مَلك من الملائكة.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : ثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله( وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ ) قال : الروح : مَلك.
حدثني عليّ ، قال : ثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني أبو مروان يزيد بن سمرة صاحب قيسارية ، عمن حدثه عن عليّ بن أبي طالب ، أنه قال في قوله( وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوح ) قال : هو ملك من الملائكة له سبعون ألف وجه ، لكل وجه منها سبعون ألف لسان ، لكل لسان منها سبعون ألف لغة يسبح الله عزّ وجلّ بتلك اللغات كلها ، يخلق الله من كلّ تسبيحة مَلكا يطير مع الملائكة إلى يوم القيامة.
وقد بيَّنا معنى الرّوح في غير هذا الموضع من كتابنا ، بما أغنى عن إعادته.
وأما قوله( مِنْ أَمْرِ رَبِّي ) فإنه يعني : أنه من الأمر الذي يعلمه الله عزّ وجلّ دونكم ، فلا تعلمونه ويعلم ما هو.
وأما قوله( وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلا قَلِيلا ) فإن أهل التأويل اختلفوا في المعنيّ بقوله( وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلا قَلِيلا ) فقال بعضهم : عنى بذلك : الذين سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الروح وجميع الناس غيرهم ، ولكن لما ضمّ غير المخاطب إلى المخاطب ، خرج الكلام على المخاطبة ، لأن العرب كذلك تفعل إذا اجتمع في الكلام مخبر عنه غائب ومخاطب ، أخرجوا الكلام خطابا للجميع.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، قال : ثنا محمد بن إسحاق ، عن بعض أصحابه ، عن عطاء بن يسار ، قال : نزلت بمكة( وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلا قَلِيلا ) فلما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة

(17/544)


وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلًا (86)

أتاه أحبار يهود ، فقالوا : يا محمد ألم يبلغنا أنك تقول( وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلا قَلِيلا ) أفعنيتنا أم قومك ؟ قال : كُلا قَدْ عَنَيْتُ ، قالوا : فإنك تتلو أنا أوتينا التوراة وفيها تبيان كلّ شيء ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : هِيَ في عِلْمِ الله قَلِيلٌ ، وَقَدْ آتاكُمْ ما إنْ عمِلْتُمْ بِهِ انْتَفَعْتُمْ ، فَأَنزل الله( وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ ).... إلى قوله( إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ ) .
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قوله عزّ وجلّ( وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلا قَلِيلا ) قال : يا محمد والناس أجمعون.
وقال آخرون : بل عَنَى بذلك الذين سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الروح خاصة دون غيرهم.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلا قَلِيلا ) يعني : اليهود.
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال : خرج الكلام خطابا لمن خوطب به ، والمراد به جميع الخلق ، لأن علم كلّ أحد سوى الله ، وإن كثر في علم الله قليل.
وإنما معنى الكلام : وما أوتيتم أيها الناس من العلم إلا قليلا من كثير مما يعلم الله.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلا (86) }
يقول تعالى ذكره : ولئن شئنا لنذهبنّ بالذي آتيناك من العلم الذي أوحينا إليك من هذا القرآن لنذهبنّ به ، فلا تعلمه ، ثم لا تجد لنفسك بما نفعل بك من ذلك وكيلا يعني : قيِّما يقوم لك ، فيمنعنا من فعل ذلك بك ، ولا ناصرا ينصرك ، فيحول بيننا وبين ما نريد بك ، قال : وكان عبد الله بن مسعود يتأوّل معنى ذهاب الله عزّ وجلّ به رفعه من صدور قارئيه.
ذكر الرواية بذلك حدثنا أبو كريب ، قال : ثنا أبو بكر بن عياش ، عن عبد العزيز بن رفيع ، عن بُنْدار ، عن معقل ، قال : قلت لعبد الله ، وذكر أنه

(17/545)


يُسرى على القرآن ، كيف وقد أثبتناه في صدورنا ومصاحفنا ؟ قال : يُسرى عليه ليلا فلا يبقى منه في مصحف ولا في صدر رجل ، ثم قرأ عبد الله( وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ) .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : ثنا ابن إسحاق بن يحيى ، عن المسيب بن رافع ، عن عبد الله بن مسعود ، قال : " تطرق الناسَ ريح حمراء من نحو الشام ، فلا يبقى في مصحف رجل ولا قلبه آية. قال رجل : يا أبا عبد الرحمن ، إني قد جمعت القرآن ، قال : لا يبقى في صدرك منه شيء. ثم قرأ ابن مسعود( وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ). "

(17/546)


إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كَانَ عَلَيْكَ كَبِيرًا (87) قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآَنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا (88)

القول في تأويل قوله تعالى : { إِلا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كَانَ عَلَيْكَ كَبِيرًا (87) }
يقول عزّ وجلّ( وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ ) يا محمد( بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ) ولكنه لا يشاء ذلك ، رحمة من ربك وتفضلا منه عليك( إِنَّ فَضْلَهُ كَانَ عَلَيْكَ كَبِيرًا ) باصطفائه إياك لرسالته ، وإنزاله عليك كتابه ، وسائر نعمه عليك التي لا تحصى.
القول في تأويل قوله تعالى : { قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا (88) }
يقول جلّ ثناؤه : قل يا محمد للذين قالوا لك : إنا نأتي بمثل هذا القرآن : لئن اجتمعت الإنس والجنّ على أن يأتوا بمثله ، لا يأتون أبدا بمثله ، ولو كان

(17/546)


بعضهم لبعض عونا وظهيرا. وذُكِر أن هذه الآية نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبب قوم من اليهود جادلوه في القرآن ، وسألوه أن يأتيهم بآية غيره شاهدة له على نبوّته ، لأن مثل هذا القرآن بهم قُدرة على أن يأتوا به.
ذكر الرواية بذلك حدثنا أبو كريب ، قال : ثنا يونس بن بكير ، قال : ثنا محمد بن إسحاق ، قال : ثنا محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت ، قال : ثني سعيد بن جبير أو عكرمة ، عن ابن عباس ، قال : أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم محمود بن سيحان وعمر بن أضا (1) وبحري بن عمرو ، وعزيز بن أبي عزيز ، وسلام بن مِشْكم ، فقالوا : أخبرنا يا محمد بهذا الذي جئتنا به حقّ من عند الله عزّ وجلّ ، فإنا لا نراه متناسقا كما تناسق التوراة ، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أما وَالله إِنَّكُمْ لَتَعْرِفُونَ أَنَّهُ مِنْ عِنْدِ الله تَجِدُونَهُ مَكْتُوبا عِنْدَكُمْ ، وَلَو اجْتَمَعَتِ الإنْسُ والجِنُّ على أنْ يَأْتُوا بِمِثْلِهِ ما جاءُوا بِهِ ، فقال عند ذلك ، وهم جميعا : فِنْحاص ، وعبد الله بن صُورِيا ، وكِنانة بن أبي الحُقيق ، وأشيع ، وكعب بن أسد ، وسموءَل بن زيد ، وجبل بن عمرو : يا محمد ما يعلِّمك هذا إنس ولا جان ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أما وَالله إِنَّكُمْ لَتَعْلَمُونَ أَنَّهُ مِنْ عِنْدِ الله تَجِدُونَهُ مَكْتُوبا عِنْدكمْ في التَّوْرَاةِ والإنجِيلِ ، فقالوا : يا محمد ، إن الله يصنع لرسوله إذا بعثه ما شاء ، ويقدر منه على ما أراد ، فأنزل علينا كتابا تقرؤه ونعرفه ، وإلا جئناك بمثل ما تأتي به ، فأنزل الله عزّ وجلّ فيهم وفيما قالوا( قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا ) .
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قوله( لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإنْسُ وَالْجِنُّ ).... إلى قوله( وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا ) قال : معينا ، قال : يقول : لو برزت الجنّ وأعانهم الإنس ، فتظاهروا لم يأتوا بمثل هذا القرآن. وقوله عزّ وجلّ( لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ ) رفع ، وهو جواب لقوله
__________
(1) قد بين ابن إسحاق في السيرة أسماء الأعداء من يهود ، ولم أجد بينهم من اسمه عمر بن أصان الذي جاء في الأصل ، ولعله نعمان ابن أضا ، من بني قينقاع (انظر السيرة طبعة الحلبي 2 : 161).

(17/547)


وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآَنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا (89) وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا (90)

" لئن " ، لأن العرب إذا أجابت لئن بلا رفعوا ما بعدها ، لأن " لئن " كاليمين وجواب اليمين بلا مرفوع ، وربما جزم لأن التي يجاب بها زيدت عليه لام ، كما قال الأعشى :
لَئِنْ مُنِيتَ بِنا عَنْ غِبِّ مَعْرَكَةٍ... لا تُلْفنا عَنْ دِماءِ القَوْمِ نَنْتَفِلُ (1)
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلا كُفُورًا (89) }
يقول ذكره : ولقد بيَّنا للناس في هذا القرآن من كلّ مثل ، احتجاجا بذلك كله عليهم ، وتذكيرا لهم ، وتنبيها على الحقّ ليتبعوه ويعملوا به( فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلا كُفُورًا ) يقول : فأبى أكثر الناس إلا جحودا للحقّ ، وإنكارا لحجج الله وأدلته.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأرْضِ يَنْبُوعًا (90) }
يقول تعالى ذكره : وقال يا محمد ، المشركون بالله من قومك لك : لن نصدّقك ، حتى تفجر لنا من أرضنا هذه عينا تنبع لنا بالماء.
وقوله( يَنْبُوعًا ) يفعول من قول القائل : نبع الماء : إذا ظهر وفار ، ينْبُع ويَنْبَع ، وهو ما نبع.
كما حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله( حَتَّى
__________
(1) هذا البيت للأعشى ميمون بن قيس (ديوانه طبع القاهرة بشرح الدكتور محمد حسين ص 63) من قصيدته التي مطلعها : " ودع هريرة " وعدتها 66 بيتا ، وبيت الشاهد هو ال 63 قالها ليزيد بن مسهر ، أبي ثابت الشيباني ، يقول : إنا لا نمل القتال ، ولو قدر لك أن تبتلى بنا في أعقاب معركة قد خضناها ، لوجدت فينا قوة على قتال جدير ، ولم ترنا نحيد عن الخوض في الدماء مرة أخرى. ومحل الشاهد فيه أن قول الله (لا يأتون بمثله) جواب للقسم المتقدم عليه في قوله تعالى (لئن اجتمعت) ولم يؤكد فعل الجواب بالنون ، لأنه مسبوق بالنفي " لا " .. ومثله في قول الأعشى ؛ : " لا تلفنا " الذي لم يؤكد بالنون مع أنه جواب القسم " لئن منيت " ، وامتنع التوكيد لوجود النفي في الجواب.

(17/548)


أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا (91)

تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأرْضِ يَنْبُوعًا ) : أي حتى تفْجُر لنا من الأرض عيونا : أي ببلدنا هذا.
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، قوله( حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأرْضِ يَنْبُوعًا ) قال : عيونا.
حدثنا محمد ، قال : ثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، مثله.
حدثنا محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ؛ وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن أبن أبي نجيح ، عن مجاهد( يَنْبُوعًا ) قال : عيونا.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله.
واختلفت القرّاء في قراءة قوله( تَفْجُرَ ) فروي عن إبراهيم النخعيّ أنه قرأ( حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا ) خفيفة وقوله( فَتُفَجِّرَ الأنْهَارَ خِلالَهَا تَفْجِيرًا ) بالتشديد ، وكذلك كانت قرّاء الكوفيين يقرءونها ، فكأنهم ذهبوا بتخفيفهم الأولى إلى معنى : حتى تفجر لنا من الأرض ماء مرّة واحدة. وبتشديدهم الثانية إلى أنها تفجر في أماكن شتى ، مرّة بعد أخرى ، إذا كان ذلك تفجر أنهار لا نهر واحد (1) والتخفيف في الأولى والتشديد في الثانية على ما ذكرت من قراءة الكوفيين أعجب إليّ لما ذكرت من افتراق معنييهما ، وإن لم تكن الأولى مدفوعة صحتها.
القول في تأويل قوله تعالى : { أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأنْهَارَ خِلالَهَا تَفْجِيرًا (91) }
يقول ذكره لنييه محمد صلى الله عليه وسلم : وقال لك يا محمد مشركو قومك : لن نصدّقك حتى تستنبط لنا عينا من أرضنا ، تَدفَّق بالماء أو تفور ، أو يكون لك بستان ، وهو الجنة ، من نخيل وعنب ، فتفجِّر الأنهار خلالها
__________
(1) في الكلام سقط ظاهر. والحاصل أنهم اتفقوا على تشديد فتفجر واختلفوا في حتى تفجر ، فبعضهم شدد ، وبعضهم خفف ، واختار المؤلف التشديد للعلة التي ذكرها.

(17/549)


أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا (92)

تفجيرا بأرضنا هذه التي نحن بها خلالها ، يعني : خلال النخيل والكروم ، ويعني بقوله( خِلالَهَا تَفْجِيرًا ) بينها في أصولها تفجيرا بسبب أبنيتها.
القول في تأويل قوله تعالى : { أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلا (92) }
اختلفت القرّاء في قراءة قوله( كِسَفا ) فقرأته عامّة قرّاء الكوفة والبصرة بسكون السين ، بمعنى : أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفا ، وذلك أن الكِسف في كلام العرب : جمع كِسْفة ، وهو جمع الكثير من العدد للجنس ، كما تجمع السِّدْرة بسِدْر ، والتمر بتمر ، فحُكي عن العرب سماعا : أعطني كِسفة من هذا الثوب : أي قطعة منه ، يقال منه : جاءنا بثريد كسف : أي قطع خبز ، وقد يحتمل إذا قرئ كذلك " كِسْفا " بسكون السين أن يكون مرادا به المصدر من كسف (1) . فأما الكِسَف بفتح السين ، فإنه جمع ما بين الثلاث إلى العشر ، يقال : كِسَفة واحدة ، وثلاث كِسَف ، وكذلك إلى العشر ، وقرأ ذلك عامة قرّاء أهل المدينة وبعض الكوفيين( كِسَفا ) بفتح السين بمعنى : جمع الكِسْفة الواحدة من الثلاث إلى العشر ، يعني بذلك قِطَعا : ما بين الثلاث إلى العشر.
وأولى القراءتين في ذلك بالصواب عندي قراءة من قرأه بسكون السين ، لأن الذين سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك ، لم يقصدوا في مسألتهم إياه ذلك أن يكون بحدّ معلوم من القطع ، إنما سألوا أن يُسقط عليهم من السماء قِطَعا ، وبذلك جاء التأويل أيضا عن أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ؛ وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله( كِسْفا ) قال : السماء جميعا.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله.
__________
(1) مصدر الفعل كسف يكسف (كضرب يضرب) هو الكسف ، بفتح الكاف وسكون السين (اللسان).

(17/550)


قال ابن جريج : قال عبد الله بن كثير ، عن مجاهد ، قوله( كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا ) قال : مرّة واحدة ، والتي في الروم( وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا ) قال : قطعا ، قال ابن جريج : كسفا لقول الله( إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الأرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ ).
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا ) قال : أي قطعا.
حدثنا عليّ ، قال : ثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله( كِسَفًا ) يقول : قطعا.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : ثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة( كِسَفا ) قال : قطعا.
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثنى أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله( أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا ) يعني قِطَعا.
القول في تأويل قوله تعالى : " أو تأتي بالله والملائكة قبيلا " .
يقول تعالى ذكره عن قيل المشركين لنبيّ الله صلى الله عليه وسلم : أو تأتي بالله يا محمد والملائكة قبيلا.
واختلف أهل التأويل في معنى القبيل في هذا الموضع ، فقال بعضهم : معناه : حتى يأتي الله والملائكة كلَّ قبيلة منا قبيلة قبيلة ، فيعاينونهم.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ؛ وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله( وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلا ) قال : على حدتنا ، كلّ قبيلة.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثنى حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، قوله( أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلا ) قال : قبائل على حدتها كلّ قبيلة.
وقال آخرون : معنى ذلك : أو تأتي بالله والملائكة عيانا نقابلهم مقابلة ، فنعاينهم معاينة.

(17/551)


* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلا ) نعاينهم معاينة.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج( أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلا ) فنعاينهم.
ووجَّهه بعض أهل العربية إلى أنه بمعنى الكفيل من قولهم : هو قَبِيلُ فلان بما لفلان عليه وزعيمه.
وأشبه الأقوال في ذلك بالصواب ، القول الذي قاله قتادة من أنه بمعنى المعاينة ، من قولهم : قابلت فلانا مقابلة ، وفلان قبيل فلان ، بمعنى قبالته ، كما قال الشاعر :
نُصَالِحُكُمْ حتى تَبُوءُوا بِمِثْلِها... كصَرْخَةِ حُبْلَى يَسَّرَتْها قَبِيلُها (1)
يعني قابِلَتها. وكان بعض أهل العلم بكلام العرب من أهل البصرة يقول : إذا وصفوا بتقدير فعيل من قولهم قابلت ونحوها ، جعلوا لفظ صفة الاثنين والجميع
__________
(1) البيت للأعشى ميمون بن قيس (ديوانه طبع القاهرة بشرحالدكتور محمد حسين ص 177) وهو من قصيدة عدتها 18 بيتا. والشاهد هو ال 17فيها. وقبله : فإنّي ورَبِّ السَّاجدِيِنعَشِيَّةً ... وَمَا صَكَّ ناقُوسَ النَّصَارَى أبيلُها
والقصيدة قالها في الحرب التي كانت بينه وبين الحرقتين ، يعاتب بني مرثد وبني جحدر ، وفي رواية الشاهد : " أصالحكم " بالهمزة بدل النون. يقول : لن أصالحكم حتى تبوءوا بمثل جنايتكم وبغيكم ، وتصرخوا صرخة الحبلى حين تعينها القابلة في المخاض. " وقبولها " في موضع : قبيلها. والأبيل الراهب. وتبوءا.ويسرتها : سهلت ولادتها وأعانتها فيها. والقبول : المرأة التي تستقبل الولد عند الولادة.
وفي مجاز القرآن لأبي عبيدة (1 : 390) عند قوله تعالى : (والملائكة قبيلا) مجازه مقابلة ، أي : معاينة. وقال : نصالحكم حتى تبوءوا بمثلها ... كصرخة حبلى بشرتها قبيلها
أي قابلتها. فإذا وصفوا بتقدير " فعيل " من قولهم " قابلت " ونحوها ، جعلوا لفظ صفة الاثنين والجميع ، من المذكر والمؤنث ، على لفظ واحد ، نحو قولك : هي قبيلي ، وهما قبيلي ، وكذلك هن قبيلي. اهـ . وفي (لسان العرب : قبل) : والقبيل والقبول القابلة. المحكم : قبلت القابلة الولد قبالا : أخذته من الوالدة ، وهي قابلة المرأة وقبولها وقبيلها ، قال الأعشى : أصالحكم حتى تبوءوا بمثلها ... كصرخة حبلى أسلمتها قبيلها
ويروى : قبلوها. أي يئست منها.

(17/552)


أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا (93)

من المؤنث والمذكر على لفظ واحد ، نحو قولهم : هذه قبيلي ، وهما قبيلي ، وهم قبيلي ، وهن قبيلي.
القول في تأويل قوله تعالى : { أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنزلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلا بَشَرًا رَسُولا (93) }
يقول تعالى ذكره مخبرا عن المشركين الذين ذكرنا أمرهم في هذه الآيات : أو يكون لك يا محمد بيت من ذهب ، وهو الزخرف.
كما حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس( أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ ) يقول : بيت من ذهب.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ؛ وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله( مِنْ زُخْرُفٍ ) قال : من ذهب.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ ) والزخرف هنا : الذهب.
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، في قوله( أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ ) قال : من ذهب.
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا الثوريّ ، عن رجل ، عن الحكم قال : قال مجاهد : كنا لا ندري ما الزخرف حتى رأيناه في قراءة ابن مسعود : " أوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ ذَهَبٍ " .
حدثنا محمد بن المثنى ، قال : ثنا محمد بن جعفر ، قال : ثنا شعبة ، عن الحكم ، عن مجاهد ، قال : لم أدر ما الزخرف ، حتى سمعنا في قراءة عبد الله بن مسعود : " بَيْتٌ مِنْ ذَهَبٍ " .

(17/553)


وقوله( أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ ) يعني : أو تصعد في درج إلى السماء ، وإنما قيل في السماء ، وإنما يرقى إليها لا فيها ، لأن القوم قالوا : أو ترقى في سلم إلى السماء ، فأدخلت " في " في الكلام ليدلّ على معنى الكلام ، يقال : رَقِيت في السلم ، فأنا أرقَى رَقيا ورِقيا ورُقيا ، كما قال الشاعر :
أنتَ الَّذِي كَلَّفْتَنِي رَقْيَ الدَّرْج... عَلى الكلالِ والمَشِيبِ والعَرْجِ (1)
وقوله( وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ ) يقول : ولن نصدّقك من أجل رُقِيك إلى السماء( حَتَّى تُنزلَ عَلَيْنَا كِتَابًا ) منشورا نَقْرَؤُهُ فيه أمرنا باتباعك والإيمان بك.
كما حدثنا محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قالا ثنا عيسى ؛ وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله( كِتَابًا نَقْرَؤُهُ ) قال : من ربّ العالمين إلى فلان ، عند كلّ رجل صحيفة تصبح عند رأسه يقرؤها.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد بنحوه ، إلا أنه قال : كتابا نقرؤه من ربّ العالمين ، وقال أيضا : تصبح عند رأسه موضوعة يقرؤها.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله( حَتَّى تُنزلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ ) : أي كتابا خاصا نؤمر فيه باتباعك.
وقوله( قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي ) يقول تعالى ذكره لنبيّه محمد صلى الله عليه وسلم : قل يا محمد لهؤلاء المشركين من قومك ، القائلين لك هذه الأقوال ، تنزيها لله عما يصفونه به ، وتعظيما له من أن يؤتى به وملائكته ، أو يكون لي سبيل إلى شيء مما تسألونيه( هَلْ كُنْتُ إِلا بَشَرًا رَسُولا ) يقول : هل أنا إلا عبد من عبيده من بني آدم ، فكيف أقدر أن أفعل ما سألتموني من هذه الأمور ، وإنما يقدر عليها خالقي وخالقكم ، وإنما أنا رسول أبلغكم ما أرسلت به إليكم ، والذي سألتموني أن أفعله بيد الله الذي أنا وأنتم عبيد له ، لا يقدر على ذلك غيره.
__________
(1) البيت في (اللسان : رقي) قال : ورقيت في السلم رقيا (بوزن سقف) ورقيا (بوزن فعول) إذا صعدت ، وارتقيت مثله ، أنشد ابن بري : " أنت الذي... البيت ، ولم ينسبه إلى قائله " .

(17/554)


وهذا الكلام الذي أخبر الله أنه كلَّم به رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما ذكر كان من ملإ من قريش اجتمعوا لمناظرة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومحاجَّته ، فكلَّموه بما أخبر الله عنهم في هذه الآيات
* ذكر تسمية الذين ناظروا رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك منهم والسبب الذي من أجله ناظروه به (1) حدثنا أبو كريب ، قال : ثنا يونس بن بكير ، قال : ثنا محمد بن إسحاق ، قال : ثني شيخ من أهل مصر ، قدم منذ بضع وأربعين سنة ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، أن عتبة وشيبة ابني ربيعة وأبا سفيان بن حرب ورجلا من بني عبد الدار وأبا البختري أخا بني أسد ، والأسود بن المطلب ، وزمعة بن الأسود ، والوليد بن المغيرة ، وأبا جهل بن هشام ، وعبد الله بن أبي أمية ، وأميَّة بن خلف ، والعاص بن وائل ، ونُبَيها ومُنَبها ابني الحجاج السَّهميين اجتمعوا ، أو من اجتمع منهم ، بعد غروب الشمس عند ظهر الكعبة ، فقال بعضهم لبعض : ابعثوا إلى محمد فكلِّموه وخاصموه حتى تُعْذروا فيه ، فبعثوا إليه : إن أشراف قومك قد اجتمعوا إليك ليكلموك ، فجاءهم رسول الله صلى الله عليه وسلم سريعا ، وهو يظنّ أنه بدا لهم في أمره بَدَاء ، وكان عليهم حريصا ، يحبّ رشدهم ويعزّ عليه عَنَتهم ، حتى جلس إليهم ، فقالوا : يا محمد إنا قد بعثنا إليك لنُعْذر فيك ، وإنا والله ما نعلم رجلا من العرب أدخل على قومه ما أدخلت على قومك ، لقد شتمت الآباء ، وعِبْت الدين ، وسفَّهت الأحلام ، وشتمت الآلهة ، وفرّقت الجماعة ، فما بقي أمر قبيح إلا وقد جئته فيما بيننا وبينك ، فإن كنت إنما جئت بهذا الحديث تطلب مالا جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالا وإن كنت إنما تطلب الشرف فينا سوّدناك علينا ، وإن كنت تريد به مُلكا ملكناك علينا ، وإن كان هذا الذي يأتيك بما يأتيك به رئيا تراه قد غلب عليك وكانوا يسمون التابع من الجنّ : الرئي ، فربما كان ذلك ، بذلنا أموالنا في طلب الطّب لك حتى نبرئك منه ، أو نعذر فيك ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما بِي ما تَقُولُونَ ، ما جِئتُكُمْ بِمَا جِئْتُكُمْ
__________
(1) انظر هذا الحديث في سيرة ابن هشام (طبعة الحلبي 1 : 315) وفيه اختلاف يسير في بعض الألفاظ ، وفي تفسير القرطبي (10 : 328 - 330).

(17/555)


بِهِ أطلُبُ أمْوِالَكُمْ ، ولا الشَّرَفَ فِيكُمْ وَلا المُلْكَ عَلَيْكُمْ وَلَكِنَّ الله بَعَثَنِي إلَيْكُمْ رَسُولا وَأَنزلَ عَلَيَّ كِتَابًا ، وَأَمَرَنِي أَنْ أَكُونَ لَكُمْ بَشِيرًا وَنَذِيرًا ، فَبَلَّغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي ، وَنَصَحْتُ لَكُمْ ، فَإِنْ تَقْبَلُوا مِنِّي مَا جِئْتُكُمْ بِهِ فَهُوَ حَظُّكُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ ، وَإِنْ تَرُدُّوهُ عَلَيَّ أَصْبِرْ لأمْرِ الله حتى يَحْكُمَ الله بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ " ، أو كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقالوا : يا محمد ، فإن كنت غير قابل منا ما عرضنا عليك ، فقد علمت أنه ليس أحد من الناس أضيق بلادا ، ولا أقل مالا ولا أشدّ عيشا منا ، فسل ربك الذي بعثك بما بعثك به ، فليسيِّرْ عنا هذه الجبال التي قد ضيقت علينا ، ويبسط لنا بلادنا ، وليفجِّر (1) لنا فيها أنهارا كأنهار الشام والعراق ، وليبعث لنا من مضى من آبائنا ، وليكن فيمن يبعث لنا منهم قُصَيّ بن كلاب ، فإنه كان شيخا صدوقا ، فنسألهم عما تقول ، حقّ هو أم باطل ؟ فإن صنعت ما سألناك ، وصدقوك صدقناك ، وعرفنا به منزلتك عند الله ، وأنه بعثك بالحقّ رسولا كما تقول. فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما بِهذَا بُعِثْتُ ، إنَّمَا جِئْتُكُمْ مِنَ الله بِمَا بَعَثَنِي بِهِ ، فقد بَلَّغْتُكُمْ ما أُرْسلْتُ بِهِ إليكم ، فإنْ تَقْبَلُوهُ فَهُوَ حظُّكُمْ فِي الدُّنْيا والآخِرَةِ ، وإنْ تَرُدُّوهُ عَليَّ أصْبِرْ لأمْرِ الله حتى يَحْكُمَ الله بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ " قالوا : فإن لم تفعل لنا هذا ، فخذ لنفسك ، فسل ربك أن يبعث ملكا يصدّقك بما تقول ، ويراجعنا عنك ، واسأله فليجعل لك جنانا وكنوزا وقصورا من ذهب وفضة ، ويغنيك بها عما نراك تبتغي ، فإنك تقوم بالأسواق ، وتلتمس المعاش كما نلتمسه ، حتى نعرف فضل منزلتك من ربك إن كنت رسولا كما تزعم ، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما أنا بِفاعِلٍ ، ما أنا بالَّذِي يَسْأَلُ رَبَّهُ هذَا ، وَما بُعِثْتُ إلَيْكُمْ بِهذَا ، وَلَكِنَّ الله بَعَثَنِي بَشِيرًا وَنَذِيرًا ، فإنْ تَقْبَلُوا ما جِئْتُكُمْ بِهِ فَهُوَ حظُّكُمْ فِي الدُّنْيا والآخِرَةِ ، وإنْ تَرُدُّوهُ عَلىَّ أَصْبِرْ لأمْرِ الله حتى يَحْكُمَ الله بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ قالوا : فأسقط السماء علينا كسفا ، كما زعمت أن ربك إن شاء فعل ، فإنا لا نؤمن لك إلا أن تفعل ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ذلكَ إلى اللهِ إنْ شاءَ فَعَلَ بِكُمْ ذلكَ ، فقالوا : يا محمد ، فما علم ربك أنا سنجلس معك ، ونسألك عما سألناك عنه ، ونطلب منك ما نطلب ، فيتقدّم إليك ، ويعلمك ما تراجعنا به ، ويخبرك ما هو صانع في ذلك بنا إذ لم نقبل منك ما جئتنا به ، فقد بلغنا أنه (2) إنما يعلِّمك هذا رجل باليمامة يقال له الرحمن ، وإنا والله ما نؤمن بالرحمن أبدا ، أعذرنا إليك يا محمد ، أما والله لا نتركك وما بلغت منا حتى نهلكك أو تهلكنا ، وقال قائلهم : نحن نعيد الملائكة ، وهنّ بنات الله ، وقال قائلهم : لن نؤمن لك حتى تأتينا بالله والملائكة قبيلا. فلما قالوا ذلك ، قام رسول الله صلى الله عليه وسلم عنهم ، وقام معه عبد الله بن أبي أميَّة بن المُغيرة بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم ، وهو ابن عمته هو لعاتكة بنت عبد المطلب ، فقال له : يا محمد عرض عليك قومك ما عرضوا فلم تقبله منهم ، ثم سألوك لأنفسهم أمورا ، ليعرفوا منزلتك من الله فلم تفعل ذلك ، ثم سألوك أن تعجل ما تخوّفهم به من العذاب ، فوالله لا أومن لك أبدا ، حتى تتخذ إلى السماء سلما ترقى فيه ، وأنا أنظر حتى تأتيها ، وتأتي معك بنسخة منشورة (3) معك أربعة من الملائكة يشهدون لك أنك كما تقول ، وايم الله لو فعلت ذلك لظننتُ ألا أصدّقك ، ثم انصرف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أهله حزينا أسيفا لما فاته مما كان يطمع فيه من قومه حين دعوه ، ولما رأى من مباعدتهم إياه ، فلما قام عنهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال أبو جهل : يا معشر قريش ، إن محمدا قد أبى إلا ما ترون من عيب ديننا ، وشتم آبائنا ، وتسفيه أحلامنا ، وسب آلهتنا ، وإني أعاهد الله لأجلسنّ له غدا بحجر قدر ما أطيق حَمْله ، فإذا سجد في صلاته فضخت رأسه به.
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، قال : ثنا ابن إسحاق ، قال : ثني محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت ، عن سعيد بن جبير أو عكرمة مولى ابن عباس ، عن ابن عباس ، بنحوه ، إلا أنه قال : وأبا سفيان بن حرب ، والنضر بن الحارث أبناء بني عبد الدار ، وأبا البختريّ بن هشام.
__________
(1) في بعض نسخ السيرة ، وفي تفسير القرطبي : " وليخرق " .
(2) في السيرة والقرطبي : " إنه قد بلغنا أنك إنما.. إلخ " .
(3) في تفسير القرطبي (10 : 330) : " ثم تأتي معك بصك معه أربعة... إلخ " . وفي السيرة : " ثم تأتي معك أربعة.. إلخ " .

(17/556)


وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا (94) قُلْ لَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولًا (95) قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا (96)

حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : ثنا هشيم ، عن أبي بشر ، عن سعيد ، قال : قلت له في قوله تعالى( لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأرْضِ يَنْبُوعًا ) قال : قلت له : نزلت في عبد الله بن أبي أمية ، قال : قد زعموا ذلك.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولا (94) }
يقول تعالى ذكره : وما منع يا محمد مشركي قومك الإيمان بالله ، وبما جئتهم به من الحقّ( إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى ) يقول : إذ جاءهم البيان من عند الله بحقيقة ما تدعوهم وصحة ما جئتهم به ، إلا قولهم جهلا منهم( أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولا ) فإن الأولى في موضع نصب بوقوع منع عليها ، والثانية في موضع رفع ، لأن الفعل لها.
القول في تأويل قوله تعالى : { قُلْ لَوْ كَانَ فِي الأرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنزلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولا (95) }
يقول تعالى ذكره لنبيّه : قل يا محمد لهؤلاء الذين أبوا الإيمان بك وتصديقك فيما جئتهم به من عندي ، استنكارا لأن يبعث الله رسولا من البشر : لو كان أيها الناس في الأرض ملائكة يمشون مطمئنين ، لَنزلْنَا عليهم من السماء ملكا رسولا لأن الملائكة إنما تراهم أمثالهم من الملائكة ، ومن خصّه الله من بني آدم برؤيتها ، فأما غيرهم فلا يقدرون على رؤيتها فكيف يبعث إليهم من الملائكة الرسل ، وهم لا يقدرون على رؤيتهم وهم بهيئاتهم التي خلقهم الله بها ، وإنما يرسل إلى البشر الرسول منهم ، كما لو كان في الأرض ملائكة يمشون مطمئنين ، ثم أرسلنا إليهم رسولا أرسلناه منهم ملكا مثلهم.
القول في تأويل قوله تعالى : { قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا (96) }

(17/558)


يقول تعالى ذكره لنبيّه : قل يا محمد للقائلين لك( أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولا )( كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ ) فإنه نعم الكافي والحاكم( إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا ) يقول : إن الله بعباده ذو خبرة وعلم بأمورهم وأفعالهم ، والمحقّ منهم والمُبطل ، والمُهدىّ والضالّ( بَصِيرًا ) بتدبيرهم وسياستهم وتصريفهم فيما شاء ، وكيف شاء وأحبّ ، لا يخفى عليه شيء من أمورهم ، وهو مجازٍ جميعَهم بما قدّم عند ورودهم عليه.

(17/559)


وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا (97)

القول في تأويل قوله تعالى : { وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا (97) }
يقول تعالى ذكره : ومن يهد الله يا محمد للإيمان به ، ولتصديقك وتصديق ما جئت به من عند ربك ، فوفَّقه لذلك ، فهو المهتد الرشيد المصيب الحقّ ، لا من هداه غيره ، فإن الهداية بيده.( وَمَنْ يُضْلِلِ ) يقول : ومن يضلله الله عن الحقّ ، فيخذله عن إصابته ، ولم يوفقه للإيمان بالله وتصديق رسوله ، فلن تجد لهم يا محمد أولياء ينصرونهم من دون الله ، إذا أراد الله عقوبتهم والاستنقاذ منهم.
( وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ) يقول : ونجمعهم بموقف القيامة من بعد تفرقهم في القبور عند قيام الساعة( عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا ) وهو جمع أبكم ، ويعني بالبكم : الخُرْس.
كما حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : ثنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، في قوله( وَبُكْما ) قال : الخرس( وَصُمًّا ) وهو جمع أصم.
فإن قال قائل : وكيف وصف الله هؤلاء بأنهم يحشرون عميا وبكما وسما ، وقد قال( وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا ) فأخبر أنهم يرون ، وقال( إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا وَإِذَا أُلْقُوا

(17/559)


مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا ) فأخبر أنهم يسمعون وينطقون ؟ قيل : جائز أن يكون ما وصفهم الله به من العَمى والبكم والصمم يكون صفتهم في حال حشرهم إلى موقف القيامة ، ثم يجعل لهم أسماع وأبصار ومنطق في أحوال أُخَر غير حال الحشر ، ويجوز أن يكون ذلك ، كما روي عن ابن عباس في الخبر الذي حدثنيه عليّ بن داود ، قال : ثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله( وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا ) ثم قال( وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا ) وقال( سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا ) وقال( دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا ) أما قوله( عُمْيا ) فلا يرون شيئا يسرّهم. وقوله( بُكْما ) لا ينطقون بحجة ، وقوله( صُمًّا ) لا يسمعون شيئا يسرّهم ، وقوله( مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ ) يقول جلّ ثناؤه : ومصيرهم إلى جهنم ، وفيها مساكنهم ، وهم وَقُودها.
كما حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله( مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ ) يعني إنهم وقودها.
وقوله( كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا ) يعني بقوله خبت : لانت وسكنت ، كما قال عديّ بن زيد العبادي في وصف مزنة :
وَسْطُهُ كالْيَرَاعِ أوْ سُرُجِ المِجْدَلِ... حِينًا يَخْبُو وحِينًا يُنِيرُ (1)
يعني بقوله : يخبو السرج : أنها تلين وتضعف أحيانا ، وتقوى وتنير أخرى ، ومنه قول القطامي :
__________
(1) البيت لعدي بن زيد العبادي (شعراء النصرانية ص 455) وهو مما كتب به إلى النعمان ، وهو من غرر قصائده. واليراع : فراشة إذا طارت في الليل لم يشك من يعرفها أنها شرارة طائرة عن نار. قال الجاحظ : نار اليراعة قيل هي نار حباحب ، وهي شبيهة بنار البرق. قال : واليراعة طائر صغير إن طار بالليل كان كأنه شهاب قذف ، أو مصباح يطير. والمجدل ، بكسر الميم : القصر المشرف ، لوثاقة بنائه وجمعه مجادل. وخبت النار والحرب والحدة تخبو خبوا (على فعل) وخبوا (على فعول) : سكنت وطفئت ، وخمد لهبها. وقوله تعالى : (كلما خبت زدناهم سعيرا) : قيل معناه : سكن لهبها ، وقيل معناه : كلما تمنوا أن تخبو ، وأرادوا أن تخبو. (انظر اللسان : يرع ، وجدل ، وخبا).

(17/560)


فَيَخْبو ساعَةً ويَهُبُّ ساعا (1)
وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل على اختلاف منهم في العبارة عن تأويله.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ بن داود ، قال : ثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، في قوله( كُلَّمَا خَبَتْ ) قال : سكنت.
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، ( كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا ) يقول : كلما أحرقتهم تسعر بهم حطبا ، فإذا أحرقتهم فلم تبق منهم شيئا صارت جمرا تتوهَّج ، فذلك خُبُوُّها ، فإذا بدّلوا خلقا جديدا عاودتهم.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ؛ وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن مجاهد حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد مثله.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قال ابن عباس( كُلَّمَا خَبَتْ ) قال : خبوّها أنها تَسَعَّر بهم حطبا ، فإذا أحرقتهم ، فلم يبق منهم شيء صارت جمرا تتوهج ، فإذا بُدِّلوا خلقا جديدا عاودتهم.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة قوله( كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا ) يقول : كلما احترقت جلودهم بُدّلوا جلودا غيرها ، ليذوقوا العذاب.
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، في قوله( كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا ) قال : كلما لان منها شيء.
__________
(1) هذا عجز بيت للقطامي. وصدره * وكنا كالحريق أصاب غابا *
(انظر ديوانه طبع ليدن سنة 1902 ص 39) قال : يخبو : يسكن. ويهب : يهيج. وساع : جمع ساعة. وفي (اللسان : سرع) الساعة : جزء من الليل والنهار. والجمع : ساعات وساع. قال القطام * وكنا كالحريق لذي كفاح *
... البيت. قال ابن بري : المشهور في صدر هذا البي * كنا كالحريق أصاب غابا *
وفي مجاز القرآن لأبي عبيدة (1 : 391) " كلما خبت زدناهم سعيرا " أي تأججا. وخبت سكنت. وأنشد عجز البيت ، ثم قال : ولم يذكرها هنا جلودهم ، فيكون الخبو لها.

(17/561)


ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِآَيَاتِنَا وَقَالُوا أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا (98) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلًا لَا رَيْبَ فِيهِ فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلَّا كُفُورًا (99)

حُدثت عن مروان ، عن جويبر ، عن الضحاك( كُلَّمَا خَبَتْ ) قال : سكنت. وقوله( زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا ) يقول : زدنا هؤلاء الكفار سعيرا ، وذلك إسعار النار عليهم والتهابها فيهم وتأججها بعد خبوّها ، في أجسامهم.
القول في تأويل قوله تعالى : { ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا وَقَالُوا أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا (98) }
يقول تعالى ذكره : هذا الذي وصفنا من فعلنا يوم القيامة بهؤلاء المشركين ، ما ذكرت أنا نفعل بهم من حشرهم على وجوههم عميا وبكما وصما ، وإصلائنا إياهم النار على ما بيَّنا من حالتهم فيها ثوابهم بكفرهم في الدنيا بآياتنا ، يعني بأدلته وحججه ، وهم رسله الذين دعوهم إلى عبادته ، وإفرادهم إياه بالألوهة دون الأوثان والأصنام ، وبقولهم إذا أُمروا بالإيمان بالميعاد ، وبثواب الله وعقابه في الآخرة( أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا ) بالية( وَرُفَاتًا ) قد صرنا ترابا( أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا ) يقولون : نُبعث بعد ذلك خلقا جديدا . كما ابتدأناه أوّل مرّة في الدنيا استنكارا منهم لذلك ، واستعظاما وتعجبا من أن يكون ذلك.
القول في تأويل قوله تعالى : { أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلا لا رَيْبَ فِيهِ فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلا كُفُورًا (99) }
يقول تعالى ذكره لنبيّه محمد صلى الله عليه وسلم : أولم ينظر هؤلاء القائلون من المشركين( أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا ) بعيون قلوبهم ، فيعلمون أن الله الذي خلق السماوات والأرض ، فابتدعها من غير شيء ، وأقامها بقُدرته ، قادر بتلك القُدرة على أن يخلق مثلهم أشكالهم ، وأمثالهم من الخلق بعد فنائهم ، وقبل ذلك ، وأن من قدر على ذلك فلا يمتنع عليه إعادتهم خلقا جديدا ، بعد أن يصيروا عظاما ورُفاتا ، وقوله( وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلا لا رَيْبَ فِيهِ ) يقول تعالى ذكره : وجعل الله لهؤلاء المشركين أجلا لهلاكهم ، ووقتا

(17/562)


قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذًا لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفَاقِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ قَتُورًا (100)

لعذابهم لا ريب فيه. يقول : لا شكّ فيه أنه آتيهم ذلك الأجل( فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلا كُفُورًا ) يقول : فأبى الكافرون إلا جحودا بحقيقة وعيده الذي أوعدهم وتكذيبا به.
القول في تأويل قوله تعالى : { قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذًا لأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الإنْفَاقِ وَكَانَ الإنْسَانُ قَتُورًا (100) }
يقول تعالى ذكره لنبيّه : قل يا محمد لهؤلاء المشركين : لو أنتم أيها الناس تملكون خزائن أملاك ربي من الأموال ، وعنى بالرحمة في هذا الموضع : المال( إِذًا لأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الإنْفَاقِ ) يقول : إذن لَبَخِلْتُمْ بِهِ فَلم تجودوا بها على غيركم ، خشية من الإنفاق والإقتار.
كما حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قال ابن عباس( إِذًا لأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الإنْفَاقِ ) قال : الفقر.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( خَشْيَةَ الإنْفَاقِ ) أي خشية الفاقة.
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، مثله.
وقوله( وَكَانَ الإنْسَانُ قَتُورًا ) يقول : وكان الإنسان بخيلا ممسكا.
كما حدثني عليّ ، قال : ثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، في قوله( وَكَانَ الإنْسَانُ قَتُورًا ) يقول : بخيلا.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قال ابن عباس ، في قوله( وَكَانَ الإنْسَانُ قَتُورًا ) قال : بخيلا.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( وَكَانَ الإنْسَانُ قَتُورًا ) قال : بخيلا ممسكا.
وفي القتور في كلام العرب لغات أربع ، يقال : قتر فلان يقْتُر ويقْتِر ، وقتر يقتِّر ، وأقتر يُقْتر ، كما قال أبو دواد :

(17/563)


وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آَيَاتٍ بَيِّنَاتٍ فَاسْأَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ جَاءَهُمْ فَقَالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُورًا (101)

لا أعُدُّ الإقتار عُدْما وَلَكِنْ... فَقْدُ مَنْ قَد رُزِيتُهُ الإعْدَامُ (1)
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ فَاسْأَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ جَاءَهُمْ فَقَالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُورًا (101) }
يقول تعالى ذكره : ولقد آتينا موسى بن عمران تسع آيات بيِّنات تُبَين لمن رآها أنها حجج لموسى شاهدة على صدقه وحقيقة نبوّته.
وقد اختلف أهل التأويل فيهنّ وما هنّ.
فقال بعضهم في ذلك ما حدثني به محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله( وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ ) قال : التسع الآيات البينات : يده ، وعصاه ، ولسانه ، والبحر ، والطوفان ، والجراد ، والقمل ، والضفادع ، والدم آيات مفصلات.
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله( وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ ) إلقاء العصا مرّتين عند فرعون ، ونزع يده ، والعقدة التي كانت بلسانه ، وخمس آيات في الأعراف : الطوفان ، والجراد ، والقمل ، والضفادع ، والدم.
وقال آخرون : نحوا من هذا القول ، غير أنهم جعلوا آيتين منهن : إحداهما الطمسة ، والأخرى الحجر.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، عن ابن
__________
(1) البيت لأبي دؤاد (بواو غير مهموزة بعد الدال ، كما في التاج) وهو جارية بن الحجاج ، أو هو حنظلة بن الشرتي الإيادي. والبيت في (الشعر والشعراء لابن قتيبة طبعة ليدن سنة 1902 ص 122). وفي اللسان : قتر يقتر ويقتر قترا وقتورا ، فهو قاتر وقتور ؛ وأقتر. أي افتقر. وقتر على عياله وأقتر وقتر : أي ضيق عليهم في النفقة. ويقال : إنه لقتور : أي مقتر. فتلخص أن اللغات في هذا أربع : قتر يقتر ويقتر (من بابي نصر وضرب) وقتر (بالتشديد) وأقتر (بالهمز) كما قال المؤلف.

(17/564)


إسحاق ، عن بريدة بن سفيان ، عن محمد بن كعب القرظي ، قال : سألني عمر بن عبد العزيز ، عن قوله( وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ ) فقلت له : هي الطوفان والجراد ، والقمل ، والضفادع ، والدم ، والبحر ، وعصاه ، والطمسة ، والحجر ، فقال : وما الطمسة ؟ فقلت : دعا موسى وأمَّن هارون ، فقال : قد أجيبت دعوتكما ، وقال عمر : كيف يكون الفقه إلا هكذا. فدعا عمر بن عبد العزيز بخريطة كانت لعبد العزيز بن مروان أصيبت بمصر ، فإذا فيها الجوزة والبيضة والعدسة ما تنكر ، مسخت حجارة كانت من أموال فرعون أصيبت بمصر.
وقال آخرون : نحوا من ذلك إلا أنهم جعلوا اثنتين منهنّ : إحداهما السنين ، والأخرى النقص من الثمرات.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا يحيى بن واضح ، قال : ثنا الحسين بن واقد ، عن يزيد النحوي ، عن عكرمة ومطر الورّاق ، في قوله( تِسْعَ آياتٍ ) قالا الطوفان ، والجراد ، والقمل ، والضفادع ، والدم ، والعصا ، واليد ، والسنون ، ونقص من الثمرات.
حدثني يعقوب ، قال : ثنا هشيم ، عن مغيرة ، عن الشعبيّ ، في قوله( تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ ) قال : الطوفان ، والجراد ، والقمل ، والضفادع ، والدم ، والسنين ، ونقص من الثمرات ، وعصاه ، ويده.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : سُئل عطاء بن أبي رباح عن قوله( وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ ) ما هي ؟ قال : الطوفان ، والجراد ، والقمل ، والضفادع ، والدم ، وعصى موسى ، ويده.
قال : ابن جريج : وقال مجاهد مثل قول عطاء ، وزاد( أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ ) قال : هما التاسعتان ، ويقولون : التاسعتان : السنين ، وذهاب عجمة لسان موسى.

(17/565)


حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، عن ابن عباس ، في قوله( تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ ) وهي متتابعات ، وهي في سورة الأعراف( وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ ) قال : السنين في أهل البوادي ، ونقص من الثمرات لأهل القرى ، فهاتان آيتان ، والطوافان ، والجراد ، والقمل ، والضفادع ، والدم ، هذه خمس ، ويد موسى إذ أخرجها بيضاء للناظرين من غير سوء : البرص ، وعصاه إذ ألقاها ، فإذا هي ثعبان مبين.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، عن ابن عباس ، قوله( وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ ) قال : يد موسى ، وعصاه ، والطوفان ، والجراد ، والقمل ، والضفادع ، والدم والسنين ، ونقص من الثمرات.
وقال آخرون نحوا من ذلك إلا أنهم جعلوا السنين ، والنقص من الثمرات آية واحدة ، وجعلوا التاسعة : تلقف العصا ما يأفكون.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، قال : قال الحسن ، في قوله( تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ ) ، ( وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ ) قال : هذه آية واحدة ، والطوفان ، والجراد ، والقمل ، والضفادع ، والدم ، ويد موسى ، وعصاه إذ ألقاها فإذا هي ثعبان مبين ، وإذ ألقاها فإذا هي تلقف ما يأفكون.
وقال آخرون في ذلك ما حدثني محمد بن المثنى ، قال : ثني محمد بن جعفر ، قال : ثنا شعبة ، عن عمرو بن مرّة ، قال : سمعت عبد الله بن سلمة يحدّث عن صفوان بن عسال ، قال : قال يهوديّ لصاحبه : اذهب بنا إلى النبيّ حتى نسأله عن هذه الآية( وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ ) قال : لا تقل له نبيّ ، فإنه إن سمعك صارت له أربعة أعين ، قال : فسألا فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم : لا تُشْرِكُوا بِاللَّهِ شَيْئًا ، وَلا تَسْرِقُوا ، وَلا تَزْنُوا ، وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ ، وَلا تَسْحَرُوا ، وَلا تَأْكُلُوا الرِّبَا ، وَلا تَمْشُوا بِبَرِيءٍ إِلَى ذِي سُلْطَانٍ لِيَقْتُلَهُ ، وَلا تَقْذِفُوا مُحْصَنَةً ، أو قال : لا تَفرُّوا مِنَ

(17/566)


الزَّحْفِ " . شعبة الشاكّ وأنْتُمْ يا يَهُودُ عليكم خَاصّ لا تَعْدُوا فِي السَّبْت ، فقبَّلا يده ورجله ، وقالا نشهد أنك نبيّ ، قال : فما يمنعكما أن تسلما ؟ قالا إن داود دعا أن لا يزال من ذرّيته نبيّ ، وإنا نخشى أن تقتلنا يهود " .
حدثنا ابن المثنى ، قال : ثنا سهل بن يوسف وأبو داود وعبد الرحمن بن مهدي ، عن سعيد ، عن عمرو ، قال : سمعت عبد الله بن سلمة يحدث عن صفوان بن عسال المرادي ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم بنحوه ، إلا أن ابن مهديّ قال : " لا تمشوا إلى ذي سُلْطان " وقال ابن مهدي : أراه قال : " ببريء " .
حدثنا أبو كريب ، قال : ثنا عبد الله بن إدريس وأبو أسامة بنحوه ، عن شعبة بن الحجاج ، عن عمرو بن مرّة ، عن عبد الله بن سلمة ، عن صفوان بن عسال ، قال : قال يهودي لصاحبه : اذهب بنا إلى هذا النبيّ ، فقال صاحبه : لا تقل نبيّ ، إنه لو سمعك كان له أربع أعين ، قال : فأتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، يسألانه عن تسع آيات بينات ، فقال : " هنَّ : ولا تُشْرِكُوا بِاللَّهِ شَيْئًا ، وَلا تَسْرِقُوا ، وَلا تَزْنُوا ، وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ ، وَلا تَمْشُوا بِبَرِيءٍ إِلَى ذِي سُلْطَانٍ لِيَقْتُلَهُ ، وَلا تَسْحَرُوا ، وَلا تَأْكُلُوا الرِّبَا ، وَلا تَقْذِفُوا مُحْصَنَةً ، وَلا تَوَلَّوا يَوْمَ الزَّحْفِ ، وَعَلَيْكُمْ خَاصَّةً يَهُودُ : أنْ لا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ ، قال : فقبَّلوا يديه ورجليه ، وقالوا : نشهد أنك نبيّ ، قال : فَمَا يَمْنَعُكُمْ أَنْ تَتَّبِعُونِي ؟ قالوا : إن داود دعا أن لا يزال من ذرّيته نبيّ ، وإنا نخاف إن اتبعناك أن تقتلنا يهود " .
حدثنا مجاهد بن موسى ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا شعبة بن الحجاج ، عن عمرو بن مرة ، عن عبد الله بن سلمة ، عن صفوان بن عسَّال ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم بنحوه.
وأما قوله( فَاسْأَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ جَاءَهُمْ ) فإن عامّة قرّاء الإسلام على قراءته على وجه الأمر بمعنى : فاسأل يا محمد بني إسرائيل إذ جاءهم موسى.
ورُوي عن الحسن البصري في تأويله ما حدثني به الحارث ، قال : ثنا

(17/567)


قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا (102)

القاسم ، قال : ثنا حجاج ، عن هارون ، عن إسماعيل ، عن الحسن( فَاسْأَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ ) قال : سؤالك إياهم : نظرك في القرآن.
ورُوي عن ابن عباس أنه كان يقرأ ذلك : " فسأل " بمعنى : فسأل موسى فرعون بني إسرائيل أن يرسلهم معه على وجه الخبر.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا أحمد بن يوسف ، قال : ثنا القاسم ، قال : ثنا حجاج ، عن هارون ، عن حنظلة السَّدوسيّ ، عن شهر بن حوشب ، عن ابن عباس ، أنه قرأ : " فَسأَلَ بَنِي إسْرَائِيلَ إذْ جاءهم " يعني أن موسى سأل فرعونَ بني إسرائيل أن يرسلهم معه.
والقراءة التي لا أستجيز أن يُقرأ بغيرها ، هي القراءة التي عليها قرّاء الأمصار ، لإجماع الحجة من القرّاء على تصويبها ، ورغبتهم عما خالفها.
وقوله( فَقَالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُورًا ) يقول : فقال لموسى فرعون : إني لأظنك يا موسى تتعاطى علم السحر ، فهذه العجائب التي تفعلها من سحرك ، وقد يجوز أن يكون مرادا به إني لأظنك يا موسى ساحرا ، فوضع مفعول موضع فاعل ، كما قيل : إنك مشئوم علينا وميمون ، وإنما هو شائم ويامن ، وقد تأوّل بعضهم حجابا مستورا ، بمعنى : حجابا ساترا ، والعرب قد تخرج فاعلا بلفظ مفعول كثيرا.
القول في تأويل قوله تعالى : { قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزلَ هَؤُلاءِ إِلا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا (102) }
اختلفت القرّاء في قراءة قوله( لَقَدْ عَلِمْتَ ) فقرأ عامة قرّاء الأمصار ذلك( لَقَدْ عَلِمْتَ ) بفتح التاء ، على وجه الخطاب من موسى لفرعون ، ورُوي عن عليّ بن أبي طالب رضوان الله عليه في ذلك ، أنه قرأ " لَقَدْ عَلِمْتُ " بضمّ التاء ، على وجه الخبر من موسى عن نفسه ، ومن قرأ ذلك على هذه القراءة ، فإنه ينبغي

(17/568)


أن يكون على مذهبه تأويل قوله( إِنِّي لأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُورًا ) إني لأظنك قد سُحِرت ، فترى أنك تتكلم بصواب وليس بصواب ، وهذا وجه من التأويل ، غير أن القراءة التي عليها قرّاء الأمصار خلافها ، وغير جائز عندنا خلاف الحجة فيما جاءت به من القراءة مجمعة عليه.
وبعد ، فإن الله تعالى ذكره قد أخبر عن فرعون وقومه أنهم جحدوا ما جاءهم به موسى من الآيات التسع ، مع علمهم بأنها من عند الله بقوله( وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آيَاتٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا ) فأخبر جلّ ثناؤه أنهم قالوا : هي سحر ، مع علمهم واستيقان أنفسهم بأنها من عند الله ، فكذلك قوله( لَقَدْ عَلِمْتَ ) إنما هو خبر من موسى لفرعون بأنه عالم بأنها آيات من عند الله ، وقد ذُكر عن ابن عباس أنه احتجّ في ذلك بمثل الذي ذكرنا من الحجة.
قال : حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثنا هشيم ، قال : أخبرنا أبو بشر ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، أنه كان يقرأ( لَقَدْ عَلِمْتَ ) يا فرعون بالنصب( مَا أَنزلَ هَؤُلاءِ إِلا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ) ، ثم تلا( وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا ). فإذا كان ذلك كذلك ، فتأويل الكلام : قال موسى لفرعون : لقد علمت يا فرعون ما أنزل هؤلاء الآيات التسع البينات التي أريتكها حجة لي على حقيقة ما أدعوك إليه ، وشاهدة لي على صدق وصحة قولي ، إني لله رسول ، ما بعثني إليك إلا ربّ السماوات والأرض ، لأن ذلك لا يقدر عليه ، ولا على أمثاله أحد سواه ، بصائر : يعني بالبصائر : الآيات ، أنهنّ بصائر لمن استبصر بهنّ ، وهدى لمن اهتدى بهنّ ، يعرف بهنّ من رآهنّ أن من جاء بهنّ فمحقّ ، وأنهنّ من عند الله لا من عند غيره ، إذ كنّ معجزات لا يقدر عليهنّ ، ولا على شيء منهنّ سوى ربّ السموات والأرض ، وهو جمع بصيرة.
وقوله( وَإِنِّي لأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا ) يقول : إني لأظنك يا فرعون ملعونا ممنوعا من الخير ، والعرب تقول : ما ثبرك عن هذا الأمر : أي ما منعك

(17/569)


منه ، وما صدّك عنه ؟ وثبره الله فهو يُثْبره ويَثبُره لغتان ، ورجل مثبور : محبوس عن الخيرات هالك ، ومنه قول الشاعر :
إذْ أُجارِي الشَّيطانَ في سَننِ الغَيّ... وَمنْ مالَ مَيْلَهُ مَثْبُورُ (1)
وبنحو الذي قلنا في تأويل ذلك ، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا عبد الله بن عبد الله الكلابي ، قال : ثنا أبو خالد الأحمر ، قال : ثنا عمر بن عبد الله ، عن المنهال بن عمرو ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، في قوله( وَإِنِّي لأَظُنُّكَ يَافِرْعَوْنُ مَثْبُورًا ) قال ملعونا.
حدثنا أبو كريب ، قال : ثنا مروان بن معاوية ، قال : أخبرنا عمر بن عبد الله الثقفي ، عن المنهال ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، مثله.
حدثني عليّ ، قال : ثنا عبد الله ، قال : ثنا معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله( وَإِنِّي لأَظُنُّكَ يَافِرْعَوْنُ مَثْبُورًا ) يقول : ملعونا.
وقال آخرون : بل معناه : إني لأظنك يا فرعون مغلوبا.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله( وَإِنِّي لأَظُنُّكَ يَافِرْعَوْنُ مَثْبُورًا ) يعني : مغلوبا.
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : ثنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله( وَإِنِّي لأَظُنُّكَ يَافِرْعَوْنُ مَثْبُورًا ) يقول : مغلوبا.
__________
(1) البيت لعبد الله بن الزبعرى من مقطوعة أربعة أبيات ، قالها حين جاء إلى النبي مسلما معتذرا عما فرط منه من هجائه ، بتحريض قريش على ذلك (انظر سيرة ابن هشام طبعة مصطفى الحلبي وأولاده ، بتحقيق مصطفى السقا والإبياري وشلبي ، الطبعة الثانية القسم الثاني ص 419) والبيتان الأولان منها : يا رَسُولَ المَلِيكِ إنَّ لساني ... رَاتِقٌ ما فَتَقْتُ إذْ أنا بُورُ
إذْ أُبارِي الشَّيْطَانَ فِي سَننِ الْغَيِّ ... وَمَنْ مَالَ مَيْلَهُ مَثْبُورُ
والراتق : الذي يسد الخرق. تقول : ارتقت الشيء : إذا أصلحته وسددته. وفتقت : يعني في الدين ، فكل إثم فتق وتمزيق ، وكل توبة رتق. ومن أجل ذلك قيل التوبة نصوح ، من نصحت الثوب : إذا خطته والنصاح : الخيط. وبور : هالك. يقال : رجل بور وبائر ، وقوم بور. وأباري : أجاري وأعارض ، وهي رواية في البيت. والسنن بالتحريك : وسط الطريق. ومثبور هالك. وهنا محل الشاهد عند المؤلف. قال : ثبره الله يثبره ويثبره : (كنصر وضرب) لغتان. ورجل مثبور : محبوس عن الخير هالك.

(17/570)


وقال بعضهم : معنى ذلك : إني لأظنك يا فرعون هالكا.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ؛ وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : مثبورا : أي هالكا.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثنا حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( وَإِنِّي لأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا ) : أي هالكا.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله.
حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، بنحوه.
وقال آخرون : معناه : إني لأظنك مبدِّلا مغيرا.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا أبو كريب ، قال : ثنا عبد الله بن موسى ، عن عيسى بن موسى ، عن عطية( وَإِنِّي لأَظُنُّكَ يَافِرْعَوْنُ مَثْبُورًا ) قال : مبدّلا.
وقال آخرون : معناه : مخبولا لا عقل له.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله( وَإِنِّي لأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا ) قال : الإنسان إذا لم يكن له عقل فما ينفعه ؟ يعني : إذا لم يكن له عقل ينتفع به في دينه ومعاشه دعته العرب مثبورا ، قال : أظنك ليس لك عقل يا فرعون ، قال : بينا هو يخافه ولا ينطق لساني أن أقول (1) هذا لفرعون ، فلما شرح الله صدره ، اجترأ أن يقول له فوق ما أمره الله.
وقد بيَّنا الذي هو أولى بالصواب في ذلك قبل.
__________
(1) كذا في الأصل ، والسياق مضطرب.

(17/571)


فَأَرَادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ فَأَغْرَقْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعًا (103) وَقُلْنَا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآَخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا (104)

القول في تأويل قوله تعالى : { فَأَرَادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الأَرْضِ فَأَغْرَقْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعًا (103) وَقُلْنَا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسْكُنُوا الأَرْضَ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا (104) }
يقول تعالى ذكره : فأراد فرعون أن يستفز موسى وبني إسرائيل من الأرض ، ( فَأَغْرَقْنَاهُ ) في البحر ، ( وَمَنْ مَعَهُ ) من جنده( جَمِيعًا ) ، ونجَّينا موسى وبني إسرائيل ، وقلنا لهم( مِنْ بَعْدِ ) هلاك فرعون( اسْكُنُوا الأَرْضَ ) أرض الشام( فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا ) يقول : فإذا جاءت الساعة ، وهي وعد الآخرة ، جئنا بكم لفيفا : يقول : حشرناكم من قبوركم إلى موقف القيامة لفيفا : أي مختلطين قد التفّ بعضكم على بعض ، لا تتعارفون ، ولا ينحاز أحد منكم إلى قبيلته وحيِّه ، من قولك : لففت الجيوش : إذا ضربت بعضها ببعض ، فاختلط الجميع ، وكذلك كلّ شيء خُلط بشيء فقد لُفّ به.
وقد اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك ، فقال بعضهم نحو الذي قلنا فيه.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن بشار ، قال : ثنا عبد الرحمن ، قال : ثنا سفيان ، عن منصور ، عن ابن أبي رَزين( جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا ) قال : من كلّ قوم.
وقال آخرون : بل معناه : جئنا بكم جميعا.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله( جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا ) قال : جميعا.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ؛ وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد( جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا ) جميعا.

(17/572)


حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة قوله( فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا ) : أي جميعا ، أولكم وآخركم.
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، في قوله( جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا ) قال : جميعا.
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : ثنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله( جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا ) يعني جميعا.
ووحَّد اللفيف ، وهو خبر عن الجميع ، لأنه بمعنى المصدر كقول القائل : لفقته لفًّا ولفيفا.

(17/573)


وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (105) وَقُرْآَنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا (106)

القول في تأويل قوله تعالى : { وَبِالْحَقِّ أَنزلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نزلَ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (105) وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنزلْنَاهُ تَنزيلا (106) }
يقول تعالى ذكره : وبالحق أنزلنا هذا القرآن : يقول : أنزلناه نأمر فيه بالعدل والإنصاف والأخلاق الجميلة ، والأمور المستحسنة الحميدة ، وننهى فيه عن الظلم والأمور القبيحة ، والأخلاق الردية ، والأفعال الذّميمة( وَبِالْحَقِّ نزلَ ) يقول : وبذلك نزل من عند الله على نبيّه محمد صلى الله عليه وسلم.
وقوله( وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا ) يقول تعالى ذكره لنبيّه محمد صلى الله عليه وسلم : وما أرسلناك يا محمد إلى من أرسلناك إليه من عبادنا ، إلا مبشرا بالجنَّة من أطاعنا ، فانتهى إلى أمرنا وَنهْينا ، ومنذرا لمن عصانا وخالف أمرنا ونهينَا( وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ ) اختلفت القرّاء في قراءة ذلك ، فقرأته عامّة قرّاء الأمصار(فَرَقْناهُ) بتخفيف الراء من فرقناه ، بمعنى : أحكمناه وفصلناه وبيناه ، وذكر عن ابن عباس ، أنه كان يقرؤه بتشديد الراء " فَرَّقْناهُ " بمعنى : نزلناه شيئا بعد شيء ، آية بعد آية ، وقصة بعد قصة.

(17/573)


وأولى القراءتين بالصواب عندنا ، القراءة الأولى ، لأنها القراءة التي عليها الحجة مجمعة ، ولا يجوز خلافها فيما كانت عليه مجمعة من أمر الدين والقرآن ، فإذا كان ذلك أولى القراءتين بالصواب ، فتأويل الكلام : وما أرسلناك إلا مبشرا ونذيرا ، وفصلناه قرآنا ، وبيَّناه وأحكمناه ، لتقرأه على الناس على مكث.
وبنحو الذي قلنا في ذلك من التأويل ، قال جماعة من أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : ثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله( وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ ) يقول : فصلناه.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن أبي جعفر ، عن أبي الربيع عن أبي العالية ، عن أبيّ بن كعب أنه قرأ( وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ ) مخففا : يعني بيناه.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قال ابن عباس( وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ ) قال : فصلناه.
حدثنا ابن المثنى ، قال : ثنا بدل بن المحبر ، قال : ثنا عباد ، يعني ابن راشد ، عن داود ، عن الحسن أنه قرأ( وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ ) خفَّفها : فرق الله بين الحقّ والباطل.
وأما الذين قرءوا القراءة الأخرى ، فإنهم تأوّلوا ما قد ذكرت من التأويل.
ذكر من قال ما حكيت من التأويل عن قارئ ذلك كذلك : حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن أبي جعفر ، عن الربيع ، عن أبي العالية ، قال : كان ابن عباس يقرؤها : " وَقُرآنا فَرَّقْناهُ " مثقلة ، يقول : أنزل آية آية.
حدثنا ابن المثنى ، قال : ثنا يزيد بن هارون ، قال : أخبرنا داود ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، قال : أنزل القرآن جملة واحدة إلى السماء الدنيا في ليلة القدر ، ثم أنزل بعد ذلك في عشرين سنة ، قال( وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا ) ، " وَقُرآنا فَرَّقْناهُ لِتَقْرأَهُ عَلى النَّاسِ على مُكْثٍ ، وَنزلْناهُ تَنزيلا " .

(17/574)


حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، في قوله : " وَقُرآنا فَرَّقْناهُ لِتَقْرأَهُ عَلى النَّاسِ " لم ينزل جميعا ، وكان بين أوّله وآخره نحو من عشرين سنة.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : ( وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ ) قال : فرّقه : لم ينزله جميعه. وقرأ( وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نزلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً ) ... حتى بلغ( وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا ) يَنْقُض عليهم ما يأتون به.
وكان بعض أهل العربية من أهل الكوفة يقول : نصب قوله( وَقُرآنا ) بمعنى : ورحمة ، ويتأوّل ذلك( وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا ) ورحمة ، ويقول : جاز ذلك ، لأن القرآن رحمة ، ونصبه على الوجه الذي قلناه أولى ، وذلك كما قال جلّ ثناؤه( وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ ) وقوله( لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ ) يقول : لتقرأه على الناس على تُؤَدة ، فترتله وتبينه ، ولا تعجل في تلاوته ، فلا يفهم عنك.
وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن بشار ، قال : ثنا عبد الرحمن ، قال : ثنا سفيان ، عن عبيد المكُتِب (1) قال : قلت لمجاهد : رجل قرأ البقرة وآل عمران ، وآخر قرأ البقرة ، وركوعهما وسجودهما واحد ، أيهما أفضل ؟ قال : الذي قرأ البقرة ، وقرأ( وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ ) .
حدثني عليّ ، قال : ثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله( لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ ) يقول : على تأييد.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ؛ وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله( عَلَى مُكْثٍ ) قال : على ترتيل.
__________
(1) المكتب : اسم فاعل من أكتب أو من كتب بالتشديد وهو المعلم ، يعلم الصبيان كتابة القرآن في ألواحهم.

(17/575)


حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قوله( لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ ) قال : في ترتيل.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله( لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ ) قال : التفسير الذي قال الله( وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلا ) : تفسيره.
حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا الثوري ، عن عبيد ، عن مجاهد ، قوله( لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ ) على تؤدة ، وفي المُكث للعرب لغات : مُكث ، ومَكث ، ومِكث ومِكِّيثَى مقصور ، ومُكْثانا ، والقراءة بضمّ الميم.
وقوله( وَنزلْنَاهُ تَنزيلا ) يقول تعالى ذكره : فرقنا تنزيله ، وأنزلناه شيئا بعد شيء.
كما حدثني يعقوب ، قال : ثنا ابن علية ، قال : حدثنا ، عن أبي رجاء ؛ قال : تلا الحسن : " وَقُرآنا فَرَّقْناهُ لِتَقْرأَهُ عَلى النَّاسِ على مُكْثٍ وَنزلْنَاهُ تَنزيلا " قال : كان الله تبارك وتعالى ينزل هذا القرآن بعضه قبل بعض لما علم أنه سيكون ويحدث في الناس ، لقد ذكر لنا أنه كان بين أوّله وآخره ثماني عشرة سنة ، قال : فسألته يوما على سخطة ، فقلت : يا أبا سعيد " وقرآنا فرقناه " فثقلها أبو رجاء ، فقال الحسن : ليس فرّقناه ، ولكن فَرقناه ، فقرأ الحسن مخففة ، قلت : من يُحدثك هذا يا أبا سعيد أصحاب محمد ، قال : فمن يحدّثنيه ، قال : أنزل عليه بمكة قبل أن يهاجر إلى المدينة ثماني سنين ، وبالمدينة عشر سنين.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله( وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنزلْنَاهُ تَنزيلا ) لم ينزل في ليلة ولا ليلتين ، ولا شهر ولا شهرين ، ولا سنة ولا سنتين ، ولكن كان بين أوّله وآخره عشرون سنة ، وما شاء الله من ذلك.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، عن الحسن ،

(17/576)


قُلْ آَمِنُوا بِهِ أَوْ لَا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا (107) وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا (108)

قال : كان يقول : أنزل على نبيّ الله القرآن ثماني سنين ، وعشرا بعد ما هاجر. وكان قتادة يقول : عشرا بمكة ، وعشرا بالمدينة.
القول في تأويل قوله تعالى : { قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأذْقَانِ سُجَّدًا (107) وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولا (108) }
يقول تعالى ذكره لنبيّه محمد صلى الله عليه وسلم : قل يا محمد لهؤلاء القائلين لك( لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأرْضِ يَنْبُوعًا ) : آمنوا بهذا القرآن الذي لو اجتمعت الإنس والجنّ على أن يأتوا بمثله ، لم يأتوا به ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا ، أوَ لا تؤمنوا به ، فإن إيمانكم به لن يزيد في خزائن رحمة الله ولا ترككم الإيمان به يُنقص ذلك ، وإن تكفروا به ، فإن الذين أوتوا العلم بالله وآياته من قبل نزوله من مؤمني أهل الكتابين ، إذا يتلى عليهم هذا القرآن يخرّون تعظيما له وتكريما ، وعلما منهم بأنه من عند الله ، لأذقانهم سجدا بالأرض.
واختلف أهل التأويل في الذي عُني بقوله( يَخِرُّونَ لِلأذْقَانِ ) فقال بعضهم : عُنِي به : الوجوه.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : ثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله( يَخِرُّونَ لِلأذْقَانِ سُجَّدًا ) يقول : للوجوه.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( يَخِرُّونَ لِلأذْقَانِ سُجَّدًا ) قال للوجوه.
حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، مثله.
وقال آخرون : بل عُنِيَ بذلك اللِّحَى.

(17/577)


* ذكر من قال ذلك :
حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، قال : قال الحسن في قوله( يَخِرُّونَ لِلأذْقَانِ ) قال : اللِّحَى.
وقوله( سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولا ) يقول جلّ ثناؤه : ويقول هؤلاء الذين أوتوا العلم من قبل نزول هذا القرآن ، إذ خروا للأذقان سجودا عند سماعهم القرآن يُتْلَى عليهم ، تنزيها لربنا وتبرئة له مما يضيف إليه المشركون به ، ما كان وعد ربنا من ثواب وعقاب ، إلا مفعولا حقا يقينا ، إيمان بالقرآن وتصديق به ، والأذقان في كلام العرب : جمع ذَقَن وهو مجمع اللَّحيين ، وإذ كان ذلك كذلك ، فالذي قال الحسن في ذلك أشبه بظاهر التنزيل.
وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل على اختلاف منهم في الذين عنوا بقوله( أُوتُوا الْعِلْمَ ) وفي( يُتْلَى عَلَيْهِمْ ) .
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قال مجاهد( الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ ).... إلى قوله( خُشُوعًا ) قال : هم ناس من أهل الكتاب حين سمعوا ما أنزل الله على محمد قالوا( سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولا ) .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله( قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ ) من قبل النبيّ صلى الله عليه وسلم( إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ ) ما أنزل إليهم من عند الله( يَخِرُّونَ لِلأذْقَانِ سُجَّدًا وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولا ) .
وقال آخرون : عُنِي بقوله( الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ ) القرآن الذي أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، في قوله( إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ ) كتابهم.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله( إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ ) ما أنزل الله إليهم من عند الله.
وإنما قلنا : عُنِي بقوله( إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ ) القرآن ، لأنه في سياق ذكر القرآن لم يجر لغيره من الكتب ذكر ، فيصرف الكلام إليه ، ولذلك جعلت الهاء

(17/578)


وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا (109)

التي في قوله( مِنْ قَبْلِهِ ) من ذكر القرآن ، لأن الكلام بذكره جرى قبله ، وذلك قوله( وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ ) وما بعده في سياق الخبر عنه ، فذلك وجبت صحة ما قلنا إذا لم يأت بخلاف ما قلنا فيه حجة يجب التسليم لها.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَيَخِرُّونَ لِلأذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا (109) }
يقول تعالى ذكره : ويخرّ هؤلاء الذين أوتوا العلم من مؤمني أهل الكتابين من قبل نزول الفرقان ، إذا يُتْلَى عليهم القرآن لأذقانهم يبكون ، ويزيدهم ما في القرآن من المواعظ والعبر خشوعا ، يعني خضوعا لأمر الله وطاعته ، واستكانة له.
حدثنا أحمد بن منيع ، قال : ثنا عبد الله بن المبارك ، قال : أخبرنا مِسْعر ، عن عبد الأعلى التيميّ ، أن من أوتي من العلم يبكه لخليق أن لا يكون أوتي علما ينفعه ، لأن الله نعت العلماء فقال( إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأذْقَانِ ).... الآيتين.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، قال : ثنا عبد الله بن المبارك ، عن مسعر بن كدام ، عن عبد الأعلى التيمي بنحوه ، إلا أنه قال( إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأذْقَانِ ) ثم قال( وَيَخِرُّونَ لِلأذْقَانِ يَبْكُونَ ).... الآية.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد( وَيَخِرُّونَ لِلأذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا ) قال : هذا جواب وتفسير للآية التي في كهيعص( إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا ).
القول في تأويل قوله تعالى : { قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الأسْمَاءُ الْحُسْنَى وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا

(17/579)


قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا (110)

وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلا (110) }
يقول تعالى ذكره لنبيّه : قل يا محمد لمشركي قومك المنكرين دعاء الرحمن( ادْعُوا اللَّهَ ) أيها القوم( أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الأسْمَاءُ الْحُسْنَى ) بأيّ أسمائه جلّ جلاله تدعون ربكم ، فإنما تدعون واحدا ، وله الأسماء الحُسنى ، وإنما قيل ذلك له صلى الله عليه وسلم ، لأن المشركين فيما ذكر سمعوا النبيّ صلى الله عليه وسلم يدعو ربه : يا ربنا الله ، ويا ربنا الرحمن ، فظنوا أنه يدعو إلهين ، فأنزل الله على نبيّه عليه الصلاة والسلام هذه الآية احتجاجا لنبيّه عليهم.
ذكر الرواية بما ذكرنا : حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني محمد بن كثير ، عن عبد الله بن واقد ، عن أبي الجوزاء عن ابن عباس . قال : كان النبيّ صلى الله عليه وسلم ساجدا يدعو : يا رَحْمَنُ يا رَحيمُ ، فقال المشركون : هذا يزعم أنه يدعو واحدا ، وهو يدعو مثنى مثنى ، فأنزل الله تعالى( قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الأسْمَاءُ الْحُسْنَى ).... الآية.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني عيسى ؛ عن الأوزاعي ، عن مكحول ، أن النبيّ صلى الله عليه وسلم " كان يتهجَّد بمكة ذات ليلة ، يقول في سجوده : يا رَحْمَنُ يا رَحيمُ ، فسمعه رجل من المشركين ، فلما أصبح قال لأصحابه : انظروا ما قال ابن أبي كبشة ، يدعو الليلة الرحمن الذي باليمامة ، وكان باليمامة رجل يقال له الرحمن : فنزلت( قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الأسْمَاءُ الْحُسْنَى ). "
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله( قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الأسْمَاءُ الْحُسْنَى ). (1)
__________
(1) كذا في الأصول ، ولم يذكر المتن اتكالا على ما تقدم ، وقد تكرر ذلك منه.

(17/580)


حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله( أَيًّا مَا تَدْعُوا ) بشيء من أسمائه.
حدثني موسى بن سهل ، قال : ثنا محمد بن بكار البصري ، قال : ثني حماد بن عيسى ؛ عن عبيد بن الطفيل الجهني ، قال : ثنا ابن جريج ، عن عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز ، عن مكحول ، عن عَرَّاك بن مالك ، عن أبي هريرة ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال : " إنَّ للهِ تسْعَةً وَتسْعينَ اسْما كُلُّهُنَّ في القُرآنِ ، مَنْ أحْصَاهنّ دَخَل الجَنَّة " .
قال أبو جعفر : ولدخول " ما " في قوله( أَيًّا مَا تَدْعُوا ) وجهان : أحدهما أن تكون صلة ، كما قيل : ( عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ ) والآخر أن تكون في معنى إن : كررت لما اختلف لفظاهما ، كما قيل : ما إن رأيت كالليلة ليلة.
وقوله( وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلا ) اختلف أهل التأويل في الصلاة ، فقال بعضهم : عنى بذلك : ولا تجهر بدعائك ، ولا تخافت به ، ولكن بين ذلك ، وقالوا : عنى بالصلاة في هذا الموضع : الدعاء.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني يحيى بن عيسى الدامغاني ، قال : ثنا ابن المبارك ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة ، في قوله( وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا ) قالت : في الدعاء.
حدثنا بشار ، قال : ثنا هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة ، قالت : نزلت في الدعاء.
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا عبد الرحمن ، قال : ثنا سفيان ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة مثله.
حدثنا الحسن بن عرفة ، قال : ثنا عباد بن العوّام ، عن أشعث بن سوار ، عن عكرمة ، عن ابن عباس في قول الله تعالى( وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا ) قال : كانوا يجهرون بالدعاء ، فلما نزلت هذه الآية أُمروا أن لا يجهروا ، ولا يخافتوا.

(17/581)


حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا عبد الرحمن ، قال : ثنا حماد ، عن عمرو بن مالك البكري ، عن أبي الجوزاء عن عائشة ، قالت : نزلت في الدعاء.
حدثني مطر بن محمد الضبي ، قال : ثنا عبد الله بن داود ، قال : ثنا شريك ، عن زياد بن فياض ، عن أبي عياض ، في قوله( وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا ) قال : الدعاء.
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا عبد الرحمن ، قال : ثنا سفيان ، عن إبراهيم الهَجري ، عن أبي عياض( وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا ) قال : نزلت في الدعاء.
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا عبد الرحمن ، قال : ثنا شريك ، عن زياد بن فياض ، عن أبي عياض مثله.
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا عبد الرحمن ، قال : ثنا سفيان عمن ذكره عن عطاء( وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا ) قال : نزلت في الدعاء.
حدثنا ابن المثنى ، قال : ثنا محمد بن جعفر ، قال : ثنا شعبة ، عن الحكم ، عن مجاهد في الآية( وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا ) قال : في الدعاء.
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا عبد الرحمن ، قال : ثنا شعبة ، عن الحكم ، عن مجاهد ، قال : نزلت في الدعاء.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ؛ وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله( وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا ) في الدعاء والمسألة.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله.
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا جرير ، عن ليث ، عن مجاهد ، قال : نزلت في الدعاء والمسألة.

(17/582)


حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا يحيى ، قال : ثني سفيان ، قال : ثني قيس بن مسلم ، عن سعيد بن جبير في قوله( وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا ) قال : في الدعاء.
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا أبو أحمد الزبيري ، قال : ثنا سفيان ، عن ابن عياش العامري ، عن عبد الله بن شداد قال : كان أعراب إذا سلم النبيّ صلى الله عليه وسلم قالوا : اللهم ارزقنا إبلا وولدا ، قال : فنزلت هذه الآية( وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا ) .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، في قوله( وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا ) قال : في الدعاء.
حدثني ابن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، ( وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ ).... الآية ، قال : في الدعاء والمسألة.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني عيسى ؛ عن الأوزاعي ، عن مكحول( وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا ) قال : ذلك في الدعاء.
وقال آخرون : عَنَى بذلك الصلاة.
واختلف قائلو هذه المقالة في المعنى الذي عَنَى بالنهي عن الجهر به ، فقال بعضهم : الذي نهى عن الجهر به منها القراءة.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا أبو كريب ، قال : ثنا هشيم ، قال : أخبرنا أبو بشر ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال : نزلت هذه الآية ورسول الله صلى الله عليه وسلم متوار( وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا ) قال : كان إذا صلى بأصحابه رفع صوته بالقرآن ، فإذا سمع ذلك المشركون سبُّوا القرآن ومن أنزله ، ومن جاء به ، قال : فقال الله لنبيّه صلى الله عليه وسلم( وَلا تَجْهَرْ

(17/583)


بِصَلاتِكَ ) فيسمع المشركون( وَلا تُخَافِتْ بِهَا ) عن أصحابك ، فلا تُسْمِعهم القرآن حتى يأخذوا عنك.
حدثنا أبو كريب ، قال : ثنا عثمان بن سعيد ، قال : ثنا بشر بن عمارة ، عن أبي رَوْق ، عن الضحاك ، عن ابن عباس ، في قوله( وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا ) قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ، إذا جهر بالصلاة بالمسلمين بالقرآن ، شقّ ذلك على المشركين إذا سمعوه ، فيُؤْذون رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشتم والعيب به ، وذلك بمكة ، فأنزل الله : يا محمد( لا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ ) يقول : لا تُعْلِن بالقراءة بالقرآن إعلانا شديدا يسمعه المشركون فيؤذونك ، ولا تخافت بالقراءة بالقرآن : يقول : لا تخفض صوتَك حتى لا تُسْمِع أذنيك( وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلا ) يقول : اطلب بين الإعلان والجهر وبين التخافت والخفض طريقا ، لا جهرا شديدا ، ولا خفضا لا تُسْمِع أذنيك ، فذلك القدر ، فلما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة سقط هذا كله ، يفعل الآن أيّ ذلك شاء.
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : ثنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله( وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا ).... الآية ، هذا ورسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة كان إذا صلى بأصحابه ، فرفع صوته بالقراءة أسمع المشركين ، فآذوه ، فأمره الله أن لا يرفع صوته ، فيسمع عدوّه ، ولا يخافت فلا يُسْمِع من خلفه من المسلمين ، فأمره الله أن يبتغي بين ذلك سبيلا.
حدثنا ابن وكيع ، قال : ثنا جرير ، عن الأعمش ، عن جعفر بن إياس ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال : كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يرفع صوته بالقرآن ، فكان المشركون إذا سمعوا صوته سبُّوا القرآن ، ومن جاء به ، فكان النبيّ صلى الله عليه وسلم يخفي القرآن فما يسمعه أصحابه ، فأنزل الله( وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلا ) .
حدثنا محمد بن عليّ بن الحسن بن شقيق ، قال : سمعت أبي ، يقول : أخبرنا أبو حمزة عن الأعمش ، عن جعفر بن إياس ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس( وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا ) قال : كان رسول الله صلى

(17/584)


الله عليه وسلم إذا رفع صوته وَسمع المشركون ، سبُّوا القرآن ، ومن جاء به ، وإذا خفض لم يسمع أصحابه ، قال الله( وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلا ).
حدثنا أبو كريب ، قال : ثنا يونس : ثنا محمد بن إسحاق ، قال : ثني داود بن الحُصَين ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا جهر بالقرآن وهو يصلي تفرّقوا ، وأبَوا أن يستمعوا منه ، فكان الرجل إذا أراد أن يستمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم بعض ما يتلو ، وهو يصلي ، استرق السمع دونهم فرقا منهم ، فإن رأى أنهم قد عرفوا أنه يستمع ، ذهب خشية أذاهم ، فلم يستمع ، فإن خفض رسول الله صلى الله عليه وسلم صوته ، لم يستمع الذين يستمعون من قراءته شيئا ، فأنزل الله عليه( وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ ) فيتفرقوا عنك( وَلا تُخَافِتْ بِهَا ) فلا تُسْمِع من أراد أن يسمعها ، ممن يسترق ذلك دونهم ، لعله يرعوي إلى بعض ما يسمع ، فينتفع به ، ( وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلا ).
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا يعقوب ، عن جعفر ، عن سعيد ، قال : كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يجهر بقراءة القرآن في المسجد الحرام ، فقالت قريش : لا تجهر بالقراءة فتؤذي آلهتنا ، فنهجو ربك ، فأنزل الله( وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا ).... الآية.
حدثني يعقوب ، قال : ثنا هشيم ، قال : أخبرنا أبو بشر ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عبَّاس ، في قوله( وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا ) قال : نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مختف بمكة ، فكان إذا صلى بأصحابه رفع الصوت بالقرآن ، فإذا سمعه المشركون سبوا القرآن ومن أنزله ، ومن جاء به ، فقال الله لنبيّه( وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ ) : أي بقراءتك ، فيسمع المشركون ، فيسبُّوا القرآن( وَلا تُخَافِتْ بِهَا ) عن أصحابك ، فلا تسمعهم( وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلا ) .
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا أبو أحمد ، قال : ثنا سفيان ، عن الأعمش ، عن جعفر بن إياس ، عن سعيد بن جبير ، في قوله( وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا ) قال : في القراءة.

(17/585)


حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا محمد بن جعفر ، قال : ثنا سعيد ، عن أبي بشر ، عن سعيد بن جبير ، في هذه الآية( وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا ) قال : كان النبيّ صلى الله عليه وسلم إذا رفع صوته أعجب ذلك أصحابه ، وإذا سمع ذلك المشركون سبُّوه ، فنزلت هذه الآية.
حدثني يعقوب ، قال : ثنا ابن علية ، عن سلمة ، عن علقمة ، عن محمد بن سيرين ، قال : نبئت أن أبا بكر كان إذا صلى فقرأ خفض صوته ، وأن عمر كان يرفع صوته ، قال : فقيل لأبي بكر : لم تصنع هذا ؟ فقال : أناجي ربي ، وقد علم حاجتي ، قيل : أحسنت ، وقيل لعمر : لم تصنع هذا ؟ قال : أطرد الشيطان ، وأوقظ الوسنان ، قيل : أحسنت ، فلما نزلت( وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلا ) قيل لأبي بكر : ارفع شيئا ، وقيل لعمر : اخفض شيئا.
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا يحيى بن واضح ، قال : ثنا حسان بن إبراهيم ، عن إبراهيم الصائغ ، عن عطاء ، في قوله( وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا ) قال : يقول ناس إنها في الصلاة ، ويقول آخرون إنها في الدعاء.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلا ) وكان نبيّ الله وهو بمكة ، إذا سمع المشركون صوته رموه بكلّ خبث ، فأمره الله أن يغضّ من صوته ، وأن يجعل صلاته بينه وبين ربه ، وكان يقال : ما سمعته أذنك فليس بمخافتة.
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، في قوله( وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا ) قال : " كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يرفع صوته بالصلاة ، فيُرمي بالخبث ، فقال : لا ترْفعْ صَوْتكَ فتُؤْذَى وَلا تُخافِتْ بِها ، وَابْتَغِ بين ذلك سَبِيلا.
وقال آخرون : إنما عُنِي بذلك : ولا تجهر بالتشهد في صلاتك ، ولا تخافت بها.

(17/586)


* ذكر من قال ذلك :
حدثني أبو السائب ، قال : ثنا حفص بن غياث ، عن هشام بن عُرْوة ، عن أبيه ، عن عائشة ، قالت : نزلت هذه الآية في التشهد( وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا ).
حدثني أبو السائب ، قال : ثنا حفص ، عن أشعث ، عن ابن سيرين مثله. وزاد فيه : وكان الأعرابيّ يجهر فيقول : التحيات لله ، والصلوات لله ، يرفع فيها صوته ، فنزلت( وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ ).
وقال آخرون : بل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بمكة جِهارا ، فأمر بإخفائها.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا يحيى بن واضح ، قال : ثنا الحسين ، عن يزيد ، عن عكرمة والحسن البصري قالا قال في بني إسرائيل( وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلا ) وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى يجهر بصلاته ، فآذى ذلك المشركين بمكة ، حتى أخفى صلاته هو وأصحابه ، فلذلك قال( وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلا ) وقال في الأعراف( وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ وَلا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ ).
وقال آخرون : معنى ذلك : ولا تجهر بصلاتك تحسنها من إتيانها في العلانية ، ولا تخافت بها : تسيئها في السريرة.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، عن الحسن أنه كان يقول( وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا ) : أي لا تراء بها عَلانيَة ، ولا تخفها سرًّا( وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلا ).
حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، قال : كان الحسن يقول في قوله( وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا ) قال : لا تحسن علانيتها ، وتسيء سريرتها.
حدثني يعقوب ، قال : ثنا هشيم ، عن عوف ، عن الحسن ، في قوله( وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا ) قال : لا تراء بها في العلانية ، ولا تخفها في السريرة.

(17/587)


حدثني عليّ بن الحسن الأزرقي ، قال : ثنا الأشجعي ، عن سفيان ، عن منصور ، عن الحسن( وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا ) قال : تحسن علانيتها ، وتسيء سريرتها.
حدثني عليّ ، قال : ثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله( وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا ) قال : لا تصلّ مراءاة الناس ولا تدعها مخافة.
وقال آخرون في ذلك ما حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله( وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلا ) قال : السبيل بين ذلك الذي سنّ له جبرائيل من الصلاة التي عليها المسلمون. قال : وكان أهل الكتاب يُخافتون ، ثم يجهر أحدهم بالحرف ، فيصيح به ، ويصيحون هم به وراءه ، فنهى أن يصيح كما يصيح هؤلاء ، وأن يُخافت كما يُخافت القوم ، ثم كان السبيل الذي بين ذلك ، الذي سنّ له جبرائيل من الصلاة.
وأولى الأقوال في ذلك بالصحة ، ما ذكرنا عن ابن عباس في الخبر الذي رواه أبو جعفر ، عن سعيد ، عن ابن عباس ، لأن ذلك أصحّ الأسانيد التي رُوِي عن صحابيّ فيه قولٌ مخرَّجا ، وأشبه الأقوال بما دلّ عليه ظاهر التنزيل ، وذلك أن قوله( وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا ) عقيب قوله( قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الأسْمَاءُ الْحُسْنَى ) وعقيب تقريع الكفار بكفرهم بالقرآن ، وذلك بعدهم منه ومن الإيمان. فإذا كان ذلك كذلك ، فالذي هو أولى وأشبه بقوله( وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا ) أن يكون من سبب ما هو في سياقه من الكلام ، ما لم يأت بمعنى يوجب صرفه عنه ، أو يكون على انصرافه عنه دليل يعلم به الانصراف عما هو في سياقه.
فإذا كان ذلك كذلك ، فتأويل الكلام : قل ادعوا الله ، أو ادعوا الرحمن ، أيا ما تدعوا فله الأسماء الحسنى ، ولا تجهر يا محمد بقراءتك في صلاتك ودعائك فيها ربك ومسألتك إياه ، وذكرك فيها ، فيؤذيك بجهرك بذلك المشركون ، ولا تخافت بها فلا يسمعها أصحابك( وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلا )

(17/588)


وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا (111)

ولكن التمس بين الجهر والمخافتة طريقا إلى أن تسمع أصحابك ، ولا يسمعه المشركون فيؤذوك. ولولا أن أقوال أهل التأويل مضت بما ذكرت عنهم من التأويل ، وأنا لا نستجير خلافهم فيما جاء عنهم ، لكان وجها يحتمله التأويل أن يقال : ولا تجهر بصلاتك التي أمرناك بالمخافتة بها ، وهي صلاة النهار لأنها عجماء ، لا يجهر بها ، ولا تخافت بصلاتك التي أمرناك بالجهر بها ، وهي صلاة الليل ، فإنها يجهر بها( وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلا ) بأن تجهر بالتي أمرناك بالجهر بها ، وتخافت بالتي أمرناك بالمخافتة بها ، لا تجهر بجميعها ، ولا تخافت بكلها ، فكان ذلك وجها غير بعيد من الصحة ، ولكنا لا نرى ذلك صحيحا لإجماع الحجة من أهل التأويل على خلافه. فإن قال قائل : فأية قراءة هذه التي بين الجهر والمخافتة ؟
قيل : حدثني مطر بن محمد ، قال : ثنا قتيبة ، ووهب بن جرير ، قالا ثنا شعبة ، عن الأشعث بن سليم ، عن الأسود بن هلال ، قال : قال عبد الله : لم يخافت من أسمع أذنيه.
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا عبد الرحمن ، قال : ثنا شعبة ، عن الأشعث ، عن الأسود بن هلال ، عن عبد الله ، مثله.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا (111) }
يقول تعالى ذكره لنبيّه محمد صلى الله عليه وسلم( وَقُلْ) يا محمد( الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا ) فيكون مربوبا لا ربا ، لأن ربّ الأرباب لا ينبغي أن يكون له ولد( وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ ) فيكون عاجزا ذا حاجة إلى معونة غيره ضعيفا ، ولا يكون إلها من يكون محتاجا إلى معين على ما حاول ، ولم يكن منفردا بالمُلك والسلطان( وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ ) يقول : ولم يكن له حليف حالفه من الذّل الذي به ، لأن من كان ذا حاجة إلى نصرة غيره ، فذليل مهين ، ولا يكون من كان ذليلا مهينا يحتاج إلى ناصر إلها يطاع( وَكَبِّرْهُ

(17/589)


تَكْبِيرًا ) يقول : وعظم ربك يا محمد بما أمرناك أن تعظمه به من قول وفعل ، وأطعه فيما أمرك ونهاك.
وبنحو الذي قلنا في قوله( وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ ) قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد( وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ ) قال : لم يحالف أحدا ، ولا يبتغي نصر أحد.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة : " ذُكر لنا أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم كان يعلِّم أهله هذه الآية( الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا ) الصغير من أهله والكبير.
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا حكام ، قال : ثنا أبو الجنيد ، عن جعفر ، عن سعيد ، عن ابن عباس ، قال : إن التوراة كلها في خمس عشرة آية من بني إسرائيل ، ثم تلا( لا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ ).
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرني أبو صخر ، عن القُرَظي ، أنه كان يقول في هذه الآية( الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا ).... الآية. قال : إن اليهود والنصارى قالوا : اتخذ الله ولدا ، وقالت العرب : لبيك ، لبيك ، لا شريك لك ، إلا شريكا هو لك ، وقال الصابئون والمجوس : لولا أولياء الله لذلّ الله ، فأنزل الله( وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ ) أنت يا محمد على ما يقولون( تَكْبِيرًا ).
آخر تفسير سورة بني إسرائيل ، والحمد لله ربّ العالمين.

(17/590)


الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا (1)

* * *
* * *
* *
بسم الله الرحمن الرحيم
تفسير سورة الكهف
القول في تأويل قوله عز ذكره : { الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا (1) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : الحمد لله الذي خص برسالته محمدا وانتخبه لبلاغها عنه ، فابتعثه إلى خلقه نبيا مرسلا وأنزل عليه كتابه قيما ، ولم يجعل له عوجا.
وعنى بقوله عز ذكره : ( قِيَمًا ) معتدلا مستقيما ، وقيل : عنى به : أنه قيم على سائر الكتب يصدقها ويحفظها.
* ذكر من قال عنى به معتدلا مستقيما : حدثني علي بن داود ، قال : ثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس ، في قوله : ( وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا قَيِّمًا ) يقول : أنزل الكتاب عدلا قيما ، ولم يجعل له عوجا ، فأخبر ابن عباس بقوله هذا مع بيانه معنى القيم أن القيم مؤخر بعد قوله ، ولم يجعل له عوجا ، ومعناه التقديم بمعنى : أنزل الكتاب على عبده قيما.
حدثت عن محمد بن زيد ، عن جويبر ، عن الضحاك ، في قوله( قيمًا ) قال : مستقيما.
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، عن ابن إسحاق( وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا قَيِّمًا ) : أي معتدلا لا اختلاف فيه.
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، في قوله : ( وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا قَيِّمًا ) قال : أنزل الله الكتاب قيما ، ولم يجعل له عوجا.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، في قوله( الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا قَيِّمًا ).
قال : وفي بعض القراءات : " ولكن جعله قيما " .
والصواب من القول في ذلك عندنا : ما قاله ابن عباس ، ومن قال بقوله في ذلك ، لدلالة قوله : ( وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا ) فأخبر جل ثناؤه أنه أنزل الكتاب

(17/591)


الذي أنزله إلى محمد صلى الله عليه وسلم( قيمًا ) مستقيما لا اختلاف فيه ولا تفاوت ، بل بعضه يصدق بعضا ، وبعضه يشهد لبعض ، لا عوج فيه ، ولا ميل عن الحق ، وكسرت العين من قوله( عِوَجًا ) لأن العرب كذلك تقول في كل اعوجاج كان في دين ، أو فيما لا يرى شخصه قائما ، فيُدْرَك عِيانا منتصبا كالعاج في الدين ، ولذلك كُسِرت العين في هذا الموضع ، وكذلك العِوَج في الطريق ، لأنه ليس بالشخص المنتصب ، فأما ما كان من عِوَج في الأشخاص المنتصبة قياما ، فإن عينها تفتح كالعَوج في القناة ، والخشبة ، ونحوها ، وكان ابن عباس يقول في معنى قوله( وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا ) : ولم يجعل له ملتبسا.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا عليّ ، قال : ثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس( وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا قَيِّمًا ) ولم يجعل له ملتبسا.
ولا خلاف أيضا بين أهل العربية في أن معنى قوله( قيمًا ) وإن كان مؤخرا ، التقديم إلى جنب الكتاب ، وقيلإنما افتتح جلّ ثناؤه هذه السورة بذكر نفسه بما هو له أهل ، وبالخبر عن إنزال كتابه على رسوله إخبارا منه للمشركين من أهل مكة ، بأن محمدا رسوله صلى الله عليه وسلم ، وذلك أن المشركين كانوا سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أشياء علمهموها اليهود من قريظة والنضير ، وأمروهم بمسآلتهموه عنها ، وقالوا : إن أخبركم بها فهو نبيٌّ ، وإن لم يخبركم بها فهو متقوّل ، فوعدهم رسول الله صلى الله عليه وسلم للجواب عنها موعدا ، فأبطأ الوحي عنه بعض الإبطاء ، وتأخّر مجيء جبرائيل عليه السلام عنه عن ميعاده القوم ، فتحدث المشركون بأنه أخلفهم موعده ، وأنه متقوّل ، فأنزل الله هذه السورة جوابا عن مسائلهم ، وافتتح أوّلها بذكره ، وتكذيب المشركين في أحدوثتهم التي تحدثوها بينهم.
*ذكر من قال ذلك : حدثنا أبو كريب ، قال : ثنا يونس بن بكير ، عن محمد بن إسحاق ، قال : ثني شيخ من أهل مصر ، قدم منذ بضع وأربعين سنة ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، فيما يروي أبو جعفر الطبري (1) قال : بعثت قريش النضر بن الحارث ، وعُقبة بن أبي معيط إلى أحبار يهود بالمدينة ،
__________
(1) الظاهر : أن قوله " فيما يروي أبو جعفر الطبري " : عن عبارة المؤلف عن نفسه ، وليس يعني شخصا آخر ، ولا هو من تعبير بعض تلاميذه عنه.

(17/592)


قَيِّمًا لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا (2) مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا (3)

فقالوا لهم : سلوهم عن محمد ، وصِفُوا لهم صفته ، وأخبروهم بقوله ، فإنهم أهل الكتاب الأول ، وعندهم علم ما ليس عندنا من علم الأنبياء ، فخرجا حتى قدما المدينة ، فسألوا أحبار يهودَ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ووصفوا لهم أمره وبعض قوله ، وقالا إنكم أهل التوراة ، وقد جئناكم لتخبرونا عن صاحبنا هذا ، قال : فقالت لهم أحبار يهود : سلوه عن ثلاث نأمركم بهنّ ، فإن أخبركم بهنّ فهو نبيّ مرسل ، وإن لم يفعل فالرجل متقوّل ، فَرَأوا فيه رأيكم : سلوه عن فِتية ذهبوا في الدهر الأوَّل ، ما كان من أمرهم فإنه قد كان لهم حديث عجيب. وسلوه عن رجل طوّاف ، بلغ مشارق الأرض ومغاربها ، ما كان نبؤه ؟ وسلوه عن الروح ما هو ؟ فإن أخبركم بذلك ، فإنه نبيّ فاتَّبعوه ، وإن هو لم يخبركم ، فهو رجل متقوّل ، فاصنعوا في أمره ما بدا لكم. فأقبل النضْر وعقبة حتى قَدِما مكة على قريش ، فقالا يا معشر قريش : قد جئناكم بفصل ما بينكم وبين محمد ، قد أمرنا أحبار يهودَ أن نسأله ، عن أمور ، فأخبروهم بها ، فجاءوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقالوا : يا محمد أخبرنا ، فسألوه عما أمروهم به ، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : أُخْبِرُكُمْ غَدًا بِمَا سألْتُمْ عَنْهُ ، ولم يستثن فانصرفوا عنه ، فمكث رسول الله صلى الله عليه وسلم خمس عشرة ليلة ، لا يُحدِث الله إليه في ذلك وحيا ، ولا يأتيه جبرائيل عليه السلام ، حتى أرجف أهل مكة وقالوا : وَعَدَنا محمد غدا ، واليوم خمس عشرة قد أصبحنا فيها لا يخبرنا بشيء مما سألناه عنه ، وحتى أحزنَ رسول الله صلى الله عليه وسلم مُكْثُ الوحي عنه ، وشقّ عليه ما يتكلم به أهل مكة ، ثم جاءه جبرائيل عليه السلام ، من الله عزّ وجلّ ، بسورة أصحاب الكهف ، فيها معاتبته إياه على حزنه عليهم وخبر ما سألوه عنه من أمر الفِتية والرجل الطوّاف ، وقول الله عزّ وجلّ( وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلا قَلِيلا ) [قال ابن إسحاق : فبلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم افتتح السورة فقال( الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ ) يعني محمدا إنك رسولي في تحقيق ما سألوا عنه من نبوّته( وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا قَيِّمًا ) : أي معتدلا لا اختلاف فيه.
القول في تأويل قوله تعالى : { قَيِّمًا لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا (2) مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا (3) }
يقول تعالى ذكره : أنزل على عبده القرآن معتدلا مستقيما لا عوج فيه لينذركم أيها الناس بأسا من الله شديدا ، وعنى بالبأس العذاب العاجل ، والنكال الحاضر والسطوة ، وقوله : (مِنْ لَدُنْهُ) يعني : من عند الله.
وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا أبو كريب ، قال : ثنا يونس بن بكير ، عن محمد بن إسحاق( لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا) عاجل عقوبة في الدنيا ، وعذابا في الآخرة.(مِنْ لَدُنْه) : أي من عند ربك الذي بعثك رسولا.
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، بنحوه.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : (مِنْ لَدُنْهُ) : أي من عنده.
فإن قال قائل : فأين مفعول قوله(لِيُنْذِرَ) فإن مفعوله محذوف اكتفى بدلالة ما ظهر من الكلام عليه من ذكره ، وهو مضمر متصل بينذر قبل البأس ، كأنه قيل : لينذركم بأسا ، كما قيل : (يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ) [آل عمران : 175] إنما هو : يخوّفكم أولياءه.
وقوله : ( وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ ) يقول : ويبشر المصدقين الله ورسوله( الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ ) وهو العمل بما أمر الله بالعمل به ، والانتهاء عما نهى الله عنه( أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا ) يقول : ثوابا جزيلا لهم من الله على إيمانهم بالله ورسوله ، وعملهم في الدنيا الصالحات من الأعمال ، وذلك الثواب : هو الجنة

(17/593)


وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا (4)

التي وعدها المتقون. وقوله : ( مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا ) خالدين ، لا ينتقلون عنه ، ولا ينقلون ، ونصب ماكثين على الحال من قوله : ( أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا ) في هذه الحال في حال مكثهم في ذلك الأجر.
وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سَلَمة ، عن ابن إسحاق( وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا) : أي في دار خلد لا يموتون فيها ، الذين صدقوك بما جئت به عن الله ، وعملوا بما أمرتهم.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا (4) }

(17/595)


مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلَا لِآَبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا (5)

القول في تأويل قوله تعالى : { مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلا لآبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلا كَذِبًا (5) }
يقول تعالى ذكره : يحذر أيضا محمد القوم( الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا ) من مشركي قومه وغيرهم ، بأسَ الله وعاجل نقمته ، وآجل عذابه ، على قيلهم ذلك.
كما حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، عن ابن إسحاق( وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا ) يعني قريشا في قولهم : إنما نعبد الملائكة ، وهنّ بنات الله ، وقوله : ( مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ ) يقول : ما لقائلي هذا القول ، يعني قولهم( اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا )(بِهِ ) : يعني بالله من علم ، والهاء في قوله(بِهِ) من ذكر الله.
وإنما معنى الكلام : ما لهؤلاء القائلين هذا القول بالله إنه لا يجوز أن يكون له ولد من علم ، فلجهلهم بالله وعظمته قالوا ذلك.
وقوله(ولا لآبائِهمْ) يقول : ولا لأسلافهم الذين مضوا قبلهم على مثل الذي هم عليه اليوم ، كان لهم بالله وبعظمته علم ، وقوله : ( كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ ) اختلفت القراء في قراءة ذلك ، فقرأته عامة قراء المدنيين والكوفيين والبصريين : (كَبُرَتْ كَلِمَةً) بنصب كلمةً بمعنى : كبُرت كلمتهم التي قالوها كلمةً على التفسير ، كما يقال : نعم رجلا عمرو ، ونعم الرجل رجلا قام ، ونعم رجلا قام ، وكان

(17/595)


فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آَثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا (6) إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا (7) وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا (8)

بعض نحوييّ أهل البصرة يقول : نُصبت كلمة لأنها في معنى : أكْبِر بها كلمة ، كما قال جل ثناؤه( وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا ) وقال : هي في النصب مثل قول الشاعر :
ولقدْ عَلِمْتُ إذَا اللِّقاحُ تَرَوَّحتْ هَدَجَ... الرّئالِ تكُبُّهُنَّ شَمالا (1)
أي تكبهنّ الرياح شمالا فكأنه قال : كبرت تلك الكلمة ، وذُكِر عن بعض المكيين أنه كان يقرأ ذلك : ( كَبُرَتْ كَلِمَةٌ ) رفعا ، كما يقال : عَظُمَ قَولك وكَبُر شأنُك. وإذا قرئ ذلك كذلك لم يكن في قوله(كَبُرَتْ كَلِمةٌ) مُضمر ، وكان صفة للكلمة.
والصواب من القراءة في ذلك عندي ، قراءة من قرأ : (كَبُرَتْ كَلِمةً) نصبا لإجماع الحجة من القراء عليها ، فتأويل الكلام : عَظُمت الكلمة كلمة تخرج من أفواه هؤلاء القوم الذين قالوا : اتخذ الله ولدا ، والملائكة بنات الله.
كما حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، عن ابن إسحاق(كَبُرَتْ كَلِمةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ) قولهم : إن الملائكة بنات الله ، وقوله : ( إِنْ يَقُولُونَ إِلا كَذِبًا ) يقول عز ذكره :
ما يقول هؤلاء القائلون اتخذ الله ولدا بقيلهم ذلك إلا كذبا وفرية افتروها على الله.
القول في تأويل قوله تعالى : { فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ
__________
(1) البيت غير منسوب. واللقاح : هي النوق ذوات اللبن ، تنتج في أول الربيع فتكون لقاحا ، واحدتها لقحة ( بفتح اللام وكسرها ) فلا تزال لقاحا حتى يدبر الصيف عنها . ( انظر اللسان : لقح ) . وتروحت : عادت من مراعيها إلى مراحها. أو تروحت : أصابتها الريح . والهدج ( بسكون الدال ) مصدر هدج يهدج هدجا وهدجانا ، وهو المشي الرويد في ضعف . يقال : هدج الظليم يهدج هدجانا والرئال : جمع رأل ، وهو ولد النعام ، وخص بعضهم به الحولي . ويقال في جمعه : أرؤل ، ورئلان ، ورئال ، ورئالة ( اللسان : رأل ) وتكبهن : تلقيهن على صدورهن في الأرض. والشمال : الريح تهب من جهة الشمال . شبه سير اللقاح في رجوعها إلى مراحها بهدجال الرئال ، وهو مشي ضعيف يريد أن اللقاح في ذلك الوقت تهدج في سيرها هدج الرئال حين تسوقهن ريح الشمال .
والشاهد في قوله : تكبهن شمالا ، فإن شمالا منصوب على التمييز ، وهو محول عن الفاعل . والأصل تكبهن شمال . وهو نظير نصب كلمة من قوله تعالى : ( كَبُرَتْ كَلِمَةً ) فإن كلمة منصوبة على التمييز ، وهو تمييز نسبة محول عن الفاعل والأصل كبرت كلمة ( بالرفع ).

(17/596)


إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا (6) إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلا (7) وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا (8) }
يعني تعالى ذكره بذلك : فلعلك يا محمد قاتلٌ نفسك ومهلكها على آثار قومك الذين قالوا لك( لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأرْضِ يَنْبُوعًا ) تمردا منهم على ربهم ، إن هم لم يؤمنوا بهذا الكتاب الذي أنزلته عليك ، فيصدقوا بأنه من عند الله حزنا وتلهفا ووجدا ، بإدبارهم عنك ، وإعراضهم عما أتيتهم به وتركهم الإيمان بك. يقال منه : بخع فلان نفسه يبخعها بخعا وبخوعا ، ومنه قول ذي الرُّمة :
ألا أَيُّهَذَا الباخِعُ الوَجْدُ نَفْسَهُ... لِشَيْءٍ نَحَتْهُ عَنْ يديه المقادر (1)
يريد : نحته فخفف.
وبنحو الذي قلنا في تأويل قوله : (بَاخِع) قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ ) يقول : قاتل نفسك.
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، مثله.
وأما قوله : (أسَفا) فإنّ أهل التأويل اختلفوا في تأويله ، فقال بعضهم : معناه : فلعلك باخع نفسك إن لم يؤمنوا بهذا الحديث غضبا.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ،
__________
(1) البيت في ديوان ذي الرمة طبع كيمبردج سنة 1919 ص 251 من القصيدة الثانية والثلاثين وعدتها ثمانية وسبعون بيتا. والباخع القاتل : ونحته عدلته وصرفته . والبيت من شواهد أبي عبيدة في مجاز القرآن ( 1 : 393 ) قال : " فلعلك باخع نفسك " : مهلك نفسك . قال ذو الرمة : " ألا أيهذا ... " البيت.
أي نحته مشدد. ويقال بخعت له نفسي ونصحي : أي جهدت له وقال الفراء في معاني القرآن ( الورقة 183 من مصورة الجامعة رقم 24059 ) باخع نفسك مخرج ، وقاتل نفسك .أه وفي ( اللسان بخع ) نفسه يبخعها بخعا وبخوعا : قتلها غيظا أو غما . وفي التنزيل ( فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ ) قال الفراء : أي محرج نفسك ، وقاتل نفسك . وقال ذو الرمة " ألا يهذأ ...بشيء... " البيت . وقال الأخفش : بخعت لك نفسي ونصحي : أي جهدتها . أبخع بخوعا.

(17/597)


عن قتادة( إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا ) قال : غضبا.
وقال آخرون : جَزَعا.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى " ح " ، وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قول الله(أسَفا) قال : جَزعا.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله.
وقال آخرون : معناه : حزنا عليهم.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، في قوله : (أسَفا) قال : حزنا عليهم.
وقد بينا معنى الأسف فيما مضى من كتابنا هذا ، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع.
وهذه معاتبة من الله عزّ ذكره على وجده بمباعدة قومه إياه فيما دعاهم إليه من الإيمان بالله ، والبراءة من الآلهة والأنداد ، وكان بهم رحيما.
وبنحو ما قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، عن ابن إسحاق( فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا ) يعاتبه على حزنه عليهم حين فاته ما كان يرجو منهم : أي لا تفعل.
وقوله : ( إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأرْضِ زِينَةً لَهَا ) يقول عز ذكره : إنا جعلنا ما على الأرض زينة للأرض( لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلا ) يقول : لنختبر عبادنا أيهم أترك لها وأتبع لأمرنا ونهينا وأعمل فيها بطاعتنا.
وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى " ح " ، وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد( مَا عَلَى الأرْضِ زِينَةً لَهَا ) قال : ما عليها من شيء.

(17/598)


حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : ( إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأرْضِ زِينَةً لَهَا ) ذكر لنا أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم كان يقول : " إنَّ الدُّنْيا خَضِرَةٌ حُلْوَةٌ ، وَإنَّ اللهَ مُسْتَخْلِفَكُمْ فِيها ، فَناظِرٌ كَيْفَ تَعْمَلُونَ ، فاتَّقُوا الدُّنْيا ، واتَّقُوا النِّساء " .
وأما قوله : ( لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلا ) فإن أهل التأويل قالوا في تأويله نحو قولنا فيه.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثنا أبو عاصم العسقلاني ، قال : ( لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلا ) قال : أترك لها.
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، عن ابن إسحاق( إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلا ) اختبارا لهم أيهم أتبع لأمري وأعمل بطاعتي.
وقوله : ( وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا ) يقول عز ذكره : وإنا لمخرّبوها بعد عمارتناها بما جعلنا عليها من الزينة ، فمصيروها صعيدا جرزا لا نبات عليها ولا زرع ولا غرس ، وقد قيل : إنه أريد بالصعيد في هذا الموضع : المستوي بوجه الأرض ، وذلك هو شبيه بمعنى قولنا في ذلك.
وبنحو الذي قلنا في ذلك ، وبمعنى الجرز ، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، فال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : ( وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا ) يقول : يهلك كلّ شيء عليها ويبيد.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد( صَعِيدًا جُرُزًا ) قال : بلقعا.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله.

(17/599)


أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آَيَاتِنَا عَجَبًا (9)

حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله( وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا ) والصعيد : الأرض التي ليس فيها شجر ولا نبات.
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، عن ابن إسحاق( وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا ) يعني : الأرض إن ما عليها لفان وبائد ، وإن المرجع لإليّ ، فلا تأس ، ولا يحزنك ما تسمع وترى فيها.
حدثنا يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله( صَعِيدًا جُرُزًا ) قال : الجرز : الأرض التي ليس فيها شيء ، ألا ترى أنه يقول : ( أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الأرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا ) قال : والجرز : لا شيء فيها ، لا نبات ولا منفعة ، والصعيد : المستوي. وقرأ : ( لا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلا أَمْتًا )قال : مستوية : يقال : جُرِزت الأرض فهي مجروزة ، وجرزها الجراد والنعم ، وأرَضُون أجراز : إذا كانت لا شيء فيها ، ويقال للسنة المجدبة : جُرُز وسنون أجراز لجدوبها ويبسها وقلة أمطارها ، قال الراجز :
قَدْ جَرَفَتْهُنَّ السُّنُونَ الأجْرَازْ (1)
يقال : أجرز القوم : إذا صارت أرضهم جُرُزا ، وجَرَزوا هم أرضهم : إذا أكلوا نباتها كله.
القول في تأويل قوله تعالى : { أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا (9) }
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : أم حسبت يا محمد أن أصحاب الكهف والرقيم كانوا من آياتنا عجبا ، فإن ما خلقت من السماوات
__________
(1) البيت من مشطور الرجز . وهو من شواهد أبي عبيدة في (مجاز القرآن 1 : 394) قال جرزا : أي غلظا لا ينبت شيئا ، والجميع : أرضون أجراز . ويقال للسنة المجدبة : جرز ، وسنون أجراز ، ولجدوبها ، ويبسها ، وقلة مطرها . ثم أنشد بيتا لذي الرمة ، ثم بيت الشاهد ، والبيت أيضا من شواهد ( اللسان : جرز ) قال : وسنة جرز : إذا كانت جدبة . والجرز السنة المجدبة قال الراجز : " قد جرفتهن ... " البيت ، ومعنى وجرفتهن : أي ذهبت بهن كلهن أو جلهن . والضمير راجع إلى إبله . ويجوز أن يكون معنى جرفتهن بالتشديد : هزلتهن ، وذهبت بما فيهن من شحم ولحم ، ولقلة المرعى.

(17/600)


والأرض ، وما فيهنّ من العجائب أعجب من أمر أصحاب الكهف ، وحجتي بكل ذلك ثابتة على هؤلاء المشركين من قومك ، وغيرهم من سائر عبادي.
وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد( أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا ) قال محمد بن عمرو في حديثه ، قال : ليسوا عجبا بأعجب آياتنا ، وقال الحارث في حديثه بقولهم : أعجب آياتنا : ليسوا أعجب آياتنا.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، قوله : ( أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا ) كانوا يقولون هم عجب.
حدثنا بشر ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : ( أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا ) يقول : قد كان من آياتنا ما هو أعجب من ذلك.
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، عن ابن إسحاق( أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا ) أي وما قدروا من قَدْر فيما صنعت من أمر الخلائق ، وما وضعت على العباد من حججي ما هو أعظم من ذلك.
وقال آخرون : بل معنى ذلك : أم حسبت يا محمد أن أصحاب الكهف والرقيم كانوا من آياتنا عَجَبا ، فإن الذي آتيتك من العلم والحكمة أفضل منه.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : ( أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا ) يقول : الذي آتيتك من العلم والسنة والكتاب أفضل من شأن أصحاب الكهف والرقيم.
وإنما قلنا : إن القول الأول أولى بتأويل الآية ، لأنّ الله عزّ وجلّ أنزل قصة أصحاب الكهف على نبيه احتجاجا بها على المشركين من قومه على ما ذكرنا ف

(17/601)


ي الرواية عن ابن عباس ، إذ سألوه عنها اختبارا منهم له بالجواب عنها صدقه ، فكان تقريعهم بتكذييهم بما هو أوكد عليهم في الحجة مما سألوا عنهم ، وزعموا أنهم يؤمنون عند الإجابة عنه أشبه من الخبر عما أنعم الله على رسوله من النعم.
وأما الكهف ، فإنه كهف الجبل الذي أوى إليه القوم الذين قصّ الله شأنهم في هذه السورة.
وأما الرقيم ، فإن أهل التأويل اختلفوا في المعنيّ به ، فقال بعضهم : هو اسم قرية ، أو واد على اختلاف بينهم في ذلك.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن بشار ، قال : ثنا يحيى بن عبد الأعلى وعبد الرحمن ، قالا ثنا سفيان ، عن الشيباني ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، قال : يزعم كعب أن الرقيم : القرية.
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس( أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ ) قال : الرقيم : واد بين عُسْفان وأيَلة دون فلسطين ، وهو قريب من أيَلة.
حدثنا أبو كريب ، قال : ثنا ابن إدريس ، قال : سمعت أبي ، عن عطية ، قال : الرقيم : واد.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله( أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ ) كنَّا نحدّث أن الرقيم : الوادي الذي فيه أصحاب الكهف.
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا الثوري ، عن سماك بن حرب ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، في قوله(الرَّقِيمِ) قال : يزعم كعب : أنها القرية.
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن ابن أبي نجيح عن مجاهد ، في قوله : (الرَّقِيمِ) قال : يقول بعضهم : الرقيم : كتاب تبانهم ، ويقول بعضهم : هو الوادي الذي فيه كهفهم.
حدثنا عن الحسين بن الفرج ، قال : سمعت أبا معاذ ، قال : ثنا عبيد بن سليمان ، قال : سمعت الضحاك يقول : أما الكهف : فهو غار الوادي ،

(17/602)


والرقيم : اسم الوادي.
وقال آخرون : الرقيم : الكتاب.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا عليّ ، قال : ثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : ( أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ ) يقول : الكتاب.
حدثنا أبو كريب ، قال : ثنا ابن إدريس ، قال : ثنا أبي ، عن ابن قيس ، عن سعيد بن جبير ، قال : الرقيم : لوح من حجارة كتبوا فيه قصص أصحاب الكهف ، ثم وضعوه على باب الكهف.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد : الرقيم : كتاب ، ولذلك الكتاب خبر فلم يخبر الله عن ذلك الكتاب وعنا فيه ، وقرأ : ( وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ كِتَابٌ مَرْقُومٌ يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ ، وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ كِتَابٌ مَرْقُومٌ ) .
وقال آخرون : بل هو اسم جبل أصحاب الكهف.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قال ابن عباس : الرقيم : الجبل الذي فيه الكهف.
قال أبو جعفر : وقد قيل إن اسم ذلك الجبل : بناجلوس.
حدثنا بذلك ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن عبد الله بن أبي نجيح ، عن مجاهد ، عن ابن عباس : وقد قيل : إن اسمه بنجلوس.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : أخبرني وهب بن سليمان عن شعيب الجَبئي (1) أن اسم جبل الكهف : بناجلوس. واسم الكهف : حيزم. والكلب : حُمران.
__________
(1) شعيب الجبئي : هو شعيب بن الأسود الجبئي المحدث من أقران طاووس ، أخذ العلم عنه محمد بن إسحاق وسلمة بن وهران . وهو منسوب إلى الجبأ ، بالهمز والقصر ، كما قال الهمداني في صفة جزيرة العرب في مواضع ، وهو كورة المعافر ، بالقرب من الجند ( انظر معجم ما استعجم للبكري ، طبعة القاهرة ، في رسم الجبأ ص 360 ) .

(17/603)


إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آَتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا (10)

وقد روي عن ابن عباس في الرقيم ما حدثنا به الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا إسرائيل عن سماك ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : كل القرآن أعلمه ، إلا حنانا ، والأوّاه ، والرقيم.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : أخبرني عمرو بن دينار ، أنه سمع عكرمة يقول : قال ابن عباس : ما أدري ما الرقيم ، أكتاب ، أم بنيان ؟ .
وأولى هذه الأقوال بالصواب في الرقيم أن يكون معنيا به : لوح ، أو حجر ، أو شيء كُتب فيه كتاب ، وقد قال أهل الأخبار : إن ذلك لوح كتب فيه أسماء أصحاب الكهف وخبرهم حين أوَوْا إلى الكهف.
ثم قال بعضهم : رُفع ذلك اللوح في خزانة الملك ، وقال بعضهم : بل جُعل على باب كهفهم ، وقال بعضهم : بل كان ذلك محفوظا عند بعض أهل بلدهم ، وإنما الرقيم : فعيل ، أصله : مرقوم ، ثم صُرف إلى فعيل ، كما قيل للمجروح : جريح ، وللمقتول : قتيل ، يقال منه : رقمت كذا وكذا : إذا كتبته ، ومنه قيل للرقم في الثوب رقم ، لأنه الخطّ الذي يعرف به ثمنه ، ومن ذلك قيل للحيَّة : أرقم ، لما فيه من الآثار ، والعرب تقول : عليك بالرقمة ، ودع الضفة : بمعنى عليك برقمة الوادي حيث الماء ، ودع الضفة الجانبة. والضفتان : جانبا الوادي ، وأحسب أن الذي قال الرقيم : الوادي ، ذهب به إلى هذا ، أعني به إلى رقمة الوادي.
القول في تأويل قوله تعالى : { إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا (10) }
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا ) حين أوى الفتية أصحاب الكهف إلى كهف الجبل ، هربا بدينهم إلى الله ، فقالوا إذ أووه : ( رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً ) رغبة منهم إلى ربهم ، في أن يرزقهم من عنده رحمة ، وقوله وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا

(17/604)


رَشَدًا ) يقول : وقالوا : يسر لنا بما نبتغي وما نلتمس من رضاك والهرب من الكفر بك ، ومن عبادة الأوثان التي يدعونا إليها قومنا ، (رَشَدا) يقول : سدادا إلى العمل بالذي تحبّ.
وقد اختلف أهل العلم في سبب مصير هؤلاء الفِتية إلى الكهف الذي ذكره الله في كتابه ، فقال بعضهم : كان سبب ذلك ، أنهم كانوا مسلمين على دين عيسى ، وكان لهم ملك عابد وَثَن ، دعاهم إلى عبادة الأصنام ، فهربوا بدينهم منه خشية أن يفتنهم عن دينهم ، أو يقتلهم ، فاستخفوا منه في الكهف.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا الحكم بن بشير ، قال : ثنا عمرو في قوله : ( أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ ) كانت الفِتية على دين عيسى على الإسلام ، وكان ملكهم كافرا ، وقد أخرج لهم صنما ، فأبَوا ، وقالوا : ( رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا ) قال : فاعتزلوا عن قومهم لعبادة الله ، فقال أحدهم : إنه كان لأبي كهف يأوي فيه غنمه ، فانطلقوا بنا نكن فيه ، فدخلوه ، وفُقدوا في ذلك الزمان فطُلبوا ، فقيل : دخلوا هذا الكهف ، فقال قومهم : لا نريد لهم عقوبة ولا عذابا أشدّ من أن نردم عليهم هذا الكهف ، فبنوه عليهم ثم ردموه ، ثم إن الله بعث عليهم ملكا على دين عيسى ، ورفع ذلك البناء الذي كان ردم عليهم ، فقال بعضهم لبعض : ( كَمْ لَبِثْتُمْ ) ؟ ف(قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم... ) حتى بلغ( فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ ) وكان ورق ذلك الزمان كبارا ، فأرسلوا أحدهم يأتيهم بطعام وشراب ، فلما ذهب ليخرج ، رأى على باب الكهف شيئا أنكره ، فأراد أن يرجع ، ثم مضى حتى دخل المدينة ، فأنكر ما رأى ، ثم أخرج درهما ، فنظروا إليه فأنكروه ، وأنكروا الدرهم ، وقالوا : من أين لك هذا ، هذا من ورِق غير هذا الزمان ، واجتمعوا عليه يسألونه ، فلم يزالوا به حتى انطلفوا به إلى ملكهم

(17/605)


، وكان لقومهم لوح يكتبون فيه ما يكون ، فنظروا في ذلك اللوح ، وسأله الملك ، فأخبره بأمره ، ونظروا في الكتاب متى فقد ، فاستبشروا به وبأصحابه ، وقيل له : انطلق بنا فأرنا أصحابك ، فانطلق وانطلقوا معه ، ليريهم ، فدخل قبل القوم ، فضرب على آذانهم ، فقال الذين غلبوا على أمرهم : ( لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا ).
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، قال : مَرِج أمر أهل الإنجيل وعظُمت فيهم الخطايا وطغت فيهم الملوك ، حتى عبدوا الأصنام وذبحوا للطواغيت ، وفيهم على ذلك بقايا على أمر عيسى ابن مريم ، متمسكون بعبادة الله وتوحيده ، فكان ممن فعل ذلك من ملوكهم ، ملك من الروم يقال له : دَقْيَنوس ، كان قد عبد الأصنام ، وذبح للطواغيت ، وقتل من خالفه في ذلك ممن أقام على دين عيسى ابن مريم ، كان ينزل في قرى الروم ، فلا يترك في قرية ينزلها أحدا ممن يدين بدين عيسى ابن مريم إلا قتله ، حتى يعبد الأصنام ، ويذبح للطواغيت ، حتى نزل دقينوس مدينة الفِتية أصحاب الكهف ، فلما نزلها دقينوس كبر ذلك على أهل الإيمان ، فاستخْفُوا منه وهربوا في كلّ وجه. وكان دقينوس قد أمر حين قدمها أن يتبع أهل الإيمان فيُجمعوا له ، واتخذ شُرَطا من الكفَّار من أهلها ، فجعلوا يتبعون أهل الإيمان في أماكنهم التي يستخفون فيها ، فيستخرجونهم إلى دقينوس ، فقدمهم إلى المجامع التي يذبح فيها للطواغيت فيخيرهم بين القتل ، وبين عبادة الأوثان والذبح للطواغيت ، فمنهم من يرغب في الحياة ويُفْظَع بالقتل فيَفتِتن. ومنهم من يأبى أن يعبد غير الله فيقتل ، فلما رأى ذلك أهل الصلابة من أهل الإيمان بالله ، جعلوا يُسْلمون أنفسهم للعذاب والقتل ، فيقتلون ويقطعون ، ثم يربط ما قطع من أجسادهم ، فيعلَّق على سور المدينة من نواحيها كلها ، وعلى كلّ باب من أبوابها ، حتى عظمت الفتنة على أهل الإيمان ، فمنهم من كفر فتُرك ، ومنهم من صُلب على دينه فقُتل ، فلما رأى ذلك الفِتية أصحاب الكهف ، حزنوا حزنا شديدا ، حتى تغيرت ألوانهم ،

(17/606)


ونَحِلت أجسامهم ، واستعانوا بالصلاة والصيام والصدقة ، والتحميد ، والتسبيح ، والتهليل ، والتكبير ، والبكاء ، والتضرّع إلى الله ، وكانوا فتية أحداثا أحرارا من أبناء أشراف الروم.
فحدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن عبد الله بن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قال : لقد حُدّثت أنه كان على بعضهم من حداثة أسنانه وضح الورق ، قال ابن عباس : فكانوا كذلك في عبادة الله ليلهم ونهارهم ، يبكون إلى الله ، ويستغيثونه ، وكانوا ثمانية نفر : مَكْسِلمينا ، وكان أكبرهم ، وهو الذي كلم الملك عنهم ، ومُحْسيميلنينا ، وَيمليخا ، ومَرْطوس ، وكشوطوش ، وبيرونس ، ودينموس ، ويطونس قالوس (1) فلما أجمع دقينوس أن يجمع أهل القرية لعبادة الأصنام ، والذبح للطواغيت ، بكوا إلى الله وتضرعوا إليه ، وجعلوا يقولون : اللهم رب السماوات والأرض ، لن ندعو من دونك إلها( لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا ) اكشف عن عبادك المؤمنين هذه الفتنة وادفع عنهم البلاء وأنعم على عبادك الذين آمنوا بك ، ومُنِعوا عبادتك إلا سرّا ، مستخفين بذلك ، حتى يعبدوك علانية ، فبينما هم على ذلك ، عرفهم عُرفاؤهم من الكفار ، ممن كان يجمع أهل المدينة لعبادة الأصنام ، والذبح للطواغيت ، وذكروا أمرهم ، وكانوا قد خَلوا في مُصَلّى لهم يعبدون الله فيه ، ويتضرّعون إليه ، ويتوقَّعون أن يُذْكَروا لدقينوس ، فانطلق أولئك الكفرة حتى دخلوا عليهم مُصلاهم ، فوجدوهم سجودا على وجوههم يتضرّعون ، ويبكون ، ويرغبون إلى الله أن ينجيهم من دقينوس وفتنته ، فلما رآهم أولئك الكفرة من عُرفائهم قالوا لهم : ما خَلَّفكم عن أمر الملك ؟ انطلقوا إليه! ثم خرجوا من عندهم ، فرفعوا أمرهم إلى دقينوس ، وقالوا : تجمع الناس للذبح لآلهتك ، وهؤلاء فِتية من أهل بيتك ، يسخَرون منك ، ويستهزئون بك ، ويعصون أمرك ، ويتركون آلهتك ، يَعمِدون إلى مُصَلّى لهم ولأصحاب عيسى ابن مريم يصلون فيه ، ويتضرّعون إلى إلههم وإله عيسى وأصحاب عيسى ، فلم تتركهم يصنعون هذا وهم بين ظَهراني
__________
(1) قال القرطبي في تفسيره (10 : 360) وأما أسماء أهل الكهف فأعجمية ، والسند في معرفتها واه ، ونقلها عن الطبري .

(17/607)


سلطانك ومُلكك ، وهم ثمانية نفر : رئيسهم مكسلمينا ، وهم أبناء عظماء المدينة ؟ فلما قالوا ذلك لدقينوس ، بعث إليهم ، فأتي بهم من المصلَّى الذي كانوا فيه تفيض أعينهم من الدموع مُعَفرة وجوههم في التراب ، فقال لهم : ما منعكم أن تشهدوا الذبح لآلهتنا التي تعبد في الأرض ، وأن تجعلوا أنفسكم أُسْوة لسَراة أهل مدينتكم ، ولمن حضر منَّا من الناس ؟ اختاروا مني : إما أن تذبحوا لآلهتنا كما ذبح الناس ، وإما أن أقتلكم! فقال مكسلمينا : إن لنا إلها نعبده ملأ السموات والأرض عظَمتُه ، لن ندعو من دونه إلها أبدا ، ولن نقر بهذا الذي تدعونا إليه أبدا ، ولكنا نعبد الله ربنا ، له الحمد والتكبير والتسبيح من أنفسنا خالصا أبدا ، إياه نعبد ، وإياه نسأل النجاة والخير. فأما الطواغيت وعبادتها ، فلن نقرّ بَها أبدا ، ولسنا بكائنين عُبَّادا للشياطين ، ولا جاعلي أنفسنا وأجسادنا عُبادا لها ، بعد إذ هدانا الله له رهبتَك ، أو فَرَقا من عبودتك ، اصنع بنا ما بدا لك ، ثم قال أصحاب مكسلمينا لدقينوس مثل ما قال ، قال : فلما قالوا ذلك له ، أمر بهم فنزع عنهم لبوس كان عليهم من لبوس عظمائهم ، ثم قال : أما إذ فعلتم ما فعلتم فإني سأؤخركم أن تكونوا من أهل مملكتي وبطانتي ، وأهل بلادي ، وسأفرُغ لكم ، فأنجز لكم ما وعدتكم من العقوبة ، وما يمنعني أن أعجِّل ذلك لكم إلا أني أراكم فتيانا حديثة أسنانُكم ، ولا أحبُّ أن أهلككم حتى أستأنّي بكم ، وأنا جاعل لكم أجلا تَذكرون فيه ، وتراجعون عقولكم ، ثم أمر بحلية كانت عليهم من ذهب وفضة ، فنزعت عنهم ، ثم أمر بهم فأخرجوا من عنده ، وانطلق دقينوس مكانه إلى مدينة سوى مدينتهم التي هم بها قريبا منها لبعض ما يريد من أمره.
فلما رأى الفتية دقينوس قد خرج من مدينتهم بادروا قدومه ، وخافوا إذا قدم مدينتهم أن يذكر بهم ، فأتمروا بينهم أن يأخذ كلّ واحد منهم نفقة من بيت أبيه ، فيتصدّقوا منها ، ويتزوّدوا بما بقي ، ثم ينطلقوا إلى كهف قريب من المدينة في جبل يقال له : بنجلوس فيمكثوا فيه ، ويعبدوا الله حتى إذا رجع دقينوس أتوه فقاموا بين يديه ، فيصنع بهم ما شاء ، فلما قال ذلك بعضهم لبعض ، عمد كلّ فتى منهم ، فأخذ من بيت أبيه نفقة ، فتصدّق منها ، وانطلقوا بما بقي معهم من نفقتهم ، واتبعهم كلْب لهم ، حتى أتوا ذلك الكهف ، الذي في ذلك الجبل ، فلبثوا فيه ليس لهم عمل إلا الصلاة والصيام والتسبيح والتكبير والتحميد ، ابتغاء

(17/608)


وجه الله تعالى ، والحياة التي لا تنقطع ، وجعلوا نفقتهم إلى فتى منهم يقال له يمليخا ، فكان على طعامهم ، يبتاع لهم أرزاقهم من المدينة سرا من أهلها ، وذلك أنه كان من أجملهم وأجلدهم ، فكان يمليخا يصنع ذلك ، فإذا دخل المدينة يضع ثيابا كانت عليه حسانا ، ويأخذ ثيابا كثياب المساكين الذين يستطعمون فيها ، ثم يأخذ ورقه ، فينطلق إلى المدينة فيشتري لهم طعاما وشرابا ، ويتسمَّع ويتجسَّس لهم الخبر ، هل ذكر هو وأصحابه بشيء في ملإ المدينة ، ثم يرجع إلى أصحابه بطعامهم وشرابهم ، ويخبرهم بما سمع من أخبار الناس ، فلبثوا بذلك ما لبثوا ، ثم قدم دقينوس الجبَّار المدينة التي منها خرج إلى مدينته ، وهي مدينة أفَمْوس ، فأمر عظماء أهلها ، فذبحوا للطواغيت ، ففزع في ذلك أهل الإيمان ، فتخبئوا في كل مخبأ ، وكان يمليخا بالمدينة يشتري لأصحابه طعامهم وشرابهم ببعض نفقتهم ، فرجع إلى أصحابه وهو يبكي ومعه طعام قليل ، فأخبرهم أن الجبار دقينوس قد دخل المدينة ، وأنهم قد ذكروا وافتقدوا والتمسوا مع عظماء أهل المدينة ليذبحوا للطواغيت ، فلما أخبرهم بذلك ، فزعوا فزعا شديدا ، ووقعوا سجودا على وجوههم يدعون الله ، ويتضرّعون إليه ، ويتعوّذون به من الفتنة ، ثم إن يمليخا قال لهم : يا إخوتاه ، ارفعوا رؤوسكم ، فاطعَموا من هذا الطعام الذي جئتكم به ، وتوكلوا على ربكم ، فرفعوا رؤوسهم ، وأعينهم تفيض من الدمع حذرا وتخوّفا على أنفسهم ، فطعموا منه ، وذلك مع غروب الشمس ، ثم جلسوا يتحدثون ويتدارسون ، ويذكر بعضهم بعضا على حزن منهم ، مشفقين مما أتاهم به صاحبهم من الخبر ، فبينا هم على ذلك ، إذ ضرب الله على آذانهم في الكهف سنين عددا ، وكلبهم باسط ذراعيه بباب الكهف ، فأصابهم ما أصابهم وهم مؤمنون مُوقنون ، مصدّقون بالوعد ، ونفقتهم موضوعة عندهم ، فلما كان الغد فقدهم دقينوس ، فالتمسهم فلم يجدهم ، فقال لعظماء أهل المدينة : لقد ساءني شأن هؤلاء الفتية الذين ذهبوا ، لقد كانوا يظنون أن بي غضبا عليهم فيما صنعوا في أوّل شأنهم ، لجهلهم ما جهلوا من أمري ، ما كنت لأجهل عليهم في نفسي ، ولا أؤاخذ أحدا منهم بشيء إن هم تابوا وعبدوا آلهتي ، ولو فعلوا لتركتهم ، وما عاقبتهم بشيء سلف منهم ، فقال له عظماء أهل المدينة : ما أنت بحقيق أن ترحم قوما فجرة مَردة عُصاة ، مقيمين على ظلمهم ومعصيتهم ، وقد كنتَ أجَّلتهم أجلا وأخَّرتهم عن العقوبة التي أصبت بها غيرهم ، ولو شاؤوا لرجعوا في ذلك الأجل ، ولكنهم لم يتوبوا ولم ينزعوا ولم يندموا على ما فعلوا ، وكانوا منذ انطلقت يبذرون أموالهم بالمدينة ، فلما علموا بقدومك فرّوا فلم يُروا بعد ، فإن أحببت أن تُؤْتَى بهم ، فأرسل إلى آبائهم فامتحنهم ، واشدُد عليهم يدُلوك عليهم ، فإنهم مختبئون منك ، فلما قالوا ذلك لدقينوس الجبار ، غضب غضبا شديدا. ثم أرسل إلى آبائهم ، فأتي بهم فسألهم عنهم وقال : أخبروني عن أبنائكم المردة الذين عصوا أمري ، وتركوا آلهتي ، ائتوني بهم ، وأنبئوني بمكانهم ، فقال له آباؤهم : أما نحن فلم نعص أمرك ولم نخالفك ، قد عبدنا آلهتك وذبحنا لهم ، فلم تقتلنا في قوم مردة ، قد ذهبوا بأموالنا فبذّروها وأهلكوها في أسواق المدينة ، ثم انطلقوا ، فارتقوا في جبل يدعى بنجلوس ، وبينه وبين المدينة أرض بعيدة هرَبا منك ، فلما قالوا ذلك خلَّى سبيلهم ، وجعل يأتمر ماذا يصنع بالفتية ، فألقى الله عز وجل في نفسه أن يأمر بالكهف فيُسدّ عليهم كرامة من الله ، أراد أن يكرمهم ، ويكرم أجساد الفتية ، فلا يجول ، ولا يطوف بها شيء ، وأراد أن يحييهم ، ويجعلهم آية لأمة تُستخلف من بعدهم ، وأن يبين لهم أن الساعة آتية لا ريب فيها ، وأن الله يبعث من في القبور. فأمر دقينوس بالكهف أن يسدّ عليهم ، وقال : دعوا هؤلاء الفتية المَرَدة الذين تركوا آلهتي فليموتوا كما هم في الكهف عطشا وجوعا ، وليكن كهفهم الذي اختاروا لأنفسهم قبرا لهم ، ففعل بهم ذلك عدوّ الله ، وهو يظن أنهم أيقاظ يعلمون ما يصنع بهم ، وقد تَوَفّى الله أرواحهم وفاة النوم ، وكلبهم باسط ذراعيه بباب الكهف ، قد غَشَّاه الله ما غشاهم ، يُقلَّبون ذات اليمين وذات الشمال ، ثم إن رجلين مؤمنين كانا في بيت الملك دقينوس يكتمان إيمانهما : اسم أحدهما بيدروس ، واسم الآخر : روناس ، فأتمرا أن يكتبا شأن الفتية أصحاب الكهف ، أنسابهم وأسماءهم وأسماء آبائهم ، وقصة خبرهم في لوحين من رَصاص ، ثم يصنعا له تابوتا من نحاس ، ثم يجعلا اللوحين فيه ، ثم يكتبا عليه في فم الكهف بين ظهراني البنيان ، ويختما على التابوت بخاتمهما ، وقالا لعل الله أن يُظْهر على هؤلاء الفتية قوما مؤمنين قبل يوم القيامة ، فيعلم من فتح عليهم حين يقرأ هذا الكتاب خبرهم ، ففعلا ثم بنيا عليه في البنيان ، فبقي دقينوس وقرنه الذين كانوا منهم ما شاء الله أن يبقوا ، ثم هلك دقينوس والقرن الذي كانوا معه ، وقرون بعده كثيرة ، وخلفت الخلوف بعد الخلوف.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن عبد الله بن كثير ، عن مجاهد ، قال : كان أصحاب الكهف أبناء عظماء مدينتهم ، وأهل شرفهم ، فخرجوا فاجتمعوا وراء المدينة على غير ميعاد ، فقال رجل منهم هو أسنهم : إني لأجد في نفسي شيئا ما أظنُّ أن أحدا يجده ، قالوا : ماذا تجد ؟ قال : أجد في نفسي أن ربي ربّ السماوات والأرض ، وقالوا : نحن نجد ، فقاموا جميعا ، فقالوا : ( رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا ) فاجتمعوا أن يدخلوا الكهف ، وعلى مدينتهم إذ ذاك جبار يقال له دقينوس ، فلبثوا في الكهف ثلاث مئة سنين وازدادوا تسعا رقدا.
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، عن عبد العزيز بن أبي روّاد ، عن عبد الله بن عبيد بن عمير ، قال : كان أصحاب الكهف فتيانا ملوكا مُطَوّقين مُسَوّرين ذوي ذوائب ، وكان معهم كلب صيدهم ، فخرجوا في عيد لهم عظيم في زيّ وموكب ، وأخرجوا معهم آلهتم التي يعبدون ، وقذف الله في قلوب الفتية الإيمان فآمنوا ، وأخفى كلّ واحد منهم الإيمان عن صاحبه ، فقالوا في أنفسهم من غير أن يظهر إيمان بعضهم لبعض : نخرج من بين أظهر هؤلاء القوم لا يصيبنا عقاب بجرمهم ، فخرج شاب منهم حتى انتهى إلى ظلّ شجرة ، فجلس فيه ، ثم خرج آخر فرآه جالسا وحده ، فرجا أن يكون على مثل أمره من غير أن يظهر منه ، فجاء حتى جلس إليه ، ثم خرج الآخرون ، فجاؤوا حتى جلسوا إليهما ، فاجتمعوا ، فقال بعضهم : ما جمعكم ؟ وقال آخر : بل ما جمعكم ؟ وكل يكتم إيمانه من صاحبه مخافة على نفسه ، ثم قالوا : ليخرج منكم فَتَيان ، فيخْلُوَا ، فيتواثقا أن لا يفشيَ واحد منهما على صاحبه ، ثم يفشي كل واحد منهما لصاحبه أمره ، فإنا نرجو أن نكون على أمر واحد ، فخرج فتيان منهم فتواثقا ، ثم تكلما ، فذكر كل واحد منهما أمره لصاحبه ، فأقبلا مستبشرَين إلى أصحابهما قد اتفقا على أمر واحد ، فإذا هم جميعا على الإيمان ، وإذا كهف في الجبل قريب منهم ، فقال بعضهم لبعض : ائتوا إلى الكهف( يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ

(17/609)


مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقًا ) فدخلوا الكهف ، ومعهم كلب صيدهم فناموا ، فجعله الله عليهم رقدة واحدة ، فناموا ثلاث مئة سنين وازدادوا تسعا ، قال : وفقدهم قومُهم فطلبوهم وبعثوا البرد ، فعمى الله عليهم آثارهم وكهفهم ، فلما لم يقدروا عليهم كتبوا أسماءهم وأنسابهم في لوح : فلان ابن فلان ، وفلان ابن فلان أبناء ملوكنا ، فَقَدناهم في عيد كذا وكذا في شهر كذا وكذا في سنة كذا وكذا ، في مملكة فلان ابن فلان ، ورفعوا اللوح في الخزانة ، فمات ذلك الملك وغلب عليهم ملك مسلم مع المسلمين ، وجاء قرن بعد قرن ، فلبثوا في كهفهم ثلاث مئة سنين وازدادوا تسعا.
وقال آخرون : بل كان مصيرهم إلى الكهف هربا من طلب سلطان كان طلبهم بسبب دَعوى جناية ادّعى على صاحب لهم أنه جناها.
ذكر من قال ذلك :
* حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، قال : أخبرني إسماعيل بن شروس ، أنه سمع وهب بن منبه يقول : جاء حواريّ عيسى ابن مريم إلى مدينة أصحاب الكهف ، فأراد أن يدخلها ، فقيل له : إن على بابها صنما لا يدخلها أحد إلا سجد له ، فكره أن يدخلها ، فأتى حَمَّاما ، فكان فيه قريبا من تلك المدينة ، فكان يعمل فيه يؤاجر نفسه من صاحب الحمام ، ورأى صاحب الحمام في حمامه البركة ودرّ عليه الرزق ، فجعل يعرض عليه الإسلام ، وجعل يسترسل إليه ، وعلقه فتية من أهل المدينة ، وجعل يخبرهم خبر السماء والأرض وخبر الآخرة ، حتى آمنوا به وصدّقوه ، وكانوا على مثل حاله في حُسْن الهيئة ، وكان يشترط على صاحب الحمام أن الليل لي لا تحول بيني وبين الصلاة إذا حضرت ، فكان على ذلك حتى جاء ابن الملك بامرأة ، فدخل بها الحمام ، فعيره الحواريّ ، فقال : أنت ابن الملك ، وتدخل معك هذه النكداء ، فاستحيا ، فذهب فرجع مرّة أخرى ، فقال له مثل ذلك ، فسبه وانتهره ولم يلتفت حتى دخل ودخلت معه المرأة ، فماتا في الحمام جميعا ، فأتي الملك ، فقيل له : قتل صاحب الحمام ابنك ، فالتُمس ، فلم يقدر عليه هَربا ، قال : من كان يصحبه ؟ فسموا الفتية ، فالتمسوا ، فخرجوا من المدينة ، فمروا بصاحب لهم في زرع له ، وهو على مثل

(17/612)


فَضَرَبْنَا عَلَى آَذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا (11) ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا (12)

أمرهم ، فذكروا أنهم التُمسوا ، فانطلق معهم الكلب ، حتى أواهم الليل إلى الكهف ، فدخلوه ، فقالوا : نبيت ههنا الليلة ، ثم نصبح إن شاء الله فترون رأيكم ، فضرب على آذانهم ، فخرج الملك في أصحابه يتبعونهم حتى وجدوهم قد دخلوا الكهف ، فكلما أراد رجل أن يدخل أرعب ، فلم يطق أحد أن يدخله ، فقال قائل : أليس لو كنت قدرت عليهم قتلتهم ؟ قال : بلى ، قال : فابن عليهم باب الكهف ، ودعهم فيه يموتوا عطشا وجوعا ، ففعل.
القول في تأويل قوله تعالى : { فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا (11) ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا (12) }
يعني جل ثناؤه بقوله : ( فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ ) : فضربنا على آذانهم بالنوم في الكهف : أي ألقينا عليهم النوم ، كما يقول القائل لآخر : ضربك الله بالفالج ، بمعنى ابتلاه الله به ، وأرسله عليه. وقوله : ( سِنِينَ عَدَدًا ) يعني سنين معدودة ، ونصب العدد بقوله(فَضَرَبْنَا).
وقوله : ( ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى ) يقول :
ثم بعثنا هؤلاء الفتية الذين أوَوْا إلى الكهف بعد ما ضربنا على آذانهم فيه سنين عددا من رقدتهم ، لينظر عبادي فيعلموا بالبحث ، أيُّ الطائفتين اللتين اختلفتا في قدر مبلغ مكث الفتية في كهفهم رقودا أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا ) يقول :
أصوب لقدر لبثهم فيه أمدا ، ويعني بالأمد : الغاية ، كما قال النابغة :
إلا لِمِثْلِكَ أوْ مَنْ أنْتَ سابِقُهُ... سَبْقَ الجَوَادِ ِإذا اسْتَوْلَى على الأمَدِ (1)
وذُكر أن الذين اختلفوا في ذلك من أمورهم ، قوم من قوم الفتية ، فقال بعضهم : كان الحزبان جميعا كافرين. وقال بعضهم : بل كان أحدهما مسلما ، والآخر كافرا.
* ذكر من قال كان الحزبان من قوم الفتية : حدثني محمد بن عمرو ،
__________
(1) البيت للنابغة الذبياني ، في ( مختار الشعر الجاهلي ، بشرح مصطفى السقا ، طبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده ص 152 ) من قصيدته التي مطلعها : يا دار مية بالعلياء فالسند
وهي خمسون بيتا ، والشاهد هو السادس والعشرون منها . قال شارحه : الأمد الغاية التي تجري إليها ( وعلى هذا استشهد المؤلف ) يقول : لا تنطو على حقد وغضب ، إلا لمن هو مثلك في الناس ، أو قريب منك.

(17/613)


قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد( أَيُّ الْحِزْبَيْنِ ) من قوم الفتية.
حدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، بنحوه.
حدثني القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله( ثم بعثناهم لنعلم أي الحزبين أحصى لما لبثوا أمدا ) يقول : ما كان لواحد من الفريقين علم ، لا لكفارهم ولا لمؤمنيهم.
وأما قوله : (أمَدًا) فإن أهل التأويل اختلفوا في معناه ، فقال بعضهم : معناه : بعيدا.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني علي ، قال : ثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله( لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا ) يقول : بعيدا.
وقال آخرون : معناه : عددا.
ذكر من قال ذلك : حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد(أمَدًا) قال : عددا.
حدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله.
وفي نصب قوله(أمَدًا) وجهان : أحدهما أن يكون منصوبا على التفسير من قوله(أحْصَى) كأنه قيل : أيّ الحزبين أصوب عددا لقدر لبثهم.
وهذا هو أولى الوجهين في ذلك بالصواب ، لأن تفسير أهل التفسير بذلك جاء.
والآخر : أن يكون منصوبا بوقوع قوله(لَبِثُوا) عليه ، كأنه قال : أيّ الحزبين أحصى للبثهم غاية.

(17/614)


نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آَمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى (13) وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا (14)

القول في تأويل قوله تعالى : { نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى (13) وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا (14) }
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم :
نحن يا محمد نقص عليك خبر هؤلاء الفتية الذين أوَوْا إلى الكهف بالحق ، يعني : بالصدق واليقين الذي لا شك فيه( إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ ) يقول : إن الفتية الذين أوَوْا إلى الكهف الذين سألك عن نبئهم الملأ من مشركي قومك ، فتية آمنوا بربهم ، ( وَزِدْنَاهُمْ هُدًى ) يقول : وزدناهم إلى إيمانهم بربهم إيمانا ، وبصيرة بدينهم ، حتى صبروا على هجران دار قومهم ، والهرب من بين أظهرهم بدينهم إلى الله ، وفراق ما كانوا فيه من خفض العيش ولينه ، إلى خشونة المكث في كهف الجبل.
وقوله : ( وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ ) يقول عز ذكره :
وألهمناهم الصبر ، وشددنا قلوبهم بنور الإيمان حتى عزفت أنفسهم عما كانوا عليه من خفض العيش.
كما حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد عن قتادة( وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ ) يقول : بالإيمان.
وقوله : ( إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ ) يقول : حين قاموا بين يدي الجبار دقينوس ، فقالوا له إذ عاتبهم على تركهم عبادة آلهته( رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ ) يقول : قالوا ربنا ملك السماوات والأرض وما فيهما من شيء ، وآلهتك مربوبة ، وغير جائز لنا أن نترك عبادة الربّ ونعبد المربوب( لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا ) يقول : لن ندعو من دون ربّ السموات والأرض إلها ، لأنه لا إله غيره ، وإن كلّ ما دونه فهو خلقه( لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا ) يقول جل ثناؤه : لئن دعونا إلها غير إله السموات والأرض ، لقد قلنا إذن بدعائنا غيره إلها ، شططا من القول : يعني غاليا من الكذب ، مجاوزا مقداره في البطول والغلوّ : كما قال الشاعر :
ألا يا لَقَوْمي قد أشْطَتْ عَوَاذِلي... ويزْعُمْنَ أنْ أوْدَى بِحَقِّي باطلي (1)
__________
(1) البيت للأحوص بن محمد . وهو من شواهد أبي عبيدة في ( مجاز القرآن 1 : 394 ) قال : ( قُلْنَا إِذًا شَطَطًا ) : أي جورا وغلوا ، قال ألا يا لقوم قد أشطت عواذلي
...البيت وذكر بعده بيتا آخر وهو : وَيَلْحَيْنِي في اللَّهْوِ أنْ لا أُحِبُّهُ ... وللَّهْوِ داعٍ دائِبٌ غيرُ غافِلِ
وفي ( اللسان : شطط ) : الشطط : مجاوزة القدر في بيع أو طلب أو احتكام أو غير ذلك من كل مشتق منه . أه . وقال : وشط في سلعته وأشط : جاوز القدر ، وتباعد عن الحق . وشط عليه في حكمه يشط شططا. واشتط ، وأشط : جار في قضيته . وقال أبو عبيدة : شططت أشط ، بضم الشين ، وأشططت : جرت . قال ابن بري : أشط : بمعنى أبعد ، وشط بمعنى بعد . وشاهد أشط بمعنى أبعد ، قول الأحوص : * ألا لقومي قد أشطت عواذلي *
...البيت.

(17/615)


هَؤُلَاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آَلِهَةً لَوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا (15)

يقال منه : قد أشط فلان في السوم إذا جاوز القدر وارتفع ، يشط إشطاطا وشططا. فأما من البعد فإنما يقال : شط منزل فلان يشطّ شطوطا ، ومن الطول : شطت الجارية تشطّ شطاطا وشطاطة : إذا طالت.
وبنحو الذي قلنا في تأويل قوله(شَطَطا) قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك : حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله( لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا ) يقول كذبا.
حدثنا يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله( لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا ) قال : لقد قلنا إذن خطأ ، قال : الشطط : الخطأ من القول.
القول في تأويل قوله تعالى : { هَؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا (15) }
يقول عز ذكره مخبرا عن قيل الفتية من أصحاب الكهف : هؤلاء قومنا اتخذوا من دون الله آلهة يعبدونها من دونه( لَوْلا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ ) يقول : هلا يأتون على عبادتهم إياها بحجة بينة ، وفي الكلام محذوف اجتزئ بما ظهر عما حذف ، وذلك في قوله : ( لَوْلا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ ) فالهاء والميم في عليهم من ذكر الآلهة ، والآلهة لا يؤتى عليها بسلطان ، ولا يسأل السلطان عليها ، وإنما يسأل عابدوها السلطان على عبادتهموها ، فمعلوم إذ كان الأمر

(17/616)


كذلك ، أن معنى الكلام : لولا يأتون على عبادتهموها ، واتخاذهموها آلهة من دون الله بسلطان بين.
وبنحو ما قلنا في معنى السلطان ، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله( لَوْلا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ ) يقول : بعذر بين.
وعنى بقوله عز ذكره : ( فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا )
ومن أشدّ اعتداء وإشراكا بالله ، ممن اختلق ، فتخرّص على الله كذبا ، وأشرك مع الله في سلطانه شريكا يعبده دونه ، ويتخده إلها.

(17/617)


وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقًا (16)

القول في تأويل قوله تعالى : { وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقًا (16) }
يقول تعالى ذكره مخبرا عن قيل بعض الفتية لبعض :
وإذا اعتزلتم أيها الفتية قومكم الذين اتخذوا من دون الله آلهة( وَمَا يَعْبُدُونَ إِلا اللَّهَ ) يقول : وإذا اعتزلتم قومكم الذين يعبدون من الآلهة سوى الله ، ف " ما " إذ كان ذلك معناه في موضع نصب عطفا لها على الهاء ، والميم التي في قوله( وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ )
وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله( وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلا اللَّهَ ) وهي في مصحف عبد الله : " ومَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ الله " هذا تفسيرها.
وأما قوله : ( فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ ) فإنه يعني به :
فصيروا إلى غار الجبل الذي يسمى بنجلوس ، ( يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ ) يقول : يبسط لكم ربكم من رحمته بتيسيره لكم المخرج من الأمر الذي قد رُمِيتم به من الكافر دقينوس وطلبه إياكم لعرضكم على الفتنة.
وقوله : ( فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ ) جواب لإذ ، كأن معنى الكلام : وإذ اعتزلتم

(17/617)


أيها القوم قومكم ، فأْوُوا إلى الكهف ، كما يقال : إذ أذنبت فاستغفر الله وتب إليه.
وقوله : ( وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقًا ) يقول : وييسر لكم من أمركم الذي أنتم فيه من الغمِّ والكرب خوفا منكم على أنفسكم ودينكم مرفقا ، ويعني بالمرفق : ما ترتفقون به من شيء ، وفي المرفق من اليد وغير اليد لغتان : كسر الميم وفتح الفاء ، وفتح الميم وكسر الفاء ، وكان الكسائي يُنكر في مِرْفَق الإنسان الذي في اليد إلا فتح الفاء وكسر الميم ، وكان الفرّاء يحكي فيهما ، أعني في مرفق الأمر واليد اللغتين كلتيهما ، وكان ينشد في ذلك قول الشاعر :
بت أجافي مرفقا عن مرفقي (1)
ويقول : كسر الميم فيه أجود.
وكان بعض نحويي أهل البصرة يقول في قوله : ( مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقًا ) شيئا ترتفقون به مثل المقطع ، ومرفقا جعله اسما كالمسجد ، ويكون لغة ، يقولون : رفق يرفق مرفقا ، وإن شئت مرفقا تريد رفقا ولم يُقْرأ.
وقد اختلفت القراء في قراءة ذلك. فقرأته عامة قراء أهل المدينة : " وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أمْرِكُمْ مِرْفَقا " بفتح الميم وكسر الفاء ، وقرأته عامة قراء العراق في المصرين(مِرْفَقا) بكسر الميم وفتح الفاء.
والصواب من القول في ذلك أن يقال : إنهما قراءتان بمعنى واحد ، قد قرأ بكل واحدة منهما قراء من أهل القرآن ، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب ، غير أن الأمر وإن كان كذلك ، فإن الذي أختار في قراءة ذلك : ( وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقًا ) بكسر الميم وفتح الفاء ، لأن ذلك أفصح اللغتين وأشهرهما في العرب ، وكذلك ذلك في كل ما ارتفق به من شيء.
__________
(1) هذا بيت من الرجز ، استشهد به المؤلف على أن المرفق الذي يرتفق بع وينتفع : يجوز فيه فتح الميم مع كسر الراء وكسر الميم مع فتح . وكذلك مرفق اليدين ، وهو موافق لما قاله الفراء في معاني القرآن ( الورقة 184 من مصورة الجامعة ) قال : وقوله " من أمركم مرفقا " كسر الميم الأعمش والحسن ، ونصبها أهل المدينة وعاصم ، فكأن الذين فتحوا الميم وكسروا الفاء ، أرادوا أن يفرقوا بين المرفق من الأمر ، والمرفق من الإنسان . وأكثر العرب على كسر الميم من الأمر ومن الإنسان. والعرب أيضا تفتح الميم من مرفق الإنسان ، لغتان فيهما . أه أما أبو عبيدة في مجاز القرآن ( 1 : 95 ذ) فإنه قال : المرفق : ما ارتفق به ، ويقرؤه قوم مرفقا ( أي بالفتح ) فأما في اليدين فهو مرفق . ولم أجد هذا الشاهد عند الفراء ، ولا عند أبي عبيدة ، ولا في لسان العرب . ومعنى أجافي : أبعد.

(17/618)


وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذَلِكَ مِنْ آَيَاتِ اللَّهِ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا (17)

القول في تأويل قوله تعالى : { وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا (17) }
يقول تعالى ذكره( وَتَرَى الشَّمْسَ ) يا محمد( إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ ) يعني بقوله : ( تَزَاوَرُ ) : تعدل وتميل ، من الزور : وهو الْعَوج والميل ، يقال منه : في هذه الأرض زَوَر : إذا كان فيها اعوجاج ، وفي فلان عن فلان ازورار ، إذا كان فيه عنه إعراض ، ومنه قول بشر بن أبي خازم :
يَؤُمُّ بِها الحُدَاةُ مِياهَ نَخْلٍ... وفيها عَنْ أبانَين ازْوِرَارُ (1)
يعني : إعراضا وصدا.
وقد اختلفت القرّاء في قراءة ذلك ، فقرأته عامَّة قرّاء المدينة ومكة والبصرة : " تزَّاور " بتشديد الزاي ، بمعنى : تتزاور بتاءين ، ثم أدغم إحدى التاءين في الزاي ، كما قيل : تظَّاهرون عليهم. وقرأ ذلك عامة قراء الكوفيين : (تَزَاوَرُ) بتخفيف التاء والزاي ، كأنه عنى به تفاعل من الزور ، ورُوي عن بعضهم : " تَزْوَرّ " بتخفيف التاء وتسكين الزاي وتشديد الراء مثل تحمرُّ ، وبعضهم : تَزْوَارّ : مثل تحمارّ.
والصواب من القول في قراءه ذلك عندنا أن يقال : إنهما قراءتان ، أعني(تَزَاوَرُ) بتخفيف الزاي ، و
__________
(1) البيت لبشر بن خازم . ذكره البكري في معجم ما استعجم طبع القاهرة ( لجنة التأليف ، بتحقيق مصطفى السقا) في رسم " أبان " . قال : أبان جبل . وهما أبانان : أبان الأبيض وأبان الأسود ، بينهما فرسخ ، ووادي الرمة يقطع بينهما . فأبان الأبيض لبني جريد من بني فزارة خاصة ، والأسود لبني والبة ، من بني الحارث بن ثعلبة بن دودان بن أسد .وقال بشر فيهما وفيها عن أبانين ازورار
. وقال الأصمعي : أراد أبانا ، فثناه للضرورة . ونخل ، كما في معجم ما استعجم : على لفظ جمع نخلة ، وقال يعقوب : هي قرية بواد يقال له شدخ ، لفزارة وأشجع وأنمار وقريش والأنصار ... على ليلتين من المدينة . أو هي ماء بين القصة والثاملية . ويؤم بها : يقصد بها بالإبل ، والحداة : جمع حاد وهو سائق الإبل يحدو بها ، ويغني لها. والازورار : الميل والعدول والإعراض عن الشيء ، كما استشهد به المؤلف عند قوله تعالى : ( تزاور عن كهفهم ) أي تميل عنه وتنحرف.

(17/619)


(تزَّاوَرُ) بتشديدها معروفتان ، مستفيضة القراءة بكلّ واحدة منهما في قرّاء الأمصار ، متقاربتا المعنى ، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب الصواب. وأما القراءتان الأخريان فإنهما قراءتان لا أرى القراءة بهما ، وإن كان لهما في العربية وجه مفهوم ، لشذوذهما عما عليه قرأة الأمصار.
وبنحو الذي قلنا في تأويل قوله( تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ) قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن بشار ، قال : ثنا عبد الرحمن بن مهدي ، قال : ثنا محمد بن أبي الوضاح ، عن سالم الأفطس ، عن سعيد بن جبير ، قال : ( وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ ) قال : تميل.
حدثني علي ، قال : ثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس( تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ ) يقول : تميل عنهم.
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : ( وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ ) يقول : تميل عن كهفهم يمينا وشمالا.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : ( وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ ) يقول : تميل ذات اليمين ، تدعهم ذات اليمين.
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزّاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، في قوله( تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ ) قال : تميل عن كهفهم ذات اليمين.
حُدثت عن يزيد بن هارون ، عن سفيان بن حسين ، عن يعلى بن مسلم ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال : لو أن الشمس تطلع عليهم لأحرقتهم ، ولو أنهم لا يقلَّبون لأكلتهم الأرض ، قال : وذلك قوله : ( وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ ).
حدثني محمد بن سنان القزاز ، قال : ثنا موسى بن إسماعيل ، قال : ثنا

(17/620)


محمد بن مسلم بن أبي الوضاح ، عن سالم الأفطس ، عن سعيد بن جبير ، قال : ( تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ) تميل.
وقوله : ( وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ ) يقول تعالى ذكره : وإذا غربت الشمس تتركهم من ذات شمالهم. وإنما معنى الكلام : وترى الشمس إذا طلعت تعدل عن كهفهم ، فتطلع عليه من ذات اليمين ، لئلا تصيب الفتية ، لأنها لو طلعت عليهم قبالهم لأحرقتهم وثيابهم ، أو أشحبتهم ، وإذا غربت تتركهم بذات الشمال ، فلا تصيبهم ، يقال منه : قرضت موضع كذا : إذا قطعته فجاوزته ، وكذلك كان يقول بعض أهل العلم بكلام العرب من أهل البصرة ، وأما الكوفيون فإنهم يزعمون أنه المحاذاة ، وذكروا أنهم سمعوا من العرب قرضته قُبُلا ودبرا ، وحذوته ذات اليمين والشمال ، وقُبلا ودبرا : أي كنت بحذائه ، قالوا : والقرض والحذو بمعنى واحد ، وأصل القرض : القطع ، يقال منه : قرضت الثوب : إذا قطعته ، ومنه قيل للمقراض : مقراض ، لأنه يقطع ، ومنه قرض الفأر الثوب ، ومنه قول ذي الرُّمَّة :
إلى ظُعْن يَقْرِضْنَ أجْوَاز مُشْرِفٍ... شِمالا وعن أيمانِهنَّ الفوارِسُ (1)
يعنى بقوله : يَقْرِضْنَ : يقطعن.
وبنحو ما قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : ثني أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس ، قوله : ( وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ ) يقول : تذرهم.
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا عبد الرحمن ، قال : ثنا محمد بن أبي الوضاح ،
__________
(1) البيت في ديوان ذي الرمة طبع كيمبردج سنة 1919 ص 313 من القصيدة رقم 41 ، وعدة أبياتها 51 بيتا . أي نظرت إلى ظعن يقرضن أي يملن عنها . والفوارس : رمال بالدهناء . والبيت من شواهد أبي عبيدة في ( مجاز القرآن : 1 : 396 ) ، قال : " تقرضهم ذات الشمال ، أي تخلفهم شمالا ، وتجاوزهم وتقطعهم ، وتتركهم عن شمالها . ويقال : هل مررت بمكان كذا وكذا ؟ فيقول المسئول : قرضته ذات اليمين ليلا . وقال ذو الرمة : إلى ظعن يقرضن أجواز مشرف
... البيت . ومشرف والفوارس : موضعان بنجد ، كما في معجم ما استعجم ، وأنشد البيت في رسم الفوارس ، ونسبه إلى ذي الرمة . والظعن : جمع ظعينة ، وهي المرأة في الهودج على جملها أو ناقتها .

(17/621)


عن سالم الأفطس ، عن سعيد بن جبير ، قال( وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ) تتركهم ذات الشمال.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله عز وجل : (تَقْرِضُهُمْ) قال : تتركهم.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ ) يقول : تدعهم ذات الشمال.
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا مَعْمر ، عن قتادة ، قوله : ( تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ ) قال : تدعهم ذات الشمال.
حدثنا ابن سنان القَزّاز ، قال : ثنا موسى بن إسماعيل ، قال : أخبرنا محمد بن مسلم بن أبي الوضَّاح عن سالم ، عن سعيد بن جبير( وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ) قال : تتركهم.
وقوله : ( وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ) يقول : والفتية الذين أووا إليه في متسع منه يُجْمَع : فَجَوات ، وفِجَاء ممدودا.
وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك : حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ) يقول : في فضاء من الكهف ، قال الله ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ ).
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا عبد الرحمن ، قال : ثنا محمد بن أبي الوضاح ، عن سالم الأفطس ، عن سعيد بن جبير( وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ) قال : المكان الداخل.
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا عبد الرحمن ، قال : ثنا سفيان ، عن منصور ، عن مجاهد( وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ) قال : المكان الذاهب.
حدثني ابن سنان ، قال : ثنا موسى بن إسماعيل ، قال : ثنا محمد بن مسلم

(17/622)


وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا (18)

أبو سعيد بن أبي الوضَّاح ، عن سالم الأفطس ، عن سعيد بن جبير( فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ) قال : في مكان داخل.
وقوله : (ذلك من آيات الله) يقول عز ذكره :
فعلنا هذا الذي فعلنا بهؤلاء الفتية الذين قصصنا عليكم أمرهم من تصييرناهم ، إذ أردنا أن نضرب على آذانهم بحيث تزاور الشمس عن مضاجعهم ذات اليمين إذا هي طلعت ، وتقرضهم ذات الشمال إذا هي غَرَبت ، مع كونهم في المتسع من المكان ، بحيث لا تحرْقهم الشمس فتُشحبهم ، ولا تبلى على طول رقدتهم ثيابهم ، فتعفَّن على أجسادهم ، من حجج الله وأدلته على خلقه ، والأدلة التي يستدل بها أولو الألباب على عظيم قدرته وسلطانه ، وأنه لا يعجزه شيء أراده ، وقوله( مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي ) يقول عزّ وجلّ : من يوفقه الله للاهتداء بآياته وحججه إلى الحق التي جعلها أدلة عليه ، فهو المهتدي : يقول : فهو الذي قد أصاب سبيل الحقّ( وَمَنْ يُضْلِلِ ) يقول : ومن أضله الله عن آياته وأدلته ، فلم يوفقه للاستدلال بها على سبيل الرشاد( فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا ) يقول : فلن تجد له يا محمد خليلا وحليفا يرشده لإصابتها ، لأن التوفيق والخِذْلان بيد الله ، يوفق من يشاء من عباده ، ويخذل من أراد ، يقول : فلا يَحْزنُك إدبار من أدبر عنك من قومك وتكذيبهم إياك ، فإني لو شئت هديتهم فآمنوا ، وبيدي الهداية والضلال.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا (18) }
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : وتحسب يا محمد هؤلاء الفتية الذين قصصنا عليك قصتهم ، لو رأيتهم في حال ضربنا على آذانهم في كهفهم الذي أووا إليه أيقاظا. والأيقاظ : جمع يَقِظ ، ومنه قول الراجز :
وَوَجدُوا إخْوَتهُمْ أيْقاظا... وسَيْفَ غَيَّاظٍ لَهُمْ غَيَّاظا (1)
__________
(1) البيتان (في ديوان العجاج الراجز ، في الملحق بديوانه ص 81 - 82 ) من أرجوزة عدتها 19 بيتا.
ورقما البيتين فيها هما 8 ، 16 . وهما من شواهد أبي عبيدة في ( مجاز القرآن 1 : 397 ) قال " وتحسبهم أيقاظا " : واحدهم يقظ . ورجال أيقاظ ؛ وكذلك جمع يقظان : أيقاظ ، يذهبون به إلى جمع يقظ.
وقال رؤبة : " ووجدوا ... البيتين " وقد نسبهما لرؤبة ، وهما في ديوان العجاج . وقد تداخلت أشعارهما على الرواة واللغويين . وغياظ : اسم رجل.

(17/623)


وقوله : ( وَهُمْ رُقُودٌ ) يقول : وهم نيام ، والرقود : جمع راقد ، كالجلوس : جمع جالس ، والقعود : جمع قاعد ، وقوله وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ ) يقول جل ثناؤه : ونقلب هؤلاء الفتية في رقدتهم مرّة للجنب الأيمن ، ومرّة للجنب الأيسر.
كما حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله( وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ ) وهذا التقليب في رقدتهم الأولى ، قال : وذكر لنا أن أبا عياض قال : لهم في كل عام تقليبتان.
حُدثت عن يزيد ، قال : أخبرنا سفيان بن حسين ، عن يعلى بن مسلم عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس( وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ ) قال : لو أنهم لا يقلَّبون لأكلتهم الأرض.
وقوله : ( وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ ) اختلف أهل التأويل في الذي عنى الله بقوله : ( وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ ) فقال بعضهم : هو كلب من كلابهم كان معهم ، وقد ذكرنا كثيرا ممن قال ذلك فيما مضى ، وقال بعضهم : كان إنسانا (1) من الناس طباخا لهم تَبِعهم.
وأما الوصيد ، فإن أهل التأويل اختلفوا في تأويله ، فقال بعضهم : هو الفناء.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : ثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : (بالوَصِيد) يقول : بالفِناء.
حدثنا محمد بن بشار ، قال : ثنا عبد الرحمن بن مَهديّ ، قال : ثنا محمد بن أبي الوضَّاح ، عن سالم الأفطس ، عن سعيد بن جبير( وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ ) قال : بالفناء.
__________
(1) قوله " كان إنسانا ... إلخ " كذا في الأصول وفي ابن كثير . قيل كلب طباخ الملك ، وقد كان وافقهم على الدين وصحبه كلبه. أ ه

(17/624)


حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد(بالوَصِيد) قال : بالفناء.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد(بالوَصِيد) قال : بالفناء. قال ابن جريج : يمسك باب الكهف.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ ) يقول : بفناء الكهف.
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، قوله : (بالوَصِيد) قال : بفناء الكهف.
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : ثنا عبيد بن سليمان ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : (بالوَصِيد) قال : يعني بالفناء.
وقال آخرون : الوَصِيد : الصعيد.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : ( وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ ) يعني فناءهم ، ويقال : الوصيد : الصعيد.
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا يعقوب ، عن هارون ، عن عنترة ، عن سعيد بن جبير ، في قوله : ( وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ ) قال : الوصيد : الصعيد.
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا الحكم بن بشير ، عن عمرو ، في قوله : ( وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ ) قال : الوصيد : الصعيد ، التراب.
وقال آخرون : الوصيد الباب.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني زكريا بن يحيى بن أبي زائدة ، قال : ثنا أبو عاصم ، عن شبيب ، عن عكرمة ، عن ابن عباس( وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ ) قال : بالباب ، وقالوا بالفناء.
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب ، قول من قال : الوصيد : الباب ، أو فناء الباب حيث يغلق الباب ، وذلك أن الباب يُوصَد ، وإيصاده : إطباقه وإغلاقه

(17/625)


وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلَا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا (19) إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا (20)

من قول الله عز وجل : ( إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ ) وفيه لغتان : الأصيد ، وهي لغة أهل نجد ، والوصيد : وهي لغة أهل تهامة وذُكِر عن أبي عمرو بن العلاء ، قال : إنها لغة أهل اليمن ، وذلك نظير قولهم : ورّخت الكتاب وأرخته ، ووكدت الأمر وأكدته ، فمن قال الوصيد ، قال : أوصدت الباب فأنا أُوصِده ، وهو مُوصَد ، ومن قال الأصيد ، قال : آصدت الباب فهو مُؤْصَد ، فكان معنى الكلام : وكلبهم باسط ذراعيه بفناء كهفهم عند الباب ، يحفظ عليهم بابه.
وقوله : ( لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا ) يقول : لو اطلعت عليهم في رقدتهم التي رقدوها في كهفهم ، لأدبرت عنهم هاربا منهم فارّا ، ( وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا ) يقول :
ولملئت نفسُك من اطلاعك عليهم فَزَعا ، لما كان الله ألبسهم من الهيبة ، كي لا يصل إليهم واصل ، ولا تلمِسهم يد لامس حتى يبلغ الكتاب فيهم أجله ، وتوقظهم من رقدتهم قدرته وسلطانه في الوقت الذي أراد أن يجعلهم عبرة لمن شاء من خلقه ، وآية لمن أراد الاحتجاج بهم عليه من عباده ، ليعلموا أن وعد الله حق ، وأنّ الساعة آتية لا ريب فيها.
واختلفت القرّاء في قراءة قوله : ( وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا ) فقرأته عامة قراء المدينة بتشديد اللام من قوله : ( وَلَمُلِّئْتَ ) بمعنى أنه كان يمتلئ مرّة بعد مرّة. وقرأ ذلك عامة قراء العراق : (وَلَمُلِئْتَ) بالتخفيف ، بمعنى : لملئت مرّة ، وهما عندنا قراءتان مستفيضتان في القراءة ، متقاربتا المعنى ، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا (19) إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا (20) }

(17/626)


يقول تعالى ذكره : كما أرقدنا هؤلاء الفتية في الكهف ، فحفظناهم من وصول واصل إليهم ، وعين ناظر أن ينظر إليهم ، وحفظنا أجسامهم من البلاء على طول الزمان ، وثيابهم من العفن على مرّ الأيام بقدرتنا ، فكذلك بعثناهم من رقدتهم ، وأيقظناهم من نومهم ، لنعرّفهم عظيم سلطاننا ، وعجيب فعلنا في خلقنا ، وليزدادوا بصيرة في أمرهم الذي هم عليه من براءتهم من عبادة الآلهة ، وإخلاصهم لعبادة الله وحده لا شريك له ، إذا تبيَّنوا طول الزمان عليهم ، وهم بهيئتهم حين رقدوا ، وقوله : ( لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ ) يقول : ليسأل بعضهم بعضا( قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ ) يقول عزّ ذكره : فتساءلوا فقال قائل منهم لأصحابه : (كَمْ لَبِثْتمْ) وذلك أنهم استنكروا من أنفسهم طول رقدتهم( قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ ) يقول : فأجابه الآخرون فقالوا : لبثنا يوما أو بعض يوم ، ظنا منهم أن ذلك كذلك كان ، فقال الآخرون : ( رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ ) فسلِّموا العلم إلى الله.
وقوله : ( فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ ) يعني مدينتهم التي خرجوا منها هِرابا ، التي تسمى أفسوس( فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ ) ذكر أنهم هبوا من رقدتهم جِياعا ، فلذلك طلبوا الطعام.
* ذكر من قال ذلك ، وذكر السبب الذي من أجله ذكر أنهم بعثوا من رقدتهم حين بعثوا منها :
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، قال : أخبرني إسماعيل بن بشروس ، أنه سمع وهب بن منبه يقول : إنهم غبروا ، يعني الفتية من أصحاب الكهف بعد ما بني عليهم باب الكهف زمانا بعد زمان ، ثم إن راعيا أدركه المطر عند الكهف ، فقال : لو فتحت هذا الكهف وأدخلت غنمي من المطر ، فلم يزل يعالجه حتى فتح ما أدخله فيه ، وردّ إليهم أرواحهم في أجسامهم من الغد حين أصبحوا ، فبعثوا أحدهم بورق يشتري طعاما ، فلما أتى باب مدينتهم ، رأى شيئا يُنكره ، حتى دخل على رجل فقال : بعني بهذه الدراهم طعاما ، فقال : ومن أين لك هذه الدراهم ؟ قال : خرجت أنا وأصحاب لي أمس ، فآوانا الليل ، ثم أصبحوا ، فأرسلوني ، فقال : هذه الدراهم كانت على عهد مُلك فلان ، فأنَّى لك بها ، فرفعه إلى الملك ، وكان

(17/627)


ملكا صالحا ، فقال : من أين لك هذه الورق ؟ قال : خرجت أنا وأصحاب لي أمس ، حتى أدركنا الليل في كهف كذا وكذا ، ثم أمروني أن أشتريَ لهم طعاما ، قال : وأين أصحابك ؟ قال : في الكهف ، قال : فانطلقوا معه حتى أتوا باب الكهف ، فقال : دعوني أدخل على أصحابي قبلكم ، فلما رأوه ، ودنا منهم ضُرِب على أذنه وآذانهم ، فجعلوا كلما دخل رجل أرعب ، فلم يقدروا على أن يدخلوا عليهم ، فبنوا عندهم كنيسة ، اتخذوها مسجدا يصلون فيه.
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، عن عكرمة ، قال : كان أصحاب الكهف أبناء ملوك الروم ، رزقهم الله الإسلام ، فتعوّذوا بدينهم ، واعتزلوا قومهم ، حتى انتهوا إلى الكهف ، فضرب الله على سمعهم ، فلبثوا دهرا طويلا حتى هلكت أمتهم ، وجاءت أمة مسلمة ، وكان ملكهم مسلما ، فاختلفوا في الروح والجسد ، فقال قائل : يبعث الروح والجسد جميعا ، وقال قائل : يُبعث الروح ، فأما الجسد فتأكله الأرض ، فلا يكون شيئا ، فشقّ على ملكهم اختلافهم ، فانطلق فلبس المُسُوح ، وجلس على الرَّماد ، ثم دعا الله تعالى فقال : أي ربّ ، قد ترى اختلاف هؤلاء ، فابعث لهم آية تبين لهم ، فبعث الله أصحاب الكهف ، فبعثوا أحدهم يشتري لهم طعاما ، فدخل السوق ، فجعل يُنكر الوجوه ، ويعرف الطرق ، ويرى الإيمان بالمدينة ظاهرا ، فانطلق وهو مستخف حتى أتى رجلا يشتري منه طعاما ، فلما نظر الرجل إلى الوَرِق أنكرها ، قال : حسبت أنه قال : كأنها أخفاف الرُّبَع ، يعني الإبل الصغار ، فقال له الفتى : أليس ملككم فلانا ؟ قال : بل ملكنا فلان ، فلم يزل ذلك بينهما حتى رفعه إلى الملك ، فسأله ، فأخبره الفتى خبر أصحابه ، فبعث الملك في الناس ، فجمعهم ، فقال : إنكم قد اختلفتم في الروح والجسد ، وإن الله قد بعث لكم آية ، فهذا رجل من قوم فلان ، يعني ملكهم الذي مضى ، فقال الفتى : انطلقوا بي إلى أصحابي ، فركب الملك ، وركب معه الناس حتى انتهوا إلى الكهف ، فقال الفتى دعوني أدخل إلى أصحابي ، فلما أبصرهم ضُرِب على أذنه وعلى آذانهم ، فلما استبطئوه دخل الملك ، ودخل الناس معه ، فإذا أجساد لا ينكرون منها شيئا ، غير أنها لا أرواح فيها ، فقال الملك : هذه آية بعثها الله لكم ، قال قتادة : وعن ابن عباس ، كان قد غزا مع حبيب بن مسلمة ،

(17/628)


فمرّوا بالكهف ، فإذا فيه عظام ، فقال رجل : هذه عظام أصحاب الكهف ، فقال ابن عباس ، لقد ذهبت عظامهم منذ أكثر من ثلاث مئة سنة.
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، عن ابن إسحاق فيما ذكر من حديث أصحاب الكهف ، قال : ثم ملك أهل تلك البلاد رجل صالح يقال له تيذوسيس ، فلما ملك بقي ملكه ثمانيا وستين سنة ، فتحزّب الناس في مُلكه ، فكانوا أحزابا ، فمنهم من يؤمن بالله ، ويعلم أنّ الساعة حقّ ، ومنهم من يكذّب ، فكبر ذلك على الملك الصالح تيذوسيس ، وبكى إلى الله وتضرّع إليه ، وحزن حزنا شديدا لما رأى أهل الباطل يزيدون ويظهرون على أهل الحق ويقولون : لا حياة إلا الحياة الدنيا ، وإنما تُبعث النفوس ، ولا تُبعث الأجساد ، ونسُوا ما في الكتاب ، فجعل تيذوسيس يرسل إلى من يظنّ فيه خيرا ، وأنهم أئمة في الحق ، فجعلوا يكذّبون بالساعة ، حتى كادوا أن يُحوّلوا الناس عن الحق وملةِ الحَواريين ، فلما رأى ذلك الملك الصالح تيذوسيس ، دخل بيته فأغلقه عليه ، ولبس مِسْحا وجعل تحته رمادا ، ثم جلس عليه ، فدأب ذلك ليله ونهاره زمانا يتضرّع إلى الله ، ويبكي إليه مما يرى فيه الناس ، ثم إن الرحمن الرحيم الذي يكره هلكة العباد ، أراد أن يَظْهر على الفتية أصحاب الكهف ، ويبين للناس شأنهم ، ويجعلهم آية لهم ، وحجة عليهم ، ليعلموا أن الساعة آتية لا ريب فيها ، وأن يستجيب لعبده الصالح تيذوسيس ، ويتمّ نعمته عليه ، فلا ينزع منه مُلكه ، ولا الإيمان الذي أعطاه ، وأن يعبد الله لا يشرك به شيئا ، وأن يجمع من كان تبدّد من المؤمنين ، فألقى الله في نفس رجل من أهل ذلك البلد الذي به الكهف ، وكان الجبل بنجلوس الذي فيه الكهف لذلك الرجل ، وكان اسم ذلك الرجل أولياس ، أن يهدم البنيان الذي على فم الكهف ، فيبني به حظيرة لغنمه ، فاستأجر عاملين ، فجعلا ينزعان تلك الحجارة ، ويبنيان بها تلك الحظيرة ، حتى نزعا ما على فم الكهف ، حتى فتحا عنهم باب الكهف ، وحجبهم الله من الناس بالرعب ، فيزعمون أن أشجع من يريد أن ينظر إليهم غاية ما يمكنه أن يدخل من باب الكهف ، ثم يتقدم حتى يرى كلبهم دونهم إلى باب الكهف نائما ، فلما نزعا الحجارة ، وفتحا عليهم باب الكهف ، أذن الله ذو القدرة والعظمة والسلطان محيي الموتى للفتية أن يجلسوا بين ظهراني الكهف ، فجلسوا فرحين مُسْفِرة وجوههم طيِّبة أنفُسهم ، فسلَّم

(17/629)


بعضهم على بعض ، حتى كأنما استيقظوا من ساعتهم التي كانوا يستيقظون لها إذا أصبحوا من ليلتهم التي يبيتون فيها ، ثم قاموا إلى الصلاة فصلّوا ، كالذي كانوا يفعلون ، لا يَرون ، ولا يُرَى في وجوههم ، ولا أبشارهم ، ولا ألوانهم شيء يُنكرونه كهيئتهم حين رقدوا بعشيّ أمس ، وهم يرون أن ملكهم دقينوس الجبار في طلبهم والتماسهم فلما قضوا صلاتهم كما كانوا يفعلون ، قالوا ليمليخا ، وكان هو صاحب نفقتهم ، الذي كان يبتاع لهم طعامهم وشرابهم من المدينة ، وجاءهم بالخبر أن دقينوس يلتمسهم ، ويسأل عنهم : أنبئنا يا أخي ما الذي قال الناس في شأننا عشيّ أمس عند هذا الجبار ، وهم يظنون أنهم رقدوا كبعض ما كانوا يرقدون ، وقد خُيِّل إليهم أنهم قد ناموا كأطول ما كانوا ينامون في الليلة التي أصبحوا فيها ، حتى تساءلوا بينهم ، فقال بعضهم لبعض : (كَمْ لَبِثْتُمْ) نياما ؟( قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ ) وكل ذلك في أنفسهم يسير. فقال لهم يمليخا : افتُقِدتم والتمستم بالمدينة ، وهو يريد أن يُؤْتَى بكم اليوم ، فتَذْبحُون للطواغيت ، أو يقتُلُكم ، فما شاء الله بعد ذلك ، فقال لهم مكسلمينا : يا إخوتاه اعلموا أنكم ملاقَوْن ، فلا تكفروا بعد إيمانكم إذا دعاكم عدوّ الله ، ولا تُنكروا الحياة التي لا تبيد بعد إيمانكم بالله ، والحياة من بعد الموت ، ثم قالوا ليمليخا : انطلق إلى المدينة فتسمَّع ما يقال لنا بها اليوم ، وما الذي نُذكر به عند دقينوس ، وتلطَّف ، ولا يشعرَنّ بنا أحد ، وابتع لنا طعاما فأتنا به ، فإنه قد آن لك ، وزدنا على الطعام الذي قد جئتنا به ، فإنه قد كان قليلا فقد أصبحنا جياعا ، ففعل يمليخا كما كان يفعل ، ووضع ثيابه ، وأخذ الثياب التي كان يتنكر فيها ، وأخذ وَرِقا من نفقتهم التي كانت معهم ، التي ضُربت بطابع دقينوس الملك ، فانطلق يمليخا خارجا ، فلما مرّ بباب الكهف ، رأى الحجارة منزوعة عن باب الكهف. فعجب منها ، ثم مرّ فلم يبال بها ، حتى أتى المدينة مستخفيا يصدّ عن الطريق تخوّفا أن يراه أحد من أهلها ، فيعرفه ، فيذهب به إلى دقينوس ، ولا يشعر العبد الصالح أن دقينوس وأهل زمانه قد هَلكوا قبل ذلك بثلاث مئة وتسع سنين ، أو ما شاء الله من ذلك ، إذ كان ما بين أن ناموا إلى أن استيقظوا ثلاث مئة وتسع سنين ، فلما رأى يمليخا باب المدينة رفع بصره ، فرأى فوق ظهر الباب علامة تكون لأهل الإيمان ، إذا كان ظاهرا فيها ، فلما رآها عجب وجعل ينظر مستخفيا إليها ، فنظر يمينا وشمالا فتعجب بينه وبين نفسه ، ثم ترك ذلك الباب ، فتحوّل إلى باب آخر من أبوابها ، فنظر فرأى من ذلك ما يحيط بالمدينة كلها ، ورأى على كلّ باب مثل ذلك ، فجعل يخيل إليه أن المدينة ليست بالمدينة التي كان يعرف ، ورأى ناسا كثيرين محدثين لم يكن يراهم قبل ذلك ، فجعل يمشي ويعجب ويخيل إليه أنه حيران ثم رجع إلى الباب الذي أتى منه ، فجعل يعجب بينه وبين نفسه ويقول : يا ليت شعري ، أما هذه عشية أمس ، فكان المسلمون يخفون هذه العلامة ويستخفون بها ، وأما اليوم فإنها ظاهرة لعلّي حالم ، ثم يرى أنه ليس بنائم ، فأخذ كساءه فجعله على رأسه ، ثم دخل المدينة ، فجعل يمشي بين ظهراني سوقها ، فيسمع أناسا كثيرا يحلفون باسم عيسى ابن مريم ، فزاده فرقا ، ورأى أنه حيران ، فقام مسندا ظهره إلى جدار من جُدُر المدينة ويقول في نفسه : والله ما أدري ما هذا! أما عشية أمس فليس على الأرض إنسان يذكر عيسى ابن مريم إلا قُتل ، وأما الغداة فأسمعهم ، وكلّ إنسان يذكر أمر عيسى لا يخاف ، ثم قال في نفسه : لعلّ هذه ليست بالمدينة التي أعرف أسمع كلام أهلها ولا أعرف أحدا منهم ، والله ما أعلم مدينة قرب مدينتنا ، فقام كالحيران لا يتوجه وجها ، ثم لقي فتى من أهل المدينة ، فقال له : ما اسم هذه المدينة يا فتى ؟ قال : اسمها أفسوس ، فقال في نفسه : لعلّ بي مسا ، أو بي أمر أذهب عقلي ، والله يحق لي أن أسرع الخروج منها قبل أن أخزى فيها أو يصيبني شرّ فأهلك ، هذا الذي يحدّث به يمليخا أصحابه حين تبين لهم ما به ، ثم إنه أفاق فقال : والله لو عجلت الخروج من المدينة قبل أن يفطن بي لكان أكيس لي ، فدنا من الذين يبيعون الطعام ، فأخرج الورِق التي كانت معه ، فأعطاها رجلا منهم ، فقال : بعني بهذه الورق يا عبد الله طعاما ، فأخذها الرجل ، فنظر إلى ضرب الورق ونقشها ، فعجب منها ، ثم طرحها إلى رجل من أصحابه ، فنظر إليها ، ثم جعلوا يتطارحونها بينهم من رجل إلى رجل ، ويتعجبون منها ، ثم جعلوا يتشاورون بينهم ويقول بعضهم لبعض : إن هذا الرجل قد أصاب كنزا خبيئا في الأرض منذ زمان ودهر طويل ، فلما رآهم يتشاورون من أجله فرق فرقا شديدا ، وجعل يرتعد ويظنّ أنهم قد فطنوا به وعرفوه ، وأنهم إنما يريدون أن يذهبوا به إلى ملكهم دقينوس يسلمونه إليه ، وجعل أناس آخرون يأتونه فيتعرّفونه ، فقال لهم وهو شديد الفرق منهم : أفضلوا عليّ ، فقد أخذتم ورقي فأمسكوا ، وأما طعامكم فلا حاجة لي به ، قالوا له : من أنت يا فتى ، وما شأنك ؟ والله لقد وجدت كنزا من كنوز الأوّلين ، فأنت تريد أن تخفيه منا ، فانطلق معنا فأرناه وشاركنا فيه ، نخف عليك ما وجدت ، فإنك إن لا تفعل نأت بك السلطان ، فنسلمك إليه فيقتلك ، فلما سمع قولهم ، عجب في نفسه فقال : قد وقعت في كلّ شيء كنت أحذر منه ، ثم قالوا : يا فتى إنك والله ما تستطيع أن تكتم ما وجدت ، ولا تظنّ في نفسك أنه سيخفى حالك ، فجعل يمليخا لا يدري ما يقول لهم ، وما يرجع إليهم ، وفَرق حتى ما يحير إليهم جوابا ، فلما رأوه لا يتكلم أخذوا كساءه فطوقوه في عنقه ، ثم جعلوا يقودونه في سكك المدينة ملببا ، حتى سمع به من فيها ، فقيل : أخذ رجل عنده كنز واجتمع عليه أهل المدينة صغيرهم وكبيرهم ، فجعلوا ينظرون إليه ويقولون : والله ما هذا الفتى من أهل هذه المدينة ، وما رأيناه فيها قطّ ، وما نعرفه ، فجعل يمليخا لا يدري ما يقول لهم ، مع ما يسمع منهم ، فلما اجتمع عليه أهل المدينة ، فرق ، فسكت فلم يتكلم ، ولو أنه قال إنه من أهل المدينة لم يصدّق ، وكان مستيقنا أن أباه وإخوته بالمدينة ، وأن حسبه من أهل المدينة من عظماء أهلها ، وأنهم سيأتونه إذا سمعوا ، وقد استيقن أنه من عشية أمس يعرف كثيرا من أهلها ، وأنه لا يعرف اليوم من أهلها أحدا ، فبينما هو قائم كالحيران ينتظر متى يأته بعض أهله ، أبوه أو بعض إخوته فيخلصه من أيديهم ، إذ اختطفوه فانطلقوا به إلى رئيسي المدينة ومدبريها اللذين يدبران أمرها ، وهما رجلان صالحان ، كان اسم أحدهما أريوس ، واسم الآخر أسطيوس ، فلما انطلق به إليهما ، ظنّ يمليخا أنه ينطلق به إلى دقينوس الجبار ملكهم الذي هربوا منه ، فجعل يلتفت يمينا وشمالا وجعل الناس يسخرون منه ، كما يسخر من المجنون والحيران ، فجعل يمليخا يبكي ، ثم رفع رأسه إلى السماء وإلى الله ، ثم قال : اللهمّ إله السماوات والأرض ، أولج معي روحا منك اليوم تؤيدني به عند هذا الجبار ، وجعل يبكي ويقول في نفسه : فرق بيني وبين إخوتي ، يا ليتهم يعلمون ما لقيت ، وأني يُذهب بي إلى دقينوس الجبار ، فلو أنهم يعلمون ، فيأتون ، فنقوم جميعا بين يدي دقينوس ، فإنا كنا تواثقنا لنكوننّ معا ، لا نكفر بالله ولا نشرك به شيئا ، ولا نعبد الطواغيت من دون الله ، فرق بيني وبينهم ، فلن يروني ولن أراهم أبدا ، وقد كنا تواثقنا أن لا نفترق في حياة ولا موت أبدا ، يا ليت شعري ما هو فاعل بي ؟ أقاتلي هو أم لا ؟ ذلك الذي يحدّث به يمليخا نفسه فيما أخبر أصحابه حين رجع إليهم.
فلما انتهى إلى الرجلين الصالحين أريوس وأسطيوس ، فلما رأى يمليخا أنه لم يُذهب به إلى دقينوس ، أفاق وسكن عنه البكاء ، فأخذ أريوس وأسطيوس الورِق فنظرا إليها وعجبا منها ، ثم قال أحدهما : أين الكنز الذي وجدت يا فتى ، هذا الورِق يشهد عليك أنك قد وجدت كنزا ، فقال لهما يمليخا : ما وجدت كنزا ولكن هذه الورِق ورق آبائي ، ونقش هذه المدينة وضربها ، ولكن والله ما أدري ما شأني ، وما أدري ما أقول لكم ، فقال له أحدهما : ممن أنت ؟ فقال له يمليخا : ما أدري ، فكنت أرى أني من أهل هذه القرية ، قالوا : فمن أبوك ومن يعرفك بها ؟ فأنبأهم باسم أبيه ، فلم يجدوا أحدا يعرفه ولا أباه ، فقال له أحدهما : أنت رجل كذاب لا تنبئنا بالحقّ ، فلم يدر يمليخا ما يقول لهم ، غير أنه نكس بصره إلى الأرض ، فقال له بعض من حوله : هذا رجل مجنون ، فقال بعضهم : ليس بمجنون ، ولكنه يحمق نفسه عمدا لكي ينفلت منكم ، فقال له أحدهما ، ونظر إليه نظرا شديدا : أتظنّ أنك إذ تتجانن نرسلك ونصدّقك بأن هذا مال أبيك ، وضرب هذه الورِق ونقشها منذ أكثر من ثلاث مئة سنة ؟ وإنما أنت غلام شاب تظنّ أنك تأفكنا ، ونحن شمط كما ترى ، وحولك سُراة أهل المدينة ، وولاة أمرها ، إني لأظنني سآمر بك فتعذّب عذابا شديدا ، ثم أوثقك حتى تعترف بهذا الكنز الذي وجدت ، فلما قال ذلك ، قال يمليخا : أنبئوني عن شيء أسألكم عنه ، فإن فعلتم صدقتكم عما عندي ، أرأيتم دقينوس الملك الذي كان في هذه المدينة عشية أمس ما فعل ، فقال له الرجل : ليس على وجه الأرض رجل اسمه دقينوس ، ولم يكن إلا ملك قد هلك منذ زمان ودهر طويل ، وهلكت بعده قرون كثيرة ، فقال له يمليخا : فوالله إني إذا لحيران ، وما هو بمصدّق أحد من الناس بما أقول ، والله لقد علمت ، لقد فررنا من الجبار دقينوس ، وإني قد رأيته عشية أمس حين دخل مدينة أفسوس ، ولكن لا أدري أمدينة أفسوس هذه أم لا ؟ فانطلقا معي إلى الكهف الذي في جبل بنجلوس أريكم أصحابي ، فلما سمع

(17/630)


أريوس ما يقول يمليخا قال : يا قوم لعلّ هذه آية من آيات الله جعلها لكم على يدي هذا الفتى ، فانطلقوا بنا معه يرنا أصحابه ، كما قال : فانطلق معه أريوس وأسطيوس ، وانطلق معهم أهل المدينة كبيرهم وصغيرهم ، نحو أصحاب الكهف لينظروا إليهم.
ولما رأى الفتية أصحاب الكهف يمليخا قد احتبس عليهم بطعامهم وشرابهم عن القدر الذي كان يأتي به ، ظنوا أنه قد أُخِذ فذُهب به إلى ملكهم دَقْينوس الذي هربوا منه ، فبينما هم يظنون ذلك ويتخوفونه ، إذ سمعوا الأصوات وجلبة الخيل مصعدة نحوهم ، فظنوا أنهم رُسل الجبار دقينوس بعث إليهم ليُؤْتي بهم ، فقاموا حين سمعوا ذلك إلى الصلاة ، وسلَّم بعضهم على بعض ، وأوصى بعضهم بعضا ، وقالوا : انطلقوا بنا نأت أخانا يمليخا ، فإنه الآن بين يدي الجبار دقينوس ينتظر متى نأته ، فبينما هم يقولون ذلك ، وهم جلوس بين ظهراني الكهف ، فلم يروا إلا أريوس وأصحابه وقوفا على باب الكهف ، وسبقهم يمليخا ، فدخل عليهم وهو يبكي ، فلما رأوه يبكي بكوا معه ، ثم سألوه عن شأنه ، فأخبرهم خبره وقصّ عليهم النبأ كله ، فعرفوا عند ذلك أنهم كانوا نياما بأمر الله ذلك الزمان كله ، وإنما أوقظوا ليكونوا آية للناس ، وتصديقا للبعث ، وليعلموا أن الساعة آتية لا ريب فيها ، ثم دخل على إثر يمليخا أريوس ، فرأى تابوتا من نحاس مختوما بخاتم من فضة ، فقام بباب الكهف ، ثم دعا رجالا من عظماء أهل المدينة ، ففتح التابوت عندهم ، فوجدوا فيه لوحين من رصاص ، مكتوبا فيهما كتاب ، فقرأهما فوجد فيهما (1) أن مكسلمينا ، ومحسلمينا ، ويمليخا ، ومرطونس ، وكسطونس ، ويبورس ، ويكرونس ، ويطبيونس ، وقالوش ، كانوا فتية هربوا من ملكهم دقينوس الجبار ، مخافة أن يفتنهم عن دينهم ، فدخلوا هذا الكهف ، فلما أخبر بمكانهم أمر بالكهف فسدّ عليهم بالحجارة ، وإنا كتبنا شأنهم وقصة خبرهم ، ليعلمه من بعدهم إن عثر عليهم. فلما قرءوه ، عجبوا وحمدوا الله الذي أراهم آية للبعث فيهم ، ثم رفعوا أصواتهم بحمد الله وتسبيحه ، ثم دخلوا على
__________
(1) في عدد هذه الأسماء ، وضبطها ، اختلاف كثير بين ناقليها . وهي في المخطوطة رقم 100 تفسير ، غير منقوطة.

(17/634)


الفتية الكهف ، فوجودهم جلوسا بين ظهرانيه ، مُشرقة وجوههم ، لم تبل ثيابهم ، فخرّ أريوس وأصحابه سجودا ، وحمدوا الله الذي أراهم آية من آياته ، ثم كلم بعضهم بعضا ، وأنبأهم الفتية عن الذين لقوا من ملكهم دقينوس ذلك الجبار الذي كانوا هربوا منه ، ثم إن أريوس وأصحابه بعثوا بريدا إلى ملكهم الصالح تيذوسيس ، أن عجل لعلك تنظر إلى آية من آيات الله ، جعلها الله على ملكك ، وجعلها آية للعالمين ، لتكون لهم نورا وضياء ، وتصديقا بالبعث ، فاعجل على فتية بعثهم الله ، وقد كان توفاهم منذ أكثر من ثلاث مئة سنة ، فلما أتى الملك تيذوسيس الخبر ، قام من المَسْندة التي كان عليها ، ورجع إليه رأيه وعقله ، وذهب عنه همه ، ورجع إلى الله عزّ وجلّ ، فقال : أحمدك اللهمّ ربّ السماوات والأرض ، أعبدك ، وأحمدك ، وأسبح لك ، تطوّلت عليّ ، ورحمتني برحمتك ، فلم تطفئ النور الذي كنت جعلته لآبائي ، وللعبد الصالح قسطيطينوس الملك ، فلما نبأ به أهل المدينة ركبوا إليه ، وساروا معه حتى أتوا مدينة أفسوس ، فتلقاهم أهل المدينة ، وساروا معه حتى صعدوا نحو الكهف حتى أتوه ، فلما رأى الفتية تيذوسيس ، فرحوا به ، وخرّوا سجودا على وجوههم ، وقام تيذوسيس قدامهم ، ثم اعتنقهم وبكى ، وهم جلوس بين يديه على الأرض يسبحون الله ويحمدونه ، ويقول : والله ما أشبه بكم إلا الحواريون (1) حين رأوا المسيح ، وقال : فرج الله عنكم ، كأنكم الذي تُدْعَون فتحْشَرون من القبور ، فقال الفتية لتيذوسيس : إنا نودّعك السلام ، والسلام عليكم ورحمة الله ، حفظك الله ، وحفظ لك ملكك بالسلام ، ونعيذك بالله من شرّ الجنّ والإنس ، فأمر بعيش من خُلَّر ونشيل إن أسوأ ما سلك في بطن الإنسان أن لا يعلم شيئا إلا كرامة إن أكرم بها ، ولا هوان إن أهين به. (2) فبينما الملك قائم ، إذ رجعوا إلى مضاجعهم ، فناموا ، وتوفى الله أنفسهم بأمره ، وقام الملك إليهم ، فجعل ثيابه عليهم ، وأمر أن يجعل لكلّ رجل منهم تابوت من ذهب ، فلما أَمْسَوا ونام ، أتوه في المنام ، فقالوا : إنا لم نخلق من ذهب ولا فضة ، ولكنا خُلقنا من تراب وإلى التراب نصير ، فاتركنا كما كنا في الكهف على التراب حتى يبعثنا الله منه ، فأمر الملك حينئذ بتابوت من ساج ، فجعلوهم فيه ، وحجبهم الله حين خرجوا من عندهم بالرعب ، فلم يقدر أحد على أن يدخل عليهم ، وأمر الملك فجعل كهفهم مسجدا يُصَلَّى فيه ، وجعل لهم عيدا عظيما ، وأمر أن يؤتى كلّ سنة ، فهذا حديث أصحاب الكهف.
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، عن عبد العزيز بن أبي روّاد ، عن عبد الله بن عبيد بن عمير ، قال : بعثهم الله - يعني الفتية أصحاب الكهف - وقد سلط عليهم ملك مسلم ، يعني على أهل مدينتهم ، وسلَّط الله على الفتية الجوع ، فقال قائل منهم : ( كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ ) قال : فردّوا علم ذلك إلى الله ، ( قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ ) وإذا معهم ورِق من ضرب الملك الذي كانوا في زمانه( فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ ) : أي بطعام( وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا ). فخرج أحدهم فرأى المعالم متنكرة حتى انتهى إلى المدينة ، فاستقبله الناس لا يعرف منهم أحدا ، فخرج ولا يعرفونه ، حتى انتهى إلى صاحب الطعام ، فسامه بطعامه ، فقال صاحب الطعام : هات ورقك ، فأخرج إليه الورق ، فقال : من أين لك هذا الورق ؟ قال : هذه ورِقُنا وورِق أهل بلادنا ، فقال : هيهات هذه الورِق من ضرب فلان بن فلان منذ ثلاث مئة وتسع سنين ، أنت أصبت كنزا ، ولست بتاركك حتى أرفعك إلى الملك ، فرفعه إلى الملك ، وإذا الملك مسلم وأصحابه مسلمون ، ففرح واستبشر ، وأظهر لهم أمره ، وأخبرهم خبر أصحابه ، فبعثوا إلى اللوح في الخزانة ، فأتوا به ، فوافق ما وصف من أمرهم ، فقال المشركون : نحن أحقّ بهم هؤلاء أبناء آبائنا ، وقال المسلمون : نحن أحقّ بهم ، هم مسلمون منا ، فانطلقوا معه إلى الكهف ، فلما أتوا باب الكهف قال : دعوني حتى أدخل على أصحابي حتى أبشرهم ، فإنهم إن رأوكم معي أرعبتموهم ، فدخل فبشَّرهم ، وقبض الله أرواحهم ، قال : وعمى الله عليهم مكانهم ، فلم يهتدوا ، فقال المشركون : نبني عليهم بُنيانا ، فإنهم أبناء آبائنا ، ونعبد الله فيه ، وقال
__________
(1) في الأصل المخطوط رقم 100 تفسير : " وما أشبه بكم إلا الحراد " ولعله تحريف عن الحواريين.
(2) العبارة من أول قوله : فأمر بعيش من خلر ونشيل ...إلى هنا : ساقطة من هذا الخبر في عرائس المجالس للثعلبي المفسر ص 427 : والخلر : حب يقتات به ، قيل هو الجلبان ، والنشيل : اللبن ساعة يحلب ، والعبارة فيما يظهر من بقية كلام أصحاب الكهف.

(17/635)


المسلمون : نحن أحق بهم ، هم منا ، نبني عليهم مسجدا نصلي فيه ، ونعبد الله فيه.
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب عندي قول من قال : إن الله تعالى بعثهم من رقدتهم ليتساءلوا بينهم كما بيَّنا قبل ، لأن الله عزّ ذكره ، كذلك أخبر عباده في كتابه ، وإن الله أعثر عليهم القوم الذين أعثرهم عليهم ، ليتحقق عندهم ببعث الله هؤلاء الفتية من رقدتهم بعد طول مدتها بهيئتهم يوم رقدوا ، ولم يشيبوا على مرّ الأيام والليالي عليهم ، ولم يهرموا على كرّ الدهور والأزمان فيهم قدرته على بعث من أماته في الدنيا من قبره إلى موقف القيامة يوم القيامة ، لأن الله عزّ ذكره بذلك أخبرنا ، فقال : ( وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيهَا ).
واختلفت القراء في قراءة قوله : ( فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ ) فقرأ ذلك عامة قرّاء أهل المدينة وبعض العراقيين(بِوَرِقكُمْ هذِهِ) بفتح الواو وكسر الراء والقاف. وقرأ عامة قراء الكوفة والبصرة( بَورْقِكُمْ ) بسكون الراء ، وكسر القاف. وقرأه بعض المكيين بكسر الراء ، وإدغام القاف في الكاف ، وكلّ هذه القراءات متفقات المعاني ، وإن اختلفت الألفاظ منها ، وهنّ لغات معروفات من كلام العرب ، غير أن الأصل في ذلك فتح الواو وكسر الراء والقاف ، لأنه الورق ، وما عدا ذلك فإنه داخل عليه طلب التخفيف. وفيه أيضا لغة أخرى وهو الوَرْق ، كما يقال للكَبِد كَبْد. فإذا كان ذلك هو الأصل ، فالقراءة به إلي أعجب ، من غير أن تكون الأخريان مدفوعة صحتهما ، وقد ذكرنا الرواية بأن الذي بعث معه بالوَرِق إلى المدينة كان اسمه يمليخا.
وقد : حدثني عبيد الله بن محمد الزهري ، قال : ثنا سفيان ، عن مقاتل( فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ ) اسمه يمليخ.
وأما قوله : ( فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا ) فإن أهل التأويل اختلفوا في تأويله ، فقال بعضهم : معناه فلينظر أي أهل المدينة أكثر طعاما.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا عبد الرحمن ، قال : ثنا سفيان ، عن أبي حصين ، عن عكرمة( أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا ) قال : أكثر.

(17/637)


وحدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا الثوري ، عن أبي حُصَين ، عن عكرِمة مثله ، إلا أنه قال : ( أيُّهُ أكْثَرُ).
وقال آخرون : بل معناه : أيها أحلّ طعاما.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا عبد الرحمن ، قال : ثنا سفيان ، عن أبي حصين ، عن سعيد بن جبير : ( أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا ) قال : أحلّ.
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا الثوري ، عن أبي حصين ، عن سعيد بن جبير ، مثله.
وقال آخرون : بل معناه : أيها خير طعاما.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، في قوله : ( أَزْكَى طَعَامًا ) قال : خير طعاما.
وأولى الأقوال عندي في ذلك بالصواب : قول من قال : معنى ذلك : أحلّ وأطهر ، وذلك أنه لا معنى في اختيار الأكثر طعاما للشراء منه إلا بمعنى إذا كان أكثرهم طعاما ، كان خليقا أن يكون الأفضل منه عنده أوجد ، وإذا شرط على المأمور الشراء من صاحب الأفضل ، فقد أمر بشراء الجيد ، كان ما عند المشتري ذلك منه قليلا الجيد أو كثيرا ، وإنما وجه من وجه تأويل أزكى إلى الأكثر ، لأنه وجد العرب تقول : قد زكا مال فلان : إذا كثر ، وكما قال الشاعر :
قَبائِلُنا سَبْعٌ وأنْتُمْ ثَلاثَةٌ... وَللسَّبْعُ أزْكَى مِن ثَلاثٍ وأطْيَبُ (1)
بمعنى : أكثر ، وذلك وإن كان كذلك ، فإن الحلال الجيد وإن قل ، أكثر من الحرام الخبيث وإن كثر. وقيل : ( فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا ) فأضيف إلى كناية المدينة ، والمراد
__________
(1) البيت للقتال الكلابي ، أنشده سيبويه في ( الكتاب 2 : 181 ) وهو من شواهد أبي عبيدة في ( مجاز القرآن 1 : 237 ، 397 ) قال في الموضع الثاني : " أيها ازكى طعاما " أي أكثر ؛ قال : * قبائلنا سبع وأنتم ثلاثة *
البيت ، وقال في الموضع الأول : ذكر ثلاثة ، ذهب به إلى بطن ، ثم أنثه ؛ لأنه ذهب به إلى قبيلة . قلت : والنحاة يجوزون في اسم العدد التذكير والتأنيث ، إذا لم يذكر المعدود ، وهذا شاهد عليه . وفي ( اللسان : زكا ) الزكاء ممدودا : النماء والريع . زكا يزكو زكاء وزكوا.

(17/638)


بها أهلها ، لأن تأويل الكلام : فلينظر أيّ أهلها أزكى طعاما لمعرفة السامع بالمراد من الكلام ، وقد يُحتمل أن يكونوا عنوا بقوله( أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا ) : أيها أحلّ ، من أجل أنهم كانوا فارقوا قومهم وهم أهل أوثان ، فلم يستجيزوا أكل ذبيحتهم.
وقوله : ( فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ ) يقول : فليأتكم بقوت منه تقتاتونه ، وطعام تأكلونه.
كما حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، عن عبد العزيز بن أبي رواد ، عن عبد الله بن عبيد بن عمير( فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ ) قال : بطعام.
وقوله : (وَلْيَتَلَطَّف) يقول : وليترفق في شرائه ما يشتري ، وفي طريقه ودخوله المدينة( وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا ) يقول : ولا يعلمنّ بكم أحدا من الناس ، وقوله : ( إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ ) يعنون بذلك : دقينوس وأصحابه ، قالوا : إن دقينوس وأصحابه إن يظهروا عليكم ، فيعلموا مكانكم ، يرجموكم شتما بالقول.
كما حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، في قوله : ( إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ ) قال : يشتموكم بالقول ، يؤذوكم.
وقوله : ( أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ ) يقول : أو يردّوكم في دينهم ، فتصيروا كفارا بعبادة الأوثان
( وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا ) يقول : ولن تدركوا الفلاح ، وهو البقاء الدائم والخلود في الجنان ، إذن : أي إن أنتم عُدْتم في ملتهم أبدا : أيام حياتكم.

(17/639)


وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَانًا رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا (21)

القول في تأويل قوله تعالى : { وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَانًا رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا (21) }
يقول تعالى ذكره : وكما بعثناهم بعد طول رقدتهم كهيئتهم ساعة رقدوا ،

(17/639)


ليتساءلوا بينهم ، فيزدادوا بعظيم سلطان الله بصيرة ، وبحسن دفاع الله عن أوليائه معرفة( وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ ) يقول : كذلك أطلعنا عليهم الفريق الآخر الذين كانوا في شكّ من قُدرة الله على إحياء الموتى ، وفي مِرْية من إنشاء أجسام خلقه ، كهيئتهم يوم قبضهم بعد البِلَى ، فيعلموا أن وَعْد الله حق ، ويُوقنوا أن الساعة آتية لا ريب فيها.
وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : ( وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ ) يقول : أطلعنا عليهم ليعلم من كذب بهذا الحديث ، أن وعد الله حقّ ، وأن الساعة لا ريب فيها.
وقوله : ( إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ )
يعني : الذين أعثروا على الفتية يقول تعالى : وكذلك أعثرنا هؤلاء المختلفين في قيام الساعة ، وإحياء الله الموتى بعد مماتهم من قوم تيذوسيس ، حين يتنازعون بينهم أمرهم فيما الله فاعل بمن أفناه من عباده ، فأبلاه في قبره بعد مماته ، أمنشئهم هو أم غير منشئهم ، وقوله فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَانًا ) يقول : فقال الذين أعثرناهم على أصحاب الكهف : ابنوا عليهم بنيانا( رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ ) يقول : ربّ الفتية أعلم بالفتية وشأنهم ، وقوله : ( قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ ) يقول جلّ ثناؤه : قال القوم الذين غلبوا على أمر أصحاب الكهف( لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا ).
وقد اختلف في قائلي هذه المقالة ، أهم الرهط المسلمون ، أم هم الكفار ؟ وقد ذكرنا بعض ذلك فيما مضى ، وسنذكر إن شاء الله ما لم يمض منه.
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : ( قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا ) قال : يعني عدوّهم.
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، عن عبد العزيز بن أبي روّاد ، عن عبد الله بن عبيد بن عمير ، قال : عمَّى الله على الذين أعثرهم على أصحاب الكهف مكانهم ، فلم يهتدوا ، فقال المشركون : نبني عليهم بنيانا ، فإنهم أبناء آبائنا ، ونعبد الله فيها ، وقال المسلمون : بل نحن أحق بهم ، هم منا ، نبني عليهم مسجدا نصلي فيه ، ونعبد الله فيه.

(17/640)


سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا (22) وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (23)

القول في تأويل قوله تعالى : { سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلا قَلِيلٌ فَلا تُمَارِ فِيهِمْ إِلا مِرَاءً ظَاهِرًا وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا (22) وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (23) }
يقول تعالى ذكره : سيقول بعض الخائضين في أمر الفتية من أصحاب الكهف ، هم ثلاثة رابعهم كلبهم ، ويقول بعضهم : هم خمسة سادسهم كلبهم( رَجْمًا بِالْغَيْبِ ) : يقول : قذفا بالظنّ غير يقين علم ، كما قال الشاعر :
وأجْعَلُ مِنِّي الحَقَّ غَيْبا مُرَجَّمَا (1)
وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : ( سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ ) : أي قذفا بالغيب.
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، في قوله : ( رَجْمًا بِالْغَيْبِ ) قال : قذفا بالظنّ.
وقوله( وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ ) يقول : ويقول بعضهم : هم سبعة وثامنهم كلبهم.
( قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ ) يقول عزّ ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : قل يا محمد لقائلي هذه الأقوال في عدد الفتية من أصحاب الكهف رجما منهم بالغيب : ( رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ ) يقول : ما يعلم عددهم(إلا قَلِيلٌ) من خلقه.
__________
(1) هذا عجز بيت لم أقف على قائله . وهو شاهد على أن معنى الرجم معناه : القول بالظن على غير يقين علم . قال أبو عبيدة في مجاز القرآن ( 1 : 398 ) : " رجما بالغيب " : الرجم ما لا تستيقنه . قال : ظن مرجم : لا يدرى : أحق هو أم باطل ؟ قال زهير : وَمَا الحَرْبُ إلا ما رأيْتُمْ وَذُقْتُمُ ... وَمَا هُوَ عَنْها بالحَدِيثِ المُرَجَّمِ
( وفي اللسان : رجم ) والرجم : القول بالظن والحدس.

(17/641)


كما حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( مَا يَعْلَمُهُمْ إِلا قَلِيلٌ ) يقول : قليل من الناس.
وقال آخرون : بل عنى بالقليل : أهل الكتاب.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن عطاء الخراساني ، عن ابن عباس( مَا يَعْلَمُهُمْ إِلا قَلِيلٌ ) قال : يعني أهل الكتاب ، وكان ابن عباس يقول : أنا ممن استثناه الله ، ويقول : عدتهم سبعة.
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا عبد الرحمن ، قال : ثنا إسرائيل ، عن سماك ، عن عكرمة ، عن ابن عباس( مَا يَعْلَمُهُمْ إِلا قَلِيلٌ ) قال : أنا من القليل ، كانوا سبعة.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، ذكر لنا أن ابن عباس كان يقول : أنا من أولئك القليل الذين استثنى الله ، كانوا سبعة وثامنهم كلبهم.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، قال : قال ابن جريج : قال ابن عباس : عدتهم سبعة وثامنهم كلبهم ، وأنا ممن استثنى الله.
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، في قوله : ( مَا يَعْلَمُهُمْ إِلا قَلِيلٌ ) قال : كان ابن عباس يقول : أنا من القليل ، هم سبعة وثامنهم كلبهم.
وقوله : ( فَلا تُمَارِ فِيهِمْ إِلا مِرَاءً ظَاهِرًا ) يقول عز ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : فلا تمار يا محمد : يقول : لا تجادل أهل الكتاب فيهم ، يعني في عدة أهل الكهف ، وحُذِفت العِدّة اكتفاء بذكرهم فيها لمعرفة السامعين بالمراد.
وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : ( فَلا تُمَارِ فِيهِمْ ) قال : لا تمار في عدتهم.
وقوله : ( إِلا مِرَاءً ظَاهِرًا ) اختلف أهل التأويل في معنى المراء الظاهر الذي استثناه الله ، ورخص فيه لنبيه صلى الله عليه وسلم ، فقال بعضهم : هو ما قصّ

(17/642)


الله في كتابه أبيح له أن يتلوه عليهم ، ولا يماريهم بغير ذلك.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله( فَلا تُمَارِ فِيهِمْ إِلا مِرَاءً ظَاهِرًا ) يقول : حسبك ما قصصت عليك فلا تمار فيهم.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد( فَلا تُمَارِ فِيهِمْ إِلا مِرَاءً ظَاهِرًا ) يقول : إلا بما قد أظهرنا لك من أمرهم.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله( فَلا تُمَارِ فِيهِمْ إِلا مِرَاءً ظَاهِرًا ) : أي حَسْبُك ما قصصنا عليك من شأنهم.
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة( فَلا تُمَارِ فِيهِمْ ) قال : حَسْبُك ما قصصنا عليك من شأنهم.
حُدثت عن الحسين بن الفرج ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : ثنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : ( فَلا تُمَارِ فِيهِمْ إِلا مِرَاءً ظَاهِرًا ) يقول : حَسْبُك ما قصصنا عليك.
وقال آخرون : المِراء الظاهر هو أن يقول ليس كما تقولون ، ونحو هذا من القول.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : ( إِلا مِرَاءً ظَاهِرًا ) قال : أن يقول لهم : ليس كما تقولون ، ليس تعلمون عدتهم إن قالوا كذا وكذا فقل ليس كذلك ، فإنهم لا يعلمون عدّتهم ، وقرأ سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ ) حتى بلغ( رَجْمًا بِالْغَيْبِ ).
وقوله : ( وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا ) يقول تعالى ذكره : ولا تستفت في عدّة الفتية من أصحاب الكهف منهم ، يعني من أهل الكتاب أحدا ، لأنهم لا يعلمون عدتهم ، وإنما يقولون فيهم رجما بالغيب ، لا يقينا من القول.
وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا أبو كريب ، قال : ثنا يحيى بن عيسى ، عن سفيان ، عن قابوس ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، في قوله : ( وَلا تَسْتَفْتِ

(17/643)


إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا (24)

فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا ) قال : هم أهل الكتاب.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد( وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا ) من يهود.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد( وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا ) : من يهود ، قال : ولا تسأل يهودَ عن أمر أصحاب الكهف ، إلا ما قد أخبرتك من أمرهم.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا ) : من أهل الكتاب. كنا نحدّث أنهم كانوا بني الركنا (1) والركنا : ملوك الروم ، رزقهم الله الإسلام ، فتفرّدوا بدينهم ، واعتزلوا قومهم ، حتى انتهوا إلى الكهف ، فضرب الله على أصمختهم ، فلبثوا دهرا طويلا حتى هلكت أمَّتهم وجاءت أمَّة مسلمة بعدهم ، وكان ملكهم مسلما.
القول في تأويل قوله تعالى : { إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِي رَبِّي لأقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا (24) }
وهذا تأديب من الله عز ذكره لنبيه صلى الله عليه وسلم عهد إليه أن لا يجزم على ما يحدث من الأمور أنه كائن لا محالة ، إلا أن يصله بمشيئة الله ، لأنه لا يكون شيء إلا بمشيئة الله.
وإنما قيل له ذلك فيما بلغنا من أجل أنه وعد سائليه عن المسائل الثلاث اللواتي قد ذكرناها فيما مضى اللواتي ، إحداهنّ المسألة عن أمر الفتية من أصحاب الكهف أن يجيبهم عنهنّ غد يومهم ، ولم يستثن ، فاحتبس الوحي عنه فيما قيل من أجل ذلك خمس عشرة ، حتى حزنه إبطاؤه ، ثم أنزل الله عليه الجواب عنهنّ ، وعرف نبيه سبب احتباس الوحي عنه ، وعلَّمه ما الذي ينبغي أن يستعمل في
__________
(1) الركنا : كذا بالقصر ، ولعله أصله الركنا بالمد ، جمع ركين ، وهو من الرجال : الوقور الرزين أو القوي بعشيرته وكثرتها.

(17/644)


عداته وخبره عما يحدث من الأمور التي لم يأته من الله بها تنزيل ، فقال : (وَلا تَقُولَنَّ) يا محمد لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا ) كما قلت لهؤلاء الذين سألوك عن أمر أصحاب الكهف ، والمسائل التي سألوك عنها ، سأخبركم عنها غدا( إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ ). ومعنى الكلام : إلا أن تقول معه : إن شاء الله ، فترك ذكر تقول اكتفاء بما ذكر منه ، إذ كان في الكلام دلالة عليه ، وكان بعض أهل العربية يقول : جائز أن يكون معنى قوله : ( إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ ) استثناء من القول ، لا من الفعل كأن معناه عنده : لا تقولنّ قولا إلا أن يشاء الله ذلك القول ، وهذا وجه بعيد من المفهوم بالظاهر من التنزيل مع خلافه تأويل أهل التأويل.
وقوله : ( وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ ) اختلف أهل التأويل في معناه ، فقال بعضهم : واستثن في يمينك إذا ذكرت أنك نسيت ذلك في حال اليمين.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن هارون الحربيّ ، قال : ثنا نعيم بن حماد ، قال : ثنا هشيم ، عن الأعمش ، عن مجاهد ، عن ابن عباس ، في الرجل يحلف ، قال له : أن يستثني ولو إلى سنة ، وكان يقول( وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ ) في ذلك قيل للأعمش سمعته من مجاهد ، فقال : ثني به ليث بن أبي سليم ، يرى ذهب كسائي (1) هذا.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن أبي جعفر ، عن الربيع ، عن أبي العالية ، في قوله( وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ ) الاستثناء ، ثم ذكرت فاستثن.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : ثنا المعتمر ، عن أبيه ، في قوله : ( وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ ) قال : بلغني أن الحسن ، قال : إذا ذكر أنه لم يقل : إن شاء الله ، فليقل : إن شاء الله.
وقال آخرون : معناه : واذكر ربك إذا عصيت.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني نصر بن عبد الرحمن ، قال : ثنا حكام بن سلم ، عن أبي سنان ، عن ثابت ، عن عكرمة ، في قول الله : ( وَاذْكُرْ رَبَّكَ
__________
(1) قوله " يرى : ذهب الكسائي هذا " هكذا جاءت هذه العبارة في الجزء الخامس عشر من النسخة المخطوطة رقم 100 الورقة 411 والعبارة غامضة ، ولعل فيها تحريفا.

(17/645)


إِذَا نَسِيتَ ) قال : اذكر ربك إذا عصيت.
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا حكام ، عن أبي سنان ، عن ثابت ، عن عكرمة ، مثله .
وأولى القولين في ذلك بالصواب ، قول من قال : معناه : واذكر ربك إذا تركت ذكره ، لأن أحد معاني النسيان في كلام العرب الترك ، وقد بيَّنا ذلك فيما مضى قبل.
فإن قال قائل : أفجائز للرجل أن يستثني في يمينه إذ كان معنى الكلام ما ذكرت بعد مدة من حال حلفه ؟ قيل : بل الصواب أن يستثني ولو بعد حِنثه في يمينه ، فيقول : إن شاء الله ليخرج بقيله ذلك مما ألزمه الله في ذلك بهذه الآية ، فيسقط عنه الحرج بتركه ما أمره بقيله من ذلك ، فأما الكفارة فلا تسقط عنه بحال ، إلا أن يكون استثناؤه موصولا بيمينه.
فإن قال : فما وجه قول من قال له : ثُنْياه ولو بعد سنة ، ومن قال له ذلك ولو بعد شهر ، وقول من قال ما دام في مجلسه ؟ قيل : إن معناهم في ذلك نحو معنانا في أن ذلك له ، ولو بعد عشر سنين ، وأنه باستثنائه وقيله إن شاء الله بعد حين من حال حلفه ، يسقط عنه الحرج الذي لو لم يقله كان له لازما ، فأما الكفارة فله لازمة بالحِنْث بكلّ حال ، إلا أن يكون استثناؤه كان موصولا بالحلف ، وذلك أنا لا نعلم قائلا قال ممن قال له الثُّنْيا بعد حين يزعم أن ذلك يضع عنه الكفارة إذا حنِث ، ففي ذلك أوضح الدليل على صحة ما قلنا في ذلك ، وأن معنى القول فيه ، كان نحو معنانا فيه.
وقوله : ( وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِي رَبِّي لأقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا ) يقول عز ذكره لنبيه صلى الله عليه وسلم : قل ولعل الله أن يهديني فيسدّدني لأسدَّ مما وعدتكم وأخبرتكم أنه سيكون ، إن هو شاء.
وقد قيل : إن ذلك مما أمر النبيّ صلى الله عليه وسلم أن يقوله إذا نسي الاستثناء في كلامه ، الذي هو عنده في أمر مستقبل مع قوله : إن شاء الله ، إذا ذكر.
*ذكر من قال ذلك : حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا المعتمر ، عن أبيه ، عن محمد ، رجل من أهل الكوفة ، كان يفسر القرآن ، وكان يجلس إليه

(17/646)


وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِئَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا (25) قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِع مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا (26)

يحيى بن عباد ، قال : ( وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِي رَبِّي لأقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا ) قال فقال : وإذا نسي الإنسان أن يقول : إن شاء الله ، قال : فتوبته من ذلك ، أو كفارة ذلك أن يقول : ( عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِي رَبِّي لأقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا ).
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا (25) قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا (26) }
اختلف أهل التأويل في معنى قوله( وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا ) فقال بعضهم : ذلك خبر من الله تعالى ذكره عن أهل الكتاب أنهم يقولون ذلك كذلك ، واستشهدوا على صحة قولهم ذلك بقوله : ( قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا ) وقالوا : لو كان ذلك خبرا من الله عن قدر لبثهم في الكهف ، لم يكن لقوله( قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا ) وجه مفهوم ، وقد أعلم الله خلقه مبلغ لبثهم فيه وقدره.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : ( وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا ) هذا قول أهل الكتاب ، فردّه الله عليهم فقال : ( قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ ).
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله( وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ) قال : في حرف ابن مسعود : (وَقَالُوا : وَلَبِثُوا( يعني أنه قال الناس ، ألا ترى أنه قال : ( قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا ).
حدثنا عليّ بن سهل ، قال : ثنا ضمرة بن ربيعة ، عن ابن شوذب عن مطر الورّاق ، في قول الله : ( وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ ) قال : إنما هو

(17/647)


شيء قالته اليهود ، فردّه الله عليهم وقال : ( قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا ).
وقال آخرون : بل ذلك خبر من الله عن مبلغ ما لبثوا في كهفهم.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد( وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا ) قال : عدد ما لبثوا.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد بنحوه ، وزاد فيه( قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا ).
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، عن عبد العزيز بن أبي رواد ، عن عبد الله بن عبيد بن عمير ، قال : ( وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا ) قال : وتسع سنين.
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، عن ابن إسحاق بنحوه.
حدثنا موسى بن عبد الرحمن المسروقي ، قال : ثنا أبو أسامة ، قال : ثني الأجلح ، عن الضحاك بن مزاحم ، قال : نزلت هذه الآية( وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ ) فقالوا : أياما أو أشهرا أو سنين ؟ فأنزل الله : ( ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا ).
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد( وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ) قال : بين جبلين.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله.
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال كما قال الله عزّ ذكره : ولبث أصحاب الكهف في كهفهم رقودا إلى أن بعثهم الله ، ليتساءلوا بينهم ، وإلى أن أعثر عليهم من أعثر ، ثلاث مئة سنين وتسع سنين ، وذلك أن الله بذلك أخبر في كتابه ، وأما الذي ذكر عن ابن مسعود أنه قرأ( وَقَالُوا : وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ( وقول من قال ذلك من قول أهل الكتاب ، وقد ردّ الله ذلك عليهم ، فإن معناه

(17/648)


في ذلك : إن شاء الله كان أن أهل الكتاب قالوا فيما ذُكر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن للفتية من لدن دخلوا الكهف إلى يومنا ثلاث مئة سنين وتسع سنين ، فردّ الله ذلك عليهم ، وأخبر نبيه أن ذلك قدر لبثهم في الكهف من لدن أووا إليه أن بعثهم ليتساءلوا بينهم ، ثم قال جلّ ثناؤه لنبيه صلى الله عليه وسلم : قل يا محمد : الله أعلم بما لبثوا بعد أن قبض أرواحهم ، من بعد أن بعثهم من رقدتهم إلى يومهم هذا ، لا يعلم بذلك غير الله ، وغير من أعلمه الله ذلك.
فإن قال قائل : وما يدلّ على أن ذلك كذلك ؟ قيل : الدالّ على ذلك أنه جلّ ثناؤه ابتدأ الخبر عن قدر لبثهم في كهفهم ابتداء ، فقال : ( وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا ) ولم يضع دليلا على أن ذلك خبر منه عن قول قوم قالوه ، وغير جائز أن يضاف خبره عن شيء إلى أنه خبر عن غيره بغير برهان ، لأن ذلك لو جاز جاز في كل أخباره ، وإذا جاز ذلك في أخباره جاز في أخبار غيره أن يضاف إليه أنها أخباره ، وذلك قلب أعيان الحقائق وما لا يخيل فساده.
فإن ظنّ ظانّ أن قوله : ( قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا ) دليل على أن قوله : ( وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ) خبر منه عن قوم قالوه ، فإن ذلك كان يجب أن يكون كذلك لو كان لا يحتمل من التأويل غيره ، فأما وهو محتمل ما قلنا من أن يكون معناه : قل الله أعلم بما لبثوا إلى يوم أنزلنا هذه السورة ، وما أشبه ذلك من المعاني فغير واجب أن يكون ذلك دليلا على أن قوله : ( وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ) خبر من الله عن قوم قالوه ، وإذا لم يكن دليلا على ذلك ، ولم يأت خبر بأن قوله : ( وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ) خبر من الله عن قوم قالوه ، ولا قامت بصحة ذلك حجة يجب التسليم لها ، صحّ ما قلنا ، وفسد ما خالفه.
واختلفت القرّاء في قراءة قوله : ( ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ ) فقرأت ذلك عامة قرّاء المدينة والبصرة وبعض الكوفيين(ثَلاثِ مِئَةٍ سِنِينَ) بتنوين : ثلاث مئةٍ ، بمعنى : ولبثوا في كهفهم سنين ثلاث مئة ، وقرأته عامة قرّاء أهل الكوفة( ثلاثَ مئةِ سِنينَ) بإضافة ثلاث مئة إلى السنين : غير منون.
وأولى القراءتين في ذلك عندي بالصواب قراءة من قرأه : (ثلاثَ مِئَةٍ ) بالتنوين(سِنينَ) ، وذلك أن العرب إنما تضيف المئة إلى ما يفسرها إذا جاء

(17/649)


وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا (27)

تفسيرها بلفظ الواحد ، وذلك كقولهم ثلاث مئة درهم ، وعندي مئة دينار ، لأن المئة والألف عدد كثير ، والعرب لا تفسر ذلك إلا بما كان بمعناه في كثرة العدد ، والواحد يؤدّى عن الجنس ، وليس ذلك للقليل من العدد ، وإن كانت العرب ربما وضعت الجمع القليل موضع الكثير ، وليس ذلك بالكثير ، وأما إذا جاء تفسيرها بلفظ الجمع ، فإنها تنوّن ، فتقول : عندي ألفٌ دراهمُ ، وعندي مئةٌ دنانير ، على ما قد وصفت.
وقوله : ( لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ ) يقول تعالى ذكره : لله علم غيب السماوات والأرض ، لا يعزب عنه علم شيء منه ، ولا يخفى عليه شيء ، يقول : فسلموا له علم مبلغ ما لبثت الفتية في الكهف إلى يومكم هذا ، فإن ذلك لا يعلمه سوى الذي يعلم غيب السماوات والأرض ، وليس ذلك إلا الله الواحد القهار.
وقوله : ( أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ ) يقول : أبصر بالله وأسمع ، وذلك بمعنى المبالغة في المدح ، كأنه قيل : ما أبصره وأسمعه.
وتأويل الكلام : ما أبصر الله لكلّ موجود ، وأسمعه لكلّ مسموع ، لا يخفى عليه من ذلك شيء.
كما حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ ) فلا أحد أبصر من الله ولا أسمع ، تبارك وتعالى!.
حدثنا يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : ( أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ ) قال : يرى أعمالهم ، ويسمع ذلك منهم سميعا بصيرا.
وقوله : ( مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ ) يقول جلّ ثناؤه : ما لخلقه دون ربهم الذي خلقهم وليّ ، يلي أمرهم وتدبيرهم ، وصرفهم فيما هم فيه مصرفون.
( وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا ) يقول : ولا يجعل الله في قضائه ، وحكمه في خلقه أحدا سواه شريكا ، بل هو المنفرد بالحكم والقضاء فيهم ، وتدبيرهم وتصريفهم فيما شاء وأحبّ.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ

(17/650)


لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا (27) }
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : واتبع يا محمد ما أنزل إليك من كتاب ربك هذا ، ولا تتركنّ تلاوته ، واتباع ما فيه من أمر الله ونهيه ، والعمل بحلاله وحرامه ، فتكون من الهالكين ، وذلك أن مصير من خالفه ، وترك اتباعه يوم القيامة إلى جهنم( لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ ) يقول : لا مغير لما أوعد بكلماته التي أنزلها عليك أهل معاصيه ، والعاملين بخلاف هذا الكتاب الذي أوحيناه إليك.
وقوله : ( وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا ) يقول : وإن أنت يا محمد لم تتل ما أوحي إليك من كتاب ربك فتتبعه وتأتمّ به ، فنالك وعيد الله الذي أوعد فيه المخالفين حدوده ، لن تجد من دون الله موئلا تئل إليه ومعدلا تعدل عنه إليه ، لأن قدرة الله محيطة بك وبجميع خلقه ، لا يقدر أحد منهم على الهرب من أمر أراد به.
وبنحو الذي قلنا في معنى قوله : (مُلْتَحَدًا) قال أهل التأويل ، وإن اختلفت ألفاظهم في البيان عنه.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن بشار ، قال : ثنا يحيى بن سعيد ، عن سفيان ، عن منصور ، عن مجاهد ، في قوله : (مُلْتَحَدًا) قال : مَلْجَأ.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد(مُلْتَحَدًا) قال : ملجأ.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا ) قال : موئلا.
حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، في قوله : (مُلْتَحَدًا) قال : ملجأ ولا موئلا.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله :

(17/651)


( وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا ) قال : لا يجدون ملتحدا يلتحدونه ، ولا يجدون من دونه ملجأ ولا أحدا يمنعهم ، والملتحد : إنما هو المفتعل من اللحد ، يقال منه : لحدت إلى كذا : إذا ملت إليه ، ومنه قيل للحد : لحد ، لأنه في ناحية من القبر ، وليس بالشق الذي في وسطه ، ومنه الإلحاد في الدين ، وهو المعاندة بالعدول عنه ، والترك له.

(17/652)


وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا (28)

القول في تأويل قوله تعالى : { وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا (28) }
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : (واصْبِرْ) يا محمد(نَفْسَكَ مَعَ) أصحابك( الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ ) بذكرهم إياه بالتسبيح والتحميد والتهليل والدعاء والأعمال الصالحة من الصلوات المفروضة وغيرها(يُرِيدُونَ) بفعلهم ذلك(وَجْهَهُ) لا يريدون عرضا من عرض الدنيا.
وقد ذكرنا اختلاف المختلفين في قوله( يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ ) في سورة الأنعام ، والصواب من القول في ذلك عندنا ، فأغنى ذلك عن إعادته في هذا الموضع ، والقرّاء على قراءة ذلك( بالغَدَاةِ والعَشيّ ) ، وقد ذُكر عن عبد الله بن عامر وأبي عبد الرحمن السلمي أنهما كانا يقرآنه(بالغَدَوةِ والعَشِيّ) ، وذلك قراءة عند أهل العلم بالعربية مكروهة ، لأن غدوة معرّفة ، ولا ألف ولا لام فيها ، وإنما يعرف بالألف واللام ما لم يكن معرفة ، فأما المعارف فلا تعرّف بهما ، وبعد ، فإن غدوة لا تضاف إلى شيء ، وامتناعها من الإضافة دليل واضح على امتناع الألف واللام من الدخول عليها ، لأن ما دخلته الألف واللام من الأسماء صلحت فيه الإضافة ، وإنما تقول العرب : أتيتك غداة الجمعة ، ولا تقول : أتيتك غدوة الجمعة ، والقراءة عندنا في ذلك ما عليه القرّاء في الأمصار لا نستجيز غيرها لإجماعها على ذلك ، وللعلة التي بيَّنا من جهة العربية.

(18/5)


وقوله : ( وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ ) يقول جل ثناؤه لنبيه صلى الله عليه وسلم : ولا تصرف عيناك عن هؤلاء الذين أمرتك يا محمد أن تصبر نفسك معهم إلى غيرهم من الكفار ، ولا تجاوزهم إليه ، وأصله من قولهم : عدوت ذلك ، فأنا أعدوه : إذا جاوزته.
وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قال ابن عباس ، في قوله : ( وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ ) قال : لا تجاوزهم إلى غيرهم.
حدثني عليّ ، قال : ثني عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : ( وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ ) يقول : لا تتعدّهم إلى غيرهم.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : ( وَاصْبِرْ نَفْسَكَ )... الآية ، قال : قال القوم للنبيّ صلى الله عليه وسلم : إنا نستحيي أن نجالس فلانا وفلانا وفلانا ، فجانبهم يا محمد ، وجالس أشراف العرب ، فنزل القرآن( وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ ) ولا تحقرهم ، قال : قد أمروني بذلك ، قال : ( وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا ).
حدثنا الربيع بن سليمان ، قال : ثنا ابن وهب ، قال : أخبرني أسامة بن زيد ، عن أبي حازم ، عن عبد الرحمن بن سهل بن حنيف ، أن هذه الآية لما نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في بعض أبياته( وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ) فخرج يلتمس ، فوجد قوما يذكرون الله ، منهم ثائر الرأس ، وجافّ الجلد ، وذو الثوب الواحد ، فلما رآهم جلس معهم ، فقال : " الحَمْدُ للهِ الَّذِي جَعَلَ لي فِي أُمَّتِي مَنْ أمرني أنْ أصبِرَ نَفْسي مَعَهُ " ورُفعت العينان بالفعل ، وهو لا تعد.
وقوله : ( تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ) يقول تعالى ذكره لنبيه صلى الله عليه وسلم : لا تعدُ عيناك عن هؤلاء المؤمنين الذين يدعون ربهم إلى أشراف المشركين ، تبغي بمجالستهم الشرف والفخر ، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم

(18/6)


أتاه فيما ذكر قوم من عظماء أهل الشرك ، وقال بعضهم : بل من عظماء قبائل العرب ممن لا بصيرة لهم بالإسلام ، فرأوه جالسا مع خباب وصهيب وبلال ، فسألوه أن يقيمهم عنه إذا حضروا ، قالوا : فهمّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأنزل الله عليه : ( وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ) ثم كان يقوم إذا أراد القيام ، ويتركهم قعودا ، فأنزل الله عليه( وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ) الآيَةَ(وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ) يريد زينة الحياة الدنيا : مجالسة أولئك العظماء الأشراف. وفد ذكرت الرواية بذلك فيما مضى قبل في سورة الأنعام.
حدثني الحسين بن عمرو العنقزي ، قال : ثني أبي ، قال : ثنا أسباط بن نصر ، عن السدي ، عن أبي سعيد الأزدي ، وكان قارئ الأزد عن أبي الكنود ، عن خباب في قصة ذكرها عن النبيّ صلى الله عليه وسلم ، ذكر فيها هذا الكلام مدرجا في الخبر( وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ) قال : تجالس الأشراف.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : أخبرت أن عيينة بن حصن قال للنبيّ صلى الله عليه وسلم قبل أن يسلم : لقد آذاني ريح سلمان الفارسي ، فاجعل لنا مجلسا منك لا يجامعوننا فيه ، واجعل لهم مجلسا لا نجامعهم فيه ، فنزلت الآية.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة قال : ذُكر لنا أنه لما نزلت هذه الآية قال نبيّ الله صلى الله عليه وسلم : " الحَمْدُ للهِ الَّذِي جَعَلَ فِي أُمَّتي مَنْ أُمرْتُ أنْ أصبِرَ نَفْسِي مَعَه " .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله( تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ) قال : تريد أشراف الدنيا.
حدثنا صالح بن مسمار ، قال : ثنا الوليد بن عبد الملك ، قال : سليمان بن عطاء ، عن مسلمة بن عبد الله الجهنيّ ، عن عمه أبي مشجعة بن ربعي ، عن سلمان الفارسي ، قال : جاءت المؤلفة قلوبهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم : عيينة بن حصن ، (1) والأقرع بن حابس وذووهم ، فقالوا : يا نبيّ الله ، إنك لو جلست في صدر المسجد ، ونفيت عنا هؤلاء وأرواح جبابهم
__________
(1) في الأصل : عيينة بن بدر . والصواب : ابن حصن ، ولعله من سبق القلم . وقد ذكره صحيحا بعده بقليل .

(18/7)


يعنون سلمان وأبا ذرّ وفقراء المسلمين ، وكانت عليهم جباب الصوف ، ولم يكن عليهم غيرها - جلسنا إليك وحادثناك ، وأخذنا عنك ، فأنزل الله : ( وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا ) ، حتى بلغ( إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا ) يتهدّدهم بالنار ، فقام نبيّ الله صلى الله عليه وسلم يلتمسهم حتى أصابهم في مؤخر المسجد يذكرون الله ، فقال : " الحَمْدُ للهِ الَّذِي لَمْ يُمِتْني حتى أمَرَنِي أنْ أصْبِرَ نَفْسِي مَعَ رِجالٍ منْ أُمَّتي ، مَعَكُمُ المَحْيا وَمَعَكُمُ المَماتُ " .
وقوله : ( وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ ) يقول تعالى ذكره لنبيه صلى الله عليه وسلم : ولا تطع يا محمد من شغلنا قلبه من الكفار الذين سألوك طرد الرهط الذين يدعون ربهم بالغداة والعشيّ عنك ، عن ذكرنا ، بالكفر وغلبة الشقاء عليه ، واتبع هواه ، وترك اتباع أمر الله ونهيه ، وآثر هوى نفسه على طاعة ربه ، وهم فيما ذُكر : عيينة بن حصن ، والأقرع بن حابس وذووهم.
حدثني الحسين بن عمرو بن محمد العنقزي ، قال : ثنا أبي ، قال : ثنا أسباط ، عن السدي ، عن أبي سعيد الأزدي ، عن أبي الكنود ، عن خباب( وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا ) قال : عُيينة ، والأقرع.
وأما قوله : ( وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا ) فإن أهل التأويل اختلفوا في تأويله ، فقال بعضهم : معناه : وكان أمره ضياعا.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله : ( وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا ) قال ابن عمرو في حديثه قال : ضائعا. وقال الحارث في حديثه : ضياعا.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، قال : ضياعا.
وقال آخرون : بل معناه : وكان أمره ندما.

(18/8)


وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا (29)

* ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن المثني ، قال : ثنا بدل بن المحبر ، قال : ثنا عباد بن راشد ، عن داود(فُرُطا) قال : ندامة.
وقال آخرون : بل معناه : هلاكا.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني الحسين بن عمرو ، قال : ثنا أبي ، قال : ثنا أسباط ، عن السديّ ، عن أبي سعيد الأزدي ، عن أبي الكنود ، عن خباب( وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا ) قال : هلاكا.
وقال آخرون : بل معناه : خلافا للحق.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد : ( وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا ) قال : مخالفا للحقّ ، ذلك الفُرُط.
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب ، قول من قال : معناه : ضياعا وهلاكا ، من قولهم : أفرط فلان في هذا الأمر إفراطا : إذا أسرف فيه وتجاوز قدره ، وكذلك قوله(وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا ) معناه : وكان أمر هذا الذي أغفلنا قلبه عن ذكرنا في الرياء والكبر ، واحتقار أهل الإيمان ، سرفا قد تجاوز حدّه ، فَضَيَّع بذلك الحقّ وهلك.
وقد : حدثنا أبو كريب ، قال : ثنا أبو بكر بن عياش ، قال : قيل له : كيف قرأ عاصم ؟ فقال( وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا ) قال أبو كريب : قال أبو بكر : كان عُيينة بن حصن يفخر بقول أنا وأنا.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا (29) }
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : وقل يا محمد لهؤلاء الذين أغفلنا قلوبهم عن ذكرنا ، واتبعوا أهواءهم ، الحقّ أيها الناس من عند

(18/9)


ربكم ، وإليه التوفيق والحذلان ، وبيده الهدى والضلال يهدي من يشاء منكم للرشاد ، فيؤمن ، ويضلّ من يشاء عن الهدى فيكفر ، ليس إلي من ذلك شيء ، ولست بطارد لهواكم من كان للحقّ متبعا ، وبالله وبما أنزل علي مؤمنا ، فإن شئتم فآمنوا ، وإن شئتم فاكفروا ، فإنكم إن كفرتم فقد أعد لكم ربكم على كفركم به نار أحاط بكم سرادقها ، وإن آمنتم به وعملتم بطاعته ، فإن لكم ما وصف الله لأهل طاعته.
وروي عن ابن عباس في ذلك ما حدثني عليّ ، قال : ثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : ( فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ ) يقول : من شاء الله له الإيمان آمن ، ومن شاء الله له الكفر كفر ، وهو قوله : ( وَمَا تَشَاءُونَ إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ) وليس هذا بإطلاق من الله الكفر لمن شاء ، والإيمان لمن أراد ، وإنما هو تهديد ووعيد.
وقد بين أن ذلك كذلك قوله : ( إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا ) والآيات بعدها.
كما حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، عن عمر بن حبيب ، عن داود ، عن مجاهد ، في قوله : ( فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ ). قال : وعيد من الله ، فليس بمعجزي.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : ( فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ) وقوله(اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ ) قال : هذا كله وعيد ليس مصانعة ولا مراشاة ولا تفويضا. وقوله : ( إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا ) يقول تعالى ذكره : إنا أعددنا ، وهو من العُدّة. للظالمين : الذين كفروا بربهم.
كما حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد ، في قوله : ( إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا ) قال : للكافرين ، وقوله : ( أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا ) يقول : أحاط سرادق النار التي أعدّها الله للكافرين بربهم ، وذلك فيما قيل : حائط من نار يطيف بهم كسرادق الفسطاط ، وهي الحجرة التي تطيف بالفسطاط ، كما قال رؤبة :

(18/10)


يا حَكَمَ بنَ المُنْذِرِ بنَ الجارُودْ... سُرادِقُ الفَضْلِ عَلَيْكَ مَمْدُودْ (1)
وكما قال سلامة بن جندل :
هُوَ المُولِجُ النُّعْمانَ بيْتا سَماؤُهُ... صُدُورُ الفُيُولِ بعدَ بَيْتٍ مُسَرْدَقَ (2)
يعني : بيتا له سرادق.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قال ابن عباس ، في قوله : ( إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا ) قال : هي حائط من نار.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثنا أبو سفيان ، عن معمر ، عمن أخبره ، قال( أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا ) قال : دخان يحيط بالكفار يوم القيامة ، وهو الذي قال الله : ( ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ ) .
__________
(1) البيتان من أرجوزة قصيرة سبعة أبيات لرؤبة في ( ديوانه طبع ليبسج سنة 1903 ضمن الزوائد الملحقة بالديوان ، وهما الأول والخامس ، ص 172 ) . والبيتان من شواهد أبي عبيدة في ( مجاز القرآن 1 : 399) إلا أن رواية البيت الثاني فيه : * أنت الجواد بن الجود المحمود *
وبعده البيت الثاني . قال : " أحاط بهم سرادقها " : كسرادق الفسطاط ، وهي الحجرة التي تطيف بالفسطاط ؛ قال رؤبة * يا حكم بن المنذر بن الجارود *
وفي ( اللسان : سردق ) : السرادق : ما أحاط بالبناء ، والجمع سرادقات . قال سيبويه : جمعوه بالتاء وإن كان مذكرا ، حين لم يكسر . وفي التنزيل " أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا " . في صفة النار أعاذنا الله منها . قال الزجاج : صار عليهم سرادق من العقاب . والسرادق ما أحاط بالشيء ، نحو الشقة في المضرب ( الخيمة ) أو الحائط المشتمل على الشيء.
(2) البيت في ديوان سلامة بن جندل السعدي التميمي ( طبعة بيروت سنة 1910 ص 19) من قصيدة عدة أبياتها ثلاثون بيتا . قال أبو عمرو : كان كسرى حبس النعمان في بيت فيه ثلاثة فيول ، والمسردق : ذو السرادق ، أو الذي عليه سرادق . وقال أبو عبيدة في ( مجاز القرآن 1 : 399 ) بعد أن أورد البيت : أي له سرادق . اه. وفي ( اللسان : سردق ) وقد سردق البيت . قال سلامة بن جندل : ( وأورد البيت ) . ثم قال الجوهري : السرادق : واحد السرادقات التي تمد فوق صحن الدار . وكل بيت من كرسف ( قطن ) فهو سرادق . قال رؤبة : يا حكم بن المنذر بن الجارود ... أنت الجواد ابن الجواد المحمود
سرادق المجد عليك ممدود
قال : وقيل : الرجز للكذاب الحرمازي . ونسب الجوهري بيت سلامة بن جندل إلى الأعشى ، وقال في سببه : يذكر ابن وبر وقتله النعمان بن المنذر . عن (لسان العرب : سردق ) .

(18/11)


وقد رُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك خبر يدلّ على أن معنى قوله( أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا ) أحاط بهم ذلك في الدنيا ، وأن ذلك السرادق هو البحر.
ذكر من قال ذلك : حدثني العباس بن محمد والحسين بن نصر ، قالا ثنا أبو عاصم ، عن عبد الله بن أمية ، قال : ثني محمد ابن حيي بن يعلى ، عن صفوان بن يعلى ، عن يعلى بن أمية ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " البَحْرُ هو جَهَنَّمُ " قال : فقيل له : كيف ذلك ، فتلا هذه الآية ، أو قرأ هذه الآية : ( نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا ) ثم قال : والله لا أدْخُلُها أبَدًا أوْ ما دُمْتُ حَيًّا ، ولا تُصِيبُني مِنْها قَطْرَة.
حدثنا محمد بن المثنى ، قال : ثنا يعمر بن بشر ، قال : ثنا ابن المبارك ، قال : أخبرنا رشدين بن سعد ، قال : ثني عمرو بن الحارث ، عن أبي السمح ، عن أبي الهيثم ، عن أبي سعيد الخدري ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال : " سُرَادِقُ النَّارِ أرْبَعَةُ جُدُرٍ ، كِثْفُ كُلّ وَاحِد مِثْلُ مَسِيرَةِ أرْبَعِينَ سَنَةً " .
حدثنا بشر ، قال : ثنا ابن وهب ، قال : أخبرني عمرو بن الحارث ، عن درّاج ، عن أبي الهيثم ، عن أبي سعيد ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " إن لِسُرَادِقِ النَّارِ أرْبَعَةَ جُدُرٍ ، كِثْفُ كُلّ وَاحِد مِثْلُ مَسِيرَةِ أرْبَعِينَ سَنَةً " .
حدثنا بشر ، قال : ثنا ابن وهب ، قال : أخبرني عمرو ، عن دراج ، عن أبي الهيثم ، عن أبي سعيد ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " ماءٌ كالمُهْلِ " ، قال : " كَعَكَرِ الزَّيْتِ ، فإذا قَرَّبَهُ إليه سقط فَرْوَةُ وَجْهِه فِيهِ " .
وقوله : ( وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ ) يقول تعالى ذكره : وإن يستغث هؤلاء الظالمون يوم القيامة في النار من شدّة ما بهم من العطش ، فيطلبونَ الماء يُغاثوا بماء المُهْل.
واختلف أهل التأويل في المهل ، فقال بعضهم : هو كلّ شيء أذيب وانماع.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ،

(18/12)


عن قتادة ، قال : ذُكر لنا أن ابن مسعود أهديت إليه سِقاية من ذهب وفضة ، فأمر بأخدود فخدّ في الأرض ، ثم قذف فيه من جزل حطب ، ثم قذف فيه تلك السقاية ، حتى إذا أزبدت وانماعت قال لغلامه : ادع من يحضُرنا من أهل الكوفة ، فدعا رهطا ، فلما دخلوا عليه قال : أترون هذا ؟ قالوا : نعم ، قال : ما رأينا في الدنيا شبيها للمهل أدنى من هذا الذهب والفضة ، حين أزبد وانماع.
وقال آخرون : هو القيح والدم الأسود.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا حكام عن عنبسة ، عن محمد بن عبد الرحمن ، عن القاسم ، عن أبي بَزَة ، عن مجاهد في قوله : ( وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ ) قال : القيح والدم.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد( بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ ) قال : القيح والدم الأسود ، كعكر الزيت ، قال الحارث في حديثه : يعني درديه.
حدثني عليّ ، قال : ثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : (كالمُهْلِ) قال : يقول : أسود كهيئة الزيت.
حُدثت عن الحسين بن الفرج ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد بن سليمان ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ ) ماء جهنم أسود ، وهي سوداء ، وشجرها أسود ، وأهلها سود.
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله( وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ ) قال : هو ماء غليظ مثل دردي الزيت.
وقال آخرون : هو الشيء الذي قد انتهى حرّه.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا يعقوب القمي ، عن جعفر وهارون بن عنترة ، عن سعيد بن جبير ، قال : المهل : هو الذي قد انتهى حرة.
وهذه الأقوال وإن اختلفت بها ألفاظ قائليها ، فمتقاربات المعنى ، وذلك

(18/13)


أن كل ما أذيب من رصاص أو ذهب أو فضة فقد انتهى حرّه ، وأن ما أوقدت عليه من ذلك النار حتى صار كدردي الزيت ، فقد انتهى أيضا حرّه.
وقد : حُدثت عن معمر بن المثنى ، أنه قال : سمعت المنتجع بن نبهان يقول : والله لفلان أبغض إليّ من الطلياء (1) والمهل ، قال : فقلنا له : وما هما ؟ فقال : الجرباء ، والملة التي تنحدر عن جوانب الخبزة إذا ملت في النار من النار ، كأنها سهلة (2) حمراء مدققة ، فهي أحمره ، فالمهل إذا هو كلّ مائع قد أوقد عليه حتى بلغ غاية حره ، أو لم يكن مائعا ، فانماع بالوقود عليه ، وبلغ أقصى الغاية في شدّة الحرّ.
وقوله : ( يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ ) يقول جلّ ثناؤه : يشوي ذلك الماء الذي يغاثون به وجوههم.
كما حدثني محمد بن خلف العسقلاني ، قال : ثنا حيوة بن شريح ، قال : ثنا بقية ، عن صفوان بن عمرو ، عن عبد الله بن بُسْر ، هكذا قال ابن خلف عن أبي أمامة ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم ، في قوله( وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ يَتَجَرَّعُهُ ) قال : يقرب إليه فيتكرّهه ، فإذا قرب منه ، شوى وجهه ، ووقعت فَرْوة رأسه ، فإذا شربه قطع أمعاءه ، يقول الله : (وإن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل يشوي الوجوه بئس الشراب).
حدثنا محمد بن المثنى ، قال : ثني إبراهيم بن إسحاق الطالَقاني ويعمر بن بشر ، قالا ثنا ابن المبارك ، عن صفوان ، عن عبد الله بن بُسْر ، عن أبي أمامة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم بمثله.
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا يعقوب ، عن جعفر وهارون بن عنترة ، عن سعيد بن جبير ، قال هارون : إذا جاع أهل النار ، وقال جعفر : إذا جاء أهل النار استغاثوا بشجرة الزقوم ، فأكلوا منها ، فاختلست جلود وجوههم ، فلو أن مارا مار بهم يعرفهم ، لعرف جلود وجوههم فيها ، ثم يصبّ عليهم العطش ، فيستغيثون ، فيغاثون بماء كالمهل ، وهو الذي قد انتهى حرّه ، فإذا أدنوه من
__________
(1) يريد بالطلياء الناقة الجرباء المطلية بالقطران أو الخضخاض . ويريد بالمهل : الملة إذا حميت جدا ورأيتها تموج.
(2) السهلة ، بالكسر ، تراب كالرمل أحمر يجيء به الماء ( اللسان)

(18/14)


أفواههم انشوى من حرّه لحوم وجوههم التي قد سقطت عنها الجلود.
وقوله : (بِئْسَ الشَّرَابُ) يقول تعالى ذكره : بئس الشراب ، هذا الماء الذي يغاث به هؤلاء الظالمون في جهنم الذي صفته ما وصف في هذه الآية.
وقوله : (وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا) يقول تعالى ذكره : وساءت هذه النار التي أعتدناها لهؤلاء الظالمين مرتفقا ، والمرتفق في كلام العرب : المتكأ ، يقال منه : ارتفقت إذا اتكأت ، كما قال الشاعر :
قالَتْ لَهُ وارْتَفَقَتْ ألا فَتى... يَسُوقُ بالقَوْمِ غَزَالاتِ الضُّحَى (1)
أراد : واتكأت على مرفقها ، وقد ارتفق الرجل : إذا بات على مرفقه لا يأتيه نوم ، وهو مرتفق ، كما قال أبو ذؤيب الهذلي :
نامَ الخَلِيُّ وَبِتُّ اللَّيْلَ مُرْتَفِقًا ... كَأنَّ عَيْني فيها الصَّابُ مَذْبُوحُ (2)
وأما من الرفق فإنه يقال : قد ارتفقت بك مرتفقا ، وكان مجاهد يتأول قوله : ( وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا ) يعني المجتمع.
* ذكر الرواية بذلك : حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد(مُرْتَفَقا) : أي مجتمعا.
حدثني يعقوب ، قال : ثنا معتمر ، عن ليث ، عن مجاهد(وساءت مُرْتَفَقا) قال : مجتمعا.
__________
(1) هذان بيتان من مشطور الرجز ، ذكرهما اللسان في : غزل . ورواية الأول منهما مختلفة عن رواية المؤلف ، وهي : * دعت سليمى دعوة هل من فتى *
وفي رواية أخرى : * ودعوة القوم ألا هل من فتى *
وغزالة الضحى وغزالاته : بعد ما تنبسط الشمس وتضحى . ولا شاهد في البيت الأول على هاتين الروايتين .
(2) البيت في ديوان أبي ذؤيب الهذلي طبع دار الكتب المصرية ، ( القسم الأول من ديوان الهذليين ص 104 ) وهو مطلع قصيدة له . وفيه " مشتجرا " في موضع " مرتفقا " ومشتجرا أي يشجر رأسه بيده ، يريد أنه وضع رأسه على يديه ، كما يشجر الثوب بالعود . وقال الأصمعي : الصاب : شجرة مرة لها لبن يمض العين إذا أصابها . ومذبوح : مشقوق . والذبح : الشق . ومرتفقا : واضعا مرفقه تحت رأسه . والبيت : من شواهد أبي عبيدة في ( مجاز القرآن 1 : 400 ) وأوله : " إني أرقت فبت . . . " . وقال : " ساءت مرتفقا " : أي متكئا . قال أبو ذؤيب . . . البيت .

(18/15)


إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا (30)

حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد مثله ، ولست أعرف الارتفاق بمعنى الاجتماع في كلام العرب ، وإنما الارتفاق : افتعال ، إما من المرفق ، وإما من الرفق.
القول في تأويل قوله تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلا (30) }
يقول تعالى ذكره : إن الذين صدقوا الله ورسوله ، وعملوا بطاعة الله ، وانتهوا إلى أمره ونهيه ، إنا لا نضيع ثواب من أحسن عملا فأطاع الله ، واتبع أمره ونهيه ، بل نجازيه بطاعته وعمله الحسن جنات عدن تجري من تحتها الأنهار.
فإن قال قائل : وأين خَبَر " إن " الأولى ؟ قيل : جائز أن يكون خبرها قوله : ( إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلا ) فيكون معنى الكلام :
إنا لا نضيع أجر من عمل صالحا ، فترك الكلام الأوّل ، واعتمد على الثاني بنية التكرير ، كما قيل : ( يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ ) بمعنى : عن قتال فيه على التكرير ، وكما قال الشاعر :
إنَّ الخَلِيفَةَ إنَّ اللهَ سَرْبَلَهُ... سِرْبالَ مُلْك بِهِ تُرْجَى الخَواتِيمُ (1)
ويروى : تُرْخَى ، وجائز أن يكون : (إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا) جزاء ، فيكون معنى الكلام : إن من عمل صالحا فإنا لا نضيع أجره ، فتضمر الفاء في قوله " إنا " ، وجائز أن يكون خبرها : أولئك لهم جنات عدن ، فيكون معنى الكلام : إن
__________
(1) في ( اللسان : سربل ) السربال : القميص والدرع . وفي حديث عثمان : " لا أخلع سربالا سربلنيه الله " كنى به عن الخلافة . واستشهد به المؤلف على أن التكرار في قوله تعالى : إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ ..... الآية ، له نظير في قول الشاعر : " إن الخليفة إن الله سربله . . . " البيت . وقد بين وجهي الإعراب في المكرر . والبيت من شواهد الفراء في ( معاني القرآن : الورقة 185 من مصورة الجامعة ) قال : خبر الذين آمنوا في قوله : إنا لا نضيع وهو مثل قول الشاعر : إن الخليفة . . . البيت ، فإنه في المعنى : إنا لا نضيع أجر من عمل صالحا . فترك الكلام الأول ، واعتمد على الثاني ، بنية التكرير . كما قال : " يسئلونك عن الشهر الحرام " ، ثم قال : قتال فيه " يريد : عن قتال فيه ، بالتكرير ويكون أن تجعل " إن الذين آمنوا وعملوا " في مذهب جزاء ، كقولك : إن من عمل صالحا فإنا لا نضيع أجره ، فتضمر الفاء في قوله " فإنا " ، وإلقاؤها جائز ، وهو أحب الوجوه إلي .

(18/16)


أُولَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا (31)

الذين آمنوا وعملوا الصالحات ، أولئك لهم جنات عدن.
القول في تأويل قوله تعالى : { أُولَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الأنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الأرَائِكِ نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا (31) }
يقول تعالى ذكره : لهؤلاء الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناتُ عدن ، يعني بساتين إقامة في الآخرة ، ( تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الأنْهَارُ ) يقول : تجري من دونهم ومن بين أيديهم الأنهار ،
وقال جلّ ثناؤه : من تحتهم ، ومعناه : من دونهم وبين أيديهم ، ( يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ ) يقول : يلبسون فيها من الحلي أساور من ذهب ، والأساور : جمع إسوار.
وقوله : ( وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِنْ سُنْدُسٍ )
والسندس : جمع واحدها سندسة ، وهي ما رقّ من الديباج ، والإستبرق : ما غلظ منه وثخُن ، وقيل : إن الإستبرق : هو الحرير ، ومنه قول المُرقش :
تَرَهُنَّ يَلْبَسْنَ المَشاعِرَ مَرَّةٌ... وإسْتَبْرَقَ الدّيباجِ طَوْرًا لِباسُها (1)
يعني : وغليظ الديباج.
وقوله : ( مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الأرَائِكِ ) يقول : متكئين في جنات عدن على الأرائك ، وهي السرر في الحِجال ، واحدتها : أريكة ، ومنه قول الشاعر :
خُدُودا جَفَتْ في السَّيْرِ حتى كأنَّما... يُبًاشرن بالمَعْزاءِ مَسّ الأرَائك (2)
ومنه قول الأعشي :
بينَ الّرَواق وجانِبِ مِن سِتْرها... مِنْها وبين أرِيكَةِ الأنْضَادِ (3)
__________
(1) البيت للمرقش . المشاعر : جمع مشعر ، وهو الشعار الذي يلي جسد الإنسان من الثياب ، دون ما سواه . وفي الحديث ذكر الأنصار : هم الشعار دون الدثار ، يصفهم بالمودة والقرب . وقد فسر المؤلف الإستبرق والديباج . والبيت شاهد على معنى الإستبراق .
(2) البيت لذي الرمة ( ديوانه طبع كيمبردج سنة 1919 ص 422 ) وقبله قوله : إذا وَقَعُوا وَهْنا كَسَوْا حَيْثُ مَوَّتَتْ ... مِنَ الجَهْدِ أنْفاسُ الرّياحِ الحَوَاشِكِ
وقوله خدودا : مفعول كسوا في البيت قبله . والمعزاء الأرض الصلبة ذات الحجارة مثل الفرش على الأرائك ، هي الأسرة ، الواحد سرير . أي صيروا المكان الذي ناموا فيه كسوة للخدود . وفي ( اللسان . أرك ) قال المفسرون : الأرائك : السرر في الحجال . وقال الزجاج : الأرائك الفرش في الحجال ، وقيل هي الأسرة ، وهي في الحقيقة الفرش كانت في الحجال ، أو في غير الحجال . وقيل : الأريكة ، سرير منجد مزين في قبة أو بيت ، فإذا لم يكن فيه سرير فهو حجلة .
(3) البيت لم أجده في ديوان الأعشى ميمون ، ولا سائر أشعار العشى الملحقة به ، إنما وجدت بيتين اثنين من وزنه وقافيته ، ص 245 طبعة الدكتور محمد حسين بالقاهرة . ولم أجد غيرها . والرواق ، بضم الراء المشددة وكسرها : الخيمة . والبيت شاهد كالذي قبله ، على أن معنى الأرائك : السرر في الحجال ، وأن واحدتها : أريكة . والأنضاد : جمع نضد بالتحريك ، وهو ما نضد من متاع البيت ، وجعل بعضه فوق بعض .

(18/17)


وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا (32) كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آَتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا وَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا نَهَرًا (33)

وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، في قوله( عَلَى الأرَائِكِ ) قال : هي الحجال. قال معمر ، وقال غيره : السرر في الحجال.
وقوله : ( نِعْمَ الثَّوَابُ ) يقول : نعم الثواب جنات عدن ، وما وصف جلّ ثناؤه أنه جعل لهؤلاء الذين آمنوا وعلموا الصالحات( وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا ) يقول : وحسنت هذه الأرائك في هذه الجنان التي وصف تعالى ذكره في هذه الآية متكأ.وقال جلّ ثناؤه : ( وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا ) فأنث الفعل بمعنى : وحسنت هذه الأرائك مرتَفَقا ، ولو ذكر لتذكير المرتفق كان صوابا ، لأن نعم وبئس إنما تدخلهما العرب في الكلام لتدلا على المدح والذم لا للفعل ، فلذلك تذكرهما مع المؤنث ، وتوحِّدهما مع الاثنين والجماعة.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلا رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لأحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا (32) كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا وَفَجَّرْنَا خِلالَهُمَا نَهَرًا (33)

(18/18)


وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا (34)

وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالا وَأَعَزُّ نَفَرًا (34) }
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : واضرب يا محمد لهؤلاء المشركين بالله ، الذين سألوك أن تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشيّ يريدون وجهه ، (مَثَلا) مثل( رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لأحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ ) أي جعلنا له بستانين من كروم( وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ ) يقول : وأطفنا هذين البستانين بنخل. وقوله : ( وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا ) يقول : وجعلنا وسط هذين البستانين زرعا ، وقوله : ( كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا ) يقول : كلا البستانين أطعم ثمره وما فيه من الغروس من النخل والكرم وصنوف الزرع. وقال : كلتا الجنتين ، ثم قال : آتت ، فوحَّد الخبر ، لأن كلتا لا يفرد واحدتها ، وأصله كلّ ، وقد تفرد العرب كلتا أحيانا ، ويذهبون بها وهي مفردة إلى التثنية ، قال بعض الرُّجاز في ذلك :
فِي كِلْتَ رِجْلَيْهَا سُلامي وَاحدَه... كِلْتاهُما مَقْرُونَةٌ بِزَائِدَهْ (1)
يريد بكلت : كلتا ، وكذلك تفعل بكلتا وكلا وكل إذا أضيفت إلى معرفة ، وجاء الفعل بعدهن ويجمع ويوحد ، وقوله : ( وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا ) يقول : ولم تنقص من الأكل شيئا ، بل آتت ذلك تاما كاملا ومنه قولهم : ظلم فلان فلانا حقَّه : إذا بخَسَهُ ونقصه ، كما قال الشاعر :
تَظَّلَمَنِي مالي كَذَا وَلَوَى يَدِي... لَوَى يَدَهُ اللهُ الَّذِي هُوَ غالِبُهْ (2)
وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل.
__________
(1) البيت من شواهد الفراء في معاني القرآن ( الورقة 186 من مصورة الجامعة رقم 24059 ) قال : وقد تفرد العرب إحدى " كلي " ( كتبها بالياء للإمالة ) . وهو من شواهد النحويين على أن " كلت " أصلها " كلتا " ، حذفت ألفها للضرورة ، وفتحة التاء دليل عليها ( خزانة الأدب للبغدادي 1 : 62 ) وقال : رأيت في حاشية الصحاح أن هذا البيت من رجز يصف به نعامة ، فضمير رجليها عائد على النعامة . والسلامي : على وزن حباري عظم في فرسن البعير ، وعظام صغار طول إصبع أو أقل في اليد والرجل . والجمع : سلاميات والفرسن : بمنزلة الحافر للفرس . والضمير في كلتاهما للرجلين . ثم قال : استدلالهم بهذا البيت على الإفراد يرده معناه ، فإن المعنى على التثنية ، بدليل تأكيده بالمصراع الثاني ، فتأمل . وقال أبو حبان في تذكرته : هذا البيت من اضطرار الشعراء ، وكلت ليس بواحد كلتا ، بل هو جاء بمعنى كلا ، غير أنه أسقط الألف اعتمادا على الكسرة التي قبلها على أنها تكفي من الألف الممالة إلى الياء ؛ وما من الكوفيين أحد يقول : كلت واحدة كلتا ، ولا يدعي أن لكلا وكلتا واحدا منفردا في النطق مستعملا ، فإن ادعاه عليه مدع فهو تشنيع وتفحيش من الخصوم على قول خصومهم . انتهى .
(2) البيت من أبيات تسعة لفرعون بن الأعراف في ابنه منازل ( الحماسة بشرح التبريزي 4 : 9 ) وأوله " تغمد حقي ظالما ولوى يدي " . وتغمد حقي ؛ ستره . وهو في معنى : " تظلمني مالي " ولوى يدي : أي فتلها وأزالها عن حالها وهيئتها . وهو من شواهد أبي عبيدة في مجاز القرآن ( 1 : 402 ) قال : " ولم تظلم منه شيئا " : ولم تنقص . ويقال : ظلمني فلان حقي ، أي نقصني وقال رجل لابنه : " تظلمني مالي كذا . . . إلخ " .
ورواية البيت في اللسان : " تظلم مالي هكذا . . . " البيت . ولم ينسبه . وقال قبله : وظلمه حقه ، وتظلمه إياه . يريد أنهما بمعنى .

(18/19)


* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : ( وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا ) : أي لم تنقص ، منه شيئا.
وقوله : ( وَفَجَّرْنَا خِلالَهُمَا نَهَرًا ) يقول تعالى ذكره :
وسيَّلنا خلال هذين البستانين نهرا ، يعني بينهما وبين أشجارهما نهرا. وقيل : ( وَفَجَّرْنَا) فثقل الجيم منه ، لأن التفجير في النهر كله ، وذلك أنه يميد ماء فيُسيل بعضه بعضا.
وقوله : ( وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ ) اختلفت القرّاء في قراءة ذلك ، فقرأته عامة قرّاء الحجاز والعراق : " وَكَانَ لَهُ ثُمُرٌ " بضم الثاء والميم. واختلف قارئو ذلك كذلك ، فقال بعضهم : كان له ذهب وفضة ، وقالوا : ذلك هو الثمر ، لأنها أموال مثمرة ، يعني مكثرة.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله عزّ وجلّ : (وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ) قال : ذهب وفضة ، وفي قول الله عزّ وجل : (بِثُمُرِهِ) قال : هي أيضا ذهب وفضة.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال :

(18/20)


ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، في قوله(ثَمَرٌ) قال : ذهب وفضة. قال : وقوله : ( وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ )هي هي أيضا.
وقال آخرون : بل عُنِي به : المال الكثير من صنوف الأموال.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا أحمد بن يوسف ، قال : ثنا القاسم ، قال : ثني حجاج ، عن هارون ، عن سعيد بن أبي عِروبة ، عن قتادة ، قال : قرأها ابن عباس : " وكَانَ لَهُ ثُمُرٌ " بالضمّ ، وقال : يعني أنواع المال.
حدثنا عليّ ، قال : ثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس : " وكانَ لَهُ ثُمُرٌ " يقول : مال.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، في قوله : " وَكَانَ لَهُ ثُمُرٌ " يقول : من كلّ المال.
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، في قوله( وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ ) قال : الثمر من المال كله يعني الثمر ، وغيره من المال كله.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثنا أبو سفيان ، عن معمر ، عن قتادة ، قال : " الثُّمُر " المال كله ، قال : وكلّ مال إذا اجتمع فهو ثُمُر إذا كان من لون الثمرة وغيرها من المال كله.
وقال آخرون : بل عُنِي به الأصل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : " وَكَانَ لَهُ ثُمُرٌ " الثمر الأصل ، قال " وأُحِيطَ بثُمُرِهِ " قال : بأصله ، وكأنّ الذين وجَّهوا معناها إلى أنها أنواع من المال ، أرادوا أنها جمع ثمار جمع ثمر ، كما يجمع الكتاب كتبا ، والحمار حمرا ، وقد قرأ بعض من وافق هؤلاء في هذه القراءة " ثُمُرٌ " بضم الثاء وسكون الميم ، وهو يريد الضمّ فيها ، غير أنه سكنها طلب التخفيف ، وقد يحتمل أن يكون أراد بها جمع ثمرة ، كما تجمع الخَشبة خَشَبا. وقرأ ذلك بعض المدنيين : ( وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ ) بفتح الثاء والميم ، بمعنى جمع الثمرة ، كما تجمع الخشبة خشبا ، والقصبة قَصبا.
وأولى القراءات في ذلك عندي بالصواب قراءة من قرأ " وَكَانَ لَهُ ثُمُرٌ " بضمّ الثاء والميم لإجماع الحجة من القرّاء عليه وإن كانت جمع ثمار ، كما الكتب جمع كتاب.
ومعنى الكلام : ( وَفَجَّرْنَا خِلالَهُمَا نَهَرًا وَكَانَ لَهُ ) منهما " ثُمُرٌ " بمعنى من جنتيه أنواع من الثمار وقد بين ذلك لمن وفق لفهمه ، قوله : ( جَعَلْنَا لأحَدِهِمَا

(18/21)


جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا ) ثم قال : وكان له من هذه الكروم والنخل والزرع ثمر.
وقوله : ( فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ ) يقول عزّ وجلّ : فقال هذا الذي جعلنا له جنتين من أعناب ، لصاحبه الذي لا مال له وهو يخاطبه :
( أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالا وَأَعَزُّ نَفَرًا ) يقول : وأعزّ عشيرة ورَهْطا ، كما قال عُيينة والأقرع لرسول الله صلى الله عليه وسلم : نحن سادات العرب ، وأرباب الأموال ، فنحّ عنا سلمان وخبَّابا وصُهيبا ، احتقارا لهم ، وتكبرا عليهم.
كما حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : ( فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالا وَأَعَزُّ نَفَرًا ) وتلك والله أمنية الفاجر : كثرة المال ، وعزّة النفر.

(18/22)


وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا (35) وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا (36)

القول في تأويل قوله تعالى : { وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا (35) وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا (36) }
يقول تعالى ذكره : هذا الذي جعلنا له جنتين من أعناب( دَخَلَ جَنَّتَهُ ) وهي بستانه( وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ ) وظلمه نفسه : كفره بالبعث ، وشكه في قيام الساعة ، ونسيانه المعاد إلى الله تعالى ، فأوجب لها بذلك سخط الله وأليم عقابه ، وقوله : ( قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا ) يقول جلّ ثناؤه : قال لما عاين جنته ، ورآها وما فيها من الأشجار والثمار والزروع والأنهار المطردة شكا في المعاد إلى الله : ما أظنّ أن تبيد هذه الجنة أبدا ، ولا تفنى ولا تَخْرب ، وما أظنّ الساعة التي وعد الله خلقه الحشر فيها تقوم فتحدث ، ثم تمنى أمنية أخرى على شكّ منه ، فقال : ( وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي ) فرجعت إليه ، وهو غير موقن أنه راجع إليه( لأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا ) يقول : لأجدنّ خيرا من جنتي هذه عند الله إن رددت إليه مرجعا ومردًا ، يقول : لم يعطني هذه الجنة في الدنيا إلا ولي عنده أفضل منها في المعاد إن رددت إليه.
كما حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في

(18/22)


قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا (37) لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا (38)

قوله : ( وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً ) قال : شكّ ، ثم قال : (وَلَئِنْ ) كان ذلك ثم( رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا ) ما أعطاني هذه إلا ولي عنده خير من ذلك.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : ( وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً ) كفور لنعم ربه ، مكذّب بلقائه : متمنّ على الله.
القول في تأويل قوله تعالى : { قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلا (37) لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا (38) }
يقول تعالى ذكره : قال لصاحب الجنتين صاحبه الذي هو أقل منه مالا وولدا ، (وهو يحاوره) : يقول : وهو يخاطبه ويكلمه : ( أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ) يعني خلق أباك آدم من تراب( ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ) يقول : ثم أنشأك من نطفة الرجل والمرأة ، ( ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلا ) يقول : ثم عدلك بشرا سويا رجلا ذكرا لا أنثى ، يقول : أكفرت بمن فعل بك هذا أن يعيدك خلقا جديدا بعد ما تصير رفاتا( لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي ) يقول : أما أنا فلا أكفر بربي ، ولكن أنا هو الله ربي ، معناه أنه يقول : ولكن أنا أقول : هو الله ربي( وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا ). وفي قراءة ذلك وجهان : أحدهما لكنّ هو الله ربي بتشديد النون وحذف الألف في حال الوصل ، كما يقال : أنا قائم فتحذف الألف من أنا ، وذلك قراءة عامة قراء أهل العراق. وأما في الوقف فإن القراءة كلها تثبت فيها الألف ، لأن النون إنما شددت لاندغام النون من لكن ، وهي ساكنة في النون التي من أنا ، إذ سقطت الهمزة التي في أنا ، فإذا وقف عليها ظهرت الألف التي في أنا ، فقيل : لكنا ، لأنه يقال في الوقف على أنا بإثبات الألف لا بإسقاطها. وقرأ ذلك جماعة من أهل الحجاز : (لَكِنَّا) بإثبات الألف في الوصل والوقف ، وذلك وإن كان مما ينطق به في ضرورة الشعر ، كما قال الشاعر :

(18/23)


وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالًا وَوَلَدًا (39)

أنا سَيْفُ العَشِيرَة فاعْرِفُونِي... حميدا قد تذريت السناما (1)
فأثبت الألف في أنا ، فليس ذلك بالفصيح من الكلام ، والقراءة التي هي القراءة الصحيحة عندنا ما ذكرنا عن العراقيين ، وهو حذف الألف من " لكنّ " في الوصل ، وإثباتها في الوقف.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلا بِاللَّهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالا وَوَلَدًا (39) }
يقول عز ذكره : وهلا إذ دخلت بستانك ، فأعجبك ما رأيت منه ، قلت ما شاء الله كان ، وفي الكلام محذوف استغني بدلالة ما ظهر عليه منه ، وهو جواب الجزاء ، وذلك كان.
وإذا وجه الكلام إلى هذا المعنى الذي قلنا كانت " ما " نصبا بوقوع فعل الله عليه ، وهو شاء ، وجاز طرح الجواب ، لأن معنى الكلام معروف ، كما قيل : فإن استطعت أن تبتغي نفقا في الأرض ، وترك الجواب ، إذ كان مفهوما معناه ، وكان بعض أهل العربية يقول " ما " من قوله : ( مَا شَاءَ اللَّهُ ) في موضع رفع بإضمار هو ، كأنه قيل : قلت هو ما شاء الله( لا قُوَّةَ إِلا بِاللَّهِ ) يقول : لا قوة على ما نحاول من طاعته إلا به.
وقوله : ( إِنْ تَرَنِي أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالا وَوَلَدًا ) وهو قول المؤمن الذي لا مال له ، ولا عشيرة ، مثل صاحب الجنتين وعشيرته ،
__________
(1) البيت من شواهد النحويين ، على أن ثبوت ألف " أنا " في الوصل عند غير بني تميم لا يكون إلا في ضرورة الشعر . ( خزانة الأدب للبغدادي 2 : 390 ) ثم قال : قال ابن جني في شرح تصريف المازني : أما الألف في " أنا " في الوقف فزائدة ، ليست بأصل ؛ ألا ترى أنك تقول في الوصل : أن زيد ، كما قال تعالى : إِنِّي أَنَا رَبُّكَ تكتب بألف بعد النون ، وليست الألف في اللفظ ، وإنما كتبت على الوقف ، فصار سقوط الألف في الوصل ، كسقوط الهاء التي تلحق في الوقف لبيان الحركة في الوصل وبينت الحركة بالألف كما بينت بالهاء ، لأن الهاء مجاورة للألف . ا هـ . و " حميدا " بدل من الياء في اعرفوني ، يروى مصغرا ومكبرا . وفي الصحاح : " جميعا في موضع " حميدا " . وتذريت السنام : علوته . ونسب ياقوت هذا البيت في حاشية الصحاح إلى حميد بن بحدل ، شاعر . وهو حميد بن حريث بن بحدل ، من بني كلب بن وبرة ، ينتهي نسبه إلى قضاعة . وهو شاعر إسلامي ، كانت عمته ميسون بنت بحدل ، أم يزيد بن معاوية .

(18/24)


فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِنَ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا (40) أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا (41)

وهو مثل سَلْمان وصُهَيب وخباب ، يقول : قال المؤمن للكافر : إن ترن أيها الرجل أنا أقل منك مالا وولدا ، فإذا جعلت أنا عمادا نصبت أقل ، وبه القراءة عندنا ، لأن عليه قراءة الأمصار ، وإذا جعلته اسما رفعت أقل.
القول في تأويل قوله تعالى : { فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِنَ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا (40) أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا (41) }
يقول تعالى ذكره مخبرا عن قيل المؤمن الموقن للمعاد إلى الله للكافر المرتاب في قيام الساعة : إن ترن أيها الرجل أنا أقلّ منك مالا وولدا في الدنيا ، فعسى ربي أن يرزقني خيرا من بستانك هذا( وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا ) يعني على جنة الكافر التي قال لها : ما أظن أن تبيد هذه أبدا( حُسْبَانًا مِنَ السَّمَاءِ ) يقول : عذابا من السماء ترمي به رميا ، وتقذف. والحسبان : جمع حُسْبانة ، وهي المرامي.
وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِنَ السَّمَاءِ ) عذابا.
حُدثت عن محمد بن يزيد ، عن جويبر ، عن الضحاك ، قال : عذابا.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : ( وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِنَ السَّمَاءِ ) قال : عذابا ، قال : الحُسبان : قضاء من الله يقضيه.
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قال : الحُسبان : العذاب.
حدثنا الحسن بن محمد ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، في قوله( حُسْبَانًا مِنَ السَّمَاءِ ) قال : عذابا.
وقوله : ( فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا ) يقول عز ذكره : فتصبح جنتك هذه أيها الرجل أرضا ملساء لا شيء فيها ، قد ذهب كل ما فيها من غَرْس ونبت ، وعادت

(18/25)


خرابا بلاقع ، زَلَقا ، لا يثبت في أرضها قدم لاملساسها ، ودروس ما كان نابتا فيها.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : ( فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا ) : أي قد حصد ما فيها فلم يترك فيها شيء.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قال ابن عباس : ( فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا ) قال : مثل الجُرُز.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال ابن زيد ، في قوله : ( فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا ) قال : صعيدا زلقا وصعيدا جُرُزا واحد ليس فيها شيء من النبات.
وقوله : ( أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا ) يقول : أو يصبح ماؤها غائرا ، فوضع الغور وهو مصدر مكان الغائر ، كما قال الشاعر :
تَظَلُّ جِيَادُهُ نَوْحا عَلَيْهِ... مُقَلَّدَةً أعِنَّتَها صُفُونا (1)
بمعنى نائحة ، وكما قال الآخر :
هَرِيقي مِنْ دُمُوعِهِما سَجَاما... ضُباعَ وجَاوِبي نَوْحا قِيامَا (2)
والعرب توحد الغَور مع الجمع والاثنين ، وتذكر مع المذكر والمؤنث ، تقول : ماء غور ، وماءان غَوْر ومياه غَور.
ويعني بقوله : (غَوْرًا) ذاهبا قد غار في الأرض ، فذهب فلا تلحقه الرِّشاء.
__________
(1) البيت لعمرو بن كلثوم فارس تغلب وسيدها ، من معلقته المشهورة ، ورواية الشطر الأول منه في شرح التبريزي والزوزني وجمهرة أشعار العرب طبع القاهرة : " تركنا الخيل عاكفة عليه " . قال الزوزني : الصفون : جمع صافن . وقد صفن الفرس يصفن صفونا : إذا قام على ثلاث ، وثنى سنبكه الرابع . يقول : قتلناه ، وحبسنا خيلنا عليه ، وقد قلدناها أعنتها في حال صفونها عنده . والبيت من شواهد أبي عبيدة في مجاز القرآن ( 1 : 403 ) قال : " أو يصبح ماؤها غورا " أي غائرا . وللعرب قد تصف الفاعل بمصدره ، وكذلك الاثنين والجمع ، على لفظ المصدر قال عمرو بن كلثوم " تظل جياده نوحا عليه " . . . البيت : أي نائحات .
(2) البيت من شواهد أبي عبيدة في مجاز القرآن ( 1 : 404 ) قال بعد الشاهد السابق : وقال باك يبكي هشام بن المغيرة : " هريقي . . . البيت " قال خفقه لعله هشام بن عقبة بن عمارة بن الوليد بن المغيرة المخزومي . ا هـ . والشاهد فيه كالشاهد في البيت الذي قبله ، يريد بقوله " نوحا " . نائحات ، وهذا في المصدر كثير . وضباع مرخم ضباعة : اسم امرأة .

(18/26)


وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا (42) وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنْتَصِرًا (43) هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عُقْبًا (44)

كما حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا ) أي ذاهبا قد غار في الأرض.
وقوله : ( فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا ) يقول : فلن تطيق أن تدرك الماء الذي كان في جنتك بعد غَوْره ، بطلبك إياه.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا (42) }
يقول تعالى ذكره : وأحاط الهلاك والجوائح بثمره ، وهي صنوف ثمار جنته التي كان يقول لها : ( مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا ) فأصبح هذا الكافر صاحب هاتين الجنتين ، يقلب كفيه ظهرا لبطن ، تلهفا وأسفا على ذهاب نفقته التي أنفق في جنته( وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا ) يقول : وهي خالية على نباتها وبيوتها.
وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ ) : أي يصفق( كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا ) متلهفا على ما فاته ، (وَ) هو( وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا ) ويقول : يا ليتني ، يقول : يتمنى هذا الكافر بعد ما أصيب بجنته أنه لم يكن كان أشرك بربه أحدا ، يعني بذلك : هذا الكافر إذا هلك وزالت عنه دنياه وانفرد بعمله ، ودّ أنه لم يكن كفر بالله ولا أشرك به شيئا.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنْتَصِرًا (43) هُنَالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عُقْبًا (44) }
يقول تعالى ذكره : ولم يكن لصاحب هاتين الجنتين فئة ، وهم الجماعة ، كما قال عَجَّاح :
كَمَا يَحُوزُ الفِئَةُ الكَمِيّ (1)
__________
(1) البيت للعجاج من أرجوزة له مطولة ( أراجيز العرب للسيد محمد توفيق البكري طبعة القاهرة سنة 1346 ص 184 ) وقبله : * يحوذهن وله حوذي *
* خوف الخلاص وهو أجنبي *
* كما يحوذ الفئة الكمي *
وقال في شرحه : ويحوذ : يسوق ويطرد . وله حوذي : أي له ما يطردهن به . والكمي : الشجاع . وأجنبي : أي مجانب لهن ، متخوف ، ولا يمكنهن من نفسه . ا هـ . و ( في اللسان : حوذ ) حاذ الإبل يحوذها : إذا حازها وجمعها ليسوقها . وحاذه يحوذه حوذا : غلبه ، وحاذ الحمار أتنه : إذا استولى عليها وجمعها ، وكذلك حازها ، والفئة : الفرقة والجماعة من الناس في الأصل ، والطائفة التي تقيم وراء الجيش ، فإن كل عليهم خوف أو هزيمة التجئوا إليهم .

(18/27)


وبنحو ما قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل ، وإن خالف بعضهم في العبارة عنه عبارتنا ، فإن معناهم نظير معنانا فيه.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى " ح " ، وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قول الله عز وجل : ( وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ ) قال : عشيرته.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ ) : أي جند ينصرونه ، وقوله : (ينصرونه من دون الله) يقول : يمنعونه من عقاب الله وعذاب الله إذا عاقبه وعذّبه.
وقوله( وَمَا كَانَ مُنْتَصِرًا ) يقول : ولم يكن ممتنعا من عذاب الله إذا عذّبه.
كما حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( وَمَا كَانَ مُنْتَصِرًا ) : أي ممتنعا.
وقوله : ( هُنَالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ ) يقول عزّ ذكره : ثم وذلك حين حلّ عذاب الله بصاحب الجنتين في القيامة.
واختلفت القرّاء في قراءة قوله الولاية ، فقرأ بعض أهل المدينة والبصرة والكوفة( هُنَالِكَ الْوَلايَةُ ) بفتح الواو من الولاية ، يعنون بذلك هنالك المُوالاة لله ، كقول الله : ( اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا) وكقوله : (ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ

(18/28)


آمَنُوا )يذهبون بها إلى الوَلاية في الدين. وقرأ ذلك عامَّة قراء الكوفة( هُنالِك الوِلايَةُ ) بكسر الواو : من الملك والسلطان ، من قول القائل : وَلِيتُ عمل كذا ، أو بلدة كذا أليه ولاية.
وأولى القراءتين في ذلك بالصواب ، قراءة من قرأ بكسر الواو ، وذلك أن الله عقب ذلك خبره عن مُلكه وسلطانه ، وأن من أحلّ به نقمته يوم القيامة فلا ناصر له يومئذ ، فإتباع ذلك الخبر عن انفراده بالمملكة والسلطان أولى من الخبر عن الموالاة التي لم يجر لها ذكر ولا معنى ، لقول من قال : لا يسمَّى سلطان الله ولاية ، وإنما يسمى ذلك سلطان البشر ، لأن الوِلاية معناها أنه يلي أمر خلقه منفردا به دون جميع خلقه ، لا أنه يكون أميرا عليهم.
واختلفوا أيضا في قراءة قوله(الحَقِّ) فقرأ ذلك عامَّة قرّاء المدينة والعراق خفضا ، على توجيهه إلى أنه من نعت الله ، وإلى أن معنى الكلام : هنالك الولاية لله الحقّ ألوهيته ، لا الباطل بطول (1) ألوهيته التي يدعونها المشركون بالله آلهة ، وقرأ ذلك بعض أهل البصرة وبعض متأخري الكوفيين( للهِ الحَقُّ ) برفع الحقّ توجيها منهما إلى أنه من نعت الولاية ، ومعناه : هنالك الولاية الحقّ ، لا الباطل لله وحده لا شريك له.
وأولى القراءتين عندي في ذلك بالصواب ، قراءة من قرأه خفضا على أنه من نعت الله ، وأن معناه ما وصفت على قراءة من قرأه كذلك.
وقوله : ( هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا ) يقول عزّ ذكره : خير للمنيبين في العاجل والآجل ثوابا( وَخَيْرٌ عُقْبًا . ) يقول : وخيرهم عاقبة في الآجل إذا صار إليه المطيع له ، العامل بما أمره الله ، والمنتهي عما نهاه الله عنه ، والعقب هو العاقبة ، يقال : عاقبة أمر كذا وعُقْباه وعُقُبه ، وذلك آخره وما يصير إليه منتهاه.
وقد اختلف القرّاء في قراءة ذلك ، فقرأته عامة قرّاء الكوفة(عُقْبا ) بضم العين وتسكين القاف. (2)
__________
(1) لعل كلمة " بطول " هذه مقحمة من قلم الناسخ ، وأن الأصل ، لا الباطل ألوهيته . . . ألخ .
(2) سقط من قلم الناسخ القراءة الثانية ، وهي : عقبا ، بضم العين والقاف .

(18/29)


وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا (45)

والقول في ذلك عندنا ، أنهما قراءتان مستفيضتان في قراءة الأمصار بمعنى واحد ، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنزلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا (45) }
يقول عزّ ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : واضرب لحياة هؤلاء المستكبرين الذين قالوا لك : اطرد عنك هؤلاء الذين يدعون ربهم بالغداة والعشيّ ، إذا نحن جئناك الدنيا منهم مثلا يقول : شبها( كَمَاءٍ أَنزلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ ) يقول : كمطر أنزلناه من السماء( فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ ) يقول : فاختلط بالماء نبات الأرض( فَأَصْبَحَ هَشِيمًا ) يقول : فأصبح نبات الأرض يابسا متفتتا( تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ ) يقول تطيره الرياح وتفرّقه ، يقال منه : ذَرَته الريح تَذْروه ذَرْوًا ، وذَرتْه ذَرْيا ، وأذرته تذْرِيهِ إذراء ، كما قال الشاعر :
فَقُلْتُ لَهُ صَوّبْ ولا تُجْهِدَنَّهُ... فَيُذْرِكَ مِنْ أُخْرَى القَطاةِ فَتزْلَقِ (1)
يقال : أذريت الرجل عن الدابة والبعير : إذا ألقيته عنه.
وقوله : (وكان الله على كل شيء مقتدرا) يقول : وكان الله على تخريب جنة هذا القائل حين دخل جنته : ( مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً ) وإهلاك أموال ذي الأَمْوَالِ الباخلين بها عن حقوقها ، وإزالة دنيا الكافرين به عنهم ، وغير ذلك مما يشاء قادر ، لا يعجزه شيء أراده ، ولا يعْييه أمر أراده.
يقول : فلا يفخر ذو الأموال بكثرة أمواله ، ولا يستكبر على غيره بها ، ولا يغترنّ أهل الدنيا بدنياهم ، فإنما مَثَلُها مثل هذا النبات الذي حَسُن استواؤه بالمطر ، فلم يكن إلا رَيْثَ أن انقطع عنه الماء ، فتناهى نهايته ، عاد يابسا تذروه الرياح ،
__________
(1) البيت لامرئ القيس بن حجر ( مختار الشعر الجاهلي طبعة مصطفى البابي الحلبي بشرح مصطفى السقا ص 125 ) قال في شرحه : فيدرك : يصرعك ويلقك ؛ يقال : أذريت الشيء عن الشيء : إذا والقطاة : مقعد الرديف. يقول : قلت للغلام : صواب الفرس نحو القصد ، وخذ عفوه ، ولا تحمله على سرعة العدو ، فيلقيك من آخر القطاة . ويروى : من أعلى القطاة .

(18/30)


فاسدا ، تنبو عنه أعين الناظرين ، ولكن ليعمل للباقي الذي لا يفنى ، والدائم الذي لا يبيد ولا يتغير.

(18/31)


الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا (46)

القول في تأويل قوله تعالى : { الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلا (46) }
يقول تعالى ذكره : المال والبنون أيها الناس التي يفخر بها عيينة والأقرع ، ويتكبران بها على سلمان وخباب وصهيب ، مما يتزين به في الحياة الدنيا ، وليسا من عداد الآخرة( وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا ) يقول : وما يعمل سلمان وخباب وصهيب من طاعة الله ، ودعائهم ربهم بالغداة والعشيّ يريدون وجهه ، الباقي لهم من الأعمال الصالحة بعد فناء الحياة الدنيا ، خير يا محمد عند ربك ثوابا من المال والبنين التي يفتخر هؤلاء المشركون بها ، التي تفنى ، فلا تبقى لأهلها( وَخَيْرٌ أَمَلا ) يقول : وما يؤمل من ذلك سلمان وصهيب وخباب ، خير مما يؤمل عيينة والأقرع من أموالهما وأولادهما. وهذه الآيات لمن لدن قوله : ( وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ ) إلى هذا الموضع ، ذُكر أنها نزلت في عيينة والأقرع.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا الحسين بن عمرو العنقزي ، قال : ثنا أبي ، قال : ثنا أسباط بن نصر ، عن السدّي ، عن أبي سعيد الأزدي ، وكان قارئ الأزد ، عن أبي الكنود ، عن خباب في قوله : ( وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ ) ثم ذكر القصة التي ذكرناها في سورة الأنعام في قصة عيينة والأقرع ، إلى قوله : ( وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا ) قال : عيينة والأقرع( وَاتَّبَعَ هَوَاهُ ) قال : قال : ثم قال ضرب لهم مثلا رجلين ، ومثل الحياة الدنيا.
واختلف أهل التأويل في المعني بالباقيات الصالحات ، اختلافهم في المعنى بالدعاء الذي وصف جلّ ثناؤه به الذين نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، عن طردهم ، وأمره بالصبر معهم ، فقال بعضهم : هي الصلوات الخمس ، وقال بعضهم : هي ذكر الله بالتسبيح والتقديس والتهليل ، ونحو ذلك ، وقال بعضهم : هي العمل بطاعة الله ، وقال بعضهم : الكلام الطيب.

(18/31)


* ذكر من قال :
هي الصلوات الخمس :
حدثني محمد بن إبراهيم الأنماطي ، قال : ثنا يعقوب بن كاسب ، قال : ثنا عبد الله بن عبد الله الأموي قال : سمعت عبد الله بن يزيد بن هرمز ، يحدّث عن عبيد الله بن عتبة ، عن ابن عباس أنه قال : الباقيات الصالحات : الصلوات الخمس.
حدثني زريق بن إسحاق ، قال : ثنا قبيصة عن سفيان ، عن عبد الله بن مسلم ، عن سعيد بن جبير ، في قوله( وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ ) قال : الصلوات الخمس.
حدثني يحيى بن إبراهيم المسعودي ، قال ثنا أبي ، عن أبيه ، عن جدّه ، عن الأعمش ، عن أبي إسحاق عن عمرو بن شُرَحبيل في هذه الآية( وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ ) قال : هي الصلوات المكتوبات.
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا الثوري ، عن عبد الله بن مسلم ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال : الباقيات الصالحات : الصلوات الخمس.
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا عبد الرحمن ، قال : ثنا سفيان عن الحسن بن عبد الله ، عن إبراهيم ، قال( وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ ) الصلوات الخمس.
* حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا جرير ، عن منصور ، عن أبي إسحاق ، عن أبي ميسرة( وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ ) قال : الصلوات الخمس.
* ذكر من قال : هنّ ذكر الله بالتسبيح والتحميد ونحو ذلك : حدثنا ابن حميد وعبد الله بن أبي زياد ومحمد بن عمارة الأسدي ، قالوا : ثنا عبد الله بن يزيد ، قال : أخبرنا حيوة. قال : أخبرنا أبو عقيل زهرة بن معبد القرشي من بني تيم من رهط أبي بكر الصديق ، أنه سمع الحرث مولى عثمان بن عفان ، يقول : قيل لعثمان : ما الباقيات الصالحات ؟ قال : هنّ لا إله إلا الله ، سبحان الله ، والحمد لله ، والله أكبر ، ولا حول ولا قوّة إلا بالله.
حدثني سعد بن عبد الله بن عبد الحكم ، قال : ثنا أبو زرعة ، قال : ثنا حيوة ، قال : ثنا أبو عقيل زهرة بن معبد ، أنه سمع الحارث مولى عثمان بن عفان يقول : قيل لعثمان بن عفان : ما الباقيات الصالحات ؟ قال : هي لا إله

(18/32)


إلا الله ، وسبحان الله وبحمده ، والله أكبر ، والحمد لله ، ولا حول ولا قوّة إلا بالله.
حدثني ابن عبد الرحيم البرْقي ، قال : ثنا ابن أبي مريم ، قال : ثنا نافع بن يزيد ورشدين بن سعد ، قالا ثنا زهرة بن معبد ، قال : سمعت الحارث مولى عثمان بن عفان يقول : قالوا لعثمان : ما الباقيات الصالحات ؟ فذكر مثله.
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا عبد الرحمن ، قال : ثنا سفيان ، عن عبد الله بن مسلم بن هرمز ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، في قوله : ( وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ ) قال : سبحان الله ، والحمد لله ، ولا إله إلا الله ، والله أكبر.
حدثنا أبو كريب ، قال : ثنا ابن إدريس ، قال : سمعت عبد الملك ، عن عطاء ، عن ابن عباس ، في قوله( وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ ) قال : سبحان الله ، والحمد لله ، ولا إله إلا الله ، والله أكبر.
حدثنا أبو كريب ، قال : ثنا طلق بن غنام ، عن زائدة ، عن عبد الملك ، عن عطاء ، عن ابن عباس ، مثله.
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا عبد الرحمن ، قال : ثنا مالك ، عن عمارة بن عبد الله بن صياد ، عن سعيد بن المسيب ، قال : ( وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ ) : سبحان الله ، والحمد لله ، ولا إله إلا الله ، والله أكبر ، ولا حول ولا قوّة إلا بالله.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، قال : أخبرني عبد الله بن عثمان بن خُشَيم ، عن نافع بن سرجس ، أنه أخبره أنه سأل ابن عمر عن الباقيات الصالحات ، قال : لا إله إلا الله ، والله أكبر ، وسبحان الله ، ولا حول ولا قوّة إلا بالله. قال ابن جريج ، وقال عطاء بن أبي رَباح مثل ذلك.
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا عبد الرحمن ، قال : ثنا سفيان ، عن منصور ، عن مجاهد ، قال : الباقيات الصالحات : 0 سبحان الله ، والحمد لله ، ولا إله إلا الله ، والله أكبر.
حدثنا ابن المثنى ، قال : ثنا محمد بن جعفر ، قال : ثنا شعبة ، عن

(18/33)


منصور ، عن مجاهد ، بنحوه.
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا جرير ، عن منصور ، عن مجاهد ، في قوله( وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ ) قال : سبحان الله ، والحمد لله ، ولا إله إلا الله ، والله أكبر.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : ثني أبو صخر : أن عبد الله بن عبد الرحمن ، مولى سالم بن عبد الله ، حدثه قال : أرسلني سالم بن محمد بن كعب القُرَظي ، فقال : قل له الْقَنِي عند زاوية القبر ، فإن لي إليك حاجة ، قال : فالتقيا ، فسلم أحدهما على الآخر ، ثم قال سالم : ما تعدّ الباقيات الصالحات ؟ فقال : لا إله إلا الله ، والحمد لله ، وسبحان الله ، والله أكبر ، ولا حول ولا قوّة إلا بالله ، فقال له سالم : متى جعلت فيها لا حول ولا قوة إلا بالله ؟ فقال : ما زلت أجعلها ، قال : فراجعه مرّتين أو ثلاثا فلم ينزع ، قال : فأثبت ، قال سالم : أجل ، فأثبت فإن أبا أيوب الأنصاري حدثني أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول : " عُرِجَ بِي إلى السَّماءِ فَأُرِيتُ إبْرَاهِيمَ ، فقالَ : يا جبْريلُ مَنْ هَذَا مَعَكَ ؟ فقالَ : مُحَمَّد ، فَرَحَّبَ بِي وَسَهَّلَ ، ثُمَّ قَالَ : مُرْ أُمَّتَكَ فَلْتُكْثِرْ مِنْ غِرَاسِ الجَنَّةِ ، فإنَّ تُرْبَتَهَا طَيِّبَةٌ ، وأرْضُها وَاسِعَةٌ ، فَقُلْتُ : وَما غِرَاسُ الجَنَّةِ ؟ قالَ : لا حَوْلَ وَلا قُوَّةَ إلا باللهِ " .
وجدت في كتابي عن الحسن بن الصبَّاح البَزَّار ، عن أبي نصر التمار ، عن عبد العزيز بن مسلم ، عن محمد بن عجلان ، عن سعيد المَقُبْري ، عن أبيه ، عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " سُبْحَانَ اللهِ ، والحَمْدُ للهِ ، ولا إلهَ إلا اللهُ ، واللهُ أكْبَرُ مِنَ الباقِياتِ الصَّالِحاتِ " .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن الحسن وقتادة ، في قوله : ( وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ ) قال : لا إله إلا الله ، والله أكبر ، والحمد لله ، وسبحان الله ، هنّ الباقيات الصالحات.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرنا عمرو بن الحارث ، أن دراجا أبا السمح حدثه عن أبي الهيثم ، عن أبي سعيد الخُدريّ ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " اسْتَكْثِرُوا مِنَ الباقِياتِ الصَّالِحاتِ ، قيل : وما هي يا رسول الله ؟ قال : المِلَّة ، قيل : وما هي يا رسول الله ؟ قال : " التَّكْبِيرُ

(18/34)


والتَّهْلِيلُ والتَّسْبِيحُ ، والحَمْدُ ، ولا حَوْلَ وَلا قُوَّةَ إلا باللهِ " .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرني مالك ، عن عمارة بن صياد ، أنه سمع سعيد بن المسيب يقول في الباقيات الصالحات : إنها قول العبد : الله أكبر ، وسبحان الله ، والحمد لله ، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
حدثني ابن البَرْقي ، قال : ثنا ابن أبي مريم ، قال : أخبرنا يحيى بن أيوب ، قال : ثني ابن عَجْلان ، عن عمارة بن صياد ، قال : سألني سعيد بن المسيب ، عن الباقيات الصالحات ، فقلت : الصلاة والصيام ، قال : لم تصب ، فقلت : الزكاة والحج ، فقال : لم تصب ، ولكنهنّ الكلمات الخمس : لا إله إلا الله ، والله أكبر ، وسبحان الله ، والحمد لله ، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
* ذكر من قال : هي العمل بطاعة الله عزّ وجلّ : حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن عطاء الخراساني ، عن ابن عباس( وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلا ) قال : الأعمال الصالحة : سبحان الله ، والحمد لله ، ولا إله إلا الله ، والله أكبر.
حدثني عليّ ، قال : ثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : ( وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ ) قال : هي ذكر الله قول لا إله إلا الله ، والله أكبر ، وسبحان الله ، والحمد لله ، وتبارك الله ، ولا حول ولا قوة إلا بالله ، وأستغفر الله ، وصلى الله على رسول الله والصيام والصلاة والحجّ والصدقة والعتق والجهاد والصلة ، وجميع أعمال الحسنات ، وهنّ الباقيات الصالحات ، التي تبقى لأهلها في الجنة ما دامت السماوات والأرض.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلا ) قال : الأعمال الصالحة.
* ذكر من قال : هي الكلم الطيب : حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : ( وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ ) قال : الكلام الطيب.
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب ، قول من قال : هنّ جميع أعمال الخير ، كالذي رُوي عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس ، لأن ذلك كله من

(18/35)


وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا (47) وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِدًا (48)

الصالحات التي تبقى لصاحبها في الآخرة ، وعليها يجازى ويُثاب ، وإن الله عزّ ذكره لم يخصص من قوله( وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا ) بعضا دون بعض في كتاب ، ولا بخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فإن ظنّ ظانّ أن ذلك مخصوص بالخبر الذي رويناه عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، فإن ذلك بخلاف ما ظن ، وذلك أن الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما ورد بأن قول : سبحان الله ، والحمد لله ، ولا إله إلا الله ، والله أكبر ، هنّ من الباقيات الصالحات ، ولم يقل : هنّ جميع الباقيات الصالحات ، ولا كلّ الباقيات الصالحات ، وجائز أن تكون هذه باقيات صالحات ، وغيرها من أعمال البرّ أيضا باقيات صالحات.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الأرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا (47) وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِدًا (48) }
يقول تعالى ذكره :
( وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ ) عن الأرض ، فنبسُّها بَسًّا ، ونجعلها هباء منبثا( وَتَرَى الأرْضَ بَارِزَةً ) ظاهرة : وظهورها لرأي أعين الناظرين من غير شيء يسترها من جبل ولا شجر هو بروزها.
وبنحو ذلك قال جماعة من أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى " ح " ، وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد( وَتَرَى الأرْضَ بَارِزَةً ) قال : لا خَمْرَ فيها ولا غيابة ولا بناء ، ولا حجر فيها.
حدثني القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : ( وَتَرَى الأرْضَ بَارِزَةً ) ليس عليها بناء ولا شجر.
وقيل : معنى ذلك : وترى الأرض

(18/36)


بارزا أهلها الذين كانوا في بطنها ، فصاروا على ظهرها.
وقوله(وَحَشَرْنَاهُمْ) يقول : جمعناهم إلى موقف الحساب( فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا ) ، يقول : فلم نترك ، ولم نبق منهم تحت الأرض أحدا ، يقال منه : ما غادرت من القوم أحدا ، وما أغدرت منهم أحدا ، ومن أغدرت قول الراجز :
هَلْ لكِ والعارِضُ مِنكِ عائِضُ... في هَجْمَةٍ يُغْدِرُ مِنْها القابِضُ (1)
وقوله : ( وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا ) يقول عزّ ذكره : وعُرض الخلق على ربك يا محمد صفا.
( لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ ) يقول عزّ ذكره : يقال لهم إذ عُرضوا على الله : لقد جئتمونا أيها الناس أحياء كهيئتكهم حين خلقناكم أوَّل مرة ، وحذف يقال من الكلام لمعرفة السامعين بأنه مراد في الكلام.
وقوله : ( بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِدًا ) وهذا الكلام خرج مخرج الخبر عن خطاب الله به الجميع ، والمراد منه الخصوص ، وذلك أنه قد يرد القيامة خلق من الأنبياء والرسل ، والمؤمنين بالله ورسله وبالبعث ، ومعلوم أنه لا يقال يومئذ لمن وردها من أهل التصديق بوعد الله في الدنيا ، وأهل اليقين فيها بقيام الساعة ، بل زعمتم أن لن نجعل لكم البعث بعد الممات ، والحشر إلى القيامة موعدا ، وأن ذلك إنما يقال لمن كان في الدنيا مكذّبا بالبعث وقيام الساعة.
__________
(1) هذان بيتان من مشطور الرجز ، من ثلاثة أبيات أوردها ( اللسان : عرض ) والثالث قبلهما ، وهو * يا ليل أسقاك البريق الوامض *
وهي لأبي محمد الفقعسي قاله يخاطب امرأة خطبها إلى نفسها ، ورغبها في أن تنكحه ، فقال : هل لك رغبة في مئة من الإبل أو أكثر من ذلك لأن الهجمة أولها الأربعون ، إلى ما زدت ، يجعلها لها مهرا . قال : وفيه تقديم وتأخير ، والمعنى هل لك في مئة من الإبل أو أكثر ، يسئر منها قابضها الذي يسوقها ، أي يبقى ، لأنه لا يقدر على سوقها ، لكثرتها وقوتها ، لأنها تفرق عليه . ثم قال والعارض منك عائض ، أي المعطي بذل بضعك أي معطي بدل بضعك عرضا عائض ، أي آخذ عوضا منك بالتزويج ، يكون كفاء لما عرض منك . ويقال عضت أعاض : إذا اعتضت عوضا ، ( بكسر العين في الماضي ) وعضت أعوض ( بضم عين الماضي ) : إذا عوضت عوضا : أي دفعت : فقوله عائض من عضت ( بالكسر ) لا من عضت ( بالضم ) . ومن روى " يغدر " : أراد يترك ، من قولهم غادرت الشيء . قال ابن بري : والذي في شعره : " والعائض منك عائض " : أي والعوض منك عوض ، كما تقول : الهبة منك هبة ، أي لها موقع . ا هـ - قلت : في رواية اللسان لهذا الرجز " يسئر " أي يبقى ، في موضع " يغدر " .

(18/37)


وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا (49)

القول في تأويل قوله تعالى : { وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا (49) }
يقول عزّ ذكره : ووضع الله يومئذ كتاب أعمال عباده في أيديهم ، فأخذ واحد بيمينه وأخذ واحد بشماله( فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ ) يقول عزّ ذكره : فترى المجرمين المشركين بالله مشفقين ، يقول : خائفين وجلين مما فيه مكتوب من أعمالهم السيئة التي عملوها في الدنيا أن يؤاخذوا بها( وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلا أَحْصَاهَا ) يعني أنهم يقولون إذا قرءوا كتابهم ، ورأوا ما قد كُتب عليهم فيه من صغائر ذنوبهم وكبائرها ، نادوا بالويل حين أيقنوا بعذاب الله ، وضجوا مما قد عرفوا من أفعالهم الخبيثة التي قد أحصاها كتابهم ، ولم يقدروا أن ينكروا صحتها .
كما حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله( مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلا أَحْصَاهَا ) اشتكى القوم كما تسمعون الإحصاء ، ولم يشتك أحد ظلما ، فإياكم والمحقَّرات من الذنوب ، فإنها تجتمع على صاحبها حتى تهلكه ، ذُكر لنا أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم كان يضرب لها مثلا يقول كمثل قوم انطلقوا يسيرون حتى نزلوا بفلاة من الأرض ، وحضر صنيع القوم ، فانطلق كلّ رجل يحتطب ، فجعل الرجل يجيء بالعود ، ويجيء الآخر بالعود ، حتى جمعوا سوادا كثيرا وأجَّجوا نارا ، فإن الذنب الصغير ، يجتمع على صاحبه حتى يهلكه ، وقيل : إنه عنى بالصغيرة في هذا الموضوع : الضحك.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني زكريا بن يحيى بن أبي زائدة ، قال : ثنا عبد الله بن داود ، قال : ثنا محمد بن موسى ، عن الزيال بن عمرو ، عن ابن عباس( لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً ) قال : الضحك.
حدثنا أحمد بن حازم ، قال : ثنا أبي ، قال : حدثتني أمي حمادة ابنة محمد ، قالت : سمعت أبي محمد بن عبد الرحمن يقول في هذه الآية في قول

(18/38)


وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآَدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا (50)

الله عزّ وجلّ : ( مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلا أَحْصَاهَا ) قال : الصغيرة : الضحك.
ويعني بقوله : ( مَالِ هَذَا الْكِتَابِ ) : ما شأن هذا الكتاب( لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً ) يقول : لا يبقي صغيرة من ذنوبنا وأعمالنا ولا كبيرة منها( إِلا أَحْصَاهَا ) يقول : إلا حفظها( وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا ) في الدنيا من عمل(حَاضِرًا) في كتابهم ذلك مكتوبا مثبتا ، فجوزوا بالسيئة مثلها ، والحسنة ما الله جازيهم بها( وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا ) يقول : ولا يجازي ربك أحدا يا محمد بغير ما هو أهله ، لا يجازي بالإحسان إلا أهل الإحسان ، ولا بالسيئة إلا أهل السيئة ، وذلك هو العدل.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلا (50) }
يقول تعالى ذكره مذكرًا هؤلاء المشركين حسد إبليس أباهم ومعلمهم ما كان منه من كبره واستكباره عليه حين أمره بالسجود له ، وأنه من العداوة والحسد لهم على مثل الذي كان عليه لأبيهم : (وَ) اذكر يا محمد( وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلا إِبْلِيسَ ) الذي يطيعه هؤلاء المشركون ويتبعون أمره ، ويخالفون أمر الله ، فإنه لم يسجد له استكبارا على الله ، وحسدا لآدم( كَانَ مِنَ الْجِنِّ ).
واختلف أهل التأويل في معنى قوله( كَانَ مِنَ الْجِنِّ ) فقال بعضهم : إنه كان من قبيلة يقال لهم الجنّ. وقال آخرون : بل كان من خزّان الجنة ، فنسب إلى الجنة ، وقال آخرون : بل قيل من الجنّ ، لأنه من الجنّ الذين استجنوا عن أعين بني آدم.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن خلاد بن عطاء ، عن طاوس ، عن ابن عباس قال : كان اسمه قبل أن يركب المعصية عزازيل ، وكان من سكان الأرض ، وكان من أشدّ الملائكة

(18/39)


اجتهادا وأكثرهم علما ، فذلك هو الذي دعاه إلى الكبر ، وكان من حيّ يسمى جنا.
حدثنا أبو كريب ، قال : ثنا عثمان بن سعيد ، عن بشر بن عمارة ، عن أبي روق ، عن الضحاك ، عن ابن عباس ، قال : كان إبليس من حيّ من أحياء الملائكة يقال لهم الجن ، خُلقوا من نار السموم من بين الملائكة ، وكان اسمه الحارث ، قال : وكان خازنا من خزّان الجنة. قال : وخلقت الملائكة من نور غير هذا الحيّ ، قال : وخُلقت الجنّ الذين ذكروا في القرآن من مارج من نار ، وهو لسان النار الذي يكون في طرفها إذا التهبت.
حدثنا ابن المثنى ، قال : ثني شيبان ، قال : ثنا سلام بن مسكين ، عن قتادة ، عن سعيد بن المسيب ، قال : كان إبليس رئيس ملائكة سماء الدنيا.
حدثنا ابن وكيع ، قال : ثنا أبي عن الأعمش ، عن حبيب بن أبي ثابت ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، في قوله : ( إِلا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ ) قال : كان إبليس من خزّان الجنة ، وكان يدبر أمر سماء الدنيا.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قال ابن عباس : كان إبليس من أشراف الملائكة وأكرمهم قبيلة. وكان خازنا على الجنان ، وكان له سلطان السماء الدنيا ، وكان له سلطان الأرض ، وكان فيما قضى الله أنه رأى أن له بذلك شرفا وعظمة على أهل السماء ، فوقع من ذلك في قلبه كبر لا يعلمه إلا الله ، فلما كان عند السجود حين أمره أن يسجد لآدم استخرج الله كبره عند السجود ، فلعنه وأخَّره إلى يوم الدين ، قال : قال ابن عباس : وقوله : ( كَانَ مِنَ الْجِنِّ ) إنما سمي بالجنان أنه كان خازنا عليها ، كما يقال للرجل : مكي ، ومدني ، وكوفي ، وبصري ، قاله ابن جريج.
وقال آخرون : هم سبط من الملائكة قبيلة ، وكان اسم قبيلته الجنّ.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن صالح مولى التوأمة ، وشريك بن أبي نمر أحدهما أو كلاهما ، عن ابن عباس ، قال : إن من الملائكة قبيلة من الجنّ ، وكان إبليس منها ، وكان يسوس ما بين السماء والأرض ، فعصى ، فسخط الله عليه فمسخه شيطانا رجيما ، لعنه الله ممسوخا ، قال : وإذا كانت خطيئة الرجل في كبر فلا ترجه ، وإذا كانت خطيئته في معصية

(18/40)


فارجه ، وكانت خطيئة آدم في معصية ، وخطيئة إبليس في كبر.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : ( وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ ) قبيل من الملائكة يقال لهم الجنّ ، وقال ابن عباس : لو لم يكن من الملائكة لم يؤمر بالسجود ، وكان على خزانة السماء الدنيا ، قال : وكان قتادة يقول : جنّ عن طاعة ربه ، وكان الحسن يقول : ألجأه الله إلى نسبه.
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، في قوله( إِلا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ ) قال : كان من قبيل من الملائكة يقال لهم الجنّ.
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا ابن أبي عديّ ، عن عوف ، عن الحسن ، قال : ما كان إبليس من الملائكة طرفة عين قط ، وإنه لأصل الجنّ ، كما أن آدم عليه السلام أصل الإنس.
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا يحيى بن واضح ، قال : ثنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول : كان إبليس على السماء الدنيا وعلى الأرض وخازن الجنان.
حُدثت عن الحسين بن الفرج ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : ( فَسَجَدُوا إِلا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ ) : كان ابن عباس يقول : إن إبليس كان من أشراف الملائكة وأكرمهم قبيلة ، وكان خازنا على الجنان ، وكان له سلطان السماء الدنيا وسلطان الأرض ، وكان مما سولت له نفسه من قضاء الله أنه رأى أن له بذلك شرفا على أهل السماء ، فوقع من ذلك في قلبه كبر لا يعلمه إلا الله ، فاستخرج الله ذلك الكبر منه حين أمره بالسجود لآدم ، فاستكبر وكان من الكافرين ، فذلك قوله للملائكة : ( إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ ) يعني : ما أسر إبليس في نفسه من الكبر.
وقوله : ( كَانَ مِنَ الْجِنِّ ) كان ابن عباس يقول : قال الله( كَانَ مِنَ الْجِنِّ ) لأنه كان خازنا على الجنان ، كما يقال للرجل : مكيّ ، ومدنيّ ، وبصريّ ، وكوفيّ.

(18/41)


وقال آخرون : كان اسم قبيلة إبليس الجنّ ، وهم سبط من الملائكة يقال لهم الجنّ ، فلذلك قال الله عزّ وجلّ( كَانَ مِنَ الْجِنِّ ) فنسبه إلى قبيلته.
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا يعقوب ، عن جعفر ، عن سعيد ، في قوله( كَانَ مِنَ الْجِنِّ ) قال : من الجنانين الذين يعملون في الجنان.
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا يحيى بن واضح ، قال : ثنا أبو سعيد اليحمدي إسماعيل بن إبراهيم ، قال : ثني سوار بن الجعد اليحمدي ، عن شهر بن حوشب ، قوله : ( مِنَ الْجِنِّ ) قال : كان إبليس من الجن الذين طردتهم الملائكة ، فأسره بعض الملائكة ، فذهب به إلى السماء.
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله( إِلا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ ) قال : كان خازن الجنان فسمي بالجنان.
حدثني نصر بن عبد الرحمن الأودي ، قال : ثنا أحمد بن بشير ، عن سفيان بن أبي المقدام ، عن سعيد بن جبير ، قال : كان إبليس من خزنة الجنة.
وقد بينا القول في ذلك فيما مضى من كتابنا هذا ، وذكرنا اختلاف المختلفين فيه ، فأغنى ذلك عن إعادته في هذا الموضع.
وقوله : ( فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ ) يقول : فخرج عن أمر ربه ، وعدل عنه ومال ، كما قال رؤبة :
يَهْوِينَ في نَجْدٍ وغَوْرًا غائرَا... فَوَاسقا عَنْ قَصْدِها جَوَائرَا (1)
يعني بالفواسق : الإبل المنعدلة عن قصد نجد ، وكذلك الفسق في الدين إنما هو الانعدال عن القصد ، والميل عن الاستقامة ، ويُحكى عن العرب سماعا : فسقت الرطبة من قشرها : إذا خرجت منه ، وفسقت الفأرة : إذا خرجت من جحرها ، وكان بعض أهل العربية من أهل البصرة يقول : إنما قيل : ( فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ ) لأنه مراد به : ففسق عن ردّه أمر الله ، كما تقول العرب : اتخمت عن الطعام ،
__________
(1) هذان بيتان من مشطور الرجز لرؤبة ، أوردها صاحب مجموع أشعار العرب ج 3 في ملحق ديوان رؤبة ص 190 والبيت الثاني في ( اللسان : فسق ) . والشاهد في قوله : فواسقا بمعنى خوارج . وقد استشهد بهما أبو عبيدة في ( مجاز القرآن : 1 : 406 ) قال : " ففسق عن أمر ربه " . جار عنه ، وكفر به ، وقال رؤبة : " يهوين . . . إلخ " ، وما قاله المؤلف شبيه بما قال أبو عبيدة .

(18/42)


بمعنى : اتخمت لما أكلته. وقد بيَّنا القول في ذلك ، وأن معناه : عدل وجار عن أمر الله ، وخرج عنه. وقال بعض أهل العلم بكلام العرب : معنى الفسق : الاتساع. وزعم أن العرب تقول : فسق في النفقة : بمعنى اتسع فيها. قال : وإنما سمي الفاسق فاسقا ، لاتساعه في محارم الله.
وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى " ح " ، وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قول الله تعالى( فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ ) قال : في السجود لآدم.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، في قوله( فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ ) قال : عصى في السجود لآدم.
وقوله : ( أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ ) يقول تعالى ذكره : أفتوالون يا بني آدم من استكبر على أبيكم وحسده ، وكفر نعمتي عليه ، وغره حتى أخرجه من الجنة ونعيم عيشه فيها إلى الأرض وضيق العيش فيها ، وتطيعونه وذريّته من دون الله مع عدواته لكم قديما وحديثا ، وتتركون طاعة ربكم الذي أنعم عليكم وأكرمكم ، بأن أسجد لوالدكم ملائكته ، وأسكنه جناته ، وآتاكم من فواضل نعمه ما لا يحصى عدده ، وذرّية إبليس : الشياطين الذين يغرّون بني آدم. كما حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد( أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي ) قال : ذرّيته : هم الشياطين ، وكان يعدّهم " زلنبور (1) " صاحب الأسواق ويضع رايته في كلّ سوق ما بين السماء والأرض ، و " ثبر " صاحب المصائب ، و " الأعور " صاحب الزنا و " مسوط " صاحب الأخبار ، يأتي بها فيلقيها في أفواه الناس ، ولا يجدون لها أصلا و " داسم " الذي إذا دخل الرجل بيته ولم يسلم ولم يذكر
__________
(1) زلنبور وما عطف عليه من أسماء أولاد إبليس : مذكورة في ( التاج : زلنبور ) ، نقلا عن الأزهري في التهذيب في الخماسي ، والغزالي في الإحياء ، والصاغاني في التكملة .

(18/43)


مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا (51)

الله بصره من المتاع ما لم يرفع ، وإذا أكل ولم يذكر اسم الله أكل معه.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، قال : ثنا حفص بن غياث ، قال : سمعت الأعمش يقول : إذا دخلتُ البيت ولم أسلم ، رأيت مطهرة ، فقلت : ارفعوا ارفعوا ، وخاصمتهم ، ثم أذكر فأقول : داسم داسم.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني أبو معاوية ، عن الأعمش ، عن مجاهد ، قال : هم أربعة ثبر ، وداسم ، وزلنبور ، والأعور ، ومسوط : أحدها.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي ).... الآية ، وهم يتوالدون كما تتوالد بنو آدم ، وهم لكم عدوّ.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : ( أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ ) وهو أبو الجنّ كما آدم أبو الإنس.
وقال : قال الله لإبليس : إني لا أذرأ لآدم ذرّية إلا ذرأت لك مثلها ، فليس من ولد آدم أحد إلا له شيطان قد قرن به.
وقوله : ( بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلا ) يقول عزّ ذكره : بئس البدل للكافرين بالله اتخاذ إبليس وذريته أولياء من دون الله ، وهم لكم عدوّ من تركهم اتخاذ الله وليا باتباعهم أمره ونهيه ، وهو المنعم عليهم وعلى أبيهم آدم من قبلهم ، المتفضّل عليهم من الفواضل ما لا يحصى بدلا.
وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلا ) بئسما استبدلوا بعبادة ربهم إذ أطاعوا إبليس.
القول في تأويل قوله تعالى : { مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا (51) }
يقول عزّ ذكره : ما أشهدت إبليس وذرّيته( خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ ) يقول : ما أحضرتهم ذلك فأستعين بهم على خلقها( وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ ) يقول :

(18/44)


وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُوا شُرَكَائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مَوْبِقًا (52) وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفًا (53)

ولا أشهدت بعضهم أيضا خلق بعض منهم ، فأستعين به على خلقه ، بل تفرّدت بخلق جميع ذلك بغير معين ولا ظهير ، يقول : فكيف اتخذوا عدوّهم أولياء من دوني ، وهم خلق من خلق أمثالهم ، وتركوا عبادتي وأنا المنعم عليهم وعلى أسلافهم ، وخالقهم وخالق من يوالونه من دوني منفردا بذلك من غير معين ولا ظهير.
وقوله : ( وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا ) يقول : وما كنت متخذ من لا يهدي إلى الحقّ ، ولكنه يضلّ ، فمن تبعه يجور به عن قصد السبيل أعوانا وأنصارا ، وهو من قولهم : فلان يعضد فلانا إذا كان يقوّيه ويعينه.
وبنحو ذلك قال بعض أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : ( وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا ) : أي أعوانا.
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، مثله ، وإنما يعني بذلك أن إبليس وذرّيته يضلون بني آدم عن الحقّ ، ولا يهدونهم للرشد ، وقد يحتمل أن يكون عنى بالمضلين الذين هم أتباع على الضلالة ، وأصحاب على غير هدى.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُوا شُرَكَائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مَوْبِقًا (52) وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفًا (53) }
يقول عزّ ذكره ، ( وَيَوْمَ يَقُولُ ) الله عزّ ذكره للمشركين به الآلهة والأنداد( نَادُوا شُرَكَائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ ) يقول لهم : ادعوا الذين كنتم تزعمون أنهم شركائي في العبادة لينصروكم ويمنعوكم مني( فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ ) يقول : فاستغاثوا بهم فلم يغيثوهم( وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مَوْبِقًا )
فاختلف أهل التأويل في معنى ذلك ، فقال بعضهم : معناه : وجعلنا بين هؤلاء المشركين وما كانوا يدعون من دون الله شركاء في الدنيا يومئذ عداوة.

(18/45)


* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عبد الله بن بزيع ، قال : ثنا بشر بن المفضل ، عن عوف ، عن الحسن ، في قول الله : ( وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مَوْبِقًا ) قال : جعل بينهم عداوة يوم القيامة.
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا عثمان بن عمر ، عن عوف ، عن الحسن( وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مَوْبِقًا ) قال : عداوة.
وقال آخرون : معناه : وجعلنا فعلهم ذلك لهم مَهْلِكا.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : ثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : ( وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مَوْبِقًا ) قال : مَهْلِكا.
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، في قوله : (مَوْبِقا) قال : هلاكا.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله( وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مَوْبِقًا ) قال : الموبق : المهلك ، الذي أهلك بعضهم بعضا فيه ، أوبق بعضهم بعضا ، وقرأ( وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا ).
حُدثت عن محمد بن يزيد ، عن جويبر ، عن الضحاك(مَوْبِقا) قال : هلاكا.
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا جرير ، عن منصور ، عن عرفجة ، في قوله( وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مَوْبِقًا ) قال : مهلكا.
وقال آخرون : هو اسم واد في جهنم.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا ابن أبي عديّ ، عن سعيد ، عن قتادة ، عن أبي أيوب ، عن عمرو البِكَالّي : ( وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مَوْبِقًا ) قال : واد عميق فُصِل به بين أهل الضلالة وأهل الهدى ، وأهل الجنة ، وأهل النار.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : ( وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مَوْبِقًا ) ذكر لنا أن عمر البِكَالي حدّث عن عبد الله بن عمرو ، قال : هو واد عميق فُرق به يوم القيامة بين أهل الهدى وأهل الضلالة.
حدثنا أبو كريب ، قال : ثنا عمر بن عبيد ، عن الحجاج بن أرطاة ،

(18/46)


قال : قال مجاهد( وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مَوْبِقًا ) قال : واديا في النار.
حدثنا محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى " ح " ، وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : ( وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مَوْبِقًا ) قال : واديا في جهنم.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله.
حدثني محمد بن سنان القزاز ، قال : ثنا عبد الصمد ، قال : ثنا يزيد بن درهم ، قال : سمعت أنس بن مالك يقول في قول الله عزّ وجلّ( وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مَوْبِقًا ) قال : واد في جهنم من قيح ودم.
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب ، القول الذي ذكرناه عن ابن عباس ، ومن وافقه في تأويل الموبق : أنه المهلك ، وذلك أن العرب تقول في كلامها : قد أوبقت فلانا : إذا أهلكته ، ومنه قول الله عز وجل : ( أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا ) بمعنى : يهلكهن. ويقال للمهلك نفسه : قد وبق فلان فهو يوبق وبقا. ولغة بني عامر : يابق بغير همز. وحُكي عن تميم أنها تقول : ييبق. وقد حُكي وبق يبق وبوقا ، حكاها الكسائي. وكان بعض أهل العلم بكلام العرب من أهل البصرة يقول : الموبق : الوعد ، ويستشهد لقيله ذلك بقول الشاعر :
وحادّ شَرَوْرَى فالستَّارَ فَلَمْ يَدَعْ... تِعارًا لَهُ والوَاديَيْنِ بمَوْبقِ (1)
ويتأوّله بموعد ، وجائز أن يكون ذلك المهلك الذي جعل الله جلّ ثناؤه بين هؤلاء المشركين ، هو الوادي الذي ذكر عن عبد الله بن عمرو ، وجائز أن يكون
__________
(1) البيت في ( اللسان : وبق ) قال : وبق الرجل يبق وبقا ووبوقا ( من باب ضرب ) ووبق ( من باب حسب ) وبقا ، واستوبق هلك . وأوبقه هو . والموبق : مفعل ( بكر العين ) منه ، كالموعد مفعل من وعد يعد . ومنه قوله تعالى : " وجعلنا بينهم موبقا " قال الفراء : يقول جعلنا تواصلهم في الدنيا موبقا : أي مهلكا لهم في الآخرة . وقال ابن الأعرابي : موبقا : أي حاجزا ، وكل حاجز بين شيئين فهو موبق . وقال أبو عبيدة : الموبق : الموعد ، في قوله " وجعلنا بينهم موبقا " واحتج بقوله " وحاد شرورى... " البيت معناه : بموعد. وحاد شرورى : نأى عنها وهي جبل بين العمق والمعدن ، في طريق مكة إلى الكوفة ، بين بني أسد وبني عامر ، والستار ، جبل بالحجاز معروف ، أسفل من النباج ، وتعار : جبل أيضا ، ببلاد قيس .

(18/47)


العداوة التي قالها الحسن.
وقوله : ( وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ ) يقول : وعاين المشركون النار يومئذ( فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا ) يقول : فعلموا أنهم داخلوها.
كما حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، في قوله : ( فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا ) قال : علموا.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرني عمرو بن الحارث ، عن دراج ، عن أبي الهيثم عن أبي سعيد الخدريّ ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أنه قال : " إنَّ الكافرَ يَرَى جَهَنَّمَ فَيَظُنُّ أنَّها مُوَاقعَتُهُ منْ مَسيرَةِ أرْبَعينَ سَنَة " .
وقوله : ( وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفًا ) يقول :
ولم يجدوا عن النار التي رأوا معدلا يعدلون عنها إليه. يقول : لم يجدوا من مواقعتها بدّا ، لأن الله قد حتم عليهم ذلك ، ومن المصرف بمعنى المعدل قول أبي كبير الهذليّ :
أزُهَيْرُ هَلْ عَنْ شَيْبَةٍ مِنْ مَصْرِفِ... أمْ لا خُلُودَ لباذِلٍ مُتَكَلِّفِ (1)
__________
(1) البيت لأبي كبير الهذلي ، وهو في القسم الثاني من ديوان الهذليين طبعة دار الكتب ص 104 مطلع قصيدة له . وهو من شواهد أبي عبيدة في ( مجاز القرآن : 1 : 407 ) قال في تفسير قوله تعالى : " ولم يجدوا عنها مصرفا " : أي معدلا . وقال أبو كبر الهذلي : أزهير . . . إلخ البيت .

(18/48)


وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآَنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا (54)

القول في تأويل قوله تعالى : { وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الإنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلا (54) }
يقول عزّ ذكره : ولقد مثلنا في هذا القرآن للناس من كلّ مثل ، ووعظناهم فيه من كلّ عظة ، واحتججنا عليهم فيه بكل حجة ليتذكَّروا فينيبوا ، ويعتبروا فيتعظوا ، وينزجروا عما هم عليه مقيمون من الشرك بالله وعبادة الأوثان( وَكَانَ الإنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلا ) يقول : وكان الإنسان أكثر شيء مراء وخصومة ، لا ينيب لحقّ ، ولا ينزجر لموعظة.
كما حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : ( وَكَانَ الإنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلا ) قال : الجدل : الخصومة ، خصومة

(18/48)


وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلًا (55)

القوم لأنبيائهم ، وردّهم عليهم ما جاءوا به. وقرأ : ( مَا هَذَا إِلا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ) وقرأ : (يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ ). وقرأ : (حتى تُوَفَّي)... الآية : ( وَلَوْ نزلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ )...الآية. وقرأ : ( وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ ) قال : هم ليس أنت( لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ ).
القول في تأويل قوله تعالى : { وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الأوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلا (55) }
يقول عزّ ذكره : وما منع هؤلاء المشركين يا محمد الإيمان بالله إذ جاءهم الهدى بيان الله : وعلموا صحة ما تدعوهم إليه وحقيقته ، والاستغفار مما هم عليه مقيمون من شركهم ، إلا مجيئهم سنتنا في أمثالهم من الأمم المكذبة رسلها قبلهم ، أو إتيانهم العذاب قُبلا.
واختلف أهل التأويل في تأويل ذلك ، فقال بعضهم : معناه : أو يأتيهم العذاب فجأة.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله : ( أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلا ) قال فجأة.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله.
وقال آخرون : معناه : أو يأتيهم العذاب عيانا.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله( أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلا ) قال : قبلا معاينة ذلك القبل.
وقد اختلف القرّاء في قراءة ذلك ، فقرأته جماعة ذات عدد( أَوْ يَأْتِيَهُمُ

(18/49)


وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا آَيَاتِي وَمَا أُنْذِرُوا هُزُوًا (56)

الْعَذَابُ قُبُلا ) بضم القاف والباء ، بمعنى أنه يأتيهم من العذاب ألوان وضروب ، ووجهوا القُبُل إلى جمع قبيل ، كما يُجمع القتيل القُتُل ، والجديد الجُدُد ، وقرأ جماعة أخرى : " أو يَأتِيَهُمُ العَذَابُ قِبَلا " بكسر القاف وفتع الباء ، . بمعنى أو يأتيهم العذاب عيانا من قولهم : كلمته قِبَلا. وقد بيَّنت القول في ذلك في سورة الأنعام بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَمَا أُنْذِرُوا هُزُوًا (56) }
يقول عزّ ذكره : وما نرسل رسلنا إلا ليبشروا أهل الإيمان والتصديق بالله بجزيل ثوابه في الآخرة ، ولينذروا أهل الكفر به والتكذيب ، عظيم عقابه ، وأليم عذابه ، فينتهوا عن الشرك بالله ، وينزجروا عن الكفر به ومعاصيه( وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ ) يقول : ويخاصم الذين كذّبوا بالله ورسوله بالباطل ، ذلك كقولهم للنبيّ صلى الله عليه وسلم : أخبرنا عن حديث فتية ذهبوا في أوّل الدهر لم يدر ما شأنهم ، وعن الرجل الذي بلغ مشارق الأرض ومغاربها ، وعن الروح ، وما أشبه ذلك مما كانوا يخاصمونه به ، يبتغون إسقاطه ، تعنيتا له صلى الله عليه وسلم ، فقال الله لهم : إنا لسنا نبعث إليكم رسلنا للجدال والخصومات ، وإنما نبعثهم مبشرين أهل الإيمان بالجنة ، ومنذرين أهل الكفر بالنار ، وأنتم تجادلونهم بالباطل طلبا منكم بذلك أن تبطلوا الحقّ الذي جاءكم به رسولي ، وعنى بقوله : ( لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ ) ليبطلوا به الحقّ ويزيلوه ويذهبوا به. يقال منه : دحض الشيء : إذا زال وذهب ، ويقال : هذا مكان دَحْض : أي مُزِل مُزْلِق لا يثبت فيه خفّ ولا حافر ولا قدم ، ومنه قوله الشاعر :
رَدِيتُ ونجَّى اليَشْكُرِيّ حِذَارُهُ... وحادَ كما حادَ البَعيرُ عَن الدَّحْضِ (1)
__________
(1) البيت في ( اللسان : دحض ) وفي التاج وأساس البلاغة ، منسوبا إلى طرفة ، ولا يوجد في شعر الشعراء الستة ( مختار الشعر الجاهلي ) وغيره . وأورد صاحب شعراء النصرانية وصاحب العقد الثمين في الملحق بشعر طرفة مقطعوعة ضادية مطلعها : أبا مُنْذرٍ كانَتْ غَرُورًا صحِيفتي ... ولم أُعْطِكُمْ بالطَّوْعِ مالي ولا عِرْضي
وأغلب الظن أن البيت سقط من هذه المقطوعة ، وإن كان شائعا في كتب الأدب واللغة . وهو من شواهد أبي عبيدة في مجاز القرآن ( 1 : 408 ) قال في تفسير قوله تعالى : لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ : مجازه : ليزيلوا به الحق ، ويذهبوا به . ويقال مكان دحض البيت أي مزل مزلق ، ولا يثبت فيه خف ولا قدم ولا حافر . قال طرفة " رديت ونحبي . . . " .
وفي ( اللسان : دحض ) ، وشاهد الدحض قول طرفة : " رديت . . . " إلخ .

(18/50)


وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآَيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آَذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا (57)

ويروى : ونحَّى ، وأدحضته أنا : إذا أذهبته وأبطلته.
وقوله : ( وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَمَا أُنْذِرُوا هُزُوًا ) يقول : واتخذوا الكافرون بالله حججه التي احتج بها عليهم ، وكتابه الذي أنزله إليهم ، والنذر التي أنذرهم بها سخريا يسخرون بها ، يقولون : (إِنْ هَذَا إِلا أَسَاطِيرُ الأوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا ).
القول في تأويل قوله تعالى : { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا (57) }
يقول عزّ ذكره : وأي الناس أوضع للإعراض والصدّ في غير موضعهما ممن ذكره بآياته وحججه ، فدله بها على سبيل الرشاد ، وهداه بها إلى طريق النجاة ، فأعرض عن آياته وأدلته التي في استدلاله بها الوصول إلى الخلاص من الهلاك( وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ ) يقول : ونسي ما أسلف من الذنوب المهلكة فلم يتب ، ولم ينب.
كما حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : ( وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ ) : أي نسي ما سلف من الذنوب.
وقوله : ( إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ ) يقول تعالى ذكره : إنا جعلنا على قلوب هؤلاء الذين يعرضون عن آيات الله إذا ذكروا

(18/51)


وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا (58)

بها أغطية لئلا يفقهوه ، لأن المعنى أن يفقهوا ما ذكروا به ، وقوله : ( وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا ) يقول : في آذانهم ثقلا لئلا يسمعوه( وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى ) يقول عزّ ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : وَإنْ تَدْعُ يا مُحَمَّد هؤلاء المعرضين عن آيات الله عند التذكير بها إلى الاستقامة على محجة الحق والإيمان بالله ، وما جئتهم به من عند ربك( فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا ) يقول : فلن يستقيموا إذا أبدا على الحقّ ، ولن يؤمنوا بما دعوتهم إليه ، لأن الله قد طبع على قلوبهم ، وسمعهم وأبصارهم.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلا (58) }
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : وربك الساتر يا محمد على ذنوب عباده بعفوه عنهم إذا تابوا منها( ذو الرحمة لو يؤاخذهم بما كسبوا ) هؤلاء المعرضين عن آياته إذا ذكروا بها بما كسبوا من الذنوب والآثام ، ( لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ ) ولكنه لرحمته بخلقه غير فاعل ذلك بهم إلى ميقاتهم وآجالهم ، ( بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ ) يقول : لكن لهم موعد ، وذلك ميقات محلّ عذابهم ، وهو يوم بدر( لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلا ) يقول تعالى ذكره : لن يجد هؤلاء المشركون ، وإن لم يعجل لهم العذاب في الدنيا من دون الموعد الذي جعلته ميقاتا لعذابهم ، ملجأ يلجئون إليه ، ومنجى ينجون معه ، يعني أنهم لا يجدون معقلا يعتقلون به من عذاب الله ، يقال منه : وألت من كذا إلى كذا ، أئل وءولا مثل وعولا ومنه قول الشاعر :
لا وَاءَلَتْ نَفْسُكَ خَلَّيْتَها... للعامِريينَ وَلمْ تُكْلَمِ (1)
يقول : لا نجت ، وقول الأعشى :
وَقَدْ أُخالس رَبَّ البَيْتِ غَفْلَتَهُ... وقَدْ يحاذِر مِنِّي ثَمَّ ما يَئِلُ (2)
وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل.
__________
(1) البيت : من شواهد الفراء في معاني القرآن ( الورقة : 187 ) قال : وقوله : " لن يجدوا من دونه موئلا " : الموئل : المنجى وهو الملجأ والمعنى واحد . والعرب تقول : إنه ليوائل إلى موضعه ، يريدون : يذهب إلى موضعه وحرزه . وقال الشاعر : " لا واءلت نفسك . . . " البيت . يريدون : لا نجت . وفي ( اللسان : وأل ) قال أبو الهيثم : يقال : وأل يئل وألا ووألة ، وواءل يوائل مواءلة ووئالا . وقال الليث : المآل والموئل : الملجأ .
(2) البيت من لامية الأعشى ميمون بن قيس ( ديوانه بشرح الدكتور محمد حسين ص 59 ) قال : خلس الشيء سرقه وأخذه خفية . ما يئل : ما ينجو ، والماضي وأل : أي نجا . يقول : وقد استبى كل عقيلة يحذر عليها صاحبها ويحوطها برعايته ، فلا ينجيه مني الحذر وهو أيضا من شواهد أبي عبيدة في مجاز القرآن ( 1 : 408 ) كالشاهد السابق ، في تفسير قوله تعالى : " لن يجدوا من دونه موئلا " ، قال : وقال الأعشى : " وقد أخالس . . . " البيت . أي لا ينجو .

(18/52)


وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا (59)

* ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى " ح " ، وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : (مَوْئِلا) قال : محرزا.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله.
حدثني عليّ ، قال : ثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : ( لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلا ) : يقول : ملْجأً.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلا ) : أي لن يجدوا من دونه وليا ولا ملْجأً.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : ( لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلا ) قال : ليس من دونه ملجأ يلجئون إليه.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا (59) }
يقول تعالى ذكره : وتلك القرى من عاد وثمود وأصحاب الأيكة أهلكنا أهلها لما ظلموا ، فكفروا بالله وآياته ، ( وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا ) يعني ميقاتا وأجلا حين بلغوه جاءهم عذاب فأهلكناهم به ، يقول : فكذلك جعلنا لهؤلاء المشركين من قومك يا محمد الذين لا يؤمنون بك أبدا موعدا ، إذا جاءهم ذلك

(18/53)


الموعد أهلكناهم سنتنا في الذين خلوا من قبلهم من ضربائهم .
كما حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى " ح " ، وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : ( لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا ) قال : أجلا.
حدثنا القاسم ، قال : ثني الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله.
واختلفت القرّاء في قراءة قوله(لِمَهْلِكِهِمْ) فقرأ ذلك عامَّة قرّاء الحجاز والعراق : " لِمُهْلَكِهِمْ " بضمّ الميم وفتح اللام على توجيه ذلك إلى أنه مصدر من أهلكوا إهلاكا ، وقرأه عاصم : " لِمَهْلَكِهِمْ " بفتح الميم واللام على توجيهه إلى المصدر من هلكوا هلاكا ومهلكا.
وأولى القراءتين بالصواب عندي في ذلك قراءة من قرأه : " لِمُهْلَكِهِمْ " بضمّ الميم وفتح اللام لإجماع الحجة من القرّاء عليه ، واستدلالا بقوله : ( وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ ) فأن يكون المصدر من أهلكنا ، إذ كان قد تقدّم قبله أولى. وقيل : أهلكناهم ، وقد قال قبل : ( وَتِلْكَ الْقُرَى ) ، لأن الهلاك إنما حلّ بأهل القرى ، فعاد إلى المعنى ، وأجرى الكلام عليه دون اللفظ.
وقال بعض نحويي البصرة : قال : ( وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا ) يعني أهلها ، كما قال : ( وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ ) ولم يجئ بلفظ القرى ، ولكن أجرى اللفظ على القوم ، وأجرى اللفظ في القرية عليها إلى قوله( الَّتِي كُنَّا فِيهَا ) ، وقال : (أهْلَكْناهُمْ) ولم يقل : أهلكناها حمله على القوم ، كما قال : جاءت تميم ، وجعل الفعل لبني تميم ، ولم يجعله لتميم ، ولو فعل ذلك لقال : جاء تميم ، وهذا لا يحسن في نحو هذا ، لأنه قد أراد غير تميم في نحو هذا الموضع ، فجعله اسما ، ولم يحتمل إذا اعتل أن يحذف ما قبله كله معنى التاء من جاءت مع بني تميم ، وترك الفعل على ما كان ليعلم أنه قد حذف شيئا قبل تميم ، وقال بعضهم : إنما جاز أن يقال : تلك القرى أهلكناهم ، لأن القرية قامت مقام الأهل ، فجاز أن ترد على الأهل مرة وعليها مرة ، ولا يجوز ذلك في تميم ، لأن القبيلة تعرف به وليس تميم هو القبيلة ، وإنما عرفت القبيلة به ، ولو كانت القبيلة قد سميت بالرجل

(18/54)


وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا (60)

لجرت عليه ، كما تقول : وقعت في هود ، تريد في سورة هود ، وليس هود اسما للسورة ، وإنما عرفت السورة به ، فلو سميت السورة بهود لم يجر ، فقلت : وقعت في هود يا هذا ، فلم يجر ، وكذلك لو سمى بني تميم تميما لقيل : هذه تميم قد أقبلت ، فتأويل الكلام : وتلك القرى أهلكناهم لما ظلموا ، وجعلنا لإهلاكهم موعدا.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا (60) }
يقول عز ذكره لنبيه صلى الله عليه وسلم : واذكر يا محمد إذ قال موسى بن عمران لفتاه يوشع : ( لا أَبْرَحُ ) يقول : لا أزال أسير( حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ ) .
كما حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : ( لا أَبْرَحُ ) قال : لا أنتهي ، وقيل : عنى بقوله : ( مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ ) اجتماع بحر فارس والروم ، والمجمع : مصدر من قولهم : جمع يجمع.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : ( حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ ) والبحران : بحر فارس وبحر الروم ، وبحر الروم مما يلي المغرب ، وبحر فارس مما يلي المشرق.
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، قوله : ( مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ ) قال : بحر فارس ، وبحر الروم.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد( مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ ) قال : بحر الروم ، وبحر فارس ، أحدهما قِبَل المشرق ، والآخر قِبَل المغرب.
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قال : ( مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ ). (1)
__________
(1) بياض بالأصل ، وفي الدر عن ابن عباس ، " تفسير مجمع البحرين : بملتقى البحرين " .

(18/55)


حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا يحيى بن الضريس ، قال : ثنا أبو معشر ، عن محمد بن كعب ، في قوله : ( لا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ ) قال : طنجة.
وقوله : ( أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا ) يقول : أو أسير زمانا ودهرا ، وهو واحد ، ويجمع كثيره وقليله : أحقاب وقد تقول العرب : كنت عنده حقبة من الدهر : ويجمعونها حُقبا. وكان بعض أهل العربية يوجه تأويل قوله( لا أَبْرَحُ ) : أي لا أزول ، ويستشهد لقوله ذلك ببيت الفرزدق :
فَما بَرِحُوا حتى تَهادَتْ نِساؤُهُمْ... ببطْحَاءِ ذِي قارٍ عِيابَ اللَّطائِمِ (1)
يقول : ما زالوا.
وذكر بعض أهل العلم بكلام العرب ، أن الحقب في لغة قيس : سنة ، فأما أهل التأويل فإنهم يقولون في ذلك ما أنا ذاكره ، وهو أنهم اختلفوا فيه ، فقال بعضهم : هو ثمانون سنة.
* ذكر من قال ذلك : حُدثت عن هشيم ، قال : ثنا أبو بلج ، عن عمرو بن ميمون ، عن عبد الله بن عمرو ، قال : الحقب : ثمانون سنة.
وقال آخرون : هو سبعون سنة.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد( أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا ) قال : سبعين خريفا.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله.
وقال آخرون في ذلك ، بنحو الذي قلنا.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : ثنا أبو صالح ، قال : ثني
__________
(1) البيت في ديوان الفرزدق طبعة الصاوي ص 773 من مقطوعة يمدح بها عبد الله بن عبد الأعلى الشيباني ، عدتها تسعة أبيات . والواو في برحوا عائدة على بني تميم الذين فخر بأعمالهم في يوم ذي قار ؛ والعياب : جمع عيبة ، وهي الحقيبة ، اللطائم : جمع لطيمة ، وهي الإبل يحمل عليها البر والطيب خاصة . والبيت شاهد على أن بعض أهل العربية يوجه تأويل قوله ( لا أبرح ) أي لا أزال .

(18/56)


فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا (61)

معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : ( أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا ) قال : دهرا.
حدثنا أحمد بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، في قوله(حُقُبا) قال : الحقب : زمان.
حدثنا يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : ( أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا ) قال : الحقب : الزمان.
القول في تأويل قوله تعالى : { فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا (61) }
يعني تعالى ذكره : فلما بلغ موسى وفتاه مجمع البحرين ، كما حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله( مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا ) قال : بين البحرين.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله.
وقوله : ( نَسِيَا حُوتَهُمَا ) يعني بقوله : نسيا : تركا.
كما حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد( نَسِيَا حُوتَهُمَا ) قال : أضلاه.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، قال : أضلاه.
قال بعض أهل العربية : إن الحوت كان مع يوشع ، وهو الذي نسيه ، فأضيف النسيان إليهما ، كما قال( يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ ) وإنما يخرج من الملح دون العذب. (1)
وإنما جاز عندي أن يقال : (نَسِيا) لأنهما كانا جميعا تزوّداه لسفرهما ، فكان حمل أحدهما ذلك مضافا إلى أنه حمل منهما ، كما يقال : خرج القوم من موضع
__________
(1) هذا كلام الفراء في معاني القرآن ( مصورة الجامعة 24059 الورقة 189 ) .

(18/57)


كذا ، وحملوا معهم كذا من الزاد ، وإنما حمله أحدهما ولكنه لما كان ذلك عن رأيهم وأمرهم أضيف ذلك إلى جميعهم ، فكذلك إذا نسيه حامله في موضع قيل : نسي القوم زادهم ، فأضيف ذلك إلى الجميع بنسيان حامله ذلك ، فيجرى الكلام على الجميع ، والفعل من واحد ، فكذلك ذلك في قوله : ( نَسِيَا حُوتَهُمَا ) لأن الله عزّ ذكره خاطب العرب بلغتها ، وما يتعارفونه بينهم من الكلام.
وأما قوله : ( يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ ) فإن القول في ذلك عندنا بخلاف ما قال فيه ، وسنبينه إن شاء الله تعالى إذا انتهينا إليه.
وأما قوله : ( فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا ) فإنه يعني أن الحوت اتخذ طريقه الذي سلكه في البحر سربا.
كما حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد( فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا ) قال : الحوت اتخذ. ويعني بالسرب : المسلك والمذهب ، يسرب فيه : يذهب فيه ويسلكه.
ثم اختلف أهل العلم في صفة اتخاذه سبيله في البحر سربا ، فقال بعضهم : صار طريقه الذي يسلك فيه كالجحر.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قال ابن عباس ، قوله(سَرَبا) قال : أثره كأنه جحر.
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، قال : ثني محمد بن إسحاق ، عن الزهري ، عن عبيد الله بن عبد الله عن ابن عباس ، عن أبيّ بن كعب ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين ذكر حديث ذلك : " ما انجابَ ماءٌ مُنْذُ كانَ النَّاسُ غيرُهُ ثَبَتَ مَكانُ الحُوتِ الَّذِي فِيهِ (1)
فانْجابَ كالكُوّةِ حتى رَجَعَ إلَيْهِ مُوسَى ، فَرأى مَسْلَكَهُ ، فقالَ : ذلك ما كُنَّا نَبْغي " .
حدثنا أبو كريب ، قال : ثنا ابن عطية ، قال : ثنا عمرو بن ثابت ، عن أبيه ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، في قوله( فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ
__________
(1) كذا في الأصل ، والذي في الدر هكذا : غير بيت ماء كان الحوت دخل منه . . . إلخ . وفي تفسير ابن كثير ، غير مسير مكان الحوت إلخ .

(18/58)


سَرَبًا ) قال : جاء فرأى أثر جناحيه في الطين حين وقع في الماء ، قال ابن عباس( فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا ) وحلق بيده. (1)
وقال آخرون : بل صار طريقه في البحر ماء جامدا.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قال : سرب من الجرّ (2) حتى أفضى إلى البحر ، ثم سلك ، فجعل لا يسلك فيه طريقا إلا صار ماء جامدا.
وقال آخرون : بل صار طريقه في البحر حجرا.
* ذكر من قال ذلك : - حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قال : حمل الحوت لا يمسّ شيئا من البحر إلا يبس حتى يكون صخرة.
وقال آخرون : بل إنما اتخذ سبيله سربا في البرّ إلى الماء ، حتى وصل إليه لا في البحر.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : ( فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا ) قال : قال : حشر الحوت في البطحاء بعد موته حين أحياه الله ، قال ابن زيد ، وأخبرني أبو شجاع أنه رآه قال : أتيت به فإذا هو شقة حوت وعين واحدة ، وشق آخر ليس فيه شيء.
والصواب من القول في ذلك أن يقال كما قال الله عز وجل : واتخذ الحوت طريقه في البحر سربا. وجائز أن يكون ذلك السرب كان بانجياب عن الأرض ، وجائز أن يكون كان بجمود الماء ، وجائز أن يكون كان بتحوله حجرا.
وأصح الأقوال فيه ما رُوي الخبر به عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي ذكرنا عن أبيّ عنه.
__________
(1) في ( البخاري : كتاب التفسير ، من رواية سعيد بن جبير ) : وحلق بين إبهاميه واللتين تليانهما .
(2) لعل المراد بالجر هنا : الوهدة من الأرض ، كما في ( اللسان : جر ) .

(18/59)


فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آَتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا (62)

القول في تأويل قوله تعالى : { فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا (62) }

(18/59)


قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا (63)

يقول تعالى ذكره : ( فَلَمَّا جَاوَزَا ) موسى وفتاه مجمع البحرين ، (قال) موسى(لفتاه) يوشع( آتِنَا غَدَاءَنَا ) يقول : جئنا بغدائنا وأعطناه ، وقال : آتنا غداءنا ، كما يقال : أتى الغداء وأتيته ، مثل ذهب وأذهبته ، ( لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا ) يقول : لقد لقينا من سفرنا هذا عناء وتعبا ، وقال ذلك موسى ، فيما ذُكر ، بعد ما جاوز الصخرة ، حين ألقي عليه الجوع ليتذكر الحوت ، ويرجع إلى موضع مطلبه.
القول في تأويل قوله تعالى : { قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا (63) }
يقول تعالى ذكره : قال فتى موسى لموسى حين قال له : آتنا غداءنا لنطعم : أرأيت إذا أوينا إلى الصخرة فإني نسيت الحوت هنالك( وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلا الشَّيْطَانُ ) يقول : وما أنساني الحوت إلا الشيطان( أَنْ أَذْكُرَهُ ) فأن في موضع نصب ردّا على الحوت ، لأن معنى الكلام : وما أنساني أن أذكر الحوت إلا الشيطان سبق الحوت إلى الفعل ، وردّ عليه قوله( أَنْ أَذْكُرَهُ ) وقد ذكر أن ذلك في مصحف عبد الله : وما أنسانيه أن أذكره إلا الشيطان.
حدثني بذلك بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، حدثني العباس بن الوليد قال : سمعت محمد بن معقل ، يحدّث عن أبيه ، أن الصخرة التي أوى إليها موسى هي الصخرة التي دون نهر الذئب (1) على الطريق( وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا ) يعجب منه.
كما حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : ( فِي الْبَحْرِ عَجَبًا ) قال : موسى يعجب من أثر الحوت في البحر ودوراته التي غاب فيها ، فوجد عندها خضرا.
__________
(1) في ( عرائس المجالس للثعلبي المفسر ، طبعة الحلبي ص 218 ) : دون نهر الزيت .

(18/60)


قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آَثَارِهِمَا قَصَصًا (64) فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آَتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا (65)

حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله.
حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، في قوله : ( وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا ) فكان موسى لما اتخذ سبيله في البحر عجبا ، يعجب من سرب الحوت.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : ( وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا ) قال : عجب والله حوت كان يوكل منه أدهرا ، أيّ شيء أعجب من حوت كان دهرا من الدهور يؤكل منه ، ثم صار حيا حتى حشر في البحر.
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قال : جعل الحوت لا يمسّ شيئا في البحر إلا يبس حتى يكون صخرة ، فجعل نبيّ الله صلى الله عليه وسلم يعجب من ذلك.
حدثنا أبو كريب ، قال : ثنا الحسن بن عطية ، قال : ثنا عمرو بن ثابت ، عن أبيه ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس( وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا ) قال : يعني كان سرب الحوت في البحر لموسى عجبا.
القول في تأويل قوله تعالى : { قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا (64) فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا (65) }
يقول تعالى ذكره : ف(قال) موسى لفتاه(ذلك) يعني بذلك : نسيانك الحوت( مَا كُنَّا نَبْغِ ) يقول : الذي كنا نلتمس ونطلب ، لأن موسى كان قيل له صاحبك الذي تريده حيث تنسى الحوت.
كما حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : ( ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ ) قال موسى : فذلك حين أخبرت أني واجد خضرا حيث يفوتني الحوت.

(18/61)


حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله ، إلا أنه قال : حيث يفارقني الحوت.
وقوله : ( فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا ) يقول : فرجعا في الطريق الذي كانا قطعاه ناكصين على أدبارهما يمصان آثارهما التي كانا سلكاهما.
وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك : حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : (قَصصًا) قال : اتبع موسى وفتاه أثر الحوت ، فشقا البحر راجعين.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، قوله : ( فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا ) قال : اتباع موسى وفتاه أثر الحوت بشقّ البحر ، وموسى وفتاه راجعان وموسى يعجب من أثر الحوت في البحر ، ودوراته التي غاب فيها.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قال : رجعا عودهما على بدئهما( فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا )
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، قال : ثني محمد بن إسحاق ، عن الزهري ، عن عبيد الله بن عبد الله عن ابن عباس ، عن أبيّ بن كعب ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله : ( ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا ) : " أيْ يَقُصَّانِ آثارَهما حتى انْتَهَيا إلى مَدْخَلِ الحوُت " .
وقوله : ( فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا ) يقول : وهبنا له رحمة من عندنا( وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا ) يقول : وعلمناه من عندنا أيضا علما.
كما حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا ) : أي من عندنا علما. وكان سبب سفر موسى صلى الله عليه وسلم وفتاه ، ولقائه هذا العالم الذي ذكره الله في هذا الموضع فيما ذكر ، أن موسى سئل : هل في الأرض ، أعلم منك ؟ فقال : لا أو حدّثته نفسه بذلك ، فكره ذلك له ، فأراد الله تعريفه أن من عباده في الأرض من هو أعلم منه ،

(18/62)


وأنه لم يكن له أن يحتم على ما لا علم له به ، ولكن كان ينبغي له أن يكل ذلك إلى عالمه.
وقال آخرون : بل كان سبب ذلك أنه سأل الله جلّ ثناؤه أن يدله على عالم يزداد من علمه إلى علم نفسه.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا يعقوب ، عن هارون بن عنترة ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قال " : سأل موسى ربه وقال : ربّ أيّ عبادك أحبّ إليك ؟ قال : الذي يذكرني ولا ينساني ، قال : فأيّ عبادك أقضي ؟ قال : الذي يقضي بالحقّ ولا يتبع الهوى ، قال : أي ربّ أيّ عبادك أعلم ؟ قال : الذي يبتغي علم الناس إلى علم نفسه ، عسى أن يصيب كلمة تهديه إلى هدى ، أو تردّه عن رَدى ، قال : ربّ فهل في الأرض أحد ؟ (1) قال : نعم ، قال : رب ، فمن هو ؟ قال : الخضر ، قال : وأين أطلبه ؟
قال : على الساحل عند الصخرة التي ينفلت عندها الحوت ، قال : فخرج موسى يطلبه ، حتى كان ما ذكر الله ، وانتهى إليه موسى عند الصخرة ، فسلم كلّ واحد منهما على صاحبه ، فقال له موسى : إني أريد أن تستصحبني ، قال : إنك لن تطيق صحبتي ، قال : بلى ، قال : فإن صحبتني( فَلا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا قَالَ لا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلامًا فَقَتَلَهُ قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا )...إلى قوله : ( لاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا ) قال : فكان قول موسى في الجدار لنفسه ، ولطلب شيء من الدنيا ، وكان قوله في السفينة وفي الغلام لله ، ( قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا ) فأخبره بما قال أما السفينة وأما الغلام وأما الجدار ، قال : فسار به في البحر حتى انتهى إلى مجمع البحور ، وليس في الأرض مكان أكثر ماء منه ، قال : وبعث ربك الخُطَّاف فجعل يستقي منه بمنقاره ، فقيل لموسى : كم ترى هذا الخطاف رَزَأَ (2) من هذا الماء ؟ قال : ما أقلّ ما رَزَأ ، قال : يا موسى فإن علمي وعلمك في علم الله كقدر ما استقى هذا
__________
(1) أي أعلم ، فتنبه .
(2) رزأ ، أصاب أو نقص .

(18/63)


الخطاف من هذا الماء ، وكان موسى قد حدّث نفسه أنه ليس أحد أعلم منه ، أو تكلم به ، فمن ثَم أمِرَ أن يأتي الخضر.
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن أبي إسحاق ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال : خطب موسى بني إسرائيل ، فقال : ما أحد أعلم بالله وبأمره مني ، فأوحى الله إليه أن يأتي هذا الرجل.
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة أنه قيل له : إن آية لقيك إياه أن تنسى بعض متاعك ، فخرج هو وفتاه يوشع بن نون ، وتزودا حوتا مملوحا ، حتى إذا كانا حيث شاء الله ، ردّ الله إلى الحوت روحه ، فسرب في البحر ، فاتخذ الحوت طريقه سربا في البحر ، فسرب فيه( فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا )... حتى بلغ( وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا ) فكان موسى اتخذ سبيله في البحر عجبا ، فكان يعجب من سرب الحوت.
حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن أبي إسحاق ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : لما اقتص موسى أثر الحوت انتهى إلى رجل ، راقد قد سجى عليه ثوبه فسلم عليه موسى فكشف الرجل عن وجهه الثوب وردّ عليه السلام وقال : من أنت ؟ قال : موسى ، قال : صاحب بني إسرائيل ؟ قال : نعم ، قال : أوَما كان لك في بني إسرائيل شغل ؟ قال : بلى ، ولكني أمرت أن آتيك وأصحبك ، قال : إنك لن تستطيع معي صبرا ، كما قصّ الله ، (حتى) بلغ فلما( رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا ) صاحب موسى( قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا ) يقول : نكرا( قَالَ لا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلامًا فَقَتَلَهُ قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ ).
حدثنا أبو كريب ، قال : ثنا يحيى بن آدم ، قال : ثنا سفيان ، عن عمرو بن دينار ، عن سعيد بن جبير ، قال : قلت لابن عباس : إن نوفا يزعم أن الخضر ليس بصاحب موسى ، فقال : كذب عدوّ الله. حدثنا أبيّ بن كعب ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال : " إنَّ مُوسَى قامَ في بَنِي إسْرَائِيلَ خَطِيبا فَقِيلَ : أيُّ

(18/64)


النَّاس أعْلَمُ ؟ فَقالَ : أنا ، فعَتَبَ اللهُ عَلَيْهِ حِينَ لَمْ يَرُدَّ العِلْمَ إلَيْهِ ، فقالَ : بَلَى عَبْدٌ لي عِنْدَ مَجْمَعِ البَحْرَيْنِ ، فَقالَ : يا رَبّ كَيْفَ بِهِ ؟ فَقِيلَ : تَأْخُذُ حُوتا ، فَتَجْعَلُهُ فِي مِكْتَلٍ ، ثُمَّ قالَ لِفَتاهُ : إذَا فَقَدْتَ هَذَا الحُوتَ فَأَخْبِرْنِي ، فانْطَلَقَا يَمْشيانِ عَلى ساحِلِ البَحْرِ حتى أتَيا صَخْرَةً ، فَرَقَدَ مُوسَى ، فاضْطَرَبَ الحُوتُ فِي المِكْتَلِ ، فَخَرَجَ فَوَقَعَ فِي البَحْرِ ، فأمْسَكَ اللهُ عَنْهُ جرْيَةَ المَاءِ ، فَصَارَ مِثْلَ الطَّاقِ ، فَصَارَ للْحُوتِ سَرَبا وكانَ لَهُما عَجَبا ، ثُمَّ انْطَلَقا ، فَلَمَّا كانَ حِينَ الغَدِ ، قالَ مُوسَى لِفَتاهُ : آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا ، قال : وَلمْ يَجِدْ مُوسَى النَّصَبَ حتى جاوَزَ حَيْثُ أمَرَهُ اللهُ قالَ : فَقالَ : أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا قال : فقال : ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا.
قال : يَقُصَّانِ آثارَهما ، قال : فآتيَا الصَّخْرَةَ ، فإذَا رَجُلٌ نائمٌ مُسَجًى بِثَوْبِهِ ، فَسَلَّمَ عَلَيْهِ مُوسَى ، فَقالَ : وأنَّي بأرْضِنَا السَّلامُ ؟ فَقالَ : أنا مُوسَى ، قال : مُوسَى بَنِي إسْرائِيلَ ؟ قالَ : نَعَمْ ، قالَ : يا مُوسَى ، إنّي عَلى عِلْمٍ مِنْ عِلْمِ الله ؛ عَلَّمَنِيهِ اللهُ لا تعْلَمُهُ ، وأنْتَ عَلى عِلْمٍ من عِلْمِهِ عَلَّمَكَهُ لا أعْلَمُهُ ، قالَ : فإنّي أتَّبِعُكَ عَلى أنْ تُعَلِّمَنِي مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا ، قال : فإنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسألْنِي عَنْ شَيْءٍ حتى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا ، فانْطَلَقا يَمْشِيان عَلى السَّاحِل ، فَعُرِفَ الخَضِرُ ، فَحُمِلَ بِغَيْرِ نَوْلٍ ، فَجَاءَ عُصْفُورٌ ، فَوَقَعَ عَلى حَرْفِها فنَقَرَ ، أو فَنَقَر فِي المَاءِ ، فَقالَ الخَضِرُ لِمُوسَى : ما نَقَصَ عِلْمِي وَعِلْمُكَ مِنْ عِلْمِ اللهِ إلا مِقْدَارَ ما نَقَرَ أوْ نَقَصَ هَذَا العُصْفُورُ مِنَ البَحْرِ " . أبو جعفر الطبري يشكّ ، وهو في كتابه نَقَر ، قال : " فَبَيْنَما هُوَ إذْ لَمْ يَفْجَأهُ مُوسَى إلا وَهُوَ يَتِدُ وَتدًا أوْ يَنزعُ تَخْتا مِنْها ، فَقالَ لَهُ مُوسَى : حُمِلْنا بغَيرِ نَوْلٍ وتخْرِقُها لِتُغْرِقَ أهْلَها ؟ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إمْرًا ، قال : ألَمْ أقُل إنَّكَ لَنْ تَسْتطَيعَ مَعِي صَبْرًا ، قالَ : لا تُؤَاخِذْني بِمَا نَسيتُ ، قالَ : وكانَتِ الأوَلى منْ مُوسَى نِسْيانا ، قالَ : ثُمَّ خَرَجا فانْطَلَقا يَمْشِيانِ ، فَأبْصَرَا غُلاما يَلْعَبُ مَعَ الغِلْمَانِ ، فَأخَذَ برأْسه فَقَتَلَهُ ، فَقالَ لَهُ مُوسَى : أقَتَلْتَ نَفْسا زَكِيَّهً بِغَيْرِ نَفْسٍ ، لَقَدْ جِئْتَ شيئًا نُكْرًا ، قالَ : ألَمْ أقُلْ لَك إنَّكَ لَنْ تسْتَطِيعَ مَعِي صَبرًا ؟ قال : إنْ سألْتُكُ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَها فَلا تُصَاحِبْي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنّي

(18/65)


عُذْرًا. قالَ : فانْطَلَقا حتى إذَا أتَيا أهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَما أهْلَها ، فَلَم يَجِدَا أحَدًا يُطْعِمُهُمْ ولا يَسْقِيهِمْ ، فَوَجَدَا فِيها جِدَارًا يُرِيدُ أن يَنْقَضّ ، فأقامَهُ بِيَدِهِ ، قالَ : مَسَحَه بِيَدِهِ ، فَقَالَ لَهُ مُوسَى : لَمْ يُضَيِّفُونا وَلمْ يُنزلُونا ، لَوْ شِئْتَ لاتَّخَذْتَ عَلَيْه أجْرًا ، قالَ : هَذَا فِراقُ بَيْنِي وَبَيْنك ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لَوَدِدْتُ أنَّهُ كانَ صَبَرَ حتى يَقُصَّ عَلَيْنا قَصَصهُم " .
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، قال : ثنا ابن إسحاق ، عن الحسن بن عمارة ، عن الحكم بن عتيبة ، عن سعيد بن جبير ، قال : جلست فأسْنَدَ ابن عباس وعنده نفر من أهل الكتاب ، فقال بعضهم : يا أبا العباس ، إن نوفا ابن امرأة كعب يزعم عن كعب ، أن موسى النبيّ الذي طلب العالم ، إنما هو موسى بن ميشا ، قال سعيد ، قال ابن عباس : أنوف يقول هذا ؟ قال سعيد : فقلت له نعم ، أنا سمعت نوفا يقول ذلك ، قال : أنت سمعته يا سعيد ؟ قال : قلت : نعم ، قال : كذب نوف ، ثم قال ابن عباس : حدثني أبيّ بن كعب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إنَّ مُوسَى هُوَ نَبِي بَنِي إسْرَائِيلَ سألَ رَبَّهُ فَقالَ : أيْ رَبّ إنْ كانَ في عِبادِكَ أحَدٌ هُوَ أعْلَمُ مِنِّي فادْلُلْنِي عَلَيْهِ ، فقَالَ لَهُ : نَعَمْ فِي عِبادِي مَنْ هُوَ أعْلَمُ مِنْكَ ، ثُمَّ نَعَتَ لَهُ مَكانَهُ ، وأذنَ لَهُ فَي لُقِيِّهِ ، فَخَرَجَ مُوسَى مَعَهُ فَتاه وَمَعَه ، حُوتٌ مَلِيحٌ ، وَقَدْ قِيلَ لَهُ : إذَا حَيِيَ هَذَا الحُوتُ فِي مَكان فصاحبُك هُنالكَ وَقَدْ أدْرَكْتَ حاجَتَكَ ، فخَرَجَ مُوسَى وَمَعَهُ فَتَاهُ ، وَمَعَهُ ذلكَ الحُوتُ يَحْمِلانِهِ ، فَسارَ حتى جَهدَهُ السَّيْرُ ، وانْتَهَى إلى الصَّخْرَةِ وَإلى ذلكَ المَاءِ ، ماء الحَياةِ ، مَنْ شَرِبَ مِنْهُ خَلَد. ولا يُقارِبُهُ شَيْءٌ مَيِّتٌ إلا حَييَ ، فَلَمَّا نزلا وَمَسَّ الحُوتَ المَاءُ حَيِيَ ، فاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي البَحْرِ سَرَبا ، فانْطَلَقا ، فَلَمَّا جاوَزَا مُنْقَلَبَهُ قالَ مُوسَى : آتنا غَدَاءَنا لقد لَقِينا مِنْ سَفَرِنا هَذَا نَصَبا ، قالَ الفَتى وَذَكَرَ : أرَأيْتَ إذْ أوَيْنَا إلى الصَّخْرَةِ فإنّي نَسِيتُ الحُوتَ وَما أنْسانِيهُ إلا الشَّيْطانُ أنْ أذْكُرَهُ واتَّخَذَ سَبِيلَه فِي البَحْرِ عَجَبا " قال ابن عباس : فظهر موسى على الصخرة حين انتهيا إليها ، فإذا رجل متلفف في كساء له ، فسلم موسى ، فردّ عليه العالم ، ثم قال له : وما جاء بك ؟ إن كان لك في قومك لشغل ؟ قال له موسى : جئتك لتعلمني مما علمت رشدا ، ( قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا ) ، وكان رجلا يعلم علم الغيب قد علِّم ذلك ، فقال موسى : بلى قال :

(18/66)


( وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا ) : أي إنما تعرف ظاهر ما ترى من العدل ، ولم تُحط من علم الغيب بما أعلم( قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا ) وإن رأيت ما يخالفني ، قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ ) وإن أنكرته( حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا ) فانطلقا يمشيان على ساحل البحر ، يتعرّضان الناس ، يلتمسان من يحملهما ، حتى مرّت بهما سفينة جديدة وثيقة لم يمرّ بهما من السفن شيء أحسن ولا أجمل ولا أوثق منها ، فسألا أهلها أن يحملوهما ، فحملوهما ، فلما اطمأنا فيها ، ولجت بهما مع أهلها ، أخرج منقارا له ومطرقة ، ثم عمد إلى ناحية منها فضرب فيها بالمنقار حتى خرقها ، ثم أخذ لوحا فطبقه عليها ، ثم جلس عليها يرقعها. قال له موسى ورأى أمرا فظع به : ( أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا قَالَ لا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ ) : أي ما تركت من عهدك( وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا ) ثم خرجا من السفينة ، فانطلقا حتى إذا أتيا أهل قرية فإذا غلمان يلعبون خلفها ، فيهم غلام ليس في الغلمان أظرف منه ، ولا أثرى ولا أوضأ منه ، فأخذه بيده ، وأخذ حجرا ، قال : فضرب به رأسه حتى دمغه فقتله ، قال : فرأى موسى أمرا فظيعا لا صبر عليه ، صبيّ صغير لا ذنب له( قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ ) أي صغيرة بغير نفس( لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا قَالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا ) : أي قد أعذرت في شأني( فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ ) فهدمه ، ثم قعد يبنيه ، فضجر موسى مما رآه يصنع من التكليف لما ليس عليه صبر ، فقال : ( لَوْ شِئْتَ لاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا ) أي قد استطعمناهم فلم يطعمونا ، وضفناهم فلم يضيفونا ، ثم قعدت في غير صنيعة ، ولو شئت لأعطيت عليه أجرا في عمله( قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا ) ، وفي قراءة أبيّ بن كعب : كلّ سفينة صالحة ، وإنما عبتها لأردّه عنها ، فسلمت حين رأى العيب الذي صنعت بها.( وَأَمَّا الْغُلامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنز لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ) : أي ما فعلته عن نفسي( ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا ) فكان ابن عباس يقول : ما كان الكنز إلا علما.
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، قال : ثني ابن إسحاق ، عن الحسن بن عُمارة ، عن أبيه ، عن عكرِمة قال : قيل لابن عباس : لم نسمع لفتى موسى يذكر من حديث ، وقد كان معه (1) ، فقال ابن عباس فيما يذكر من حديث الفتى قال : شرب الفتى من الماء فخلِّد ، فأخذه العالم فطابق به سفينة ، ثم أرسله في البحر ، فإنها لتموج به إلى يوم القيامة ، وذلك أنه لم يكن له أن يشرب منه فشرب.
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : ( وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا ) قال : لما ظهر موسى وقومه على مصر أنزل قومه مصر ، فلما استقرت بهم الدار أنزل الله عليه أن( وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ ) فخطب قومه ، فذكر ما آتاهم الله من الخير والنعمة ، وذكَّرهم إذ أنجاهم الله من آل فرعون ، وذكَّرهم هلاك عدوّهم ، وما استخلفهم الله في الأرض ، وقال : كلم الله نبيكم تكليما ، واصطفاني لنفسه ، وأنزل عليّ محبة منه ، وآتاكم الله من كل ما سألتموه ، فنبيكم أفضل أهل الأرض ، وأنتم تقرءون التوراة ، فلم يترك نعمة أنعمها الله عليهم إلا ذكرها ، وعرّفها إياهم ، فقال له رجل من بني إسرائيل : هم كذلك يا نبي الله ، قد عرفنا الذي تقول ، فهل على الأرض أحد أعلم منك يا نبي الله ؟ قال : لا فبعث الله جبرئيل إلى موسى عليهما السلام ، فقال : إن الله يقول : وما يدريك أين أضع علمي ؟ بلى إن على شطّ البحر رجلا أعلم منك ، فقال ابن عباس : هو الخَضِر ، فسأل موسى ربه أن يريه إياه ، فأوحى الله إليه أن ائت البحر ، فإنك تجد على شطّ البحر حُوتا ، فخذه فادفعه إلى فتاك ،
__________
(1) الذي في الدر بدل هذا : لم نسمع : يعني موسى يذكر من حديث فتاه ، وقد كان . . . إلخ .

(18/67)


ثم الزم شطّ البحر ، فإذا نسيت الحوت وهَلك منك ، فثَمَّ تجد العبد الصالح الذي تطلب ، فلما طال سفر موسى نبيّ الله ونصب فيه ، سأل فتاه عن الحوت ، فقال له فتاه وهو غلامه( أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ ) قال الفتى : لقد رأيت الحوت حين اتخذ سبيله في البحر سَرَبا ، فأعجب ذلك موسى فرجع حتى أتى الصخرة ، فوجد الحوت يضرب في البحر ، ويتبعه موسى ، وجعل موسى يقدّم عصاه يفرُج بها عن الماء يتبع الحوت ، وجعل الحوت لا يمسّ شيئا من البحر إلا يبس حتى يكون صخرة ، فجعل نبيّ الله يعجب من ذلك حتى انتهى به الحوت إلى جزيرة من جزائر البحر ، فلقي الخَضِر بها فسلم عليه ، فقال الخضر : وعليك السلام ، وأنى يكون هذا السلام بهذه الأرض ، ومن أنت ؟ قال : أنا موسى ، فقال له الخضر : أصاحبُ بني إسرائيل ؟ قال : نعم فرحب به ، وقال : ما جاء بك ؟ قال : جئتك على أن تعلمني مما علمت رُشدا( قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا ) قال : لا تطيق ذلك ، قال موسى : ( سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا ) قال : فانطلق به وقال له : لا تسألني عن شيء أصنعه حتى أبيِّن لك شأنه ، فذلك قوله : ( أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا ) فركبا في السفينة يريدان البرّ ، فقام الخضر فخرق السفينة ، فقال له موسى( أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا ).
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : ( فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا ) ذُكِر أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم لما قطع البحر وأنجاه الله من آل فرعون ، جمع بني إسرائيل ، فخطبهم فقال : أنتم خير أهل الأرض وأعلمه ، قد أهلك الله عدوكم ، وأقطعكم البحر ، وأنزل عليكم التوراة ، قال : فقيل له : إن ها هنا رجلا هو أعلم منك ، قال : فانطلق هو وفتاه يوشع بن نون يطلبانه ، وتزوّدا سمكة مملوحة في مِكتل لهما ، وقيل لهما : إذا نسيتما ما معكما لقيتما رجلا عالما يقال له الخضر ، فلما أتيا ذلك المكان ، ردّ الله إلى الحوت روحه ، فسرب له من الجسر حتى أفضى إلى البحر ، ثم سلك فجعل لا يسلك فيه طريقا إلا صار ماء جامدا ، قال : ومضى موسى وفتاه ، يقول الله عز وجل : ( فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ )... ثم تلا إلى قوله :

(18/69)


قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا (66) قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (67)

( وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا ) فلقيا رجلا عالما يقال له الخَضِر ، فذُكر لنا أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم قال : " إنَّمَا سُمِيَ الخَضِرُ خَضِرًا لأنهُ قَعَدَ على فَرْوَةٍ بَيْضَاءَ ، فاهْتَزَّتْ بِهِ خَضراء " . (1)
حدثني العباس بن الوليد ، قال : ثنا أبي ، قال : ثنا الأوزاعيّ ، قال : ثنا الزهريّ ، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود ، عن ابن عباس أنه تمارى هو والحرّ بن قيس بن حِصْن الفزاريّ في صاحب موسى ، فقال ابن عباس : هو خَضِر ، فمرّ بهما أبيّ بن كعب ، فدعاه ابن عباس فقال : إني تماريت أنا وصاحبي هذا في صاحب موسى الذي سأل السبيل إلى لقيه ، فقال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر شأنه ؟ قال : إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " بَيْنا مُوسَى في مَلأ مِنْ بَنِي إسْرَائِيلَ إذْ جاءَهُ رَجُلٌ فَقالَ : تَعْلَمُ مَكانَ أحَدٍ أعْلَمُ مِنْكَ ؟ قال مُوسَى : لا فَأوْحَى اللهُ إلى مُوسَى : بَلى عَبْدُنا خَضِرٌ ، فَسأَل مُوسَى السَّبِيلَ إلى لُقِيِّه ، فجَعَلَ اللهُ لَهُ الحُوتَ آيَةً ، وقِيلَ لَهُ : إذَا فَقَدْتَ الحُوتَ فارْجِعْ فإنَّكَ سَتَلْقاهُ ، فكانَ مُوسَى يَتْبَعُ أثَرَ الحُوتِ في البحُرِ ، فَقال فتَى مُوسَى لِمُوسَى : أرَأيْتَ إذْ أوَيْنا إلى الصَّخْرَةِ ، فإنِّي نَسِيتُ الحُوتَ ، قالَ مُوسَى : ذلكَ ما كُنَّا نَبْغِ ، فارْتَدَّا على آثارِهِما قَصَصًا ، فَوَجَدَا عَبْدَنا خَضِرًا ، وكانَ مِنْ شأْنِهما ما قَصَّ اللهُ في كِتابِهِ " .
حدثني محمد بن مرزوق ، قال : ثنا الحجاج بن المنهال ، قال : ثنا عبد الله بن عمر النميري ، عن يونس بن يزيد ، قال : سمعت الزهريّ يحدّث ، قال : أخبرني عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود ، عن ابن عباس ، أنه تمارى هو والحر بن قيس بن حصن الفزاري في صاحب موسى ، ثم ذكر نحو حديث العباس ، عن أُبيّ بن كعب ، عن النَّبِي صلى الله عليه وسلم.
القول في تأويل قوله تعالى : { قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا (66) قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (67) }
__________
(1) في ( عرائس المجالس للثعلبي المفسر ص 220 طبعة الحلبي ) : فإذا هي تهتز تحته خضراء .

(18/70)


وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا (68) قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا (69) قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا (70)

يقول تعالى ذكره : قال موسى للعالم : ( هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِي ) من العلم الذي علمك الله ما هو رشاد إلى الحقّ ، ودليل على هدى ؟
( قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا )
يقول تعالى ذكره : قال العالم : إنك لن تطيق الصبر معي ، وذلك أني أعمل بباطن علم علَّمنيه الله ، ولا علم لك إلا بظاهر من الأمور ، فلا تصبر على ما ترى من الأفعال ، كما ذكرنا من الخبر عن ابن عباس قَبلُ من أنه كان رجلا يعمل على الغيب قد علم ذلك.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا (68) قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا (69) }
يقول عزّ ذكره مخبرا عن قول العالم لموسى : وكيف تصبر يا موسى على ما ترى مني من الأفعال التي لا علم لك بوجوه صوابها ، وتقيم معي عليها ، وأنت إنما تحكم على صواب المصيب وخطأ المخطئ بالظاهر الذي عندك ، وبمبلغ علمك ، وأفعالي تقع بغير دليل ظاهر لرأي عينك على صوابها ، لأنها تبتدئ لأسباب تحدث آجلة غير عاجلة ، لا علم لك بالحادث عنها ، لأنها غيب ، ولا تحيط بعلم الغيب خبرا يقول علما ، قال : ( سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا ) على ما أرى منك وإن كان خلافا لما هو عندي صواب( وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا ) يقول : وأنتهي إلى ما تأمرني ، وإن لم يكن موافقا هواي.
القول في تأويل قوله تعالى : { قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا (70) }
يقول تبارك وتعالى : قال العالم لموسى : فإن اتبعتني الآن فلا تسألني عن شيء أعمله مما تستنكره ، فإني قد أعلمتك أني أعمل العمل على الغيب الذي لا تحيط به علما( حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا ) يقول : حتى أحدث أنا لك مما ترى من الأفعال التي أفعلها التي تستنكرها أذكرها لك وأبين لك شأنها ، وأبتدئك الخبر عنها.
كما حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني

(18/71)


فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا (71)

أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس( فَلا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا ) يعني عن شيء أصنعه حتى أبين لك شأنه.
القول في تأويل قوله تعالى : { فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا (71) }
يقول تعالى ذكره : فانطلق موسى والعالم يسيران يطلبان سفينة يركبانها ، حتى إذا أصاباها ركبا في السفينة ، فلما ركباها ، خرق العالم السفينة ، قال له موسى : أخرقتها بعد ما لَجَجنا في البحر( لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا ) يقول : لقد جئت شيئا عظيما ، وفعلت فعلا مُنكرا.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : ( لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا ) : أي عجبا ، إن قوما لججوا سفينتهم فخرقتها ، كأحوج ما نكون إليها ، ولكن علم من ذلك ما لم يعلم نبيّ الله موسى ذلك من علم الله الذي آتاه ، وقد قال لنبيّ الله موسى عليه السلام : ( فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا ).
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة( لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا ) يقول : نُكرا.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : ( لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا ) قال : منكرا.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله ، والإمر : في كلام العرب : الداهية ، ومنه قول الراجز :
قَدْ لَقِيَ الأقْرَانُ مِنِّي نُكْرًا... دَاهِيَةٌ دَهْياءَ إدَّا إمرًا (1)
__________
(1) البيت : من شواهد أبي عبيدة في ( مجاز القرآن ) 1 : 409 قال في تفسير قوله تعالى : " جئت شيئا إمرا " أي داهية نكرا عظيمة . وفي آية أخرى شيئا إدا . قال : " قد بقى الأقران . . . البيت " . وفي ( اللسان : إمرا ) : الأخفش : يقال : أمر أمره يأمر أمرا ( الفعل كفرح يفرح ) أي اشتد . والاسم : الإمر بكسر الهمزة . قال الراجز : " قد لقي . . . البيت " ويقال : عجبا . وأمرا إمرا : منكر ، وفي التنزيل العزيز : " لقد جئت شيئا إمرا " قال أبو إسحق : أي جئت شيئا عظيما من المنكر . وقيل : الإمر بالكسر ، الأمر العظيم الشنيع . وقيل : العجيب . قال : ونكرا أقل من قوله : إمرا ؛ لأن تغريق من في السفينة أنكر من قتل نفس واحدة . قال ابن سيده : وذهب الكسائي إلى أن معنى إمرا : شيئا داهيا منكرا عجبا ، واشتقه من قولهم : أمر القوم : إذا أكثروا . ا هـ .

(18/72)


قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (72) قَالَ لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلَا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا (73)

وكان بعض أهل العلم بكلام العرب يقول : أصله : كل شيء شديد كثير ، ويقول منه : قيل للقوم : قد أمروا : إذا كثروا واشتدّ أمرهم ، قال : والمصدر منه : الأمَرَ ، والاسم : الإمْر.
واختلفت القرّاء في قراءة قوله : ( لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا ) فقرأ ذلك عامة قراء المدينة والبصرة وبعض الكوفيين( لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا ) بالتاء في لتُغرِق ، ونصب الأهل ، بمعنى : لتُغرِق أنت أيها الرجل أهل هذه السفينة بالخرق الذي خرقت فيها. وقرأه عامة قرّاء الكوفة : ( لِيَغْرَقَ( بالياء أهلها بالرفع ، على أن الأهل هم الذين يغرقون.
والصواب من القول في ذلك عندي أن يقال : إنهما قراءتان معروفتان مستفيضتان في قراءة الأمصار ، متفقتا المعنى وإن اختلفت ألفاظهما ، فبأيّ ذلك قرأ القارئ فمصيب.
وإنما قلنا : هما متفقتا المعنى ، لأنه معلوم أن إنكار موسى على العالم خرق السفينة إنما كان لأنه كان عنده أن ذلك سبب لغرق أهلها إذا أحدث مثل ذلك الحدث فيها فلا خفاء على أحد معنى ذلك قرأ بالتاء ونصب الأهل ، أو بالياء ورفع الأهل.
القول في تأويل قوله تعالى : { قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (72) قَالَ لا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا (73) }
يقول عزّ ذكره : (قَالَ) العالم لموسى إذ قال له ما قال( أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا ) على ما ترى من أفعالي ، لأنك ترى ما لم تُحِط به خبرا ، قال له موسى : ( لا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ ) فاختلف أهل التأويل في معنى ذلك ، فقال بعضهم : كان هذا الكلام من موسى عليه السلام للعالِم معارضة ، لا أنه

(18/73)


فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلَامًا فَقَتَلَهُ قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا (74)

كان نسي عهده ، وما كان تقدّم فيه حين استصحبه بقوله : ( فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا ).
* ذكر من قال ذلك : حُدثت عن يحيى بن زياد ، قال : ثني يحيى بن المهلب ، عن رجل ، عن سعيد بن جبير ، عن أبيّ بن كعب الأنصاريّ في قوله : ( لا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ ) قال : لم ينس ، ولكنها من معاريض الكلام.
وقال آخرون : بل معنى ذلك : لا تؤاخذني بتركي عهدك ، ووجه أن معنى النسيان : الترك.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، قال : ثني محمد بن إسحاق ، عن الحسن بن عمارة ، عن الحكم ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس( قَالَ لا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ ) : أي بما تركت من عهدك.
والصواب من القول في ذلك أن يقال : إن موسى سأل صاحبه أن لا يؤاخذه بما نسي فيه عهده من سؤاله إياه على وجه ما فعل وسببه لا بما سأله عنه ، وهو لعهده ذاكر للصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، بأن ذلك معناه من الخبر ، وذلك ما حدثنا به أبو كريب ، قال : ثنا يحيى بن آدم ، قال : ثنا ابن عيينة . عن عمرو بن دينار ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، عن أبيّ بن كعب ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم( لا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ ) قال : كانَتِ الأوَلى مِنْ مُوسَى نِسْيانا.
وقوله : ( وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا ) يقول : لا تُغْشِني من أمري عسرا ، يقول : لا تضيق علي أمري معك ، وصحبتي إياك.
القول في تأويل قوله تعالى : { فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلامًا فَقَتَلَهُ قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا (74) }
يقول تعالى ذكره : ( فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلامًا فَقَتَلَهُ ) العالم ، ف(قال) له موسى : ( أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً ).
واختلفت القرّاء في قراءة ذلك ، فقرأته عامة قرّاء الحجاز والبصرة : ( أقَتَلْتَ

(18/74)


نَفْسا زَاكِيَةً ) وقالوا معنى ذلك : المطهرة التي لا ذنب لها ، ولم تذنب قطّ لصغرها ، وقرأ ذلك عامة قرّاء أهل الكوفة : (نَفْسا زَكِيَّةً ) بمعنى : التائبة المغفور لها ذنوبها.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : ( أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً ) والزكية : التائبة.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً ) قال : الزكية : التائبة.
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر " أقتلت نفسا زاكية " قال : قال الحسن : تائبة ، هكذا في حديث الحسن وشهر زاكية.
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : ثنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله( نَفْسًا زَكِيَّةً ) قال : تائبة.
* ذكر من قال : معناها المسلمة التي لا ذنب لها : حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : أخبرني يعلى بن مسلم ، أنه سمع سعيد بن جبير يقول : وجد خضر غلمانا يلعبون ، فأخذ غلاما ظريفا فأضجعه ثم ذبحه بالسكين ، قال : وأخبرني وهب بن سليمان عن شعيب الجبئي قال : اسم الغلام الذي قتله الخضر : جيسور(قال أقتلت نفسا زاكية ) قال : مسلمة. قال : وقرأها ابن عباس : (زكية) كقولك : زكيا.
وكان بعض أهل العلم بكلام العرب من أهل الكوفة يقول : معنى الزكية والزاكية واحد ، كالقاسية والقسية ، ويقول : هي التي لم تجن شيئا ، وذلك هو الصواب عندي لأني لم أجد فرقا بينهما في شيء من كلام العرب.
فإذا كان ذلك كذلك ، فبأيّ القراءتين قرأ ذلك القارئ فمصيب ، لأنهما قراءتان مستفيضتان في قراءة الأمصار بمعنى واحد.
وقوله : ( بِغَيْرِ نَفْسٍ ) يقول : بغير قصاص بنفس قتلت ، فلزمها القتل قودا بها ، وقوله : ( لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا ) يقول : لقد جئت بشيء منكر ، وفعلت

(18/75)


فعلا غير معروف.
وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا ) والنُّكْرُ أشدّ من الإمر.

(18/76)


قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (75) قَالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلَا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا (76)

القول في تأويل قوله تعالى : { قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (75) قَالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا (76) }
يقول تعالى ذكره : قال العالم لموسى( أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا ) على ما ترى من أفعالي التي لم تحط بها خبرا ، قال موسى له : ( إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا ) يقول : بعد هذه المرة( فَلا تُصَاحِبْنِي ) يقول : ففارقني ، فلا تكن لي مصاحبا( قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا ) يقول : قد بلغت العذر في شأني.
واختلفت القرّاء في قراءة ذلك ، فقرأته عامة قراءة أهل المدينة( مِنْ لَدُني عُذْرًا ) بفتح اللام وضم الدال وتخفيف النون. وقرأه عامة قرّاء الكوفة والبصرة بفتح اللام وضم الدال وتشديد النون. وقرأه بعض قراء الكوفة بإشمام اللام الضم وتسكين الدال وتخفيف النون ، وكأن الذين شدّدوا النون طلبوا للنون التي في لدن السلامة من الحركة ، إذ كانت في الأصل ساكنة ، ولو لم تشدّد لتحرّكت ، فشدّدوها كراهة منهم تحريكها ، كما فعلوا في " من ، وعن " إذا أضافوهما إلى مكنّى المخبر عن نفسه ، فشدّدوهما ، فقالوا مني وعنِّي. وأما الذين خفَّفوها ، فإنهم وجدوا مكنّى المخبر عن نفسه في حال الخفض ياء وحدها لا نون معها ، فأجروا ذلك من لدن على حسب ما جرى به كلامهم في ذلك مع سائر الأشياء غيرها.
والصواب من القول في ذلك عندي أنهما لغتان فصيحتان ، قد قرأ بكلّ واحدة منهما علماء من القرّاء بالقرآن ، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب ، غير أن

(18/76)


فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا (77)

أعجب القراءتين إليّ في ذلك قراءة من فتح اللام وضمّ الدال وشدّد النون ، لعلتين : إحداهما أنها أشهر اللغتين ، والأخرى أن محمد بن نافع البصري حدثنا ، قال : ثنا أمية بن خالد ، قال : ثنا أبو الجارية العبدي ، عن أبي إسحاق ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، عن أبيّ بن كعب ، أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قرأ( قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا ) مثقلة.
حدثني عبد الله بن أبي زياد ، قال : ثنا حجاج بن محمد ، عن حمزة الزيات ، عن أبي إسحاق ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، عن أبيّ بن كعب ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم مثله ، وذكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تلا هذه الآية فقال : " اسْتَحْيا فِي اللهِ مُوسَى " .
حدثنا محمد بن المثني ، قال : ثنا بدل بن المحبر ، قال : ثنا عباد بن راشد ، قال : ثنا داود ، في قول الله عزّ وجلّ( إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا ) قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " اسْتَحْيا فِي اللهِ مُوسَى عِنْدَها " .
حدثني عبد الله بن أبي زياد ، قال : ثنا حجاج بن محمد ، عن حمزة الزيات ، عن أبي إسحاق ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، عن أبيّ بن كعب ، قال : كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا ذكر أحدا فدعا له بدأ بنفسه ، فقال ذات يوم : ( رَحْمَةُ اللهِ عَلَيْنا وَعلى مُوسَى ، لَوْ لَبِثَ مَعَ صَاحِبِهِ لأبْصَرَ العَجَبَ وَلكنَّه قالَ : إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا(مُثَقلة).
القول في تأويل قوله تعالى : { فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا (77) }
يقول تعالى ذكره : فانطلق موسى والعالم( حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا

(18/77)


أَهْلَهَا ) من الطعام فلم يطعموهما واستضافاهم( فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ )
يقول : وجدا في القرية حائطا يريد أن يسقط ويقع ، يقال منه : انقضت الدار : إذا انهدمت وسقطت ، ومنه انقضاض الكوكب ، وذلك سقوطه وزواله عن مكانه ، ومنه قول ذي الرُّمة :
فانْقَضَّ كالكَوْكَبِ الدُّرّي مُنْصَلِتا (1)
وقد رُوي عن يحيى بن يعمر أنه قرأ ذلك : ( يُريدُ أنْ يَنْقاضَّ ).
وقد اختلف أهل العلم بكلام العرب إذا قرئ ذلك كذلك في معناه ، فقال بعض أهل البصرة منهم : مجاز ينقاضّ : أي ينقلع من أصله ، ويتصدّع ، بمنزلة قولهم : قد انقاضت السنّ : أي تصدّعت ، وتصدّعت من أصلها ، يقال : فراق كقيض السنّ : أي لا يجتمع أهله.
وقال بعض أهل الكوفة (2) منهم : الانقياض : الشقّ في طول الحائط في طيّ البئر وفي سنّ الرجل ، يقال : قد انقاضت سنه : إذا انشقَّت طولا. وقيل : إن القرية التي استطعم أهلها موسى وصاحبه ، فأبوا أن يضيفوهما : الأيلة.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني الحسين بن محمد الذراع ، قال : ثنا عمران بن المعتمر صاحب الكرابيسي ، قال : ثنا حماد أبو صالح ، عن محمد بن سيرين ، قال : انتابوا الأيلة ، فإنه قلّ من يأتيها فيرجع منها خائبا ، وهي الأرض التي أبوا أن يضيفوهما ، وهي أبعد أرض الله من السماء.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : ( فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ ) وتلا إلى قوله( لاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا ) شرّ القرى التي لا تُضِيف الضيف ، ولا تعرف لابن السبيل حقه.
واختلف أهل العلم بكلام العرب في معنى قول الله عز وجل( يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ ) فقال بعض أهل البصرة : ليس للحائط إرادة ولا للمَوَات ، ولكنه إذا
__________
(1) هذا صدر بيت لذي الرمة . وفي ( اللسان : قض ) : انقض الجدار : تصدع من غير أن يسقط . وقيل : انقض : سقط . وفي التنزيل العزيز : ( فوجدا فيها جدارا يريد أن ينقض ) هكذا عده أبو عبيد وغيره ثنائيا ، وجعله أبو علي ثلاثيا من نقض ، فهو عنده " افعل " بتشديد اللام . وفي التهذيب : ينقض : أي ينكسر ، يقال : قضضت الشيء ، إذا دققته . والمنصلت : المسرع من كل شيء .
(2) هو الفراء ( انظر معاني القرآن له ، مصورة الجامعة 24059 ص 190 ) .

(18/78)


كان في هذه الحال من رثة فهو إرادته وهذا كقول العرب في غيره :
يُريدُ الرُّمحُ صَدْرَ أبي بَرَاءٍ... وَيَرْغَبُ عَنْ دِماءِ بَنِي عُقَيْلِ (1)
وقال آخر منهم : إنما كلم القوم بما يعقلون ، قال : وذلك لما دنا من الانقضاض ، جاز أن يقول : يريد أن ينقض ، قال : ومثله( تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ ) وقولهم : إني لأكاد أطير من الفرح ، وأنت لم تقرب من ذلك ، ولم تهمْ به ، ولكن لعظيم الأمر عندك ، وقال بعض الكوفيين منهم : من كلام العرب أن يقولوا : الجدار يريد أن يسقط ، قال : ومثله من قول العرب قول الشاعر :
إنَّ دهْرًا يَلُفُّ شَمْلِي بِجُمْلٍ... لَزَمانٌ يَهُمُّ بالإحْسانِ (2)
وقول الآخر :
يَشْكُو إليَّ جَمَلِي طُولَ السُّرَى... صَبْرًا جَمِيلا فَكِلانا مُبْتَلى (3)
قال : والجمل لم يشك ، إنما تكلم به على أنه لو تكلم لقال ذلك ، قال : وكذلك قول عنترة :
وازْوَرَّ مِنْ وَقْعِ القَنا بِلَبانِهِ... وشَكا إليَّ بعَبْرَةٍ وَتحَمْحُمِ (4)
__________
(1) البيت من شواهد أبي عبيدة في ( مجاز القرآن 1 : 410 ) قال في تفسير قوله تعالى : ( يريد أن ينقض ) ليس للحائط إرادة ولا للموت ولكنه إذا كان في هذه الحال من رثة ، فهو إرادته . وهذا قول العرب في غيره ، قال الحارثي : " يريد الرمح . . . البيت " . وفي " اللسان : رود " : وقوله عز وجل : ( فوجدا فيها جدارا يريد أن ينقض فأقامه ) أي أقامه الخضر ، وقال : يريد ، والإرادة إنما تكون من الحيوان ، والجدار لا يريد إرادة حقيقية ؛ لأن تهيؤه للسقوط قد ظهر كما تظهر أفعال المريدين ، فوصف الجدار بالإرادة ، إذا كانت الصورتان واحدة ، ومثل هذا كثير في اللغة والشعر ، قال الراعي : في مهمه قلقت به هاماتها ... قلق الفئوس إذا أردنا نصولا
وقال الآخر : " يريد الرمح صدر أبي براء " . . . . البيت .
(2) البيت من شواهد الفراء في معاني القرآن ( الورقة 190 من مصورة الجامعة ) قال : " يريد أن ينقض " : يقال : كيف يريد الجدار أن ينقض ؟ وذلك من كلام العرب أن يقولوا : الجدار يريد أن يسقط . ومثله قول الله : ( ولما سكت عن موسى الغضب ) والغضب لا يسكت ، إنما يسقط صاحبه ، ومعناه : سكن . وقوله : فإذا عزم الأمر : إنما يعزم الأمر أهله . وقال الشاعر : " إن دهرا . . . " البيت . وقال الآخر : " شكى إلي جملي . . . البيت " . ( وسيجيء بعد هذا ) . والجمل لم يشك ، إنما تكلم به على أنه لو نطق لقال ذلك ، وكذلك قول عنترة : " وزور من وقع القنا . . . . البيت " ؛ ( سيجيء بعد هذا ) . . . وقال أبو عبيدة في ( مجاز القرآن 1 : 411 ) : وجاز " أن ينقض " مجاز : يقع . يقال : انقضت الدار إذا انهدمت وسقطت ، وقرأ قوم " أن ينقاض " ، ومجازه : أن ينقلع من أصله ويتصدع ؛ بمنزلة قولهم : قد انقاضت السن : أي إن صدعت ، وتقلعت من أصلها .
(3) سبق الكلام على البيت في الشاهد السابق عليه وهو من شواهد الفراء في معاني القرآن .
(4) سبق الكلام على البيت في الشاهد السابق على الذي قبله . ولبانه : صدره : والقنا : جمع قناة ، وهي الرمح . وهو من شواهد الفراء .

(18/79)


قال : ومنه قول الله عز وجل : ( وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ ) والغضب لا يسكت ، وإنما يسكت صاحبه. وإنما معناه : سكن.
وقوله : ( فَإِذَا عَزَمَ الأمْرُ ) إنما يعزم أهله ، وقال آخر منهم : هذا من أفصح كلام العرب ، وقال : إنما إرادة الجدار : ميله ، كما قال النبيّ صلى الله عليه وسلم " لا تَرَاءى نارَاهُما " وإنما هو أن تكون ناران كلّ واحدة من صاحبتها بموضع لو قام فيه إنسان رأى الأخرى في القُرب ، قال : وهو كقول الله عز وجل في الأصنام : ( وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ ) قال : والعرب تقول : داري تنظر إلى دار فلان ، تعني : قرب ما بينهما ، واستشهد بقول ذي الرُّمَّة في وصفه حوضا أو منزلا دارسا :
قَدْ كادَ أوْ قَدْ هَمَّ بالبُيُودِ (1)
قال : فجعله يهمّ ، وإنما معناه : أنه قد تغير للبلى ، والذي نقول به في ذلك أن الله عزّ ذكره بلطفه ، جعل الكلام بين خلقه رحمة منه بهم ، ليبين بعضهم لبعض عما في ضمائرهم ، مما لا تحسُّه أبصارهم ، وقد عقلت العرب معنى القائل :
في مَهْمَةٍ قَلِقَتْ بِهِ هاماتُهَا... قَلَقَ الفُئُوسِ إذَا أرَدْنَ نُصُولا (2)
وفهمت أن الفئوس لا توصف بما يوصف به بنو آدم من ضمائر الصدور مع وصفها إياهما بأنها تريد ، وعلمت ما يريد القائل بقوله :
كمِثْلِ هَيْلِ النَّقا طافَ المُشاةُ بِهِ... يَنْهالُ حِينا ويَنْهَاهُ الثَّرَى حِينا (3)
وإنما لم يرد أن الثرى نطق ، ولكنه أراد به أنه تلبَّد بالندى ، فمنعه من الإنهيال ،
__________
(1) هذا بيت من الرجز . لذي الرمة . والبيود : مصدر باد يبيد : إذا هلك . والشاهد فيه مثل الشواهد السابقة عليه .
(2) هذا البيت للراعي ، وقد سبق الكلام عليه قبل في أكثر من موضع .
(3) هال التراب والرمل هيلا وأهاله فانهال ، وهيله فتهيل أي دفعه فانهال . والنقا : الكثيب من الرمل النقي . والبيت كالشواهد السابقة عليه في أن قوله ينهاه الثرى : أي يمسكه الثرى على التهيل ، جعل ذلك بمنزلة نهيه عن السقوط ، مع أن الثرى لا ينهى ولا يأمر ، ولكنه جاء كذلك على لسان العرب ، كما جاء قوله تعالى في القرآن : ( يريد أن ينقض ) . وقد اتضح معناه بما لا يزيد عليه في الشواهد السابقة قريبا .

(18/80)


فكان منعه إياه من ذلك كالنهي من ذوي المنطق فلا ينهال. وكذلك قوله : ( جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ ) قد علمت أن معناه : قد قارب من أن يقع أو يسقط ، وإنما خاطب جل ثناؤه بالقرآن من أنزل الوحي بلسانه ، وقد عقلوا ما عنى به وإن استعجم عن فهمه ذوو البلادة والعمى ، وضل فيه ذوو الجهالة والغبا.
وقوله : (فَأَقَامَهُ) ذكر عن ابن عباس أنه قال : هدمه ثم قعد يبنيه.
حدثنا بذلك ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، قال : ثنا ابن إسحاق ، عن الحسن بن عُمارة ، عن الحكم بن عتيبة ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس.
وقال آخرون في ذلك ما حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن عمرو بن دينار ، عن سعيد بن جبير( فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ ) قال : رفع الجدار بيده فاستقام.
والصواب من القول في ذلك أن يُقال : إن الله عزّ ذكره أخبر أن صاحب موسى وموسى وجدا جدارًا يريد أن ينقضّ فأقامه صاحب موسى ، بمعنى : عَدَل ميله حتى عاد مستويا.
وجائز أن يكون كان ذلك بإصلاح بعد هدم ، وجائز أن يكون كان برفع منه له بيده ، فاستوى بقدرة الله ، وزال عنه مَيْلُه بلطفه ، ولا دلالة من كتاب الله ولا خبر للعذر قاطع بأي ذلك كان من أيّ.
وقوله : ( قَالَ لَوْ شِئْتَ لاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا ) يقول : قال موسى لصاحبه : لو شئت لم تقم لهؤلاء القوم جدارهم حتى يعطوك على إقامتك أجرا ، فقال بعضهم : إنما عَنَى موسى بالأجر الذي قال له( لَوْ شِئْتَ لاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا ) القِرى : أي حتى يَقْرُونا ، فإنهم قد أبوا أن يضيِّفونا.
وقال آخرون : بل عنى بذلك العِوَض والجزاء على إقامته الحائط المائل.
واختلف القرّاء في قراءة ذلك ، فقرأته عامَّة قرّاء أهل المدينة والكوفة( لَوْ شِئْتَ لاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا ) على التوجيه منهم له إلى أنه لافتعلت من الأخذ ، وقرأ ذلك بعض أهل البصرة( لَوْ شَئِتَ لَتَخِذْتَ ) بتخفيف التاء وكسر الخاء ، وأصله : لافتعلت ، غير أنهم جعلوا التاء كأنهم من أصل الكلمة ، ولأن الكلام عندهم في فعل ويفعل من ذلك : تخِذ فلان كذا يَتْخَذُه تَخْذا ، وهي لغة فيما ذكر لهُذَيل ، وقال بعض الشعراء :

(18/81)


قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا (78) أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا (79)

وَقَدْ تَخِذَتْ رِجْلِي لَدَى جَنْبِ غَرْزِها... نَسيِفا كأفحُوصِ القَطاةِ المُطَرِّقِ (1)
والصواب من القول في ذلك عندي : أنهما لغتان معروفتان من لغات العرب بمعنى واحد ، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب ، غير أني أختار قراءته بتشديد التاء على لافتعلت ، لأنها أفصح اللغتين وأشهرهما ، وأكثرهما على ألسن العرب.
القول في تأويل قوله تعالى : { قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا (78) }
يقول تعالى ذكره : قال صاحب موسى لموسى : هذا الذي قلته وهو قوله( لَوْ شِئْتَ لاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ ) يقول : فرقة ما بيني وبينك : أي مفرق بيني وبينك
(سَأُنَبِّئُكَ) يقول : سأخبرك( بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا ) يقول : بما يئول إليه عاقبة أفعالي التي فعلتها ، فلم تستطع على تَرك المسألة عنها ، وعن النكير علي فيها صبرا ، والله أعلم.
القول في تأويل قوله تعالى : { أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا (79) }
يقول : أما فعلي ما فعلت بالسفينة ، فلأنها كانت لقوم مساكين( يَعْمَلُونَ
__________
(1) البيت للممزق العبدي ، واسمه شأس بن نهار ، شاعر جاهلي قديم . وهو من شواهد أبي عبيدة في مجاز القرآن ( 1 : 411 ) قال : " لو شئت لتخذت عليه أجرا " : الخاء مكسورة ، ومعناها معنى أخذت ، فكان مخرجها مخرج فعلت تفعل ( من باب فرح يفرح ) قال الممزق العبدي ( من عبد القيس ) : " وقد تخذت رجلي . . . البيت " . وفي اللسان : والغرز للجمل مثل الركاب للبغل ، وهو ما يضع الراكب فيه قدمه عند الركوب . والأفحوص : مجثم القطاة ، لأنها تفحص الموضع ، ثم تبيض فيه ، وكذلك هو للدجاجة ، قال الممزق العبدي : " وقد تذت رجلي . . . " البيت . والنسيف : أثر عض الغرز في جنب الناقة ، من عضة أو انحصاص وبر . والمطرق من وصف القطاة . يقال : طرقت المرأة وكل حامل تطرق : إذا خرج من الولد نصفه ثم نشب فيقال : طرقت ثم خلصت . وقيل التطريق للقطاة إذا فحصت للبيض ، كأنها تجعل له طريقا .

(18/82)


فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا ) بالخرق الذي خرقتها.
كما حدثني ابن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله عز وجل : ( فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا ) قال : أخرقها.
حدثنا الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، مثله.
وقوله : ( وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ ) وكان أمامهم وقُدّامهم ملك.
كما حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة : ( وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ ) قال قتادة : أمامهم ، ألا ترى أنه يقول : ( مِنْ وَرَائِهِمْ جَهَنَّمُ ) وهي بين أيديهم.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قال : كان في القراءة : وكان أمامهم ملك يأخذ كل سفينة صحيحة غصبا. وقد ذُكر عن ابن عُيينة ، عن عمرو ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس أنه قرأ ذلك : وكان أمامهم ملك.
قال أبو جعفر : وقد جعل بعض أهل المعرفة بكلام العرب " وراء " من حروف الأضداد ، وزعم أنه يكون لما هو أمامه ولما خلفه ، واستشهد لصحة ذلك بقول الشاعر :
أيَرْجُو بَنُو مَرْوَانَ سَمْعي وطاعَتِي... وَقَوْمي تَمِيمٌ والفَلاةُ وَرَائِيَا (1)
بمعنى أمامي. وقد أغفل وجه الصواب في ذلك. وإنما قيل لما بين يديه : هو ورائي ، لأنك من ورائه ، فأنت ملاقيه كما هو ملاقيك ، فصار : إذ كان
__________
(1) البيت لسوار بن المضرب ( اللسان : ورى ) . وهو من شواهد أبي عبيدة في ( مجاز القرآن : 1 : 412 ) قال في تفسير قوله تعالى : ( وكان وراءهم ملك ) : أي من بين أبيديهم وأمامهم . قال : " أترجو بنو مروان . . . البيت " : أي أمامي . أ هـ . وفي ( اللسان : ورى ) : وقوله عز وجل : ( وكان وراءهم ملك ) أي أمامهم . قال ابن بري : ومثله قول سوار بن المضرب : " أيرجو بنو مروان . . . البيت " .

(18/83)


ملاقيك ، كأنه من ورائك وأنت أمامه. وكان بعض أهل العربية من أهل الكوفة لا يجيز أن يقال لرجل بين يديك : هو ورائي ، ولا إذا كان وراءك أن يقال : هو أمامي ، ويقول : إنما يجوز ذلك في المواقيت من الأيام والأزمنة كقول القائل : وراءك برد شديد ، وبين يديك حرّ شديد ، لأنك أنت وراءه ، فجاز لأنه شيء يأتي ، فكأنه إذا لحقك صار من ورائك ، وكأنك إذا بلغته صار بين يديك. قال : فلذلك جاز الوجهان.
وقوله : ( يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا ) فيقول القائل : فما أغنى خَرْق هذا العالم السفينة التى ركبها عن أهلها ، إذ كان من أجل خرقها يأخذ السفن كلها ، مَعِيبها وغير معيبها ، وما كان وجه اعتلاله في خرقها بأنه خرقها ، لأن وراءهم ملك يأخذ كل سفينة غصبا ؟ قيل : إن معنى ذلك ، أنه يأخذ كل سفينة صحيحة غصبا ، ويدع منها كلّ معيبة ، لا أنه كان يأخذ صحاحها وغير صحاحها. فإن قال : وما الدليل على أن ذلك كذلك ؟ قيل : قوله : ( فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا ) فأبان بذلك أنه إنما عابها ، لأن المعيبة منها لا يعرض لها ، فاكتفى بذلك من أن يقال : وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة صحيحة غصبا ، على أن ذلك في بعض القراءات كذلك.
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، قال : هي في حرف ابن مسعود : ( وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة صالحة غصبا).
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، قال : ثني الحسن بن دينار ، عن الحكم بن عيينة ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال : في قراءة أُبيّ : ( وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة صالحة غَصْبًا ) وإنما عبتها لأرده عنها.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج( وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا ) فإذا خلفوه أصلحوها بزفت فاستمتعوا بها. قال ابن جريج : أخبرني وهب بن سليمان ، عن شعيب الجَبَئِيّ ، أن اسم الرجل الذي كان يأخذ كل سفينة غصبا : هُدَدُ بنُ بُدد.

(18/84)


وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا (80) فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا (81)

القول في تأويل قوله تعالى : { وَأَمَّا الْغُلامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا (80) فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا (81) }
يقول تعالى ذكره : وأما الغلام ، فإنه كان كافرا ، وكان أبواه مؤمنين ، فعلمنا أنه يرهقهما : يقول : يغشيهما طغيانا ، وهو الاستكبار على الله ، وكفرا به. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل ، وقد ذُكر ذلك في بعض الحروف. وأما الغلام فكان كافرا.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة : ( وأمَّا الغُلامُ فكَانَ كافِرًا ) في حرف أُبيّ ، وكان أبواه مؤمنين( فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا ).
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( وَأَمَّا الْغُلامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ ) وكان كافرا في بعض القراءة. وقوله : فَخَشِينا) وهي في مصحف عبد الله : ( فَخَافَ ربُّكَ أنْ يُرْهَقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا).
حدثنا عمرو بن عليّ ، قال : ثنا أبو قتيبة ، قال : ثنا عبد الجبار بن عباس الهمداني ، عن أبي إسحاق ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، عن أُبيّ بن كعب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " الغُلامُ الَّذِي قَتَلَهُ الخَضِرُ طُبِعَ يَوْم طُبِعَ كافِرًا " . والخشية والخوف توجههما العرب إلى معنى الظنّ ، وتوجه هذه الحروف إلى معنى العلم بالشيء الذي يُدرك من غير جهة الحسّ والعيان. وقد بيَّنا ذلك بشواهده في غير هذا الموضع ، بما أغنى عن إعادته.
وكان بعض أهل العربية من أهل البصرة يقول : معنى قوله(خَشِينا) في هذا الموضع : كرهنا ، لأن الله لا يخشى. وقال في بعض القراءات : فخاف ربك ، قال : وهو مثل خفت الرجلين أن يعولا وهو لا يخاف من ذلك أكثر من أنه يكرهه لهما.
وقوله : ( فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا ) : اختلفت القراء في قراءة ذلك ، فقرأه جماعة من قرّاء المكيين والمدنين والبصريين : ( فأَرَدْنا أنْ يُبَدّلَهُما رَبُّهُما) . وكان

(18/85)


بعضهم يعتلّ لصحة ذلك بأنه وجد ذلك مشدّدا في عامَّة القرآن ، كقول الله عزّ وجلّ : ( فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وقوله وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ ) فألحق قوله : ( فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا ) وقرأ ذلك عامّةُ قُراء الكوفة : ( فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا ) بتخفيف الدال. وكان بعض من قرأ ذلك كذلك من أهل العربية يقول : أبدل يبدل بالتخفيف وبدَّلَ يُبدِّل بالتشديد : بمعنى واحد.
والصواب من القول في ذلك عندي : أنهما قراءتان متقاربتا المعنى ، قد قرأ بكلّ واحدة منهما جماعة من القرّاء ، فبآيتهما قرأ القارئ فمصيب. وقيل : إن الله عزّ وجلّ أبدل أبوي الغلام الذي قتله صاحب موسى منه بجارية.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني يعقوب ، قال : ثنا هاشم بن القاسم ، قال : ثنا المبارك بن سعيد ، قال : ثنا عمرو بن قيس في قوله : ( فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا ) قال : بلغني أنها جارية.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، قال : قال ابن جريج ، أخبرني سليمان بن أميَّة أنه سمع يعقوب بن عاصم يقول : أُبدِلا مكان الغلام جارية.
قال : ابن جريج : وأخبرني عبد الله بن عثمان بن خُشَيم ، أنه سمع سعيد بن جبير يقول : أبدلا مكان الغلام جارية.
وقال آخرون : أبدلهما ربهما بغلام مسلم.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج عن أبي

(18/86)


جريج( فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا ) قال : كانت أمه حُبلى يومئذ بغلام مسلم.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثنا أبو سفيان ، عن معمر ، عن قتادة ، أنه ذكر الغلام الذي قتله الخضر ، فقال : قد فرح به أبواه حين ولد وحزنا عليه حين قتل ، ولو بقي كان فيه هلاكهما ، فليرض امرؤ بقضاء الله ، فإن قضاء الله للمؤمن فيما يكره خير له من قضائه فيما يحب.
وقوله : ( خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً ) يقول : خيرا من الغلام الذي قتله صلاحا ودينا.
كما حدثنا القاسم ، ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قوله : ( فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً ) قال : الإسلام.
وقوله : ( وَأَقْرَبَ رُحْمًا ) اختلف أهل التأويل في تأويله ، فقال بعضهم : معنى ذلك : وأقرب رحمة بوالديه وأبرّ بهما من المقتول.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر عن قتادة( وَأَقْرَبَ رُحْمًا ) : أبرّ بوالديه.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سيعد ، عن قتادة( وَأَقْرَبَ رُحْمًا ) ، أي أقرب خيرا.
وقال آخرون : بل معنى ذلك : وأقرب أن يرحمه أبواه منهما للمقتول.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج( وَأَقْرَبَ رُحْمًا ) أرحم به منهما بالذي قتل الخضر.
وكان بعض أهل العربية يتأوّل ذلك : وأقرب أن يرحماه ، والرُّحْم : مصدر رحمت ، يقال : رَحِمته رَحْمة ورُحما. وكان بعض البصريين يقول : من الرَّحم والقرابة. وقد يقال : رُحْم ورُحُم مثل عُسْر وعُسُر ، وهُلك وهُلُك ، واستشهد لقوله ذلك ببيت العجاج :
وَلْم تُعَوَّجْ رُحْمُ مَنْ تَعَوَّجا (1)
ولا وجه للرَّحمِ في هذا الموضع ، لأن المقتول كان الذي أبدل الله منه والديه ولدا لأبوي المقتول ، فقرابتهما من والديه ، وقربهما منه في الرَّحيم سواء. وإنما معنى ذلك : وأقرب من المقتول أن يرحم والديه فيبرهما كما قال قتادة : وقد يتوجه الكلام إلى أن يكون معناه. وأقرب أن يرحماه ، غير أنه لا قائل من أهل تأويل تأوّله كذلك ، فإذ لم يكن فيه قائل ، فالصواب فيه ما قلنا لما بيَّنا.
__________
(1) البيت من مشطور الرجز . وهو للعجاج ( ديوانه طبع ليبسج سنة 1903 ص 10 ) وهو من شواهد أبي عبيدة في ( مجاز القرآن 1 : 413 ) قال في تفسير قوله تعالى : ( وأقرب رحما ) : معناها : معنى رحما ، مثل عسر ويسر ، وهلك وهلك قال العجاج : " ولم تعوج . . . البيت " . وفي ( اللسان : رحم ) : الرحم ، بالضم : الرحمة . وفي التنزيل : " وأقرب رحما " ، وقرئت رحما ( بضمتين ) . وقال أبو إسحق : أي أقرب عطفا وأمس بالقرابة . والرحم ( بضم الراء المشددة فيهما ، مع سكون الحاء أو ضمها ) في اللغة : العطف والرحمة .

(18/87)


وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا (82)

القول في تأويل قوله تعالى : { وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنز لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا (82) }
يقول تعالى ذكره مخبرا عن قول صاحب موسى : وأما الحائط الذي أقمته ، فإنه كان لغلامين يتيمين في المدينة ، وكان تحته كنز لهما.
اختلف أهل التأويل في ذلك الكنز فقال بعضهم : كان صُحُفا فيها علم مدفونة.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي عن ابيه ، عن ابن عباس( وَكَانَ تَحْتَهُ كَنز لَهُمَا ) قال : كان تحته كنز علم.
حدثنا يعقوب ، قال : ثنا هشيم ، قال : أخبرنا حصين ، عن سعيد بن جبير : ( وَكَانَ تَحْتَهُ كَنز لَهُمَا ) قال : كان كنز علم.
حدثنا محمد بن بشار ، قال ثنا عبد الرحمن ، قال ثنا سفيان ، عن أبي حصين ، عن سعيد بن جبير( وَكَانَ تَحْتَهُ كَنز لَهُمَا ) قال : علم.
حدثنا محمد بن المثنى ، قال : ثنا أبو داود ، قال : ثنا شعبة ، عن أبي حصين ، عن سعيد بن جبير( وَكَانَ تَحْتَهُ كَنز لَهُمَا ) قال : علم.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ؛ وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله( وَكَانَ تَحْتَهُ كَنز لَهُمَا ) قال : صحف لغلامين فيها علم.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، قال : صحف علم.
حدثني أحمد بن حازم الغِفاريّ ، قال : ثنا هنادة ابنة مالك الشيبانية ، قالت : سمعت صاحبي حماد بن الوليد الثقفي يقول : سمعت جعفر بن محمد يقول

(18/88)


في قول الله عزّ وجلّ : ( وَكَانَ تَحْتَهُ كَنز لَهُمَا ) قال سطران ونصف ، لم يتم الثالث : " عجبت للموقن بالرزق كيف يتعب ، عجبت للموقن بالحساب كيف يغفل ، وعجبت للموقن بالموت كيف يفرح " وقد قال : ( وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ ) قالت : وذكر أنهما حُفِظا بصلاح أبيهما ، ولم يذكر منهما صلاح ، وكان بينهما وبين الأب الذي حُفظا به سبعة آباء ، وكان نساجا.
حدثني يعقوب ، قال : ثنا بن حبيب بن ندبة ، قال : ثنا سلمة بن محمد ، عن نعيم العنبريّ ، وكان من جُلساء الحسن ، قال : سمعت الحسن يقول في قوله : ( وَكَانَ تَحْتَهُ كَنز لَهُمَا ) قال : لوح من ذهب مكتوب فيه : " بسم الله الرحمن الرحيم : عجبت لمن يؤمن كيف يحزن ، وعجبت لمن يوقن بالموت كيف يفرح ، وعجبت لمن يعرف الدنيا وتقلبها بأهلها ، كيف يطمئنّ إليها ، لا إله إلا الله ، محمد رسول الله " .
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، قال : ثني ابن إسحاق ، عن الحسن بن عمارة ، عن الحكم ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس أنه كان يقول : ما كان الكنز إلا عِلْما.
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا ابن عيينة ، عن حميد ، عن مجاهد ، في قوله( وَكَانَ تَحْتَهُ كَنز لَهُمَا ) قال : صُحُف من علم.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرني عبد الله بن عياش ، عن عمر مولى غُفْرة (1) ، قال : إن الكنز الذي قال الله في السورة التي يذكر فيها الكهف( وَكَانَ تَحْتَهُ كَنز لَهُمَا ) قال : كان لوحا من ذهب مصمت ، مكتوبا فيه : بسم الله الرحمن الرحيم ، عَجَبٌ من عرف الموت ثم ضحك ، عجب من أيقن بالقدر ثم نصب ، عجب من أيقن بالموت ، ثم أمن ، أشهد أن لا إله إلا الله ، وأن محمدا عبده ورسوله.
__________
(1) عمر بن عبد الله المدني ، مولى غفرة ، بضم المعجمة ، قيل : هي أخت بلال بن رباح . توفي سنة 145 هـ ( الخزرجي ) .

(18/89)


وقال آخرون : بل كان مالا مكنوزا.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني يعقوب ، قال : ثنا هشيم ، قال : أخبرنا حصين ، عن عكرمة( وَكَانَ تَحْتَهُ كَنز لَهُمَا ) قال : كنز مال.
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا عبد الرحمن ، قال : ثنا سفيان ، عن أبي حصين ، عن عكرمة ، مثله.
حدثنا ابن المثنى ، قال : ثنا أبو داود ، عن شعبة ، قال : أخبرني أبو حُصَين ، عن عكرمة ، مثله ، قال شعبة : ولم نسمعه منه.
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة( وَكَانَ تَحْتَهُ كَنز لَهُمَا ) قال : مال لهما ، قال قتادة : أحلّ الكنز لمن كان قبلنا ، وحرّم علينا ، فإن الله يحلّ من أمره ما يشاء ، ويحرّم ، وهي السنن والفرائض ، ويحلّ لأمة ، ويحرّم على أخرى ، لكنّ الله لا يقبل من أحد مضى إلا الإخلاص والتوحيد له.
* وأولى التأولين في ذلك بالصواب : القول الذي قاله عكرمة ، لأن المعروف من كلام العرب أن الكنز اسم لما يكنز من مال ، وإن كلّ ما كنز فقد وقع عليه اسم كنز فإن التأويل مصروف إلى الأغلب من استعمال المخاطبين بالتنزيل ، ما لم يأت دليل يجب من أجله صرفه إلى غير ذلك ، لعلل قد بيَّناها في غير موضع.
وقوله : ( وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا ) يقول : فأراد ربك أن يدركا ويبلغا قوتهما وشدّتهما ، ويستخرجا حينئذ كنزهما المكنوز تحت الجدار الذي أقمته رحمة من ربك بهما ، يقول : فعلت فعل هذا بالجدار ، رحمة من ربك لليتيمين.
وكان ابن عباس يقول في ذلك ما حدثني موسى بن عبد الرحمن ، قال : ثنا أبو أسامة ، عن مسعر ، عن عبد الملك بن

(18/90)


وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا (83)

ميسره ، عن سعيد بن جبير ، قال : قال ابن عباس ، في قوله( وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا ) قال : حفظا بصلاح أبيهما ، وما ذكر منهما صلاح.
حدثنا أبو كريب ، قال : ثنا سفيان ، عن مسعر ، عن عبد الملك بن ميسرة ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، بمثله.
وقوله : ( وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ) يقول : وما فعلت يا موسى جميع الذي رأيتني فعلته عن رأيي ، ومن تلقاء نفسي ، وإنما فعلته عن أمر الله إياي به.
كما حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثا سعيد ، عن قتادة( وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ) : كان عبدا مأمورا ، فمضى لأمر الله.
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : ( وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ) ما رأيت أجمع ما فعلته عن نفسي.
وقوله : ( ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا ) يقول : هذا الذي ذكرت لك من الأسباب التي من أجلها فعلت الأفعال التي استنكرتها مني ، تأويل : يقول : ما تئول إليه وترجع الأفعال التي لم تسطع على ترك مسألتك إياي عنها ، وإنكارك لها صبرا.
وهذه القصص التي أخبر الله عزّ وجلّ نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم بها عن موسى وصاحبه ، تأديب منه له ، وتقدّم إليه بترك الإستعجال بعقوبة المشركين الذين كذّبوه واستهزءوا به وبكتابه ، وإعلام منه له أن أفعاله بهم وإن جرت فيما ترى الأعين بما قد يجري مثله أحيانا لأوليائه ، فإن تأويله صائر بهم إلى أحوال أعدائه فيها ، كما كانت أفعال صاحب موسى واقعة بخلاف الصحة في الظاهر عند موسى ، إذ لم يكن عالما بعواقبها ، وهي ماضية على الصحة في الحقيقة وآئلة إلى الصواب في العاقبة ، ينبئ عن صحة ذلك قوله : ( وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُالْعَذَابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلا ) . ثم عقب ذلك بقصة موسى وصاحبه ، يعلم نبيه أن تركه جلّ جلاله تعجيل العذاب لهؤلاء المشركين ، بغير نظر منه لهم ، وإن كان ذلك فيما يحسب من لا علم له بما الله مدبر فيهم نظرا منه لهم ، لأن تأويل ذلك صائر إلى هلاكهم وبوارهم بالسيف في الدنيا واستحقاقهم من الله في الآخرة الخزي الدائم.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا (83) }

(18/91)


القول في تأويل قوله تعالى : { وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُوا عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا (83) إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الأرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُل ّشَيْء ٍ

(18/91)


إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآَتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا (84) فَأَتْبَعَ سَبَبًا (85)

سَبَبًا (84) فَأَتْبَعَ سَبَبًا (85) }
* يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : ويسألك يا محمد هؤلاء المشركون عن ذي القرنين ما كان شأنه ، وما كانت قصته ، فقل لهم : سأتلو عليكم من خبره ذكرا يقول : سأقصّ عليكم منه خبرا. وقد قيل : إن الذين سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أمر ذي القرنين ، كانوا قوما من أهل الكتاب.
فأما الخبر بأن الذين سألوه عن ذلك كانوا مشركي قومه فقد ذكرناه قبل.
وأما الخبر بأن الذين سألوه ، كانوا قوما من أهل الكتاب ، فحدثنا به أبو كريب. قال : ثنا زيد بن حباب عن ابن لهيعة ، قال : ثني عبد الرحمن بن زياد بن أنعم ، عن شيخين من تجيب ، قال : أحدهما لصاحبه : انطلق بنا إلى عقبة بن عامر نتحدّث ، قالا فأتياه فقالا جئنا لتحدثنا ، فقال : " كنت يوما أخدم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فخرجت من عنده ، فلقيني قوم من أهل الكتاب ، فقالوا : نريد أن نسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فاستأذن لنا عليه ، فدخلت عليه ، فأخبرته ، فقال : ما لي وما لهم ، ما لي علم إلا ما علمني الله " ، ثم قال : اسكب لي ماء ، فتوضأ ثم صلى ، قال : فما فرغ حتى عرفت السرور في وجهه ، ثم قال : " أدخلهم عليّ ، ومن رأيت من أصحابي فدخلوا فقاموا بين يديه ، فقال : إن شئتم سألتم فأخبرتكم عما تجدونه في كتابكم مكتوبا ، وإن شئتم أخبرتكم ، قالوا : بلى أخبرنا ، قال : جئتم تسألوني عن ذي القرنين ، وما تجدونه في كتابكم : كان شابا من الروم ، فجاء فبنى مدينة مصر الإسكندرية ، فلما فرغ جاءه ملك فعلا به في السماء ، فقال له ما ترى ؟ فقال : أرى مدينتي ومدائن ، ثم علا به ، فقال : ما ترى ؟ فقال : أرى مدينتي ، ثم علا به فقال : ما ترى ؟ قال : أرى الأرض ، قال : فهذا اليم محيط بالدنيا ، إن الله بعثني إليك تعلم الجاهل ، وتثبت العالم ، فأتى به السدّ ، وهو جبلان لينان يَزْلَق عنهما كل شيء ، ثم مضى به حتى جاوز يأجوج ومأجوج ، ثم مضى به إلى أمة أخرى ، وجوههم وجوه الكلاب يقاتلون يأجوج ومأجوج ، ثم مضى به حتى قطع به أمة أخرى يقاتلون هؤلاء الذين وجوههم وجوه الكلاب ، ثم مضى حتى قطع به هؤلاء إلى أمة أخرى قد سماهم " .

(18/92)


واختلف أهل العلم في المعنى الذي من أجله قيل لذي القرنين : ذو القرنين ، فقال بعضهم :
قيل له ذلك من أجل أنه ضُرِب على قَرنْه فهلك ، ثم أُحْيِي فضُرب على القرن الآخر فهلك.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا حكام ، عن عنبسة ، عن عبيد المُكْتِب ، عن أبي الطُّفِيل ، قال : سأل ابن الكوّاء عليا عن ذي القرنين ، فقال : هو عبد أحبّ الله فأحبه ، وناصح الله فنصحه ، فأمرهم بتقوى الله فضربوه على قَرْنه فقتلوه ، ثم بعثه الله ، فضربوه على قرنه فمات.
حدثنا محمد بن بشار ، قال : ثنا يحيى ، عن سفيان ، عن حبيب بن أبي ثابت ، عن أبي الطفيل ، قال : سئل عليّ رضوان الله عليه عن ذي القرنين ، فقال : كان عبدا ناصح الله فناصحه ، فدعا قومه إلى الله ، فضربوه على قرنه فمات ، فأحياه الله ، فدعا قومه إلى الله فضربوه على قرنه فمات ، فسمي ذا القرنين.
حدثنا محمد بن المثنى ، قال : ثنا محمد بن جعفر ، قال : ثنا شعبة ، عن القاسم بن أبى بزة ، عن أبي الطفيل ، قال : سمعت عليا وسألوه عن ذي القرنين أنبيا كان ؟ قال : كان عبدا صالحا ، أحبّ الله ، فأحبه الله ، وناصح الله فنصحه ، فبعثه الله إلى قومه ، فضربوه ضربتين في رأسه ، فسمي ذا القرنين ، وفيكم اليوم مثله.
وقال آخرون في ذلك بما حدثني به محمد بن سهل البخاري ، قال : ثنا إسماعيل بن عبد الكريم ، قال : ثني عبد الصمد بن معقل ، قال : قال وهب بن منبه : كان ذو القرنين ملكا ، فقيل له : فلم سُمّي ذا القرنين ؟ قال : اختلف فيه أهل الكتاب. فقال بعضهم : ملك الروم وفارس. وقال بعضهم : كان في رأسه شبه القرنين.
وقال آخرون : إنما سمي ذلك لأن صفحتي رأسه كانتا من نحاس.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة. قال : ثني ابن أبي إسحاق. قال : ثني من لا أتهم عن وهب بن منبه اليماني ، قال : إنما سمي ذا القرنين أن صفحتي رأسه كانتا من نحاس.
وقوله : ( إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الأرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا ) يقول : إنا وطأنا له في الأرض ، ( وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا ) يقول وآتيناه من كل شيء ،

(18/93)


يعني ما يتسبب إليه وهو العلم به.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال ثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله( وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا ) يقول : علما.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة قوله( وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا ) أي علما.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال : قال ابن زيد ، في قوله( وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا ) قال : من كلّ شيء علما..
- حدثنا القاسم ، قال ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قوله( وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا ) قال : علم كلّ شيء.
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس( وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا ) علما.
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : ثنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله( وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا ) يقول : علما.
وقوله : ( فَأَتْبَعَ سَبَبًا ) اختلفت القراء في قراءة ذلك ، فقرأته عامة قرّاء المدينة والبصرة ، فاتبع بوصل الألف ، وتشديد التاء ، بمعنى : سلك وسار ، من قول القائل : اتَّبعت أثر فلان : إذا قفوته ؛ وسرت وراءه. وقرأ ذلك عامة قرّاء الكوفة( فَأَتْبَعَ) بهمز الألف ، وتخفيف التاء ، بمعنى لحق.
وأولى القراءتين في ذلك بالصواب : قراءة من قرأه( فَاتَّبَعَ) بوصل الألف ، وتشديد التاء ، لأن ذلك خبر من الله تعالى ذكره عن مسير ذي القرنين في الأرض التي مكن له فيها ، لا عن لحاقه السبب ، وبذلك جاء تأويل أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس( فَاتَّبَعَ سَبَبا ) يعني بالسبب ، المنزل.
حدثنا محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني

(18/94)


حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَهَا قَوْمًا قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا (86)

الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله : (سَبَبا) قال : منزلا وطريقا ما بين المشرق والمغرب.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، نحوه.
حدثني محمد بن عمارة الأسدي ، قال : ثنا عبيد الله بن موسى ، قال : أخبرنا إسرائيل ، عن أبي يحيى ، عن مجاهد( فاتَّبَعَ سَبَبا ) قال : طريقا في الأرض.
حدثنا بشر ، قال : يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( فاتَّبَعَ سَبَبا ) : اتبع منازل الأرض ومعالمها.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله( فاتَّبَعَ سَبَبا ) قال : هذه الآن سبب الطرق (1) كما قال فرعون( يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الأسْبَابَ أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ ) قال : طرق السماوات.
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، في قوله : ( فاتَّبَعَ سَبَبا ) قال : منازل الأرض.
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول ، في قوله( فاتَّبَعَ سَبَبا ) قال : المنازل.
القول في تأويل قوله تعالى : { حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَهَا قَوْمًا قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا (86) }
* يقول تعالى ذكره : ( حَتَّى إِذَا بَلَغَ ) ذو القرنين( مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ ) ، فاختلفت القراء في قراءة ذلك ، فقرأه بعض قراء المدينة والبصرة( فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ ) بمعنى : أنها تغرب في عين ماء ذات حمأة ، وقرأته جماعة من قراء المدينة ، وعامَّة قرّاء الكوفة(فِي عَيْنٍ حامِيَةٍ( يعني أنها
__________
(1) عبارة الدر : هذه الآن الطرق ، ثم قال : والشيء يكون اسمه واحدا ، وهو متفرق في المعنى .

(18/95)


تغرب في عين ماء حارّة.
واختلف أهل التأويل في تأويلهم ذلك على نحو اختلاف القرّاء في قراءته.
ذكر من قال( تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ ) : حدثنا محمد بن المثنى ، قال : ثنا ابن أبى عديّ ، عن داود ، عن عكرمة ، عن ابن عباس( وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ ) قال : ذات حمأة.
حدثنا الحسين بن الجنيد ، قال : ثنا سعيد بن سلمة ، قال : ثنا إسماعيل بن علية ، عن عثمان بن حاضر ، قال : سمعت عبد الله بن عباس يقول : قرأ معاوية هذه الآية ، فقال : ( عَيْنٌ حامِيَةٌ ) فقال ابن عباس : إنها عين حمئة ، قال : فجعلا كعبا بينهما ، قال : فأرسلا إلى كعب الأحبار ، فسألاه ، فقال كعب : أما الشمس فإنها تغيب في ثأط ، فكانت على ما قال ابن عباس ، والثأط : الطين.
حدثنا يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : ثني نافع بن أبي نعيم ، قال : سمعت عبد الرحمن الأعرج يقول : كان ابن عباس يقول( فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ) ثم فسرها. ذات حمأة ، قال نافع : وسئل عنها كعب ، فقال : أنتم أعلم بالقرآن مني ، ولكني أجدها في الكتاب تغيب في طينة سوداء.
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس( وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ ) قال : هي الحمأة.
حدثنا محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد( فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ ) قال : ثأط.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد في قول الله عزّ ذكره( تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ ) قال : ثأطة.
قال : وأخبرني عمرو بن دينار ، عن عطاء بن أبي رباح ، عن ابن عباس ، قال : قرأت( فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ ) وقرأ عمرو بن العاص(فِي عَيْنٍ حامِيَةٍ) فأرسلنا إلى كعب. فقال : إنها تغرب في حمأة طينة سوداء.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ ) والحمئة : الحمأة السوداء.

(18/96)


حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : ثنا مروان بن معاوية ، عن ورقاء ، قال : سمعت سعيد بن جبير ، قال : كان ابن عباس يقرأ هذا الحرف( فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ ) ويقول : حمأة سوداء تغرب فيها الشمس.
وقال آخرون : بل هي تغيب في عين حارّة.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : ثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس(وَجَدَها تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حامِيَةٍ ) يقول : في عين حارّة.
حدثنا يعقوب ، قال : ثنا ابن علية ، عن أبي رجاء ، قال : سمعت الحسن يقول(فِي عَيْنٍ حامِيَةٍ ) قال : حارّة.
حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن الحسن ، في قوله( فِي عَيْنٍ حَامِيَةٍ ) قال : حارّة ، وكذلك قرأها الحسن.
والصواب من القول في ذلك عندي أن يقال : إنهما قراءتان مستفيضتان في قراءة الأمصار ، ولكل واحدة منهما وجه صحيح ومعنى مفهوم ، وكلا وجهيه غير مفسد أحدهما صاحبه ، وذلك أنه جائز أن تكون الشمس تغرب في عين حارّة ذات حمأة وطين ، فيكون القارئ في عين حامية بصفتها التي هي لها ، وهي الحرارة ، ويكون القارئ في عين حمئة واصفها بصفتها التي هي بها وهي أنها ذات حمأة وطين. وقد رُوي بكلا صيغتيها اللتين إنهما من صفتيها أخبار.
حدثنا محمد بن المثنى ، قال : ثنا يزيد بن هارون ، قال : أخبرنا العوّام ، قال : ثني مولى لعبد الله بن عمرو ، عن عبد الله ، قال : " نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الشمس حين غابت ، فقال : فِي نارِ اللهِ الحامِيَةِ ، فِي نَارِ اللهِ الحَامِيَةِ ، لَوْلا ما يَزَعُها مِنْ أمْرِ اللهِ لأحْرَقَتْ ما عَلى الأرْضِ " .
حدثني الفضل بن داود الواسطي ، قال : ثنا أبو داود ، قال : ثنا محمد بن دينار ، عن سعد بن أوس ، عن مصدع ، عن ابن عباس ، عن أبيّ بن كعب أن النبي صلى الله عليه وسلم أقرأه : (حَمِئةٍ).
وقوله : ( وَوَجَدَ عِنْدَهَا قَوْمًا ) ذكر أن أولئك القوم يقال لهم : ناسك.
وقوله : ( قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ ) يقول : إما أن تقتلهم إن هم لم يدخلوا

(18/97)


قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا (87) وَأَمَّا مَنْ آَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا (88)

في الإقرار بتوحيد الله ، ويذعنوا لك بما تدعوهم إليه من طاعة ربهم( وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا ) يقول : وإما أن تأسرهم فتعلمهم الهدى وتبصرهم الرشاد.
القول في تأويل قوله تعالى : { قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا (87) }
يقول جلّ ثناؤه( قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ) يقول : أما من كفر فسوف نقتله.
كما حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، في قوله : ( أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ) قال : هو القتل.
وقوله( ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا ) يقول : ثم يرجع إلى الله تعالى بعد قتله ، فيعذبه عذابا عظيما ، وهو النكر ، وذلك عذاب جهنم.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا (88) }
يقول : وأما من صدق الله منهم ووحَّده ، وعمل بطاعته ، فله عند الله الحسنى ، وهي الجنة ، جزاء يعني ثوابا على إيمانه ، وطاعته ربه.
وقد اختلفت القراء في قراءة ذلك ، فقرأته عامَّة قرّاء أهل المدينة وبعض أهل البصرة والكوفة(فَلَهُ جَزَاءُ الحُسْنَى) برفع الجزاء وإضافته إلى الحسنى.
وإذا قرئ ذلك كذلك ، فله وجهان من التأويل :
أحدهما : أن يجعل الحسنى مرادا بها إيمانه وأعماله الصالحة ، فيكون معنى الكلام إذا أريد بها ذلك : وأما من آمن وعمل صالحا فله جزاؤها ، يعني جزاء هذه الأفعال الحسنة.
والوجه الثاني : أن يكون معنيا بالحسنى : الجنة ، وأضيف الجزاء إليها ، كما قيل( وَلَدَارُ الآخِرَةِ خَيْرٌ ) والدار : هي الآخرة ، وكما قال : ( وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ) والدين : هو القيم.
وقرأ آخرون : ( فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى ) بمعنى : فله الجنة جزاء فيكون الجزاء

(18/98)


ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا (89) حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْرًا (90) كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرًا (91)

منصوبا على المصدر. بمعنى : يجازيهم جزاء الجنة.
وأولى القراءتين بالصواب في ذلك عندي قراءة من قرأه : ( فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى ) بنصب الجزاء وتنوينه على المعنى الذي وصفت ، من أن لهم الجنة جزاء. فيكون الجزاء نصبا على التفسير.
وقوله : ( وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا ) يقول : وسنعلمه نحن في الدنيا ما تيسر لنا تعليمه ما يقرّبه إلى الله ويلين له من القول. وكان مجاهد يقول نحوا مما قلنا في ذلك.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى " ح " ، وحدثتي الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله( مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا ) قال معروفا.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله.
القول في تأويل قوله تعالى : { ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا (89) حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْرًا (90) كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرًا (91) }
يقول تعالى ذكره : ثم سار وسلك ذو القرنين طرقا ومنازل.
كما حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله( ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا ) يعني منزلا.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا ) منازل الأرض ومعالمها( حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْرًا )
يقول تعالى ذكره : ووجد ذو القرنين الشمس تطلع على قوم لم نجعل لهم من دونها سترا ، وذلك أن أرضهم لا جبل فيها ولا شجر ، ولا تحتمل بناء ، فيسكنوا البيوت ، وإنما يغورون في المياه ، أو يسربون في الأسراب
كما حدثني إبراهيم ين المستمر ، قال : ثنا سليمان بن داود وأبو داود ،

(18/99)


قال : ثنا سهل بن أبي الصلت السراج ، عن الحسن( تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْرًا ) قال : كانت أرضا لا تحتمل البناء ، وكانوا إذا طلعت عليهم الشمس تغور في الماء ، فإذا غربت خرجوا يتراعون كما ترعى البهائم ، قال : ثم قال الحسن : هذا حديث سمرة.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْرًا ) ذكر لنا أنهم كانوا في مكان لا يستقرّ عليه البناء ، وإنما يكونون في أسراب لهم ، حتى إذا زالت عنهم الشمس خرجوا إلى معايشهم وحروثهم ، قال : ( كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرًا ).
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج في قوله( وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْرًا ) قال : لم يبنوا فيها بناء قط ، ولم يبن عليهم فيها بناء قط ، وكانوا إذا طلعت عليهم الشمس دخلوا أسرابا لهم حتى تزول الشمس ، أو دخلوا البحر ، وذلك أن أرضهم ليس فيها جبل ، وجاءهم جيش مرّة ، فقال لهم أهلها : لا تطلعن عليكم الشمس وأنتم بها ، فقالوا : لا نبرح حتى تطلع الشمس ، ما هذه العظام ؟ قالوا : هذه جيف جيش طلعت عليهم الشمس ها هنا فماتوا ، قال : فذهبوا هاربين في الأرض.
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، قوله : ( تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْرًا ) قال : بلغنا أنهم كانوا في مكان لا يثبت عليهم بناء ، فكانوا يدخلون في أسراب لهم إذا طلعت الشمس ، حتى تزول عنهم ، ثم يخرجون إلى معايشهم.
وقال آخرون : هم الزنج.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، في قوله( تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْرًا ) قال : يقال : هم الزنج.
وأما قوله : (كَذَلكَ) فإن معناه : ثم أتبع سببا كذلك ، حتى إذا بلغ مطلع الشمس ؛ وكذلك : من صلة أتبع ، وإنما معنى الكلام : ثم أتبع سببا ، حتى بلغ

(18/100)


ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا (92) حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْمًا لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا (93) قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا (94)

مطلع الشمس ، كما أتبع سببا حتى بلغ مغربها.
وقوله( وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرًا ) يقول : وقد أحطنا بما عند مطلع الشمس علما لا يخفى علينا ما هنالك من الخلق وأحوالهم وأسبابهم ، ولا من غيرهم شيء.
وبالذي قلنا في معنى الخبر ، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : (خُبْرًا) قال : علما.
حدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله( كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرًا ) قال : علما.
القول في تأويل قوله تعالى : { ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا (92) حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْمًا لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلا (93) قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الأرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا (94) }
يقول تعالى ذكره : ثم سار طرقا ومنازل ، وسلك سبلا( حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ ) .
واختلفت القرّاء في قراءة ذلك ، فقرأته عامة قرّاء المدينة وبعض الكوفيين( حتَّى إذَا بلَغ بينَ السُّدَّيْنِ ) بضمّ السين وكذلك جميع ما في القرآن من ذلك بضم السين. وكان بعض قرّاء المكيين يقرؤنه بفتح ذلك كله. وكان أبو عمرو بن العلاء يفتح السين في هذه السورة ، ويضمّ السين في يس ، ويقول : السَّدُّ بالفتح : هو الحاجز بينك وبين الشيء ؛ والسُّدُّ بالضم : ما كان من غشاوة في العين. وأما الكوفيون فإن قراءة عامتهم في جميع القرآن بفتح السين غير قوله :

(18/101)


( حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ ) فإنهم ضموا السين في ذلك خاصة.
ورُوي عن عكرمة في ذلك ، ما حدثنا به أحمد بن يوسف ، قال : ثنا القاسم ، قال : ثنا حجاج ، عن هارون ، عن أيوب ، عن عكرمة قال : ما كان من صنعة بني آدم فهو السَّدُّ ، يعني بالفتح ، وما كان من صنع الله فهو السدّ.
وكان الكسائي يقول : هما لغتان بمعنى واحد.
والصواب من القول في ذلك عندي أن يقال : إنهما قراءتان مستفيضتان في قراءة الأمصار ، ولغتان متفقتا المعنى غير مختلفة ، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب ، ولا معنى للفرق الذي ذكر عن أبي عمرو بن العلاء ، وعكرمة بين السُّد والسَّد ، لأنا لم نجد لذلك شاهدا يبين عن فرق ما بين ذلك على ما حكي عنهما. وما يبين ذلك أن جميع أهل التأويل الذي رُوي لنا عنهم في ذلك قول - لم يحك لنا عن أحد منهم تفصيل بين فتح ذلك وضمه ، ولو كانا مختلفي المعنى لنقل الفصل مع التأويل إن شاء الله. ولكن معنى ذلك كان عندهم غير مفترق ، فيفسر الحرف بغير تفصيل منهم بين ذلك. وأما ما ذُكر عن عكرِمة في ذلك ، فإن الذي نقل ذلك عن أيوب وهارون ، وفي نقله نظر ، ولا نعرف ذلك عن أيوب من رواية ثقات أصحابه. والسَّد والسُّد جميعا : الحاجز بين الشيئين ، وهما ها هنا فيما ذُكر جبلان سدّ ما بينهما ، فردم ذو القرنين حاجزا بين يأجوج ومأجوج ومن وراءهم ، ليقطع مادّ غوائلهم وعبثهم عنهم.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن عطاء الخراساني ، عن ابن عباس( حتى إذَا بَلَغَ بينَ السُّدَّيْنِ) قال : الجبلين الردم الذي بين يأجوج ومأجوج ، أمتين من وراء ردم ذي القرنين : قال : الجبلان : أرمينية وأذربيجان.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( حتى إذَا بَلَغَ بينَ السُّدَّيْنِ) وهما جبلان.
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : ثنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله( بينَ السُّدَّيْنِ ) يعني بين جبلين.

(18/102)


حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، في قوله(بينَ السُّدَّيْن) قال : هما جبلان.
وقوله( وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْمًا لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلا ) يقول عزّ ذكره : وجد من دون السدّين قوما لا يكادون يفقهون قول قائل سوى كلامهم.
وقد اختلفت القرّاء في قراءة قوله(يَفْقَهُون) فقرأته عامة قرّاء أهل المدينة والبصرة وبعض أهل الكوفة( يَفَقَهُونَ قَوْلا) بفتح القاف والياء ، من فقَه الرجل يفقَه فقها : وقرأ ذلك عامَّة قرّاء أهل الكوفة(يُفْقِهُون قَوْلا) بضمّ الياء وكسر القاف : من أفقهت فلانا كذا أفقهه إفقاها : إذا فهمته ذلك.
والصواب عندي من القول في ذلك ، إنهما قراءتان مستفيضتان في قراءة الأمصار ، غير دافعة إحداهما الأخرى ، وذلك أن القوم الذين أخبر الله عنهم هذا الخبر جائز أن يكونوا لا يكادون يفقهون قولا لغيرهم عنهم ، فيكون صوابا القراءة بذلك. وجائز أن يكونوا مع كونهم كذلك كانوا لا يكادون أن يفقهوا غيرهم لعلل : إما بألسنتهم ، وإما بمنطقهم ، فتكون القراءة بذلك أيضا صوابا.
وقوله( إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الأرْضِ ) اختلفت القرّاء في قراءة قوله( إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ ) فقرأت القرّاء من أهل الحجاز والعراق وغيرهم( إنَّ ياجُوجَ وماجُوجَ ) بغير همز على فاعول من يججت ومججت ، وجعلوا الألفين فيهما زائدتين ، غير عاصم بن أبي النجود والأعرج ، فإنه ذكر أنهما قرآ ذلك بالهمز فيهما جميعا ، وجعلا الهمز فيهما من أصل الكلام ، وكأنهما جعلا يأجوج : يفعول من أججت ، ومأجوج : مفعول.
والقراءة التي هي القراءة الصحيحة عندنا ، أن(ياجُوحَ وماجُوجَ( بألف بغير همز لإجماع الحجة من القرّاء عليه ، وأنه الكلام المعروف على ألسن العرب ؛ ومنه قول رؤبة بن العجاج.
لو أنَّ ياجُوجَ وماجُوجَ مَعا... وعادَ عادُوا واسْتَجاشُوا تُبَّعا (1)
وهم أمتان من وراء السدّ.
__________
(1) البيت لرؤبة بن العجاج ( ديوانه طبعة ليبسج 1903 ص 92 ) قال : " يأجوج ومأجوج ، لا ينصرفان . وبعضهم يهمز ألفيهما ، وبعضهم لا يهمزها ؛ قال رؤبة : " لو أن يأجوج ومأجوج معا " فلم يصرفهما . ( وفي اللسان : أجج ) . ويأجوج ومأجوج : قبيلتان من خلق الله ، جاءت القراءة فيهما بهمز وغير همز . قال : وجاء في الحديث : " إن الخلق عشرة أجزاء ، تسعة منها يأجوج ومأجوج . وهما اسمان أعجميان ، واشتقاق مثلهما من كلام العرب ، يخرج من أجت النار ، ومن الماء الأجاج ، وهو الشديد الملوحة ، المحرق من ملوحته . قال : ويكون التقدير في يأجوج : " يفعول " . وكذلك مأجوج . قال : وهذا لو كان الاسمان عربيان ، لكان هذا اشتقاقهما ؛ فأما الأعجمية فلا تشتق من العربية . ومن لا يهمز وجعل الألفين زائدتين ، يقول : ياجوج : من يججت ، وماجوج : من مججت وهما غير مصروفين ؛ قال رؤبة : لو أن ياجوج وماجوج معا ... وعاد عادوا واستجاشوا تبعا
. أ هـ .

(18/103)


وقوله : ( مُفْسِدُونَ فِي الأرْضِ ) اختلف أهل التأويل في معنى الإفساد الذي وصف الله به هاتين الأمتين ، فقال بعضهم : كانوا يأكلون الناس.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا أحمد بن الوليد الرملي ، قال : ثنا إبراهيم بن أيوب الخوزاني ، قال : ثنا الوليد بن مسلم ، قال : سمعت سعيد بن عبد العزيز يقول في قوله( إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الأرْضِ ) قال : كانوا يأكلون الناس.
وقال آخرون : بل معنى ذلك : أن يأجوج ومأجوح سيفسدون في الأرض ، لا أنهم كانوا يومئذ يفسدون.
* ذكر من قال ذلك ، وذكر صفة اتباع ذي القرنين الأسباب التي ذكرها الله في هذه الآية ، وذكر سبب بنائه للردم : حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، قال : ثنا محمد بن اسحاق ، قال : ثني بعض من يسوق أحاديث الأعاجم من أهل الكتاب ، ممن قد أسلم ، مما توارثوا من علم ذي القرنين ، أن ذا القرنين كان رجلا من أهل مصر اسمه مرزبا بن مردبة اليوناني ، من ولد يونن بن يافث بن نوح.
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، قال : ثني محمد بن إسحاق ، عن ثور بن يزيد ، عن خالد بن معدان الكلاعي ، وكان خالد رجلا قد أدرك الناس " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن ذى القرنين فقال مَلِكٌ مَسَحَ الأرْضَ مِنْ تَحْتِها بالأسْبابِ " قال خالد : وسمع عمر بن الخطاب رجلا يقول :

(18/104)


يا ذا القرنين ، فقال : اللهمّ غفرا ، أما رضيتم أن تسموا بأسماء الأنبياء ، حتى تسموا بأسماء الملائكة ؟ فإن كان رسول الله قال ذلك ، فالحق ما قال ، والباطل ما خالفه.
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، قال : ثني محمد بن إسحاق ، قال : فحدثني من لا أتهم عن وهب بن منبه اليماني ، وكان له علم بالأحاديث الأول ، أنه كان يقول : ذو القرنين رجل من الروم ، ابن عجوز من عجائزهم ، ليس لها ولد غيره ، وكان اسمه الإسكندر. وإنما سمي ذا القرنين أن صفحتي رأسه كانتا من نحاس ؛ فلما بلغ وكان عبدا صالحا ، قال الله عزّ وجل له : يا ذا القرنين إني باعثك إلى أمم الأرض ، وهي أمم مختلفة ألسنتهم ، وهم جميع أهل الأرض ، ومنهم أمتان بينهما طول الأرض كله ؛ ومنهم أمتان بينهما عرض الأرض كله ، وأم في وسط الأرض منهم الجن والإنس ويأجوج ومأجوج. فأما الأمتان اللتان بينهما طول الأرض : فأمة عند مغرب الشمس ، يقال لها : ناسك. وأما الأخرى : فعند مطلعها يقال لها : منسك. وأما اللتان بينهما عرض الأرض ، فأمة في قطر الأرض الأيمن ، يقال لها : هاويل. وأما الأخرى التي في قطر الأرض الأيسر ، فأمة يقال لها : تاويل ؛ فلما قال الله له ذلك ، قال له ذو القرنين : إلهي إنك قد ندبتني لأمر عظيم لا يَقدر قدره إلا أنت ، فأخبرني عن هذه الأمم التي بعثني إليها ، بأيّ قوة أكابدهم ، وبأيّ جمع أكاثرهم ، وبأيّ حيلة أكايدهم ، وبأيّ صبر أقاسيهم ، وبأيّ لسان أناطقهم ، وكيف لي بأن أفقه لغاتهم ، وبأىّ سمْع أعي قولهم ، وبأيّ بصر أنفذهم ، وبأيّ حجة أخاصمهم ، وبأيّ قلب أعقل عنهم ، وبأيّ حكمة أدبر أمرهم ، وبأيّ قسط أعدل بينهم ، وبأيّ حلم أصابرهم ، وبأيّ معرفة أفصل بينهم ، وبأيّ علم أتقن أمورهم ، وبأيّ يد أسطو عليهم ، وبأيّ رجل أطؤهم ، وبأيّ طاقة أخصمهم ، وبأيّ جند أقاتلهم ، وبأيّ رفق أستألفهم ، فإنه ليس عندي يا إلهي شيء مما ذكرت يقوم لهم ، ولا يقوى عليهم ولا يطيقهم. وأنت الربّ الرحيم. الذي لا يكلِّف نفسا إلا وسعها ، ولا يحملها إلا طاقتها ، ولا يعنتها ولا يفدحها ، بل أنت ترأفها (1) وترحمها.
قال الله عزّ
__________
(1) يقال : رأف به يرأف : إذا رحمه ، وهو بوزن فتح وكرم وفرح ، ويعدى بالباء ، كما في اللسان ، ولعل هنا مضمن معنى رئمه ، فعدى بنفسه ، أو محرف عن ترأمها .

(18/105)


وجلّ : إني سأطوّقك ما حمَّلتك ، أشرح لك صدرك ، فيسع كلّ شيء وأشرح لك فهمك فتفقه كلّ شيء ، وأبسط لك لسانك ، فتنطق بكلّ شيء ، وأفتح لك سمعك فتعي كلّ شيء ، وأمدّ لك بصرك ، فتنفذ كلّ شيء ، وأدبر أمرك فتتقن كلّ شيء ، وأحصي لك فلا يفوتك شيء ، وأحفظ عليك فلا يعزب عنك شيء ، وأشدّ لك ظهرك ، فلا يهدّك شيء ، وأشدّ لك ركنك فلا يغلبك شيء ، وأشدّ لك قلبك فلا يروعك شيء ، وأسخر لك النور والظلمة ، فأجعلهما جندا من جنودك ، يهديك النور أمامك ، وتحوطك الظلمة من ورائك ، وأشدّ لك عقلك فلا يهولك شيء ، وأبسط لك من بين يديك ، فتسطو فوق كلّ شيء ، وأشدّ لك وطأتك ، فتهدّ كل شيء ، وألبسك الهيبة فلا يرومك شيء.
ولما قيل له ذلك ، انطلق يؤم الأمة التي عند مغرب الشمس ، فلما بلغهم ، وجد جمعا وعددا لا يحصيه إلا الله ، وقوة وبأسا لا يطيقه إلا الله ، وألسنة مختلفة وأهواء متشتتة ، وقلوبا متفرّقة ، فلما رأى ذلك كاثرهم بالظلمة ، فضرب حولهم ثلاثة عساكر منها ، فأحاطتهم من كلّ مكان ، وحاشتهم حتى جمعتهم قي مكان واحد ، ثم أخذ عليهم بالنور ، فدعاهم إلى الله وإلى عبادته ، فمنهم من آمن له ، ومنهم من صدّ ، فعمد إلى الذين تولوا عنه. فأدخل عليهم الظلمة .فدخلت في أفواههم وأنوفهم وآذانهم وأجوافهم ، ودخلت في بيوتهم ودورهم ، وغشيتهم من فوقهم ، ومن تحتهم ومن كلّ جانب منهم ، فماجوا فيها وتحيروا ، فلما أشفقوا أن يهلكوا فيها عجوا إليه بصوت واحد ، فكشفها عنهم وأخذهم عنوة ، فدخلوا في دعوته ، فجنَّد من أهل المغرب أمما عظيمة ، فجعلهم جندا واحدا ، ثم انطلق بهم يقودهم ، والظلمة تسوقهم من خلفهم وتحرسهم من حولهم ، والنور أمامهم يقودهم ويدلهم ، وهو يسير في ناحية الأرض اليمنى ، وهو يريد الأمة التي في قطر الأرض الأيمن التي يقال لها هاويل. وسخر الله له يده وقلبه ورأيه وعقله ونظره وائتماره ، فلا يخطئ إذا ائتمر ، وإذا عمل عملا أتقنه. فانطلق يقود تلك الأمم وهي تتبعه ، فإذا انتهى إلى بحر أو مخاضة بنى سفنا من ألواح صغار أمثال النعال ، فنظمها في ساعة ، ثم جعل فيها جميع من معه من تلك الأمم وتلك الجنود ، فإذا قطع الأنهار والبحار فتقها ، ثم دفع إلى كلّ إنسان لوحا فلا يكرثه حمله ،

(18/106)


فلم يزل كذلك دأبه حتى انتهى إلى هاويل ، فعمل فيها كعمله في ناسك. فلما فرغ منها مضى على وجهه في ناحية الأرض اليمنى حتى انتهى إلى منسك عند مطلع الشمس ، فعمل فيها وجند منها جنودا ، كفعله في الأمتين اللتين قبلها ، ثم كر مقبلا في ناحية الأرض اليسرى ، وهو يريد تاويل وهي الأمة التي بحيال هاويل ، وهما متقابلتان بينهما عرض الأرض كله ؛ فلما بلغها عمل فيها ، وجند منها كفعله فيما قبلها ، فلما فرغ منها عطف منها إلى الأمم التي وسط الأرض من الجن وسائر الناس ، ويأجوج ومأجوج ، فلما كان في بعض الطريق مما يلي منقطع الترك نحو المشرق ، قالت له أمة من الإنس صالحة : يا ذا القرنين ، إن بين هذين الجبلين خلقا من خلق الله ، وكثير منهم مشابه للإنس (1) ، وهم أشباه البهائم ، يأكلون العشب ، ويفترسون الدوابّ والوحوش كما تفترسها السباع ، ويأكلون خشاش الأرض كلها من الحيات والعقارب ، وكلّ ذي روح مما خلق الله في الأرض ، وليس لله خلق ينمو نماءهم في العام الواحد ، ولا يزداد كزيادتهم ، ولا يكثر ككثرتهم ، فإن كانت لهم مدّة على ما نرى من نمائهم وزيادتهم ، فلا شكّ أنهم سيملئون الأرض ، ويجلون أهلها عنها ويظهرون عليها فيفسدون فيها ، وليست تمرّ بنا سنة منذ جاورناهم إلا ونحن نتوقعهم ، وننتظر أن يطلع علينا أوائلهم من بين هذين الجبلين( فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا ) أعدوا إليّ الصخور والحديد والنحاس حتى أرتاد بلادهم ، وأعلم علمهم ، وأقيس ما بين جبليهم.
ثم انطلق يؤمهم حتى دفع إليهم وتوسط بلادهم ، فوجدهم على مقدار واحد ، ذكرهم وأنثاهم ، مبلغ طول الواحد منهم مثل نصف الرجل المربوع منا ، لهم مخالب في موضع الأظفار من أيدينا ، وأضراس وأنياب كأضراس السباع وأنيابها. وأحناك كأحناك الإبل ، قوّة تسمع لها حركة إذا أكلوا كحركة الجرّة من الإبل ، أو كقضم الفحل المسنّ ، أو الفرس القويّ ، وهم هلب ، عليهم من الشعر في أجسادهم ما يواريهم ، وما يتقون به الحرّ والبرد
__________
(1) في ( عرائس المجالس للثعلبي المفسر ، طبعة : الحلبي ص 365 ) ليس فيهم مشابهة من الإنس ، وهو أليق بالمقام .

(18/107)


إذا أصابهم ، ولكل واحد منهم أذنان عظيمتان : إحداهما وبرة ظهرها وبطنها ، والأخرى زغبة ظهرها وبطنها ، تَسعانه إذا لبسهما ، يلتحف إحداهما ، ويفترش الأخرى ، ويصيف في إحداهما ، ويشتي في الأخرى ، وليس منهم ذكر ولا أنثى إلا وقد عرف أجله الذى يموت فيه ، ومنقطع عمره ، وذلك أنه لا يموت ميت من ذكورهم حتى يخرج من صلبه ألف ولد ، ولا تموت الأنثى حتى يخرج من رحمها ألف ولد ، فإذا كان ذلك أيقن بالموت ، وهم يرزقون التنين أيام الربيع ، ويستمطرونه إذا تحينوه كما نستمطر الغيث لحينه ، فيقذفون منه كلّ سنة بواحد ، فيأكلونه عامهم كله إلى مثله من العام القابل ، فيغنيهم على كثرتهم ونمائهم ، فإذا أمطروا وأخصبوا وعاشوا وسمنوا ، ورؤي أثره عليهم ، فدرّت عليهم الإناث ، وشَبِقت منهم الرجال الذكور ، وإذا أخطأهم هَزَلوا وأجدبوا ، وجفرت الذكور ، وحالت الإناث ، وتبين أثر ذلك عليهم ، وهم يتداعَون تداعي الحَمام ، ويعوُون عُواء الكلاب ، ويتسافدون حيث التقَوا تسافد البهائم.
فلما عاين ذلك منهم ذو القرنين انصرف إلى ما بين الصَّدَفين ، فقاس ما بينهما وهو في منقطع أرض الترك مما يلي مشرق الشمس ، فوجد بُعد ما بينهما مئة فرسخ ؛ فلما أنشأ في عمله ، حفر له أساسا حتى بلغ الماء ، ثم جعل عرضه خمسين فرسخا ، وجعل حشوه الصخور ، وطينه النحاس ، يذاب ثم يُصبّ عليه ، فصار كأنه عِرْق من جبل تحت الأرض ، ثم علاه وشَرّفه بزُبَر الحديد والنحاس المذاب ، وجعل خلاله عِرْقا من نحاس أصفر ، فصار كأنه بُرد محبر من صفرة النحاس وحمرته وسواد الحديد ، فلما فرغ منه وأحكمه ، انطلق عامدا إلى جماعة الإنس والجن ، فبينا هو يسير ، دفع إلى أمة صالحة يهدون بالحقّ وبه يعدلون ، فوجد أمة مقسطة مقتصدة ، يقسمون بالسوية ، ويحكمون بالعدل ، ويتآسون ويتراحمون ، حالهم واحدة ، وكلمتهم واحدة ، وأخلاقهم مشتبهة ، وطريقتهم مستقيمة ، وقلوبهم متألفة ، وسيرتهم حسنة ، وقبورهم بأبواب بيوتهم ، وليس على بيوتهم أبواب ، وليس عليهم أمراء ، وليس بينهم قضاة ، وليس بينهم أغنياء ، ولا ملوك ، ولا أشراف ، ولا يتفاوتون ، ولا يتفاضلون ، ولا يختلفون ، ولا يتنازعون ، ولا يستبُّون ، ولا يقتتلون ، ولا يَقْحَطون ، ولا يحردون ، ولا تصيبهم الآفات التي تصيب الناس ، وهم أطول الناس أعمارا ،

(18/108)


وليس فيهم مسكين ، ولا فقير ، ولا فظّ ، ولا غليظ ، فلما رأى ذلك ذو القرنين من أمرهم ، عجب منه! وقال : أخبروني ، أيها القوم خبركم ، فإني قد أحصيت الأرض كلها برّها وبحرها ، وشرقها وغربها ، ونورها وظلمتها ، فلم أجد مثلكم ، فأخبروني خبركم ؛ قالوا : نعم ، فسلنا عما تريد ، قال : أخبروني ، ما بال قبور موتاكم على أبواب بيوتكم ؟ قالوا : عمدا فعلنا ذلك لئلا ننسى الموت ، ولا يخرج ذكره من قلوبنا ، قال : فما بال بيوتكم ليس عليها أبواب ؟ قالوا : ليس فينا متهم ، وليس منا إلا أمين مؤتمن ؛ قال : فما لكم ليس عليكم أمراء ؟ قالوا : لا نتظالم ، قال : فما بالكم ليس فيكم حكام ؟ قالوا : لا نختصم ، قال : فما بالكم ليس فيكم أغنياء ؟ قالوا : لا نتكاثر ؛ قال : فما بالكم ليس فيكم ملوك ؟ قالوا : لا نتكابر ، قال : فما بالكم لا تتنازعون ولا تختلفون ؟ قالوا : من قبل ألفة قلوبنا وصلاح ذات بيننا ؛ قال : فما بالكم لا تستبون ولا تقتتلون ؟ قالوا : من قبل أنا غلبنا طبائعنا بالعزم ، وسسنا أنفسنا بالأحلام ، قال : فما بالكم كلمتكم واحدة ، وطريقتكم مستقيمة مستوية ؟ قالوا : من قبل أنا لا نتكاذب ، ولا نتخادع ، ولا يغتاب بعضنا بعضا ؛ قال : فأخبروني من أين تشابهت قلوبكم ، واعتدلت سيرتكم ؟ قالوا : صحّت صدورنا ، فنزع بذلك الغلّ والحسد من قلوبنا ؛ قال : فما بالكم ليس فيكم مسكين ولا فقير ؟ قالوا : من قبل أنا نقتسم بالسوية ؛ قال : فما بالكم ليس فيكم فظّ ولا غليظ ؟ قالوا : من قبل الذّل والتواضع ؛ قال : فما جعلكم أطول الناس أعمارا ؟ قالوا : من قبل أنا نتعاطى الحقّ ونحكم بالعدل ؛ قال : فما بالكم لا تُقْحَطون ؟ قالوا : لا نغفل عن الاستغفار ، قال : فما بالكم لا تَحْرَدون ؟ قالوا : من قبل أنا وطأنا أنفسنا للبلاء منذ كنا ، وأحببناه وحرصنا عليه ، فعرينا منه ، قال : فما بالكم لا تصيبكم الآفات كما تصيب الناس ؟ قالوا : لا نتوكل على غير الله ، ولا نعمل بالأنواء والنجوم ، قال : حدِّثوني أهكذا وجدتم آباءكم يفعلون ؟ قالوا : نعم وجدنا آباءنا يرحمون مساكينهم ، ويُواسون فقراءهم ، ويَعفون عمن ظلمهم ، ويُحسنون إلى من أساء إليهم ، ويحلُمون عمن جهل عليهم ، ويستغفرون لمن سبهم ، ويصلون أرحامهم ، ويؤدّون آماناتهم ، ويحفظون وقتهم لصلاتهم ، ويُوَفُّون بعهودهم ، ويصدُقون في مواعيدهم ، ولا يرغبون عن أكفائهم ، ولا يستنكفون عن أقاربهم ، فأصلح الله لهم بذلك أمرهم ، وحفظهم ما كانوا أحياء ، وكان حقا على الله أن يحفطهم في تركتهم.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، عن أبي رافع ، عن أبي هريرة ، عن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم قال : إنَّ يأجُوجَ ومأْجُوجَ يَحْفُرُونَ السَّدَّ كُلَّ يَوْمٍ ، حتى إذَا كادُوا يَرَونَ شُعاعَ الشَّمْسِ قال الَّذِي عَلَيْهِمْ ارْجِعُوا فَتَحْفُرُونَهُ غَدًا ، فَيُعِيدُهُ اللهُ وَهُوَ كَهَيْئتِهِ يَوْمَ تَرَكُوهُ ، حتى إذَا جاءَ الوَقْتُ قالَ : إنْ شاءَ اللهُ ، فَيَحْفُرُونَهُ ويخْرُجُونَ على النَّاسِ ، فَينْشِفُونَ الميَاهَ ، وَيَتَحَصَّنُ النَّاسُ فِي حُصُونِهِمْ ، فَيرْمُونَ بِسِهامِهِمْ إلى السَّماءِ ، فَيرجِعُ فيها كَهَيْئَةِ الدِّماءِ ، فَيَقُولُونَ : قَهَرْنا أَهْلَ الأرضِ ، وَعَلَوْنا أهْلَ السَّماءِ ، فَيَبْعَثُ اللهُ عَلَيْهِمْ نَغْفا في أقْفائِهمْ فَتَقْتُلُهم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : والَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ إنَّ دَوَابَّ الأرْضِ لَتَسْمَنُ وتَشْكرُ مِنْ لُحُومِهِمْ " .
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، عن محمد بن إسحاق ، عن عاصم بن عمر بن قتادة الأنصاري ثم الظفري ، عن محمود بن لبيد أخي بني عبد الأشهل ، وعن أبي سعيد الخدريّ ، قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " يُفْتَحُ يَأْجُوجُ ومأْجُوجَ فَيَخْرُجُونَ على النَّاسِ كمَا قال الله عز وجل( وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ ) فَيَغْشَوْنَ الأرْضَ ، ويَنْحازُ المُسْلِمُونَ عَنْهُمْ إلى مَدَائِنِهمْ وحُصونِهِمْ ، وَيَضُمَّونَ إلَيْهِمْ مَوَاشِيهِمْ ، فَيَشْرَبُونَ مِياهَ الأرْضِ ، حتى إنَّ بَعْضَهُم لَيَمُرُّ بالنَّهْرِ فَيَشْرَبُونَ ما فِيهِ ، حتى يَتْركُوه يَابِسًا ، حتى إنَّ مَنْ بَعْدَهُم لَيَمُرُّ بذلكَ النَّهْرِ ، فَيَقُولُ : لَقَدْ كانَ هَا هُنا ماءٌ مَرَّةً ، حتى لمْ يَبْقَ مِنَ النَّاسِ أَحَدٌ إلا انحازَ إلى حِصْنٍ أوْ مَدِينَةٍ ، قالَ قائِلُهُم : هَؤْلاء أهْلُ الأرْضِ قَدْ فَرَغْنا مِنْهُمْ ، بَقِيَ أهْلُ السَّماءِ ، قالَ : ثُمَّ يَهُزُّ أحَدُهُمْ حَرْبَتَهُ ، ثُمَّ يَرْمي بها إلى السَّماءِ ، فَتَرْجِعُ إلَيْهِ مُخَضبَةً دَما للبلاء والفِتْنَةِ ، فَبَيْنَا هُمْ على ذلكَ ، بَعَثَ اللهُ عَلَيْهِمْ دُودًا في أعناقِهِمْ كالنَّغَفِ ، فَتَخْرُجُ فِي أعْناقِهِمْ فيُصْبِحُون مَوْتَى ، لا يُسْمَعُ لَهُمْ حِسٌّ ، فَيَقُولُ المُسْلِمُونَ : ألا رَجُلٌ يَشْرِي لنَا نَفْسَهُ ، فَيَنْظُرُ ما فعل العدوّ ، قال : فَيَتَجَرَّدُ رَجُلٌ مِنْهُمْ لذلكَ مُحْتَسِبا لِنَفْسِهِ ، قَدْ وَطَّنَها على أنَّهُ مَقْتُولٌ ، فَيَنزلُ

(18/109)


فَيَجِدُهُمْ مَوْتَى ، بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ ، فَيُنادِي : يا مَعْشَرَ المُسْلِمينَ ، ألا أبشرُوا ، فإنَّ اللهَ قَدْ كَفاكُمْ عَدُوَّكُمْ ، فيَخْرُجونَ مِنْ مَدَائنهم وَحُصُونِهِمْ ، وَيُسَرّحُونَ مَوَاشِيَهُمْ ، فَمَا يَكُونُ لَهَا رَعْيٌ إلا لُحُومُهُمْ ، فَتشْكرُ عَنْهُمْ أحْسَنَ ما شَكَرَتْ عَنْ شَيْءٍ مِنَ النَّباتِ أصَابَتْ قَطّ " .
حدثني بحر بن نصر ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : ثني معاوية ، عن أبي الزاهرية وشريح بن عبيد : أن يأجوج ومأجوج ثلاثة أصناف : صنف طولهم كطول الأرز ، وصنف طوله وعرضه سواء ، وصنف يفترش أحدهم أذنه ويلتحف بالأخرى فتغطي سائر جسده.
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثنى أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : ( قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الأرْضِ ) قال : كان أبو سعيد الخدريّ : يقول : إن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم قال : " لا يَمُوتُ رَجُلٌ مِنْهُمْ حتى يُولَدَ لِصُلْبِهِ ألْفُ رَجُل " . قال : وكان عبد الله بن مسعود يعجب من كثرتهم ويقول : لا يموت من يأجوج ومأجوج أحد حتى يولد له ألف رجل من صلبه.
فالخبر الذي ذكرناه عن وهب بن منبه في قصة يأجوج ومأجوج ، يدلّ على أن الذين قالوا لذي القرنين( إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الأرْضِ ) إنما أعلموه خوفَهم ما يحدُث منهم من الإفساد في الأرض ، لا أنهم شَكَوا منهم فسادا كان منهم فيهم أو في غيرهم. والأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم سيكون منهم الإفساد في الأرض ، ولا دلالة فيها أنهم قد كان منهم قبل إحداث ذي القرنين السدّ الذي أحدثه بينهم وبين من دونهم من الناس في الناس غيرهم إفساد.
فإذا كان ذلك كذلك بالذي بيَّنا ، فالصحيح من تأويل قوله( إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الأرْضِ ) إن يأجوج ومأجوج سيفسدون في الأرض.
وقوله( فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا ) اختلفت القرّاء في قراءة ذلك ، فقرأته عامة قرّاء المدينة والبصرة وبعض أهل الكوفة : ( فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا ) كأنهم نَحَوا به نَحو المصدر من خَرْج للرأس ، وذلك جعله ، وقرأته عامَّة قرّاء الكوفيين

(18/111)


قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا (95)

( فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرَاجا " بالألف ، وكأنهم نحوا به نحو الاسم. وعنوا به أجرة على بنائك لنا سدّا بيننا وبين هؤلاء القوم.
وأولى القراءتين في ذلك عندنا بالصواب قراءة من قرأه( فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرَاجا " بالألف ، لأن القوم فيما ذُكر عنهم ، إنما عرضوا على ذي القرنين أن يعطوه من أموالهم ما يستعين به على بناء السدِّ ، وقد بين ذلك بقوله : ( فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا ) ولم يعرضوا عليه جزية رؤوسهم. والخراج عند العرب : هو الغلة.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك : حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن عطاء الخراسانيّ ، عن ابن عباس( فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرَاجًا ) قال : أجرا(عَلَى أن تجعل بيننا وبينهم سدا)
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، في قوله( فَهَلْ نَجْعَلُ لَك خَرَاجا) قال : أجرا.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثنا أبو سفيان ، عن معمر ، عن قتادة ، قوله( فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرَاجا ) قال : أجرا.
وقوله : ( عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا ) يقول : قالوا له : هل نجعل لك خراجا حتى أن تجعل بيننا وبين يأجوج ومأجوح حاجزا يحجز بيننا وبينهم ، ويمنعهم من الخروج إلينا. وهو السدّ.
القول في تأويل قوله تعالى : { قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا (95) }
يقول تعالى ذكره : قال ذو القرنين : الذي مكنني في عمل ما سألتموني من السدّ بينكم وبين هؤلاء القوم ربي ، ووطأه لي ، وقوّانى عليه ، خير من جُعلكم ، والأجرة التي تعرضونها عليّ لبناء ذلك ، وأكثر وأطيب ، ولكن أعينوني منكم بقوة ، أعينوني بفَعَلة وصناع يُحسنون البناء والعمل.

(18/112)


آَتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آَتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا (96) فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا (97)

كما حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد( قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ ) قال : برجال( أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا ) وقال ما مكني ، فأدغم إحدى النونين في الأخرى ، وإنما هو ما مكنني فيه. وقوله : ( أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا ) يقول : أجعل بينكم وبين يأجوج ومأجوج ردما. والردم : حاجز الحائط والسدّ ، إلا أنه أمنع منه وأشدّ ، يقال منه : قد ردم فلان موضع كذا يَردِمه رَدْما ورُدَاما (1) ويقال أيضا : رَدَّم ثوبه يردمه ، وهو ثوب مُرَدّم : إذا كان كثير الرقاع ، ومنه قول عنترة :
هَلْ غَادَرَ الشُّعَرَاءُ مِنْ مُتَرَدَّمِ... أَمْ هَلْ عَرَفْتَ الدَّارَ بَعْدَ تَوَهْمِ (2)
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله( أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا ) قال : هو كأشد الحجاب.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قال : " ذكر لنا أن رجلا قال : يا نبي الله قد رأيت سدّ يأجوج ومأجوج ، قال انْعَتْهُ لي قال : كأنه البرد المحبَّر ، طريقة سوداء ، وطريقة حمراء ، قالَ قَدْ رأيتَهُ " .
القول في تأويل قوله تعالى : { آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى
__________
(1) الردام : مصدر ردم يردم ( بالضم في المضارع ) رداما : ضراط . ( عن اللسان ) .
(2) البيت لعنترة بن عمرو بن شداد العبسي ، من معلقته المشهورة ( انظره في شرح الزوزني للمعلقات السبع ، وشرح التبريزي للقصائد العشر ، ومختار الشعر الجاهلي بشرح مصطفى السقا ، طبعة الحلبي ص 369 ) قال شارحه : متردم : موضع يسترقع ويستفلح لوهنه ووهيه ، من قولهم : ردمت الشيء إذا أصلحته ، وقويت ما وهي منه . ويروى : مترنم ، من الترنم ، وهو ترجيع الصوت مع تحزين . يقول : هل ترك الشعراء موضعا مسترقعا إلا وقد أصلحوه ، أو هل تركت الشعراء شيئًا إلا رجعوا نغماته بإنشاء الشعر في وصفه ؟ والمعنى : لم يترك الأول للآخر شيئا . ثم أضرب عن ذلك ، وسأل نفسه : هل عرفت دار عشيقتك ، بعد شكك فيها ؟ وفي ( اللسان : ردم ) : والمتردم الموضع الذي يرقع . ويقال : تردم الرجل ثوبه : أي رقعه يتعدى ، ولا يتعدى . ابن سيده : ثوب مردم ، ومرتدم ، ومتردم ، وملوم : خلق مرقع ؛ قال عنترة : * هل غادر الشعراء من متردم *
. . . البيت " . معناه أي مستصلح . قال ابن سيده : أي من كلام يلصق بعضه ويلبق : أي قد سبقونا إلى القلم فلم يدعوا مقالا لقائل .

(18/113)


بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا (96) فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا (97) }
يقول عزّ ذكره : قال ذو القرنين للذين سألوه أن يجعل بينهم وبين يأجوج ومأجوج سداّ( آتُونِي ) أي جيئوني بِزُبَرِ الحديد ، وهي جمع زُبْرة ، والزُّبْرة : القطعة من الحديد.
كما حدثني عليّ ، قال : ثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : ( زُبَرَ الْحَدِيدِ ) يقول : قطع الحديد.
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : ( آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ ) قال : قطع الحديد.
حدثني إسماعيل بن سيف ، قال : ثنا عليّ بن مسهر ، عن إسماعيل ، عن أبي صالح ، قوله : ( زُبَرَ الْحَدِيدِ ) قال : قطع الحديد.
حدثني محمد بن عمارة الأسديّ ، قال : ثنا عبيد الله بن موسى ، قال : أخبرنا إسرائيل ، عن أبي يحيى عن مجاهد ، قوله( آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ ) قال : قطع الحديد.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ ) أي فَلَق الحديد.
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، في قوله : ( آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ ) قال : قطع الحديد.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قال ابن عباس : ( آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ ) قال : قطع الحديد.
وقوله( حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ ) يقول عزّ ذكره : فآتو زُبَر الحديد ، فجعلها بين الصدفين حتى إذا ساوى بين الجبلين بما جعل بينهما من زُبر الحديد ، ويقال : سوّى.
والصدفان : ما بين ناحيتي الجبلين ورؤوسهما ، ومنه قوله الراجز :
قدْ أخَذَتْ ما بينَ عَرْضِ الصُّدُفَيْنِ... ناحِيَتَيْها وأعالي الرُّكْنَيْن (1)
__________
(1) البيتان من شواهد أبي عبيدة في ( مجاز القرآن 1 : 414 ) قال : " بين الصدفين " : فبعضهم يضمها ، وبعضهم يفتحها ( الصاد المشددة ) يحرك الدال . ومجازهما : ما بين الناحيتين من الجبلين . وقال : " قد أخذت . . . البيتين " . ولم ينسبهما وفي ( اللسان : صدف ) : والصدفان ( التحدريك ) والصدفان بضمهما : جبلان متلاقيان بيننا وبين يأجوج ومأجوج . وفي التنزيل العزيز : ( حتى إذا ساوى بين الصدفين ) : قرئ الصدفين ( بالتحريك ) والصدفين وبضمهما ، والصدفين ( بضم الأول وفتح الثاني ) .وفي هامش اللسان " وبقيت رابعة : الصدّفين كعضوين كما في القاموس " . ( ثم قال في اللسان وفي الحديث " أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا مر بصدف أو هدف مائل أسرع المشي " . ابن الأثير : هو بفتحتين وضمتين . قال أبو عبيدة : الصدف والهدف : واحد ، وهو كل بناء مرتفع عظيم . قال الأزهري : وهو مثل صدف الجبل ، شبه به ، وهو ما قابلك من جانبه . أه .

(18/114)


وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : ثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله( بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ ) يقول : بين الجبلين.
حدثني محمد ، بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : ( حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ ) قال : هو سدّ كان بين صَدَفين ، والصدفان : الجبلان.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى " ح " ، وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : (الصَّدَفَيْنِ) رؤوس الجبلين.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله.
حُدثت عن الحسين بن الفرج ، قال : سمعت أبا مُعاذ يقول : ثنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : ( بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ ) يعني الجبلين ، وهما من قبل أرمينية وأذربيجان.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ ) وهما الجبلان.
حدثني أحمد بن يوسف ، قال : أخبرنا القاسم ، قال : ثنا هشيم ، عن مغيرة ، عن إبراهيم أنه قرأها( بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ ) منصوبة الصاد والدال ، وقال : بين الجبلين ، وللعرب في الصدفين : لغات ثلاث ، وقد قرأ بكلّ واحدة منها

(18/115)


جماعة من القرّاء :
الفتح في الصاد والدال ، وذلك قراءة عامة قرّاء أهل المدينة والكوفة ، والضمّ فيهما ، وهي قراءة أهل البصرة ، والضم في الصاد وتسكين الدال ، وذلك قراءة بعض أهل مكة والكوفة ، والفتح في الصاد والدال أشهر هذه اللغات ، والقراءة بها أعجب إليّ ، وأن كنت مستجيزا القراءة بجميعها ، لإتفاق معانيها. وإنما اخترت الفتح فيهما لما ذكرت من العلة.
وقوله قَالَ انْفُخُوا ) يقول عزّ ذكره ، قال للفعلة : انفخوا النار على هذه الزبر من الحديد.
وقوله : ( حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا ) وفي الكلام متروك ، وهو فنفخوا ، حتى إذا جعل ما بين الصدفين من الحديد نارا( قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا ) فاختلفت القراء في قراءة ذلك ، فقرأته عامة قرّاء المدينة والبصرة ، وبعض أهل الكوفة( قَالَ آتُونِي ) بمد الألف من( آتُونِي ) بمعنى : أعطوني قطرا أفرغ عليه. وقرأه بعض قرّاء الكوفة ، قال( ائْتُونِي ) بوصل الألف ، بمعنى : جيئوني قِطْرا أفرغ عليه ، كما يقال : أخذت الخطام ، وأخذت بالخطام ، وجئتك زيدا ، وجئتك بزيد. وقد يتوجه معنى ذلك إذا قرئ كذلك إلى معنى أعطوني ، فيكون كأن قارئه أراد مد الألف من آتوني ، فترك الهمزة الأولى من آتوني ، وإذا سقطت الأولى همز الثانية.
وقوله : (أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا ) يقول : أصبّ عليه قِطرا ، والقِطْر : النحاس.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله( أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا ) قال : القطر : النحاس.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله.
حدثنا القاسم قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد مثله.

(18/116)


حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا مُعاذ يقول : ثنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله( أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا ) يعني النحاس.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا ) أي النحاس ليلزمه به.
حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، في قوله( أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا ) قال : نحاسا.
وكان بعض أهل العلم بكلام العرب من أهل البصرة يقول : القِطر : الحديد المذاب ، ويستشهد لقوله ذلك بقول الشاعر :
حُساما كَلَوْنِ المِلْحِ صَافٍ حَديدُه... جُزَارًا مِنْ أقْطارِ الحَديدِ المُنَعَّتِ (1)
وقوله : (فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ ) يقول عزّ ذكره :
فما اسطاع يأجوج ومأجوج أن يعلوا الردم الذي جعله ذو القرنين حاجزا بينهم ، وبين من دونهم من الناس ، فيصيروا فوقه وينزلوا منه إلى الناس.
يقال منه : ظهر فلان فوق البيت : إذا علاه ، ومنه قول الناس : ظهر فلان على فلان : إذا قهره وعلاه وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا ) يقول : ولم يستطيعوا أن ينقبوه من أسفله.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله( فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ ) من قوله( وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا) أي من أسفله.
حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، في قوله( فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ ) قال : ما استطاعوا أن ينزعوه.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثنا أبو سفيان ، عن معمر ،
__________
(1) البيت من شواهد أبي عبيدة في ( مجاز القرآن 1 : 415 ) عند تفسير قوله تعالى : ( أفرغ عليه قطرا ) قال : أي أصب عليه حديدًا ذائبا ، قال : " حساما . . . البيت " جمع قطر ، وجعله بعضهم الرصاص النقرة أه . وفي ( اللسان : قطر ) والقطر بالكسر : النحاس الذائب ، وقيل ضرب منه أه . وفي ( اللسان : جرز ) : وسيف جراز : قاطع : ويقال : سيف جراز : إذا كان مستأصلا . والجراز من السيوف : الماضي النافذ أه .

(18/117)


عن قتادة( فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ ) قال : أن يرتقوه( وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا )
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثنى حجاج ، عن ابن جريج ، ( فما استطاعوا أن يظهروه ) قال : أن يرتقُوه( وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا )
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج( فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ ) قال : يعلوه( وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا ) أي ينقبوه من أسفله.
واختلف أهل العربية في وجه حذف التاء من قوله : (فَمَا اسْطَاعُوا ) فقال بعض نحويي البصرة : فعل ذلك لأن لغة العرب أن تقول : اسطاع يسطيع ، يريدون بها : استطاع يستطيع ، ولكن حذفوا التاء إذا جُمعت مع الطاء ومخرجهما واحد. قال : وقال بعضهم : استاع ، فحذف الطاء لذلك. وقال بعضهم : أسطاع يسطيع ، فجعلها من القطع كأنها أطاع يطيع ، فجعل السين عوضًا من إسكان الواو . (1) وقال بعض نحوييّ الكوفة : هذا حرف استعمل فكثر حتى حذف.
__________
(1) أي عوضا من ذهاب حركة الواو ، كما في اللسان .

(18/118)


قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا (98)

القول في تأويل قوله تعالى : { قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا (98) }
يقول عزّ ذكره : فلما رأى ذو القرنين أن يأجوج ومأجوج لا يستطيعون أن يظهروا ما بنى من الردم ، ولا يقدرون على نقبه ، قال : هذا الذي بنيته وسويته حاجزا بين هذه الأمة ، ومن دون الردم رحمة من ربي رحم بها من دون الردم من الناس ، فأعانني برحمته لهم حتى بنيته وسوّيته ليكفّ بذلك غائلة هذه الأمة عنهم.
وقوله( فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ ) يقول : فإذا جاء وعد ربي الذي جعله ميقاتا لظهور هذه الأمة وخروجها من وراء هذا الردم لهم. جعله دكاء ، يقول : سواه بالأرض ، فألزقه بها ، من قولهم : ناقة دكاء : مستوية الظهر لا سنام لها. وإنما معنى الكلام : جعله مدكوكا ، فقيل : دكاء.

(18/118)


وكان قتادة يقول في ذلك ما حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله( فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ ) قال : لا أدري الجبلين يعني به ، أو ما بينهما.
وذُكر أن ذلك يكون كذلك بعد قتل عيسى ابن مريم عليه السلام الدجال.
* ذكر الخبر بذلك : حدثني أحمد بن إبراهيم الدورقي ، قال : ثنا هشيم بن بشير ، قال : أخبرنا العوّام ، عن جبلة بن سحيم ، عن مؤثر ، وهو ابن عفارة العبدي ، عن عبد الله بن مسعود ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لَقِيتُ لَيْلةَ الإسْرَاءِ إبْرَاهيمَ وَمُوسَى وعِيسَى فَتَذَاكرُوا أمْرَ السَّاعةِ ، وَرَدُّوا الأمْرَ إلى إبْرَاهِيمَ فَقالَ إبْرَاهيمُ : لا عِلْمَ لي بِها ، فَرَدُّوا الأمْرَ إلى مُوسَى ، فَقالَ مُوسَى : لا عِلْمَ لي بها ، فَرَدُّوا الأمْرَ إلى عِيسَى ؛ قَالَ عِيسَى : أمَّا قِيامُ السَّاعةِ لا يَعْلَمُهُ إلا اللهُ ، وَلَكِنَّ رَبّي قَدْ عَهِدَ إليَّ بِمَا هُوَ كائِنٌ دُونَ وَقْتِها ، عَهِدَ إليَّ أنَّ الدَّجَّالَ خارِجٌ ، وأنَّهُ مُهْبِطِي إلَيْهِ ، فَذَكَرَ أنَّ مَعَهُ قَصَبَتَيْنِ ، فإذَا رآنِي أهْلَكَهُ اللهُ ، قالَ : فَيَذُوبُ كما يذوبُ الرَّصَاصُ ، حتى إنَّ الحَجَرَ والشَّجَرَ لَيَقُولُ : يا مُسْلِمُ هَذَا كافِرٌ فاقْتُلْهُ ، فَيُهْلِكُهُمُ اللهُ ، ويَرْجِعُ الناسُ إلى بِلادِهِمْ وأوْطانِهمْ فَيَسْتَقْبِلُهُمْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ مِنْ كُلِّ حَدبٍ يَنْسِلُونَ ، لا يَأْتُونَ عَلى شَيْءٍ إلا أكَلُوهُ ، ولا يَمُرُّونَ على ماءٍ إلا شَرِبُوهُ ، فَيْرِجِعُ النَّاسُ إليَّ ، فَيَشْكُونَهُمُ ، فأَدْعُو الله عليهم فيميتهم حتى تَجْوَى الأرْضُ مِنْ نَتِنْ رِيحِهِمْ ، فَيَنزلُ المَطَرُ ، فَيَجُرُّ أجْسادَهُم ، فيُلْقِيهِمْ فِي البَحْرِ ، ثُمَّ يَنْسِفُ الجِبَالَ حتى تَكُونَ الأرْضُ كالأدِيمِ ، فَعَهِدَ إليَّ رَبّي أنَّ ذلكَ إذا كان كذلك ، فإنَّ الساعة مِنْهُمُ كالحامِلِ المُتِمُّ الَّتِي لا يَدْرِي أهْلُها مَتى تَفْجَؤُهُمْ بِوِلادِها ، لَيْلا أوْ نَهَارًا " .
حدثني عبيد بن إسماعيل ، قال : ثنا المحاربيّ ، عن أصبع بن زيد ، عن العوّام بن حوشب ، عن جبلة بن سحيم ، عن مؤثر بن عَفازَة ، عن عبد الله بن مسعود ، قال : لما أُسْرِي برسول الله صلى الله عليه وسلم التقى هو وإبراهيم وموسى وعيسى عليهم السلام. فتذاكروا أمر الساعة. فذكر نحو حديث إبراهيم

(18/119)


وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا (99) وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكَافِرِينَ عَرْضًا (100)

الدورقي عن هشيم ، وزاد فيه : قال العوّام بن حوشب : فوجدت تصديق ذلك في كتاب الله تعالى ، قال الله عز وجل( حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالَ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا ) يقول : وكان وعد ربي الذي وعد خلقه في دكّ هذا الردم ، وخروج هؤلاء القوم على الناس ، وعيثهم فيه ، وغير ذلك من وعده حقا ، لأنه لا يخلف الميعاد فلا يقع غير ما وعد أنه كائن.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا (99) وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكَافِرِينَ عَرْضًا (100) }
يقول تعالى ذكره : وتركنا عبادنا يوم يأتيهم وعدنا الذي وعدناهم ، بأنا ندكّ الجبال ونَنْسِفها عن الأرض نسفا ، فنذرها قاعا صفصفا ، بعضهم يموج في بعض ، يقول : يختلط جنهم بإنسهم.
كما ثنا ابن حميد ، قال : ثنا يعقوب القمي ، عن هارون بن عنترة ، عن شيخ من بني فزارة ، في قوله( وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ ) قال : إذا ماج الجنّ والإنس ، قال إبليس : فأنا أعلم لكم علم هذا الأمر ، فيظعن إلى المشرق ، فيجد الملائكة قد قطعوا الأرض ، ثم يظعن إلى المغرب ، فيجد الملائكة قد قطعوا الأرض ، ثم يصعد يمينا وشمالا إلى أقصى الأرض ، فيجد الملائكة قطعوا الأرض ، فيقول : ما من مَحِيص ، فبينا هو كذلك ، إذ عرض له طريق كالشراك ، فأخذ عليه هو وذرّيته ، فبينما هم عليه ، إذ هجموا على النار ، فأخرج الله خازنا من خُزّان النار ، قال : يا إبليس ألم تكن لك المنزلة عند ربك ، ألم تكن في الجنان ؟ فيقول : ليس هذا يوم عتاب ، لو أن الله فرض علي فريضة لعبدته فيها عبادة لم يعبده مثلها أحد من خلقه ، فيقول : فإن الله قد فرض عليك فريضة ، فيقول : ما هي ؟ فيقول : يأمرك أن تدخل النار ، فيتلكأ

(18/120)


عليه ، فيقول (1) به وبذرّيته بجناحيه ، فيقذفهم في النار ، فَتزفر النار زفرة فلا يبقى مَلَك مقرّب ، ولا نبيّ مرسل إلا جثى لركبتيه.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله( وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ ) قال : هذا أوّل القيامة ، ثم نفخ في الصور على أثر ذلك فجمعناهم جمعا ،
( وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ) قد ذكرنا اختلاف أهل التأويل فيما مضى في الصُّور ، وما هو ، وما عُنِي به.
واخترنا الصواب من القول في ذلك بشواهده المغنية عن إعادته في هذا الموضع ، غير أنا نذكر في هذا الموضع بعض ما لم نذكر في ذلك الموضع من الأخبار.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : ثنا المعتمر بن سليمان ، عن أبيه ، قال : ثنا أسلم ، عن بشر بن شغاف ، عن عبد الله بن عمرو ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أن أعرابيا سأله عن الصُّور ، قال " قَرنٌ يُنْفَخُ فِيهِ " .
حدثنا أبو كريب ، قال : ثنا معاوية بن هشام ، عن سفيان ، عن سليمان التيمي ، عن العجلي ، عن بشر بن شغاف ، عن عبد الله بن عمرو ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم ، بنحوه.
حدثنا محمد بن الحارث القنطري ، قال : ثنا يحيى بن أبي بكير ، قال : كنت في جنازة عمر بن ذرّ فلقيت مالك بن مغول ، فحدثنا عن عطية العوفي ، عن أبي سعيد الخُدريّ ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " كَيْفَ أَنْعَمُ وَصَاحبُ القَرْنِ قَدْ الْتَقَمَ وَحَنى الجَبَهَةَ ، وأصْغَى بالأذُنِ مَتَى يُؤْمَرُ ، فشقّ ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : قُولُوا حَسْبُنا الله وعَلَى اللهِ تَوَكَّلْنا ، وَلَوِ اجْتَمَعَ أهْلُ مِنًى ما أقالُوا ذلك القَرْنَ " كذا قال ، وإنما هو ما أقلوا.
حدثني أبو السائب ، قال : ثنا حفص ، عن الحجاج ، عن عطية ، عن أبي سعيد الخُدريّ ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " كَيْفَ أنْعَمُ
__________
(1) يقول : بمعنى يدفع به ويحركه .

(18/121)


وَصَاحِبُ القَرْنِ قَدِ الْتَقَمَ القَرْنَ ، وَحَنى ظَهْرَهُ وَجَحَظَ بعَيْنَيْهِ ، قالوا : ما نقول يا رسول الله ؟ قال : قولوا : حَسْبُنا اللهُ ، تَوَكَّلْنا عَلى اللهِ " .
حدثنا أبو كريب ، قال : ثنا ابن فضيل ، عن مطرف ، عن عطية ، عن ابن عباس ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " كَيْفَ أنْعَمُ وَصَاحِبُ القَرْنِ قَدِ الْتَقَمَ القَرْنَ ، وَحَنى جَبْهَتَهُ يَسْتَمِعُ مَتى يُؤْمَرُ فَيَنْفُخُ فِيهِ ، فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم : فكيف نقول ؟ قال : تَقُولُونَ : حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الوَكِيلُ ، تَوكَّلْنا على اللهِ " .
حدثنا أبو كريب والحسن بن عرفة ، قالا ثنا أسباط ، عن مطرف ، عن عطية ، عن ابن عباس ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم ، مثله.
حدثني يعقوب ، قال : ثنا شعيب بن حرب ، قال : ثنا خالد أبو العلاء ، قال : ثنا عطية العوفيّ ، عن أبي سعيد الخدريّ ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : كَيْفَ أَنْعَمُ وصَاحِبُ القَرْنِ قَدِ الْتَقَمَ الْقَرْنَ وَحَنى الجَبْهَةَ ، وأصْغَى بالأذُنِ مَتَى يُؤْمَرُ أنْ يَنْفُخَ ، وَلَوْ أنَّ أهْلَ مِنًى اجْتَمَعُوا على القَرْنِ على أن يُقِلُّوهُ مِنَ الأرْضِ ، ما قَدَرُوا عليه " قال : فأُبِلسَ أصحابُ رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وشقّ عليهم ، قال : فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : قُولُوا : حَسْبُنا اللهُ ونِعْمَ الوَكِيلُ ، عَلى اللهِ تَوَكَّلْنا " .
حدثنا أبو كريب ، قال : ثنا عبد الرحمن بن محمد المحاربيّ ، عن إسماعيل بن رافع المدني ، عن يزيد بن فلان ، عن رجل من الأنصار ، عن محمد بن كعب الْقُرَظيّ ، عن رجل من الأنصار ، عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لَمَّا فَرَغَ اللهُ مِنْ خَلْقِ السَّمَاوَاتِ والأرْضِ ، خَلَقَ الصُّورَ ، فأعطاهُ إسْرَافِيلَ ، فَهُوَ وَضَعَهُ عَلى فِيهِ شاخِصٌ بَصَرُهُ إلى العَرْشِ يَنْتَظِرُ مَتى يُؤْمَرُ ، قال أبو هريرة : يا رسول الله ، ما الصُّور ؟ قال : قَرْنٌ ، قال : وكيف هو ؟ قال : قَرْنٌ عَظِيمٌ يُنْفَخُ فِيهِ ثَلاثُ نَفَخاتٍ : الأولى : نَفْخَةُ الفَزَعِ ، والثَّانِيَةُ : نَفْخَةُ الصَّعْقِ ، والثَّالِثَةُ : نَفْخَةُ القِيامِ لِرَبّ العالَمِينَ " .
وقوله( فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا ) يقول : فجمعنا جميع الخلق حينئذ لموقف الحساب جميعا.
وقوله( وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكَافِرِينَ عَرْضًا ) يقول : وأبرزنا جهنم يوم ينفخ في الصور ، فأظهرناها للكافرين بالله ، حتى يروها ويعاينوها

(18/122)


الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكَانُوا لَا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا (101)

كهيئة السراب ، ولو جعل الفعل لها قيل : أعرضت إذا استبانت. كما قال عمرو بن كلثوم :
وأعْرَضَتِ اليَمامَةُ واشْمَخَرَّتْ... كأسْياف بأيْدي مُصْلِتِينا (1)
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأوْيل..
*ذكر من قال ذلك : حدثنا محمد بن بشار ، قال : ثنا عبد الرحمن بن مهدي ، قال : ثنا سفيان ، عن سلمة بن كهيل ، قال : ثنا أبو الزعراء ، عن عبد الله ، قال : يقوم الخلق لله إذا نفخ في الصور ، قيام رجل واحد ، ثم يتمثل الله عزّ وجلّ للخلق فما يلقاه أحد من الخلائق كان يعبد من دون الله شيئا إلا وهو مرفوع له يتبعه ، قال : فيلقى اليهود فيقول : من تعبدون ؟ قال : فيقولون : نعبد عُزَيرا ، قال : فيقول : هل يسركم الماء ؟ فيقولون نعم ، فيريهم جهنم وهي كهيئة سراب ، ثم قرأ( وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكَافِرِينَ عَرْضًا ) ثم يلقى النصارى فيقول : من تعبدون ؟ فيقولون : نعبد المسيح ، فيقول : هل يسركم الماء ، فيقولون نعم ، قال : فيريهم جهنم وهي كهيئه السراب ، ثم كذلك لمن كان يعبد من دون الله شيئا ، ثم قرأ عبد الله( وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ )
القول في تأويل قوله تعالى : { الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكَانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا (101) }
يقول تعالى : وعرضنا جهنم يومئذ للكافرين الذين كانوا لا ينظرون في آيات الله ، فيتفكَّرون فيها ولا يتأمَّلون حججه ، فيعتبرون بها ، فيتذكرون وينيبون
__________
(1) البيت من معلقة عمرو بن كلثوم التغلبي في ( جمهرة أشعار العرب 74 - 84 ، وفي شرحي الزوزوني والتبريزي للمعلقات ) وأعرضت : ظهرت ، وعرضت الشيء : أظهرته ، ومنه قوله عز وجل : ( وعرضنا جهنم يومئذ للكافرين عرضا ) وهذا من النوادر عرضت الشيء فأعرض ، ومثله كببته فأكب ، واشمخرت : طالت وارتفعت . والمعنى بدت مستطيلة . والكاف في قوله كأسياف : في موضع نصب ، على أنها نعت لمصدر محذوف ، والمصلت الشاهر سيفه ، يقال : أصلت الشيف : إذا سللته . والمعنى : ظهرت لنا قرى اليمامة ، وارتفعت في أعيننا ، كأسياف بأيدي رجال سالين سيوفهم ، فاشتقت لذلك لما رأيت موضعها الذي يصير إليه . والشاهد في قوله : أعرضت بمعنى ظهرت .

(18/123)


أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبَادِي مِنْ دُونِي أَوْلِيَاءَ إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزُلًا (102)

إلى توحيد الله ، وينقادون لأمره ونهيه ، وكانوا لا يستطيعون سمعا ، يقول : وكانوا لا يطيقون أن يسمعوا ذكر الله الذي ذكَّرهم به ، وبيانه الذي بيَّنه لهم في آي كتابه ، بخذلان الله إياهم ، وغلبة الشقاء عليهم ، وشُغلهم بالكفر بالله وطاعة الشيطان ، فيتعظون به ، ويتدبَّرون ، فيعرفون الهدى من الضلالة ، والكفر من الإيمان.
وكان مجاهد يقول في ذلك ما حدثنا محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله( لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا ) قال : لا يعقلون.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد( وَكَانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا ) قال : لا يعلمون.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله( الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَنْ ذِكْرِي ) الآية ، قال : هؤلاء أهل الكفر.
القول في تأويل قوله تعالى : { أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبَادِي مِنْ دُونِي أَوْلِيَاءَ إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نزلا (102) }
يقول عزّ ذكره : أفظن الذين كفروا بالله من عبدة الملائكة والمسيح ، أن يتخذوا عبادي الذين عبدوهم من دون الله أولياء ، يقول كلا بل هم لهم أعداء.
وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، في قوله(أفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أنْ يَتَّخِذُوا عِبادي مِنْ دُونِي أوْلياءَ) قال : يعني من يعبد المسيح ابن مريم والملائكة ، وهم عباد الله ، ولم يكونوا للكفار أولياء.
وبهذه القراءة ، أعني بكسر السين من(أفَحَسِبَ) بمعنى الظنّ قرأت هذا الحرف قرّاء الأمصار ورُوي عن عليّ بن

(18/124)


قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا (103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا (104)

أبي طالب رضي الله عنه وعكرمة ومجاهد أنهم قرءوا ذلك( أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا ) بتسكين السين ، ورفع الحرف بعدها ، بمعنى : أفحسبهم ذلك : أي أفكفاهم أن يتخذوا عبادي من دوني أولياء من عباداتي وموالاتي.
كما حُدثت عن إسحاق بن يوسف الأزرق ، عن عمران بن حدير ، عن عكرمة( أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا ) قال : أفحسبهم ذلك ، والقراءة التي نقرؤها هي القراءة التي عليها قرّاء الأمصار( أَفَحَسِبَ الَّذِينَ ) بكسر السين ، بمعنى أفظنّ ، لإجماع الحجة من القرّاء عليها.
وقوله( إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نزلا ) يقول : أعددنا لمن كفر بالله جهنم منزلا.
القول في تأويل قوله تعالى : { قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأخْسَرِينَ أَعْمَالا (103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا (104) }
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : (قُلْ) يا محمد لهؤلاء الذين يبغون عنتك ويجادلونك بالباطل ، ويحاورونك بالمسائل من أهل الكتابين : اليهود ، والنصارى( هَلْ نُنَبِّئُكُمْ ) أيها القوم( بِالأخْسَرِينَ أَعْمَالا ) يعني بالذين أتعبوا أنفسهم في عمل يبتغون به ربحا وفضلا فنالوا به عَطَبا وهلاكا ولم يدركوا طلبا ، كالمشتري سلعة يرجو بها فضلا وربحا ، فخاب رجاؤه. وخسر بيعه ، ووكس في الذي رجا فضله.
واختلف أهل التأويل في الذين عنوا بذلك ، فقال بعضهم : عُنِي به الرهبان والقسوس.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا المقبري ، قال : ثنا حيوة بن شريح ، قال : أخبرني

(18/125)


السكن بن أبي كريمة ، أن أمه أخبرته أنها سمعت أبا خميصة عبد الله بن قيس يقول : سمعت عليّ بن أبي طالب يقول في هذه الآية( قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأخْسَرِينَ أَعْمَالا هم الرهبان الذين حبسوا أنفسهم في الصوامع.
حدثنا يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : سمعت حيوة يقول : ثني السكن بن أبي كريمة ، عن أمه أخبرته أنها سمعت عبد الله بن قيس يقول : سمعت عليّ بن أبي طالب يقول ، فذكر نحوه.
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا عبد الرحمن ، قال : ثنا سفيان ، عن منصور ، عن هلال بن يساف ، عن مصعب بن سعد ، قال : قلت لأبي( وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا ) أهم الحَرورية ؟ قال : هم أصحاب الصوامع.
حدثنا فضالة بن الفضل ، قال : قال بزيع : سأل رجل الضحاك عن هذه الآية( قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأخْسَرِينَ أَعْمَالا ) قال : هم القسيسون والرهبان.
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا الثوريّ ، عن منصور ، عن هلال بن بساف ، عن مصعب بن سعد ، قال : قال سعد : هم أصحاب الصوامع.
حدثنا ابن حميد ، قال ثنا جرير ، عن منصور ، عن ابن سعد ، قال : قلت لسعد : يا أبت( هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأخْسَرِينَ أَعْمَالا ) أهم الحَرورية ، فقال : لا ولكنهم أصحاب الصوامع ، ولكن الحَرورية قوم زاغوا فأزاغ الله قلوبهم.
وقال آخرون : بل هم جميع أهل الكتابين.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن المثنى ، قال : ثنا محمد بن جعفر ، قال ثنا شعبة ، عن عمرو بن مرة عن مصعب بن سعد ، قال : سألت أبي عن هذه الآية( قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأخْسَرِينَ أَعْمَالا الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ) أهم الحَرورية ؟ قال : لا هم أهل الكتاب ، اليهود والنصارى. أما اليهود فكذبوا بمحمد. وأما النصارى فكفروا بالجنة وقالوا : ليس فيها طعام ولا شراب ، ولكن الحَرورية( الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ) فكان سعد يسميهم الفاسقين.
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن إبراهيم بن أبي حُرّة عن مصعب بن سعد بن أبي وقاص ، عن أبيه ، في قوله( قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأخْسَرِينَ أَعْمَالا ) قال : هم اليهود والنصارى.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ،

(18/126)


عن أبي حرب بن أبي الأسود عن زاذان ، عن عليّ بن أبي طالب ، أنه سئل عن قوله( قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأخْسَرِينَ أَعْمَالا ) قال : هم كفرة أهل الكتاب ، كان أوائلهم على حقّ ، فأشركوا بربهم ، وابتدعوا في دينهم ، الذي يجتهدون في الباطل ، ويحسبون أنهم على حقّ ، ويجتهدون في الضلالة ، ويحسبون أنهم على هدى ، فضلّ سعيهم في الحياة الدنيا ، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا ، ثم رفع صوته ، فقال : وما أهل النار منهم ببعيد.
وقال آخرون : بل هم الخوارج.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن بشار ، قال : ثنا يحيى ، عن سفيان بن سَلَمة ، عن سلمة بن كُهَيل ، عن أبي الطفيل ، قال : سأل عبد الله بن الكوّاء عليا عن قوله( قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأخْسَرِينَ أَعْمَالا ) قال : أنتم يا أهل حَروراء.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : ثنا يحيى بن أيوب ، عن أبي صخر ، عن أبي معاوية البجلي ، عن أبي الصهباء البكريّ ، عن عليّ بن أبي طالب ، أن ابن الكوّاء سأله ، عن قول الله عزّ وجلّ( هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأخْسَرِينَ أَعْمَالا ) فقال عليّ : أنت وأصحابك.
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا الثوري ، عن سلمة بن كهيل ، عن أبي الطفيل ، قال : قام ابن الكوّاء إلى عليّ ، فقال : من الأخسرين أعمالا الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا ، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا ، قال : ويْلُك أهل حَروراء منهم.
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا محمد بن خالد ابن عَشْمة (1) ، قال : ثنا موسى بن يعقوب بن عبد الله ، قال : ثنى أبو الحويرث ، عن نافع بن جبير بن مطعم ، قال : قال ابن الكوّاء لعليّ بن أبي طالب : ما الأخسرين أعمالا الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا ؟ قال : أنت وأصحابك.
والصواب من القول في ذلك عندنا ، أن يقال : إن الله عزّ وجلّ عنى بقوله( هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأخْسَرِينَ أَعْمَالا ) كلّ عامل عملا يحسبه فيه مصيبا ، وأنه لله بفعله ذلك مطيع مرض ، وهو بفعله ذلك لله مسخط ، وعن طريق أهل
__________
(1) هي أم محمد ، وخالد أبوه ، فيلزم إثبات الألف أه .

(18/127)


الإيمان به جائر كالرهابنة والشمامسة وأمثالهم من أهل الإجتهاد في ضلالتهم ، وهم مع ذلك من فعلهم واجتهادهم بالله كفرة ، من أهل أيّ دين كانوا.
وقد اختلف أهل العربية في وجه نصب قوله(أعمالا) ، فكان بعض نحويي البصرة يقول : نصب ذلك لأنه لما أدخل الألف واللام والنون في الأخسرين لم يوصل إلى الإضافة ، وكانت الأعمال من الأخسرين فلذلك نصب ، وقال غيره : هذا باب الأفعل والفُعْلَى ، مثل الأفضل والفُضْلَى ، والأخسر والخُسْرَى ، ولا تدخل فيه الواو ، ولا يكون فيه مفسر ، لأنه قد انفصل بمن هو كقوله الأفضل والفُضْلَى ، وإذا جاء معه مفسر كان للأوّل والآخر ، وقال : ألا ترى أنك تقول : مررت برجل حَسَن وجها ، فيكون الحسن للرجل والوجه ، وكذلك كبير عقلا وما أشبهه قال : وإنما جاز في الأخسرين ، لأنه ردّه إلى الأفْعَل والأفْعَلة. قال : وسمعت العرب تقول : الأوّلات دخولا والآخِرات خروجا ، فصار للأوّل والثاني كسائر الباب قال : وعلى هذا يقاس.
وقوله : ( الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ) يقول : هم الذين لم يكن عملهم الذي عملوه في حياتهم الدنيا على هدى واستقامة ، بل كان على جور وضلالة ، وذلك أنهم عملوا بغير ما أمرهم الله به بل على كفر منهم به ، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا : يقول : وهم يظنون أنهم بفعلهم ذلك لله مطيعون ، وفيما ندب عباده إليه مجتهدون ، وهذا من أدَل الدلائل على خطأ قول من زعم أنه لا يكفر بالله أحد إلا من حيث يقصد إلى الكفر بعد العلم بوحدانيته ، وذلك أن الله تعالى ذكره أخبر عن هؤلاء الذين وصف صفتهم في هذه الآية ، أن سعيهم الذي سعوا في الدنيا ذهب ضلالا وقد كانوا يحسبون أنهم محسنون في صنعهم ذلك ، وأخبر عنهم أنهم هم الذين كفروا بآيات ربهم. ولو كان القول كما قال الذين زعموا أنه لا يكفر بالله أحد إلا من حيث يعلم ، لوجب أن يكون هؤلاء القوم في عملهم الذي أخبر الله عنهم أنهم كانوا يحسبون فيه أنهم يحسنون صنعه ، كانوا مثابين مأجورين عليها ، ولكن القول بخلاف ما قالوا ، فأخبر جل ثناؤه عنهم أنهم بالله كفرة ، وأن أعمالهم حابطة.
وعنى بقوله : ( أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا ) عملا والصُّنع والصَّنعة والصنيع واحد ، يقال : فرس صنيع بمعنى مصنوع.

(18/128)


أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآَيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا (105) ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آَيَاتِي وَرُسُلِي هُزُوًا (106)

القول في تأويل قوله تعالى : { أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا (105) }
يقول تعالى ذكره : هؤلاء الذين وصفنا صفتهم ، الأخسرون أعمالا الذين كفروا بحُجج ربهم وأدلته ، وأنكروا لقاءه( فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ ) يقول : فبطلت أعمالهم ، فلم يكن لها ثواب ينفع أصحابها في الآخرة ، بل لهم منها عذاب وخزي طويل( فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا) يقول تعالى ذكره : فلا نجعل لهم ثقلا. وإنما عنى بذلك : أنهم لا تثقل بهم موازينهم ، لأن الموازين إنما تثقل بالأعمال الصالحة ، وليس لهؤلاء شيء من الأعمال الصالحة ، فتثقل به موازينهم.
وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن بشار ، قال : ثنا عبد الرحمن ، قال : ثنا سفيان ، عن الأعمش ، عن شمر ، عن أبي يحيى عن كعب ، قال : يؤتى يوم القيامة برجل عظيم طويل ، فلا يزن عند الله جناح بعوضة ، اقرءوا( فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا ).
حدثنا أبو كريب ، قال : ثنا ابن الصلت ، قال : ثنا ابن أبي الزناد ، عن صالح مولى التوأمة ، عن أبي هريرة ، قال : قال رسول صلى الله عليه وسلم " يُؤْتَى بالأكُولِ الشَّرُوب الطَّوِيلِ ، فَيُوزَنُ فلا يَزِنُ جناح بعوضة " ثم قرأ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا )
القول في تأويل قوله تعالى : { ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَرُسُلِي هُزُوًا (106) }
يقول تعالى ذكره : أولئك ثوابهم جهنم بكفرهم بالله ، واتخاذهم آيات كتابه ، وحجج رسله سُخْريا ، واستهزائهم برسله.

(18/129)


إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا (107) خَالِدِينَ فِيهَا لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا (108)

القول في تأويل قوله تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نزلا (107) خَالِدِينَ فِيهَا لا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلا (108) }
يقول تعالى ذكره : إن الذين صدقوا بالله ورسوله ، وأقرّوا بتوحيد الله وما أنزل من كتبه وعملوا بطاعته ، كانت لهم بساتين الفردوس ، والفردوس : معظم الجنة ، كما قال أمية :
كانَتْ مَنازِلُهُمْ إذْ ذاكَ ظاهِرَةً... فِيها الفَراديسُ والفُومانُ والبَصَلُ (1)
واختلف أهل التأويل في معنى الفردوس ؛ فقال بعضهم : عنى به أفضل الجنة وأوسطها.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن المثنى ، قال : ثنا عباس بن الوليد ، قال : ثنا يزيد بن زريع ، عن سعيد ، عن قتادة ، قال : الفردوس : ربَوة الجنة وأوسطها وأفضلها.
حدثنا أحمد بن أبي سريج الرازي ، قال : ثنا الهيثم أبو بشر ، قال : أخبرنا الفرج بن فضالة ، عن لقمان ، عن عامر ، قال : سئل أبو أسامة عن الفردوس ، فقال : هي سرّة الجنة.
__________
(1) البيت لأمية بن أبي الصلت الثقفي ( اللسان : فوم ) . قال : وقال أمية في جمع الفوم : " كانت لهم جنة إذ ذاك ظاهرة " . . . البيت . قال : ويروى الفراريس . قال أبو الإصبع الفراريس : البصل . وقال : الزجاج : الفوم الحنطة ويقال الحبوب ، لا اختلاف بين أهل اللغة أن الفوم الحنطة وسائر الحبوب التي تختبز يلحقها اسم الفوم ، قال : من قال : الفوم هاهنا الثوم ، فإن هذا لا يعرف . وقال أبو منصور : فإن قرأها ابن مسعود بالثاء ، فمعناه الفوم وهو الحنطة . وفي ( اللسان : فردس ) الفردوس : البستان . قال الفراء : هو عربي . وقال ابن سيده : الفردوس : الوادي الخصيب عند العرب ، البستان وهو بلسان الروم : البستان . والفردوس : الروضة عن السيرافي . والفردوس : خضرة الأعناب . قال الزجاج : وحقيقته : أنه البستان الذي يجمع ما يكون في البساتين ، وكذلك هو عند أهل كل لغة . والفردوس : حديقة في الجنة . والفردوس : أصله رومي عرب ، وهو البستان .

(18/130)


حدثنا أحمد بن أبي سريج ، قال : ثنا حماد بن عمرو النصيبي ، عن أبي عليّ ، عن كعب ، قال : ليس في الجنان جنة أعلى من جنة الفردوس ، وفيها الآمرون بالمعروف ، والناهون عن المنكر.
وقال آخرون : هو البستان بالرومية.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ بن سهل الرملي ، قال : ثنا حجاج عن ابن جريج ، عن عبد الله بن كثير ، عن مجاهد ، قال : الفردوس : بستان بالرومية.
حدثنا العباس بن محمد ، قال : ثنا حجاج ، قال : ابن جريج : أخبرني عبد الله عن مجاهد ، مثله.
وقال آخرون : هو البستان الذي فيه الأعناب.
حدثنا عباس بن محمد ، قال : ثنا محمد بن عبيد ، عن الأعمش ، عن يزيد بن أبي زياد ، عن عبد الله بن الحارث ، عن كعب ، قال : جنات الفردوس التي فيها الأعناب.
والصواب من القول في ذلك ، ما تظاهرت به الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وذلك ما حدثنا به أحمد بن أبي سريج ، قال : ثنا يزيد بن هارون ، قال : أخبرنا همام بن يحيى ، قال : ثنا زيد بن أسلم ، عن عطاء بن يسار ، عن عبادة بن الصامت ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال : " الجَنَّةُ مِئَةُ دَرَجَةٍ ، ما بينَ كُلّ دَرَجَتَيْنِ مَسِيرَةُ عامٍ والفِرْدَوْسُ أعْلاها دَرَجَةً ، ومِنْها الأنهَارُ الأربعةُ ، والفِرْدَوْسُ مِنْ فَوْقِها ، فإذَا سألْتُمُ اللهَ فاسألُوهُ الفِرْدَوسَ " .
حدثنا موسى بن سهل ، قال : ثنا موسى بن داود ، قال : ثنا همام بن يحيى ، عن زيد بن أسلم ، عن عطاء بن يسار ، عن عُبادة بن الصامت ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : الجَنَّةُ مِئَةُ دَرَجَةٍ مَا بَينَ كُلّ دَرَجَتَيْنِ كمَا بينَ السَّماءِ والأرْضِ ، أعْلاها الفِرْدَوْسُ ، ومِنْها تُفَجَّر أنهارُ الجَنَّةِ الأرْبَعَةُ ، فإذَا سألْتُمُ اللهَ فاسألُوه الفِرْدَوْسَ " .

(18/131)


حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : ثني أبو يحيى بن سليمان ، عن هلال بن أسامة ، عن عطاء بن يسار ، عن أبي هريرة ، أو أبي سعيد الخُدريّ ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : إذَا سألْتُمُ اللهَ فاسألُوهُ الفِرْدَوْسَ ، فإنَّها أوْسَطُ الجَنَّة وأعْلَى الجَنَّةِ ، وَفَوْقَها عَرْشُ الرَّحْمنِ تَبَارَكَ وَتَعالى ، ومِنْهُ تَفَجَّرُ أنهارُ الجَنَّةِ " .
حدثنا محمد بن المثنى ، قال : ثنا أبو عامر ، قال : ثنا فليح ، عن هلال ، عن عبد الرحمن بن أبي عمرة ، عن أبي هريرة ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم مثله ، إلا أنه قال : " وَسَطُ الجَنَّةِ " وقالَ أيضًا : " ومِنْهُ تُفَجَّرُ أو تَتَفَجَّرُ " .
حدثني عمار بن بكار الكلاعي ، قال : ثنا يحيى بن صالح ، قال : ثنا عبد العزيز بن محمد ، قال : ثنا زيد بن أسلم ، عن عطاء بن يسار ، عن معاذ بن جبل ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " إنَّ فِي الجَنَّةِ مِئَةَ دَرَجَةٍ ، ما بينَ كُلّ دَرَجَتَينِ كَمَا بينَ السَّماءِ والأرْضِ ، والفِرْدَوْسُ أعْلَى الجنَّةِ وأوْسَطُها ، وفَوْقُها عَرْشُ الرَّحْمن ، ومِنْها تَفَجَّر أنهَارُ الجَنَّهِ ، فإذَا سألْتُمُ الله فَسَلُوهُ الفِرْدَوْسَ " .
حدثنا أحمد بن منصور ، قال : ثنا عبد الصمد بن عبد الوارث ، قال : ثنا الحارث بن عمير ، عن أبيه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " جناتُ الفِرْدَوْسِ أرْبَعَةٌ ، اثْنَتانِ مِنْ ذَهَبٍ حِلْيَتُهُما وآنِيَتُهُما ، ومَا فِيهِما مِنْ شَيْءٍ ، واثْنَتانِ مِنْ فِضَّة حِلْيَتُهُما وآنِيَتُهُما ، ومَا فِيهِما مِنْ شَيْءٍ " .
حدثنا أحمد بن أبي سريج ، قال : ثنا أبو نعيم ، قال : ثنا أبو قدامة ، عن أبي عمران الجوني ، عن أبي بكر بن عبد الله بن قيس ، عن أبيه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " جَنَّاتُ الفِرْدَوْسِ أرْبَعٌ : ثِنْتانِ مِنْ ذَهَبٍ حِلْيَتهُما ومَا فِيهِما ، وَثِنْتان مِنْ فِضَّةٍ حِلْيتُهُما وآنِيَتُهُما ومَا فِيهِما " .
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا يعقوب ، عن حفص ، عن شمر ، قال : خلق الله جنة الفردوس بيده ، فهو يفتحها في كلّ يوم خميس ، فيقول : ازدادي طيبا لأوليائي ، ازدادي حسنا لأوليائي.

(18/132)


قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا (109)

حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، بنحوه.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : سمعت مخلد بن الحسين يقول : وسئل عنها ، قال : سمعت بعض أصحاب أنس يقول : قال : يقول : أوّلهم دخولا إنما أدخلني الله أوّلهم ، لأنه ليس أحد افضل مني ، ويقول آخرهم دخولا إنما أخرني الله ، لأنه ليس أحد أعطاه الله مثل الذي أعطاني " .
القول في تأويل قوله تعالى : { قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا (109) }
يقول عز ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : (قُلْ) يا محمد : ( لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا ) للقلم الذي يُكتب به( لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ مَاءً الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا ) يقول : ولو مددنا البحر بمثل ما فيه من الماء مددا ، من قول القائل : جئتك مددا لك ، وذلك من معنى الزيادة.
وقد ذُكر عن بعضهم : ولو جئنا بمثله مددا ، كأن قارئ ذلك كذلك أراد : لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ، ولو زدنا بمثل ما فيه من المداد الذي يكتب به مدادا.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى " ح " وحدثني الحارث قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : ( الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي ) للقلم.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله.

(18/133)


حدثنا ابن البرقي ، قال : ثنا ابن أبي مريم ، قال : أخبرنا محمد بن جعفر وابن الدراوردي ، قالا ثنا زيد بن أسلم ، عن عطاء بن يسار ، عن معاذ بن جبل ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إنَّ للْجَنَّةِ مِئَةَ دَرَجَةٍ ، كُلُّ دَرَجَةٍ مِنْها كمَا بينَ السَّمَاءِ والأرْضِ ، أعْلَى دَرَجَةٍ مِنْها الفِرْدَوْس " .
حدثنا أحمد بن يحيى الصوفي ، قال : ثنا أحمد بن الفرج الطائي ، قال : ثنا الوليد بن مسلم ، عن سعيد بن بشير ، عن قتادة ، عن الحسن ، عن سمرة بن جندب ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " الفِرْدَوْسُ مِنْ رَبْوَةِ الجَنَّةِ ، هِيَ أوْسَطُها وأحْسَنُها " .
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا ابن أبي عديّ ، قال : أنبأنا إسماعيل بن مسلم ، عن الحسن ، عن سمرة بن جندب ، قال : أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أنَّ الفِرْدَوْسَ هِيَ أعْلَى الجَنَّةِ وأحْسَنُها وأرْفَعُها " .
حدثني محمد بن مرزوق ، قال : ثنا روح بن عبادة ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، عن أنس بن مالك أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم ، قال للربيع ابنة النضر " يا أُمَّ حارِثَةَ ، إنَّها جِنانٌ ، وإنَّ ابْنَكِ أصَابَ الفِرْدَوْسَ الأعْلَى " . والفردوس : ربوة الجنة وأوسطها وأفضلها.
وقوله : (نزلا) يقول : منازل ومساكن ، والمنزل : من النزول ، وهو من نزول بعض الناس على بعض.
وأما النزل : فهو الريع ، يقال : ما لطعامكم هذا نزل ، يراد به الريع ، وما وجدنا عندكم نزلا أي نزولا.
وقوله : (خالدِينَ) يقول : لابثين فيها أبدا( لا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلا ) يقول : لا يريدون عنها تحوّلا وهو مصدر تحوّلت ، أخرج إلى أصله ، كما يقال : صغر يصغر صغرا ، وعاج يعوج عوجا.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد( لا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلا ) قال : متحولا.

(18/134)


قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا (110)

حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله( لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي ) يقول : إذا لنفد ماء البحر قبل أن تنفد كلمات الله وحكمه.
القول في تأويل قوله تعالى : { قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا (110) }
يقول تعالى ذكره : قل لهؤلاء المشركين يا محمد : إنما أنا بشر مثلكم من بني آدم لا علم لي إلا ما علمني الله وإن الله يوحي إليّ أن معبودكم الذي يجب عليكم أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا ، معبود واحد لا ثاني له ، ولا شريك( فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ ) يقول : فمن يخاف ربه يوم لقائه ، ويراقبه على معاصيه ، ويرجو ثوابه على طاعته( فَلْيَعْمَلْ عَمَلا صَالِحًا ) يقول : فليخلص له العبادة ، وليفرد له الربوبية.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا عبد الرحمن ، قال : ثنا سفيان ، عن الربيع بن أبي راشد ، عن سعيد بن جبير( فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ ) قال : ثواب ربه.
وقوله( وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا ) يقول : ولا يجعل له شريكًا في عبادته إياه ، وإنما يكون جاعلا له شريكًا بعبادته إذا راءى بعمله الذي ظاهره أنه لله وهو مريد به غيره.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا أبو كريب ، قال : ثنا عمرو بن عبيد ، عن عطاء ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس( وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ

(18/135)


أَحَدًا ) (1)
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا عبد الرحمن ، قال : ثنا سفيان( وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا ) قال : لا يرائي.
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن عبد الكريم الجزري ، عن طاوس ، قال : جاء رجل ، فقال : يا نبيّ الله إني أحبّ الجهاد في سبيل الله ، وأحبّ أن يرى موطني ويرى مكاني ، فأنزل الله عزّ وجلّ : ( فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا ) "
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ومسلم بن خالد الزنجي عن صدقة بن يسار ، قال : " جاء رجل إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فذكر نحوه ، وزاد فيه : وإني أعمل العمل وأتصدّق وأحبّ أن يراه الناس " وسائر الحديث نحوه.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثنا عيسى بن يونس ، عن الأعمش ، قال : ثنا حمزة أبو عمارة مولى بني هاشم ، عن شهر بن حوشب ، قال : " جاء رجل إلى عُبادة بن الصامت ، فسأله فقال : أنبئني عما أسألك عنه ، أرأيت رجلا يصلي يبتغي وجه الله ويحبّ أن يُحْمَد ويصوم ويبتغي وجه الله ويحبّ أن يُحْمَد ، فقال عبادة : ليس له شيء ، إن الله عزّ وجلّ يقول : أنا خير شريك ، فمن كان له معي شريك فهو له كله ، لا حاجة لي فيه " .
حدثنا أبو عامر إسماعيل بن عمرو السَّكوني ، قال : ثنا هشام بن عمار ، قال : ثنا ابن عياش ، قال : ثنا عمرو بن قيس الكندي ، أنه سمع معاوية بن أبي سفيان تلا هذه الآية : ( فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا ) وقال : إنها آخر آية نزلت من القرآن .
آخر تفسير سورة الكهف
__________
(1) كذا في المخطوطة رقم 100 تفسير ، بدار الكتب المصرية ، وفي الدر عن سعيد : لا يشرك : لا يرائي بعبادة ربه أحدا .

(18/136)


كهيعص (1)

بسم الله الرحمن الرحيم
تفسير سورة مريم عليها السلام
القول في تأويل قوله تعالى : { كهيعص (1) }
اختلف أهل التأويل في تأويل قوله تعالى ذكره : كاف من( كهيعص ) فقال بعضهم : تأويل ذلك أنها حرف من اسمه الذي هو كبير ، دلّ به عليه ، واستغنى بذكره عن ذكر باقي الاسم.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني أبو حصين عبد الله بن أحمد بن يونس ، قال : ثنا عبثر ، قال : ثنا حصين ، عن إسماعيل بن راشد ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس في هذه الآية( كهيعص ) قال : كبير ، يعني بالكبير : الكاف من( كهيعص ).
حدثنا هناد بن السريّ ، قال : ثنا أبو الأحوص ، عن حصين ، عن إسماعيل بن راشد ، عن سعيد بن جبير ، مثله.
حدثنا أبو كريب ، قال : ثنا ابن إدريس ، قال : أخبرنا حصين ، عن إسماعيل بن راشد ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، كان يقول( كهيعص ) قال : كاف : كبير.
حدثني أبو السائب ، قال : أخبرنا ابن إدريس ، عن حصين ، عن إسماعيل بن راشد ، عن سعيد بن جبير في( كهيعص ) قال : كاف : كبير.
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا عبد الرحمن بن مهدي ، قال : ثنا سفيان ، عن حصين ، عن إسماعيل ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، نحوه.
وقال آخرون : بل الكاف من ذلك حرف من حروفه اسمه الذي هو كاف.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني يحيى بن طلحة اليربوعي ، قال : أخبرنا شريك ، عن سالم ، عن سعيد ، في قوله( كهيعص ) قال : كاف : كافٍ.

(18/137)


حدثنا أبو كريب ، قال : ثنا جابر بن نوح ، قال : أخبرنا أبو روق ، عن الضحاك بن مزاحم في قوله : ( كهيعص ) قال : كاف : كافٍ.
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا حكام عن عنبسة ، عن الكلبي مثله.
وقال آخرون : بل هو حرف من حروف اسمه الذي هو كريم.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا حكام ، عن عمرو ، عن عطاء ، عن سعيد بن جبير( كهيعص ) قال : كاف من كريم.
وقال الذين فسروا ذلك هذا التفسير الهاء من كهيعص : حرف من حروف اسمه الذي هو هاد.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا أبو كريب ، قال : ثنا ابن إدريس ، قال : أخبرنا أبو حصين ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال : كان يقول في الهاء من( كهيعص ) : هاد.
حدثنا أبو حصين ، قال : ثنا عبثر ، قال : ثنا حصين ، عن إسماعيل بن راشد ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، مثله.
حدثنا هناد ، قال : ثنا أبو الأحوص ، عن حصين ، عن إسماعيل ، عن سعيد ، مثله.
حدثني أبو السائب ، قال : ثنا ابن إدريس ، عن حصين ، عن إسماعيل بن راشد ، عن سعيد بن جبير نحوه.
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا عبد الرحمن ، قال : ثنا سفيان ، عن حصين ، عن إسماعيل ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، مثله.
حدثني يحيى بن طلحة ، قال : ثنا جابر بن نوح ، قال : أخبرنا أبو روق ، عن الضحاك بن مزاحم في قوله( كهيعص ) ، قال : ها : هاد.
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا حكام ، قال : ثنا عنبسة ، عن الكلبي ، مثله.
واختلفوا في تأويل الياء من ذلك ، فقال بعضهم : هو حرف من حروف اسمه الذي هو يمين.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني أبو حصين ، قال : ثنا عبثر ، قال : ثنا حصين ، عن إسماعيل بن راشد ، عن سعيد بن جبير عن ابن عباس ، قال :

(18/138)


" يا " من( كهيعص ) ياء يمين.
حدثني أبو حصين ، قال : ثنا عبثر ، قال : ثنا حصين ، عن إسماعيل بن راشد ، عن سعيد بن جبير عن ابن عباس ، قال : " يا " من( كهيعص ) ياء يمين.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا أبو كريب ، قال : ثنا ابن إدريس ، قال : أخبرنا حصين ، عن إسماعيل بن راشد ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، مثله.
حدثنا هناد ، قال : ثنا أبو الأحوص ، عن حصين ، عن إسماعيل بن راشد ، عن سعيد بن جبير مثله.
حدثني أبو السائب ، قال : ثنا ابن إدريس ، عن حصين ، عن إسماعيل بن راشد ، عن سعيد بن جبير ياء : يمين.
وقال آخرون : بل هو حرف من حروف اسمه الذي هو حكيم.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا حكام ، عن عمرو ، عن عطاء ، عن سعيد بن جبير( كهيعص ) قال : يا : من حكيم.
وقال آخرون : بل هي حروف من قول القائل : يا من يجير.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا يحيى بن واضح ، قال : ثنا إبراهيم بن الضريس ، قال : سمعت الربيع بن أنس في قوله( كهيعص ) قال : يا من يجير ولا يجار عليه.
واختلف متأوّلو ذلك كذلك في معنى العين ، فقال بعضهم : هي حرف من حروف اسمه الذي هو عالم.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا حكام ، عن عمرو ، عن عطاء ، عن سعيد( كهيعص ) قال : عين من عالم.
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا حكام ، عن عنبسة ، عن الكلبي ، مثله.
حدثنا أبو كريب ، قال : ثنا ابن إدريس ، قال : أخبرنا حصين ، عن إسماعيل بن راشد ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، مثله.

(18/139)


حدثنا عمرو ، قال : ثنا مروان بن معاوية ، عن العلاء بن المسيب بن رافع ، عن أبيه ، في قوله( كهيعص ) قال : عين : من عالم.
وقال آخرون : بل هي حرف من حروف اسمه الذي هو عزيز.
ذكر من قال ذلك :
* حدثني أبو حصين ، قال : ثنا عبثر ، قال : ثنا حصين ، عن إسماعيل بن راشد ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس( كهيعص ) عين : عزيز.
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا عبد الرحمن ، قال : ثنا سفيان ، عن حصين ، عن إسماعيل ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، مثله.
حدثني أبو السائب ، قال : ثنا ابن إدريس ، عن حصين ، عن إسماعيل بن راشد ، عن سعيد بن جبير مثله.
حدثنا هناد ، قال : ثنا أبو الأحوص ، عن حصين ، عن إسماعيل بن راشد ، عن سعيد بن جبير مثله.
حدثني يحيى بن طلحة اليربوعي ، قال : ثنا شريك ، عن سالم ، عن سعيد بن جبير ، في قوله( كهيعص ) قال : عين عزيز.
وقال آخرون : بل هي حرف من حروف اسمه الذي هو عدل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا أبو كريب ، قال : ثنا جابر بن نوح ، قال : أخبرنا أبو روق ، عن الضحاك بن مزاحم ، في قوله(كهيعص) قال : عين : عدل.
وقال الذين تأولوا ذلك هذا التأويل : الصاد من قوله(كهيعص) : حرف من حروف اسمه الذي هو صادق.
* ذكر الرواية بذلك : حدثنا أبو كريب ، قال : ثنا ابن إدريس ، قال : أخبرنا حصين ، عن إسماعيل بن راشد ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال : كان يقول في( كهيعص ) صاد : صادق.
حدثني أبو حصين ، قال : ثنا عبثر ، قال : ثنا حصين ، عن إسماعيل بن راشد ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، مثله.
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا عبد الرحمن ، قال : ثنا سفيان ، عن حصين ، عن

(18/140)


إسماعيل ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، مثله.
حدثنا هناد ، قال : ثنا أبو الأحوص ، عن حصين ، عن إسماعيل بن راشد ، عن سعيد بن جبير مثله.
حدثني أبو السائب ، قال : ثنا ابن إدريس ، عن حصين ، عن إسماعيل بن راشد ، عن سعيد بن جبير ، مثله.
حدثنا أبو كريب ، قال : ثنا جابر بن نوح ، قال : أخبرنا أبو روق ، عن الضحاك بن مزاحم ، قال : صاد : صادق.
حدثني يحيى بن طلحة ، قال : ثنا شريك ، عن سالم ، عن سعيد ، قال : صادق ، يعني الصاد من( كهيعص )
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا حكام ، عن عمرو ، عن عطاء ، عن سعيد( كهيعص ) قال : صاد صادق.
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا حكام ، قال : ثنا عنبسة ، عن الكلبي ، قال : صادق.
وقال آخرون : بل هذه الكلمة كلها اسم من أسماء الله تعالى.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن خالد بن خداش ، قال : ثني سالم بن قتيبة ، عن أبي بكر الهُذَليّ ، عن عاتكة ، عن فاطمة ابنة عليّ قالت : كان عليّ يقول : يا( كهيعص ) : اغفر لي.
حدثني عليّ ، قال : ثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، في قوله : ( كهيعص ) قال : فإنه قسم أقسم الله به ، وهو من أسماء الله.
وقال آخرون : كلّ حرف من ذلك اسم من أسماء الله عزّ وجل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني مطر بن محمد الضبي ، قال : ثنا عبد الرحمن بن مهدي ، عن عبد العزيز بن مسلم القسملي ، عن الربيع بن أنس ، عن أبي العالية ، قال : ( كهيعص ) ليس منها حرف إلا وهو اسم.
وقال آخرون : هذه الكلمة اسم من أسماء القرآن.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا

(18/141)


ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا (2) إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا (3) قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا (4)

عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله( كهيعص ) قال : اسم من أسماء القرآن.
قال أبو جعفر : والقول في ذلك عندنا نظير القول في(الم) وسائر فواتح سور القرآن التي افتتحت أوائلها بحروف المعجم ، وقد ذكرنا ذلك فيما مضى قبل ، فأغنى عن إعادته في هذا الموضع.
القول في تأويل قوله تعالى : { ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا (2) إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا (3) قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا (4) }
اختلف أهل العربية في الرافع للذكر ، والناصب للعبد ، فقال بعض نحويي البصرة في معنى ذلك كأنه قال : مما نقصّ عليك ذكر رحمة ربك عبده ، وانتصب العبد بالرحمة كما تقول : ذكر ضرب زيد عمرا. وقال بعض نحويي الكوفة : رفعت الذكر بكهيعص ، وإن شئت أضمرت هذا ذكر رحمة ربك ، قال : والمعنى ذكر ربك عبده برحمته تقديم وتأخير.
قال أبو جعفر : والقول الذي هو الصواب عندي في ذلك أن يقال : الذكر مرفوع بمضمر محذوف ، وهو هذا كما فعل ذلك في غيرها من السور ، وذلك كقول الله : ( بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ) وكقوله : ( سُورَةٌ أَنزلْنَاهَا ) ونحو ذلك. والعبد منصوب بالرحمة ، وزكريا في موضع نصب ، لأنه بيان عن العبد ، فتأويل الكلام : هذا ذكر رحمة ربك عبده زكريا.
وقوله : ( إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا ) يقول حين دعا ربه ، وسأله بنداء خفي ، يعنى : وهو مستسرّ بدعائه ومسألته إياه ما سأل ، كراهة منه للرياء.
كما حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : ( إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا ) أي سرّا ، وإن الله يعلم القلب النقيّ ، ويسمع الصوت الخفيّ.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ،

(18/142)


وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا (5)

قوله( إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا ) قال : لا يريد رياء.
حدثنا موسى بن هارون ، قال : ثنا عمرو بن حماد ، قال : ثنا أسباط ، عن السدي ، قال : رغب زكريا في الولد ، فقام فصلى ، ثم دعا ربه سرّا ، فقال : ( رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي ).... إلى( وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا ) وقوله : ( قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي ) يقول تعالى ذكره ، فكان نداؤه الخفي الذي نادى به ربه أن قال : ( رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي ) يعني بقوله(وَهَنَ) ضعف ورقّ من الكبر.
كما حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي ) أي ضعف العظم مني.
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا الثوري ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله : ( وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي ) قال : نحل العظم. قال عبد الرزاق ، قال : الثوري : وبلغني أن زكريا كان ابن سبعين سنة.
وقد اختلف أهل العربية في وجه النصب في الشَّيْب ، فقال بعض نحويي البصرة : نصب على المصدر من معنى الكلام ، كأنه حين قال : اشتعل ، قال : شاب ، فقال : شَيْبا على المصدر. قال : وليس هو في معنى : تفقأت شحما وامتلأت ماء ، لأن ذلك ليس بمصدر. وقال غيره : نصب الشيب على التفسير ، لأنه يقال : اشتعل شيب رأسي ، واشتعل رأسي شيبا ، كما يقال : تفقأت شحما ، وتفقأ شحمي.
وقوله : ( وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا ) يقول : ولم أشق يا رب بدعائك ، لأنك لم تخيب دعائي قبل إذ كنت أدعوك في حاجتي إليك ، بل كنت تجيب وتقضي حاجتي قبلك.
كما حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج عن ابن جريج ، قوله : ( وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا ) يقول : قد كنت تعرّفني الإجابة فيما مضى.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا (5) يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ

(18/143)


يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آَلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا (6)

يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا (6) }
يقول : وإني خفت بني عمي وعصبتي من ورائي : يقول : من بعدى أن يرثوني ، وقيل : عنى بقوله( مِنْ وَرَائِي ) من قدّامي ومن بين يديّ ؛ وقد بيَّنت جواز ذلك فيما مضى قبل.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : ( وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي ) يعني بالموالي : الكلالة الأولياء أن يرثوه ، فوهب الله له يحيى.
حدثنا يحيى بن داود الواسطي ، قال : ثنا أبو أسامة ، عن إسماعيل ، عن أبي صالح في قوله : ( وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي ) قال : العصبة.
حدثنا أبو كريب ، قال : ثنا جابر بن نوح ، عن إسماعيل ، عن أبي صالح في قوله( وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي ) قال : خاف موالي الكلالة.
حدثنا مجاهد بن موسى ، قال : ثنا يزيد ، قال : أخبرنا إسماعيل بن أبي خالد ، عن أبي صالح بنحوه.
حدثني يعقوب ، قال : ثنا هشيم ، قال : أخبرنا إسماعيل بن أبي خالد ، عن أبي صالح( وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي ) قال : يعني الكلالة.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ؛ وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله( خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي ) قال : العصبة.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله.
حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، قوله( وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي ) قال : العصبة.
حدثني موسى ، قال : ثنا عمرو ، قال : ثنا أسباط ، عن السديّ( وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي ) والموالي : هنّ العصبة ، والموالي : جمع مولى ، والمولى

(18/144)


والوليّ في كلام العرب واحد. وقرأت قراء الأمصار( وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ ) بمعنى : الخوف الذي هو خوف الأمن. وروي عن عثمان بن عفان أنه قرأه : ( وإنّي خَفَّتِ المَوَالي) بتشديد الفاء وفتح الخاء من الخفة ، كأنه وجه تأويل الكلام : وإني ذهبت عصبتي ومن يرثني من بني أعمامي. وإذا قرئ ذلك كذلك كانت الياء من الموالي مسكنة غير متحركة ، لأنها تكون في موضع رفع بخفت.
وقوله( وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا ) يقول : وكانت زوجتي لا تلد ، يقال منه : رجل عاقر ، وامرأة عاقر بلفظ واحد ، كما قال الشاعر :
لَبِئسَ الفَتى أنْ كُنْتُ أعْوَرَ عاقِرً ا... جبَانا فَمَا عُذْرِي لَدَى كُلّ مَحْضَرِ (1)
وقوله( فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا ) يقول : فارزقني من عندك ولدا وارثا ومعينا.
وقوله : ( يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ ) يقول : يرثني من بعد وفاتي مالي ، ويرث من آل يعقوب النبوة ، وذلك أن زكريا كان من ولد يعقوب.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا أبو كريب ، قال : ثنا جابر بن نوح ، عن إسماعيل ، عن أبي صالح ، قوله( يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ ) يقول : يرث مالي ، ويرث من آل يعقوب النبوّة.
حدثنا مجاهد ، قال : ثنا يزيد ، قال : أخبرنا إسماعيل ، عن أبي صالح في قوله( يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ ) قال : يرث مالي ، ويرث من آل يعقوب النبوّة.
حدثني يعقوب ، قال : ثنا هشيم ، قال : أخبرنا إسماعيل بن أبي خالد ، عن أبي صالح ، في قوله( يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ ) قال : يرثني مالي ، ويرث من آل يعقوب النبوّة.
__________
(1) البيت في ديوان عامر بن الطفيل ، طبعة ليدن سنة 1913 . والرواية فيه " فبئس " في مكان : " لبئس " وفي اللسان : العاقر التي لا تحمل ، ورجل عاقر : لا يولد له ، ونساء عقر ، بضم العين وتشديد القاف المفتوحة . وقد استشهد به المؤلف على معنى العاقر ، في سورة آل عمران ( 3 : 257 ) وأعاده في هذا الموضع ، ومحل الاستشهاد في الموضعين واحد .

(18/145)


حدثني يعقوب ، قال : ثنا هشيم ، قال : أخبرنا إسماعيل بن أبي خالد ، عن أبي صالح ، في قوله( يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ ) قال : يكون نبيا كما كانت آباؤه أنبياء.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد( يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ ) قال : وكان وراثته علما ، وكان زكريا من ذرّية يعقوب.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، قال : كان وراثته علما ، وكان زكريا من ذرية يعقوب.
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، عن الحسن ، في قوله( يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ ) قال : نبوّته وعلمه.
حدثنا أبو كريب ، قال : ثنا جابر بن نوح ، عن مبارك ، عن الحسن ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " رَحِمَ اللهُ أخِي زَكَرِيَّا ، ما كانَ عَلَيْهِ مِنْ وَرَثَةِ مالِهِ حِينَ يَقُولُ فَهَبْ لي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا ، يَرِثُنِي وَيَرِثْ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ " .
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله( يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ ) قال : كان الحسن يقول : يرث نبوّته وعلمه. قال قتادة : ذُكر لنا " أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم كان إذا قرأ هذه الآية ، وأتى على( يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ ) قال : رحم الله زكريا ما كان عليه من ورثته " .
حدثنا الحسن ، قال أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، أن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : " يَرْحَمُ اللهُ زكَرِيَّا ومَا عَلَيْهِ مِنْ وَرَثَتِهِ ، وَيَرْحَمُ اللهُ لُوطا إنْ كانَ لَيَأْوِي إلى رُكْنٍ شَدِيدٍ " .
حدثني موسى ، قال : ثنا عمرو ، قال : ثنا أسباط ، عن السديّ( فَهَبْ

(18/146)


يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا (7)

لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ ) قال : يرث نبوّتي ونبوّة آل يعقوب.
واختلفت القرّاء في قراءة قوله : ( يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ ) فقرأت ذلك عامَّة قرّاء المدينة ومكة وجماعة من أهل الكوفة :
( يَرِثُنِي وَيَرِثُ ) برفع الحرفين كليهما ، بمعنى فهب الذي يرثني ويرث من آل يعقوب ، على أن يرثني ويرث من آل يعقوب ، من صله الوليّ. وقرأ ذلك جماعة من قرّاء أهل الكوفة والبصرة : ( يَرِثُنِي وَيَرِثْ ) بجزم الحرفين على الجزاء والشرط ، بمعنى : فهب لي من لدنك وليا فإنه يرثني إذا وهبته لي. وقال الذين قرءوا ذلك كذلك : إنما حسن ذلك في هذا الموضع ، لأن يرثني من آية غير التي قيلها. قالوا وإنما يحسنُ أن يكون مثل هذا صلة ، إذا كان غير منقطع عما هو له صلة ، كقوله : ( رِدْءًا يُصَدِّقُنِي ) .
قال أبو جعفر : وأولى القراءتين عندي في ذلك بالصواب قراءة من قرأه برفع الحرفين على الصلة للوليّ ، لأنّ الوليّ نكرة ، وأن زكريا إنما سأل ربه أن يهب له وليا يكون بهذه الصفة ، كما رُوي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لا أنه سأله وليا ، ثم أخبر أنه إذا وهب له ذلك كانت هذه صفته ، لأن ذلك لو كان كذلك ، كان ذلك من زكريا دخولا في علم الغيب الذي قد حجبه الله عن خلقه.
وقوله( وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا ) يقول : واجعل يا ربّ الولي الذي تهبه لي مرضيا ترضاه أنت ويرضاه عبادك دينا وخُلُقا وخَلْقا. والرضي : فعيل صرف من مفعول إليه.
القول في تأويل قوله تعالى : { يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا (7) }
يقول تعالى ذكره : فاستجاب له ربه ، فقال له : يا زكريا إنا نبشرك بهبتنا لك غلاما اسمه يحيى.
كان قتادة يقول : إنما سماه الله يحيى لإحيائه إياه بالإيمان.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله( يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيَى ) عبد أحياه الله للإيمان.

(18/147)


وقوله( لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا ) اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك ، فقال بعضهم معناه لم تلد مثله عاقر قط.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : ثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله ليحيى( لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا ) يقول : لم تلد العواقر مثله ولدا قط.
وقال آخرون : بل معناه : لم نجعل له من قبله مثلا.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن المثنى ، قال : ثنا أبو الربيع ، قالا ثنا سالم بن قتيبة ، قال : أخبرنا شعبة ، عن الحكم ، عن مجاهد ، في قوله( لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا ) قال : شبيها.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله( لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا ) قال : مثلا.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله.
وقال آخرون : معنى ذلك ، أنه لم يسمّ باسمه أحد قبله.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله( لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا ) لم يسمّ به أحد قبله.
حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله( لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا ) قال : لم يسمّ يحيى أحد قبله.
- حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، مثله.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : ثنا عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في قول الله( لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا ) قال : لم يسمّ أحد قبله بهذا الاسم.
حدثنا موسى ، قال : ثنا عمرو ، قال : ثنا أسباط ، عن السديّ( إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا ) لم يسمّ أحد قبله يحيى.

(18/148)


قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا (8)

قال أبو جعفر : وهذا القول أعني قول من قال : لم يكن ليحيى قبل يحيى أحد سمي باسمه أشبه بتأويل ذلك ، وإنما معنى الكلام : لم نجعل للغلام الذي نهب لك الذي اسمه يحيى من قبله أحدا مسمى باسمه ، والسميّ : فعيل صرف من مفعول إليه.
القول في تأويل قوله تعالى : { قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا (8) }
يقول تعالى ذكره : قال زكريا لما بشره الله بيحيى : ( رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ ) ومن أيّ وجه يكون لي ذلك ، وامرأتي عاقر لا تحبل ، وقد ضعُفت من الكبر عن مباضعة النساء بأن تقوّيني على ما ضعفت عنه من ذلك ، وتجعل زوجتي ولودا ، فإنك القادر على ذلك وعلى ما تشاء ، أم بأن أن أنكح زوجة غير زوجتي العاقر ، يستثبت ربه الخبر ، عن الوجه الذي يكون من قبله له الولد ، الذي بشره الله به ، لا إنكارا منه صلى الله عليه وسلم حقيقة كون ما وعده الله من الولد ، وكيف يكون ذلك منه إنكارا لأن يرزقه الولد الذي بشَّره به ، وهو المبتدئ مسألة ربه ذلك بقوله( فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ ) بعد قوله( إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا ) .
وقال السديّ في ذلك : ما حدثني موسى بن هارون ، قال : ثنا عمرو ، قال : ثنا أسباط ، عن السديّ ، قال : نادى جبرائيل زكريا( إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا ) فلما سمع النداء ، جاءه الشيطان فقال : يا زكريا إن الصوت الذي سمعت ليس من الله ، إنما هو من الشيطان يسخر بك ، ولو كان من الله أوحاه إليك كما يوحي إليك غيره من الأمر ، فشك وقال( أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ ) يقول : من أين يكون( وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ ).
وقوله( وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا ) يقول : وقد عتوت من الكبر فصرت نحل العظام يابسها ، يقال منه للعود اليابس ، عوت عاتٍ وعاسٍ ، وقد عتا يعتو عَتِيًّا وعُتُوّا ، وعسى يعسو عِسِيا وعسوّا ، وكلّ متناه إلى غايته في كبر أو فساد ، أو كفر ، فهو عات وعاس.

(18/149)


قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا (9) قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آَيَةً قَالَ آَيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا (10)

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني يعقوب ، قال : ثنا هشيم ، قال : أخبرنا حصين ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، قال : قد علمتُ السنة كلها ، غير أني لا أدري أكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في الظهر والعصر أم لا ولا أدري كيف كان يقرأ هذا الحرف( وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا ) أو(عِسِيًّا).
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثنى عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله( وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا ) قال : يعني بالعِتيّ : الكبر. .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ؛ قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله(عِتِيًّا) قال : نحول العظم.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله.
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، في قوله( مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا ) قال : سنًّا ، وكان ابن بضع وسبعين سنة.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله( وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا ) قال : العتيّ : الذي قد عتا عن الولد فيما يرى نفسه لا يولد له.
- حُدثت عن الحسين بن الفرج ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : ثنا عبيد بن سليمان ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله( وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا ) قال : هو الكبر.
القول في تأويل قوله تعالى : { قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا (9) قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا (10) }

(18/150)


يقول تعالى ذكره : قال الله لزكريا مجيبا له( قَالَ كَذَلِكَ ) يقول : هكذا الأمر كما تقول من أنّ امرأتك عاقر ، وإنك قد بلغت من الكبر العتيّ ، ولكن ربك يقول : خلْق ما بشَّرتك به من الغلام الذي ذكرت لك أن اسمه يحيى عليّ هين ، فهو إذن من قوله( قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ ) كناية عن الخلق.
وقوله( وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا ) يقول تعالى ذكره وليس خلق ما وعدتك أن أهبه لك من الغلام الذي ذكرت لك أمره منك مع كبر سنك ، وعقم زوجتك بأعجب من خلقك ، فإني قد خلقتك ، فأنشأتك بشرا سويا من قبل خلقي ما بشرتك بأني واهب لك من الولد ، ولم تك شيئا ، فكذلك أخلق لك الولد الذي بشرتك به من زوجتك العاقر ، مع عِتيك ووهن عظامك ، واشتعال شيب رأسك.
وقوله : ( قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً ) يقول تعالى ذكره : قال زكريا : يا ربّ اجعل لي علما ودليلا على ما بشَّرَتني به ملائكتك من هذا الغلام عن أمرك ورسالتك ، ليطمئنّ إلى ذلك قلبي.
كما حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله( قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً ) قال : قال ربّ اجعل لي آية أن هذا منك.
حدثنا موسى ، قال : ثنا عمرو ، قال : ثنا أسباط ، عن السديّ : قال رب ، فإن كان هذا الصوت منك فاجعل لي آية(قال) الله(آيَتُكَ) لذلك( أَلا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا ) يقول جلّ ثناؤه : علامتك لذلك ، ودليلك عليه أن لا تكلم الناس ثلاث ليال وأنت سويّ صحيح ، لا علة بك من خرس ولا مرض يمنعك من الكلام.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا حكام ، عن عمرو ، عن عطاء ، عن سعيد ، عن ابن عباس( ثَلاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا ) قال : اعتقل لسانه من غير مرض.
حدثني عليّ ، قال : ثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله( ثَلاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا ) يقول : من غير خرس.

(18/151)


حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله( ثَلاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا ) قال : لا يمنعك من الكلام مرض.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد( أَلا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا ) قال : صحيحا لا يمنعك من الكلام مرض.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( قَالَ آيَتُكَ أَلا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا ) من غير بأس ولا خرس ، وإنما عوقب بذلك لأنه سأل آية بعد ما شافهته الملائكة مشافهة ، أخذ بلسانه حتى ما كان يفيض الكلام إلا أومأ إيماء.
حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، عن عكرمة ، في قوله( ثَلاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا ) قال : سويا من غير خرس.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله( قَالَ آيَتُكَ أَلا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا ) وأنت صحيح ، قال : فحبس لسانه ، فكان لا يستطيع أن يكلم أحدا ، وهو في ذلك يسبح ، ويقرأ التوراة ويقرأ الإنجيل ، فإذا أراد كلام الناس لم يستطع أن يكلمهم.
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عمن لا يتهم ، عن وهب بن منبه اليماني ، قال : أخذ الله بلسانه من غير سوء ، فجعل لا يطيق الكلام ، وإنما كلامه لقومه بالإشارة ، حتى مضت الثلاثة الأيام التي جعلها الله آية لمصداق ما وعده من هبته له.
حدثنا موسى ، قال : ثنا عمرو ، قال : ثنا أسباط ، عن السدّي( قَالَ آيَتُكَ أَلا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا ) يقول : من غير خرس إلا رمزا ، فاعتقل لسانه ثلاثة أيام وثلاث ليال.
وقال آخرون : السويّ من صفة الأيام ، قالوا : ومعنى الكلام : قال : آيتك ألا تكلم الناس ثلاث ليال متتابعات.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال :

(18/152)


فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا (11)

ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله( قَالَ آيَتُكَ أَلا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا ) قال : ثلاث ليال متتابعات.
القول في تأويل قوله تعالى : { فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا (11) }
يقول تعالى ذكره : فخرج زكريا على قومه من مصلاه حين حُبس لسانه عن كلام الناس ، آية من الله له على حقيقة وعده إياه ما وعد. فكان ابن جريج يقول في معنى خروجه من محرابه ، ما حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج( فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ ) قال : أشرف على قومه من المحراب.
قال أبو جعفر : وقد بيَّنا معنى المحراب فيما مضى قبل ، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله( فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ ) قال : المحراب : مصلاه ، وقرأ : ( فَنَادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ )
وقوله : ( فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ ) يقول : أشار إليهم ، وقد تكون تلك الإشارة باليد وبالكتاب وبغير ذلك ، مما يفهم به عنه ما يريد. وللعرب في ذلك لغتان : وَحَى ، وأوحى فمن قال : وَحَى ، قال في يفعل : يَحِي; ومن قال : أوحى ، قال : يُوحي ، وكذلك أوَمَى وَوَمَى ، فمن قال : وَمَى ، قال في يفعل يَمِي; ومن قال أوَمَى ، قال يُومِي.
واختلف أهل التأويل في المعنى الذي به أوحى إلى قومه ، فقال بعضهم : أوحى إليهم إشارة باليد.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد(فَأَوْحَى) : فأشار زكريا.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله.

(18/153)


حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عمن لا يتهم ، عن وهب بن منبه( فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ ) قال : الوحي : الإشارة.
حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة( فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ ) قال : أومى إليهم.
وقال آخرون : معنى أوحى : كتب.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمود بن خداش ، قال : ثنا عباد بن العوام ، عن سفيان بن حسين ، عن الحكم ، عن مجاهد ، في قول الله تعالى( فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا ) قال : كتب لهم في الأرض.
حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، عن الثوري ، عن ابن أبي ليلى ، عن الحكم( فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ ) قال : كتب لهم.
حدثنا موسى ، قال : ثنا عمرو ، قال : ثنا أسباط ، عن السدّي( فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ ) فكتب لهم في كتاب( أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا ) ، وذلك قوله( فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ )
وقال آخرون : معنى ذلك : أمرهم.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله( فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا ) قال : ما أدري كتابا كتبه لهم ، أو إشارة أشارها ، والله أعلم ، قال : أمرهم أن سَبِّحوا بكرة وعشيا ، وهو لا يكلمهم.
وقوله( أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا ) قد بيَّنت فيما مضى الوجوه التي ينصرف فيها التسبيح ، وقد يجوز في هذا الموضع أن يكون عنى به التسبيح الذي هو ذكر الله ، فيكون أمرهم بالفراغ لذكر الله في طرفي النهار بالتسبيح ، ويجوز أن يكون عنى به الصلاة ، فيكون أمرهم بالصلاة في هذين الوقتين.
وكان قتادة يقول في قوله( فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا ) قال : أومى إليهم أن صلوا بكرة وعشيا.

(18/154)


يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآَتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا (12) وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا وَزَكَاةً وَكَانَ تَقِيًّا (13)

القول في تأويل قوله تعالى : { يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا (12) وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا وَزَكَاةً وَكَانَ تَقِيًّا (13) }
يقول تعالى ذكره : فولد لزكريا يحيى ، فلما ولد ، قال الله له : يا يحيى ، خذ هذا الكتاب بقوة ، يعني كتاب الله الذي أنزله على موسى ، وهو التوراة بقوّة ، يقول : بجدّ.
كما حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، في قوله( خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ ) قال : بجدّ.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد( خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ ) قال : بجدّ.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله.
وقال ابن زيد في ذلك ما حدثني به يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : ( يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ ) قال : القوّة : أن يعمل ما أمره الله به ، ويجانب فيه ما نهاه الله عنه .
قال أبو جعفر : وقد بيَّنت معنى ذلك بشواهده فيما مضى من كتابنا هذا ، في سورة آل عمران ، فأغنى ذلك عن إعادته في هذا الموضع.
وقوله( وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا ) يقول تعالى ذكره : وأعطيناه الفهم لكتاب الله في حال صباه قبل بلوغه أسنان الرجال.
وقد حدثنا أحمد بن منيع ، قال : ثنا عبد الله بن المبارك ، قال : أخبرني معمر ، ولم يذكره عن أحد في هذه الآية( وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا ) قال : بلغني أن الصبيان قالوا ليحيى : اذهب بنا نلعب ، فقال : ما للعب خُلقتُ ، فأنزل الله( وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا ).
وقوله( وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا ) يقول تعالى ذكره : ورحمة منا ومحبة له آتيناه الحكم صبيا.

(18/155)


وقد اختلف أهل التأويل في معنى الحنان ، فقال بعضهم : معناه : الرحمة ، ووَجهوا الكلام إلى نحو المعنى الذي وجهناه إليه.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا علي ، قال : ثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله( وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا ) يقول : ورحمة من عندنا.
حدثنا محمد بن المثنى ، قال : ثنا محمد بن جعفر ، قال : ثنا شعبة ، عن سماك ، عن عكرمة ، في هذه الآية( وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا ) قال : رحمة.
حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، في قوله( وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا ) قال : رحمة من عندنا.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثنا هشيم ، قال : أخبرنا جويبر ، عن الضحاك ، قوله( وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا ) قال : رحمة من عندنا لا يملك عطاءها غيرنا.
حُدثت عن الحسين بن الفرج ، قال : سمعت أبا معاذ ، قال : أخبرنا عبيد بن سليمان ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله( وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا ) يقول : رحمة من عندنا ، لا يقدر على أن يعطيها أحد غيرنا.
وقال آخرون : بل معنى ذلك : ورحمة من عندنا لزكريا ، آتيناه الحكم صبيا ، وفعلنا به الذي فعلنا.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله( وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا ) يقول : رحمة من عندنا.
وقال آخرون : معنى ذلك : وتعطفا من عندنا عليه ، فعلنا ذلك.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ; وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله( وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا ) قال : تعطفا من ربه عليه.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله.

(18/156)


وقال آخرون : بل معنى الحنان : المحبة. ووجهوا معنى الكلام إلى : ومحبة من عندنا فعلنا ذلك.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا حكام ، عن عنبسة ، عن يحيى بن سعيد ، عن عكرمة( وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا ) قال : محبة عليه.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله(وَحَنانا) قال : أما الحنان فالمحبة.
وقال آخرون معناه تعظيما منا له.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثنا أبو تميلة ، عن أبي حمزة ، عن جابر ، عن عطاء بن أبي رباح( وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا ) قال : تعظيما من لدنا. وقد ذكر عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال : لا أدري ما الحنان.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : أخبرني عمرو بن دينار أنه سمع عكرمة ، عن ابن عباس ، قال : والله ما أدري ما حنانا.
وللعرب في حَنَانَك لغتان : حَنَانَك يا ربنا ، وحَنانَيك; كما قال طَرَفة بن العبد في حنانيك :
أبا مُنْذِرٍ أفْنَيْتَ فاسْتَبْقِ بَعْضَنا... حَنانَيْكَ بعضُ الشَّرِّ أهْوَنُ مِن بعضِ (1)
وقال امرؤ القيس في اللغة الأخرى :
__________
(1) البيت لطرفة بن العبد البكري ( اللسان : حنن ) . والشاهد في قوله حنانيك ، أي تحننا على تحنن . وحكى الأزهري عن الليث : حنانيك يا فلان افعل كذا ، ولا تفعل كذا ، يذكره الرحمة والبر ، وأنشد بيت طرفة . قال ابن سيده : وقد قالوا حنانا ، فصلوه من الإضافة في الإفراد ، وكل ذلك بدل من اللفظ بالفعل .

(18/157)


ويَمْنَحُها بَنُو شَمَجَى بن جَرْمٍ... مَعِيزَهُمُ حَنانَكَ ذَا الحَنانِ (1)
وقد اختلف أهل العربية في " حنانيك " فقال بعضهم : هو تثنية " حنان " . وقال آخرون : بل هي لغة ليست بتثنية; قالوا : وذلك كقولهم : حَوَاليك; وكما قال الشاعر :
ضَرْبا هَذَا ذَيْكَ وطَعْنا وَخْضًا (2)
وقد سوّى بين جميع ذلك الذين قالوا حنانيك تثنية ، في أن كل ذلك تثنية. وأصل ذلك أعني الحنان ، من قول القائل : حنّ فلان إلى كذا وذلك إذا ارتاح إليه واشتاق ، ثم يقال : تحنَّنَ فلان على فلان ، إذا وصف بالتعطُّف عليه والرقة به ، والرحمة له ، كما قال الشاعر :
تَحَنّنْ عَليَّ هَدَاكَ المَلِيكُ... فإنَّ لِكُلّ مَقامٍ مَقالا (3)
بمعنى : تعطَّف عليّ. فالحنان : مصدر من قول القائل : حنّ فلان على فلان ، يقال منه : حننت عليه ، فأنا أحنّ عليه حنينا وحنانا ، ومن ذلك قيل لزوجة الرجل : حَنَّته ، لتحنته عليها وتعطفه ، كما قال الراجز :
__________
(1) البيت لامرئ القيس بن حجر ( اللسان : حنن ) و ( مختار الشعر الجاهلي ، بشرح مصطفى السقا طبعة الحلبي ص 110 ) قال شارحه ويمنحها : هذه رواية الأصمعي أي يعطيها ويروى : ويمنعها ، وهي أشبه بمعنى البيت . وقوله : حنانك ذا الحنان ، فسره ابن الأعرابي : رحمتك يا رحمن ، فأغنى عنهم . وعلى أية حال . فالشاعر برم بمجاورة بني شمجي بن جرم ، متسخط فعلهم ، زار عليهم ، إذا منعوه المعزى . فأما إذا منحوه إياها ( على رواية الأصمعي ) فإنه يكون ساخطا ، لاضطراره إلى أن يقبل منح أمثالهم مع ما له من الشرف والعراقة في الملك ؛ كأنه يقول في نفسه : أبعد ما كان لنا من العز الشامخ تذل نفسي وتضطر إلى قبول المنح والصلات من الناس . وفي اللسان : فرواية الأعرابي تسخط وذم ، وذلك تفسيره ؛ ورواية الأصمعي : تشكر وحمد ودعاء لهم ، وكذلك تفسيره .
(2) البيت في ( اللسان : هذذ ) غير منسوب . قال : الهذ و الهذذ : سرعة القطع وسرعة القراءة . قال : ضربا هذا ذيك : أي هذا بعد هذ ، يعني قطعا بعد قطع . وعلى هذا استشهد به المؤلف . . والوخض : قال الأصمعي : إذا خالطت الطعنة الجوف ولم تنفذ ، فذلك الوخض والوخط أه . يقال : وخضه بالرمح وخضا .
(3) البيت للحطيئة ( لسان العرب : حنن ) . قال : وتحنن عليه : ترحم ، وأنشد ابن بر الحطيئة : تحنن علي . . . البيت .

(18/158)


وَلَيْلَةٍ ذَاتِ دُجًى سَرَيْتُ... ولَمْ تَضِرْنِي حَنَّةٌ وَبيْتُ (1)
وقوله : (وَزَكاةً) يقول تعالى ذكره : وآتينا يحيى الحكم صبيا ، وزكاة : وهو الطهارة من الذنوب ، واستعمال بدنه في طاعة ربه ، فالزكاة عطف على الحكم من قوله( وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ ).
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : (وَزَكاةً) قال : الزكاة : العمل الصالح.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قوله(وَزَكاةً) قال : الزكاة : العمل الصالح الزكيّ.
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد بن سليمان ، قال : سمعت الضحاك يقول : في قوله(وَزَكاةً) يعني العمل الصالح الزاكي.
وقوله(وكانَ تَقِيًّا) يقول تعالى ذكره : وكان لله خائفا مؤدّيا فرائضه ، مجتنبا محارمه مسارعا في طاعته.
كما : حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس( وَزَكَاةً وَكَانَ تَقِيًّا ) قال : طهر فلم يعمل بذنب.
حدثني يونس ، قال : خبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله( وَزَكَاةً وَكَانَ تَقِيًّا ) قال : أما الزكاة والتقوى فقد عرفهما الناس.
__________
(1) هذان بيتان من مشطور الرجز ، لأبي محمد الفقعسي ، وبينهما بيت ثالث ، وهو قوله * ولم يلتني عن سراها ليت *
( اللسان : حنن ) . وقد استشهد بالبيتين الأولين منهما صاحب اللسان في ( ليت ) . واستشهد بهما المؤلف في الجزء الخامس عشر عند تفسير قوله تعالى : ( سبحان الذي أسرى بعبده ) وموضع الشاهد هنا في البيت الثالث وهو قوله : " حنة " . قال : وحنة الرجل : امرأته ، قال أبو محمد الفقعسي : " وليلة " . . . . إلخ . الأبيات الثلاثة . قال : وهي طلته وكنيته ونهضته وحاصنته وحاضنته .

(18/159)


وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا (14) وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا (15)

القول في تأويل قوله تعالى : { وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا (14) وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا (15) }
يقول تعالى ذكره : وكان برّا بوالديه ، مسارعا في طاعتهما ومحبتهما ، غير عاقّ بهما( وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا ) يقول جلّ ثناؤه : ولم يكن مستكبرا عن طاعة ربه وطاعة والديه ، ولكنه كان لله ولوالديه متواضعا متذللا يأتمر لما أمر به ، وينتهي عما نُهِي عنه ، لا يَعْصِي ربه ، ولا والديه.
وقوله(عَصِيًّا) فعيل بمعنى أنه ذو عصيان ، من قول القائل : عَصَى فلان ربه ، فهو يعصيه عصيا.
وقوله( وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا ) يقول : وأمان من الله يوم ولد ، من أن يناله الشيطان من السوء ، بما ينال به بني آدم ، وذلك أنه رُوي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " كُلُّ بَنِي آدَمَ يَأْتي يَوْمَ القِيامَةِ وَلَهُ ذَنْبٌ إلا ما كانَ مِنْ يَحْيَى بنِ زَكَريَّا " .
حدثنا بذلك ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن يحيى بن سعيد ، عن سعيد بن المسيب ، قال : ثني ابن العاص ، أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ذلك.
حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، في قوله( جَبَّارًا عَصِيًّا ) قال : كان ابن المسيب يذكر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " مَا مِنْ أحَدٍ يَلْقَى اللهَ يَوْمَ القِيامَةِ ، إلا ذَا ذَنْبٍ ، إلا يَحْيَى بنَ زَكَريَّا " .
قال : وقال قتادة : ما أذنب ، ولا هم بامرأة.
وقوله( وَيَوْمَ يَمُوتُ ) يقول : وأمان من الله تعالى ذكره له من فَتَّاني القبر ، ومن هول المطلع( وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا ) يقول : وأمان له من عذاب الله يوم القيامة ، يوم الفزع الأكبر ، من أن يروعه شيء ، أو أن يفزعه ما يفزع الخلق.
وقد ذكر ابن عيينة في ذلك ما حدثني أحمد بن منصور الفَيروزِيّ ،

(18/160)


وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا (16) فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا (17)

قال : أخبرني صدقة بن الفضل قال : سمعت ابن عطية يقول : أوحش ما يكون الخلق في ثلاثة مواطن : يوم يولد فيرى نفسه خارجا مما كان فيه ، ويوم يموت فيرى قوما لم يكن عاينهم ، ويوم يُبعث فيرى نفسه في محشر عظيم ، قال : فأكرم الله فيها يحيى بن زكريا ، فخصه بالسلام عليه ، فقال( وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا ).
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، أن الحسن قال : إن عيسى ويحيى التقيا فقال له عيسى : استغفر لي ، أنت خير مني ، فقال له الآخر : استغفر لي ، أنت خير مني ، فقال له عيسى : أنت خير مني ، سَلَّمت على نفسي ، وسلَّم الله عليك ، فعرف والله فضلها.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا (16) فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا (17) }
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : واذكر يا محمد في كتاب الله الذي أنزله عليك بالحقّ مريم ابنة عمران ، حين اعتزلت من أهلها ، وانفردت عنهم ، وهو افتعل من النَّبذ ، والنَّبذ : الطَّرْح ، وقد بيَّنا ذلك بشواهده فيما مضى قبلُ.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، في قوله( وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ ) أي انفردت من أهلها.
حدثني سليمان بن عبد الجبار ، قال : ثنا محمد بن الصَّلْت ، قال : ثنا أبو كُدَينة ، عن قابوس ، عن أبيه ، عن ابن عباس( إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا ) قال : خرجت مكانا شرقيا.
حدثنا موسى ، قال : ثنا عمرو ، قال : ثنا أسباط ، عن السديّ ، قال :

(18/161)


خرجت مريم إلى جانب المحراب لحيض أصابها ، وهو قوله : (1) فانتبذت من أهلها مكانا شرقيا : في شرقيّ المحراب.
وقوله( مَكَانًا شَرْقِيًّا ) يقول : فتنحت واعتزلت من أهلها في موضع قِبَلَ مَشرق الشمس دون مَغربها.
كما حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، في قوله( مَكَانًا شَرْقِيًّا ) قال : من قِبَل المشرق.
حدثني إسحاق بن شاهين ، قال : ثنا خالد بن عبد الله ، عن داود ، عن عامر ، عن ابن عباس ، قال : إني لأعلم خلق الله لأيّ شيء اتخذت النصارى المشرق قبلة لقول الله : فانتبذت من أهلها مكانا شرقيا ، فاتخذوا ميلاد عيسى قبلة.
حدثنا ابن المثنى ، قال : ثني عبد الأعلى ، قال : ثنا داود ، عن عامر ، عن ابن عباس ، مثله.
حدثني سليمان بن عبد الجبار ، قال : أخبرنا محمد بن الصَّلْت ، قال : ثنا أبو كُدَينة ، عن قابوس ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قال : إن أهل الكتاب كتب عليهم الصلاة إلى البيت ، والحج لله ، وما صرفهم عنهما إلا تأويل ربك( إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا ) فصلوا قبل مطلع الشمس.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا ) قال : شاسعا متنحيا.
وقيل : إنها إنما صارت بمكان يلي مشرق الشمس ، لأن ما يلي المشرق عندهم كان خيرا مما يلي المغرب ، وكذلك ذلك فيما ذُكر عند العرب.
وقوله : ( فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا ) يقول : فاتخذت من دون أهلها سترا يسترها عنهم وعن الناس ، وذُكر عن ابن عباس ، أنها صارت بمكان يلي المشرق ، لأن الله أظلها بالشمس ، وجعل لها منها حجابا.
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله( انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا ) قال : مكانا
__________
(1) كذا هنا ، وفي موضوعين بعد : فانتبذت ، والقراءة : إذ انتبذت .

(18/162)


قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا (18) قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا (19)

أظلتها الشمس أن يراها أحد منهم.
وقال غيره في ذلك ما حدثنا موسى ، قال : ثنا عمرو ، قال : ثنا أسباط ، عن السديّ( فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا ) من الجدران.
وقوله( فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا ) يقول تعالى ذكره : فأرسلنا إليها حين انتبذت من أهلها مكانا شرقيا ، واتخذت من دونهم حجابا : جبريل.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله( فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا ) قال : أرسل إليها فيما ذُكر لنا جبريل.
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عمن لا يتهم ، عن وهب بن منبه ، قال : وجدتْ عندها جبريل قد مثله الله بشرا سويا.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قوله( فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا ) قال : جبريل .
حدثني محمد بن سهل ، قال : ثنا إسماعيل بن عبد الكريم ، قال : ثني عبد الصمد بن معقل بن أخي وهب ، قال : سمعت وهب بن منبه ، قال : أرسل الله جبريل إلى مريم ، فَمَثَل لها بشرا سويا.
حدثني موسى ، قال : ثنا عمرو ، قال : ثنا أسباط ، عن السديّ ، قال : فلما طهرت ، يعني مريم من حيضها ، إذا هي برجل معها ، وهو قوله( فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا ) يقول تعالى ذكره : فتشبه لها في صورة آدميّ سويّ الخلق منهم ، يعني في صورة رجل من بني آدم معتدل الخلق.
القول في تأويل قوله تعالى : { قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا (18) قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لأهَبَ لَكِ غُلامًا زَكِيًّا (19) }
يقول تعالى ذكره : فخافت مريم رسولنا ، إذ تمثل لها بشرًا سويا ، وظنته رجلا يريدها على نفسها.

(18/163)


حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قوله( إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا ) قال : خشيت أن يكون إنما يريدها على نفسها.
حدثنا موسى ، قال : ثنا عمرو ، قال : ثنا أسباط ، عن السديّ( فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا ) فلما رأته فزعت منه وقالت : ( إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا ) فقالت : إني أعوذ أيها الرجل بالرحمن منك ، تقول : أستجير بالرحمن منك أن تنال مني ما حرّمه عليك إن كنت ذا تقوى له تتقي محارمه ، وتجتنب معاصيه; لأن من كان لله تقيا ، فإنه يجتنب ذلك. ولو وجه ذلك إلى أنها عَنَت : إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تتقي الله في استجارتي واستعاذتي به منك كان وجها.
كما حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عمن لا يتهم ، عن وهب بن منبه( قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا ) ولا ترى إلا أنه رجل من بني آدم.
حدثنا أبو كريب ، قال : ثنا أبو بكر ، عن عاصم ، قال : قال ابن زيد : وذكر قَصَص مريم فقال : قد علمت أن التقيّ ذو نُهية حين قالت( إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ ). يقول تعالى ذكره : فقال لها روحنا : إنما أنا رسول ربك يا مريم أرسلني إليك( لأهَبَ لَكِ غُلامًا زَكِيًّا )
واختلفت القرّاء في قراءة ذلك ، فقرأته عامَّة قرّاء الحجاز والعراق غير أبي عمرو( لأهَبَ لَكِ ) بمعنى : إنما أنا رسول ربك : يقول : أرسلني إليك لأهب لك( غُلامًا زَكِيًّا ) على الحكاية ، وقرأ ذلك أبو عمرو بن العلاء( ليهب لك غلامًا زكيا ) بمعنى : إنما أنا رسول ربك أرسلني إليك ليهب الله لك غلاما زكيا.
قال أبو جعفر : والصواب من القراءة في ذلك ، ما عليه قرّاء الأمصار ، وهو( لأهَبَ لَكِ ) بالألف دون الياء ، لأن ذلك كذلك في مصاحف المسلمين ، وعليه قراءة قديمهم وحديثهم ، غير أبي عمرو ، وغير جائز خلافهم فيما أجمعوا عليه ، ولا سائغ لأحد خلاف مصاحفهم ، والغلام الزكيّ : هو الطاهر من الذنوب وكذلك تقول العرب : غلام زاكٍ وزكيّ ، وعال وعليّ.

(18/164)


قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا (20) قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آَيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا (21) فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا (22) فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا (23)

القول في تأويل قوله تعالى : { قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا (20) قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا (21) }
يقول تعالى ذكره : قالت مريم لجبريل( أنَّى يَكُونُ لي غُلامٌ ) من أيّ وجه يكون لي غلام ؟ أمن قِبَل زوج أتزوّج ، فأرزقه منه ، أم يبتدئ الله فيّ خلقه ابتداء( وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ ) من ولد آدم بنكاح حلال(ولَمْ أَكُ) إذ لم يمسسني منهم أحد على وجه الحلال(بَغِيًّا) بغيت ففعلت ذلك من الوجه الحرام ، فحملته من زنا.
كما حدثنا موسى ، قال : ثنا عمرو ، قال : ثنا أسباط ، عن السديّ( وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا ) يقول : زانية( قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ ) يقول تعالى ذكره : قال لها جبريل : هكذا الأمر كما تصفين ، من أنك لم يمسسك بشر ولم تكوني بغيا ، ولكن ربك قال : هو عليّ هين : أي خلق الغلام الذي قلت أن أهبه لك عليّ هين لا يتعذّر عليّ خلقه وهبته لك من غير فحل يفتحلك.
( وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ ) يقول : وكي نجعل الغلام الذي نهبه لك علامة وحجة على خلقي أهبه لك.( وَرَحْمَةً مِنَّا ) يقول : ورحمة منا لك ، ولمن آمن به وصدقه أخلقه منك( وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا ) يقول : وكان خلقه منك أمرا قد قضاه الله ، ومضى في حكمه وسابق علمه أنه كائن منك. كما حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، قال : ثني من لا أتهم ، عن وهب بن منبه( وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا ) أي أن الله قد عزم على ذلك ، فليس منه بدّ.
القول في تأويل قوله تعالى : { فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا (22) فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا (23) }

(18/165)


وفي هذا الكلام متروك تُرِك ذكره استغناء بدلالة ما ذكر منه عنه( فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا بغلام فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا ) وبذلك جاء تأويل أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سهل ، قال : ثنا إسماعيل بن عبد الكريم ، قال : ثني عبد الصمد بن معقِل ابن أخي وهب بن منبه ، قال : سمعت وهبا قال : لما أرسل الله جبريل إلى مريم تمثَّل لها بشرا سويا فقالت له : ( إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا ) ثم نفخ في جيب درعها حتى وصلت النفخة إلى الرحم فاشتملت.
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عمن لا يتهم ، عن وهب بن منبه اليماني ، قال : لما قال ذلك ، يعني لما قال جبريل( قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ ).... الآية استسلمت لأمر الله ، فنفخ في جيبها ثم انصرف عنها.
حدثنا موسى ، قال : ثنا عمرو ، قال : ثنا أسباط ، عن السديّ ، قال : طرحَتْ عليها جلبابها لما قال جبريل ذلك لها ، فأخذ جبريل بكميها ، فنفخ في جيب درعها ، وكان مشقوقا من قُدامها ، فدخلت النفخة صدرها ، فحملت ، فأتتها أختها امرأة زكريا ليلة تزورها; فلما فتحت لها الباب التزمتها ، فقالت امرأة زكريا : يا مريم أشعرت أني حبلى ، قالت مريم : أشعرت أيضا أني حُبلى ، قالت امرأة زكريا : إني وجدت ما في بطني يسجد لما في بطنك ، فذلك قوله( مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ ).
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، قال : قال ابن جريج : يقولون : إنه إنما نفخ في جيب درعها وكمها.
وقوله( فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا ) يقول : فاعتزلت بالذي حملته ، وهو عيسى ، وتنحَّت به عن الناس مكانا قصيا يقول : مكانا نائيا قاصيا عن الناس ، يقال : هو بمكان قاص ، وقصيّ بمعنى واحد ، كما قال الراجز :

(18/166)


لَتَقْعُدِنَّ مَقْعَدَ القَصِيِّ... مِنِّي ذي القاذُوَرةِ المَقْلِيّ (1)
يقال منه : قصا المكان يقصو قصوا : إذا تباعد ، وأقصيت الشيء : إذا أبعدته وأخَّرته.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله( فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا ) قال : مكانا نائيا.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله( مَكَانًا قَصِيًّا ) قال : قاصيا.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله.
حدثنا موسى ، قال : ثنا عمرو ، قال : ثنا أسباط ، عن السدّي ، قال : لما بلغ أن تضع مريم ، خرجت إلى جانب المحراب الشرقي منه فأتت أقصاه.
وقوله( فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ ) يقول تعالى ذكره : فجاء بها المخاض إلى جذع النخلة ، ثم قيل : لما أسقطت الباء منه أجاءها ، كما يقال : أتيتك بزيد ، فإذا حذفت الباء قيل آتيتك زيدا ، كما قال جل ثناؤه( آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ ) والمعنى : بزُبَر الحديد ، ولكن الألف مدت لما حذفت الباء ، وكما قالوا : خرجت به وأخرجته ، وذهبت به وأذهبته ، وإنما هو أفعل من المجيء ،
__________
(1) البيتان لرؤبة ابن العجاج الراجز ( انظر فوائد القلائد في مختصر الشواهد للعيني ص 115 - 116 ) وبعدهما بيتان آخران وهما : أو تحلفي بربك العلي ... أنى أبو ذيا لك الصبي
ومقعد القصي : إما مفعول مطلق . على أن يكون المقعد بمعنى القعود أو على أنه مفعول فيه ، أي في مقعد القصي ، أي البعيد ، من قصا المكان يقصو : إذا بعد . ويقال رجل قاذورة : أي لا يخالط الناس ، لسوء خلقه . والمقلي المبغض من قلاه يقليه قلى بالكسر . وهما صفتان للقصي . وفي ( لسان العرب : قصا ) قصا عنه قصوا ، وقصوا وقصا وقصاء ، وقصي ( بكسر الصاد ) : بعد وقصا المكان يقصو قصوا ( على فعول ) : بعد . والقصي والقاصي : البعيد ، والجمع : أقصاء فيهما ، كشاهد وأشهاد ، ونصير وأنصار .

(18/167)


كما يقال : جاء هو ، وأجأته أنا : أي جئت به ، ومثل من أمثال العرب " : شرّ ما أجاءني إلى مُخَّة عرقوب " ، وأشاء ويقال : شرّ ما يُجِيئك ويُشِيئك إلى ذلك ; ومنه قول زهير :
وَجارٍ سارَ مُعْتَمِدًا إلَيْكُمْ... أجاءَتْهُ المَخافَةُ والرَّجاءُ (1)
يعنى : جاء به ، وأجاءه إلينا وأشاءك : من لغة تميم ، وأجاءك من لغة أهل العالية ، وإنما تأوّل من تأوّل ذلك بمعنى : ألجأها ، لأن المخاض لما جاءها إلى جذع النخلة ، كان قد ألجأها إليه.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله( فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ ) قال : المخاض ألجأها.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، قال : ألجأها المخاض. قال ابن جريج : وقال ابن عباس : ألجأها المخاض إلى جذع النخلة.
حدثنا موسى ، قال : ثنا عمرو ، قال : ثنا أسباط ، عن السديّ( فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ ) يقول : ألجأها المخاض إلى جذع النخلة.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله( فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ ) قال : اضطرّها إلى جذع النخلة.
واختلفوا في أيّ المكان الذي انتبذت مريم بعيسى لوضعه ، وأجاءَها إليه المخاض ، فقال بعضهم : كان ذلك في أدنى أرض مصر ، وآخر أرض الشأم ، وذلك أنها هربت من قومها لما حملت ، فتوجهت نحو مصر هاربة منهم.
__________
(1) البيت لزهير بن أبي سلمى ( اللسان : جيأ ) . قال : وأجاءه إلى شيء : جاء به ، وألجأه ، واضطره إليه . قال زهير بن أبي سلمى : " وجار . . . " البيت . قال الفراء : أصله من جئت ، وقد وقد جعلته العرب إلجاء . وفي المثل : " شر ما أجاءك إلى مخة العرقوب ، وشر ما يجيئك إلى مخة عرقوب " قال الأصمعي : وذلك أن العرقوب لا مخ فيه ، وإنما يحوج إليه من لا يقدر على شيء . ومنهم من يقول : شر ما ألجأك : والمعنى واحد . وتميم تقول : شر ما أشاءك .

(18/168)


* ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن سهل ، قال : ثنا إسماعيل بن عبد الكريم ، قال : ثني عبد الصمد بن معقل ، أنه سمع وهب بن منبه يقول : لما اشتملت مريم على الحمل ، كان معها قَرابة لها ، يقال له يوسف النَّجار ، وكانا منطلقين إلى المسجد الذي عند جبل صهيون ، وكان ذلك المسجد يومئذ من أعظم مساجدهم ، فكانت مريم ويوسف يخدمان في ذلك المسجد ، في ذلك الزمان ، وكان لخدمته فضل عظيم ، فرغبا في ذلك ، فكانا يليان معالجته بأنفسهما ، تحبيره وكناسته وطهوره ، وكل عمل يعمل فيه ، وكان لا يعمل من أهل زمانهما أحد أشدّ اجتهادًا وعبادة منهما ، فكان أوّل من أنكر حمل مريم صاحِبُها يوسف; فلما رأى الذي بها استفظعه ، وعظم عليه ، وفظع به ، فلم يدر على ماذا يضع أمرها ، فإذا أراد يوسف أن يتهمها ، ذكر صلاحها وبراءتها ، وأنها لم تغب عنه ساعة قطّ; وإذا أراد أن يبرئها ، رأى الذي ظهر عليها; فلما اشتدّ عليه ذلك كلمها ، فكان أوّل كلامه إياها أن قال لها : إنه قد حدث في نفسي من أمرك أمر قد خشيته ، وقد حَرَصت على أن أميته وأكتمه في نفسي ، فغلبني ذلك ، فرأيت الكلام فيه أشفى لصدري ، قالت : فقل قولا جميلا قال : ما كنت لأقول لك إلا ذلك ، فحدثيني ، هل ينبت زرع بغير بذر ؟ قالت : نعم ، قال : فهل تنبت شجرة من غير غيث يصيبها ؟ قالت : نعم ، قال : فهل يكون ولد من غير ذكر ؟ قالت : نعم ، ألم تعلم أن الله تبارك وتعالى أنبت الزرع يوم خلقه من غير بذر ، والبذر يومئذ إنما صار من الزرع الذي أنبته الله من غير بذر; أو لم تعلم أن الله بقدرته أنبت الشجر بغير غيث ، وأنه جعل بتلك القدرة الغيث حياة للشجر بعد ما خلق كلّ واحد منهما وحده ، أم تقول : لن يقدر الله على أن ينبت الشجر حتى استعان عليه بالماء ، ولولا ذلك لم يقدر على إنباته ؟ قال يوسف لها : لا أقول هذا ، ولكني أعلم أن الله تبارك وتعالى بقدرته على ما يشاء يقول لذلك كن فيكون ، قالت مريم : أو لم تعلم أن الله تبارك وتعالى خلق آدم وامرأته من غير أنثى ولا ذكر ؟ قال : بلى ، فلما قالت له ذلك ، وقع في نفسه أن الذي بها شيء من الله تبارك وتعالى ، وأنه لا يسعه أن يسألها عنه ، وذلك لما رأى من كتمانها لذلك ، ثم تولى يوسف خدمة المسجد ، وكفاها كل عمل كانت تعمل فيه ، وذلك لما رأى من رقة جسمها ، واصفرار لونها ، وكلف

(18/169)


وجهها ، ونتوّ بطنها ، وضعف قوّتها ، ودأب نظرها ، ولم تكن مريم قبل ذلك كذلك; فلما دنا نفاسها أوحى الله إليها أن أخرجي من أرض قومك ، فإنهم إن ظفروا بك عيروك ، وقتلوا ولدك ، فأفضت ذلك إلى أختها ، وأختها حينئذ حُبلى ، وقد بشرت بيحيى ، فلما التقيا وجدت أمّ يحيى ما في بطنها خرّ لوجهه ساجدا معترفا لعيسى ، فاحتملها يوسف إلى أرض مصر على حمار له ليس بينها حين ركبت وبين الإكاف شيء ، فانطلق يوسف بها حتى إذا كان متاخما لأرض مصر في منقطع بلاد قومها ، أدرك مريم النفاس ، ألجأها إلى آريّ حمار ، يعنى مذود الحمار ، وأصل نخلة ، وذلك في زمان أحسبه بردا أو حرّا " الشكّ من أبي جعفر " ، فاشتدّ على مريم المخاض; فلما وجدت منه شدّة التجأت إلى النخلة فاحتضنتها واحتوشتها الملائكة ، قاموا صفوفًا محدقين بها.
وقد رُوي عن وهب بن منبه قول آخر غير هذا ، وذلك ما حدثنا به ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، عن ابن إسحاق عمن لا يتهم ، عن وهب بن منبه ، قال : لما حضر ولادُها ، يعني مريم ، ووجدت ما تجد المرأة من الطلق ، خرجت من المدينة مغربة من إيلياء ، حتى تدركها الولادة إلى قرية من إيلياء على ستة أميال يقال لها بيت لحم ، فأجاءها المخاض إلى أصل نخلة إليها مذود بقرة تحتها ربيع من الماء ، فوضعته عندها.
وقال آخرون : بل خرجت لما حضر وضعها ما في بطنها إلى جانب المحراب الشرقي منه ، فأتت أقصاه فألجأها المخاض إلى جِذْعِ النخلة ، وذلك قول السدي ، وقد ذكرت الرواية به قبل.
حدثني زكريا بن يحيى بن أبي زائدة ، قال : ثنا حجاج ، قال : قال ابن جريج : أخبرني المغيرة بن عثمان ، قال : سمعت ابن عباس يقول : ما هي إلا أن حملت فوضعت.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : وأخبرني المغيرة بن عثمان بن عبد الله أنه سمع ابن عباس يقول : ليس إلا أن حملتْ فولدتْ.
وقوله : ( يَالَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا ) ذكر أنها قالت ذلك في حال الطلق استحياء من الناس.

(18/170)


كما حدثنا موسى ، قال : ثنا عمرو ، قال : ثنا أسباط ، عن السديّ ، قال : قالت وهي تطلق من الحبل استحياء من الناس( يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا ) تقول : يا ليتني مِتُّ قبل هذا الكرب الذي أنا فيه ، والحزن بولادتي المولود من غير بَعْل ، وكنت نِسيا منسيًّا : شيئا نُسي فتُرك طلبه كخرق الحيض التي إذا ألقيت وطرحت لم تطلب ولم تذكر ، وكذلك كل شيء نسي وترك ولم يطلب فهو نسي. ونسي بفتح النون وكسرها لغتان معروفتان من لغات العرب بمعنى واحد ، مثل الوَتر والوِتر ، والجَسر والجِسر ، وبأيتهما قرأ القارئ فمصيب عندنا; وبالكسر قرأت عامة قرّاء الحجاز والمدينة والبصرة وبعض أهل الكوفة; وبالفتح قرأه أهل الكوفة; ومنه قول الشاعر :
كأنَّ لَهَا فِي الأرْضِ نِسْيا تَقُصُّهُ... إذَا ما غَدَتْ وإنْ تُحَدّثْكَ تَبْلَتِ (1)
ويعني بقوله : تقصه : تطلبه ، لأنها كانت نسيته حتى ضاع ، ثم ذكرته فطلبته ، ويعني بقوله : تبلت : تحسن وتصدّق ، ولو وجه النسي إلى المصدر من النسيان كان صوابا ، وذلك أن العرب فيما ذكر عنها تقول : نسيته نسيانا ونسيا ، كما قال بعضهم من طاعة الربّ وعصي الشيطان ، يعني وعصيان ، وكما تقول أتيته إتيانا وأتيا ، كما قال الشاعر :
أتيُ الفَوَاحِشِ فِيهِمُ مَعْرَوفَةٌ... وَيَروْنَ فِعْلَ المَكْرُماتِ حَرَامَا (2)
وقوله(مَنْسيًّا) مفعول من نسيت الشيء كأنها قالت : ليتني كنت الشيء الذي ألقي ، فترك ونسي.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
__________
(1) البيت للشنفرى " اللسان : نسي " قال : والنسي : الشيء المنسي الذي لا يذكر . وقال الأخفش : النسي : ما أغفل من شيء حقير ونسي. وقال الزجاج : النسي في كلام العرب الشيء المطروح ، لا يؤبه له . وقال الشنفرى : " وكأن لها . . . البيت " قال ابن بري : بلت ، فالفتح : إذا قطع ، وبلت بالكسر : إذا سكن . وقال الفراء : النسي والنسي ( بكسر النون المشددة وفتحها ) لغتان فيه تلقيه المرأة من خرق اعتلاها ( حيضها ) مثل وتر ووتر . قال ولو أراد بالنسي ( بالفتح ) مصدر النسيان ، كان صوابا .
(2) في ( اللسان : أتى ) : الإتيان : المجيء . أتيته أتيا وإتيانا وإتيانه ومأتاه : جئته . واستشهد المؤلف بالبيت على أن العرب تقول نسيته نسيانا ونسيا ، كما تقول أتيته إتيانا وأتيا . وقوله معروفة : أنث الخبر بالتاء مع أن المبتدأ وهو الأتي مذكر ، لكنه لما أضيف إلى الفواحش ، وهي جمع فاحشة . اكتسب منها التأنيث فلذلك أنث الخبر بالتاء .

(18/171)


فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا (24) وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا (25)

* ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : أخبرني عطاء الخراساني عن ابن عباس ، قوله : ( يَالَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا ) لم أخلق ، ولم أك شيئا.
حدثنا موسى ، قال : ثنا عمرو ، قال : ثنا أسباط ، عن السديّ( وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا ) يقول : نِسيا : نُسي ذكري ، ومنسيا : تقول : نسي أثري ، فلا يرى لي أثر ولا عين.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا ) : أي شيئا لا يعرف ولا يذكر.
حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، قوله( وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا ) قال : لا أعرف ولا يدرى من أنا.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن أبي جعفر ، عن الربيع بن أنس( نَسْيًا مَنْسِيًّا ) قال : هو السقط.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله( يَالَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا ) لم أكن في الأرض شيئًا قط.
القول في تأويل قوله تعالى : { فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا (24) وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا (25) }
اختلفت القرّاء في قراءة ذلك ، فقرأته عامة قرّاء الحجاز والعراق( فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا ) بمعنى : فناداها جبرائيل من بين يديها على اختلاف منهم في تأويله; فمن متأوّل منهم إذا قرأه( مِنْ تَحْتِهَا ) كذلك; ومن متأوّل منهم أنه عيسى ، وأنه ناداها من تحتها بعد ما ولدته. وقرأ ذلك بعض قرّاء أهل الكوفة والبصرة( فَنَادَاها مَنْ تَحْتَها ) وبفتح التاءين من تحت ، بمعنى : فناداها الذي تحتها ، على أن الذي تحتها عيسى ، وأنه الذي نادى أمه.
* ذكر من قال : الذي ناداها من تحتها المَلَك ، حدثنا ابن حميد ، قال :

(18/172)


ثنا يحيى بن واضح ، قال : ثنا عبد المؤمن ، قال : سمعت ابن عباس قرأ : ( فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا ) يعني : جبرائيل.
حدثني أحمد بن عبد الله أحمد بن يونس ، قال : أخبرنا عَبثر ، قال : ثنا حصين ، عن عمرو بن ميمون الأوْديّ ، قال : الذي ناداها الملك.
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا أبو أحمد ، قال : ثنا سفيان ، عن الأعمش ، عن إبراهيم ، عن علقمة ، أنه قرأ : فخاطبها من تحتها.
حدثنا أبو هشام الرفاعي ، قال : ثنا يحيى ، قال : ثنا سفيان ، عن الأعمش ، عن إبراهيم ، عن علقمة أنه قرأ : فخاطبها من تحتها.
حدثنا الرفاعي ، قال : ثنا وكيع ، عن أبيه ، عن الأعمش ، عن إبراهيم ، عن علقمة أنه قرأها كذلك.
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا أبو عامر ، قال : ثنا سفيان ، عن جويبر ، عن الضحاك( فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا ) قال : جبرائيل.
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا أبو عاصم ، عن سفيان ، عن جويبر ، عن الضحاك ، مثله.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا ) : أي من تحت النخلة.
حدثنا موسى ، قال : ثنا عمرو ، قال : ثنا أسباط ، عن السديّ(فَنَادَاهَا) جبرائيل( مِنْ تَحْتِهَا أَلا تَحْزَنِي ).
حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، في قوله( فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا ) قال : المَلَك.
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله( فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا ) يعني : جبرائيل كان أسفل منها.
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، ( فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا ) قال : ناداها جبرائيل ولم يتكلم عيسى حتى أتت قومها.

(18/173)


* ذكر من قال : ناداها عيسى صلى الله عليه وسلم : حدثنا محمد بن بشار ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا سفيان ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله( فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا ) قال : عيسى ابن مريم.
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا أبو عامر ، قال : ثنا سفيان ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، عن الحسن( فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا ) ابنها.
حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، قال : قال الحسن : هو ابنها.
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عمن لا يتهم ، عن وهب بن منبه(فَنَادَاهَا) عيسى( مِنْ تَحْتِهَا أَلا تَحْزَنِي ) .
حدثني أبو حميد أحمد بن المغيرة الحمصي ، قال : ثنا عثمان بن سعيد ، قال : ثنا محمد بن مهاجر ، عن ثابت بن عجلان ، عن سعيد بن جبير ، قوله( فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا ) قال عيسى : أما تسمع الله يقول( فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ ).
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد( فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا ) قال : عيسى; ناداها( مِنْ تَحْتِهَا أَلا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا ).
حُدثت عن عبد الله بن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع بن أنس ، عن أبي العالية الرياحيّ ، عن أبيّ بن كعب قال : الذي خاطبها هو الذي حملته في جوفها ودخل من فيها.
قال أبو جعفر : وأولى القولين في ذلك عندنا قول من قال : الذي ناداها ابنها عيسى ، وذلك أنه من كناية ذكره أقرب منه من ذكر جبرائيل ، فردّه على الذي هو أقرب إليه أولى من ردّه على الذي هو أبعد منه. ألا ترى في سياق

(18/174)


قوله( فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا ) يعني به : فحملت عيسى فانتبذت به ، ثم قيل : فناداها نسقا على ذلك من ذكر عيسى والخبر عنه. ولعلة أخرى ، وهي قوله( فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ ) ولم تشر إليه إن شاء الله ألا وقد علمت أنه ناطق في حاله تلك ، وللذي كانت قد عرفت ووثقت به منه بمخاطبته إياها بقوله لها( أَنْ لا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا ) وما أخبر الله عنه أنه قال لها أشيري للقوم إليه ، ولو كان ذلك قولا من جبرائيل ، لكان خليقا أن يكون في ظاهر الخبر ، مبينا أن عيسى سينطق ، ويحتجّ عنها للقوم ، وأمر منه لها بأن تشير إليه للقوم إذا سألوها عن حالها وحاله.
فإذا كان ذلك هو الصواب من التأويل الذي بينا ، فبين أن كلتا القراءتين ، أعني( مِنْ تَحْتِهَا ) بالكسر ، ( وَمَنْ تَحْتَها ) بالفتح صواب. وذلك أنه إذا قرئ بالكسر كان في قوله(فَنَادَاهَا) ذكر من عيسى : وإذا قرئ( مَنْ تَحْتَها) بالفتح كان الفعل لمن وهو عيسى. فتأويل الكلام إذن : فناداها المولود من تحتها أن لا تحزني يا أمه( قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا ).
كما حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله( فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلا تَحْزَنِي ) قالت : وكيف لا أحزن وأنت معي ، لا ذات زوج فأقول من زوج ، ولا مملوكة فأقول من سيدي ، أي شيء عذري عند الناس( يَالَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا ) فقال لها عيسى : أنا أكفيك الكلام.
واختلف أهل التأويل في المعنيّ بالسريّ في هذا الموضع ، فقال بعضهم : عني به : النهر الصغير.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا سفيان ، عن أبي إسحاق ، عن البراء بن عازب( قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا ) قال : الجدول.
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا محمد بن جعفر ، قال : ثنا شعبة ، عن أبي إسحاق ، قال : سمعت البراء يقول في هذه الآية( قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا ) قال : الجدول.

(18/175)


حدثني عليّ ، قال : ثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله( قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا ) وهو نهر عيسى.
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله( قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا ) قال : السريّ : النهر الذي كان تحت مريم حين ولدته كان يجري يسمى سَرِيا.
حدثني أبو حصين ، قال : ثنا عَبثر ، قال : ثنا حصين ، عن عمرو بن ميمون الأوْدِيّ ، قال في هذه الآية( قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا ) قال : السريّ : نهر يُشرب منه.
حدثنا يعقوب وأبو كريب ، قالا ثنا هشيم ، قال : أخبرنا حصين ، عن عمرو بن ميمون ، في قوله : ( قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا ) قال : هو الجدول.
حدثنا محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ؛ وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد( سَرِيًّا) قال : نهر بالسريانية.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله ، قال ابن جريج : نهر إلى جنبها.
حدثنا محمد بن بشار ، قال : ثنا أبو داود ، قال : ثنا شعبة ، عن قتادة ، عن الحسن ، في قوله( قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا ) قال : كان سريا فقال حميد بن عبد الرحمن : إن السريّ : الجدول ، فقال : غلبتنا عليك الأمراء.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثنا أبو بكر بن عياش ، عن أبي حصين ، عن سعيد بن جبير( قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا ) قال : هو الجدول ، النهر الصغير ، وهو بالنبطية : السريّ.
حدثني أبو حميد الحمصي ، قال : ثنا عثمان بن سعيد ، قال : ثنا محمد بن مهاجر ، عن ثابت بن عجلان قال : سألت سعيد بن جبير ، عن السريّ ، قال : نهر.
حدثنا أبو كريب ، قال : ثنا هشيم ، عن مغيرة ، عن إبراهيم ، قال : النهر الصغير.

(18/176)


حدثني يعقوب ، قال : ثنا هشيم ، قال : أخبرنا مغيرة ، عن إبراهيم ، أنه قال : هو النهر الصغير : يعني الجدول ، يعني قوله( قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا ).
حدثنا ابن وكيع ، قال : ثنا أبي ، عن سلمة بن نبيط ، عن الضحاك ، قال : جدول صغير بالسريانية.
حدثنا عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ ، قال : أخبرنا عبيد بن سليمان ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله( تَحْتَكِ سَرِيًّا ) الجدول الصغير من الأنهار.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا ) والسريّ : هو الجدول ، تسميه أهل الحجاز.
حدثنا الحسن ، قال : ثنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، في قوله(سَرِيًّا) قال : هو جدول.
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عمن لا يتهم وعن وهب بن منبه( قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا ) يعني ربيع الماء.
- حدثنا موسى بن هارون ، قال : ثنا عمرو ، قال : ثنا أسباط ، عن السدي( قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا ) والسريّ : هو النهر.
وقال آخرون : عنى به عيسى.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، عن الحسن( قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا ) والسريّ : عيسى نفسه.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله( قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا ) يعني نفسه ، قال : وأيّ شيء أسرى منه ، قال : والذين يقولون : السريّ : هو النهر ليس كذلك النهر ، لو كان النهر لكان إنما يكون إلى جنبها ، ولا يكون النهر تحتها.
قال أبو جعفر : وأولى القولين في ذلك عندي بالصواب قيل من قال : عنى به الجدول ، وذلك أنه أعلمها ما قد أتاها الله من الماء الذي جعله عندها ، وقال لها( وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا فَكُلِي ) من هذا الرطب(وَاشْرَبي) من هذا الماء( وَقَرِّي عَيْنًا ) بولدك ، والسريّ معروف من كلام العرب أنه النهر الصغير; ومنه قول لبيد :

(18/177)


فَتَوَسَّطا عُرْضَ السَّريّ وَصَدَّعا... مَسْجُورَةٌ مُتَجاوِرًا قُلامُها (1)
ويُروى فينا (2) مسجورة ، ويُروى أيضًا : فغادرا.
قوله( وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ ) ذكر أن الجذع كان جذعًا يابسًا ، وأمرها أن تهزّه ، وذلك في أيام الشتاء ، وهزّها إياه كان تحريكه.
كما حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله( وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ ) قال : حركيها.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس( وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ ) قال : كان جذعًا يابسًا ، فقال لها : هزّيه( تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا ).
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا يحيى بن واضح ، قال : ثنا عبد المؤمن ، قال : سمعت أبا نهيك يقول : كانت نخلة يابسة.
حدثني محمد بن سهل بن عسكر ، قال : ثنا إسماعيل بن عبد الكريم ، قال : ثني عبد الصمد بن معقل قال : سمعت وهب بن منبه يقول في قوله : ( وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ ) فكان الرطب يتساقط عليها وذلك في الشتاء.
حدثنا موسى بن هارون ، قال : ثنا عمرو ، قال : ثنا أسباط ، عن السديّ( وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ ) وكان جذعا منها مقطوعا فهزّته ، فإذا هو نخلة ، وأجري لها في المحراب نهر ، فتساقطت النخلة رطبًا جنيا فقال لها( فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا ).
__________
(1) البيت للبيد بن ربيعة العامري ، من معلقته المشهورة ( انظره في شرح الزوزني على المعلقات السبع ، وفي شرح التبريزي على القصائد العشر ، وفي جمهرة أشعار العرب ص 63 - 74 ) . قال صاحب الجمهرة : توسطا ؛ : أي دخلا وسطه . وعرض السري : أي ناحية النهر ، وأهل الحجاز . يسمون النهر سريا . وصدعا : أي فرقا . ومسجورة : أي عينا مملوءة ؛ قال الله تعالى : ( والبحر المسجور ) وأقلامها ، ويروى قلامها ، وهو ضرب من الشجر الحمض ، والأقلام : قصب اليراع . وقال الزوزني يقول : فتو سط العير والأتان جانب النهر الصغير ، وشقا عينا مملوءة ماء ، قد تجاوز قلامها ، أي قد كثر هذا الضرب من النبت عليها . وتحرير المعنى : أنهما قد ورد عينا ممتلئة ماء ، فدخلا فيها من عرض نهرها ، وقد تجاور نبتها . والشاهد في قوله " السري " وهو اسم للنهر الصغير .
(2) كذا في المخطوطة بغير نقط ، ولم نقف على هذه الرواية .

(18/178)


وقال آخرون : بل معنى ذلك : وهزّي إليك بالنخلة.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا عبد الرحمن ، قال : ثنا سفيان ، قال : قال مجاهد( وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ ) قال : النخلة.
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا أبو أحمد ، قال : ثنا سفيان ، عن عيسى بن ميمون ، عن مجاهد ، في قوله( وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ ) قال : العجوة.
حدثني يعقوب ، قال : ثنا هشيم ، قال : أخبرنا حصين ، عن عمرو بن ميمون ، أنه تلا هذه الآية : ( وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا ) قال : فقال عمرو : ما من شيء خير للنفساء من التمر والرطب ، وأدخلت الباء في قوله : ( وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ ) كما يقال : زوجتك فلانة ، وزوّجتك بفلانة; وكما قال( تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ ) بمعنى : تنبت الدهن.
وإنما تفعل العرب ذلك ، لأن الأفعال تكنى عنها بالباء ، فيقال إذا كنيت عن ضربت عمرا : فعلت به ، وكذلك كلّ فعل ، فلذلك تدخل الباء في الأفعال وتخرج ، فيكون دخولها وخروجها بمعنى ، فمعنى الكلام : وهزِّي إليك جذع النخلة ، وقد كان لو أن المفسرين كانوا فسروه وكذلك : وهزِّي إليك رطبًا بجذع النخلة ، بمعنى : على جذع النخلة ، وجها صحيحا ، ولكن لست أحفظ عن أحد أنه فسره كذلك. ومن الشاهد على دخول الباء في موضع دخولها وخروجها منه سواء قول الشاعر :
بِوَادٍ يَمانٍ يُنْبِتُ السِّدْرَ صَدْرُهُ... وأسْفَلُهُ بالمَرْخِ والشَّبَهانِ (1)
__________
(1) في ( اللسان : سدر ) السدر : شجر النبق ، واحدتها سدرة . . . والمرخ : شجر كثير الورى سريعه . . وفي ( اللسان : شبه ) الشبهان : نبت يشبه الثمام ، ويقال له الشبهان . قال ابن سيده : والشبهان ( بالتحريك ) والشبهان ( بضمتين ) : ضرب من العضاه ؛ وقيل : هو الثمام ، يمانية ، حكاها ابن دريد. قال رجل من عبد القيس * بواد يمان ينبت الشث صدره *
. . . البيت . قال ابن بري قال أبو عبيدة : البيت للأحول اليشكري . واسمه يعلى . قال : وتقديره : وينبت أسفله المرخ . على أن تكون الباء زائدة .
وإن شئت قدرته : وينبت أسفله بالمرخ ، فتكون الباء للتعدية . لما قدرت الفعل ثلاثيا . وفي الصحاح : الشبهان : هو الثمام من الرياحين . و ( في اللسان : شث ) الشث : ضرب من الشجر عن ابن دريد ، وأنشد البيت : * بواد يمان ينبت الشث فرعه *
إلخ . وقيل : الشث : شجر طيب الريح ، مر الطعم ، يدبغ به . قال أبو الدقيش : وينبت في جبال الغور وتهامة ونجد . والبيت شاهد على أن الباء في قوله " بالمرخ " زائدة ، دخولها كخروجها وهي مثل الباء في قوله تعالى : ( وهزي إليك بجذع النخلة ) . قال في ( اللسان : هز ) الهز : تحريك الشيء ، كما تهز القناة ، فتضطرب وتهز . وهزه يهزه هزا وهز به ، وفي التنزيل العزيز : ( وهزي إليك بجذع النخلة ) أي حركي . والعرب تقول : هزه وهز به إذا حركه . ومثله : خذ الخطام ، وخذ بالخطام ، وتعلق زيدا وتعلق بزيد . قال ابن سيده : وإنما عداه بالباء ، لأن في هزي معنى جري ، ( أمر من الجر ) .

(18/179)


واختلف القراء في قراءة قوله( تَسَّاقَطُ ) فقرأ ذلك عامة قرّاء المدينة والبصرة والكوفة( تَسَّاقَطُ) بالتاء من تساقط وتشديد السين ، بمعنى : تتساقط عليك النخلة رطبًا جنيا ، ثم تُدغم إحدى التاءين في الأخرى فتشدّد (1) وكأن الذين قرءوا ذلك كذلك وجهوا معنى الكلام إلى : وهزِّي إليك بجذع النخلة تساقط النخلة عليك رطبًا : وقرأ ذلك بعض قراء الكوفة( تَساقَطُ ) بالتاء وتخفيف السين ، ووجه معنى الكلام ، إلى مثل ما وجه إليه مشدّدوها ، غير أنهم خالفوهم في القراءة. ورُوي عن البراء بن عازب أنه قرأ ذلك( يُساقِط) بالياء.
حدثني بذلك أحمد بن يوسف ، قال : ثنا القاسم ، قال : ثنا يزيد ، عن جرير بن حازم ، عن أبي إسحاق قال : سمعت البراء بن عازب يقرؤه كذلك ، وكأنه وجه معنى الكلام إلى : وهزِّي إليك بجذع النخلة يتساقط الجذع عليك رطبًا جنيا.
ورُوي عن أبي نهيك أنه كان يقرؤه( تُسْقِطُ ) بضمّ التاء وإسقاط الألف.
حدثنا بذلك ابن حميد ، قال : ثنا يحيى بن واضح ، قال : ثنا عبد المؤمن ، قال : سمعت أبا نَهِيك يقرؤه كذلك ، وكأنه وجه معنى الكلام إلى : تسقط النخلة عليك رطبًا جنيا.
قال أبو جعفر : والصواب من القول في ذلك عندي أن يقال : إن هذه القراءات الثلاث ، أعني(تَسَّاقَطُ) بالتاء وتشديد السين ، وبالتاء وتخفيف السين ، وبالياء وتشديد السين ، قراءات متقاربات المعاني ، قد قرأ بكل واحدة منهن قرّاء أهل معرفة بالقرآن ، فبأيّ ذلك قرأ القارئ فمصيب الصواب فيه ، وذلك أن الجذع إذا تساقط رطبًا ، وهو ثابت غير مقطوع ، فقد تساقطت النخلة رطبًا ، وإذا تساقطت النخلة رطبًا ، فقد تساقطت النخلة بأجمعها ، جذعها وغير جذعها ، وذلك أن النخلة ما دامت قائمة على أصلها ، فإنما هي جذع وجريد
__________
(1) عبارة الجلالين ، بتاءين قبلت الثانية سينا وأدغمت في السين .

(18/180)


وسعف ، فإذا قطعت صارت جذعا ، فالجذع الذي أمرت مريم بهزّه لم يذكر أحد نعلمه أنه كان جذعًا مقطوعًا غير السديّ ، وقد زعم أنه عاد بهزِّها إياه نخلة ، فقد صار معناه ومعنى من قال : كان المتساقط. عليها رطبا نخلة واحدا ، فتبين بذلك صحة ما قلنا.
وقوله : (جَنِيًّا) يعني مجنيا; وإنما كان أصله مفعولا فصرف إلى فعيل; والمجني : المأخوذ طريا ، وكل ما أخذ من ثمرة ، أو نقل من موضعه بطراوته فقد اجتني ، ولذلك قيل : فلان يجتني الكمأة; ومنه قول ابن أخت جذيمة :
هَذَا جَنَايَ وخِيارُهُ فِيهِ... إذْ كُلُّ جانٍ يَدُهُ إلى فِيهْ (1)
__________
(1) البيت في ( اللسان : جنى ) قال : قال أبو عبيد : يضرب هذا مثلا للرجل يؤثر صاحبه بخيار ما عنده . قال أبو عبيد : وذكر ابن الكلبي أن المثل لعمرو بن عدي اللخي بن أخت جذيمة ، وهو أول من قاله ، وإن خذيمة نزل منزلا ، وأمر الناس أن يجتنوا له الكمأة ، فكان بعضهم يستأثر بخير ما يجد ، ويأكل طيبها ، وعمرو يأتيه بخير ما يجد ، ولا يأكل منها شيئا ، فلما أتى خاله جذيمة قال : هذا . . . البيت والجنى : ما يجنى من الشجر . ويروى * هذا جناي وهجانه فيه *
أي خياره . أه . وقال : وجنيت الثمر أجنيتها واجتنيتها : بمعنى . ابن سيده : جني الثمرة ونحوها وتجناها ، كل ذلك : تناولها من شجرتها وعلى هذا استشهد المؤلف بالبيت .

(18/181)


فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا (26)

القول في تأويل قوله تعالى : { فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا (26) }
يقول تعالى ذكره : فكلي من الرطب الذي يتساقط عليك ، واشربي من ماء السريّ الذي جعله ربك تحتك ، لا تخشي جوعًا ولا عطشًا( وَقَرِّي عَيْنًا ) يقول : وطيبي نفسا وافرحي بولادتك إياي ولا تحزني ونصبت العين لأنها هي الموصوفة بالقرار. وإنما معنى الكلام : ولتقرِر عينك بولدك ، ثم حوّل الفعل عن العين إلى المرأة صاحبة العين ، فنصبت العين إذ كان الفعل لها في الأصل على التفسير ، نظير ما فعل بقوله( فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا ) وإنما هو :

(18/181)


فإن طابت أنفسهن لكم . وقوله( وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا ) ومنه قوله(يُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا ) إنما هو يساقط عليك رطب الجذع ، فحوّل الفعل إلى الجِذْع ، في قراءة من قرأه بالياء. وفي قراءة من قرأ : (تُساقِطْ) بالتاء ، معناه : يساقط عليك رطب النخلة ، ثم حول الفعل إلى النخلة.
وقد اختلفت القرّاء في قراءة قوله(وقرِّي)
فأما أهل المدينة فقرءوه(وَقَرِّي ) بفتح القاف على لغة من قال : قَرِرت بالمكان أَقَرّ به ، وقَرِرت عينا ، أقرّ به قُرورا ، وهي لغة قريش فيما ذكر لي وعليها القراءة.
وأما أهل نجد فإنها تقول قررت به عينا أقر به قرارا وقررت بالمكان أقر به ، فالقراءة على لغتهم : (وَقِري عَيْنا) بكسر القاف ، والقراءة عندنا على لغة قريش بفتح القاف.
وقوله( فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا ) يقول : فإن رأيت من بني آدم أحدا يكلمك أو يسائلك عن شيء أمرك وأمر ولدك وسبب ولادتكه( فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا ) يقول : فقولي : إني أوجبت على نفسي لله صمتا ألا أُكَلِّم أحدًا من بني آدم اليوم( فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا )
وبنحو الذي قلنا في معنى الصوم ، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا معتمر بن سليمان ، عن أبيه ، قال : سمعت أنس بن مالك يقول في هذه الآية( إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا ) صمتا.
حدثني زكريا بن يحيى بن أبي زائدة ، قال : ثنا حجاج ، قال : أخبرنا ابن جريج ، قال : أخبرني المغيرة بن عثمان ، قال : سمعت أنس بن مالك يقول( إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا ) قال : صمتا.
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله( إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا ) قال : يعني بالصوم : الصمت.
حدثني يعقوب ، قال : ثنا ابن عُلَية ، عن سليمان التيميّ ، قال : سمعت

(18/182)


أنسا قرأ( وإنِّي نَذَرْتُ للرَّحْمَن صَوْما وَصَمْتا ) .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة( إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا ) أما قوله(صَوْما) فإنها صامت من الطعام والشراب والكلام.
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله( نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا ) قال : كان من بني إسرائيل من إذا اجتهد صام من الكلام كما يصوم من الطعام ، إلا مِن ذكر الله ، فقال لها ذلك ، فقالت : إني أصوم من الكلام كما أصوم مِنْ الطعام ، إلا من ذكر الله; فلما كلموها أشارت إليه ، فقالوا( كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا ) فأجابهم فقال( إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ ) حتى بلغ( ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ ).
واختلفوا في السبب الذي من أجله أمرها بالصوم عن كلام البشر ، فقال بعضهم : أمرها بذلك لأنه لم يكن لها حجة عند الناس ظاهرة ، وذلك أنها جاءت وهي أيِّم بولد بالكفّ عن الكلام ليكفيها فأمرت الكلام ولدها.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا هارون بن إسحاق الهمداني ، قال : ثنا مصعب بن المقدام ، قال : ثنا إسرائيل ، قال : ثنا أبو إسحاق ، عن حارثة ، قال : كنت عند ابن مسعود ، فجاء رجلان فسلم أحدهما ولم يسلم الآخر ، فقال : ما شأنك ؟ فقال أصحابه : حلف أن لا يكلم الناس اليوم ، فقال عبد الله : كلم الناس وسلم عليهم ، فإن تلك امرأة علمت أن أحدا لا يصدّقها أنها حملت من غير زوج ، يعني بذلك مريم عليها السلام.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد لما قال عيسى لمريم(لا تَحْزَنِي) قالت : وكيف لا أحزن وأنت معي ، لا ذات زوج ولا مملوكة ، أي شيء عذري عند الناس( يَالَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا ) فقال لها عيسى : أنا أكفيك الكلام( فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا ) قال : هذا كله كلام عيسى لأمه.

(18/183)


فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا (27)

حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عمن لا يتهم ، عن وهب بن منبه( فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا ) فإني سأكفيك الكلام.
وقال آخرون : إنما كان ذلك آية لمريم وابنها.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، في قوله( إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا ) قال في بعض الحروف : صمتا وذلك إنك لا تلقى امرأة جاهلة تقول : نذرت كما نذرت مريم ، ألا تكلم يومًا إلى الليل ، وإنما جعل الله تلك آية لمريم ولابنها ، ولا يحلّ لأحد أن ينذر صمت يوم إلى الليل.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، فقرأ( إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا ) وكانت تقرأ في الحرف الأوّل : صمتا ، وإنما كانت آية بعثها الله لمريم وابنها.
وقال آخرون : بل كانت صائمة في ذلك اليوم ، والصائم في ذلك الزمان كان يصوم عن الطعام والشراب وكلام الناس ، فأذن لمريم في قدر هذا الكلام ذلك اليوم وهي صائمة.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا موسى ، قال : ثنا عمرو ، قال : ثنا أسباط ، عن السديّ( فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا) يكلمك(فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا ) فكان من صام في ذلك الزمان لم يتكلم حتى يمسي ، فقيل لها : لا تزيدي على هذا.
القول في تأويل قوله تعالى : { فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا (27) }
يقول تعالى ذكره :
فلما قال ذلك عيسى لأمه اطمأنت نفسها ، وسلَّمت لأمر الله ، وحملته حتى أتت به قومها.
كما حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة عن ابن إسحاق ، عمن لا يتهم ، عن وهب بن منبه ، قال : أنساها يعنى مريم كرب البلاء وخوف الناس ما كانت

(18/184)


تسمع من الملائكة من البشارة بعيسى ، حتى إذا كلَّمها ، يعني عيسى ، وجاءها مصداق ما كان الله وعدها احتملته ثم أقبلت به إلى قومها.
وقال السديّ في ذلك ما حدثنا موسى ، قال : ثنا عمرو ، قال : ثنا أسباط ، عن السديّ ، قال : لما ولدته ذهب الشيطان ، فأخبر بني إسرائيل أن مريم قد ولدت ، فأقبلوا يشتدّون ، فدعوها( فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ ).
وقوله( قَالُوا يَامَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا ) يقول تعالى ذكره : فلما رأوا مريم ، ورأوا معها الولد الذي ولدته ، قالوا لها : يا مريم لقد جئت بأمر عجيب ، وأحدثت حدثا عظيما. وكل عامل عملا أجاده وأحسنه فقد فراه ، كما قال الراجز :
قَدْ أَطْعَمَتنِي دَقَلا حُجْرِيًّا... قَدْ كُنْتِ تَفْرِينَ بِهِ الفَرِيَّا (1)
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله تعالى(فَرِيًّا) قال : عظيما.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله( لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا ) قال : عظيما.
حدثنا موسى ، قال : ثنا عمرو ، قال : ثنا أسباط ، عن السديّ( لَقَدْ
__________
(1) في ( اللسان : دقل ) : الدقل من التمر : معروف ، قيل : هو أردأ أنواعه . وفي ( اللسان : فرى ) : التهذيب : ويقال للرجل إذا كان جادًّا في الأمر قويا : تركته يفري الفرى ويقد . والعرب تقول : تركته يفري الفرى : إذا عمل العمل أو السقي فأجاد . . . وأنشد الفراء لزرارة بن صعب يخاطب العامرية : قَدْ أطْعَمَتْنِي دَقَلا حَوْليًّا ... مُسَوَّسًا مُدَوَّدًا حَجْرِيًّا
قَدْ كُنْتِ تَفْرِينَ بِهِ الفَرِيَّا
أي كنت تكثرين في القول وتعظمينه . يقال : فلان يفري الفرى : إذا يأتي بالعجب في عمله .
ثم قال : وفي التنزيل العزيز في قصة مريم : ( لقد جئت شيئا فريا ) . قال الفراء : الفري الأمر العظيم ، أي جئت شيئا عظيما . وقيل : جئت شيئا فريا : أي مصنوعا مختلقا .

(18/185)


يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا (28)

جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا ) قال : عظيما.
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عمن لا يتهم ، عن وهب بن منبه ، قال : لما رأوها ورأوه معها ، قالوا : يا مريم( لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا ) : أي الفاحشة غير المقاربة.
القول في تأويل قوله تعالى : { يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا (28) }
اختلف أهل التأويل في السبب الذي من أجله قيل لها : يا أخت هارون ، ومن كان هارون هذا الذي ذكره الله ، وأخبر أنهم نسبوا مريم إلى أنها أخته ، فقال بعضهم : قيل لها( يَاأُخْتَ هَارُونَ ) نسبة منهم لها إلى الصلاح ، لأن أهل الصلاح فيهم كانوا يسمون هارون ، وليس بهارون أخي موسى.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، في قوله( يَاأُخْتَ هَارُونَ ) قال : كان رجلا صالحًا في بني إسرائيل يسمى هارون ، فشبَّهوها به ، فقالوا : يا شبيهة هارون في الصلاح.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله( يَاأُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا ) قال : كانت من أهل بيت يُعرفون بالصلاح ، ولا يُعرفون بالفساد ومن الناس من يُعرفون بالصلاح ويتوالدون به ، وآخرون يُعرفون بالفساد ويتوالدون به ، وكان هارون مصلحا محببا في عشيرته ، وليس بهارون أخي موسى ، ولكنه هارون آخر. قال : وذُكر لنا أنه شيع جنازته يوم مات أربعون ألفا ، كلهم يسمون هارون من بني إسرائيل.
حدثني يعقوب ، قال : ثنا ابن علية ، عن سعيد بن أبي صدقة ، عن محمد بن سيرين ، قال : نبئت أن كعبا قال : إن قوله( يَاأُخْتَ هَارُونَ ) ليس بهارون أخي موسى ، قال : فقالت له عائشة : كذبت ، قال : يا أمّ المؤمنين ،

(18/186)


إن كان النبيّ صلى الله عليه وسلم قاله فهو أعلم وأخبر ، وإلا فإني أجد بينهما ستّ مئة سنة ، قال : فسكتت.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله( يَاأُخْتَ هَارُونَ ) قال : اسم واطأ اسما ، كم بين هارون وبينهما من الأمم أمم كثيرة.
حدثنا أبو كريب وابن المثنى وسفيان وابن وكيع وأبو السائب ، قالوا : ثنا عبد الله بن إدريس الأودي ، قال : سمعت أبي يذكر عن سماك بن حرب ، عن علقمة بن وائل ، عن المغيرة بن شعبة ، قال : بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أهل نجران ، فقالوا لي : ألستم تقرءون( يَاأُخْتَ هَارُونَ ) ؟ قلت : بلى وقد علمتم ما كان بين عيسى وموسى ، فرجعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأخبرته ، فقال : " ألا أخْبَرْتَهُمْ أنَّهُمْ كانُوا يُسَمّونَ بأنْبِيائِهمْ والصَّالِحِينَ قَبْلَهُمْ " .
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا الحكم بن بشير ، قال : ثنا عمرو ، عن سماك بن حرب ، عن علقمة بن وائل ، عن المغيرة بن شعبة ، قال : أرسلني النبيّ صلى الله عليه وسلم في بعض حوائجه إلى أهل نجران ، فقالوا : أليس نبيك يزعم أن هارون أخو مريم هو أخو موسى ؟ فلم أدر ما أردّ عليهم حتى رجعت إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فذكرت له ذلك ، فقال : " إنَّهُمْ كَانُوا يُسَمُّون بأسْماءِ مَنْ كانَ قَبْلَهُمْ " .
وقال بعضهم : عنى به هارون أخو موسى ، ونُسبت مريم إلى أنها أخته لأنها من ولده ، يقال للتميميّ : يا أخا تميم ، وللمُضَرِيّ : يا أخا مُضَر.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا موسى ، قال : ثنا عمرو ، قال : ثنا أسباط ، عن السديّ( يَاأُخْتَ هَارُونَ ) قال : كانت من بني هارون أخي موسى ، وهو كما تقول : يا أخا بني فلان.
وقال آخرون : بل كان ذلك رجلا منهم فاسقا معلن الفسق ، فنسبوها إليه.
قال أبو جعفر : والصواب من القول في ذلك ما جاء به الخبر عن

(18/187)


فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا (29)

رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي ذكرناه ، وأنها نسبت إلى رجل من قومها.
وقوله( مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ ) يقول : ما كان أبوك رجل سوء يأتي الفواحش( وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا ) يقول : وما كانت أمك زانية. كما حدثني موسى ، قال : ثنا عمرو ، قال : ثنا أسباط ، عن السدي( وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا ) قال : زانية. وقال(وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا ) ولم يقل : بغيَّة ، لأن ذلك مما يوصف به النساء دون الرجال ، فجرى مجرى امرأة حائض وطالق ، وقد كان بعضهم يشبه ذلك بقولهم : ملحفة جديدة وامرأة قتيل.
القول في تأويل قوله تعالى : { فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا (29) }
يقول تعالى ذكره : فلما قال قومها ذلك لها قالت لهم ما أمرها عيسى بقيله لهم ، ثم أشارت لهم إلى عيسى أن كلِّموه.
كما حدثنا موسى ، قال : ثنا عمرو ، قال : ثنا أسباط ، عن السديّ ، قال : لما قالوا لها( مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا ) قالت لهم ما أمرها الله به ، فلما أرادوها بعد ذلك على الكلام أشارت إليه ، إلى عيسى.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله( فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ ) قال : أمرتهم بكلامه.
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عمن لا يتهم ، عن وهب بن منبه( فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ ) يقول : أشارت إليه أن كلِّموه.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قوله( فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ ) أن كَلِّموه.
وقوله( قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا ) يقول تعالى ذكره ، قال قومها لها : كيف نكلم من وُجد في المهد ؟ وكان في قوله( مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا ) معناها التمام ، لا التي تقتضي الخبر ، وذلك شبيه المعنى بكان التي في قوله( هَلْ كُنْتُ إِلا بَشَرًا رَسُولا ) وإنما معنى ذلك : هل أنا إلا بشر رسول ؟

(18/188)


قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آَتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (30) وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا (31)

وهل وجدت أو بعثت; وكما قال زهير بن أبي سُلْمَى :
زَجَرْتُ علَيْهِ حُرَّةً أرْحَبِيَّةً... وَقَدْ كَانَ لَوْنُ اللَّيْلِ مِثْلَ الأرَنْدَجِ (1)
بمعنى : وقد صار أو وُجد. وقيل : إنه عنى بالمهد في هذا الموضع : حجر أمه.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا ) والمهد : الحجر.
قال أبو جعفر : وقد بينا معنى المهد فيما مضى بشواهده ، فأغنى عن إعادته في هذا الموضع.
القول في تأويل قوله تعالى : { قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (30) وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا (31) }
يقول تعالى ذكره : فلما قال قوم مريم لها( كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا ) وظنوا أن ذلك منها استهزاء بهم ، قال عيسى لها متكلمًا عن أمه : ( إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ ) . وكانوا حين أشارت لهم إلى عيسى فيما ذُكر عنهم غضبوا.
كما حدثني موسى ، قال : ثنا عمرو ، قال : ثنا أسباط ، عن السديّ ، قال : لما أشارت لهم إلى عيسى غضبوا ، وقالوا : لسخريتها بنا حين تأمرنا أن نكلم هذا الصبيّ أشدّ علينا من زناها( قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا ).
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عمن لا يتهم ، عن وهب بن منبه( قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا ) فأجابهم عيسى
__________
(1) البيت في ( ديوان زهير بن أبي سلمى . طبعة دار الكتب المصرية بشرح أبي العباس ثعلب ، ص 323 ) ورواية الأصل : أجرت تحريف . وقوله عليه : على ذلك الطريق . وحرة كريمة وأرحبية : منسوبة إلى أرحب ، وأرحب بطن من همدان ، تنسب إليهم النجائب الأرحبية ، وقيل هو موضع . وقال الأزهري : يحتمل أن يكون أرحب فحلا تنسب إليه النجائب لأنها من نسله والأرندج واليرندج : السواد يسود به الخف ، أو هو الجلد الأسود . أي زجرت على هذا الطريق هذه الناقة . والليل أسود مثل الأرندج .

(18/189)


عنها فقال لهم( إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا )... الآية.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله( قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا قَالَ لَهُمُ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا ) فقرأ حتى بلغ( وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا ) فقالوا : إن هذا لأمر عظيم.
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد بن سليمان ، قال : سمعت الضحاك يقول( كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ ) لم يتكلم عيسى إلا عند ذلك حين( قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا )
وقوله( آتَانِيَ الْكِتَابَ ) يقول القائل : أو آتاه الكتاب والوحي قبل أن يخلق في بطن أمه فإن معنى ذلك بخلاف ما يظنّ ، وإنما معناه : وقضى يوم قضى أمور خلقه إليّ أن يؤتيني الكتاب.
كما حدثني بشر بن آدم ، قال : ثنا الضحاك ، يعني ابن مخلد ، عن سفيان ، عن سماك ، عن عكرمة( آتَانِيَ الْكِتَابَ ) قال : قضى أن يؤتيني الكتاب فيما مضى.
حدثنا محمد بن بشار ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : أخبرنا سفيان ، عن سماك ، عن عكرمة ، في قوله( إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ ) قال : القضاء.
حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزّاق ، عن إسرائيل ، عن سماك ، عن عكرمة ، في قوله( إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ ) قال : قضى أن يؤتيني الكتاب.
وقوله( وَجَعَلَنِي نَبِيًّا ) وقد بيَّنت معنى النبيّ واختلاف المختلفين فيه ، والصحيح من القول فيه عندنا بشواهده فيما مضى بما أغنى عن إعادته.
وكان مجاهد يقول في معنى النبيّ وحده ما حدثنا به محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قال : النبيّ وحده الذي يكلم وينزل عليه الوحي ولا يرسل.
وقوله( وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا ) اختلف أهل التأويل في معنى ذلك ، فقال بعضهم : معناه : وجعلني نفاعا.

(18/190)


* ذكر من قال ذلك :
حدثني سليمان بن عبد الرحمن بن حماد الطلحي ، قال : ثنا العلاء ، عن عائشة امرأة ليث ، عن ليث ، عن مجاهد( وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا ) قال : نفاعا.
وقال آخرون : كانت بركته الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني سليمان بن عبد الجبار ، قال : ثنا محمد بن يزيد بن خنيس المخزومي ، قال : سمعت وُهَيْب ابن ابن الورد مولى بني مخزوم ، قال : لقي عالم عالما لما هو فوقه في العلم ، قال له : يرحمك الله ، ما الذي أعلن من علمي ، قال : الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، فإنه دين الله الذي بعث به أنبياءه إلى عباده ، وقد اجتمع الفقهاء على قول الله : ( وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ ) وقيل : ما بركته ؟ قال : الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أينما كان.
وقال آخرون معنى ذلك : جعلني معلم الخير.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس بن عبد الأعلى ، قال : ثنا سفيان في قوله( وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ ) قال : معلما للخير.
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا جرير ، عن ليث ، عن مجاهد ، قوله( وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ ) قال : معلمًا للخير حيثما كنت.
وقوله( وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ ) يقول : وقضى أن يوصيني بالصلاة والزكاة ، يعنى المحافظة على حدود الصلاة وإقامتها على ما فرضها عليّ. وفي الزكاة معنيان : أحدهما : زكاة الأموال أن يؤدّيها. والآخر : تطهير الجسد من دنس الذنوب; فيكون معناه : وأوصاني بترك الذنوب واجتناب المعاصي.
وقوله( مَا دُمْتُ حَيًّا ) يقول : ما كنت حيا في الدنيا موجودا ، وهذا يبين عن أن معنى الزكاة في هذا الموضع : تطهير البدن من الذنوب ، لأن الذي يوصف به عيسى صلوات الله وسلامه عليه أنه كان لا يدّخر شيئا لغد ، فتجب عليه زكاة المال ، إلا أن تكون الزكاة التي كانت فرضت عليه الصدقة بكلّ ما فضل عن قوته ، فيكون ذلك وجهًا صحيحًا.

(18/191)


وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا (32) وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا (33)

القول في تأويل قوله تعالى : { وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا (32) وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا (33) }
يقول تعالى ذكره : مخبرا عن قيل عيسى للقوم : وجعلني مباركا وبرًّا : أي جعلني برًّا بوالدتي. والبرّ هو البارّ ، يقال : هو برّ بوالده ، وبارّ به ، وبفتح الباء قرأت هذا الحرف قرّاء الأمصار. ورُوِي عن أبي نهيك ما حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا يحيى بن واضح ، قال : ثنا عبد المؤمن ، عن أبي نهيك أنه قرأ( وَبَرًّا بِوَالِدَتِي ) من قول عيسى عليه السلام ، قال أبو نهيك : أوصاني بالصلاة والزكاة والبرّ بالوالدين ، كما أوصاني بذلك.
فكأنّ أبا نهيك وجه تأويل الكلام إلى قوله( وَبَرًّا بِوَالِدَتِي ) هو من خبر عيسى ، عن وصية الله إياه به ، كما أن قوله( وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ ) من خبره عن وصية الله إياه بذلك. فعلى هذا القول يجب أن يكون نصب البرّ بمعنى عمل الوصية فيه ، لأن الصلاة والزكاة وإن كانتا مخفوضتين في اللفظ ، فإنهما بمعنى النصب من أجل أنه مفعول بهما.
وقوله( وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا ) يقول : ولم يجعلني مستكبرًا على الله فيما أمرني به ، ونهاني عنه ، شقيا ، ولكن ذللني لطاعته ، وجعلني متواضعا.
كما حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قال : ذكر لنا أنه يعني عيسى ، كان يقول : سلوني ، فإن قلبي ليِّن ، وإني صغير في نفسي مما أعطاه الله من التواضع.
وحدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا ) ذكر لنا أن امرأة رأت ابن مريم يحيي الموتى ، ويُبرئ الأكمه والأبرص ، في آيات سلطه الله عليهنّ ، وأذن له فيهنّ ، فقالت : طوبى للبطن الذي حملك ، والثدي الذي أرضعت به ، فقال نبيّ الله ابن مريم يجيبها : طوبى لمن تلا كتاب الله ، واتبع ما فيه( وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا ).
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثنا محمد بن كثير ، عن عبد الله بن واقد أبي رجاء ، عن بعض أهل العلم ، قال : لا تجد عاقا إلا وجدته

(18/192)


ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ (34)

جبارًا شقيا. ثم قرأ( وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا ) قال : ولا تجد سيئ المِلْكة إلا وجدته مختالا فخورا ، ثم قرأ( وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالا فَخُورًا ).
وقوله( وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا ) يقول : والأمنة من الله عليّ من الشيطان وجنده يوم ولدت أن ينالوا مني ما ينالون ممن يولد عند الولادة ، من الطعن فيه ، ويوم أموت ، من هول المطلع ، ويوم أبعث حيا يوم القيامة أن ينالني الفزع الذي ينال الناس بمعاينتهم أهوال ذلك اليوم.
كما حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عمن لا يتهم ، عن وهب بن منبه( وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا ) قال : يخبرهم في قصة خبره عن نفسه ، أنه لا أب له وأنه سيموت ثم يُبْعث حيا ، يقول الله تبارك وتعالى( ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ ).
القول في تأويل قوله تعالى : { ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ (34) }
يقول تعالى ذكره : هذا الذي بيَّنت لكم صفته ، وأخبرتكم خبره ، من أمر الغلام الذي حملته مريم ، هو عيسى ابن مريم ، وهذه الصفة صفته ، وهذا الخبر خبره ، وهو( قَوْلَ الْحَقِّ ) يعني أن هذا الخبر الذي قصصته عليكم قول الحقّ ، والكلام الذي تلوته عليكم قول الله وخبره ، لا خبر غيره ، الذي يقع فيه الوهم والشكّ ، والزيادة والنقصان ، على ما كان يقول الله تعالى ذكره : فقولوا في عيسى أيها الناس ، هذا القول الذي أخبركم الله به عنه ، لا ما قالته اليهود ، الذين زعموا أنه لغير رشدة ، وأنه كان ساحرًا كذّابا ، ولا ما قالته النصارى ، من أنه كان لله ولدا ، وإن الله لم يتخذ ولدا ، ولا ينبغي ذلك له.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد قوله( ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ ) قال : الله الحقّ.

(18/193)


حدثني يحيى بن إبراهيم المسعودي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن جدّه ، عن الأعمش ، عن إبراهيم ، قال : كانوا يقولون في هذا الحرف في قراءة عبد الله ، قال : ( الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ ) ، قال : كلم الله.
ولو وُجِّه تأويل ذلك إلى : ذلك عيسى ابن مريم القول الحقّ ، بمعنى ذلك القول الحقّ ، ثم حذفت الألف واللام من القول ، وأضيف إلى الحقّ ، كما قيل : ( إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ . ) وكما قيل : ( وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ ) كان تأويلا صحيحًا.
وقد اختلفت القراء في قراءة ذلك ، فقرأته عامَّة قرّاء الحجاز والعراق( قَوْلُ الحَقّ ) برفع القول على ما وصفت من المعنى. وجعلوه في إعرابه تابعًا لعيسى ، كالنعت له ، وليس الأمر في إعرابه عندي على ما قاله الذين زعموا أنه رفع على النعت لعيسى ، إلا أن يكون معنى القول الكلمة ، على ما ذكرنا عن إبراهيم من تأويله ذلك كذلك ، فيصحّ حينئذ أن يكون نعتا لعيسى ، وإلا فرفعه عندي بمضمر ، وهو هذا قول الحقّ على الابتداء ، وذلك أن الخبر قد تناهى عن قصة عيسى وأمه عند قوله( ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ ) ثم ابتدأ الخبر بأن الحق فيما فيه تمتري الأمم من أمر عيسى ، هو هذا القول ، الذي أخبر الله به عنه عباده ، دون غيره ، وقد قرأ ذلك عاصم بن أبي النجود وعبد الله بن عامر بالنصب ، وكأنهما أرادا بذلك المصدر : ذلك عيسى ابن مريم قولا حقا ، ثم أدخلت فيه الألف واللام ، وأما ما ذُكر عن ابن مسعود من قراءته( ذلكَ عِيسَى ابنُ مَرْيَمَ قالُ الحقّ) فإنه بمعنى قول الحقّ ، مثل العاب والعيب ، والذام والذيم.
قال أبو جعفر : والصواب من القراءة في ذلك عندنا : الرفع ، لإجماع الحجة من القرّاء عليه. وأما قوله تعالى ذكره : ( الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ ) فإنه يعني : الذي فيه يختصمون ويختلفون ، من قولهم : ماريت فلانا : إذا جادلته وخاصمته.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله( ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ ) امترت فيه اليهود والنصارى; فأما اليهود فزعموا أنه ساحر كذّاب; وأما النصارى

(18/194)


مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (35) وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (36)

فزعموا أنه ابن الله ، وثالث ثلاثة ، وإله ، وكذبوا كلهم ، ولكنه عبد الله ورسوله ، وكلمته وروحه.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، فال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قوله( الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ ) قال : اختلفوا ؛ فقالت فرفة : هو عبد الله ونبيه ، فآمنوا به. وقالت فرقة : بل هو الله. وقالت فرقة : هو ابن الله. تبارك وتعالى عما يقولون علوًّا كبيرا ، قال : فذلك قوله(فَاخْتَلَفَ الأحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ ) والتي في الزخرف ، قال دِقْيوس ونسطور ومار يعقوب ، قال أحدهم حين رفع الله عيسى : هو الله ، وقال الآخر : ابن الله ، وقال الآخر : كلمة الله وعبده ، فقال المفتريان : إن قولي هو أشبه بقولك ، وقولك بقولي من قول هذا ، فهلمّ فلنقاتلهم ، فقاتلوهم وأوطئوهم إسرائيل ، فأخرجوا منهم أربعة نفر ، أخرج كلّ قوم عالمهم ، فامتروا في عيسى حين رُفِع ، فقال أحدهم : هو الله هبط إلى الأرض وأحيا من أحيا ، وأمات من أمات ، ثم صعد إلى السماء ، وهم النسطورية ، فقال الاثنان : كذبت ، ثم قال أحد الاثنين للآخر : قل فيه ، قال : هو ثالث ثلاثة : الله إله ، وهو إله ، وأمه إله ، وهم الإسرائيلية ملوك النصارى; قال الرابع : كذبت ، هو عبد الله ورسوله وروحه وكلمته ، وهم المسلمون ، فكان لكل رجل منهم أتباع على ما قال ، فاقتتلوا ، فظهر على المسلمين ، وذلك قول الله : ( وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ ) قال قتادة : هم الذين قال الله : ( فَاخْتَلَفَ الأحْزَابُ ) اختلفوا فيه فصاروا أحزابا.
القول في تأويل قوله تعالى : { مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (35) وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (36) }
يقول تعالى ذكره : لقد كفرت الذين قالوا : إن عيسى ابن الله ، وأعظموا الفِرية عليه ، فما ينبغي لله أن يتخذ ولدا ، ولا يصلح ذلك له ولا يكون ، بل

(18/195)


كل شيء دونه فخلقه ، وذلك نظير قول عمرو بن أحمر :
فِي رأسِ خَلْقَاءَ مِنْ عَنقاءَ مُشْرِفَةٍ... لا يُبْتَغَى دُونها سَهْلٌ وَلا جَبَلُ (1)
وأن من قوله( أَنْ يَتَّخِذَ ) في موضع رفع بكان. وقوله : (سُبْحَانَهُ) يقول : تنزيهًا لله وتبرئة له أن يكون له ما أضاف إليه الكافرون القائلون : عيسى ابن الله. وقوله إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ) يقول جل ثناؤه : إنما ابتدأ الله خلق عيسى ابتداء ، وأنشأه إنشاء من غير فحل افتحل أمه ، ولكنه قال له( كُنْ فَيَكُونُ ) لأنه كذلك يبتدع الأشياء ويخترعها ، إنما يقول ، إذا قضى خلق شيء أو إنشاءه : كن فيكون موجودا حادثا ، لا يعظم عليه خلقه ، لأنه لا يخلقه بمعاناة وكلفة ، ولا ينشئه بمعالجة وشدّة.
وقوله( وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ ) اختلف القرّاء في قراءة ذلك ، فقرأته عامَّة قرّاء أهل المدينة والبصرة( وأنَّ اللهَ رَبِّي وَرَبكُمْ ) واختلف أهل العربية في وجه فتح " أن " إذا فتحت ، فقال بعض نحوييّ الكوفة : فُتحت ردّا على عيسى وعطفا عليه ، بمعنى : ذلك عيسى ابن مريم ، وذلك أن الله ربي وربكم. وإذا كان ذلك كذلك كانت أن رفعا ، وتكون بتأويل خفض ، كما قال( ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ ) قال : ولو فتحت على قوله(وَأَوْصَانِي) بأن الله ، كان وجها. وكان بعض البصريين يقول : وذُكر ذلك أيضًا عن أبي عمرو بن العلاء ، وكان ممن يقرؤه بالفتح إنما فتحت أن بتأويل(وَقَضَى) أن الله ربي وربُّكم. وكانت عامّة قرّاء الكوفيين يقرءونه(وَإنَّ الله) بكسر إن بمعنى النسق على قوله( فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ ) . وذُكر عن أبيّ بن كعب أنه كان يقرؤه( فإنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ إنَّ اللهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ ) بغير واو.
__________
(1) البيت لعمر بن أحمر . ( اللسان : عنق ) قال : وأما قول ابن أحمر : فِي رأْسِ خَلْقاءَ مِنْ عَنْقَاءَ مُشْرِفَةٍ ... لا يُبْتَغَى دُونَها سَهْلٌ وَلا جَبَلُ
فإنه يصف جبلا ، يقول : لا ينبغي أن يكون فوقها سهل ولا جبل أحصن منها . أه . قلت : والخلقاء : الصخرة الملساء . العنقاء : البعيدة في السماء . والمشرفة : العالية . ورواية الشطر الثاني في الأصل * ما ينبغي دونها سهل ولا جبل *
.

(18/196)


فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ (37)

قال أبو جعفر : والقراءة التي نختار في ذلك : الكسر على الابتداء. وإذا قرئ كذلك لم يكن لها موضع ، وقد يجوز أن يكون عطفا على " إن " التي مع قوله( قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ ... وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ ) ولو قال قائل ، ممن قرأ ذلك نصبا : نصب على العطف على الكتاب ، بمعنى : آتاني الكتاب ، وأتاني أن الله ربي وربكم ، كان وجها حسنا. ومعنى الكلام : وإني وأنتم أيها القوم جميعا لله عبيد ، فإياه فاعبدوا دون غيره.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عمن لا يتهم ، عن وهب بن منبه ، قال : عهد إليهم حين أخبرهم عن نفسه ومولده وموته وبعثه( إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ ) أي إني وإياكم عبيد الله ، فاعبدوه ولا تعبدوا غيره.
وقوله( هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ ) يقول : هذا الذي أوصيتكم به ، وأخبرتكم أن الله أمرني به هو الطريق المستقيم ، الذي من سلكه نجا ، ومن ركبه اهتدى ، لأنه دين الله الذي أمر به أنبياءه.
القول في تأويل قوله تعالى : { فَاخْتَلَفَ الأحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ (37) }
يقول تعالى ذكره : فاختلف المختلفون في عيسى ، فصاروا أحزابا متفرّقين من بين قومه.
كما حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث ، قال : ثني الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله( فَاخْتَلَفَ الأحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ ) قال : أهل الكتاب.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله

(18/197)


( فَاخْتَلَفَ الأحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ ) ذُكر لنا أن لما رُفع ابن مريم ، انتخبت بنو إسرائيل أربعة من فقهائهم ، فقالوا للأوّل : ما تقول في عيسى ؟ قال : هو الله هبط إلى الأرض ، فخلق ما خلق ، وأحيا ما أحيا ، ثم صَعِد إلى السماء ، فتابعه على ذلك ناس من الناس ، فكانت اليعقوبية من النصارى; وقال الثلاثة الآخرون : نشهد أنك كاذب ، فقالوا للثاني : ما تقول في عيسى ؟ قال : هو ابن الله ، فتابعه على ذلك ناس من الناس ، فكانت النَّسطورية من النصارى; وقال الاثنان الآخران : نشهد أنك كاذب ، فقالوا للثالث : ما تقول في عيسى ؟ قال : هو إله ، وأمه إله ، والله إله ، فتابعه على ذلك ناس من الناس ، فكانت الإسرائيلية من النصارى ، فقال الرابع : أشهد أنك كاذب ، ولكنه عبد الله ورسوله ، هو كلمة الله وروحه; فاختصم القوم ، فقال المرء المسلم : أنشدُكم الله ما تعلمون أن عيسى كان يَطعم الطعام ، وأن الله تبارك وتعالى : لا يطعم الطعام قالوا : اللهمّ نعم ، قال : هل تعلمون أن عيسى كان ينام ؟ قالوا : اللهمّ نعم ، قال فخصمهم المسلم; قال : فاقتتل القوم. قال : فذُكر لنا أن اليعقوبية ظهرت يومئذ وأصيب المسلمون ، فأنزل الله في ذلك القرآن( إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ).
حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا إسحاق ، قال : أخبرنا عبد الرزّاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة( فَاخْتَلَفَ الأحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ ) اختلفوا فيه فصاروا أحزابا.
وقوله : ( فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ ) يقول : فوادي جهنم الذي يدعى ويلا للذين كفروا بالله ، من الزاعمين أن عيسى لله ولد ، وغيرهم من أهل الكفر به من شهودهم يومًا عظيما شأنه ، وذلك يوم القيامة.
وكان قتادة يقول في تأويل ذلك ما حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قال الله : ( فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ ) شهدوا هولا إذا عظيما.

(18/198)


أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا لَكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (38)

القول في تأويل قوله تعالى : { أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا لَكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (38) }
يقول تعالى ذكره مخبرًا عن حال الكافرين به ، الجاعلين له أندادا ، والزاعمين أن له ولدا يوم ورودهم عليه في الآخرة : لئن كانوا في الدنيا عميا عن إبصار الحقّ ، والنظر إلى حجج الله التي تدلّ على وحدانيته ، صما عن سماع آي كتابه ، وما دعتهم إليه رسل الله فيها من الإقرار بتوحيده ، وما بعث به أنبياءه ، فما أسمعهم يوم قدومهم على ربهم في الآخرة ، وأبصرهم يومئذ حين لا ينفعهم الإبصار والسماع.
وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله( أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ ) ذاك والله يوم القيامة ، سمعوا حين لا ينفعهم السمع ، وأبصروا حين لا ينفعهم البصر.
حدثنا الحسن ، قال أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتاده ، في قوله( أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ ) قال : أسمعُ قومٍ وأبصرُهُم.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثنا أبو سفيان ، عن معمر ، عن قتادة ، قال( أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا ) يوم القيامة.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثني حجاج ، عن أبي جعفر ، عن الربيع بن أنس ، عن أبي العالية ، قال : (أسمِعْ) بحديثهم اليوم(وأبْصِرْ) كيف يصنع بهم( يَوْمَ يَأْتُونَنَا ).
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله( أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا ) قال : هذا يوم القيامة ، فأما الدنيا فلا كانت على أبصارهم غشاوة ، وفي آذانهم وقر في الدنيا; فلما كان يوم القيامة أبصروا وسمعوا فلم ينتفعوا ، وقرأ( رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ ).

(18/199)


وقوله( لَكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ ) يقول تعالى ذكره : لكن الكافرون الذين أضافوا إليه ما ليس من صفته ، وافتروا عليه الكذب اليوم في الدنيا ، في ضلال مبين : يقول : في ذهاب عن سبيل الحقّ ، وأخذ على غير استقامة ، مبين أنه جائر عن طريق الرشد والهدى ، لمن تأمله وفكر فيه ، فهدي لرشده.

(18/200)


وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (39)

القول في تأويل قوله تعالى : { وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (39) }
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : وأنذر يا محمد هؤلاء المشركين بالله يوم حسرتهم وندمهم ، على ما فرّطوا في جنب الله ، وأورثت مساكنهم من الجنة أهل الإيمان بالله والطاعة له ، وأدخلوهم مساكن أهل الإيمان بالله من النار ، وأيقن الفريقان بالخلود الدائم ، والحياة التي لا موت بعدها ، فيا لها حسرةً وندامة.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن بشار ، قال : ثنا عبد الرحمن بن مهدي ، قال : ثنا سفيان ، عن سَلَمة بن كُهَيل ، قال : ثنا أبو الزعراء ، عن عبد الله في قصة ذكرها ، قال : " ما من نفس إلا وهي تنظر إلى بيت في الجنة ، وبيت في النار ، وهو يوم الحسرة ، فيرى أهل النار البيت الذي كان قد أعدّه الله لهم لو آمنوا ، فيقال لهم : لو آمنتم وعملتم صالحا كان لكم هذا الذي ترونه في الجنة ، فتأخذهم الحسرة ، ويرى أهل الجنة البيت الذي في النار ، فيقال : لولا أن منّ الله عليكم " .
حدثنا أبو السائب ، قال : ثنا معاوية ، عن الأعمش ، عن أبي صالح ، عن أبي سعيد ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يُجاءُ بالمَوْتِ يَوْمَ القِيامَةِ فَيُوقَفُ بينَ الجَنَّةِ والنَّار كأنَّه كَبْشٌ أمْلَح ، ُ قال : فَيُقَالُ : يا أهْلَ الجَنَّةِ هَلْ تَعْرِفُونَ هَذَا ؟ فَيَشْرئِبُّونَ وَيَنْظُرُون ، فَيَقُولُونَ : نَعَمْ ، هَذَا المَوْتُ ، فَيُقَالُ : يا أهْلَ النَّارِ هَلْ تَعْرِفُونَ هَذَا ؟ فَيَشْرئِبُّونَ وَيَنْظُرُونَ ، فيقُولُونَ نَعَمْ هَذَا المَوْتُ ، ثُمَّ

(18/200)


يُؤْمَرُ بِهِ فَيُذْبَحُ ، قال : فَيَقُول : يا أهْلَ الجَنَّةِ خُلُودٌ فَلا مَوْتَ ، وَيَا أهْلَ النَّارِ خُلُودٌ فلا مَوْتَ ، قال : ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم( وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ ) وأشار بيده في الدنيا " .
حدثني عبيد بن أسباط بن محمد ، قال : ثنا أبي ، عن الأعمش ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم في هذه الآية( وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ ) قال : " يُنَادَى : يَا أهْلَ الجَنَّةِ ، فَيَشْرَئِبُونَ ، فَيَنْظُرُونَ ، ثُمَّ يُنَادَى : يا أهْلَ النَّار فَيَشْرَئِبُّونَ فَيَنْظُرُونَ ، فَيُقالُ : هَلْ تَعْرِفُونَ المَوْتَ ؟ قال : فَيَقُولُونَ : لا قال : فَيُجَاءُ بِالمَوْتِ فِي صُورَةِ كَبْشٍ أمْلَحَ ، فيُقالُ : هَذَا المَوْتُ ، ثُمَّ يُؤْخَذُ فَيُذْبَحُ ، قالَ : ثُمَّ يُنَادِي يا أهْلَ النَّارِ خُلُودٌ فَلا مَوْتَ ، وَيَا أهْلَ الجَنَّةِ خُلُودٌ فلا مَوْتَ " ، قال : ثم قرأ( وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الأَمْرُ ).
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قال ابن عباس ، في قوله( وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ ) قال : يصور الله الموت في صورة كبش أملح ، فيذبح ، قال : فييأس أهل النار من الموت ، فلا يرجونه ، فتأخذهم الحسرة من أجل الخلود في النار ، وفيها أيضًا الفزع الأكبر ، ويأمل أهل الجنة الموت ، فلا يخشونه ، وأمنوا الموت ، وهو الفزع الأكبر ، لأنهم يخلدون في الجنة ، قال ابن جريج : يحشر أهل النار حين يذبح الموت والفريقان ينظرون ، فذلك قوله( إِذْ قُضِيَ الأَمْرُ ) قال : ذبح الموت( وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ ).
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن أبيه أنه أخبره أنه سمع عبيد بن عمير في قصصه يقول : يؤْتى بالموت كأنه دابة ، فيذبح والناس ينظرون.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ ) قال : يوم القيامة ، وقرأ( أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَاحَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ ).
حدثني عليّ ، قال : ثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله( وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ ) من أسماء يوم القيامة ، عظمه الله ، وحذّره عباده. وقوله( إِذْ قُضِيَ الأَمْرُ ) يقول : إذ فُرِغَ من الحكم لأهل النار

(18/201)


إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ (40) وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا (41) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا (42)

بالخلود فيها ، ولأهل الجنة بمقام الأبد فيها ، بذبح الموت.
وقوله( وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ ) يقول : وهؤلاء المشركون في غفلة عما الله فاعل بهم يوم يأتونه خارجين إليه من قبورهم ، من تخليده إياهم في جهنم ، وتوريثه مساكنهم من الجنة غيرهم( وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ ) يقول تعالى ذكره : وهم لا يصدقون بالقيامة والبعث ، ومجازاة الله إياهم على سيئ أعمالهم ، بما أخبر أنه مجازيهم به.
القول في تأويل قوله تعالى : { إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ (40) }
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : لا يحزنك تكذيب هؤلاء المشركين لك يا محمد فيما أتيتهم به من الحق ، فإن إلينا مرجعهم ومصيرهم ومصير جميع الخلق غيرهم ، ونحن وارثو الأرض ومن عليها من الناس ، بفنائهم منها ، وبقائها لا مالك لها غيرنا ، ثم علينا جزاء كل عامل منهم بعمله ، عند مرجعه إلينا ، المحسن منهم بإحسانه ، والمسيء بإساءته.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا (41) إِذْ قَالَ لأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا (42) }
يقول تعالى ذكره لنبيه : (واذْكُرْ) يا محمد في كتاب الله(إِبراهيمِ) خليل الرحمن ، فاقصص على هؤلاء المشركين قصصه وقصص أبيه ، ( إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا ) يقول : كان من أهل الصدق في حديثه وأخباره ومواعيده لا يكذب ، والصدّيق هو الفعيل من الصدق.
وقد بيَّنا ذلك فيما مضى بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع(نَبِيًّا) يقول : كان الله قد نبأه وأوحى إليه.
وقوله( إِذْ قَالَ لأَبِيهِ ) يقول : اذكره حين قال لأبيه( يَاأَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ

(18/202)


يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا (43)

مَا لا يَسْمَعُ ) يقول : ما تصنع بعبادة الوَثَن الذي لا يسمع( وَلا يُبْصِرُ) شيئا(وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا ) يقول : ولا يدفع عنك ضرّ شيء ، إنما هو صورة مصوّرة لا تضرّ ولا تنفع ، يقول ما تصنع بعبادة ما هذه صفته ؟ اعبد الذي إذا دعوته سمع دعاءك ، وإذا أحيط بك أبصرك فنصرك ، وإذا نزل بك ضرّ دفع عنك.
واختلف أهل العربية في وجه دخول الهاء في قوله(يا أبَتِ) فكان بعض نحوييّ أهل البصرة يقول : إذا وقفت عليها قلت : يا أبه ، وهي هاء زيدت نحو قولك : يا أمه ، ثم يقال : يا أم إذا وصل ، ولكنه لما كان الأب على حرفين ، كان كأنه قد أُخِلّ به ، فصارت الهاء لازمة ، وصارت الياء كأنها بعدها ، فلذلك قالوا : يا أبة أقبل ، وجعل التاء للتأنيث ، ويجوز الترخيم من أيا أب أقبل ، لأنه يجوز أن تدعو ما تضيفه إلى نفسك في المعنى مضموما ، نحو قول العرب : يا ربّ اغفر لي ، وتقف في القرآن : يا أبة في الكتاب.
وقد يقف بعض العرب على الهاء بالتاء. وقال بعض نحويي الكوفة : الهاء مع أبة وأمة هاء وقف ، كثرت في كلامهم حتى صارت كهاء التأنيث ، وأدخلوا عليها الإضافة ، فمن طلب الإضافة ، فهي بالتاء لا غير ، لأنك تطلب بعدها الياء ، ولا تكون الهاء حينئذ إلا تاء ، كقولك : يا أبت لا غير ، ومن قال : يا أبه ، فهو الذي يقف بالهاء ، لأنه لا يطلب بعدها ياء; ومن قال : يا أبتا ، فإنه يقف عليها بالتاء ، ويجوز بالهاء; فأما بالتاء ، فلطلب ألف الندبة ، فصارت الهاء تاء لذلك ، والوقف بالهاء بعيد ، إلا فيمن قال : " يا أميمةَ ناصبِ (1)
" فجعل هذه الفتحة من فتحة الترخيم ، وكأن هذا طرف الاسم ، قال : وهذا بعيد.
القول في تأويل قوله تعالى : { يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا (43) }
يقول تعالى ذكره : قال إبراهيم لأبيه : يا أبت إني قد آتاني الله من العلم ما لم يؤتك فاتبعني : يقول : فاقبل مني نصيحتي( أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا ) يقول :
__________
(1) هذا جزء من بيت للنابغة ( سبق الاستشهاد به في 14 : 21 ) وهو : كِلِيني لِهَمٍّ يَا أُمَيْمَةَ ناصِبِ ... ولَيْلٍ أُقَاسِيهِ بَطِيءُ الكَوَاكِبِ
.

(18/203)


يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا (44) يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا (45) قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آَلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا (46)

أبصرك هدى الطريق المستوي الذي لا تضلّ فيه إن لزمته ، وهو دين الله الذي لا اعوجاج فيه.
القول في تأويل قوله تعالى : { يَا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا (44) }
يقول تعالى ذكره : يا أبت لا تعبد الشيطان إن الشيطان كان لله عاصيا ، والعصيّ هو ذو العصيان ، كما العليم ذو العلم ، وقد قال قوم من أهل العربية : العصيّ : هو العاصي ، والعليم هو العالم ، والعريف هو العارف ، واستشهدوا لقولهم ذلك ، بقول طريف بن تميم العنبريّ :
أو كُلَّما وَرَدَتْ عُكاظَ قَبيلَةٌ... بَعَثُوا إليَّ عَرِيفُهُمْ يَتَوَسَّمُ (1)
وقالوا : قال عريفهم وهو يريد : عارفهم ، والله أعلم.
القول في تأويل قوله تعالى : { يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا (45) }
يقول : يا أبت إني أعلم انك إن متّ على عبادة الشيطان أنه يمسك عذاب من عذاب الله( فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا ) يقول : تكون له وليا دون الله ويتبرأ الله منك ، فتهلك ، والخوف في هذا الموضع بمعنى العلم ، كما الخشية بمعنى العلم ، في قوله( فخشينا أن يرهقهما طغيانا وكفرا ) .
القول في تأويل قوله تعالى : { قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا (46) }
يقول تعالى ذكره : قال أبو إبراهيم لإبراهيم ، حين دعاه إبراهيم إلى
__________
(1) البيت في ( اللسان : عرف ) ونسبه إلى طريف بن مالك العنبري ، وقيل طريف بن عمرو . قال : والعريف والعارف بمعنى ، مثل عليم وعالم . وقال سيويه : هو فعيل بمعنى فاعل ، كقولهم ضريب قداح . والجمع عرفاء .

(18/204)


عبادة الله وترك عبادة الشيطان ، والبراءة من الأوثان والأصنام( أَرَاغِبٌ أَنْتَ ) يا إبراهيم عن عبادة آلهتي ؟(لئن) أنت(لم تنته) عن ذكرها بسوء(لأرجمنك) يقول : لأرجمنك بالكلام ، وذلك السبّ ، والقول القبيح.
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا موسى ، قال : ثنا عمرو ، قال : ثنا أسباط ، عن السدّي( قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَاإِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لأَرْجُمَنَّكَ ) بالشتيمة والقول.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، قال : قال ابن جريج ، في قوله( لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لأَرْجُمَنَّكَ ) قال : بالقول; لأشتمنك.
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ ، يقول : أخبرنا عبيد بن سليمان ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله(لأَرْجُمَنَّكَ) يعني : رجم القول.
وأما قوله( وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا ) فإن أهل التأويل اختلفوا في تأويله ، فقال بعضهم : معنى ذلك : واهجرني حينا طويلا ودهرا. ووجهَّوا معنى الملّي إلى المُلاوة من الزمان ، وهو الطويل منه.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن بشار ، قال : ثنا عبد الرحمن ، قال : ثنا أبو داود ، قال : ثنا محمد بن أبي الوضاح ، عن عبد الكريم ، عن مجاهد ، في قوله( وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا ) قال : دهرا.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله(مَلِيًّا) قال حينا.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، عن الحسن( وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا ) قال : طويلا.

(18/205)


حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن الحسن ، في قوله( وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا ) قال : زمانا طويلا.
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، عن ابن إسحاق( وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا ) يقول : دهرا ، والدهر المليّ.
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا عبد الرحمن ، قال : ثنا إسرائيل ، عن أبي حصين ، عن سعيد بن جبير( وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا ) قال : دهرا.
حدثنا موسى ، قال : ثنا عمرو ، ثنا أسباط ، عن السديّ( وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا ) قال : أبدا.
وقال آخرون : بل معنى ذلك : واهجرني سويا سليما من عقوبتي إياك ، ووجَّهوا معنى المليّ إلى قول الناس : فلان مليّ بهذا الأمر : إذا كان مضطلعا به غنيا فيه. وكأن معنى الكلام كان عندهم : واهجرني وعرضك وافر من عقوبتي ، وجسمك معافى من أذاي.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ بن داود ، قال : ثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية بن صالح ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس( وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا ) يقول : اجتنبني سَوِيًّا.
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله( وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا ) قال : اجتنبني سالما قبل أن يصيبك مني عقوبة.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله( وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا ) قال : سالما.
حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، مثله.
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا يحيى بن كثير بن درهم أبو غسان ، قال : ثنا قرة بن خالد ، عن عطية الجدلي( وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا ) قال : سالما.

(18/206)


قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا (47) وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا (48)

حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله( وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا ) اجتنبني سالما لا يصيبك مني معرّة.
قال أبو جعفر : وأولى القولين بتأويل الآية عندي قول من قال : معنى ذلك : واهجرني سويا ، سلما من عقوبتي ، لأنه عقيب قوله( لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لأَرْجُمَنَّكَ ) وذلك وعيد منه له إن لم ينته عن ذكر آلهته بالسوء أن يرجمه بالقول السيئ ، والذي هو أولى بأن يتبع ذلك التقدّم إليه بالانتهاء عنه قبل أن تناله العقوبة ، فأما الأمر بطول هجره فلا وجه له.
القول في تأويل قوله تعالى : { قَالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا (47) وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا (48) }
يقول تعالى ذكره : قال إبراهيم لأبيه حين توعَّده على نصيحته إياه ودعائه إلى الله بالقول السيئ والعقوبة : سلام عليك يا أبت ، يقول : أمنة مني لك أن أعاودك فيما كرهت ، ولدعائك إليّ ما توعدتني عليه بالعقوبة ، ولكني( سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي ) يقول : ولكني سأسأل ربي أن يستر عليك ذنوبك بعفوه إياك عن عقوبتك عليها( إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا ) يقول : إن ربي عهدته بي لطيفا يجيب دعائي إذا دعوته ، يقال منه : تحفى بي فلان. وقد بيَّنت ذلك بشواهده فيما مضى ، بما أغنى عن إعادته هاهنا.
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : ثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله( إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا ) يقول : لطيفا.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله( إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا ) قال : إنه كان بي لطيفا ، فإن الحفيّ : اللطيف.

(18/207)


فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا (49) وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا (50)

وقوله( وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ) يقول : وأجتنبكم وما تدعون من دون الله من الأوثان والأصنام(وأدْعُو رَبّي) يقول : وأدعو ربي ، بإخلاص العبادة له ، وإفراده بالربوبية( عَسَى أَلا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا ) يقول : عسى أن لا أشقى بدعاء ربي ، ولكن يجيب دعائي ، ويعطيني ما أسأله.
القول في تأويل قوله تعالى : { فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلا جَعَلْنَا نَبِيًّا (49) وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا (50) }
يقول تعالى ذكره : فلما اعتزل إبراهيم قومه وعبادة ما كانوا يعبدون من دون الله من الأوثان آنسنا وحشته من فراقهم ، وأبدلناه منهم بمن هو خير منهم وأكرم على الله منهم ، فوهبنا له ابنه إسحاق ، وابن ابنه يعقوب بن إسحاق( وَكُلا جَعَلْنَا نَبِيًّا ) فوحد ، ولم يقل أنبياء ، لتوحيد لفظ كلّ( وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا ) يقول جلّ ثناؤه : ورزقنا جميعهم ، يعني إبراهيم وإسحاق ويعقوب من رحمتنا ، وكان الذي وهب لهم من رحمته ، ما بسط لهم في عاجل الدنيا من سعة رزقه ، وأغناهم بفضله.
وقوله( وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا ) يقول تعالى ذكره : ورزقناهم الثناء الحسن ، والذكر الجميل من الناس.
كما حدثني عليّ ، قال : ثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله( وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا ) يقول : الثناء الحسن.
وإنما وصف جل ثناؤه اللسان الذي جعل لهم بالعلوّ ، لأن جميع أهل الملل تحسن الثناء عليهم ، والعرب تقول : قد جاءني لسان فلان ، تعني ثناءه أو ذمه; ومنه قول عامر بن الحارث :
إنّي أتَتْنِي لِسانٌ لا أسَرُّ بِهَا... مِنْ عَلْو لا عَجَبٌ مِنْها وَلا سَخُرُ (1)
__________
(1) البيت لأعشى باهلة واسمه عامر بن الحارث ( جمهرة أشعار العرب ص 135 ) وهي إحدى المراثي الجياد . وفي ( اللسان : لسن ) اللسان : جارحة الكلام ، وقد يكنى بها عن الكلمة ، فيؤنث حينئذ . قال : أعشى باهلة : " إني أتتني لسانه . . . البيت " . قال ابن بري : اللسان هنا : الرسالة والمقالة . وقد يذكر على معنى الكلام . ثم قال : قال اللحياني : اللسان في الكلام يذكر ويؤنث ، يقال إن لسان الناس عليك لحسنة وحسن ، أي ثناؤهم . أه . واللسان : الثناء ، وقوله عز وجل : " واجعل لي لسان صدق في الآخرين " : معناه : اجعل لي ثناءً حسنًا باقيًا إلى آخر الدهر . أه . وفي ( تاج العروس : علا ) : وأن قول أعشى باهلة " من علو " فيروى بضم الواو وفتحها وكسرها ، أي أتاني خبر من أعالي نجد . أه . وفي جمهرة أشعار العرب : السخر : الاستهزاء . أه . وقد استشهد المؤلف بالبيت على أن اللسان قد يجيء بمعنى الثناء مع أن اللغويين فسروه بمعنى الخبر أو الرسالة أو المقالة .

(18/208)


وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا (51)

ويروى : لا كذب فيها ولا سَخَر :
جاءَتْ مُرجَمَّة قد كُنْتُ أحْذَرُها... لَوْ كانَ يَنْفَعُنِي الإشْفاقُ والحَذَرُ (1)
مرجمة : يظنّ بها.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا وَكَانَ رَسُولا نَبِيًّا (51) }
يقول تعالى ذكره لنبيه صلى الله عليه وسلم : واذكر يا محمد في كتابنا الذي أنزلناه إليك موسى بن عمران ، واقصص على قومك أنه كان مخلصا.
واختلفت القراء في قراءة ذلك ، فقرأته عامة قراء المدينة والبصرة وبعض الكوفيين : (إنَّهُ كانَ مُخْلِصًا) بكسر اللام من المُخْلِص ، بمعنى : إنه كان يخلص لله العبادة ، ويفرده بالألوهية ، من غير أن يجعل له فيها شريكا ، وقرأ ذلك عامة قرّاء أهل الكوفة خلا عاصم( إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا ) بفتح اللام من مُخْلَص ، بمعنى : إن موسى كان الله قد أخلصه واصطفاه لرسالته ، وحمله نبيا مرسلا.
قال أبو جعفر : والصواب من القول في ذلك عندي : أنه كان صلى الله عليه وسلم مخلصا عبادة الله ، مُخْلَصا للرسالة والنبوّة ، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب الصواب.
__________
(1) هذا البيت لأعشى باهلة أيضًا ، وهو بعد البيت السابق عليه في القصيدة نفسها ، كما في ( جمهرة أشعر العرب ص 136 ) . ومعنى مرجمة : أي مظنونة ، لا يوقف على حقيقتها ويقال : كلام مرجم عن غير يقين . ولعل الشاعر أراد أن الناس كلهم لم يصدقوا خبر هذا الفاجعة التي نزلت بهم ، فهم بين مصدق ومكذب .

(18/209)


( وَكَانَ رَسُولا ) يقول : وكان لله رسولا إلى قومه بني إسرائيل ، ومن أرسله إليه نبيا.

(18/210)


وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا (52) وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا (53)

القول في تأويل قوله تعالى : { وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الأيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا (52) وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا (53) }
يقول تعالى ذكره : ونادينا موسى من ناحية الجبل ، ويعني بالأيمن : يمين موسى ، لأنة الجبل لا يمين له ولا شمال ، وإنما ذلك كما يقال : قام عن يمين القبلة وعن شمالها.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، في قوله( مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الأيْمَنِ ) قال : جانب الجبل الأيمن . وقد بيَّنا معنى الطور واختلاف المختلفين فيه ، ودللنا على الصواب من القول فيما مضى بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع.
وقوله( وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا ) يقول تعالى ذكره : وأدنيناه مناجيا ، كما يقال : فلان نديم فلان ومنادمه ، وجليس فلان ومجالسه. وذُكر أن الله جلّ ثناؤه أدناه ، حتى سمع صريف القلم.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا يحيى ، قال : ثنا سفيان ، عن عطاء بن السائب ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس( وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا ) قال : أٌدْنِيّ حتى سمع صريف القلم.
حدثنا محمد بن منصور الطَوسِيّ ، قال : ثنا يحيى بن أبي بكر ، قال : ثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، قال : أراه عن مجاهد ، في قوله( وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا ) قال : بين السماء الرابعة ، أو قال : السابعة ، وبين العرش سبعون ألف حجاب : حجاب نور ، وحجاب ظلمة ، وحجاب نور ، وحجاب ظلمة; فما زال يقرب موسى حتى كان بينه وبينه حجاب ، وسمع (1) صريف القلم( قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ ).
__________
(1) عبارة الدر المنثور للسيوطي : حتى كان بينه وبينه حجاب ، فلما رأى مكانه وسمع . . . إلخ

(18/210)


وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا (54)

حدثنا عليّ بن سهل ، قال : ثني حجاج ، عن أبي جعفر ، عن الربيع ، عن أبي العالية ، قال : قرّبه منه حتى سمع صريف القلم.
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا جرير ، عن عطاء ، عن ميسرة(وقَرَّبْناهُ نَجِيًّا) قال : أُدْنِيَ حتى سمع صريف القلم في اللوح ، وقال شعبة : أردفه جبرائيل عليه السلام.
وقال قتادة في ذلك ، ما حدثنا به الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، في قوله( وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا ) قال : نجا بصدقه.
وقوله( وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ ) يقول : ووهبنا لموسى رحمة منا أخاه هارون(نَبِيًّا) يقولأيَّدناه بنبوّته ، وأعنَّاه بها.
كما حدثني يعقوب ، قال : ثنا ابن علية ، عن داود ، عن عكرمة ، قال : قال ابن عباس : قوله( وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا ) قال : كان هارون أكبر من موسى ، ولكن أراد وهب له نبوّته.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولا نَبِيًّا (54) }
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : واذكر يا محمد في الكتاب إسماعيل بن إبراهيم ، فاقصص خبره إنه كان لا يكذب وعده ، ولا يخلف ، ولكنه كان إذا وعد ربه ، أو عبدًا من عباده وعدًا وفّى به.
كما حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قوله( إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ ) قال : لم يعد ربه عِدة إلا أنجزها.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرني عمرو بن الحارث أن سهل بن عقيل ، حدثه أن إسماعيل عليه السلام وعد رجلا مكانا أن يأتيه ، فجاء ونسي الرجل ، فظلّ به إسماعيل ، وبات حتى جاء الرجل من الغد ، فقال : ما برحت من هاهنا ؟ قال : لا قال : إني نسيت ، قال : لم أكن لأبرح حتى تأتي ، فبذلك كان صادقا.

(18/211)


وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا (55) وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا (56) وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا (57)

القول في تأويل قوله تعالى : { وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا (55) }
يقول تعالى ذكره : ( وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ ) بـ إقامة(الصَّلاةِ و) إيتاء( وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا ) عمله ، محمودا فيما كلفه ربه ، غير مقصر في طاعته.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا (56) وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا (57) }
يقول تعالى ذكره : واذكر يا محمد في كتابنا هذا إدريس( إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا ) لا يقول الكذب ، (نَبِيًّا) نوحي إليه من أمرنا ما نشاء.( وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا ) يعني به إلى مكان ذي علوّ وارتفاع. وقال بعضهم : رُفع إلى السماء السادسة.وقال آخرون : الرابعة.
* ذكر الرواية بذلك : حدثني يونس بن عبد الأعلى ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرني جرير بن حازم ، عن سليمان الأعمش ، عن شمر بن عطية ، عن هلال بن يساف ، قال : سأل ابن عباس كعبا وأنا حاضر ، فقال له : ما قول الله تعالى لإدريس( وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا ) قال كعب : أما إدريس ، فإن الله أوحى إليه : إني رافع لك كلّ يوم مثل عمل جميع بني آدم ، فأحبّ أن تزداد عملا فأتاه خليل له من الملائكة ، فقال : إن الله أوحى إليّ كذا وكذا ، فكلم لي ملك الموت ، فليؤخرني حتى أزداد عملا فحمله بين جناحيه ، ثم صعد به إلى السماء; فلما كان في السماء الرابعة ، تلقاهم ملك الموت منحدرا ، فكلم ملك الموت في الذي كلمه فيه إدريس ، فقال : وأين إدريس ؟ فقال : هو ذا على ظهري ، قال ملك الموت : فالعجب بعثت أقبض روح إدريس في السماء الرابعة ، فجعلت أقول : كيف أقبض روحه في السماء الرابعة وهو في الأرض ؟ فقبض روحه هناك ، فذلك قول الله تبارك وتعالى( وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا ).

(18/212)


حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله( وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا ) قال : إدريس رُفع فلم يمت ، كما رُفع عيسى.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله ، إلا أنه قال : ولم يمت.
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس( وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا ) قال : رفع إلى السماء السادسة ، فمات فيها.
حدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد بن سليمان ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله( وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا ) إدريس أدركه الموت في السماء السادسة.
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا عبد الرحمن ، قال : ثنا سفيان ، عن منصور ، عن مجاهد( وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا ) قال : السماء الرابعة.
حدثنا أبو كريب ، قال : ثنا ابن يمان ، عن سفيان ، عن أبي هارون العبدي ، عن أبي سعيد الخدريّ( وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا ) قال : في السماء الرابعة.
حدثنا عليّ بن سهيل ، قال : ثنا حجاج ، قال : ثنا أبو جعفر الرازي ، عن الربيع بن أنس ، عن أبي العالية الرياحي ، عن أبي هريرة أو غيره " شكّ أبو جعفر الرازي " قال : لما أسري بالنبيّ صلى الله عليه وسلم صعد به جبريل إلى السماء الرابعة ، فاستفتح فقيل : من هذا ؟ قال : جبرائيل ، قالوا : ومن معه ؟ قال : محمد ، قالوا : أوقد أرسل إليه ؟ قال : نعم ، قالوا : حياه الله من أخ ومن خليفة ، فنعم الأخ ونعم الخليفة ، ونعم المجيء جاء ، قال : فدخل فإذا هو برجل ، قال : هذا إدريس رفعه الله مكانا عليا.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، في قوله( وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا ) قال : حدثنا أنس بن مالك أن نبيّ الله حدث أنه لما عرج به إلى السماء قال : أتيت على إدريس في السماء الرابعة.

(18/213)


أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آَدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا (58)

القول في تأويل قوله تعالى : { أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا (58) }
يقول تعالى ذكره لنبيه صلى الله عليه وسلم : هؤلاء الذين اقتصصتُ عليك أنباءهم في هذه السورة يا محمد ، الذين أنعم الله عليهم بتوفيقه ، فهداهم لطريق الرشد من الأنبياء من ذريّة آدم ، ومن ذرّية من حملنا مع نوح في الفُلك ، ومن ذرّية إبراهيم خليل الرحمن ، ومن ذرّية إسرائيل ، وممن هدينا للإيمان بالله والعمل بطاعته واجتبينا : يقول : وممن اصطفينا واخترنا لرسالتنا ووحينا ، فالذي عنى به من ذرية آدم إدريس ، والذي عنى به من ذرية من حملنا مع نوح إبراهيم ، والذي عنى به من ذرية إبراهيم إسحاق ويعقوب وإسماعيل ، والذي عنى به من ذرية إسرائيل : موسى وهارون وزكريا وعيسى وأمه مريم ، ولذلك فرق تعالى ذكره أنسابهم وإن كان يجمع جميعهم آدم لأن فيهم من ليس من ولد من كان مع نوح في السفينة ، وهو إدريس ، وإدريس جدّ نوح.
وقوله تعالى ذكره : ( إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ ) يقولإذا تتلى على هؤلاء الذين أنعم الله عليهم من النبيين أدلة الله وحججه التي أنزلها عليهم في كتبه ، خروا لله سجدا ، استكانة له وتذللا وخضوعا لأمره وانقيادا ، (وَبُكِيًّا) يقول : خرّوا سجدا وهم باكون ، والبُكِيّ : جمع باك ، كما العُتِيّ جمع عات والجُثِيّ : جمع جاث ، فجمع وهو فاعل على فعول ، كما يجمع القاعد قعودا ، والجالس جلوسا ، وكان القياس أن يكون : وبُكوّا وعتوّا ، ولكن كرهت الواو بعد الضمة فقلبت ياء ، كما قيل في جمع دلو أدل. وفي جمع البهو أبه ، وأصل ذلك أفعل أدلو وأبهو ، فقلبت الواو ياء لمجيئها بعد الضمة استثقالا وفي ذلك لغتان

(18/214)


فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا (59)

مستفيضتان ، قد قرأ بكلّ واحدة علماء من القرّاء بالقرآن بكيا وعتوّا بالضم ، وبكيا وعتيا بالكسر. وقد يجوز أن يكون البكيّ هو البكاء بعينه.
وقد حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا عبد الرحمن ، قال : ثنا سفيان ، عن الأعمش ، عن إبراهيم ، قال : قرأ عمر بن الخطاب سورة مريم فسجد وقال : هذا السجود ، فأين البكيّ ؟ يريد : فأين البكاء.
القول في تأويل قوله تعالى : { فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا (59) }
يقول تعالى ذكره : فحدث من بعد هؤلاء الذين ذكرت من الأنبياء الذين أنعمت عليهم ، ووصفت صفتهم في هذه السورة ، خلْف سوء في الأرض أضاعوا الصلاة.
ثم اختلف أهل التأويل في صفة إضاعتهم الصلاة ، فقال بعضهم : كانت إضاعتهموها تأخيرهم إياها عن مواقيتها ، وتضييعهم أوقاتها.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ بن سعد الكندي ، قال : ثنا عيسى بن يونس ، عن الأوزاعي ، عن موسى بن سليمان ، عن القاسم بن مخيمرة ، في قوله( فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ ) قال : إنما أضاعوا المواقيت ، ولو كان تركا كان كفرا.
حدثنا إسحاق بن زيد الخطابي ، قال : ثنا الفريابي ، عن الأوزاعي ، عن القاسم بن مخيمرة ، نحوه.
حدثنا عبد الكريم بن أبي عمير ، قال : ثني الوليد بن مسلم ، عن أبي عمرو ، عن القاسم بن مخيمرة ، قال : أضاعوا المواقيت ، ولو تركوها لصاروا بتركها كفارا.
حدثني يونس بن عبد الأعلى ، قال : ثنا الوليد بن مسلم ، عن الأوزاعي ، عن القاسم ، نحوه.

(18/215)


حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثنا عيسى ، عن الأوزاعي ، عن إبراهيم بن يزيد ، أن عمر بن عبد العزيز بعث رجلا إلى مصر لأمر أعجله للمسلمين ، فخرج إلى حرسه ، وقد كان تقدم إليهم أن لا يقوموا إذا رأوه ، قال : فأوسعوا له ، فجلس بينهم فقال : أيكم يعرف الرجل الذي بعثناه إلى مصر ؟ فقالوا : كلنا نعرفه ، قال : فليقم أحدثكم سنا ، فليدعه ، فأتاه الرسول فقال : لا تعجلني أشدّ عليّ ثيابي ، فأتاه فقال : إن اليوم الجمعة ، فلا تبرحن حتى تصلي ، وإنا بعثناك في أمر أعجله للمسلمين ، فلا يعجلنك ما بعثناك له أن تؤخر الصلاة عن ميقاتها ، فإنك مصليها لا محالة ، ثم قرأ( فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا ) ثم قال : لم يكن إضاعتهم تركها ، ولكن أضاعوا الوقت.
حدثنا ابن وكيع ، قال : ثنا أبي ، عن المسعودي ، عن القاسم بن عبد الرحمن ، والحسن بن مسعود ، عن ابن مسعود ، أنه قيل له : إن الله يكثر ذكر الصلاة في القرآن( الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ) و(عَلَى صَلاتِهِمْ دَائِمُونَ) و(عَلَى صَلاتِهِمْ يُحَافِظُونَ ) فقال ابن مسعود رضي الله عنه : على مواقيتها ، قالوا : ما كنا نرى ذلك إلا على الترك ، قال : ذاك الكفر.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثنا عمر أبو حفص الأبار ، عن منصور بن المعتمر ، قال : قال مسروق : لا يحافظ أحد على الصلوات الخمس ، فيكتب من الغافلين ، وفي إفراطهنّ الهلكة ، وإفراطهنّ : إضاعتهنّ عن وقتهنّ.
وقال آخرون : بل كانت إضاعتهموها : تركها.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس بن عبد الأعلى ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرنا أبو صخر ، عن القرظي ، أنه قال في هذه الآية( فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ ) يقول : تركوا الصلاة.
قال أبو جعفر : وأولى التأويلين في ذلك عندي بتأويل الآية ، قول من قال : إضاعتهموها تركهم إياها لدلالة قول الله تعالى ذكره بعده على أن ذلك كذلك ، وذلك قوله جلّ ثناؤه( إِلا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ) فلو كان الذين وصفهم بأنهم ضيعوها مؤمنين لم يستثن منهم من آمن ، وهم مؤمنون

(18/216)


ولكنهم كانوا كفارا لا يصلون لله ، ولا يؤدّون له فريضة فسقة قد آثروا شهوات أنفسهم على طاعة الله ، وقد قيل : إن الذين وصفهم الله بهذه الصفة قوم من هذه الأمة يكونون في آخر الزمان.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى. وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن. قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله( فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا ) قال : عند قيام الساعة ، وذهاب صالحي أمة محمد صلى الله عليه وسلم ينزو بعضهم على بعض في الأزقة. قال محمد بن عمرو : زنا. وقال الحارث : زناة.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريح ، عن مجاهد مثله ، وقال : زنا كما قال ابن عمرو.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثنا أبو تميلة ، عن أبي حمزه ، عن جابر ، عن عكرمة ومجاهد وعطاء بن أبي رباح( فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ ).... الآية ، قال : هم أمة محمد.
وحدثني الحارث ، قال : ثنا الأشيب ، قال : ثنا شريك ، عن أبي تميم بن مهاجر في قول الله : ( فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ ) قال : هم في هذه الأمة يتراكبون تراكب الأنعام والحمر في الطرق ، لا يخافون الله في السماء ، ولا يستحيون الناس في الأرض.
وأما قوله( فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا ) فإنه يعني أن هؤلاء الخلْف الذين خلفوا بعد أولئك الذين أنعم الله عليهم من النبيين سيدخلون غيا ، وهو اسم واد من أودية جهنم ، أو اسم بئر من آبارها.
كما حدثني عباس بن أبي طالب ، قال : ثنا محمد بن زياد بن رزان (1) قال : ثنا شرقي بن قطامي ، عن لقمان بن عامر الخزاعي ، قال : جئت أبا أمامة صديّ بن عجلان الباهلي ، فقلت : حدِّثنا حديثا سمعته من رسول الله صلى الله
__________
(1) ذكر صاحب تاج العروس : الحافظ أبا بكر : محمد بن علي بن عاصم بن رازان ، بسند أصبهان المعروف بابن المقري ، بألف بعد الراء فلعل " رزان " هنا محرف عن " رازان " .

(18/217)


عليه وسلم ، قال : فدعا بطعام ، ثم قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لَوْ أنَّ صَخْرَةً زنَةَ عَشْرِ أوَاقٍ قُذِفَ بِها من شَفيرِ جَهَنَّمَ ما بَلَغَتْ قَعْرَها خَمْسِينَ خَرِيفا ، ثُمَّ تَنْتَهي إلى غَيٍّ وأثامٍ ، قال : قُلْتُ وَما غَيّ ومَا أثامٌ ؟ قالَ : بِئْرَانِ في أسْفَلِ جَهَنَّمَ يَسِيلُ فِيهِما صَدِيدُ أهْلِ النَّارِ ، وَهُما اللَّتانِ ذَكَرَ اللهُ في كِتابِهِ( أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا ) ، وقوله في الفرقان( وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا ).
حدثنا محمد بن بشار ، قال : ثنا عمرو بن عاصم ، قال : ثنا المعتمر بن سليمان ، عن أبيه ، عن قتادة ، عن أبي أيوب ، عن عبد الله بن عمرو( فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا ) قال : واديا في جهنم.
حدثنا محمد بن بشار ، قال : ثنا عبد الرحمن ، قال : ثنا سفيان ، عن أبي إسحاق ، عن أبي عبيدة ، عن عبد الله( فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا ) قال : واديا في النار.
حدثنا محمد بن المثنى ، قال : ثنا محمد بن جعفر ، قال : ثنا شعبة ، عن أبي إسحاق ، عن أبي عبيدة ، عن عبد الله أنه قال في هذه الآية( فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا ) قال : نهر في جهنم خبيث الطعم بعيد القعر.
حدثني محمد بن عبيد المحاربي ، قال : ثنا أبو الأحوص ، عن أبي إسحاق ، عن أبي عبيدة ، عن أبيه ، في قوله( فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا ) قال : الغيّ : نهر جهنم في النار ، يعذّب فيه الذين اتبعوا الشهوات.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثنا أبو الأحوص ، عن أبي إسحاق ، عن أبي عبيدة ، عن أبيه ، في قوله( فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا ) قال : الغيّ : نهر جهنم في النار ، يعذّب فيه الذين اتبعوا الشهوات.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثنا أبو الأحوص ، عن أبي إسحاق ، عن أبي عبيدة ، عن عبد الله( أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا ) قال : نهر في النار يقذف فيه الذين اتبعوا الشهوات.
وقال آخرون : بل عنى بالغيّ في هذا الموضع : الخسران.

(18/218)


إِلَّا مَنْ تَابَ وَآَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ شَيْئًا (60)

* ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : ثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله( فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا ) يقول : خسرانا.
وقال آخرون : بل عنى به الشرّ.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله( فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا ) قال : الغيّ : الشرّ.
ومنه قول الشاعر :
فَمَنْ يَلْقَ خَيْرًا يَحْمَد النَّاس أمْرَهُ... وَمَنْ يَغْوَ لا يَعْدَمْ على الغَيّ لائما (1)
قال أبو جعفر : وكلّ هذه الأقوال متقاربات المعاني ، وذلك أن من ورد البئرين اللتين ذكرهما النبيّ صلى الله عليه وسلم ، والوادي الذي ذكره ابن مسعود في جهنم ، فدخل ذلك ، فقد لاقى خسرانا وشرّا ، حسبه به شرّا.
القول في تأويل قوله تعالى : { إِلا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئًا (60) }
يقول تعالى ذكره : فسوف يلقى هؤلاء الخلف السوء الذين وصف صفتهم غيا ، إلا الذين تابوا فراجعوا أمرا الله ، والإيمان به وبرسوله( وَعَمِلَ صَالِحًا ) يقول : وأطاع الله فيما أمره ونهاه عنه ، وأدّى فرائضه ، واجتنب محارمه من هلك منهم على كفره ، وإضاعته الصلاة واتباعه الشهوات. وقوله : ( وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئًا ) يقول : ولا يُبْخَسون من جزاء أعمالهم شيئا ، ولا يجمع بينهم وبين الذين هلكوا
__________
(1) البيت للمرقش الأصغر : ربيعة بن سليمان بن سعد بن مالك ضييعة بن قيس بن ثعلبة ، وهو ابن أخي المرقش الأكبر ، وعم طرفة بن العبد ( المفضليات ، طبع القاهرة ص 118 ) . وفي ( اللسان : غوى ) قال : الغي : الضلال والخيبة . غوى ( بالفتح ) غيا ، وغوى ( بالكسر ) غواية . الأخيرة عن أبي عبيد : ضل . ورجل غاو ، وغو ، وغوى ، وغيان : ضال . وأغواه هو . وأنشد للمرقش : " فمن يلق . . . . البيت " .

(18/219)


جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمَنُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا (61) لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلَّا سَلَامًا وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا (62)

من الخلف السوء منهم قبل توبتهم من ضلالهم ، وقبل إنابتهم إلى طاعة ربهم في جهنم ، ولكنهم يدخلون مدخل أهل الإيمان.
القول في تأويل قوله تعالى : { جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمَنُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا (61) }
يقول تعالى ذكره : فأولئك يدخلون الجنة( جَنَّاتِ عَدْنٍ ) وقوله : (جنات عدن) نصب ترجمة عن الجنة. ويعني بقوله( جَنَّاتِ عَدْنٍ ) بساتين إقامة. وقد بينت ذلك فيما مضى قبل بشواهده المغنية عن إعادته.
وقوله( الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمَنُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ ) يقول : هذه الجنات هي الجنات التي وعد الرحمن عباده المؤمنين أن يدخلوها بالغيب ، لأنهم لم يروها ولم يعاينوها ، فهي غيب لهم. وقوله( إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا ) يقول تعالى ذكره : إن الله كان وعده ، ووعده في هذا الموضع موعوده ، وهو الجنة مأتيا يأتيه أولياؤه وأهل طاعته الذين يدخلهموها الله. وقال بعض نحويي الكوفة : خرج الخبر على أن الوعد هو المأتيّ ، ومعناه : أنه هو الذي يأتي ، ولم يقل : وكان وعده آتيا ، لأن كلّ ما أتاك فأنت تأتيه ، وقال : ألا ترى أنك تقول : أتيت على خمسين سنة ، وأتت عليّ خمسون سنة ، وكلّ ذلك صواب ، وقد بيَّنت القول فيه ، والهاء في قوله(إنَّهُ) من ذكر الرحمن.
القول في تأويل قوله تعالى : { لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلا سَلامًا وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا (62) }
يقول تعالى ذكره : لا يسمع هؤلاء الذين يدخلون الجنة فيها لغوا ، وهو الهَدْي والباطل من القول والكلام( إِلا سَلامًا ) وهذا من الاستثناء المنقطع ، ومعناه : ولكن يسمعون سلاما ، وهو تحية الملائكة إياهم. وقوله( وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ

(18/220)


فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا ) يقول : ولهم طعامهم وما يشتهون من المطاعم والمشارب في قدر وقت البُكرة ووقت العشيّ من نهار أيام الدنيا ، وإنما يعني أن الذي بين غدائهم وعشائهم في الجنة قدر ما بين غداء احدنا في الدنيا وعشائه ، وكذلك ما بين العشاء والغداء وذلك لأنه لا ليل في الجنة ولا نهار ، وذلك كقوله( خَلَقَ الأرْضَ فِي يَوْمَيْنِ) و(خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ) يعني به : من أيام الدنيا.
كما حدثنا عليّ بن سهل ، قال : ثنا الوليد بن مسلم ، قال : سألت زهير بن محمد ، عن قول الله : ( وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا ) قال : ليس في الجنة ليل ، هم في نور أبد ، ولهم مقدار الليل والنهار ، يعرفون مقدار الليل بإرخاء الحجب وإغلاق الأبواب ، ويعرفون مقدار النهار برفع الحجب ، وفتح الأبواب.
حدثنا عليّ ، قال : ثنا الوليد ، عن خليد ، عن الحسن ، وذكر أبواب الجنة ، فقال : أبواب يُرى ظاهرها من باطنها ، فَتكلم وتَكلم ، فتهمهم انفتحي انغلقي ، فتفعل.
حدثني ابن حرب ، قال : ثنا موسى بن إسماعيل ، قال : ثنا عامر بن يساف ، عن يحيى ، قال : كانت العرب في زمانهم من وجد منهم عشاء وغداء ، فذاك الناعم في أنفسهم ، فأنزل الله( وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا ) : قدر ما بين غدائكم في الدنيا إلى عشائكم.
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، في قوله : ( وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا ) قال : كانت العرب إذا أصاب أحدهم الغداء والعشاء عجب له ، فأخبرهم الله أن لهم في الجنة بكرة وعشيا ، قدر ذلك الغداء والعشاء.
حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، فال : أخبرنا الثوريّ ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قال : ليس بكرة ولا عشيّ ، ولكن يؤتون به على ما كانوا يشتهون في الدنيا.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله( وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا ) فيها ساعتان بكرة وعشيّ ، فإن ذلك لهم ليس ثم ليل ، إنما هو ضوء ونور.

(18/221)


تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا (63) وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا (64)

القول في تأويل قوله تعالى : { تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا (63) }
يقول تعالى ذكره : هذه الجنة التي وصفت لكم أيها الناس صفتها ، هي الجنة التي نورثها ، يقول : نورث مساكن أهل النار فيها( مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا ) يقول : من كان ذا اتقاء عذاب الله بأداء فرائضه ، واجتناب معاصيه.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَمَا نَتَنزلُ إِلا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا (64) }
ذُكر أن هذه الآية نزلت من أجل استبطاء رسول الله صلى الله عليه وسلم جبرائيل بالوحي ، وقد ذكرت بعض الرواية ، ونذكر إن شاء الله باقي ما حضرنا ذكره مما لم نذكر قبل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا أبو كريب ، قال : ثنا عبد الله ، قال : ثنا عبد الله بن أبان العجلي ، وقبيصة ووكيع; وحدثنا سفيان بن وكيع قال : ثنا أبي ، جميعا عن عمر بن ذرّ ، قال : سمعت أبي يذكر عن سعيد بن جيبر ، عن ابن عباس ، أن محمدا قال لجبرائيل : " ما يَمْنَعُكَ أنْ تَزُورَنا أكْثرَ مِمَّا تَزُورُنا " فنزلت هذه الآية( وَمَا نَتَنزلُ إِلا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا ) قال : هذا الجواب لمحمد صلى الله عليه وسلم.
حدثني محمد بن معمر ، قال : ثنا عبد الملك بن عمرو ، قال : ثنا عمر بن ذرّ ، قال : ثني أبي ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال لجبرائيل : مَا يَمْنَعُكَ أنْ تَزُورَنا أكْثَرَ مِمَّا تَزُورُنَا ؟ فنزلت( وَمَا نَتَنزلُ إِلا بِأَمْرِ رَبِّكَ ) " .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله( وَمَا نَتَنزلُ إِلا بِأَمْرِ رَبِّكَ) إلى(وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا ) قال : احتبس جبرائيل عن النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فوجد

(18/222)


رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذلك وحزن ، فأتاه جبرائيل فقال : يا محمد( وَمَا نَتَنزلُ إِلا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا ).
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، قال : لبث جبرائيل عن النبي صلى الله عليه وسلم ، فكأن النبي استبطأه ، فلما أتاه قال له جبرائيل( وَمَا نَتَنزلُ إِلا بِأَمْرِ رَبِّكَ ).... الآية.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( وَمَا نَتَنزلُ إِلا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا ) قال : هذا قول جبرائيل ، احتبس جبرائيل في بعض الوحي ، فقال نبيّ الله صلى الله عليه وسلم : " ما جئْتَ حتى اشْتَقْتَ إلَيْك فقال له جبرائيل : ( وَمَا نَتَنزلُ إِلا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا ) " .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قول الله تبارك وتعالى( وَمَا نَتَنزلُ إِلا بِأَمْرِ رَبِّكَ ) قال : قول الملائكة حين استراثهم محمد صلى الله عليه وسلم ، كالتي في الضحى.
حدثنا القاسم ، قال ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، قال : لبث جبرائيل عن محمد اثنتي عشرة ليلة ، ويقولون : قُلي ، فلما جاءه قال : أيْ جَبْرائِيلُ لَقَدْ رِثْتَ عَلَيَّ حتى لَقَدْ ظَنَّ المُشْرِكُونَ كُلَّ ظَنّ فنزلت( وَمَا نَتَنزلُ إِلا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا ).
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ ، يقول : ثنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : ( وَمَا نَتَنزلُ إِلا بِأَمْرِ رَبِّكَ ) احتبس عن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم حتى تكلم المشركون في ذلك ، واشتدّ ذلك على نبيّ الله ، فأتاه جبرائيل ، فقال : اشتدّ عليك احتباسنا عنك ، وتكلم في ذلك المشركون ، وإنما أنا عبد الله ورسوله ، إذا أمرني بأمر أطعته( وَمَا نَتَنزلُ إِلا بِأَمْرِ رَبِّكَ ) يقول : بقول ربك.

(18/223)


ثم اختلف أهل التأويل في تأويل قوله : ( لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ ) فقال بعضهم : يعني بقوله( مَا بَيْنَ أَيْدِينَا ) من الدنيا ، وبقوله( وَمَا خَلْفَنَا) الآخرة(وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ ) النفختين.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا حكام ، عن أبي جعفر ، عن الربيع( لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا ) يعني الدنيا( وَمَا خَلْفَنَا) الآخرة(وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ ) النفختين.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن أبي جعفر ، عن الربيع ، عن أبي العالية ، قال( مَا بَيْنَ أَيْدِينَا) مِنَ الدُّنْيَا(وَمَا خَلْفَنَا ) من أمر الآخرة( وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ ) ما بين النفختين.
وقال آخرون( مَا بَيْنَ أَيْدِينَا) الآخرة(وَمَا خَلْفَنَا) الدنيا(وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ ) ما بين الدنيا والآخرة.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس( بَيْنَ أَيْدِينَا) الآخرة(وَمَا خَلْفَنَا ) من الدنيا.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا ) من أمر الآخرة( وَمَا خَلْفَنَا ) من أمر الدنيا( وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ ) ما بين الدنيا والآخرة( وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا ).
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة( لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا ) مِنَ الآخِرَةِ( وَمَا خَلْفَنَا) مِنَ الدُّنْيَا(وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ ) ما بين النفختين.
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله( مَا بَيْنَ أَيْدِينَا) مِنَ الآخِرَةِ(وَمَا خَلْفَنَا ) من الدنيا.
وقال آخرون في ذلك بما حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج( مَا بَيْنَ أَيْدِينَا ) قال : ما مضى أمامنا من الدنيا( وَمَا

(18/224)


خَلْفَنَا ) ما يكون بعدنا من الدنيا والآخرة( وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ ) قال : ما بين ما مضى أمامهم ، وبين ما يكون بعدهم.
وكان بعض أهل العربية من أهل البصرة يتأوّل ذلك له( مَا بَيْنَ أَيْدِينَا ) قبل أن نخلق( وَمَا خَلْفَنَا ) بعد الفناء( وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ ) حين كنا.
قال أبو جعفر : وأولى الأقوال في ذلك بالصواب ، قول من قال : معناه : له ما بين أيدينا من أمر الآخرة ، لأن ذلك لم يجئ وهو جاء ، فهو بين أيديهم ، فإن الأغلب في استعمال الناس إذا قالوا : هذا الأمر بين يديك ، أنهم يعنون به ما لم يجئ ، وأنه جاء ، فلذلك قلنا : ذلك أولى بالصواب. وما خلفنا من أمر الدنيا ، وذلك ما قد خلفوه فمضى ، فصار خلفهم بتخليفهم إياه ، وكذلك تقول العرب لما قد جاوزه المرء وخلفه هو خلفه ، ووراءه وما بين ذلك : ما بين ما لم يمض من أمر الدنيا إلى الآخرة ، لأن ذلك هو الذي بين ذَينك الوقتين.
وإنما قلنا : ذلك أولى التأويلات به ، لأن ذلك هو الظاهر الأغلب ، وإنما يحمل تأويل القرآن على الأغلب من معانيه ، ما لم يمنع من ذلك ما يجب التسليم له. فتأمل الكلام إذن : فلا تستبطئنا يا محمد في تخلفنا عنك ، فإنا لا نتنزل من السماء إلى الأرض إلا بأمر ربك لنا بالنزول إليها ، لله ما هو حادث من أمور الآخرة التي لم تأت وهي آتية ، وما قد مضى فخلفناه من أمر الدنيا ، وما بين وقتنا هذا إلى قيام الساعة ، بيده ذلك كله ، وهو مالكه ومصرّفه ، لا يملك ذلك غيره ، فليس لنا أن نحدث في سلطانه أمرا إلا بأمره إيانا به( وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا ) يقول : ولم يكن ربك ذا نسيان ، فيتأخر نزولي إليك بنسيانه إياك بل هو الذي لا يعزب عنه شيء في السماء ولا في الأرض فتبارك وتعالى ولكنه أعلم بما يدبر ويقضي في خلقه. جلّ ثناؤه.
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد( وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا ) ما نسيك ربك.

(18/225)


رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا (65)

القول في تأويل قوله تعالى : { رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا (65) }
يقول تعالى ذكره : لم يكن ربك يا محمد ربّ السماوات والأرض وما بينهما نسيا ، لأنه لو كان نسيا لم يستقم ذلك ، ولهلك لولا حفظه إياه ، فالربّ مرفوع ردّا على قوله(رَبُّكَ) وقوله(فاعْبُدْه) يقول : فالزم طاعته ، وذلّ لأمره ونهيه( وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ ) يقول : واصبر نفسك على النفوذ لأمره ونهيه ، والعمل بطاعته ، تفز برضاه عنك ، فإنه الإله الذي لا مثل له ولا عدل ولا شبيه في جوده وكرمه وفضله( هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا ) يقول : هل تعلم يا محمد لربك هذا الذي أمرناك بعبادته ، والصبر على طاعته مثلا في كرمه وجوده ، فتعبده رجاء فضله وطوله دونه كلا ما ذلك بموجود.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : ثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله( هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا ) يقول : هل تعلم للربّ مثلا أو شبيها.
حدثني سعيد بن عثمان التنوخي ، قال : ثنا إبراهيم بن مهدي ، عن عباد بن عوام ، عن شعبة ، عن الحسن بن عمارة ، عن رجل ، عن ابن عباس ، في قوله( هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا ) قال : شبيها.
حدثني يحيى بن إبراهيم المسعودي ، قال : ثنا أبي ، عن أبيه ، عن جدّه ، عن الأعمش ، عن مجاهد في هذه الآية( هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا ) قال : هل تعلم له شبيها ، هل تعلم له مثلا تبارك وتعالى.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله( هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا ) لا سميّ لله ولا عَدل له ، كلّ خلقه يقر له ، ويعترف أنه خالقه ، ويعرف ذلك ، تم يقرأ هذه الآية( وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ ) .
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، في قوله( هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا ) قال : يقول : لا شريك له ولا مثل.

(18/226)


وَيَقُولُ الْإِنْسَانُ أَئِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا (66) أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا (67) فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا (68)

القول في تأويل قوله تعالى : { وَيَقُولُ الإنْسَانُ أَئِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا (66) أَوَلا يَذْكُرُ الإنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا (67) }
يقول تعالى ذكره : ( وَيَقُولُ الإنْسَانُ ) الكافر الذي لا يصدق بالبعث بعد الموت أخرج حيا ، فأُبعث بعد الممات وبعد البلاء والفناء إنكارا منه ذلك ، يقول الله تعالى ذكره : ( أَوَلا يَذْكُرُ الإنْسَانُ ) المتعجب من ذلك المنكر قدرة الله على إحيائه بعد فنائه ، وإيجاده بعد عدمه في خلق نفسه ، أن الله خلقه من قبل مماته ، فأنشأه بشرًّا سويا من غير شيء( وَلَمْ يَكُ ) من قبل إنشائه إياه(شَيْئًا) فيعتبر بذلك ويعلم أن من أنشأه من غير شيء لا يعجز عن إحيائه بعد مماته ، وإيجاده بعد فنائه.
وقد اختلفت القراء في قراءة قوله : ( أَوَلا يَذْكُرُ الإنْسَانُ ) فقرأه بعض قرّاء المدينة والكوفة( أَوَلا يَذْكُرُ ) بتخفيف الذال ، وقد قرأ ذلك عامة قرّاء الكوفة والبصرة والحجاز( أو لا يَذَّكَّرُ) بتشديد الذال والكاف ، بمعنى : أو لا يتذكر ، والتشديد أعجب إليّ ، وإن كانت الأخرى جائزة ، لأن معنى ذلك : أو لا يتفكر فيعتبر.
القول في تأويل قوله تعالى : { فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا (68) }
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : فوربك يا محمد لنحشرنّ هؤلاء القائلين : أئذا متنا لسوف نخرج أحياء يوم القيامة من قبورهم ، مقرنين بأوليائهم من الشياطين( ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا ) والجثي : جمع الجاثي.
كما حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ،

(18/227)


ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيًّا (69)

عن أبيه ، عن ابن عباس قوله( ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا ) يعني : القعود ، وهو مثل قوله وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً ).
القول في تأويل قوله تعالى : { ثُمَّ لَنَنزعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيًّا (69) }
يقول تعالى ذكره : ثم لنأخذن من كلّ جماعة منهم أشدّهم على الله عتوّا ، وتمرّدًا فلنبدأنّ بهم.
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا عبد الرحمن ، قال : ثنا سفيان ، عن عليّ بن الأقمر ، عن أبي ألأحوص( ثُمَّ لَنَنزعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيًّا ) قال : نبدأ بالأكابر فالأكابر جرما.
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله( ثُمَّ لَنَنزعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيًّا ) يقول : أيهم أشدّ للرحمن معصية ، وهي معصيته في الشرك.
حدثني عليّ ، قال : ثنا عبد الله ، قال : ثنا معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله( أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيًّا ) يقول : عصيا.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ؛ وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله( مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ ) قال : أمة. وقوله(عِتِيًّا) قال : كفرا.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله ، وزاد فيه ابن جريج : فلنبدأنّ بهم.
قال أبو جعفر : والشيعة هم الجماعة المتعاونون على الأمر من الأمور ، يقال من ذلك : تشايع القوم : إذا تعاونوا; ومنه قولهم للرجل الشجاع : إنه لمشيع : أي معان ، فمعنى الكلام : ثم لننزعن من كل جماعة تشايعت على الكفر بالله ،

(18/228)


ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلَى بِهَا صِلِيًّا (70) وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا (71)

أشدّهم على الله عتوّا ، فلنبدأنّ بإصلائه جهنم. والتشايع في غير هذا الموضع : التفرّق; ومنه قول الله عزّ ذكره : ( وَكَانُوا شِيَعًا ) يعني : فرقا; ومنه قول ابن مسعود أو سعد ؛ إني أكره أن آتي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فيقول : شيَّعت بين أمتي ، بمعنى : فرّقت.
القول في تأويل قوله تعالى : { ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلَى بِهَا صِلِيًّا (70) }
يقول تعالى ذكره :
ثم لنحن أعلم من هؤلاء الذين ننزعهم من كلّ شيعة أولاهم بشدّة العذاب ، وأحقهم بعظيم العقوبة.
وذكر عن ابن جريج أنه كان يقول في ذلك ما حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج( ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلَى بِهَا صِلِيًّا ) قال : أولى بالخلود في جهنم.
قال أبو جعفر : وهذا الذي قاله ابن جريج ، قول لا معنى له ، لأن الله تعالى ذكره أخبر أن الذين ينزعهم من كلّ شيعة من الكفرة أشدّهم كفرا ، ولا شكّ أنه لا كافر بالله إلا مخلَّد في النار ، فلا وجه ، وجميعهم مخلدون في جهنم ، لأن يقال : ثم لنحن أعلم بالذين هم أحقّ بالخلود من هؤلاء المخلدين ، ولكن المعنى في ذلك ما ذكرنا. وقد يحتمل أن يكون معناه : ثم لنحن أعلم بالذين هم أولى ببعض طبقات جهنم صليا. والصلّي : مصدر صليت تصلي صليا ، والصليّ : فعول ، ولكن واوها انقلبت ياء فأدغمت في الياء التي بعدها التي هي لام الفعل ، فصارت ياء مشدّدة.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَإِنْ مِنْكُمْ إِلا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا (71) }
يقول تعالى ذكره : وإن منكم أيها الناس إلا وارد جهنم ، كان على ربك يا محمد إيراهموها قضاء مقضيا ، قد قضى ذلك وأوجبه في أمّ الكتاب.

(18/229)


واختلف أهل العلم في معنى الورود الذي ذكره الله في هذا الموضع ، فقال بعضهم : الدخول.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا ابن عيينة عن عمرو ، قال : أخبرني من سمع ابن عباس يخاصم نافع بن الأزرق ، فقال ابن عباس : الورود : الدخول ، وقال نافع : لا فقرأ ابن عباس : ( إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ ) أورود هو أم لا ؟ وقال( يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ ) أورود هو أم لا ؟ أما أنا وأنت فسندخلها ، فانظر هل نخرج منها أم لا ؟ وما أرى الله مخرجك منها بتكذيبك ، قال : فضحك نافع.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن عطاء بن أبي رباح ، قال. قال أبو راشد الحروري : ذكروا هذا فقال الحروري : لا يسمعون حسيسها ، قال ابن عباس : ويلك أمجنون أنت ؟ أين قوله تعالى( يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ )( وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا ) ، وقوله( وَإِنْ مِنْكُمْ إِلا وَارِدُهَا ) والله إن كان دعاء من مضى : اللهم أخرجني من النار سالمًا ، وأدخلني الجنة غانما.
قال ابن جريج : يقول : الورود الذي ذكره الله في القرآن : الدخول ، ليردنها كل برّ وفاجر في القرآن أربعة أوراد( فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ ) و( حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ )( وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا ) ، وقوله( وَإِنْ مِنْكُمْ إِلا وَارِدُهَا ).
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله( وَإِنْ مِنْكُمْ إِلا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا ) يعني البرّ والفاجر ، ألم تسمع إلى قول الله تعالى لفرعون( يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ) وَقَالَ(وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا ) فسمى الورود في النار دخولا وليس بصادر.
حدثنا الحسن بن عرفة ، قال : ثنا مروان بن معاوية ، عن بكار بن أبي مروان ، عن خالد بن معدان ، قال : قال أهل الجنة بعد ما دخلوا الجنة : ألم

(18/230)


يعدنا ربنا الورود على النار ؟ قال : قد مررتم عليها وهي خامدة.
قال ابن عرفة ، قال مروان بن معاوية ، قال بكار بن أبي مروان ، أو قال : جامدة.
حدثنا محمد بن المثنى ، قال : ثنا مرحوم بن عبد العزيز ، قال : ثني أبو عمران الجوني ، عن أبي خالد قال : تكون الأرض يومًا نارًا ، فماذا أعددتم لها ؟ قال : فذلك قول الله( وَإِنْ مِنْكُمْ إِلا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا ).
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : ثنا ابن عُلية ، عن الجريري ، عن أبي السليل ، عن غنيم بن قيس ، قال : ذكروا ورود النار ، فقال كعب : تمسك النار للناس كأنها متن إهالة ، حتى يستوي عليها أقدام الخلائق برّهم وفاجرهم ، ثم يناديها مناد : أن أمسكي أصحابك ، ودعي أصحابي ، قال : فيخسف بكلّ وليّ لها ، ولهي أعلم بهم من الرجل بولده ، ويخرج المؤمنون ندية أبدانهم. قال : وقال كعب : ما بين منكبي الخازن من خزنتها مسيره سنة ، مع كل واحد منهم عمود له شعبتان ، يدفع به الدفعة ، فيصرع به في النار سبعمائة ألف.
حدثنا أبو كريب ، قال : ثنا ابن يمان ، عن مالك بن مغول ، عن أبي إسحاق ، قال : كان أبو ميسرة إذا أوى إلى فراشه ، قال : يا ليت أمي لم تلدني ، ثم يبكي ، فقيل : وما يبكيك يا أبا ميسرة ؟ قال : أخبرنا أنا واردوها ، ولم يخبرنا أنا صادرون عنها.
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا حكام ، عن إسماعيل ، عن قيس ، قال : بكى عبد الله بن رواحة في مرضه ، فبكت امرأته ، فقال : ما يبكيك ، قالت : رأيتك تبكي فبكيت ، قال ابن رواحة : إني قد علمت إنى وارد النار فما أدري أناج منها أنا أم لا ؟ .
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثنا أبو عمرو داود بن الزبرقان ، قال : سمعت السدّي يذكر عن مرّة الهمداني ، عن ابن مسعود( وَإِنْ مِنْكُمْ إِلا وَارِدُهَا ) قال : داخلها.

(18/231)


حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، عن ابن عباس ، في قوله( وَإِنْ مِنْكُمْ إِلا وَارِدُهَا ) قال : يدخلها.
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، عن ابن عيينة ، عن إسماعيل بن أبي خالد ، عن قيس بن أبي حازم ، قال : كان عبد الله بن رواحة واضع رأسه في حجر امرأته ، فبكى ، فبكت امرأته ، قال : ما يبكيك ؟ قالت : رأيتك تبكي فبكيت ، قال : إني ذكرت قول الله( وإن منكم إلا واروها ) فلا أدري أنجو منها ، أم لا ؟ .
وقال آخرون : بلّ هو المرّ عليها.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( وَإِنْ مِنْكُمْ إِلا وَارِدُهَا ) يعني جهنم مرّ الناس عليها.
حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله( وَإِنْ مِنْكُمْ إِلا وَارِدُهَا ) قال : هو المرّ عليها.
حدثنا خلاد بن أسلم ، قال : أخبرنا النضر ، قال : أخبرنا إسرائيل ، قال : أخبرنا أبو إسحاق ، عن أبي الأحوص ، عن عبد الله في قوله( وَإِنْ مِنْكُمْ إِلا وَارِدُهَا ) قال : الصراط على جهنم مثل حدّ السيف ، فتمرّ الطبقة الأولى كالبرق ، والثانية كالريح ، والثالثة كأجود الخيل ، والرابعة كأجود البهائم ، ثم يمرّون والملائكة يقولون : اللهمّ سلم سلم.
وقال آخرون : بل الورود : هو الدخول ، ولكنه عنى الكفار دون المؤمنين.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن المثنى ، قال : ثنا أبو داود ، قال : ثنا شعبة ، قال : أخبرني عبد الله بن السائب ، عن رجل سمع ابن عباس يقرؤها( وَإِنْ مِنْكُمْ إِلا وَارِدُهَا ) يعني الكفار ، قال : لا يردها مؤمن.
حدثنا محمد بن بشار ، قال : ثنا عبد الرحمن ، قال : ثنا عمرو بن الوليد الشني ، قال : سمعت عكرمة يقول(وإن منكم إلا واردها) يعني الكفار.
وقال آخرون : بل الورود عام لكلّ مؤمن وكافر ، غير أن ورود المؤمن المرور ، وورود الكافر الدخول.

(18/232)


* ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله( وَإِنْ مِنْكُمْ إِلا وَارِدُهَا ) ورود المسلمين المرور على الجسر بين ظهريها وورود المشركين أن يدخلوها ، قال : وقال النبيّ صلى الله عليه وسلم : " الزَّالُّونَ والزَّالاتٌ يَومَئِذٍ كَثِيرٌ ، وقد أحَاطَ الجِسْرَ سِماطانِ مِنَ المَلائِكَةِ ، دَعْوَاهُمْ يَوْمَئِذٍ يا اللهُ سَلِّمْ " .
وقال آخرون : ورود المؤمن ما يصيبه في الدنيا من حمَّى ومرض.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا أبو كريب ، قال : ثنا ابن يمان ، عن عثمان بن الأسود ، عن مجاهد قال : الحمى حظ كل مؤمن من النار ، ثم قرأ(وَإِنْ مِنْكُمْ إِلا وَارِدُهَا ).
حدثني عمران بن بكار الكلاعي ، قال : ثنا أبو المغيرة ، قال : ثنا عبد الرحمن بن يزيد بن تميم ، قال : ثنا إسماعيل بن عبيد الله ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة قال : خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يعود رجلا من أصحابه وبه وعك وأنا معه ، ثم قال : " إنَّ اللهَ يَقُولُ : هِيَ نَارِي أُسَلِّطُهَا عَلَى عَبْدِي المُؤْمِنُ ، لِتَكُونَ حَظَّهُ مِنَ النَّارِ فِي الآخِرَةِ " .
وقال آخرون : يردها الجميع ، ثم يصدر عنها المؤمنون بأعمالهم.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن المثنى ، قال : ثنا يحيى بن سعيد ، عن شعبة ، قال : ثني السديّ ، عن مرّة ، عن عبد الله( وَإِنْ مِنْكُمْ إِلا وَارِدُهَا ) قال : يردُونها ثم يصدون عنها بأعمالهم.
حدثنا ابن المثنى ، قال : ثنا عبد الرحمن بن مهدي ، قال : ثنا شعبه ، عن السدّي ، عن مرّة ، عن عبد الله ، بنحوه.
حدثني محمد بن عبيد المحاربي ، قال : ثنا أسباط ، عن عبد الملك ، عن عبيد الله ، عن مجاهد ، قال : كنت عند ابن عباس ، فأتاه رجل يُقال له أبو راشد ، وهو نافع بن الأزرق ، فقال له : يا ابن عباس أرأيت قول الله( وَإِنْ مِنْكُمْ إِلا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا ) قال : أما أنا وأنت يا أبا راشد فسنردها ، فانظر هل نصدر عنها أم لا ؟ .

(18/233)


حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا ابن جريج ، قال : أخبرنا أبو الزبير أنه سمع جابر بن عبد الله يسأل عن الورود ، فقال : نحن يوم القيامة على كوى أو كرى ، فوق الناس ، فتدعى الأمم بأوثانها ، وما كانت تعبد الأوّل فالأوّل ، فينطلق بهم ويتبعونه ، قال : ويعطى كلّ إنسان منافق ومؤمن نورا ، ويغشى ظلمة ثم يتبعونه ، وعلى جسر جهنم كلاليب تأخذ من شاء الله ، فيطفأ نور المنافق ، وينجو المؤمنون ، فتنجو أوّل زمرة كالقمر ليلة البدر ، وسبعون ألفًا لا حساب عليهم ، ثم الذين يلونهم كأضواء نجم في السماء ، ثم كذلك ، ثم تحلّ الشفاعة فيشفعون ، ويخرج من النار من قال لا إله إلا الله ممن في قلبه وزن شعيرة من خير ، ثم يلقون تلقاء الجنة ، ويهريق عليهم أهل الجنة الماء ، فينبتون نبات الشيء في السيل ، ثم يسألون فيجعل لهم الدنيا وعشرة أمثالها.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن المبارك ، عن الحسن ، قال : قال رجل لأخيه : هل أتاك بأنك وارد النار ؟ قال : نعم ، قال : فهل أتاك أنك صادر عنها ؟ قال : لا قال : ففيم الضحك ؟ قال : فما رؤي ضاحكا حتى لحق بالله.
حدثنا يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرنا عمرو بن الحارث أن بكيرا حدّثه أنه قال لبسر بن سعيد : إن فلانا يقول : إن ورود النار القيام عليها. قال بسر : أما أبو هريرة فسمعته يقول : " إذا كان يوم القيامة ، يجتمع الناس نادى مناد : ليلحق كل أناس بما كانوا يعبدون ، فيقوم هذا إلى الحجر ، وهذا إلى الفرس ، وهذا إلى الخشبة حتى يبقى الذين يعبدون الله ، فيأتيهم الله ، فإذا رأوه قاموا إليه ، فيذهب بهم فيسلك بهم على الصراط ، وفيه عليق ، فعند ذلك يؤذن بالشفاعة ، فيمرّ الناس ، والنبيون يقولون : اللهمّ سلم سلم. قال بكير : فكان ابن عميرة يقول : فناج مسلم ومنكوس في جهنم ومخدوش ، ثم ناج.
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال : يردها الجميع ثم يصدر عنها المؤمنون ، فينجيهم الله ، ويهوي فيها الكفار وورودهموها هو ما تظاهرت به الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من مرورهم على الصراط المنصوب على متن جهنم ، فناج مسلم ومكدس فيها.

(18/234)


* ذكر الأخبار المروية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك : حدثنا أبو كريب ، قال : ثنا ابن إدريس ، عن الأعمش ، عن أبي سفيان ، عن جابر ، عن أمّ مبشر امرأة زيد بن حارثة ، قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في بيت حفصة : " لا يَدْخُلُ النَّارَ أحَدٌ شَهِدَ بَدْرًا والحُدَيْبِيَةَ ، قالت : فقالت حفصة : يا رسول الله ، أليس الله يقول(وَإِنْ مِنْكُمْ إِلا وَارِدُهَا ) ؟ فقال رسول الله : " فمَهْ(ثُمَّ يُنَجِّي اللهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا) " .
حدثنا الحسن بن مدرك ، قال : ثنا يحيى بن حماد ، قال : ثنا أبو عوانة ، عن الأعمش ، عن أبي سفيان ، عن جابر ، عن أمّ مبشر ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، بمثله.
حدثنا أبو كريب ، قال : ثنا أبو معاوية ، عن الأعمش ، عن أبي سفيان ، عن جابر ، عن أمّ مبشر ، عن حفصة ، قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إنّي لأرْجُو أنْ لا يَدْخُلَ النَّارَ أحَدٌ شَهِدَ بَدْرًا والحُدَيْبِيَةَ ، قالت : فقلت يا رسول الله ، أليس الله يقول : ( وَإِنْ مِنْكُمْ إِلا وَارِدُهَا ) ؟ قال : فَلَمْ تَسْمَعِيهِ يَقُولُ : (ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا) ؟ " .
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : ثنا ابن عُلَية ، عن محمد بن إسحاق ، قال : ثني عبيد الله بن المغيرة بن معيقب ، عن سليمان بن عمرو بن عبد العِتْواري ، أحد بني ليث ، وكان في حجر أبي سعيد ، قال : سمعت أبا سعيد الخُدريّ يقول : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " يُوضَعُ الصِّراطُ بينَ ظَهْرَيْ جَهَنَّمَ ، عَلَيْهِ حَسكٌ كحَسكِ السَّعْدانِ ، ثُمَّ يَسْتَجِيزُ النَّاسُ ، فَناج مُسْلِمٌ ومجْرُوحٌ بِهِ ، ثُمَّ ناجٍ ومُحْتَبِسٌ ومُكَدَّسٌ فيها ، حتى إذَا فَرَغَ اللهُ مِنَ القضَاءِ بَينَ العِبَادِ تَفَقَّدَ المُؤْمِنُونَ رِجَالا كانُوا مَعَهُم في الدُّنْيَا يُصلُّون صلاتَهُمْ ، ويُزَكُّونَ زكاتَهُمْ ويَصُومُون صِيامَهُمْ ، ويَحُجُّونَ حجَّهُمْ ، وَيغْزُونَ غَزْوَهُمْ ، فَيَقُولُونَ : أيْ ربَّنا عبادٌ مِنْ عِبادِكَ كانُوا مَعَنا في الدُّنْيا ، يُصلُّون صلاتَنَا ، ويُزَكُّونَ زكاتَنا ، ويَصُومُونَ صِيامَنَا ، ويحُجُّونَ حَجَّنا ، وَيغْزُونَ غَزْونا ، لا نَراهُمْ ، فَيَقُولُ : اذْهَبُوا إلى النَّار ، فَمَنْ وجَدْتُمْ فِيها مِنْهُمْ فأخْرِجُوهُ ، فَيَجِدُونَهُمْ قَدْ أخَذَتْهُم النَّار على قَدْرِ أعمالِهِمْ ، فَمِنْهمْ مَنْ أخَذَتْهُ النَّارُ إلى قَدَمَيْهِ ، ومِنْهُمْ مَنْ أخَذَتْهُ إلى نِصْفِ ساقِيْهِ ، ومِنْهُمْ مَنْ أخَذَتْهُ إلى رُكْبَتَيْهِ ، ومِنْهُمْ مَنْ أخَذَتْهُ إلى

(18/235)


ثَدْيَيْهِ ، ومِنْهُمْ مَنْ أخَذَتهُ إلى عُنُقِهِ ولمْ تَغْشَ الوُجُوهَ ، فَيَسْتَخْرِجُونَهُمْ مِنْها ، فَيَطْرَحُونَهُمْ في ماءِ الحَياةِ ؛ قِيلَ : وما ماءُ الحَياةِ يا رَسولَ اللهِ ؟ قالَ غُسْلُ أهْلِ الجَنَّةِ ، فَيَنْبُتُونَ كَمَا تَنْبُتُ الزَّرْعَةُ فِي غُثاءِ السَّيْلِ ، ثُمَّ تَشْفَعُ الأنْبِياءُ فِي كُلّ مَنْ كانَ يَشْهَدُ أن لا إله إلا اللهُ مُخْلِصًا ، فَيَسْتَخْرِجُونَهُمْ مِنْها ، ثُمَّ يَتَحننُ اللهُ بِرَحْمَتِهِ عَلى مَنْ فِيها ، فَما يَتْرُكُ فيها عَبْدًا فِي قَلْبِهِ مِثْقال ذَرَّةٍ مِنَ الإيمَانِ إلا أخْرَجَهُ مِنْها " .
حدثني محمد بن عبد الله بن عبد الحكم ، قال : ثنا أبي وشعيب بن الليث ، عن الليث بن خالد ، عن يزيد بن أبي هلال ، عن زيد بن أسلم ، عن عطاء بن يسار ، عن أبي سعيد الخُدريّ ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " يُؤْتَي بالجِسْرِ - يعني يوم القيامة - فَيُجْعَلُ بينَ ظَهْرِيْ جَهَنَّمَ ، قلنا : يا رسول الله وما الجسر ؟ قال : مَدحَضَةٌ مزَلَّةٌ ، عَلَيْهِ خَطاطِيفُ وكَلالِيبُ وحَسَكَةٌ مُفَلْطَحَةٌ لَهَا شَوْكَةٌ عُقَيْفاء تكُونُ بِنَجْدٍ ، يُقالُ لَهَا السَّعْدانُ ، يَمُرُّ المُؤْمِنُونَ عَلَيْها كالطَّرفِ والبَرْقِ وكالرِّيحِ ، وكأجاوِدِ الخَيْلِ والرِّكاب ، فَناجٍ مُسْلِمٌ ، ومَخْدُوشٌ مُسْلِمٌ ، ومَكْدُوسٌ في جَهَنَّم ، ثُمَّ يَمُرُّ آخِرُهُمْ يُسْحَبُ سَحْبا ، فَمَا أنْتُمْ بأشدّ مُناشَدَةً لي في الحَقِّ قَد تَبَيَّنَ لَكْمْ ، مِنَ المُؤْمِنِينَ يَومَئذٍ للجبَّارِ تَبارَك وَتَعالى ، إذَا رأوْهُمْ قَدْ نَجَوْا وَبَقي إخْوانُهُم " .
حدثني أحمد بن عيسى ، قال : ثنا سعيد بن كثير بن عفير ، قال : ثنا ابن لهيعة ، عن أبي الزبير ، قال : سألت جابر بن عبد الله عن الورود ، فقال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " هُوَ الدُّخولُ ، يَرِدُونَ النَّارَ حتى يَخْرُجُوا مِنْها ، فآخِرُ مَنْ يَبْقَى رَجُلٌ عَلى الصِّراطِ يَزْحَف ، فَيرْفَعُ اللهُ لَهُ شَجَرَةً ، قالَ : فَيَقُولُ : أيْ رَبّ أدْنِنِي مِنْها ، قالَ : فَيُدْنيهِ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعالى مِنْها ، قالَ : ثُمَّ يَقُولُ : أيْ رَبّ أدْخِلْنِي الجَنَّةَ ، قالَ : فَيَقُولُ : سَلْ ، قالَ : فَيَسألُ ، قال : فَيَقُولُ : ذلكَ لَكَ وَعَشْرَةُ أضعافِهِ أوْ نَحْوَها; قال : فَيَقُولُ : يا ربّ تَسْتهزِئُ بِي ؟ قالَ : فَيَضْحَكُ حتى تَبْدُوَ لَهْوَاتُهُ وأضْرَاسُهُ " .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرني يحيى بن أيوب " ح " ; وحدثنا أبو كريب ، قال : ثنا محمد بن زيد ، عن رشدين ، جميعا عن

(18/236)


ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا (72)

زياد بن فائد ، عن سهل بن معاذ ، عن أبيه ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " مَنْ حَرَسَ وَرَاءَ المُسْلِمِينَ في سَبِيلِ اللهِ مُتَطَوّعا ، لا يأخُذُهُ سُلْطانٌ بحرَسٍ ، لَمْ يَرَ النَّارَ بعَيْنِه إلا تَحلَّةَ القَسَمِ ، فإنَّ اللهَ تَعالى يقُولُ( وَإِنْ مِنْكُمْ إِلا وَارِدُهَا ) " .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، أخبرني الزهري ، عن ابن المسيب عن أبي هريرة ، أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال : " مَنْ مَاتَ لَهُ ثَلاثَةٌ لَمْ تَمَسَّهُ النَّارُ إلا تَحِلَّةِ القَسَمِ " يعني : الورود.
وأما قوله( كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا ) فإن أهل التأويل اختلفوا في تأويله ، فقال بعضهم معناه : كان على ربك قضاء مقضيا.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن قال : ثنا ورقاء جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله(حَتْما) قال : قضاء.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج( حَتْمًا مَقْضِيًّا ) قال قضاء.
وقال آخرون : بل معناه : كان على ربك قسَما واجبا.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثنا أبو عمرو داود بن الزّبرقان ، قال : سمعت السديّ يذكر عن مرّة الهمداني ، عن ابن مسعود( كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا ) قال : قسما واجبا.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا ) يقول : قسما واجبا.
قال أبو جعفر : وقد بيَّنت القول في ذلك.
القول في تأويل قوله تعالى : { ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا (72) }
يقول تعالى ذكره : ( ثُمَّ نُنَجِّي ) من النار بعد ورود جميعهم إياها ، ( الَّذِينَ

(18/237)


وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آَمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَامًا وَأَحْسَنُ نَدِيًّا (73)

اتَّقَوْا ) فخافوه ، بأداء فرائضه واجتناب معاصيه( وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا ) يقول جل ثناؤه : وندع الذين ظلموا أنفسهم ، فعبدوا غير الله ، وعصوا ربهم ، وخالفوا أمره ونهيه في النار جثيا ، يقول : بروكا على ركبهم.
وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا ) على ركبهم.
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة( وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا ) على ركبهم.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله( وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا ) قال : الجثيّ : شرّ الجلوس ، لا يجلس الرجل جاثيا إلا عند كرب ينزل به.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله( ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا ) إن الناس وردوا جهنم وهي سوداء مظلمة ، فأما المؤمنون فأضاءت لهم حسناتهم ، فأنجوا منها. وأما الكفار فأوبقتهم أعمالهم ، واحتبسوا بذنوبهم.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَامًا وَأَحْسَنُ نَدِيًّا (73) }
يقول تعالى ذكره : ( وإذَا تُتْلَى ) على الناس( آياتُنا ) التي أنزلناها على رسولنا محمد( بَيِّنَات ) ، يعني واضحات لمن تأمَّلها وفكَّر فيها أنها أدلة على ما جعلها الله أدلة عليه لعباده ، ( قال الذين كفروا بالله ) وبكتابه وآياته ، وهم قريش ، ( لِلَّذِينَ آمَنُوا ) فصدّقوا به ، وهم أصحاب محمد( أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَامًا ) يَعْني بالمقام : موضع إقامتهم ، وهي مساكنهم ومنازلهم( وَأَحْسَنُ نَدِيًّا ) وهو المجلس ، يقال منه : ندوت القوم أندوهم ندوا : إذا جمعتهم في مجلس ، ويقال : هو في نديّ قومه وفي ناديهم : بمعنى واحد ، ومن النديّ قول حاتم :

(18/238)


ودُعِيتُ في أُولي النَّدِيّ ولَمْ... يُنْظَرْ إليَّ بأعْيُنٍ خُزْرِ (1)
وتأويل الكلام : وإذا تتلى عليهم آياتنا بيِّنات ، قال الذين كفروا للذين آمنوا : أيّ الفريقين منا ومنكم أوسع عيشا ، وأنعم بالا وأفضل مسكنا ، وأحسن مجلسا ، وأجمع عددا وغاشية في المجلس ، نحن أم أنتم ؟
وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن بشار ، قال : ثنا مؤمل ، قال : ثنا سفيان ، عن الأعمش ، عن أبي ظبيان ، عن ابن عباس ، قوله( خَيْرٌ مَقَامًا وَأَحْسَنُ نَدِيًّا ) قال : المقام : المنزل ، والنديّ : المجلس.
حدثنا ابن المثنى ، قال : ثنا ابن أبي عديّ عن شعبة ، عن سليمان ، عن أبى ظَبيان ، عن ابن عباس بمثله.
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس( وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَامًا وَأَحْسَنُ نَدِيًّا ) قال : المقام : المسكن ، والنديّ ، المجلس والنعمة والبهجة التي كانوا فيها ، وهو كما قال الله لقوم فرعون ، حين أهلكهم وقصّ شأنهم في القرآن فقال( كم تركوا من جنات وعيون وكنوز ومقام كريم ونعمة كانوا فيها فاكهين ) فالمقام : المسكن والنعيم ، والنديّ : المجلس والمجمع الذي كانوا يجتمعون فيه ، وقال الله فيما قصّ على رسوله في أمر لوط إذ قال( وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ ) ، والعرب تسمي المجلس : النادي.
__________
(1) البيت لحاتم الطائي ، من شعره في كتاب ( شعراء النصرانية : القسم الأول ص 115 ) وفي ( اللسان : ندى ) : والندى : المجالسة وناديته : جالسته ، وتنادوا : تجالسوا في النادي ، والندي : المجلس ما داموا مجتمعين فيه ، فإذا تفرقوا عنه فليس بندي . وقيل : الندي : مجلس القوم نهارا عن كراع . والنادي : كالندي . التهذيب : النادي المجلس ، يندو إليه من حواليه ، ولا يسمى ناديا حتى يكون فيه أهله ، وإذا تفرقوا لم يكن ناديا ، وهو الندي ، والجمع الأندية . أه . الخزر : جمع خزراء من الخزر ، وهو كما في ( اللسان : خزر ) كسر العين بصرها خلقة . وقيل : هو ضيق العين وصغرها . وقيل هو النظر الذي كأنه في أحد الشقين ، ثم استشهد ببيت حاتم ، وقد استشهد المؤلف به ، على أن معنى الندي : مجلس القوم .

(18/239)


وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثًا وَرِئْيًا (74)

حدثني عليّ ، قال : ثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله( وَأَحْسَنُ نَدِيًّا ) يقول : مجلسا.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قول الله( أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ ) قال : قريش تقولها لأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم( وَأَحْسَنُ نَدِيًّا ) قال : مجالسهم ، يقولونه أيضا.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين قال : ثنِي حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، نحوه.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله( وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَامًا وَأَحْسَنُ نَدِيًّا ) رأوا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم في عيشهم خشونة ، وفيهم قشافة ، فعرّض أهل الشرك بما تسمعون. قوله( وَأَحْسَنُ نَدِيًّا ) يقول : مجلسا.
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، في قوله( أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَامًا وَأَحْسَنُ نَدِيًّا ) قال : النديّ ، المجلس ، وقرأ قول الله تعالى( فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ ) قال : مجلسه.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثًا وَرِئْيًا (74) }
يقول تعالى ذكره : وكم أهلكنا يا محمد قبل هؤلاء القائلين من أهل الكفر للمومنين ، إذا تُتلى عليهم آيات الرحمن ، أيّ الفريقين خير مقاما ، وأحسن نديا ، مجالس من قرن هم أكثر متاع منازل من هؤلاء ، وأحسن منهم منظرا وأجمل صورا ، فأهلكنا أموالهم ، وغيرنا صورهم; ومن ذلك قول علقمة بن عبدة :
كُمَيْتٌ كَلَوْنِ الأرْجُوَانِ نَشَرْتهُ... لبَيْعِ الرّئِي في الصّوَانِ المُكَعَّبِ (1)
__________
(1) البيت لعلقمة بن عبدة وهو الثاني والعشرون من قصيدته التي مطلعها : *ذهبت من الهجران في غير مذهب *
( مختار الشعر الجاهلي طبعة الحلبي بشرح مصطفى السقا ، ص 436 ) وفيه " الرداء " في موضع الرئي . قال شارحه : الكميت : الفرس الذي لونه بين السواد والحمرة . والأرجوان : صبغ أحمر مشبع . والمراد هنا : ثوب أحمر . . والصوان : ثوب تصان فيه الثياب ، ويقال له التخت . والمكعب هنا الموشى من الثياب ، وهو من صفة الرداء . ويقال : المكعب : المطوي المشدود ، وكل ما ربعته فقد كعبته ، ومنه الفتاة الكاعب : التي تكعب ثدييها وبرز . وفي ( اللسان : رأي ) : الرئي ( على فعيل ) والرئي ( على فعل بكسر أوله ) الثوب ينشر للبيع عن علي . التهذيب : الرئي ، بهمزة مسكنة : الثوب الفاخر الذي ينشر ليرى حسنه .

(18/240)


يعني بالصوان : التخت الذي تصان فيه الثياب.
وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن بشار ، قال : ثنا مؤمل ، قال : ثنا سفيان ، عن الأعمش ، عن أبي ظبيان ، عن ابن عباس( أَحْسَنُ أَثَاثًا وَرِئْيًا ) قال : الرئي : المنظر ، والأثاث : المتاع.
حدثنا ابن المثنى ، قال : ثنا ابن أبي عديّ عن شعبة عن سليمان عن أبي ظبيان عن ابن عباس قال : الرئي المنظر.
حدثني عليّ ، قال : ثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ عن ابن عباس ، قوله( أَحْسَنُ أَثَاثًا وَرِئْيًا ) يقول : منظرا.
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس( أَحْسَنُ أَثَاثًا وَرِئْيًا ) الأثاث : المال ، والرئي : المنظر.
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا هوذة ، قال : ثنا عوف ، عن الحسن ، في قوله( أَثَاثًا وَرِئْيًا ) قال : الأثاث : أحسن المتاع ، والرِّئي : قال : المال.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، يقول الله تبارك وتعالى( وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثًا وَرِئْيًا ) : أي أكثر متاعا وأحسن منزلة ومستقرا ، فأهلك الله أموالهم ، وأفسد صورهم عليهم تبارك وتعالى.
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، قوله( أَحْسَنُ أَثَاثًا وَرِئْيًا ) قال : أحسن صورا ، وأكثر أموالا.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني

(18/241)


الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد(أثاثا) قال : المتاع(وَرِئْيا) قال : فيما يرى الناس.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، بنحوه.
حدثنا ابن حميد وبشر بن معاذ ، قالا ثنا جرير بن قابوس ، عن أبيه ، عن ابن عباس : الأثاث : المال ، والرِّئي : المنظر الحسن.
حدثنا القاسم ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن عطاء الخراساني ، عن ابن عباس(وَرِئْيا) : منظرا في اللون والحسن.
حدثنا القاسم ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن عطاء الخراساني ، عن ابن عباس(وَرِئْيا) منظرا في اللون والحسن.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله( أَحْسَنُ أَثَاثًا وَرِئْيًا ) قال : الرئي : المنظر ، والأثاث : المتاع ، أحسن متاعا ، وأحسن منظرا.
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول في قوله : (أحْسَنُ أثَاثًا) يعني المال(وَرِئْيا) يعني : المنظر الحسن.
واختلفت القرّاء في قراءة ذلك ، فقرأته عامة قرّاء أهل المدينة : " وَرِيًّا " غير مهموز ، وذلك إذا قرئ كذلك يتوجه لوجهين : أحدهما : أن يكون قارئه أراد الهمزة ، فأبدل منها ياء ، فاجتمعت الياء المُبدلة من الهمز والياء التي هي لام الفعل ، فأدغمتا ، فجعلتا ياء واحدة مشددة ليُلْحِقُوا ذلك ، إذ كان رأس آية ، بنظائره من سائر رءوس الآيات قبله وبعده; والآخر أن يكون من رويت أروى روية وريًّا ، وإذا أريد به ذلك كان معنى الكلام : وكم أهلكنا قبلهم من قرن ، هم أحسن متاعا ، وأحسن نظرا لماله ، ومعرفة لتدبيره ، وذلك أن العرب تقول : ما أحسن رؤية فلان في هذا الأمر إذا كان حسن النظر فيه والمعرفة به. وقرأ ذلك عامة قرّاء العراق والكوفة والبصرة(وَرِئْيا) بهمزها ، بمعنى : رؤية العين ، كأنه أراد : أحسن متاعا ومَرآة. وحُكي عن بعضهم أنه قرأ : أحسن أثاثا وزيا ، بالزاي ، كأنه أراد أحسن متاعا وهيئة ومنظرا ، وذلك أن الزيّ هو الهيئة والمنظر من قولهم : زيَّيت الجارية ، بمعنى : زينتها وهيأتها.

(18/242)


قُلْ مَنْ كَانَ فِي الضَّلَالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذَابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضْعَفُ جُنْدًا (75)

قال أبو جعفر : وأولى القراءات في ذلك بالصواب ، قراءه من قرأ(أثاثا وَرِئْيا) بالراء والهمز ، لإجماع الحجة من أهل التأويل على أن معناه : المنظر ، وذلك هو من رؤية العين ، لا من الرؤية ، فلذلك كان المهموز أولى به ، فإن قرأ قارئ ذلك بترك للهمز ، وهو يريد هذا المعنى ، فغير مخطئ في قراءته. وأما قراءته بالزاي فقراءة خارجة ، عن قراءه القرّاء ، فلا أستجيز القراءة بها لخلافها قراءتهم ، وإن كان لهم في التأويل وجه صحيح.
واختلف أهل العربية في الأثاث أجمع هو أم واحد ، فكان الأحمر فيما ذُكر لي عنه يقول : هو جمع ، واحدتها أثاثة ، كما الحمام جمع واحدتها حمامة ، والسحاب جمع واحدتها سحابة ، وأما الفراء فإنه كان يقول : لا واحد له ، كما أن المتاع لا واحد له. قال : والعرب تجمع المتاع : أمتعة ، وأماتيع ، ومتع. قال : ولو جمعت الأثاث لقلت : ثلاثة آثَّةٍ وأثث. وأما الرئي فإن جمعه : آراء.
القول في تأويل قوله تعالى : { قُلْ مَنْ كَانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذَابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضْعَفُ جُنْدًا (75) }
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : قل يا محمد لهؤلاء المشركين بربهم ، القائلين : إذا تتلى عليهم آياتنا ، أيّ الفريقين منا ومنكم خير مقاما وأحسن نديا ، من كان منا ومنكم في الضلالة جائرا عن طريق الحقّ ، سالكا غير سبيل الهدى ، فليمدد له الرحمن مدّا : يقول : فليطوَّل له الله في ضلالته ، وليمله فيها إملاء.
وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله( فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا ) فليَدعْه الله في طغيانه.

(18/243)


وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ مَرَدًّا (76)

وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثنى حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله.
وقوله( حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذَابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ ) يقول تعالى ذكره : قل لهم : من كان منا ومنكم في الضلالة ، فليمدد له الرحمن في ضلالته إلى أن يأتيهم أمر الله ، إما عذاب عاجل ، أو يلقوا ربهم عند قيام الساعة التي وعد الله خلقه أن يجمعهم لها ، فإنهم إذا أتاهم وعد الله بأحدِ هذين الأمرين( فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكَانًا ) ومسكنا منكم ومنهم( وَأَضْعَفُ جُنْدًا ) أهم أم انتم ؟ ويتبينون حينئذ أيّ الفريقين خير مقاما ، وأحسن نديا.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ مَرَدًّا (76) }
يقول تعالى ذكره : ويزيد الله من سلك قصد المحجة ، واهتدى لسبيل الرشد ، فآمن بربه ، وصدّق بآياته ، فعمل بما أمره به ، وانتهى عما نهاه عنه هدى بما يتجدّد له من الإيمان بالفرائض التي يفرضها عليه ، ويقرّ بلزوم فرضها إياه ، ويعمل بها ، فذلك زيادة من الله في اهتدائه بآياته هدى على هداه ، وذلك نظير قوله( وَإِذَا مَا أُنزلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ ). وقد كان بعضهم يتأول ذلك : ويزيد الله الذين اهتدوا هدى بناسخ القرآن ومنسوخه ، فيؤمن بالناسخ ، كما آمن من قبل بالمنسوخ ، فذلك زيادة هدى من الله له على هُدَاه من قبل( وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا ) يقول تعالى ذكره : والأعمال التي أمر الله بها عباده ورضيها منهم ، الباقيات لهم غير الفانيات الصالحات ، خير عند ربك جزاء لأهلها( وَخَيْرٌ مَرَدًّا ) عليهم من مقامات هؤلاء المشركين بالله ، وأنديتهم التي يفتخرون بها على أهل الإيمان في الدنيا.

(18/244)


وقد بيَّنا معنى الباقيات الصالحات ، وذكرنا اختلاف المختلفين في ذلك ، ودللنا على الصواب من القول فيه فيما مضى بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع.
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا عمر بن راشد ، عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف ، قال : " جلس النبي صلى الله عليه وسلم ذات يوم ، فأخذ عودا يابسا ، فحطّ ورقه ثم قال : إنَّ قَوْلَ لا إله إلا اللهُ ، واللهُ أكْبَرُ ، والحَمْدُ للهِ وسُبْحَانَ اللهِ ، تَحطُّ الخَطايا ، كمَا تَحُطُّ وَرَقَ هذِهِ الشَّجَرَةِ الرِّيحُ ، خُذْهُنَّ يا أبا الدَّرْدَاءِ قَبْلَ أنْ يُحَالَ بَيْنَكَ وَبَيْنَهُنَّ ، هُنَّ البَاقِيَاتُ الصَّالِحاتُ ، وَهُنَّ مِنْ كُنُوزِ الجَنَّةِ " ، قال أبو سلمة : فكان أبو الدرداء إذا ذكر هذا الحديث قال : لأهللنّ الله ، ولأكبرنّ الله ، ولأسبحنّ الله ، حتى إذا رآني الجاهل حسب أني مجنون.

(18/245)


أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآَيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا (77) أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا (78)

القول في تأويل قوله تعالى : { أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لأُوتَيَنَّ مَالا وَوَلَدًا (77) أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا (78) }
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : (أفَرَأيْتَ) يا محمد( الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا ) حججنا فلم يصدّق بها ، وأنكر وعيدنا من أهل الكفر(وَقَالَ) وهو بالله كافر وبرسوله(لأُوتَينَّ) في الآخرة(مالا وَوَلَدًا).
وذُكر أن هذه الآيات أنزلت في العاص بن وائل السهمي أبي عمرو بن العاص.
* ذكر الرواية بذلك : حدثنا أبو السائب وسعيد بن يحيى ، قالا ثنا أبو معاوية ، عن الأعمش ، عن مسلم ، عن مسروق ، عن خباب ، قال : كنت رجلا قينا ، وكان لي على العاص بن وائل دين ، فأتيته أتقاضاه ، فقال : والله لا أقضيك حتى تكفر بمحمد ، فقلت : والله لا أكفر بمحمد حتى تموت ثم تبعث ، قال : فقال : فإذا أنا متّ ثم بُعثت كما تقول ، جئتني ولي مال وولد ، قال : فأنزل الله تعالى : ( أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لأُوتَيَنَّ مَالا وَوَلَدًا أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا ).... إلى قوله : ( وَيَأْتِينَا فَرْدًا ).
حدثني به أبو السائب ، وقرأ في الحديث : وولدا.

(18/245)


حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، أن رجالا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يطلبون العاص بن وائل السهمي بدين ، فأتوه يتقاضونه ، فقال : ألستم تزعمون أن في الجنة فضة وذهبا وحريرا ، ومن كلّ الثمرات ؟ قالوا : بلى ، قال : فإن موعدكم الآخرة ، فوالله لأُوتينّ مالا وولدا ، ولأُوتينّ مثل كتابكم الذي جئتم به ، فضرب الله مثله في القران ، فقال : ( أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لأُوتَيَنَّ مَالا ).... إلى قوله( وَيَأْتِينَا فَرْدًا ).
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قول الله( لأُوتَيَنَّ مَالا وَوَلَدًا ) قال : العاص بن وائل يقوله.
حدثنا القاسم ، قال. ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله.
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله( أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لأُوتَيَنَّ مَالا وَوَلَدًا ) فذكر لنا أن رجالا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أتوا رجلا من المشركين يتقاضونه دينا ، فقال : أليس يزعم صاحبكم أن في الجنة حريرا وذهبا ؟ قالوا : بلى ، قال فميعادكم الجنة ، فوالله لا أومن بكتابكم الذي جئتم به ، استهزاء بكتاب الله ، ولأُوتينّ مالا وولدا ، يقول الله( أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا ) ؟.
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا الثوري ، عن الأعمش ، عن أبي الضحى ، عن مسروق ، قال : قال خباب بن الأرت : كنت قينا بمكة ، فكنت أعمل للعاص بن وائل ، فاجتمعت لي عليه دراهم ، فجئت لأتقاضاه ، فقال لي : لا أقضيك حتى تكفر بمحمد ، قال : قلت : لا أكفر بمحمد حتى تموت ثم تبعث ، قال : فإذا بُعثت كان لي مال وولد ، قال : فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأنزل الله تبارك وتعالى( أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لأُوتَيَنَّ مَالا وَوَلَدًا إِلَى وَيَأْتِينَا فَرْدًا ).
واختلفت القرّاء في قراءة قوله(وَوَلدًا) فقرأته قرّاء المدينة والبصرة وبعض أهل الكوفة : (وَوَلَدًا) بفتح الواو من الولد في كلّ القرآن ، غير أن أبا عمرو بن

(18/246)


العلاء خص التي في سورة نوح بالضمّ ، فقرأها( مالُهُ وَوُلْدُهُ ) وأما عامَّةُ قرّاء الكوفة غير عاصم ، فإنهم قرءوا من هذه السورة من قوله( مَالا وَوَلَدًا ) إلى آخر السورة. واللتين في الزخرف ، والتي في نوح ، بالضمِّ وسكون اللام.
وقد اختلف أهل العربية في معنى ذلك إذا ضمت واوه ، فقال بعضهم : ضمها وفتحها واحد ، وإنما هما لغتان ، مثل قولهم العُدم والعَدم ، والحزن والحَزَن. واستشهدوا لقيلهم ذلك بقول الشاعر :
فَلَيْتَ فُلانا كانَ في بَطْنِ أُمِّهِ... وَلَيْتَ فُلانا كانَ وُلْدَ حِمارِ (1)
ويقول الحارث بن حِلِّزة :
وَلَقَدْ رأيْتُ مَعاشِرًا... قَدْ ثَمَّرُوا مالا وَوُلْدًا (2)
وقول رُؤْبة :
الحَمْدُ للهِ العَزِيزِ فَرْدَا... لَمْ يَتَّخِذْ مِنْ وُلْدِ شَيْءٍ وُلْدَا (3)
وتقول العرب في مثلها : وُلْدُكِ مِنْ دَمَّى عَقِبَيْكِ ، قال : وهذا كله واحد ، بمعنى الولد.
وقد ذُكر لي أن قيسا تجعل الوُلْد جمعا ، والوَلد واحدا .
ولعلّ الذين قرءوا ذلك بالضمّ فيما اختاروا فيه الضمّ ، إنما قرءوه كذلك ليفرقوا بين الجمع والواحد.
قال أبو جعفر : والذي هو أولى بالصواب من القول في ذلك عندي أن الفتح في الواو من الوَلد والضمّ فيها بمعنى واحد ، وهما لغتان ، فبأيتهما قرأ
__________
(1) البيت في ( اللسان : ولد ) ولم ينسبه . قال : الولد والولد واحد ، مثل العرب والعرب ، والعجم ، والعجم ونحو ذلك . وأنشد الفراء : " فليت فلانا . . . " البيت . فهذا واحد . قال : وقيس تجعل الولد جمعا ، والولد ( بالتحريك ) واحدا . ابن السكيت يقال في الولد : الولد ( بكسر أوله ) ولا ولد ( بضم أوله ) . قال : ويكون الولد ( بضم أوله ) واحدا وجمعا قال : وقد يكون الولد ( بالضم ) جمع الولد ، مثل أسد وأسد . ( وهذا قريب مما نقله المؤلف عن الفراء في معاني القرآن ) .
(2) البيت للحارث بن حلزة اليشكري ، وهو من شواهد ( لسان العرب : ولد ) مثل الشاهد الذي قبله . واستشهد به الفراء أيضًا في معاني القرآن ( مصورة الجامعة رقم 24059 ص 195 ) ثم قال : والولد والولد : لغتان مثل ما قالوا : العدم والعدم .
(3) البيتان لرؤبة بن العجاج ، وهما من مشطور الرجز ، و الفرد : المتفرد بالربوبية ، و بالأمر دون خلقه ، وهو الواحد الأحد الذي لا نظير له ولا ثاني . والبيت ساقه المؤلف مع الشاهدين السابقين عليه . شواهد على أن الولد ، بضم الواو وسكون اللام ، بمعنى الولد ، بالتحريك . وأنه مفرد ، وقد يجيء بمعنى الجمع .

(18/247)


كَلَّا سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدًّا (79) وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْدًا (80)

القارئ فمصيب الصواب ، غير أن الفتح أشهر اللغتين فيها ، فالقراءة به أعجبُ إليّ لذلك.
وقوله( أَطَّلَعَ الْغَيْبَ ) يقول عزّ ذكره : أعلم هذا القائل هذا القول علم الغيب ، فعلم أن له في الآخرة مالا وولدا باطلاعه على علم ما غاب عنه( أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا ) يقول : أم آمن بالله وعمل بما أمر به ، وانتهى عما نهاه عنه ، فكان له بذلك عند الله عهدا أن يؤتيه ما يقول من المال والولد.
كما حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا ) بعمل صالح قدّمه.
القول في تأويل قوله تعالى : { كَلا سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدًّا (79) وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْدًا (80) }
يعني تعالى ذكره بقوله(كلا) : ليس الأمر كذلك ، ما اطلع الغيب ، فعلم صدق ما يقول ، وحقيقة ما يذكر ، ولا اتخذ عند الرحمن عهدا بالإيمان بالله ورسوله ، والعمل بطاعته ، بل كذب وكفر ، ثم قال تعالى ذكره( سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ ) : أي سنكتب ما يقول هذا الكافر بربه ، القائل(لأُوتَيْنّ) في الآخرة( مَالا وَوَلَدًا )( وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدًّا ) يقول : ونزيده من العذاب في جهنم بقيله الكذب والباطل في الدنيا ، زيادة على عذابه بكفره بالله.
وقوله( وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ ) يقول عزّ ذكره ،
ونسلب هذا القائل : لأوتين في الآخرة مالا وولدا ، ماله وولده ، ويصير لنا ماله وولده دونه ، ويأتينا هو يوم القيامة فردا ، وحده لا مال معه ولا ولد.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى " ح " ; وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله( وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ ) ماله وولده ، وذلك الذي قال العاص بن وائل.

(18/248)


وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آَلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا (81) كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا (82)

حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله( وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْدًا ) لا مال له ولا ولد.
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، في قوله( وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ ) قال : ما عنده ، وهو قوله( لأُوتَيَنَّ مَالا وَوَلَدًا ) وفي حرف ابن مسعود : ونرثه ما عنده.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله( وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ ) قال : ما جمع من الدنيا وما عمل فيها( وَيَأْتِينَا فَرْدًا ) قال : فردا من ذلك ، لا يتبعه قليل ولا كثير.
حدثني عليّ ، قال : ثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله( وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ ) : نرثه (1)
القول في تأويل قوله تعالى : { وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا (81) كَلا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا (82) }
يقول تعالى ذكره : واتخذ يا محمد هؤلاء المشركون من قومك آلهة يعبدونها من دون الله ، لتكون هؤلاء الآلهة لهم عزًّا ، يمنعونهم من عذاب الله ، ويتخذون عبادتهموها عند الله زلفى ، وقوله : (كلا) يقول عز ذكره : ليس الأمر كما ظنوا وأمَّلوا من هذه الآلهة التي يعبدونها من دون الله ، في أنها تنقذهم من عذاب الله ، وتنجيهم منه ، ومن سوء إن أراده بهم ربهم. وقوله : ( سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ ) يقول عزّ ذكره : ولكن سيكفر الآلهة في الآخرة بعبادة هؤلاء المشركين يوم القيامة إياها ، وكفرهم بها قيلهم لربهم : تبرأنا إليك ما كانوا إيانا يعبدون ، فجحدوا أن يكونوا عبدوهم أو أمروهم بذلك ، وتبرّءُوا منهم ، وذلك كفرهم بعبادتهم.
__________
(1) كذا في ابن كثير أيضا . والذي في الدر عن ابن عباس : ونرثه ما يكون : ماله وولده .

(18/249)


وأما قوله( وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا ) فإن أهل التأويل اختلفوا في تأويله ، فقال بعضهم : معنى ذلك : وتكون آلهتهم عليهم عونا ، وقالوا : الضدّ : العون.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا عليّ ، قال : ثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله( وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا ) يقول : أعوانا.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى " ح " ; وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد( وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا ) قال : عونا عليهم تخاصمهم وتكذّبهم.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد( وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا ) قال : أوثانهم يوم القيامة في النار.
وقال آخرون : بل عنى بالضدّ في هذا الموضع : القُرَناء.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله( وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا ) يقول : يكونون عليهم قرناء.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله( وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا ) قرناء في النار ، يلعن بعضهم بعضا ، ويتبرأ بعضهم من بعض.
حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، في قوله(ضِدّا) قال : قرناء في النار.
وقال آخرون : معنى الضدّ هاهنا : العدوّ.
* ذكر من قال ذلك : حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا مُعاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله( وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا ) قال : أعداء.
وقال آخرون : معنى الضدّ في هذا الموضع : البلاء.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال :

(18/250)


أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا (83) فَلَا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا (84)

قال ابن زيد ، في قوله : ( وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا ) قال : يكونون عليهم بلاء.
الضدّ : البلاء ، والضدّ في كلام العرب : هو الخلاف ، يقال : فلان يضادّ فلانا في كذا ، إذا كان يخالفه في صنيعه ، فيفسد ما أصلحه ، ويصلع ما أفسده ، وإذ كان ذلك معناه ، وكانت آلهة هؤلاء المشركين الذين ذكرهم الله في هذا الموضع يتبرءون منهم ، وينتفون يومئذ ، صاروا لهم أضدادا ، فوصفوا بذلك.
وقد اختلف أهل العربية في وجه توحيد الضدّ ، وهو صفة لجماعة. فكان بعض نحوييِّ البصرة يقول : وحد لأنه يكون جماعة ، وواحدا مثل الرصد والأرصاد. قال : ويكون الرصد أيضا لجماعة. وقال بعض نحويي الكوفة وحد ، لأن معناه عونا ، وذكر أن أبا نهيك كان يقرأ ذلك.
كما حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا يحيى بن واضح ، قال : ثنا عبد المؤمن ، قال : سمعت أبا نهيك الأزدي يقرأ( كَلا سَيَكْفُرُونَ ) يعني الآلهة كلها أنهم سيكفرون بعبادتهم.
القول في تأويل قوله تعالى : { أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا (83) فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا (84) }
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : ألم تر يا محمد أنا أرسلنا الشياطين على أهل الكفر بالله(تَؤُزُّهُمْ) يقول : تحرّكهم بالإغواء والإضلال ، فتزعجهم إلى معاصي الله ، وتغريهم بها حتى يواقعوها(أزّا) إزعاجا وإغواء.
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا عليّ ، قال : ثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : (أزّا) يقول : تغريهم إغراء.

(18/251)


حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريح ، قال : قال ابن عباس : تؤزّ الكافرين إغراء في الشرك : امض امض في هذا الأمر ، حتى توقعهم في النار ، امضوا في الغيّ امضوا.
حدثنا أبو كريب ، قال : ثنا أبو إدريس ، عن جويبر ، عن الضحاك ، في قوله( تَؤُزُّهُمْ أَزًّا ) قال : تغريهم إغراء.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله( تؤزهم أزا ) قال : تزعجهم إزعاجا في معصية الله.
حدثنا محمد بن بشار ، قال : ثنا ابن عثمة ، قال : ثنا سعيد بن بشير ، عن قتادة في قول الله( تَؤُزُّهُمْ أَزًّا ) قال : تزعجهم إلى معاصي الله إزعاجا.
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، في قوله( تَؤُزُّهُمْ أَزًّا ) قال تزعجهم إزعاجا في معاصي الله.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله( أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا ) فقرأ( وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ ) قال : تؤزّهم أزّا ، قال : تشليهم إشلاء على معاصي الله تبارك وتعالى ، وتغريهم عليها ، كما يغري الإنسان الآخر على الشيء ، يقال منه : أزَزْت فلانا بكذا ، إذا أغريته به أؤزُّه أزّا وأزيزا ، وسمعت أزيز القدر : وهو صوت غليانها على النار; ومنه حديث مطرف عن أبيه ، أنه انتهى إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم وهو يصلي ، ولجوفه أزيز كأزيز المرجل.
وقوله( فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا ) يقول عزّ ذكره : فلا تعجل على هؤلاء الكافرين بطلب العذاب لهم والهلاك ، يا محمد إنما نعدّ لهم عدّا ، يقول : فإنما نؤخر إهلاكهم ليزدادوا إثما ، ونحن نعدّ أعمالهم كلها ونحصيها حتى أنفاسهم لنجازيهم على جميعها ، ولم نترك تعجيل هلاكهم لخير أردناه بهم.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

(18/252)


* ذكر من قال ذلك :
حدثنا عليّ ، قال : ثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله ، ( إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا ) يقول : أنفاسهم التي يتنفسون في الدنيا ، فهي معدودة كسنهم وآجالهم.

(18/253)


يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا (85) وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا (86)

القول في تأويل قوله تعالى : { يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا (85) وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا (86) }
يقول تعالى ذكره : يوم نجمع الذين اتقوا في الدنيا فخافوا عقابه ، فاجتنبوا لذلك معاصيه ، وأدوا فرائضه إلى ربهم(وَفْدًا) يعني بالوفد : الركبان ، يقال : وفدت على فلان : إذا قدمت عليه ، وأوفد القوم وفدا على أميرهم ، إذا بعثوا قبلهم بعثا. والوفد في هذا الموضع بمعنى الجمع ، ولكنه واحد ، لأنه مصدر واحدهم وافد ، وقد يجمع الوفد : الوفود ، كما قال بعض بني حنيفة :
إنّي لَمُمْتَدِح فَمَا هُوَ صَانِعٌ... رأسُ الوُفُودِ مُزاحِمُ بن جِساسِ (1)
وقد يكون الوفود في هذا الموضع جمع وافد ، كما الجلوس جمع جالس.
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني زكريا بن يحيى بن أبي زائدة ، قال : ثنا ابن فضيل ، عن عبد الرحمن بن إسحاق ، عن النعمان بن سعد ، عن عليّ ، في قوله( يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا ) قال : أما والله ما يحشر الوفد على أرجلهم ، ولا يساقون سوقا ، ولكنهم يؤتون بنوق لم ير الخلائق مثلها ، عليها رحال الذهب ، وأزمتها الزبرجد ، فيركبون عليها حتى يضربوا أبواب الجنة.
حدثنا محمد بن المثنى ، قال : ثنا عبد الرحمن بن مهدي ، عن شعبة ، عن إسماعيل ، عن رجل ، عن أبي هريرة( يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا ) قال : على الإبل.
__________
(1) البيت لبعض بني حنيفة ، كما قال المؤلف . وفي ( تاج العروس : جثث : جساس بوزن كتاب ابن نشبة بن ربيع التيمي ، ابن عمرو بن عبد الله بن لؤى بن عمرو بن الحارث بن تيم بن عبد مناة بن أد : أبو قبيلة ، من ولده مزاحم بن زفر بن علاج بن الحارث بن عامرو بن جساس عن شعبة عنه أبو الربيع الزهراني ، وأخوه عثمان بن زفر ، حدث عن يوسف بن موسى القطان وغيره . وفي خلاصة تذهيب تهذيب الكمال للخزرجي : مزاحم بن زفر بن الحارث الكوفي ، عن عمر بن عبد العزيز ؛ وعنه شعبة وسفيان ، وثقه ابن معين . وفي اللسان : وفد ) قال الله تعالى : ( يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفدا) : قيل الوفد : الركبان المكرمون . . . وهم الوفد والوفود . فأما الوفد فاسم للجمع ، وقيل جمع . وأما الوفود فجمع وافد . . . . وجمع الوفد : أوفاد ووفود .

(18/254)


لَا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا (87)

حدثنا عليّ ، قال : ثنا عبد الله ، قال : ثنا معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله( يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا ) يقول : ركبانا.
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا الحكم بن بشير ، قال : ثنا عمرو بن قيس الملائي ، قال : إن المؤمن إذا خرج من قبره استقبله أحسن صورة ، وأطيبها ريحا ، فيقول : هل تعرفني ؟ فيقول : لا إلا أن الله طيب ريحك وحسن صورتك ، فيقول : كذلك كنت في الدنيا أنا عملك الصالح طالما ركبتك في الدنيا ، فاركبني أنت اليوم ، وتلا( يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا ).
حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة( إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا ) قال : وفدا إلى الجنة.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، في قوله( يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا ) قال : على النجائب.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، قال : سمعت سفيان الثوري يقول( يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا ) قال : على الإبل النوق.
وقوله( وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا ) يقول تعالى ذكره : ونسوق الكافرين بالله الذين أجرموا إلى جهنم عطاشا ، والوِرد : مصدر من قول القائل : وردت كذا أرِده وِردا ، ولذلك لم يجمع ، وقد وصف به الجمع.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : ثني عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله( وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا ) يقول : عطاشا.
حدثنا محمد بن المثنى ، قال : ثنا عبد الرحمن بن مهدي ، عن شعبة ، عن إسماعيل ، عن رجل ، عن أبي هريرة( وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا ) قال : عطاشا.
حدثني يعقوب والفضل بن صباح ، قالا ثنا إسماعيل بن عُلَيَّة ، عن أبي رجاء ، قال : سمعت الحسن يقول في قوله( وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا ) قال : عطاشا.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن يونس ، عن الحسن ، مثله.
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، في قوله : ( إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا ) قال : ظماء إلى النار.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا ) سوقوا إليها وهم ظمء عطاش .
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، قال : سمعت سفيان يقول في قوله( وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا ) قال : عطاشا.
القول في تأويل قوله تعالى : { لا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا (87) }
يقول تعالى ذكره : لا يملك هؤلاء الكافرون بربهم يا محمد ، يوم يحشر الله المتقين إليه وفدا الشفاعة ، حين يشفع أهل الإيمان بعضهم لبعض عند الله ، فيشفع بعضهم لبعض( إِلا مَنِ اتَّخَذَ مِنْهُمْ عِنْدَ الرَّحْمَنِ ) في الدنيا(عَهْدًا) بالإيمان به ، وتصديق رسوله ، والإقرار بما جاء به ، والعمل بما أمر به.
كما حدثني عليّ ، قال : ثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله( إِلا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا ) قال : العهد : شهادة أن لا إله إلا الله ، ويتبرأ إلى الله من الحول والقوّة ولا يرجو إلا الله.

(18/255)


حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قوله( لا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا ) قال : المؤمنون يومئذ بعضهم لبعض شفعاء( إِلا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا ) قال : عملا صالحا.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله( لا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا ) : أي بطاعته ، وقال في آية أخرى( لا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلا ) ليعلموا أن الله يوم القيامة يشفع المؤمنين بعضهم في بعض ، ذكر لنا أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم كان يقول : " إنَّ في أُمَّتِي رَجُلا لَيُدْخِلَنَّ اللهُ بِشَفاعَتِهِ الجَنَّةَ أكْثَرَ مِنْ بني تَمِيمِ " ، وكنا نحدّث أن الشهيد يشفع في سبعين من أهل بيته.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، عن أبي المليح ، عن عوف بن مالك ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إنَّ شَفاعَتِي لِمَنْ ماتَ مِنْ أُمَّتِي لا يُشْرِكُ باللهِ شَيئًا " ، و " مَن " في قوله(إلا مَنْ) في موضع نصب على الاستثناء ، ولا يكون خفضا بضمير اللام ، ولكن قد يكون نصبا في الكلام في غير هذا الموضع ، وذلك كقول القائل : أردت المرور اليوم إلا العدوّ ، فإني لا أمر به ، فيستثنى العدوّ من المعنى ، وليس ذلك كذلك في قوله( لا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا ) لأن معنى الكلام : لا يملك هؤلاء الكفار إلا من آمن بالله ، فالمؤمنون ليسوا من أعداد الكافرين ، ومن نصبه على أن معناه إلا لمن اتخذ عند الرحمن عهدا ، فإنه ينبغي أن يجعل قوله لا يملكون الشفاعة للمتقين ، فيكون معنى الكلام حينئذ يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفدا ، لا يملكون الشفاعة ، إلا من اتخذ عند الرحمن عهدا ، فيكون معناه عند ذلك ، إلا لمن اتخذ عند الرحمن عهدا. فأما إذا جعل لا يملكون الشفاعة خبرا عن المجرمين ، فإن " من " تكون حينئذ نصبا على أنه استثناء منقطع ، فيكون معنى الكلام : لا يملكون الشفاعة ، لكن من اتخذ عند الرحمن عهدا يملكه.

(18/256)


وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا (88) لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا (89) تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا (90)

القول في تأويل قوله تعالى : { وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا (88) لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا (89) تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا (90) }
يقول تعالى ذكره : وقال هؤلاء الكافرون بالله( اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا ) يقول تعالى ذكره للقائلين ذلك من خلقه : لقد جئتم أيها الناس شيئا عظيما من القول منكرا.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : ثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله( شَيْئًا إِدًّا ) يقول : قولا عظيما.
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله( لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا ) يقول : لقد جئتم شيئا عظيما وهو المنكر من القول.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ; وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله( شَيْئًا إِدًّا ) قال : عظيما.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله.
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، في قوله( شَيْئًا إِدًّا ) قال : عظيما.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله( لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا ) قال : جئتم شيئا كبيرا من الأمر حين دعوا للرحمن ولدا. وفي الإدّ لغات ثلاث ، يقال : لقد جئت شيئا إدّا ، بكسر الألف ، وأدّا بفتح الألف ، وآدا بفتح الألف ومدّها ، على مثال مادّ فاعل. وقرأ قرّاء الأمصار ، وبها نقرأ ،

(18/257)


وقد ذكر عن أبي عبد الرحمن السلمي أنه قرأ ذلك بفتح الألف ، ولا أرى قراءته كذلك لخلافها قراءة قرّاء الأمصار ، والعرب تقول لكلّ أمر عظيم : إدّ ، وإمر ، ونكر; ومنه قوله الراجز :
قَدْ لَقِيَ الأَعْدَاءُ مِنِّي نُكْرَا... دَاهِيَةٌ دَهْياءَ إدّا إمْرَا (1)
ومنه قول الآخر :
فِي لَهَثٍ منهُ وَحَثْلٍ إدًّا (2)
وقوله( تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ ) يقول تعالى ذكره :
تكاد السماوات يتشققن قطعا من قيلهم( اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا ) ومنه قيل : فطرنا به : إذا انشق.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : ثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله( تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا أن دعوا للرحمن من ولدا ) قال : إن الشرك فزعت منه السماوات والأرض والجبال ، وجميع الخلائق إلا الثقلين ، وكادت أن تزول منه لعظمة الله ، وكما لا ينفع مع الشرك إحسان المشرك ، كذلك نرجو أن يغفر الله ذنوب الموحدين. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لَقِّنُوا مَوْتَاكُمْ شَهَادَةَ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ ، فَمَنْ قَالَهَا عِنْدَ مَوْتِهِ وَجَبَتْ له الجَنَّةُ " قالوا : يا رسول الله ، فمن قالها في صحته ؟ قال : تلك أوْجَبُ وأَوجَبُ " . ثم قال : " والَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ
__________
(1) هذان بيتان من مشطور الرجز ، وقد سبق استشهاد المؤلف بهما عند قوله تعالى في سورة الكهف ( 15 : 184 ) " لقد جئت شيئا إمرا " . وقد شرحناهما ثمت .
(2) هذا بيت من مشطور الرجز لم أعرف قائله . واللهث واللهاث : حر العطش في الجوف . وفي ( اللسان : لهث ) ابن سيده : لهث الكلب بالفتح ، ولهث يلهث فيهما لهثا : دلع لسانه من شدة العطش والحر ، وكذلك الطائر إذا أخرج لسانه من حر أو عطش . ولهث الرجل ولهث ( بفتح الهاء في الأول وكسرها في الثاني ) يلهث ( بالفتح ) في اللغتين جميعا ، لهثا فهو لهثان : أعيا . وأما الحثل فلم أجد في مادة ( حثل ) في المعاجم معنى يناسب البيت ، ولعله محرف عن الخبل ، وهو فساد الأعضاء . أو عن الختل ، وهو التخادع عن غفلة ، ولعل الراجز يصف كلب صيد أو فرسا . وأما الإد فهو العجب والأمر الفظيع ؛ وهو محل الشاهد في كلام المؤلف ، كالبيتين قبله .

(18/258)


أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا (91) وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا (92) إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آَتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا (93)

جِيءَ بالسَّمَاوَاتِ والأَرَضِينَ وَمَا فِيهِنَّ وما بَيْنَهُنَّ وَمَا تَحْتَهُنَّ ، فَوُضِعْنَ فِي كِفَّةِ المِيزان ، ووُضِعَتْ شَهَادَةُ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ في الكِفَّةِ الأُخْرَى ، لَرَجَحَتْ بِهِنَّ " .
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد( تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا ) ذُكر لنا أن كعبا كان يقول : غضبت الملائكة ، واستعرت جهنم ، حين قالوا ما قالوا.
وقوله : (وتنشق الأرض) يقول : وتكاد الأرض تنشقّ ، فتنصدع من ذلك( وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا ) يقول : وتكاد الجبال يسقط بعضها على بعض سقوطا. والهدّ : السقوط ، وهو مصدر هددت ، فأنا أهدّ هدّا.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : ثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس ، قوله( وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا ) يقول : هدما.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، قال : قال ابن عباس( وتخر الجبال هدّا) قال : الهد : الانقضاض.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله( وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا ) قال : غضبا لله . قال : ولقد دعا هؤلاء الذين جعلوا لله هذا الذي غضبت السماوات والأرض والجبال من قولهم ، لقد استتابهم ودعاهم إلى التوبة ، فقال : ( لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ ) قالوا : هو وصاحبته وابنه ، جعلوهما إلهين معه( وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلا إِلَهٌ وَاحِدٌ ).... إلى قوله : ( وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) .
القول في تأويل قوله تعالى : { أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا (91) وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا (92) إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِلا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا (93) }

(18/259)


يقول تعالى ذكره : وتكاد الجبال أن تخرّ انقضاضا ، لأن دعوا للرحمن ولدا. ف " أن " في موضع نصب في قول بعض أهل العربية ، لاتصالها بالفعل ، وفي قول غيره في موضع خفض بضمير الخافض ، وقد بينا الصواب من القول في ذلك في غير موضع من كتابنا هذا بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع.
وقال( أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا ) يعني بقوله : ( أَنْ دَعَوْا ) : أن جعلوا له ولدا ، كما قال الشاعر :
ألا رُبَّ مَنْ تَدْعُو نَصِيحا وَإنْ تَغِب... تَجدْهُ بغَيْبٍ غيرَ مُنْتَصِحِ الصَّدْرِ (1)
وقال ابن أحمر :
أهْوَى لَهَا مِشْقَصًا حَشْرًا فَشَبْرَقَها... وكنتُ أدْعُو قَذَاها الإثمدَ القَرِدَا (2)
وقوله( وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا ) يقول : وما يصلح لله أن يتخذ ولدا ، لأنه ليس ، كالخلق الذين تغلبهم الشهوات ، وتضطرّهم اللذّات إلى جماع الإناث ، ولا ولد يحدث إلا من أنثى ، والله يتعالى عن أن يكون كخلقه ، وذلك كقول ابن أحمر :
في رأسِ خَلْقاءَ مِنْ هَنْقاءَ مُشْرِفَةٍ... ما ينبغي دُونَها سَهْلٌ ولا جَبَلُ (3)
يعني : لا يصلح ولا يكون.
( إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِلا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا ) يقول : ما جميع من في السماوات من الملائكة ، وفي الأرض من البشر والإنس والجنّ( إِلا
__________
(1) انظر شرح هذا الشاهد مع شرح تاليه .
(2) ( 1 ) البيت في ( اللسان : دعا ) . ونسبه إلى ابن أحمر الباهلي . قال : ودعوته بزيد ، ودعوته إياه سميته به ، تعدى الفعل بعد إسقاط الحرف ؛ قال ابن أحمر الباهلي : " أهوى لها . . . " البيت . أي اسميه ، وأراد : أهوى لها بمشقص ، فحذف الحرف وأوصل وقوله عز وجل ( أن دعوا للرحمن ولدا ) : أي جعلوا ، وأنشد بيت ابن أحمر أيضا وقال : أي كنت أجعل وأسمي ؛ ومثله قول الشاعر : " ألا رب من تدعو تصيحا . . . البيت " . والمشقص من النصال : ما كان طويلا غير عريض ، فإذا كان عريضا فهو المعبلة ( اللسان : شقص ) . وسهم محشور وحشر : مستوى قذذ الريش ، وكل لطيف دقيق حشر . وشبرقها : مزقها ، يقال : ثوب مشبرق : مقطع ممزق . وفي كتاب ( المعاني الكبير لابن قتيبة طبع حيدر أباد ص 988 ) : يقول : كنت من إشفاتي عليها أسمي ما يصلحها قذى ، فكيف ما يؤذيها . وقوله " أدعو " أي أسمي ؛ تقول : ما تدعون هذا فيكم ؟ أي ما تسمونه ؟ والحشر : السهم الخفيف الريش الذي قد شد قصبه ورصافه . والإثمد : الكحل الأسود والقرد : هو الذي ينقطع في العين ؛ وقيل : القرد : الذي لصق بعضه ببعض . والمعنى : كنتم أسمي الإثمد قذى ، من حذري عليها .
(3) تقدم الاستشهاد بهذا البيت قريبا في هذا الجزء ص 84 وشرحناه ثمة .

(18/260)


لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا (94) وَكُلُّهُمْ آَتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا (95)

آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا ) يقول : إلا يأتي ربه يوم القيامة عبدا له ، ذليلا خاضعا ، مقرًّا له بالعبودية ، لا نسب بينه وبينه.
وقوله( آتِي الرَّحْمَنِ ) إنما هو فاعل من أتيته ، فأنا آتيه.
القول في تأويل قوله تعالى : { لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا (94) وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا (95) }
يقول تعالى ذكره : لقد أحصى الرحمن خلقه كلهم ، وعدّهم عدّا ، فلا يخفى عليه مبلغ جميعهم ، وعرف عددهم ، فلا يعزب عنه منهم أحد( وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا ) يقول : وجميع خلقه سوف يرد عليه يوم تقوم الساعة وحيدا لا ناصر له من الله ، ولا دافع عنه ، فيقضي الله فيه ما هو قاض ، ويصنع به ما هو صانع.

(18/261)


إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا (96) فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا (97)

القول في تأويل قوله تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا (96) فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا (97) }
يقول تعالى ذكره : إن الذين آمنوا بالله ورسله ، وصدّقوا بما جاءهم من عند ربهم ، فعملوا به ، فأحلوا حلاله ، وحرّموا حرامه( سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا ) في الدنيا ، في صدور عباده المؤمنين.
وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني يحيى بن طلحة ، قال : ثنا شريك ، عن مسلم الملائي ، عن مجاهد ، عن ابن عباس ، في قوله( سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا ) قال : محبة في الناس في الدنيا.

(18/261)


حدثني عليّ ، قال : ثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، في قوله : ( سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا ) قال : حبا.
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله( سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا ) قال : الودّ من المسلمين في الدنيا ، و الرزق الحسن ، واللسان الصادق.
حدثني يحيى بن طلحة ، قال : ثنا شريك ، عن عبيد المُكْتِبِ ، عن مجاهد ، في قوله( سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا ) قال : محبة في المسلمين في الدنيا.
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا حكام ، عن عنبسة ، عن القاسم بن أبي بزّة ، عن مجاهد ، في قوله : ( سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا ) قال : يحبهم ويحببهم إلى خلقه.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد( سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا ) قال : يحبهم ويحببهم إلى المؤمنين.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثنا عليّ بن هاشم ، عن بن أبي ليلى ، عن الحكم ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال : يحبهم ويحببهم.
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا الحكم بن بشير ، قال : ثنا عمرو ، عن قتادة ، في قوله( سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا ) قال : ما أقبل عبد إلى الله إلا أقبل الله بقلوب العباد إليه. وزاده من عنده.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا ) : إي والله في قلوب أهل الإيمان. ذُكر لنا أن هرم بن حيان كان يقول : ما أقبل عبد بقلبه إلى الله ، إلا أقبل الله بقلوب المؤمنين إليه ، حتى يرزقه مودّتهم ورحمتهم.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، أن عثمان بن عفان كان يقول : ما من الناس عبد يعمل خيرًا ولا يعمل شرًّا ، إلا كساه الله رداء عمله.

(18/262)


حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، عن الثوري ، عن مسلم ، عن مجاهد ، عن ابن عباس ، في قوله( سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا ) قال : محبة. وذُكر أن هذه الآية نزلت في عبد الرحمن بن عوف.
حدثني محمد بن عبد الله بن سعيد الواسطي ، قال : أخبرنا يعقوب بن محمد ، قال : ثنا عبد العزيز بن عمران ، عن عبد الله بن عثمان بن أبي سليمان بن جبير بن مطعم ، عن أبيه ، عن أمه أمّ إبراهيم ابنة أبي عبيدة بن عبد الرحمن بن عوف ، عن أبيها ، عن عبد الرحمن بن عوف ، أنه لما هاجر إلى المدينة ، وجد في نفسه على فراق أصحابه بمكة ، منهم شيبة بن ربيعة ، وعتبة بن ربيعة ، وأميه بن خلف ، فأنزل الله تعالى : ( إن الذي آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن ودا ).
وقوله( فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ ) يقول تعالى ذكره : فإنما يسَّرنا يا محمد هذا القرآن بلسانك ، تقرؤه لتبشر به المتقين الذين اتقوا عقاب الله ، بأداء فرائضه ، واجتناب معاصيه بالجنة( وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا ) يقول : ولتنذر بهذا القرآن عذاب الله قومك من قريش ، فإنهم أهل لدد وجدل بالباطل ، لا يقبلون الحق. واللدّ : شدة الخصومة.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله(لُدًا) قال : لا يستقيمون.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله.
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله( وتنذر له قوما لدا ) يقول : لتنذر به قومًا ظَلَمة.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا ) : أي جدالا بالباطل ، ذوي لدة وخصومة.

(18/263)


وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا (98)

حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثنا محمد بن فضيل ، عن ليث ، عن مجاهد ، في قوله : ( وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا ) قال : فجارا.
حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، في قوله( قَوْمًا لُدًّا ) قال : جدالا بالباطل.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله( وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا ) قال : الألدّ : الظلوم ، وقرأ قول الله( وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ ) .
حدثنا أبو صالح الضراري (1) . قال : ثنا العلاء بن عبد الجبار ، قال : ثنا مهدي ميمون ، عن الحسن في قول الله عزّ وجلّ( وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا ) قال : صما عن الحقّ.
حدثني ابن سنان ، قال : ثنا أبو عاصم ، عن هارون ، عن الحسن ، مثله.
وقد بيَّنا معنى الألدّ فيما مضى بشواهده ، فأغنى ذلك عن إعادته في هذا الموضع.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا (98) }
يقول تعالى ذكره : وكثيرًا أهلكنا يا محمد قبل قومك من مشركي قريش ، من قرن ، يعني من جماعة من الناس ، إذا سلكوا في خلافي وركوب معاصي مسلكهم ، هل تحسّ منهم من أحد : يقول : فهل تحسّ أنت منهم أحدًا يا محمد فتراه وتعاينه( أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا ) يقول :
أو تسمع لهم صوتا ، بل بادوا وهلكوا ، وخلت منهم دورهم ، وأوحشت منهم منازلهم ، وصاروا إلى دار لا ينفعهم فيها إلا صالح من عمل قدّموه ، فكذلك قومك هؤلاء ، صائرون إلى ما صار إليه أولئك ، إن لم يعالجوا التوبة قبل الهلاك.
__________
(1) أبو صالح الضراري ، بالضاد المعجمة ، كما في ( تاج العروس : ضرر ) . في الأصل : بالضاد المهملة ، تحريف .

(18/264)


وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : ثنا عبد الله ، قال : ثنا معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله( أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا ) قال : صوتا.
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، قوله( هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا ) قال : هل ترى عينا ، أو تسمع صوتا.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله( هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا ) يقول : هل تسمع من صوت ، أو ترى من عين .
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ ، يقول : ثنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول ، في قوله( أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا ) يعني : صوتا.
حدثنا أبو كريب ، قال : ثنا ابن عيينة ، عن عمرو ، عن عطاء ، عن ابن عباس ، قال : ركز الناس : أصواتهم. قال أبو كريب : قال سفيان : ( هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا ) قال : أو تسمع لهم حسا. قال : والركز : الحس.
قال أبو جعفر : والركز في كلام العرب : الصوت الخفيّ ، كما قال الشاعر :
فَتَوجَّسَتْ ذِكْرَ الأنِيسِ فَراعَها... عَنْ ظَهْرِ غَيْبٍ والأنِيسُ سَقامُها (1)
آخر تفسير سورة مريم ، والحمد لله رب العالمين
__________
(1) البيت من معلقة لبيد بن ربيع العامري ( جمهرة أشعار العرب ص 63 - 74 وشرح الزوزني للمعلقات السبع ، وشرح التبريزي للقصائد العشر ) . والرواية في الجمهرة : " وتسمعت رجز الأنيس " . قال : والركز الصوت الخفي . قال تعالى : " أو تسمع لهم ركزا " . ويروي رزا بالتشديد . والأنيس : الإنس . عن ظهر غيب : أي مكان خفي . والغيب ما توارى عنك من أرض أو علم . وفي التبريزي : وتسمعت رز الأنيس . قال : ويروى : توجست ركز الأنيس . أي سمعت البقرة صوت الناس . فأفزعها . ولم تر الناس . والرز والركز الصوت الخفي . وقوله " عن ظهر غيب " معناه : من وراء حجاب ، أي تسمع من حيث لا ترى . " الأنيس سقامها " : معناه : والأنيس هلاكها ، أي يصيدها وراعها أي أفزعها وفاعل تسمعت ضمير البقرة وفاعل راءها : ضمير للرز ، وفي الزوزني وتوجست رز الأنيس ، ثم شرح البيت بمثل شرح التبريزي له .

(18/265)


طه (1) مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآَنَ لِتَشْقَى (2) إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى (3)

تفسير سورة طه
بسم الله الرحمن الرحيم
القول في تأويل قوله تعالى : { طه (1) مَا أَنزلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى (2) إِلا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى (3) }
قال أبو جعفر محمد بن جرير : اختلف أهل التأويل في تأويل قوله(طَهَ) فقال بعضهم : معناه يا رجل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا أبو تميلة ، عن الحسن بن واقد ، عن يزيد النحوي ، عن عكرمة ، عن ابن عباس : طه : بالنبطية : يا رجل.
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله( طه مَا أَنزلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى ) فإن قومه قالوا : لقد شقي هذا الرجل بربه ، فأنزل الله تعالى ذكره(طَهَ) يعني : يا رجل( مَا أَنزلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى ).
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : أخبرني عبد الله بن مسلم ، أو يعلى بن مسلم ، عن سعيد بن جبير أنه قال : طه : يا رجل بالسريانية.
قال ابن جريج : وأخبرني زمعة بن صالح ، عن سلمة بن وهرام ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، بذلك أيضا. قال ابن جُرَيج ، وقال مجاهد ، ذلك أيضا.
حدثنا عمران بن موسى القزاز ، قال : ثنا عبد الوارث بن سعيد ، قال : ثنا عمارة عن عكرمة ، في قوله(طَهَ) قال : يا رجل ، كلمه بالنبطية.
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا يحيى بن واضح ، قال : ثنا عبد الله ، عن عكرمة ، في قوله(طَهَ) قال : بالنبطية : يا إنسان.
حدثنا محمد بن بشار ، قال : ثنا أبو عاصم ، عن قرة بن خالد ، عن الضحاك ، في قوله(طَهَ) قال : يا رجل بالنبطية.
حدثنا محمد بن بشار ، قال : ثنا عبد الرحمن ، قال : ثنا سفيان ، عن

(18/266)


حُصين ، عن عكرمة في قوله(طَهَ) قال : يا رجل.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله(طَهَ) قال : يا رجل ، وهي بالسريانية.
حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة والحسن في قوله(طَهَ) قالا يا رجل.
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ ، يقول : أخبرنا عبيد ، يعني ابن سليمان ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله(طَهَ) قال : يا رجل.
وقال آخرون : هو اسم من أسماء الله ، وقسم أقسم الله به.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا عليّ ، قال : ثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، في قوله(طَهَ) قال : فإنه قسم أقسم الله به ، وهو اسم من أسماء الله.
وقال آخرون : هو حروف هجاء.
وقال آخرون : هو حروف مقطعة يدلّ كلّ حرف منها على معنى ، واختلفوا في ذلك اختلافهم في الم.
وقد ذكرنا ذلك في مواضعه ، وبيَّنا ذلك بشواهده.
والذي هو أولى بالصواب عندي من الأقوال فيه قول من قال : معناه : يا رجل ، لأنها كلمة معروفة في عكَّ فيما بلغني ، وأن معناها فيهم : يا رجل ، أنشدت لمتمم بن نويرة :
هَتَفْتُ بِطَهَ فِي القِتالِ فَلَمْ يُجِبْ... فَخِفْتُ عَلَيْهِ أنْ يَكونَ مُوَائِلا (1)
وقال آخر :
__________
(1) البيت لمتمم بن نويرة كما قال المؤلف . وفيه ( اللسان : طهطه ) : الليث في تفسير ( طه ) مجزومة أنها بالحبشية : يا رجل ، قال : ومن قرأ ( طه ) فحرفان . وبلغنا أن موسى لما سمع كلام الرب عز وجل استفزه الخوف ، حتى قام على أصابع قدميه خوفا ، فقال الله عز وجل : ( طه ) أي اطمئن . الفراء : ( طه ) حرف هجاء . قال : وجاء في التفسير ( طه ) يا رجل : يا إنسان . قال : وحدث قيس عن عاصم عن زر ، قال : قرأ رجل على ابن مسعود ( طه فقال له عبد الله : ( طه ) بكسرتين ، فقال الرجل : أليس إنما أمر أن يطأ قدمه ، فقال له عبد الله : هكذا أقرأنيها رسول الله صلى الله عليه وسلم . قال الفراء : وكان بعض القراء يقطعها ( ط . هـ ) وروى الأزهري عن أبي حاتم قال : ( طه ) : افتتاح سورة ، ثم استقبل الكلام فخاطب النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال : مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى . وقال قتادة : ( طه ) بالسريانية : يا رجل . وقال سعيد بن جبير وعكرمة : هي بالنبطية : يا رجل ، وروي ذلك عن ابن عباس . أه . ( اللسان ) .

(18/268)


إنَّ السَّفاهَةَ طَهَ مِنْ خَلائِقكُمْ... لا بارَكَ اللهُ فِي القَوْمِ المَلاعِينِ (1)
فإذا كان ذلك معروفا فيهم على ما ذكرنا ، فالواجب أن يوجه تأويله إلى المعروف فيهم من معناه ، ولا سيما إذا وافق ذلك تأويل أهل العلم من الصحابة والتابعين.
فتأويل الكلام إذن : يا رجل ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى ، ما أنزلناه عليك فنكلفك ما لا طاقة لك به من العمل ، وذُكِر أنه قيل له ذلك بسبب ما كان يلقى من النَّصب والعناء والسهر في قيام الليل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد( مَا أَنزلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى ) قال : هي مثل قوله( فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ ) فكانوا يعلقون الحبال في صدورهم في الصلاة.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد( مَا أَنزلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى ) قال : في الصلاة كقوله : ( فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ ) فكانوا يعلقون الحبال بصدورهم في الصلاة.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( مَا أَنزلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى ) لا والله ما جعله الله شقيا ، ولكن جعله رحمة ونورا ، ودليلا إلى الجنة.
وقوله( إِلا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى ) يقول تعالى ذكره : ما أنزلنا عليك هذا القرآن إلا تذكرة لمن يخشى عقاب الله ، فيتقيه بأداء فرائض ربه واجتناب محارمه.
كما حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله( إِلا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى ) وإن الله أنزل كتبه ، وبعث رسله رحمة رحم الله بها العباد ، ليتذكر ذاكر ، وينتفع رجل بما سمع من كتاب الله ، وهو ذكر له أنزل الله فيه حلاله وحرامه ، فقال( تَنزيلا مِمَّنْ خَلَقَ الأرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلا ).
__________
(1) هذا الشاهد كالذي قبله ، على أن معنى ( طه ) في كلام العرب : يا رجل ولم أقف على قائل البيت .

(18/269)


تَنْزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَا (4) الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5)

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله( إِلا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى ) قال : الذي أنزلناه عليك تذكرة لمن يخشى.
فمعنى الكلام إذن : يا رجل ما أنزلنا عليك هذا القرآن لتشقى به ، ما أنزلناه إلا تذكرة لمن يخشى.
وقد اختلف أهل العربية في وجه نصب تذكرة ، فكان بعض نحويي البصرة يقول : قال : إلا تذكرة بدلا من قوله لتشقى ، فجعله : ما أنزلنا عليك القرآن إلا تذكرة ، وكان بعض نحويي الكوفة يقول : نصبت على قوله : ما أنزلناه إلا تذكرة ، وكان بعضهم ينكر قول القائل : نصبت بدلا من قوله(لِتَشْقَى) ويقول : ذلك غير جائز ، لأن(لِتَشْقَى) في الجحد ، و( إِلا تَذْكِرَةً ) في التحقيق ، ولكنه تكرير ، وكان بعضهم يقول : معنى الكلام : ما أنزلنا عليك القرآن إلا تذكرة لمن يخشى ، لا لتشقى.
القول في تأويل قوله تعالى : { تَنزيلا مِمَّنْ خَلَقَ الأرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلا (4) الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5) }
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : هذا القرآن تنزيل من الربّ الذي خلق الأرض والسموات العلى ، والعُلَى : جمع عليا.
واختلف أهل العربية في وجه نصب قوله(تَنزيلا) فقال بعض نحويي البصرة : نصب ذلك بمعنى : نزل الله تنزيلا وقال بعض من أنكر ذلك من قيله هذا من كلامين ، ولكن المعنى : هو تنزيل ، ثم أسقط هو ، واتصل بالكلام الذي قبله ، فخرج منه ، ولم يكن من لفظه.
قال أبو جعفر : والقولان جميعا عندي غير خطأ.
وقوله( الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى ) يقول تعالى ذكره : الرحمن على عرشه ارتفع وعلا.
وقد بيَّنا معنى الاستواء بشواهده فيما مضى وذكرنا اختلاف المختلفين فيه فأغنى ذلك عن إعادته في هذا الموضع. وللرفع في الرحمن وجهان : أحدهما بمعنى قوله : تنزيلا فيكون معنى الكلام : نزله من خلق الأرض والسموات ، نزله

(18/270)


لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى (6) وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى (7) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى (8)

الرحمن الذي على العرش استوى ، والآخر بقوله( عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى ) لأن في قوله استوى ، ذكرا من الرحمن.
القول في تأويل قوله تعالى : { لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى (6) }
يقول تعالى ذكره : لله ما في السموات وما في الأرض وما بينهما ، وما تحت الثرى ، ملكا له ، وهو مدبر ذلك كله ، ومصرّف جميعه. ويعني بالثرى : الندى.
يقال للتراب الرطب المبتلّ : ثرى منقوص ، يقال منه : ثريت الأرض تثرى ، ثرى منقوص ، والثرى : مصدر.
وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله( وَمَا تَحْتَ الثَّرَى ) والثَّرَى : كلّ شيء مبتلّ.
حُدثت عن الحسين بن الفرج ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله( وَمَا تَحْتَ الثَّرَى ) ما حفر من التراب مبتلا وإنما عنى بذلك : وما تحت الأرضين السبع.
كالذي حدثني محمد بن إبراهيم السليمي المعروف بابن صدران (1) . قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا محمد بن رفاعة ، عن محمد بن كعب( وَمَا تَحْتَ الثَّرَى ) قال : الثرى : سبع أرضين.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى (7) اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ لَهُ الأسْمَاءُ الْحُسْنَى (8) }
يقول تعالى ذكره : وإن تجهر يا محمد بالقول ، أو تخف به ، فسواء عند ربك الذي له ما في السموات وما في الأرض( فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ ) يقول : فإنه ل
__________
(1) في الخلاصة للخزرجي : محمد بن إبراهيم بن صدران بضم المهملة الأولى ، الأزدي ، بتحتانية بعد اللام المكسورة .

(18/271)


ا يخفى عليه ما استسررته في نفسك ، فلم تبده بجوارحك ولم تتكلم بلسانك ، ولم تنطق به وأخفى.
ثم اختلف أهل التأويل في المعني بقوله(وأخْفَى) فقال بعضهم : معناه :
وأخفى من السرّ ، قال : والذي هو أحفى من السرّ ما حدّث به المرء نفسه ولم يعمله.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا حكام ، عن عمرو ، عن عطاء ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس( يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى ) قال : السرّ : ما عملته أنت وأخفى : ما قذف الله في قلبك مما لم تعمله.
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثنى أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله( يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى ) يعني بأخفى : ما لم يعمله ، وهو عامله; وأما السرّ : فيعني ما أسرّ في نفسه.
حدثني عليّ ، قال : ثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله( يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى ) قال : السرّ : ما أسرّ ابن آدم في نفسه ، وأخفى : قال : ما أخفى ابن آدم مما هو فاعله قبل أن يعمله ، فالله يعلم ذلك ، فعلمه فيما مضى من ذلك ، وما بقي علم واحد ، وجميع الخلائق عنده في ذلك كنفس واحدة ، وهو قوله : ( مَا خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ ).
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، قال : قال ابن جريج ، قال سعيد بن جُبير ، عن ابن عباس : السرّ : ما أسرّ الإنسان في نفسه; وأخفى : ما لا يعلم الإنسان مما هو كائن.
حدثني زكريا بن يحيى بن أبي زائدة ومحمد بن عمرو ، قالا ثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قول الله( يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى ) قال : أخفى : الوسوسة ، زاد ابن عمرو والحارث في حديثيهما : والسرّ : العمل الذي يسرّون من الناس.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد(وأخْفَى) قال : الوسوسة.

(18/272)


حدثنا هناد ، قال : ثنا أبو الأحوص ، عن سماك ، عن عكرمة ، في قوله( يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى ) قال : أخفى حديث نفسك.
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا الحسين بن الحسن الأشقر ، قال : ثنا أبو كُدَينة ، عن عطاء ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، في قوله( يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى ) قال : السرّ : ما يكون في نفسك اليوم ، وأخفى : ما يكون في غد وبعد غد ، لا يعلمه إلا الله.
وقال آخرون : بل معناه : وأخفى من السرّ ما لم تحدّث به نفسك.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا الفضل بن الصباح ، قال : ثنا ابن فضيل ، عن عطاء ، عن سعيد بن جبير ، في قوله( يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى ) قال : السرّ : ما أسررت في نفسك ، وأخفى من ذلك : ما لم تحدّث به نفسك.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى ) كنا نحدّث أن السرّ ما حدّثت به نفسك ، وأن أخفى من السرّ : ما هو كائن مما لم تحدث به نفسك.
حدثنا محمد بن بشار ، قال : ثنا سليمان بن حرب ، قال : ثنا أبو هلال ، قال : ثنا قتادة ، في قوله( يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى ) قال : يعلم ما أسررت في نفسك ، وأخفى : ما لم يكن هو كائن.
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، في قوله( يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى ) قال : أخفى من السرّ : ما حدّثت به نفسك ، وما لم تحدث به نفسك أيضا مما هو كائن.
حُدثت عن الحسين بن الفرج ، قال : سمعت أبا معاذ ، قال : ثنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله( يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى ) أما السرّ : فما أسررت في نفسك ، وأما أخفى من السرّ : فما لم تعمله وأنت عامله ، يعلم الله ذلك كله.
وقال آخرون : بل معنى ذلك : إنه يعلم سرّ العباد ، وأخفى سرّ نفسه ، فلم يطلع عليه أحدا.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال :

(18/273)


قال ابن زيد ، في قوله( يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى ) قال : يعلم أسرار العباد ، وأخفى سرّه فلا يعلم.
قال أبو جعفر : وكأن الذين وجهَّوا ذلك إلى أن السرّ هو ما حدّث به الإنسان غيره سرّا ، وأن أخفى : معناه : ما حدّث به نفسه ، وجهوا تأويل أخفى إلى الخفيّ. وقال بعضهم : قد توضع أفعل موضع الفاعل ، واستشهدوا لقيلهم ذلك بقول الشاعر :
تَمَنَّى رِجالٌ أنْ أمُوتَ وإنْ أمْتْ... فَتِلْكَ طَرِيقٌ ، لَسْتُ فِيها بأوْحَدِ (1)
والصواب من القول في ذلك ، قول من قال : معناه : يعلم السرّ وأخفى من السرّ ، لأن ذلك هو الظاهر من الكلام; ولو كان معنى ذلك ما تأوّله ابن زيد ، لكان الكلام : وأخفى الله سرّه ، لأن أخفى : فعل واقع متعدّ ، إذ كان بمعنى فعل على ما تأوّله ابن زيد ، وفي انفراد أخفى من مفعوله ، والذي يعمل فيه لو كان بمعنى فعل الدليل الواضح على أنه بمعنى أفعل. وأن تأويل الكلام : فإنه يعلم السرّ وأخفى منه. فإذا كان ذلك تأويله ، فالصواب من القول في معنى أخفى من السرّ أن يقال : هو ما علم الله مما أخفى عن العباد ، ولم يعلموه مما هو كائن ولم يكن ، لأن ما ظهر وكان فغير سرّ ، وأن ما لم يكن وهو غير كائن فلا شيء ، وأن ما لم يكن وهو كائن فهو أخفى من السرّ ، لأن ذلك لا يعلمه إلا الله ، ثم من أعلمه ذلك من عباده.
وأما قوله تعالى ذكره( اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ ) فإنه يعني به : المعبود الذي لا تصلح العبادة إلا له ، يقول : فإياه فاعبدوا أيها الناس دون ما سواه من الآلهة والأوثان( لَهُ الأسْمَاءُ الْحُسْنَى ) يقول جلّ ثناؤه : لمعبودكم أيها الناس الأسماء الحسنى ، فقال : الحسنى ، فوحَّد ، وهو نعت للأسماء ، ولم يقل الأحاسن ، لأن الأسماء تقع عليها هذه ، فيقال : هذه أسماء ، وهذه في لفظة واحدة; ومنه قول الأعشى :
__________
(1) ورد هذا البيت في مقطوعة خمسة أبيات كتب بها الوليد بن عبد الملك لما مرض وقد بلغه عن أخيه سليمان أنه تمنى موته ، لما له من العهد بعده ، فعاتبه الوليد في كتابه وفيه هذه الأبيات ، وأولها : " تمنى رجال . . . إلخ " . ذكرها المسعودي في ( مروج الذهب ، طبعة دار الرجاء 3 : 103 ) والشاهد في قوله بأوحد ، فإنه بمعنى : بواحد .

(18/274)


وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى (9) إِذْ رَأَى نَارًا فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آَنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آَتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى (10)

وَسَوْفَ يُعْقِبُنِيه إنْ ظَفِرْت بِهِ... رَبّ غَفُورٌ وَبِيضٌ ذاتُ أطْهارِ (1)
فوحد ذات ، وهو نعت للبيض لأنه يقع عليها هذه ، كما قال( حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ ) ومنه قوله جلّ ثناؤه( مَآرِبُ أُخْرَى ) فوحد أخرى ، وهي نعت لمآرب ، والمآرب : جمع ، واحدتها : مأربة ، ولم يقل أخر ، لما وصفنا ، ولو قيل : أخر ، لكان صوابا.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى (9) إِذْ رَأَى نَارًا فَقَالَ لأهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى (10) }
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم مسليه عما يلقى من الشدّة من مشركي قومه ، ومعرفه ما إليه بصائر أمره وأمرهم ، وأنه معليه عليهم ، وموهن كيد الكافرين ، ويحثه على الجدّ في أمره ، والصبر على عبادته ، وأن يتذكر فيما ينوبه فيه من أعدائه من مُشركي قومه وغيرهم ، وفيما يزاول من الاجتهاد في طاعته ما ناب أخاه موسى صلوات الله عليه من عدّوه ، ثم من قومه ، ومن بني إسرائيل وما لقي فيه من البلاء والشدة طفلا صغيرا ، ثم يافعا مترعرعا ، ثم رجلا كاملا( وَهَلْ أَتَاكَ ) يا محمد( حَدِيثُ مُوسَى ) ابن عمران( إِذْ رَأَى نَارًا ) ذكر أن ذلك كان في الشتاء ليلا وأن موسى كان أضلّ الطريق; فلما رأى ضوء النار( قَالَ لأهْلِهِ ) ما قال.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا موسى بن هارون ، قال : ثنا عمرو ،
__________
(1) في ( اللسان : عقب ) يقال : أعقبه الله بإحسان وخيرا . والاسم العقبى ، وهو شبه العوض . واستعقب منه خيرا أو شرا : اعتاضه ، فأعقبه خيرا ، أي عوضه وأبدله . والشاهد في البيت أن قائله وصف البيض وهو جمع بيضاء ، بكلمة ( ذات ) وهي واحد ، ولم يطابق بين النعت والمنعوت في العدد . وتأويل ذلك عند المؤلف أنه كلمة البيض وإن كانت جمعا فإنها يشار إليها بكلمة هذه وهذه في الأصل إشارة للواحدة فلما جاز أن يشار بهذه إلى الجمع جاز أن أن ينعت البيض بذات التي هي للواحدة ، وذلك نظير قول القرآن : " له الأسماء الحسنى " ، والأسماء جمع ، والحسنى صفتها وهي واحدة .

(18/275)


قال : ثنا أسباط ، عن السديّ ، عن أبي مالك ، وعن أبي صالح ، عن ابن عباس ، قال : لما قضى موسى الأجل ، سار بأهله فضلّ الطريق. قال عبد الله بن عباس : كان في الشتاء ، ورُفعت لهم نار ، فلما رآها ظنّ أنها نار ، وكانت من نور الله( قَالَ لأهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا ).
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن وهب بن منبه اليماني ، قال : لما قضى موسى الأجل ، خرج ومعه غنم له ، ومعه زند له ، وعصاه في يده يهشّ بها على غنمه نهارا ، فإذا أمسى اقتدح بزنده نارا ، فبات عليها هو وأهله وغنمه ، فإذا أصبح غدا بأهله وبغنمه ، فتوكأ على عصاه ، فلما كانت الليلة التي أراد الله بموسى كرامته ، وابتداءه فيها بنبوّته وكلامه ، أخطأ فيه الطريق حتى لا يدري أين يتوجه ، فأخرج زنده ليقتدح نارا لأهله ليبيتوا عليها حتى يصبح ، ويعلم وجه سبيله ، فأصلد زنده فلا يوري له نارا ، فقدح حتى أعياه ، لاحت (1) النار فرآها ، ( فَقَالَ لأهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى ). وعني بقوله : ( آنَسْتُ نَارًا ) وجدت ، ومن أمثال العرب : بعد اطلاع إيناس ، ويقال أيضا : بعد طلوع إيناس ، وهو مأخوذ من الأنس.
وقوله( لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ ) يقول : لعلي أجيئكم من النار التي آنست بشعلة.
والقَبَس : هو النار في طَرَف العود أو القصبة ، يقول القائل لصاحبه : أقبسني نارا ، فيعطيه إياها في طرف عود أو قصبة ، وإنما أراد موسى بقوله لأهله( لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ ) لعلي آتيكم بذلك لتصطلوا به.
كما حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن وهب بن منبه( لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ ) قال : بقبس تَصْطَلون.
وقوله( أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى ) دلالة تدلّ على الطريق الذي أضللناه ، إما من خبر هاد يهدينا إليه ، وإما من بيان وعلم نتبينه به ونعرفه.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : ثنا عبد الله ، قال : ثنا
__________
(1) المقام يقتضي أن يقول : حتى إذا أعياه ، لاحت . . . إلخ أو : فلاحت ، ثم لاحت .

(18/276)


فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَى (11) إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى (12)

معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله( أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى ) يقول : من يدلّ على الطريق.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قول الله( أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى ) قال : هاديا يهديه الطريق.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد عن قتادة قوله( أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى ) أي هداة يهدونه الطريق.
حدثني أحمد بن المقدام ، قال : ثنا المعتمر ، قال : سمعت أبي يحدّث ، عن قتادة ، عن صاحب له ، عن حديث ابن عباس ، أنه زعم أنها أيلة( أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى ) وقال أبي : وزعم قتادة أنه هدى الطريق.
حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، في قوله( أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى ) قال : من يهديني إلى الطريق.
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن وهب بن منبه( أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى ) قال : هدى عن علم الطريق الذي أضللنا بنعت من خبر.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا سفيان ، عن أبي سعيد ، عن عكرمة ، قال : قال ابن عباس : ( لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى ) قال : كانوا أضلوا عن الطريق ، فقال : لعلي أجد من يدلني على الطريق ، أو آتيكم بقبس لعلكم تصطلون.
القول في تأويل قوله تعالى : { فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَى (11) إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِي الْمُقَدَّسِ طُوًى (12) }
يقول تعالى ذكره : فلما أتى النار موسى ، ناداه ربه( يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ ).

(18/277)


كما حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن وهب بن منبه ، قال : خرج موسى نحوها ، يعني نحو النار ، فإذا هي في شجر من العليق ، وبعض أهل الكتاب يقول في عوسجة ، فلما دنا استأخرت عنه ، فلما رأى استئخارها رجع عنها ، وأوجس في نفسه منها خيفة; فلما أراد الرجعة ، دنت منه ثم كلم من الشجرة ، فلما سمع الصوت استأنس ، وقال الله تبارك وتعالى( يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِي الْمُقَدَّسِ طُوًى ) فخلعها فألفاها.
واختلف أهل العلم في السبب الذي من أجله أمر الله موسى بخلع نعليه ، فقال بعضهم : أمره بذلك ، لأنهما كانتا من جلد حمار ميت ، فكره أن يطأ بهما الوادي المقدس ، وأراد أن يمسه من بركة الوادي.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن بشار ، قال : ثنا عبد الرحمن ، قال : ثنا سفيان ، عن عاصم ، عن أبي قلابة ، عن كعب ، أنه رآهم يخلعون نعالهم( فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِي الْمُقَدَّسِ طُوًى ) فقال : كانت من جلد حمار ميت ، فأراد الله أن يمسه القدس.
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا يحيى بن واضح ، قال : ثنا الحسين ، عن يزيد ، عن عكرمة ، في قوله( فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ ) قال : كانتا من جلد حمار ميت.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعد ، عن قتادة ، قال : حدثنا ، أن نعليه كانتا من جلد حمار ، فخلعهما ثم أتاه.
حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، في قوله( فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ ) قال : كانتا من جلد حمار ، فقيل له اخلعهما.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُريَج. قال : وأخبرني عمر بن عطاء عن عكرمة وأبو سفيان ، عن معمر ، عن جابر الجعفي ، عن عليّ بن أبي طالب( فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ ) قال : كانتا من جلد حمار ، فقيل له اخلعهما. قال : وقال قتادة مثل ذلك.
وقال آخرون : كانتا من جلد بقر ، ولكن الله أراد أن يطأ موسى الأرض بقدميه ، ليصل إليه بركتها.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني

(18/278)


حجاج ، قال : قال ابن جريج ، قال الحسن : كانتا ، يعني نعلي موسى من بقر ، ولكن إنما أراد الله أن يباشر بقدميه بركة الأرض ، وكان قد قدس مرتين. قال ابن جُرَيْج : وقيل لمجاهد : زعموا أن نعليه كانتا من جلد حمار أو ميتة ، قال : لا ولكنه أمر أن يباشر بقدميه بركة الأرض.
حدثني يعقوب ، قال : قال أبو بشر ، يعني ابن علية ، سمعت ابن أبي نجيح ، يقول في قوله : ( فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِي الْمُقَدَّسِ طُوًى ) قال : يقول : أفض بقدميك إلى بركة الوادي.
قال أبو جعفر : وأولى القولين في ذلك بالصواب قول من قال : أمره الله تعالى ذكره بخلع نعليه ليباشر بقدميه بركة الوادي ، إذ كان واديا مقدسا.
وإنما قلنا ذلك أولى التأويلين بالصواب ، لأنه لا دلالة في ظاهر التنزيل على أنه أمر بخلعهما من أجل أنهما من جلد حمار ولا لنجاستهما ، ولا خبر بذلك عمن يلزم بقوله الحجة ، وإن في قوله( إِنَّكَ بِالْوَادِي الْمُقَدَّسِ طُوًى ) بعقبه دليلا واضحا ، على أنه إنما أمره بخلعهما لما ذكرنا.
ولو كان الخبر الذي حدثنا به بشر قال : ثنا خلف بن خليفة عن حميد بن عبد الله بن الحارث ، عن ابن مسعود ، عن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم ، قال : " يَوْمَ كَلَّمَ اللهُ مُوسَى ، كانَتْ عَلَيْهِ جُبَّةُ صُوفٍ وكساءُ صُوفٍ ، و سَرَاوِيلُ صُوفٍ ، وَنَعْلانِ مِنْ جِلْدِ حِمارٍ غيرِ مُذَكّى " صحيحا لم نعده إلى غيره ، ولكن في إسناده نظر يجب التثبت فيه.
واختلفت القراء في قراءة قوله( إِنِّي أَنَا رَبُّكَ ) فقرأ ذلك بعض قرّاء المدينة والبصرة( نُودِيَ يا مُوسَى أنّي ) بفتح الألف من " أني " ، فأنّ على قراءتهم في موضع رفع بقوله : نودي ، فإن معناه : كان عندهم نودي هذا القول ، وقرأه بعض عامة قرّاء المدينة والكوفة بالكسر : نودي يا موسى إني ، على الابتداء ، وأن معنى ذلك قيل : يا موسى إني.
قال أبو جعفر : والكسر أولى القراءتين عندنا بالصواب ، وذلك أن النداء قد حال بينه وبين العمل في أن قوله " يا موسى " ، وحظ قوله " نودي " أن يعمل في أن لو كانت قبل قوله " يا موسى " ، وذلك أن يقال : نودي أن يا موسى إني أنا ربك ،

(18/279)


ولا حظ لها في " إن " التي بعد موسى.
وأما قوله( إِنَّكَ بِالْوَادِي الْمُقَدَّسِ طُوًى ) فإنه يقول : إنك بالوادي المطهر المبارك.
كما حدثني عليّ ، قال : ثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله( إِنَّكَ بِالْوَادِي الْمُقَدَّسِ طُوًى ) يقول : المبارك.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قال مجاهد ، قوله( إِنَّكَ بِالْوَادِي الْمُقَدَّسِ طُوًى ) قال : قُدِّس بُورك مرّتين.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، قوله( إِنَّكَ بِالْوَادِي الْمُقَدَّسِ طُوًى ) قال : بالوادي المبارك.
واختلف أهل التأويل في تأويل قوله(طُوًى) فقال بعضهم : معناه : إنك بالوادي المقدس طويته ، فعلى هذا القول من قولهم طوى مصدر خرج من غير لفظه ، كأنه قال : طويت الوادي المقدس طوى.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : قوله( إِنَّكَ بِالْوَادِي الْمُقَدَّسِ طُوًى ) يعني الأرض المقدسة ، وذلك أنه مرّ بواديها ليلا فطواه ، يقال : طويت وادي كذا وكذا طوى من الليل ، وارتفع إلى أعلى الوادي ، وذلك نبيّ الله موسى صلى الله عليه وسلم.
وقال آخرون : بل معنى ذلك : مرّتين ، وقال : ناداه ربه مرّتين; فعلى قول هؤلاء طوى مصدر أيضا من غير لفظه ، وذلك أن معناه عندهم : نودي يا موسى مرّتين نداءين ، وكان بعضهم ينشد شاهدا لقوله طوى ، أنه بمعنى مرّتين ، قول عديّ بن زيد العبادي :
أعاذِل إنَّ اللَّوْمَ فِي غَيْرِ كُنْهِهِ... عَليَّ طَوَى مِنْ غَيّكِ المُتَرَدّدِ (1)
__________
(1) البيت لعدي بن زيد ( اللسان : طوى ) . قال : وإذا كان طوى وطوى ( بكسر الطاء وضمها ) وهو الشيء المطوي مرتين ، فهو صفة بمنزلة ثني وثني ( بكسر الثاء وضمها ) ، وليس بعلم لشيء وهو مصروف لا غير ، كما قال عدي بن زيد : " أعاذل " إن اللوم . . البيت " ، ورأيت في حاشية نسخة من أمالي ابن بري أن الذي في شعر عدي : على ثنى من فيك ، أراد اللوم المكرر .

(18/280)


وروى ذلك آخرون : " عليّ ثنى " : أي مرّة بعد أخرى ، وقالوا : طوى وثنى بمعنى واحد.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، ( فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِي الْمُقَدَّسِ طُوًى ) كنا نحدّث أنه واد قدّس مرّتين ، وأن اسمه طُوًى.
وقال آخرون : بل معنى ذلك : إنه قدّس طوى مرّتين.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، قال : قال ابن جريج ، قال الحسن : كان قد قدِّس مرّتين.
وقال آخرون : بل طُوى : اسم الوادي.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ بن داود ، قال : ثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله(طُوى) : اسم للوادي.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : طُوى : قال : اسم الوادي.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله( بِالْوَادِي الْمُقَدَّسِ طُوًى ) قال : ذاك الوادي هو طوى ، حيث كان موسى ، وحيث كان إليه من الله ما كان ، قال : وهو نحو الطور.
وقال آخرون : بل هو أمر من الله لموسى أن يطأ الوادي بقدميه.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن منصور الطوسي ، قال : ثنا صالح بن إسحاق ، عن جعفر بن برقان ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، في قول الله تبارك وتعالى( فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِي الْمُقَدَّسِ طُوًى ) قال : طأ الوادي.
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا يحيى ، قال : ثنا الحسن ، عن يزيد ، عن عكرمة ، في قوله(طُوًى) قال : طأ الوادي.
حدثنا محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن

(18/281)


سعيد بن جبير ، في قول الله(طُوًى) قال : طأ الأرض حافيا ، كما تدخل الكعبة حافيا ، يقول : من بركة الوادي.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد(طُوًى) طأ الأرض حافيا.
واختلفت القرّاء في قراءة ذلك ، فقرأه بعض قرّاء المدينة( طُوَى) بضم الطاء وترك التنوين ، كأنهم جعلوه اسم الأرض التي بها الوادي ، كما قال الشاعر :
نَصَرُوا نَبِيَّهُم وَشَدُّوا أزْرَهُ... بحُنْينَ حِينَ تَوَاكُلِ الأبْطالِ (1)
فلم يجرّ حنين ، لأنه جعله اسما للبلدة لا للوادي : ولو كان جعله اسما للوادي لأجراه كما قرأت القرّاء( وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ ) وكما قال الآخر :
ألَسْنا أكْرَمَ الثَّقَلَيْنِ رَحْلا... وأعْظَمَهُمْ بِبَطْنِ حرَاءَ نارَا (2)
فلم يجرّ حراء ، وهو جبل ، لأنه حمله اسما للبلدة ، فكذلك طُوًى " في قراءة من لم يجره حمله اسما للأرض. وقرأ ذلك عامَّة قراء أهل الكوفة : (طُوى) بضم الطاء والتنوين; وقارئو ذلك كذلك مختلفون في معناه على ما قد ذكرت من اختلاف أهل التأويل; فأما من أراد به المصدر من طويت ، فلا مؤنة في تنوينه ، وأما من أراد أن يجعله اسما للوادي ، فإنه إنما ينونه لأنه اسم ذكر لا مؤنث ، وأن لام الفعل منه ياء ، فزاده ذلك خفة فأجراه كما قال الله( وَيَوْمَ حُنَيْنٍ ) إذ كان حنين اسم واد ، والوادي مذكر.
قال أبو جعفر : وأولى القولين عندي بالصواب قراءة من قرأه بضم الطاء والتنوين ، لأنه إن يكن اسما للوادي فحظه التنوين لما ذكر قبل من العلة لمن قال ذلك ، وإن كان مصدرا أو مفسرا ، فكذلك أيضا حكمه التنوين ، وهو عندي اسم الوادي. وإذ كان ذلك كذلك ، فهو في موضع خفض ردًّا على الوادي.
__________
(1) البيت لحسان بن ثابت ( اللسان : حنن ) . والشاهد فيه أن حنين غير مصروف ، لأنه جعله اسما للبلدة ، كما قال المؤلف أو لبقة .
(2) البيت في ( اللسان : حرى ) قال الجوهري : لم يصرف حراء لأنه ذهب به إلى البلدة التي هو بها ، وفي الحديث " كان يتحنث بحراء " مصروفًا ، وهو جبل من جبال مكة ، وفي رواية اللسان : طرا ، في موضع ، رحلا .

(18/282)


وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى (13) إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي (14)

القول في تأويل قوله تعالى : { وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى (13) إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي (14) }
اختلفت القرّاء في قراءة ذلك ، فقرأته عامة القرّاء الذين قرءوا " وأنَّا " بتشديد النون ، و(أنا) بفتح الألف من " أنا " ردّا على : نودي يا موسى ، كأن معنى الكلام عندهم : نودي يا موسى إني أنا ربك ، وأنا اخترتك ، وبهذه القراءة قرأ ذلك عامَّة قرّاء الكوفة. وأما عامة قرّاء المدينة والبصرة وبعض أهل الكوفة فقرءوه : (وأنا اخْتَرْتُكَ) بتخفيف النون على وجه الخبر من الله عن نفسه أنه اختاره.
قال أبو جعفر : والصواب من القول في ذلك عندي أن يقال : إنهما قراءتان قد قرأ بكل واحدة منهما قرّاء أهل العلم بالقرآن ، مع اتفاق معنييهما ، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب الصواب فيه ، وتأويل الكلام : نودي أنَّا اخترناك. فاجتبيناك لرسالتنا إلى من نرسلك إليه( فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى ) يقول : فاستمع لوحينا الذي نوحيه إليك وعه ، واعمل به.
( إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ ) يقول تعالى ذكره : إنني أنا المعبود الذي لا تصلح العبادة إلا له ، لا إلَهَ إلا أنا فلا تعبد غيري ، فإنه لا معبود تجوز أو تصلح له العبادة سواي(فاعْبُدْنِي) يقول : فأخلص العبادة لي دون كلّ ما عبد من دوني(وأقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي).
واختلف أهل التأويل في تأويل ذلك فقال بعضهم : معنى ذلك : أقم الصلاة لي فإنك إذا أقمتها ذكرتني.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله( وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي ) قال : إذا صلى ذكر ربه.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد ، قوله( وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي ) قال : إذا ذكر عَبد ربه.

(18/283)


قال آخرون : بل معنى ذلك : وأقم الصلاة حين تذكرها.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن بشار ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا سفيان ، عن مُغيرة ، عن إبراهيم في قوله( وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي ) قال : يصليها حين يذكرها.
حدثني أحمد بن عبد الرحمن بن وهب ، قال : ثني عمي عبد الله بن وهب ، قال : ثني يونس ومالك بن شهاب ، قال : أخبرني سعيد بن المسيب ، عن أبي هريرة ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " مَنْ نَسِيَ صَلاةً فَلْيُصَلِّها إذَا ذَكَرَها ، قال الله( وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي ) " . وكان الزهري يقرؤها : ( وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي ) بمنزلة فعلى.
قال أبو جعفر : وأولى التأويلين في ذلك بالصواب تأويل من قال : معناه : أقم الصلاة لتذكرني فيها ، لأن ذلك أظهر معنييه ، ولو كان معناه : حين تذكرها ، لكان التنزيل : أقم الصلاة لذكركها. وفي قوله : (لِذِكْرِي) دلالة بينة على صحة ما قال مجاهد في تأويل ذلك ، ولو كانت القراءة التي ذكرناها عن الزهري قراءة مستفيضة في قراءة الأمصار ، كان صحيحا تأويل من تأوّله بمعنى : أقم الصلاة حين تذكرها ، وذلك أن الزهري وجَّه بقراءته( وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي ) بالألف لا بالإضافة ، إلى أقم لذكراها ، لأن الهاء والألف حذفتا ، وهما مرادتان في الكلام ليوفق بينها وبين سائر رءوس الآيات ، إذ كانت بالألف والفتح. ولو قال قائل في قراءة الزهري هذه التي ذكرنا عنه ، إنما قصد الزهري بفتحها تصييره الإضافة ألفا للتوفيق بينه وبين رءوس الآيات قبله وبعده ، لأنه خالف بقراءته ذلك كذلك من قرأه بالإضافة ، وقال : إنما ذلك كقول الشاعر :
أُطَوّفُ ما أُطَوّفُ ثُمَّ آوي... إلى (1) أمَّا وَيُرْوِيني النَّقِيعُ (2)
وهو يريد : إلى أمي ، وكقول العرب : يا أبا وأما ، وهي تريد : يا أبي وأمي ،
__________
(1) في الأصل : إذ ، ولعله تحريف عن " إلى " .
(2) البيت من شواهد الفراء في معاني القرآن ( مصور الجامعة ص 196 ) قال : والعرب تقول : بيتًا وأما ، يريدون : بأبي وأمي ومثله ( يا ويلتا أعجزت ) وإن شئت جعلتها يا إضافة ، وإن شئت يا ندبة . أه . والنقيع والنقيعة : المحض من اللبن يبرد ، قال ابن بري : شاده قول الشاعر : " . . ويكفين النقيع " .

(18/284)


إِنَّ السَّاعَةَ آَتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى (15) فَلَا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى (16)

كان له بذلك مقال.
القول في تأويل قوله تعالى : { إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى (15) فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى (16) }
يقول تعالى ذكره : إن الساعة التي يبعث الله فيها الخلائق من قبورهم لموقف القيامة جائية( أَكَادُ أُخْفِيهَا ) فعلى ضمّ الألف من أخفيها قراءة جميع قرّاء أمصار الإسلام ، بمعنى : أكاد أخفيها من نفسي ، لئلا يطلع عليها أحد ، وبذلك جاء تأويل أكثر أهل العلم.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : ثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله( أَكَادُ أُخْفِيهَا ) يقول : لا أظهر عليها أحدا غيري.
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله( إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا ) قال : لا تأتيكم إلا بغتة.
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا أبو أحمد ، قال : ثنا سفيان ، عن ليث ، عن مجاهد( إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا ) قال : من نفسي.
حدثنا محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قول الله( أَكَادُ أُخْفِيهَا ) قال : من نفسي.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله.
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا جرير ، عن عطاء بن السائب ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس( أَكَادُ أُخْفِيهَا ) قال : من نفسي.
حدثني عبد الأعلى بن واصل ، قال : ثنا محمد بن عبيد الطنافسي ، قال :

(18/285)


ثنا إسماعيل بن أبي خالد ، عن أبي صالح ، في قوله( أَكَادُ أُخْفِيهَا ) قال : يخفيها من نفسه.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله( أَكَادُ أُخْفِيهَا ) وهي في بعض القراءة : أخفيها من نفسي. ولعمري لقد أخفاها الله من الملائكة المقربين ، ومن الأنبياء المرسلين.
حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، قال : في بعض الحروف : ( إنَّ السَّاعَةَ آتِيهٌ أَكَادُ أُخْفِيها مِنْ نَفْسِي).
وقال آخرون : إنما هو : ( أكادُ أَخْفِيها) بفتح الألف من أخفيها بمعنى : أظهرها.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا يحيى بن واضح ، قال : ثنا محمد بن سهل ، قال : سألني رجل في المسجد عن هذا البيت.
دَابَ شَهْرَيْنِ ثُمَّ شَهْرًا دَمِيكًا... بِأرِيكينِ يَخْفِيان غَمِيرًا (1)
فقلت : يظهران ، فقال ورقاء بن إياس وهو خلفي : أقرأنيها سعيد بن جبير( أكادُ أَخْفِيها) بنصب الألف ، وقد رُوي عن سعيد بن جبير وفاق لقول الآخرين الذين قالوا : معناه : أكاد أخفيها من نفسي.
* ذكر الرواية عنه بذلك : حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا عبد الرحمن ، قال : ثنا سفيان ، عن عطاء ، عن سعيد بن جبير ومنصور ، عن مجاهد ، قالا( إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا ) قالا من نفسي.
حدثني عبيد بن إسماعيل الهباري ، قال : ثنا ابن فضيل ، عن عطاء بن السائب ، عن سعيد بن جبير( أَكَادُ أُخْفِيهَا ) قال : من نفسي.
__________
(1) البيت لكعب ( اللسان ، والتاج ، دمك ) قالا : يقال أقمت عنده شهرًا دميكا ، أي شهر تامًّا ، قال كعب : " داب شهرين ثم شهرًا دميكًا " أه . ولم يذكر الشطر الثاني من البيت . وفي ( معجم ما استعجم للبكري ص 144 ) قال أبو عبيدة : أريك في بلاد ذبيان . قال : وهما أريكان : أريك الأسود ، وأريك الأبيض ، والأريك : الجبل الصغير ويخيفان : بفتح الياء يخرجان والغير : له معاني كثيرة ، منها في تاج العروس : الغمير ، كأمير : حب البهمي الساقط من سنبله حين ييبس ، أو نبات أخضر قد غمره اليبس . . إلخ .

(18/286)


قال أبو جعفر : والذي هو أولى بتأويل الآية من القول ، قول من قال : معناه : أكاد أخفيها من نفسي ، لأن تأويل أهل التأويل بذلك جاء ، والذي ذُكر عن سعيد بن جبير من قراءة ذلك بفتح الألف قراءة لا أستجيز القراءة بها لخلافها قراءة الحجة التي لا يجوز خلافها فيما جاءت به نقلا مستفيضا.
فإن قال قائل : ولم وجهت تأويل قوله( أَكَادُ أُخْفِيهَا ) بضم الألف إلى معنى : أكاد أخفيها من نفسي ، دون توجيهه إلى معنى : أكاد أظهرها ، وقد علمت أن للإخفاء في كلام العرب وجهين : أحدهما الإظهار ، والآخر الكتمان ، وأن الإظهار في هذا الموضع أشبه بمعنى الكلام ، إذ كان الإخفاء من نفسه يكاد عند السامعين أن يستحيل معناه ، إذ كان محالا أن يخفي أحد عن نفسه شيئا هو به عالم ، والله تعالى ذكره لا يخفى عليه خافية ؟ قيل : الأمر في ذلك بخلاف ما ظننت ، وإنما وجَّهنا معنى(أُخْفِيها) بضمّ الألف إلى معنى : أسترها من نفسي ، لأن المعروف من معنى الإخفاء في كلام العرب : الستر. يقال : قد أخفيت الشيء : إذا سترته ، وأن الذين وجَّهوا معناه إلى الإظهار ، اعتمدوا على بيت لامرئ القيس ابن عابس الكندي.
حُدثت عن معمر بن المثنى أنه قال : أنشدنيه أبو الخطاب ، عن أهله في بلده :
فإنْ تُدْفِنُوا الدَّاءَ لا نُخْفِهِ... وإنْ تَبْعَثُوا الحَرْبَ لا نَقْعُد (1)
بضمّ النون من لا نخفه ، ومعناه : لا نظهره ، فكان اعتمادهم في توجيه الإخفاء في هذا الموضع إلى الإظهار على ما ذكروا من سماعهم هذا البيت ، على ما وصفت
__________
(1) البيت لامرئ القيس بن عابس الكندي . استشهد به صاحب ( اللسان : خفا ) على أن قوله لا نخفه ، بفتح النون أي لا نظهره . وكذا ترى قوله تعالى : " أكاد أخفيها " أي أظهرها ، حكاه اللحياني ، عن الكسائي ، عن محمد بن سهل ، عن سعيد بن جبير . أه . قال في اللسان : يقال خفيت الشيء : أظهرته واستخرجته ، يقال خفي المطر الفئار : إذا أخرجهن من أنفاقهن ، أي من جحرتهن . قال امرئ القيس يصف فرسا : خفاهن من أنفاقهن كأنما ... خفاهن ودق من عشي مجلب
وخفيت الشيء أخفيه : كتمته ، وهو من الأضداد ، وأخفيت الشيء : سترته وكتمته ، ورواية المؤلف البيت كما في معاني القرآن للفراء . وفي ( اللسان ؛ : خفا ) : " فإن تكتموا السر لا نخفه " .

(18/287)


من ضم النون من نخفه ، وقد أنشدني الثقة عن الفرّاء :
فإنْ تَدْفِنُوا الدَّاءَ لا نَخْفِهِ
بفتح النون من نخفه ، من خفيته أخفيه ، وهو أولى بالصواب لأنه المعروف من كلام العرب.
فإذا كان ذلك كذلك ، وكان الفتح في الألف من أخفيها غير جائز عندنا لما ذكرنا ، ثبت وصحّ الوجه الآخر ، وهو أن معنى ذلك. أكاد استرها من نفسي.
وأما وجه صحة القول في ذلك ، فهو أن الله تعالى ذكره خاطب بالقرآن العرب على ما يعرفونه من كلامهم وجرى به خطابهم بينهم ، فلما كان معروفا في كلامهم أن يقول أحدهم إذا أراد المبالغة في الخبر عن إخفائه شيئا هو له مسرّ : قد كدت أن أخفي هذا الأمر عن نفسي من شدّة استسراري به ، ولو قدرت أخفيه عن نفسي أخفيته ، خاطبهم على حسب ما قد جرى به استعمالهم في ذلك من الكلام بينهم ، وما قد عرفوه في منطقهم وقد قيل في ذلك أقوال غير ما قلنا. وإنما اخترنا هذا القول على غيره من الأقوال لموافقة أقوال أهل العلم من الصحابة والتابعين ، إذ كنا لا نستجيز الخلاف عليهم ، فيما استفاض القول به منهم ، وجاء عنهم مجيئا يقطع العذر ، فأما الذين قالوا في ذلك غير قولنا ممن قال فيه على وجه الانتزاع من كلام العرب ، من غير أن يعزوه إلى إمام من الصحابة أو التابعين ، وعلى وجه يحتمل الكلام من غير وجهه المعروف ، فإنهم اختلفوا في معناه بينهم ، فقال بعضهم : يحتمل معناه : أريد أخفيها ، قال : وذلك معروف في اللغة ، وذُكر أنه حُكي عن العرب أنهم يقولون : أولئك أصحابي الذين أكاد أنزل عليهم ، وقال : معناه : لا أنزل إلا عليهم. قال : وحُكي : أكاد أبرح منزلي : أي ما أبرح منزلي ، واحتجّ ببيت أنشده لبعض الشعراء :
كادَتْ وكِدْتُ وتِلكَ خَيْرُ إرَادَةٍ... لَوْ عادَ مِنْ عَهْد الصَّبابَةِ ما مَضَى (1)
__________
(1) البيت في ( اللسان : كيد ) قال : ويقال : فلان يكيد أمرا ما أدري ما هو ؟ إذا كان يريغه ، ويحتال له ، ويسعى له . وقال : " بلغوا الأمر الذي كادوا " : يريد : طلبوا أو أرادوا ، وأنشد أبو بكر في كاد بمعنى أراد ، للأفوه : فإن تجمع أوتاد وأعمدة ... وساكن بلغوا الأمر الذي كادوا
أراد : الذي أرادوا ، وأنشد : كادت وكدت وتلك خير إرادة ... لو ( كان ) من أمر الصبابة ما مضى
قال : معناه : ما أرادت ، قال : ويحتمله قوله تعالى : لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا لأن الذي عاين من الظلمات آيسه من التأمل ليده ، والإبصار إليها ، والبيت شاهد على أن كاد بمعنى أراد ، استشهد به المؤلف عند قوله تعالى : أَكَادُ أُخْفِيهَا .

(18/288)


وقال : يريد : بكادت : أرادت ، قال : فيكون المعنى : أريد أخفيها لتجزى كلّ نفس بما تسعى. قال : ومما يُشبه ذلك قول زيد الخيل :
سريع إلى الهَيْجاءِ شاكٍ سِلاحُهُ... فَمَا أنْ تَكادُ قِرْنُهُ يَتَنَفَّسُ (1)
وقال : كأنه قال : فما يتنفس قرنه ، وإلا ضعف المعنى; قال : وقال ذو الرُّمَّة :
إذا غَيَّرَ النَّأْيُ المُحِبِّينَ لَمْ يَكَدْ... رَسِيسُ الهَوَى مِنْ حُبّ مَيَّةَ يَبْرَحُ (2)
قال : وليس المعنى : لم يكد يبرح : أي بعد يُسر ، ويبرح بعد عُسر; وإنما
__________
(1) البيت لزيد الخيل كما قال المؤلف . واستشهد به صاحب ( اللسان : كاد ) على أن كاد قد تجيء صلة في الكلام . قال : وتكون كاد صلة للكلام ( زائدة ) ، أجاز ذلك الأخفش وقطرب وأبو حاتم ، واحتج قطرب بقول الشاعر : " سريع . . إلخ " . معناه : ما يتنفس قرنه ، ولكن أبا جعفر الطبري جعله شبيهًا بالشاهد السابق عليه ، وتوجيه قطرب لهذا الشاهد أوضح وأحسن ، وإن التي قبل يكاد : زائدة ، أو نافية مؤكدة لما النافية قبلها .
(2) هذا البيت من حائية ذي الرمة المشهورة ( ديوان طبعة كيمبردج سنة 1919 ص 78 ) قال شارحه : النأي البعد ، رسيس الهوى : مسه ، وما خفي منه ، أو أوله ، ويقال : لم يجد رسيس الحمى ، واستشهد المؤلف بالبيت على أن المعنى فيه : لم يبرح - أو لم يرد يبرح ؛ وعلى هذا يكون الفعل ( يكاد ) زائدًا في الكلام ، وقد جاء في ( اللسان : رسس ) رواية أخرى للبيت ، تؤيد ما ذهب إليه المؤلف ، من أن المعنى على زيادة ( يكاد ) ، وهي : إذا غَيَّرَ النَّأْيُ المُحِبِّينَ لَمْ يَكَدْ ... رَسِيسُ الهَوَى مِنْ حُبّ مَيَّةَ يَبْرَحُ
وهذه الرواية هي التي عدل إليها الشاعر ، حين خطأه ابن شبرمة قاضي البصرة لما سمعه ينشد القصيدة في المربد. ولكن المحققين قالوا إن بديهة ذي الرمة في الرواية الأولى ، كانت أجود من روايته ، ( في الرواية الثانية ) . وقد بين العلامة المحقق رضي الله الديلي الأستراباذي : محمد بن الحسن ، صواب الرواية الأولى ، بأن معنى لم يكد : لم يقرب وأن نفي مقاربة الشيء أبلغ من نفي الشيء فيكون معنى البيت : إذا غير البعاد قلوب المحبين ، فبعاد مية عني لا يذهب بما أحس لها من حب ثابت مقيم ولا يقارب أن يذهب به . ( وانظر شرح الرضي على كافية ابن الحاجب ، طبعة الآستانة 2 : 306 أفعال المقاربة ) . وقد أبطل الرضي زعم من زعم من النحاة أن " نفي كاد إثبات وأن إثباته نفي " وهو كلام نفيس دال على ذكائه ودقة فهمه .

(18/289)


المعنى : لم يبرح ، أو لم يرد يبرح ، وإلا ضعف المعنى; قال : وكذلك قول أبي النجم :
وإنْ أتاكَ نَعِيّ فانْدُبَنَّ أبا... قَدْ كَادَ يَضطْلِعُ الأعْداءَ والخُطَبَا (1)
وقال : يكون المعنى : قد اضطلع الأعداء ، وإلا لم يكن مدحا إذا أراد كاد ولم يرد يفعل.
وقال آخرون : بل معنى ذلك : إن الساعة آتية أكاد ، قال : وانتهى الخبر عند قوله أكاد لأن معناه : أكاد أن آتي بها ، قال : ثم ابتدأ فقال : ولكني أخفيها لتجزى كل نفس بما تسعى ، قال : وذلك نظير قول ابن ضابي :
هَمَمَتُ وَلَمْ أفْعَلْ وكِدْتُ ولَيْتَنِي... تَرَكْتُ على عثمانَ تَبْكِي أقارِبُهُ (2)
فقال : كدت ، ومعناه : كدت أفعل.
وقال آخرون : معنى(أُخفيها) أظهرها ، وقالوا : الإخفاء والإسرار قد توجههما العرب إلى معنى الإظهار ، واستشهد بعضهم لقيله ذلك ببيت الفرزدق :
__________
(1) البيت لأبي النجم كما قال المؤلف ، والشاهد في قوله " كاد يضطلع " فقد ذهب المؤلف أن معناه : قد اضطلع الأعداء وإلا لم يكن مدحا إذا أراد كاد . ولم يرد يفعل ، وعلى التخريج للبيت يكون الفعل ( كاد ) صلة ( زائدة ) ، مثل الشاهدين السابقين عليه عنده . ويضطلع الأعداء : أي يضطلع بهم وبالخطب ، أسقط البا ، فعدى الفعل بنفسه إلى المعمول الذي كان مجرورا بالباء قبل إسقاطها . يقال اضطلع بحمله ، أي قوي عليه ونهض به . وهو من الضلاعة أي القوة . وفي ( اللسان : ضلع ) : واضطلع الحمل أي احتمله أضلاعه . وقال ابن السكيت : يقال : هو مضطلع بحمله ، أي قوي على حمله ، وهو مفتعل مج الضلاعة . والنعي : الناعي الذي يخبر بموت من مات .
(2) البيت لضابئ ابن الحارث البرجمي ، حبسه الخليفة عثمان ، لأنه كان فاحشا ، هجا قوما فأراد عثمان تأديبه ، فلما دعي ليؤدب ، شد سكينا في ساقه ، ليقتل بها عثمان ، فعثر عليه ، ثم ضرب وأعيد إلى السجن حتى مات فيه . والبيت من مقطوعة لأمية له أنشدها أبو العباس المبرد انظر ( رغبة الآمل ، بشرح الكامل للمرصفي 4 : 91 ) . فلا تتبعيني إن هلكت ملامة ... فليس بعار قتل من لا أقاتله
هممت ولم أفعل وكدت وليتني ... تركت على عثمان تبكي حلائله
والشاهد في قوله : كدت ، أي كدت أفعل ما هممت به من قتل عثمان . وهو نظير ما في القرآن ( إن الساعة آتية أكاد ) ذهب قوم إلى أن معناه : أكاد أن آتي بها . ثم ابتدأ فقال : ولكني أخفيها لتجزى كل نفس بما تسعى والبيت لضابئ لا لابنه كما قال المؤلف .

(18/290)


فَلَمَّا رأى الحَجَّاجَ جَرَّدَ سَيْفَهُ... أسَرَّ الحَرُورِيُّ الّذِي كانَ أضْمَرَا (1)
وقال : عنى بقوله : أسرّ : أظهر. قال : وقد يجوز أن يكون معنى قوله( وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ ) وأظهروها ، قال : وذلك أنهم قالوا : ( يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا ). وقال جميع هؤلاء الذين حكينا قولهم جائز أن يكون قول من قال : معنى ذلك : أكاد أخفيها من نفسي ، أن يكون أراد : أخفيها من قبلي ومن عندي ، وكلّ هذه الأقوال التي ذكرنا عمن ذكرنا توجيه منهم للكلام إلى غير وجهه المعروف ، وغير جائز توجيه معاني كلام الله إلى غير الأغلب عليه من وجوهه عند المخاطبين به ، ففي ذلك مع خلافهم تأويل أهل العلم فيه شاهد عدل على خطأ ما ذهبوا إليه فيه.
وقوله( لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى ) يقول تعالى ذكره : إن الساعة آتية لتجزى كلّ نفس : يقول : لتثاب كل نفس امتحنها ربها بالعبادة في الدنيا بما تسعى ، يقول : بما تعمل من خير وشرّ ، وطاعة ومعصية ، وقوله( فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا ) يقول تعالى ذكره : فلا يردّنك يا موسى عن التأهُّب للساعة ، من لا يؤمن بها ، يعني : من لا يقرّ بقيام الساعة ، ولا يصدّق بالبعث بعد الممات ، ولا يرجو ثوابا ، ولا يخاف عقابا. وقوله( وَاتَّبَعَ هَوَاهُ ) يقول : اتبع هوى نفسه ، وخالف أمر الله ونهيه( فَتَرْدَى) يقول : فتهلك إن أنت انصددت عن التأهب للساعة ، وعن الإيمان بها ، وبأن الله باعث الخلق لقيامها من قبورهم بعد فنائهم بصدّ من كفر بها ، وكان بعضهم يزعم أن الهاء والألف من قوله( فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا ) كناية عن ذكر الإيمان ، قال : وإنما قيل عنها وهي كناية
__________
(1) لم أجد هذا البيت في ديوان الفرزدق ، وهو من شواهد أبي عبيدة ( اللسان : سرر ) قال : أسررت الشيء : أخفيته ، وأسررته : أعلنته ، ومن الإظهار قوله تعالى : ( وأسروا الندامة لما رأوا العذاب ) أي أظهروها . وأنشد الفرزدق * فلما رأى الحجاج جرد سيفه *
البيت . قال شمر : لم أجد هذا البيت للفرزدق وما قال غير أبي عبيدة في قوله " وأسروا الندامة " أي أظهروها . قال : ولم أسمع ذلك لغيره . قال الأزهري : وأهل اللغة أنكروا أبي عبيدة أشد الإنكار . وقيل : أسروا الندامة : يعني : الرؤساء من المشركين أسروا الندامة في سفلتهم الذين أضلوهم ، وأسروها : أخفوها وكذلك قال الزجاج ، وهو قول المفسرين . والحروري : الخارجي نسبة إلى حروراء ، وهو أول مجتمعاتهم لما نابذوا أمير المؤمنين عليا ، وأظهروا التحكيم " لا حكم إلا لله " . فسموا المحكمة ، والحرورية ، والخوارج .

(18/291)


وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى (17) قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآَرِبُ أُخْرَى (18)

عن الإيمان كما قيل( إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ ) يذهب إلى الفعلة ، ولم يجر للإيمان ذكر في هذا الموضع ، فيجعل ذلك من ذكره ، وإنما جرى ذكر الساعة ، فهو بأن يكون من ذكرها أولى.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى (17) }
يقول تعالى ذكره : وما هذه التي في يمينك يا موسى ؟ فالباء في قوله(بِيَمِينكَ) من صلة تلك ، والعرب تصل تلك وهذه كما تصل الذي ، ومنه قول يزيد بن مفرع :
عَدسْ ما لِعَبَّادٍ عَلَيْكِ إمارَةٌ... أمِنْتِ وَهَذَا تَحْملِينَ طَلِيقُ (1)
كأنه قال : والذي تحملين طليق.
ولعل قائلا أن يقول : وما وجه استخبار الله موسى عما في يده ؟ ألم يكن عالما بأن الذي في يده عصا ؟ قيل له : إن ذلك على غير الذي ذهبت إليه ، وإنما قال ذلك عزّ ذكره له إذا أراد أن يحوّلها حية تسعى ، وهي خشبة ، فنبهه عليها ، وقرّره بأنها خشبة يتوكأ عليها ، ويهشّ بها على غنمه ، ليعرّفه قُدرته على ما يشاء ، وعظم سلطانه ، ونفاذ أمره فيما أحبّ بتحويله إياها حيَّة تسعى ، إذا أراد ذلك به ليجعل ذلك لموسى آية مع سائر آياته إلى فرعون وقومه.
القول في تأويل قوله تعالى : { قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى (18) }
يقول تعالى ذكره مخبرا عن موسى : قال موسى مجيبا لربه( هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي ) يقول : أضرب بها الشجر اليابس فيسقط ورقها وترعاه غنمي ، يقال منه : هشّ فلان الشجر يهشّ هشا : إذا اختبط ورق أغصانها
__________
(1) البيت لزيد بن مفرغ الحميري ، يخاطب بغلته حين هرب من عبيد الله بن زياد وأخيه عباد ، وكان ابن مفرغ يهجوهما إذا تأخر عليه العطاء ، وله قصة مشهورة . وعدس : زجر للبغل ، أو اسم له . ويروى نجوت في مكان : أمنت ( اللسان : عدس ) . وهذا : اسم إشارة ، وقد وصل بجملة تحملين ، فصار من الأسماء الموصولة في قول بعض النحويين . هذا : مبتدأ وجملة تحملين : صلة ؛ وطليق : خبر المبتدأ . أي والذي تحملينه طليق ، ليس لأحد عليه سلطان .

(18/292)


فسقط ورقها ، كما قال الراجز :
أهُشُّ بالْعصَا على أغْنامِي... مِنْ ناعِمِ الأرَاكِ والبَشامِ (1)
وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، في قوله( وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي ) قال : أخبط بها الشجر.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي ) قال : أخبط.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي ) قال : كان نبيّ الله موسى صلى الله عليه وسلم يهشّ على غنمه ورق الشجر.
حدثني موسى ، قال : ثنا عمرو ، قال : ثنا أسباط ، عن السديّ( وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي ) يقول : أضرب بها الشجر للغنم ، فيقع الورق.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله( هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي ) قال : يتوكأ عليها حين يمشي مع الغنم ، ويهشّ بها ، يحرّك الشجر حتى يسقط الورق الحبَلة وغيرها.
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا يحيى بن واضح ، قال : ثنا الحسن ، عن عكرمة( وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي ) قال : أضرب بها الشجر ، فيسقط من ورقها عليّ.
حدثني عبد الله بن أحمد بن شبويه ، قال : ثنا علي بن الحسن ، قال : ثنا حسين ، قال : سمعت عكرمة يقول( وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي ) قال : أضرب بها الشجر ، فيتساقط الورق على غنمي.
__________
(1) في ( اللسان : هش ) : الهش أن تنثر ورق الشجر بعصا . هش الغصن يهشه هشا خطبه فألقى ورقه لغنمه ، ومنه قوله عز وجل : وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي قال الفراء : أي أضرب بها الشجر اليابس ، ليسقط ورقها ، فترعاه غنمه . والأراك والبشام : نوعان من الشجر ترتعيهما الماشية ، وفي أغصانها لين وقد تأكلها الماشية إذا كانت خضراء .

(18/293)


حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا مُعاذ يقول : ثنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله( وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي ) يقول : أضرب بها الشجر حتى يسقط منه ما تأكل غنمي.
وقوله( وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى ) يقول :
ولي في عصاي هذه حوائج أخرى ، وهي جمع مأربة ، وفيها للعرب لغات ثلاث : مأرُبة بضم الراء ، ومأرَبة بفتحها ، ومأرِبة بكسرها ، وهي مفعلة من قولهم : لا أرب لي في هذا الأمر : أي لا حاجة لي فيه ، وقيل أخرى وهن مآرب جمع ، ولم يقل أخر ، كما قيل : (له الأسماء الحسنى) وقد بيَّنت العلة في توجيه ذلك هنالك.
وبنحو الذي قلنا في معنى المآرب ، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا أحمد بن عبدة الضبي ، قال : ثنا حفص بن جميع ، قال : ثنا سماك بن حرب ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، في قوله : ( وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى ) قال : حوائج أخرى قد علمتها.
حدثني عليّ ، قال : ثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله( وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى ) يقول : حاجة أخرى.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; عن ابن أبي نجيح عن مجاهد( وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى ) قال : حاجات.
حدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح( وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى ) قال : حاجات ومنافع.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُريج ، عن مجاهد( وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى ) قال : حاجات.
حدثني موسى ، قال : ثني عمرو بن حماد ، قال : ثنا أسباط ، عن السديّ( وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى ) يقول : حوائج أخرى أحمل عليها المزود والسقاء.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى ) قال : حوائج أخرى.
حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قَتادة ، في قوله( وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى ) قال : حاجات ومنافع أخرى.

(18/294)


قَالَ أَلْقِهَا يَا مُوسَى (19) فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى (20) قَالَ خُذْهَا وَلَا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الْأُولَى (21)

حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن وهب بن منبه( وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى ) أي منافع أخرى.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله( وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى ) قال : حوائج أخرى سوى ذلك.
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : ثنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله( مَآرِبُ أُخْرَى ) قال : حاجات أخرى.
القول في تأويل قوله تعالى : { قَالَ أَلْقِهَا يَا مُوسَى (19) فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى (20) قَالَ خُذْهَا وَلا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الأولَى (21) }
يقول تعالى ذكره : قال الله لموسى : ألق عصاك التي بيمينك يا موسى ، يقول الله جل جلاله : فألقاها موسى ، فجعلها الله حية تسعى ، وكانت قبل ذلك خشبة يابسة ، وعصا يتوكأ عليها ويهشّ بها على غنمه ، فصارت حية بأمر الله.
كما حدثنا أحمد بن عبدة الضبي ، قال : ثنا حفص بن جميع ، قال : ثنا سماك بن حرب ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : لما قيل لموسى : ألقها يا موسى ، ألقاها( فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى ) ولم تكن قبل ذلك حية ، قال : فمرّت بشجرة فأكلتها ، ومرت بصخرة فابتلعتها ، قال : فجعل موسى يسمع وقع الصخرة في جوفها ، قال : فولى مدبرا ، فنودي أن يا موسى خذها ، فلم يأخذها ، ثم نودي الثانية : أن( خُذْهَا وَلا تَخَفْ ) ، فلم يأخذها ، فقيل له في الثالثة( إِنَّكَ مِنَ الآمِنِينَ ) فأخذها.
حدثني موسى بن هارون ، قال : ثنا عمرو ، قال : ثنا أسباط ، عن السديّ ، قال : قال له ، يعني لموسى ربه( أَلْقِهَا يَا مُوسَى ) يعني( فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى )( فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ ) فنودي( يَا مُوسَى لا تَخَفْ إِنِّي لا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ ).
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن وهب بن منبه ،

(18/295)


وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آَيَةً أُخْرَى (22) لِنُرِيَكَ مِنْ آَيَاتِنَا الْكُبْرَى (23)

( قَالَ أَلْقِهَا يَا مُوسَى فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى ) تهتزّ ، لها أنياب وهيئة كما شاء الله أن تكون ، فرأى أمرا فظيعا ، ( وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ ) فناداه ربه : ( يَا مُوسَى أَقْبِلْ وَلا تَخَفْ )( سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الأولَى ).
وقوله( قَالَ خُذْهَا وَلا تَخَفْ ) يقول تعالى ذكره قال الله لموسى : خذ الحية ، والهاء والألف من ذكر الحية( وَلا تَخَفْ ) يقول : ولا تخف من هذه الحية يقول : ( سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الأولَى) يقول : فإنا سنعيدها لهيئتها الأولى التي كانت عليها قبل أن نصيرها حية ، ونردّها عصا كما كانت.
يقال لكل من كان على أمر فتركه ، وتحوّل عنه ثم راجعه : عاد فلان سيرته الأولى ، وعاد لسيرته الأولى ، وعاد إلى سيرته الأولى.
وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : ثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله(سِيرَتها الأولى) يقول : حالتها الأولى.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، فال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد( سِيرَتَهَا الأولَى ) قال : هيئتها.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد ، مثله.
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن وهب بن منبه( سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الأولَى ) أي سنردّها عصا كما كانت.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الأولَى ) قال : إلى هيئتها الأولى.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرَى (22) لِنُرِيَكَ مِنْ آيَاتِنَا الْكُبْرَى (23) }
يقول تعالى ذكره : واضمم يا موسى يدك ، فضعها تحت عضدك;

(18/296)


والجناحان هما اليدان ، كذلك رُوي الخبر عن أبي هُريرة وكعب الأحبار ، وأما أهل العربية ، فإنهم يقولون : هما الجنبان ، وكان بعضهم يستشهد لقوله ذلك بقول الراجز :
أضُمُّهُ للصَّدْرِ والجَناحِ (1)
وبنحو الذي قلنا في تأويل ذلك ، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله( إِلَى جَنَاحِكَ ) قال : كفه تحت عضده.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد ، مثله.
وقوله( تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ ) ذكر أن موسى عليه السلام كان رجلا آدم ، فأدخل يده في جيبه ، ثم أخرجها بيضاء من غير سوء ، من غير برص ، مثل الثلج ، ثم ردّها ، فخرجت كما كانت على لونه.
حدثنا بذلك ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن وهب بن منبه.
حدثنا إسماعيل بن موسى الفزاري ، قال : ثنا شريك ، عن يزيد بن أبي زياد ، عن مقسم ، عن ابن عباس ، في قوله( تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ ) قال : من غير برص.
حدثنا محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد( مِنْ غَيْرِ سُوءٍ ) قال : من غير برص.
حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، عن معمر ، عن قتادة ، في قوله( بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ ) قال : من غير برص.
__________
(1) في ( اللسان : جنح ) : وجناحا الطائر : يداه . وجناح الإنسان يده . ويدا الإنسان : جناحاه . وقال الزجاج : الجناح : العضد ، ويقال : اليد كلها جناح . أه . وجناحا العسكر جانباه ، وجناحا الوادي : مجريان عن يمينه وشماله . أه . ولم أقف على قائل الرجز .

(18/297)


اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (24) قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي (25) وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي (26) وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي (27) يَفْقَهُوا قَوْلِي (28) وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي (29) هَارُونَ أَخِي (30)

حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد ، مثله.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قَتادة( مِنْ غَيْرِ سُوءٍ ) قال : من غير برص.
حدثنا موسى ، قال : ثنا عمرو ، قال : ثنا أسباط ، عن السديّ( تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ ) قال : من غير برص.
حُدثت عن الحسين بن الفرج ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله( مِنْ غَيْرِ سُوءٍ ) قال : من غير برص.
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا حماد بن مسعدة ، قال : ثنا قرة ، عن الحسن في قول الله( بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ ) قال : أخرجها الله من غير سوء ، من غير برص ، فعلم موسى أنه لقي ربه.
وقوله( آيَةً أُخْرَى ) يقول : وهذه علامة ودلالة أخرى غير الآية التي أريناك قبلها من تحويل العصا حية تسعى على حقيقة ما بعثناك به من الرسالة لمن بعثناك إليه ، ونصب آية على اتصالها بالفعل ، إذ لم يظهر لها ما يرفعها من هذه أو هي ، وقوله( لِنُرِيَكَ مِنْ آيَاتِنَا الْكُبْرَى ) يقول تعالى ذكره : واضمم يدك يا موسى إلى جناحك ، تخرج بيضاء من غير سوء ، كي نريك من أدلتنا الكبرى على عظيم سلطاننا وقُدرتنا. وقال : الكبرى ، فوحَّد ، وقد قال( مِنْ آيَاتِنَا كَمَا قَالَ لَهُ الأسْمَاءُ الْحُسْنَى ) وقد بيَّنا ذلك هنالك. وكان بعض أهل البصرة يقول : إنما قيل الكبرى ، لأنه أريد بها التقديم ، كأن معناها عنده : لنريك الكبرى من آياتنا.
القول في تأويل قوله تعالى : { اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (24) قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي (25) وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي (26) وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي (27) يَفْقَهُوا قَوْلِي (28) وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي (29) هَارُونَ أَخِي (30) }

(18/298)


يقول تعالى ذكره لنبيه موسى صلوات الله عليه : (اذْهَبْ) يا موسى( إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى ). يقول : إنه تجاوز قدره ، وتمرّد على ربه; وقد بيَّنا معنى الطغيان بما مضى بما أغنى عن إعادته ، في هذا الموضع.
وفي الكلام محذوف استغني بفهم السامع بما ذكر منه ، وهو قوله( اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى ) فادعه إلى توحيد الله وطاعته ، وإرسال بني إسرائيل معك( قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي ) يقول : ربّ اشرح لي صدري ، لأعي عنك ما تودعه من وحيك ، وأجترئ به على خطاب فرعون
( وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي ) يقول : وسهل عليّ القيام بما تكلفني من الرسالة ، وتحملني من الطاعة.
وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قول الله : ( رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي ) قال : جرأة لي.
وقوله( وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي ) يقول : وأطلق لساني بالمنطق ، وكانت فيه فيما ذكر عُجمة عن الكلام الذي كان من إلقائه الجمرة إلى فيه يوم همّ فرعون بقتله.
* ذكر الرواية بذلك عمن قاله : حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن سعيد بن جبير ، في قوله : ( عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي ) قال : عجمة لجمرة نار أدخلها في فيه عن أمر امرأة فرعون ، تردّ به عنه عقوبة فرعون ، حين أخذ موسى بلحيته وهو لا يعقل ، فقال : هذا عدو لي ، فقالت له. إنه لا يعقل.
حدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، عن ابن أبي نجيح( وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي ) لجمرة نار أدخلها في فيه عن أمر امرأة فرعون ، تدرأ به عنه عقوبة فرعون ، حين أخذ موسى بلحيته وهو لا يعقل ، فقال : هذا عدوّ لي ، فقالت له : إنه لا يعقل ، هذا قول سعيد بن جبير.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، قوله( وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي ) قال : عجمة الجمرة نار أدخلها في فيه ، عن أمر امرأة فرعون تردّ به عنه عقوبة فرعون حين أخذ بلحيته.

(18/299)


اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي (31) وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي (32) كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا (33) وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا (34) إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيرًا (35)

حدثنا موسى ، قال : ثنا عمرو ، قال : ثنا أسباط ، عن السديّ ، قال : لما تحرّك الغلام ، يعني موسى ، أورته أمه آسية صبيا ، فبينما هي ترقصه وتلعب به ، إذ ناولته فرعون ، وقالت : خذه ، فلما أخذه إليه أخذ موسى بلحيته فنتفها ، فقال فرعون : عليّ بالذباحين ، قالت آسية : ( لا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا ) إنما هو صبيّ لا يعقل ، وإنما صنع هذا من صباه ، وقد علمت أنه ليس في أهل مصر أحلى منى أنا أضع له حليا من الياقوت ، وأضع له جمرا ، فإن أخذ الياقوت فهو يعقل فاذبحه ، وإن أخذ الجمر فإنه هو صبيّ ، فأخرجت له ياقوتها ووضعت له طستا من جمر ، فجاء جبرائيل صلى الله عليه وسلم ، فطرح في يده جمرة ، فطرحها موسى في فيه ، فأحرقت لسانه ، فهو الذي يقول الله عز وجل( وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي يَفْقَهُوا قَوْلِي ) ، فزالت (1) عن موسى من أجل ذلك.
وقوله( يَفْقَهُوا قَوْلِي ) يقول : يفقهوا عني ما أخاطبهم وأراجعهم به من الكلام( وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي ) يقول : واجعل لي عونا من أهل بيتي( هَارُونَ أَخِي ).
وفي نصب هارون وجهان : أحدهما أن يكون هارون منصوبا على الترجمة عن الوزير (2) .
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قال ابن عباس : كان هارون أكبر من موسى.
القول في تأويل قوله تعالى : { اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي (31) وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي (32) كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا (33) وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا (34) إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيرًا (35) }
__________
(1) في النسخة رقم 100 دار الكتب المصرية : فتراللت ، ولعله : فزالت ، أي العقدة .
(2) لم يبين المؤلف الوجه الثاني في نصب هارون ، وقد بينه الشوكاني في تفسيره " فتح القدير " طبعة الحلبي . 3 : 351 قال : وانتصاب " وزيرا " و " هارون " : على أنهما مفعولا أجعل . وقيل مفعولاه : " لي وزيرا " ، ويكون هارون عطف بيان للوزير . أه . قلت : وعني المؤلف بالترجمة : البدل . وهو أخو عطف البيان .

(18/300)


قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى (36) وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى (37)

يقول تعالى ذكره مخبرا عن موسى أنه سأل ربه أن يشدد أزره بأخيه هارون. وإنما يعني بقوله( اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي ) قوْ ظهري ، وأعني به ، يقال منه : قد أزر فلان فلانا : إذا أعانه وشدّ ظهره.
وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله( اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي ) يقول : أشدد به ظهري.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله( اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي ) يقول : اشدد به أمري ، وقوّني به ، فإن لي به قوّة.
وقوله( وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي ) يقول : واجعله نبيا مثل ما جعلتني نبيا ، وأرسله معي إلى فرعون
(كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا) يقول : كي نعظمك بالتسبيح لك كثيرا(وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا) فنحمدك(إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيرًا) يقول : إنك كنت ذا بصر بنا لا يخفى عليك من أفعالنا شيء .
وذُكر عن عبد الله بن أبي إسحاق أنه كان يقرأ : (أشْدُد بِهِ أزْرِي) بفتح الألف من أشدد(وأُشْرِكْهُ فِي أَمْرِي ) بضم الألف من أشركه ، بمعنى الخبر من موسى عن نفسه ، أنه يفعل ذلك ، لا على وجه الدعاء ، وإذا قرئ ذلك كذلك جزم أشدد وأشرك على الجزاء ، أو جواب الدعاء ، وذلك قراءة لا أرى القراءة بها ، وإن كان لها وجه مفهوم ، لخلافها قراءة الحجة التي لا يجوز خلافها.
القول في تأويل قوله تعالى : { قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى (36) وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى (37) }

(18/301)


إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى (38)

القول في تأويل قوله تعالى : { إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى (38) }
يقول تعالى ذكره : قال الله لموسى صلى الله عليه وسلم : قد أعطيت ما سألت يا موسى ربك من شرحه صدرك وتيسيره لك أمرك ، وحلّ عقدة لسانك ، وتصيير أخيك هارون وزيرا لك ، وشدّ أزرك به ، وإشراكه في الرسالة

(18/301)


أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي (39) إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَنْ يَكْفُلُهُ فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَقَتَلْتَ نَفْسًا فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى (40)

معك( وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى ) يقول تعالى ذكره : ولقد تطولنا عليك يا موسى قبل هذه المرة مرّة أخرى ، وذلك حين أوحينا إلى أمك ، إذ ولدتك في العام الذي كان فرعون يقتل كل مولود ذكر من قومك ما أوحينا إليها; ثم فسَّر تعالى ذكره ما أوحى إلى أمه ، فقال : هو أن اقذفيه في التابوت ، فأن في موضع نصب ردًّا على " ما " التي في قوله(ما يُوحَى) ، وترجمة عنها.
القول في تأويل قوله تعالى : { أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي (39) }
يقول تعالى ذكره : ولقد مننا عليك يا موسى مرّة أخرى حين أوحينا إلى أمك ، أن اقذفي ابنك موسى حين ولدتك في التابوت( فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ ) يعني باليم : النيل(فليلقه اليم بالساحل) يقول : فاقذفيه في اليم ، يلقه اليم بالساحل ، وهو جزاء أخرج مخرج الأمر ، كأن اليم هو المأمور ، كما قال جلّ ثناؤه : ( اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ ) يعني : اتبعوا سبيلنا نحمل عنكم خطاياكم ، ففعلت ذلك أمه به فألقاه اليم بمَشرّعة آل فرعون.
كما حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، قال : لما ولدت موسى أمه أرضعته ، حتى إذا أمر فرعون بقتل الولدان من سنته تلك عمدت إليه ، فصنعت به ما أمرها الله تعالى ، جعلته في تابوت صغير ، ومهدت له فيه ، ثم عمدت إلى النيل فقذفته فيه ، وأصبح فرعون في مجلس له كان يجلسه على شفير النيل كلّ غداة ، فبينا هو جالس ، إذ مرّ النيل بالتابوت فقذف به وآسية ابنة مُزَاحم امرأته جالسة إلى جنبه ، فقال : إن هذا لشيء في البحر ، فأتوني به ، فخرج إليه أعوانه حتى جاءوا به ، ففتح التابوت فإذا فيه صبيّ في مهده ، فألقى الله عليه محبته ، وعطف عليه نفسه. وعنى جلّ ثناؤه بقوله(يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ) فرعون هو العدوّ ، كان لله ولموسى.

(18/302)


حدثنا موسى ، قال : ثنا عمرو ، قال : ثنا أسباط ، عن السديّ ، في قوله( فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ ) وهو البحر ، وهو النيل.
واختلف أهل التأويل في معنى المحبة التي قال الله جلّ ثناؤه( وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي ) فقال بعضهم : عنى بذلك أنه حببه إلى عباده.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني الحسين بن عليّ الصدائي والعباس بن محمد الدوري ، قالا ثنا حسين الجعفي عن موسى بن قبس الحضرمي ، عن سلمة بن كهيل ، في قول الله( وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي ) قال عباس : حببتك إلى عبادي ، وقال الصُّدَاني : حببتك إلى خلقي.
وقال آخرون : بل معنى ذلك : أي حسنت خلقك.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني إبراهيم بن مهدي ، عن رجل ، عن الحكم بن أبان ، عن عكرمة ، قوله( وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي ) قال : حسنا وملاحة.
قال أبو جعفر : والذي هو أولى بالصواب من القول في ذلك أن يقال : إن الله ألقى محبته على موسى ، كما قال جلّ ثناؤه( وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي ) فحببه إلى آسية امرأة فرعون ، حتى تبنَّته وغذّته وربَّته ، و إلى فرعون ، حتى كفّ عنه عاديته وشرّه ، وقد قيل : إنما قيل : وألقيت عليك محبة مني ، لأنه حببه إلى كل من رآه. ومعنى( وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي ) حببتك إليهم ، يقول الرجل لآخر إذا أحبه : ألقيت عليك رحمتي : أي محبتي.
" 39 "
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي (39) إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَنْ يَكْفُلُهُ فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلا تَحْزَنَ وَقَتَلْتَ نَفْسًا فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى (40) }
اختلف أهل التأويل في تأويل قوله( وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي ) فقال بعضهم :

(18/303)


معناه : ولتغذى وتربى على محبتي وإرادتي.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : هو غذاؤه ، ولتغذى على عيني.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله( وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي ) قال : جعله في بيت الملك ينعم ويترف غذاؤه عندهم غذاء الملك ، فتلك الصنعة.
وقال آخرون : بل معنى ذلك : وأنت بعيني في أحوالك كلها.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج( وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي ) قال : أنت بعيني إذ جعلتك أمك في التابوت ، ثم في البحر ، و( إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ ). وقرأ ابن نهيك( وَلِتَصْنَعَ) بفتح التاء.
وتأوّله كما حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا يحيى بن واضح ، قال : ثنا عبد المؤمن ، قال : سمعت أبا نهيك يقرأ( وَلِتَصْنَعَ عَلَى عَيْنِي) فسألته عن ذلك ، فقال : ولتعمل على عيني.
قال أبو جعفر : والقراءة التي لا أستجيز القراءة بغيرها(وَلِتُصْنَعَ) بضم التاء ، لإجماع الحجة من القرّاء عليها.
وإذا كان ذلك كذلك ، فأولى التأويلين به ، التأويل الذي تأوله قَتادَة ، وهو( وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي ) ولتغذى على عيني ، ألقيت عليك المحبة مني ، وعني بقوله(عَلى عَيْنِي) بمرأى مني ومحبة وإرادة.
وقوله( إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَنْ يَكْفُلُهُ ) يقول تعالى ذكره : حين تمشي أختك تتبعك حتى وجدتك ، ثم تأتي من يطلب المراضع لك ، فتقول : هل أدلكم على من يكفله ؟ وحذف من الكلام ما ذكرت بعد قوله( إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ ) استغناء بدلالة الكلام عليه.
وإنما قالت أخت موسى ذلك لهم لِما حدثنا موسى بن هارون ، قال : ثنا عمرو ، قال : ثنا أسباط ، عن السديّ ، قال : لما ألقته أمه في اليم( قَالَتْ لأخْتِهِ قُصِّيهِ ) فلما التقطه آل فرعون ، وأرادوا له المرضعات ، فلم يأخذ من أحد من

(18/304)


النساء ، وجعل النساء يطلبن ذلك لينزلن عند فرعون في الرضاع ، فأبى أن يأخذ ، فقالت أخته : ( هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ ) ؟ فأخذوها وقالوا : بل قد عرفت هذا الغلام ، فدلينا على أهله ، قالت : ما أعرفه ، ولكن إنما قلت هم للملك ناصحون.
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، قال : قالت ، يعني أم موسى لأخته : قصيه فانظري ماذا يفعلون به ، فخرجت في ذلك( فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) وقد احتاج إلى الرضاع والتمس الثدي ، وجمعوا له المراضع حين ألقى الله محبتهم عليه ، فلا يؤتى بامرأة ، فيقبل ثديها ، فيرمضهم ذلك ، فيؤتى بمرضع بعد مرضع ، فلا يقبل شيئا منهم ، فقالت لهم أخته حين رأت من وجدهم به وحرصهم عليه( هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ ) أي لمنزلته عندكم وحرصكم على مسرّة الملك ، وعنى بقوله : ( هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَنْ يَكْفُلُهُ ) هل أدلكم على من يضمه إليه فيحفظه ويرضعه ويربيه ، وقيل : معنى( وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا ) ضمها.
وقوله( فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلا تَحْزَنَ ) يقول تعالى ذكره : فرددناك إلى أمك بعد ما صرت في أيدي آل فرعون ، كيما تقرّ عينها بسلامتك ونجاتك من القتل والغرق في اليم ، وكيلا تحزن عليك من الخوف من فرعون عليك أن يقتلك.
كما حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، قال : لما قالت أخت موسى لهم ما قالت ، قالوا : هات ، فأتت أمه فأخبرتها ، فانطلقت معها حتى أتتهم ، فناولوها إياه ، فلما وضعته في حجرها أخذ ثديها ، وسرّوا بذلك منه ، وردّه الله إلى أمه كي تقرّ عينها ، ولا تحزن ، فبلغ لطف الله لها وله ، أن ردّ عليها ولدها وعطف عليها نفع فرعون وأهل بيته مع الأمنة من القتل الذي يتخوف على غيره ، فكأنهم كانوا من أهل بيت فرعون في الأمان والسعة ، فكان على فرش فرعون وسرره.
وقوله( وَقَتَلْتَ نَفْسًا ) يعني جلّ ثناؤه بذلك : قتله القبطي الذي قتله حين استغاثه عليه الإسرائيلي ، فوكزه موسى. وقوله( فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ ) يقول تعالى ذكره : فنجيناك من غمك بقتلك النفس التي قتلت ، إذ أرادوا أن يقتلوك

(18/305)


بها فخلصناك منهم ، حتى هربت إلى أهل مدين ، فلم يصلوا إلى قتلك وقودك.
وكان قتله إياه فيما ذُكر خطأ ، كما حدثني واصل بن عبد الأعلى ، قال : ثنا محمد بن فضيل ، عن أبيه ، عن سالم ، عن عبد الله بن عمر ، قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " إنَّما قَتَلَ مُوسَى الَّذي قَتَلَ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ خَطَأ ، فقال الله له( وَقَتَلْتَ نَفْسًا فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا ) " .
حدثني زكريا بن يحيى بن أبي زائدة ، ومحمد بن عمرو ، قالا ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد( فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ ) قال : من قتل النفس.
حدثنا بِشْر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ ) النفس التي قتل.
واختلف أهل التأويل في تأويل قوله( وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا ) فقال بعضهم : ابتليناك ابتلاء واختبرناك اختبارا.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : ثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله( وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا ) يقول : اختبرناك اختبارا.
حدثني محمّد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثنى أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، ( وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا ) قال : ابتليت بلاء.
حدثني العباس بن الوليد الآملي ، قال : ثنا يزيد بن هارون ، قال : أخبرنا أصبغ بن زيد الجهني ، قال : أخبرنا القاسم بن أيوب ، قال : ثني سعيد بن جبير ، قال : سألت عبد الله بن عباس ، عن قول الله لموسى( وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا ) فسألته على الفتون ما هي ؟ فقال لي : استأنف النهار يا بن جبير ، فإن لها حديثا طويلا قال : فلما أصبحت غدوت على ابن عباس لأنتجز منه ما وعدني ، قال : فقال ابن عباس : تذاكر فرعون وجلساؤه ما وعد الله إبراهيم أن يجعل في ذرّيته أنبياء وملوكا ، فقال بعضهم : إن بني إسرائيل ينتظرون ذلك وما يشكون ، ولقد كانوا يظنون أنه يوسف بن يعقوب; فلما هلك قالوا : ليس هكذا كان الله وعد إبراهيم ، فقال فرعون : فكيف ترون ؟ قال : فأتمروا بينهم ، وأجمعوا أمرهم على

(18/306)


أن يبعث رجالا معهم الشفار يطوفون في بني إسرائيل ، فلا يجدون مولودًا ذكرًا إلا ذبحوه; فلما رأوا أن الكبار من بني إسرائيل يموتون بآجالهم ، وأن الصغار يذبحون ، قالوا : يوشك أن تفنوا بني إسرائيل ، فتصيرون إلى أن تباشروا من الأعمال والخدمة التي كانوا يكفونكم ، فاقتلوا عاما كلّ مولود ذكر ، فيقل أبناؤهم ، ودعوا عاما لا تقتلوا منهم أحدا ، فتشبّ الصغار مكان من يموت من الكبار ، فإنهم لن يكثروا بمن تستحيون منهم ، فتخافون مكاثرتهم إياكم ، ولن يقلوا بمن تقتلون ، فأجمعوا أمرهم على ذلك.
فحملت أمّ موسى بهارون في العام المقبل الذي لا يذبح فيه الغلمان ، فولدته علانية آمنة ، حتى إذا كان العام المقبل حملت بموسى ، فوقع في قلبها الهمّ والحزن ، وذلك من الفتون يا ابن جبير ، مما دخل عليه في بطن أمه مما يراد به ، فأوحى الله إليها( وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ ) وأمرها إذا ولدته أن تجعله في تابوت ثم تلقيه في اليم ، فلما ولدته فعلت ما أمرت به ، حتى إذا توارى عنها ابنها أتاها إبليس ، فقالت في نفسها : ما صنعت بابني لو ذبح عندي ، فواريته وكفنته كان أحب إلي من أن ألقيه بيدي إلى حيتان البحر ودوابه ، فانطلق به الماء حتى أوفى به عند فرضة مستقى جواري آل فرعون ، فرأينه فأخذنه ، فهممن أن يفتحن الباب ، فقال بعضهن لبعض : إن في هذا مالا وإنا إن فتحناه لم تصدّقنا امرأة فرعون بما وجدنا فيه ، فحملنه كهيئته لم يحرّكن منه شيئا ، حتى دفعنه إليها; فلما فتحته رأت فيه الغلام ، فألقي عليه منها محبة لم يلق مثلها منها على أحد من الناس( وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا ) من كلّ شيء إلا من ذكر موسى ، فلما سمع الذباحون بأمره أقبلوا إلى امرأة فرعون بشفارهم ، يريدون أن يذبحوه ، وذلك من الفتون يا ابن جُبير ، فقالت للذباحين : انصرفوا عني ، فإن هذا الواحد لا يزيد في بني إسرائيل ، فآتي فرعون فأستوهبه إياه ، فإن وهبه لي كنتم قد أحسنتم وأجملتم ، وإن أمر بذبحه لم ألمكم ، فلما أتت به فرعون قالت( قُرَّةُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ ) قال فرعون : يكون لك ، وأما أنا فلا حاجة لي فيه ، فقال : والذي يحلف به لو أقرّ فرعون أن يكون له قرة عين كما أقرت به ، لهداه الله به كما هدى به امرأته ، ولكن الله حرمه ذلك ، فأرسلت إلى من حولها من كلّ أنثى لها لبن ، لتختار له ظئرا ، فجعل كلما أخذته امرأة منهم لترضعه لم يقبل ثديها ، حتى

(18/307)


أشفقت امرأة فرعون أن يمتنع من اللبن فيموت ، فحزنها ذلك ، فأمرت به فأخرج إلى السوق مجمع الناس ترجو أن تصيب له ظئرا يأخذ منها ، فلم يقبل من أحد ، وأصبحت أمّ موسى ، فقالت لأخته : قصيه واطلبيه ، هل تسمعين له ذكرا ، أحي ابني ، أو قد أكلته دواب البحر وحيتانه ؟ ونسيت الذي كان الله وعدها ، فبصرت به أخته عن جنب وهم لا يشعرون ، فقالت من الفرح حين أعياهم الظؤورات : أنا أدلكم على أهل بيت يكفلونه لكم وهم له ناصحون ، فأخذوها وقالوا : وما يدريك ما نصحهم له ، هل يعرفونه حتى شكوا في ذلك ، وذلك من الفتون يا ابن جُبير ، فقالت : نصحهم له وشفقتهم عليه ، رغبتهم في ظؤورة الملك ، ورجاء منفعته ، فتركوها ، فانطلقت إلى أمها فأخبرتها الخبر ، فجاءت ، فلما وضعته في حجرها نزا إلى ثديها حتى امتلأ جنباه ، فانطلق البُشراء إلى امرأة فرعون يبشرونها أن قد وجدنا لابنك ظئرا ، فأرسلت إليها ، فأتيت بها وبه ، فلما رأت ما يصنع بها قالت : امكثي عندي حتى ترضعي ابني هذا فإني لم أحبّ حبه شيئا قطّ ، قال : فقالت : لا أستطيع أن أدع بيتي وولدي ، فيضيع ، فإن طابت نفسك أن تعطينيه ، فأذهب به إلى بيتي فيكون معي لا آلوه خيرا فعلت ، وإلا فإني غير تاركة بيتي وولدي ، وذكرت أمّ موسى ما كان الله وعدها ، فتعاسرت على امرأة فرعون ، وأيقنت أن الله تبارك وتعالى منجز وعده ، فرجعت بابنها إلى بيتها من يومها ، فأنبته الله نباتا حسنا ، وحفظه لما قضى فيه ، فلم يزل بنو إسرائيل وهم مجتمعون في ناحية المدينة يمتنعون به من الظلم والسخرة التي كانت فيهم.
فلما ترعرع قالت امرأة فرعون لأمّ موسى : أزيريني ابني فوعدتها يوما تزيرها إياه فيه ، فقالت لخواصها وظؤورتها وقهارمتها : لا يبقين أحد منكم إلا استقبل ابني بهدية وكرامة ليرى ذلك ، وأنا باعثة أمينة تحصي كل ما يصنع كلّ إنسان منكم ، فلم تزل الهدية والكرامة والتحف تستقبله من حين خرج من بيت أمه إلى أن دخل على امرأة فرعون ، فلما دخل عليها نحلته وأكرمته ، وفرحت به ، وأعجبها ما رأت من حُسن أثرها عليه ، وقالت : انطلقن به إلى فرعون ، فلينحله ، وليكرمه ، فلما دخلوا به عليه جعلته في حجره ، فتناول موسى لحية فرعون حتى مدّها ، فقال عدوّ من أعداء الله : ألا ترى ما وعد الله إبراهيم أنه سيصرعك ويعلوك ، فأرسل إلى الذباحين ليذبحوه وذلك من الفتون يا بن جُبَير ، بعد كلّ بلاء ابتلي به وأريد به ، فجاءت امرأة فرعون تسعى إلى فرعون ، فقالت : ما بدا لك في هذا الصبيّ الذي قد وهبته لي ؟ قال : ألا ترين يزعم أنه سيصرعني ويعلوني ، فقالت : اجعل بيني وبينك أمرا تعرف فيه الحق ، ائت بجمرتين ولؤلؤتين ، فقرّبهنّ إليه ، فإن بطش باللؤلؤتين واجتنب الجمرتين علمت أنه يعقل ، وإن تناول الجمرتين ولم يرد اللؤلؤتين ، فاعلم أن أحدا لا يؤثر الجمرتين على اللؤلؤتين وهو يعقل ، فقرّب ذلك إليه ، فتناول الجمرتين ، فنزعوهما منه مخافة أن تحرقا يده ، فقالت المرأة : ألا ترى ؟ فصرفه الله عنه بعد ما قد همّ به ، وكان الله بالغا فيه أمره.
فلما بلغ أشدّه ، وكان من الرجال ، لم يكن أحد من آل فرعون يخلص إلى أحد من بني إسرائيل معه بظلم ولا سخرة ، حتى امتنعوا كلّ امتناع ، فبينما هو يمشي ذات يوم في ناحية المدينة ، إذ هو برجلين يقتتلان ، أحدهما من بني إسرائيل ، والآخر من آل فرعون ، فاستغاثه الإسرائيلي على الفرعوني ، فغضب موسى واشتدّ غضبه ، لأنه تناوله وهو يعلم منزلة موسى من بني إسرائيل ، وحفظه لهم ، ولا يعلم الناس إلا أنما ذلك من قِبَل الرضاعة غير أمّ موسى ، إلا أن يكون الله أطلع موسى من ذلك على ما لم يطلع عليه غيره; فوكز موسى الفرعوني فقتله ، وليس يراهما أحد إلا الله والإسرائيلي ، فقال موسى حين قتل الرجل : ( هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ) ثُمَّ قَالَ(رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ )( فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفًا يَتَرَقَّبُ ) الأخبار ، فأتى فرعون ، فقيل له : إن بني إسرائيل قد قتلوا رجلا من آل فرعون ، فخُذ لنا بحقنا ولا ترخص لهم في ذلك ، فقال : ابغوني قاتله ومن يشهد عليه ، لأنه لا يستقيم أن يقضي بغير بيِّنة ولا ثبت ، فطلبوا له ذلك; فبينما هم يطوفون لا يجدون ثَبَتا ، إذ مرّ موسى من الغد ، فرأى ذلك الإسرائيلي يقاتل فرعونيا ، فاستغاثه الإسرائيلي على الفرعوني ، فصادف موسى وقد ندم على ما كان منه بالأمس وكره الذي رأى ، فغضب موسى ، فمدّ يده وهو يريد أن يبطش بالفرعوني ، قال للإسرائيلي لما فعل بالأمس واليوم( إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ ) فنظر الإسرائيلي موسى بعد ما قال ، فإذا هو غضبان كغضبه بالأمس الذي قتل فيه

(18/308)


الفرعوني ، فخاف أن يكون بعد ما قال له( إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ ) أن يكون إياه أراد ، ولم يكن أراده ، وإنما أراد الفرعوني ، فخاف الإسرائيلي ، فحاجز الفرعوني فقال( يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالأمْسِ ) وإنما قال ذلك مخافة أن يكون إياه أراد موسى ليقتله ، فتتاركا; فانطلق الفرعوني إلى قومه ، فأخبرهم بما سمع من الإسرائيلي من الخبر حين يقول : أتريد أن تقتلني كما قتلت نفسًا بالأمس ؟ فأرسل فرعون الذباحين ، فسلك موسى الطريق الأعظم ، فطلبوه وهم لا يخافون أن يفوتهم. وجاء رجل من شيعة موسى من أقصى المدينة ، فاختصر طريقًا قريبًا حتى سبقهم إلى موسى ، فأخبره الخبر ، وذلك من الفتون يا بن جُبير.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : (فُتُونًا) قال : بلاء ، إلقاؤه في التابوت ، ثم في البحر ، ثم التقاط آل فرعون إياه ، ثم خروجه خائفا.
قال محمد بن عمرو ، وقال أبو عاصم : خائفا ، أو جائعا " شكّ أبو عاصم " ، وقال الحارث : خائفا يترقب ، ولم يشك.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله وقال : (خائفا يترقب) ، ولم يشك.
حدثنا بِشْر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة قوله( وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا ) يقول : ابتليناك بلاء.
حُدِثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا مُعاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله( وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا ) هو البلاء على إثر البلاء.
وقال آخرون : معنى ذلك : أخلصناك.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد( وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا ) أخلصناك إخلاصا.
حدثنا ابن المثنى ، قال : ثنا محمد بن جعفر ، قال : ثنا شعبة ، عن يعلى بن مسلم ، قال : سمعت سعيد بن جُبير ، يفسِّر هذا الحرف( وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا ) قال : أخلصناك إخلاصا.

(18/310)


قال أبو جعفر : وقد بيَّنا فيما مضى من كتابنا هذا معنى الفتنة ، وأنها الابتلاء والاختبار بالأدلة المُغنية عن الإعادة في هذا الموضع.
وقوله( فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ) وهذا الكلام قد حذف منه بعض ما به تمامه اكتفاء بدلالة ما ذكر عما حذف. ومعنى الكلام : وفتناك فتونا ، فخرجت خائفا إلى أهل مدين ، فلبثت سنين فيهم.
وقوله( ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى ) يقول جلّ ثناؤه : ثم جئت للوقت الذي أردنا إرسالك إلى فرعون رسولا ولمقداره.
وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله( ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى ) يقول : لقد جئت لميقات يا موسى.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن مجاهد ، قال( عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى ) قال : موعد.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد ، قال : علي ذي موعد.
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، في قوله : ( عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى ) قال : قدر الرسالة والنبوّة ، والعرب تقول : جاء فلان على قدر : إذا جاء لميقات الحاجة إليه; ومنه قول الشاعر :
نالَ الخِلافَةَ أوْ كانَتْ لَهُ قَدَرا... كَمَا أَتى رَبَّهُ مُوسَى عَلى قَدَرِ (1)
__________
(1) هذا البيت لجرير ، من قصيدة عدة تسعة وعشرون بيتا في ديوانه ( طبعة الصاوي بالقاهرة 274 - 276 ) والرواية فيه : " نال الخلافة " كرواية المؤلف ، وفي بعض كتب الشواهد : " جاء الخلافة " . وفي هامش الديوان : ويروى : " عز الخلافة " البيت . ومحل الشاهد في البيت ، قوله : " على قدر " فإن معناه : القضاء الموافق . قال في ( اللسان : قدر ) : يقال : قدر الإله كذا تقديرا ؛ وإذا وافق الشيء الشيء قلت : جاء قدره ، وقال ابن سيده : القدر والقدر ( بسكون الدال وتحريكها ) : القضاء والحكم ، وهو ما يقدره الله عز وجل من القضاء ، ويحكم به من الأمور .

(18/311)


وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي (41) اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآَيَاتِي وَلَا تَنِيَا فِي ذِكْرِي (42) اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (43)

القول في تأويل قوله تعالى : { وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي (41) اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي وَلا تَنِيَا فِي ذِكْرِي (42) اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (43) }
يقول تعالى ذكره : ( وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي ) أنعمت عليك يا موسى هذه النعم ، ومننت عليك هذه المنن ، اجتباء مني لك ، واختيارا لرسالتي والبلاغ عني ، والقيام بأمري ونهيي( اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ ) هارون(بآياتي) يقول : بأدلتي وحججي ، اذهبا إلى فرعون بها إنه تمرّد في ضلاله وغيه ، فأبلغاه رسالاتي( وَلا تَنِيَا فِي ذِكْرِي ) يقول : ولا تضعفا في أن تذكراني فيما أمرتكما ونهيتكما ، فإن ذكركما إياي يقوي عزائمكما ، ويثبت أقدامكما ، لأنكما إذا ذكرتماني ، ذكرتما منِّي عليكما نِعَما جمَّة ، ومننا لا تحصى كثرة ، يقال منه : ونى فلان في هذا الأمر ، وعن هذا الأمر : إذا ضعف ، وهو يَنِي ونيا كما قال العجاج :
فَمَا وَنى مُحَمَّدٌ مُذْ أنْ غفر... لَهُ الإلهُ ما مَضَى وَما غَيَرْ (1)
وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : ثنا عبد الله ، قال : ثنا معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله(ولا تَنِيا) يقول : لا تبطئا.
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله( وَلا تَنِيَا فِي ذِكْرِي ) يقول : ولا تضعفا في ذكري.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن
__________
(1) هذان بيتان من مشطور الرجز ( 14 ، 15 ) من أرجوز للعجاج ( ديوانه طبع ليبسج 1903 ص 15) وألوانا ، كما في ( اللسان : وفى ) الفترة في الأعمال والأمور ، وقد وني يني ونيا وونيا ( على فعول ) . أي ضعف . وتوانى في حاجته قصر . وفي حديث عائشة تصف أباها ، رضي الله عنهما : " سبق إذا ونيتم " : أي قصرت وفترتم .

(18/312)


فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى (44) قَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى (45)

مجاهد ، قوله( وَلا تَنِيَا فِي ذِكْرِي ) قال : لا تضعفا.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد(تَنِيا) تضعفا.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قَتَادة ، قوله( وَلا تَنِيَا فِي ذِكْرِي ) يقول : لا تضعفا في ذكري.
حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، في قوله( وَلا تَنِيَا فِي ذِكْرِي ) قال : لا تضعفا.
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا مُعاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله( وَلا تَنِيَا فِي ذِكْرِي ) يقول : لا تضعفا.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله( وَلا تَنِيَا فِي ذِكْرِي ) قال : الواني : هو الغافل المفرط ذلك الواني.
القول في تأويل قوله تعالى : { فَقُولا لَهُ قَوْلا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى (44) قَالا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى (45) }
يقول تعالى ذكره لموسى وهارون : فقولا لفرعون قولا ليِّنا ، ذُكر أن القول اللين الذي أمرهما الله أن يقولاه له ، هو أن يكنياه.
حدثني جعفر ابن ابنة إسحاق بن يوسف الأزرق ، قال : ثنا سعيد بن محمد الثقفي ، قال : ثنا عليّ بن صالح ، عن السديّ : ( فَقُولا لَهُ قَوْلا لَيِّنًا ) قال : كنياه.
وقوله( لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى ) اختلف في معنى قوله(لَعلَّهُ) في هذا الموضع ، فقال بعضهم معناها ها هنا الاستفهام ، كأنهم وجهوا معنى الكلام إلى : فقولا له قولا لينا ، فانظرا هل يتذكر ويراجع أو يخشى الله فيرتدع عن طغيانه.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : ثنا عبد الله ، قال : ثنا معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله( لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى ) يقول : هل يتذكر أو يخشى.
وقال آخرون : معنى لعلّ هاهنا كي. ووجَّهوا معنى الكلام إلى( اذْهَبَا

(18/313)


إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى ) فادعواه وعظاه ليتذكر أو يخشى ، كما يقول القائل : اعمل عملك لعلك تأخذ أجرك ، بمعنى : لتأخذ أجرك ، وافرغ من عملك لعلنا نتغدَّى ، بمعنى : لنتغدى ، أو حتى نتغدى ، ولكلا هذين القولين وجه حسن ، ومذهب صحيح.
وقوله( قَالا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا ) يقول تعالى ذكره : قال موسى وهارون : ربنا إننا نخاف فرعون إن نحن دعوناه إلى ما أمرتنا أن ندعوه إليه ، أن يعجل علينا بالعقوبة ، وهو من قولهم : فرط مني إلى فلان أمر : إذا سبق منه ذلك إليه ، ومنه : فارط القوم ، وهو المتعجل المتقدّم أمامهم إلى الماء أو المنزل كما قال الراجز :
قَدْ فَرَط العِلْجُ عَلَيْنَا وَعَجِلْ (1)
وأما الإفراط : فهو الإسراف والإشطاط والتعدّي ، يقال منه : أفرطت في قولك : إذا أسرف فيه وتعدّى.
وأما التفريط : فإنه التواني ، يقال منه : فرطت في هذا الأمر حتى فات : إذا توانى فيه.
وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد( أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا ) قال : عقوبة منه.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله( إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى ) قال : نخاف أن يعجل علينا إذ نبلغه كلامك أو أمرك ، يفرط ويعجل. وقرأ( لا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى ).
__________
(1) في ( اللسان : فرط ) عليه يفرط : عجل عليه وعدى وأذاه . وقال الفراء في قوله تعالى : ( إننا نخاف أن يفرط علينا ) قال : يعجل إلى عقوبتنا . والعلج : الرجل القوي الضخم . ولم أعرف قائل الرجز .

(18/314)


قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى (46) فَأْتِيَاهُ فَقُولَا إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآَيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى (47) إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (48) قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى (49) قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى (50)

القول في تأويل قوله تعالى : { قَالَ لا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى (46) فَأْتِيَاهُ فَقُولا إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى (47) }
يقول الله تعالى ذكره : قال الله لموسى وهارون(لا تخافا) فرعون( إِنَّنِي مَعَكُمَا ) أعينكما عليه ، وأبصركما(أسمَعُ) ما يجري بينكما وبينه ، فأفهمكما ما تحاورانه به(وأرَى) ما تفعلان ويفعل ، لا يخفى عليّ من ذلك شيء( فَأْتِيَاهُ فَقُولا لَهُ إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ ).
وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج( قَالَ لا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى ) ما يحاوركما ، فأوحي إليكما فتجاوبانه.
وقوله( فَأْتِيَاهُ فَقُولا إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ ) أرسلنا إليك يأمرك أن ترسل معنا بني إسرائيل ، فأرسلهم معنا ولا تعذّبهم بما تكلفهم من الأعمال الرديئة( قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ ) معجزة(مِنْ رَبِّكَ) على أنه أرسلنا إليك بذلك ، إن أنت لم تصدّقنا فيما نقول لك أريناكها ، ( والسلام على من اتبع الهدى ) يقول : والسلامة لمن اتبع هدى الله ، وهو بيانه ، يقال : السلام على من اتبع الهدى ، ولمن اتبع بمعنى واحد.
القول في تأويل قوله تعالى : { إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (48) قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى (49) قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى (50) }
يقول تعالى ذكره لرسوله موسى وهارون : قولا لفرعون إنا قد أوحى إلينا ربك أن عذابه الذي لا نفاد له ، ولا انقطاع على من كذب بما ندعوه إليه من

(18/315)


توحيد الله وطاعته ، وإجابة رسله(وتولى) يقول : وأدبر مُعرضا عما جئناه به من الحقّ.
كما حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله( أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى ) كذب بكتاب الله ، وتولى عن طاعة الله.
وقوله( قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى ) في هذا الكلام متروك ، ترك ذكره استغناء بدلالة ما ذكر عليه عنه ، وهو قوله : (فأتياه) فقالا له ما أمرهما به ربهما وأبلغاه رسالته ، فقال فرعون لهما( فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى ) فخاطب موسى وحده بقوله : يا موسى ، وقد وجه الكلام قبل ذلك إلى موسى وأخيه. وإنما فعل ذلك كذلك ، لأن المجاوبة إنما تكون من الواحد وإن كان الخطاب بالجماعة لا من الجميع ، وذلك نظير قوله( نَسِيَا حُوتَهُمَا ) وكان الذي يحمل الحوت واحد ، وهو فتى موسى ، يدل على ذلك قوله( فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ ) .
وقوله( قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى ) يقول تعالى ذكره : قال موسى له مجيبا : ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ، يعني : نظير خلقه في الصورة والهيئة كالذكور من بني آدم. أعطاهم نظير خلقهم من الإناث أزواجا ، وكالذكور من البهائم ، أعطاها نظير خلقها ، وفي صورتها وهيئتها من الإناث أزواجا ، فلم يعط الإنسان خلاف خلقه ، فيزوجه بالإناث من البهائم ، ولا البهائم بالإناث من الإنس ، ثم هداهم للمأتي الذي منه النسل والنماء كيف يأتيه ، ولسائر منافعه من المطاعم والمشارب ، وغير ذلك.
وقد اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك ، فقال بعضهم : بنحو الذي قلنا فيه.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : ثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله( أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى ) يقول : خلق لكل شيء زوجة ، ثم هداه لمنكحه ومطعمه ومشربه ومسكنه ومولده.
حدثنا موسى ، قال : ثنا عمرو ، قال : ثنا أسباط ، عن السديّ( قَالَ

(18/316)


رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى ) يقول : أعطى كلّ دابة خلقها زوجا ، ثم هدى للنكاح.
وقال آخرون : معنى قوله(ثُمَّ هَدَى) أنه هداهم إلى الألفة والاجتماع والمناكحة.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله( الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى ) يعني : هدى بعضهم إلى بعض ، ألف بين قلوبهم وهداهم للتزويج أن يزوّج بعضهم بعضا.
وقال آخرون : معنى ذلك : أعطى كلّ شيء صورته ، وهي خلقه الذي خلقه به ، ثم هداه لما يصلحه من الاحتيال للغذاء والمعاش.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا أبو كريب وأبو السائب ، قالا ثنا ابن إدريس ، عن ليث ، عن مجاهد ، في قوله( أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى ) قال : أعطى كلّ شيء صورته ثم هدى كلّ شيء إلى معيشته.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قول الله( أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى ) قال : سوّى خلق كلّ دابة ، ثم هداها لما يُصلحها ، فعلَّمها إياه.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، قوله : ( رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى ) قال : سوّى خلق كلّ دابة ثم هداها لما يُصلحها وعلَّمها إياه ، ولم يجعل الناس في خلق البهائم ، ولا خلق البهائم في خلق الناس ، ولكن خلق كل شيء فقدّره تقديرا.
حدثنا محمد بن بشار ، قال : ثنا عبد الرحمن ، قال : ثنا سفيان ، عن حميد عن مجاهد( أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى ) قال : هداه إلى حيلته ومعيشته.
وقال آخرون : بل معنى ذلك : أعطى كلّ شيء ما يُصلحه ، ثم هداه له.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال :

(18/317)


قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى (51)

أخبرنا معمر ، عن قتادة ، قوله( أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ) قال : أعطى كل شيء ما يُصلحه. ثم هداه له.
قال أبو جعفر : وإنما اخترنا القول الذي اخترنا في تأويل ذلك ، لأنه جلّ ثناؤه أخبر أنه أعطى كلّ شيء خلقه ، ولا يعطي المعطي نفسه ، بل إنما يعطي ما هو غيره ، لأن العطية تقتضي المعطي المُعطَى والعطية ، ولا تكون العطيه هي المعْطَى ، وإذا لم تكن هي هو ، وكانت غيره ، وكانت الصورة كلّ خلق بعض أجزائه ، كان معلوما أنه إذا قيل : أعطى الإنسان صورته ، إنما يعني أنه أعطى بعض المعاني التي به مع غيره دعي إنسانا ، فكأن قائله قال : أعطى كلّ خلق نفسه ، وليس ذلك إذا وجه إليه الكلام بالمعروف من معاني العطية ، وإن كان قد يحتمله الكلام. فإذا كان ذلك كذلك ، فالأصوب من معانيه أن يكون موجها إلى أن كلّ شيء أعطاه ربه مثل خلقه ، فزوجه به ، ثم هداه لما بيَّنا ، ثم ترك ذكر مثل ، وقيل( أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ) كما يقال : عبد الله مثل الأسد ، ثم يحذف مثل ، فيقول : عبد الله الأسد.
القول في تأويل قوله تعالى : { قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الأولَى (51) قَالَ عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسَى (52) }

(18/318)


قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى (52)

القول في تأويل قوله تعالى : { قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسَى (52) }
يقول تعالى ذكره : قال فرعون لموسى ، إذ وصف موسى ربه جلّ جلاله بما وصفه به من عظيم السلطان ، وكثرة الإنعام على خلقه والأفضال : فما شأن الأمم الخالية من قبلنا لم تقرّ بما تقول ، ولم تصدّق بما تدعو إليه ، ولم تخلص له العبادة ، ولكنها عبدت الآلهة والأوثان من دونه ، إن كان الأمر على ما تصف من أن الأشياء كلها خلقه ، وأنها في نِعمه تتقلَّب ، وفي منَنه تتصرف ، فأجابه موسى فقال : علم هذه الأمم التي مضت من قبلنا فيما فعلت من ذلك ، عند ربي في كتاب : يعني في أمّ الكتاب ، لا علم لي بأمرها ، وما كان سبب ضلال من ضل منهم فذهب عن دين الله( لا يَضِلُّ رَبِّي ) يقول : لا يخطئ ربي في تدبيره وأفعاله ، فإن كان عذّب تلك القرون في عاجل ، وعجل هلاكها ، فالصواب

(18/318)


الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى (53)

ما فعل ، وإن كان أخر عقابها إلى القيامة ، فالحقّ ما فعل ، هو أعلم بما يفعل ، لا يخطئ ربي(ولا يَنْسَى) فيترك فعل ما فعْله حكمة وصواب.
وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : ثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله( فِي كِتَابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسَى ) يقول : لا يخطئ ربي ولا ينسى.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله( فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الأولَى ) يقول فما أعمى القرون الأولى ، فوكلها نبي الله موكلا فقال( عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي ).... الآية يقول : أي أعمارها وآجالها.
وقال آخرون : معنى قوله( لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسَى ) واحد.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله( لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسَى ) قال : هما شيء واحد.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد ، مثله.
والعرب تقول : ضلّ فلان منزله : إذا أخطأه ، يضله بغير ألف ، وكذلك ذلك في كلّ ما كان من شيء ثابت لا يبرح ، فأخطأه مريده ، فإنها تقول : أضله ، فأما إذا ضاع منه ما يزول بنفسه من دابة وناقة وما أشبه ذلك من الحيوان الذي ينفلت منه فيذهب ، فإنها تقول : أضلّ فلان بعيره أو شاته أو ناقته يُضِله بالألف. وقد بيَّنا معنى النسيان فيما مضى قبل بما أغنى عن إعادته.
القول في تأويل قوله تعالى : { الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأرْضَ مَهْدًا وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلا وَأَنزلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى (53) }

(18/319)


كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى (54)

اختلف أهل التأويل في قراءة قوله(مَهْدًا) فقرأته عامة قرّاء المدينة والبصرة( الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ الأرْضَ مِهادًا) بكسر الميم من المِهاد وإلحاق ألف فيه بعد الهاء ، وكذلك عملهم ذلك في كلّ القرآن وزعم بعض من اختار قراءة ذلك كذلك ، أنه إنما اختاره من أجل أن المِهاد : اسم الموضع ، وأن المهد الفعل ، قال : وهو مثل الفرش والفراش. وقرأ ذلك عامة قرّاء الكوفيين(مَهْدًا) بمعنى : الذي مهد لكم الأرض مهدا.
والصواب من القول في ذلك أن يقال : إنهما قراءتان مستفيضتان في قراءة الأمصار مشهورتان ، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب الصواب فيها.
وقوله( وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلا ) يقول : وأنهج لكم في الأرض طرقا. والهاء في قوله فيها : من ذكر الأرض.
كما حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلا ) : أي طرقا.
وقوله( وَأَنزلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً ) يقول : وأنزل من السماء مطرا( فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى ) وهذا خبر من الله تعالى ذكره عن إنعامه على خلقه بما يحدث لهم من الغيث الذي ينزله من سمائه إلى أرضه ، بعد تناهي خبره عن جواب موسى فرعون عما سأله عنه وثنائه على ربه بما هو أهله ، يقول جلّ ثناؤه : فأخرجنا نحن أيها الناس بما ننزل من السماء من ماء أزواجا ، يعني ألوانا من نبات شتى ، يعني مختلفة الطعوم ، والأراييح والمنظر.
وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : ثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله( مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى ) يقول : مختلف.
القول في تأويل قوله تعالى : { كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لأولِي النُّهَى (54) }
يقول تعالى ذكره : كلوا أيها الناس من طيب ما أخرجنا لكم بالغيث الذي أنزلناه من السماء إلى الأرض من ثمار ذلك وطعامه ، وما هو من أقواتكم

(18/320)


مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى (55) وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آَيَاتِنَا كُلَّهَا فَكَذَّبَ وَأَبَى (56)

وغذائكم ، وارعوا فيما هو أرزاق بهائمكم منه وأقواتها أنعامكم( إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ ) يقول : إن فيما وصفت في هذه الآية من قدرة ربكم ، وعظيم سلطانه لآيات : يعني لدلالات وعلامات تدلّ على وحدانية ربكم ، وأن لا إله لكم غيره( لأولِي النُّهَى ) يعني : أهل الحجى والعقول ، والنهى : جمع نُهية ، كما الكُشَى : جمع كُشْيَة.
قال أبو جعفر : والكشَى : شحمة تكون في جوف الضبِّ ، شبيهة بالسرّة ، وخصّ تعالى ذكره بأن ذلك آيات لأولي النُّهَى ، لأنهم أهل التفكُّر والاعتبار ، وأهل التدبر والاتعاظ.
القول في تأويل قوله تعالى : { مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى (55) }
يقول تعالى ذكره : من الأرض خلقناكم أيها الناس ، فأنشأناكم أجساما ناطقة( وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ ) يقول : وفي الأرض نعيدكم بعد مماتكم ، فنصيركم ترابا ، كما كنتم قبل إنشائنا لكم بشرا سويا( وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ ) يقول : ومن الأرض نخرجكم كما كنتم قبل مماتكم أحياء ، فننشئكم منها ، كما أنشأناكم أول مرة..
وقوله( تَارَةً أُخْرَى ) يقول : مرّة أخرى.
كما حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى ) يقول : مرّة أخرى.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله( تَارَةً أُخْرَى ) قال : مرّة أخرى الخلق الآخر.
قال أبو جعفر : فتأويل الكلام إذن : من الأرض أخرجناكم ولم تكونوا شيئا خلقا سويا ، وسنخرجكم منها بعد مماتكم مرّة أخرى ، كما أخرجناكم منها أوّل مرة.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آيَاتِنَا كُلَّهَا فَكَذَّبَ وَأَبَى (56) }
يقول تعالى ذكره : ولقد أرينا فرعون آياتنا ، يعني أدلتنا وحججنا على

(18/321)


قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَا مُوسَى (57) فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِدًا لَا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلَا أَنْتَ مَكَانًا سُوًى (58)

حقيقة ما أرسلنا به رسولينا ، موسى وهارون إليه كلها( فَكَذَّبَ وَأَبَى ) أن يقبل من موسى وهارون ما جاءا به من عند ربهما من الحق استكبارا وعتوّا.
القول في تأويل قوله تعالى : { قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَا مُوسَى (57) فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِدًا لا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلا أَنْتَ مَكَانًا سُوًى (58) }
يقول تعالى ذكره : قال فرعون لما أريناه آياتنا كلها لرسولنا موسى : أجئتنا يا موسى لتخرجنا من منازلنا ودورنا بسحرك هذا الذي جئتنا به( فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِدًا ) لا نتعدّاه ، لنجيء بسحر مثل الذي جئت به ، فننظر أينا يغلب صاحبه ، لا نخلف ذلك الموعد( نَحْنُ وَلا أَنْتَ مَكَانًا سُوًى ) يقول : بمكان عدل بيننا وبينك ونَصَف.
وقد اختلفت القرّاء في قراءة ذلك ، فقرأته عامة قرّاء الحجاز والبصرة وبعض الكوفيين( مَكانا سِوًى) بكسر السين ، وقرأته عامة قراء الكوفة( مَكَانًا سُوًى ) بضمها.
قال أبو جعفر : والصواب من القول في ذلك عندنا ، أنهما لغتان ، أعني الكسر والضم في السين من " سوى " مشهورتان في العرب ، وقد قرأت بكل واحدة منهما علماء من القرّاء ، مع اتفاق معنييهما ، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب. وللعرب في ذلك إذا كان بمعنى العدل والنصف لغة هي أشهر من الكسر والضم وهو الفتح ، كما قال جلّ ثناؤه( تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ ) وإذا فتح السين منه مدّ ، وإذا كسرت أو ضمت قصر ، كما قال الشاعر :
فإنَّ أبانا كانَ حَلَّ بِبَلْدَةٍ... سُوًى بينَ قَيْسٍ قَيْسَ عَيْلانَ والفِزْرِ (1)
__________
(1) البيت لموسى بن جابر الحنفي ( اللسان : سوى ) قال : قال الأخفش : سوى إذا كان بمعنى غير أو العدل يكون فيه ثلاث لغات : إن ضمت السين أو قصرت فيهما جميعا ، وإن فتحت مددت . تقول : ما كان سوى وسوى وسواء : أي عدل ووسط بين الفريقين ، قال موسى بن جابر : " وجدنا أبانا . . . البيت " . والفزر : أبو قبيلة من تميم ، وهو سعد بن زياد مناة بن تميم .

(18/322)


قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى (59) فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتَى (60)

ونظير ذلك من الأسماء : طُوَى ، وطَوَى ، وثنى وثُنَى ، وعَدَى ، وعُدَى.
وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله( مَكَانًا سُوًى ) قال : منصفا بينهم.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، بنحوه.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قَتادة( مَكَانًا سُوًى ) : أي عادلا بيننا وبينك.
حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، عن معمر ، عن قَتادة ، قوله( مَكَانًا سُوًى ) قال : نصفا بيننا وبينك.
حدثنا موسى ، قال : ثنا عمرو ، قال : ثنا أسباط ، عن السديّ ، في قوله( فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِدًا لا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلا أَنْتَ مَكَانًا سُوًى ) قال : يقول : عدلا.
وكان ابن زيد يقول في ذلك ما حدثني به يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله(مَكانا سُوًى) قال : مكانا مستويا يتبين للناس ما فيه ، لا يكون صوب ولا شيء فيغيب بعض ذلك عن بعض مستو حين يرى.
القول في تأويل قوله تعالى : { قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى (59) فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتَى (60) }
يقول تعالى ذكره : قال موسى لفرعون ، حين سأله أن يجعل بينه وبينه موعدا للاجتماع : (( مَوْعِدُكُمْ ) للاجتماع( يَوْمُ الزِّينَةِ ) يعني يوم عيد كان لهم ، أو سوق كانوا يتزينون فيه( وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ) يقول : وأن يُساق الناس من كلّ فجّ وناحية(ضُحًى) فذلك موعد ما بيني وبينك للاجتماع.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

(18/323)


* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله( قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى ) فإنه يوم زينة يجتمع الناس إليه ويحشر الناس له.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج( قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ ) قال : يوم زينة لهم ، ويوم عيد لهم( وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى ) إلى عيد لهم.
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا يعقوب ، عن جعفر ، عن سعيد( يَوْمُ الزِّينَةِ ) قال : يوم السوق.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد( يَوْمُ الزِّينَةِ ) موعدهم.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد ، مثله.
حدثني موسى ، قال : ثنا عمرو ، قال : ثنا أسباط ، عن السديّ ، قال موسى( مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى ) وذلك يوم عيد لهم.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ ) يوم عيد كان لهم ، وقوله( وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى ) يجتمعون لذلك الميعاد الذي وعدوه.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله( قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ ) قال : يوم العيد ، يوم يتفرغ الناس من الأعمال ، ويشهدون ويحضرون ويرون.
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، عن ابن إسحاق( قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ ) يوم عيد كان فرعون يخرج له( وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى ) حتى يحضروا أمري وأمرك ، وأن من قوله( وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى ) رفع بالعطف على قوله( يَوْمُ الزِّينَةِ ).

(18/324)


قَالَ لَهُمْ مُوسَى وَيْلَكُمْ لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى (61)

وذُكر عن أبي نهيك في ذلك ما حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا يحيى بن واضح ، قال : ثنا عبد المؤمن ، قال : سمعت أبا نهيك يقول : ( وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى ) يعني فرعون يحشر قومه.
وقوله( فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ ) يقول تعالى ذكره : فأدبر فرعون معرضا عما أتاه به من الحقّ( فَجَمَعَ كَيْدَهُ ) يقول : فجمع مكره ، وذلك جمعه سحرته بعد أخذه إياهم بتعلمه( ثُمَّ أَتَى ) يقول : ثم جاء للموعد الذي وعده موسى ، وجاء بسحرته.
القول في تأويل قوله تعالى : { قَالَ لَهُمْ مُوسَى وَيْلَكُمْ لا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى (61) }
يقول تعالى ذكره : قال موسى للسحرة لما جاء بهم فرعون( وَيْلَكُمْ لا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا ) يقول : لا تختلقوا على الله كذبا ، ولا تتقوّلوه( فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ ) فيستأصلكم بهلاك فيبيدكم. وللعرب فيه لغتان : سحت ، وأسحت ، وسحت ، أكثر من أسحت ، يقال منه : سحت الدهر ، وأسحت مال فلان : إذا أهلكه فهو يسحته سحتا ، وأسحته يسحته إسحاتا ، ومن الإسحات قول الفرزدق :
وَعَضُّ زَمان يا بنَ مَرْوَانَ لَمْ يَدَعْ... مِنَ المَالِ إلا مُسْحَتا أوْ مُجلَّف (1)
ويُروى : إلا مسحت أو مجلف.
__________
(1) هذا البيت للفرزدق من نقيضته التي مطلعه * عزفت بأعشاش وما كدت تعزف *
وقبل بيت الشاهد قوله ( انظر ديوانه طبعة الصاوي ص 565 ) : إليك أمير المؤمنين رمت بنا ... هموم المنى والوجل المتعسف
ورواية الشاهد عند المؤلف موافقة لرواية ( اللسان : جلف ) . قال : قال أبو الغوث : المسحت : الملك . والمجلف : الذي بقيت منه بقية ، أو هو الذي أخذ من جوانبه . والمجلف أيضا : الرجل الذي جلفته السنون ، أي أذهبت أمواله . وفيه ( اللسان : سحت ) وقوله عز وجل : ( فيسحتكم بعذاب ) : قرئ : فيسحتكم بعذاب ، ويسحتكم . بفتح الياء والحاء ، ويسحت ( بضم الياء ) أكثر . فسحتكم ( بفتح الياء والحاء ) : يقشركم . ويسحتكم ( بضم الياء ) يستأصلكم ، وأسحت ماله : استأصله وأفسده ، قال الفرزدق : * وعفي زمان ......... أو مجلف *
أما رفع مجلف ، فهو على تقدير مبتدأ ، كأنه قال أو هو مجلف . والبيت شاهد عند الطبري ، على أن معنى قوله تعالى : فيسحتكم : يستأصلكم .

(18/325)


فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى (62) قَالُوا إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى (63)

وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : ثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله( فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ ) يقول : فيهلككم.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قَتادة( فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ ) يقول : يستأصلكم بعذاب.
حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، في قوله( فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ ) قال : فيستأصلكم بعذاب فيهلككم.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله( فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ ) قال : يهلككم هلاكا ليس فيه بقيَّة ، قال : والذي يسحت ليس فيه بقية.
حدثنا موسى قال : ثنا عمرو ، قال : ثنا أسباط ، عن السديّ( فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ ) يقول : يهلككم بعذاب.
واختلفت القرّاء في قراءة ذلك ، فقرأته عامة قرّاء أهل المدينة والبصرة وبعض أهل الكوفة( فَيَسْحَتَكُمْ) بفتح الياء من سحت يَسحت. وقرأته عامة قراء الكوفة(فَيُسْحِتَكُمْ) بضم الياء من أسحت يسحت.
قال أبو جعفر : والقول في ذلك عندنا أنهما قراءتان مشهورتان ، ولغتان معروفتان بمعنى واحد ، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب ، غير أن الفتح فيها أعجب إلي لأنها لغة أهل العالية ، وهي أفصح والأخرى وهي الضم في نجد.
وقوله( وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى ) يقول : لم يظفر من يخلق كذبا ، ويقول بكذبه ذلك بحاجته التي طلبها به ، ورجا إدراكها به.
القول في تأويل قوله تعالى : { فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى (62) قَالُوا إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى (63) }

(18/326)


يقول تعالى ذكره : فتنازع السحرة أمرهم بينهم.
وكان تنازعهم أمرهم بينهم فيما ذكر أن قال بعضهم لبعض ، ما حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله( فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى ) قال السحرة بينهم : إن كان هذا ساحرا فإنا سنغلبه ، وإن كان من السماء فله أمر.
وقال آخرون : بل هو أن بعضهم قال لبعض : ما هذا القول بقول ساحر.
ذكر من قال ذلك : حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، قال : حُدثت عن وهب بن منبه ، قال : جمع كلّ ساحر حباله وعصيه ، وخرج موسى معه أخوه يتكئ على عصاه ، حتى أتى المجمع ، وفرعون في مجلسه ، معه أشراف أهل مملكته ، قد استكف له الناس ، فقال موسى للسحرة حين جاءهم : ( وَيْلَكُمْ لا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى ) فترادّ السحرة بينهم ، وقال بعضهم لبعض : ما هذا بقول ساحر.
وقوله( وَأَسَرُّوا النَّجْوَى ) يقول تعالى ذكره : وأسرّوا السحرة المناجاة بينهم.
ثم اختلف أهل العلم في السرار الذي أسروه ، فقال بعضهم : هو قول بعضهم لبعض : إن كان هذا ساحرا فإنا سنغلبه ، وإن كان من أمر السماء فإنه سيغلبنا.
وقال آخرون : في ذلك ما حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، عن ابن إسحاق قال : حُدثت عن وهب بن منبه ، قال : أشار بعضهم إلى بعض بتناج( إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا ).
حدثني موسى ، قال : ثنا عمرو ، قال : ثنا أسباط ، عن السديّ( فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى ) من دون موسى وهارون ، قالوا في نجواهم( إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى ) قالوا : إن هذان لساحران ، يَعْنُونَ بقولهم : إن هذان موسى وهارون ، لساحران يريدان أن يخرجاكم من أرضكم بسحرهما .
كما حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله( إِنْ هَذَانِ

(18/327)


لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا ) موسى وهارون صلى الله عليهما.
وقد اختلفت القرّاء في قراءة قوله( إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ ) فقرأته عامة قرّاء الأمصار( إنَّ هَذَانِ) بتشديد إن وبالألف في هذان ، وقالوا : قرأنا ذلك كذلك ، وكان بعض أهل العربية من أهل البصرة يقول : " إن " خفيفة في معنى ثقيلة ، وهي لغة لقوم يرفعون بها ، ويدخلون اللام ليفرقوا بينها وبين التي تكون في معنى ما ، وقال بعض نحويي الكوفة : ذلك على وجهين : أحدهما على لغة بني الحارث بن كعب ومن جاورهم ، يجعلون الاثنين في رفعهما ونصبهما وخفضهما بالألف ، وقد أنشدني رجل من الأسد عن بعض بني الحارث بن كعب :
فأطْرَقَ إطْرَاقَ الشُّجاعِ وَلَوْ رَأى... مَساغا لِناباه الشُّجاعُ لصَمما (1)
قال : وحكى عنه أيضا : هذا خط يدا أخي أعرفه ، قال : وذلك وإن كان قليلا أقيس ، لأن العرب قالوا : مسلمون ، فجعلوا الواو تابعة للضمة ، لأنها لا تعرب ، ثم قالوا : رأيت المسلمين ، فجعلوا الياء تابعة لكسرة الميم ، قالوا : فلما رأوا الياء من الاثنين لا يمكنهم كسر ما قبلها ، وثبت مفتوحا ، تركوا الألف تتبعه ،
__________
(1) البيت للمتلمس : جرير بن عبد العزى ، وقيل جرير بن عبد المسيح ، من كلمة له رواها ابن الشجري ( انظر كتاب الأشموني في النحو بشرح الأستاذ محيي الدين عبد الحميد ، طبعة الحلبي 1 : 47 ) . قال : أطرق : سكت فلم يتكلم وأرخى عينيه ينظر إلى الأرض . والشجاع : ضرب من الحيات لطيف دقيق ، وهو أجرؤها . أو هو الحية العظيمة تثب على الفارس والراجل وتقوم على ذنبها ، وربما بلغت رأس الفارس ، وتكون في الصحاري . ومساغا : اسم مكان من ساغ يسوغ : إذا دخل ونفذ . وصمما عضد ونيب . والبيت جار على لغة بني الحارث بن كعب ومن لف لفهم ، والشاهد فيه أن قوله لناباه مثنى مجرور باللام ، وقد جاء بالألف ، وهي لغة بني الحارث بن كعب وبني العنبر وبني الهجيم وبطون من ربيعة وبكر بن وائل ، وزبيد وخثعم وهمدان وعذرة . ويخرج بعض النحويين على هذه اللغة قوله تعالى : " إن هذان لساحران " وقوله صلى الله عليه وسلم : " لا وتران في ليلة " . قال الفراء في معاني القرآن ( الورقة 198 من مصورة الجامعة 24059 ) فقراءتنا بتشديد إن ، وبالألف ؛ على جهتين : إحداهما على لغة بني الحارث بن كعب يجعلون الاثنين في رفعهما وخفضهما بالألف ، أنشدني رجل من الأسد عنهم " فأطرق إطراق الشجاع " . . . البيت . وحكى هذا الرجل عنهم : هذا خط يدا أخي ، أعرفه بعينه وذلك وإن كان قليلا أقيس . ( وساق المؤلف كلام الفراء إلى آخره ) . لا===

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

تابع أخبار مكة وما جاء فيها من الآثار

أخبار مكة وما جاء فيها من الآثار   ج1وج2. ج / 1 ص -3- بسم الله الرحمن الرحيم مقدمة التحقيق: لا نعرف عن بدايات التأليف في...